الاوامر المولویة والارشادیة
المجلد الاول
السید مرتضی الحسینی الشیرازي
الطبعة الولی
1431ه / 2010م
ص: 1
ص: 2
مباحث الاصول
الاوامر المولویة والارشادیة
المجلد الاول
السید مرتضی الحسینی الشیرازي
ص: 3
کافة الحقوق محفوظة ومسجلة
الطبعة الولی
1431ه / 2010م
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله العظيم في كتابه الكريم:
«أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»(1)
وقال سبحانه: «قل أمر ربي بالقسط»(2)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إن الذي أمرتم به، أوسع من الذي نهيتم عنه»(3)
وقال جل اسمه : «إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(4)
وقال أمير المؤمنين : «فوالله إني لأولى الناس بالناس»(5)
وقال سبحانه «وقال الذي ءامن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد»(6)
وقال أمير المؤمنين «الله أنتم! أتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل»(7)
ص: 5
ص: 6
المجلد الاول
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ص: 9
ص: 10
لقد كان قول الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(1) هو المنطلق والباعث الأول لكتابة بحث مستقل عن (الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية).
ذلك أن العديد من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أن (أمر الإطاعة) في هذه الآية الشريفة، هو أمر إرشادي وليس مولوياً، بل قال بعضهم باستحالة مولويته، رغم وضوح كونه مولوياً في النظر القاصر، وذهاب جمع من القدماء _ كالمحقق الرشتي رحمه الله _ والمتأخرين _ كالسيد الوالد رحمه الله _ إلى ذلك بل الى بداهته.
وكذلك الحال في (أوامر التوبة) في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً)(2) وقوله سبحانه: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)(3) والتي ذهب بعض الفقهاء إلى كونها إرشادية واستحالة كونها مولوية.
ص: 11
مع قيام البرهان - كما نرى - على كونها مولوية؛ فإن ) أوامر التوبة( كانت هي الباعث الآخر لنا لتحقيق هذه المسألة، مما حدا بنا إلى الاستطراد في (بحث الأصول - مباحث القطع ) بالمناسبة، والتحقيق حول هذه الآيات الشريفة من هذه الزاوية، وقد أدرجت تلك البحوث حول (أوامر الإطاعة ) و (أوامر التوبة ) في (مباحث الأصول – القطع ) كما أدخلت جانباً منها في (فقه التعاون على البر والتقوى ).
وأما فكرة كتابة كتاب مستقل فقد نشأت من التفكير بضرورة كتابة بحث عن (الضابط الكلي للأمر المولوي والإرشادي) وكان إن سنحت بلطف الله ومنّه فرصة وجيزة، فكتبت بحثاً كلياً سريعا عن (الضوابط) التي عدّت، أو يمكن أن تعد (الملاك) للأمر والنهي المولوي والإرشادي، و (المائز) بينهما، ووجوه النقض والإبرام في ذلك.
ثم لما عزمت على إعادة النظر فيها _ بعد فترة قصيرة _ فكرت في استيعاب البحث عن كلي المسألة – إضافة لتنقيح بحث (الضوابط) – وذلك بإضافة مباحث أخرى هامة، كالبحث عنأن الظهور الأولي للأوامر والنواهي في ماذا؟ وعن (الظهور الثانوي)؟، وعن (الغرض) من هذا المبحث و (الثمرة)؟، وعن أن (الأمر الإرشادي) هل يدل على الطلب أم لا؟ وإذا دل عليه فهل يدل على الوجوب أيضا كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما أم لا؟
وعن العديد من المصاديق التي يمكن أن ينطبق عليها أحد هذين
ص: 12
العنوانين، وشبه ذلك.
وكذلك فكرت في اضافة مباحث اخرى هانة منها:
تحقيق الحال في ورود مصطلحي (الإرشادي والمولوي) في الكتاب والسنة، والمراد بهما فيهما؟
والبحث عن كون (مبحث المولوية والإرشادية) من (المسائل الأصولية) أم (من المبادئ التصديقية) لعلم الأصول؟
والبحث عن جريان شتى المباحث الأصولية فيهما، كالأوامر المولوية، وعدمه.
والبحث عن إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد وعدمه، وعن النسبة بينهما.
والبحث عن جريان الاجتهاد والتقليد في الأحكام الإرشادية وغير ذلك.
وهناك بحوث كثيرة أخرى ستجري الاشارة لعناوين بعضها في مطاوي الكتاب، عسى أن يوفقنا الرب لإكمالها في المجلد الثاني، أو يقيض الرب الجليل من يقوم بذلك من الأفاضل الكرام وهو المستعان.
ص: 13
من العناوين التي ستبحث في هذا الكتاب فيما يتعلق بعلم (الكلام): وجوب النظر والمعرفة، ووجوب عبادة الله تعالى، والإخلاص له في العبادة، وغيرها(1).
وفي علم (الأصول): حجية خبر الواحد، ومباحث الإستلزامات كمبحث (مقدمة الواجب) و (الضد) و (البراءة) الشرعية والعقلية، و (التخيير) و (الاحتياط) وغيرها.
وفي علم (القواعد الفقهية): قاعدة (لا ضرر) وغيرها.
وفي علم (الفقه): العشرات من المسائل في أبواب العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام ومنها: أبواب: الاقتصاد والتجارة والاجتماع والحقوق والطب والصحة وغيرها.
وكان منها المسائل التالية:
الوفاء بالعهد، قتل النفس والانتحار، والاستشارة والشورى، التقية، التجسس، الزنا، التعاون على البر والتقوى، العدل والإحسان، وإعطاء حق ذوي القربى، وصلة الرحم، التبذير، اتخاذ الحرفة والصنعة، الحرية، معونة الظالم، أكل المال بالباطل و...وفي علم (الأخلاق): الكثير من الآيات الشريفة، كقوله تعالى:
ص: 14
(لا تمش في الأرض مرحاً)(1)، و (فاصفح الصفح الجميل)(2)، و (اصبروا وصابروا واتقوا الله)(3)، و (أخفض جناحك للمؤمنين)(4)، و (أصلحوا بين أخويكم)(5)، و (استبقوا الخيرات)(6)، وعناوين ك: (الحسد) و (النزاع) وغيرها.
وقد كان من أغراض هذا الكتاب (تعميم الفائدة)، بحيث يكون مفيداً _ بإذن الله تعالى _ حتى لمن لا يهمه تحقيق الحال في (كلِّي المسألة)، ولذلك فان منهج هذا الكتاب هو بحث الكثير من العناوين والأحكام والمسائل، بشكل موضوعي، وعلى ضوء عدد من الأقوال أو الاحتمالات، ومع قطع النظر عن مدى اهتمام القارئ الكريم بكلِّي البحث وعدمه، وعن مدى قبوله للكلي واستفادته منه وعدمه، وبذلك يكون الكثير من المباحث ذا جهة موضوعية واستقلالية في الفائدة، إضافة إلى جهة طريقيتها فيما يرتبط بالمبحث العام.
والمرجو من العلماء الأعلام والفضلاء الكرام التنبيه على أي نقص أو ثغرة أو إشكال، فإن العصمة لأهلها صلوات الله عليهم.
ص: 15
وقد أهديت ثواب هذا الجهد المتواضع ل: حملة كتاب الله، المظهرين لأمر الله ونهيه، وحججه على بريته، (مهبط الوحي، ومعدن الرحمة، وخزان العلم، ومنتهى الحلم، وأصول الكرم، وقادة الأمم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الإيمان، وأمناء الرحمن) عليهم صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته؛ فانه لا هداية ولا نجاة ولا فوز، ولا سعادة في الدنيا والآخرة، إلا بهم وبإتباع (أوامرهم) المولوي منها والإرشادي، والانزجار عن (نواهيهم)، تشريعية كانت أو تنزيهية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إني قد تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي).(1)
ثم _ بعد ذلك _ أهديت ثوابه للسيد الوالد والسيد الأخ الأكبر، رحمهما الله بواسع رحمته، واسكنهما الفسيح من جنته، وحشرهما مع محمد وآله الطاهرين، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ فقد ربياني صغيراً وتعهداني بالرعاية والعناية كبيراً وقلداني إحسانهما لي وعطفهما علي وبرّهما بي ما حييت.
في جوار السيدة زينب والسيدة رقية عليهما الصلاة والسلام
الحوزة العلمية الزينبيةمرتضى الحسيني الشيرازي
1 رجب 1430 ه
ص: 16
لقد تطرق الأصوليون والفقهاء إلى مبحث (الأوامر المولوية والإرشادية) في مواضع مختلفة من (الفقه والأصول) وبمناسبات شتى، ولكن بصورة موجزة مقتضية، ولعل أكثر من فصل هذا المبحث _ فيما وجدته _ كان المحقق الرشتي في (بدائع الأفكار)(1) والميرزا الشيرازي في تقريراته(2) وقد استفدنا منهما في الكتاب كثيراً، كما هو مشار إليه في مطاوي الكتاب، خاصة في فصل (الضابط والملاك في الأوامر والنواهي الإرشادية).
إلا إنني وجدت أن هذا المبحث من الأهمية بمكان، ويقتضي أن يفرد له كتاب مستقل وذلك:
أ- لترامي أطرافه، وانبساط جوانبه على علوم عديدة منها (الأصول) و(الفقه) و(الكلام) وغيرها.(3)
ص: 17
ب - ولأنه يضم بين دفتيه (الألوف من المسائل) في شتى الأبواب الفقهية وغيرها.
ج - ولأن (الألوف من الآيات والروايات الشريفة) تقع في دائرة هذا البحث، وهل أنها إرشادية أو مولوية؟ وهي متوزعة على جل، لو لم يكن كل أبواب (العبادات) و (العقود) و (الإيقاعات) و (الأحكام) وغيرها، وعلى ضوء هذا البحث قد يصار إلى إدخال الألوف منها إلى دائرة الأوامر والنواهي (المولوية)، بدل المعهود _ حسب عدد من المسالك في الضابط في المولوي و الارشادي _ من اعتبارها (إرشادية) بما يترتب على ذلك من آثار مختلفة.
د- ولترتب العديد من (الثمرات) على هذا المبحث، من أصولية وفقهية وكلامية وغيرها، وقد فصلنا بعضها في هذا المجلد، وسنبحث عن بعضها في المجلد الثاني بإذن الله تعالى، كما أشرنا إلى بعضها في (مباحث الأصول) كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) ولعل المتتبع يكتشف ثمرات أخرى.
وهذه إشارة إلى عناوين بعض تلك الثمرات:
وجوب أو حرمة الكثير من الأحكام.
ص: 18
استحباب أو كراهة الكثير منها، ولعلها وما سبقها تبلغ (الألوف من الأحكام).
استحقاق الثواب أو العقاب عليها وعدمه.(1)
تعدد (العقاب) أو (الثواب) أو شدتهما، وعدمه، وكذا (الاستحقاق).إدراج (الألوف من المسائل) في علم (الفقه)، أو (إخراجها) ودخولهما في علم (الأخلاق) أو غيره كعلم (الاقتصاد) وعلم (الطب) وعلم (الاجتماع) وغيرها.
إدراج بعض مباحث (المولوية والإرشادية) في الأصول إما ك (مسائل) أو (كمبادئ تصورية أو تصديقية) ...
جريان كافة المباحث الأصولية في (الأوامر والنواهي الإرشادية) أيضا.
وإمكان وصحة التمسك ب (الإطلاق والعموم) وغيرهما في الأوامر والنواهي الإرشادية، كالمولوية.
تحقيق الحال في قاعدة (الملازمة بين حكمي العقل والشرع) على كلا مبنيي (حكم العقل) أو (إدراكه)، وسواء كان الحكم في سلسلة العلل أم المعاليل، في الأصول والفروع، وغير ذلك، وهل أن الشرع (يرشد) إلى (ما استقل به العقل) فقط، أم إنه
ص: 19
يحكم به من باب (جعل المماثل) أو غيره؟
اختلاف شرائط (الحجية) على القول بالمولوية في المؤديات، عنها على القول بالإرشادية.
(حرمة) الإنكار والتكذيب للمولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً.
كون (المخالفة) هتكاً في المولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً.
وجوب عقد القلب ووجوب الرضى في الجملة، أو مطلقاً في المولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً؟
وفوائد أخرى تتعلق بعناوين ثانوية كما لو (نذر إطاعة أمر المولى) _ سواء أمره الوجوبي أم الندبي _ فهل يتحقق بإطاعة أمره الإرشادي؟
ص: 20
ص: 21
ص: 22
المبحث الاول: ابتناء الشريعة والفقه على كلا قسمي الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية
اعلم أن (الأوامر الإرشادية) وكذا (النواهي الإرشادية) بل ومطلق (الإنشاءات) بل الخطابات الإرشادية، مما يعمّ الخبر إذا كان في مقام الإنشاء، بل الخبر بما هو(1)، فإنه قد يكون من المولى بما هو صرف مخبر، وقد يكون منه بما هو مولى _ وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى، قد بلغت الغاية في الكثرة، في الكتاب والسنة، وفي العرف العام والخاص، في ملتنا ولدى كل الملل والنحل، كما أن (الأوامر والنواهي المولوية) كذلك، بل ومطلق (الدوالّ)على جعل أو رفع أو وضع حكم تكليفي أو وضعي(2) فإنها قد تكون مولويةً وقد تكون إرشاديةً.
ص: 23
وبعبارة أخرى: (مطلق الإنشاءات) وإن لم تكن بصيغة أمر أو نهي، كقوله تعالى: ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾(1) بناء على كونها أخباراً في مقام الإنشاء كما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(2)، وسيأتي بيانه.
فإن (الإنشاء) بقول مطلق _ وإن لم يكن بمادة أو صيغة أمر أو نهي _ قد يكون مولوياً ك(رفع ما لا يعلمون) وما سبق من (يعيد صلاته)، وقد يكون إرشادياً(3) ومن مصاديق ما سبق: (الدوال) على (الأحكام الوضعية) فإنها قد تكون مولوية بأن وضعها المولى بما هو مولى، وقد تكون إرشادية، وذلك مثل (لكم رؤوس أموالكم) و (من حاز ملك) فهل إنه بما هو مولى قد أنشأ ذلك أي جعل الملكية لمن (حاز) بهذا الكلام، أو إنه مرشد إلى بناء العقلاء على ذلك أو إلى ما استقل به العقل أو إلى جعلٍ له سابق.
وسيتم بحث كل ذلك، والأقوال والمحتملات، ووجوه النقض والإبرام فيها في مطاوي الكتاب بإذن الله تعالى.
كما أن (الإمضائيات)، ك ﴿أحل الله البيع﴾(4) و ﴿لكم رؤوس أموالكم﴾(5)، وعقده السلبي يصلح مثالاً للتأسيسي في الجملة، قد
ص: 24
بلغت غاية الكثرة، ك(التأسيسيات)، ك ﴿أقم الصلاة﴾(1) و لعل منه (من حاز ملك)(2) في الجملة و ﴿الطلاق مرتان﴾(3)، وسيأتي وجهالفرق والنسبة(4) بين هذه بإذن الله تعالى، كما سيأتي البحث عن النسبة بينها وبين (الحقيقة الشرعية) أو (الحقيقة المتشرعية).(5)
فعلى ذلك، يصح القول: بابتناء الشريعة على كلا القسمين من الأوامر والنواهي، وكذا الأحكام: (المولوية) و (الإرشادية)، وبابتناء (الفقه) على كلا القسمين والأحكام كذلك.
كما أن كافة المباحث الأصولية، كمباحث الألفاظ ومباحث الحجج _ ومنها مباحث الاستلزامات أيضاً، إلى جوار مباحث حجية خبر الواحد والشهرة والإجماع المحصل والمنقول _ وكذلك مباحث الأصول العملية الشرعية، ومباحث الأصول العملية العقلية، كلها جارية في كلا القسمين، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيله.
وإن كان قد يقال: إن مصب البحث في الأصول أو منصرفه عادة، للمولوي منها.
وبناء على ذلك، فإنه قد يلتزم باعتبارها من صميم المباحث الأصولية والفقهية _ باعتبارين _ وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.
ص: 25
فكان من الحري تبعاً لذلك، أن تبحث بشكل مستوعب، وأن يبحث:
أولاً: عن (الضابط والملاك) في التفريق بينها وبين (المولوية)، فهل الأوامر الشرعية الواردة في مواطن (المستقلات العقلية)، هي (مولوية) يستحق على مخالفتها العقاب أو (إرشادية) لا غير؟
وهل يصح تعريف (المولوي) بما لم يلزم من إعمال المولوية فيه: التسلسل أو تحصيل الحاصل أو اللغوية أو شبههما، أم لا؟
وهل الأوامر الشرعية فيما كانت مصلحته دنيوية، إرشادية؟
وماذا لو كانت مصلحته دنيوية _ أخروية؟
وهل إن (المولوي) هو خصوص ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته؟
أو هو: ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته بقيد إذا كان في مقام التشريع أو لا؟ أو غير ذلك؟ مما سنفصله في مبحث (الضابط والملاك في الأوامر والنواهي الإرشادية) بإذن الله تعالى.
وثانياً: ثم أنها على تقدير كونها إرشادية، هل هي لمجرد (النصح)، دون طلب؟
أو معه دون إيجاب ولا ندب _ حسب رأي _؟
أم أنها أوامر إرشادية وجوبية _ وإن كان بدون استحقاق للعقاب _ على مبنى الشيخ قدس سره، من التفكيك بين الوجوب واستحقاق العقاب،
ص: 26
ومن تقسيم الإرشادية كالمولوية إلى واجبة ومندوبة، وإن كان ذلك لعله خلاف المشهور، كما سيأتي؟
أم هي إرشادية _ مولوية؟ أم غير ذلك؟ كما سنفصله لاحقاً بإذن الله تعالى.
وثالثاً ورابعاً: كما ينبغي أن يبحث عن (الغرض) من هذا التقسيم، وعن (الفائدة) المترتبة على كون (الأوامر والنواهي، إرشادية أو مولوية)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيلاً بيان الثمرات الكلامية والأصولية والفقهية، المترتبة على كونها مولوية أو إرشادية، مما سنذكر بعضها في هذا المجلد، ونرجئ البعض الآخر إلى المجلد الثاني، وإلى كتابنا الآخر وهو (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) بإذن الله تعالى.وخامساً: كما كان ينبغي أن يبحث عن الأوامر والنواهي، وهل أنها ظاهرة في المولوية _ ولو بالقرينة أو طبقاً للأصل والقاعدة _ أم لا؟ ثم إن ما كان منها للإرشاد هل هو ظاهر في الإلزام أم لا؟
وسادساً: كما كان ينبغي أن يبحث وعلى ضوء ذلك كله، عن الكثير من (المصاديق) التي قد تعد إرشادية وهي مولوية أو بالعكس، إما نظراً للاختلاف في ضابط المولوي والإرشادي، أو بلحاظ القرائن الحالية والمقالية المحتفة.
ص: 27
والأمثلة على الأوامر الإرشادية _ أو ما ادعي أنها إرشادية _ كثيرة.
هل ﴿اكتبوه﴾ و ﴿استشهدوا﴾ و ﴿أشهدوا﴾ أوامر إرشادية؟
فمنها:
1 2 3 الأوامر الثلاثة الشهيرة في آية 282 من سورة البقرة وهي:
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾.
﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾، أي على الدين _ كما في الصافي _ أو على المكتوب _ كما في مجمع البيان وقال في تبيين القرآن: (أي يمضيان الكتابة ويشهدان عليها).
﴿وأشهدوا إذا تبايعتم﴾ أي على البيع _ أي إذا كانت تجارة حاضرة تديرونها _.
والآيتان الأخيرتان هما اللتان يضرب بهما المثل عادة للأوامر
ص: 28
الإرشادية، فليلاحظ مثلاً (بدائع الأفكار) للمحقق الرشتي و (حاشية المعالم) للمولى صالح وكذلك (الوصول) للسيد الوالد، حيث أيد تمثيل المولى صالح للإرشاد في ﴿استشهدوا﴾ بقوله «فإن الله أرشد العباد عند المداينة، إلى الاستشهاد، رعاية لمصلحتهم، قيل الفرق بينه وبين الندب أن الندب لثواب الآخرة والاستشهاد لمنافع الدنيا إذ لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينة ولا يزيد بفعله».(1)
ولعل قوله (قيل) مشعر بتمريضه، ويدل عليه ملاحظة مسلكه العام في المستحبات؛ فإنه قدس سره حمل كثيراً من الأوامر الإرشادية _ مما يعود نفعه للدنيا _ على الاستحباب، فلاحظ مثلاً (الفقه: المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) و (الفقه: الطب) _ وكما قال قدس سره في (الفقه): (والمشهور بين الفقهاء أن الكتابة إرشاد ومستحب، أما الإرشاد فلحفظ الحق وأما الاستحباب فلأنه مأمور به شرعاً، وإن كانت العلة أيضاً ذلك(2) وعلى كل حال فليست بواجبة).(3)
والظاهر من كلامه أن يرى اجتماع جهتي الإرشادية والمولوية في الكتابة وسنفصل الوجه فيه في آخر الكتاب بإذن الله تعالى.
ولعله يظهر من قوله (فلأنه مأمور به شرعاً وإن كانت العلة أيضاً ذلك) إنه يرى أن ملاك المولوية (صدور الأمر من المولى بما هو مولى) سواء كانت المصلحة والعلة معلومة للمأمور قبل الأمر أم لا، وسواء كانت المصلحة أخروية أم دنيوية، وسواء كان المتعلق من المستقلات
ص: 29
العقلية أم لا.
وقال في المجمع: (واختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا؟ فقيل هي فرض على الكفاية كالجهاد ونحوه).(1)
وقال الفاضل المحقق المقداد السيوري في كنز العرفان في فقه القرآن:(4 الأمر بكتابة الدين.. والأمر هنا _ عند مالك _ للوجوب، والأصح أنه إما للندب أو الإرشاد للمصلحة).(2)
وواضح أنه يرى عدم اجتماع الندب والارشاد وسيأتي تفصيلاً إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد، على أنه بعد ذلك وفي تعليقه على قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً) قال: (وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والإشهاد به)(3)، مما يظهر منه انتخابه المولوية الندبية وخروجه عن التردد أو الترديد السابق، إلا أنه ناقض ذلك بعد ذلك حيث قال في نظيره:
(17- «واشهدوا شهيدين إذا تبايعتم»... وإنما أمر بالإشهاد عند المبايعة، إرشاداً إلى رعاية مصلحتها؛ لأنه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع، أو يقع نزاع في كمية أحد العوضين أو شرط أو خيار أو غير ذلك، فالأمر هنا للإرشاد، وقال داود أنه للوجوب، وليس
ص: 30
بشيء لما قلنا من ترتب المصلحة الدنيوية)(1) والمقام وإن كان (الشهادة على البيع)، وما سبقه (الشهادة على الدين وكتابته) إلا أن ملاكهما واحد.
والظاهر أنه يرى الضابط في الإرشاد: الثاني من الضوابط التي سنذكرها وهو ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا، ومع قطع النظر عن عدم تمامية هذا الضابط كبرى كما أوضحناه هنالك، فإنه جار في المقامين، فكيف فرّق؟
ثم إن الظاهر أن العلل الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة وهي: (ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأدنى أن لا ترتابوا) علل عامة مشتركة، بين ما سبق من الحكمين وهما (فاكتبوه) و (استشهدوا)، وما لحق وهو (واشهدوا)، وإن عادت بظاهر السياق للكتابة.
وقد يستظهر المولوية، من قوله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله) فإن طلب أمر بهذا التعليل، ظاهر في (صدوره من المولى بما هو مولى) لأن العدل والقسط مطلوبان له بما هو مولى ومأمور بهما بما هو كذلك، بل وكذا (أقوم للشهادة) لأن استقامة الشهادة مطلوبة له بما هو مولى.
نعم (أدنى أن لا ترتابوا) عائد لهم ولمصلحتهم، لكن قد فصلنا في مكان آخر:
ص: 31
أولاً: إن الملاك (المصبّ) فلو تعددت العلل لوحظ محط النظر أولاً، ولعلّه: الأولان لذا سبق ذكرهما.
ثانياً: لو كانت كلها محط النظر بوزان واحد، أمكن الالتزام بالمولوية والإرشادية معاً ولا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى كما فصلناه.
ثم الظاهر من رواية (العلل) عن الإمام الباقر عليه السلام في بيان حكمة تشريع الكتابة بعد تفصيله قضية عمر آدم وداود، حيث قال: (فمن ذلك اليوم أمر الله تبارك وتعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل)(1)، إن الأمر مولوي لا إرشادي، والظاهر أنه مولوي _ تشريعي، لا مولوي _ نصحي.ولا يخفى أن الآية الشريفة تدل على (حجية الكتابة) وصحة الاعتماد عليها _ مع جمعها للشرائط، إما بدلالة الاقتضاء أو بلحاظ الغاية من الأمر بالكتابة، وعلى أي فالدلالة العرفية على الحجية لا ريب فيها، كما أنها تدل على حجية (شهادة الشهيدين)، ولعلها كلها من المستقلات العقلية كأحكامها التكليفية.
وأما الأمر في الآيتين الشريفتين (استشهدوا شهيدين من رجالكم) أي على الدين أو الكتابة _ كما سبق _ و (أشهدوا إذا تبايتعم) أي على البيع، فالظاهر أنه مولوي _ للندب(2) وليس إرشادياً
ص: 32
للنصح، بقرينة ذكر (الثواب) عليه في بعض الروايات.
ومنها رواية العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: (... فإن الله شَرَّف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم، وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم، ومن ثواب دنياهم، قبل أن يصلوا إلى الآخرة).
إذ ظاهر (الثواب) وإن كان دنيوياً، هو ما نتج عن إطاعة أمر المولى لا مجرد نصحه، وإرادة (الجزاء) منه خلاف الظاهر، وفيه أنه كذلك لو كان قبول شهادتهم ثواباً على الشهادة، لا على الإسلام والعدالة، كما لعله ظاهرها فتأمل.(1)
أو يقال: إن الظاهر من (فإن الله شرف المسلمين العدول..) أنه بما هو مولى صنع ذلك، إذ ليس هذا شأن الناصح بما هو ناصح، فيستلزم ذلك(2)، كونه بما هو مولى قد أمر بها.
وقد يستدل أيضاً برواية الإمام الصادق عليه السلام: (أربعة لا تستجاب لهم دعوة: أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة، يقول الله عز وجل: ألم آمرك بالشهادة)(3)، فإن ظاهر (آمرك) المولوية.
ص: 33
وقد يؤيده ما جاء في تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (استشهدوهم، لتحوطوا بهم أديانكم وأموالكم، ولتستعملوا أدب الله ووصيته، وإن فيها النفع والبركة، ولا تخالفوها فيلحقكم الندم حيث لا ينفعكم الندم).(1)وقد يستظهر منها المولوية لمكان (لتحوطوا بهم أديانكم)؛ إذ شأن المولى بما هو مولى تشريع ما يحوط أديان العبيد، لكن فيه أن شأن الناصح كذلك أيضاً، إلا أن يتمسك بالأصل لو أمكن كل منهما.
وقد يستظهر من (وصيته) والتعليل بأن (فيها النفع والبركة) و (فيلحقكم الندم) و (لتحوطوا.. أموالكم) الإرشادية، فإنها بها أنسب، لكن فصلنا في موضع آخر أن ذلك كله من شأن المولى بما هو مولى أيضاً؛ لتمام عنايته بكلا شأني الدنيا والآخرة _ فتأمل.
و (المولوية) هي ظاهر عبارة بعض المفسرين كالطبرسي حيث قال: (ثم أمر الله سبحانه بالإشهاد فقال: استشهدوا شهيدين من رجالكم).(2)
ولعل الظاهر من السيد الوالد قدس سره التردد بين المولوية والإرشادية، قال: (الظاهر أن الحكم للإرشاد، أو للأعم من الواجب والمستحب؛ لأنه قد يجب الإشهاد والاستشهاد كما ذكرنا ذلك في كتاب (الوديعة) وهناك موارد آخر للوجوب كما يأتي، وقد يستحب كالإشهاد عند عقد النكاح)(3)، ولعله يرى أن الإرشاد لا يجتمع مع الوجوب _ مع أن بعض
ص: 34
الإشهاد والاستشهاد للوجوب _ فأضاف (أو للأعم) _ فتأمل.
وقد أوضحنا في مكان آخر أن الإرشاد قد يكون للوجوب وقد يكون للندب.
ومما قد يستدل به على مولوية الأمر بالكتابة _ وهي الآية الأولى السابقة _ كلمة (جناح) في قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) فإن (جناح) هو (الإثم؛ لميله عن طريق الحق)(1) و (سمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق "جناحاً"، ثم سمي كل إثم جناحاً نحو قوله تعالى ﴿لا جناح عليكم﴾ في غير موضع)(2) كما قيل أن (جناح) معرب (گناه).
فإن (الإثم) معصية أمر المولى بما هو مولى، ورفعهُ شأنُه، (فلا جناح) صادر منه بما هو مولى، فما فيه الجناح _ وهو غيره _ قد جعل من قبل المولى بما هو مولى؛ إذ المتقابلان متكافئان قوة وفعلاً، كما هما متقابلان رفعاً ووضعاً.
لا يقال: لا إثم في عدم الكتابة في غير التجارة الحاضرة؛ إذ لا تعد معصية ولا عقوبة عليها؟
إذ يقال: (الجناح) و (الإثم) يطلق على (المكروه) أيضاً، وقد التزمنا بأن أمر الكتابة مولوي للندب فتركه مكروه، لا للتلازم بين الندب وكراهة الترك، بل لدلالة الآية.
ص: 35
أو يقال: أمر الكتابة مولوي _ للوجوب النصحي وهو مما لا عقوبة عليه _ كما فصلناه في مكان آخر _ و (لا جناح ولا إثم)، بمعنى مخالفة (المولوي _ للنصح الوجوبي)، في عدم الكتابة إذا كانت تجارة حاضرة تديرونها _ وفيه تأمل.
إذ قد يقال: لا جناح بمعنى لا ضير ولا ضرر فيناسب الإرشاد والنصح، لكنه لا تساعد عليه اللغة.أو يقال: لو أريد به الإثم فإنه ظاهر في المولوي _ التشريعي، أي المعصية، أي ما عليه عقوبة، فيقع التعارض بين حمله على المولوي _ النصحي، أو المكروه كما ذكرتم _ إذ لا يمكن حمله على المعصية؛ إذ لا معصية حتماً في عدم الكتابة في غير التجارة الحاضرة _ وبين حمله على الضير، وكلاهما مجاز ولا مرجح للأول _ فتأمل.
كما أن التصدير ب ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ظاهر في المولوية لا الإرشادية، وإلا لكان الأولى توجيه الخطاب للناس؛ فإن شأن الناصح كالطبيب خطاب الناس لا تخصيصه بالمؤمن، عكس شأن المولى بما هو مولى، وإن كانت مولويته ثبوتاً أعم.
وقال في مجمع البيان: (أي: وأشهدوا الشهود على بيعكم إذا تبايعتم، وهذا أمر على الاستحباب والندب، عن الحسن وجميع الفقهاء، وقال أصحاب الظاهر: الإشهاد فرض في التبايع).(1)
وظاهر تصريحه ب(هذا أمر) و (على الاستحباب) أنه يراه مولوياً _ ندبياً لا إرشادياً.
ص: 36
وبذلك ظهر عدم تمامية ما قيل من (بل قد يقال إن الآية الكريمة لا تدل حتى على استحباب الإشهاد شرعاً، وإنما على طلبه إرشاداً لا أكثر).(1)
ويرد عليه إضافة إلى ما سبق(2) إن الأصل _ عندهم _ فيما صدر من المولى أنه بما هو مولى، أي الأصل المولوية لا الإرشادية، فلا يرفع اليد عن المولوية إلا بدليل؛ ولذا قال في الجواهر ممزوجاً بالشرح («و» لكن «يستحب في النكاح والرجعة، وكذا في البيع» والدين والخلاف في ذلك نادر).(3)
4- ومنها _ وهو مثال مشهور للإرشادية _ قوله تعالى ﴿أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾(4) وحكم هذا تابع لكلي الرأي في العقود والإيقاعات وشرائطها وأجزائها وموانعها، وهل هي إرشادية مطلقاً _ كما هو رأي المحقق الرشتي(5) وآخرين؟ _ أم في الجملة، فبعضها مولوي؟، وسيأتي بيانه(6) بإذن الله تعالى.وفي خصوص هذه الآية الشريفة قد يصار للمولوية بقرينة لحوقها ب
ص: 37
﴿وأقيموا الشهادة لله﴾(1) _ سواء قيل بوجوبها نفسياً أم لا، بل طريقياً، أو استحبابها _ فإنهما متلازمان عرفاً(2)،فالإشهاد ليس فقط ذا أثر وضعي وهو صحة الطلاق عنده(3)، بل هو مستحب أيضاً كما أن ذيل الآية شاهد آخر على المولوية ﴿ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر﴾.(4)
وقال الوالد في الفقه: (لا يخفى أن الإشهاد في الطلاق واجب شرطي إذ بدون الإشهاد لا يصح الطلاق كما ذكرنا تفصيله في كتاب الطلاق).(5)
وقال الفاضل المقدام في كنز العرفان: ( «وأشهدوا ذوي عدل منكم»: قال أصحابنا هو راجع إلى الطلاق، وذلك على الوجوب، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام، لكون الكلام في الطلاق، فيكون ذلك قرينة دالة على رجوعه إليه) وقال: (فمع قيد عدم جواز الترك _ أي للإشهاد _ يكون في الطلاق، ومع قيد جوازه يكون في الرجعة) ولعله يحمل على الوجوب الشرطي كما ذكره الوالد _ فتأمل.
5- وقال تعالى: ﴿اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾(6) وهذه صغرى (كبرى) الأوامر الواردة في مكارم الأخلاق، فهل هي إرشادية أم
ص: 38
مولوية؟ ولعل ذيل الآية يفيد الإرشاد وصدرها وسياقها يفيد المولوية.
و (القصد في المشي) هو (التوسط فيه بين الدبيب والإسراع) _ كما في الصافي، وقال في مجمع البيان: (أي: (اجعل مشيك قصداً مستوياً على وجه السكون والوقار، كقوله تعالى ﴿الذين يمشون على الأرض هوناً﴾)(1) ، وقيل: أي تواضع، وقيل: لا تَخْتََل في مشيك.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن).(2)
وفي تفسير القمي أي (لا تعجل).(3)ويحتمل أن يراد ب(اقصد في مشيك) رعاية القصد والاقتصاد والاعتدال في شتى شؤونك، لكنه خلاف ظاهر الآية وسياقها.
وعلى أي فإن (اقصد في مشيك) إن أريد به المعنى الأول _ أي عدم السرعة والعجلة _ فإنه إرشادي، كما أنه ليس من المستقلات العقلية إلا بلحاظ كلّيه.
وإن أريد به المعنى الثاني _ أي المشي على وجه السكون والوقار _ فكذلك.
وإن أريد به المعنى الثالث _ أي الاعتدال في كافة الشؤون _ فالظاهر أنه من المستقلات العقلية.
نعم على ضابط (ما كان محبوباً للمولى، وقد طلب لمحبوبيته) فإن
ص: 39
الأقسام الثلاثة كلها قد تكون مولوية.
6- وقال سبحانه وتعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾(1) و ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾.(2)
والظاهر أن الأمر في الآية الأولى والثانية مولوي وليس إرشادياً، أي أنه صادر من المولى بما هو مولى _ في مقام التشريع _ كما هو الأصل، ف(به) أحل الشارع الأكل والشرب.
بل يدل على (مطلوبية) المشي في مناكب الأرض والأكل من رزقه، وليس صرف الإباحة، وبعبارة أدق هو (إنشاء) وليس (إخباراً)، وهو (تشريع) وليس (نصحاً)(3)، وهو (مطلوب) بين واجب _ وهو ما يقيم الأوَد _ ومندوب _ وهو ما يعين على الطاعة في الجملة _، نعم هو غيري لا نفسي، توصلي لا تعبدي.
وأما ما كان منه للإباحة فهو لدليل خارجي.
وقد ذكر العلامة المولى صالح في حاشية المعالم على ما نقله عنه (الوصول)(4) إلى أن هذا الأمر للإباحة، حيث صرح ب(صيغة "افعل"
ص: 40
تستعمل في خمسة عشر معنى... ثالثها: الإباحة نحو (كلوا واشربوا) انتهى.
لكنه غير تام إذ التحقيق أن الصيغة لم تستعمل إلا في إنشاء الطلب، والدواعي خارجة عن الموضوع له وعن المستعمل فيه، نعم وضعت لإنشائه إذا كان الداعي البعث والتحريك لا إذا كان التهديد والتمني وإضرابهما، فلو كان الداعي غير البعث كان الاستعمال مجازياً كما صار إليه الآخوند، وتبعه جمع منهم الوالد مع إضافة (أو الإظهار) وحذف (الضميمة).(1)بل أقول: حتى لو ذهبنا إلى أن الإنشاء هو (إبراز الاعتبار النفساني) وليس (إيجاد المعنى باللفظ)(2) فلا ضرورة للإلتزام بأن الصيغة _ على هذا المبنى _ قد استعملت في معاني كثيرة من التهديد والتعجيز و...)(3) إذ الاعتبارات النفسانية مركبة ومختلفة غير متحدة، فيمكن القول بأن المبرز هو (الطلب) مع ضميمة التهديد أو التعجيز، فقد استعملت في (الطلب) فقط لكن لو انضم إليه التهديد مثلاً كان مجازاً، للاشتراط فتدبر جيداً.
بل نقول: إن كلام المولى صالح غير تام على مختلف الأقوال في الصيغة _ ومنها قوله هو.
ص: 41
إذ على كل من الأقوال بأن الصيغة موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فإنه لا يرفع إليه عن الحقيقة إلا لدى تعذرها، و (الأكل والشرب) بين واجب _ وهو ما توقف عليه حفظ النفس والقوى _ ومستحب _ وهو ما أعان على الطاعة _ ومباح _ وهو ما عداهما _ وحيث أمكن المعنى الحقيقي، لا يصار للمجاز.
وبعبارة أخرى: الآية تدل على أصل وجوب أو استحباب أو مطلوبية _ حسب المباني، طبيعة الأكل والشرب، والمتحقق بقدر منه، أو ظاهرها _ بقرينة فهم العرف _ (كلوا شيئاً واشربوا شيئاً) فلا عموم لها للإفراد على نحو الاستغراق، ليتوهم أنه بين واجب ومندوب ومباح، ولا يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى _ حقيقي ومجازي _ فلابد من حملها على الإباحة، لأنها الجامع والقدر المشترك، مع أنه يرد عليه(1) إشكالات عديدة مبنى وبناء حتى لو قلنا بالعموم.
وبعبارة أخرى: ليست في مقام البيان من هذه الجهة.
وأما على القول بالاشتراك اللفظي بين تلك المعاني الخمسة عشرة، فقد يقال: إن (كلوا واشربوا) مردد بين الوجوب والندب والإباحة، والإباحة هي المسلّم، لأنها الجامع لذا صار إليه المولى.
لكن فيه: أنها قسيم وليست مقسماً، ولذا جعلها أحد المعاني الخمسة عشرة.
أو يقال: إن الأمر ب(كلوا واشربوا) في مقام توهم الحظر فهو
ص: 42
للإباحة _ حتى لو كان للوجوب وضعاً فكيف على غيره _.
وفيه: إنه في بعض الآيات قيل بذلك أو لعله لذلك، لا مطلقاً.
وأما على القول بأن المعاني الخمسة عشرة مستعمل فيها فقط وليست مشتركاً لفظياً بل موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فالأمر أوضح.
سلمنا لكن نقول:كونه للإباحة ليس دليلاً على كونه إرشادياً، فإن الإباحة _ بناء على كونها حكماً وهي كذلك _ تقع في دائرة (المولوية)، أي ما قرره الشارع وجعله _ أو مطلق المولى _ بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته.
ولعل مما يدل على المولوية ملاحظة الآية بكاملها.قال تعالى ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾(1)، إذ ﴿لا تسرفوا﴾ نهي مولوي فتستفاد مولوية ﴿كلوا واشربوا﴾ بقرينة المقابلة لا السياق فحسب، في الفهم العرفي، كما قد يستفاد الوجوب، لكون مقابِلِه، للحرمة _ فتأمل.
ويستبعد كون ﴿لا تسرفوا﴾ مجرد إرشاد للمكلف للابتعاد، عما فيه الضرر، ونصح.
ويشهد له قوله تعالى: (إنه لا يحب المسرفين) ذلك أن (الأمر المعلل) بكونه محبوباً لله أو النهي المعلل بكونه مبغوضاً له (إذ هما
ص: 43
وإن كانا من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث إلا أن المتفاهم العرفي من «إنه لا يحب المسرفين» بغضهم، لا عدم الحب فقط، خاصة بملاحظة قرينة الحكم والموضوع) _ خاصة بملاحظة الضابط الذي ذكره المحقق الرشتي للمولوية _ ظاهر في المولوية، فإذا كان «لا تسرفوا» مولوياً، كان «كلوا» مولوياً كذلك، بدعوى أن عدم حب المسرفين في الأكل والشرب يلازم عرفاً حب الأكل والشرب، باقتصاد وتوسط فتأمل.(1)
وقد يستدل على المولوية في «كلوا واشربوا» بأن مقتضى (كرم) مولى الموالي، (محبته) _ بما هو مولى _ لأن يأكل عبيده من ملكه حلالاً.
ويوضحه ما رواه في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام (ما عذب الله قوماً قط وهم يأكلون، وإن الله أكرم من أن يرزقهم شيئاً ثم يعذبهم عليه حتى يفرغوا منه).(2)
وهذه الجهة(3) تفيد المولوية ظاهراً على القول بأن الضابط للمولوي هو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته)، ولا حاجة لنا بها، على بعض الضوابط الأخرى أيضاً(4) ، كما أنها ترجح المولوية على بعض الضوابط الأخرى، كالضابط الأول الذي ارتضيناه، فإن المحبوبية
ص: 44
وإن لم تكن هي تمام الملاك للمولوية والإرشادية، لكن معرفة كون الشيء محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته، يساعد على القول بمولويته _ التشريعية وإن أمكن الذهاب للمولوية النصحية بل للإرشاد الندبي فتدبر.(1)
وقد يستند إلى وحدة السياق فإن «خذوا زينتكم عند كل مسجد» ظاهره المولوية، وهو مستحب يترتب عليه الثواب.بل قد يستند إلى الروايات الدالة على أن (طلب الحلال) من العبادة فقد روى في الكافي الشريف (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: العبادة سبعون جزءً أفضلها طلب الحلال).(2)
لكن فيه أن (طلب الحلال) مغاير ل(الأكل من رزقه) إلا أن ينقح المناط وأن (الأكل حلالاً) كطلب الحلال.
بل حتى بمثل (من تلذذ بالماء في الدنيا، لذذه الله من أشربة الجنة)(3)، و (من أكل من كدِّ يده حلالاً، فتح له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)(4)، فإن ترتيب (ثواب الآخرة) على (فعل) دليل على أن الأمر به مولوي لا إرشادي _ فتأمل.(5)
ص: 45
وكذا الروايات الواردة في ما يستحب أكله أو يكره.(1)
ومفهوم مثل (من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولم يستجب له دعاؤه أربعين صباحاً... وإن اللقمة الواحدة تنبت اللحم)(2).
كما يدل على أن الأمر في «كلوا واشربوا» مولوي للطلب وليس إرشادياً للنصح ولا صورياً، كما ادعاه الطبرسي في المجمع حيث قال: (صورته صورة أمره، والمراد الإباحة)(3)، بعض الآيات مما ورد فيه الأمر ب«كلوا واشربوا» مثل قوله تعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور».(4)
فإن تفريع «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» على «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً» دليل مطلوبيتهما؛ فإن بهما تتحقق الفائدة من جعله تعالى الأرض ذلولاً.
وبعبارة أخرى: إن جعله تعالى التكويني، للأرض ذلولاً استتبع طلبه المشي في مناكبها والأكل من رزقه، وناسب المولوية، أي أنه أراد من كونها ذلولاً، مشي عبادة فيها والأكل من رزقه، فالمشي والأكل بين واجب ومستحب.
وبعبارة أخرى: المشي والأكل من رزقه، محبوبان له تعالى، حيث قد جعل الأرض ذلولاً بلحاظهما _ ولو كجزء من الغرض والغاية _
ص: 46
فالأمر به دليل مطلوبيته، لا مجرد إباحته،وما كان محبوباً للمولى وقد طلبه لأجل محبوبيته له، فالأمر به مولوي _ على الضابط الثالث للمولوي(1) _ أو إنه مما يرجح كونه مولوياً _ على الضابط الأول في الإرشادي والمولوي.(2)
كما أنه مما قد يستدل به على أن الأمر في مثل «كلوا من الطيبات»(3) للطلب وليس لمجرد الإباحة، أن ضمّه إلى ما دل على (الحلية) يقتضي ذلك عرفاً، فإن «قل أحل لكم الطيبات»(4) أو «اليوم أحل لكم الطيبات» دال على الحكم الوضعي وهو حلية الطيبات و «كلوا من الطيبات» دال على الحكم التكليفي، فلو كان للإباحة لما أفاد جديداً.
ويظهر ذلك بوضوح أكثر في قوله تعالى: «فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً»(5) أو «كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً»(6) فإن كونه حلالاً طيباً، أخذ في رتبة سابقة _ وإن كان حالاً _ فيحسن أن يكون الأمر به للوجوب أو الندب، لا لمجرد الإباحة، كما أنه يشعر بالمطلوبية وصفه تعالى المتعلق بكونه «ما رزقكم الله» _ فتأمل.
ثم إن من البين اختلاف (الحلية) عن (الجواز) فإنهما اعتباران(7) ولو كانت عينه لما صح القول ب(كلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً) إذ يكون
ص: 47
مفاده: يجوز أكله حال كونه جائزاً! كما أن مما يدل على أن (الأكل والشرب مما في الأرض، مطلوب لله تعالى ومحبوب له وإن الأمر به مولوي _ للندب أو الوجوب _ فيما به قيام الأود _)، قوله تعالى: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً»(1) فإن أمر الرسل بذلك وجعله في سياق «اعملوا صالحاً»، دليل المحبوبية بل المولوية، وأما كونه لصرف الإباحة فخلاف المتبادر ولا وجه محسِّن له.
وكذلك قوله تعالى: «كلوا من رزق ربكم واشكروا له»(2) فإن عطف «اشكروا له» المطلوب ذاتاً للمولى بما هو مولى، قرينة عرفاً على أن المعطوف عليه كذلك لا أقل بلحاظ طريقيته _ فتأمل.
7- وقوله تعالى: ﴿اجعلني على خزائن الأرض﴾(3) فإن يوسف عليه السلام وإن كان أعلى مرتبة، إلا أنه لم يستخدم مقام مولويته عند هذا الطلب، بل كان مجرد إرشاد، خاصة بلحاظ آخر الآية الشريفة ﴿إني حفيظ عليم﴾.8- وقوله تعالى: ﴿لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً﴾(4) فقد يستظهر بقرينة آخر الآية، أنه إرشادي، لكن لا تبعد المولوية.
9- وقوله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾(5) ربما يعد إرشادياً بقرينة ﴿فتقعد ملوماً محسوراً﴾(6)، إما بلحاظ
ص: 48
أن المصلحة دنيوية، وإما بلحاظ أن ذلك من المستقلات العقلية، والأوامر فيها إرشادية، على الضابط الخامس في (المولوية والإرشادية) كما سيأتي.
10- وقال تعالى ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.(1)
لكن الظاهر أنه مولوي للندب.
وقال جل اسمه: ﴿وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون﴾(2) وقد أشرنا إلى جانب من الحديث عن ذلك في كتاب (دروس في التفسير والتدبر) المجلد الأول.
11- وربما عد منه ﴿ولا تقربوا الزنا﴾(3) فإنه حرام، والنهي عن قربه تنزيه وإرشاد إلا إذا كان كناية عنه، لكن الظاهر إرادة معناه الحقيقي (فإن من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه)، وقد بحثناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.
12- و ﴿فإِذَا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم﴾(4)، وقد سبق البحث عن نظائره(5) بالتفصيل وسيأتي أيضاً.
ص: 49
ص: 50
ص: 51
ص: 52
المبحث الثاني : هل ورد مصطلح الأمر المولوي والإرشادي في الكتاب والسنة؟
ثم إن مصطلحي (الأمر المولوي والإرشادي) وإن لم يردا (صفة وموصوفاً معاً) في لسان الشارع _ فيما نعلم _ بهذا اللفظ، إلا أن كلاً من هذه الألفاظ الثلاثة قد ورد في كلام الشارع، وقد ذكرت مادته وبعض مشتقاته في الآيات والروايات.
آية ﴿الله مولى الذين آمنوا﴾
أما (المولوي) في الكتاب:
فقد قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ».(1)
وقد يتمسك بهذه الآية للتعميم الذي سنذكره، من أن للمولى
ص: 53
مقامين: مقام التشريع ومقام الناصح، إضافة إلى مقام الولاية التكوينية.
والأول هو الذي خصه القوم باسم (الأمر المولوي)، وخصه بعضهم بالتكليفي منه، وعممه بعضهم للوضعي أيضاً.
والثالث هو مفاد قوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1)
والثاني هو ما نذهب إلى أنه أحد مقامات المولى وأحد شؤونه، وإن الأمر الإرشادي كالمولوي، مقتضى مقامه ومقتضى لطفه وكرمه، وأن أمره بما هو ناصح إذا أمر بما هو مولى ناصحاً، للوجوب، كما إن أمره بما هو مشرّع إذا أمر بما هو مولى، للوجوب(2)، والفرق بين الوجوبين إنما هو في استحقاق العقاب بالمخالفة على الثاني دون الأول، كما فصلناه في موضع آخر.
فهو جل اسمه قد يأمر (بما هو مولى): تشريعاً، وقد يأمر (بما هو كذلك) ناصحاً.
توضيح التمسك بالآية للتعميم: أن (المولى) هو ذو الولاية، وفلان مولى فلان أي ذو ولاية عليه، و (الولاية عليه) تشمل الولاية على ذاته وتصرفاته وشؤونه ومنها ولاية تكليفه ونصحه وإرشاده، فما في
ص: 54
المفردات من أن: (الولاية): (تولي الأمر)(1) تفسير بالأخص(2) وبعبارة أخرى: (المولى): من يملك ذات المولّى عليه و (أمره) هذا. وليس(الأمر) و (أمره) خاصاً بدائرة (التشريع)، فإن (المولى) يتولى أمر نصح العبد أيضاً وإرشاده.
وبعبارة أخرى: يتولى أمر عبده من حيث التكليف ومن حيث الإرشاد.
ويظهر ذلك بوضوح بملاحظة حال الأب مع أبنائه؛ فإنه ليس آمراً زاجراً دائماً، بل أكثر حاله معهم: النصح والإرشاد، والعرف يرى أن ذلك هو مقتضى ولايته عليهم وكونه ولياً ومولى لهم وكونهم موالي له، ولو لم يفعل عدّ مفرطاً بما هو أب ومولى، لا بما هو صديق أو مؤمن فقط.
بل قد يقال: إن مقتضى مقام المولى (الإخبار) ناصحاً وليس فقط إنشاء النصح، فإن قوله عليه السلام: (من ساء خلقه عذب نفسه)(3) و (من رضي بالذل هانت عليه نفسه) و (البخل عار والجبن منقصة)(4) وغيرها، إخبار من المولى، لكونه مولى لهم يحب خيرهم وصلاحهم، لا أنه جرد نفسه عن مقام المولوية وتلبس بمقام آخر كما أنه ليس إنشاءً، بل (الإخبار) بقصد(5) الكمال والتكامل لمواليه.
ص: 55
إلا أن يقال: لو كان كذلك كان إنشاء للنصح، إلا أن يكون (المصب) الإخبار والداعي النصح، ويدل عليه بدلالة الإيماء والإشارة ، فتأمل.
لا يقال: قوله تعالى (ذلك) أي نصر المؤمنين وتدمير الكافرين، معلول لكونه تعالى «مولى الذين آمنوا» كما هو منطوق الآية فكأنه قال (ينصرهم لأنه مولى لهم)، فالآية في مقام الولاية التكوينية ومنها (النصرة) التي فسر بها البعض كالصافي، الآية فقال (ناصرهم على أعدائهم) فإن الظاهر أنه تفسير بالمصداق.
إذ يقال: اعتباره تعالى كونه مولى لهم، علة لتدمير الكافرين ونصر المؤمنين، لا يخصص (كونه مولى) بالولاية التكوينية، إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، بل إن من البديهي أن تعليل أثر بعلةٍ لا يحصرها في ذلك الأثر.(1)
نعم قد يستدل للاختصاص هنا بالنصرة بقرينة المقابلة(2) فيجاب بأن تغيير السياق غير عزيز.
بل يقال: لا دلالة للاختصاص حتى في (المقابل) إذ معنى مجمل الكلام (إن الله ينصر المؤمنين؛ لأنه مولى لهم، وأما الكافرين فلا مولى لهم) أي لا مولى لهم ينصرهم من دون اللهسبحانه، وليس نفياً لمولويته
ص: 56
سبحانه عنهم مطلقاً، إذ لا شك أنه تعالى مالك لهم وأولى بهم من أنفسهم، فالنفي متوجه إلى شعاع من أشعة المولى لا إلى ذاته وسائر شؤونه ، فتأمل.
بل قد يقال برجوع «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا» إلى مجمل ما ذكر في الآيات السابقات ومنها ﴿سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم... إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾(1) وفي المقابل قال: ﴿والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهمQ ... فأحبط أعمالهم... دمّر الله عليهم...﴾(2) ولحق ذلك كله قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم﴾.
والظاهر أن تلك الموارد فيها التكويني والتشريعي، ومنها الهداية والإرشاد والتوفيق والتسديد الغيبي والظاهري؛ فإن (الهداية) أعم من إراءة الطريق ومن الإيصال للمطلوب، و (الناصح) يُري الطريق منشأً أو مخبِراً، و (الناصح) هادٍ كالمشرع، ف(سيهديهم) هو مقتضى أنه مولى لهم ﴿ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا﴾.
كما أن (ينصركم) أعم من النصر بفعل أو قول أو إرشادٍ.
وعلى أي فإن الدليل الخارجي والقرائن القطعية دلت على كون مولويته أعم.
ثم إن هذا الإيراد لا يرد على التمسك بالآية اللاحقة، إذ هي واضحة
ص: 57
الإطلاق والشمول.
وهي قوله تعالى: «اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ»(1)، ومقتضى كونه (ولياً) يلي أمورهم: النصح أيضاً _ بإنشاء أو إخبار _ لا التشريع فحسب، والآية شاملة لمقامي التشريع والتكوين معاً، خاصة بقرينة (يخرجهم) فإن إخراجهم من الظلمات إلى النور، تشريعي وتكويني، ويشمل إخراجهم من الظلمات إلى النور: نصحهم وإرشادهم وهدايتهم، كما يشمل تكليفهم بما يخرجهم من الظلمات إلى النور لو التزموا به، كما شمل اللطف التكويني الخاص بهم، والعناية الربانية لخروجهم إلى النور.
وقال تعالى: «ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق».(2)
ولعل «مولاهم الحق» بلحاظ مقام مولويته التكوينية، فهي أجنبية عن المقام، إلا أن يقال: المراد ب«مولاهم»: الأولى بهم تكويناً وتشريعاً ومن جميع الجهات(3)، ويؤكده (وصفه)ب«الحق»، ولعله يؤكده قوله تعالى «ألا له الحكم»(4) أي الحكومة التكوينية والتشريعية، إلا لو قيل بالانصراف للأولى، أو قيل بأن السياق سياق التكوين لا
ص: 58
التشريع _ فتأمل.
وقال تعالى: «وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه».(1)
ومقتضى مقام (المولى) ليس الإنشاء والإخبار النافع فحسب، بل العمل على طبق مصلحة عبده أيضاً، وهو ما قد يستظهر من الآية الكريمة، أي فإن الله بما هو مولاه سيدافع عنه.
وبذلك يظهر أن هنالك (أمراً مولوياً)، وهنالك أيضاً (فعل مولوي) ونعني به: الفعل الصادر من المولى بما هو مولى، ولو (أنشأ) بالفعل أمراً وجبت إطاعته، كما لو أنشأ باللفظ أمراً، وهذا غير سابقه إذ هنالك إشارة للنهي، وهناك فعل هو عين النهي، وذلك كالمنع التكويني من الذهاب بيده، فليس له تنحيتها والذهاب.
وبعبارة أخرى: قد ينشأ ب(الإشارة) الأمر، وقد يشير بها إلى الأمر، فهي كالإخبار والإنشاء بالألفاظ، فتارة يقول (أمرتك) منشأً وأخرى مخبراً.
كما أن هنالك (فعلاً إرشادياً) وهو الفعل الصادر منه بما هو ناصح.
فلو (أعطى) بما هو مولى، وجب القبول واستحق العقاب بالرفض، وكذا لو (منع) بما هو مولى، فليس للعبد أن يقتحم، ولو أشار (أن خذ) أو (أن لا تأخذ) أي منشِأً الأمر أو النهي بها، وجب الإمتثال.
ص: 59
ولو (أعطى) بما هو مشفق ومحب وناصح، لم يستحق العقاب بالرد، وكذلك لو (منع) لكونه مشفقاً، سواء قلنا بأن الأمر النصحي _ والفعل كذلك _ منه ما هو للوجوب _ كما التزمه الشيخ والميرزا الشيرازي قدس سرهما _ أم لا، فلو (منعه) من الذهاب، بيده، فإن كان بما هو مولى، استحق العقاب بالمخالفة، ولو كان بما هو ناصح، لم يستحق بها.
وكذا لو أعطاه الدواء بما هو مولى أو بما هو مشفق.
ويعرف حال (الفعل) من القرائن المقامية وغيرها.
ومن الأمثلة ما لو (نصبه) ولياً بفعله _ كأن أجلسه على عرشه مثلاً _ ولعل كثيراً من أفعال الرسول الأعظم مع أمير المؤمنين عليهما وآلهما السلام، كانت كذلك، وكذلك مع سبطيه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بل ومع الأعداء أيضاً والمنافقين، كعزل هذا وذاك، أو حتى عدم نصبه فيما كان يتوقعه ويرومه.
وبذلك يظهر عدم إنحصار إثبات ولاية الأمير عليه السلام بأقوال الرسول صلى الله عليه وآله، بل أفعاله أيضاً وما أكثرها، فيها الدلالة البالغة، وهذا باب يفتح منه ألف باب بإذن الله تعالى، ويحتاج إلى تحرٍ واسع ومتابعة جيدة، ولعل الله يقيض بعض الأعلام الغيارى لذلك، إنه الموفق المستعان.
ومن الأمثلة (نصبه) علياً صلوات الله عليهما خليفة من بعده _ في
ص: 60
سفره _ على المدينة، و (عزله) خالداً من الجيش بل و (إرساله) أبابكر وعمر لجيش أسامة، وكذا نفس رفعه يدَ علي عليهما السلام يوم الغدير؛ فإنها كلها أفعال وليست مقدمة فقط وليست حاكية فقط كما قد يتوهم، بل هي إنشاء أيضاً.
ومما يؤكد ذلك ويوضحه التزام الفقهاء بأن (فعل المعصوم) و (تقريره) _ وهو من مصاديقه _ حجة، ك(قوله) ففعله (حجة) سواء أخذت الحجية بمعناها اللغوي أي ما يحتج به المولى على عبده، أم عرفت ب(المنجِّز والمعذِّر) كما ذهب إليه الآخوند قدس سره، أم ب(الكاشف التام أو الناقص) كما ذهب إليه الأصفهاني قدس سره، أم (المحرك) وهي الحجة التكوينية، أم (لزوم الحركة على طبقه) كما ذهب إليه جمع، أم ما أشبه ذلك.
نعم لا يقع (فعله عليه السلام) (أوسط) في القياس وهو ما ذهب إليه الشيخ في معنى الحجية تبعاً للمناطقة، بل ما يقع، هو ما كشف عنه فعله _ فتأمل.
وبذلك ظهر أن (تقرير المعصوم عليه السلام) منه: المولوي، ومنه: الإرشادي.
وبذلك يظهر أن (الإشارة) وهي حجة ودلالتها معتمدة من الأخرس بل ومن غيره أيضاً في الجملة، هي من مصاديق (الفعل) إلا أنها أفردت بالذكر لكونها أظهر المصاديق وأكثرها دوراناً، ولذلك ذكروا أن إنشاء
ص: 61
الأخرس الطلاق، هو بوضع عبائتها على رأسها مثلاً _ فيما عرف منه إرادة ذلك، ف(الإشارة) أيضاً مولوية وإرشادية.
وقال جل اسمه: «وهو الولي الحميد».(1)
فهو «الولي» الذي يتولى أمور الناس(2)، تكوينيّها وتشريعيّها، بما فيها من أوامر مولوية، ونصائح وإرشادات، فمقام مولويته يقتضي إرشاده ونصحه، لا الأمر المولوي فقط.
و «الحميد» أي المحمود في أفعاله(3)، وأوامره ونواهيه ونصحه وإرشاده، ولعله يؤيده قوله تعالى قبل ذلك «وينشر رحمته» وذلك لشمول «ينشر» لما كان بقول أو بفعل، بأمر تكويني أو تشريعي(4)، ولشمول وسعة «رحمته»؛ إذ «رحمته» كما هي: (إعطاء كل شيء خلقه) كذلك هي (هدايته) وإرشاده «قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»(5) _ فتأمل.
ص: 62
وقال سبحانه وتعالى: «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون».(1)
وحيث أن الإمام والرسول، هم الأولياء للناس، كما الله سبحانه وتعالى _ بنص الآية الشريفة _ وفي طول ولايته تعالى بالبرهان، فإنه يستظهر أن (النصح) أصل فيهم ك(التشريع)، فإنه جل وعلا مشرّع وناصح ومكوّن بمقتضى كونه مولى حقيقياً، وبمقتضى رحمته وكرمهوجوده ولطفه، وقد فصلنا الحديث عن (لطف الله ومقتضياته)، في (فقه التعاون على البر والتقوى)(2)، خاصة بلحاظ ما رتّبتْه الآية الشريفة من الفائدة على توليهم «ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون»(3)، فإن توليهم فيما نصحوا به، من أسباب الغلبة، كتوليهم فيما أمروا به.
وذلك سواء كان ما نصحوا به بما هو موالي وأولياء، أم بما هم محبون مشفقون، مع قطع النظر عن مقام الولاية، ولعل التعبير ب«رسوله والذين آمنوا» أقرب للإشارة للأول لمكان الوصف، وإن كان الظاهر أنه أعم.
ولعل ذكر الله سبحانه لصفتي (إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة) في أمير
ص: 63
المؤمنين عليه السلام وتعريفه بهما _ إضافة إلى دلالتهما على مورد النزول وكونه عليه السلام المقصود لا غيره _ إشارة إلى أعظم مقومين يتصف بهما (الولي) من قبل الله تعالى، أحدهما يرتبط بعلاقته بربه، والآخر يرتبط بعلاقته بمن وُلِّي عليهم، ووصف الله تعالى له بهاتين الصفتين _ رغم تعدد من يتصف بهما بل كثرتهم _ دليل على أنه بلغ أعلى درجاتهما؛ لأنهما حقيقتان تشكيكيتان، فليس فوقه فيهما أحد، وإلا كان الله انتخبه وارتضاه هو الولي نظراً لحكمته وعدله، ويؤكد ذلك وصفه ب(وهم راكعون) فإنه إضافة إلى دلالته على الركوع الظاهري، مشير لغاية الخضوع والتذلل لله تعالى وقد أشير إلى جانب من ذلك في (دروس في التفسير والتدبر).
وعلى أي فإن المقصود هنا أن من هذا شأنه وهذه صفته وهذا مقامه، فإن (نصحه) لمن ولي عليهم بلحاظ مقامه وولايته وصفاته، يكون على الأصل من مقتضياتها، على خلاف ما توهم من أن (النصح) ليس من شأن المولى بما هو مولى، بل التشريع فحسب.
وبما سبق بيانه _ في الآيات الشريفة _ يظهر التأمل في قولهم بأن (الأصل في مقام الإمام، المولوية) يريدون به المعنى القسيم للنصح(1) أي المولوية بالمعنى الأخص، سواء قصد أن الإمام له مقام واحد فقط
ص: 64
هو مقام (المولوية) وأن مقام (النصح)، ليس له بما هو إمام(1)، بل حاله كحال غيره في ثبوت حق النصح له، أم قصد أن المقامين(2) له بما هو إمام، إلا أنالأصل فيهما هو مقام (المولوية) بالمعنى الأخص بإرادة(3) (القاعدة) من (الأصل) أو إرادة: ما يقابل الفرع، من (الأصل) فإنه متفرع عليه(4)، فتأمل.(5)
إذ إرادة (القاعدة) أو (ما يتفرع) صادق على إرادة المولوية بالمعنى الأعم لا الأخص، وهو مورد البحث في المقام _ فليتأمل.
لكن هل يصح قولهم (الأصل في الأوامر، المولوية)؟
وليلتفت لفرق هذا عن سابقه(6) بمعنى أنها صدرت لجهة الإلزام
ص: 65
واستحقاق العقاب بالترك أي (المولوية بالمعنى الأخص)(1)، وليس (المولوية) بالمعنى الأعم(2) اللازم منها مطلق الإلزام الأعم من (المولوي بالمعنى الأخص) ومن قسيمه المندرج تحت ما أسميناه (بالمولوي بالمعنى الأعم)، وهو (النصح الإلزامي)؟
هذا لو قلنا بوجود النصح الإلزامي، ولو لم نقل به يكون معنى قولهم (الأصل في الأوامر، المولوية) إن ظاهرها ذلك، لا الإرشاد فهي واجبة وجوباً تكليفياً ومخالفتها توجب العقوبة.
الظاهر: نعم، لكن لا بتعليل: أن المولوية _ بالمعنى الأخص _ هي مقامه دون المولوية في ضمن فردها الآخر _ وهي (النصح الإلزامي) أو غيره(3) _ إذ قلنا: كلاهما مقامه، بل لانصراف الأوامر إلى كونها أوامر من المولى بما هو مولى بالمعنى الأخص لا الأعم.
وغير خفي أن المراد ب(الأصل) هنا: (القاعدة) لا (الأكثر) فإنه غير معلوم(4)، فتأمل، ولا الأصل في مقابل (الأمارة) _ وهو من إطلاقاته _ ولا الأصل بمعنى الاستصحاب _ كما هو واضح، ولا ما يقابل (الفرع).
وأما الروايات:
ص: 66
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فوالله إني لأولى الناس بالناس).(1)
والظاهر أنه أولى الناس بالناس، في مختلف الجهات، أي تكويناً وتشريعاً _ فيشمل الأمر والنهي والإرشاد والنصح بقسميه (المولوي _ النصحي، والنصحي المجرد) وغير ذلك.
وقال عليه السلام: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه).(2)
وقد (وليّ) بأمر الله ونصب رسول الله صلى الله عليه وآله، بالنص الخاص، بل بالنصوص المستفيضة بل المتواترة الخاصة، فأمره التشريعي مولوي وإرشاده(3) مولوي أيضاً.
فإن شأن من وُلِّي على قوم ليس الأمر والنهي فقط، بل تحري صلاحهم وإرشادهم ونصحهم فهو بما هو مولى عليهم، مسؤول عن نصحهم وإرشادهم.
وبعبارة أخرى: مقتضى (كلكم راع) أن كل إنسان مسؤول عن نصح الآخر ورعيه ورعايته فلو ترك، استحق الملامة والمذمة أو العقاب، أما الوالي فلو ترك فإنه ملام ومعاتب أو معاقب لجهة مقام ولايته أيضاً؛ إذ يُرى أنه ترك مقتضاها، لا لصرف أنه ترك العمل ب(كلكم راع وكلكم
ص: 67
مسؤول عن رعيته)(1) وإذا كان إرشاده ونصحه بلحاظ مقامه، مما كُلِّف به ومن مسؤولياته، كان لازمه لزوم الإطاعة فيما إذا كان نصحاً إلزامياً؛ لما ذكروه من التلازم بينهما في قوله تعالى ﴿ولينذورا قومهم إذا رجعوا إليهم﴾(2) فإن المتفاهم عرفاً منه هو ذلك.
وقال عليه السلام: (يا مالك، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره).(3)
وقد ولي بنصب مَن نصبه الله ورسوله، فله الولاية الطولية، فأمره مولوي كذلك، وإرشاده قد يكون مولوياً كذلك أي لو أعمل مقامه.
بل إن قوله عليه السلام: (دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره) يؤكد المطلوب؛ فإن (النصيحة): إما بمعنى الإخلاص والخلوص في النية والعمل، وإما بمعنى (إحكام الأمر)، وإما بمعنى تحري صلاح الآخر، بقول أو عمل، كما فصلناه في موضع آخر من الكتاب،وكلها تشهد بكون (مقام الناصح) هو من مقامات (الولي) لمن ولي أمرهم، ومن مسؤولياته؛ فإن (النصح) معلول الإخلاص كما هو دليله، وهو من الإحكام كما هو دال عليه، وهو تحري لصلاح المُوَلّى عليه كما هو
ص: 68
كاشف عنه.(1)
وبعبارة أخرى: (الولي) لابد أن يكون مخلِصاً، متقِناً، محكِماً تدبيره، متحرياً صلاح من وُلِّي عليهم، وكلها تقتضي وتوجب (نصحه) لهم أيضاً _ بمعناه العرفي المتداول _ فكلما وجبت عليه تلك الثلاثة، وجب عليه هذا.
والأمر في (أمره) أعم من أمور معاشه ومعاده؛ فإنه مسؤول عنها جميعاً فلو (افتقر الناس) بسوء إدارته، حوسب وعوقب، ولو (ضل الناس)، بسوء إدارته وفعله، حوسب وعوقب أيضاً، فالنصيحة الواجبة على الوالي هي أعم مما يضمنهما ويكفلهما.
وبعبارة أخرى: (أمره) أعم مما وقع(2) متعلقاً (للأمر)(3) المنشَأ بلحاظ مصلحة الآخرة أو الدنيا _ وهو الضابط الثاني _ ومما كانت المصلحة فيه معلومة للمأمور قبل الأمر أو لا _ وهو الضابط السادس _ ومما توقفت المصلحة على الأمر أو لا _ وهو الضابط السابع _ ومما عادت المصلحة للآمر أو المأمور _ وهو الضابط الثامن _.
ثم إن كون المراد ب(المولى) و (الوالي) و (الأولى) و (وُليت عليه) و (وُليت أمره) _ كما ورد في الآيات والروايات _ الأعم من المولوي والإرشادي بإصطلاح الفقهاء والأصوليين، يكفي مصححاً لإصطلاحهم
ص: 69
(الأمر المولوي) على إرادة الأخص وأحد الأفراد(1) إلا أنه لا يصلح أن يكون عندئذٍ محوراً للبحث والنقاش من حيث الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ودلالاته الإلتزامية وغيرها، بل يتبع الأمر حينئذٍ ملاكه ودليله _ فتدبر.
وأما (الإرشادي) فقد ذكر مصدره وعدد من مشتقاته في القرآن الكريم، فقد قال سبحانه وتعالى: «وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد».(2)
و «سبيل الرشاد» في هذه الآية الشريفة، أعم من متعلقات الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية، بل ومن موارد الإخبار عنه، أي إنه يقع متعلقاً لها بأجمعها.
وبذلك يصح إطلاق الأمر الإرشادي على الأمر المولوي أيضاً، وهو ما ذكره صاحب الجواهر من الإرشاد بالمعنى الأعم _ كما نقلناه عنه في موضع آخر _.
وكما أن (الهداية) إلى وجوب الصلاة والزكاة والحج والخمس _ وغيرها من الأحكام التكليفية _ هداية إلى سبيل الرشاد، كذلك الهداية
ص: 70
إلى شرائط صحة الصلاة(1)، بل وشرائط القبولأيضاً(2) _ وغيرها من الأحكام الوضعية _ هداية إلى سبيل الرشاد، وكما أن الهداية إلى (العبادات) هداية إلى سبيل الرشاد، كذلك الهداية إلى (العقود والإيقاعات) وما الصحيح منها أو الباطل وما الجائز منها(3) أو اللازم، وشروطها وشروط المتعاقدين وغير ذلك، هداية إلى سبيل الرشاد.
وبعبارة أخرى: كما أن (إنشاء) ما يؤدي الإلتزام به للرشاد، هداية إلى سبيل الرشاد، فكذلك _ بل ولعله أظهر إنطباقاً(4)_ النصح بما يوصل إلى طريق الرشاد، بل وكذلك الإخبار عن طريق الرشاد.
فكما أن «أقم الصلاة»(5) و «ثم أتموا الصيام إلى الليل»(6) هداية إلى سبيل الرشاد.
وإلى «أوفوا بالعقود»(1) سواء قيل بإفادته الحكم التكليفي أيضاً كما ارتضيناه أم إفادته خصوص الحكم الوضعي _ كما ذهب إليه في (مصباح الأصول) وقد فصلناه في موضع آخر _ ومثل هذا الكلام جار في الآية التالية _ كما فصلناه في موضع آخر أيضاً _.
و إلى «أشهدوا ذوي عدل منكم»(2) و «لا تسرفوا»(3) و «أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»(4) _ بناء على إرشاديته، فإنه نصح _ وهو مع ذلك هداية إلى سبيل الرشاد.و إلى «قدموا لأنفسكم»(5) فإنه نصح وإرشاد وهداية إلى سبيل الرشاد.
و إلى «احذروا»(6) وغيرها، مما هو في دائرة الحكم التكليفي، أو الحكم الوضعي، أو النصح إنشاءً، أو حتى الإخبار ناصحاً(7) فإنها بأجمعها _ بأنفسها _ هداية إلى سبيل الرشاد، كما أن الهداية إليها، هداية إلى الهادي إلى سبيل الرشاد.(8)
ولعل منصرف الآية: الهداية إلى (سبيل الرشاد ثبوتاً) لا الهداية إلى
ص: 72
(سبيل الرشاد إثباتاً) أي الهداية إلى الهادي لسبيل الرشاد(1) _ فتأمل.(2)
وبذلك ظهر أن الأمر بالصلاة (إرشادي) بمعنى أنه إرشاد إلى سبيل الرشاد، كما أن الأمر ب«أشهدوا شهيدين من رجالكم»(3) لإفادته خصوص الحكم الوضعي _ كما ادعي _ إرشادي، فهو أعم من المعنى المصطلح للإرشادي، إذ يراد به (الهداية) كما ذكره صاحب الجواهر.
آية ﴿فلن تجد له ولياً مرشداً﴾
وقال تعالى: «ومن يُضلِل فلن تجد له ولياً مرشداً».(4)
و (الولي المرشد) شأنه كلا قسمي الأمر: (المولوي) _ باصطلاحهم _ بقسميه التكليفي والوضعي، وهو ما سميناه بالمولوي بالمعنى الأخص، و (الإرشادي)، وأما باصطلاحنا: فهو أعم إذ يشمل كلا قسمي (المولوي) من تشريعي(5) ونصحي بل والقسم الثالث وهو الإرشادي لا بلحاظ مقام مولويته _ فتأمل.
ولعل (مرشداً) بمنزلة العطف التفسيري للولي، بذكر أحد مقاماته أو مسؤولياته وواجباته.
ص: 73
وقوله تعالى: «قال له موسى هل أتبعُكَ على أن تُعلمنِ مما عُلِّمتَ رشداً».(1)
و «رشداً» إما مفعول له أو مفعول به أي لأجل الرشد أو علماً ذا رشد، وكما صح وصف (العلم) بالرشد يصح وصف (الأمر) به، وكما أن العلم بالإنشائيات وغيرها (رشد)، كذلك الأمر والنصح والإخبار.
وقد ورد (الإرشاد) بصيغته وهيئته أو بمادته في روايات كثيرة فمنها:
قول أمير المؤمنين عليه السلام: (لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟)(2)
و (إرشاد السبيل) قد يكون بصيغة الأمر فيكون (أمراً إرشادياً) بالمعنى الأعم لأن (الأمر المولوي) إرشادي أيضاً بهذا المعنى، وقد يكون بصيغة الإخبار.
ومن البين أن شأن (الإمام) القيام بذلك كله، وأن الواقع الخارجي يشهد بذلك.
ص: 74
بل قد يكون (إرشاد السبيل) بسائر الإنشاءات من (الترجي) و (التمني) و (التهديد) و (الإنذار) ك«اعملوا ما شئتم»(1) و «قل تمتعوا»(2) على ما ذكروا، و (التعجيز) ك«فأتوا بسورة من مثله»(3) و (الدعاء) ك(اللهم أهده سواء السبيل) و (الاحتقار) ك«ألقوا ما أنتم ملقون»(4) وغيرها من المعاني الخمسة عشرة التي ذكرت لصيغة الأمر.(5)
وإنا وإن ذهبنا إلى كونها دواعي للاستعمال وليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه _ تبعاً لصاحب الكفاية _ إلا أن الكلام في أن هذه المعاني لو كانت بغير صيغة الأمر _ إنشاءً أو إخباراً _ كقوله في التهديد (لو لم تطعني هلكتَ أو ضربتك) أو قوله (أتمنى كذا) منشِأً بذلك أو مخبراً، فإن كل ذلك إرشاد للسبيل _ في المحق _ فإنه يصدق عليه بالحمل الشايع الصناعي إنه أرشده السبيل بقوله كذا _ أو حتى بإشارته وفعله _.
بل الكلام في هذه المعاني، لو كانت بصيغة الأمر أيضاً؛ إذ لا يشترط في صدق كونها(6) إرشاداً للسبيل كونها(7) جزء الموضوع له أو المستعمل فيه، كما لا يخفى.
ص: 75
ومنها قوله عليه السلام: (وأتوكل على الله واسترشده السبيل المؤدية إلى جنته).(1)
و (استرشاد السبيل) أعم كما سبق، بأن يطلب ذلك منه تعالى، بأمر مولوي أو إرشادي أو بإخبار.
ومنها قوله عليه السلام: (فإن كان الذنب إليه، إرشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له).(2)
وقوله عليه السلام: (فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم، "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله").(3)
ولعل قوله عليه السلام: (هدايتي له) عطف بيان ل(إرشادي) فيصلح دليلاً على ما ذكره (صاحب الجواهر) من إرادة المعنى الأعم للإرشادي في بعض الاطلاقات والاستعمالات.
ولعل مقصوده صلوات الله عليه من الاستشهاد بالآية: أن إرشاده عليه السلام وهدايته له، نابعة من حبه لما يصلحه والصالح له، وهكذا ملوم لا ذنب له، أو وجه الاستشهاد أن الله أمر الناس بإطاعته مما يكرهه كثير منهم وكما أن ذلك ليس ذنباً فإن إرشادي له بما يكرهه، ليس ذنباً _ فتأمل.
ص: 76
وهل قوله عليه السلام (أحب إرشادهم) دليل على أن أمر الإطاعة إرشادي؟(1)
الظاهر العدم، إذ لا حقيقة شرعية ولا اصطلاح خاص للشارع في (الإرشاد)، فلا يحمل كلامه على ما اصطلح عليه الأصوليون من المعنى الأخص للإرشاد، والظاهر أن الإرشاد هنا أريد به معناه الأعم وهو الهداية _ كما ذكره الجواهر _ وهو المعنى اللغوي له.
ثم إن (حب الإرشاد) موجود في الأمر المولوي والإرشادي معاً، بل في الأخبار أيضاً.
إذ لا ريب في أن باعث المولى للأمر بالصلاة والزكاة هو: حب إرشادهم إلى ما فيه خير آخرتهم ودنياهم، ولذا يصح تطبيق كلام الإمام عليه السلام على الأمر بالصلاة أيضاً بأن يقال: (فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم ﴿أقيموا الصلاة﴾) مثلاً.
كما أنه هو الباعث للإخبار ب(ما خاب من استشار) و (الاستشارة عين الهداية)(2) و «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»(3) و (البخل عار والجبن منقصة والفقر يخرسالفطن عن حجته)(4) و (المسلم من سلم
ص: 77
المسلمون من يده ولسانه)(1) و «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم»(2) وهكذا.
فإن حب الإرشاد في هذه كلها وغيرها، إن لم يكن السبب القريب، فإنه يقع في سلسلة الأسباب ففي قوله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» أو «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم»، السبب القريب هو المدح والثناء، والإخبار عن المستقبل أيضاً.
والسبب البعيد هو حب إرشاد الناس إلى أن يكونوا مثلهم، وحب معرفة الناس مكانتهم وفضلهم وما أشبه ذلك.
ولعل الأولى التعبير ب(السبب أو الداعي) باعتباره مصباً ومقصوداً أولاً وبالذات، أو باعتباره مقصوداً ثانياً وبالعرض، فهي دواعي وأغراض طولية، وقد يكون بعضها ظهراً وبعضها بطناً، بل قد تكون كلها وغيرها أيضاً أسباباً عرضية، وذلك ما يحتاج إلى التدبر في كل آية آية على ضوء تفسير وتأويل الروايات الشريفة لها.
ومنها: ما ورد في الزيارة الجامعة عن الإمام الهادي عليه السلام: (كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوى).(3)
لكن قد يقال: إن المراد ب(أمركم): الشأن والفعل.
ص: 78
وفيه: بل الظاهر إرادة الأمر بمعنى الطلب، أي الأمر الإنشائي، بقرينة سبق (كلامكم نور) ولحوق (وصيتكم التقوى).
وقد يقال: إن المراد الأعم منهما، إلا أن يورد بلزوم إجتماع اللحاظين المحال.
وفيه أن المحال هو (على أن يكون كل منهما تمام المراد) لا بعضه، ولا فيما إذا كانا طوليين، بل إن كون كل منهما تمام المراد ليس بمحال كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) و (مباحث الأصول).
بل ونضيف في المقام: أن (الأمر) بمعنى الطلب مصداق للأمر بالمعنى الأول(1) فالصغرى(2) مردودة.
وقد يقال إن الظاهر من (أمركم رشد) أن الأمر نفسه رشد، وليس أن (الأمر) إرشاد.
لكن فيه: أنه يلزمه.
بل قد يقال: إنه دال عليه عرفاً ك(كلامكم نور).
فإن الرشد _ لغة _ (خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية)(3)، قال تعالى «قد تبين الرشد من الغي»(4) وقال «ولقد آتينا إبراهيم رشده».(5)وعلى أي فإن (أمركم رشد) يراد به الأعم من الأمر المولوي
ص: 79
والأمر الإرشادي.
وبذلك ظهر أن (الإرشاد) في الآيات والروايات، أعم من الأمر المولوي والإرشادي والإخبار؛ فإنها كلها إرشاد، فيصح إطلاق (الأمر الإرشادي) على كلا الأمرين: الأمر المولوي والأمر الإرشادي المصطلحين.
وبعبارة أخرى: (الإرشاد) أعم من (الأمر) بداعي الوجوب، أو بداعي الندب، أو بداعي الإنذار مثل «قل تمتعوا»(1)، والامتنان ك«كلوا مما رزقكم الله»(2) والإرشاد ك«استشهدوا شهيدين من رجالكم» _ على ما مُثل لها، بها(3) _ وغيرها.
ولا بأس بأن يصطلح (الأمر الإرشادي) على خصوص ما كان بداعي النصح _ سواء قلنا بإنقسامه للواجب والمندوب أم لا، على ما فصلناه في موضع آخر _ وذلك لوجود العلاقة المصححة، بل لا حاجة لها عند وضع الاصطلاح وإن رجحت؛ فإن الحاجة لها خاصة بالاستعمال المجازي، دون (النقل) في عرف خاص أو عام.
ص: 80
هذا كله عن ورود لفظتي (المولوي) و (الإرشادي) في الكتاب والسنة، وتحقيق المراد منهما فيهما.
وأما (الأمر) فإنه لا ريب في أنه استعمل في الكتاب والسنة، في الطلب بداعي الإرشاد تارة، وبداعي الوجوب أو الندب أخرى _ على حسب مسلك الآخوند _ وعلى ما نراه فالأتم القول إنه استعمل في الطلب (بداع النصح والإرشاد) وقد يكون للوجوب أو الندب، تارة و (بداع التشريع) _ وجوباً أو ندباً _ أخرى، وذلك لإنقسام كليهما لهما، كما أوضحناه في فصل آخر وذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي رحمة الله عليهما.
وذلك مثل قوله تعالى: (قل أمر ربي بالقسط)(1) وهو مولوي على مسلكنا من الضابط الأول، وكذا الثالث، بل والرابع، وإرشادي على الضابط الخامس، لكونه من المستقلات العقلية، والسادس والسابع والثامن، وممكن الوجهين على الضابط الثاني.(2)
ونظيره قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»(3) فإنها من المستقلات العقلية بل لعلها وبعض ما سيأتي، من الفطريات.
ص: 81
وقوله تعالى: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم»(1)، فإن حسن الأول وقبح الثاني، كلاهما من المستقلات العقلية.
وقوله تعالى: «فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها».(2)
و (الأخذ بالأحسن) مما يستقل العقل بحسنه، لكن الظاهر أنه مندوب وليس واجباً.
لكن هل هو أمر مولوي أو إرشادي؟ وقد حققنا نظائره في مواضع أخرى، ويظهر الفارق في استحقاق الثواب وعدمه، وفي غيره أيضاً على ما ذكرناه في موضع آخر.
وقوله تعالى: «ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً»(3) وعبادة الإله الواحد من المستقلات العقلية، فالأمر إرشادي بناء على الضابط الخامس، بل على الضابط الرابع للزوم التسلسل من مولويته _ كما قيل وقد ناقشنا نظيره في فقه التعاون _.
وقوله تعالى: «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»(4)، والظاهر أن (بأمرنا) أعم من أمره تعالى إياهم تشريعياً، ومن أمره جل اسمه إياهم نصحاً وإرشاداً.
ص: 82
وعلى أي فإن الشاهد (صدق) (الأمر) و إطلاقه حقيقة على الأمر الإرشادي، بل لا نرى من حالنا فرقاً في صدقه بين كونه إرشادياً أو مولوياً، حسب اختلاف المباني في ملاك المولوية والإرشادية، بل حتى على المبنى الواحد، حسب اختلاف القرائن في دلالتها على كونه مولوياً أو إرشادياً فيما كان ممكناً فيه الوجهان، ثبوتاً كما في غير المستقلات العقلية، وغير ما يلزم منه محاذير كالتسلسل ومنه قوله تعالى: «ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم»(1) فإن أمره يمكن كونه إرشادياً، كما يمكن كونه مولوياً، ثبوتاً، وأما الإثبات فتابع لما يفهم من اللحن والسياق وسائر القرائن.
ص: 83
وأما الروايات فمنها:
قول أمير المؤمنين عليه السلام: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر).(1)
وقد يستشهد بكلامه صلوات الله عليه على أن بعض ما توهم كون الأمر فيه إرشادياً، مولوي لأن ظاهر (هذا ما أمر به) إنه أمر مولوي فمتعلقاته كلها مولوية ، فتأمل.
ولعل من مصاديق ذلك قوله عليه السلام: (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض.. أمرك أن تسأله ليعطيك).(2) فهل (اعلم) مولوي أو إرشادي؟ وقد أشرنا إلى ذلك في (فقه التعاون) وإلى أنه واجب نفسي كما ذهب إليه المقدس الأردبيلي أو غيري كما لعله المشهور، وهل (أمرك) مولوي أو إرشادي؟
وأما قوله عليه السلام: (فإنه صلى الله عليه وآله _ أي الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر نصف الشجرة
ص: 84
_ فرجع)(1)، ونظيره قوله عليه السلام (ولكن أمرتا _ أي السماء والأرض _ بمنافعكم فأطاعتا)(2)، فالظاهر أن الأمر في الموردين، أمر تكويني، فهو خارج عن محل البحث وإن كان مولوياً.
وقوله عليه السلام: (إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه)(3)، وهو منصرف إلى الأمر المولوي، وإن أمكن شموله للإرشادي _ النصحي _ الوجوبي.
وقوله عليه السلام: (ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه).(4)
(وأمر ربه) أعم من (أمره) التشريعي وأمره النصحي الإرشادي، لصدق (أمر ربه) حقيقة على كليهما، خاصة على مبنى أجنبية الإرشادية والمولوية عن الموضوع له وعن المستعمل فيه _ كما هو مبنى الآخوند الخراساني _ وخاصة على مبنى إنقسام الأمر الإرشادي إلى الوجوب والندب _ كما هو مبنى الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي _.
وقوله: (وأطيعوا أمره _ أي مالك الأشتر _ فيما طابق الحق).(5)
وقد فصلنا في موضع آخر شمول (الأمر) للأمر المولوي _ التشريعي، والمولوي _ النصحي، والإرشادي _ النصحي الوجوبي والندبي أيضاً.
ص: 85
وأما
(الحكم) فقد ورد في الكتاب والسنة كثيراً بمادته ومختلف مشتقاته.لكن ما هو المراد به؟ وهل يختلف عن المعنى الاصطلاحي للحكم _ والذي اختلف فيه، على ما سنفصله بعد قليل، إلى عشرة أقوال، فإننا قد نفصله اكثر في المجلد الثاني بإذن الله تعالى، وإن كان موضعه المناسب هو عند بحث إنطباق (الحكم) على (الحكم الإرشادي) فإن إنطباقه عليه بمعناه الوارد في الكتاب والسنة، هو منشأ الأثر، وهو الأهم من بحث إنطباق المعنى الاصطلاحي عليه وإن كان ذا فائدة أيضاً، إلا أنها فائدة فنّية بالأساس.
وبعبارة أخرى: إن إثبات إنطباق (الحكم) بما له من المعنى في الآيات والروايات، على (الحكم الإرشادي)، سيكون من الأدلة على: ضرورة إدراج كافة (الأحكام الإرشادية) في (الفقه) نظراً لكون موضوعه: (فعل المكلف _ كما قالوا، والأعم منه كما ارتأيناه وفصلناه في موضع آخر _ من حيث الحكم الشرعي).
ص: 86
ص: 87
ص: 88
ثم إنه لا ريب في أن (الفقه) مبتنٍ في الجملة، على الأوامر، والنواهي، والدوالّ والجمل والأحكام، التي (عُدّت إرشادية).
إما لأنها _ لدى التحقيق _ مولوية، وقد نشأ الخطأ في عدها إرشادية، من خطأ مبنائي في ضابط المولوي والإرشادي، مثل اعتبار أن الضابط هو (ما أنشأ لمصلحة أخروية فمولوي وما أنشأ لمصلحة دنيوية فإرشادي) أو أن الضابط هو (ما كان في مورد المستقلات العقلية فإرشادي) وغير ذلك، كما سنفصله في مبحث الضوابط، حيث أشرنا إلى أشهرها وهي تسعة، وكما سنبحث عن الكثير من المصاديق في مطاوي الكتاب بإذن الله تعالى.
أو أن الخطأ قد نشأ من تطبيق كبرى الضابط على المصداق _ بعد صحة الضابط كما فيمن ذهب إلى أن الضابط هو (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته) سواء مع قيد (إذا كان في مقام التشريع) أم لا أو من كليهما.
وسنذكر أمثلة عديدة لذلك...
ص: 89
منها: مثال (أوامر التوبة) في الكتاب والسنة، حيث توهم أنها إرشادية، نظراً للزوم التسلسل لو كانت مولوية، وقد فصلنا الكلام عنه وعن ما يرد عليه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وأشرنا ههنا إشارة.
ومنها: كافة الأوامر الشرعية الواردة في موارد المستقلات العقلية.
ومنها: شتى الأوامر الصادرة من المعصومين الأطهار عليهم السلام، في الشؤون الصحية والطبية وغيرها، حيث توهم أنها على إطلاقها قد صدرت من المولى لا بما هو مولى بل بما هو ناصح، وسيأتي تفصيل ذلك كله بحول الله وقوته.
وأما لأنها وإن كان إرشادية، حتى على التحقيق _ وإن كانت دائرتها(1) أضيق بكثير مما ذهب إليه المشهور أو ما لعله المشهور _ إلا أنها معدودة من (الفقه) وقد ذكرها حتى القائل بإرشاديتها في (الفقه)، بل قد ابتني (الفقه) عليها أو كان ينبغي أن تعد منه.
أما الأخير(2) فلما سيأتي مفصلاً من بيان أن الحكم الإرشادي ينقسم كالمولوي _ إلى واجب ومندوب كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي رحمة الله تعالى عليهما، بفارق ترتب العقاب وعدمه، أو فارق الاستحقاق وعدمه، أو لغير ذلك من الوجوه.
وأما الأول(3) فلأن كثيراً من الفروع والمسائل والأحكام الواردة في الكتب الفقهية في شتى الأبواب، هي مما أرشد الشرع إلى لزوم أو حسن
ص: 90
فعله أو تركه، أو إلى وضعه(1) وجعله وثبوته، ولا وجه لالتزام الاستطراد كما سيظهر بعد قليل بإذن الله تعالى.
إلا أن يقال: إنها أدرجت في (الفقه) لأنهم عدوها من (المولوية) إذ المولوي أعم من الواجب والمندوب، ومن الحكم التكليفي والوضعي، لا مع اعتبارها مجرد إرشادية للنصح.لكن يرد عليه: أنهم صرحوا في موارد كثيرة بكون الأمر إرشادياً ومع ذلك أدرجوه في (الفقه)، فمثلاً نجد السيد الحكيم رحمه الله في (المستمسك) يصرح بأن (أمر التوبة) إرشادي ومع ذلك يبحثه.
كما نجد أن الميرزا الشيرازي رحمه الله، يلزم القائل بضابط (المصلحة الدنيوية)(2) بأن أوامر غسل الجمعة وكذلك أوامر الاستياك، ستكون عندئذٍ إرشادية، ومع ذلك لا يخرجها ذلك عن (الفقه) ولا يُلزمه به.
كما أنهم يصرحون بأن (كاتبوهم) و «استشهدوا شهيدين من رجالكم» و «أشهدوا ذوي عدل منكم» و «فاكتبوه» إرشادية، ومع ذلك يبحثون الأول في كتاب (التدبير والمكاتبة)، والثاني في (الدين)، والثالث في (الطلاق)، والرابع كالثاني.
بل لا يجد العرف الملقى إليهم الكلام، فارقاً من حيث بحث مثله في الفقه، بين كونه مولوياً أو إرشادياً.
بل نجد كثيراً منهم يصرحون بأن الأمر في مواطن (المستقلات
ص: 91
العقلية) إرشادي، ومع ذلك يبحثون مصاديقها مما تعلق بالفروع، في الفقه، وقد ذكرنا في مطاوي هذا البحث، عشرات المصاديق والأمثلة على ذلك.
إلا أن يقال: إن ذلك من حيث حكم العقل به، ومع الالتزام(1) بأن مخالفة (الحكم العقلي) مما يستحق عليه العقاب وإن كان الأمر الوارد من الشارع فيه إرشادياً، لتعذر أمره المولوي به؛ لما قالوه من لزوم التسلسل أو تحصيل الحاصل أو غير ذلك، وقد فصلنا الجواب عن ذلك في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل) وقد تحدثنا عنه في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) كما أوضحنا في (قاعدة الملازمة)، معنى قاعدة الملازمة على هذا الرأي وما يلزمه من توالٍ فاسدة.
ص: 92
وعلى أي حال فإنهم رغم التزامهم بإرشادية الأوامر في موطن المستقلات العقلية، إلا أنهم _ تراهم _ يبحثون عن: الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص والانصراف وعدمه، في الأوامر والنواهي والدوال عليها، مع أن الملاك على الإرشادية، (الإطلاق والتقييد في المرشد إليه لو كان(1)) لا في (المرشد)، مما يدل على ارتكازية (المولوية) في أنفسهم، وإن صاروا بضغط الدليل أو ما توهم منه، إلى الإرشادية.
إلا أن يقال: إن مباحث (الإطلاق والعموم) وغيرها، لا تختص بالأمر والنهي المولوي بل تشمل الإرشاديين منهما أيضاً، بل إنها لا تختص بالإنشاء، بل تشمل الإخبار أيضاً فلو قال (جاء العلماء) أمكن إسناد مجيء زيد العالم إلى المتكلم تمسكاً بعموم كلامه، ولو قال الطبيب (اشرب هذا الدواء) ولم يحدد وقتاً، أمكن التمسك بإطلاقه الأحوالي مثلاً.
لكن يرد عليه: أن بحث هذه الأوامر والنواهي في (الفقه) ليس لجهة (الإسناد) بل لجهة معرفة (دائرة الإنشاء)، فالمقياس ينبغي أن يكون
ص: 93
المرشَد إليه لا المرشِد.
والجواب أن عموم وخصوص (المرشد) كاشف عنه عرفاً.
لكن قد يقال إن (المرشد إليه) دليل لبي لا إطلاق له، فيكون على هذا، التمسك بعموم المرشِد وخصوصه، دليلاً على أن (الأصل) _ في حفظ الوديعة مثلاً _ وإن كان مما استقل به العقل، إلا أن (الحدود) مما لم يستقل بها، فالأمر والنهي فيها يمكن كونه مولوياً، إلا أن يتمسك بأن كون الأمر منحلاً إلى (المولوي) في جزء من متعلقه _ وهو الأصل _ وإلى (الإرشادي) في جزئه الآخر _ وهو الخصوصيات _ خلاف القاعدة والأصل والمتفاهم عرفاً فتأمل.(1)
وقد بحثنا ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) فليلاحظ.
وقد يقال: إن الحال يختلف بين ما لو كان (للمرشَد إليه) _ على فرضه(2)_ (لفظ) وبين عدمه، فإن كان لفظاً كان هو الملاك في العموم والخصوص _ وإلا فلفظ (المرشِد) هو الملاك، وعلى هذا لو وجدنا الفقيه يبحث عن إطلاق وعموم لفظ المرشِد، كشف ذلك عن كونه يرى المرشد إليه لبياً، فتثبت المولوية في الحدود والخصوصيات كما سبق، أو عن كون (ارتكازه) على كون الأمر مولوياً لا إرشادياً، وهو المطلوب، وفي الصورتين يلزم إدراج الأمر في موطن المستقلات العقلية في (الفقه) _ فتأمل.
ص: 94
والمستظهر لزوم إدراج الأوامر والنواهي الإرشادية(1)، في (الفقه)، سواء ما تعلق منها بالطب والصحة، أم ما تعلق بالمعاش والحياة الشخصية، أم ما تعلق منها بمكارم الأخلاق، أم ما تعلق بالصنائع والحرف، أم ما تعلق بالشؤون الاجتماعية، أم ما تعلق بالشؤون السياسية، أم ما تعلق بالشؤون الاقتصادية، أم غيرها.
وذلك استناداً إلى :
1 (الغاية) من علم الفقه .
2 و (موضوعه) .
3 و (تعريفه).
4 وإلى (الغرض) من تقسيم الأوامر والنواهي إلى مولوية وإرشادية.
5 وإلى (أدلة وجوب التفقه التخييري).
6 و (أدلة حجية رأي الفقيه لغيره).
ص: 95
أما (الغرض) من التقسيم فقد فصلناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ، كما فصلنا (الأدلة) بقسميها(1) في موضع آخر أيضاً(2)، فلنبحث الثلاثة الأولى ههنا فنقول:
أما (الغاية) من علم الفقه، فلأن غاية علم الفقه هي معرفة (الحكم الشرعي) وأما (معرفة مدى مطابقة فعل المكلف لأحكام الشارع ومراداته)، و (امتثال أمر الشارع) فهو غاية الغاية.
قال المحقق النائيني رحمه الله : (الفقه إنما يبحث عن الأحكام المجعولة للموضوعات المعينة كالصلاة والصوم وغيرها)(3) عكس الأصول كمبحث وجوب المقدمة.
وقال الشيخ الحائري رحمه الله : (مسائل الفقه هي عبارة عن الأحكام الواقعية الأولية التي تطلب من حيث نفسها).(4)
وقال البعض: (كل حكم يقدر المقلد على العمل به بعدما أفتى به المجتهد، بخلاف مسائل الأصول).
و (الحكم الشرعي) و (الأحكام المجعولة) و (الأحكام الواقعية الأولية) (وما يقدر المقلد على العمل به) مما ينطبق على مؤدى الأمر والنهي
ص: 96
الإرشاديين، كانطباقه على المولويين، على جملة من تعاريفه.
بل لا شبهة في صدق (الحكم الشرعي) و (الحكم الواقعي الأولي) على مثل: وجوب العدل ووجوب رد الوديعة وحفظ الأمانة، رغم كونها من المستقلات العقلية والذهاب إلى كون الأوامر في مواطنها إرشادية.
بيان ذلك:إن (الحكم) عرف بتعاريف مختلفة:
منها: (مطلق خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).
ومنها: ذلك مع قيد (من حيث الإقتضاء والتخيير).
ومنها: (الاعتبار الشرعي المسبوق بالملاك والإرادة).
ومنها: (المحمولات الشرعية).
ومنها: (مطلق الإلزام) بمعناه العرفي الكاشف عن المعنى اللغوي.
ومنها: (طلب الفعل أو الترك، مع الإلزام أو بدونه) أي مع المنع من الترك أو لا.
ومنها: (خصوص الأحكام التكليفية الخمسة).
ومنها: مع إضافة (الأحكام الوضعية).
ومنها: (التصديق).
ومنها: (النسبة الحكمية) أو (النسبة التامّة الخبرية).
ص: 97
والظاهر انطباق التعريف الأول للحكم على (الأمر والنهي الإرشاديين) لأنهما (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) حيث لم يقيد بما استحق العقاب على مخالفته _ وهو المولوي _ وما لم يستحق _ وهو الإرشادي _ حسب الضابط التاسع للإرشادية والمولوية.
ألا ترى أن قوله تعالى«توبوا إلى الله»(1) إرشادي _ حسب الضابط الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن(2) للمولوي والإرشادي _ وعلى ما ذهب إليه جمع من الأعلام(3) وهو مع ذلك (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) وهي _ أي التوبة _ واجبة دون شك(4) ومحل بحث وجوبها (الفقه).
وكذلك كافة الأوامر والنواهي ومطلق الإنشاءات المتعلقة بالمستقلات العقلية ك(اعدلوا)، (لا تظلم) و «لا تظلمون ولا تظلمون»(5) و «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»(6) و «ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
ص: 98
له الدين»(1) و «لا تقتلوا أنفسكم»(2) و «إلا أنتتقوا منهم تقاة»(3)، وغيرها من عشرات الآيات والروايات الأخرى التي سنبحثها في هذا الكتاب بإذن الله تعالى، والتي ادعي كونها إرشادية نظراً لكونها في مواطن المستقلات العقلية، ومع ذلك لم يخرجها ذلك عن كونها مسائل فقهية، وعن انطباق تعريف (الحكم الشرعي) الأول _ وغيره _ عليها، وهو (خطاب الله المتعلق بأفعال الملكفين).
ص: 99
وكذلك مثل «استشهدوا شهيدين من رجالكم»(1) _ أي على الدين _ و «أشهدوا ذوي عدل منكم»(2) _ أي على الطلاق _ و «كاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً»(3) و «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»(4).
مما ذهب المشهور إلى كونها أوامر إرشادية، نظراً لدعوى أن الأمر بها لم يكن إلا بلحاظ ما فيها من المصلحة لا غير، أو لغير ذلك _ وسيأتي تفصيل البحث فيما بعد بإذن الله تعالى.
فإنه لا شك في أنها أحكام شرعية بمعنى (خطاب الله المتعلق بأحكام المكلفين) وبحسب سائر المعاني كما سيأتي، وغالبها أو كلها مستحبة شرعاً ويترتب عليها الثواب أيضاً كما سيجيء.
وكذلك مثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله (احتجموا إذا هاج بكم الدم)(5) و (سافروا تصحوا وتغنموا)(6) وقوله صلى الله عليه وآله: (علموا أولادكم السباحة والرماية)(7) وقوله صلى الله عليه وآله: (تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء)(8) مما سنفصل الحديث عنه في عنوان (ما يتعلق بالطب والصحة) مما ادعي أنها إرشادية، وكلها (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).
كما تنطبق عليها جملة من التعاريف الأخرى ل(الحكم الشرعي) كما سيأتي بيانه، وهي بين مستحب على الأغلب، وواجب ولو في بعض الصور كما سيأتي.
وكذلك مثل قول الإمام الصادق عليه السلام (لا تدعوا التجارة)(9) ومثل (أمره أن يحرث بيده)(10) مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بالتجارة)، مما ادعي كونها إرشادية نظراً لكون المصلحة الملاحظة فيها هي مصلحة دنيوية، لكن تعريف (الحكم الشرعي) ينطبق عليه.ومثل (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير)(11) و (سلوا الله الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة)(12) مما سنفصل الحديث عنه تحت عنوان (ما يتعلق بالمعاش والحياة الشخصية) مما ادعي كونها إرشادية نظراً لكونها (نصحاً) من المولى لا بما هو مولى،
ص: 100
وهي مع ذلك (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).
ومثل قول الأمير عليه السلام: (حصنوا الأعراض بالأموال)، وقوله عليه السلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة)(1)، والرسول صلى الله عليه وآله: (إياكم وفضول المطعم... وإياكم وفضول النظر)(2) مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بمكارم الأخلاق).
ومثل قوله تعالى: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا»(3) وقول الأمير عليه السلام: (وجوّد المضغ)(4) وقول الإمام الرضا عليه السلام: (عليكم بالعسل والحبة السوداء)(5) وغير ذلك مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بالأكل وخصوصيات الأطعمة) وكلها أحكام شرعية بمعنى: (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).
وكذلك قوله تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل»(6) وقوله «لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً»(7) و «لا تنقصوا المكيال والميزان»(8) و «أوفوا بالعقود»(9) وغيرها، مما فصلناه تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الاقتصادية).
ص: 101
وكل هذه وما سبقها وما يلحقها، بحوث فقهية ومسائل شرعية، وإن كان اللازم عدها إرشادية لكونها من المستقلات العقلية(1) أو لكون المصلحة فيها دنيوية(2) أو لأن المصلحة معلومة في هذه الموارد للمأمور قبل الأمر(3) أو لأنها تعود للمأمور.(4)وكذلك قوله تعالى: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار»(5) وقوله تعالى: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»(6) وقوله جل اسمه «وشاورهم في الأمر»(7) وغيرها، مما سنبحثه تفصيلاً تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون السياسية والاجتماعية)؛ فإنها كلها ينطبق عليها تعريف الحكم ب(خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).
وقوله تعالى: «وعاشروهن بالمعروف»(8) أو «فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف»(9) و «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله»(10) و «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن»(11) وغيرها، مما فصلناه تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الاجتماعية) فإنها مسائل فقهية، رغم انطباق بعض ضوابط (الإرشادية) عليها.
ص: 102
وكذا مثل صحيحة علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام: (الغسل واجب يوم الجمعة)(1) وغيرها، مما نقض به الميرزا الشيرازي على من ذهب للضابط الثاني، بلزوم كونها إرشادية لكون مصالحها دنيوية، لكنه لم يخرجه ذلك عن كونه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
وكذلك مثل قول الأمير عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي: بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم)(2) وقول الله تعالى من قبله «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص»(3) وقوله تعالى: «فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن»(4) وغيرها، مما سنفصله تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الإدارية وشؤون النظم والسعادة) فإنها جميعاً خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، رغم كونها حسب جملة من الضوابط، إرشادية كما سيأتي.
وأما التعريف الثاني ل(الحكم) فإنه كذلك منطبق على مؤديات الأوامر والنواهي الإرشادية: فإن الإرشادي فيه الاقتضاء _ كالمولوي _ سواء أريد بالاقتضاء الأعم من الأربعة فيراد بالتخيير خصوص الإباحة، أم أريد به خصوص الحكمين فيراد بقسيمه الثلاثة الباقية(5) وقد أوضحنا في
ص: 103
موضع آخر انقسام الإرشادي إلى الإلزامي وغيره.
وإرادة (اقتضاء الوجوب بالمعنى الأخص) أي ما ترتب على مخالفته العقاب، خلاف إطلاقه(1) وخلاف (الغاية) و (الملاك) كما سيأتي، وكذلك إرادة (اقتضاء الندب بالمعنى الأخص) وكذا نظائره الباقية.
وأما على التعريف الثالث: فإن الأمر والنهي المولوي (موجِدان) _ على المشهور _ و (مبرِزان) حسب البعض ل (الاعتبار الشرعي المسبوق بالملاك والإرادة)؛ إذ الوجوب والندب والحرمة والكراهة وكذا الإباحة كلها، اعتبارات شرعية مسبوقة بالملاك والإرادة، وكذلك الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وغيرها فإنها اعتبارات شرعية مسبوقة بها.
وكذا الأمر والنهي الإرشاديان؛ فإن (الوجوب والحرمة) فيهما _ بناء على رأي الشيخ والميرزا، وهو القول الثالث في حقيقة الأوامر الإرشادية كما سيأتي من انقسام الأمر الإرشادي أيضاً إلى واجب ومندوب _ أيضاً: (اعتبار شرعي مسبوق بالملاك والإرادة) لتقومهما بالطلب والوجوب أو بالطلب والندب، وإن كان بدون استحقاق للعقاب، فهذا الوجوب أو الندب الإرشادي (اعتبار شرعي) وهو (مسبوق بالملاك)(2) دون شك وكذا (الإرادة)، وقد (أوجد) هذا الاعتبار أو (أبرز) بالأمر والنهي الإرشادي.
ص: 104
وكذا بناء على القول (الرابع): بأن الأوامر الإرشادية: (إرشادية _ طلبية غير إلزامية فهي قسيم للندب)، فكما أن (الندب) اعتبار شرعي، كذلك (قسيمه)؛ وفرقهما أن المولى (يعمل مقامه) ويلاحظ (ذاته) في الأمر أو لا، أو غير ذلك، كما سيأتي؛ فإن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
والأمر أوضح على القول الخامس(1)، لصدور الإيجاب من المولى بما هو مولى وإن كان للنصح(2)، كما فصلناه في موضع آخر.
بل حتى لو لم نقل بالوجوب والندب في الإرشادي، وصرنا إلى القول الثاني وأنه صرف طلب بدون إيجاب أو ندب _ كما ذهب إليه البعض _ فإنه هذا (الطلب) النصحي قد أنشأهالشارع وأوجده في عالم الاعتبار أو أبرزه _ بهذا الأمر الإرشادي _ مسبوقاً بالملاك والإرادة فهو (اعتبار شرعي) مسبوق بهما.
أو صرنا إلى القول الأول بأنه(3) ليس طلباً أصلاً، بدعوى أن الإرشاد قسيم الطلب، فهنا إرشاد ولا طلب، فإن (النصح) (اعتبار شرعي)(4) وإن لم يكن طلباً، لعدم انحصار الاعتبارات الشرعية في الطلب، إلا أن يقيد (الاعتبار الشرعي) في التعريف ب(الطلبي)، ولم يقيد، كما لا ضرورة ولا حاجة له، كما أنه مسبوق بالملاك والإرادة، وقد (أوجد) أو (أبرز) بالأمر الإرشادي.
ص: 105
وأما التعريف الرابع ل(الحكم): فإنه على القول الخامس: فإن (المحمول الشرعي) هو (الوجوب المولوي بالمعنى الأعم)(1) كما كان في (الأمر المولوي بالمعنى الأخص): الوجوب المولوي _ تكليفاً أو (الملكية) مثلاً، وضعاً.
وأما القول الرابع: فإن (المحمول) هو (المطلوب غير الإلزامي).(2)
وعلى القول الثالث: (المحمول) هو (الوجوب الإرشادي) أو الندب كذلك.(3)
وعلى القول الثاني: (المحمول) هو (المطلوب) لكن لا في ضمن الوجوب ولا الندب(4) _ كما هو مفروض هذا القول _.
وعلى القول الأول: المحمول هو (المرشَد إليه).(5)
إن قلت: إنه ينقض بكل إخبارات الشارع لصدق (هذا مخبَر عنه) فلزم كونها أحكاماً.
والجواب: إن هذا إشكال مبنائي على هذا التعريف، ويرتفع بإضافة قيد (الإنشائية) ومعه لا يتم النقض؛ إذ الإرشاد إنشاء دون الإخبار.
ص: 106
وأما التعريف الخامس(1)، فبعد وضوح أن المبحوث في الفقه ليس الوجوب فقط، بل الأحكام الخمسة، بل والأحكام الوضعية أيضاً، فهو أخص على أي حال فلا يضر عدم انطباقه على الأوامر الإرشادية، إنه على جملة من الأقوال(2) فإن الإلزام في (الإرشادي) متحقق.(3)
وبما سبق ظهر تمامية المطلب(4)، على التعريف السادس أيضاً، إلا على القول الأول من الأقوال الستة في حقيقة الأمر الإرشادي، ولعله كذلك على القول الثاني.
نعم على التعريف السابع والثامن للحكم، فإن موارد (الأمر الإرشادي) تكون أجنبية عن (الفقه)، فالنقاش مبنائي، إذ لا دليل ولا وجه لإنحصار المباحث الفقهية بالسابع كما هو واضح(5) وبالثامن كذلك، وسيأتي توضيحه بإذن الله تعالى(6)، إضافة إلى أنهما لا يعدان
ص: 107
تعريفاً للحكم بل هما تفسير بالمصداق لا أكثر.
وأما التعريفان التاسع والعاشر فهما أجنبيان عن (الحكم) المبحوث عنه في (الفقه) كما لا يخفى(1) على أنهما جاريان _ على فرض عدم الأجنبية _ في الإرشادي، كالمولوي(2)_ فتأمل.
ولا يخفى أن خلاصة هذا الجواب صدق (الحكم الشرعي) على (الحكم الإرشادي).
ويمكن الاستدلال أيضاً في (ما استقل به العقل) بصدق (الحكم الشرعي) على الحكم العقلي؛ لأن العقل شرع من باطن، وهو إحدى الحجتين _ فتأمل.(3)
ص: 108
وأما موضوع علم الفقه فهو (فعل المكلف(1) من حيث الحكم الشرعي(2)) كما أن موضوع علم النحو هو (الكلمة من حيث الإعراب والبناء) مثلاً، أو هو (فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير) كما ذهب إليه الأصفهاني رحمه الله.(3)
وقد ظهر لك صدق (الحكم الشرعي) على مفاد ا لأمر والنهي الإرشاديين بناء على التعاريف الستة الأولى للحكم.
نعم يبقى التعريف السابع والثامن وبعد بطلان السابع(4) كما فصلناه في الأصول _ مباحث القطع _ الجزء الأول، يبقى الثامن وهو دعوى أن
ص: 109
الحكم الشرعي هو (الأحكام التكليفية الخمسة والأحكام الوضعية).
فموضوع علم الفقه على هذا (فعل المكلف من حيث الحكم التكليفي والوضعي فقط).
لكنه يرد عليه بعد أن التخصيص بهما دعوى بلا دليل:
فإن موضوع كل علم يتحدد ب(الغرض من ذلك العلم) ف(الغرض) هو المايز بين العلوم، وما ذهب إليه المشهور من (إن تمايز العلوم إنما هو بتمايز الموضوعات ولو بالحيثيات)(1) فإنه وإن صح، إلا أنه يعود إلى تمايز الأغراض، فإنها هي علة تضييق الموضوع وتوسعته ذاتاً أو جهة، وهي المدخِل لجملة مسائل في علمٍ، والمخرِج لجملة أخرى، منه.
وقد أوضحنا قبل قليل أن الغرض من الفقه هو (معرفة الحكم الشرعي)، و (الحكم الشرعي) أعم من ما كان بأمر مولوي أو إرشادي ومما كان تكليفاً أو وضعاً أو إرشاداً _ على التعاريف الستة الأولى للحكم بل وعلى التعريف التاسع والعاشر.وبتعبير آخر الغرض من (الفقه) هو (مطابقة أفعال المكلفين لمرادات الشارع وأحكامه)(2) وهو حاصل في الإرشادي كالمولوي تماماً.
ص: 110
وبعبارة أخرى: الغرض هو (امتثال أوامر الشارع)(1) وذلك حاصل في كليهما.
أرأيت أن العبد لو (عدل) و (أدى الأمانة) فإنه قد طابق فعله مراد الشارع وحكمه بالعدل وأداء الأمانة، ويصدق عليه حقيقة أنه قد امتثل أمره، رغم أنها من المستقلات العقلية، ولعل المشهور أن الأمر في مواطنها إرشادي، وقد فصلنا ذلك في مواضع أخرى من الكتاب فليلاحظ.
ثانياً: موضوع الفقه أعم من (فعل المكلف من حيث الحكم الشرعي) فإن موضوعه أعم من: (فعل) المكلف ومن (ذاته) و (صفاته) و (ما يرتبط به) وكذلك يشمل موضوعه: (غيره).(2)
أما (ذاته) فلأن (المكلف بذاته) موضوع للأحكام التالية:
كالطهارة والنجاسة والبلوغ والحرية والمالكية والزوجية والعدالة والفسق والكفر والولاية والسلطنة، وغيرها من الأحكام الوضعية، فإن البحث عنها بحث عن مسائل فقهية، وليس موضوعها فعل المكلف، كما أنها ليست أفعالاً للمكلف، بل هي صفات له فهي ليست عوارض ذاتية لفعل المكلف بل (لذاته) فموضوع الفقه إذن أعم من (ذات)
ص: 111
المكلف ومن (فعله).
وكذلك الكثير من مباحث الإرث.(1)
وكذلك (الحقوق) فإن موضوعها ذات المكلف، وذلك ك(حقه) في حيازة المباحات، أو السفر والحضر والإقامة، والبناء والاستيراد والتصدير وغيرها، دون مانع من الحكومة أو ضريبة منها عليه.
وأما (صفاته) فكمانعية كونه محدثاً بالحدث الأكبر والأصغر عن انعقاد الصلاة مثلاً(2) وكذلك شرطية كونها في غير طهر المواقعة مثلاً لصحة الطلاق.
وكشرطية الطهارة ومستورية العورة(3) لصحة الصلاة فموضوع (الفقه) إذن _ بعضه _: (صفة المكلف) من حيث الحكم الشرعي.وأما (ما يرتبط به) فكمانعية (الحيض)، للصلاة وإن أمكن إرجاعه لما سبق(4)، أو العكس، والملاك لسان الدليل.
وأما (غيره): فذلك في ما كان من العوارض الذاتية للأعيان الخارجية وشبهها: كطهارة الماء والنبات وأقسام من الحيوان، ونجاسة الكلب والخنزير والبول وغيرها.
ص: 112
وكذا مثل سببية دلوك الشمس لوجوب الصلاة؛ فإن (دلوك الشمس) هو موضوع المسألة، وهو ليس فعل المكلف وما يرتبط به، (وسببيته) لوجوب الصلاة حكم شرعي وضعي لأنه مجعول للشارع، وقد فصلنا الجواب عن شبهة المحقق الخراساني رحمه الله في كونها غير مجعولة، في مباحث الأصول _ القطع.
وشرائط المبيع: ك(ما لا مالية له، لا يصح بيعه)، وكذا لورود (المعيب فيه الخيار) فرضاً فإن موضوع الحكم الشرعي _ وهو الخيار _ أمر آخر غير: المكلف أو فعله أو صفاته. ولا حاجة إلى إعادته للفعل بأن يقال: إن مآله إلى أنه إذا باعه معيباً كان له الخيار أو (المشتري للمعيب) له الخيار؛ فإنه وإن صح ذلك إلا أنه لا داعي له بعد كون مصب الروايات (المعيب) مثلاً _ فتأمل.
وبعبارة أخرى: إن موضوعات مسائل الفقه (وهي التي ينطبق عليها موضوعه) قد تكون من (مقولة الجوهر).(1)
وقد تكون من (مقولة الكيف) كما في ما مضى من (صفاته) أو المسموع منه كالجهر في الصلاة والاخفات فيها.
وقد تكون من (مقولة الوضع) _ كالقيام والركوع والسجود _ على رأي.
وقد تكون من (مقولة الفعل) كضرب اليتيم والنظر للأجنبية والأكل للمحرم، والعدل والإحسان وما أشبه، فتخصيصه بالأخير، غير تام.
ص: 113
وذلك لشموله لفعل (غير المكلف) _ ممن فيه اقتضاؤه _ ككل ما يتعلق بأعيان المجانين والصبيان من الأحكام الوضعية.(1)
فلو (كسر) زجاج الغير (ضمن)، فالموضوع هو (فعل غير المكلف) من حيث الحكم الشرعي، وهو الضمان، وإن كان الحكم التكليفي بدفع العوض، على وليه، ويصلح هذا الجواب شاهداً على ما ذكرناه من أن قيد (استحقاق العقاب) مما لا يشترط في درج المسألة في الفقه، فكل (واجب إرشادي) _ وإن لم يترتب على مخالفته استحقاق العقاب _ مسألة فقهية، بل تصلح مطلق الأحكام الوضعية شاهداً على ذلك.
فإن حيثيته(2) أعم من (الحكم) إذ يشمل الموضوع أيضاً.إذ لا ريب أن العلم بموضوعات الأحكام الشرعية(3) كالوضوء والصلاة والحج وغيرها، بتعاريفها وبأجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها، من شأن الفقيه، ومما يبحث في الفقه دون ريب، وإنها مسائل فقهية، بل وكذا مثل تحديد الماء الكر والجاري وغيرهما،
ص: 114
ومثل تحديد الأخت الرضاعية أو الرضعة المحرمة، ومثل تحديد (منكر الضروري) وأشباههما كثير، ولا وجه لإلتزام الاستطراد فيها(1)، ولو بدعوى أنها من المبادئ التصورية أو التصديقية، خاصة مع لحاظ شمول ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ وأمثاله حقيقة لذلك، فإنه لا يصح القول: بأن البحث عن (الصلاة) وحدودها والتفقه فيها، يعد مقدمة للتفقه في الدين بل الحق أنه: هو هو، إلا أن يجاب أن البحث في (الصلاة) مثلاً هو بحث عن فعل المكلف _ لأنها فعله _ من حيث الحكم الشرعي _ أي الجزئية والشرطية وشبهها _ وهي كلها أحكام وضعية، ومآل البحث عن أن القنوت جزء أم لا مثلاً إلى أن الشرع هل حكم بجزئيته وجعلها _ ولو بتوجيه الأمر للمركب _ جزءاً أو لا؟ بل فقل: البحث عن (الركوع) مثلاً من حيث وجوبه _ فتأمل.(2)
كما أن (الحيثية) أعم من (الحكم) أيضاً، إذ تشمل (الحقوق) سواء ما تعلق منها (بالأعيان) ك: حق (التحجير) وحق (الغرماء) في (ما تركه الميت) وحق (الرهانة) وحق (الطبع) _ على القول به _.
أم ما تعلق منها ب(الأشخاص) ك: حق (القصاص) وحق (الحضانة) وحق (الأبوة) وحق (الاستمتاع) بالمعقود عليها.
ص: 115
أم ما تعلق منها ب(الأعراض) أو تعلق ب(الاعتبار)؛ فإن ما تعلق ب(التركة) مثلاً ينقسم على حسبها بين ما تعلق بعين أو عرض أو حق، كحق الخيار وحق الشفعة، وقد يمثل بحق (الخيار) المتعلق بالعقد؛ فإنه متعلق ب:
أ (اعتبار) إذا كان العقد هو الاعتبار، إن فسرنا العقد بمعنى (المعقود).
ب _ أو (بفعل) إذا أريد به سببه إن فسرنا العقد ب(إنشاءين متلازمين، ابتدائي ومطاوعي) مثلاً.
ج _ أو بعرض إذا أريد به الكيفية الحاصلة _ فتأمل.
اللهم إلا أن يقال: إن (الحقوق) (أحكام وضعية).
إذا عرفت ذلك، وأن (موضوع الفقه المنطبق على موضوعات مسائله) أعم من (فعل) المكلف و من (ذاته) و (صفاته) ومن (الموضوعات الخارجية)، وأنه أعم من فعل (غير المكلف) أيضاً، بل هو أعم من (الفعل) و (الترك) كالتروك في أبواب الصوم والحج وغيرها، وإن (محموله) أعم من (الحكم) ومن (الحق) بل ومن (الموضوع)(1) أيضاً.
ص: 116
وإن كل ذلك مندرج في المباحث الفقهية والمسائل الفقهية، ومما يتعلق به غرض (الفقيه).
وعرفت السبب في ذلك الشمول، وأن الجامع هو: اشتراكها جميعاً في الدخل في (الغرض) رغم أنه لا جامع حقيقي بينها ولا جنس لها، إذ لا جامع بين المقولات العالية بل هي (واحد بالعنوان) لا (بالحقيقة).
وعرفت أن الأوامر والنواهي الإرشادية أيضاً دخيلة في (الغرض) وأن (الحكم الشرعي) وهو (الغرض)(1) ينطبق على (الأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية) حسب أكثر تعاريفه وعلى حسب أكثر الأقوال في حقيقة الأمر الإرشادي.
عرفت(2) أن دخول الأوامر الإرشادية والنواهي الإرشادية، في (الفقه) _ مع ما له من العرض العريض _ هو على الأصل والقاعدة.
بل نقول إنه لا يضر عدم صدق (الحكم الشرعي) على الحكم الإرشادي، إذ يكفي صدق (الواجب والمستحب) على مؤديات الأوامر الشرعية الإرشادية _ كما فصلناه عند نقل رأي الشيخ الأنصاري من انقسام الأمر الإرشادي إلى الواجب والمندوب _ فكان لابد أن تدخل (الفقه)، لكونها واجبات ومستحبات _ وإن خَلَت عن استحقاق العقاب، على ما هو الفارق الإني بين النحوين من الأوامر.
والحاصل أن (موضوع علم الفقه) على هذا يكون: (فعل المكلف _ بل الأعم كما سبق _ من حيث الوجوب والحرمة _ مولويين كانا أو
ص: 117
إرشاديين _ وكذا الكراهة والاستحباب بل الإباحة أيضاً(1) ومن حيث الأحكام الوضعية).
أو فقل: (فعل المكلف _ بل الأعم _ من حيث الحكم الشرعي ومن حيث الوجوب والحرمة الإرشاديين أيضاً) وذلك إذا خصص الحكم الشرعي بالمولوي بالمعنى الأخص الذي به استحقاق العقاب.
وبعبارة أخرى: كما أن (فعل المكلف _ بل الأعم كما سبق _ من حيث الحكم الوضعي) كالملكية والزوجية والشرطية وغيرها، مما ينطبق عليه موضوع علم الفقه، وكما أن مسائله هي مسائل فقهية، على الرغم من أن الحكم الشرعي الوضعي مجرد (اعتبار) شرعي دون استحقاق للعقاب عليه بذاته، ولا يخرجه عدم استحقاق العقاب عليه، عن كونه من صميم الفقه، كذلك (فعل المكلف من حيث الحكم الإلزامي أو الندبي الإرشادي) فإن الوجوبالإرشادي وكذا الندبي منه، (اعتبار شرعي) وإن لم يكن مما يترتب عليه استحقاق العقاب، أو مما يترتب عليه العقاب وإن ترتب عليه الاستحقاق بَدْواً _ على احتمال بيّناه في موضع آخر _ فليلاحظ.
وبذلك كله يظهر الحال في (تعريف علم) الفقه فإنه حسب المشهور (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية).
إذ قد بان مما ذكرناه: إنطباق (الأحكام الشرعية الفرعية) على موارد
ص: 118
الأوامر الإرشادية ومؤدياتها، بناء على التعاريف الستة الأولى (للحكم) بل والتاسع والعاشر، فإن مؤدياتها (أحكام شرعية فرعية) لأنها (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين)، و (فيها الاقتضاء والتخيير)، و (هي محمولات شرعية)، وكل منها (اعتبار شرعي مسبوق بالملاك والإرادة)، وفيها (طلب الفعل أو الترك مع الإلزام تارة وبدونه أخرى)، وهي (إلزامية) في الجملة _ على حسب رأي الشيخ والميرزا كما فصلناه في محله.
كما ظهر وجه الإشكال في هذا التعريف(1)، فإن الفقه أعم من ذلك، إذ هو: كل من العلم أو الظن المعتبر(2) ب:
1-الأحكام الشرعية الفرعية التكليفية الخمسة والوضعية.
2-الوظائف العملية المقررة للشاك في مقام العمل كما في موارد الأصول.(3)
3-والأحكام العقلية والعقلائية(4) كحكم العقل بالبراءة والتخيير العقليين، وكالاستصحاب بناء على حجيته من باب بناء العقلاء.
ص: 119
وإن أمكن إعادة هذا للأول، بناء على قاعدة الملازمة على بعض صورها والأقوال فيها(1)، كما فصلناه في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع).
4-والموضوعات المستنبطة أو المخترعة، العبادية وغيرها، كما فصلنا الحديث عن ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي مباحث الأصول كتاب القطع.5-والأحكام الإرشادية؛ فإن التفقه فيها (تفقه في الدين)، خاصة ما كان منها بلحاظ مصالح الآخرة، أو بلحاظ محبوبيته للمولى جل وعلا.
وبذلك ظهر أنه لو أردنا التحفظ على هذا التعريف فإنه لابد من تعريف علم الفقه ب(العلم بالأحكام الفرعية الشرعية منها والعقلية والعقلائية، والأصول العملية، والموضوعات المستنبطة الشرعية، والأحكام الإرشادية، عن أدلتها التفصيلية)، أو تعميم (الأحكام الشرعية الفرعية) للأحكام المولوية والإرشادية، وتعميم الأحكام الشرعية للعقلية؛ لعودها للشارع مآلاً.
ثم إنه يمكن الاستناد لعدد من الآيات الكريمة والروايات الشريفة، التي قد يظهر منها شمول (الحكم) للإرشادي أيضاً.
ص: 120
فمنها قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه»(1)، فإن هذا الأمر لكونه متعلقاً بما استقل به العقل، أمر إرشادي، حسب مسلك كثير من الأصوليين، في أن الأوامر والنواهي في مواطن المستقلات العقلية، إرشادية، ومع ذلك عبر الله تعالى عنه ب«الحكم» فإن «أمر» مصداق له، ولا ريب في صحة إسناد هذا الحكم للشارع إستناداً لهذه الآية الشريفة.
ثم (الحكم) هنا أعم من السلطان وملك الأمر والنهي، ومن القضاء، ومن الحكم بمعنى إيجاد الاعتبار أي الإنشاء.
ص: 121
وبعبارة أخرى: أعم من الحكم التكويني والحكم التشريعي ولذا قال في الصافي: (إن الحكم في أمر العبادة)(1) وقال في المجمع: (ما الحكم والأمر إلا لله)(2) وذلك تفسير بالمصداق، ولذا قال الوالد في التبيين («إن الحكم» ما الحكم بين الناس حكماً تكوينياً وتشريعياً)(3).
ومنها قوله تعالى: «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله»(4) فإن من البديهي اختلاف الأمة في أمر الاستشهاد في الطلاق مثلاً، وإن حكمه إلى الله بقوله تعالى «وأشهدوا ذوي عدل منكم»(5) مع أن (الإشهاد) حكم إرشادي لصحة وقوع الطلاق _ على المشهور _ وليس مولوياً دالاً على وجوبه.
وبعبارة أخرى: واضح شمول موارد الخلاف للكثير من موارد الأوامر والنواهي الإرشادية، وصدق (الحكم إلى الله) فيها، حقيقة.
إلا أن يقال بإرادة (أي حكم ذلك كله إلى الله، يوم القيامة) كما في البرهان والصافي(6)، أو (يحكم للمحق بالثواب والمدح، وللمبطل بالعقاب والذم.. وقيل: معناه تبيان الصواب إلى اللهبنصب الأدلة)، كما في المجمع(7)، لكن قد يقال: إن ذلك تفسير بالمصداق؛ ولذا قال الصافي أيضاً: (وقيل: وما اختلفتم فيه من تأول المتشابه فارجعوا إلى المحكم من الكتاب)(8).
ومنها: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم»(9) و «ما شجر بينهم» أعم من الاختلاف في شؤون العقل العملي والعقل النظري، كالاختلاف في وجوب كذا عقلاً أو شرعاً، أو حرمته مولوياً أو إرشادياً، إلا أن يدعى الانصراف للأول، وأن المراد به (الحكومة).
ويؤيده شأن النزول في نزاع الزبير وأنصاري في مسيل ماء، ويؤيده أيضاً ظهور (مما قضيت) وتفسيرها أيضاً ب(فيما تعاقدوا عليه، لئن أمات الله محمداً، ألا يردوا هذا الأمر في بني هاشم)(10) كما في رواية الإمام الباقر عليه السلام، لكن المورد لا يخصص الوارد، و (القضاء) أعم من القضاء
ص: 122
في عمل اختلفوا فيه أو رأي وقول وحكم اختلفوا فيه؛ ولذا قال السيد السبزواري رحمه الله (الرواية من باب التطبيق، وإن الحكم أعم من التشريعي والتكويني)(1) وقال: (حتى يحكموك في القضايا التي يختصمون فيها ويتشاجرون ويتنازعون)(2)، و (القضايا) أعم _ فتأمل والله العالم.
ومن الروايات قول أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين: (وفي القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم).(3)
فإن القرآن ممتلئ بالأحكام الإرشادية كالأحكام المولوية، وقد ذكرنا في الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، إلا أن يستند إلى ظهور (ما بينكم) في القضاء، وفيه أن السياق يقضي بإرادة الأعم، فلاحظ قوله عليه السلام: (نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)(4).
وقوله عليه السلام: (سنته _ أي رسول الله صلى الله عليه وآله _ الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل)(5) وانصراف (حكمه) إلى قضائه، لعله بدوي.
وقوله عليه السلام: (إلا وقد قطعتم _ والخطاب للعصاة _ قيد الإسلام، وعطلتم حدوده، وأمتم أحكامه).(6)
ص: 123
والأحكام التي أماتوها تشمل:
أ- الأحكام المولوية (كالحج والجهاد والصلاة والصوم _ أصلاً أو حدوداً).
ب- والأحكام الإرشادية، ومنها: الشورى والوفاء بالعهد والإصلاح والهجرة، ومنها أيضاً في جانب التحريم: التجسس والفواحش والنزاع والاغتيال والاختيال، و (إماتتها) بعدم فعلها أو فعل المضاد لها.
وقد فصلنا الحديث عن ذلك، ووجه القول بالإرشادية في الآيات والروايات الواردة فيها، في فصل آخر فليلاحظ.
وقوله عليه السلام: (وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الإسلام، وأحكامه وحلاله وحرامه).(1)
وغير خفي صدق (أحكام الإسلام) على كل مؤديات الأوامر المولوية والإرشادية، خاصة على مبنى الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما من انقسام الحكم الإرشادي إلى واجب ومندوب.
أرأيت قوله تعالى: (اعدلوا) مما لا يصدق عليه (أحكام الإسلام)؟ لأنه أمر إرشادي حسب ضابط أنه كل ما ورد في موطن المستقلات العقلية؟
أو أن قوله تعالى: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» ليس من (أحكام الإسلام) لكونه إرشادياً، بدعوى لزوم التسلسل
ص: 124
من كونه مولوياً؟ كما أشرنا لذلك والأجوبة في موطن آخر وفصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى).
أو أن قوله تعالى «توبوا إلى الله» ليس من أحكام الإسلام؟ إما لأنها من المستقلات العقلية، أو لأنها مما يلزم من مولويتها التسلسل كأوامر الطاعة كما ذكره (المستمسك)؟
ص: 125
ثم إن من أظهر المصاديق التي ذكرت أو يمكن أن تذكر للأوامر الإرشادية في دائرة العرف العام أو الخاص(1)، وفي الموالي العرفية، والتي نرى بعضها مولوية بالمعنى الأخص ونرى كثيراً منها مولوية بالمعنى الأعم(2)، أو إرشادية _ وجوبية على أقل التقادير _:
منها: أوامر الطبيب.
ومنها: أوامر ونواهي مختلف الأخصائيين وأصحاب الحرف: كالمحامي وكالمستشار الاقتصادي أو السياسي أو الحقوقي وغيرهم، وكالمهندس، للمالك.
ومنها: أوامر ونواهي الواعظ والناصح، وسيأتي الفرق بينهما.
ومنها: أوامر ونواهي مطلق النظير لنظيره، كصديق لصديق أو خطيب لخطيب أو مرجع لمرجع، أو شركة لشركة أو دولة لدولة، بما
ص: 126
هو كذلك(1).
وذلك بناء على اعتبار (العلو) في الأمر المولوي فقط، أو كفاية (الاستعلاء) أيضاً، أو لزوم كليهما، أو حسب الخلاف في المسألة.
ومنها: مطلق أوامر الأعلى للأدنى، لكن:
أ لا بلحاظ مقام مولويته _ على ما نراه من الضابط.
ب _ أو لا بلحاظ محبوبيته له _ على ما يراه السلطان.
ج _ أو فيما كانت المصلحة والمفسدة دنيوية محضة.
د _ أو في المستقلات العقلية.
ه _ أو في خصوص ما يلزم من المولوية: اللغوية أو تحصيل الحاصل أو التسلسل أو تعدد العقاب أو تعدد استحقاقه، كأوامر الإطاعة _ حسب رأي بعض الأعلام.
و _ أو إذا كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر.
ز _ أو إذا لم تتوقف المصلحة على الأمر.
ح _ أو ما عادت المصلحة للمأمور.
ط _ أو ما لم يترتب عليه ثواب ولا عقاب.
وقد ذهب إلى كل من تلك الضوابط التسعة، علم أو أكثر، وسيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى.
ص: 127
وأما في دائرة الأوامر الشرعية، ومختلف الأوامر والنواهي والأحكام الواردة في القرآن الكريم والمأثورة عن المعصومين عليهم السلام، سواء في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم الفقه ومطلق العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام _ حسب تقسيم الشرائع الرباعي _، أم الواردة في الشؤون السياسية والاجتماعية والحقوقية، أم الواردة في الطب والتجارة والاقتصاد والصناعة والأخلاق وغيرها.فإن المصاديق لها كثيرة جداً، لعلها تتجاوز الآلاف بل عشرات الآلاف من الآيات والروايات(1) والتي ادعي أو يمكن أن يدعي أنها إرشادية، والتي نرى إن كثيراً منها مولوية، وقد ورد الكثير الكثير منها في (وسائل الشيعة) وفي (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار)، كما ذكر شطراً كبيراً منها السيد الوالد قدس سره في كتاب (الفقه: المال) و (الفقه الاقتصاد) و (آداب المال)، وذكر بعض الأعلام، الكثير منها في كتاب (الشؤون الاقتصادية في الكتاب والسنة)، كما ذكر الكثير من الأوامر والنواهي الطبية في (طب الإمام الرضا عليه السلام) وغيره.
وأما البحث السندي فإنه لا حاجة إليه على تقدير كونها إرشادية بالمعنى المعهود _ فتأمل(2)، لكنه مما يحتاج إليه على تقدير الالتزام بالمولوية بقسميها: المولوية التشريعية والمولوية النصحية، أو الإرشادية
ص: 128
الوجوبية كما سنفصله لاحقاً بإذن الله تعالى، ويكفي في العديد منها (تواترها الإجمالي)، أو (تواترها بالمضمون)، أو احتفافها بالقرائن المفيدة للعلم، أو الاطمئنان، أو مطابقتها للأصول والقواعد، ومنها مطابقتها لصريح حكم العقل كما في موارد المستقلات العقلية، كما يمكن التمسك بقاعدة التسامح في أدلة السنن على تقدير كونها إرشادية _ ندبية _ أو مولوية _ ندبية _.
ص: 129
والبحث في أمثال هذه الأوامر والنواهي والدوالّ، يمكن أن يقع في أنها هل هي:
1-إرشادية بدون طلب _ لكونه قسيمه(1)_ كما هو أحد الآراء في الإرشادي.
2-أو هي إرشادية _ طلبية بدون إيجاب ولا ندب لكونه قسيمهما دونه(2) _ كما هو رأي ثان _.
3-أو هي إرشادية: طلبية _ وجوبية، وإرشادية: طلبية _ ندبية _ وهو الرأي الذي ذهب إليه الشيخ قدس سره، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
4-أو هي إرشادية _ طلبية _ غير إلزامية فيكون قسيماً للندب.
5-أو هي إرشادية _ مولوية(3) للإيجاب تارة وللندب أخرى، وما كان
ص: 130
للإيجاب فمع رفع العقاب لو خالف، مع استحقاقه، أو بدونه(1)؟
على العكس من المولوي بالمعنى الأخص فإنه يستحق على خلافه العقاب ولم يرفع.(2)
6-أو هي ليست إرشادية بل مولوية بالمعنى الأخص؟
وتحقيق حال الصغريات، فرع تشخيص الضابط في المولوي والإرشادي أولاً، وتشخيص كُنه وماهية ومعنى الإرشادي ثانياً، ومعرفة هل الأمر ظاهر في المولوية بالوضع أو مستعمل فيها أو لا، بل هي مجرد داعي كما ذهب إليه الآخوند، والظهور فيها لاقتضاء المقام أو غيره ثالثاً، ثم الإرشادي من الأمر هل هو ظاهر في الإلزام رابعاً، وملاحظة قرائن الحال والمقال في كل مصداق مصداق خامساً، وغير ذلك(3) وسنتطرق لذلك في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.
ص: 131
ص: 132
ص: 133
ص: 134
وأما ضرورة أن تعد مباحث الأوامر والنواهي الإرشادية(1) من الأصول _ بعضها من مسائله وبعضها من مبادئه التصورية أو التصديقية، فبيان ذلك والدليل عليه هو:
ص: 135
فإن هنالك بحوثاً ثلاثة:
الأول: الضابط في الأمر المولوي والإرشادي، وهل (الإرشادي) هو: ما أنشأ بلحاظ المصلحة الدنيوية، والمولوي ما أنشأ بلحاظ المصلحة الأخروية؟ أم إن الإرشادي هو: غير ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته؟ أم إنه هو كل ما لم يصدر من المولى بما هو مولى أي معملاً مقام مولويته والمولوي ما كان كذلك، بقيد إذا كان في مقام التشريع، أو لا، والمولوي بعكسه _ كما فصلنا الحديث عن هذه الضوابط الثلاثة وسائر الضوابط في فصل الضوابط.
والظاهر ان مبنى الكثير من الأصوليين: أن أمثال هذا المبحث ينبغي أن يعد من (المبادئ التصديقية) لعلم الأصول؛ فإنها هي القضايا الثابتة في مرتبة سابقة والمبرهن عليها في علم سابق ويعتمدها العلم اللاحق كمقدمات مسلّمة لأقيسته، وذلك كحجية خبر الواحد بالنسبة لعلم
ص: 136
الفقه، كما أنه لو كان البحث عن صرف المفهوم والمعنى كان بحثاً عن (المبدأ التصوري).
لكن ذكرنا في مباحث الأصول وجهاً لعد مثل هذا ولاحقه من مسائله، فليلاحظ وليتأمل فيه، وسيأتي وجه آخر لإثبات ذلك بل وجوه بإذن الله تعالى.
الثاني: هل الأمر _ مادة وصيغة _ ظاهر في المولوية؟ أو لا؟(1) وكذلك النهي سواء كان بصيغة إنشاء أم كان إخباراً في مقام الإنشاء.
والظاهر أن هذه مسألة أصولية.(2)
الثالث: إن ما كان من الأمر أو النهي للإرشاد، هل هو ظاهر في الإلزام بالفعل أو الترك _ على ما أوضحناه من مسلك الشيخ والميرزا من: إنقسام الأمر الإرشادي إلى واجب ومندوب _ أو لا؟
والظاهر أن هذه مسألة أصولية كذلك.
ص: 137
ويمكن إثبات كونها بأجمعها من (مسائل علم الأصول)، على مسلك القدماء ومبناهم إذ إنهم قد إرتأوا:أن أجزاء (العلم) ثلاثة وهي: (الموضوع، والمسائل، والمبادئ)(1)، والمبادئ تنقسم إلى: مبادئ تصورية وتصديقية، وأضاف قوم (المبادئ الأحكامية)(2) لكن الظاهر رجوعها للأولين.
ثم إن قوماً أضافوا (الخاتمة) كجزء من أجزاء العلم، وذلك كجملة من مباحث الإجتهاد والتقليد.
وهذا التقسيم الرباعي لأجزاء العلم هو الأوفق بالقواعد، والأقرب للاعتبار، وللغاية من كل علم.
كما أن عليه جرت سيرة علماء كل فن وعلم في تصنيفاتهم عادة، ولذا نجدهم رغم تصريحهم بأن هذه البحوث من المبادئ التصورية أو التصديقية أو الأحكامية، فإنهم يدرجونها في (العلم)(3) وما ذلك إلا لأنه المحقق للغرض من كتابة ذلك العلم وبه تتم الفائدة.
ولا يضر كونه من مسائل علم سابق مرتبةً، ولا تصريحهم بأنها من المبادئ، فإنهما باعتبارين _ فهو (جزء علم) أي من مسائله، باعتبارٍ، و (جزء العلم) أي من مبادئه، باعتبار آخر، وهو كونه من مسائل علم
ص: 138
سابق وممهداً لمسائل لاحقة، وعلى أي فإنه لو لم يسلم بذلك، فإنه لا كلام في كونها من المبادئ التصورية والتصديقية.
ص: 139
فإن موضوع علم الأصول هو:
(الأدلة الأربعة بذواتها) كما هو رأي صاحب الفصول رحمه الله.
أو (الأدلة الأربعة من حيث الدليلية) أو (بوصف الدليلية) كما هو رأي صاحب القوانين رحمه الله، ولعله المشهور.
أو (الكلي المنطبق على موضوعات مسائله) كما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه الله.
أو (كل مسألة لها دخل في تعيين الوظيفة الفعلية، إذ لا موضوع لعلم الأصول) كما ذهب إليه صاحب المصباح رحمه الله.
أو (ما يستنبط منه الأحكام الشرعية من حيث الاستنباط) كما ذهب إليه السيد الوالد رحمه الله في الأصول.
ص: 140
وحينئذٍ نقول: إن البحث عن ظهور الأمر في المولوية _ ولو بالقرائن المقامية العامة _ وكذلك البحث عن ظهور الأمر الإرشادي _ بعد قيام الدليل عليه _ في الإلزام، وكذا ضابط المولوي والإرشادي _ فتأمل(1)، مما ينطبق عليه موضوع علم الأصول؛ وذلك تبعاً لما فصلناه في (كتاب قاعدة الملازمة بين حكمي الشرع والعقل)، من تأسيس الأصل الكلي في المقام، من أنَّه:
(بل قد يقال بإمكان إدراج كل ذلك _ بدءً من مثل الصحيح والأعم والمشتق والأوامر والنواهي وهل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ وهل هو ظاهر في المولوية أم لا؟ وهل الإرشادي منه يلزم إتباعه ولو في الجملة أم لا؟، ومروراً بمثل العام والخاص... في (علم الأصول)، بناء على تعريف موضوعه ب(الكلي المنطبق على موضوعات مسائله)؛ فإن (موضوعات مسائله) ينطبق على خبر الواحد وظاهر الكتاب، كما ينطبق على المشتق والصحيح والأعم وحكم العقل بكذا، كما ينطبق محموله، فإن الأولين محمولهما (الحجية) وكذا الأخير، والأوسطان محمولهما (كونه حقيقة أو مجازاً في المتلبس أو المنقضي أو في الصحيح والأعم
ص: 141
ومآله ل(الحجية) في ماذا؟(1)... وذلك كله بناء على ما ذهب إليه الآخوند، أو (ما يستنبط منه الأحكام من حيث الاستنباط) كما ذهب إليه السيد الوالد، ومراده من (ما) أي الأدلة الأربعة..، فإن هذين التعريفين شاملان لكل ما سبق فتأمل).(2)
ونضيف هنا بأن موضوع علم الأصول بناء على كونه (الأدلة الأربعة بذواتها) أو (الأربعة بوصف الدليلية) أيضاً منطبق على كلتا المسألتين المطروحتين ههنا، وهما هل الأمر ظاهر في المولوي؟ وهل الأمر الإرشادي ظاهر في الإلزام؟
إن (الأدلة الأربعة) مشحونة بالدوال على الأحكام الإرشادية، كما هي مشحونة بالدوال على الأحكام المولوية، سواء كانت بصيغة الإنشاء أم الإخبار.
وكما أن (ظاهر الكتاب) مما يعرف منه الحكم المولوي، كذلك يعرف منه الحكم الإرشادي.
فيقع البحث حينئذٍ عن أن الأمر لو ورد في الكتاب والسنة، فهل هو ظاهر في _ أو هل الأصل فيه(3) _ المولوية أم لا؟ ثم لو علم كونه إرشادياً _ بالقرينة _ فهل هو ظاهر في الإلزام أم لا؟
ص: 142
نعم لا يجري ذلك في تشخيص (الضابط).
لا يقال: ليس كل ما دل عليه الكتاب والسنة، من الأصول، وإلا اندرج الطب والتاريخ مثلاً، فيه أيضاً؟
إذ يقال: ذلك مما يلزم من عدّهم موضوع الأصول (الأدلة الأربعة بذواتها) أو حتى مع إضافة قيد بوصف الدليلية(1) وهو مما يستشكل به على من أطلق، ولذا قيد الوالد ب(الأحكام الشرعية) وب(من حيث الاستنباط)، فكان اللازم إضافة (من حيث الدلالة على الحكم الشرعي) مثلاً على (الأدلة الأربعة)، كما أن موضوع النحو (الكلمة من حيث الإعراب والبناء).
وعلى أي فالإيراد غير وارد في المقام؛ نظراً لصدق (الحكم الشرعي) على (الحكم الإرشادي) كما فصلناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.
فالبحث فيه هو (عن الأدلة الأربعة من حيث الحكم الشرعي المتعلق
ص: 143
بفعل المكلف) وليس كذلك الطب والتاريخ، ولا المعارف والكلام.(1)
لا يقال: (الحكم الإرشادي) ليس من العوارض الذاتية لموضوع الأصول؟
إذ يقال:
أولاً: وزان البحث فيه كوزان البحث في الأمر المولوي، إذ البحث عن (حجية) ظواهر الكتاب والسنة على الأحكام الإرشادية المستفادة منها، كالبحث عن (حجيتها) على الأحكام المولوية المستفادة منها، و (الحجية) من العوارض الذاتية.
ثانياً: إن البحث عن (ظهور الأوامر والنواهي) في الكتاب والسنة في المولوية أو الإرشادية، ثم عن ظهور الأمر والنهي الإرشاديين في الإلزام وعدمه، و (الظهور) من العوارض الذاتية للكتاب والسنة.
وغير خفي أن البحث الثاني صغروي والبحث الأول كبروي، وإن كان الثاني بدوره يقع كبرى لصغريات ظواهر الكتاب؛ إذ يقال:
ص: 144
(هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب) ثم يقال: (هذا ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر في الوجوب حجة، فهذا حجة).
أو (هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب المولوي، فهذا ظاهر في الوجوب المولوي)، أو (هذا أمر إرشادي، وكل أمر إرشادي ظاهر _ أو الأصل فيه _ الإلزام، فهذا كذلك).
ثالثاً: النقاش في الكبرى، إذ لا نسلم أن موضوع العلم هو (ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض) كما ذهب إليه الآخوند، إذا أريد بالذاتي ما يقابل (الغريب) إذا عمم (الغريب) لما يعرض بواسطة أمر داخلي أعم وما يعرض بواسطة أمر خارجي مساوٍ.(1)
والصحيح هو إما (أخذ العرض الذاتي) في مقام الواسطة في العروض مطلقاً، ليعم الذاتي وبعض الغريب بإصطلاح الكفاية، أو (تعميم الذاتي) لما يعرض بواسطةامر داخلي وإن كان أعم.
لكن لا يخفى أن (الأول) أي إرادة مطلق ذي الواسطة في الثبوت من (العارض الذاتي) غير تام أيضاً، كما لا يخفى وسنشير له في الهامش بإضافةٍ، كما هو، كالثاني، غير مقصود للآخوند وإن أوهمه ظاهر تقابل (بلا واسطة في العروض) و (الواسطة في الثبوت).
وقال السيد الوالد في الأصول: (وبذلك تبين أنه حيث لا يهم أن تكون المحمولات _ أي محمولات المسائل _ أعراضاً ذاتية أو غريبة، لا يهم أن يكون محمول العلم عرضاً ذاتياً أو غريباً) وقد أوضحناه في
ص: 145
مباحث الأصول كتاب القطع.(1)
وقال المحقق الأصفهاني: (والتحقيق إن الإلتزام بعدم الواسطة في العروض، من رأس من باب لزوم ما لا يلزم؛ والسر فيه أن حقيقة كل علم عبارة عن مجموع قضايا متفرقة يجمعها الإشتراك في ترتب غرض خاص، ونفس تلك القضايا مسائل العلم، ومن الواضح أن محمولات هذه المسائل أعراض ذاتية لموضوعاتها وبهذا يتم أمر العلم، ولا يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع دائماً في نفس العلم...)(2)، وسيأتي بعد قليل مزيد إيضاح لذلك بإذن الله تعالى.
وقد فصلنا الحديث عن (العارض الذاتي) وعدم صحة كبرى اشتراطه في موضوع العلم في الأصول، مباحث القطع، المجلد الأول.
ص: 146
ومسائل علم الأصول، دليل آخر، فإن:
الظاهر أن كافة المسائل التي تتعلق بالأوامر والنواهي والإنشاءات الإرشادية(1)، تعد من (علم الأصول)، وذلك لإنطباق ضابط المسألة الأصولية عليها، وسنكتفي بذكر رأي الميرزا النائيني في ضابط المسألة الأصولية، لأنه الرأي المنصور.(2)
فقد ذهب الميرزا إلى أن (المسائل المبحوث عنها في علم الأصول:
أ- إما مسائل يبحث فيها عن دلالة الألفاظ بما هي).
ومن الواضح أن مباحث المشتق والصحيح والأعم وأشباهها، منها، وكذلك مبحث هل (الأمر) _ مادة وصيغة _ ظاهر في المولوية؟
ثم إن ما كان منه للإرشاد، هل هو ظاهر في الإلزام؟
ص: 147
وقال: (ب- أو عن حال الأحكام ولو لم تكن مدلولاً عليها بشيء من الألفاظ) كالبراءة والاحتياط العقليين، ومنه أيضاً الأحكام الإلزامية العقلية فيما لا عقاب عليه، مما لو كان أمر به الشارع كان أمراً إرشادياً، أو فقل إن العقل يحكم به حكماً إرشادياً _ أي لا باعتبار كونه حجة باطنة، بل بلحاظٍ صرفٍ للمصلحة في المتعلق.
وقال: (ج- أو عن دليلية الدليل، كمباحث حجية خبر الواحد والكتاب وغيرهما من مباحث الحجية).(1)
وهذا يشمل _ إطلاقاً أو ملاكاً _ البحث عن حجية خبر الواحد وغيره، على الحكم الإرشادي؛ لما فصلناه في موضع آخر من صدق (الحكم) عليه حقيقة واصطلاحاً.
وقد فصلنا في (مباحث الأصول) بعض النقض والإبرام في كلامه فليراجع.
كظهور الأمر في الوجوب أو فيالمولوية، أو الإرشادي في الإلزام _ وإن لم يكن خاصاً بذاته بما ورد في الكتاب والسنة إلا أنه كما قال الوالد: (إن البحث فيه(1) عنهما(2) إنما هو بالنسبة لما ورد فيهما(3)، وإن أفاد في غيرهما، كما أن البحث في الطب عن خصوص بدن الإنسان وإن أفاد لبدن الحيوان أيضاً)(4)، إذن فهو (خاص عرضاً) أي اعتباراً ولحاظاً، وقد أوضحناه في مباحث الأصول، ودفعنا بعض ما ربما يورد عليه فراجع.
ص: 149
ص: 150
فإن الغاية من علم الأصول(1) مما تصلح للتمسك بها، فإنها:
(الحجة في الفقه) والتي عدها السيد البروجردي رحمه الله هي موضوع علم الأصول، وقد تعد (الغاية) كما أشرنا إليه في الأصول(2)، والأمر سهل لكونهما بالاعتبار.
والأدق أن يقال: (الموضوع) هو (الحجة في الفقه) أو ما أشبه، و (الغاية) هي (الاحتجاج) على مسائله أو على المكلف.
ولا فرق في كون (الإحتجاج) هو (الغاية)، بين ذلك القول في موضوعه، أو القول بأن موضوعه هو (الأدلة الأربعة) أو (هي بوصف الدليلية) على قولي صاحب القوانين والفصول.
إذ (الغاية) هي (الإحتجاج) بأي معنى أخذنا (الحجة) و (الإحتجاج)، فسواء قلنا:
بأن (الحجة) يراد بها معناها اللغوي أي ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس، فإن غاية الأصول بناءً عليه: (الإحتجاج) بالأدلة الأربعة على المولى وعلى العبيد(3) بجعل حكم أو رفعه.
أم قلنا بأن (الحجة) هي الكاشف التام أو الناقص.
أم قلنا هي الإنكشاف _ كما ذهب إليه الأصفهاني _ فإن غاية الأصول على هذا هي: الكشف بالأدلة الأربعة عن الأحكام الشرعية أو إنكشافها بها.
أم قلنا بأن (الحجة) هي المنجز والمعذر _ كما ذهب إليه الآخوند _ فإن غاية الفقه هي اتخاذ الأدلة الأربعة منجزة لدى إصابة الفقيه ومعذرة لدى خطأه.
أم قلنا بأن (الحجة) هي (الأوسط) كما ذهب إليه الشيخ، فإن غاية الأصول هي (الإحتجاج بجعل الأدلة الأربعة، أوسط في القياس، لإثبات الحكم الشرعي).
أم صرنا إلى قول الميرزا النائيني في معنى وتعريف (الحجة)، أو
ص: 151
سائر الأقوال العشرة التي فصّل الحديث عنها في مباحث الأصول كتاب القطع وأشرنا لها في هذا الكتاب إشارة سريعة.
وعلى أي حال فإن هذه الغاية لعلم الأصول وهي (الإحتجاج بأدلته على الأحكام الشرعية في الفقه) جارية في الأحكام الإرشادية كجريانها في الأحكام المولوية تماماً؛ إذ قد أوضحنا فيالبحث السابق إبتناء (الفقه) على كلا نوعي الأوامر المولوية والإرشادية، وامتلائه بكلا نوعي الأحكام.
وعلى هذا تكون (الحجة) و (الإحتجاج) على الأحكام الإرشادية وجوبية كانت أو ندبية، هي الغاية لعلم الأصول أيضاً، كما كانت (الحجة) على الأحكام المولوية غاية له.
ونضيف: إن الأحكام الإرشادية هي من أشد ما يبتلى به المكلف، ولا تعدِم من آثار الأحكام المولوية إلا (استحقاق العقاب)، بل إنها مما تترتب عليها آثار كثيرة فقهية وأصولية وكلامة، وقد أشرنا لبعض الآثار والثمار في موضع آخر وفصلنا الحديث أكثر في مباحث الأصول، كتاب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
ونشير هنا إلى كثرتها، فإن كافة الأوامر والنواهي الإرشادية الواردة في مواطن المستقلات العقلية، بناء على مبنى كثير من الأصوليين كالفقيه الهمداني في مصباحه والمظفر في أصوله وغيرهما من كونها إرشادية، تعد مؤدياتها أحكاماً إرشادية وجوبية أو ندبية، محرمة أو
ص: 152
مكروهة، وقد ذكرنا في مباحث الأصول، أن المستقلات العقلية لدى التتبع، هي بالعشرات ولعلها بالمئات، وهي أمهات المسائل في مختلف أبعاد الفقه وأبوابه، وقد أشرنا إلى الكثير منها في مباحث هذا الكتاب في مواضع متفرقة(1) فليلاحظ.
وكذلك فإن هنالك المئات بل الألوف من الأحكام التي عدت إرشادية، لكون مصلحتها دنيوية، أو لكون مصلحتها معلومة للمأمور قبل الأمر أو لغير ذلك، على ما فصلناه في بحث الضوابط، وأشرنا لمسائل كثيرة من مصاديقه في مطاوي الكتاب(2) _ مما يثبت إلقاء نظرة سريعة عليها: (ابتناء الفقه) عليها إلى جوار ابتنائه على الأحكام المولوية.
وبعبارة أخرى: الغاية من علم الأصول _ أو موضوعه _ هي (الحجة)(3) أو (الإحتجاج) على (الحكم) أو (الوظيفة) وليس خصوص (المُؤَمّن) من العقاب، بل (المؤمن) من مخالفة المولى، سواء ترتب عليه عقاب أم لا، بل سواء كان فيه استحقاق عقاب أم لا؟ كما فصلنا
ص: 153
هذاالتفكيك في مبحث آخر.
وقد ذكرنا في مباحث الأصول: (أن الأصولي حيث كان يبحث عن الحجة في الفقه، وحيث كانت أهم حجتين، هما الكتاب والسنة _ لندرة موارد حكم العقل والإجماع _ وكان الكتاب والسنة معتمدين على الظواهر في الأغلب شبه المستغرق من الموارد، فكان لابد للأصولي من أن يبحث عن (الظواهر)، وهل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ وكذا النهي؟ وهل هو ظاهر في المولوية أم لا؟ وإذا كان للإرشاد فهل هو للإلزام أم لا؟، وعن ظهور (المشتق)، و (أسامي) العبادات والمعاملات ووضعها للصحيح أو الأعم، و (أدوات العموم) وغيرها فإنهاوإن لم تكن خاصة بالكتاب والسنة بل عامة فقد يتوهم إنها من المبادئ التصديقية لعلم الأصل..).(1)
ومن البين امتلاء الكتاب والسنة ب(الظواهر) الدالة على الأحكام الإرشادية، واستخدام أدوات العموم أو الإطلاق فيها وكون موضوعاتها من المشتق وغيره.
ص: 154
فإن تعريف علم الأصول هو:
(العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية) كما هو تعريف المشهور.
أو (العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه الحكم) كما عرفه السيد الوالد.(1)
أو (القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل) كما ذهب إليه الآخوند.(2)
أو (العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية، من دون حاجة ا لى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها).(3)
ص: 155
ومن الواضح صدق (الحكم) على الحكم الإرشادي الوجوبي أو الندبي، حقيقة، على حسب أكثر تعاريفه العشرة التي أُشير إليها في المبحث السابق.
والظاهر صدقه عليه لغة وعرفاً حقيقة، فإنه يطلق عليه دون حاجة لوجه مصحح أو قرينة صارفة، كما أن وصفه ب(الإرشادي) تمييز له عن (المولوي) بالمعنى الأخص(1) أو فقل عن (التكليفي) بل و (الوضعي) وليس قرينة مجاز.
وذلك لما ذكرناه مراراً من أن المولوية والإرشادية ليسا جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل هي دواعٍ للاستعمال كما ذهب إليه الآخوند، وأوضحنا هنالك الحال أيضاً على سائر الأقوال.
بل إن تعميم مسائل الأصول، التي مهدت (القواعد) لاستنباط أحكامها، لِما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل، أي للأصول العملية _ كما صنعه الآخوند _ وهو ما يقبله الآخرون وإن لم يعبروا بهذا التعبير، بل ارتاؤوا شمول (الحكم) للوظيفة بإرادة المعنى الأعم منه(2)، يمكن
ص: 156
الاستناد إليه(1) أيضاً في عدم الحصر في الحكم بالمعنى الأخص وصحة شموله للإرشادي _ فتأمل.فيكون تعريف الأصول على هذا _ حسب تعريف المشهور _ (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية المولوية والإرشادية والوظائف العملية) أو (العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه الحكم المولوي أو الإرشادي أو الوظيفة) ويضاف الشق الثالث لتعريف الآخوند أيضاً وهكذا.
ولا أقل من أن حالها حال مباحث المشتق والصحيح والأعم.
ص: 157
ثم إن كل البحوث المطروحة في (الأصول) جارية في الأحكام الإرشادية كجريانها في الأحكام المولوية تماماً.
بيان ذلك:
إن مباحث علم الأصول تنقسم إلى خمسة أقسام:
1- مباحث (الألفاظ): كمباحث المشتق، والصحيح والأعم، والأوامر والنواهي: كظهور الأمر في الوجوب، وظهوره إذا وقع عقيب الحظر في الإباحة، وكذا كون العام المخصص بالمنفصل _ أو حتى المتصل أيضاً(1) _ ظاهراً في تمام الباقي.
2- مباحث (الحجج اللفظية): وهي (الحجج) بالمعنى الأخص أي الأدلة الإجتهادية، كخبر الواحد والشهرة والإجماع المنقول وحجية أحد
ص: 158
الخبرين عند التعارض، وحجية الظن الإنسدادي على (الكشف)، إذ عليه يمكن عده من الحجج اللفظية، لا على (الحكومة)، لأنها بتقرير (الكشف) تبتني على دعوى الإجماع على عدم رضى الشارع بالامتثال الإجمالي والاحتياط، أو على اتخاذ الاحتياط هو القاعدة والمسلك العام، وتفصيله في مظآنه، وكذا حجية ظواهر الكتاب لغير من خوطب به.
3- مباحث (الحجج العقلية): وهي مباحث (الاستلزامات) كالتلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته وكذا استحبابه واستحبابه، وبين الأمر بالشيء والنهي عن ضده.
4- مباحث (الأصول العملية الشرعية): ك(رفع ما لا يعلمون) للبراءة الشرعية و (أخوك دينك فاحتط لدينك) للاحتياط الشرعي، و (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً) في صحيحة زرارة، ونظائرها في سائر صحاحه، للاستصحاب.
5- مباحث (الأصول العملية العقلية): ك(الاحتياط) لدى الشك في العنوان والمحصل وأطراف العلم الإجمالي، و (قبح العقاب بلا بيان)، وكالظن الانسدادي على (الحكومة)، وإن كان يمكن عد الأول والأخير، من الثالث(1)، كما يمكن عد (أخوك دينك) من الرابع ومن الثاني، على حسب متعلقه.(2)
ص: 159
وهذه كلها كما تجري في الأوامر المولوية تجري في الأوامر الإرشادية، خاصة على مسلك الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي من انقسامها إلى الواجب والمندوب، فكيف على مسلكنا من كون (الإرشادي) من (المولوي بالمعنى الأعم) كما فصلناه في موضع آخر.وذلك سواء التزمنا بأن الإرشادية والمولوية والتهديد والتعجيز وغيرها، دواعي، وليست من معاني الصيغة، بل ولا مما استعملت فيها، لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز، بل استعملت في (إنشاء الطلب) فقط، كما هو مسلك الآخوند.(1)
أم التزمنا بأن الصيغة قد استعملت في معاني عديدة بنحو الاشتراك اللفظي كما لعله المشهور.
أم قلنا بأنها حقيقة في (إبراز اعتبار الفعل على ذمة المخاطب) ومجاز في غيره كما اختاره المصباح.
إلا أن الأمر على (مسلك الآخوند) و (الاشتراك اللفظي) أوضح، وعلى (المجاز)، فالأمر كذلك بعد القرينة.(2)
بل قد يقال: في كلا الأمرين المولوي والإرشادي (اعتبار للفعل على ذمة المخاطب وقد أبرز باللفظ) وقد أوضحناه في موضع آخر.(3)
ص: 160
إن البحوث السابقة في العناوين الخمسة كلها جارية في الأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية وذلك:
كجريان مباحث الألفاظ في الأوامر والنواهي والأحكام المولوية حذو القذة بالقذة، إذ يبحث: هل الأمر الإرشادي ظاهر(1) في مطلق الطلب، أو في الوجوب أو الندب، أو مشترك لفظي، أو كالمشترك(2) وماذا لو وقع عقيب الحظر الإرشادي بل المولوي؟
وما هو ظهور العام الإرشادي المخصّص بالمنفصل أو المتصل؟وواضح أن (المشتق) الأصولي(3) هو مما يتعلق به الأمر الإرشادي كالمولوي، فتجري فيه مباحثه، فهل هو حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أم فيما انقضى عنه، بل وحتى فيما سيتلبس، لكن بلحاظ
ص: 161
حال التلبس؟
وكذا (الصحيح والأعم) سواء في ذلك أسماء العبادات أم المعاملات، كلما وقع أحدها متعلقاً للأمر الإرشادي.
كما تجري مباحث الحجج اللفظية ك: هل خبر الواحد (حجة) في الأحكام الإرشادية، وكذا الشهرة والإجماع المنقول؟
ولعله يقال بأن الأمر فيه أسهل وأهون وأن العقلاء يتوسعون في ضوابط حجيته نظراً لارتفاع(1) العقاب فيه، أكثر، وتفصيله في محله، ولعلنا نوفق له في المجلد الثاني بإذن الله تعالى.
وهل (حجيته) شرعاً هي بنحو المولوية أو الإرشاد؟
وبعبارة أخرى: هل هي (تعبديه)، أم صرف إرشاد لبناء العقلاء مع تصرف الشارع فيه بتوسعة أو تضييق أو لا؟
وبعبارة أخرى: فإن البحث عن (الحجية) ومعانيها، جارٍ في الدال على الحكم الإرشادي كجريانه في الدوال على الحكم المولوي؟
نعم يجري بعض معاني (الحجية) العشرة في (الخبر الدال) عليه، لا كلها.
ص: 162
فإن (الحجة) بمعنى (الكاشف التام(1) أو الناقص) أو بمعنى (الانكشاف) على ما ذهب إليه الأصفهاني في معنى الحجية، جار.
وكذلك بمعنى (ما يحتج به المولى على عبده و بالعكس) وهو المعنى اللغوي فإن (الإحتجاج) أعم مما يترتب عليه العقاب، بل استحقاقه.
وبمعنى (ما تلزم الحركة على طبقه) جار أيضاً، على مسلك الشيخ من كون الإرشاد للوجوب أيضاً.
وبمعنى (ما يقع أوسط في القياس) وهو ما انتخبه الشيخ معنى للحجية، وهو المعنى المنطقي للحجية، جارٍ أيضاً.
كما أنه يجري أيضاً على حسب تعريف الميرزا النائيني للحجة إذ عرفها ب(الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات، التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه)(2)، وذلك بأدنى تصرف، إذ قد فصلنا في موضع آخر تحقق (الجعل الشرعي) في الأحكام الإرشادية _ الوجوبية والندبية وقسيماهما.ولكن: لا يجري مبحث (الحجية) في الأحكام الإرشادية على معنى (المنجزية والمعذرية) وهو مسلك الآخوند، إذ لا عقوبة في الإرشادي، وإن كان للوجوب كما أسلفنا بيانه.
ص: 163
اللهم إلا لو أريد بالتنجيز والتعذير معنى أعم.(1)
نعم يبقى أن بحث معنى (الحجية) والدليل على إرادة أيها، فإنها من المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأصول، وهذا جار على كلا تقديري كون مؤدى (الحجة) أمراً مولوياً أو إرشادياً.(2)
وكذلك هل (الظن الإنسدادي) على الكشف، حجة في الإرشادي كالمولوي؟ وماذا لو تعارض خبران إرشاديان أحدهما موجب والآخر محرم مثلاً؟ وهل ظواهر الكتاب من أوامر ونواهي إرشادية، حجة لغير من خوطب بها؟ وهكذا.
وهل وجوب مقدمة (الواجب الإرشادي)، بالإنبساط، أم الترشح، أم بمعنى اللابدية العقلية فقط؟
وهل يستلزم الأمر بالشيء إرشادياً، النهي عن ضده؟
وهل يجتمع الأمر والنهي الإرشاديان في شيء واحد؟
وغير خفي أن بعض أدلة الإمكان والامتناع جارية في المقام.
وهل يجتمع الأمر المولوي والنهي الإرشادي أو العكس؟
وكذلك مباحث الأصول العملية الشرعية، إذ يبحث عن: جريان البراءة الشرعية عن (الحكم) و (الوجوب) أو (الحرمة) في الإرشادي؟ وإن لم تجر عن العقاب؛ إذ الفرض أنه لا عقاب.
وهل (البراءة الشرعية) إرشاد لحكم العقل أم أنها (مولوية)؟
أي هل إنه بما هو مولى قد رفع الأحكام بقوله (رفع ما لا يعلمون) مثلاً أو إنه بهذه الجملة ونظائرها أرشد إلى حكم العقل فقط؟وتظهر الثمرة في التمسك بالإطلاق والتقييد؛ إذ يصح على المولوية دون الإرشادية؛ إذ على الإرشادية يكون المرجع هو الدليل اللبي وهو مما لا إطلاق له، إلا أن يعد إطلاق الدال كاشفاً عنه _ فتأمل، وقد فصلناه في موضع آخر.
كما يجري (الاستصحاب) في الحكم الإرشادي فبناء على إرشادية (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) كما ذهبوا إليه فلو شك
ص: 165
في شموله للدين الضئيل أو للكتابة ولو بالآلة، أو إذا تداين الأب من ابنه، فهل يتمسك بالإطلاق(1) لشموله له؟ _ وهذا مثال للإطلاق _ وهو من القسم الأول. وأما مثال الاستصحاب فهو: كما لو شك في الشبهة الحكمية في استمرار حكم (اكتبوه) لمن لم يكتبه حين الاستدانة، للأزمنة اللاحقة، إذا لم يستفد حكمه من إطلاق الآية نفسها لمكان (إذا) فتأمل، فهل يستصحب؟
وكذلك البحث في آية «وأشهدوا إذا تبايعتم» و «استشهدوا شهيدين من رجالكم» و «أشهدوا ذوي عدل منكم» على مبناهم من كونها الإرشادية، والبحث جار كذلك عند الشك في المقتضي والمانع؟(2) وكليهما عند الشك في كل من وجود المانع أو مانعية الموجود؟(3) وهل هو حجة بالنسبة لمثبتاتة العقلية والعرفية
ص: 166
كالشرعية أم لا(1).. إلى غير ذلك من البحوث.(2)
وكذلك (الاحتياط)، سواء في الشبهات البدوية، أم في أطراف العلم الإجمالي بوجود حكم إرشادي؟ وكذلك الأمر في (التخيير) فليتدبر.
وكذلك جريان (الأصول العقلية) وذلك كجريان (البراءة العقلية) لكن لا عن العقاب _ إذ لا عقاب في الإرشادي _ بل عن العتاب؟ إذ قد ذكرنا في موضع آخر: أن العقل لا يحكم بقبح العقاب بلا بيان فقط بل بقبح العتاب والملامة بلا بيان أيضاً. وقد اقتصروا على الأول؛ لأنه هو الضرر الأجلى، أو لأنه الأكثر ابتلاءً، أو لأن مطمح نظرهم كان المؤمّن من العقاب، أو للغفلة، أو لشبه ذلك كتعميم العقاب للعتاب فإنه من مراتبه.وكذلك جريان (الاحتياط) لدى الشك في العنوان والمحصل للحكم الإرشادي وفي أطراف العلم الإجمالي وهل (الظن الإنسدادي) على الحكومة، حجة في الإرشادي كالمولوي؟
ص: 167
إنه لا يخلوا إما أن نقول بأن ما توجه له الأمر أو النهي الإرشادي(1)، مندرج في علم الفقه، كالمولوي منها، أو لا؟
فإن قلنا بالاندراج، فلا شبهة حينئذٍ في أن تشخيص مصاديق كل منها وبيان كونه واجباً إرشادياً أو مندوباً كذلك، على القول بكون الإرشادي ينقسم إلى القسمين أيضاً، كبيان كونه واجباً بالوجوب المولوي أو مستحباً كذلك، يكون من مسائل علم الفقه؛ فإن موضوعه (فعل المكلف _ أو الأعم كما سبق) ومحموله (من حيث الحكم الشرعي) _ وقد فصلنا أعميته من الحكم المولوي والحكم الإرشادي إذا كان للوجوب أو الندب، وعلى هذا يكون بحث (الحجج) على تلك الأحكام و (الأصول العملية) فيها، من مسائل علم الأصول ك(الحجج)
ص: 168
العقلية أو اللفظية و (الأصول العملية) على الأحكام المولوية، والوظائف.
كما يكون بحث معنى (الحجية) وأيها المراد، من المبادئ التصورية أو التصديقية على المشهور، أو من مسائله على بعض الوجوه التي ذكرناها هنا وفي (مباحث الأصول).
ويكون بحث معنى المولوي والإرشادي وحدود كل منهما، كذلك مبدءً تصورياً، ويكون تحديد (الضابط) مبدءً تصديقياً على المشهور ومسألة أصولية على المنصور.
نعم لو أرشد الشارع إلى أمرٍ، مما لم يكن مولوياً _ نصحياً ولا إرشادياً للوجوب أو للندب(1)، بل لصرف ملاحظة مصلحة المتعلق دون أي دخل لذاته الشريفة فيه ودون أي إعمال إلزام ولو باعتبارٍ غير اعتبار مولويته(2)، فإنه لا يكون من (الفقه) ولا تكون الأدلة عليه من الأصول؛ لعدم انطباق (الحكم الشرعي) عليه عندئذٍ لا حقيقة ولا عرفاً بأي معنى من المعاني العشرة (للحكم) أخذناه، كما سبق.
وأما على القول بالعدم وأن مؤديات الأوامر والنواهي الإرشادية، خارجة عن (الفقه) فنقول: فلابد من معرفة الضابط للأمرين ثم تطبيقه
ص: 169
على الصغريات، لإدراج ما انطبق عليه ضابط المولوية في الفقه، وغيره، في علم آخر.(1)
فيكون تحديد الضابط مسألة أصولية(2) أو من المبادئ التصديقية لعلم الأصول، وكذلك بحث ظهور الأمر في المولوية أو الإرشادية.(3)إذ يكون حال (الضابط) في كون (الأمر) مولوياً أو لا، حال معرفة الضابط في ما يدل على العموم أو الإطلاق، أو الدوالّ على الوجوب أو الندب، أو الإباحة كالأمر عقيب الحضر، في كونها مسائل أصولية _ كما أوضحناه في عنوان أجزاء العلوم وعنوان مسائل علم الأصول _ فتأمل.
وكذا كون (الأمر) ظاهراً في المولوية أم لا؟ فإنه أوضح؛ إذ وزانه هو وزان هل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ كما أشرنا له في الهامش أيضاً.
فإن كل ذلك يبحث عنه في علم الأصول بلحاظ (الغاية) منه وهي (الحجة) أو (الإحتجاج) في الفقه _ كما ذكرناه في مبحث الغاية، كما أن (ضابط) المسألة الأصولية ينطبق على المقام وهو _ كما ذهب إليه الميرزا النائيني _ (كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط).(4)
وكذلك تعريفه بأنه (العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها
ص: 170
صغرياتها، يستنتج منها حكم فرعي كلي).(1)
وقد أشرنا لبعض بحث ذلك في (مسائل علم الأصول) و في (تعريفه) و (موضوعه).
نعم يخرج مبحث ظهور الأمر الإرشادي _ ولو بالأصل، بعد ثبوت إرشاديته بالقرينة _ في الوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، وظهور العام الإرشادي في الشمول، وغيرها عن مسائل الأصول، وكذلك مباحث دلالة الأمر الإرشادي على الفور أو التراخي أو المرة أو التكرار أو غير ذلك.
ص: 171
ص: 172
ص: 173
ص: 174
النظر والمعرفة _ للمبدأ وصفاته وما يتعلق به من: بعث الرسل ونصب الأوصياء والمعاد _.
و (الإيمان) و (العدل) و (الإحسان) قال تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(1) و ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(2)، وهذان يرتبطان بموارد الابتلاء الفقهية.و (أوامر الإطاعة)، وهذا يمكن ارتباطه بأصول الدين وبالفقه _ كلاحقه _ تبعاً لمتعلقه.
و (أوامر التوبة) .
وسنفصل الحديث عن هذه العناوين في المجلد الثاني من هذا
ص: 175
الكتاب بإذن الله تعالى، كما سنترك الحديث حول بعض العناوين الآتية للمجلد الثاني بلطف الله، ونشير إليها ههنا إشارة عابرة فقط، فنقول:
ومنها: البراءة العقلية و (قبح العقاب بلا بيان)، فهل «رفع ما لا يعلمون» إرشاد إليه، وإلى ما استقل به العقل من رفع العقاب والمؤاخذة، ورفع الحكم في مرحلة الظاهر، عن الجاهل به قصوراً، حسناً ولزوماً.
أو أنه (صادر من المولى بما هو مولى) حسب الملاك السابق في المولوية، أي إنه بما هو مولى رفع ما وَضَعَه مولوياً.
أو إن شئت فقل: هل حديث الرفع تأسيس مطلقاً؟ أو في الجملة؟ أعم من كونه تأسيساً مولوياً ابتداءً أو إمضاءً(1)، أو إرشاد؟ وإن كان يستلزم الإمضاء إلا أنه قد يكون بلحاظه وقد لا يكون بلحاظه _ فتأمل.
فهل الشارع بما هو مولى: قد رفع ما لا نعلمه _ حكماً أو عقاباً _ بهذا الحديث، بل وبمثل قوله تعالى ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾(2) و ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(3) أم أنه مرشد فقط إلى حكم العقل؟
ص: 176
فهو ك﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ﴾(1)، على ما فصلناه في موضع آخر من هذا الكتاب، وسيتضح اختلاف ذلك، حسب الاختلاف في المباني (التسعة) في المولوي والإرشادي، بإذن الله تعالى.
أن كلاً من (الإرشادية) و (المولوية) محتمل، إذا قلنا بأن المراد من (الرفع):
رفع الحكم في مرحلة الظاهر، لاحتمال كونه إرشاداً إلى البراءة العقلية إذا قيل بأن (قبح العقاب بلا بيان) دال بالبرهان الإني(2) على رفع الحكم في مرحلة الظاهر، أو دلالته بدلالة الاقتضاء عليه؛ إذ لا معنى لبقاء الحكم في مرحلة الظاهر مع رفع العقاب عنه ب(قبح العقاب بلا بيان) فإن دعوى بقائه(3) تساوق كونه بياناً، ومع القول بعدم كونه كذلك(4) فإبقاؤه أي استمرار (اعتباره)، لغو.والأمر كذلك لو قلنا بأن المراد (رفع المؤاخذة) إن لم يَعُد إليه بأن أريد ب(رفع الحكم في مرحلة الظاهر) رفع (مرتبة التنجز).
دون ما إذا قلنا بأن المراد (الرفع) في مرحلة الواقع _ مما قيل
ص: 177
باستلزامه التصويب(1)_ فإن قاعدة قبح العقاب بلا يبان، لا تتحدث عن رفع الحكم الواقعي، فلا مجال لاحتمال إرشادية حديث الرفع _ على هذا _ إليها.
وأما على ما ذهب إليه الشيخ من أن رفع الحكم المشكوك، إنما هو بعدم إيجاب الاحتياط فالمرفوع بحديث الرفع إذن _ على رأيه _ هو وجوب الاحتياط(2)، فإن (رفع ما لا يعلمون) مولوي، ولا وجه لإرشاديته إذ لا تشمل البراءة العقلية وهي مفاد (قبح العقاب بلا بيان) هذا الاحتياط؛ فإنه لا يقبح إيجابه عقلاً، بل العقل يحسنه، اللهم إلا بناء على القول بأن البراءة (لطف) من المولى بالعبد، فيكون (رفع ما لا يعلمون) إرشاداً إليه، لا إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ويؤيده ظهور كون (رفع) امتناناً.
ثم إنه لا فرق فيما ذكر بين ما إذا قلنا بأن المراد من الموصول في (ما لا يعلمون): (الأعم من الحكم والموضوع) بأن يراد «الحكم المجهول» و «الموضوع المجهول» ليشمل الشبهة الحكمية والموضوعية.
أو قلنا بأن المراد به (خصوص الحكم)، وفي هذا سواء قلنا بأن إطلاقه يشمل ما لو كان منشأ الجهل بالحكم عدم وصوله إلى المكلف
ص: 178
_ وهو المعبر عنه بالشبهة الحكمية _ أو كان منشؤه الأمور الخارجية _ وهو موارد الشبهة الموضوعية _ لتكون نتيجته كسابقه(1)، أو لا.
أو قلنا بأن المراد بالموصول (الفعل الخارجي) أي خصوص الفعل الصادر من المكلف في الخارج، أي الفعل غير المعلوم عنوانه للمكلف، كما إذا لم يعلم بأن شرب هذا السائل شرب ماء أو شرب بول، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.
إلا أن يفصل في البراءة العقلية ويقال بأن: (قبح العقاب بلا بيان) لا يشمل الشبهة الموضوعية؛ إذ بعد العلم بالحكم، يلزمنا العقل بالاحتياط لإحرازه، دون ما لو كان الشك في الحكم نفسه، فيكون على هذا (رفع ما لا يعلمون) مولوياً ناسخاً لحكم العقل بالاحتياط، ولا وجه لإرشاديته، ويبقى أن (رفع ما لا يعلمون) لو شمل الشبهتين _ كما سبق في الفرضين الأولين _ بناء على مولويته في الموضوعية، فإنه قد يرجح ذلك مولويته في الحكمية أيضاً، لئلا يلزم محذور كون حديث الرفع مولوياً وإرشادياً في آن واحد، لكن فيه أن (المولوية والإرشادية) دواعي، وليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه فلا إشكال من هذه الجهة.
ثم إنه لا فرق أيضاً بين ما لو قلنا بأن (الرفع) يشمل الدفع أم لا؟ نظراً لأنه ظاهر في إزالة الشيء الثابت، فلا يعم منع المقتضي من التأثير في وجود مقتضاه وهو الدفع.
ص: 179
لكن فيه: أن (رفع) بصيغة المجهول، يفهم منه عرفاً (الأعم)، فيكون المحصلة على هذا: أن الشارع لم يجعل الحكم الظاهري أو مرحلة التنجز _ ابتداءً _ في حق كل مَن لا يصله الحكم، كما أنه يرفع الحكم الظاهري والتنجز _ بعد وضعه _ عن كل من لا يصله الحكم.
لكن قد يقال: الظاهر منه عرفاً بل دقة أيضاً الدفع لا الرفع فإنه من البداية لم يضع مرتبة التنجز على من لا يصله، لا إنه وضعه ثم رفعه.
بل قد يقال بلغوية الوضع ثم الرفع، فلابد من أراده الدفع من حديث الرفع اللهم إلا لضرب القانون ثم الاستثناء، فلذلك عبر بالرفع. وفائدة (ضرب القانون ثم الاستثناء)، التمسك بإطلاق المستثنى منه لدى الشك _ كما ذكر الوالد على ما ببالي في موضع آخر _.
أو يقال: (الرفع) بلحاظ ثبوت تلك الأحكام في الأديان السابقة ولو في الجملة، فإنه يكفى مصححاً للإطلاق.
أو يقال: إطلاقه عليه مجاز، بعلاقة المشارفة أو الأوْل، فيصح إطلاق (الرفع) على ما إذا تحقق المقتضي مع مقدمات قريبة فكأنه موجود وقد رفع.
على أي فإن الرفع والدفع كلاهما مما يستقل به العقل، فيبقى لإحتمال الإرشادية في حديث الرفع، وجه.
هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً: فالظاهر المولوية، لانطباق الضابط الأول للمولوية عليه، وكذا في ما سبق وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ص: 180
ثم إنه يختلف الحال لو قلنا بأن حديث الرفع خاص بالأحكام التكليفية عما إذا قلنا إنه يعم الوضعية أيضاً؛ إذ إن (قبح العقاب بلا بيان) يقتضي رفع الوجوب أو العقاب لو ترك الواجب المشكوك، ولا يقتضي رفع الجزئية للجزء المشكوك، وإن اقتضى رفع حرمة الترك، وكذلك الحال في كل الأقسام الثلاثة التي ذكرها الآخوند على تفصيل _ وسيأتي تفصيله بعد قليل.
وعلى أي، فإن حديث الرفع لا مجال لدعوى ارشاديته في رفعه للأحكام الوضعية؛ لعدم مشموليتها للبراءة العقلية، ليكون الحديث إرشاداً إليها، نعم هو محتمل المولوية والإرشادية ثبوتاً _ في الأحكام التكليفية.
وقد يمثل لما سبق ب(سببية الإفطار) في نهار شهر رمضان لوجوب الكفارة، فإنه مجرى حديث الرفع ك(حرمته)(1) فلو أُكره عليه أو أُجبر أو كان جاهلاً قصوراً، فإن (الأقوى عدم وجوبها عليه على الجاهل، خصوصاً القاصر والمقصر غير الملتفت حين الإفطار).(2)
لكن هل يقتضي حديث الرفع، رفع السببية؟ الظاهر نعم؛ للتلازم عرفاً بين الرفعين.
ص: 181
كما أنه يختلف الحال في بحث آخر وهو: فيما إذا قلنا بأن البراءة العقلية خاصة بموارد الشك في التكاليف الإلزامية، ولا تجري في غيرها، بلحاظ أن ملاكها (قبح العقاب بلا بيان) والتكليف غير الإلزامي لا عقاب عليه.(1)وقلنا بأن البراءة الشرعية أعم، فهي تشمل المستحبات والمكروهات، سواء أطلقنا شمولها لها أم فصلنا بجريانها في التكاليف الضمنية دون الاستقلالية كما ذهب البعض إليه.
فإن (رفع ما لا يعلمون) _ بناءً على ذلك _ مولوي في غير موارد جريان البراءة العقلية أي في غير التكاليف الإلزامية، وإرشادي _ أي محتملة _ فيها(2)، وقد ذكرنا في موضع آخر أن من فوائد (المولوية) صحة التمسك بالإطلاق دون الإرشادية _ على تفصيل.
وبما سبق من مثال حديث الرفع، وبغيره _ كما فصلناه في موضع آخر أيضاً _ يظهر أن بحث المولوية والإرشادية غير خاص بالأوامر والنواهي بل شامل لمطلق الإنشاءات(3) بل وإن كانت بشكل جملة خبرية، فيشمل مثل (رفع ما بيد الشارع وضعه) أي كل (اعتبار) كان أمره بيد الشارع بما هو شارع.
ص: 182
وعلى هذا فإن بحث المولوية والإرشادية يشمل كل الأحكام الوضعية، سواء قلنا بكونها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو الأحكام التكليفية كما هو رأي الشيخ الأنصاري قدس سره، أم قلنا بكونها مجعولة بالاستقلال، وسواء قلنا بإمكان جعلها استقلالاً أم لا؟
وسواء فصلنا بين ما يمكن جعله استقلالاً بإنشائه، كما يمكن جعله تبعاً للتكليف لكونه منشأ انتزاعه وذلك كالزوجية والملكية والحرية والرقية والحجية والولاية _ وهذا هو ثالث أقسام الآخوند الخراساني قدس سره _ فكل خطاب من الشارع دال على أحدها، يمكن فيه ثبوتاً كونه مولوياً كما يمكن كونه إرشادياً وقد ذكرنا في مطاوي الكتاب آيات وروايات عديدة(1) دالة على هذه الأحكام وفصلنا فيها الحديث.
ص: 183
وبين ما لا يمكن جعله تشريعاً أبداً، لا استقلالاً ولا تبعاً للتكليف، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه تكويناً، وذلك كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه، وذلك مثل اعتبار (الدلوك) سبباً لوجوب الصلاة و (الاستطاعة) شرطاً للتكليف بالحج وكذا اعتبار (البلوغ) شرطاً للتكليف بالصلاة و (الحيض) مانعاً عنها، وهذا هو أول أقسام الآخوند.
وقد ناقشنا رأيه بالتفصيل في مباحث الأصول كتاب القطع ج1.
وبين ما يكون منتزعاً من التكليف كالجزئية والشرطة والمانعية لما هو جزء أو شرط أو مانع ل(المكلف به) كشرطية الاستقبال والتستر ومانعية أجزاء غير المأكول، فهو مجعولبتبع جعل التكليف فيمكن جعله بالتبع لا استقلالاً كما هو رأي الآخوند في ثاني أقسامه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول إمكان جعل هذا القسم استقلالاً أيضاً.
وعلى أي حال فإنه على رأي الآخوند فإن المولوية غير متعقلة في أول أقسامه(1) مطلقاً، وهي ممكنة في ثالث أقسامه(2) مطلقاً، والتفصيل جار في ثاني أقسامه فتمكن المولوية تبعاً لا استقلالاً.
وأما على ما صرنا إليه فإنها فيها بأجمعها ممكنة، والإثبات تابع للسان الدليل والقرائن، بعد معرفة الضابط للمولوي والإرشادي.
وبذلك كله ظهر الحال على رأي الشيخ أيضاً، فلا يستشكل بأنه كيف يمكن رفع الأحكام الوضعية أو وضعها مولوياً وهي ليست مجعولة بالاستقلال؟ فلابد من كونها إرشادية؟
إذ الظاهر إمكان المولوية و تبعيتها لمنشأ الانتزاع، فإن جُعِل مولوياً تشريعاً كانت(3) كذلك، أو مولوياً نصحياً كانت مثله، وإن كان صرف النصح كانت كذلك، أو صرف الإخبار فهي مخبر عنها كذلك.
هذا بعض القول في حديث الرفع وتمامه يستدعي مجالاً آخر والله المستعان.
ص: 184
و (التخيير) بأقسامه الثلاثة:
الأول (التخيير الشرعي): كما بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجحات _ وهو تخيير شرعي ثابت بدليل خاص، هو قوله عليه السلام: (إذن فتخير)(1) _ فهل هو مولوي أو إرشادي؟ فعلى القول بالضابط الخامس للمولوية والإرشادية(2)، والقول بأن التخيير في هذه الصورة من المستقلات العقلية، لا السقوط، فإنه إرشادي، وأما على إنكار هذا الضابط والصيرورة للضابط الأول(3) _ كما صرنا إليه _ أو على القول باستقلال العقل بالسقوط، فإن التخيير هنا يكون مولوياً.
والحاصل إن محط البحث هو:هل (إذن فتخير) مولوي؟ بمعنى هل المولى بما هو مولى، أنشأ حكماً اعتبارياً هو (التخيير) أم إنه أرشد إلى حكم عقلي أو قاعدة عقلائية في المقام؟(4)
الثاني: (التخيير العقلي) كما في موارد التزاحم _ ووجود الملاك في
ص: 185
كل منهما مع عدم القدرة على الجمع بدون كون أحدهما أهم _ والأمر فيه أوضح، لاستقلال العقل به، فلو ورد بالتخيير نص، فيجري البحث أنه هل هو مولوي أو إرشادي؟
الثالث: التخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي في مثل (أكرم كل عالم) مع العلم خارجاً بعدم وجوب الجمع بين إكرام فردين منهم، فإنه مخير بينهما عقلاً، فلو ورد نص بالتخيير هنا فهل هو مولوي أو إرشادي؟
ومن القسم الثاني: (التخيير) بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، فيما علم إجمالاً بوجود أحكام كثيرة للمولى، وعدم إهمالها، وعدم صحة إجراء (البراءة) عنها؛ لاستلزامه الخروج من الدين، وعدم إيجاب الاحتياط أو الاجتهاد تعييناً؛ لاستلزامه العسر والحرج، وعدم مرجعية قواعد كالقرعة أو كل أصل أصل في موطنه، فإن التخيير بين هذه الطرق الثلاثة إليها، عقلي، فلو ورد نص به فهل هو إرشادي؟ أم إنه مولوي؟ فعلى الضابط الخامس لا محيص عن الإرشادية وعلى الضابط الثاني(1) والثالث(2) والأول وبعض آخر، فإنه مولوي.
ويمكن بيان موارد (التخيير) وتحقيق استقلال العقل في أي واحد منها، بنحو آخر في موارد دوران الأمر بين المحذورين _ مما يمكن فيه
ص: 186
دعوى استقلال العقل بالتخيير _ إذ أن الدوران:
قد يكون في (التوصليات) مع وحدة الواقعة _ كدوران إنقاذ هذا الغريق بين كونه واجباً أو حراماً؛ لدوران أمره بين كونه مؤمناً محقون الدم أو كافراً حربياً _.
وقد يكون في (التعبديات) مع وحدتها أيضاً _ كما لو دار أمر صلاتها بين الوجوب والحرمة، لاحتمالها الحيض أو الطهر مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب _.
وقد يكون فيهما مع تعددها(1) كما لو أقسم على فعل أمر وترك آخر، ثم اشتبها.
فإن في الصورة الأولى، ذهب صاحب الكفاية إلى التخيير بينهما عقلاً والحكم بالإباحة شرعاً، والتزم المحقق النائيني بالتخيير عقلاً ولم يلتزم بأي حكم ظاهري شرعاً، وقيل بالتخيير شرعاً، وقيل بتقديم احتمال الحرمة؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
والحديث حول هذه الصور الثلاثة وتفصيل الأقوال فيها والمحاكمة بينها طويل فليراجع مظآنه، إلا أن القصد هنا مجرد الإشارة إلى ما يرتبط بالمقام إجمالاً وأنه على القول بالتخيير عقلاً، فإن النص لو ورد بالتخيير فإنه يحتمل فيه الإرشاد والمولوية، وأما على القولبالحرمة أو التخيير شرعاً فلا(2) فتدبر جيداً، ولعلنا نرجع لتفصيل ذلك في المجلد الثاني
ص: 187
بإذن الله تعالى.
ثم إنه قد يظهر الأثر في عقد القلب وعدمه، أو الرضا والإنكار والتكذيب، أو كونه هتكاً أو لا، لو بنى على عدمه قولاً وفعلاً، أو يتعدى للحرمة وعدمها؟ وسيأتي تفصيل ذلك ووجوه الأخذ والرد فيه مع ذكر ثمرات أخرى عديدة، في الجزء الثاني بإذن الله تعالى، كما وسيأتي في آخر الكتاب بإذن الله تعالى بحث حول الوجوب التخييري للاجتهاد والتقليد في الأحكام الإرشادية، كالمولوية، تماماً، كما سنبحث (التخيير) ومولويته أو إرشاديته، مما أشرنا إليه هنا إجمالاً وتفاصيل أخرى عديدة، في المجلد الثاني إذا شاء الله تعالى.
و (الاحتياط) فهل قوله عليه السلام «أخوك دينك فاحتط لدينك» (1) مولوي أو إرشادي لحكم العقل أو الفطرة بالاحتياط، فلا عقوبة أخرى _ أو لا وجوب آخر أيضاً _ وراء وجوب العنوان الواقعي المفوَّت بترك الاحتياط ووراء عقوبته.
بل قد يستند في أصل الاحتياط إلى قوله تعالى ﴿اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ
ص: 188
تُقَاتِهِ﴾(1) و ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(2) و ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾(3) فإن الحكم بالبراءة في ما شك في حكمه، اقتفاء لما لا علم به، و ﴿لاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(4) فإن من مصاديق (التهلكة) الاقتحام في الشبهة التحريمية، أو ترك العمل بأطراف الشبهة الوجوبية، ذلك أن (عدم الاحتياط) خاصة فيما يتعلق بشؤون الآخرة _ مما أقل أهوالها وعقوباتها، أكبر من أهوال الدهر مجتمعة _ إلقاء للنفس في التهلكة.
وتفصيل بعض الكلام في ذلك:
إنه لا ريب في قبح (الاحتياط الكلي الشامل) عقلاً، لا ذاتاً بل لأدائه لاختلال النظام، المختلف باختلاف الوضع العام، وباختلاف الأفراد وحالاتهم؛ فإن الجمع بين كل المحتملات، والأخذ بالاحتياط في جميع الشبهات يؤدي للاختلال عادة، ولاستلزامه العسر والحرج الشديدين المستنكرين عقلاً ولتفويته الأهم عادة.
كما لا ريب في حسنه الذاتي، وحسنه الفعلي فيما لم يؤد للاختلال، ونظائره، وذلك لسببيته لإحراز أغراض المولى، وحسن تحفظ العبد عليها، فكون الاحتياط الشمولي قبيحاً للمحذور الخارجي، لا ينافي حسن التبعيض فيه بالقدر الذي لا يؤدي لتلك المحاذير.
ص: 189
وقوله عليه السلام: (أخوك دينك فاحتط لدينك) لا يراد به الصورة الأولى قطعاً بل الثانية، وحينئذٍ فهل (احتط) إرشاد لحكم العقل بالاحتياط أم هو مولوي؟
ومن ثمراته أنه لو كان مولوياً أمكن التمسك بإطلاقه في موارد الشك، دون ما لو كان إرشادياً(1)ولا إطلاق للمرشَد إليه؛ لأنه لُبّي.
ثم إنه يمكن الاحتياط بوجهين:
الوجه الأول: الأخذ بالاحتياط في جميع الشبهات العرفية، والاستمرار في ذلك إلى أن يبلغ حد الاختلال أو العسر والحرج الشديدين أو مطلقاً أو تفويت الأهم، فيكف عندئذٍ.
الوجه الثاني: الاحتياط في (الأهم محتملاً) أو في (الأقوى احتمالاً)(2) وهما المشار إليهما في الكفاية بقوله: (كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر، ترجيح بعض الاحتياطات، احتمالاً أو محتملاً).
واستقلال العقل بحسن الأخير(3)، لا ينفي استقلاله بحسن الأول، إلا أن الأخير أرجح وأحسن، فهو مرجوح بالنسبة للثاني، راجح في حد نفسه، لكن قد يقال بمرجوحيته(4) لتفويته الأهم.
ص: 190
وعلى أي فهل (احتط لدينك) يشمل بإطلاقه الصورتين؟
الظاهر الشمول، فعلى هذا، فإن (الثاني) يحتمل كون (أحتط) فيه مولوياً، ويحتمل كونه إرشادياً؛ لاستقلال العقل به أما (الأول) فإن قلنا ببقاء رجحانه وحكم العقل بحسنه رغم تفويته للأهم، كان كذلك(1) وإلا كان (احتط) بناء على شموله له(2)، مولوياً.
لا يقال: كيف يشمله وقد فوت الأهم؟
إذ يقال: ليس الأهم إلزامياً ليكون تفويته محرماً، بل هو الأحسن، فيكون ككل موارد تزاحم مستحب مع مستحب أرجح _ فتأمل.(3)
ثم إن حديث المولوية والإرشادية في (أخوك دينك فاحتط لدينك) جارٍ مطلقاً أي سواء كان التردد بين المتباينين، أم بين الأقل والأكثر الارتباطيين، بل والاستقلاليين أيضاً _ وقد فصلناه في مباحث الأصول كتاب القطع _.ولا فرق في ذلك كله بين كون العلم الإجمالي متعلقاً بأصل التكليف فأراد الامتثال، أو كان في مرحلة الامتثال، كما لو علم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين بعد الإتيان بهما فإن عليه إعادتهما، لو لم نقل بجريان
ص: 191
قاعدة الفراغ.
وعلى أي حال، فالبحث هو أن (احتط) مولوي أم إرشادي في هذه الموارد كلها؟، لاستقلال العقل بها أجمع، أو التفصيل لاستقلال العقل بالأول دون الثاني مثلاً.
ثم إن البحث _ في المتباينين _ جار أيضاً بلحاظ بحث (حرمة المخالفة القطعية) كما لا يخفى، بل هو جارٍ على بحث (وجوب الموافقة القطعية)؛ لدعوى استقلال العقل بها أيضاً، فإذا كان مفاد (احتط لدينك) الحرمة والوجوب(1) معاً _ كما هو الظاهر _ أمكن كونه إرشادياً ثبوتاً كمولويته، وإن كانت المولوية والإرشادية هي المتعينة إثباتاً، كما أن البحث من حيث المولوية والإرشادية، في قوله عليه السلام (احتط لدينك) جارٍ أيضاً _ سواء وجوباً أم استحباباً _ وسواء قلنا بوجوبه الغيري أم وجوبه النفسي بدعوى حسنه الذاتي _ على كلا تقديري قولنا بتنجيز العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء كما صرنا إليه في الجملة(2)، وعدمه _ كما هو المشهور _ وسواء طرأ ذلك بعد حصول العلم الإجمالي أم قبله.
ص: 192
وسواء قلنا بمنجزيته في الأمور التدريجية، كالدفعية _ بأقسام التدريجية المختلفة _ أم لا، وسواء كانت الأطراف محصورة، أم كانت بحكمها، وذلك كما فيما كان من قبيل شبهة الكثير في الكثير.
نعم في الشبهة غير المحصورة، قد يقال بعدم استقلال العقل بحسن الاحتياط فيها، بل وبعدم شمول (احتط لدينك) فيها _ فتأمل.(1)
وسواء اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف وقلنا بانحلال العلم الإجمالي أم لا.
ثم إن الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين يختلف الأمر فيه بين ما كان من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية، وما كان من موارد الدوران بينهما في الأجزاء التحليلية كالجنس والفصل والإطلاق والتقييد، وذلك حسب الأقوال في المسألة.فإن في الصورة الأولى ذهب الآخوند الخراساني والمحقق النائيني قدس سرهما وجماعة، إلى جريان البراءة النقلية دون العقلية، فعلى هذا فإن (البراءة النقلية) حكم مولوي ناسخ لحكم العقل البدوي بالاشتغال، ولو كان صدر فيها أمر بالاحتياط فرضاً أمكن كونه إرشادياً؛ لحكم العقل
ص: 193
بالاشتغال وعدم انحلال العلم الإجمالي، كما أمكن كونه مولوياً.
وأما الشيخ الأنصاري قدس سره فقد ذهب إلى جريان البرائتين؛ لانحلال العلم الإجمالي إلى يقين بوجوب الأقل وشك في وجوب الأكثر(1)، فعلى هذا يمكن كون البراءة النقلية مولوية، كما يمكن كونها إرشادية، ولو فرض شمول (احتط) للمقام، فإنه مولوي ناسخ لحكم العقل البدوي بالبراءة ولا مجال لإرشاديته.
وقال بعض بأنه مجرى قاعدة الاشتغال، ف(احتط) على هذا يمكن فيه كلا الأمرين كما سبق.
هذا كله على مبنى الضابط الخامس في المولوية والإرشادية، دون المبنى الأول المنصور، وبعض المباني الأخرى _ كالثاني والثالث _ فإن عليها لا يختلف الحال في المولوية والإرشادية بين كون المتعلق من المستقلات العقلية أو لا؟ إذ المدار في (الأول) على إعمال مقام المولوية، وفي (الثاني) على (المصلحة الأخروية) وفي الثالث على (المحبوبية) وذلك ظاهر مما سبق ويأتي أيضاً فليلاحظ.
وأما الصورة الثانية: فإن فيها تفصيلاً طويلاً فلتراجع المطولات، ويعرف حال المولوية والإرشادية في صورها المختلفة على الأقوال المتعددة، بلحاظ ما ذكرناه هنا وفي سائر مواضع الكتاب والله المسهل المستعان.
ص: 194
و (الاستصحاب) فقوله عليه السلام في صحيحة زرارة «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(1) هل هو إرشاد لحكم العقل، أم مولوي؟
أم يصار للتفضيل بين (الشك في المقتضي) و(الشك في الرافع)(2) _ سواء وجود الرافع أو رافعية الموجود _ أو التفصيل بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية(3) أو التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية بقسميها الحدسي والحسي، والفرق بين المجتهد والمقلد فيها(4) ، أم غير ذلك من سائر التفاصيل.
وبذلك تظهر الثمرة في تنقيح (حكم العقل) بإبقاء ما كان على ما كان مطلقاً أو في الجملة، إذ لو تم فيجري البحث في أن أمر الشارع بالإبقاء مولوي أم إرشادي، ولو لم يتم فإنه مولوي دون تأمل.
ص: 195
ولنترك تفصيل البحث عن الأدلة على كون أوامر الاستصحاب مولوية أو إرشادية(1) للمجلد الثاني، إذا شاء الله تعالى.
وكذا مطلق مباحث الاستلزامات ومنها:
فهل لو أمر الشارع بالمقدمة، فهو أمر مولوي وإن كان غيرياً أو صرف إرشاد؟
بل قد يقال بأن: الأمر بذي المقدمة، أمر بالمقدمات، لانبساطه عليها على قول أو لترشحه منه إليها _ على قول آخر _ وإن لم يصرح بالأمر بالمقدمات، فهل هذا الأمر المنبسط أو المترشح _ المستفاد عرفاً من الأمر بذيها، أو الدال ذلك الأمر عليه بدلالة الإيماء والإشارة _ مولوي أو إرشادي؟
نعم على مبنى إرادة اللابدية العقلية في لزوم المقدمة لا يجري بحث المولوية والإرشادية.
ثم القائل بالوجوب الشرعي، هل يقول به من باب الوجوب المولوي، أو من باب الوجوب الإرشادي _ على القول بوجود النحوين من الوجوب _؟
ص: 196
بيان ذلك:
إنه تكرر صدور أمر من الشارع بالمقدمات، وذلك في كل موارد الأوامر الغيرية وغيرها(1) وذلك كقوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾(2) وقول الإمام عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة)(3) وقوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾(4).
وقد ذكر الآخوند قدس سره أن من الواضح أن تعلق الأوامر الغيرية في هذه المواطن إنما هو بملاك المقدمية، وأضاف: إن هذا الملاك موجود في غيرها من المقدمات فيكشف بذلك كون الأمر الغيري متعلقاً بكل المقدمات لوجود نفس الملاك.
وأشكل عليه في مصباح الأصول بأن: (الأوامر المتعلقة بهذه المقدمات، في الشرعيات والعرفيات، ليست أوامر مولوية غيرية، بل إنما هي أوامر إرشادية إلى الشرطية، بشهادة فهم العرف، فلا وجوب للمقدمات في هذه الموارد كي نتعدى منها إلى غيرها لوجود الملاك فيه) ثم استشهد بالأوامر المتعلقة بالأجزاء كالركوع والسجود، وبالأوامر
ص: 197
المتعلقةبالشرائط في باب المعاملات كقوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدي منكم﴾ الوارد في الطلاق(1)، فإنه إرشاد إلى شرطية حضور العدلين في صحة الطلاق، ومن المعلوم أن الأوامر المتعلقة بالشرائط في باب المعاملات، ليست أوامر مولوية بل إرشادية إلى الشرطية فكذا المقام).(2)
لكن الظاهر هو صحة ما ذهب إليه صاحب الكفاية، وذلك بناء على ما فصلناه في مبحث (ضوابط المولوي والإرشادي).
فإنه إن كان ضابط (المولوي) _ كما هو الحق _ (ما صدر من المولى بما هو مولى، معملاً مقام مولويته) فالظاهر أن هذه الأوامر كذلك، وذلك ما يفهمه العرف أيضاً.
ولا يشترط في (المولوية) وجود المصلحة في المتعلق، بل سواء وجد فيه، أو فيما يؤدي إليه _ أي ذي المقدمة _ أم لم تكن هنالك مصلحة أصلاً فرضاً، فإن الأمر مولوي إذا صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته، كما فصلناه عند البحث عن ضوابط المولوية والإرشادية، وبالعكس فإن وجود المصلحة في المتعلق لا يحتم كون الأمر به مولوياً إلا لو أعمل مقامه، بل لو لاحظ في أمره صرف مصلحة المتعلق للعبد، كان إرشادياً.
ص: 198
وإن كان الضابط هو (ما أنشأ لمصلحة الآخرة) فكذلك.
وإن كان الضابط هو الثالث أي (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته) كان كذلك أيضاً.
نعم لو كان الضابط هو (ما كان في غير موارد المستقلات العقلية) تمّ ما ذكره المصباح، لاستقلال العقل بوجوب المقدمة _ لا بمعنى صرف اللابدية كما لا يخفى _ لكن قد فصلنا النقاش هناك في صحة هذا الضابط، كبرى، فليراجع.
ويمكن معرفة الحال بناء على سائر الضوابط من مراجعة ذلك الفصل، ونكتفي بالإشارة إلى الضابط التاسع وهو (ما يترتب عليه الثواب والعقاب) فقد يقال بعدم ترتب الثواب والعقاب على المقدمة وحيث قد بحثنا ذلك تفصيلاً في (مباحث الأصول) كتاب (الملازمة بين حكم العقل والشرع) فلا حاجة للإطالة.
وأما ما نظر به من الأوامر المتعلقة بالشرائط في باب المعاملات، فقد فصلنا في موضع آخر من الكتاب، الجواب عنه، ونضيف هنا _ وبإيجاز:
إن الظهور الثانوي في باب العقود والإيقاعات قد انعقد _ كما قيل _ على كون الأوامر والنواهي، إرشادية للشرطية والمانعية وشبههما، وعلى ذلك استقر فهم العرف، كما أشار إليه الوالد في الأصول والأصفهاني
ص: 199
في نهاية الدراية(1)، أما غيرها فلا، بل الأمر والنهي فيها باق على الأصل من الظهور في المولوية، وفهم العرف على ذلك فإن ﴿أعدوا لهم مااستطعتم من قوة﴾(2) يفهم منه العرف، المولوية لا الشرطية، وكذلك ﴿فاغسلوا وجوهكم﴾(3)، بل إن استفادة الشرطية، تبعية، بل إن صريح قوله عليه السلام: (وجب الطهور والصلاة) الحكم التكليفي، لا الوضعي وأما تنظيره بأداء الركوع والسجود وغيرهما، فلعلنا نتطرق له صغرى في مجال آخر، على أنه قياس مع الفارق كما لا يخفى.
ولا يخفى جريان تلك البحوث في مقدمة (المستحب) أيضاً، وفي مقدمة المكروه، كذلك.
وأما مقدمة الحرام، فالظاهر أن العقل يستقل بحرمة مقدمة الحرام، سواء كانت علة تامة للوقوع في الحرام أم كانت مقتضياً لوقوعه(4) بحيث يمكن المكلف ترك الحرام رغم إتيانه بتلك المقدمة(5) فقد يقال بإرشادية (النهي) لو تعلق بها _ في الصورتين _ نظراً للالتزام بالضابط الخامس في المولوية والإرشادية، لكنه باطل مبنى، كما فصلناه في فصل ضوابط
ص: 200
المولوية والإرشادية، فاللازم ملاحظة لسان الدليل وأنه صدر من المولى بما هو مولى أو بما هو ناصح _ حسب ما صرنا إليه من الضابط الأول.
ولعل لذلك(1) التزم المحقق النائيني بأن المقدمة في الصورتين محرمة، لكنه فصّل فقال: بالحرمة النفسية في الصورة الأولى لا الغيرية، واحتمل كلاً من الحرمة النفسية نظراً للتجري والغيرية نظراً لترشحها من ذي المقدمة، في الصورة الثانية.
وعلى أي فإن ما يهمنا هو: أن النهي المتعلق بمقدمة الحرام، مولوي في الصورتين، ولا يهم بعد ذلك _ فيما هو المقصود في المقام _ كون الحرمة نفسية أو غيرية.
نعم القسم الثالث من مقدمة الحرام وهو (ما لم تكن المقدمة علة تامة للحرام، بل كانت مقتضياً فقط، ولم يقصد المكلف التوصل بها للحرام) _ وهو ما حكم فيه النائيني بعدم الحرمة _ الظاهر لزوم التفصيل فيه بين ما لو وقع في الحرام بعدها أو لا(2)، فإن لم يقع فالأمر كما قال، وإن وقع، فقد يقال بالحرمة إذا احتمل المكلف أداءها إلى الحرام، وإن لم يقصد التوصل به، وعلى ذلك بناء العقلاء _ فتأمل، وتفصيله في بحث المقدمة الموصلة.
وعلى أي فإن محور البحث عنا هو أن العقل لا يستقل بقبح هذا النوع من المقدمة _ أما مطلقاً كما صار إليه النائيني، أو فيما إذا لم
ص: 201
يقع ذو المقدمة، أو وقع ولكن إذا لم يحتمل أداءها للحرام فقط، كما صرنا إليه _ ومع عدم استقلاله بالقبح، فإن النهي لو ورد، فإنه سيكونمولوياً، أيضاً، على الأصل وإن أمكن كونه إرشادياً _ إذا أخذنا الضابط الخامس هو المحور _.
وكذلك لو نهى عن الضد فهل هو نهي مولوي أو إرشادي؟ للزوم اللغوية وتحصيل الحاصل مثلاً، من المولوية بعد الأمر بضده الأول.
والبحث جارٍ على كلا القولين: من كون الغرض صرف الوجوب الثابت في الإرشاد أيضاً، أو كونه استحقاق العقاب أيضاً.
بيان ذلك:
إن البحث في الإرشادية والمولوية(1) جار سواء كان البحث عن (الضد الخاص)، أم كان البحث عن (الضد العام).
نعم يختلف الحال، على المباني في معنى (الاقتضاء) في قولنا (الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد العام) _ وهو الترك _.
1- فقد يقال: يراد به أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن تركه، ف(صل) هو عين (لا تترك الصلاة) إثباتاً، وثبوتاً _ على تفصيل _.
2- وقد يقال: يراد به أنه يدل عليه بالتضمن؛ بدعوى تركب
ص: 202
الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك.
3- وقد يقال: يراد به إنه يدل عليه بالإلتزام.
فعلى الأول: فقد يقال: إن الأمر لو كان مولوياً كان النهي عن تركه كذلك، وكذا لو كان إرشادياً، للعينية، لكن ليس كذلك لو ورد نهي لفظي آخر عن الترك _ كما سيأتي.
لا يقال: لو كان النهي عن الترك مولويا، لزم تحصيل الحاصل واللغوية وسائر المحاذير التي ذكرت، فيما لو كان أمر (الإطاعة) مثلاً مولوياً؟
إذ يقال: إنه مع قطع النظر عن الأجوبة التي فصلناها في رد دعوى كون الأمر في المشبه به، إرشادياً بتوهم تلك المحاذير، فإنه حتى على قبول الدعوى إلا أنها غير جارية في المقام لفرض العينية.
إلا أن يقال بجريان تلك المحاذير في (الأمر بعد الأمر) أيضاً، وقد أجبنا عنه هنالك أيضاً، لكن العمدة في الجواب هو أن مرادهم من (العينية) هو أن الأمر بالشيء بنفسه، عين النهي عن ضده العام، وليس هذا مورداً للإشكال، فإنه لا شك في أنه لو كان هذا مولوياً كان ذاك كذلك؛ لأنه هو، بل مورد البحث والنقض والإبرام هو: ما لو ورد نهي عن ضده العام، فهل هو مولوي أو لا؟ وهذا هو النظير للأمر بعد الأمر.
لكنه كما ترى غير كلام مدعي العينية؛ إذ لا ريب في تغاير هذا النهي مع ذاك الأمر ذاتاً، ولا يتوهم إرادة العينية فيها في حقه _ فيقع فيه البحث أنه مولوي أو إرشادي؟
ص: 203
والأمر على الضابط الأول الذي ارتضيناه، واضح، واختلافه على سائر الضوابط والأقوال، بيّن أيضاً، ويظهر مما سبق وسيأتي خاصة عند تطبيق الضوابط التسعة على بحث الاحتياط، فليلاحظ.
وأما لو قيل بالتضمن، فإنه يمكن أن يكون (طلب الفعل) مولوياً و (المنع عن تركه) إرشادياً، وإن جمعا في لفظ واحد؛ لأنه اعتبار وهو خفيف المؤونة.
وسيتضح أكثر بما سنشير له بعد قليل فيما لو قيل بالالتزام.هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً فالظاهر وحدة السياق والمساق، نعم لو قيل _ على خلاف هذا المبنى _ ببساطة الوجوب؛ فإنه الطلب الشديد، لما كان محيص عن دلالته على المنع من الترك بالالتزام لا بالتضمن، فيندرج في العنوان الثالث الآتي.
وأما لو قيل بالالتزام، فيجري بحث المولوية والإرشادية إذ يمكن كلاهما، إذ لا ضير في أن يلاحظ المولى العارف بأن أمره بالشيء يستلزم النهي عن ضده العام أي الترك، أمره بالشيء مولوياً، ونهيه عن ضده _ المنشَأ بنفس إنشاء أمره _ إرشادياً، أي يعمل مقامه في الأول دون الثاني، فلا وجه لتوهم عدم إمكان التفكيك بين اللازم والملزوم من هذا الحيث(1)، كما يمكنه إعمال مقامه في الطرفين دون لزوم محذور لزوم تحصيل الحاصل أو اللغوية كما فصلناه في محله فليلاحظ.
والأمر أوضح لو نهى عن الضد، بكلام آخر.
ص: 204
قال تعالى ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(1) و ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾(2) .
قال تعالى ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(3) وقال صلى الله عليه وآله في صحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه و...».(4) ، وقد أشرنا لبعض مباحث حديث الرفع في هذا الكتاب، ولبعض مباحثه في (مباحث الأصول _ القطع)، ونترك تفصيل الكلام حول هذين، لموضعه بإذن الله تعالى.
و (مطلق الظن الانسدادي) على الحكومة استناداً لدفع الضرر المظنون(5) الحاكم بقبحه العقل، والناشئ من ترجيح المرجح ، والدال
ص: 205
عليه الشرع، قال تعالى ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ﴾(1) ، فتأمل(2) بل يكفي الموهوم منه إذا كان في الشؤون الخطيرة، وشؤونالآخرة، فيما يرتبط بالتكاليف كلها، منها _ أو استناداً إلى استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح، فيستقل العقل تبعاً لذلك بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة إجمالاً.
فلو تمت مقدمات الانسداد، وأفادت حجية مطلق الظن، وقلنا بأن نتيجتها حكم العقل بحجيته، ثم دل من الشارع دليل _ ولو كان قاعدة الملازمة(3)_ فتأمل، على حجية (الظن المطلق) أو بعض أقسامه(4)، فإن كلام الشارع عن الحجية وإن كان ظاهره جعلها، لكنه إرشاد لحكم العقل، وليس مولوياً على على عدد من المباني في ضابط المولوية والإرشادية(5)، سواء(6) كان ما دل من الشارع على حجية الظن خاصاً(7) كقيام خبر واحد على حجية (الشهرة) مع القول بانسداد باب
ص: 206
العلم والعلمي ك(خذ بما اشتهر بين أصحابك) أو على حجية (خبر الواحد) ك(العمري ثقتي) ف(خذ) على هذا المبنى أمر إرشادي وليس مولوياً، فلا استحقاق للعقوبة بمخالفته مثلاً.
أو كان عاماً كالأدلة الشرعية الدالة على دفع الضرر مطلقاً أو خصوص المظنون منه، كقوله تعالى ﴿لا تضار والدة بولدها﴾(1) و الحديث (لا ضرر ولا ضرار) و ﴿ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون﴾(2) فإن في ترك العمل بالظن _ وهو الطرف الراجح _ والتمسك _ بالوهم المرجوح _ خوف وقوع في الضرر يقتضي (حكم العقل) بلزوم اتباع الظن _ لانسداد باب العلم والعلمي _ ومع حكمه، فإن كلام الشارع بلزوم دفع الضرر إرشاد إليه، وكذا لو دل من الشارع دليل على قبح ترجيح المرجوح.
اللهم إلا أن يلتزم بإمكان ووقوع اجتماع الحكمين _ كما هو الحق _ فينتج مبنى جديداً وهو (الكشف) و (الحكومة) معاً؛ إذ لا مانعة جمع بينهما، بأن يقال: نتيجة برهان دفع الضرر المظنون، وكذا نتيجة مقدمات الانسداد: حكومة العقل وحكم الشرع مولوياً معاً بحجية الظن ، وتمام
ص: 207
الكلام في ذلك موكل إلى محله.
وعدم حجية (مطلق الظن) في صورة الانفتاح، فإن ذلك مما يحكم به العقل، فهل ما ورد من الشرع كقوله تعالى ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾(1) إرشاد إلى عدم حجيته؟ أم أنه مولوي بمعنى أن الشارع بما هو مولى اعتبره غير حجة، سواء كان هنالك أقوام ارتأوا الحجية وبنوا عليها، أم لا.
بل وحرمة إتباع الظن في صورة الانفتاح.
قال تعالى ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾(2).
ومما يبعد كونه إرشادياً _ على خلاف من ذهب إلى إرشادية الأوامر والنواهي في مطلق المستقلات العقلية _ آخر الآية الشريفة؛ فإن (مسؤولاً) لا يجتمع مع الإرشاد على مسلك المشهور فيه(3)، وإن اجتمع على مسلك الشيخ من الإرشاد _ الوجوبي، لكن ظاهر الآية الشريفة المولوية _ الوجوبية،وتفصيل الكلام عن ذلك كسابقه، يترك لمباحث الأصول _ مباحث الظن ، والله الموفق المستعان.
ص: 208
ومن القواعد الفقهية قاعدة (لا ضرر) الشهيرة إستناداً إلى رواية «لا ضرر ولا ضرار» فقد روى الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار... فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وأرم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1) والرواية صحيحة، وهي مستفيضة مشتهرة في كتب الفريقين بل ادعى بعض الأعلام تواترها.(2)
والبحث في (المولوية والإرشادية) مبني على التحقيق في معنى (لا ضرر ولا ضرار) وشموله لكل من عدم تشريع الحكم الضرري، ولتشريع حكم يتدارك به الضرر _ كحق الشفعة كما في رواية عقبة بن خالد عن
ص: 209
الإمام الصادق عليه السلام _.
فهل (لا ضرر) تأسيس، أو إمضاء، أو إخبار؟
وبعبارة أخرى: هل الشارع رفع الضرر أي (الحكم الضرري) كما ذهب إليه الشيخ، أو نهى عن الضرر كما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني.
وبعض القول في ذلك يظهر ببيان أنه يختلف الأمر بناء على المباني المختلفة في مفاد (لا ضرر ولا ضرار) فنقول إن المباني فيه _ بدواً _ خمسة:
الأول: مبنى الشيخ الأنصاري من أن المراد به (نفي الحكم الناشي من قبله الضرر) فقد أطلق اسم الأثر على المؤثر، بعلقة العلية والمعلولية، فكان (الضرر) عنواناً ل(الحكم) أي مفاد الحديث نفي جعل (الحكم الضرري) فكل حكم موجب لوقوع العبد في الضرر فهو مرفوع في عالم التشريع.
فيشمل (التكليفي) كوجوب الوضوء الضرري و (الوضعي) ك(لزوم) البيع للمعيب.
وعلى هذا فقد يقال: بأن ذلك مما لا استقلال للعقل به، إذ للمولى الحقيقي أن يتصرف في عبده كما يشاء، هذا كبرى، ثم إننا لا نعرف
ص: 210
كل ملاكات أحكام الشارع وتزاحماتها فلعله الأصلح بحال العبد دنيا أو أخرى ومن حيث المجموع _ فتأمل.(1)
وعلى هذا فإن لا ضرر مولوي ولا مجال للقول بإرشاديته من هذه الجهة.(2)
لكن قد يقال: إن العقل مستقل بقبح تشريع الشارع حكماً ضررياً دون مزاحم أهم بلحاظ المجموع (أي العبد ومن يتعلق به، ومجتمعه، ديناً ودنياً وآخرة) فما كان من الأحكام ضررياًمحضاً، أو كان ضرره أقرب من نفعه _ بعد الكسر والانكسار _ لا يعقل أن يشرعه الشارع؛ فإنه وإن كان مالكاً حقيقاً قادراً، إلا أنه بالنظر لحكمته وغناه وعدله، فكيف بالنظر لرحمته(3) لا يعقل منه ذلك، وهذا مما يستقل به العقل، فيحتمل _ ثبوتاً _ على هذا كون (لا ضرر) إرشاداً إليه، ويبقى الإثبات رهين الاستظهار من لسان الدليل والأصل والقرائن، وأن (لا ضرر) إخبار عن عدم جعل حكم ضرري، أو إرشاد، أو إنشاء لنفي جعله، أو لجعل حكم يتدارك به الضرر.
الثاني: مبنى من ذهب إلى أن المراد (نفي الضرر غير المتدارك) مما يلزم منه (ثبوت التدارك) في كل مورد أمر الشارع فيه بما يضر، كما في
ص: 211
أكل المخمصة، ويستفاد منه جعل حكم يتدارك به الضرر، فالأمر فيه كسابقه من حيث القول باستقلال العقل به، وعدمه؛ نظراً لإنكار الكبرى السابقة، أو قبولها، فتحتمل الإرشادية عندئذٍ أيضاً على الرأي المنصور.
الثالث: مبنى شيخ الشريعة الأصفهاني من أن (لا ضرر) نفي أريد به النهي كقوله تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾(1) أو قوله صلى الله عليه وآله (لا غش بين المسلمين)(2) كعكسه في الإيجاب ك(يعيد صلاته) أو (أعاد الصلاة).
فإن ذلك نفي كُنِّي به عن مبغوضية الشيء، فيكون نفياً أريد به النهي، فقد أخبر عن عدم وجود الشيء في مقام النهي عنه، مما يكشف عن شدة مبغوضيته إلى درجة أن الشارع تلقى عدمه أمراً مسلّماً.(3)
فيكون معنى (لا ضرر) حرمة الإضرار بالغير فكأنه قال (لا تُضِّر) الغيرَ و (لا تضارَّه)، فهو أيضاً من المستقلات العقلية، إلا أن حدوده ليست كذلك، إذ لا يستقل العقل بحرمة مطلق الإضرار بالعدو، أو بحرمة (الإضرار القليل) ككلمة خشنة أو نظرة حادة أو صوت مرتفع أو رائحة كريهة(4) فتأمل.
ص: 212
فيكون (لا ضرر) مولوياً في (المراتب الدانية) _ تمسكاً بإطلاقه _ وإرشادياً في (أصله) لكونه من المستقلات، بناء على الضابط الخامس للإرشادية والمولوية.(1)
ولا يرد اجتماع اللحاظين المحال؛ لما سبق من أن المولوية والإرشادية ليستا جزء الموضوع له أو جزء المستعمل فيه، بل هما من الدواعي، كما ذهب إليه الآخوند، ولأجوبة أخرى عديدة ذكرناها، منها صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان كل منها كأن لم يستعمل إلا فيه، فراجع (فقه التعاون على البر والتقوى).
الرابع: مبنى صاحب الكفاية من أنه أريد ب(لا ضرر) نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وذلك ك(لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه) و (لا ربا بين الوالد والولد) وهذا ينتج عكس سابقه في الجملة فتأمل.
ومفاد (لا ضرر) على هذا: أن الحكم الثابت لموضوعه في حال عدم الضرر، منفي عنه إذا كان الموضوع ضررياً؛ فإن وجوب الوضوء الثابت له حال عدم كونه ضررياً، ينتفي عنه إذا صار ضررياً.(2)
فقد يقال إنه ليس من المستقلات العقلية، فالمولوية فيه على القاعدة، لكن الظاهر أنه أيضاً من المستقلات العقلية فالإرشادية
ص: 213
محتملة أيضاً.
المبنى الخامس: ما صار إليه السيد الوالد قدس سره من شمول (لا ضرر) لتلك المعاني (الأربعة السابقة) بأجمعها قال: (لا يبعد أن يكون أقرب المجازات إلى الجملة المذكورة _ بعد تعذر الحقيقة _ يشمل :
1- عدم إضرار الشارع بالحكم.(1)
2- وإضرار أحد بالآخر.(2)
3- والتدارك إن أضره، فإنه كما إذا أمكن الحقيقة يشمل كل ذلك، كذلك المجاز، لوضوح الأولين، وعدم التدارك معناه بقاؤه، فعدمه معناه نوع من وجوده فهو يمنع امتداده).(3)
وقلنا (الأربعة) لأن كلام الآخوند أخص مطلقاً من حيث المورد من كلام الشيخ فيدخل في أول أقسام كلام الوالد.
ولعله وجّه كلام شيخ الشريعة الأصفهاني بإرادة (لا ضرر جائزاً) أي (لا إضرار جائزاً) أي بالغير، ولم يبقه على ظاهره من إرادة (النهي) فلا يرد الإشكال عليه بأنه لا جامع بين (النفي والنهي) حقيقة، أو أنه ليس بعرفي على الأقل فتأمل.
ص: 214
بل حتى مثل قاعدة (اليد) و (سوق المسلمين) ومثل (من ملك شيئاً ملك الإقرار به) فإن اعتبارهما(1) إمارة الملك _ كما هو الظاهر ، ونفوذ إقراره هل هو بما هو مولى؟ أو بما هو مرشد وناصح؟، وهو المعبر عنه بإمضائيات الشارع، لكن قد يقال الإمضاء أعم من كونه بما هو مولى أو بما هو مشفق ناصح أو معلم مرشد _ بل (الإمضاء) منصرف لأولهما(2) فتأمل.
وبعبارة أخرى:
هل قوله عليه السلام (من ملك شيئاً ملك الإقرار به) تشريع لملك الإقرار به؟ أي إيجاد لهذا الاعتبار في عالمه(3)، فالشارع بما هو مولى قد جعل له هذا الحق، أم أنه إخبار عن ملكه _ تكويناً اعتبارياً للإقرار به، وإرشاد إلى ذلك نظراً؛ لأن ملك الإقرار به شعاع من ملكه.
وكذلك كون (اليد) أو (السوق) أمارة الملك، فبعد الفراغ عن عدم مونها أصلاً، فهل هي (أمارة مولوية) أي جعلها الشارع بما هو مولى، علامة ودليلاً وأمارة؟ ولا كاشفية لها بذاتها ، بوجهٍ؟
أم أن كاشفيتها ذاتية _ ولو بنحو الاقتضاء _ وقد تممها الشارع _
ص: 215
كما قال به الأصفهاني في الكشف الناقص كما في (الظن)؟
أم أن كاشفيتها ذاتية _ ولو اقتضاء _ وقد كشف الشارع عن ذلك فقط؟
الظاهر الأوسط، وتفصيل ذلك في (القواعد الفقهية) بإذن الله تعالى.
ص: 216
(حفظ الأمانة) و (ردّ الوديعة)،
قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(1)، والظاهر أن رعاية الأمانة غير رعاية العهد، فهما عنوانان، ويستقل العقل بحسن كليهما، والنسبة بينهما التباين لو قلنا بتعلق العهد بالمعنويات والأمانة بالماديات.
وقال تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.(2)
والظاهر أنه لا فرق في البحث عن إمكان وعدم إمكان المولوية في بعض الأوامر بناء على بعض الضوابط _ كضابط المستقلات العقلية _
ص: 217
بين ورود مادة الأمر _ كما في المقام _ وورود صيغته؛ إذ ما ذكر من المحاذير _ على فرض صحته _ من لزوم اللغوية أو تحصيل الحاصل أو التسلسل أو ما أشبه، جار في المادة كجريانه في الصيغة كما لا يخفى.
إن الظاهر أنه لا فرق في بعض ضوابط المولوية والإرشادية _ ثبوتاً _ بين استخدام مادة الأمر كالمقام، أو صيغته، فإنه إن كان المقياس للمولوي هو (ما عدا المستقلات العقلية) وهو الضابط الخامس، فإن الأمر هنا إرشادي لكونه منها، ولا يجدي استخدام مادة الأمر.
نعم إن كان المقياس هو (ما صدر من المولى بما هو مولى، إذا كان في مقام التشريع) فإنه يمكن في كل من المادة والصيغة، كونهما للمولوية والإرشاد، نعم مادة الأمر أقرب للمولوية منها للإرشاد؛ إذ المستظهر منها ذلك عرفاً.
بل قد يقال: إن استخدام (يأمركم) في الآية في موطن المستقل العقلي، يعد من الأدلة على عدم صحة الضابط السابق _ أي الخامس _ فتدبر.
وكذلك الحال في المعطوف عليها وهو قوله تعالى ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾(1) فإن (وجوب الحكم بالعدل) من المستقلات العقلية، وقد فصلنا في (فقه التعاون على البر والتقوى) كون المستقلات العقلية: قد يراد بها (الأحكام العقلية) أي الأحكام التي يستقل بها العقل، وقد يراد بها (الأدلة المستقلة العقلية) أي ما كانت فيه الصغرى
ص: 218
والكبرى جميعاً عقليتين والمراد في هذه الآية وسائر الآيات المبحوث عنها هنا، هو المعنى الأول فلا تغفل.
و (الإنصاف) كقوله عليه السلام «أنصف الناس من نفسك».(1)
وهو أيضاً مما يستقل العقل بحسنه وبوجوبه في الجملة.
وهل (الإنصاف) عنوان آخر غير عنوان (العدل) أو هو من مصاديقه؟ ولعلنا نفصل الحديث عن هذا العنوان كبعض العناوين اللاحقة في الجزء الثاني إذا شاء الله تعالى.
وحسن أو وجوب (النفقة)، قال تعالى ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾(2)، والظاهر أن التعبير به «حقه» لتعليل «آتِ» فإن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وبذلك يندرج في المستقلات العقلية، وإن لم نقل باندراج مطلق (إعطاء ذي القربى) فيها.
و (صلة الأرحام)، قال تعالى ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾.(3)
وقد يقال: باستفادة قاعدة عامة من قوله تعالى ﴿أولى﴾ وهي أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض مطلقاً، فتكون هي الأصل والاستثناء بحاجة إلى دليل، فتكون الآية من الأدلة العامة على حق الإرث والحضانة
ص: 219
وتجهيز الميت والرعاية وغير ذلك.
والظاهر أن (أولوية) بعض الأرحام ببعض، من المستقلات العقلية في الجملة، وإن كانت حدوده بين مشكوكة أو معلومة العدم(1)، كما أن أولوية النبي صلى الله عليه وآله المذكورة في صدر الآية الشريفة ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ من المستقلات العقلية أيضاً _ فتأمل.وغير خفي أن (الأولوية) من الحقائق التشكيكية ذات المراتب، وأنها طولية في مثل الأب والأخ، وعرضية في الأخوين، وطولية أو عرضية على الأقوال في مثل الأب والجد.
كما أن (الأولوية) غير مقتصرة على (الإرث) بل مراتب من الولاية أيضاً(2) ويدل عليه إضافة إلى الفتوى، إثبات الأولوية في صدر الآية للنبي صلى الله عليه وآله، فإنها غير خاصة بالإرث كما لا يخفى.
نعم لا ريب أن أولوية أولي الأرحام ببعضهم ليست عامة شاملة، كأولوية النبي صلى الله عليه وآله، بالمؤمنين للأصل وللدليل الخارجي.
وقبح وحرمة قطع (الأرحام)، قال الله تعالى ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾.(3)
ولا ينبغي الريب في أن النهي عن قطع (ما أمر الله به أن يوصل)
ص: 220
المستفاد من تعلقه(1) ب(ما أمر) ومن اللحن والسياق، مولوي، ولا يضيره لحوق ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ به؛ إذ ذكر النتيجة لا يخل باستظهار كون المقام مقام المولوية، بل قد يؤكده أحياناً، بل الأمر كذلك حتى على ضابط مثل (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) فإن (الخسارة) في الآية، ظاهرها أن المراد بها الأخروية، لا أقل من الأعمية(2)، ومثل (ما كان محبوباً أو مبغوضاً للمولى وقد صدر لذلك).
والإنفاق كقوله تعالى ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾.(3)
وإضافة الرزق إليه تعالى، مشعر بوجه الإلزام في ﴿أنفقوا﴾ وبذلك يندرج في المستقلات العقلية، وإن لم نقل باندراج مطلق الإنفاق فيها، نعم حسن مطلقِهِ عقلاً لا ريب فيه.
هل (أنفقوا) مولوي أم إرشادي؟
وهل ﴿أنفقوا مما رزقناكم﴾ أمر مولوي أو إرشادي؟
(الظاهر): المولوية، ولا يصرِف الأمرَ عن ظاهره(4)، كونُ السياق سياق النصح والإرشاد، واللحن لحن ناصح ومرشد.
ودعوى (الظهور) ليست للوضع ولا للاستعمال في المولوية، إذ قد
ص: 221
فصلنا أن المولوية والإرشادية، دواعي، وليست جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل لشهادة الحال بذلك والقاعدة والأصل، كما فصلناه في مكان آخر.
كما أن الظاهر أنه مولوي _ تشريعي(1) فيستحق العقاب على تركه.كما لا يضر باستظهار المولوية، دعوى كون حسن ووجوب إنفاق بعض ما رزقنا الله، من المستقلات العقلية، لما سبق من الضابط في المولوية.(2)
والظاهر أن أصل الإنفاق من بعض الرزق، من المستقلات، دون حدوده وتفاصيله خمساً وزكاة وغيرهما.
ولا تنفع دعوى اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه، لا لعدم اتحاده مع حدوده حتى على فرضه(3) _ فقط، بل لأن الاتحاد في (الوجود) لا في (الجهة)، و (المستقلات) تتعلق بالجهات.
هذا مع قطع النظر عن النقاش في أصل المبنى.
وعلى أي فإنه لو قيل: بأن (الأصل) من (المستقلات العقلية) دون (الحدود) فإنه على الضابط الخامس: يكون الأمر بالأصل إرشادياً وبالحدود مولوياً لو افترقا، أما لو اتحدا في أمر واحد فقد فصلنا في مكان آخر: إمكان كون الأمر الواحد مولوياً (للأصل) إرشادياً (للحدود) بدون لزوم محذور اجتماع اللحاظين المحال _ فتدبر.
ص: 222
وحسن أو وجوب (التعاون على البر والتقوى) و (حرمة التعاون على الإثم والعدوان)، قال تعالى ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾(1) وقد فصلنا الحديث عن هذه الآية الشريفة _ بما ينفع في سائر المباحث والآيات _ في (فقه التعاون على البر والتقوى).
و (استباق الخيرات) قال جل اسمه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾(2) وقال جل وعلا ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾.(3)
وهل (استباق الخيرات) و (المسارعة للمغفرة) لها الموضوعية أم الطريقية؟ أي هل يطلبان لذاتهما أم لغيرهما؟ وبعبارة أخرى هل هما واجبان _ في الواجب _ ومستحبان _ في المستحب _ نفسياً أو غيرياً؟
وذلك بعد الفراغ عن عدم اتحادهما مع مدخولهما، ولذا أمكن لا عقلاً فقط بل عرفاً أيضاً: التفكيك في الحكم.(4)
والظاهر أنهما من المستقلات العقلية، فمن ذهب إلى الضابط الخامس، فإنه يرى الأمر فيهما إرشادياً، أما بناء على الضابط الأول، فهل صدر ذلك من المولى بما هو مولى أو بما هو ناصح؟
ص: 223
و (ذكر الله تعالى) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً﴾(1) فإنه _ كسوابقه ولواحقه _ مما تحكم به الفطرة والعقل والعقلاء أيضاً _ إضافة للشرع _ نظراً لكونها من الأوليات أو الفطريات أو المشهورات.
و (الذكر) أعم من الذكر بالقلب واللسان، ولا انصراف له لأحدهما، ولو كان فبدوي.
ثم الظاهر إن أصل (الذكر) وكميته (أي الذكر كثيراً) من المستقلات العقلية، ومما تحكم به الفطرة والعقلاء أيضاً، فيقع البحث في أن مثل قوله تعالى: ﴿اذكروا الله ذكراً كثيراً﴾ مولوي أو إرشادي؟
و (الدعاء) قال سبحانه وتعالى ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.(2)
والتعليل ب﴿أستجب لكم﴾ لا يقتضي ظهور ﴿ادعوني﴾ في الإرشادية؛ لما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وأشرنا إليه في هذا الكتاب، من أنه أعم.
والظاهر أن (الدعاء) واجب في الجملة، ومستحب مطلقاً، فمن أعرض عن الدعاء مطلقاً ارتكب محرماً.
ص: 224
وحرمة (التبذير) قال تعالى ﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾(1) وعن بشر بن مروان: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام، فدعا برطب، فأقبل بعضهم يرمي بالنوى، قال: فأمسك أبو عبد الله يده فقال «لا تفعل. إن هذا من التبذير، وإن الله لا يحب الفساد»(2)، فهل النهي فيه ولواحقه مولوي يستتبع الحرمة واستحقاق العقاب أم لا، فلا؟ وسيأتي أن وضوح التحريم فيه، في متفاهم العرف، من الأدلة على أن النهي والأمر في المستقلات العقلية، مولوي وليس إرشادياً، ولعل ذكر المفعول المطلق(3) بعد النهي لأجل بيان إنه تمام علة النهي فلا يتوهم عدم الحاجة إليه.
و (عدم إطاعة أمر المسرفين)، قال تعالى ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾.(4)
والظاهر أنها من المستقلات العقلية، ولعل في قوله تعالى ﴿أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه﴾(1) الوارد وكأنه في مقام التعليل، إشعاراً بأنه من المستقلات العقلية، بل الأمور الفطرية؛ إذ ذاك انتقاص من جسده، وهذا من سمعته ومكانته ونفسه.
وكذلك قد يستظهر كون «الجهر بالسوء» _ وهو أعم من الغيبة(2) _ من المستقلات العقلية _ قبحاً وحرمة _ من إضافته للسوء ومن استنثاء (إلا من ظلم) فإن الجهر بالسوء من مصاديق الظلم وانتهاك حق الآخرين، ويخرجه منها كونه مظلوماً.
ثم الظاهر من فتوى الفقهاء ب(حرمة الغيبة) وحرمة مصاديق «الجهر بالسوء من القول» بل ومن ترتب العقاب عليها حسب الروايات، إن النهي عنها مولوي، فيكون ذلك صالحاً للإستشهاد به على بطلان الضابط الخامس للمولوية والإرشادية من كون كل مستقل عقلي فإن الأمر فيه أو النهي عنه إرشادي.
وبذلك ظهر عدم تمامية ما ذكره في مواهب الرحمن:
(إن الحكم في الآية الشريفة _ أي آية لا يحب الله الجهر بالسوء _ موافق للفطرة ... وإليه يشير ما ورد في كلمات الفقهاء: إن التكاليف
ص: 226
الواردة في الأحكام الفطرية إنما تكون إرشادية، لا أن تكون مولوية)(1) إذ الفقهاء أفتوا بحرمة السب والقذف وغيرهما من مصاديق الجهر بالسوء من القول، والروايات رتبت عليها العقاب بين تعزير وحدّ، وقد فصلنا في مبحث الضوابط في الضابط الخامس، عدم تمامية الكبرى.
والظاهر أن غيبة البعض للبعض شاملة لغيبة شخص لشخص أو لجماعة أو لمؤسسة، من شركة أو نقابة أو إتحاد أو غير ذلك، وكذلك هي أعم من غيبة جماعة أو مؤسسة لغيرها.
ولعل الوجه في التعبير ب(بعض) مع أن الأشخاص (أفراد) و (مصاديق) وليسوا أجزاءاً وأبعاضاً، مزيد الردع عن الغيبة إذ كأن كلاً منهم بعض من كل وجزء من جسد، فما يضر هذا أو يشينه فإنه قد أضر ببعضه وجزءه، لا بفرد ومصداق خارج عنه.
وبعبارة أخرى لاحظ التعبير بذلك (المجتمع البشري) ككل، وكل واحد منهم، جزء.
ثم إن (عدم حب الله) لشيء وإن كان بحسب ذاته أعم من الكراهة والحرمة، إلا أنه في مثل المقام وبتناسب الحكم والموضوع، يفيد الحرمة فالنهي تحريمي إلزامي وليس تنزيهياً.
والظاهر أن «الجهر بالسوء من القول» أعم من الغيبة لشموله الأقوال الثلاثة التي ذكرها في مجمع البيان لتفسير الآية من (الشتم في الانتصار وغيره) و (الدعاء على أحد ظلماً) و (ذمه وشكايته) والظاهر صحتها بأجمعها.
ص: 227
وتفسير الإمام الباقر عليه السلام، الآية بالأول، والإمام الصادق عليه السلام بذكر الضيف سوء ما فعل مضيفه إن لم يحسن ضيافته، الظاهر أنه تفسير بالمصداق ولذا قال السيد السبزواري رحمه الله: (والسوء من القول: كل ما يسوء المقول فيه فيشمل السبوالقذف، ثم عمم (السوء) أو حكمه حتى يشمل الغمز واللمز والإتهام بالسيء من الصفات والأعمال، والبهتان، وإلصاق العيوب، والدعاء عليه... والتقييد بالقول من باب الغالب).(1)
وهناك آيات في أبعاد عديدة نشير لها إشارة ولعلنا نعود لتفصيل بعضها في الجزء الثاني بإذن الله تعالى ومنها:
(النميمة) قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾(2) وفي صحيح ابن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب)(3) وقد استظهرنا في بعض بحوثنا أن هذا ونظائره من (الفطريات) وليس من (المشهورات).
ص: 228
و (اليأس من روح الله)، قال تعالى ﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾(1).
والظاهر أنه من الكبائر؛ بشهادة تتمة الآية ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾.
و (اليأس) من روح الله، أعم من: اليأس من غفرانه، أو اليأس من نصرته وفرجه، واليأس من عطائه وكرمه، واليأس من رحمته وما شاكل ذلك.
والوجه في كون اليائس من رحمة الله كافراً، أن مرجع اليأس من رحمته إما إلى نسبة العجز إليه تعالى أو البخل أو الجهل، وكلها كفر؛ إذ الله قادر عالم جواد، دون ريب.
وبذلك يظهر أن اليأس من روح الله، مما يستقل العقل بقبحه، وحرمته، والنهي عنه حسب الضابط الخامس، إرشادي، وحسب الضابط الأول المنصور وكذا الثاني والثالث بل وضوابط أخرى، مولوي.
و (التصرف في مال الغير إلا بطيبة نفسه)، قال تعالى ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾(2) و ﴿ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
ص: 229
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾(1) بتنقيح المناط القطعي، أو بإلغاء الخصوصية وبعدم القول بالفصل، بل القول بعدم الفصل. ويكفي قوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه»، بل (ذلك من أوضح البديهيات الشرعية والأدلة الأربعة على ذلك قائمة).(2)والظاهر أن كلاً من (الملكية للشيء) و (قبح وحرمة التصرف في ما ملكه الغير بدون رضاه)، من (المستقلات العقلية).
ثم إنه لا ريب في مولوية النهي عن التصرف في مال الغير دون رضاه واستحقاق فاعله العقاب، ويعد هذا دليلاً أيضاً على بطلان الضابط الخامس للمولوي، من اشتراط كون متعلقه غير المستقلات العقلية.
و (كتمان الحق والهدى) قال تعالى: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.(3)
ويمكن إلحاق هذا بما يرتبط بأصول الدين، لكون الكتمان فيه أجلى المصاديق.
ثم هل (كتمان الحق) محرم كما كان بيانه وإظهاره واجباً؟ ذلك صغرى البحث عن لزوم اللغوية في إنشاء الحكم لكلا طرفي الموضوع
ص: 230
أو العنوان؟ وتفصيله يطلب من مبحث (إقتضاء الأمر بالشيء، النهي عن ضده).
لكن قد يقال: إنهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما، بل لهما ثالث، فلا لغوية.
لكن فيه: إنه إذا وجب إظهاره، أغنى عن تحريم كتمانه حتى لو أمكن، سواء كان لهما ثالث أم لا فتأمل.
وعلى أي فإن النهي عن كتمان الحق نهي مولوي _ غيري.
واحتمال كونه مولوياً نفسياً للمفسدة السلوكية، واهي، وإن كان يمكن توجيهه بما ليس ههنا محل بحثه. والظاهر أن قبحه وحرمته مما يستقل به العقل وتحكم به الفطرة أيضاً، فيقع البحث في مولوية النهي عنه أو إرشاديته تبعاً لذلك.
لكن قد يقال: إن مثل عنوان الإفساد، كلي طبيعي متحد مع مصاديقه(1) إلا أنه تترتب عقوبتان على المفسد في الأرض، واستحقاقان، لتحقق العنوانين وتغايرهما ذاتاً ومفهوماً وإن اتحدا خارجاً ومصداقاً، ولعله يأتي تفصيله في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.
وعلى أي فإن قبح وحرمة الإفساد في الأرض، يعد من المستقلات العقلية بل الأمور الفطرية وعليه إطباق كافة العقلاء، فالنهي عنه مولوي أو إرشادي، حسب المباني في ضابطهما.
و (الكذب) و (قول الزور) قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾(2) فإن الكذب من (قول الزور)، كالغناء.وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾.(3)
والظاهر أن (الكذب) من المستقلات العقلية، دون الغناء، فبناءً على شمول (قول الزور) لهما والذهاب إلى ضابط كضابط (إن كل ما كان من المستقلات العقلية، كان الأمر أو النهي فيه إرشادياً)، فقد يقال: بلابدية كونه إرشادياً في كلا الشقين، وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وقد أجبنا عن مثل هذا بأجوبة عديدة مبنىً وبناءً في (فقه التعاون
ص: 232
على البر والتقوى) وبأجوبة ثمانية في مباحث الأصول _ مباحث القطع.
ونضيف هنا أن المولوية والإرشادية ليست جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل هما من دواعي الإستعمال، فلو قصدا بالقياس للشقين لم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى _ وقد أشرنا لذلك في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ _.
ثم الظاهر أن «اجتنبوا قول الزور» أعم من أن يكون قائلاً أو مستمعاً، مصدقاً أو مشجعاً أو مستمتعاً، أو شبه ذلك لأن من فعل أياً منها فليس بمجتنب له.
و (إلقاء التبعات على الآخرين وتحميلهم ذنباً لا يتحملونه)، قال تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(1) و ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(2).
والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين ما لو ألقى شخص حقيقي، أو حقوقي، تبعة أوزاره وخطاياه، على شخص حقيقي أو حقوقي، فلا يجوز تحميل (الشركة) أو (المنظمة) مثلاً ذنب الأخطاء، على أحد أفرادها إذا لم يكن هو المخطئ، أو لم يكن الوزر عليه بأكمله فيحمِّله كلَّه، أو تحميلها على شركة أخرى منافسة أو حتى على عدو مادام محفوظ الحقوق كالذمي والمعاهد.
ويظهر بذلك عدم جواز إلقاء الدولة تبعة أوزارها وأخطائها، على
ص: 233
أحد الوزراء أو المسؤولين ممن ليس هو السبب أو ليس السبب الأقوى أو ليس إلا جزء العلة، تبرئة لساحتها، فكيف بإلقاء التبعات على (المخالف) و (المعارض) فإنه ذنب مضاعف ومعصية متكررة، ولهذا البحث مجال آخر.
ثم إن «لا تزر وازرة وزر أخرى» وإن كان نفياً، إلا أنه قد يقال إنه إخبار في مقام الإنشاء بمعنى أنه نفي أريد به النهي، فهو كقوله تعالى: ﴿لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾(1) وكقوله عليه السلام: «لا غش بين المسلمين» فإن الإخبار عن عدم تحقق شيء في المستقبل يعد كناية عن مبغوضيته، فيصح الإخبار عنه في مقام النهي عنه، وذلك نظير ما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني في معنى (لا ضرر ولا ضرار).وإن أبيت، فلا أقل من كونه إخباراً يكشف عن إنشاء سابق، بل لا أقل من كونه دالاً على مبغوضية ذلك للمولى، ويستفاد من تناسب الحكم والموضوع، حرمته، وعلى أي فإنه من المستقلات العقلية.
ثم إن الموقع للآخرين في المعصية والسبب لها، يتحمل وزرها أيضاً من غير أن ينقص من وزر فاعلها شيء، ففي صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن الإمام الباقر عليه السلام: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى، لعنته
ص: 234
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)(1) وهذا الإستثناء مما يستقل به العقل أيضاً، بل قد يقال بخروجه موضوعاً عن الآية فتأمل.(2)
وكذلك (الراضي بفعل قوم) فإنه يشركهم في الإثم والوزر والعقوبة، كما يظهر من خبر قتل الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ذراري قتلة الإمام الحسين عليه السلام لرضاهم بفعال آبائهم، وغيره، فراجع الصافي والبحار وغيرهما. والحديث عن خروجه موضوعاً، كسابقه.
لكن هل استقلال العقل بقبحه وحرمته لكونه مصداقاً من مصاديق الظلم؟ أو أنه مما يستقل به العقل مع قطع النظر عن تعنونه بعنوان الظلم؟
قد يستظهر الأول ولذا يحسن لو كان بطلب(3)، من الآخر غير ذي الوزر كما نشاهد ذلك تكويناً أيضاً _ فتأمل.
و (قهر اليتيم)، قال تعالى ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾.(4)
والظاهر أن انطباق عنوان (الظلم) على عناوين أخرى أخص مطلقاً أو من وجه _ ومنها قهر اليتيم _ لا ينفي حكم العقل بقبح تلك العناوين
ص: 235
حقيقة وبذاتها؛ لأنه واسطة في الثبوت لا العروض.
لكن قد يقال: إنه مع قطع النظر عن عنوان الظلم، وبلحاظها بذاتها بما هي هي
وبالاستقلال، فإنه لا حكم للعقل بقبحها، إلا أن يقال إن (القهر) كالظم مما لا يمكن أن يكون إلا قبيحاً وإلا لم يكن (قهراً) كما لم يكن ذاك ظلماً _ فتأمل.
ثم إنه لا يخفى أن الظلم حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فقد يكون أحد العناوين المندرجة تحته أشد قبحاً وحرمة من عنوان آخر، وذلك كقهر اليتيم أو غيره، وكظلم الأب أو الإبن، والمعلم أو المتعلم، والنبي أو المؤمن العادي.
وعلى أي فإن استقلال العقل بقبح قهر اليتيم، لا يضر بكون النهي عنه مولوياً؛ لما صح عندنا من الضابط الأول للمولوية وهو (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته).
وكذلك حسن (اللعن) في الجملة، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾(1) فإنه وإن كان خبراً إلا أنه _ بدلالة الإيماء والإشارة بل بدلالة الاقتضاء _ يدل على حسن اللعن بل لا يعقل فيه غير ذلك، إذ كيف (يلعن الله) قوماً من غير أن يكون لعنهم حسناً؟ إذ إن أفعاله تعالى _ على ما ذهب إليه العدلية والمعتزلة وبه يحكم صريح العقل والوجدان _ معللة بالأغراض، وهو لا يفعل ولا يأمر إلا بالحسن ولا يترك ولا ينهى
ص: 236
إلا عن القبيح، فإنه لا يعقل أن يلعن جل اسمه من لا يستحق اللعن، ومع استحقاقه لها كان لعنه حسناً وتركه قبيحاً.
بل قد يقال: إن ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ إنشاء بصيغة الإخبار، سلمنا، لكنه لا أقل من كونه إخباراً يكشف عن الإنشاء في مرتبة سابقة، بل يكفي كشفه عن الحسن سواء البالغ حد الإيجاب أو لا.
وقد ذكرنا في موضع آخر ما فصله الميرزا الشيرازي من أن الجملة الخبرية(1) لو أريد بها الإنشاء وتردد الأمر بين الوجوب والندب، كان مقتضى القاعدة الحمل على الوجوب فليلاحظ.
ثم إن ظاهر ﴿يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ الاستمرار؛ لظهور الفعل المضارع فيه، ويؤكده سياق الآية.
وروى الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل عن منصور بن يونس عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجلٌ قال لي إعرِف الآخر من الأئمة، ولا يضرك إن لا تعرف الأول؟ قال فقال: «لعن الله هذا؛ فإني أبغضه ولا أعرفه، وهل عرف الآخر إلا بالأول»(2)، والرواية صحيحة الإسناد.
ويستفاد منها أن بغض الإمام لشخص، سبب لعنة الله له لمقام الفاء(3)
ص: 237
ويحتمل كونه كاشفاً عن لعن الله له، فإذا كان علة الثبوت كان الأول، أو الإثبات فالثاني.
بل قد يقال: إنه لا مانعة جمع، فإن بغضه عليه السلام له، سبب وكاشف معاً، ولا يلزم محذور اجتماع اللحاظين المحال، لما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) من النقاش في استحالة جمع اللحاظين في لفظ واحد، صغرى وكبرى.
وهل قوله عليه السلام (لعن الله هذا) إخبار أم إنشاء؟ الظاهر الثاني؛ إذ يرى العرف أنه دعاء.
وروى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن حكيم وحماد عن أبي مسروق: قال سألني أبو عبد الله عليه السلام عن أهل البصرة فقال لي: (ما هم؟)قلت: مرجئة وقدرية وحرورية فقال: «لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء»(1)، والرواية حسنة بل صحيحة الإسناد.
ومن البين أن للكفر إطلاقين، يتنافى بالأول منهما مع الشرك، دون الثاني، وهما: الكفر بأصل وجود الله تعالى، والكفر بوحدانيته، والمراد هنا الثاني(2)، وقد يقال: يمكن إرادة الأول بدعوى كفرهم بالله لا بوحدانيته فقط، إذ ما عقدوا قلبهم على عبادته هو غير الله، وأما الشرك
ص: 238
فجرياً على ظاهر حالهم.
و (على شيء) أي على شيء ذي أصل أو قيمة، أي على شيء صحيح أو معتبر أو حجة.
والظاهر منه أن (الأفعال العبادية) ليست بشيء مادام الاعتقاد فاسداً، يظهر به وجه عدم قبول الأعمال من منكر الولاية.
والظاهر أن استحقاق تلك الملل، اللعن، فطري، ومن المستقلات العقلية؛ فإن من أنكر (الحق) وعاند وكابر وهو به عالم، فإنه مستحق عقلاً لأن يطرده الله عن رحمته، فكيف بمن أنكر خالقه وبارئه والمنعم عليه بكل شيء؟ أو أنكر رسوله أو وصيه أو صفاته وهو بها عالم؟ تكبراً وتجبراً _ بل حتى لو كان تقصيراً _ فإنه يستحق اللعن أي الطرد عن ساحته جل اسمه فإن ذلك هو ما اختاره، وهو الأثر الوضعي لقراره وفعله، وإذا استحق (اللعن) ثبوتاً استحق أن (يلعن) إثباتاً، أي استحق أن يدعى عليه باللعن والطرد، هذا أولاً، ولكون أصل وجود الله تعالى ووحدانيته، والأمر بين الأمرين، فطرياً، فاستحقاق لعن المنكر كذلك، ثانياً.
وروى الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام قال: (لعن رسول الله: الخمر، وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها
ص: 239
والمحمولة إليه)(1)، والرواية موثقة سنداً.
قال في (الفقه): (ثم الظاهر عدم جواز استعمال الخمر مطلقاً حتى في التطلية وتليين الأشياء الصعبة، وما أشبه ذلك؛ لإطلاق بعض الأدلة، ومنها رواية تحف العقول حيث قال عليه السلام (وجميع أنحاء التقلب فيه) وإن كان ربما احتمل الحلية لتعارض العمومات، بعمومات أخرى..).(2)
وإذا كان قبح شرب الخمر _ أي قبح مطلق ما يذهب بالعقل _ بل وحرمته، من المستقلات العقلية، فإن قبح سائر ما ذكر في الرواية من عصر وبيع وسقي... الخ، يندرج في كلي ما ذكرناه في مباحث الاستلزامات، وأن النهي _ وقبله القبح _ المتوجه لذي المقدمة، منبسط على المقدمة؟ _ وهو الرأي المنصور _ أو مترشح منه إليها؟ _ على رأي مشهور _ وأما الوجوب بمعنى اللابدية العقلية فهو، بعد أنه مفروغ منه ولا ريب فيه، فإنه ليس المراد _ ولا ينبغي أن يكون المراد _ من قاعدة الملازمة _ وقد فصلنا ذلك في مباحث الأصول كتاب الملازمة بين حكمي العقل والشرع فليلاحظ _.وعلى أي، فإن هذه الرواية يمكن أن تعد من الأدلة على إنبساط الوجوب للمقدمة، ولا أقل من الترشح فليتدبر.
ولعن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله، دليل حسن اللعن، بل دليل وجوب اللعن في الجملة، فإن (الفعل) وإن كان لا جهة له، إلا أن خصوصية المورد والمادة وتناسب الحكم والموضوع والسياق وقرائن أخرى،
ص: 240
يستفاد منها الإيجاب بحسب المتفاهم عرفاً ونظراً لبعض أدلة الأسوة كقوله عليه السلام: (فليتأس متأسٍ بنبيه، وإلا فلا يأمننَّ الهلكة)(1) وغيره.
وقد أشرنا لذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى)، وسنفصله في مباحث الأصول بإذن الله تعالى.
و (حسن الشفاعة)، قال تعالى: ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾.(2)
والظاهر أن (الشفاعة الحسنة) أيضاً مما يستقل بحسنها العقل، فالأمر فيها لو ورد أو كان بعض الأخبار عنها في مقام الإنشاء، فهو مولوي غيري، وليس مولوياً نفسياً لظهور (الطريقية) فيه، نعم لا دلالة للأمر بها كلما ورد، على كونه للوجوب، وذلك نظراً لقرينية خصوصية متعلقها، فإن كان واجباً كانت كذلك وإلا كانت مندوبة؛ لضرورة عدم زيادة ما بالعرض على ما بالذات والفرع على الأصل، ولعدم مصلحة سلوكية فيها، وإن أمكن تصويره(3) فحالها حال (الأمر بالمعروف) في تبعية وجوبه واستحبابه، لما عليه (المعروف) من وجوب أو ندب، ويكون حالها نظير ما قاله الآخوند في تبعية دلالة كلمة (كل) على الاستغراق والعموم، على حسب مدخولها.
ص: 241
ثم إنه لا يبعد كون الجزاء في الآية (وهو يكن له نصيب منها) بين التكويني وبين التفضليّ، ولعل استقلال العقل بحسن الحسن منها، لكونها من مصاديق (الإحسان) الحاكم بحسنه العقل الصريح.
وفي مقابل الشفاعة الحسنة، الشفاعة السيئة كالشفاعة في الحدود، (والمشهور بين الفقهاء حرمة الشفاعة في الحدود، لكن الذي يستظهر من بعض الأدلة الكراهة لا الحرمة... والمسألة بحاجة إلى التتبع والتأمل).(1)
ثم إن الشفاعة، لحسنها العقلي، وردت الآيات والروايات الكثيرة الدالة على ثبوتها للمعصومين عليهم السلام ولغيرهم.
فمنها: ما رواه الصدوق عن أبيه عن الحميري عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ثلاثة يشفعون إلى الله فيشفَّعون: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (2) والحديث معتبر.
ويمكن إلحاق هذا بما يرتبط بأصول الدين بالمعنى الأعم.
ومن المسائل _ ولعلنا نبحثها في الجزء القادم بإذن الله تعالى _ وجوب تقليد الأعلم _ على القول به _ فهل الأمر به _ لو ورد _ مولوي أو إرشادي؟ بل مطلق وجوب رجوع الجاهل للعالم، وربما عدّ بعض الأعلام هذه المسألة من المسائل الأصولية، كما
ص: 242
ذكره السيد العم دام ظله.(1)
فهل كل ما ورد فيها من الأوامر في الشريعة، إرشادي أو مولوي؟
فعلى الأول: لا استحقاق للعقاب بالترك إلا على المؤدى، وعلى الثاني: يترتب الاستحقاق على القول بالنفسية والمصلحة السلوكية، وعلى القول بالغيرية أيضاً على ما أشرنا إليه في فقه التعاون(2) من استحقاق العقاب على الغيري أيضاً دون مسلك المشهور.
ص: 243
ص: 244
ص: 245
ص: 246
ويمكن تصنيف الأوامر والنواهي الواردة في لسان الشرع والمذكورة في جوامع الحديث كوسائل الشيعة وجامع أحاديث الشيعة وغيرها، والتي تطرق علماؤنا لبعضها في كتب الفقه، ولبعضها في كتب الكلام والعقائد، ولبعضها في كتب الأخلاق ولبعضها في كتب الحديث، إلى الأصناف التالية:
ص: 247
فمنها الأوامر والنواهي الواردة في شأن التجارة.
وذلك كقول أمير المؤمنين عليه السلام (تعرضوا للتجارة فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس).(1)
وهل يراد ب(الناس) العامة، كما هو ظاهر أو منصرف بعض الروايات الأخرى؟ أم مطلق الناس؟
الظاهر الثاني فإنه(2) ممدوح مطلقاً، وإن كان الأول من باب تأكد الداعي، أو الداعي على الداعي.
ثم هل مفاد (تعرضوا للتجارة) هو نفس مفاد (اتجروا) وقد كني به عنه؟
الظاهر ذلك عرفاً، إلا أنه لدى الدقة فإن (التعرض للشيء) إشارة لتمهيد مقدماته أو بعضها، وأما (اتجروا) فإشارة للمباشرة.
ص: 248
وهل (حسن التجارة) أو حتى (التعرض لها) من المستقلات العقلية أم لا؟ فإن كان منها كان الأمر بها إرشادياً _ على مسلك الضابط الخامس _ وكذا على ضابط كون الملاك المصلحة الدنيوية، دون ما لو قلنا بالضابط الأول، فإنه يراعى كون الأمر بها، قد صدر منالمولى بما هو مولى أو لا؟ أو قلنا: بأن الملاك ضابط المحبوبية وأحرز من الروايات محبوبية التجارة.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (ترك التجارة ينقص العقل).(1)
وقال عليه السلام: (التجارة تزيد في العقل).(2)
وقد تتبعت المعاني الموضوع لها العقل أو المستعمل فيها، فوجدتها أربعة عشر معنى، وقد أشرت إلى تفصيل ذلك في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) وكتاب (الضوابط الكلّية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) فليراجع.
ومن البيّن لمن تتبع الآيات والروايات: أن (زيادة العقل) محبوبة للمولى جل اسمه ول ﴿رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾(3) بما هم موالي، فيتعين حمل الأمر به _ فيما أمر به _ على المولوية، أو يرجح _ على الضابط الثالث والأول.
ص: 249
وقال عليه السلام: (اتجروا بارك الله لكم).(1)
ولعل قوله عليه السلام (بارك الله لكم) بصيغة الماضي من باب كونه من المضارع المحقق الوقوع، وقوله (يبارك الله لكم) الآتي، جرياً على المعتاد، إضافة لإفادة الاستمرار والتجدد كما هو شأن صيغة المضارع.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (لا تدعوا التجارة فتهونوا، اتجروا يبارك الله لكم).(2)
و (الهوان) مذموم وهو بين محرم ومكروه، فكذا ترك التجارة فإنه بين حرام ومكروه، تبعاً لمقدميته للحرام أو المكروه، بناء على ا لترشح من ذي المقدمة أو بناء على مبنى شمول الدليل نفسه للمقدمة وذيها، ولا يبعد ترادفه مع (الذلة)، وقد يقال: (الذلة) بلحاظ الناس و (الهوان) بلحاظ النفس، كقوله عليه السلام: (وهانت عليه نفسه)(3) ولعلهما مما إذا اجتما افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فتشمله أدلته مثل (ولم يفوض إليه أن يذل نفسه).(4)
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله حين أهبط آدم من الجنة أمره أن يحرث بيده، فيأكل من كد يده، بعد نعيم الجنة...).(5)
والظاهر أن الأمر متعلق ب(الحرث)، و ب(يده) من باب المصداق فهو
ص: 250
محقق للموضوع، وليس قيداً، وإن أمكن أخذه قيداً؛ لما في خصوص الحرث باليد من الفائدة البدنية.وتظهر الثمرة في الالتزام باستحباب (الحرث باليد) في الجملة(1) حتى مع وجود الآلات.
وقد يقال بكون هذه الأوامر وما سيأتي من الأوامر (مولوية)؛ لانطباق ضابط المولوية الأول عليها، كما سيجيء، أي لصدورها من المولى بما هو مولى، أو لاستشعار محبوبيتها للمولى من مراجعة لحن الأمر بها في بعض الروايات، فتكون مولوية على الضابط الثالث أيضاً، ويشهد له كونها واجبات كفائية، فإنها مفاد الأمر المولوي لا الإرشادي، ومستحبات(2)، وقد رتب عليها الثواب، والتعليل(3) غير صارف للإرشادية كما أوضحناه في موضع آخر وكما أشرنا إليه في فقه (التعاون على البر والتقوى).(4)
ولعل مما يرجح مولوية أوامر التجارة، ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذنية عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني قد كففت عن التجارة وأمسكت عنها، قال: (ولم ذلك، أعجز بك؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفوا عن التجارة،
ص: 251
والتمسوا من فضل الله عز وجل).(1)
وهي حسنةٌ على رأي جمع منهم العلامة المجلسي في مرآة العقول.(2)
ووجه الاستشهاد قوله عليه السلام: (والتمسوا من فضل الله عز وجل) فإن ما كان كذلك(3) كان محبوباً للمولى، ورجح أن طلبه لمحبوبيته له وإن كان (كذلك تذهب أموالكم) مما قد يستظهر منه المصلحة الدنيوية، وفيه ما ذكرناه في موضع آخر من: أن (الأموال) للمصلحتين معاً، بل كون (المصب) الدنيوية غير ضار، بعد أنه ليس الملاك بل الملاك هو (ما صدر من المولى بما هو مولى) كما فصلناه في فصل الضوابط.
ومما يدل صراحة على محبوبية التجارة، ما رواه محمد بن عذافر عن أبيه قال: (أعطى أبو عبد الله، أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتجر بها، ثم قال: أما إنه ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوباً فيه، ولكني أحببت أن يراني الله جل وعز متعرضاً لفوائده..)(4)، مما يدل على محبوبية التجارة للمولى بما هو مولى؛ فإن كونه متاجراً وكونه متعرضاً لفوائد الله تعالى متحدان بالحمل الشائع الصناعي وإن لم يتحدا بالذاتي الأولي.
وبعبارة أخرى: أحدهما كلي طبيعي والآخر مصداقه _ فتأمل.
ص: 252
وإننا وإن لم نصر إلى الضابط الثالث(1) إلا أن كون الشيء محبوباً للمولى، مما يساعد على استظهار كون الأمر به قد صدر من المولى بما هو مولى.
ص: 253
وحسن أو وجوب (الصنائع والحرف) للمعاش، قال العلامة المجلسي: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «... والله يحب المحترف الأمين».(1)
والظاهر أن قوله عليه السلام: (والله يحب المحترف الأمين) شاهد على مولوية الأوامر في شأن الحرف ومنها ما صدّرت به الرواية من (تعرضوا للتجارة فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس)، إذا ذهبنا للضابط الثالث في المولوي وهو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته).
نعم قوله عليه السلام: (فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس) شاهد على الإرشادية.
وكذا إذا ذهبنا للضابط الثاني وهو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا) إلا أن يقال كما فصلناه في موضع آخر بأن (الغنى عما في أيدي الناس) ذو مصلحة أخروية أيضاً، والملاك في لحاظ المولى: هو (المصب).
ص: 254
وقال الشيخ الأعظم في المكاسب: (مع إمكان التمثيل للمستحب (من المكاسب) بمثل الزراعة والرعي مما ندب إليه الشرع، وللواجب، بالصناعة الواجبة كفايةً، خصوصاً إذا تعذر قيام الغير به فتأمل).(1)
ولعلنا نتكلم حول (الزراعة) و (الرعي) في الجزء الثاني بإذن الله تعالى، فإن الروايات فيها متعددة، والمستظهر منها المولوية، ولذا اعتبرها الشيخ والوالد وعدد من الأعاظم رحمهم الله، مستحبة، فهي موجبة للأجر والثواب، رغم أن مصالحها فيما يبدو في بادئ النظر، دنيوية، بل قد يعد هذا من أدلة عدم تمامية الضابط الثاني المدعى كونه الفارق بين المولوي والإرشادي.
ثم الظاهر أن وجوب (الصناعة) مولوي غيري، إذ احتمال المصلحة النفسية أو المصلحة السلوكية فيها ضعيف وإن كان ذا وجه _ ولعلنا نفصله لاحقاً بإذن الله تعالى.
﴿كاتبوهم﴾ أمر مولوي أو إرشادي؟
وقال الصدوق: وروى العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ قال عليه السلام: «الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة»(2) والرواية صحيحة سنداً.
وهل (كاتبوهم) مولوي تشريعي للندب، بعد الفراغ عن عدم وجوبه للدليل الخارجي، فهو مستحب ويترتب عليه الثواب؟ أو مولوي _
ص: 255
للنصح، أو إرشادي؟ احتمالات.
ولعل ما يشهد للأول إلحاقه تعالى ب﴿وآتوهم من مال الله الذي أتاكم﴾ فإنه أنسب بمقام المولوية.
نعم ﴿إن علمتم فيهم خيراً﴾ بناء على كون معناه (إن كانت الكتابة خيراً لهم)(1) قد يصرفها للإرشاد، بناء على الضابط السادس(2) والثامن(3) وعلى بعض آخر _ كالثاني(4) وغيره _ فتأمل.أما على الضابط المنصور وهو الأول، فلا صارف وكذا على الثالث، وبعض آخر.(5)
وقد يستظهر من جعل (العمل والحرفة) في سياق (الشهادتين)، كونهما مطلوبين للمولى بما هو مولى، فالأمر فيها _ لو ورد _ مولوي.
كما أن مما يدل على (مطلوبية) العمل بأي شكل من الأشكال، ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذنية عن زرارة قال: إن رجلاً أتى أبا عبد الله عليه السلام وقال له: إني لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي، ولا أحسن أن أتجر، وأنا محارَف محتاج؟ فقال: (اعمل، فاحمل على رأسك، واستغن عن الناس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد حمل
ص: 256
حجراً على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه، وإن الحجر لفي مكانه لا يدرى كم عمقه، إلا أنه ثمَّ بمعجزته).(1)
إذ قد يقال: إن ظاهر (اعمل) المولوية، خاصة بقرينة الاستشهاد بعمل رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدل على مطلوبية مطلق العمل حتى (الصعب) والحقير ظاهراً منه، بقرينة تنزله عليه السلام إلى (احمل على رأسك) وهو عمل صعب، ولعله مستحقر في بعض الأعراف.
ولعل في قوله عليه السلام: (استغن عن الناس) دلالة على شدة مطلوبية (اعمل) بل على مولويته، لكراهة الشارع بما هو شارع: الاستعطاء والاحتياج إلى الناس تقصيراً، فيكون ما يرفعه مطلوباً ومحبوباً للمولى.
كما يتضح ذلك بملاحظة رواية تحف العقول المعروفة، وقد ذكرنا في (فقه التعاون) تفصيلاً حول أن (التعليل) ليس قرينة على الإرشاد، فتبقى الرواية الأولى في دائرة البحث عن كون الأمر فيها مولوياً أو إرشادياً.
كما أن المورد _ في الرواية الثانية _ لا يخصص الوارد.
وهذا الإخبار مما يستفاد منه الرجحان والمطلوبية فإنها لازمه(2) فيجري الكلام في أن هذا الطلب _ المستفاد صريحاً من روايات أخرى _ هل هو مولوي أم إرشادي؟
ص: 257
3- ما يتعلق بالمعاش والحياة الشخصية(1)وقال الإمام الصادق عليه السلام (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير)(2)، والمخالطة أعم من المعاملة وهي تشمل مثل الزواج والمباحثة والشراكة.(3)
والنهي وإن كان تنزيهياً لا تحريمياً _ حسب المشهور في مثله _ إلا أنه هل هو تنزيه مولوي _ نصحي؟ أم مولوي _ تشريعي فيفيد الكراهة؟ أم إرشادي؟ ثم هو _ على فرض إرشاديته ليس إلزامياً، بناء على تقسيم الإرشادي للإلزامي وغيره كما هو مسلك الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي _ اللهم إلا فيما وقع مقدمة للحرام.
والظاهر أن النهي عن مخالطة ومعاملة من لم ينشأ في الخير، مبني على الغالب وليس مما عليه (المدار) مطلقاً..
ص: 258
وبعبارة أخرى: هو حكمة وليس علة، فمن نشأ في الخير ولم تحسن معاملته فلا ترجح معاملته، أو من لم ينشأ في الخير وعلم الإنسان أو ظن ظناً معتبراً عقلائياً أنه ممن يلتزم بعهوده ومواثيقه، فإن معاملته راجحة.
اللهم على ملاحظة المصلحة والمفسدة السلوكية فيهما، ولعل الراجح ملاحظة مجموع الجهتين، على أن مصب الرواية لعله يكون لحاظ الجانب الطريقي، فتدبر، وعلى كل التقادير فإن بحث (المولوية) و (الإرشادية) جارٍ وإن كان مما يرجّح المولوية، لحاظ جانب المصلحة السلوكية: مصباً أو قيداً أو تشريكاً.
ومن الأوامر والنواهي المتعلقة بشؤون المعاش والحياة الشخصية مما تجمعه كلمة (النصح)، كلام الإمام الصادق عليه السلام (سلوا الله الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة)(1) فهل هو مولوي _ بأحد قسميه _ للندب، أم إرشادي؟
والظاهر من هذا الحديث ومن غيره: مطلوبية (الغنى) للمؤمن، في الدنيا، ومحبوبيته، وكذا (العافية)، كمطلوبية (المغفرة) في الآخرة و (الجنة) ولذا طلب الإمام عليه السلام سؤالها من الله تعالى.
ص: 259
وقد يعد هذا الحديث من الأدلة على ما ذكرناه من موضع آخر من: أن شأن المولى بما هو مولى ليس طلب ما يصلِح آخرة الإنسان فقط، بل ما يصلح دنياه أيضاً.
فالحديث هذا من صغريات قوله تعالى: ﴿ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة﴾(1) وقال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: (إنها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا، ورضوان الله والجنة في الآخرة) كما في مجمعالبيان(2) ونظيره في الكافي(3)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام (في الدنيا: المرأة الصالحة)، وقال في الصافي: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة» كالصحة والأمن والكفاف وتوفيق الخير.
وفي مجمع البيان: (قيل: العلم والعبادة في الدنيا) ومثله ذكر الصافي.
وقال الصافي: (أقول: كل ذلك أمثلة للمراد فلا تنافي بينها) أي كلها تفسير بالمصداق، وهو الأظهر.
وإذا ثبتت محبوبية أمثال ذلك للمولى، كان الأمر بها مولوياً بناء على
ص: 260
الضابط الثالث للمولوية والإرشادية، وكان من مرجحات كونه مولوياً، على الضابط الأول.
ثم الظاهر أن (سؤال الله تعالى، الغنى) مطلوب قد اجتمعت فيه الجهتان: الموضوعية والطريقية، فإن (سؤاله تعالى) مطلوب في حد ذاته بل هو شرف ما فوقه شرف، ومطلوب لطريقيته للغنى؛ فإنه (علة معدة) و (مقتضٍ)، قال تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني استجب لكم﴾.(1)
ثم إن (مطلوبية الغنى) للمؤمن، هل هي طريقية أم موضوعية أيضاً؟
ولعل مما يؤيد الأول ما رواه علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم العون على تقوى الله، الغنى).(2)
ومما يؤيد الثاني: الرواية السابقة في تفسير الآية؛ إذ أن الإمام عليه السلام فسر (الحسنة) في الآية ب(السعة في الرزق والمعاش) الظاهر في الحسن الذاتي لا الغيري، خاصة بقرينة نظائره في السياق فتأمل.
ولعلنا نتطرق لتفصيل ذلك في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.
ثم أن (سؤال الله الغنى) مما يظهر من السيد الوالد قدس سره حيث عنون الفصل ب (استحباب تحصيل المال الحلال وإنفاقه)(3)، أنه اعتبره مولوياً لا إرشادياً، لكنه ساكت عن كونه مولوياً _ تشريعياً للندب أو مولوياً _
ص: 261
نصحياً، وإن كان الظاهر الأول.
ومن الروايات:
ما ورد عن الإمام أبي جعفر قال قال علي بن الحسين عليهما السلام (لينفق الرجل بالقصد، وبلغة الكفاف، ويقدم منه فضلاً لآخرته، فإن ذلك أبقى للنعمة وأقرب إلى المزيد من الله عز وجل وأنفع في العافية).(1)و (القصد) الاقتصاد و (وبلغة الكفاف) ما يبلغه لما يكفيه، وقد يكون (يقدم فضلاً منه لآخرته) قرينة على كون ما سبقه مولوياً أيضاً فتأمل.
ومنها:
قول الإمام الصادق عليه السلام: (إذا جاد الله تبارك وتعالى عليكم فجودوا، وإذا أمسك عنكم فأمسكوا، ولا تجاودوا الله فهو الأجود).(2)
ولعل (وإذا أمسك عنكم فأمسكوا) لبيان مقتضى القاعدة، ولمن يقع في العَنَت ولا يتحمل عادة وقد يسيء الظن بالله لو جاد فلم يجد عليه، وقد يدعى انصرافه عن مثل أئمة المسلمين، ومن لفّ لفهم، أو من يتحمل عادة، وقد يفهم ذلك من (ولا تجاودوا الله فهو الأجود).
ص: 262
ومنها:
ما عن هشام بن أحمد قال كان أبو الحسن عليه السلام يقول لمصادف: (أغد إلى عزك _ يعني السوق _).(1)
والظاهر أن هذا الأمر مولوي، صدر من المولى بما هو مولى.
ويدل عليه: أن (عزةَ) مثلِ مصادف، عزة للشيعة ورفعة لهم، فهي محبوبة للمولى بما هو مولى للشيعة، بل إن عزته بما هي هي وبما هو هو، مطلوبة؛ فإن ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.(2)
والحاصل أن (عزة) كل مؤمن مطلوبة، موضوعياً وطريقياً، أو نفسياً وغيرياً.(3)
والحديث هذا صحيح إذ قد ورد عن محمد وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن علي بن عطية عن هشام بن أحمد (أحمر).(4)
قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: (الحديث صحيح، وقوله «اغد إلى عزك» أي إلى ما هو سبب له). (5)
ص: 263
أقول: قد يقال إن (اغد إلى عزك) أعم مما ذكره طاب ثراه؛ إذ نفس الجلوس في (المتجر)، عزّ وليس فقط ما يترتب عليه من الاتجار والاستثمار والثراء.
ولعل في قوله (كان أبو الحسن عليه السلام يقول) دلالة على استمرار قول ذلك منه عليه السلام، ولعله كان يتشرف يومياً مبكراً إلى محضر الإمام عليه السلام ليستزيد علماً وتقوىوخلقاً، ويبقى إلى أن ينبهه الإمام عليه ب(اغد إلى عزك) للأخذ بحسنة الدنيا أيضاً _ وهي في المقام حسنة للآخرة كذلك.
ونظائره كثيرة، كما في ما ورد للمعلى بن خنيس ولمولى له وغيرهما، فراجع (الوسائل) و (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) و (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار) وغيرها.
وقد سبق قول الإمام الصادق عليه السلام لرجل محتاج (أعمل، فأحمل على رأسك، واستغن عن الناس).(1)
وقال الإمام الصادق عليه السلام (باشر كبار أمورك بنفسك وكِل ما صغر منها إلى غيرك).(2)
وقد يستظهر منه الإرشاد إلى ما هو الأصلح له، وإن كان يمكن أخذه وأمثاله مولوياً؛ لعناية الإمام بما هو مولى وإمام، بأتباعه، كي لا ينشغلوا بغير الأهم أو بسفاسف الأمور.
ص: 264
ومن الأوامر والنواهي المتعلقة بمكارم الأخلاق، ما ورد من أمير المؤمنين عليه السلام (حصنوا الأعراض بالأموال)(1)، وبمضمونه أحاديث كثيرة تغني عن البحث عن سنده وسندها، إضافة إلى مطابقته للأصول والقواعد.
و (التحصين) أعم من ما كان بنحو العلة المحدثة أو المبقية، أي أعم من الدفع والرفع.
و (العرض) أعم من: ماء الوجه والسمعة الحسنة وكرامة الإنسان، ومن (العرض) بالمعنى الأخص.(2)
والظاهر أنه أعم من عرض الإنسان وعائلته وجماعته وتياره ومجتمعه وأمته وذوي مذهبه ودينه، وهو أهم من المال.
ص: 265
وبناء على كونه(1) مولوياً فإنه يستفاد منه الوجوب وإن كان طريقياً، وأما الاستحباب في غير المعتد به منه(2) فهو للانصراف(3)، وأما دعوى الانصراف عن غير عرض نفسه وأهله، فلعله بدوي، ولو كان فالملاك محكّم.
وبناء على ذلك يجب بذل المال _ مثلاً _ لتكوين الجمعيات والمنظمات التي تهتم بالحفاظ على سمعة حسنة للإسلام والمسلمين أو للشيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام أو للعتبات المقدسة وأهلها أو ما أشبه.
ومن هذا الباب ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره من عدم إجراء بعض الحدود أو كلها مؤقتاً _ والانتقال للتعزير أو الغرامة أو ما أشبه _ لو كان ذلك يضر بسمعة الإسلام والمسلمين، من باب الأهم والمهم، ومثل هذه الرواية تصلح دليلاً أو مؤيداً.
والظاهر أنه(4) مولوي على الضابط الثاني والثالث، بل والأول أيضاً؛ فإنه(5) من شؤون الآخرة ومحبوب للمولى بما هو مولى، والظاهر صدور الأمر منه بما هو مولى فإنه ﴿عزيز عليه ما عنتم
ص: 266
حريص عليكم﴾.(1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إياكم و (فضول المطعم)؛ فإنه يَسِم القلب بالقسوة ويبطئ الجوارح عن الطاعة ويُصِمّ الهمم عن سماع الموعظة، وإياكم و (فضول النظر)؛ فإنه يبذر الهوى ويولد الغفلة...).(2)
والظاهر من (التعليل) لحاظ شؤون الآخرة، فالأمر مولوي بناء على مَن يرى الضابط في المولوية والإرشادية هو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) أو (الدنيا).(3)
كما أنه مولوي عند من يرى الضابط (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته) وكذا في (المبغوضية).
نعم على الضابط الأول الذي ارتضيناه من كونه (ما صدر من المولى بما هو مولى) فهل هو (مولوي تشريعي) أو (مولوي نصحي) أو (إرشادي) للإلزام أو للكراهة؟
الظاهر أنه مولوي _ تشريعي _ للكراهة، إن لم يقع مقدمة لحرام، وإلا فمولوي للحرمة بناء على ترشح الحرمة من ذي المقدمة لها، أو شمول دليل التحريم وانبساطه على مجموع المقدمة وذيها _ كما ارتضاه البعض وصرنا إليه _.
ص: 267
ثم إن (القسوة) رذيلة، وليست محرمة، إلا ما كان منها طريقاً للحرام.
و (الطاعة) أعم من الواجبة والمستحبة.
و (سماع الموعظة) مندوب إلا لو كان مقدمة للواجب من العمل والاتعاظ.
و (الهوى) بين حرام ومكروه و (الغفلة) رذيلة، كذلك.
ثم الظاهر إن ما عدا العلة الأولى والرابعة والخامسة من العلل الخمسة المذكورة في الرواية، مقدمية وغيرية، أما الأولى فإنها مذمومة بالذات، وكراهتها نفسية، وقد تقع مقدمة للحرام فتحرم على المبنى.
وقال الإمام الباقر عليه السلام لمحمد بن مسلم _ وكان رجلاً موسِراً جليلاً _ (تواضع) قال الراوي: فأخذ قوصره من تمر فوضعها على باب المسجد، وجعل يبيع التمر... ثم أخذ رحى وقعد على بابه وجعل يطحن.(1)
و (التواضع) على أربعة أقسام _ كما ذكره السيد الوالد قدس سره _: التواضع لله، وللناس، وللعلم، وللعمل، وإطلاق روايات التواضع تشملها بأجمعها، والانصراف للأولين، بدوي.
ولا ريب في كون التواضع لله من المستقلات العقلية، وقد يستظهر
ص: 268
كونه كذلك بالنسبة للبواقي.. فعلى هذا هل الأمر بالتواضع مولوي أو إرشادي؟
(المرجع): الضابط في الإرشادية والمولوية، كما فصلناه في مبحث آخر، وفي المقام هل قوله عليه السلام (تواضع) مولوي أو (إرشادي)؟
ربما يقال: إنه حيث لا توجد قرينة مقامية معيِّنة فإنه محكوم بحكم كليّة.
وغير خفي أن ما قام به محمد بن مسلم كان من باب المصداق، ولعل ترك الإمام تحديده، كي يتعود الأصحاب على تطبيق الكليات على الجزئيات، بل الاجتهاد، هذا.
والحديث عن مكارم الأخلاق ومفرداتها من حيث المولوية والإرشادية، يستدعي بحثاً طويلاً بل ربما مجلداً كاملاً، فلنتركه لوقت آخر إذا شاء الله تعالى.
ص: 269
ومنها:
الأوامر المتعلقة ب(النظم والنظام)، أو المتعلقة بعوامل وأسباب وعلل النظم والنظام، وكذا جملة من الأوامر المتعلقة بما تتحقق به كل من: السعادة أو التقدم أو الإزدهار.
والنسبة بين الأولين(1) هي العموم والخصوص من وجه، ومع الأخير(2): المطلق، فتأمل.(3)
وكذا ما جعل لها من قوانين وأحكام وطرق وسبل وضمانات: كالشورى، وتدبر العواقب، والتنافس، والحرية في إطارها الصحيح، وكنظام العقوبات ومنه الحدود والتعزيرات، والتعاون، والمواساة، والايثار، والأخوة الإسلامية، والأمة الواحدة، بل: وذكر الله تعالى،
ص: 270
والصلاة في أوقاتها(1)، والتوسل بالأنبياء والأوصياء(2) إلى غير ذلك مما يحتاج بيان كل واحدٍ منها إلى كتاب، وقد فصل السيد الوالد قدس سره الحديث عنها في (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) وفي (موسوعة الفقه)، في كتب الحقوق والقانون والسياسة والإدارة والاقتصاد والدولة الإسلامية وغيرها، وسنشير هنا إشارة عابرة إلى بعضها.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم».(3)
وهل وصيته كانت بما هو إمام مفترض الطاعة؟ أو بما هو عالم بالأصلح لأنه باب مدينة علم الرسول؟ أو بما هو أب شفيق؟
الظاهر الأول _ وإن لم تكن هذه الجهات مانعة جمع _، فالوصية مولوية، لكن هل هي (مولوية _ تشريعية) فيستحق العقاب على المخالفة، أم هي (مولوية _ نصحية) فلا وإن كانت ملزِمة؟ الظاهر الثاني، إلا بلحاظ بعض (الغايات) فيدور الأمر مدارها، بناء على بعض
ص: 271
الأقوال في المقدمة الموصلة.(1)وتفصيل بعض القول في ذلك إنه وردت روايات عديدة تأمر ب(النظم والنظام) أو تتحدث عن العلة الغائية أو غير ذلك، ومنها:
قوله عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم).(2)
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر... والأمانة نظاماً للأمة والطاعة تعظيماً للإمامة).(3)
وقال عليه السلام: (وأعظم ما افترض سبحانه _ من تلك الحقوق _ حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم).(4)
وقد يستفاد من هذه الروايات (وجوب) النظم والنظام، وقد يستظهر أن الأمر بها مولوي، وبيان ذلك بايجاز:
ص: 272
إن (الوصية) وإن اشتهر على بعض الألسن أنها للإرشاد، إلا أن الظاهر أنها تنقسم إلى مولوية وإرشادية، فإن المولى قد (يوصي) عبده، بما هو ناظر لمصلحته أي ملاحظاً المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه، صرفاً.
وقد يوصي عبده معملاً مقام مولويته أي يوصيه بما هو مولى.
ويشهد له قوله تعالى ﴿يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين﴾(1) وقوله تعالى ﴿ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾(2) وقال تعالى ﴿ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله﴾.(3)
ومن البين أن متعلق الوصية في هذه الآيات: حكم مولوي إلزامي؛ فإن الله بما هو مولى قرر للذكر مثل حظ الأنثيين وفرضه، وهو حكم تكليفي ب(الإعطاء) ووضعي ب(الملكية).
كما أن (لا تموتن إلا وأنتم مسلمون) نهي مولوي من يعقوب لبنيه.
وأما
(أن اتقوا الله) فهو أمر مولوي للإيجاب والإلزام.
ولا تلزم محاذير اللغوية، أو تعدد استحقاق العقاب بالمخالفة، أو التسلسل، وغيرها من إعماله جل اسمه مقام مولويته، وقد فصلنا ذلك
ص: 273
في فقه التعاون وفي مباحث الأصول.
إلا أن يقال: إن الوصية (دال) وتلك (مداليل) والدال إرشاد لها ووعظ بها، فلا تسري المولوية من المدلول للدال.لكن فيه: اتحادها معها(1) اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه، فقد أطلقت عليها(2) ولذا يصح قولك (وصيتي هي أكرم زيداً) بدون تكلف تأويل أو تقدير.
قال السيد السبزواري رحمه الله: (و "أن" في قوله تعالى "أن اتقوا الله" أما على أنها مصدرية بتقدير الجار أي بأن «اتقوا الله»(3)، أو تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول، وهو يرجع للأول أيضاً).(4)
لكن لعل الفرق أنه على الأول: فإن «أن اتقوا الله» متعلَّق للوصية، وعلى الثاني: هي كعطف البيان ولا حاجة لتضمينها معنى القول لتصحيح حذف الجار.(5)
ويوضحه: أن (الوصية) من (وصي) (ووصي أصلٌ يدل على وصل شيء بشيء.. ووصيت الليلة باليوم، وصلتها، وذلك في عمل تعمله،
ص: 274
والوصية من هذا القياس، كأنه كلام يوصى أي يوصل) كما في معجم مقاييس اللغة، مادة وصي(1).
وقال في (المفردات): (الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ من قولهم أرض واصية: متصلة النبات)(2).
وفي مجمع البحرين: (الوصية فعيلة من وَصَى يصي إذا أوصل الشيء بغيره لأن الموصي يوصل تصرف بعد الموت بما قبله)(3).
وقال في الجواهر: (وذكر غير واحد من الأصحاب أن الوصية منقولة من وصي يصي بالمعنى الأخير)(4) _ وهو إذا وصلته به _.
وقال في مواهب الرحمن في تفسير القرآن: (مادة وصي تأتي بمعنى الوصل والعهد؛ لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته، ويوصل تصرفاته وأعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضاً).(5)
والظاهر أن معنى العهد يعود للوصل أيضاً فإنه نوع وصل.وقال في مواهب الرحمن أيضاً: (الوصية العهد والأمر، ومنه الوصية المعروفة)(6)، و (الأمر) مصداق للوصل، ولوورد كمعنى مستقل للوصية، فهو دليل أيضاً على ما صرنا إليه من انقسام (الوصية) للمولوية والإرشادية.
ص: 275
فالوصية على هذا إن كانت مولوية كانت وصلاً لإرادته بعبده، أو عهداً منه إليه بأن يفعل، بما هو مولى عليه _ بناء على التغاير.
وإن كانت إرشادية كانت وصلاً لوعظه بعبده.
وقال في الجواهر (وهي: إنشاء الموصي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة)(1) وهو وإن كان تفسيراً للمعنى الإصطلاحي إلا أنه يشعر بمعناه المنقول منه أيضاً.
وعلى ما سبق فإن قوله عليه السلام: (أوصيكما بتقوى الله ونظم أمركم) وصية مولوية بنظم الأمر، كما هي وصية مولوية بالتقوى، فإنها (وصل لإرادته بعبده) و (عهد منه إليه بأن يفعل كذا) و (أمر بالمتعلق) و (إنشاء منه عليه السلام لاعتبار أمر _ هو التقوى والنظم _ في ذمة المخاطب ومطلق من بلغه الكتاب) فيدل على وجوب نظم الأمر إلا لو علم بارتكاز أو مناسبة حكم وموضوع(2) أو غير ذلك، عدمه، فتأمل.
أو يقال: إن الوصية دالة على الطلب، وهو جنس للوجوب والندب _ على قول _ فيكون الموصى به، بين واجب ومندوب، لكن الأصل فيه الوجوب؛ لما ذهب إليه الميرزا النائيني رحمه الله من: أن (الأمر) لا يدل وضعاً على أكثر من الطلب، لكن عنوان الوجوب ينتزع منه نظراً
ص: 276
لحكم العقل بلزوم الامتثال إذا صدر من العالي ولم يقترن بالترخيص، أو لما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره من: دلالة الأمر على طلب المولى وإرادته، وإرادة المولى حقيقة تشكيكية، ولأن شدتها من سنخها فيكون مقتضى الإطلاق الإرادة الشديدة، وقد أشرنا إلى ذلك في فقه التعاون على البر والتقوى.(1)
وكلا الوجهين جارٍ في (الوصية) كجريانه في (الأمر) وإن ناقشنا فيهما في محله.
بل نقول: إن الضوابط التي ذكرت للمولوي والإرشادي من الأوامر والنواهي، جارية بعينها في (الوصية)؛ إذ المولوي منها:
على القول الثاني (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) وقد يقال إن المقام كذلك، خاصة بلحاظ سوقه مع (تقوى الله) بوزان واحد. وإن تضمن مصلحة الدنيا أيضاً فإن المقياس (المصب) فتأمل.
وعلى القول الثالث: (ما كان محبوباً للمولى، وقد صدر لجهة محبوبيته).
وعلى القول الخامس: (ما عدا المستقلات العقلية).
وعلى القول التاسع: (ما ترتب عليه الثواب والعقاب) وهكذا.ولا يستبعد كون المقام كذلك؛ فإن (النظم) على ما يظهر من هذه
ص: 277
الرواية وغيرها (محبوب للمولى).
نعم قد يقال إن (النظم) من المستقلات العقلية، فالأمر فيه _ على الضابط الخامس _ إرشادي، وفيه: الإشكال مبنى كما فصّل في فصل الضوابط.
ثم إن إضافة (نظم) ل(أمركم) يفيد العموم؛ نظراً لتعلق الوصية ب(جنس النظم) و لإضافة (الأمر) إلى (الضمير) الظاهر في عموم أمورهم.
ثم الظاهر إن (أمركم) يشمل: الشؤون العامة والشؤون العائلية والشؤون الشخصية؛ فإن كل ذلك من مصاديق (أمركم)، كما يشمل (الشركات) و (الاتحاديات) و (النقابات) وسائر التجمعات أيضاً، لصدق (أمركم) على كل تلك المصاديق حقيقة، خاصة بقرينة قوله عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي... ومن بلغه كتابي) فإن كل أولئك قد بلغهم كتابه عليه السلام.
وأما قوله عليه السلام: (فرض الله الأمانة) _ أو (الإمامة) كما في خطبة الصديقة الزهراء عليها أفضل الصلاة وأزكى السلام _ (نظاماً للأمة..)
فإن (نظاماً للأمة) هو الغاية للأمانة، وحيث أنها واجبة لصريح قوله عليه السلام (فرض الله الأمانة) وكما عليه الإجماع يكون واجباً؛ فإن ما
ص: 278
أوجبت لأجل أدائها إليه، يكون لازم التحصيل دون ريب.
وإلا لما وجب الموصل إليه، لأجله، وحيث كان الأمر بالموصِل مولوياً، كان الموصَل إليه مطلوباً مولوياً أيضاً.
وبعبارة أخرى: المقام من قبيل العنوان والمحصِّل وقد فصلنا في (فقه التعاون على البر والتقوى) الحديث عن أن (العنوان) لو وجب كان (المحصِّل) مجرى للإحتياط.
لكن قد يقال: (الغاية) المذكورة (حكمة) وليست علة.
لكن فيه: الظاهر والمتفاهم عرفاً (العلية) وهي (الأصل).
إلا أن يجاب بكثرة بل غلبة كون ما يذكر في مقام التعليل أنه (حكمة) فتأمل، هذا. وبحث (الحكمة والعلة) بحاجة إلى رسالة مستقلة.
كما يدل عليه قوله عليه السلام: (وأعظم ما افترض الله... فجعلها _ أي حقوق الرعية على الوالي وبالعكس _ نظاماً لالفتهم وعزاً لدينهم).
وصريح كلامه عليه السلام، أن حقوق الرعية على الوالي والوالي على الرعية _ وهي أعظم ما افترض الله _ قد جعلت (نظاماً لالفتهم)، ويدل على وجوبه أيضاً: السياق؛ فإن إعزاز الدين واجب فيكون ما جعل معه _ بل قبله _ غاية، واجب التحصيل كذلك.
ص: 279
وقد جاء حول (التدبير) كما في أمالي الطوسي عن أيوب بن الحر قال سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله عليه السلام: بلغني أن الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب؟ فقال أبو عبد الله: (لا، بل هو الكسب كله، ومن الدين التدبير في المعيشة).(1)
وإذا كان (التدبير في المعيشة) من الدين كما هو صريح هذه الرواية، كان محبوباً للمولى بما هو مولى، فيكون الأمر به مولوياً على الضابط الثالث للمولوية، وكان من مرجحات كونه مولوياً، على الضابط الأول المختار.
وروى الصدوق في أماليه عن عبد العظيم الحسني عن الإمام أبي جعفر الثاني عن آبائه عليهم السلام قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: التدبير قبل العمل، يؤمنك من الندم).(2)
وقد فصلنا في موضع آخر أن (التعليل) لا يصرف الأمر ونظائره للإرشادية، كما فصلنا في مواضع أخرى أن لحاظ المصلحة الدنيوية ليس ملاك الإرشادية والمولوية، إضافة إلى أن (الندم) أعم من موارد الدنيوية، لشموله الأخروية؛ فإنه بحسب المتعلق.
ص: 280
وروى الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من حجر مرتين).(1)
وتصدير الحديث ب(المؤمن) ربما يشهد بأن هذه الصفات مطلوبة منه بما هو مؤمن، فيدل على كونها محبوبة للمولى بما هو مولى، وقد فصلنا وجهه في (شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية) عند البحث عن آية ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾(2) فليراجع.
وفي معاني الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله (لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق).(3)
و(العقل) وكماله وتمامه، هو أول مطلوب للباري تعالى، ويشهد له ما ورد من الروايات حول العقل ومنها قوله تعالى (ما خلقت خلقاً أحب إلي منك.. بك أثيب وبك أعاقب).(4)
ومن وصية النبي صلى الله عليه وآله لمن طلب منه وصية قال: (أوصيك إذا أنت هممت أمراً فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غياً فانته منه).(5)
ولعل ظاهر (الرشد) و (الغي) هو ما كان بلحاظ مصالح الآخرة، لكن الأظهر أنه أعم، ولا يضر ذلك باستظهار المولوية على غير الضابط الثاني.
ص: 281
والحاصل أن أوامر التدبير _ لو وردت وكلما وردت _ فإنه يحتمل فيها:
كونها إرشادية _ إن روعي فيها مصلحتها الدنيوية، على الضابط الثاني، أو صدرت من المولى لا بما هو مولى بل بما هو ناصح واعظ.
كما يحتمل كونها مولوية إن روعي فيها مصلحتها الأخروية، أو ادعي كونها محبوبة للمولى وقد صدر الأمر بها بما أنها محبوبة له _ أو صدرت من المولى بما هو مولى وإن كانت المصلحة دنيوية _ ويرشد إليه قوله عليه السلام: (ومن الدين التدبير في المعيشة).ولعله يرشد له أيضاً قوله: (جيد التدبير لمعيشته) لتصدير الحديث _ كما سبق _ ب(المؤمن) الدال على أن ذلك من شأن إيمانه، فيكون مأموراً به بما هو مؤمن ومولى عليه، ويكون الأمر به بما الآمر مولى معملاً مقام مولويته.
والظاهر أن (التدبير في المعيشة) مقدمي، فيجب حيث تجب، ويستحب حيث تستحب، ويحرم حيث تحرم _ كما لو كانت المعيشة معيشة محرمة(1) فيكون التدبير لها كذلك.
نعم لا تبعد المصلحة السلوكية في (التدبير) كما ذكرنا نظيره في (التعاون) في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) ولعله يمكن
ص: 282
الاستشهاد له بقوله عليه السلام (ومن الدين التدبير في المعيشة) _ فتأمل.
وأما ما ورد حول (الحدود) ومن مصاديقه (الحدود والتعزيرات بالمعنى الأخص) فمنه قوله تعالى ﴿تلك حدود الله﴾ (1)وهي إشارة إلى ما تقدم من الأحكام في شأن اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، بدءً من أول السورة، إلى قوله تعالى: ﴿ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين﴾.(2)
وقد سبق في الآيات السابقات ذكر مصاديق لحدود الله في الإرث، وذلك ك: ﴿لكم نصف ما ترك أزواجكم﴾(3)، وقاعدة لا ضرر ﴿غير مضار﴾(4) واليتامى ﴿آتوا اليتامى أموالهم﴾(5) وغير ذلك.
وفي آية أخرى ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله﴾.(6)
كما ذكر الله تعالى في موضع آخر، مصاديق أخرى لحدود الله ك: ﴿المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء..
ص: 283
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة..﴾.(1)
ثم قال: ﴿الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان... تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون﴾.(2)وفي آية أخرى: ﴿... هن لباس لكم وأنتم لباس لهن... وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر... تلك حدود الله فلا تقربوها﴾.(3)
وفي الصافي: (﴿حدود الله﴾ حرمات الله ومناهيه)(4).
كما وردت الحدود في قوله تعالى: ﴿وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه﴾(5) في سورة الطلاق، حول تحديده تعالى إحدى حقوق المطلقة، وفي سورة المجادلة حول الظهار وكفارته.
ص: 284
ويقع البحث هنا حول قوله تعالى: ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها﴾(1) و ﴿تلك حدود الله فلا تقربوها﴾(2) فهل النهي مولوي أم إرشادي؟
فقد يقال: بالإرشادية لنظير ما ذكر في أوامر الطاعة من: لزوم التسلسل لو قلنا بالمولوية أو اللغوية أو تحصيل الحاصل، وقد فصلنا في (فقه التعاون) و (مباحث الأصول _ مباحث القطع) الجواب عن ذلك، فلا بأس بالالتزام بالمولوية فيها.
وأما الحدود بالمعنى الأخص، فقد وردت فيها آيات عديدة منها: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد﴾(3) و ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون﴾(4) و ﴿الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون﴾(5) و ﴿من قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة ودِيَةٌ مسلمة إلى أهله﴾(6) قال في الصافي: (أي فعليه تحرير رقبة)(7).
وقال تعالى: ﴿واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في
ص: 285
المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً﴾.(1)
ومن البين أن تلك الحدود _ تكليفية كانت أو وضعية _ (حدود مولوية) فإن ﴿ويتعد حدوده﴾ في الآية الأولى، إما عطف بيان وتفسير ل﴿ومن يعص الله ورسوله﴾ أو من باب ذكر الخاص بعد العام، والأول أظهر، إضافة إلى دلالة ﴿ويدخله ناراً﴾ على المولوية دون ريب.
كما أن ﴿تلك حدود الله﴾ في الآية الأولى والثالثة، تشير _ فيما تشير إليه _ إلى الأحكام الوضعية؛ فإن ﴿لكم نصف ما ترك أزواجكم﴾ حكم وضعي؛ إذ اللام للملك، فنصف ما تركته الزوجة يدخل قهراً في ملك الزوج. و ﴿الطلاق مرتان﴾ حكم وضعي فإن له حق الطلاق مع الرجوع مرتين وحق الطلاق بدونه في الثالثة. و ﴿غير مضار﴾ و ﴿آتوا اليتامى أموالهم﴾ حكم تكليفي، وكذا ﴿كلوا واشربوا﴾ حكم للإباحة، ولعل في ﴿لهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ إشارة للحكمين: التكليفي والوضعي، أي لهن من الحقوق ومن الأحكام مثل الذي عليهن من الحقوق والواجبات، فلها حق القسم وحق النفقة وعليها واجب الإطاعة في الاستفراش، وللزوج عليها حق التمكين وتجب عليه النفقة.
كما أن ﴿تلك حدود الله﴾ تصلح دليلاً أيضاً على ما بيّناه في موضع آخر من: أن المولوية والإرشادية لا تختص بالأحكام التكليفية بل تشمل الوضعية أيضاً.
ص: 286
إضافة إلى أن (الحد) بمعنى (المنع) و (الحد) الحاجز بين الشيئين و (حدود الله): شرائعه وواجباته ومحرماته التي لا يجوز تجاوزها ومنها قوله عليه السلام: (للصلاة أربعة آلاف حد)(1)؛ إذ الشرائع حدود مضروبة لا يجوز للمكلف تخطيها وتجاوزها دون إذن من مالكها وجاعلها، وقد سمي الحد حداً لمنع المكلف من اقتحامه وتجاوزه.
قال في مجمع البحرين: (﴿أقمتم حدوده﴾ أي أحكام وشرائعه)(2) وقال (الحد الحاجز بين الشيئين ومنه حد عرفات)(3) وقال (ومنه: حدود الإيمان، ويجمعها: الشهادتان والإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله والصلاة... والولاية).(4)
وقال في المفردات: (وحد الدار ما تتميز به عن غيرها) و (حد الزنا والخمر سمي به لكونه مانعاً لمتعاطيه عن معاودة مثله، ومانعاً لغيره أن يسلك مسلكه).(5)
وبذلك ظهر أن ما ذكر من (وحدود الله هي شرائعه وأحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة)(6)، تفسير بالأخص، خاصة مع اشتمال ما سبق في الآية الشريفة على الحلالك﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم﴾ و ﴿كلوا واشربوا﴾ ولعلهما مستحبان في الجملة. والمستحب ك﴿وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ ولعل منه ﴿فالآن باشروهن﴾ لاستحبابه والواجب
ص: 287
ك﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾. والحرام ك﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾، إلا أن يكون بلحاظ ﴿فلا تقربوها﴾ فتأمل.
ثم إن من البين أن الحدود بالمعنى الأخص هي أيضاً، داخلة في دائرة المولوية لصريح قوله تعالى ﴿كتب﴾(1)، ولا يضرّ به، تعليله بمصلحة دنيوية في الآية اللاحقة إذ هي مصلحة أخروية أيضاً _ هذا صغرى _ أما كبرى، فقد أوضحنا في موضع آخر أن الملاك في المولوية والإرشادية، ليس المصلحة الدنيوية أو الأخروية، بل إعمال مقام المولوية وعدمه.
ثم إن ﴿اجلدوهم﴾ مولوي دون نقاش.
ولا يخفى أن (الحدود) شرعت لمصلحة نوع الإنسان؛ فإن (الجريمة) لو لم تُمنع و (المجرم) لو لم يُردع، فإن الفساد سيعم المجتمع كله، وتلزم الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام ونظائر ذلك من المفاسد، ولذا قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(2) فإن أولي اللبّ يدركون ذلك، و (القصاص) سبب التقوى، والوقاية من انتشار القتل العمد والجرح العمد.
نعم هناك بحث تطرق له السيد الوالد قدس سره بالتفصيل، وأشار لبعض جوانبه عدد من الفقهاء، وهو أن (الحدود) تسقط أو تتحول إلى التعزير
ص: 288
أو تؤجل في صور وحالات عديدة:
منها: صور الشبهة الخمسة، وهي: شبهة الجاني، وشبهة الشاهدين، وشبهة القاضي، وشبهة المجتهد المرجع للتقليد، وشبهة شورى الفقهاء.
ومنها: صور الاضطرار والإكراه والإلجاء _ على تفصيل فيها _ وأصله واضح.
ومنها: صورة عدم تطبيق قوانين الإسلام في السياسة والاقتصاد والاجتماع من: حريةٍ وتعدديةٍ وشورى وأخوةٍ وعدلٍ وإحسان، وبيت مالٍ يتكفل حوائج المحتاجين، وحريةِ إقامةٍ وحضرٍ وسفرٍ، وتجارةٍ وزراعةٍ واستيرادٍ وتصدير، وغير ذلك، فإنه إذا لم يطبق الإسلام بكل جوانبه أو بالأعم الأغلب منها، فإنه لا يصح إجراء (الحدود).
بل اللازم إجراء (الحد والتعزير) على الحاكم المستبد الجائر، الذي عطّل قوانين الإسلام، ثم أراد إجراء الحد على آحاد الناس، كما يشير إليه كلام الإمام الرضا، عليه السلام مع المأمون، عندما أراد إجراء الحد على السارق الفقير الذي ادعى أنه سرق اضطراراً لا اختياراً، فقال له الفقير: (ابدأ بنفسك فطهّرها ثم طهّر غيرك، وأقم حد الله عليها ثم على غيرك).
فالتفت المأمون إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: ما تقول!؟
فقال عليه السلام: إنه يقول (سرقتَ، فسرق)، فغضب المأمون غضباً شديداً... فقال الفقير: (.. والأخرى أن الخبيث لا يطهّر خبيثاً مثله، إنما يطهّره طاهر، ومن في جنبه حد، لا يقيمالحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه. أما سمعت قول الله عز وجل ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
ص: 289
وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون﴾).
فالتفت المأمون إلى الإمام الرضا عليه السلام فقال: ما ترى في أمره؟
فقال عليه السلام: (إن الله جل جلاله قال لمحمد صلى الله عليه وآله ﴿قل فلله الحجة البالغة﴾ وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة، وقد احتج الرجل...) وقد احتجب المأمون عن الناس بعد ذلك، واشتغل بأمر الإمام الرضا عليه السلام حتى سمّه، فقتله).(1)
ومنها: صورة ما لو أوجب تطبيق الحدود ضرراً أكبر، من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.
ومنها: صورة ما لو قَابَلَنا الكفارُ بالمثل، وكان عدم ذلك أهم، بنظر شورى الفقهاء.
ومنها: غير ذلك، وتفصيل ذلك يطلب من المفصلات.(2)
وأما قوله تعالى: ﴿فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن﴾(3) فهل هو مولوي أو إرشادي؟
قد ينتصر للإرشادية بسبق قوله تعالى ﴿واللاتي تخافون نشوزهن﴾ فإن ما أمر به أو نهى عنه لصرف لحاظ ما فيه من المصلحة أو المفسدة من غير إعمال المولى مقامه، إرشادي، فلا كراهة ولا حرمة لترك ذلك،
ص: 290
وقال السيد الوالد: (لكنه إرشاد وليس بواجب)(1)، وإذا كان إرشاداً فإنه (يتبع) المصلحة والمفسدة، وهما أمران متغيران تبعاً للأوضاع والأحوال وشرائط الزمان، والأفراد والأمم، إلا أن يتمسك بالأصل في الطبيعة الإنسانية وما عداه خلافه، فهو ثانوي، والآية تشير لمقتضى الطبع الأولي.
وكذلك الحال على الضابط الثاني للإرشادية، وهو:
(ما أنشأ بلحاظ المصلحة الدنيوية) فإن مصلحة الزوج (بل الزوجين) الدنيوية روعيت في تشريع الهجر والضرب الخفيف لدى عصيانها.
وقولنا (مصلحة الزوجين) روعيت في تشريع (الضرب الخفيف)؛ لأن انهدام الأسرة بتفتتها أسوء للمرأة أيضاً فضربها الخفيف، مع فرض عصيانها وطغيانها، وبقصد أن ترجع الحياة لطبيعتها الملائمة، أنفع لها وأحمد عاقبة من تركها تسترسل في العصيان والطغيان، وذلك كمن يجري عملية جراحية، فإنها مؤلمة إلا أنها لصالحه مآلاً.
وقد ينتصر للمولوية بسبق قوله تعالى ﴿الرجال قوامون على النساء﴾ إذ هذه (القوامية) مجعولة من المولى بما هو مولى، وهي:
1- تكوينية ﴿بما فضل الله بعضهم على بعض﴾2- وتشريعية مشروطة ﴿بما أنفقوا من أموالهم﴾ فما يتفرع عليه من ﴿واللاتي... فعظوهن...﴾ مولوي أيضاً.
ص: 291
لكن الظاهر أنه مولوي للندب مع شروطه، أو مولوي في تشريع جوازه إذ ضرب الغير حرام بالعنوان الأولي، وقال السيد السبزواري قدس سره: (والأمر في المقام للإباحة، ويمكن أن يكون للندب، لأنه من المعروف)(1)، فلو ترك الموعظة وهجر المضجع والضرب _ المقيد في الروايات بالخفيف _ كان على هذا الرأي _ مكروهاً(2) أو جائزاً نظراً لإمكان غضِّه طرفَه عن حقه، بل مطلقاً.
نعم ربما يقال: بكون تركه محرماً _ في الجملة _ مقدمياً لو أدى إلى طغيانها وهدم الحياة الزوجية وضياع الأولاد بنين وبنات؛ فإن المولى بما هو مولى يريد استقرار الحياة الزوجية وعدم تخريبها؛ فإن (الأسرة) هي أساس بناء المجتمع فلو انهارت، إنهار.
لذا يأمر مولوياً بالوعظ والهجر والضرب إن توقف إصلاحها على ذلك، نعم في الدرجات الخفيفة من الخراب، فإن ترك الوعظ والهجر والضرب، مكروه.
كما أن العكس صحيح أيضاً، فلو أدى (الضرب) إلى هدم الحياة الزوجية وضياع الأولاد وطغيانها الأكثر، كما هو المشاهد في كثير من النساء، خاصة في هذا الزمن، حَرَم الضرب لكونه مقدمة الحرام.
ص: 292
قال السيد الوالد في (تبيين القرآن): (فإن ضرباً تأديبياً خفيفاً بشروطه يُبقي كيان الأسرة، خير من انهدامها بسبب عواطف طائشة ويجب أن يكون الضرب غير مبرح(1) ولا مدم، حتى قال البعض إنه بالسواك)(2) وقد تبع هذا البعض قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في معنى الضرب (إنه الضرب بالسواك)(3) وإن اعتبره السيد السبزواري مصداقاً(4) وورد في رواية (من لا يحضره الفقيه) عن الإمام الصادق عليه السلام: (والضرب بالسواك وغيره ضرباً رفيقاً).(5)
وغير خفي أن الهجر والضرب يجوز _ بالمعنى الأعم _ الصيرورة إليهما، إن احتمل تأثيره في إصلاح حالها وعودة الحياة إلى طبيعتها وإلا _ بأن كان يزيدها تعنتاً ويزيد الأمور إعضالاً، ويزيد من اتساع الخرق على الراقع _ فإنه غير مشرَّع؛
أ-إذ الحكمة من تشريعة ردع النشوز فلو زاد النشوز وأكّده لم يجز مطلقاً أو في بعض مراتبه.ب-ولدلالة (فإن أطعنكم) على أن تشريعه _ أو الإرشاد إليه _ لغرض إرجاعها إلى الإطاعة، فإن أنتج عكسه، لم يشرّع.
ص: 293
سلمنا لكن الانصراف، لعله بيِّن.
ج-ولأن عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيدة باحتمال التأثير، وقد يقال: إنه يجب أن يكون الضرب ضرب تأديب فقط، لا ضرب انتقام وتشف وعدوان وطغيان؛ فإذا كان كذلك فإنه محرم، فإن ظاهر ﴿واللاتي تخافون نشوزهن... واهجروهن واضربوهن﴾ إن الهجران والضرب لدفع النشوز، وليس للانتقام والعدوان.
كما ينبغي أن يعلم أن حقه عليها، منحصر في الاستفراش(1) وفي الخروج من البيت على المشهور، وقيده السيد الوالد بكونه (بالمعروف) لقوله تعالى: «وعاشروهن بالمعروف» فلا حق له بمنعها من الخروج لزيارة والديها مثلاً بالقدر المتعارف لمثلها في وضعها، في أعراف البلد، مما لا يضر بحقه العرفي في الاستمتاع.
فما عدا هذين الحقين، لا حق له عليها، كما يتوهمه كثير من الناس فلا يجب عليها، الطبخ والكنس وحتى إرضاع الطفل وشبهه، نعم لها بذلك أجر عظيم مذكور في الروايات الشريفة.
والحاصل أن مولوية أمر (اهجروهن، واضربوهن) لا تتوقف على القول بأنه للوجوب، بل تصح المولوية مع القول بأنها للندب بل حتى مع القول بالجواز _ فإن الأمر عقيب توهم الحظر للجواز، وكذلك الأمر بعد الحظر؛ فإن الضرب محرم بعنوانه الأولي كما سبق، فالأمر بعده للجواز فهذا تشريع
ص: 294
لجواز الضرب وليس صرف إرشاد إليه.
وأما الضابط الثاني فقد فصلنا في موضع آخر أنه غير تام فإن (المولوية) لا تنحصر فيما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة، بل لنا النقاش صغروياً بأن مصلحة الزوج _ بل الزوجين _ الأخروية أيضاً هي في استقرار الحياة الزوجية، ولو كان بضربها ضرباً خفيفاً لو انحرفت عن الجادة لترجع إلى جادة الصواب.
قال السيد الوالد: (وقد ذكرنا إنه لا يستبعد حق المرأة في ضرب الرجل إذا فعل المنكر، لأنه لا دليل على الخروج عن إطلاقات أدلة النهي عن المنكر عند من يرون الوصول إلى حد الضرب).(1)
إجمال شروط جواز الضرب
والحاصل: إن (ضرب الزوجة) مشروط بشروط:
أولاً: أن لا يكون (نشوزها) من باب الجهل بالحكم، قصوراً.
ثانياً: أن لا يكون (نشوزها) من باب الجهل بالموضوع، قصوراً _ ولعله يلحق بهما التقصير في الجملة، فتأمل.
ثالثاً: أن لا يكون (نشوزها) لإنكارها الحكم أو الموضوع، لشبهة.
رابعاً: أن لا تكون مخالفتها زوجها، لاختلاف اجتهادها أو تقليدها في حق الخروج من المنزل لها مطلقاً، أو فيما لو كان في دائرة «عاشروهن بالمعروف».
خامساً: أن لا تكون مخالفتها من باب الاضطرار أو الإكراه أو الإلجاء.
ص: 295
سادساً: أن لا يكون من باب المقابلة بالمثل في الجملة.(1)سابعاً: أن لا يكون لعدم انفاقه عليها.
ثامناً: أن يكون ضربها تأديبياً، الغرض منه التربية، لا التشفي والانتقام.
تاسعاً: أن يكون خفيفاً.
عاشراً: أن يحتمل تأثيره في إصلاحها.
الحادي عشر: أن لا يسبب سوء سمعة للإسلام والمسلمين.
الثاني عشر: أن يكون في حدود (حقّه) وهو الإطاعة فقط في أمر الاستفراش، ويضاف له الخروج من المنزل أكثر من حقها العرفي _ لا أن يضربها لعدم تنظيف البيت أو الطبخ أو حتى إدارة الأطفال _ وإن كان لها بذلك أجر عظيم، إلا أنه ليس واجباً عليها، فلا يحق ضربها لأجل ذلك.
الثالث عشر: أن لا يزاحم بأهم آخر.
الرابع عشر: ويضاف لذلك أن هذا حق متقابل، فكما له ضربها في حدود النهي عن المنكر، لها أيضاً ضربه في حدود النهي عن المنكر، وبكافة ضوابطه المذكورة في بابه.
وواضح أن خيار الضرب سواء منه لها، أم منها له، خيار لا يصار إليه إلا عند الضرورة والإضطرار، فهو كأكل الميتة أو كالعملية الجراحية.
ص: 296
ثم إن هنالك احتمالاً آخر في (اهجروهن واضربوهن) غير كونه مولوياً للاستحباب، أو إرشادياً للمصلحة، وهو كونه للإباحة، لكون الأمر بعد الحظر، فإن هجرهن وضربهن محظور ومحرم، إلا لو نشزت، لكنه خلاف سياق الآية، ولعله خلاف المتفاهم عرفاً منها، كما أنه خلاف المشهور _ فتأمل.
ص: 297
6
ومنها: شؤون الحياة الاقتصادية: كالملكية وأسبابها، من بيع وصلح وإجارة، وغيرها.
﴿لكم رؤوس أموالكم﴾
قال تعالى ﴿فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون﴾(1).
وظاهر (اللام) الملكية لا الاختصاص، فالآية ظاهرة في الحكم الوضعي، وإن استتبعه التكليفي كجواز التصرف.
والظاهر عدم اختلاف الحكم التكليفي _ بعدم جواز التصرف للغير فيه مثلاً _ باختلاف المبنى في (لكم)، وإن اختلف حال بعض الأحكام التكليفية بكون اللام للملك أو الاختصاص.(2)
ص: 298
فهل قوله تعالى: ﴿لكم رؤوس أموالكم﴾ إرشادي إلى كونها لهم، فهو إخبار، أم إنه إنشاء(1) وقد صدر من المولى بما هو مولى؟
وبعبارة أخرى: هل قوله تعالى ﴿لكم﴾ بما هو مولى ومشرع، أو بما هو مرشد ومبيّن وإن تضمن الإمضاء أيضاً؟
ولعل مما يؤيد كونه إنشاءً، سبق التهديد ب﴿فأذنوا بحرب من الله ورسوله﴾، وسبق التوبة؛ فإنها تلائم مقام المولى ومقام الإطاعة والعصيان.
لا يقال: لو كان إنشاء لما علّق على التوبة، إذ لا ريب في كون رؤوس أموالهم لهم، تابوا أم لا؟
إذ يقال:
أما نقضاً: فبأن التالي الفاسد أعم، إذ لو كان إخباراً، لجرى نفس الإشكال.
وأما حلاً: فإنه صورة شرط وليس به، كما في نظائره من وجه، من أمثال ﴿وربائبكم التي في حجوركم من نساءكم اللاتي دخلتم بهن﴾.(2)
ثم إن شأن نزول الآية ونزولها في مورد الربا، وأن له رأس ماله الذي
ص: 299
أقرضه دون زيادة أو نقيصة، مورد وهو لا يخصص الوارد، كما لا يخفى.
ولذا قال السيد السبزواري قدس سره: (التاسع: يدل قوله تعالى: «وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم» على ثبوت أصل الملكية وتقريرها بين الناس وإمضاء جميع المعاملات والتكسب بالأموال ما لم يكن منهياً عنه شرعاً فإن المال إنما يكون رأساً إذا صرف في وجوه المعاملات).(1)أقول: وذلك لمكان اللام في ﴿لكم﴾ وكون الأصل فيها الملكية، واستدلاله بكلمة (رؤوس) تام، ونضيف أن مقتضى إثبات كون (المال لكم) ولو كان مجرداً من كلمة (رؤوس) هو ذلك، ويدل عليه عرفاً؛ فإنها من أهم ما يتوخى منها(2) عرفاً وتراد له.
وبعبارة أخرى: يدل عليه بالدلالة الإلتزامية عرفاً؛ فإن لازم ملكيته جواز التقلب والتصرف فيه بشتى أنحائه، إلا ما حرّم.
ثم إن الوجه في قوله تعالى: ﴿لكم رؤوس أموالكم﴾ دون (لكم أموالكم) هو: كي لا يتوهم أن (الربا) من مالهم _ كما كانوا يعدونه كذلك _ فهو (لهم).
كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿لا تَظلِمون ولا تُظلَمون﴾ قانون عام سيال في شتى أبواب المعاملات، ويمكن الاستناد إليه في تحريم الغبن والغش والاحتكار والاجحاف والإكراه الأجوائي وما أشبه، فإنه وإن كان
ص: 300
جملة خبرية و"لا" نافية(1) إلا أنها تفيد الحرمة، كما فصلناه في موضع آخر، من أن الجملة الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب، تكون ظاهرة في الوجوب أو الحرمة منه(2)، دون الاستحباب والكراهة، مثل (يعيد صلاته) أو (يتوضأ).
والظاهر أن هذا القانون ﴿لا تَظلِمون ولا تُظلَمون﴾ من المستقلات العقلية، ورغم ذلك فإن النهي مولوي لا إرشادي، نظراً لأن ضابط المولوية هو (ما صدر من المولى بما هو مولى) كما فصلناه في بحث ضوابط المولوية والإرشادية، وليس (ما كان متعلقه مستقلاً عقلياً أو لا).
﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾
وقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾.(3)
من يرى إن الأمر والنهي في موطن المستقلات العقلية، إرشادي.كما يؤيده تصدير الآية بتوجيه الخطاب للمؤمنين فإن ذلك أنسب بمقام المولى والعبد والإطاعة والعصيان.
كما يدل عليه الاستثناء؛ فإن التجارة عن تراض جائزة وجوازها حكم تشريعي مولوي؛ إذ هو قسيم الأحكام الخمسة الأخرى، فكذلك المستثنى منه لأن تخالف المستثنى والمستثنى منه في الإرشادية والمولوية خلاف المتفاهم العرفي جداً.
ولا يضعفه التعليل ب «إن الله كان بكم رحيماً» _ بناء على عوده للحكمين(1)_ فإنه حكمة التشريع.
نعم قد يصار إلى الإرشادية بناءً على:
مسلك من يرى الضابط في الإرشادي: ما أنشاء بلحاظ مصلحة الدنيا.(2)
أو مسلك من يرى أنه كل ما تعلق بالمستقلات(3) والمقام منها؛ لاستقلال العقل بقبح وحرمة أكل أموال الناس بالباطل.
أو مسلك من يرى أنه: ما كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل
ص: 302
الأمر(1) بدعوى أن مفاسد أكل أموال الناس بالباطل معلومة للناس قبل النهي الإلهي.
أو مسلك من يرى أنه: ما لم تتوقف المصلحة والمفسدة على الأمر.(2)
أو مسلك من يرى أنه: ما عادت المصلحة للمأمور.(3)
وإن ورد على الأول: إن المصلحة(4) أخروية أيضاً، وعلى التشريك تجتمع الجهتان(5) كما فصلناه في موضع آخر، إلا بناء على كون إحداهما (المصبّ).
والثالث: دعوى أنه كذلك في الجملة لا مطلقاً(6) إلا أن يقال: بكفاية (المولوية) في الجملة كضابط للإرشادية فتأمل.(7)كما يرد عليها جميعاً: الإشكال المبنائي كما أوضحناه في فصل الضابط في الإرشادي والمولوي، وقد أوضحنا في (فقه التعاون) و (الأصول مباحث القطع) أن ذكر الحكمة لا يخدش في ظهور كون الآمر
ص: 303
أمراً بما هو مولى.
وما ذكر كله كان بلحاظ أن المنهي عنه في «لا تأكلوا أموالكم» هو التصرفات اللاحقة للمعاملة.
وقد بحثنا في موضع آخر شمول «لا تأكلوا» للمعاملة نفسها فليتدبر.
و (الأكل بالباطل) أعم من: أكل الناس بعضهم لأموال البعض، ومن أكل الدولة لأموال الناس بالمصادرة لأموالهم وبواسطة الضرائب بشتى أنواعها ك: الضريبة على الاستيراد والتصدير، أو الضريبة على الإرث، أو الضريبة على البناء والزراعة والسقي، أو الضريبة على حيازة المباحات، أو على السفر والإقامة وغيرها أو غير ذلك.
ثم (الأكل بالباطل) أعم من الغصب ومن الغبن والإجحاف وغير ذلك.
وقال السيد السبزواري قدس سره: (و (المال) من (الميل) والمراد به كل ما تميل إليه النفس، سواء كان ملكاً أم لا، وسواء كان عيناً خارجية أم منفعة أم انتفاعاً).(1)
وفي مجمع البحرين: (سمى المال مالاً لأنه مال بالناس عن
ص: 304
طاعة الله).(1)
وفي المفردات: (والمال سمي بذلك لكونه مائلاً أبداً وزائلاً، ولذلك سمي عرضاً)(2) وكل هذه الوجوه ونظائرها، صحيحة، ولا مانعة جمع بينها.
لكن قد يقال: المنصرف من (المال) عرفاً هو (الملك)، وتسرية الحكم لغيره بالمناط.
وهل المراد ب(الباطل) الباطل العرفي أم الشرعي أم اللغوي أم الواقعي؟ أم العرفي والشرعي؟ تفصيله يطلب من مظانه.(3)
والظاهر أن أكل الأموال بالباطل _ بكل تلك المعاني والمصاديق السابقة _ من المستقلات العقلية فيقع البحث أن النهي في الآية الشريفة مولوي أو إرشادي؟ وعلى الثاني فهل تترتب العقوبة على (الأكل بالباطل) لا من باب مخالفة الإرشاد والنصح؛ إذ لا عقوبة فيه، بل من باب مخالفة حكم العقل _ بناء على حكومته _ المرشَد إليه بالشرع؟
وقوله سبحانه ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾.(4)
ص: 305
والظاهر أنه مولوي تشريعي للتحريم(1) وإن كان توصلياً، لكن هل هو نفسي ليحرم مطلقاً؟ أو مقدمي ليحرم إذا كان من قبيل (الموصِلة)؟ أو (مطلقاً) لا للترشح إذ لا يعقل الترشح من الشيء للأجنبي عنه (وهو غير الموصلة) بل إما بدعوى انبساط التحريم وشموله دفعةً: لذي المقدمة ومقدمتها وما توهم أنه مقدمة، عقلاً، في باب الإطاعة، ولو بداعي الحائطة.
أو للتجري، أو لا بل بمعنى صرف اللابدية العقلية فتأمل.
وتفصيل ذلك موكول إلى (الأصول).
ثم على تقدير استفادة الحرمة، هل يستفاد الحكم الوضعي أيضاً بضمانه لو آتاه فأتلفه؟
وقد أوضحنا في فصل آخر إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية، في أمر أو نهي واحد، لكن على بعض معانيها، والمقام منها.
ولعل هذا الحكم يعد من المستقلات العقلية.
وهل تشمل الآية الشريفة إيتاء (الشركات) التي سقطت عن الأهلية ودخلت في دائرة (السفهاء)، فعلى الحكومة (الحجر) على تلك
ص: 306
الشركات؟ وكذا هل تشمل الآية الشريفة إيتاء (الحكومة التي فقدت الكفاءة المالية والإدارية)، فعلى الناس منع الحكومة من التصرفات المالية عندئذٍ؟
الظاهر شمول المناط القطعي لذلك، وإن لم يشمله اللفظ ظاهراً، وإن كان قد يستأنس له بما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: (كل من يشرب الخمر فهو سفيه).(1)
إذ لعل المراد منه: أنه كذلك لا من جهة السفه المالي بل مطلقاً، وبعبارة أخرى: (السفهاء) عام للسفية الأموالي والسفيه من حيث ارتكابه معصيةً كشرب الخمر، ولعله تؤيده روايات أخرى، فراجع البرهان في تفسير القرآن.
نعم شمولها لشخص رئيس الشركة مثلاً بما هو شخص أو لشخص رئيس الحكومة، لا ريب فيه، إنما كان الكلام في شمولها ل(الجهة) بما هي جهة.
ثم إن المخاطب في «لا تؤتوا» الولي والحاكم الشرعي لمن لا ولي له، ولعل «لا تؤتوا» شامل (للمجتمع)(2) فهو المسؤول عن مثل أداء وأفعال الحكومات والشركات، ولعل هذه الآية يمكن الاستناد إليها في ولاية المجتمع على عموم شؤونه، أو ولاية عدول المؤمنين، وبحثه
ص: 307
موكول لمحله من الفقه. هذا.
ولم يستبعد السيد السبزواري قدس سره شمول «السفهاء» لكل مَن ارتكب المعاصي من غير اختصاص بشرب الخمر؛ لأن (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان) وكل ما كان خلافه فهو سفه.(1)
ويقويه عموم السفهاء؛ فإنه _ أي العاصي _ يصدق عليه سفيه قطعاً، اللهم إلا أن يقال بالانصراف خاصة بلحاظ (التي جعل الله لكم قياماً) _ فتأمل.(2)
وقال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.(3)
والظاهر أن «لا تنقصوا المكيال والميزان» مولوي، والنهي تحريمي، ويدل عليه قوله «إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط».
ص: 308
وقد تعد هذه الآية من أدلة نفي الضابط الخامس المذكور كفارق بين الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية؛ إذ (نقص المكيال والميزان) مما يستقل العقل بقبحه، خاصة لمن كان في خير وبخير «إني أراكم بخير» أي في سعة ورخص وخصب، أي في كثرة الأموال وسعة الأرزاق.(1)
فاللازم كون نهيه إرشادياً، عليه(2) ولا يصح مع ترتيب العذاب عليه(3)، إلا أن يقال: إن قبحه مما يستقل به العقل لا حرمته.
أو يقال: إن ترتيب العذاب أعم من كونه مولوياً أو إرشادياً؛ لحكم العقل به، مع الالتزام بأن مخالفة المستقل العقلي مما يستحق عليه العذاب فتأمل.(4)
فإن أريد به: (الوفاء به كاملاً وتاماً) دون زيادة، كان بياناً لحكم ضد (تنقصوا) ومصداقاً لمبحث الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وأنه هل
ص: 309
يمكن كونه تأسيساً أم هو صرف تأكيد؟
فعلى الأول: هو مولوي، وعلى الثاني: إرشاد لما علم من حكم الضد.
وإن أريد به: (دفع بعض الزيادة أيضاً) ولو بقرينة الفهم العرفي لذلك، فيكون «أوفوا» دالاً على مطلب آخر، إضافة على ما أفاده «لا تنقصوا»:
فيمكن القول بكونه مولوياً، والأمر للندب؛ بدلالة مادة «أوفوا»، ويؤيده السياق.ويحتمل كونه إرشادياً للنصح، وإن لم يمنع كونه مولوياً؛ لما سبق من كون المولوي على قسمين التشريعي والإرشادي.
كما يحتمل كونه مولوياً، والأمر للوجوب، ويؤيده تقييد «أوفوا» ب «القسط»، ولعله من باب المقدمية لإحراز «لا تنقصوا».
وأما «لا تبخسوا الناس أشياءهم» فقد قال في الصافي: (تعميم بعد تخصيص؛ فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو غيره)(1) و (البخس) أعم من المادي والمعنوي، فلو أعطى المعلم لتلميذه درجةً دون ما يستحق فقد بخسه حقه وصدقت عليه الآية.
والظاهر أن النهي مولوي تحريمي، وعموم «أشياءهم» لكونه
ص: 310
جمعاً مضافاً، لشتى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
والظاهر شمول «أشياءهم»، (للملك) و (للحق) ومنه (ملك أن يملك) و (حق الاختصاص)، وقد يستظهر من الآية الشريفة (حق الطبع وبراءة الاختراع) وشبه ذلك، لصدق «أشياءهم» عليه عرفاً ودقة.
وكذا «ولا تعثوا في الأرض مفسدين».
وقال تعالى: ﴿... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.(1)
والاستدلال بها لا يتوقف على القول بأنها إخبار في مقام الإنشاء، بل يكفي كونها إخباراً عن حكم إنشائي في مرتبة سابقة؛ فإنه لا ريب أنه مولوي تشريعي لا مولوي نصحي كما أنه ليس إرشادياً، بقرينة العقاب المذكور لذلك.
وهل قبح (الكنز) أو (حرمته) مما يستقل به العقل؟ بل هل له قبح ذاتي أم عارضي؟
الظاهر قبحه عرضاً، وحينئذٍ يستقل به العقل(2)، ولا يلجؤنا ذلك
ص: 311
إلى القول بإرشادية النهي عنه، كما فصلناه في فصل الضوابط من عدم تمامية هذا الضابط.
و (الكنز المحرم) يشمل:
ما لم يؤد حقه الشرعي، من زكاة أو نفقة واجبة أو ما أشبه من الامور الواجبة بالعناوين الأولية.
كما يشمل ما وجب بعنوانه الثانوي، كصور الاضطرار _ لحفظ نفس محترمة من الهلاك أو لحفظ اقتصاد البلد من الدمار، بعد تشخيص الفقيه الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء لذلك(1)_ وليس هذا خاصاً بالكنز، بل يشمل كل ما لو توقف واجب أهم عليه وإن كان قليلاً.لكن هل على الحاكم (البدل) كما ذكروا ذلك في أكل المخمصة؛ جمعاً بين الدليلين كما أشار إليه السيد الوالد(2) _ أي حق المالك، وضرورة المحتاج المضطر _ أم لا؟ أم التفصيل بين الحالات الشخصية وبين الحالات العامة النوعية(3)، وبين ما كان وظيفة الحاكم الإسلامي أو كان وظيفة الشخص نفسه، أو بين ما كان أخذ المال منه ضرراً عليه عرفاً؛ لقلَّته أو لحاجته إليه، وما لم يكن لكثرته وعدم الحاجة إليه؟
ص: 312
محل بحث ذلك هو (الفقه).
لكن هل يشمل (الكنز) من أدى حقوق المال، لكنه (كنز) ماله أي جمّده ولم يصبَّه في عجلة (الدوران الإقتصادي)؟
قد يقال: كلا لقوله صلى الله عليه وآله: (كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهراً، وكل مالٍ أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفوناً في الأرض).(1)
ولعله محمول على المعهود ذلك الزمن من عدم تأثير ذلك على عجلة الدوران الاقتصادي للمال، دون مثل هذا الزمن في الجملة، حيث يؤثر ذلك في التضخم وغيره؛ لأن المال كلما قلّ في الأيدي دورانُه، كلما ارتفعت وغلت أسعاره.
وبذلك يجمع بين: مثل هذه الرواية ومثل ما روي عن الإمام علي عليه السلام: (ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أم لم يؤدِ، وما دونها فهو نفقة)(2)، مما يحمل على صورة تأثيره على وضع اقتصاد البلد ودوران المال وحركته.
لا يقال: (هذا جمع تبرعي)؟
إذ يقال: لعله يساعد عليه نفس كلمة (كنز)؛ فإن ما لا يضر
ص: 313
بالدوران ليس (كنزاً) وما أضر (كنز)، ولو بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع _ فتأمل.
أو يقال: بأن الظاهر أن لا حقيقة شرعية ل(الكنز) بل هو باقٍ على معناه العرفي، وعلى ذلك يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وآله وأنه تشخيص المصداق حينذاك، وهو ما ذكرناه.
كما لعله يؤيده اختلاف التقديرات في الروايات، ففي رواية أخرى عن العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية: (إنما عنى بذلك، ما جاوز ألفي درهم).(1)
كما يؤيده رواية أبي ذر عندما سأل عثمان بن عفان، كعب الأحبار، فقال له: (ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا ولو اتخذ لبنةمن ذهب ولبنة من فضة، ما وجب عليه شيء) فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: (يا ابن اليهودية الكافرة، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين، قول الله أصدق من قولك حيث قال تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾).(2)
وقد يقال: لا تعارض بين الروايات؛ فإن رواية الرسول صلى الله عليه وآله مطلقة، تقيِّدها رواية الأمير عليه السلام؛ إذ رواية الرسول صلى الله عليه وآله: (وكل مالٍ أديت زكاته
ص: 314
فليس بكنز، وإن كان مدفوناً تحت الأرض) مطلقة إذ أن (كل مالٍ أديت زكاته) مطلق _ أي سواء بلغ أربعة آلاف درهم أم لا.
ورواية الإمام نص وهي: (ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز، أدى زكاته أم لم يؤد) فتقيد ذلك الإطلاق.
لا يقال: (كل) نص؟
إذ يقال: هو بلحاظ مدخوله، والعرف يرى عدم التهافت بالجمع ب(كل مالٍ أديت زكاته مما لم يزد على أربعة آلاف، فليس بكنز).
هذا إن لم نقل بانصراف رواية الرسول صلى الله عليه وآله عن (العدد) وأن جهة الكلام (كونه مدفوناً وعدمه) _ فتأمل.
وعلى أي تقدير، فإن تحقيق ذلك وتفصيله في الفقه بإذن الله تعالى.
وغير خفي: أن قبح أو حرمة أصل الكنز من المستقلات العقلية، دون حدوده وأنواعه، فالنهي الوارد في حد أو نوع، لا محذور في الالتزام بمولويته وإن كان القائل ممن يذهب للضابط الخامس؛ فإن كون أصله من المستقلات، لا ينافي مولوية الأمر والنهي في الحد أو النوع الخاص منه _ ولذا أمكن للقائل بكون (أمر الإطاعة) إرشادياً، القول بمولوية (الأمر بالصلاة) وشبهها مما هو حصة منه(1) _ فتأمل.
ص: 315
و ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.(1)
والظاهر المولوية، تشريعاً، للوجوب، كما أن الظاهر حسن الوفاء بالعقود ذاتاً، ووجوبه عقلاً، وأنه من المستقلات العقلية، ولا يضر عدم انطباق بعض الضوابط المذكورة للمولوي ك(ما توقفت المصلحة على الأمر) وهو السابع أو (ما لم تكن المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر) وهو السادس، أو الضابط الآخر وهو (ما عادت المصلحة فيه للآمر) وهو الثامن، أو (ما عدا المستقلات العقلية) وهو الخامس؛ إذ قد سبق بطلان تلك الضوابط، نقضاً وحلاً.
وأما ما عداهما فقد يقال بانطباق الضوابط الأخرى: الأول والثاني والثالث(2)، نعم على الضابط التاسع قد يقال: إن (الوفاء بالعقد) واجب توصلي، فلا يترتب عليه الثواب، وعلى هذا الضابط فإن ما لا يترتب عليه الثواب، فإنه إرشادي.
لكن قال في التنقيح: (ثم إن المراد بالوفاء، ليس هو الأمر المولوي،
ص: 316
حتى يقال إن الإتمام واجب تكليفي والفسخ والنقض محرمان شرعاً؛ وذلك للقطع بأن البقاء على الالتزام ليس من الواجبات، وبأن الفسخ ليس من أحد المحرمات الشرعية بحيث يوجب الفسق ويخرج المرتكب له عن العدالة بسببه، وهذا مما تشهد به ضرورة الفقه، فلابد من كون الأمر به في الآية المباركة إرشاداً إلى اللزوم وعدم انفساخ العقد بالفسخ، نظير النهي عن صلاة الحائض بقوله: (دعي الصلاة أيام اقرائك).(1)
لكن يرد عليه: أن دعوى القطع عهدتها على مدعيها، وليس القطع مما يحتج به في مقام الاستدلال والبحث الفقهي الاستدلالي.
وليس كل محرم شرعاً يستلزم الفسق وسقوط العدالة، ليحتج بعدمه على عدمه(2) إلا لو كان كبيرة من الكبائر أو مع الإصرار عليه، مشروطاً كل ذلك بالعلم بحرمته وإلا فإنه لو جهل _ أو كان اجتهاده عدم الحرمة _ فإنه لا يسقط العدالة كما لا يخفى.
وأما دعوى ضرورة الفقه على عدم الحرمة للفسخ والنقض، فهي أيضاً دعوى غير تامة؛ كيف؟ وقد صرح بعض الأعاظم بالحرمة، ومنهم الميرزا محمد تقي الشيرازي في حاشيته(3) قال: (إن وجوب الوفاء بالعقد، باعتبار أن تركه ظلم وعدوان ولازم ذلك عدم ثبوت حق الفسخ لأحد الطرفين بالاستقلال، فنفس حرمة الفسخ كاشفة عن فساده وعدم تأثيره..
ص: 317
بل نفس الرجوع؛ حيث إنه ظلم، حرام...) ولا يرد عليه ما أورده عليه الأصفهاني، كما لعلنا سنفصله في المجلد الثاني بإذن الله تعالى.
كما يظهر من (فقه الصادق) التردد بين الإرشادية والمولوية أو احتمال كليهما، ولو كان خلاف ضرورة الفقه لما جهله مثله وهو من أعاظم الفقهاء، قال:
(الثالث أن الأمر بالوفاء إما أن يكون إرشادياً أو يكون أمراً مولوياً نفسياً.. وعلى الأول… وإن كان مولوياً نفسياً، فيمكن تقريب دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ بوجهين.. ثانيهما: الإجماع على أنه لو كان حراماً كان غير مؤثر).(1)
وقال السيد الوالد في (البيع):
(وهل الأمر للإرشاد؛ باعتبار أن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، أو مولوي؟ الظاهر الثاني.. ومن الواضح أن الأمر بالوفاء ليس كذلك _ أي ليس إرشادياً _ فإذا لم يفِ كان معاقباً).(2)هذا ومما يؤكد كون الأمر بالوفاء، مولوياً، حسنه الذاتي، ومصلحته الذاتية، وتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات.
ثم إن استناده للتنظير ب(صلاة الحائض) وإن النهي عنها ب(دعي الصلاة أيام اقرائك) إرشاد للبطلان، غير تام أيضاً؛ فإن النهي مولوي
ص: 318
ويحرم عليها (الصلاة أيام الحيض) وهو المشهور شهرة عظيمة بل لعله إجماعي.
قال في العروة الوثقى: (فصل في أحكام الحائض، وهي أمور، أحدها: يحرم عليها العبادات المشروطة بالطهارة كالصلاة والصوم والطواف والاعتكاف).(1)
ولم يحشّ عليه أي من المراجع العظام، فيما بيدي من تعليقاتهم، ومنهم السيد الخوئي نفسه، ومنهم: الميرزا النائيني، والشيخ عبد الكريم الحائري، وآقا ضياء العراقي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والسيد حسين البروجردي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محسن الحكيم، والسيد أحمد الخوانساري، والسيد الكلبايكاني، والشيخ محمد رضا آل ياسين، والشيخ علي الجواهري رحمهم الله جميعاً وغيرهم.(2)
وكذلك لم يحش عليه السيد الوالد، والسيد حسن القمي، والسيد المرعشي النجفي رحمة الله عليهم.(3)
ولا مجال لاحتمال إرادتهم التحريم وضعاً، كما يظهر عند ملاحظة سائر المحرمات المذكورة في أحكامها، وكما هو الأصل في مصطلح (الحرمة) مادةً وصيغةً، وكما درج عليه الفقهاء.
ص: 319
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.(1)
فقد يقال: إن (أحل الله البيع) (إرشاد) لحليته، بل هو إخبار وإن استلزم الإرشاد والفرق أن (الإرشاد) إنشاء، دونه(2)؛ لظهور كونه في مقام التعليل، لرد كلامهم بدعوى المثلية بينهما.
وقد يقال: إنه مولوي تشريعي؛ بدعوى أن ظهوره في التشريع والإنشاء، أقوى من ظهور السياق في الإخبار، وأن (الالتفات)(3) في القرآن غير عزيز حتى صار كأنه الأصل.
ثم هل «أحل» يقصد به الحكم التكليفي فقط، أو الحكم الوضعي بمعنى الصحة أو النفوذ أو ما أشبه، أو كلاهما؟قال الشيخ في المكاسب: (قوله تعالى ﴿وأحل الله البيع﴾؛ حيث أنه يدل على حلية جميع التصرفات المترتبة على البيع، بل قد يقال: إن الآية دالة عرفاً بالمطابقة على صحة البيع، لا مجرد الحكم التكليفي لكنه محل تأمل).(4)
ص: 320
وظاهر أن تأمله في دعوى الدلالة بالمطابقة على صحة البيع، لا على دلالتها على الحكم التكليفي.
ثم إن ظاهر كلامه، دلالتها إنشاءً على الحكم التكليفي لا إخباراً.
ولتحقيق هذا المبحث مجال آخر، إذ المقصود بها البحث هنا هو أن دلالته على الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي أو كليهما _ على مختلف المباني _ هل هي مولوية أم إرشادية؟
ثم أنه هل (حلية البيع) من المستقلات العقلية؟
قد يقال: نعم لكونه وجهاً من وجوه التصرف والتقلب في الملك، وهو مما يستقل العقل بحسنه وجوازه.
قال السيد السبزواري قدس سره: (السادس: يدل قوله تعالى ﴿أحل الله البيع وحرم الربا﴾ على ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد، وهي معلولة لها، ولا فرق بين كونها مصالح ومفاسد عامة أو خاصة).(1)
أقول: وجه الاستدلال، لعلّهُ البرهان الإنّي؛ إذ ننتقل من أنه تعالى أحل البيع، ومن تحريمه الربا، إلى وجود المصلحة أو المفسدة، نظراً لحكمته تعالى، وإلا لكان للخصم أن يقول بدلالتها على العكس، وأنه تعالى يفرق بينهما بأنه هو _ جل اسمه _ الذي يحلل ويحرم وقد حلل
ص: 321
هذا وحرم ذاك، فلا وجه لدعواهم التماثل، فيعود الاستدلال إلى كونه استدلالاً بحكمته تعالى، لا بالآية، إلا أن يستند إلى سبق (لا يقومون) الموجود في الربا، دون البيع، وإلى ما لحق من ﴿يمحق الله الربا ويربي الصدقات﴾.(1)
ثم إن مما يدل على كلي محبوبية العمل الاقتصادي:
1- ما رواه الكافي عن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ، يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفِك. فقال لي: (إني أحب أن يتأذى الرجل بحرِّ الشمس في طلب المعيشة).(2)
2- وقد نقلنا في موضع آخر رواية أخرى، حيث دفع الإمام الصادق عليه السلام مالاً لعذافر، ليتجر به، وقال: (.. ولكني أحببت أن يراني الله جل وعز متعرضاً لفوائده)، وذلك مما يقتضي كون الأمر بالعمل والتجارة مولوياً؛ بناء على كون ضابط المولوية هو (ما كان محبوباً للمولى وقد أمر به لمحبوبيته) فإن (حبهم) و (بغضهم)
ص: 322
صلوات الله عليهم هو (حب الله وبغضه) فهم، كأمهم البتول وجدهم الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، ممن (يرضى الله لرضاهم ويغضب لغضبهم).
ومن الواضح أن حبه عليه السلام لتأذي الرجل بحر الشمس، ليس حباً شخصياً نابعاً من الهوى والعياذ بالله، بل هو نابع من كون ذلك مما يحبه الله تعالى ومما يثيب عليه؛ فإن كل ما فعله الشخص لأنه يحبه الله، مثاب عليه.
فلا يقال: حبه حبّان: حب بما هو مولى، وحب بما هو صديق أو إنسان أو ما أشبه _ فإنه ممحض في الله وحبه بما هو إنسان حب بما هو لله أيضاً _.
لكن قد يقال: إن (حبه) بما هو مولى مشرع غير حبه بما هو ناصح فتأمل، وتمام الكلام في هذا البحث في علم العقائد.
وأما إذا صرنا للضابط الأول، فإن ذلك مما يرجحه.
3- بل يدل على محبوبية ومطلوبية (العمل الاقتصادي) للمولى بما هو مولى قول رسول الله صلى الله عليه وآله (العبادة سبعون جزءً أفضلها طلب الحلال).(1)
والظاهر أن (طلب الحلال) متحد مع (العبادة) اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه بل قد يقال: ليس الحمل حملاً شائعاً صناعياً بل هو ذاتي أولي، لأنها جنسه فتأمل.
ص: 323
وعلى أي فإن (الأمر) بالعبادة لو وقع، فإنه أمر مولوي حسب مقتضى الأصل والقاعدة، وإن أمكن كونه بما هو ناصح إرشادياً.
4- وقول أبي عبد الله عليه السلام: (إصلاح المال من الإيمان).(1)
فإن (الإيمان) هو أول مطلوب للمولى بما هو مولى، قال تعالى ﴿لتؤمنوا﴾.
و (إصلاح المال) قد يقال بأنه أعم من: (حفظه صالحاً) بأن يُبقي الدار أو البستان سالماً من الخراب أو من آفات الزرع، ومن (تنميته) بأن يتجر به لينمو ويتضاعف، ومن (ترشيدإنفاقه) بأن يقتصد في الإنفاق فلا يمسك ولا يسرف(2) ولعله يشمل عموم العلة المحدثة والعلة المبقية بأن يكتسبه من حلّه وينفقه في محله فإذا فعل ذلك كله فقد (أصلحه).
5- وعن زكريا بن آدم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: (الذي يطلب من فضل الله عز وجل ما يكفّ به عياله، أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله عز وجل).(3)
والحديث صحيح، ولعله يستفاد منه (المولوية الغيرية) للاكتساب
ص: 324
لا (النفسية).
والرواية كما ترى صريحة في (الأجر) من الله فينطبق الضابط التاسع للمولوي على من اكتسب طالباً فضل الله دون ريب.
6- وروى علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام: (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله).(1)
والحديث حسن.
ولا يضر انطباق عناوين أخرى على العمل والتجارة والصنعة، فإن الواسطة واسطة في الثبوت لا العروض.
وكذلك مثل ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ﴾(2) فهل هو مولوي أو إرشادي؟
وبعبارة أخرى: هل ﴿أحل الله البيع﴾ إخبار أم إنشاء؟ وعلى كونه إنشاء فهل إنه بما هو مولى قد أحل البيع؟ أم أمضى بناء العقلاء عليه؟ وهل (أحل) يقصد به (الحكم التكليفي) بمعنى الجواز؟ أم (الحكم الوضعي) بمعنى النفوذ؟ أم الأعم؟ فصلنا ذلك في موضع آخر فليلاحظ.
ص: 325
7
ومنها القضايا السياسية:
كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.(1)
والظاهر أنه صلى الله عليه وآله «ويضع عنهم» ذلك بما هو مولى (تشريعاً)، كما تدل عليه الروايات الآتية وما ذكر فيها من المصاديق التشريعية ل(الإصر)، ويؤيده السياق فإن «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» مولوي، وكذا «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث» فإنه بما هو مولى لا بما هو مرشد، أو هو شامل له ولمصاديق تكوينية من (الإصر) مما كان على الأمم السابقة، ولما قام به صلى الله عليه وآله، تكويناً، من وضع الآصار والأغلال عنهم بإسقاط الحكومات الكابتة للحريات، فهو
ص: 326
أعم من (الوضع) التكويني والتشريعي، كما أنه أعم من رفع قانون كابت أو وضع قانون مطلِق، إطلاقاً أو مناطاً.
كما أن الظاهر أنه أعم _ ملاكاً _ من الدفع والرفع، أو العلة المحدثة والمبقية، وإن توهم في بدو النظر غير ذلك.
والظاهر أن وضعه ذلك عنهم، أعم من: كونه بعدم تشريع ما هو كذلك، وتشريع خلافه.
والظاهر أن «ويضع عنهم» إخبار عن حاله صلى الله عليه وآله، وليس إنشاء بصيغة إخبار؛ فإنه بعيد جداً بالنظر لسياق الآية، وإن كان ممكناً بالنظر للجملة الفعلية نفسها، لكنه إخبار عما من شأنه وفعله بما هو مولى، لا بما هو ناصح ومرشد، فيصلح مثالاً: للأقوال والتشريعات، وللأفعال المولوية خارج دائرة الأوامر والنواهي المولوية، وذلك كما أن من الأقوال والأفعال(1) ما هو إرشادي مما لم يكن أمراً ولا نهياً، والحاصل: أنه سواء كان إنشاء أم إخباراً عما صنعه الشارع، فإن (وضعه) تعالى عنهم إصرهم والأغلال، مولوي، أي صادر عنه بما هو مشرّع ومولى، فمن خالف وعارض، أثم واستحق العقاب.
و أما (الإصر) فقد قيل: (أصل الإصر: الضيق والحبس)، و (الشدّ والعقد)، و (الذنب) وحمل عليه قوله تعالى: «ولا تحمل علينا إصراً» أي ذنباً يشق علينا، و (العقوبة)(2) و (الإصر) (عقد الشيء وحبسه بقهر)
ص: 327
و الإصار: (الطنب والأوتاد) و (المأصِر): (محبس السفينة).(1)
والظاهر أن (الإصر والأغلال) يشملان:
ما جعلوه على أنفسهم بسوء تدبيرهم وتصرفهم، من قوانين كابتة اجتماعية؛ فإنه صلى الله عليه وآله كذلك فعل بها، فوضعها عنهم ورفعها وأزالها، وكان ذلك من شأنه بما هو مشرع للأفضل، ولما يسعد الناس ديناً ودنياً وآخرة.وما جعلته الحكومات عليهم، من قيود وحدود وضغوط، كذلك.
وما جعله الله عليهم بسوء فعلهم.
وأكثر المصاديق المذكورة في الروايات هي من هذا القبيل؛ ولذا قال السيد الوالد: (وفي الأمور التي قيدتهم من الشرائع والتقاليد).(2)
ومن النوع الثالث قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾.(3)
وهو الذي طلبه المؤمنون في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾.(4)
ومنه التكاليف الامتحانية التي ابتلى بها اللهُ، الأممَ السابقة.
ص: 328
ومنه (أنه فرض عليهم الغسل والوضوء بالماء ولم يحل لهم التيمم، ولم يحل لهم الصلاة إلا في الكنائس والبيع والمحاريب، وكان على الرجل إذا أذنب أن يجرح نفسه جرحاً مبيناً ليعلم أنه أذنب).(1)
و (تحريم السبت، والعروق والشحوم، ووجوب القصاص دون الدية، وقتل نفوسهم في التوبة).(2)
وهذه كلها تشريعات مولوية، وتنقسم إلى (ما جعل عليهم) مولوياً(3) وما رفع أو (ما لم يجعل لهم) مولوياً، ومن الثاني: عدم جعل الدية بدلاً، وعدم جعل التيمم، والأول ينقسم إلى واجب وحرام كما لا يخفى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى في حديث طويل نقله الصافي جاء فيه:
(قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعت(4) ذلك عن أمتك.. وكانت الأمم السالفة، حسنتُهم بحسنة وسيئتهم بسيئة، وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك، وجعلت الحسنة بعشر(5) والسيئة بواحدة.وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة، وإن أمتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم
ص: 329
يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر.(1)
وكانت الأمم السالفة إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت له سيئة، وإن أمتك إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتُ ذلك عن أمتك.
وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا، كتبت ذنوبهم على أبدانهم، وجعلت توبتهم من الذنوب: أن حرّمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستوراً كثيفة، أو قبلت توبتهم بلا عقوبة.(2)
وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة، ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك...).(3)
ومما سبق يظهر أن (الإصر) لا يختص ب(التكاليف الشاقة) _ كما فسره به في الصافي ذيل الآية 286 من سورة البقرة(4) وأنه يشمل (الشدائد) كما فسره بها لاحقاً.
بل يشمل كل حكم تكليفي ووضعي، كما يشمل بعض الآثار التكوينية للأفعال.
ص: 330
ثم إن (وضع الإصر والأغلال عن الناس) مما لا شك في حسنه عقلاً، وهو من المستقلات العقلية حسناً ووجوباً.
وحيث أوضحنا في فصل الضوابط: أن الضابط الخامس للمولوي _ وهو ما كان في غير المستقلات العقلية _ غير تام، ومثله الضابط السادس والسابع والثامن، أمكن كون وضع الآصار، مولوياً، بل هو كذلك على الضابط الأول الذي صرنا إليه(1) بل وعلى الضابط الثالث(2) فإنه لا شك في محبوبية وضع الآصار عن العباد، له تعالى ولرسوله الكريم، ولذا طلبه صلى الله عليه وآله منه تعالى واستجاب له جل اسمه.
وكذا على الضابط الثاني(3) أيضاً، فإن التخفيف عن العبيد، أدعى لإطاعتهم وانقيادهم؛ فإنه وإن كان لمصلحتهم دنيوياً في بادي النظر، إلا أنه لمصلحتهم الأخروية مآلاً، وهو المقصد الأصلي للتشريع.لكن يرد عليه أن (المصب) عرفاً المصلحة الدنيوية _ فتأمل.
والظاهر أن (النهي) في الآية (مولوي) للتحريم، وليس (إرشادياً) ولا (مولوياً) للنصح؛ فإن ضابط المولوي الأول، منطبق عليه؛ إذ قد صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته؛ ولذا رتب عليه استحقاق العذاب بمس النار، وكذا ينطبق عليه الضابط الثاني وهو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة ومفسدة الآخرة) _ وإن كان فيه مصلحة ومفسدة الدنيا أيضاً _ والثالث وهو (ما كان مبغوضاً للمولى وقد صدر لجهة مبغوضيته) وبرهانه الإني: العقاب.
وقد ذكرت في الروايات مصاديق للركون للظالم:
1- فمنها: (مودتهم).
2- ومنها: (النصيحة لهم).
3- ومنها: (الطاعة).
كما نقله الطبرسي في مجمع البيان عنهم عليهم الصلاة والسلام، فتكون الآية والرواية من أدلة حرمة إطاعة القوانين التي سنّها الحاكم الجائر أو الدولة المستبدة، سواء في الشؤون السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم غيرها، اللهم إلا ما لزم منه اختلال النظام والهرج والمرج، كقوانين المرور مثلاً؛ فلا وجه لما قاله البعض من نفوذ حكم الحكومات الوضعية.
4- ومنها: (محبة بقاء السلطان) لأجل فائدة تعود للإنسان، كما فيما
ص: 332
رواه الكافي(1) عن الإمام الصادق عليه السلام : (هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى ان يدخل يده في كيسه فيعطيه)(2)، وملاكه شامل لمن أحب بقاءه لمصلحة عائدة لحزبه أو جماعته أو مرجعيته، كما نرى ذلك في أمثال (الأزهر) مثلاً.
5- ومن المصاديق، ما ذكره في المجمع(3) من (الإنصات إليه)(4) و (السكون إليه بالمحبة له). كما يبدو منه تعميم (الذين ظلموا) للمشركين؛ إذ فسر الآية الشريفة ب(لا تميلوا إلى المشركينفي شيء من دينكم)، وهو تام لأن الشرك نوع من الظلم عظيم؛ لقوله تعالى: ﴿لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم﴾.(5)
وشمولها(6) للحاكم الجائر واضح، لقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾.(7)
6و7و8- ومن المصاديق (السكون إلى قولهم)(8) و(إظهار الرضا
ص: 333
بفعلهم)(1) و (مصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم).(2)
والظاهر أن التقييد ب(الركون إلى الظالمين في الأمور الدينية ونحوها محرم)(3) غير تام؛ لإطلاق الآية وللملاك فإن الركون للظالم في شؤونه الشخصية العائلية والاقتصادية، كذلك محرم لترتب نفس المفاسد المذكورة في الروايات، من تقوية الظالم، وحب بقائه حتى يحل المشكلة مثلاً وغيرها.
وقد جاء في رواية محمد بن عذافر عن أبيه قال لي أبو عبد الله (يا عذافر نُبِّئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع! فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟) قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد الله عليه السلام لما رأى ما أصابه: (أي عذافر! إنما خوفتك بما خوفني الله عز وجل به) قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات).(4)
وفي رواية أبي يعفور: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك ربما أصاب الرجل منّا الضيق والشدة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة _ أي السد _
ص: 334
يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله: (ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً، وانَّ لي ما بين لابنيها، لا، ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ الله من الحساب).(1)
وهذه الموارد كما ترى شؤون دنيوية شخصية.نعم يستثنى من ذلك كله ما لو زوحم بالأهم وأحرزت أهميته، شرط إذن الفقيه الجامع للشرائط في ذلك أو إذن شورى المراجع؛ فإنه شأن عام يحتاج لإذنهم كما فصل في محله.
ثم إن الآية والروايات منصرفة عما مثل له قدس سره، من الرجوع لطبيب كافر أو ركوب الطائرة مع أن الطيار كافر مثلاً(2)، ولعله قدس سره قصد من (نحوها) ما ذكرناه.
بل قد يقال: بأن الأمر لو دار بين طبيب مسلم وكافر أو طيارين كذلك، وكانا متساويين، عُدّ انتخاب الكافر ركوناً للظالم، إلا لو لزم عسر وحرج.
وقد يقال: باختلاف الأعراف والشرائط والزمان والمكان في صدق (الركون) عرفاً وعدمه _ فتأمل.
والظاهر أعمية (الذين ظلموا) من الحاكم والوزير ومساعده ونائبه ووكيله وكذا الجندي والشرطي ورجال الأمن والاستخبارات وأشباههم.
ص: 335
بل الظاهر أعميته من مطلق الظالم حاكماً كان أو لا، فالركون إلى شيخ العشيرة، لو ظلم أحد أفرادها، أو إلى قائد الحزب، أو حتى عالم المحلة _ فرضاً _ لو ظلم، مصداق للآية الشريفة، بل حتى ركون الأخ إلى أخيه لو ظلم زوجته مثلاً، والانصراف لو كان فبدوي، إلا أن لا يعد (ركوناً) إليه عرفاً، أو يزاحم بالأهم عقلاً أو شرعاً.
والظاهر أن قبح وحرمة الركون للظالم من المستقلات العقلية كقبح وحرمة الظلم نفسه.
ولا يضر ذلك بما أشرنا إليه من كون النهي مولوياً؛ لما ذكرناه في فصل (الضوابط) من النقاش المبنائي في الضابط الخامس للمولوي.(1)
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾.(2)
ومعنى الآية كما جاء في (التبيين): (﴿هم ينتصرون﴾ أي ينصر بعضهم بعضاً لدفع ذلك البغي).(3)
والظاهر أنه تفسير بأحد مصاديق «ينتصرون».
وقال في (الصافي): (على ما جعله الله لهم، كراهة التذلل) وقال: ("الحلم" عن (العاجز)، محمود، وعن (المتغلب) مذموم لأنه إجراء
ص: 336
وإغراء على البغي).(1)
مما يظهر منه أن (الانتصار) محمود في ما إذا كان عكسه (التذلل)، كما أنه محمود على المتغلب الذي يجرؤه العفو، لا مطلقاً، ويؤيده قول أمير المؤمنين عليه السلام: (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه).(2)وأما (البرهان) فقد اعتبر (الانتصار) رخصة، إن شاء فعل وإن شاء ترك.(3)
لكن الظاهر ان الانتصار مطلوب للمولى بما هو مولى، ولذا عده من صفات المؤمنين، وجاء في سياق جملة مما أحبه الشارع وطلبه.
إلا أن يريد بالرخصة الأعم من الندب، إذ هو حق، فلا وجوب.
وقال في (المجمع): (﴿هم ينتصرون﴾ ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا) وقال (ينتصرون أي يتناصرون..).
(وقيل: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفاً يعفو عمن ظلمهم وهم الذين ذكروا قبل هذه الآية وهو قوله ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ وصنفاً ينتصرون ممن ظلمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية، فمن انتصر وأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما حد الله، فهو مطيع لله ومن أطاع الله فهو محمود).(4)
ص: 337
وقد يسئل عن وجه الجمع بين الآية الشريفة وقوله تعالى: ﴿والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له﴾.(1)
ولعله: في هذه الآية لوحظ الجانب الشخصي والفردي وفي تلك النوعي والعام أو الفارق بالعنوان الثانوي وعدمه، ولعله ﴿ينتصرون﴾ مسؤولية الغير و ﴿من تصدق﴾ يرتبط بالمظلوم نفسه.
والظاهر أن (انتصار المظلوم) لنفسه، من ظالمه، بين واجب ومستحب، على القول بالمولوية، في ما لو ورد أمر بالانتصار _ كما قد تفيده الآية الشريفة _ على ما أوضحناه في موضع آخر من إفادة الجملة الخبرية الإسمية والفعلية، الوجوب، لو قامت قرينة على إفادتها المطلوبية دون قرينة معينة للوجوب أو الاستحباب.
ثم انه قد يرجح عدم انتصار المظلوم من ظالمه، في الحقوق الشخصية في الجملة فيما دخل في دائرة (أعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)؟
وأما على الإرشادية فهي صفة ممدوحة لا غير، إلا على القول بأن من الإرشاد ما هو للإلزام كما نقلناه عن الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما.
وقد بحثنا حول هذه الآية الشريفة في موضع آخر من هذا الكتاب، كما فصلنا الحديث عنها في (شورى الفقهاء) ونضيف هنا:
إن هذه الآية والآية التالية، وإن كان ظاهر سياقها، الإخبار، إذ الكلام عن أن ﴿ما عند الله خير وأبقى﴾(1) للذين يتصفون بهذه الصفات.إلا أنه يمكن استظهار دلالتها على الوجوب المولوي بأحد وجهين:
أحدهما: ما ذكره السيد الجد الأكبر الميرزا الشيرازي الكبير قدس سره من: أن الجمل الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب والإنشاء، فإنها تكون ظاهرة في الوجوب لو لم تقم القرينة على أن المراد أي نوع من الإنشاء وهل هو الوجوبي أو الندبي، مستدلاً بالتبادر عرفاً (فإنهم لا يفرقون بين صيغة الأمر وبين الجمل الخبرية إذا علموا أن المراد بها الإنشاء، مجازاً، في فهم الوجوب واستفادته من اللفظ، بشيء أصلاً.. مع قيام القرينة الصارفة عن استعمالها في الأخبار، مع عدم القرينة على تعيين أن المراد أي نحو من الإنشاء، وكما يثبت بالأول ظهور الصيغة وضعاً أو إنصرافاً، فكذا يثبت بالثاني ظهور الجمل حينئذٍ في الوجوب ظهوراً عرفياً مستنداً إلى قرينة عامة لازمةٍ للفظ في جميع الموارد على أن المراد الوجوب، إما باستعمال الجمل فيه بخصوصه أو انها مستعملة في مطلق الطلب وهو منصرف إليه عند الإطلاق بأحد أسباب انصراف المطلق إلى بعض أفراده، كما مر في الصيغة..).(2)
ص: 339
ومستدلاً ب(تتبع الآثار والأخبار المأثورة عن المعصومين الأطهار صلوات الله عليهم وجعلنا معهم في دار القرار؛ فإن من تتبع الكتب المدونة فيها يرى أن غالب ما كان المراد بيان وجوب شيء فهو إنما يبين بالجملة الخبرية الخالية عن القرينة اللاحقة لخصوص المورد، على تعيينه...).(1)
إلا أن يقال: إن سياق الآيات سياق المدح، وليس الطلب.
ويمكن الجواب أنه لو كان كذلك(2)، فإنه كاف في الدلالة على المقصود، إذ (المدح) دليل المطلوبية والمحبوبية بل صريح قوله تعالى: ﴿وما عند الله خير وأبقى﴾ ليس المحبوبية فقط، بل ثواب الآخرة أيضاً.
وينتقل من (المحبوبية) و (الثواب) للوجوب، إما استناداً إلى السياق _ فإنها مطلوبة مع المنع من الترك(3)_ أو استناداً إلى أن (الشورى) مما لو رجح لوجب، أو استناداً إلى مناسبة الحكم والموضوع في خصوص الشؤون الخطيرة، وإن كان الأخيران ينتجان الوجوب في الجملة لا على إطلاقه(4)_ فتأمل.
ص: 340
والثاني: ما ذكرناه في (شورى الفقهاء) من (كون الأصل فيما يعد صفة للمؤمن انه واجب التحصيل؛ لكون الصفة بمنزلة المعرِّف الذي ينتفي المعرَّف عند انتفائه؛ ولكون الظاهر هو ذلك...) وأشرنا إلى بعض الإيرادات على هذا الوجه وأجوبتها.(1)
ولو رفعنا اليد عن دلالتها على الوجوب، فلا شك في دلالتها على الاستحباب، خاصة بقرينة ما ذكر عليه في الآية السابقة من الثواب(2)، فيجري الكلام السابق من دلالة الآية _ ولو بالدلالة الإلتزامية بل بدلالة الاقتضاء(3)_ على كون الشورى مأموراً بها بالأمر المولوي الندبي لا صرف الإرشادي.
إلا أن يقال: يكفي في المدح، مطلوبية الممدوح عقلاً _ فإن العقل رسول من باطن _ ولا يتوقف على طلبه شرعاً.
ويرد عليه: إنه لا شك في مطلوبيتها شرعاً؛ للعشرات إن لم تكن المئات من الروايات التي أكد الشارع فيها طلبه ودعوته للتشاور والمشورة والشورى، وقد أشرنا إلى بعضها في (شورى الفقهاء _ دراسة فقهية أصولية)، كما ذكر السيد الوالد قدس سره قسماً كبيراً منها في كتاب (الشورى في الإسلام) وغيره، كما تجد قسماً وافراً منها في كتاب: الوسائل وجامع أحاديث الشيعة وبحار الأنوار وغيرها.
ص: 341
بل نقول: يستفاد من نفس الآية، مطلوبية الشورى شرعاً، وليس عقلاً فقط.
ص: 342
كقوله تعالى ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ﴾(1) و ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ﴾(2) و ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.(3)
والظاهر أن الأمر بامساكهن بالمعروف أو بالمعاشرة معهن بالمعروف وأشباهه، صغرى لكبرى وجوب أو استحباب المعاشرة والائتمار والمشورة وغيرها، بالمعروف، مع الوالدين والأولاد والأقرباء والأصدقاء وغيرهم، كل على حسب (المعروف) في معاشرة مثله، والائتمار بالمعروف.
وعلى هذا، فالظاهر إن حسن (المعاشرة بالمعروف) تعد من الامور الفطرية، ومن ما يستقل به العقل، والأمر به أمر مولوي؛ لانطباق ضابط
ص: 343
المولوية الأول عليه وهو ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته؛ بل وإنطباق الضابط الثاني عليه، فإنه وإن كان ذا مصلحة دنيوية إلا أن الأخروية هي المصبَّ أو أحد الوجهين؛ وكذا الضابط الثالث(1)، وقد أوضحنا في فصل ضوابط المولوية والإرشادية، عدم تمامية الضابط الخامس(2) نعم من ذهب إليه أو إلى الضابط السادس، عليه أن يلتزم بكون هذه الأوامر إرشادية، فلا عقوبة لو خالف، وهو خلاف الظاهر والمستفاد من الأدلة.
وفي (المعروف) احتمالات؛ إذ (المعروف):
أ _ قد يراد به المعروف (اللغوي).
ب _ وقد يراد به: المعروف (العرفي) وهذا قد يقصد به المعروف في العرف العام، أو يقصد به المعروف في العرف الخاص مطلقاً، أو خصوص عرف المتشرعة.
ج _ وقد يراد به المعروف الشرعي.
د _ وقد يراد به المعروف (الواقعي).
وقد يعرف (المعروف) ب(كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه، إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه، و (المنكر) كل فعلٍ قبيحٍ عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه) كما في الشرائع وتحرير الأحكام وغيرهما.
ص: 344
وقد ذكر السيد الوالد رحمه الله في الفقه كتاب الأطعمة والأشربة(1) في قوله تعالى: ﴿يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾(2) احتمالات ثمانية في (الخبيث) منها هذه الأربعة، وذكر ثامنها انه مجمل لا يعلم المراد منه.ويظهر من السيد السبزواري رحمه الله تعميم (المعروف) ل(ما ورد في الشرع وما يحكم به العقل؛ فإن جميع ذلك من المعروف).(3)
وقال: (المعروف، من العرف، وهو ما استحسنه العقل ولم يردع عنه الشرع، فيشمل الفطريات والمحسنات العقلية وبناء العقلاء، فإن جميعها حسن ومعروف، وإن كان الفرق بينهما بالاعتبار، والشرع حاكم ومسلط عليها جميعاً فإنه يتممها).(4)
وهذا أصح من تفسيره للمعروف في مواضع أخرى ب(والمعنى أن لهن من الحقوق فيما تعارف بين الناس، على الرجال، مثل ما للرجال عليهن)(5)و (ثم ارجع ذلك إلى العرف المتداول في كل مجتمع).(6)
وذلك لأن (العرف المتداول في كل مجتمع) و (ما تعارف بين الناس على الرجال) نسبته إلى (المعروف الوارد في الشرع) هي العموم من وجه، وكذا نسبته مع (الفطريات والمحسنات العقلية وبناء العقلاء)، إلا
ص: 345
أن يعتبر قوله (ولم يردع عنه الشارع) ناظراً لذلك، لكنه غير كافٍ لدفع الإشكال _ فإن ظاهر (الأول) المعروف الشرعي والعقلي، وظاهر (الثاني) المعروف العقلي دون ردع، وظاهر (الأخيرين) المعروف العرفي.
وقد فسر (المعروف) في الصافي ب(بالوجه الذي لا ينكر في الشرع، ولا في عادات النساء فلا يكلفنهم ما ليس لهن، ولا يكلفونهن ما ليس لهم).(1)
وظاهره: إرادة الأعم من المعروف العرفي والمعروف الشرعي، مع تفسيره المعروف الشرعي بل والعرفي بالسلب الذي هو أعم من الإيجاب، وفيه أنه لا يصدق على كل ما لم ينكره الشرع انه (معروف) وذلك مثل المباحات _ لا عرفاً ولا شرعاً ولذا لا يجب ولا يستحب الأمر به، كما ليس (لهن) ذلك في قوله تعالى: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾.(2)
والظاهر أن المعروف والمنكر من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث.
وقد يقال: الظاهر إرادة (المعروف العرفي)، لأن العرف هم الملقى إليهم الكلام، وذلك مقتضى (بلسان قومه)، ولا حقيقة شرعية ل(المعروف)، غاية الأمر ان الشارع تصرف فيه بعض التصرف زيادة ونقيصة ف(ليلة) من أربعة (معروف شرعاً) وإن لم يكن كذلك عرفاً.
و (الجامع): إن الأصل: (العرفي) وما عداه بحاجة للدليل.
ص: 346
وقد يقال: المراد ب(المعروف) الأعم من المعروف العرفي والشرعي والعقلي، وليس مآل القولين واحداً، والكلام هو في (الظهور).
قال السيد الوالد:
(ويحتمل أن يراد ب«المعروف» كل ما هو معروف عقلاً أو شرعاً. وبعبارة أخرى كلما أمر به الشارع أمراً خاصاً كالصلاة، أو أمراً عاماً لينطبق عقلاً على موارد خاصة، كالإحسان إلى الحيوان؛ فإن حسنه عقلي ولكن بمعنى أن العقل بنفسه يدرك حسنه، ويشمله كلي شرعي هو قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾).(1)
ثم إن الإمساك بالمعروف والتسريح بالمعروف، من مصاديق (العدل) فهو من المستقلات العقلية.
قال تعالى: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾.(2)
و (القوام بالقسط) أبلغ في الدلالة من (القائم بالقسط) فإنها صيغة مبالغة.(3)
وقد يقال إنه لا تقتصر دلالته على الكمية فقط أي لا يعني القيام دائماً به فقط، بل يفيد الكيفية والشدة والتشدد والاحتياط فيه أيضاً. ومنه ما أشارت له الرواية من (أن يقول الرجل حقاً، وإن كان على نفسه أو
ص: 347
والديه، فلا يميل لهم عن الحق).(1)
ولعل (القوام بالقسط) دال على إقامته أيضاً أي بعث الآخرين للقيام به لا مجرد القيام به كثيراً _ فتأمل.
والظاهر أن لا وجوب آخر للقوامية بالقسط وراء وجوب القسط نفسه؛ فإن آحاد القسط واجبة، إلا إذا قيل بدلالتها(2) عرفاً على لزوم تحصيل الملكة لتلازمهما عادة، فتكون الآية من أدلة وجوب الملكة وراء الالتزام العملي، بناء على كونها أمراً وراء العمل _ كما هو الظاهر _ وأنها صفة نفسانية وحالة راسخة.
وإذا لم يكن لها وجوب آخر وراء القسط نفسه، كان الأمر بها إرشادياً إلى وجوبه، بنفس الأدلة التي سيقت لإرشادية أمر (الإطاعة) على المشهور أو أمر (التوبة) كما ذكره السيد الحكيم في المستمسك، والجواب، الجواب؛ إذ ملاك المولوية صدوره من المولى بما هو مولى، وهو جار في المقام دون لزوم محذور تسلسل أو تحصيلِ حاصلٍ أو لغوية أو ما أشبه، فراجع تفصيله في (فقه التعاون على البر والتقوى) و (مباحث الأصول).
وعلى أي فإن (القيام بالقسط) من المستقلات العقلية.
لكن هل (القوامية) به كذلك؟ إذا أريد بها الاحتياط في القيام بالقسط، بإتيان حتى محتملاته وإن لم تكن في أطراف العلم الإجمالي،
ص: 348
وبمعنى الإتيان بشيء من أطرافه حائطةً له.قد يرجع في الحكم بذلك إلى كلي الحكم في (الاحتياط) وانه من المستقلات أم لا؟ وقد فصلناه في موضع آخر من الكتاب.
وأما (الشهادة لله) فإنها مقتضى العبودية لله تعالى، فهي على هذا من المستقلات العقلية.
ومفاد (الشهادة لله) إخلاص العمل له، بأن يأتي به لله، لا للرياء والسمعة أو عداءً لشخصٍ _ بأن يقيم الشهادة عليه، وإن كانت حقاً، حقداً منه عليه وبغضاً منه له، لقضية سابقة بينهما مثلاً _ أو لإحراز مصلحة ما.
ولو خلينا والآية، لأفادت الوجوب النفسي التعبدي لأداء الشهادة لله، لكن الدليل الخارجي يكفي صارفاً، فتبقى دلالتها على أصل المطلوبية في ضمن الاستحباب.
وقد بحثنا عن الإخلاص بعض الشيء في ضمن آية أخرى و هي: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾.
وكقاعدة الحمل على الصحة المستفادة من قوله تعالى ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً﴾(1) وغيره.
ص: 349
ولعل ذكر (المؤمنين والمؤمنات) مما يستفاد منه كون (الظن خيراً) محبوباً للمولى بما هو مولى، وان طلبه صادر منه بما هو مولى لا بما هو ناصح فقط؛ إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
و (ظنهم بأنفسهم) مع أن المورد مورد (الظن بالغير) بنكتة كونهم وحدة واحدة ويداً واحدة وجماعة أو مجتمعاً واحداً، فما يضر بالبعض فإنه مضر بالكل.
ولعل المستظهر أن المراد مطلق: (حسن الظن بالغير) وليس (حسن الظن بالذات).
و ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ﴾(1)، وقد فصلنا في الأصول الحديث عن هذه الآية الشريفة والإجابة عن إشكال «ان بعض الظن إثم» موجبة جزئية فهي بحكم (المهملة) فلا تنتج، فكيف بأن تنتج قضية كلية؟
ثم الظاهر أن اجتناب (ظن السوء) بالآخرين من المستقلات العقلية في الجملة...
ص: 350
وأما الأوامر الطبية وما يرجع إلى صحة المرء وسلامة جسده وأعصابه ونفسه، وقواه أو قواها، بل وعقله بل وروحه(1) فقد ادعي أنها إرشادية، إما بلحاظ أن مصالحها دنيوية، أو بلحاظ أنها لم تصدر من المولى بما هو مولى بل بلحاظه الصرف لما في المأمور به من المصلحة.
وبعبارة أخرى: إنها مما لا يترتب على مخالفته سوى ما في نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، ولا على موافقته إلا ما يقتضيه فعله كذلك _ وهو ما ذهب إليه الشيخ قدس سره في تعريف الإرشادي.(2)
لكن الظاهر أن بعضها مولوي، نظراً لانطباق ضابط المولوية
ص: 351
المرتضى، عليها، وإن لم ينطبق عليها عدد آخر من الضوابط(1)، فلا يصح سوقها بعصى واحدة.
إذ قد يقال: بأن المستفاد من لحن الكثير منها أو من القرائن المقامية والمقالية المحتفّة، أنها مولوية _ ندبية أو وجوبية، لا إرشادية.
نعم، لعل قسماً منها من قبيل (المولوية _ النصحية)، وليس (المولوية _ التشريعية)، وبرهانه الإنِّي: عدم استحقاق العقاب أو الثواب، فلابد من ملاحظة كل مورد مورد بحياله.
ومن الأمثلة على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله (علموا أولادكم السباحة والرماية).(2)
وكلاهما نافع: للصحة وسلامة النفس والبدن وقوة الأعصاب _ المؤثر في حسن الخلق _ ولسلامة العقل وسلامة الفكر، كما أن بهما اجتناب (الفراغ) الموجب للفساد، فيكونان السبب لسلامة الروح والعقل من هذه الجهة أيضاً، كما أنهما من العلل المعدة ل(المنعة) من العدو، وغير ذلك.
والظاهر من الروايات ومن مذاق الشرع، أن هذه الأواخر، محبوبة للشارع الأقدس، فيكون طلب ما يضمنها ويؤدي إليها، لجهة محبوبيته، فينطبق الضابط الثالث، بل والثاني أيضاً، ويرجح كونه مصداقاً للضابط
ص: 352
الأول أيضاً.
وتظهر الثمرة في دعوى (المولوية) لأمر تعليم الرماية والسباحة، في استحبابها وترتب الأجر والثواب عليها.
ثم إنه إذا ثبت استحباب التعليم، ثبت استحباب التعلّم، للملازمة عرفاً بينهما، كما ذكروا ذلك في آية ﴿لينذورا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾(1) في بحث حجية خبر الواحد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (سافروا تصحوا وتغنموا).(2)
وسببية السفر للصحة، بلحاظ أنه موجب لتقلب الأحوال، والتعرض لمختلف الأجواء، وللضغط الذي يواجه به البدن، وكلها من أسباب تقوية مناعته، وتعويده على شدة التحمل والجلد، وذلك من أسباب (صوموا تصحوا)(3) و(حجوا تصحوا)(4) ومن فوائد الحج أيضاً؛ إذ قال تعالى: ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾.(5)
ص: 353
ويظهر من آية (الحج) أن هذه المنافع(1) محبوبة للمولى بما هو مولى ومطلوبة له، مما يكون قرينة على أن طلبه ما يؤدي إليها _ كالسفر وغيره _ كان بجهة محبوبيته له، ومولوياً.
بيان ذلك: إن الظاهر شمول ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ لشتى منافع الدنيا والآخرة _ ومنها الصحة والسلامة والربح والغنيمة، وهما موطن الشاهد في ما صرنا إليه من مولوية أمر السفر وأشباهه _ فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عندما قال: إني سمعت الله عز وجل يقول ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ فقيل: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: (الكل).(2)
وفي العيون عن الإمام الرضا عليه السلام: (وعلة الحج: الوفادة إلى الله عز وجل.. وما فيه من استخراج الأموال وتعب الأبدان وحظرها عن الشهوات.. ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر..).(3)
ولذا قال الفاضل المقداد رحمه الله: (ولو حمل على منفعتي الدنيا والآخرة لما كان بعيداً من الصواب، ولذلك نكّر المنافع الدال ذلك على تكثيرها)(4)، بل قد عرفت دلالة بعض الروايات على التعميم.
وعلى أي، فإن من يلاحظ الآيات والروايات ومنها (صوموا تصحوا) و (حجوا تصحوا) و (سافروا تصحوا) لا يبقى له شك في محبوبية الصحة
ص: 354
للمولى جل وعلا، بما هو مولى؛حيث جعلت الصحة غاية لعدد من أهم الواجبات من فروع الدين فيعرف بالبرهاني الإني(1)، من جعلها غاية لشيء (كالسفر) محبوبيته للمولى بما هو مولى.
وأما سببيته (للغنيمة) فلأن السفر يفتح للإنسان: آفاقاً جديدة، وعلاقات جديدة، ويقدح في ذهنه أفكاراً جديدة.
وغير خفي أن ذلك كله بنحو المقتضي لا العلة التامة، إلا أنه كافٍ في دعوى محبوبيته للمولى، وان الأمر به قد صدر لجهة محبوبيته.
ثم إننا قد فصلنا في موضع آخر من الكتاب وفي (فقه التعاون على البر والتقوى) في مبحث إرشادية أو مولوية أوامر (التوبة) أن (التعليل) لا يصلح بحد ذاته صارفاً للأمر عن المولوية؛ فإنه قد يكون لتقوية الداعي لإطاعة الأمر المولوي.
وهل (للسفر) حسن ذاتي أم عارض؟ الظاهر الثاني، فحسنه على هذا مقدمي فلا استقلال للعقل بحسنه، إلا بناء على ما سيأتي في مبحث الاستلزامات.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام (إن رسول الله نهى أن يسافر الرجل وحده وقال: الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة نفر).(2)
وقوله صلى الله عليه وآله: (الواحد شيطان..) لأن شطن بمعنى (بعد من الصلاح
ص: 355
والخير)(1)، والمسافر وحده بعيد عن الصلاح والخير وعن رحمة الله، لأنه قريب من الأخطار، وقريب من تمكن الشيطان منه بالوسواس والخوف وغيرهما.
وأما كون الاثنين (شيطانين) فلأن الشيطان قد يغري أحدهما بالآخر بما يحرم، أما الثالث فيكون حجاباً حاجزاً عادة.
وهل نهيه صلى الله عليه وآله عن (السفر وحده) نهي مولوي أو إرشادي؟
قد يستظهر الأول بقرينة وصفه (بالشيطان) فإن مقام النبي بما هو نبي ورسول ومولى، هو النهي عن إتباع الشيطان أو عن ما يوجب الاتصاف بصفاته، وقد يعد رجحان كون النهي عن السفر وحده، مولوياً، مرجحاً لكون الأمر به، مولوياً كذلك، لقرينة التقابل.
وقال الرسول صلى الله عليه وآله (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر؛ فإن ولدها يكون حليماً نقياً).(2)
و (الحلم) صفة يراد بها رضى الله تعالى والقرب إليه، وهو من أسباب سمو الروح، وهو زكاة للنفس، كما أنه حاجز عن كثير من المعاصي، كما انه موجب لمحبة الناس، وإذا كانت جهاته الأخروية هي محط النظر في هذا الحديث وأمثاله أكثر من جهاته الدنيوية، انطبق ضابط المولوية
ص: 356
الثاني عليه (وهو ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة).
والروايات الدالة على ذلك عديدة ومنها ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا وقع بين رجلين منازعة، نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت، وستجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت، سيغفر لك إن أتممت ذلك، قال: فإن رد الحليم عليه ارتفع الملكان).(1)
وعلى ذلك فإن الأمر بالحلم أو بما يؤدي إليه هو أمر مولوي، بناء على الضابط الثاني، بل وبناء على الضابط التاسع للمولوية.(2)
سلمنا لكنه يظهر من الحديث ونظائره أنه محبوب للمولى بما هو مولى فينطبق ضابط (المولوية) الثالث عليه، وهو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته)، إذ لا شك في أن (الحلم) محبوب للمولى جل وعلا وللرسول وأولي الأمر وإنه مطلوب لهم.
ويدل عليه الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿إن إبراهيم لأوّاه حليم﴾(3) و ﴿فبشرناه بغلام حليم﴾(4) ووصف الله تعالى نفسه ب(حليم) مكرراً.
ص: 357
ومن السنة: ما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف).(1)
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (كان علي ابن الحسين عليهما السلام يقول: (إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه).(2)
وأما على الضابط الأول، فإنه مولوي لو استظهرنا أن (أطعموا) بقرينة هذا التعليل ب(يكون حليماً) والتعليل ب(نقياً) الظاهر في الطهارة والنقاء من الذنوب(3)، قد صدر منه بما هو مولى.
وعلى (المولوية) فإن إطعامها التمر، يكون مستحباً ويترتب عليه الثواب.
وقوله صلى الله عليه وآله: (تداووا) لا يستبعد استظهار كونه (مولوياً)، وانه صادر منه بما هو مولى لنا، فإنه بما هو مولى، يبغض المرض، وترك التداوي منه، وقد فصلنا كون الرسول والإمام معنيّاً، بما هو مولى، بكلا شأني الدنيا والآخرة، في فصل آخر.
ويمكن الاستناد في مطلوبية (التداوي) و (العلاج) و (الاستشفاء) إلى قوله تعالى: ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس﴾(1)، بل حتى إلى مثل ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين﴾(2) مما يدل على محبوبية (الشفاء) و (مطلوبيته) للباري جل وعلا، فيدل بالملازمة العرفية على مطلوبية سببه وعلته المعِّدة، سواء ما كان من قبيل القسم الأول(3)، أم ما كان من قبيل القسم الثاني(4) المشار إليهما في الآيتين الشريفتين.
وغير خفي إمكان انطباق (الضابط الثاني) على (التداوي)؛ إذ المريض يقعد به المرض عن شؤون الآخرة، وكذا (الضابط الثالث) فإنه(5) محبوب للمولى بذاك اللحاظ، وكذا (الرابع) فإنه لا تلزم من إعمال المولوية فيه، التسلسل وسائر المحالات.
ص: 359
وهل (التداوي من المرض) من المستقلات العقلية؟ الظاهر انه في الجملة كذلك، فهو على (الضابط الخامس) إرشادي.
وقد عقد السيد الوالد قدس سره لذلك باباً وصدّره ب (مسألة: تستحب المعالجة والمداواة في الجملة، وقد تجب).(1)
والظاهر أن استحبابه أو وجوبه غيري، توصلي، مقدمي.(2)
وقيدنا بقيد (في الجملة) إذ ليس مطلق التداوي مما يستقل العقل بحسنه أو يحبّذه الشارع.
ومن ذلك قول الإمام علي عليه السلام: (أمش بدائك ما مشى بك).(3)
وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: (تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء)(4)، وعنون في (الفقه الطب) ذلك ب (كما يستحب أن لا يكثر من الدواء).وإذا ثبت كون أصل التداوي محبوباً للمولى، أو انه يراد به شؤون الآخرة _ في محط النظر ولو في الجملة _ كان عدم الإكثار من الدواء، وتحمل المرض إلى حينٍ وعدم الإسراع للدواء، كذلك.
لكن قد يقال بعدم كونه من المستقلات العقلية، وإن كان أصله من المستقلات. فتأمل.
ص: 360
وقال الرسول صلى الله عليه وآله: (احتجموا إذا هاج بكم الدم؛ فإن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله).(1)
والأمر للوجوب، والتعليل مؤكد له، بل هو من قبيل العنوان والمحصّل، ولولا الشهرة على عدمه، لكانت روايات الحجامة كفيلة بإثباته، ومعها لا محيص عن الاستحباب، إلا فيما كان مقدمة للواجب، فواجب.
وفي تفسير القمي: (فما مررت بملأ من الملائكة، إلا قالوا يا محمد احتجم وأؤمر أمتك بالحجامة).(2) مما يدل على شدة الإهتمام بشؤون الدنيا والأمور الطبية، كالاهتمام بشؤون الآخرة.
وعنون في (الفقه: الطب) ب: (تستحب الحجامة استحباباً مؤكداً) كما عنون ب (استحباب الحمام).
وروايات الحجامة كثيرة وقد ذكرت فيها منافع كثيرة.
ولعل المستظهر من رواية تفسير القمي أن الأمر بها مولوي؛ فإن دلالة (وأؤمر أمتك بالحجامة) قوية على ذلك، لا نظراً ل(أؤمر) فقط بل للتعبير ب(أمتك) أيضاً، والظاهر أن نسبة (الأمة) إليه أي بما هو نبي مرسل لا بما هو ناصح، ولذا قال في مجمع البحرين: (أمة كل نبي،
ص: 361
أتباعه. ومن لم يتبع دينه _ وإن كان في زمانه _ فليس من أمته).(1)
وكذا ما علل فيه ب(إن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله) لما علم من مبغوضية وحرمة (إتلاف النفس والقتل والانتحار) لدى الشارع ولدى المولى بما هو مولى.
وكذا ما ورد من قول أبي عبد الله عليه السلام: (نزل جبرئيل على رسول الله بالسواك، والخلال، والحجامة).(2)
فإن نزول جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله بذلك دليل على محبوبيته للمولى، ونزوله على النبي صلى الله عليه وآله به بما هو محبوب فينطبق الضابط الثالث، ويستظهر منه استحقاق الثواب عليه، فينطبق الضابط التاسع، كما يقرب استظهار انطباق الضابط الأول الذي ارتضيناه.
وقال الإمام الرضا عليه السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتحل)(3).وواضح قرينية (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر) لكون (فليكتحل) مولوياً لا إرشادياً، لكنه للاستحباب للصارف، وقد يشعر أن مصلحته أخروية بالأساس وإن تضمن الدنيوية؛ فإن المقياس (المصبّ) ومحط النظر أولاً وبالذات.
ص: 362
وهناك المئات _ ولعله الآلاف _ من الآيات والروايات التي تتحدث بإيجاز حيناً وبإسهاب أحياناً أخرى، حول الطعام، وآداب الأكل والشرب، وآداب السفرة والمائدة، وأنواع الأطعمة والأشربة بما فيها الفواكه والخضروات، بين آمر ببعضها وزاجر عن البعض الآخر _ مما لم يكن حراماً _ وبين مخبر عن فوائدها أو أضرارها وبين مصرح بمحبوبيتها ومطلوبيتها لله أو الرسول أو الأئمة عليهم الصلاة والسلام أو ملوح بذلك أو دال عليه بدلالة الإيماء والتنبيه والإشارة أو غير ذلك.
وقد صرح في بعضها بالحكمة، ولم يصرح في بعضها الآخر.
ثم إن ما صرح فيه بحكمته، قد يكون ما ذكر فيه هو المصلحة الدنيوية، وقد يكون المصلحة الأخروية، وقد يكون الخطاب فيه للناس وقد يكون للمؤمنين.
ص: 363
وقد جرى بعض الحديث عن ذلك عند الحديث عن آية (كلوا واشربوا) وأن أصل طلبهما مولوي أم إرشادي؟، ويجري الحديث الآن عن (الأنواع) و (الخصوصيات)، ولو ثبتت المولوية ههنا، ثبتت في (الأصل) بطريق أولى.
إلا أن يقال: لا أولوية بل لا تلازم؛ إذ قد توجد في (النوع) أو (الخصوصية)(1)، خصوصية بها يكون مولوياً، وهي لا توجد في (الأصل)، لكنه قد يستفاد ذلك عرفاً منه(2)، وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾(3).
وقد صرح بعض الفقهاء (بالاستحباب) في الكثير من تلك الموارد، نظراً لبعض ما سبق، وغيره، مما أشرنا إليه في مواضع أخرى من الكتاب.
قال في (الفقه الطب): (مسألة: يستحب أن يمضغ الطعام جيداً).
واستند إلى رواية الأمير لابنه الحسن عليهما السلام (... وجوّد المضغ)(4).
وذلك مبني على استظهار المولوية؛ إذ على الإرشادية لا استحباب.
ص: 364
لكن قد يقال إن إنشاء الأمر هذا بلحاظ مصلحةٍ دنيويةٍ، فعلى الضابط الثاني في المولوية والإرشادية، فإنه أمر إرشادي، ويستتبع ذلك أن لا ثواب ولا استحباب، لكن هذا الضابط غير تام كما فصلناه، والصحيح هو الضابط الأول وهو أن (المولوي ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته) مع قيد (إذا كان في مقام التشريع) أو لا، ويبدو انه قده استظهر صدوره من (المولى بما هو مولى) وسنوضح ذلك بعد قليل بإذن الله تعالى.
وقال: (يستحب اختيار جملة من الأطعمة ورعاية آدابها).
وقال: (يستحب اختيار خبز الشعير) وذكر روايات كثيرة.وقال: (يستحب شرب اللبن).
وفي طب النبي صلى الله عليه وآله (شرب اللبن من محض الإيمان)، ولعله لأنه يقوي العقل _ فإنه غذاء المخ _ ويهدئ الأعصاب، وهما من أهم ما يحفظ الإيمان(1)، ولعل له تأثيراً غيبياً أيضاً.
وقد يستفهم عن سبب كونه من (محض الإيمان)، وعدم الاقتصار على كونه (من الإيمان)؟ ثم هل (من) نشوية أو تبعيضية؟
وقال: (ويستحب الملح) قال الصادق عليه السلام: (عليكم بالأبيضين الخبز والرقة) يعني الملح.(2)
ص: 365
وقال: (ويستحب أكل الهريسة) واستشهد بروايات عديدة.
وقال: (ويستحب أكل العسل).
وفي فقه الرضا عليه السلام (عليكم بالعسل وحبة السوداء).(1)
و (عليكم) تعني (أوصيكم) وقد يقال: ظاهر (أوصيكم) المولوية لا الإرشادية؟ لكن فيه أن (عليكم) أقرب للمولوية، عكس (أوصيكم) فإنها أقرب للإرشادية والتعبير عن أحدهما بالآخر، لا يقتضي ثبوت خصوصياته له(2) إذ لا (ترادف) حقيقي في اللغة كما فصله الوالد في (الأصول) و (الفقه)، وقد فصلنا في موضع آخر الحديث عن مفاد (الوصية).
وقال: (يستحب أكل التمر والابتداء به) و خاصة( الصيحاني).
وقال: (يستحب أكل العنب) و (الرمان) و (الزبيب) و (التفاح) و (السفرجل على الريق) و (التين) و (البطيخ) وغيرها، و (الخضروات) و (السعتر) و (الأهليلج الأسود) وغير ذلك.
وكل ذلك لروايات مستفيضة في أكثرها فراجع (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار) و (الفقه الطب) وغيرهما.
واستقراء كل ذلك مما يطول به المقام، لكثرة الروايات الواردة فيها، وصراحة بعضها في المقصود، وحاجة بعضها للتنقيح والإيضاح، ولعلنا نبحث جانباً من ذلك في المجلد الثاني، إذا شاء الله؛ مع بحث أسنادها
ص: 366
نظراً لصحة سند بعضها، وتواتر بعضها تواتراً إجمالياً أو مضمونياً، واحتفاف بعضها بالقرائن المفيدة للعلم أو الإطمئنان.
ولنكتف ههنا بروايتين كمثال وللتبرك:
فقد قال الإمام الباقر عليه السلام (وكله [ أي العنب ] حبتين حبتين إنه يستحب).(1)
فإن (يستحب) نصٌ في الاستحباب الظاهر في استحقاق الثواب، واحتمال إرادة الاستحباب اللغوي بعيد _ فتأمل.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (من أكل رمانة على الريق، أنارت قلبه، وطردت شيطان الوسوسة أربعين صباحاً)(2)، وبمضمونها أحاديث كثيرة في (الفروع) و (المحاسن) وغيرهما ومنها (.. وطردت عنه وسوسة الشيطان ومن طردت عنه وسوسة الشيطان، لم يعص الله، ومن لم يعص الله دخل الجنة).(3)
وقد ذكر السيد الوالد جانباً من فلسفة ذلك _ إضافة إلى الجانب الغيبي _ ب(أقول: الوسوسة من فساد "الدم" و الجسم، والرمان ينقي المعدة "والدم" فلا يفسد الجسم كما تقدم)(4)، فإن (الرمان) يطهّر الدم من السمومات، كما يصفي الكلية وغيرها.
ص: 367
ومن البين لحاظ المصلحة الأخروية في هذه الروايات؛ فإن (أنارت قلبه) ظاهر في ذلك، و (طردت عنه شيطان الوسوسة) كالصريح في ذلك، و (لم يعص الله) صريح في ذلك، فعلى الضابط الثاني، فإن الأمر _ لو ورد _ فهو مولوي.
وقد سبق إمكان اعتبار الجملة الخبرية، إنشائية، ووقوعه، ولو لم يكن المقام منها، فإن هذه الجملة لا شك دالة على مطلوبيته للمولى، فقد فصلنا في موقع آخر ما ذهب إليه الميرزا الشيرازي قدس سره من: أن الجملة الخبرية لو قامت قرينة على إرادة الطلب منها، كان الأصل فيها الوجوب عندئذٍ لا الندب، بل تكفي الدلالة على الندب، فإنه مولوي، بل لا حاجة لنا لكل ذلك، إذ أن دلالة مثل هذه الجملة (أنارت قلبه) و (طردت عنه وسوسة الشيطان) وغيره، بالدلالة الإلتزامية أو بدلالة الاقتضاء، على سبق أمر من المولى، لو أنكرت، فإنه تكفي معرفة (غرض المولى) وإن لم يشفع بأمر، في رجحان الإتيان بما يحقِّقه بل وجوبه _ على حسبه _ كما فصلنا ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى)، بل لا حاجة لنا إلى كل ذلك؛ إذ يكفي صريح كلام الإمام في ترتيب الثواب عليه(1) ب: (دخل الجنة) على كونه مطلوباً للمولى بما هو مولى لا بما هو ناصح وإلا فلا ثواب، فينطبق عليه الضابط التاسع للمولوي، وهو ما ذهب إليه الشيخ من (ما يترتب عليه الثواب والعقاب).
كما أن الضابط الثالث أيضاً مما ينطبق على المقام وهو (ما كان محبوباً للمولى، وقد صدر لجهة محبوبيته) وكذا الأول؛ فإن المستظهر
ص: 368
من ذلك كله أن طلبه قد صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقامه.
و (الحاصل) انه بناء على استظهار المولوية، فإن أكل العسل والتمر وسائر المذكورات، يكون مستحباً ويترتب عليه استحقاق الثواب لكونه إطاعة لأمر المولى، دون ما لو قلنا بالإرشادية، وان المرشِد مخبر عن المصلحة على رأيٍ، ومنشأ بداعي النصح للعمل على رأي آخر، فلا استحباب ولا ثواب في إطاعته، إلا على ما ذهبنا إليه من أن (النصح) قد يصدر من المولى بما هو مولى، فيكون لخصوص هذا (الثواب)، دون النصح الصادر مجرداً عن مقام المولوية أو لحاظها.و (التحقيق): اختلاف الأمر حسب الاختلاف في الضوابط التي يصار إليها للمولوي والإرشادي، وحسب اللحن والقرائن في كل مورد ومورد، فلابد من ملاحظة كل مورد ورواية بذاتها، كما قد فصلنا الحديث عن (الضوابط) في موضع آخر فتدبر جيداً.
ص: 369
قد يقال: إن الفرق بينهما أن (الواعظ) يطلق عادة على ما يرتبط بمكارم الأخلاق أو شؤون الآخرة، فلا يطلق على النصائح الطبية مثلاً، ولا على النصائح التجارية وما أشبه مما يعود للجسد أو المال وشؤون الدنيا عموماً، فلا تقول (وعظته) بشرب الدواء الكذائي أو ببيع منزله أو ما أشبه.
و (الناصح) يطلق عادة على ما يرتبط بشؤون المعاش أو الشؤون الشخصية، أي شؤون الدنيا عموماً، تقول: نصحته بشراء كذا أو بعدم السفر أو الزواج من تلك المرأة.
وإن كان قد يطلق كل منهما على الآخر، فإنهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
لكن الأصح هو أن (النصح) أعم.
ص: 370
فإن الوعظ هو الزجر المقترن بالتخويف _ كما في المفردات(1)_ وأضاف (وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب)(2) والظاهر أن الوعظ أعم من التعريف الأول بلحاظ قيد (التخويف) وبلحاظ (الزجر) إذ لا يشترطان فيه، إضافة إلى أن مفهوم الوعظ أقرب للإيجاب منه للسلب(3) تقول: وعظه بأن يقرأ القرآن أو يزيد من إكرام أمه أو أن يتصدق دائماً.(4)
فقول الخليل أقرب، نعم ربما يكون قيد (يرق له القلب) أخص من (الوعظ) فتأمل.
وربما تكون استعمالاته في القرآن الكريم، أعم(5)، قال تعالى: ﴿يعظكم لعلكم تذكرون﴾(6) و ﴿يا أيها الناس قد جائتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين﴾(7).
أما (النصح) فهو (تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه).(8)
ص: 371
وبذلك يظهر أن (النصيحة لأئمة المسلمين)(1) هي كل فعل أو قول يؤدي لصلاحهم، لا بما هم أشخاص أو بما هم حكام، بل بما هم (أئمة المسلمين)، فقد لوحظت (الإضافة للمسلمين) فإنه بما هو متصف بهذه الصفة ومتقلّد هذه المسؤولية، من حقوقه على الناس _ وبالعكس _ أن يفعلوا كل معروف ومنه أن يضغطوا كل ضغط عليه، لكي تستقيم حكومته ويصلح حاله وتحسن إدارته، فلو لم يفعلوا أخلوا بحق من حقوقه، بما هو إمام لهم، عليهم، وأخلوا بواجب من واجباتهم.
ولعل مما يشهد لهذا المعنى قول الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه)(2) وقول الإمام الصادق عليه السلام: (عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه).(3)
وبذلك ظهر ضعف ما توهمه بعض من: أن النصيحة لهم هي (الإخلاص لهم وخلوص النية لهم)، فإنه غير معهود عرفاً، وغير متفاهم منه عرفاً، وإن كان أحد معنييه لغة كما سيأتي.
وقد توهم في مثل صحيحة بن وهب عن الإمام الصادق عليه السلام: (يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب)(4)، فإن
ص: 372
إرادة (الإخلاص له) بعيدة، والأقرب هو ما ذكرناه من (تحري كل فعل أو قول فيه صلاحه).
وكذلك رواية الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه)(1)، فإن إرادة (ليخلص لأخيه كإخلاصه لنفسه) بعيدة. بل ك(تحري كل ما فيه صلاحه) هو المراد.
وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام: (فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم... وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب...).(2)
ويتضح ذلك بملاحظة قوله عليه السلام: (وأقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم).(3)
كما يدل على ما ذكرناه أيضاً قول أمير المؤمنين عليه السلام: (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)(4) و (من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة)(5) و (من قبل النصيحة أمن من الفضيحة)(6) و(كيف ينتفع بالنصيحة من يلتذ بالفضيحة)(7) و (مناصحك مشفق عليك، محسن إليك، ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك وفي مخالفته فسادك).(8)
إذ من الظاهر أن المعنى المعهود عرفاً للنصيحة هو المراد في كل
ص: 373
هذه المواطن لا (الإخلاص والخلوص) أو (الإحكام).
وورد في صحيحة الريان بن الصلت في تعليل الإمام الرضا عليه السلام عدم نهيه قوماً يتعاطون أموراً قبيحة (النصيحة خشنة)(1)، والظاهر أنه عليه السلام لم يكن يحتمل التأثير فيهم، أو كان هناك ضرر أهم.
على إنه لو أريد بالنصح في (والنصيحة لأئمة المسلمين) معناه اللغوي، كان معناه (خلوص النية لهم في نصحهم وإرشادهم وزجرهم عن الباطل وأمرهم بالمعروف، لحقهم عليه بما هو إمامهم) _ لو كان إماماً بالحق، وإلا كان سالبة بإنتفاء الموضوع _ ويعني (خلوص النية لهم) في ذلك كله، أن يقوم بما يقوم به لا لأجل جلب مصلحة شخصية، أو دفع ضرر محتمل، بل لمحض الإخلاص والخلوص لهم، بما هم أئمة للمسلمين، والذي مآله إلى: خلوص النية بل نية القربة أيضاً، بكل قول أو فعل يراد به تسديدهم _ حدوثاً أو بقاءً _.
وبعبارة أخرى يعني: (خلوص النية لهم فيقوم (بمقتضى) خلوصها لهم بما هم أئمة المسلمين) و (مقتضاها) هو كل قول أو فعل يثبتهم على الحق ويردعهم عن الباطل.
كما يحتمل في (النصيحة لأئمة المسلمين) المعنى الثاني للنصح وهو (الإحكام)، بأن يحاول ويسعى لإحكام وإستحكام أمورهم على الحق وإحكام إدارتهم الأمور بما يرضي الرب، وبما يضمن لهم حسن العاقبة، ولذا سمي الخياط ب(الناصح) لإحكامه ربط قِطَع القماش بعضها ببعض، ف(يحكم) ربط أمورهم وأحكامهم بالحق، أو يحكم ربط بعضها
ص: 374
ببعض، مما يكون حقاً مرضياً لله تعالى.
وعلى أي فإن (النصيحة) لأئمة المسلمين، من المستقلات العقلية، بكل محتملات معانيها الثلاثة، بل لعله من الأمور الفطرية لكونه شكراً للنعمة _ بتصدي الإمام العادل لإدارة شؤون الأمة، وسهره وتكبده المشاق لإقرار أمنها وإزدهارها وسعادتها وتقدمها _ وفيه جلب المنفعة ودفع المضرة.
فالأمر بها، يعد على (الضابط الأول)، مولوياً، فهو واجب، وفي تركه العقاب.
نعم على (الضابط الخامس)، الأمر إرشادي، لكنه غير تام مبنى كما فصلناه في موضعه.
وعلى أي فإن النصح أعم من ما فيه صلاح الدنيا أو الآخرة، ومما يعود إلى الشخص أو المجتمع، ومما كان فيه زجر وتخويف أم لا، بل ومما كان ضاراً بالآخرين أو لا، مادام فيه (صلاح صاحبه) بنظر الناصح.وقد جاء النصح في القرآن الكريم لكلا جانبي الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وقاسمهما أني لكما من الناصحين﴾(1) و قال ﴿لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين﴾(2) و ﴿فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون﴾(3).
ص: 375
وعلى أي فهو أعم من الوعظ، ويؤيد أعميته مادة اشتقاقه فإنه من (النصح) الذي أتى _ كما سبق _ بمعنيين:
أ- (الإحكام) ولذا قيل للخياط (الناصح) لأنه يحكم قطع القماش بعضها ببعض، أو يحكم صنعته، و (نصحت الجلد) أي خطته.
ب- و (الإخلاص) أو (الخلوص) ومنه ناصح العسل أي خالصه.
وعلى كليهما فإنه شامل لكل ما ذكر(1) فإنه النصح له، أما بمعنى خلوص النية في ما ينصحه، أو بمعنى إحكامها وإتقانها، وكل منهما أعم.
فعلى ضوء مبحث (مولوية الأوامر وإرشاديتها) والضابط فيها، يظهر الحال في أوامر ونواهي المعصومين عليهم السلام الواردة في شؤون المعاش والاقتصاد أو الشؤون الطبية أو الأخلاقية أو غيرها مما يتعلق بالشخص نفسه أو الأعم، فهل هي إرشادية بدون طلب؟ أو إرشادية طلبية لغير الإلزام؟ أو إرشادية طلبية ندبية؟ أو إرشادية طلبية وجوبية؟ أو أنها مولوية؟
ثم هل (الوعظ) و (النصح) إرشاديان للندب أو للوجوب أيضاً _ على ما ذهب إليه الشيخ من إنقسام الإرشادي إلى الواجب والمندوب _ بل هل هما ممحضان في الإرشادية أم إن من أقسامهما ما هو مولوي؟(2)
ص: 376
ومنها: الأوامر والنواهي المتعلقة بأبواب العقود والإيقاعات، من أجزائها وشرائطها وموانعها وروافعها، فهل هي مولوية ولو للندب؟ أو إرشادية للشرطية والمانعية وغيرها؟ وقد تكلمنا في موضع آخر من الكتاب عنها بالتفصيل، فليراجع.
ص: 377
ومنها: ما يتعلق بالتوصليات.
ونقصد بالتوصلي ما يقابل التعبدي _ وهو المعنى الرابع الذي ذكرناه لهما في (فقه التعاون على البر والتقوى) _ أي سواء كان توصلياً بالقياس للمكلف _ وهو المعنى الأول _ أم لا، وسواء كان توصلياً بالقياس للإختيار والقصد _ وهو المعنى الثاني _ أم لا، وسواء كان توصلياً بالقياس للفرد المحلل والمحرم أم لا _ وهو المعنى الثالث _ (1) وذلك كأوامر نزح البئر وغسل البدن من الخبث.
فهل هي مولوية غيرية، أو مولوية نفسية، أو إرشادية؟ أو بالاختلاف؟
ومنها: الكثير مما تعلق بأبواب الأحكام من ارث وقصاص وغيرها.
ومنها: أوامر الصحة أو القبول في العبادات، كالأمر بالاستقبال والساتر وحضور القلب، والنهي عن القهقهة، فهل هي إرشادية للشرطية والمانعية؟ أم مولوية تكليفية؟ ذهب بعض الأعلام للأول، والأصح الثاني، وسنفصل الحديث عن هذا في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.
ص: 378
ص: 379
ص: 380
إن ما ذكر كضابط للأوامر والنواهي بل مطلق الدوالّ الإرشادية والمولوية، أو ما يصلح
أن يعدّ ضابطاً هو:
مقام مولويته، إذ له ذلك بما هو مالك، وإن لم يجر ذلك في المالك الحقيقي، لكنه نظراً لحكمته، لا بلحاظ توقف المولوية على عدم كونه كذلك(1).
ومن لوازمه: حكم العقل باستحقاق(2) الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة.
فتفسيره به، تفسير باللازم، وليس بذاتي باب الكليات الخمسة(3)، بل ولا ذاتي باب البرهان.(4)
وبذلك يظهر عدم تمامية (الضابط التاسع) الآتي ذكره، إضافة إلى ما حققناه في محله: من أنه لا استحقاق للثواب على الإطاعة، بل كله تفضل.
و (الإرشادي) هو: ما صدر منه _ أو من غيره _ بما هو ناصح، ملاحظاً(5) المصلحة في المتعلق سواء كانت دنيوية أم أخروية، أم كانت واجدة لكلتيهما، بالمساواة أو التغليب بشقيه(6)، وسواء كان محبوباً للآمر بما هو هو(7) أم لا(8) أم لم يكن محبوباً له، بل حتى لو كان
ص: 382
مبغوضاً له(1)، فتأمل وسيأتي وجهه بإذن الله تعالى.
و (بما هو ناصح) تفسير بالمصداق؛ لأن الإرشادي مطلق غير (الصادر من المولى معملاً مقام مولويته) فيشمل ما صدر من النظير للنظير وغيره، ناصحاً كان أو غير ناصح، أو الصادر من المولى لا بلحاظ مقام مولويته، ولا ناصحاً، ولعل منه صورة (التعاهد المتبادل) وصورة ما يراه الطرف نصحاً مفيداً ويراه هو أمراً بلا فائدة بل مضراً فإنه (إرشادي) وليس بنصح _ فتأمل.
فالأولى التعبير ب(ما صدر منه _ أو من غيره _ لا كذلك، _ أي غير معمل مقام مولويته _ بل بما هو ناصح أو شبهه أو لا كذلك)، هذا إن تشبثنا بكون المولوي والإرشادي من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما.