الاوامر المولویة والارشادیة

هویة الکتاب

الاوامر المولویة والارشادیة

المجلد الاول

السید مرتضی الحسینی الشیرازي

الطّبعة الأولي

1431ه / 2010م

ص: 1

اشارة

ص: 2

مباحث الاصول

الاوامر المولویة والارشادیة

المجلد الاول

السید مرتضی الحسینی الشیرازي

ص: 3

کافة الحقوق محفوظة ومسجلة

الطّبعة الأولي

1431ه / 2010م

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله العظيم في كتابه الكريم:

«أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»(1)

وقال سبحانه: «قل أمر ربي بالقسط»(2)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إن الذي أمرتم به، أوسع من الذي نهيتم عنه»(3)

وقال جل اسمه : «إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(4)

وقال أمير المؤمنين : «فوالله إني لأولى الناس بالناس»(5)

وقال سبحانه «وقال الذي ءامن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد»(6)

وقال أمير المؤمنين «الله أنتم! أتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل»(7)

ص: 5


1- النساء 59
2- الاعراف 29
3- نهج البلاغة ج1 ص225 خطبة114
4- المائدة 55
5- نهج البلاغة ج1 ص231 خطبة118
6- غافر 38
7- نهج البلاغة ج2 ص108 خطبة182

ص: 6

المجلد الاول

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 9

ص: 10

المقدمة

اشارة

لقد كان قول الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(1) هو المنطلق والباعث الأول لكتابة بحث مستقل عن (الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية).

ذلك أن العديد من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أن (أمر الإطاعة) في هذه الآية الشريفة، هو أمر إرشادي وليس مولوياً، بل قال بعضهم باستحالة مولويته، رغم وضوح كونه مولوياً في النظر القاصر، وذهاب جمع من القدماء _ كالمحقق الرشتي رحمه الله _ والمتأخرين _ كالسيد الوالد رحمه الله _ إلى ذلك بل الى بداهته.

وكذلك الحال في (أوامر التوبة) في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً)(2) وقوله سبحانه: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)(3) والتي ذهب بعض الفقهاء إلى كونها إرشادية واستحالة كونها مولوية.

ص: 11


1- النساء: 59.
2- التحريم: 8.
3- النور: 31 .

مع قيام البرهان - كما نرى - على كونها مولوية؛ فإن ) أوامر التوبة( كانت هي الباعث الآخر لنا لتحقيق هذه المسألة، مما حدا بنا إلى الاستطراد في (بحث الأصول - مباحث القطع ) بالمناسبة، والتحقيق حول هذه الآيات الشريفة من هذه الزاوية، وقد أدرجت تلك البحوث حول (أوامر الإطاعة ) و (أوامر التوبة ) في (مباحث الأصول – القطع ) كما أدخلت جانباً منها في (فقه التعاون على البر والتقوى ).

وأما فكرة كتابة كتاب مستقل فقد نشأت من التفكير بضرورة كتابة بحث عن (الضابط الكلي للأمر المولوي والإرشادي) وكان إن سنحت بلطف الله ومنّه فرصة وجيزة، فكتبت بحثاً كلياً سريعا عن (الضوابط) التي عدّت، أو يمكن أن تعد (الملاك) للأمر والنهي المولوي والإرشادي، و (المائز) بينهما، ووجوه النقض والإبرام في ذلك.

من مباحث الكتاب

ثم لما عزمت على إعادة النظر فيها _ بعد فترة قصيرة _ فكرت في استيعاب البحث عن كلي المسألة – إضافة لتنقيح بحث (الضوابط) – وذلك بإضافة مباحث أخرى هامة، كالبحث عنأن الظهور الأولي للأوامر والنواهي في ماذا؟ وعن (الظهور الثانوي)؟، وعن (الغرض) من هذا المبحث و (الثمرة)؟، وعن أن (الأمر الإرشادي) هل يدل على الطلب أم لا؟ وإذا دل عليه فهل يدل على الوجوب أيضا كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما أم لا؟

وعن العديد من المصاديق التي يمكن أن ينطبق عليها أحد هذين

ص: 12

العنوانين، وشبه ذلك.

وكذلك فكرت في اضافة مباحث اخرى هانة منها:

مباحث أخرى

تحقيق الحال في ورود مصطلحي (الإرشادي والمولوي) في الكتاب والسنة، والمراد بهما فيهما؟

والبحث عن كون (مبحث المولوية والإرشادية) من (المسائل الأصولية) أم (من المبادئ التصديقية) لعلم الأصول؟

والبحث عن جريان شتى المباحث الأصولية فيهما، كالأوامر المولوية، وعدمه.

والبحث عن إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد وعدمه، وعن النسبة بينهما.

والبحث عن جريان الاجتهاد والتقليد في الأحكام الإرشادية وغير ذلك.

وهناك بحوث كثيرة أخرى ستجري الاشارة لعناوين بعضها في مطاوي الكتاب، عسى أن يوفقنا الرب لإكمالها في المجلد الثاني، أو يقيض الرب الجليل من يقوم بذلك من الأفاضل الكرام وهو المستعان.

ص: 13

من مسائل الكتاب

من العناوين التي ستبحث في هذا الكتاب فيما يتعلق بعلم (الكلام): وجوب النظر والمعرفة، ووجوب عبادة الله تعالى، والإخلاص له في العبادة، وغيرها(1).

وفي علم (الأصول): حجية خبر الواحد، ومباحث الإستلزامات كمبحث (مقدمة الواجب) و (الضد) و (البراءة) الشرعية والعقلية، و (التخيير) و (الاحتياط) وغيرها.

وفي علم (القواعد الفقهية): قاعدة (لا ضرر) وغيرها.

وفي علم (الفقه): العشرات من المسائل في أبواب العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام ومنها: أبواب: الاقتصاد والتجارة والاجتماع والحقوق والطب والصحة وغيرها.

وكان منها المسائل التالية:

الوفاء بالعهد، قتل النفس والانتحار، والاستشارة والشورى، التقية، التجسس، الزنا، التعاون على البر والتقوى، العدل والإحسان، وإعطاء حق ذوي القربى، وصلة الرحم، التبذير، اتخاذ الحرفة والصنعة، الحرية، معونة الظالم، أكل المال بالباطل و...وفي علم (الأخلاق): الكثير من الآيات الشريفة، كقوله تعالى:

ص: 14


1- مما تضمنه هذا المجلد أو ما سيأتي في المجلد اللاحق إن شاء الله تعالى، علماً بأن مبحث وجوب النظر والمعرفة قد فصلنا الحديث عنه في (مباحث الأصول – القطع) و (فقه التعاون) لذا اكتفينا ههنا بمجرد الإشارة إليه.

(لا تمش في الأرض مرحاً)(1)، و (فاصفح الصفح الجميل)(2)، و (اصبروا وصابروا واتقوا الله)(3)، و (أخفض جناحك للمؤمنين)(4)، و (أصلحوا بين أخويكم)(5)، و (استبقوا الخيرات)(6)، وعناوين ك: (الحسد) و (النزاع) وغيرها.

منهجية الكتاب

وقد كان من أغراض هذا الكتاب (تعميم الفائدة)، بحيث يكون مفيداً _ بإذن الله تعالى _ حتى لمن لا يهمه تحقيق الحال في (كلِّي المسألة)، ولذلك فان منهج هذا الكتاب هو بحث الكثير من العناوين والأحكام والمسائل، بشكل موضوعي، وعلى ضوء عدد من الأقوال أو الاحتمالات، ومع قطع النظر عن مدى اهتمام القارئ الكريم بكلِّي البحث وعدمه، وعن مدى قبوله للكلي واستفادته منه وعدمه، وبذلك يكون الكثير من المباحث ذا جهة موضوعية واستقلالية في الفائدة، إضافة إلى جهة طريقيتها فيما يرتبط بالمبحث العام.

والمرجو من العلماء الأعلام والفضلاء الكرام التنبيه على أي نقص أو ثغرة أو إشكال، فإن العصمة لأهلها صلوات الله عليهم.

ص: 15


1- الإسراء: 37.
2- الحجر: 85.
3- آل عمران: 200.
4- الحجر: 88.
5- الحجرات: 10.
6- البقرة: 148.

وقد أهديت ثواب هذا الجهد المتواضع ل: حملة كتاب الله، المظهرين لأمر الله ونهيه، وحججه على بريته، (مهبط الوحي، ومعدن الرحمة، وخزان العلم، ومنتهى الحلم، وأصول الكرم، وقادة الأمم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الإيمان، وأمناء الرحمن) عليهم صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته؛ فانه لا هداية ولا نجاة ولا فوز، ولا سعادة في الدنيا والآخرة، إلا بهم وبإتباع (أوامرهم) المولوي منها والإرشادي، والانزجار عن (نواهيهم)، تشريعية كانت أو تنزيهية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إني قد تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي).(1)

ثم _ بعد ذلك _ أهديت ثوابه للسيد الوالد والسيد الأخ الأكبر، رحمهما الله بواسع رحمته، واسكنهما الفسيح من جنته، وحشرهما مع محمد وآله الطاهرين، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ فقد ربياني صغيراً وتعهداني بالرعاية والعناية كبيراً وقلداني إحسانهما لي وعطفهما علي وبرّهما بي ما حييت.

في جوار السيدة زينب والسيدة رقية عليهما الصلاة والسلام

الحوزة العلمية الزينبيةمرتضى الحسيني الشيرازي

1 رجب 1430 ه

ص: 16


1- الكافي الشريف: ج2، ص415.

المدخل

لقد تطرق الأصوليون والفقهاء إلى مبحث (الأوامر المولوية والإرشادية) في مواضع مختلفة من (الفقه والأصول) وبمناسبات شتى، ولكن بصورة موجزة مقتضية، ولعل أكثر من فصل هذا المبحث _ فيما وجدته _ كان المحقق الرشتي في (بدائع الأفكار)(1) والميرزا الشيرازي في تقريراته(2) وقد استفدنا منهما في الكتاب كثيراً، كما هو مشار إليه في مطاوي الكتاب، خاصة في فصل (الضابط والملاك في الأوامر والنواهي الإرشادية).

إلا إنني وجدت أن هذا المبحث من الأهمية بمكان، ويقتضي أن يفرد له كتاب مستقل وذلك:

أ- لترامي أطرافه، وانبساط جوانبه على علوم عديدة منها (الأصول) و(الفقه) و(الكلام) وغيرها.(3)

ص: 17


1- في ثلاث صفحات من القطع الكبير ، وهو حقا حافل بالدقائق فراجع بدائع الأفكار ص265- 267 من الطبعة الحجرية.
2- تقريرات المجدد الشيرازي ، للمولى علي الردزدري: ج2، ص16-24.
3- كعلم الأخلاق والتفسير بل وعدد من العلوم الاجتماعية المختلفة، وذلك ما تطرقنا له في مواضع متعددة من الكتاب ولله الحمد وله الفضل.

ب - ولأنه يضم بين دفتيه (الألوف من المسائل) في شتى الأبواب الفقهية وغيرها.

ج - ولأن (الألوف من الآيات والروايات الشريفة) تقع في دائرة هذا البحث، وهل أنها إرشادية أو مولوية؟ وهي متوزعة على جل، لو لم يكن كل أبواب (العبادات) و (العقود) و (الإيقاعات) و (الأحكام) وغيرها، وعلى ضوء هذا البحث قد يصار إلى إدخال الألوف منها إلى دائرة الأوامر والنواهي (المولوية)، بدل المعهود _ حسب عدد من المسالك في الضابط في المولوي و الارشادي _ من اعتبارها (إرشادية) بما يترتب على ذلك من آثار مختلفة.

د- ولترتب العديد من (الثمرات) على هذا المبحث، من أصولية وفقهية وكلامية وغيرها، وقد فصلنا بعضها في هذا المجلد، وسنبحث عن بعضها في المجلد الثاني بإذن الله تعالى، كما أشرنا إلى بعضها في (مباحث الأصول) كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) ولعل المتتبع يكتشف ثمرات أخرى.

إشارة لثمرات هذا المبحث

وهذه إشارة إلى عناوين بعض تلك الثمرات:

وجوب أو حرمة الكثير من الأحكام.

ص: 18

استحباب أو كراهة الكثير منها، ولعلها وما سبقها تبلغ (الألوف من الأحكام).

استحقاق الثواب أو العقاب عليها وعدمه.(1)

تعدد (العقاب) أو (الثواب) أو شدتهما، وعدمه، وكذا (الاستحقاق).إدراج (الألوف من المسائل) في علم (الفقه)، أو (إخراجها) ودخولهما في علم (الأخلاق) أو غيره كعلم (الاقتصاد) وعلم (الطب) وعلم (الاجتماع) وغيرها.

إدراج بعض مباحث (المولوية والإرشادية) في الأصول إما ك (مسائل) أو (كمبادئ تصورية أو تصديقية) ...

جريان كافة المباحث الأصولية في (الأوامر والنواهي الإرشادية) أيضا.

وإمكان وصحة التمسك ب (الإطلاق والعموم) وغيرهما في الأوامر والنواهي الإرشادية، كالمولوية.

تحقيق الحال في قاعدة (الملازمة بين حكمي العقل والشرع) على كلا مبنيي (حكم العقل) أو (إدراكه)، وسواء كان الحكم في سلسلة العلل أم المعاليل، في الأصول والفروع، وغير ذلك، وهل أن الشرع (يرشد) إلى (ما استقل به العقل) فقط، أم إنه

ص: 19


1- وقد أوضحنا في الكتاب التفكيك بين (الوجوب) و(الحرمة) وبين (استحقاق العقاب بالمخالفة) فانه يترتب على الوجوب المولوي دون الوجوب الإرشادي، بعد إقامة البرهان على أن مؤدى الأوامر الإرشادية ينقسم إلى الوجوب والندب.

يحكم به من باب (جعل المماثل) أو غيره؟

اختلاف شرائط (الحجية) على القول بالمولوية في المؤديات، عنها على القول بالإرشادية.

(حرمة) الإنكار والتكذيب للمولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً.

كون (المخالفة) هتكاً في المولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً.

وجوب عقد القلب ووجوب الرضى في الجملة، أو مطلقاً في المولوي، دون الإرشادي، أو مطلقاً؟

وفوائد أخرى تتعلق بعناوين ثانوية كما لو (نذر إطاعة أمر المولى) _ سواء أمره الوجوبي أم الندبي _ فهل يتحقق بإطاعة أمره الإرشادي؟

ص: 20

المبحث الاول: ابتناء الشريعة والفقه على كلا قسمي الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية

اشارة

ص: 21

ص: 22

المبحث الاول: ابتناء الشريعة والفقه على كلا قسمي الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية

اعلم أن (الأوامر الإرشادية) وكذا (النواهي الإرشادية) بل ومطلق (الإنشاءات) بل الخطابات الإرشادية، مما يعمّ الخبر إذا كان في مقام الإنشاء، بل الخبر بما هو(1)، فإنه قد يكون من المولى بما هو صرف مخبر، وقد يكون منه بما هو مولى _ وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى، قد بلغت الغاية في الكثرة، في الكتاب والسنة، وفي العرف العام والخاص، في ملتنا ولدى كل الملل والنحل، كما أن (الأوامر والنواهي المولوية) كذلك، بل ومطلق (الدوالّ)على جعل أو رفع أو وضع حكم تكليفي أو وضعي(2) فإنها قد تكون مولويةً وقد تكون إرشاديةً.

ص: 23


1- كما لو قال: إن كذا أمان من كذا، ومثاله من الروايات (... السواك يرضي الرب.. ويضاعف الحسنات) وأنه (مجلاة البصر، يزيد في الحفظ، يشهي الطعام) وسيأتي تفصيل الحديث عن ذلك وكذلك قول الصادق عليه السلام: (غسل الجمعة طهور وكفارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة) وأيضاً تعليله في الرواية ب(إزالة الرائحة الكريهة للآباط)، وسيأتي تفصيله أيضاً. والشاهد هنا إن مثل هذه الأخبار قد يحتمل فيها بدواً أن تكون من المولى بما هو صرف مخبر، وقد تكون منه بما هو مولى، ثم ما كان منه بما هو مولى ينقسم إلى ما كان منه ناصحاً وما كان منه مشرعاً، وسيأتي بإذن الله تعالى.
2- ك(يعيد صلاته) منشِأً ومشرعاً بذلك لحكم تكليفي أو وضعي.

وبعبارة أخرى: (مطلق الإنشاءات) وإن لم تكن بصيغة أمر أو نهي، كقوله تعالى: «لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(1) بناء على كونها أخباراً في مقام الإنشاء كما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(2)، وسيأتي بيانه.

فإن (الإنشاء) بقول مطلق _ وإن لم يكن بمادة أو صيغة أمر أو نهي _ قد يكون مولوياً ك(رفع ما لا يعلمون) وما سبق من (يعيد صلاته)، وقد يكون إرشادياً(3) ومن مصاديق ما سبق: (الدوال) على (الأحكام الوضعية) فإنها قد تكون مولوية بأن وضعها المولى بما هو مولى، وقد تكون إرشادية، وذلك مثل (لكم رؤوس أموالكم) و (من حاز ملك) فهل إنه بما هو مولى قد أنشأ ذلك أي جعل الملكية لمن (حاز) بهذا الكلام، أو إنه مرشد إلى بناء العقلاء على ذلك أو إلى ما استقل به العقل أو إلى جعلٍ له سابق.

وسيتم بحث كل ذلك، والأقوال والمحتملات، ووجوه النقض والإبرام فيها في مطاوي الكتاب بإذن الله تعالى.

كما أن (الإمضائيات)، ك «أحل الله البيع»(4) و «لكم رؤوس أموالكم»(5)، وعقده السلبي يصلح مثالاً للتأسيسي في الجملة، قد

ص: 24


1- البقرة: 279.
2- الشورى: 38.
3- فإن في (الإرشاد): إنشاء نصح وعظة، وليس الإرشاد، إخباراً كما سنوضحه بإذن الله تعالى سواء على مسلك أن الإنشاء هو (الاعتبار المبرَز) أو مسلك أن الإنشاء هو (الاعتبار الموجِد) أي إيجاد المعنى في عالم الاعتبار.
4- البقرة: 275.
5- البقرة: 279.

بلغت غاية الكثرة، ك(التأسيسيات)، ك «أقم الصلاة»(1) و لعل منه (من حاز ملك)(2) في الجملة و «الطلاق مرتان»(3)، وسيأتي وجهالفرق والنسبة(4) بين هذه بإذن الله تعالى، كما سيأتي البحث عن النسبة بينها وبين (الحقيقة الشرعية) أو (الحقيقة المتشرعية).(5)

فعلى ذلك، يصح القول: بابتناء الشريعة على كلا القسمين من الأوامر والنواهي، وكذا الأحكام: (المولوية) و (الإرشادية)، وبابتناء (الفقه) على كلا القسمين والأحكام كذلك.

كما أن كافة المباحث الأصولية، كمباحث الألفاظ ومباحث الحجج _ ومنها مباحث الاستلزامات أيضاً، إلى جوار مباحث حجية خبر الواحد والشهرة والإجماع المحصل والمنقول _ وكذلك مباحث الأصول العملية الشرعية، ومباحث الأصول العملية العقلية، كلها جارية في كلا القسمين، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيله.

وإن كان قد يقال: إن مصب البحث في الأصول أو منصرفه عادة، للمولوي منها.

وبناء على ذلك، فإنه قد يلتزم باعتبارها من صميم المباحث الأصولية والفقهية _ باعتبارين _ وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.

ص: 25


1- هود: 114.
2- مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج9، ص445.
3- البقرة: 229.
4- وأن النسبة بين المولوي والإرشادي من جهة وبين التأسيسي والإمضائي من جهة أخرى، هل هي العموم من وجه أم غير ذلك؟
5- بحث (النسبة) سيأتي في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.

من مباحث الكتاب

فكان من الحري تبعاً لذلك، أن تبحث بشكل مستوعب، وأن يبحث:

أولاً: عن (الضابط والملاك) في التفريق بينها وبين (المولوية)، فهل الأوامر الشرعية الواردة في مواطن (المستقلات العقلية)، هي (مولوية) يستحق على مخالفتها العقاب أو (إرشادية) لا غير؟

وهل يصح تعريف (المولوي) بما لم يلزم من إعمال المولوية فيه: التسلسل أو تحصيل الحاصل أو اللغوية أو شبههما، أم لا؟

وهل الأوامر الشرعية فيما كانت مصلحته دنيوية، إرشادية؟

وماذا لو كانت مصلحته دنيوية _ أخروية؟

وهل إن (المولوي) هو خصوص ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته؟

أو هو: ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته بقيد إذا كان في مقام التشريع أو لا؟ أو غير ذلك؟ مما سنفصله في مبحث (الضابط والملاك في الأوامر والنواهي الإرشادية) بإذن الله تعالى.

وثانياً: ثم أنها على تقدير كونها إرشادية، هل هي لمجرد (النصح)، دون طلب؟

أو معه دون إيجاب ولا ندب _ حسب رأي _؟

أم أنها أوامر إرشادية وجوبية _ وإن كان بدون استحقاق للعقاب _ على مبنى الشيخ قدس سره، من التفكيك بين الوجوب واستحقاق العقاب،

ص: 26

ومن تقسيم الإرشادية كالمولوية إلى واجبة ومندوبة، وإن كان ذلك لعله خلاف المشهور، كما سيأتي؟

أم هي إرشادية _ مولوية؟ أم غير ذلك؟ كما سنفصله لاحقاً بإذن الله تعالى.

وثالثاً ورابعاً: كما ينبغي أن يبحث عن (الغرض) من هذا التقسيم، وعن (الفائدة) المترتبة على كون (الأوامر والنواهي، إرشادية أو مولوية)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيلاً بيان الثمرات الكلامية والأصولية والفقهية، المترتبة على كونها مولوية أو إرشادية، مما سنذكر بعضها في هذا المجلد، ونرجئ البعض الآخر إلى المجلد الثاني، وإلى كتابنا الآخر وهو (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) بإذن الله تعالى.وخامساً: كما كان ينبغي أن يبحث عن الأوامر والنواهي، وهل أنها ظاهرة في المولوية _ ولو بالقرينة أو طبقاً للأصل والقاعدة _ أم لا؟ ثم إن ما كان منها للإرشاد هل هو ظاهر في الإلزام أم لا؟

وسادساً: كما كان ينبغي أن يبحث وعلى ضوء ذلك كله، عن الكثير من (المصاديق) التي قد تعد إرشادية وهي مولوية أو بالعكس، إما نظراً للاختلاف في ضابط المولوي والإرشادي، أو بلحاظ القرائن الحالية والمقالية المحتفة.

ص: 27

من الأوامر الإرشادية في القرآن الكريم

آيات وروايات أدعي أنها إرشادية

والأمثلة على الأوامر الإرشادية _ أو ما ادعي أنها إرشادية _ كثيرة.

هل «اكتبوه» و «استشهدوا» و «أشهدوا» أوامر إرشادية؟

فمنها:

1 2 3 الأوامر الثلاثة الشهيرة في آية 282 من سورة البقرة وهي:

«يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه».

«واستشهدوا شهيدين من رجالكم»، أي على الدين _ كما في الصافي _ أو على المكتوب _ كما في مجمع البيان وقال في تبيين القرآن: (أي يمضيان الكتابة ويشهدان عليها).

«وأشهدوا إذا تبايعتم» أي على البيع _ أي إذا كانت تجارة حاضرة تديرونها _.

والآيتان الأخيرتان هما اللتان يضرب بهما المثل عادة للأوامر

ص: 28

الإرشادية، فليلاحظ مثلاً (بدائع الأفكار) للمحقق الرشتي و (حاشية المعالم) للمولى صالح وكذلك (الوصول) للسيد الوالد، حيث أيد تمثيل المولى صالح للإرشاد في «استشهدوا» بقوله «فإن الله أرشد العباد عند المداينة، إلى الاستشهاد، رعاية لمصلحتهم، قيل الفرق بينه وبين الندب أن الندب لثواب الآخرة والاستشهاد لمنافع الدنيا إذ لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينة ولا يزيد بفعله».(1)

ولعل قوله (قيل) مشعر بتمريضه، ويدل عليه ملاحظة مسلكه العام في المستحبات؛ فإنه قدس سره حمل كثيراً من الأوامر الإرشادية _ مما يعود نفعه للدنيا _ على الاستحباب، فلاحظ مثلاً (الفقه: المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) و (الفقه: الطب) _ وكما قال قدس سره في (الفقه): (والمشهور بين الفقهاء أن الكتابة إرشاد ومستحب، أما الإرشاد فلحفظ الحق وأما الاستحباب فلأنه مأمور به شرعاً، وإن كانت العلة أيضاً ذلك(2) وعلى كل حال فليست بواجبة).(3)

والظاهر من كلامه أن يرى اجتماع جهتي الإرشادية والمولوية في الكتابة وسنفصل الوجه فيه في آخر الكتاب بإذن الله تعالى.

ولعله يظهر من قوله (فلأنه مأمور به شرعاً وإن كانت العلة أيضاً ذلك) إنه يرى أن ملاك المولوية (صدور الأمر من المولى بما هو مولى) سواء كانت المصلحة والعلة معلومة للمأمور قبل الأمر أم لا، وسواء كانت المصلحة أخروية أم دنيوية، وسواء كان المتعلق من المستقلات

ص: 29


1- الوصول إلى كفاية الأصول: ج1، ص415.
2- أي حفظ الحق.
3- الفقه، الواجبات: ج92، ص238 _ 239.

العقلية أم لا.

وقال في المجمع: (واختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا؟ فقيل هي فرض على الكفاية كالجهاد ونحوه).(1)

وقال الفاضل المحقق المقداد السيوري في كنز العرفان في فقه القرآن:(4 الأمر بكتابة الدين.. والأمر هنا _ عند مالك _ للوجوب، والأصح أنه إما للندب أو الإرشاد للمصلحة).(2)

وواضح أنه يرى عدم اجتماع الندب والارشاد وسيأتي تفصيلاً إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد، على أنه بعد ذلك وفي تعليقه على قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً) قال: (وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والإشهاد به)(3)، مما يظهر منه انتخابه المولوية الندبية وخروجه عن التردد أو الترديد السابق، إلا أنه ناقض ذلك بعد ذلك حيث قال في نظيره:

(17- «واشهدوا شهيدين إذا تبايعتم»... وإنما أمر بالإشهاد عند المبايعة، إرشاداً إلى رعاية مصلحتها؛ لأنه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع، أو يقع نزاع في كمية أحد العوضين أو شرط أو خيار أو غير ذلك، فالأمر هنا للإرشاد، وقال داود أنه للوجوب، وليس

ص: 30


1- مجمع البيان: ج2، ص220.
2- كنز العرفان: ج2، ص47، كتاب الدين.
3- كنز العرفان: ج2، ص55.

بشيء لما قلنا من ترتب المصلحة الدنيوية)(1) والمقام وإن كان (الشهادة على البيع)، وما سبقه (الشهادة على الدين وكتابته) إلا أن ملاكهما واحد.

والظاهر أنه يرى الضابط في الإرشاد: الثاني من الضوابط التي سنذكرها وهو ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا، ومع قطع النظر عن عدم تمامية هذا الضابط كبرى كما أوضحناه هنالك، فإنه جار في المقامين، فكيف فرّق؟

ثم إن الظاهر أن العلل الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة وهي: (ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأدنى أن لا ترتابوا) علل عامة مشتركة، بين ما سبق من الحكمين وهما (فاكتبوه) و (استشهدوا)، وما لحق وهو (واشهدوا)، وإن عادت بظاهر السياق للكتابة.

من الأدلة على مولوية تلك الأوامر

وقد يستظهر المولوية، من قوله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله) فإن طلب أمر بهذا التعليل، ظاهر في (صدوره من المولى بما هو مولى) لأن العدل والقسط مطلوبان له بما هو مولى ومأمور بهما بما هو كذلك، بل وكذا (أقوم للشهادة) لأن استقامة الشهادة مطلوبة له بما هو مولى.

نعم (أدنى أن لا ترتابوا) عائد لهم ولمصلحتهم، لكن قد فصلنا في مكان آخر:

ص: 31


1- المصدر.

أولاً: إن الملاك (المصبّ) فلو تعددت العلل لوحظ محط النظر أولاً، ولعلّه: الأولان لذا سبق ذكرهما.

ثانياً: لو كانت كلها محط النظر بوزان واحد، أمكن الالتزام بالمولوية والإرشادية معاً ولا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى كما فصلناه.

ثم الظاهر من رواية (العلل) عن الإمام الباقر عليه السلام في بيان حكمة تشريع الكتابة بعد تفصيله قضية عمر آدم وداود، حيث قال: (فمن ذلك اليوم أمر الله تبارك وتعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل)(1)، إن الأمر مولوي لا إرشادي، والظاهر أنه مولوي _ تشريعي، لا مولوي _ نصحي.ولا يخفى أن الآية الشريفة تدل على (حجية الكتابة) وصحة الاعتماد عليها _ مع جمعها للشرائط، إما بدلالة الاقتضاء أو بلحاظ الغاية من الأمر بالكتابة، وعلى أي فالدلالة العرفية على الحجية لا ريب فيها، كما أنها تدل على حجية (شهادة الشهيدين)، ولعلها كلها من المستقلات العقلية كأحكامها التكليفية.

من أدلة المولوية: ذكر الثواب

وأما الأمر في الآيتين الشريفتين (استشهدوا شهيدين من رجالكم) أي على الدين أو الكتابة _ كما سبق _ و (أشهدوا إذا تبايتعم) أي على البيع، فالظاهر أنه مولوي _ للندب(2) وليس إرشادياً

ص: 32


1- الصافي: ج1، ص306، ذيل الآية الشريفة.
2- قال السيد الوالد في الفقه: (ثم إنه يستحب الإشهاد على الدَّين ويكره تركه) الفقه ج48، ص372 كتاب الدين، كما سبقت عبارة الفاضل المقداد رحمه الله، وقال بعض الأعلام (الإشهاد على الدين هل هو واجب أم لا؟ ظاهر الأمر الوجوب، إلا أن نرفع اليد عن ذلك ونحكم بالاستحباب للإجماع المنعقد على الاستحباب ونفي الوجوب) دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام ص494.

للنصح، بقرينة ذكر (الثواب) عليه في بعض الروايات.

ومنها رواية العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: (... فإن الله شَرَّف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم، وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم، ومن ثواب دنياهم، قبل أن يصلوا إلى الآخرة).

إذ ظاهر (الثواب) وإن كان دنيوياً، هو ما نتج عن إطاعة أمر المولى لا مجرد نصحه، وإرادة (الجزاء) منه خلاف الظاهر، وفيه أنه كذلك لو كان قبول شهادتهم ثواباً على الشهادة، لا على الإسلام والعدالة، كما لعله ظاهرها فتأمل.(1)

أو يقال: إن الظاهر من (فإن الله شرف المسلمين العدول..) أنه بما هو مولى صنع ذلك، إذ ليس هذا شأن الناصح بما هو ناصح، فيستلزم ذلك(2)، كونه بما هو مولى قد أمر بها.

أدلة أخرى

وقد يستدل أيضاً برواية الإمام الصادق عليه السلام: (أربعة لا تستجاب لهم دعوة: أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة، يقول الله عز وجل: ألم آمرك بالشهادة)(3)، فإن ظاهر (آمرك) المولوية.

ص: 33


1- إذ (قبول الشهادة) هو (ثواب) أيضاً على (الشهادة) لكن لعله لا يتم الاستناد بهذه الرواية، لذلك، بل لابد من دليل آخر ولو ما كان من قبيل الإرتكاز.
2- أي قبوله شهادتهم، بما هو مولى.
3- وسائل الشيعة: باب 10 من أبواب الدين والقرض، ح1.

وقد يؤيده ما جاء في تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (استشهدوهم، لتحوطوا بهم أديانكم وأموالكم، ولتستعملوا أدب الله ووصيته، وإن فيها النفع والبركة، ولا تخالفوها فيلحقكم الندم حيث لا ينفعكم الندم).(1)وقد يستظهر منها المولوية لمكان (لتحوطوا بهم أديانكم)؛ إذ شأن المولى بما هو مولى تشريع ما يحوط أديان العبيد، لكن فيه أن شأن الناصح كذلك أيضاً، إلا أن يتمسك بالأصل لو أمكن كل منهما.

وقد يستظهر من (وصيته) والتعليل بأن (فيها النفع والبركة) و (فيلحقكم الندم) و (لتحوطوا.. أموالكم) الإرشادية، فإنها بها أنسب، لكن فصلنا في موضع آخر أن ذلك كله من شأن المولى بما هو مولى أيضاً؛ لتمام عنايته بكلا شأني الدنيا والآخرة _ فتأمل.

و (المولوية) هي ظاهر عبارة بعض المفسرين كالطبرسي حيث قال: (ثم أمر الله سبحانه بالإشهاد فقال: استشهدوا شهيدين من رجالكم).(2)

ولعل الظاهر من السيد الوالد قدس سره التردد بين المولوية والإرشادية، قال: (الظاهر أن الحكم للإرشاد، أو للأعم من الواجب والمستحب؛ لأنه قد يجب الإشهاد والاستشهاد كما ذكرنا ذلك في كتاب (الوديعة) وهناك موارد آخر للوجوب كما يأتي، وقد يستحب كالإشهاد عند عقد النكاح)(3)، ولعله يرى أن الإرشاد لا يجتمع مع الوجوب _ مع أن بعض

ص: 34


1- نقلاً عن البرهان: ذيل الآية 282 من سورة البقرة.
2- مجمع البيان: الآية 282 من سورة البقرة.
3- الفقه، الواجبات: ج92، ص149.

الإشهاد والاستشهاد للوجوب _ فأضاف (أو للأعم) _ فتأمل.

وقد أوضحنا في مكان آخر أن الإرشاد قد يكون للوجوب وقد يكون للندب.

هل (جناح) قرينة المولوية؟

ومما قد يستدل به على مولوية الأمر بالكتابة _ وهي الآية الأولى السابقة _ كلمة (جناح) في قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) فإن (جناح) هو (الإثم؛ لميله عن طريق الحق)(1) و (سمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق "جناحاً"، ثم سمي كل إثم جناحاً نحو قوله تعالى «لا جناح عليكم» في غير موضع)(2) كما قيل أن (جناح) معرب (گناه).

فإن (الإثم) معصية أمر المولى بما هو مولى، ورفعهُ شأنُه، (فلا جناح) صادر منه بما هو مولى، فما فيه الجناح _ وهو غيره _ قد جعل من قبل المولى بما هو مولى؛ إذ المتقابلان متكافئان قوة وفعلاً، كما هما متقابلان رفعاً ووضعاً.

لا يقال: لا إثم في عدم الكتابة في غير التجارة الحاضرة؛ إذ لا تعد معصية ولا عقوبة عليها؟

إذ يقال: (الجناح) و (الإثم) يطلق على (المكروه) أيضاً، وقد التزمنا بأن أمر الكتابة مولوي للندب فتركه مكروه، لا للتلازم بين الندب وكراهة الترك، بل لدلالة الآية.

ص: 35


1- مجمع البحرين مادة جنح.
2- مفردات ألفاظ القرآن، مادة جنح.

أو يقال: أمر الكتابة مولوي _ للوجوب النصحي وهو مما لا عقوبة عليه _ كما فصلناه في مكان آخر _ و (لا جناح ولا إثم)، بمعنى مخالفة (المولوي _ للنصح الوجوبي)، في عدم الكتابة إذا كانت تجارة حاضرة تديرونها _ وفيه تأمل.

إذ قد يقال: لا جناح بمعنى لا ضير ولا ضرر فيناسب الإرشاد والنصح، لكنه لا تساعد عليه اللغة.أو يقال: لو أريد به الإثم فإنه ظاهر في المولوي _ التشريعي، أي المعصية، أي ما عليه عقوبة، فيقع التعارض بين حمله على المولوي _ النصحي، أو المكروه كما ذكرتم _ إذ لا يمكن حمله على المعصية؛ إذ لا معصية حتماً في عدم الكتابة في غير التجارة الحاضرة _ وبين حمله على الضير، وكلاهما مجاز ولا مرجح للأول _ فتأمل.

كما أن التصدير ب «يا أيها الذين آمنوا» ظاهر في المولوية لا الإرشادية، وإلا لكان الأولى توجيه الخطاب للناس؛ فإن شأن الناصح كالطبيب خطاب الناس لا تخصيصه بالمؤمن، عكس شأن المولى بما هو مولى، وإن كانت مولويته ثبوتاً أعم.

وقال في مجمع البيان: (أي: وأشهدوا الشهود على بيعكم إذا تبايعتم، وهذا أمر على الاستحباب والندب، عن الحسن وجميع الفقهاء، وقال أصحاب الظاهر: الإشهاد فرض في التبايع).(1)

وظاهر تصريحه ب(هذا أمر) و (على الاستحباب) أنه يراه مولوياً _ ندبياً لا إرشادياً.

ص: 36


1- مجمع البيان: ج2، ص222، ذيل الآية الشريفة.

وبذلك ظهر عدم تمامية ما قيل من (بل قد يقال إن الآية الكريمة لا تدل حتى على استحباب الإشهاد شرعاً، وإنما على طلبه إرشاداً لا أكثر).(1)

ويرد عليه إضافة إلى ما سبق(2) إن الأصل _ عندهم _ فيما صدر من المولى أنه بما هو مولى، أي الأصل المولوية لا الإرشادية، فلا يرفع اليد عن المولوية إلا بدليل؛ ولذا قال في الجواهر ممزوجاً بالشرح («و» لكن «يستحب في النكاح والرجعة، وكذا في البيع» والدين والخلاف في ذلك نادر).(3)

هل «أشهدوا ذوي عدل» في الطلاق، مولوي؟

4- ومنها _ وهو مثال مشهور للإرشادية _ قوله تعالى «أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ»(4) وحكم هذا تابع لكلي الرأي في العقود والإيقاعات وشرائطها وأجزائها وموانعها، وهل هي إرشادية مطلقاً _ كما هو رأي المحقق الرشتي(5) وآخرين؟ _ أم في الجملة، فبعضها مولوي؟، وسيأتي بيانه(6) بإذن الله تعالى.وفي خصوص هذه الآية الشريفة قد يصار للمولوية بقرينة لحوقها ب

ص: 37


1- دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام: ج1، ص505.
2- وإلى أنه لعله يناقض ما ذكره في نظيره (الإشهاد على الدين) إذ (الأمر) ظاهر في الوجوب كما قال هناك والإجماع على نفيه يصرفه للاستحباب لا الإرشاد _ فتأمل.
3- جواهر الكلام: ج41، ص178.
4- الطلاق: 2.
5- قال: (الإرشاد وهو أيضاً في غاية الكثرة في الكتاب والسنة والعرف واللغة ومنه... جميع ما تعلق بأبواب المعاملات من أجزائها وشرائطها)، بدائع الأفكار: ص265، س3.
6- وأن مقام المولوية كما يقتضي إصدار الأحكام التكليفية، يقتضي إصدار الأحكام الوضعية.

«وأقيموا الشهادة لله»(1) _ سواء قيل بوجوبها نفسياً أم لا، بل طريقياً، أو استحبابها _ فإنهما متلازمان عرفاً(2)،فالإشهاد ليس فقط ذا أثر وضعي وهو صحة الطلاق عنده(3)، بل هو مستحب أيضاً كما أن ذيل الآية شاهد آخر على المولوية «ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر».(4)

وقال الوالد في الفقه: (لا يخفى أن الإشهاد في الطلاق واجب شرطي إذ بدون الإشهاد لا يصح الطلاق كما ذكرنا تفصيله في كتاب الطلاق).(5)

وقال الفاضل المقدام في كنز العرفان: ( «وأشهدوا ذوي عدل منكم»: قال أصحابنا هو راجع إلى الطلاق، وذلك على الوجوب، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام، لكون الكلام في الطلاق، فيكون ذلك قرينة دالة على رجوعه إليه) وقال: (فمع قيد عدم جواز الترك _ أي للإشهاد _ يكون في الطلاق، ومع قيد جوازه يكون في الرجعة) ولعله يحمل على الوجوب الشرطي كما ذكره الوالد _ فتأمل.

هل «أقصد في مشيك» إرشادي؟

5- وقال تعالى: «اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ»(6) وهذه صغرى (كبرى) الأوامر الواردة في مكارم الأخلاق، فهل هي إرشادية أم

ص: 38


1- الطلاق: 2.
2- فإذا كانت (إقامة الشهادة) لله، أي بقصد القربة، وهي مما يترتب عليها الثواب عندئذ فهي مستحبة، فطلبها كذلك.
3- أي عند (الإشهاد).
4- الطلاق: 2.
5- الفقه، الواجبات: ج92، ص150.
6- لقمان: 19.

مولوية؟ ولعل ذيل الآية يفيد الإرشاد وصدرها وسياقها يفيد المولوية.

و (القصد في المشي) هو (التوسط فيه بين الدبيب والإسراع) _ كما في الصافي، وقال في مجمع البيان: (أي: (اجعل مشيك قصداً مستوياً على وجه السكون والوقار، كقوله تعالى «الذين يمشون على الأرض هوناً»)(1) ، وقيل: أي تواضع، وقيل: لا تَخْتََل في مشيك.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: (سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن).(2)

وفي تفسير القمي أي (لا تعجل).(3)ويحتمل أن يراد ب(اقصد في مشيك) رعاية القصد والاقتصاد والاعتدال في شتى شؤونك، لكنه خلاف ظاهر الآية وسياقها.

وعلى أي فإن (اقصد في مشيك) إن أريد به المعنى الأول _ أي عدم السرعة والعجلة _ فإنه إرشادي، كما أنه ليس من المستقلات العقلية إلا بلحاظ كلّيه.

وإن أريد به المعنى الثاني _ أي المشي على وجه السكون والوقار _ فكذلك.

وإن أريد به المعنى الثالث _ أي الاعتدال في كافة الشؤون _ فالظاهر أنه من المستقلات العقلية.

نعم على ضابط (ما كان محبوباً للمولى، وقد طلب لمحبوبيته) فإن

ص: 39


1- تفسير مجمع البيان: ج8، ص88.
2- وسائل الشيعة: ج11، ب63، ص456، ح1.
3- تفسير القمي: ج2، ص165.

الأقسام الثلاثة كلها قد تكون مولوية.

شواهد على مولوية «كُلُواْ وَاشْرَبُواْ»

6- وقال سبحانه وتعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور»(1) و «كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ».(2)

والظاهر أن الأمر في الآية الأولى والثانية مولوي وليس إرشادياً، أي أنه صادر من المولى بما هو مولى _ في مقام التشريع _ كما هو الأصل، ف(به) أحل الشارع الأكل والشرب.

بل يدل على (مطلوبية) المشي في مناكب الأرض والأكل من رزقه، وليس صرف الإباحة، وبعبارة أدق هو (إنشاء) وليس (إخباراً)، وهو (تشريع) وليس (نصحاً)(3)، وهو (مطلوب) بين واجب _ وهو ما يقيم الأوَد _ ومندوب _ وهو ما يعين على الطاعة في الجملة _، نعم هو غيري لا نفسي، توصلي لا تعبدي.

وأما ما كان منه للإباحة فهو لدليل خارجي.

هل «كلوا واشربوا» للإباحة؟

وقد ذكر العلامة المولى صالح في حاشية المعالم على ما نقله عنه (الوصول)(4) إلى أن هذا الأمر للإباحة، حيث صرح ب(صيغة "افعل"

ص: 40


1- الملك: 15.
2- الأعراف: 31.
3- إذ النصح من مقولة الإنشاء أيضاً في مثل أوامر الطبيب.
4- الوصول إلى كفاية الأصول: ج1، ص415.

تستعمل في خمسة عشر معنى... ثالثها: الإباحة نحو (كلوا واشربوا) انتهى.

لكنه غير تام إذ التحقيق أن الصيغة لم تستعمل إلا في إنشاء الطلب، والدواعي خارجة عن الموضوع له وعن المستعمل فيه، نعم وضعت لإنشائه إذا كان الداعي البعث والتحريك لا إذا كان التهديد والتمني وإضرابهما، فلو كان الداعي غير البعث كان الاستعمال مجازياً كما صار إليه الآخوند، وتبعه جمع منهم الوالد مع إضافة (أو الإظهار) وحذف (الضميمة).(1)بل أقول: حتى لو ذهبنا إلى أن الإنشاء هو (إبراز الاعتبار النفساني) وليس (إيجاد المعنى باللفظ)(2) فلا ضرورة للإلتزام بأن الصيغة _ على هذا المبنى _ قد استعملت في معاني كثيرة من التهديد والتعجيز و...)(3) إذ الاعتبارات النفسانية مركبة ومختلفة غير متحدة، فيمكن القول بأن المبرز هو (الطلب) مع ضميمة التهديد أو التعجيز، فقد استعملت في (الطلب) فقط لكن لو انضم إليه التهديد مثلاً كان مجازاً، للاشتراط فتدبر جيداً.

بل نقول: إن كلام المولى صالح غير تام على مختلف الأقوال في الصيغة _ ومنها قوله هو.

ص: 41


1- الأصول: ج1، ص189 - 190.
2- كما ذهب إليه في مصباح الأصول: ج1، ق1، ص286.
3- المصدر.

تحقيق الحال في (الآية) على كل الأقوال في (الصيغة)

إذ على كل من الأقوال بأن الصيغة موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فإنه لا يرفع إليه عن الحقيقة إلا لدى تعذرها، و (الأكل والشرب) بين واجب _ وهو ما توقف عليه حفظ النفس والقوى _ ومستحب _ وهو ما أعان على الطاعة _ ومباح _ وهو ما عداهما _ وحيث أمكن المعنى الحقيقي، لا يصار للمجاز.

وبعبارة أخرى: الآية تدل على أصل وجوب أو استحباب أو مطلوبية _ حسب المباني، طبيعة الأكل والشرب، والمتحقق بقدر منه، أو ظاهرها _ بقرينة فهم العرف _ (كلوا شيئاً واشربوا شيئاً) فلا عموم لها للإفراد على نحو الاستغراق، ليتوهم أنه بين واجب ومندوب ومباح، ولا يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى _ حقيقي ومجازي _ فلابد من حملها على الإباحة، لأنها الجامع والقدر المشترك، مع أنه يرد عليه(1) إشكالات عديدة مبنى وبناء حتى لو قلنا بالعموم.

وبعبارة أخرى: ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

وأما على القول بالاشتراك اللفظي بين تلك المعاني الخمسة عشرة، فقد يقال: إن (كلوا واشربوا) مردد بين الوجوب والندب والإباحة، والإباحة هي المسلّم، لأنها الجامع لذا صار إليه المولى.

لكن فيه: أنها قسيم وليست مقسماً، ولذا جعلها أحد المعاني الخمسة عشرة.

أو يقال: إن الأمر ب(كلوا واشربوا) في مقام توهم الحظر فهو

ص: 42


1- أي على هذا التوهم.

للإباحة _ حتى لو كان للوجوب وضعاً فكيف على غيره _.

وفيه: إنه في بعض الآيات قيل بذلك أو لعله لذلك، لا مطلقاً.

وأما على القول بأن المعاني الخمسة عشرة مستعمل فيها فقط وليست مشتركاً لفظياً بل موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فالأمر أوضح.

سلمنا لكن نقول:كونه للإباحة ليس دليلاً على كونه إرشادياً، فإن الإباحة _ بناء على كونها حكماً وهي كذلك _ تقع في دائرة (المولوية)، أي ما قرره الشارع وجعله _ أو مطلق المولى _ بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته.

أدلة أخرى على مولوية «كلوا واشربوا»

ولعل مما يدل على المولوية ملاحظة الآية بكاملها.قال تعالى «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»(1)، إذ «لا تسرفوا» نهي مولوي فتستفاد مولوية «كلوا واشربوا» بقرينة المقابلة لا السياق فحسب، في الفهم العرفي، كما قد يستفاد الوجوب، لكون مقابِلِه، للحرمة _ فتأمل.

ويستبعد كون «لا تسرفوا» مجرد إرشاد للمكلف للابتعاد، عما فيه الضرر، ونصح.

ويشهد له قوله تعالى: (إنه لا يحب المسرفين) ذلك أن (الأمر المعلل) بكونه محبوباً لله أو النهي المعلل بكونه مبغوضاً له (إذ هما

ص: 43


1- الأعراف: 31.

وإن كانا من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث إلا أن المتفاهم العرفي من «إنه لا يحب المسرفين» بغضهم، لا عدم الحب فقط، خاصة بملاحظة قرينة الحكم والموضوع) _ خاصة بملاحظة الضابط الذي ذكره المحقق الرشتي للمولوية _ ظاهر في المولوية، فإذا كان «لا تسرفوا» مولوياً، كان «كلوا» مولوياً كذلك، بدعوى أن عدم حب المسرفين في الأكل والشرب يلازم عرفاً حب الأكل والشرب، باقتصاد وتوسط فتأمل.(1)

وقد يستدل على المولوية في «كلوا واشربوا» بأن مقتضى (كرم) مولى الموالي، (محبته) _ بما هو مولى _ لأن يأكل عبيده من ملكه حلالاً.

ويوضحه ما رواه في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام (ما عذب الله قوماً قط وهم يأكلون، وإن الله أكرم من أن يرزقهم شيئاً ثم يعذبهم عليه حتى يفرغوا منه).(2)

وهذه الجهة(3) تفيد المولوية ظاهراً على القول بأن الضابط للمولوي هو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته)، ولا حاجة لنا بها، على بعض الضوابط الأخرى أيضاً(4) ، كما أنها ترجح المولوية على بعض الضوابط الأخرى، كالضابط الأول الذي ارتضيناه، فإن المحبوبية

ص: 44


1- إذ قد يقال بأن الحب والاستحباب _ على فرضه _ يعود للصفة أي الاقتصاد، لا الموصوف.
2- الكافي: ج6، ص274، ح1.
3- أي جهة حب المولى أكل عبيده من رزقه، ومحبوبيته له سواء استندنا إلى العقل ومقتضى الاعتبار _ وهو كرم المولى _ أم الآية السابقة أم غيرها.
4- كالضابط الرابع.

وإن لم تكن هي تمام الملاك للمولوية والإرشادية، لكن معرفة كون الشيء محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته، يساعد على القول بمولويته _ التشريعية وإن أمكن الذهاب للمولوية النصحية بل للإرشاد الندبي فتدبر.(1)

وقد يستند إلى وحدة السياق فإن «خذوا زينتكم عند كل مسجد» ظاهره المولوية، وهو مستحب يترتب عليه الثواب.بل قد يستند إلى الروايات الدالة على أن (طلب الحلال) من العبادة فقد روى في الكافي الشريف (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: العبادة سبعون جزءً أفضلها طلب الحلال).(2)

لكن فيه أن (طلب الحلال) مغاير ل(الأكل من رزقه) إلا أن ينقح المناط وأن (الأكل حلالاً) كطلب الحلال.

بل حتى بمثل (من تلذذ بالماء في الدنيا، لذذه الله من أشربة الجنة)(3)، و (من أكل من كدِّ يده حلالاً، فتح له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)(4)، فإن ترتيب (ثواب الآخرة) على (فعل) دليل على أن الأمر به مولوي لا إرشادي _ فتأمل.(5)

ص: 45


1- بل حتى على القول بأن مقتضى (كلوا واشربوا) الإباحة، فإنها لا تنفي المولوية كما سبق، بناء على أن (الإباحة) قد تصدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام المولوية، كما هو كذلك
2- الكافي: ج5، ص78، ح6.
3- الكافي: ج6، ص381، ح6.
4- مستدرك الوسائل: ج13، ص24، ب8، ح6.
5- فإن التلذذ صفة زائدة على الشرب ولا تلازم بين مولوية الشيء بقيد صفة، ومولويته بدونها ولا يرد هذا على (الأكل حلالاً) لأن الأمر تعلق به بقيد الحلية ورتب الثواب على المجموع من المقيد والقيد فأفاد مولوية ذلك الأمر.

وكذا الروايات الواردة في ما يستحب أكله أو يكره.(1)

ومفهوم مثل (من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولم يستجب له دعاؤه أربعين صباحاً... وإن اللقمة الواحدة تنبت اللحم)(2).

كما يدل على أن الأمر في «كلوا واشربوا» مولوي للطلب وليس إرشادياً للنصح ولا صورياً، كما ادعاه الطبرسي في المجمع حيث قال: (صورته صورة أمره، والمراد الإباحة)(3)، بعض الآيات مما ورد فيه الأمر ب«كلوا واشربوا» مثل قوله تعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور».(4)

فإن تفريع «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» على «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً» دليل مطلوبيتهما؛ فإن بهما تتحقق الفائدة من جعله تعالى الأرض ذلولاً.

وبعبارة أخرى: إن جعله تعالى التكويني، للأرض ذلولاً استتبع طلبه المشي في مناكبها والأكل من رزقه، وناسب المولوية، أي أنه أراد من كونها ذلولاً، مشي عبادة فيها والأكل من رزقه، فالمشي والأكل بين واجب ومستحب.

وبعبارة أخرى: المشي والأكل من رزقه، محبوبان له تعالى، حيث قد جعل الأرض ذلولاً بلحاظهما _ ولو كجزء من الغرض والغاية _

ص: 46


1- ويرد عليه نفس ما ورد على (التلذذ).
2- سفينة البحار: مادة أكل، ج1، ص102.
3- مجمع البيان: ج4، ص244، ذيل الآية الشريفة.
4- الملك: 15.

فالأمر به دليل مطلوبيته، لا مجرد إباحته،وما كان محبوباً للمولى وقد طلبه لأجل محبوبيته له، فالأمر به مولوي _ على الضابط الثالث للمولوي(1) _ أو إنه مما يرجح كونه مولوياً _ على الضابط الأول في الإرشادي والمولوي.(2)

كما أنه مما قد يستدل به على أن الأمر في مثل «كلوا من الطيبات»(3) للطلب وليس لمجرد الإباحة، أن ضمّه إلى ما دل على (الحلية) يقتضي ذلك عرفاً، فإن «قل أحل لكم الطيبات»(4) أو «اليوم أحل لكم الطيبات» دال على الحكم الوضعي وهو حلية الطيبات و «كلوا من الطيبات» دال على الحكم التكليفي، فلو كان للإباحة لما أفاد جديداً.

ويظهر ذلك بوضوح أكثر في قوله تعالى: «فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً»(5) أو «كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً»(6) فإن كونه حلالاً طيباً، أخذ في رتبة سابقة _ وإن كان حالاً _ فيحسن أن يكون الأمر به للوجوب أو الندب، لا لمجرد الإباحة، كما أنه يشعر بالمطلوبية وصفه تعالى المتعلق بكونه «ما رزقكم الله» _ فتأمل.

ثم إن من البين اختلاف (الحلية) عن (الجواز) فإنهما اعتباران(7) ولو كانت عينه لما صح القول ب(كلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً) إذ يكون

ص: 47


1- وهو ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته.
2- وهو ما صدر من المولى بما هو مولى بقيد إذا كان في مقام التشريع أو لا _ كما سيأتي.
3- المؤمنون: 51.
4- المائدة: 4.
5- النحل: 114.
6- البقرة: 168.
7- ويمكن جعل كل منهما بالاستقلال أو انتزاع أحدهما من الآخر.

مفاده: يجوز أكله حال كونه جائزاً! كما أن مما يدل على أن (الأكل والشرب مما في الأرض، مطلوب لله تعالى ومحبوب له وإن الأمر به مولوي _ للندب أو الوجوب _ فيما به قيام الأود _)، قوله تعالى: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً»(1) فإن أمر الرسل بذلك وجعله في سياق «اعملوا صالحاً»، دليل المحبوبية بل المولوية، وأما كونه لصرف الإباحة فخلاف المتبادر ولا وجه محسِّن له.

وكذلك قوله تعالى: «كلوا من رزق ربكم واشكروا له»(2) فإن عطف «اشكروا له» المطلوب ذاتاً للمولى بما هو مولى، قرينة عرفاً على أن المعطوف عليه كذلك لا أقل بلحاظ طريقيته _ فتأمل.

7- وقوله تعالى: «اجعلني على خزائن الأرض»(3) فإن يوسف عليه السلام وإن كان أعلى مرتبة، إلا أنه لم يستخدم مقام مولويته عند هذا الطلب، بل كان مجرد إرشاد، خاصة بلحاظ آخر الآية الشريفة «إني حفيظ عليم».8- وقوله تعالى: «لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً»(4) فقد يستظهر بقرينة آخر الآية، أنه إرشادي، لكن لا تبعد المولوية.

9- وقوله تعالى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط»(5) ربما يعد إرشادياً بقرينة «فتقعد ملوماً محسوراً»(6)، إما بلحاظ

ص: 48


1- المؤمنون: 51.
2- سبأ: 15.
3- يوسف: 55.
4- يوسف: 5.
5- الإسراء: 29.
6- الإسراء: 29.

أن المصلحة دنيوية، وإما بلحاظ أن ذلك من المستقلات العقلية، والأوامر فيها إرشادية، على الضابط الخامس في (المولوية والإرشادية) كما سيأتي.

10- وقال تعالى «فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».(1)

لكن الظاهر أنه مولوي للندب.

وقال جل اسمه: «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون»(2) وقد أشرنا إلى جانب من الحديث عن ذلك في كتاب (دروس في التفسير والتدبر) المجلد الأول.

11- وربما عد منه «ولا تقربوا الزنا»(3) فإنه حرام، والنهي عن قربه تنزيه وإرشاد إلا إذا كان كناية عنه، لكن الظاهر إرادة معناه الحقيقي (فإن من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه)، وقد بحثناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.

12- و «فإِذَا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم»(4)، وقد سبق البحث عن نظائره(5) بالتفصيل وسيأتي أيضاً.

ص: 49


1- المزمل: 20.
2- الأعراف: 204.
3- الإسراء: 32.
4- النساء: 6.
5- كقوله تعالى «فأكتبوه» و «استشهدوا شهيدين من رجالكم» و «اشهدوا ذوي عدل منكم».

ص: 50

المبحث الثاني : هل ورد مصطلح الأمر المولوي والإرشادي في الكتاب والسنة؟

اشارة

ص: 51

ص: 52

المبحث الثاني : هل ورد مصطلح الأمر المولوي والإرشادي في الكتاب والسنة؟

ثم إن مصطلحي (الأمر المولوي والإرشادي) وإن لم يردا (صفة وموصوفاً معاً) في لسان الشارع _ فيما نعلم _ بهذا اللفظ، إلا أن كلاً من هذه الألفاظ الثلاثة قد ورد في كلام الشارع، وقد ذكرت مادته وبعض مشتقاته في الآيات والروايات.

(المولوي) في الكتاب

آية «الله مولى الذين آمنوا»

أما (المولوي) في الكتاب:

فقد قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ».(1)

وقد يتمسك بهذه الآية للتعميم الذي سنذكره، من أن للمولى

ص: 53


1- محمد: 11.

مقامين: مقام التشريع ومقام الناصح، إضافة إلى مقام الولاية التكوينية.

والأول هو الذي خصه القوم باسم (الأمر المولوي)، وخصه بعضهم بالتكليفي منه، وعممه بعضهم للوضعي أيضاً.

والثالث هو مفاد قوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1)

والثاني هو ما نذهب إلى أنه أحد مقامات المولى وأحد شؤونه، وإن الأمر الإرشادي كالمولوي، مقتضى مقامه ومقتضى لطفه وكرمه، وأن أمره بما هو ناصح إذا أمر بما هو مولى ناصحاً، للوجوب، كما إن أمره بما هو مشرّع إذا أمر بما هو مولى، للوجوب(2)، والفرق بين الوجوبين إنما هو في استحقاق العقاب بالمخالفة على الثاني دون الأول، كما فصلناه في موضع آخر.

فهو جل اسمه قد يأمر (بما هو مولى): تشريعاً، وقد يأمر (بما هو كذلك) ناصحاً.

دلالة الآية الكريمة على وجود قسمين للمولوي

توضيح التمسك بالآية للتعميم: أن (المولى) هو ذو الولاية، وفلان مولى فلان أي ذو ولاية عليه، و (الولاية عليه) تشمل الولاية على ذاته وتصرفاته وشؤونه ومنها ولاية تكليفه ونصحه وإرشاده، فما في

ص: 54


1- يس: 82.
2- لا يخفى أن المراد في الموردين إذا كان مصبه الإيجاب _ للوضع أو للأصل العقلي أو لمقدمات الحكمة بعد فرض وضعه لمطلق الطلب على رأيي الأصفهاني والعراقي، أو للقرينة _ لا الندب، وإلا كان له، مولوياً أيضاً.

المفردات من أن: (الولاية): (تولي الأمر)(1) تفسير بالأخص(2) وبعبارة أخرى: (المولى): من يملك ذات المولّى عليه و (أمره) هذا. وليس(الأمر) و (أمره) خاصاً بدائرة (التشريع)، فإن (المولى) يتولى أمر نصح العبد أيضاً وإرشاده.

وبعبارة أخرى: يتولى أمر عبده من حيث التكليف ومن حيث الإرشاد.

ويظهر ذلك بوضوح بملاحظة حال الأب مع أبنائه؛ فإنه ليس آمراً زاجراً دائماً، بل أكثر حاله معهم: النصح والإرشاد، والعرف يرى أن ذلك هو مقتضى ولايته عليهم وكونه ولياً ومولى لهم وكونهم موالي له، ولو لم يفعل عدّ مفرطاً بما هو أب ومولى، لا بما هو صديق أو مؤمن فقط.

مقتضى مقام المولى: الإخبار ناصحاً

بل قد يقال: إن مقتضى مقام المولى (الإخبار) ناصحاً وليس فقط إنشاء النصح، فإن قوله عليه السلام: (من ساء خلقه عذب نفسه)(3) و (من رضي بالذل هانت عليه نفسه) و (البخل عار والجبن منقصة)(4) وغيرها، إخبار من المولى، لكونه مولى لهم يحب خيرهم وصلاحهم، لا أنه جرد نفسه عن مقام المولوية وتلبس بمقام آخر كما أنه ليس إنشاءً، بل (الإخبار) بقصد(5) الكمال والتكامل لمواليه.

ص: 55


1- مفردات الراغب _ مادة ولي.
2- لأن الولاية أعم من الولاية على الذات والولاية على الأمر.
3- الكافي: ج2، ص321، ح4.
4- نهج البلاغة: ج4، ص3، ح3.
5- أي الإخبار طالباً بذلك كمالهم، فإن كان ذلك هو المصب كان إنشاءاً بقالب الإخبار وإن كان ذلك مآلاً كان إخباراً وإن كان بداعي الطلب _

إلا أن يقال: لو كان كذلك كان إنشاء للنصح، إلا أن يكون (المصب) الإخبار والداعي النصح، ويدل عليه بدلالة الإيماء والإشارة ، فتأمل.

هل الآية في مقام الولاية التكوينية فقط؟

لا يقال: قوله تعالى (ذلك) أي نصر المؤمنين وتدمير الكافرين، معلول لكونه تعالى «مولى الذين آمنوا» كما هو منطوق الآية فكأنه قال (ينصرهم لأنه مولى لهم)، فالآية في مقام الولاية التكوينية ومنها (النصرة) التي فسر بها البعض كالصافي، الآية فقال (ناصرهم على أعدائهم) فإن الظاهر أنه تفسير بالمصداق.

إذ يقال: اعتباره تعالى كونه مولى لهم، علة لتدمير الكافرين ونصر المؤمنين، لا يخصص (كونه مولى) بالولاية التكوينية، إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، بل إن من البديهي أن تعليل أثر بعلةٍ لا يحصرها في ذلك الأثر.(1)

نعم قد يستدل للاختصاص هنا بالنصرة بقرينة المقابلة(2) فيجاب بأن تغيير السياق غير عزيز.

بل يقال: لا دلالة للاختصاص حتى في (المقابل) إذ معنى مجمل الكلام (إن الله ينصر المؤمنين؛ لأنه مولى لهم، وأما الكافرين فلا مولى لهم) أي لا مولى لهم ينصرهم من دون اللهسبحانه، وليس نفياً لمولويته

ص: 56


1- فوزان (ينصرهم لأنه مولى لهم) كوزان (يبيع لأنه مالك) فهل يتحدد المالك بالبيع ويستدل ب(يبيع) على أن المالك ليس له أن يهب أو يصالح أو يؤجر؟
2- أي المقابلة مع (وأن الكافرين لا مولى لهم)؛ إذ يقصد به (الناصر) حتماً؛ إذ لا شك إن الله مولى لهم بمعنى المالك والأولى وشبههما.

سبحانه عنهم مطلقاً، إذ لا شك أنه تعالى مالك لهم وأولى بهم من أنفسهم، فالنفي متوجه إلى شعاع من أشعة المولى لا إلى ذاته وسائر شؤونه ، فتأمل.

بل قد يقال برجوع «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا» إلى مجمل ما ذكر في الآيات السابقات ومنها «سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم... إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»(1) وفي المقابل قال: «والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهمQ ... فأحبط أعمالهم... دمّر الله عليهم...»(2) ولحق ذلك كله قوله تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم».

والظاهر أن تلك الموارد فيها التكويني والتشريعي، ومنها الهداية والإرشاد والتوفيق والتسديد الغيبي والظاهري؛ فإن (الهداية) أعم من إراءة الطريق ومن الإيصال للمطلوب، و (الناصح) يُري الطريق منشأً أو مخبِراً، و (الناصح) هادٍ كالمشرع، ف(سيهديهم) هو مقتضى أنه مولى لهم «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا».

كما أن (ينصركم) أعم من النصر بفعل أو قول أو إرشادٍ.

وعلى أي فإن الدليل الخارجي والقرائن القطعية دلت على كون مولويته أعم.

ثم إن هذا الإيراد لا يرد على التمسك بالآية اللاحقة، إذ هي واضحة

ص: 57


1- محمد: 5-7.
2- محمد: 8-10.

الإطلاق والشمول.

آية «الله ولي الذين آمنوا»

وهي قوله تعالى: «اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ»(1)، ومقتضى كونه (ولياً) يلي أمورهم: النصح أيضاً _ بإنشاء أو إخبار _ لا التشريع فحسب، والآية شاملة لمقامي التشريع والتكوين معاً، خاصة بقرينة (يخرجهم) فإن إخراجهم من الظلمات إلى النور، تشريعي وتكويني، ويشمل إخراجهم من الظلمات إلى النور: نصحهم وإرشادهم وهدايتهم، كما يشمل تكليفهم بما يخرجهم من الظلمات إلى النور لو التزموا به، كما شمل اللطف التكويني الخاص بهم، والعناية الربانية لخروجهم إلى النور.

آية «مولاهم حق»

وقال تعالى: «ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق».(2)

ولعل «مولاهم الحق» بلحاظ مقام مولويته التكوينية، فهي أجنبية عن المقام، إلا أن يقال: المراد ب«مولاهم»: الأولى بهم تكويناً وتشريعاً ومن جميع الجهات(3)، ويؤكده (وصفه)ب«الحق»، ولعله يؤكده قوله تعالى «ألا له الحكم»(4) أي الحكومة التكوينية والتشريعية، إلا لو قيل بالانصراف للأولى، أو قيل بأن السياق سياق التكوين لا

ص: 58


1- البقرة: 257.
2- الأنعام: 62.
3- ومنها إرشادهم، وحيث كان (مولاهم الحق) كان الأولى بهم الاسترشاد به وإطاعته.
4- الأنعام: 62.

التشريع _ فتأمل.

آية «وإن تظاهرا عليه»

وقال تعالى: «وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه».(1)

ومقتضى مقام (المولى) ليس الإنشاء والإخبار النافع فحسب، بل العمل على طبق مصلحة عبده أيضاً، وهو ما قد يستظهر من الآية الكريمة، أي فإن الله بما هو مولاه سيدافع عنه.

(الفعل) مولوي وإرشادي ك(الأمر)

وبذلك يظهر أن هنالك (أمراً مولوياً)، وهنالك أيضاً (فعل مولوي) ونعني به: الفعل الصادر من المولى بما هو مولى، ولو (أنشأ) بالفعل أمراً وجبت إطاعته، كما لو أنشأ باللفظ أمراً، وهذا غير سابقه إذ هنالك إشارة للنهي، وهناك فعل هو عين النهي، وذلك كالمنع التكويني من الذهاب بيده، فليس له تنحيتها والذهاب.

وبعبارة أخرى: قد ينشأ ب(الإشارة) الأمر، وقد يشير بها إلى الأمر، فهي كالإخبار والإنشاء بالألفاظ، فتارة يقول (أمرتك) منشأً وأخرى مخبراً.

كما أن هنالك (فعلاً إرشادياً) وهو الفعل الصادر منه بما هو ناصح.

فلو (أعطى) بما هو مولى، وجب القبول واستحق العقاب بالرفض، وكذا لو (منع) بما هو مولى، فليس للعبد أن يقتحم، ولو أشار (أن خذ) أو (أن لا تأخذ) أي منشِأً الأمر أو النهي بها، وجب الإمتثال.

ص: 59


1- التحريم: 4.

ولو (أعطى) بما هو مشفق ومحب وناصح، لم يستحق العقاب بالرد، وكذلك لو (منع) لكونه مشفقاً، سواء قلنا بأن الأمر النصحي _ والفعل كذلك _ منه ما هو للوجوب _ كما التزمه الشيخ والميرزا الشيرازي قدس سرهما _ أم لا، فلو (منعه) من الذهاب، بيده، فإن كان بما هو مولى، استحق العقاب بالمخالفة، ولو كان بما هو ناصح، لم يستحق بها.

وكذا لو أعطاه الدواء بما هو مولى أو بما هو مشفق.

ويعرف حال (الفعل) من القرائن المقامية وغيرها.

(الفعل المولوي) من أهم طرق إثبات ولاية أمير المؤمنين عليه السلام

ومن الأمثلة ما لو (نصبه) ولياً بفعله _ كأن أجلسه على عرشه مثلاً _ ولعل كثيراً من أفعال الرسول الأعظم مع أمير المؤمنين عليهما وآلهما السلام، كانت كذلك، وكذلك مع سبطيه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بل ومع الأعداء أيضاً والمنافقين، كعزل هذا وذاك، أو حتى عدم نصبه فيما كان يتوقعه ويرومه.

وبذلك يظهر عدم إنحصار إثبات ولاية الأمير عليه السلام بأقوال الرسول صلى الله عليه وآله، بل أفعاله أيضاً وما أكثرها، فيها الدلالة البالغة، وهذا باب يفتح منه ألف باب بإذن الله تعالى، ويحتاج إلى تحرٍ واسع ومتابعة جيدة، ولعل الله يقيض بعض الأعلام الغيارى لذلك، إنه الموفق المستعان.

ومن الأمثلة (نصبه) علياً صلوات الله عليهما خليفة من بعده _ في

ص: 60

سفره _ على المدينة، و (عزله) خالداً من الجيش بل و (إرساله) أبابكر وعمر لجيش أسامة، وكذا نفس رفعه يدَ علي عليهما السلام يوم الغدير؛ فإنها كلها أفعال وليست مقدمة فقط وليست حاكية فقط كما قد يتوهم، بل هي إنشاء أيضاً.

التقرير المولوي، وكذا الإشارة

ومما يؤكد ذلك ويوضحه التزام الفقهاء بأن (فعل المعصوم) و (تقريره) _ وهو من مصاديقه _ حجة، ك(قوله) ففعله (حجة) سواء أخذت الحجية بمعناها اللغوي أي ما يحتج به المولى على عبده، أم عرفت ب(المنجِّز والمعذِّر) كما ذهب إليه الآخوند قدس سره، أم ب(الكاشف التام أو الناقص) كما ذهب إليه الأصفهاني قدس سره، أم (المحرك) وهي الحجة التكوينية، أم (لزوم الحركة على طبقه) كما ذهب إليه جمع، أم ما أشبه ذلك.

نعم لا يقع (فعله عليه السلام) (أوسط) في القياس وهو ما ذهب إليه الشيخ في معنى الحجية تبعاً للمناطقة، بل ما يقع، هو ما كشف عنه فعله _ فتأمل.

وبذلك ظهر أن (تقرير المعصوم عليه السلام) منه: المولوي، ومنه: الإرشادي.

وبذلك يظهر أن (الإشارة) وهي حجة ودلالتها معتمدة من الأخرس بل ومن غيره أيضاً في الجملة، هي من مصاديق (الفعل) إلا أنها أفردت بالذكر لكونها أظهر المصاديق وأكثرها دوراناً، ولذلك ذكروا أن إنشاء

ص: 61

الأخرس الطلاق، هو بوضع عبائتها على رأسها مثلاً _ فيما عرف منه إرادة ذلك، ف(الإشارة) أيضاً مولوية وإرشادية.

آية «وهو الولي الحميد»

وقال جل اسمه: «وهو الولي الحميد».(1)

فهو «الولي» الذي يتولى أمور الناس(2)، تكوينيّها وتشريعيّها، بما فيها من أوامر مولوية، ونصائح وإرشادات، فمقام مولويته يقتضي إرشاده ونصحه، لا الأمر المولوي فقط.

و «الحميد» أي المحمود في أفعاله(3)، وأوامره ونواهيه ونصحه وإرشاده، ولعله يؤيده قوله تعالى قبل ذلك «وينشر رحمته» وذلك لشمول «ينشر» لما كان بقول أو بفعل، بأمر تكويني أو تشريعي(4)، ولشمول وسعة «رحمته»؛ إذ «رحمته» كما هي: (إعطاء كل شيء خلقه) كذلك هي (هدايته) وإرشاده «قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»(5) _ فتأمل.

ص: 62


1- الشورى: 28.
2- (تبيين القرآن) في تفسير الآية الشريفة.
3- المصدر.
4- وكون ما سبق (ينشر) مصداقاً والمورد لا يخصص الوارد فتأمل.
5- طه: 50.

آية «إنما وليكم الله»

وقال سبحانه وتعالى: «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون».(1)

(النصح) أصل في المعصومين عليهم السلام، كالتشريع

وحيث أن الإمام والرسول، هم الأولياء للناس، كما الله سبحانه وتعالى _ بنص الآية الشريفة _ وفي طول ولايته تعالى بالبرهان، فإنه يستظهر أن (النصح) أصل فيهم ك(التشريع)، فإنه جل وعلا مشرّع وناصح ومكوّن بمقتضى كونه مولى حقيقياً، وبمقتضى رحمته وكرمهوجوده ولطفه، وقد فصلنا الحديث عن (لطف الله ومقتضياته)، في (فقه التعاون على البر والتقوى)(2)، خاصة بلحاظ ما رتّبتْه الآية الشريفة من الفائدة على توليهم «ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون»(3)، فإن توليهم فيما نصحوا به، من أسباب الغلبة، كتوليهم فيما أمروا به.

وذلك سواء كان ما نصحوا به بما هو موالي وأولياء، أم بما هم محبون مشفقون، مع قطع النظر عن مقام الولاية، ولعل التعبير ب«رسوله والذين آمنوا» أقرب للإشارة للأول لمكان الوصف، وإن كان الظاهر أنه أعم.

ولعل ذكر الله سبحانه لصفتي (إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة) في أمير

ص: 63


1- المائدة: 55.
2- فقه التعاون على البر والتقوى: ص 205.
3- المائدة: 56.

المؤمنين عليه السلام وتعريفه بهما _ إضافة إلى دلالتهما على مورد النزول وكونه عليه السلام المقصود لا غيره _ إشارة إلى أعظم مقومين يتصف بهما (الولي) من قبل الله تعالى، أحدهما يرتبط بعلاقته بربه، والآخر يرتبط بعلاقته بمن وُلِّي عليهم، ووصف الله تعالى له بهاتين الصفتين _ رغم تعدد من يتصف بهما بل كثرتهم _ دليل على أنه بلغ أعلى درجاتهما؛ لأنهما حقيقتان تشكيكيتان، فليس فوقه فيهما أحد، وإلا كان الله انتخبه وارتضاه هو الولي نظراً لحكمته وعدله، ويؤكد ذلك وصفه ب(وهم راكعون) فإنه إضافة إلى دلالته على الركوع الظاهري، مشير لغاية الخضوع والتذلل لله تعالى وقد أشير إلى جانب من ذلك في (دروس في التفسير والتدبر).

وعلى أي فإن المقصود هنا أن من هذا شأنه وهذه صفته وهذا مقامه، فإن (نصحه) لمن ولي عليهم بلحاظ مقامه وولايته وصفاته، يكون على الأصل من مقتضياتها، على خلاف ما توهم من أن (النصح) ليس من شأن المولى بما هو مولى، بل التشريع فحسب.

مناقشة: (الأصل في مقامهم عليهم السلام المولوية)

وبما سبق بيانه _ في الآيات الشريفة _ يظهر التأمل في قولهم بأن (الأصل في مقام الإمام، المولوية) يريدون به المعنى القسيم للنصح(1) أي المولوية بالمعنى الأخص، سواء قصد أن الإمام له مقام واحد فقط

ص: 64


1- وإن صِرنا إلى أن النصح قسم أيضاً، وإن كان منه ما هو قسيم، وأوضحنا أن مقام المولوية يقتضي التشريع ويقتضي النصح أيضاً.

هو مقام (المولوية) وأن مقام (النصح)، ليس له بما هو إمام(1)، بل حاله كحال غيره في ثبوت حق النصح له، أم قصد أن المقامين(2) له بما هو إمام، إلا أنالأصل فيهما هو مقام (المولوية) بالمعنى الأخص بإرادة(3) (القاعدة) من (الأصل) أو إرادة: ما يقابل الفرع، من (الأصل) فإنه متفرع عليه(4)، فتأمل.(5)

إذ إرادة (القاعدة) أو (ما يتفرع) صادق على إرادة المولوية بالمعنى الأعم لا الأخص، وهو مورد البحث في المقام _ فليتأمل.

وهل الأصل في أوامرهم عليهم السلام المولوية؟

لكن هل يصح قولهم (الأصل في الأوامر، المولوية)؟

وليلتفت لفرق هذا عن سابقه(6) بمعنى أنها صدرت لجهة الإلزام

ص: 65


1- فيراد ب(الأصل) بالقياس لغير النصح _ لفرض عدم هذا المقام بخصوصه له على هذا الرأي _ أي بالقياس لشؤونه الشخصية مثلاً.
2- أي مقام (المولوية _ التشريعي) و (مقام المولوية _ النصحي).
3- وللتقريب للذهن نمثل: بشخص له منصبان: القضاء والتعليم، فهو قاض ومعلم، لكن هل هما بعرض الآخر؟ أم الأصل أنه معلم ثم هو قاضِ؟ أو العكس؟، أم أحدهما متفرع على الآخر فلأنه قاضي جعل معلماً أو العكس، والأوضح في مثال الأصل والفرع: المعلم والمربي. وهذا البحث بحاجة إلى تتبع وتأمل أكثر والله الهادي العاصم.
4- أي مقام النصح متفرع على مقام المولوية.
5- إذ لو أريد بالتفرع (المعلولية) ورد عليه: وجود مقام النصح في غير من له المولوية فكيف وجد المعلول بلا علته؟ مما يكشف عن عدم كون (المقام) علة، إلا أن يجاب بتعدد الأسباب.
6- فإن السابق (الأصل في مقام الإمام) وهذا (الأصل في أوامره)، فلعل الدليل يسوق إلى عدم الأول وثبوت الثاني بأن يقال بأن له مقامين لكن الأصل في أوامره، المولوية بالمعنى الأخص، أو العكس بأن يقال الأصل في مقامه المولوية لكن يلتزم بأن أوامره ليس الأصل فيها لكثرة أوامره ناصحاً مثلاً.

واستحقاق العقاب بالترك أي (المولوية بالمعنى الأخص)(1)، وليس (المولوية) بالمعنى الأعم(2) اللازم منها مطلق الإلزام الأعم من (المولوي بالمعنى الأخص) ومن قسيمه المندرج تحت ما أسميناه (بالمولوي بالمعنى الأعم)، وهو (النصح الإلزامي)؟

هذا لو قلنا بوجود النصح الإلزامي، ولو لم نقل به يكون معنى قولهم (الأصل في الأوامر، المولوية) إن ظاهرها ذلك، لا الإرشاد فهي واجبة وجوباً تكليفياً ومخالفتها توجب العقوبة.

الظاهر: نعم، لكن لا بتعليل: أن المولوية _ بالمعنى الأخص _ هي مقامه دون المولوية في ضمن فردها الآخر _ وهي (النصح الإلزامي) أو غيره(3) _ إذ قلنا: كلاهما مقامه، بل لانصراف الأوامر إلى كونها أوامر من المولى بما هو مولى بالمعنى الأخص لا الأعم.

وغير خفي أن المراد ب(الأصل) هنا: (القاعدة) لا (الأكثر) فإنه غير معلوم(4)، فتأمل، ولا الأصل في مقابل (الأمارة) _ وهو من إطلاقاته _ ولا الأصل بمعنى الاستصحاب _ كما هو واضح، ولا ما يقابل (الفرع).

(المولوي) في السنة:

وأما الروايات:

ص: 66


1- أي الموجبة لاستحقاق العقاب، أي المولوية التشريعية.
2- وإن صح البحث بهذا المعنى أيضاً فتدبر.
3- أي غير الإلزامي كما فيما كان للندب.
4- إذ لا يعلم كون الأوامر المولوية _ التشريعية، أكثر من المولوية النصحية أو كونها أكثر من الإرشادية، في جملة ما صدر من الشارع المقدس.

رواية (إني لأولى الناس بالناس)

فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فوالله إني لأولى الناس بالناس).(1)

والظاهر أنه أولى الناس بالناس، في مختلف الجهات، أي تكويناً وتشريعاً _ فيشمل الأمر والنهي والإرشاد والنصح بقسميه (المولوي _ النصحي، والنصحي المجرد) وغير ذلك.

رواية (فيمن وليت عليه)

وقال عليه السلام: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه).(2)

وقد (وليّ) بأمر الله ونصب رسول الله صلى الله عليه وآله، بالنص الخاص، بل بالنصوص المستفيضة بل المتواترة الخاصة، فأمره التشريعي مولوي وإرشاده(3) مولوي أيضاً.

فإن شأن من وُلِّي على قوم ليس الأمر والنهي فقط، بل تحري صلاحهم وإرشادهم ونصحهم فهو بما هو مولى عليهم، مسؤول عن نصحهم وإرشادهم.

وبعبارة أخرى: مقتضى (كلكم راع) أن كل إنسان مسؤول عن نصح الآخر ورعيه ورعايته فلو ترك، استحق الملامة والمذمة أو العقاب، أما الوالي فلو ترك فإنه ملام ومعاتب أو معاقب لجهة مقام ولايته أيضاً؛ إذ يُرى أنه ترك مقتضاها، لا لصرف أنه ترك العمل ب(كلكم راع وكلكم

ص: 67


1- نهج البلاغة: ج1، ص231، خ118.
2- نهج البلاغة: ج2، ص6، خ126.
3- أي الصادر منه بلحاظ مقامه.

مسؤول عن رعيته)(1) وإذا كان إرشاده ونصحه بلحاظ مقامه، مما كُلِّف به ومن مسؤولياته، كان لازمه لزوم الإطاعة فيما إذا كان نصحاً إلزامياً؛ لما ذكروه من التلازم بينهما في قوله تعالى «ولينذورا قومهم إذا رجعوا إليهم»(2) فإن المتفاهم عرفاً منه هو ذلك.

رواية (نصيحتك لله ولمن وليت أمره)

وقال عليه السلام: (يا مالك، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره).(3)

وقد ولي بنصب مَن نصبه الله ورسوله، فله الولاية الطولية، فأمره مولوي كذلك، وإرشاده قد يكون مولوياً كذلك أي لو أعمل مقامه.

المعاني الثلاثة للنصيحة كلها من مقامات (المولى)

بل إن قوله عليه السلام: (دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره) يؤكد المطلوب؛ فإن (النصيحة): إما بمعنى الإخلاص والخلوص في النية والعمل، وإما بمعنى (إحكام الأمر)، وإما بمعنى تحري صلاح الآخر، بقول أو عمل، كما فصلناه في موضع آخر من الكتاب،وكلها تشهد بكون (مقام الناصح) هو من مقامات (الولي) لمن ولي أمرهم، ومن مسؤولياته؛ فإن (النصح) معلول الإخلاص كما هو دليله، وهو من الإحكام كما هو دال عليه، وهو تحري لصلاح المُوَلّى عليه كما هو

ص: 68


1- كنز العمال: ج6، ص30، ح14710.
2- التوبة: 122.
3- نهج البلاغة: ج3، ص99، ك53.

كاشف عنه.(1)

وبعبارة أخرى: (الولي) لابد أن يكون مخلِصاً، متقِناً، محكِماً تدبيره، متحرياً صلاح من وُلِّي عليهم، وكلها تقتضي وتوجب (نصحه) لهم أيضاً _ بمعناه العرفي المتداول _ فكلما وجبت عليه تلك الثلاثة، وجب عليه هذا.

والأمر في (أمره) أعم من أمور معاشه ومعاده؛ فإنه مسؤول عنها جميعاً فلو (افتقر الناس) بسوء إدارته، حوسب وعوقب، ولو (ضل الناس)، بسوء إدارته وفعله، حوسب وعوقب أيضاً، فالنصيحة الواجبة على الوالي هي أعم مما يضمنهما ويكفلهما.

وبعبارة أخرى: (أمره) أعم مما وقع(2) متعلقاً (للأمر)(3) المنشَأ بلحاظ مصلحة الآخرة أو الدنيا _ وهو الضابط الثاني _ ومما كانت المصلحة فيه معلومة للمأمور قبل الأمر أو لا _ وهو الضابط السادس _ ومما توقفت المصلحة على الأمر أو لا _ وهو الضابط السابع _ ومما عادت المصلحة للآمر أو المأمور _ وهو الضابط الثامن _.

فما ورد في الكتاب والسنة مصحح للإصطلاح الأصولي

ثم إن كون المراد ب(المولى) و (الوالي) و (الأولى) و (وُليت عليه) و (وُليت أمره) _ كما ورد في الآيات والروايات _ الأعم من المولوي والإرشادي بإصطلاح الفقهاء والأصوليين، يكفي مصححاً لإصطلاحهم

ص: 69


1- وبذلك أشرنا لكلا جانبي الثبوت والإثبات فتدبر.
2- هو أو الفعل المرتبط به.
3- (أمره) يراد به شأنه ومسؤوليته وحاله و (للأمر) يراد به الأمر الإنشائي أي الطلب.

(الأمر المولوي) على إرادة الأخص وأحد الأفراد(1) إلا أنه لا يصلح أن يكون عندئذٍ محوراً للبحث والنقاش من حيث الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ودلالاته الإلتزامية وغيرها، بل يتبع الأمر حينئذٍ ملاكه ودليله _ فتدبر.

(الإرشادي) في الكتاب

وأما (الإرشادي) فقد ذكر مصدره وعدد من مشتقاته في القرآن الكريم، فقد قال سبحانه وتعالى: «وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد».(2)

«سبيل الرشاد» في الآية أعم من الإرشادي والمولوي

و «سبيل الرشاد» في هذه الآية الشريفة، أعم من متعلقات الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية، بل ومن موارد الإخبار عنه، أي إنه يقع متعلقاً لها بأجمعها.

وبذلك يصح إطلاق الأمر الإرشادي على الأمر المولوي أيضاً، وهو ما ذكره صاحب الجواهر من الإرشاد بالمعنى الأعم _ كما نقلناه عنه في موضع آخر _.

وكما أن (الهداية) إلى وجوب الصلاة والزكاة والحج والخمس _ وغيرها من الأحكام التكليفية _ هداية إلى سبيل الرشاد، كذلك الهداية

ص: 70


1- الأفراد: هي المولوي التشريعي، والمولوي النصحي، والإرشادي، والإخبار إذا أخبر بما هو مولى وأولى ومسؤول. و(أحدها) هو الأول.
2- غافر: 38.

إلى شرائط صحة الصلاة(1)، بل وشرائط القبولأيضاً(2) _ وغيرها من الأحكام الوضعية _ هداية إلى سبيل الرشاد، وكما أن الهداية إلى (العبادات) هداية إلى سبيل الرشاد، كذلك الهداية إلى (العقود والإيقاعات) وما الصحيح منها أو الباطل وما الجائز منها(3) أو اللازم، وشروطها وشروط المتعاقدين وغير ذلك، هداية إلى سبيل الرشاد.

وبعبارة أخرى: كما أن (إنشاء) ما يؤدي الإلتزام به للرشاد، هداية إلى سبيل الرشاد، فكذلك _ بل ولعله أظهر إنطباقاً(4)_ النصح بما يوصل إلى طريق الرشاد، بل وكذلك الإخبار عن طريق الرشاد.

فكما أن «أقم الصلاة»(5) و «ثم أتموا الصيام إلى الليل»(6) هداية إلى سبيل الرشاد.

كذلك الهداية:

إلى «أحل الله البيع وحرم الربا»(7) سواء قيل بكون «أحل الله البيع» تأسيساً أم إمضاءً أم إخباراً، وسواء قيل بإفادته الحكم التكليفي أم الوضعي(8) أيضاً فإنه على كلها هداية إلى سبيل الرشاد.

ص: 71


1- كالستر والقبلة والطهارة.
2- كحضور القلب، ولعل منه (الولاية) لكن قد قال الكثير من الفقهاء: أنها شرطة الصحة.
3- كبيع الفضولي، أو المعيب أو الغبن أو ما أشبه.
4- فإنه مصداق ذلك الكلي، وأما الإنشاء فلازمه ذلك الكلي _ أي الهداية لسبيل الرشاد.
5- الإسراء: 78.
6- البقرة: 187.
7- البقرة: 275.
8- التكليفي: الإباحة بالمعنى الأخص. والوضعي: كالصحة والنفوذ واللزوم مثلاً.

وإلى «أوفوا بالعقود»(1) سواء قيل بإفادته الحكم التكليفي أيضاً كما ارتضيناه أم إفادته خصوص الحكم الوضعي _ كما ذهب إليه في (مصباح الأصول) وقد فصلناه في موضع آخر _ ومثل هذا الكلام جار في الآية التالية _ كما فصلناه في موضع آخر أيضاً _.

و إلى «أشهدوا ذوي عدل منكم»(2) و «لا تسرفوا»(3) و «أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»(4) _ بناء على إرشاديته، فإنه نصح _ وهو مع ذلك هداية إلى سبيل الرشاد.و إلى «قدموا لأنفسكم»(5) فإنه نصح وإرشاد وهداية إلى سبيل الرشاد.

و إلى «احذروا»(6) وغيرها، مما هو في دائرة الحكم التكليفي، أو الحكم الوضعي، أو النصح إنشاءً، أو حتى الإخبار ناصحاً(7) فإنها بأجمعها _ بأنفسها _ هداية إلى سبيل الرشاد، كما أن الهداية إليها، هداية إلى الهادي إلى سبيل الرشاد.(8)

ولعل منصرف الآية: الهداية إلى (سبيل الرشاد ثبوتاً) لا الهداية إلى

ص: 72


1- المائدة: 1.
2- الطلاق: 2.
3- الأنعام: 141.
4- النساء: 59.
5- البقرة: 223.
6- المائدة: 92.
7- وقد ذكرنا في موضع آخر الفرق بين النصح إنشاءً والإخبار ناصحاً.
8- ف(أقم الصلاة) و (أوفوا بالعقود) بأنفسها هداية إلى سبيل الرشاد _ وهو الصلاة والوفاء بالعقد في الآيتين _ وأما الإرشاد إلى ضرورة (تعلم القرآن وأحكامه) مثلاً فإنه إرشاد وهداية إلى الهادي إلى سبيل الرشاد.

(سبيل الرشاد إثباتاً) أي الهداية إلى الهادي لسبيل الرشاد(1) _ فتأمل.(2)

وبذلك ظهر أن الأمر بالصلاة (إرشادي) بمعنى أنه إرشاد إلى سبيل الرشاد، كما أن الأمر ب«أشهدوا شهيدين من رجالكم»(3) لإفادته خصوص الحكم الوضعي _ كما ادعي _ إرشادي، فهو أعم من المعنى المصطلح للإرشادي، إذ يراد به (الهداية) كما ذكره صاحب الجواهر.

آية «فلن تجد له ولياً مرشداً»

وقال تعالى: «ومن يُضلِل فلن تجد له ولياً مرشداً».(4)

و (الولي المرشد) شأنه كلا قسمي الأمر: (المولوي) _ باصطلاحهم _ بقسميه التكليفي والوضعي، وهو ما سميناه بالمولوي بالمعنى الأخص، و (الإرشادي)، وأما باصطلاحنا: فهو أعم إذ يشمل كلا قسمي (المولوي) من تشريعي(5) ونصحي بل والقسم الثالث وهو الإرشادي لا بلحاظ مقام مولويته _ فتأمل.

ولعل (مرشداً) بمنزلة العطف التفسيري للولي، بذكر أحد مقاماته أو مسؤولياته وواجباته.

ص: 73


1- إذ هل المراد من «أهدكم سبيل الرشاد»: أهدكم إلى الصلاة والوفاء بالعقد مثلاً؟ أو أهدكم إلى (الكتاب المنزل) و (الرسول المرسل) الذي يهديكم إلى سبيل الرشاد؟
2- إذ الظاهر الأعم؛ لأنهما بأنفسهما سبيل الرشاد أيضاً.
3- البقرة: 282.
4- الكهف: 17.
5- وهذا بخصوصه هو المولوي باصطلاحهم.

آية «تُعلمن مما عُلِّمتَ رشداً»

وقوله تعالى: «قال له موسى هل أتبعُكَ على أن تُعلمنِ مما عُلِّمتَ رشداً».(1)

و «رشداً» إما مفعول له أو مفعول به أي لأجل الرشد أو علماً ذا رشد، وكما صح وصف (العلم) بالرشد يصح وصف (الأمر) به، وكما أن العلم بالإنشائيات وغيرها (رشد)، كذلك الأمر والنصح والإخبار.

(الإرشادي) في السنة

وقد ورد (الإرشاد) بصيغته وهيئته أو بمادته في روايات كثيرة فمنها:

رواية (إماماً.. يرشدكم السبيل)

قول أمير المؤمنين عليه السلام: (لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟)(2)

و (إرشاد السبيل) قد يكون بصيغة الأمر فيكون (أمراً إرشادياً) بالمعنى الأعم لأن (الأمر المولوي) إرشادي أيضاً بهذا المعنى، وقد يكون بصيغة الإخبار.

ومن البين أن شأن (الإمام) القيام بذلك كله، وأن الواقع الخارجي يشهد بذلك.

ص: 74


1- الكهف: 66.
2- نهج البلاغة: ج2، ص108، خ182.

إرشاد السبيل، بالترجي والتمني والإنذار وغيرها

بل قد يكون (إرشاد السبيل) بسائر الإنشاءات من (الترجي) و (التمني) و (التهديد) و (الإنذار) ك«اعملوا ما شئتم»(1) و «قل تمتعوا»(2) على ما ذكروا، و (التعجيز) ك«فأتوا بسورة من مثله»(3) و (الدعاء) ك(اللهم أهده سواء السبيل) و (الاحتقار) ك«ألقوا ما أنتم ملقون»(4) وغيرها من المعاني الخمسة عشرة التي ذكرت لصيغة الأمر.(5)

وإنا وإن ذهبنا إلى كونها دواعي للاستعمال وليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه _ تبعاً لصاحب الكفاية _ إلا أن الكلام في أن هذه المعاني لو كانت بغير صيغة الأمر _ إنشاءً أو إخباراً _ كقوله في التهديد (لو لم تطعني هلكتَ أو ضربتك) أو قوله (أتمنى كذا) منشِأً بذلك أو مخبراً، فإن كل ذلك إرشاد للسبيل _ في المحق _ فإنه يصدق عليه بالحمل الشايع الصناعي إنه أرشده السبيل بقوله كذا _ أو حتى بإشارته وفعله _.

بل الكلام في هذه المعاني، لو كانت بصيغة الأمر أيضاً؛ إذ لا يشترط في صدق كونها(6) إرشاداً للسبيل كونها(7) جزء الموضوع له أو المستعمل فيه، كما لا يخفى.

ص: 75


1- فصلت: 40.
2- إبراهيم: 30.
3- البقرة: 23.
4- يونس: 80.
5- وقد نقلها السيد الوالد في الوصول إلى كفاية الأصول عن حاشية المعالم للمولى صالح رحمهما الله، بأمثلتها.
6- أي صيغة الأمر.
7- أي هذه المعاني الخمسة عشرة.

رواية (استرشده السبيل)

ومنها قوله عليه السلام: (وأتوكل على الله واسترشده السبيل المؤدية إلى جنته).(1)

و (استرشاد السبيل) أعم كما سبق، بأن يطلب ذلك منه تعالى، بأمر مولوي أو إرشادي أو بإخبار.

رواية (إرشادي وهدايتي له)

ومنها قوله عليه السلام: (فإن كان الذنب إليه، إرشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له).(2)

وقوله عليه السلام: (فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم، "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله").(3)

ولعل قوله عليه السلام: (هدايتي له) عطف بيان ل(إرشادي) فيصلح دليلاً على ما ذكره (صاحب الجواهر) من إرادة المعنى الأعم للإرشادي في بعض الاطلاقات والاستعمالات.

ولعل مقصوده صلوات الله عليه من الاستشهاد بالآية: أن إرشاده عليه السلام وهدايته له، نابعة من حبه لما يصلحه والصالح له، وهكذا ملوم لا ذنب له، أو وجه الاستشهاد أن الله أمر الناس بإطاعته مما يكرهه كثير منهم وكما أن ذلك ليس ذنباً فإن إرشادي له بما يكرهه، ليس ذنباً _ فتأمل.

ص: 76


1- نهج البلاغة: ج2، ص62، خ161.
2- نهج البلاغة: ج3، ص34، ك28.
3- نهج البلاغة: ج3، ص93، ك53.

هل يدل قوله: (أحب إرشادهم) على مولوية أمر الإطاعة؟

وهل قوله عليه السلام (أحب إرشادهم) دليل على أن أمر الإطاعة إرشادي؟(1)

الظاهر العدم، إذ لا حقيقة شرعية ولا اصطلاح خاص للشارع في (الإرشاد)، فلا يحمل كلامه على ما اصطلح عليه الأصوليون من المعنى الأخص للإرشاد، والظاهر أن الإرشاد هنا أريد به معناه الأعم وهو الهداية _ كما ذكره الجواهر _ وهو المعنى اللغوي له.

ثم إن (حب الإرشاد) موجود في الأمر المولوي والإرشادي معاً، بل في الأخبار أيضاً.

إذ لا ريب في أن باعث المولى للأمر بالصلاة والزكاة هو: حب إرشادهم إلى ما فيه خير آخرتهم ودنياهم، ولذا يصح تطبيق كلام الإمام عليه السلام على الأمر بالصلاة أيضاً بأن يقال: (فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم «أقيموا الصلاة») مثلاً.

كما أنه هو الباعث للإخبار ب(ما خاب من استشار) و (الاستشارة عين الهداية)(2) و «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»(3) و (البخل عار والجبن منقصة والفقر يخرسالفطن عن حجته)(4) و (المسلم من سلم

ص: 77


1- بدعوى أن (أطيعوا الله) أمر (إرشادي)، لقوله عليه السلام (أحب إرشادهم) وذَكَر الآية، أي إرشادهم بقوله (أطيعوا الله).
2- نهج البلاغة: ج4، ص48.
3- الأحزاب: 23.
4- نهج البلاغة: ج4، ص3.

المسلمون من يده ولسانه)(1) و «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم»(2) وهكذا.

فإن حب الإرشاد في هذه كلها وغيرها، إن لم يكن السبب القريب، فإنه يقع في سلسلة الأسباب ففي قوله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» أو «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم»، السبب القريب هو المدح والثناء، والإخبار عن المستقبل أيضاً.

والسبب البعيد هو حب إرشاد الناس إلى أن يكونوا مثلهم، وحب معرفة الناس مكانتهم وفضلهم وما أشبه ذلك.

ولعل الأولى التعبير ب(السبب أو الداعي) باعتباره مصباً ومقصوداً أولاً وبالذات، أو باعتباره مقصوداً ثانياً وبالعرض، فهي دواعي وأغراض طولية، وقد يكون بعضها ظهراً وبعضها بطناً، بل قد تكون كلها وغيرها أيضاً أسباباً عرضية، وذلك ما يحتاج إلى التدبر في كل آية آية على ضوء تفسير وتأويل الروايات الشريفة لها.

قوله عليه السلام: (كلامكم نور وأمركم رشد)

ومنها: ما ورد في الزيارة الجامعة عن الإمام الهادي عليه السلام: (كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوى).(3)

لكن قد يقال: إن المراد ب(أمركم): الشأن والفعل.

ص: 78


1- معاني الأخبار للصدوق: ص239.
2- الفتح: 29.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2، ص616.

وفيه: بل الظاهر إرادة الأمر بمعنى الطلب، أي الأمر الإنشائي، بقرينة سبق (كلامكم نور) ولحوق (وصيتكم التقوى).

وقد يقال: إن المراد الأعم منهما، إلا أن يورد بلزوم إجتماع اللحاظين المحال.

وفيه أن المحال هو (على أن يكون كل منهما تمام المراد) لا بعضه، ولا فيما إذا كانا طوليين، بل إن كون كل منهما تمام المراد ليس بمحال كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) و (مباحث الأصول).

بل ونضيف في المقام: أن (الأمر) بمعنى الطلب مصداق للأمر بالمعنى الأول(1) فالصغرى(2) مردودة.

وقد يقال إن الظاهر من (أمركم رشد) أن الأمر نفسه رشد، وليس أن (الأمر) إرشاد.

لكن فيه: أنه يلزمه.

بل قد يقال: إنه دال عليه عرفاً ك(كلامكم نور).

فإن الرشد _ لغة _ (خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية)(3)، قال تعالى «قد تبين الرشد من الغي»(4) وقال «ولقد آتينا إبراهيم رشده».(5)وعلى أي فإن (أمركم رشد) يراد به الأعم من الأمر المولوي

ص: 79


1- وهو الشأن والفعل فإن الأمر بمعنى الطلب شأن من الشؤون وفعل من الأفعال.
2- وهي اجتماع اللحاظين.
3- مفردات الراغب.
4- البقرة: 256.
5- الأنبياء: 51.

والأمر الإرشادي.

النتيجة:

اشارة

وبذلك ظهر أن (الإرشاد) في الآيات والروايات، أعم من الأمر المولوي والإرشادي والإخبار؛ فإنها كلها إرشاد، فيصح إطلاق (الأمر الإرشادي) على كلا الأمرين: الأمر المولوي والأمر الإرشادي المصطلحين.

وبعبارة أخرى: (الإرشاد) أعم من (الأمر) بداعي الوجوب، أو بداعي الندب، أو بداعي الإنذار مثل «قل تمتعوا»(1)، والامتنان ك«كلوا مما رزقكم الله»(2) والإرشاد ك«استشهدوا شهيدين من رجالكم» _ على ما مُثل لها، بها(3) _ وغيرها.

ولا بأس بأن يصطلح (الأمر الإرشادي) على خصوص ما كان بداعي النصح _ سواء قلنا بإنقسامه للواجب والمندوب أم لا، على ما فصلناه في موضع آخر _ وذلك لوجود العلاقة المصححة، بل لا حاجة لها عند وضع الاصطلاح وإن رجحت؛ فإن الحاجة لها خاصة بالاستعمال المجازي، دون (النقل) في عرف خاص أو عام.

ص: 80


1- إبراهيم: 30.
2- المائدة: 88.
3- وقد ناقشنا في بعضها في هذا المجلد.

(الأمر) في الكتاب

هذا كله عن ورود لفظتي (المولوي) و (الإرشادي) في الكتاب والسنة، وتحقيق المراد منهما فيهما.

وأما (الأمر) فإنه لا ريب في أنه استعمل في الكتاب والسنة، في الطلب بداعي الإرشاد تارة، وبداعي الوجوب أو الندب أخرى _ على حسب مسلك الآخوند _ وعلى ما نراه فالأتم القول إنه استعمل في الطلب (بداع النصح والإرشاد) وقد يكون للوجوب أو الندب، تارة و (بداع التشريع) _ وجوباً أو ندباً _ أخرى، وذلك لإنقسام كليهما لهما، كما أوضحناه في فصل آخر وذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي رحمة الله عليهما.

وذلك مثل قوله تعالى: (قل أمر ربي بالقسط)(1) وهو مولوي على مسلكنا من الضابط الأول، وكذا الثالث، بل والرابع، وإرشادي على الضابط الخامس، لكونه من المستقلات العقلية، والسادس والسابع والثامن، وممكن الوجهين على الضابط الثاني.(2)

ونظيره قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»(3) فإنها من المستقلات العقلية بل لعلها وبعض ما سيأتي، من الفطريات.

ص: 81


1- الأعراف: 29.
2- راجع فصل (الضابط والملاك في الأوامر المولوية والإرشادية) لمعرفة الضوابط التسعة المحتملة فيها أو التي قيل بها فيها.
3- النساء: 58.

وقوله تعالى: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم»(1)، فإن حسن الأول وقبح الثاني، كلاهما من المستقلات العقلية.

وقوله تعالى: «فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها».(2)

و (الأخذ بالأحسن) مما يستقل العقل بحسنه، لكن الظاهر أنه مندوب وليس واجباً.

لكن هل هو أمر مولوي أو إرشادي؟ وقد حققنا نظائره في مواضع أخرى، ويظهر الفارق في استحقاق الثواب وعدمه، وفي غيره أيضاً على ما ذكرناه في موضع آخر.

وقوله تعالى: «ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً»(3) وعبادة الإله الواحد من المستقلات العقلية، فالأمر إرشادي بناء على الضابط الخامس، بل على الضابط الرابع للزوم التسلسل من مولويته _ كما قيل وقد ناقشنا نظيره في فقه التعاون _.

وقوله تعالى: «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»(4)، والظاهر أن (بأمرنا) أعم من أمره تعالى إياهم تشريعياً، ومن أمره جل اسمه إياهم نصحاً وإرشاداً.

ص: 82


1- البقرة: 44.
2- الأعراف: 145.
3- التوبة: 31.
4- الأنبياء: 73.

صدق (الأمر) حقيقة على الإرشادي

وعلى أي فإن الشاهد (صدق) (الأمر) و إطلاقه حقيقة على الأمر الإرشادي، بل لا نرى من حالنا فرقاً في صدقه بين كونه إرشادياً أو مولوياً، حسب اختلاف المباني في ملاك المولوية والإرشادية، بل حتى على المبنى الواحد، حسب اختلاف القرائن في دلالتها على كونه مولوياً أو إرشادياً فيما كان ممكناً فيه الوجهان، ثبوتاً كما في غير المستقلات العقلية، وغير ما يلزم منه محاذير كالتسلسل ومنه قوله تعالى: «ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم»(1) فإن أمره يمكن كونه إرشادياً، كما يمكن كونه مولوياً، ثبوتاً، وأما الإثبات فتابع لما يفهم من اللحن والسياق وسائر القرائن.

ص: 83


1- يوسف: 68.

الأمر في السنة

وأما الروايات فمنها:

قول أمير المؤمنين عليه السلام: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر).(1)

وقد يستشهد بكلامه صلوات الله عليه على أن بعض ما توهم كون الأمر فيه إرشادياً، مولوي لأن ظاهر (هذا ما أمر به) إنه أمر مولوي فمتعلقاته كلها مولوية ، فتأمل.

ولعل من مصاديق ذلك قوله عليه السلام: (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض.. أمرك أن تسأله ليعطيك).(2) فهل (اعلم) مولوي أو إرشادي؟ وقد أشرنا إلى ذلك في (فقه التعاون) وإلى أنه واجب نفسي كما ذهب إليه المقدس الأردبيلي أو غيري كما لعله المشهور، وهل (أمرك) مولوي أو إرشادي؟

وأما قوله عليه السلام: (فإنه صلى الله عليه وآله _ أي الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر نصف الشجرة

ص: 84


1- نهج البلاغة: ج3، ص82، ك53.
2- نهج البلاغة: ج3، ص47.

_ فرجع)(1)، ونظيره قوله عليه السلام (ولكن أمرتا _ أي السماء والأرض _ بمنافعكم فأطاعتا)(2)، فالظاهر أن الأمر في الموردين، أمر تكويني، فهو خارج عن محل البحث وإن كان مولوياً.

وقوله عليه السلام: (إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه)(3)، وهو منصرف إلى الأمر المولوي، وإن أمكن شموله للإرشادي _ النصحي _ الوجوبي.

وقوله عليه السلام: (ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه).(4)

(وأمر ربه) أعم من (أمره) التشريعي وأمره النصحي الإرشادي، لصدق (أمر ربه) حقيقة على كليهما، خاصة على مبنى أجنبية الإرشادية والمولوية عن الموضوع له وعن المستعمل فيه _ كما هو مبنى الآخوند الخراساني _ وخاصة على مبنى إنقسام الأمر الإرشادي إلى الوجوب والندب _ كما هو مبنى الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي _.

وقوله: (وأطيعوا أمره _ أي مالك الأشتر _ فيما طابق الحق).(5)

وقد فصلنا في موضع آخر شمول (الأمر) للأمر المولوي _ التشريعي، والمولوي _ النصحي، والإرشادي _ النصحي الوجوبي والندبي أيضاً.

ص: 85


1- نهج البلاغة: ج2، ص159، خ192.
2- نهج البلاغة: ج2، ص25، خ143.
3- نهج البلاغة: ج1، ص225، خ114.
4- نهج البلاغة: ج1، ص202، خ105.
5- نهج البلاغة: ج3، ص63، ك38.

(الحكم) في الكتاب والسنة

وأما

(الحكم) فقد ورد في الكتاب والسنة كثيراً بمادته ومختلف مشتقاته.لكن ما هو المراد به؟ وهل يختلف عن المعنى الاصطلاحي للحكم _ والذي اختلف فيه، على ما سنفصله بعد قليل، إلى عشرة أقوال، فإننا قد نفصله اكثر في المجلد الثاني بإذن الله تعالى، وإن كان موضعه المناسب هو عند بحث إنطباق (الحكم) على (الحكم الإرشادي) فإن إنطباقه عليه بمعناه الوارد في الكتاب والسنة، هو منشأ الأثر، وهو الأهم من بحث إنطباق المعنى الاصطلاحي عليه وإن كان ذا فائدة أيضاً، إلا أنها فائدة فنّية بالأساس.

وبعبارة أخرى: إن إثبات إنطباق (الحكم) بما له من المعنى في الآيات والروايات، على (الحكم الإرشادي)، سيكون من الأدلة على: ضرورة إدراج كافة (الأحكام الإرشادية) في (الفقه) نظراً لكون موضوعه: (فعل المكلف _ كما قالوا، والأعم منه كما ارتأيناه وفصلناه في موضع آخر _ من حيث الحكم الشرعي).

ص: 86

المبحث الثالث: الوجه في إدراج الأحكام الإرشادية في (الفقه)

اشارة

ص: 87

ص: 88

ثم إنه لا ريب في أن (الفقه) مبتنٍ في الجملة، على الأوامر، والنواهي، والدوالّ والجمل والأحكام، التي (عُدّت إرشادية).

إما لأنها _ لدى التحقيق _ مولوية، وقد نشأ الخطأ في عدها إرشادية، من خطأ مبنائي في ضابط المولوي والإرشادي، مثل اعتبار أن الضابط هو (ما أنشأ لمصلحة أخروية فمولوي وما أنشأ لمصلحة دنيوية فإرشادي) أو أن الضابط هو (ما كان في مورد المستقلات العقلية فإرشادي) وغير ذلك، كما سنفصله في مبحث الضوابط، حيث أشرنا إلى أشهرها وهي تسعة، وكما سنبحث عن الكثير من المصاديق في مطاوي الكتاب بإذن الله تعالى.

أو أن الخطأ قد نشأ من تطبيق كبرى الضابط على المصداق _ بعد صحة الضابط كما فيمن ذهب إلى أن الضابط هو (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته) سواء مع قيد (إذا كان في مقام التشريع) أم لا أو من كليهما.

وسنذكر أمثلة عديدة لذلك...

ص: 89

منها: مثال (أوامر التوبة) في الكتاب والسنة، حيث توهم أنها إرشادية، نظراً للزوم التسلسل لو كانت مولوية، وقد فصلنا الكلام عنه وعن ما يرد عليه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وأشرنا ههنا إشارة.

ومنها: كافة الأوامر الشرعية الواردة في موارد المستقلات العقلية.

ومنها: شتى الأوامر الصادرة من المعصومين الأطهار عليهم السلام، في الشؤون الصحية والطبية وغيرها، حيث توهم أنها على إطلاقها قد صدرت من المولى لا بما هو مولى بل بما هو ناصح، وسيأتي تفصيل ذلك كله بحول الله وقوته.

وأما لأنها وإن كان إرشادية، حتى على التحقيق _ وإن كانت دائرتها(1) أضيق بكثير مما ذهب إليه المشهور أو ما لعله المشهور _ إلا أنها معدودة من (الفقه) وقد ذكرها حتى القائل بإرشاديتها في (الفقه)، بل قد ابتني (الفقه) عليها أو كان ينبغي أن تعد منه.

أما الأخير(2) فلما سيأتي مفصلاً من بيان أن الحكم الإرشادي ينقسم كالمولوي _ إلى واجب ومندوب كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي رحمة الله تعالى عليهما، بفارق ترتب العقاب وعدمه، أو فارق الاستحقاق وعدمه، أو لغير ذلك من الوجوه.

وأما الأول(3) فلأن كثيراً من الفروع والمسائل والأحكام الواردة في الكتب الفقهية في شتى الأبواب، هي مما أرشد الشرع إلى لزوم أو حسن

ص: 90


1- أي دائرة الأوامر الإرشادية.
2- وهو ما كان ينبغي أن تعد منه.
3- وهو إنها معدودة من الفقه.

فعله أو تركه، أو إلى وضعه(1) وجعله وثبوته، ولا وجه لالتزام الاستطراد كما سيظهر بعد قليل بإذن الله تعالى.

إلا أن يقال: إنها أدرجت في (الفقه) لأنهم عدوها من (المولوية) إذ المولوي أعم من الواجب والمندوب، ومن الحكم التكليفي والوضعي، لا مع اعتبارها مجرد إرشادية للنصح.لكن يرد عليه: أنهم صرحوا في موارد كثيرة بكون الأمر إرشادياً ومع ذلك أدرجوه في (الفقه)، فمثلاً نجد السيد الحكيم رحمه الله في (المستمسك) يصرح بأن (أمر التوبة) إرشادي ومع ذلك يبحثه.

كما نجد أن الميرزا الشيرازي رحمه الله، يلزم القائل بضابط (المصلحة الدنيوية)(2) بأن أوامر غسل الجمعة وكذلك أوامر الاستياك، ستكون عندئذٍ إرشادية، ومع ذلك لا يخرجها ذلك عن (الفقه) ولا يُلزمه به.

كما أنهم يصرحون بأن (كاتبوهم) و «استشهدوا شهيدين من رجالكم» و «أشهدوا ذوي عدل منكم» و «فاكتبوه» إرشادية، ومع ذلك يبحثون الأول في كتاب (التدبير والمكاتبة)، والثاني في (الدين)، والثالث في (الطلاق)، والرابع كالثاني.

بل لا يجد العرف الملقى إليهم الكلام، فارقاً من حيث بحث مثله في الفقه، بين كونه مولوياً أو إرشادياً.

بل نجد كثيراً منهم يصرحون بأن الأمر في مواطن (المستقلات

ص: 91


1- أي حكمه الوضعي.
2- وهو الضابط الثاني الذي ذهب إليه البعض في التفريق بين الأمر المولوي والإرشادي وسيأتي بإذن الله تعالى.

العقلية) إرشادي، ومع ذلك يبحثون مصاديقها مما تعلق بالفروع، في الفقه، وقد ذكرنا في مطاوي هذا البحث، عشرات المصاديق والأمثلة على ذلك.

إلا أن يقال: إن ذلك من حيث حكم العقل به، ومع الالتزام(1) بأن مخالفة (الحكم العقلي) مما يستحق عليه العقاب وإن كان الأمر الوارد من الشارع فيه إرشادياً، لتعذر أمره المولوي به؛ لما قالوه من لزوم التسلسل أو تحصيل الحاصل أو غير ذلك، وقد فصلنا الجواب عن ذلك في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل) وقد تحدثنا عنه في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) كما أوضحنا في (قاعدة الملازمة)، معنى قاعدة الملازمة على هذا الرأي وما يلزمه من توالٍ فاسدة.

ص: 92


1- إذ بدون الالتزام بالاستحقاق للعقاب، لا يكون وجه لإدراجها في الفقه _ حسب المستشكل _ إذ لو إرتأى إدراجهما في الفقه لِصِرف الوجوب غير المستلزم لاستحقاق العقاب، لزمه قبول ما صرنا إليه من أن الوجوب في الأمر الإرشادي غير المستلزم للاستحقاق، هو المسوّغ لاعتباره من مسائل الفقه، فثبت المطلوب.

الاستدلال بجريان مباحث الإطلاق والتقييد وغيرها في (الإرشادي)

وعلى أي حال فإنهم رغم التزامهم بإرشادية الأوامر في موطن المستقلات العقلية، إلا أنهم _ تراهم _ يبحثون عن: الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص والانصراف وعدمه، في الأوامر والنواهي والدوال عليها، مع أن الملاك على الإرشادية، (الإطلاق والتقييد في المرشد إليه لو كان(1)) لا في (المرشد)، مما يدل على ارتكازية (المولوية) في أنفسهم، وإن صاروا بضغط الدليل أو ما توهم منه، إلى الإرشادية.

إلا أن يقال: إن مباحث (الإطلاق والعموم) وغيرها، لا تختص بالأمر والنهي المولوي بل تشمل الإرشاديين منهما أيضاً، بل إنها لا تختص بالإنشاء، بل تشمل الإخبار أيضاً فلو قال (جاء العلماء) أمكن إسناد مجيء زيد العالم إلى المتكلم تمسكاً بعموم كلامه، ولو قال الطبيب (اشرب هذا الدواء) ولم يحدد وقتاً، أمكن التمسك بإطلاقه الأحوالي مثلاً.

لكن يرد عليه: أن بحث هذه الأوامر والنواهي في (الفقه) ليس لجهة (الإسناد) بل لجهة معرفة (دائرة الإنشاء)، فالمقياس ينبغي أن يكون

ص: 93


1- أي الإطلاق والتقييد.

المرشَد إليه لا المرشِد.

والجواب أن عموم وخصوص (المرشد) كاشف عنه عرفاً.

لكن قد يقال إن (المرشد إليه) دليل لبي لا إطلاق له، فيكون على هذا، التمسك بعموم المرشِد وخصوصه، دليلاً على أن (الأصل) _ في حفظ الوديعة مثلاً _ وإن كان مما استقل به العقل، إلا أن (الحدود) مما لم يستقل بها، فالأمر والنهي فيها يمكن كونه مولوياً، إلا أن يتمسك بأن كون الأمر منحلاً إلى (المولوي) في جزء من متعلقه _ وهو الأصل _ وإلى (الإرشادي) في جزئه الآخر _ وهو الخصوصيات _ خلاف القاعدة والأصل والمتفاهم عرفاً فتأمل.(1)

وقد بحثنا ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) فليلاحظ.

وقد يقال: إن الحال يختلف بين ما لو كان (للمرشَد إليه) _ على فرضه(2)_ (لفظ) وبين عدمه، فإن كان لفظاً كان هو الملاك في العموم والخصوص _ وإلا فلفظ (المرشِد) هو الملاك، وعلى هذا لو وجدنا الفقيه يبحث عن إطلاق وعموم لفظ المرشِد، كشف ذلك عن كونه يرى المرشد إليه لبياً، فتثبت المولوية في الحدود والخصوصيات كما سبق، أو عن كون (ارتكازه) على كون الأمر مولوياً لا إرشادياً، وهو المطلوب، وفي الصورتين يلزم إدراج الأمر في موطن المستقلات العقلية في (الفقه) _ فتأمل.

ص: 94


1- إذ فيه ما ذكرناه في موضع آخر من أن المولوية والإرشادية (دواعي) كما ذهب إليه الآخوند وليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه ليلزم المحذور _ فتأمل.
2- أي على فرض الإرشاد.

الأدلة الستة على إدراج (الإرشادية) في الفقه

والمستظهر لزوم إدراج الأوامر والنواهي الإرشادية(1)، في (الفقه)، سواء ما تعلق منها بالطب والصحة، أم ما تعلق بالمعاش والحياة الشخصية، أم ما تعلق منها بمكارم الأخلاق، أم ما تعلق بالصنائع والحرف، أم ما تعلق بالشؤون الاجتماعية، أم ما تعلق بالشؤون السياسية، أم ما تعلق بالشؤون الاقتصادية، أم غيرها.

وذلك استناداً إلى :

1 (الغاية) من علم الفقه .

2 و (موضوعه) .

3 و (تعريفه).

4 وإلى (الغرض) من تقسيم الأوامر والنواهي إلى مولوية وإرشادية.

5 وإلى (أدلة وجوب التفقه التخييري).

6 و (أدلة حجية رأي الفقيه لغيره).

ص: 95


1- في الجملة، أو مطلقاً، وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

أما (الغرض) من التقسيم فقد فصلناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ، كما فصلنا (الأدلة) بقسميها(1) في موضع آخر أيضاً(2)، فلنبحث الثلاثة الأولى ههنا فنقول:

الاستدلال ب(الغاية) لعلم الفقه

أما (الغاية) من علم الفقه، فلأن غاية علم الفقه هي معرفة (الحكم الشرعي) وأما (معرفة مدى مطابقة فعل المكلف لأحكام الشارع ومراداته)، و (امتثال أمر الشارع) فهو غاية الغاية.

قال المحقق النائيني رحمه الله : (الفقه إنما يبحث عن الأحكام المجعولة للموضوعات المعينة كالصلاة والصوم وغيرها)(3) عكس الأصول كمبحث وجوب المقدمة.

وقال الشيخ الحائري رحمه الله : (مسائل الفقه هي عبارة عن الأحكام الواقعية الأولية التي تطلب من حيث نفسها).(4)

وقال البعض: (كل حكم يقدر المقلد على العمل به بعدما أفتى به المجتهد، بخلاف مسائل الأصول).

و (الحكم الشرعي) و (الأحكام المجعولة) و (الأحكام الواقعية الأولية) (وما يقدر المقلد على العمل به) مما ينطبق على مؤدى الأمر والنهي

ص: 96


1- أي ما دل على وجوب التفقه تخييراً وما دل على حجية رأي الفقيه لغيره.
2- في مبحث وجوب التفقه وجريان التقليد في الأحكام الإرشادية والوجوب التخييري للاجتهاد فيها.
3- أجود التقريرات: ج1، ص213.
4- درر الفوائد: ص32.

الإرشاديين، كانطباقه على المولويين، على جملة من تعاريفه.

بل لا شبهة في صدق (الحكم الشرعي) و (الحكم الواقعي الأولي) على مثل: وجوب العدل ووجوب رد الوديعة وحفظ الأمانة، رغم كونها من المستقلات العقلية والذهاب إلى كون الأوامر في مواطنها إرشادية.

الأقوال والمعاني العشرة ل(الحكم)

بيان ذلك:إن (الحكم) عرف بتعاريف مختلفة:

منها: (مطلق خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

ومنها: ذلك مع قيد (من حيث الإقتضاء والتخيير).

ومنها: (الاعتبار الشرعي المسبوق بالملاك والإرادة).

ومنها: (المحمولات الشرعية).

ومنها: (مطلق الإلزام) بمعناه العرفي الكاشف عن المعنى اللغوي.

ومنها: (طلب الفعل أو الترك، مع الإلزام أو بدونه) أي مع المنع من الترك أو لا.

ومنها: (خصوص الأحكام التكليفية الخمسة).

ومنها: مع إضافة (الأحكام الوضعية).

ومنها: (التصديق).

ومنها: (النسبة الحكمية) أو (النسبة التامّة الخبرية).

ص: 97

انطباق أكثر معاني (الحكم) على (الحكم الإرشادي)

والظاهر انطباق التعريف الأول للحكم على (الأمر والنهي الإرشاديين) لأنهما (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) حيث لم يقيد بما استحق العقاب على مخالفته _ وهو المولوي _ وما لم يستحق _ وهو الإرشادي _ حسب الضابط التاسع للإرشادية والمولوية.

انطباق التعريف الأول للحكم

التمثيل بعشرات الآيات والروايات التي ينطبق عليها التعريف:

ألا ترى أن قوله تعالى«توبوا إلى الله»(1) إرشادي _ حسب الضابط الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن(2) للمولوي والإرشادي _ وعلى ما ذهب إليه جمع من الأعلام(3) وهو مع ذلك (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) وهي _ أي التوبة _ واجبة دون شك(4) ومحل بحث وجوبها (الفقه).

وكذلك كافة الأوامر والنواهي ومطلق الإنشاءات المتعلقة بالمستقلات العقلية ك(اعدلوا)، (لا تظلم) و «لا تظلمون ولا تظلمون»(5) و «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»(6) و «ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين

ص: 98


1- النور: 31.
2- بل وحسب الضابط الأول بدعوى أن المولى لا يمكنه إعمال مقام مولويته في مثله.
3- منهم السيد الحكيم رحمه الله في المستمسك، كما فصلنا استدلاله وما يمكن أن يجاب به عنه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي (مباحث الأصول).
4- عقلاً أو عقلاً وشرعاً كما نراه.
5- بناء على إنه إنشاء بصيغة إخبار.
6- النساء: 58.

له الدين»(1) و «لا تقتلوا أنفسكم»(2) و «إلا أنتتقوا منهم تقاة»(3)، وغيرها من عشرات الآيات والروايات الأخرى التي سنبحثها في هذا الكتاب بإذن الله تعالى، والتي ادعي كونها إرشادية نظراً لكونها في مواطن المستقلات العقلية، ومع ذلك لم يخرجها ذلك عن كونها مسائل فقهية، وعن انطباق تعريف (الحكم الشرعي) الأول _ وغيره _ عليها، وهو (خطاب الله المتعلق بأفعال الملكفين).

ص: 99


1- الأعراف: 29.
2- النساء: 33.
3- آل عمران: 28.

وكذلك مثل «استشهدوا شهيدين من رجالكم»(1) _ أي على الدين _ و «أشهدوا ذوي عدل منكم»(2) _ أي على الطلاق _ و «كاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً»(3) و «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»(4).

مما ذهب المشهور إلى كونها أوامر إرشادية، نظراً لدعوى أن الأمر بها لم يكن إلا بلحاظ ما فيها من المصلحة لا غير، أو لغير ذلك _ وسيأتي تفصيل البحث فيما بعد بإذن الله تعالى.

فإنه لا شك في أنها أحكام شرعية بمعنى (خطاب الله المتعلق بأحكام المكلفين) وبحسب سائر المعاني كما سيأتي، وغالبها أو كلها مستحبة شرعاً ويترتب عليها الثواب أيضاً كما سيجيء.

وكذلك مثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله (احتجموا إذا هاج بكم الدم)(5) و (سافروا تصحوا وتغنموا)(6) وقوله صلى الله عليه وآله: (علموا أولادكم السباحة والرماية)(7) وقوله صلى الله عليه وآله: (تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء)(8) مما سنفصل الحديث عنه في عنوان (ما يتعلق بالطب والصحة) مما ادعي أنها إرشادية، وكلها (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

كما تنطبق عليها جملة من التعاريف الأخرى ل(الحكم الشرعي) كما سيأتي بيانه، وهي بين مستحب على الأغلب، وواجب ولو في بعض الصور كما سيأتي.

وكذلك مثل قول الإمام الصادق عليه السلام (لا تدعوا التجارة)(9) ومثل (أمره أن يحرث بيده)(10) مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بالتجارة)، مما ادعي كونها إرشادية نظراً لكون المصلحة الملاحظة فيها هي مصلحة دنيوية، لكن تعريف (الحكم الشرعي) ينطبق عليه.ومثل (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير)(11) و (سلوا الله الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة)(12) مما سنفصل الحديث عنه تحت عنوان (ما يتعلق بالمعاش والحياة الشخصية) مما ادعي كونها إرشادية نظراً لكونها (نصحاً) من المولى لا بما هو مولى،

ص: 100


1- البقرة: 282.
2- الطلاق: 2.
3- النور: 33.
4- البقرة: 282.
5- بحار الأنوار: ج59، ص120، ح42.
6- المصدر: ص267، ح46.
7- وسائل الشيعة: ج17، ص331، ح13.
8- بحار الأنوار: ج59، ص68، ح20.
9- الكافي: ج5، ص149، ح8.
10- وسائل الشيعة: ج6، ص382، ح16.
11- الكافي: ج5، ص158، ح5.
12- وسائل الشيعة: ج17، ص33، ح2.

وهي مع ذلك (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

ومثل قول الأمير عليه السلام: (حصنوا الأعراض بالأموال)، وقوله عليه السلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة)(1)، والرسول صلى الله عليه وآله: (إياكم وفضول المطعم... وإياكم وفضول النظر)(2) مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بمكارم الأخلاق).

ومثل قوله تعالى: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا»(3) وقول الأمير عليه السلام: (وجوّد المضغ)(4) وقول الإمام الرضا عليه السلام: (عليكم بالعسل والحبة السوداء)(5) وغير ذلك مما سنفصله تحت عنوان (ما يتعلق بالأكل وخصوصيات الأطعمة) وكلها أحكام شرعية بمعنى: (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

وكذلك قوله تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل»(6) وقوله «لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً»(7) و «لا تنقصوا المكيال والميزان»(8) و «أوفوا بالعقود»(9) وغيرها، مما فصلناه تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الاقتصادية).

ص: 101


1- من لا يحضره الفقيه: ج2، ص4، ح1576.
2- بحار الأنوار: ج69، ص199، ح29.
3- الأعراف: 31.
4- وسائل الشيعة: ج24، ص245، ح8.
5- بحار الأنوار: ج63، ص293، ح16.
6- البقرة: 188.
7- النساء: 5.
8- هود: 84.
9- المائدة: 1.

وكل هذه وما سبقها وما يلحقها، بحوث فقهية ومسائل شرعية، وإن كان اللازم عدها إرشادية لكونها من المستقلات العقلية(1) أو لكون المصلحة فيها دنيوية(2) أو لأن المصلحة معلومة في هذه الموارد للمأمور قبل الأمر(3) أو لأنها تعود للمأمور.(4)وكذلك قوله تعالى: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار»(5) وقوله تعالى: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»(6) وقوله جل اسمه «وشاورهم في الأمر»(7) وغيرها، مما سنبحثه تفصيلاً تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون السياسية والاجتماعية)؛ فإنها كلها ينطبق عليها تعريف الحكم ب(خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

وقوله تعالى: «وعاشروهن بالمعروف»(8) أو «فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف»(9) و «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله»(10) و «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن»(11) وغيرها، مما فصلناه تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الاجتماعية) فإنها مسائل فقهية، رغم انطباق بعض ضوابط (الإرشادية) عليها.

ص: 102


1- على حسب من يذهب للضابط الخامس.
2- على حسب من يذهب للضابط الثاني.
3- حسب الضابط السادس.
4- حسب الضابط الثامن.
5- هود: 113.
6- الشورى: 39.
7- آل عمران: 159.
8- النساء: 18.
9- البقرة: 231.
10- النساء: 135.
11- الحجرات: 12.

وكذا مثل صحيحة علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام: (الغسل واجب يوم الجمعة)(1) وغيرها، مما نقض به الميرزا الشيرازي على من ذهب للضابط الثاني، بلزوم كونها إرشادية لكون مصالحها دنيوية، لكنه لم يخرجه ذلك عن كونه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

وكذلك مثل قول الأمير عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي: بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم)(2) وقول الله تعالى من قبله «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص»(3) وقوله تعالى: «فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن»(4) وغيرها، مما سنفصله تحت عنوان (الأوامر والنواهي في الشؤون الإدارية وشؤون النظم والسعادة) فإنها جميعاً خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، رغم كونها حسب جملة من الضوابط، إرشادية كما سيأتي.

انطباق التعريف الثاني للحكم

وأما التعريف الثاني ل(الحكم) فإنه كذلك منطبق على مؤديات الأوامر والنواهي الإرشادية: فإن الإرشادي فيه الاقتضاء _ كالمولوي _ سواء أريد بالاقتضاء الأعم من الأربعة فيراد بالتخيير خصوص الإباحة، أم أريد به خصوص الحكمين فيراد بقسيمه الثلاثة الباقية(5) وقد أوضحنا في

ص: 103


1- الكافي: ج3، ص417، ح4.
2- نهج البلاغة: ج3، ص56.
3- البقرة: 178.
4- النساء: 34.
5- القسيم هو (التخيير) والثلاثة هي الكراهة والندب والإباحة.

موضع آخر انقسام الإرشادي إلى الإلزامي وغيره.

وإرادة (اقتضاء الوجوب بالمعنى الأخص) أي ما ترتب على مخالفته العقاب، خلاف إطلاقه(1) وخلاف (الغاية) و (الملاك) كما سيأتي، وكذلك إرادة (اقتضاء الندب بالمعنى الأخص) وكذا نظائره الباقية.

انطباق التعريف الثالث للحكم

وأما على التعريف الثالث: فإن الأمر والنهي المولوي (موجِدان) _ على المشهور _ و (مبرِزان) حسب البعض ل (الاعتبار الشرعي المسبوق بالملاك والإرادة)؛ إذ الوجوب والندب والحرمة والكراهة وكذا الإباحة كلها، اعتبارات شرعية مسبوقة بالملاك والإرادة، وكذلك الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وغيرها فإنها اعتبارات شرعية مسبوقة بها.

وكذا الأمر والنهي الإرشاديان؛ فإن (الوجوب والحرمة) فيهما _ بناء على رأي الشيخ والميرزا، وهو القول الثالث في حقيقة الأوامر الإرشادية كما سيأتي من انقسام الأمر الإرشادي أيضاً إلى واجب ومندوب _ أيضاً: (اعتبار شرعي مسبوق بالملاك والإرادة) لتقومهما بالطلب والوجوب أو بالطلب والندب، وإن كان بدون استحقاق للعقاب، فهذا الوجوب أو الندب الإرشادي (اعتبار شرعي) وهو (مسبوق بالملاك)(2) دون شك وكذا (الإرادة)، وقد (أوجد) هذا الاعتبار أو (أبرز) بالأمر والنهي الإرشادي.

ص: 104


1- فإن الواجب هو ما لزم فعله مع المنع عن الترك وهو مؤدى الأمر بالفعل مع المنع من تركه، وهذا كما ترى شامل للأمر المولوي والأمر الإرشادي الإلزامي كما أن اقتضاء الندب موجود فيهما.
2- وهو ما فيه من المصلحة الدنيوية أو الأخروية إذ (الإرشاد) أعم منهما.

وكذا بناء على القول (الرابع): بأن الأوامر الإرشادية: (إرشادية _ طلبية غير إلزامية فهي قسيم للندب)، فكما أن (الندب) اعتبار شرعي، كذلك (قسيمه)؛ وفرقهما أن المولى (يعمل مقامه) ويلاحظ (ذاته) في الأمر أو لا، أو غير ذلك، كما سيأتي؛ فإن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والأمر أوضح على القول الخامس(1)، لصدور الإيجاب من المولى بما هو مولى وإن كان للنصح(2)، كما فصلناه في موضع آخر.

بل حتى لو لم نقل بالوجوب والندب في الإرشادي، وصرنا إلى القول الثاني وأنه صرف طلب بدون إيجاب أو ندب _ كما ذهب إليه البعض _ فإنه هذا (الطلب) النصحي قد أنشأهالشارع وأوجده في عالم الاعتبار أو أبرزه _ بهذا الأمر الإرشادي _ مسبوقاً بالملاك والإرادة فهو (اعتبار شرعي) مسبوق بهما.

أو صرنا إلى القول الأول بأنه(3) ليس طلباً أصلاً، بدعوى أن الإرشاد قسيم الطلب، فهنا إرشاد ولا طلب، فإن (النصح) (اعتبار شرعي)(4) وإن لم يكن طلباً، لعدم انحصار الاعتبارات الشرعية في الطلب، إلا أن يقيد (الاعتبار الشرعي) في التعريف ب(الطلبي)، ولم يقيد، كما لا ضرورة ولا حاجة له، كما أنه مسبوق بالملاك والإرادة، وقد (أوجد) أو (أبرز) بالأمر الإرشادي.

ص: 105


1- وهو ما صرنا إليه من أن الأمر الإرشادي قد يكون مولوياً _ إرشادياً للإيجاب تارة وللندب أخرى، وأوضحنا عدم التضاد بين العنوانين _ أي المولوية والإرشادية _.
2- أي لا لذاته وبلحاظ عقابه.
3- أي الأمر الإرشادي.
4- لصدوره من الشارع، ولذا ينسب إليه، كالأمر.

انطباق التعريف الرابع للحكم

وأما التعريف الرابع ل(الحكم): فإنه على القول الخامس: فإن (المحمول الشرعي) هو (الوجوب المولوي بالمعنى الأعم)(1) كما كان في (الأمر المولوي بالمعنى الأخص): الوجوب المولوي _ تكليفاً أو (الملكية) مثلاً، وضعاً.

وأما القول الرابع: فإن (المحمول) هو (المطلوب غير الإلزامي).(2)

وعلى القول الثالث: (المحمول) هو (الوجوب الإرشادي) أو الندب كذلك.(3)

وعلى القول الثاني: (المحمول) هو (المطلوب) لكن لا في ضمن الوجوب ولا الندب(4) _ كما هو مفروض هذا القول _.

وعلى القول الأول: المحمول هو (المرشَد إليه).(5)

إن قلت: إنه ينقض بكل إخبارات الشارع لصدق (هذا مخبَر عنه) فلزم كونها أحكاماً.

والجواب: إن هذا إشكال مبنائي على هذا التعريف، ويرتفع بإضافة قيد (الإنشائية) ومعه لا يتم النقض؛ إذ الإرشاد إنشاء دون الإخبار.

ص: 106


1- فتقول: هذا واجب مولوياً، لكن بدون استحقاق العقاب.
2- فتقول: هذا مطلوب للشارع طلباً غير إلزامي.
3- فتقول: هذا واجب إرشادياً، أي واجب بالوجوب الشرعي الإرشادي.
4- فتقول: هذا مطلوب للشارع، لكن دون أن يوجبه ولا أن يندب إليه.
5- فتقول: هذا مرشَد إليه شرعاً، فكما أن (واجب) في قولك (هذا واجب شرعاً) من المحمولات الشرعية، كذلك (مرشد إليه شرعاً) في قولك (هذا مرشد إليه شرعاً) من المحمولات الشرعية.

انطباق التعريف الخامس

وأما التعريف الخامس(1)، فبعد وضوح أن المبحوث في الفقه ليس الوجوب فقط، بل الأحكام الخمسة، بل والأحكام الوضعية أيضاً، فهو أخص على أي حال فلا يضر عدم انطباقه على الأوامر الإرشادية، إنه على جملة من الأقوال(2) فإن الإلزام في (الإرشادي) متحقق.(3)

الحال في التعاريف السادسة إلى التاسعة

وبما سبق ظهر تمامية المطلب(4)، على التعريف السادس أيضاً، إلا على القول الأول من الأقوال الستة في حقيقة الأمر الإرشادي، ولعله كذلك على القول الثاني.

نعم على التعريف السابع والثامن للحكم، فإن موارد (الأمر الإرشادي) تكون أجنبية عن (الفقه)، فالنقاش مبنائي، إذ لا دليل ولا وجه لإنحصار المباحث الفقهية بالسابع كما هو واضح(5) وبالثامن كذلك، وسيأتي توضيحه بإذن الله تعالى(6)، إضافة إلى أنهما لا يعدان

ص: 107


1- وهو مطلق الإلزام بمعناه العرفي.
2- وهو القول الثالث الذي ذهب إليه الشيخ، والقول الخامس الذي ذهبنا إليه.
3- ويظهر ذلك بوضوح في بعض أوامر الطبيب _ كأوامره المشددة في علاج بعض الأمراض الخطيرة التي يؤدي تركه إلى الضرر الفادح _ حيث يراه العرف أمراً إلزامياً _ وفي الشرع: يرى العرف _ والعقل أيضاً كما فصلناه في محله _ أن (أطيعوا الله) إلزامي، وكذا (توبوا) فإنه وإن كان إرشادياً إلا أنه إرشاد إلزامي.
4- أي انطباق تعريف (الحكم الشرعي) على موارد الأمر الإرشادي.
5- لكونه أخص من الفقه إذ أن (الأحكام الوضعية) تملأ الفقه كما لا يخفى
6- عند الحديث عن (موضوع علم الفقه).

تعريفاً للحكم بل هما تفسير بالمصداق لا أكثر.

وأما التعريفان التاسع والعاشر فهما أجنبيان عن (الحكم) المبحوث عنه في (الفقه) كما لا يخفى(1) على أنهما جاريان _ على فرض عدم الأجنبية _ في الإرشادي، كالمولوي(2)_ فتأمل.

ولا يخفى أن خلاصة هذا الجواب صدق (الحكم الشرعي) على (الحكم الإرشادي).

ويمكن الاستدلال أيضاً في (ما استقل به العقل) بصدق (الحكم الشرعي) على الحكم العقلي؛ لأن العقل شرع من باطن، وهو إحدى الحجتين _ فتأمل.(3)

ص: 108


1- وإن تضمنهما أو استلزمهما، فإن (الحكم) الفقهي يستلزم التصديق ويتضمن النسبة الحكمية.
2- إذ في كليهما (تصديق) و (نسبة حكمية).
3- إذ الكلام في المأمور به بالأمر الإرشادي بما هو كذلك حتى لو لم يكن من المستقلات العقلية، لا بما هو مما قد حكم به العقل فإنه أخص، إضافة إلى أجنبيته عن جهة البحث فتأمل.

الاستدلال ب(موضوع علم الفقه):

اشارة

وأما موضوع علم الفقه فهو (فعل المكلف(1) من حيث الحكم الشرعي(2)) كما أن موضوع علم النحو هو (الكلمة من حيث الإعراب والبناء) مثلاً، أو هو (فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير) كما ذهب إليه الأصفهاني رحمه الله.(3)

وقد ظهر لك صدق (الحكم الشرعي) على مفاد ا لأمر والنهي الإرشاديين بناء على التعاريف الستة الأولى للحكم.

نعم يبقى التعريف السابع والثامن وبعد بطلان السابع(4) كما فصلناه في الأصول _ مباحث القطع _ الجزء الأول، يبقى الثامن وهو دعوى أن

ص: 109


1- وقيل موضوعه هو (فعل المكلف) بل قال المحقق القزويني: (اتفقت كلمتهم على التصريح بأن موضوع الفقه هو فعل المكلف) " تعليقة على معالم الأصول: ج1، ص227" والأمر على هذا أوضح إذ كل الأوامر والنواهي الإرشادية موضوعها _ كالمولوية _ فعل المكلف _ إلا أن التعريف غير تام بنظرنا لذا أعرضنا عنه صفحاً.
2- يخرج بهذه الحيثية (فعل المكلف من حيث الجبر والاختيار) فإنه مبحث كلامي، وكذا (فعل المكلف _ كالمعصوم مثلاً _ من حيث الحجية وعدمها) فإنه مبحث أصولي، أو (فعل المكلف من حيث تأثره و انفعاله عن أفعال من سبقه أو تأثيره فيما يلحق) فإنه مبحث تاريخي.
3- في نهاية الدراية: ج1، ص25، في التعليقة الأولى.
4- وهو كون (الحكم الشرعي) خصوص التكليفية الخمسة بإخراج الوضعية.

الحكم الشرعي هو (الأحكام التكليفية الخمسة والأحكام الوضعية).

فموضوع علم الفقه على هذا (فعل المكلف من حيث الحكم التكليفي والوضعي فقط).

لكنه يرد عليه بعد أن التخصيص بهما دعوى بلا دليل:

أولاً: الغرض أعم

فإن موضوع كل علم يتحدد ب(الغرض من ذلك العلم) ف(الغرض) هو المايز بين العلوم، وما ذهب إليه المشهور من (إن تمايز العلوم إنما هو بتمايز الموضوعات ولو بالحيثيات)(1) فإنه وإن صح، إلا أنه يعود إلى تمايز الأغراض، فإنها هي علة تضييق الموضوع وتوسعته ذاتاً أو جهة، وهي المدخِل لجملة مسائل في علمٍ، والمخرِج لجملة أخرى، منه.

وقد أوضحنا قبل قليل أن الغرض من الفقه هو (معرفة الحكم الشرعي)، و (الحكم الشرعي) أعم من ما كان بأمر مولوي أو إرشادي ومما كان تكليفاً أو وضعاً أو إرشاداً _ على التعاريف الستة الأولى للحكم بل وعلى التعريف التاسع والعاشر.وبتعبير آخر الغرض من (الفقه) هو (مطابقة أفعال المكلفين لمرادات الشارع وأحكامه)(2) وهو حاصل في الإرشادي كالمولوي تماماً.

ص: 110


1- راجع نهاية الدراية للأصفهاني: ج1، ص29.
2- ولدى الدقة فإن هذا (غرض الغرض) والغرض هو (المعرفة) و (العلم) ولذا عرف الفقه ب(العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية) وغرض هذا العلم هو (المطابقة) و (الامتثال).

وبعبارة أخرى: الغرض هو (امتثال أوامر الشارع)(1) وذلك حاصل في كليهما.

أرأيت أن العبد لو (عدل) و (أدى الأمانة) فإنه قد طابق فعله مراد الشارع وحكمه بالعدل وأداء الأمانة، ويصدق عليه حقيقة أنه قد امتثل أمره، رغم أنها من المستقلات العقلية، ولعل المشهور أن الأمر في مواطنها إرشادي، وقد فصلنا ذلك في مواضع أخرى من الكتاب فليلاحظ.

ثانياً: الموضوع أعم من الفعل

ثانياً: موضوع الفقه أعم من (فعل المكلف من حيث الحكم الشرعي) فإن موضوعه أعم من: (فعل) المكلف ومن (ذاته) و (صفاته) و (ما يرتبط به) وكذلك يشمل موضوعه: (غيره).(2)

أما (ذاته) فلأن (المكلف بذاته) موضوع للأحكام التالية:

كالطهارة والنجاسة والبلوغ والحرية والمالكية والزوجية والعدالة والفسق والكفر والولاية والسلطنة، وغيرها من الأحكام الوضعية، فإن البحث عنها بحث عن مسائل فقهية، وليس موضوعها فعل المكلف، كما أنها ليست أفعالاً للمكلف، بل هي صفات له فهي ليست عوارض ذاتية لفعل المكلف بل (لذاته) فموضوع الفقه إذن أعم من (ذات)

ص: 111


1- ولدى الدقة فإن هذا (غرض الغرض) والغرض هو (المعرفة) و (العلم) ولذا عرف الفقه ب(العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية) وغرض هذا العلم هو (المطابقة) و (الامتثال).
2- أي غير المكلف.

المكلف ومن (فعله).

وكذلك الكثير من مباحث الإرث.(1)

وكذلك (الحقوق) فإن موضوعها ذات المكلف، وذلك ك(حقه) في حيازة المباحات، أو السفر والحضر والإقامة، والبناء والاستيراد والتصدير وغيرها، دون مانع من الحكومة أو ضريبة منها عليه.

وأما (صفاته) فكمانعية كونه محدثاً بالحدث الأكبر والأصغر عن انعقاد الصلاة مثلاً(2) وكذلك شرطية كونها في غير طهر المواقعة مثلاً لصحة الطلاق.

وكشرطية الطهارة ومستورية العورة(3) لصحة الصلاة فموضوع (الفقه) إذن _ بعضه _: (صفة المكلف) من حيث الحكم الشرعي.وأما (ما يرتبط به) فكمانعية (الحيض)، للصلاة وإن أمكن إرجاعه لما سبق(4)، أو العكس، والملاك لسان الدليل.

وأما (غيره): فذلك في ما كان من العوارض الذاتية للأعيان الخارجية وشبهها: كطهارة الماء والنبات وأقسام من الحيوان، ونجاسة الكلب والخنزير والبول وغيرها.

ص: 112


1- ك: (الزوجة) ترث الثمن أو الربع و (الزوج) يرث كذا و (الأب) كذا ، وكذلك (الكافر) لا يرث.
2- فكونه محدثاً (صفة) و حكمها الشرعي الوضعي هو (المانعية)، وكونها في غير طهر المواقعة (صفة) وحكمها (صحة طلاقها) وهكذا.
3- أي كونه طاهراً مستوراً العورة، وإلا كان من القسم اللاحق.
4- بأن يعد المانع هو (كونها حائضاً) لا نفس الحيض _ الذي هو مما يرتبط بها وليس صفة لها بناء على أنه نفس خروج الدم لا الحالة الحاصلة _.

وكذا مثل سببية دلوك الشمس لوجوب الصلاة؛ فإن (دلوك الشمس) هو موضوع المسألة، وهو ليس فعل المكلف وما يرتبط به، (وسببيته) لوجوب الصلاة حكم شرعي وضعي لأنه مجعول للشارع، وقد فصلنا الجواب عن شبهة المحقق الخراساني رحمه الله في كونها غير مجعولة، في مباحث الأصول _ القطع.

وشرائط المبيع: ك(ما لا مالية له، لا يصح بيعه)، وكذا لورود (المعيب فيه الخيار) فرضاً فإن موضوع الحكم الشرعي _ وهو الخيار _ أمر آخر غير: المكلف أو فعله أو صفاته. ولا حاجة إلى إعادته للفعل بأن يقال: إن مآله إلى أنه إذا باعه معيباً كان له الخيار أو (المشتري للمعيب) له الخيار؛ فإنه وإن صح ذلك إلا أنه لا داعي له بعد كون مصب الروايات (المعيب) مثلاً _ فتأمل.

وبعبارة أخرى: إن موضوعات مسائل الفقه (وهي التي ينطبق عليها موضوعه) قد تكون من (مقولة الجوهر).(1)

وقد تكون من (مقولة الكيف) كما في ما مضى من (صفاته) أو المسموع منه كالجهر في الصلاة والاخفات فيها.

وقد تكون من (مقولة الوضع) _ كالقيام والركوع والسجود _ على رأي.

وقد تكون من (مقولة الفعل) كضرب اليتيم والنظر للأجنبية والأكل للمحرم، والعدل والإحسان وما أشبه، فتخصيصه بالأخير، غير تام.

ص: 113


1- وهو ما أشرنا إليه في القسمين الأول والأخير _ في بعض الأمثلة _.

ثالثاً: الأعمية من المكلف

وذلك لشموله لفعل (غير المكلف) _ ممن فيه اقتضاؤه _ ككل ما يتعلق بأعيان المجانين والصبيان من الأحكام الوضعية.(1)

فلو (كسر) زجاج الغير (ضمن)، فالموضوع هو (فعل غير المكلف) من حيث الحكم الشرعي، وهو الضمان، وإن كان الحكم التكليفي بدفع العوض، على وليه، ويصلح هذا الجواب شاهداً على ما ذكرناه من أن قيد (استحقاق العقاب) مما لا يشترط في درج المسألة في الفقه، فكل (واجب إرشادي) _ وإن لم يترتب على مخالفته استحقاق العقاب _ مسألة فقهية، بل تصلح مطلق الأحكام الوضعية شاهداً على ذلك.

رابعاً: وهو أعم من (الحكم) لشموله (الموضوع)

فإن حيثيته(2) أعم من (الحكم) إذ يشمل الموضوع أيضاً.إذ لا ريب أن العلم بموضوعات الأحكام الشرعية(3) كالوضوء والصلاة والحج وغيرها، بتعاريفها وبأجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها، من شأن الفقيه، ومما يبحث في الفقه دون ريب، وإنها مسائل فقهية، بل وكذا مثل تحديد الماء الكر والجاري وغيرهما،

ص: 114


1- لا يخفى أن هذا الإشكال وسابقه، مبنائي، لكنه لا يرتبط بجهة البحث في المقام وإنما ذكر إضافة لفائدته المبنائية، لإفادة أن هذا التعريف للموضوع لا يصلح ملاكاً وضابطاً، فلا يضر عدم انطباقه على المقام _ وهو الأوامر والأحكام الإرشادية _.
2- أي الحيثية في موضوع علم الفقه (فعل المكلف من حيث الحكم الشرعي).
3- فلابد من شمول التعريف ل (فعل المكلف _ كالصلاة مثلاً _ من حيث الموضوع أي من حيث تحقيق ماهيته وأجزائه وشرائطه).

ومثل تحديد الأخت الرضاعية أو الرضعة المحرمة، ومثل تحديد (منكر الضروري) وأشباههما كثير، ولا وجه لإلتزام الاستطراد فيها(1)، ولو بدعوى أنها من المبادئ التصورية أو التصديقية، خاصة مع لحاظ شمول «ليتفقهوا في الدين» وأمثاله حقيقة لذلك، فإنه لا يصح القول: بأن البحث عن (الصلاة) وحدودها والتفقه فيها، يعد مقدمة للتفقه في الدين بل الحق أنه: هو هو، إلا أن يجاب أن البحث في (الصلاة) مثلاً هو بحث عن فعل المكلف _ لأنها فعله _ من حيث الحكم الشرعي _ أي الجزئية والشرطية وشبهها _ وهي كلها أحكام وضعية، ومآل البحث عن أن القنوت جزء أم لا مثلاً إلى أن الشرع هل حكم بجزئيته وجعلها _ ولو بتوجيه الأمر للمركب _ جزءاً أو لا؟ بل فقل: البحث عن (الركوع) مثلاً من حيث وجوبه _ فتأمل.(2)

خامساً: ولشموله (الحقوق)

كما أن (الحيثية) أعم من (الحكم) أيضاً، إذ تشمل (الحقوق) سواء ما تعلق منها (بالأعيان) ك: حق (التحجير) وحق (الغرماء) في (ما تركه الميت) وحق (الرهانة) وحق (الطبع) _ على القول به _.

أم ما تعلق منها ب(الأشخاص) ك: حق (القصاص) وحق (الحضانة) وحق (الأبوة) وحق (الاستمتاع) بالمعقود عليها.

ص: 115


1- وقد فصلنا في مباحث الأصول كتاب قاعدة الملازمة وكتاب القطع، ذلك فليراجع.
2- إذ لا يجري هذا الجواب في تحديد أمثال ما هو الركوع وحدّه _ فتأمل ولا في التعاريف، ولا في تحديد ماء الكر والأخت الرضاعية والكافر والعادل والفاسق وغير ذلك.

أم ما تعلق منها ب(الأعراض) أو تعلق ب(الاعتبار)؛ فإن ما تعلق ب(التركة) مثلاً ينقسم على حسبها بين ما تعلق بعين أو عرض أو حق، كحق الخيار وحق الشفعة، وقد يمثل بحق (الخيار) المتعلق بالعقد؛ فإنه متعلق ب:

أ (اعتبار) إذا كان العقد هو الاعتبار، إن فسرنا العقد بمعنى (المعقود).

ب _ أو (بفعل) إذا أريد به سببه إن فسرنا العقد ب(إنشاءين متلازمين، ابتدائي ومطاوعي) مثلاً.

ج _ أو بعرض إذا أريد به الكيفية الحاصلة _ فتأمل.

اللهم إلا أن يقال: إن (الحقوق) (أحكام وضعية).

النتيجة:

اشارة

إذا عرفت ذلك، وأن (موضوع الفقه المنطبق على موضوعات مسائله) أعم من (فعل) المكلف و من (ذاته) و (صفاته) ومن (الموضوعات الخارجية)، وأنه أعم من فعل (غير المكلف) أيضاً، بل هو أعم من (الفعل) و (الترك) كالتروك في أبواب الصوم والحج وغيرها، وإن (محموله) أعم من (الحكم) ومن (الحق) بل ومن (الموضوع)(1) أيضاً.

ص: 116


1- فإن (الصلاة) فعل المكلف فتارة يبحث عنها من حيث الوجوب والندب فهو بحث عن (الحكم) وأخرى يبحث عنها من حيث معناها وتعريفها وأجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها فهو بحث عن (فعل المكلف) من حيث نفسه أي من حيث (الموضوع) أي من حيث ماهيته وقد سبق الكلام حوله.

وإن كل ذلك مندرج في المباحث الفقهية والمسائل الفقهية، ومما يتعلق به غرض (الفقيه).

وعرفت السبب في ذلك الشمول، وأن الجامع هو: اشتراكها جميعاً في الدخل في (الغرض) رغم أنه لا جامع حقيقي بينها ولا جنس لها، إذ لا جامع بين المقولات العالية بل هي (واحد بالعنوان) لا (بالحقيقة).

وعرفت أن الأوامر والنواهي الإرشادية أيضاً دخيلة في (الغرض) وأن (الحكم الشرعي) وهو (الغرض)(1) ينطبق على (الأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية) حسب أكثر تعاريفه وعلى حسب أكثر الأقوال في حقيقة الأمر الإرشادي.

عرفت(2) أن دخول الأوامر الإرشادية والنواهي الإرشادية، في (الفقه) _ مع ما له من العرض العريض _ هو على الأصل والقاعدة.

بل نقول إنه لا يضر عدم صدق (الحكم الشرعي) على الحكم الإرشادي، إذ يكفي صدق (الواجب والمستحب) على مؤديات الأوامر الشرعية الإرشادية _ كما فصلناه عند نقل رأي الشيخ الأنصاري من انقسام الأمر الإرشادي إلى الواجب والمندوب _ فكان لابد أن تدخل (الفقه)، لكونها واجبات ومستحبات _ وإن خَلَت عن استحقاق العقاب، على ما هو الفارق الإني بين النحوين من الأوامر.

والحاصل أن (موضوع علم الفقه) على هذا يكون: (فعل المكلف _ بل الأعم كما سبق _ من حيث الوجوب والحرمة _ مولويين كانا أو

ص: 117


1- ولدى الدقة الغرض (معرفة الحكم الشرعي).
2- جزاء (إذا عرفت) قبل أسطر.

إرشاديين _ وكذا الكراهة والاستحباب بل الإباحة أيضاً(1) ومن حيث الأحكام الوضعية).

أو فقل: (فعل المكلف _ بل الأعم _ من حيث الحكم الشرعي ومن حيث الوجوب والحرمة الإرشاديين أيضاً) وذلك إذا خصص الحكم الشرعي بالمولوي بالمعنى الأخص الذي به استحقاق العقاب.

وبعبارة أخرى: كما أن (فعل المكلف _ بل الأعم كما سبق _ من حيث الحكم الوضعي) كالملكية والزوجية والشرطية وغيرها، مما ينطبق عليه موضوع علم الفقه، وكما أن مسائله هي مسائل فقهية، على الرغم من أن الحكم الشرعي الوضعي مجرد (اعتبار) شرعي دون استحقاق للعقاب عليه بذاته، ولا يخرجه عدم استحقاق العقاب عليه، عن كونه من صميم الفقه، كذلك (فعل المكلف من حيث الحكم الإلزامي أو الندبي الإرشادي) فإن الوجوبالإرشادي وكذا الندبي منه، (اعتبار شرعي) وإن لم يكن مما يترتب عليه استحقاق العقاب، أو مما يترتب عليه العقاب وإن ترتب عليه الاستحقاق بَدْواً _ على احتمال بيّناه في موضع آخر _ فليلاحظ.

الاستناد إلى تعريف المشهور لعلم الفقه

وبذلك كله يظهر الحال في (تعريف علم) الفقه فإنه حسب المشهور (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية).

إذ قد بان مما ذكرناه: إنطباق (الأحكام الشرعية الفرعية) على موارد

ص: 118


1- فإن هذه الثلاثة أيضاً قد تكون مولوية وقد تكون إرشادية.

الأوامر الإرشادية ومؤدياتها، بناء على التعاريف الستة الأولى (للحكم) بل والتاسع والعاشر، فإن مؤدياتها (أحكام شرعية فرعية) لأنها (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين)، و (فيها الاقتضاء والتخيير)، و (هي محمولات شرعية)، وكل منها (اعتبار شرعي مسبوق بالملاك والإرادة)، وفيها (طلب الفعل أو الترك مع الإلزام تارة وبدونه أخرى)، وهي (إلزامية) في الجملة _ على حسب رأي الشيخ والميرزا كما فصلناه في محله.

وجه الإشكال على هذا التعريف

كما ظهر وجه الإشكال في هذا التعريف(1)، فإن الفقه أعم من ذلك، إذ هو: كل من العلم أو الظن المعتبر(2) ب:

1-الأحكام الشرعية الفرعية التكليفية الخمسة والوضعية.

2-الوظائف العملية المقررة للشاك في مقام العمل كما في موارد الأصول.(3)

3-والأحكام العقلية والعقلائية(4) كحكم العقل بالبراءة والتخيير العقليين، وكالاستصحاب بناء على حجيته من باب بناء العقلاء.

ص: 119


1- وقد بحثناه بعض الشيء في مباحث الأصول قاعدة الملازمة فليلاحظ.
2- ولعل مرادهم من العلم، الأعم من الظن المعتبر.
3- ونعني بذلك مصاديقها، لا أصل حكمه بالاستصحاب مثلاً فإنه مسألة أصولية، وذلك كاستصحاب حياة زوجها الغائب واستصحاب نجاسة الماء المغلي واستصحاب حكم الحاضر لمن شك إنه تجاوز الحد وحكم المسافر لمن شك إنه وصل البلد وهكذا.
4- ونعني بذلك مصاديقها، لا أصل حكمه بالاستصحاب مثلاً فإنه مسألة أصولية، وذلك كاستصحاب حياة زوجها الغائب واستصحاب نجاسة الماء المغلي واستصحاب حكم الحاضر لمن شك إنه تجاوز الحد وحكم المسافر لمن شك إنه وصل البلد وهكذا.

وإن أمكن إعادة هذا للأول، بناء على قاعدة الملازمة على بعض صورها والأقوال فيها(1)، كما فصلناه في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع).

4-والموضوعات المستنبطة أو المخترعة، العبادية وغيرها، كما فصلنا الحديث عن ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي مباحث الأصول كتاب القطع.5-والأحكام الإرشادية؛ فإن التفقه فيها (تفقه في الدين)، خاصة ما كان منها بلحاظ مصالح الآخرة، أو بلحاظ محبوبيته للمولى جل وعلا.

وبذلك ظهر أنه لو أردنا التحفظ على هذا التعريف فإنه لابد من تعريف علم الفقه ب(العلم بالأحكام الفرعية الشرعية منها والعقلية والعقلائية، والأصول العملية، والموضوعات المستنبطة الشرعية، والأحكام الإرشادية، عن أدلتها التفصيلية)، أو تعميم (الأحكام الشرعية الفرعية) للأحكام المولوية والإرشادية، وتعميم الأحكام الشرعية للعقلية؛ لعودها للشارع مآلاً.

الاستناد للآيات لشمول الحكم ل(لإرشادي)

ثم إنه يمكن الاستناد لعدد من الآيات الكريمة والروايات الشريفة، التي قد يظهر منها شمول (الحكم) للإرشادي أيضاً.

ص: 120


1- من أن العقل حاكم وليس مدركاً فقط، ومن أنها جعل مماثل، وكونها تأسيساً أو إمضاءً أو غير ذلك.

فمنها قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه»(1)، فإن هذا الأمر لكونه متعلقاً بما استقل به العقل، أمر إرشادي، حسب مسلك كثير من الأصوليين، في أن الأوامر والنواهي في مواطن المستقلات العقلية، إرشادية، ومع ذلك عبر الله تعالى عنه ب«الحكم» فإن «أمر» مصداق له، ولا ريب في صحة إسناد هذا الحكم للشارع إستناداً لهذه الآية الشريفة.

ثم (الحكم) هنا أعم من السلطان وملك الأمر والنهي، ومن القضاء، ومن الحكم بمعنى إيجاد الاعتبار أي الإنشاء.

ص: 121


1- يوسف: 40.

وبعبارة أخرى: أعم من الحكم التكويني والحكم التشريعي ولذا قال في الصافي: (إن الحكم في أمر العبادة)(1) وقال في المجمع: (ما الحكم والأمر إلا لله)(2) وذلك تفسير بالمصداق، ولذا قال الوالد في التبيين («إن الحكم» ما الحكم بين الناس حكماً تكوينياً وتشريعياً)(3).

ومنها قوله تعالى: «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله»(4) فإن من البديهي اختلاف الأمة في أمر الاستشهاد في الطلاق مثلاً، وإن حكمه إلى الله بقوله تعالى «وأشهدوا ذوي عدل منكم»(5) مع أن (الإشهاد) حكم إرشادي لصحة وقوع الطلاق _ على المشهور _ وليس مولوياً دالاً على وجوبه.

وبعبارة أخرى: واضح شمول موارد الخلاف للكثير من موارد الأوامر والنواهي الإرشادية، وصدق (الحكم إلى الله) فيها، حقيقة.

إلا أن يقال بإرادة (أي حكم ذلك كله إلى الله، يوم القيامة) كما في البرهان والصافي(6)، أو (يحكم للمحق بالثواب والمدح، وللمبطل بالعقاب والذم.. وقيل: معناه تبيان الصواب إلى اللهبنصب الأدلة)، كما في المجمع(7)، لكن قد يقال: إن ذلك تفسير بالمصداق؛ ولذا قال الصافي أيضاً: (وقيل: وما اختلفتم فيه من تأول المتشابه فارجعوا إلى المحكم من الكتاب)(8).

ومنها: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم»(9) و «ما شجر بينهم» أعم من الاختلاف في شؤون العقل العملي والعقل النظري، كالاختلاف في وجوب كذا عقلاً أو شرعاً، أو حرمته مولوياً أو إرشادياً، إلا أن يدعى الانصراف للأول، وأن المراد به (الحكومة).

ويؤيده شأن النزول في نزاع الزبير وأنصاري في مسيل ماء، ويؤيده أيضاً ظهور (مما قضيت) وتفسيرها أيضاً ب(فيما تعاقدوا عليه، لئن أمات الله محمداً، ألا يردوا هذا الأمر في بني هاشم)(10) كما في رواية الإمام الباقر عليه السلام، لكن المورد لا يخصص الوارد، و (القضاء) أعم من القضاء

ص: 122


1- تفسير الصافي: ج3 ص21.
2- تفسير مجمع البيان : ج5 ص403.
3- تبيين القران: ص252.
4- الشورى: 10.
5- الطلاق: 2.
6- تفسير الصافي: ج6 ص356.
7- تفسير مجمع البيان: ج9 ص39.
8- تفسير الصافي: ج6 ص356.
9- النساء: 65.
10- الكافي: ج1، ص391.

في عمل اختلفوا فيه أو رأي وقول وحكم اختلفوا فيه؛ ولذا قال السيد السبزواري رحمه الله (الرواية من باب التطبيق، وإن الحكم أعم من التشريعي والتكويني)(1) وقال: (حتى يحكموك في القضايا التي يختصمون فيها ويتشاجرون ويتنازعون)(2)، و (القضايا) أعم _ فتأمل والله العالم.

الاستناد للروايات لشمول الحكم ل(الإرشادي)

ومن الروايات قول أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين: (وفي القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم).(3)

فإن القرآن ممتلئ بالأحكام الإرشادية كالأحكام المولوية، وقد ذكرنا في الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، إلا أن يستند إلى ظهور (ما بينكم) في القضاء، وفيه أن السياق يقضي بإرادة الأعم، فلاحظ قوله عليه السلام: (نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)(4).

وقوله عليه السلام: (سنته _ أي رسول الله صلى الله عليه وآله _ الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل)(5) وانصراف (حكمه) إلى قضائه، لعله بدوي.

وقوله عليه السلام: (إلا وقد قطعتم _ والخطاب للعصاة _ قيد الإسلام، وعطلتم حدوده، وأمتم أحكامه).(6)

ص: 123


1- مواهب الرحمن: ج8، ص407.
2- المصدر: ص398.
3- نهج البلاغة: ج4، ص74، ح313.
4- نهج البلاغة: ج4 ص74 ح313.
5- نهج البلاغة: ج1، ص185، خ94.
6- نهج البلاغة: ج1، ص156، خ192.

والأحكام التي أماتوها تشمل:

أ- الأحكام المولوية (كالحج والجهاد والصلاة والصوم _ أصلاً أو حدوداً).

ب- والأحكام الإرشادية، ومنها: الشورى والوفاء بالعهد والإصلاح والهجرة، ومنها أيضاً في جانب التحريم: التجسس والفواحش والنزاع والاغتيال والاختيال، و (إماتتها) بعدم فعلها أو فعل المضاد لها.

وقد فصلنا الحديث عن ذلك، ووجه القول بالإرشادية في الآيات والروايات الواردة فيها، في فصل آخر فليلاحظ.

وقوله عليه السلام: (وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الإسلام، وأحكامه وحلاله وحرامه).(1)

وغير خفي صدق (أحكام الإسلام) على كل مؤديات الأوامر المولوية والإرشادية، خاصة على مبنى الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما من انقسام الحكم الإرشادي إلى واجب ومندوب.

أرأيت قوله تعالى: (اعدلوا) مما لا يصدق عليه (أحكام الإسلام)؟ لأنه أمر إرشادي حسب ضابط أنه كل ما ورد في موطن المستقلات العقلية؟

أو أن قوله تعالى: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» ليس من (أحكام الإسلام) لكونه إرشادياً، بدعوى لزوم التسلسل

ص: 124


1- نهج البلاغة: ج3، ص41، ك31.

من كونه مولوياً؟ كما أشرنا لذلك والأجوبة في موطن آخر وفصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى).

أو أن قوله تعالى «توبوا إلى الله» ليس من أحكام الإسلام؟ إما لأنها من المستقلات العقلية، أو لأنها مما يلزم من مولويتها التسلسل كأوامر الطاعة كما ذكره (المستمسك)؟

ص: 125

من أظهر مصاديق الأوامر الإرشادية من غير الشارع

ثم إن من أظهر المصاديق التي ذكرت أو يمكن أن تذكر للأوامر الإرشادية في دائرة العرف العام أو الخاص(1)، وفي الموالي العرفية، والتي نرى بعضها مولوية بالمعنى الأخص ونرى كثيراً منها مولوية بالمعنى الأعم(2)، أو إرشادية _ وجوبية على أقل التقادير _:

منها: أوامر الطبيب.

ومنها: أوامر ونواهي مختلف الأخصائيين وأصحاب الحرف: كالمحامي وكالمستشار الاقتصادي أو السياسي أو الحقوقي وغيرهم، وكالمهندس، للمالك.

ومنها: أوامر ونواهي الواعظ والناصح، وسيأتي الفرق بينهما.

ومنها: أوامر ونواهي مطلق النظير لنظيره، كصديق لصديق أو خطيب لخطيب أو مرجع لمرجع، أو شركة لشركة أو دولة لدولة، بما

ص: 126


1- كدائرة الأطباء أو المحامين أو المسؤولين.
2- سيأتي إن المولوي على قسمين: مولوي تشريعي ومولوي نصحي.

هو كذلك(1).

وذلك بناء على اعتبار (العلو) في الأمر المولوي فقط، أو كفاية (الاستعلاء) أيضاً، أو لزوم كليهما، أو حسب الخلاف في المسألة.

ومنها: مطلق أوامر الأعلى للأدنى، لكن:

أ لا بلحاظ مقام مولويته _ على ما نراه من الضابط.

ب _ أو لا بلحاظ محبوبيته له _ على ما يراه السلطان.

ج _ أو فيما كانت المصلحة والمفسدة دنيوية محضة.

د _ أو في المستقلات العقلية.

ه _ أو في خصوص ما يلزم من المولوية: اللغوية أو تحصيل الحاصل أو التسلسل أو تعدد العقاب أو تعدد استحقاقه، كأوامر الإطاعة _ حسب رأي بعض الأعلام.

و _ أو إذا كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر.

ز _ أو إذا لم تتوقف المصلحة على الأمر.

ح _ أو ما عادت المصلحة للمأمور.

ط _ أو ما لم يترتب عليه ثواب ولا عقاب.

وقد ذهب إلى كل من تلك الضوابط التسعة، علم أو أكثر، وسيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى.

ص: 127


1- أي طلبه بما هو صديق مثلاً لا مستعلياً.

وأما الأوامر الإرشادية الصادرة من الشارع

وأما في دائرة الأوامر الشرعية، ومختلف الأوامر والنواهي والأحكام الواردة في القرآن الكريم والمأثورة عن المعصومين عليهم السلام، سواء في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم الفقه ومطلق العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام _ حسب تقسيم الشرائع الرباعي _، أم الواردة في الشؤون السياسية والاجتماعية والحقوقية، أم الواردة في الطب والتجارة والاقتصاد والصناعة والأخلاق وغيرها.فإن المصاديق لها كثيرة جداً، لعلها تتجاوز الآلاف بل عشرات الآلاف من الآيات والروايات(1) والتي ادعي أو يمكن أن يدعي أنها إرشادية، والتي نرى إن كثيراً منها مولوية، وقد ورد الكثير الكثير منها في (وسائل الشيعة) وفي (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار)، كما ذكر شطراً كبيراً منها السيد الوالد قدس سره في كتاب (الفقه: المال) و (الفقه الاقتصاد) و (آداب المال)، وذكر بعض الأعلام، الكثير منها في كتاب (الشؤون الاقتصادية في الكتاب والسنة)، كما ذكر الكثير من الأوامر والنواهي الطبية في (طب الإمام الرضا عليه السلام) وغيره.

إشارة للبحث السندي

وأما البحث السندي فإنه لا حاجة إليه على تقدير كونها إرشادية بالمعنى المعهود _ فتأمل(2)، لكنه مما يحتاج إليه على تقدير الالتزام بالمولوية بقسميها: المولوية التشريعية والمولوية النصحية، أو الإرشادية

ص: 128


1- وقد أشرنا لبعضها قبل قليل.
2- إذ لا ريب في الحاجة إليه، لدى إرادة (العمل) أو (النقل) _ نعم ضوابطه ليست بتلك الشدة، كما أشرنا إليه في موضع آخر، وفصلنا كلّيّه في كتاب (دروس في التفسير والتدبر).

الوجوبية كما سنفصله لاحقاً بإذن الله تعالى، ويكفي في العديد منها (تواترها الإجمالي)، أو (تواترها بالمضمون)، أو احتفافها بالقرائن المفيدة للعلم، أو الاطمئنان، أو مطابقتها للأصول والقواعد، ومنها مطابقتها لصريح حكم العقل كما في موارد المستقلات العقلية، كما يمكن التمسك بقاعدة التسامح في أدلة السنن على تقدير كونها إرشادية _ ندبية _ أو مولوية _ ندبية _.

ص: 129

الوجوه والأقوال الستة في الألوف من الأوامر والنواهي المدعى كونها إرشادية

والبحث في أمثال هذه الأوامر والنواهي والدوالّ، يمكن أن يقع في أنها هل هي:

1-إرشادية بدون طلب _ لكونه قسيمه(1)_ كما هو أحد الآراء في الإرشادي.

2-أو هي إرشادية _ طلبية بدون إيجاب ولا ندب لكونه قسيمهما دونه(2) _ كما هو رأي ثان _.

3-أو هي إرشادية: طلبية _ وجوبية، وإرشادية: طلبية _ ندبية _ وهو الرأي الذي ذهب إليه الشيخ قدس سره، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

4-أو هي إرشادية _ طلبية _ غير إلزامية فيكون قسيماً للندب.

5-أو هي إرشادية _ مولوية(3) للإيجاب تارة وللندب أخرى، وما كان

ص: 130


1- أي لكون الإرشاد قسيم الطلب.
2- أي كون الإرشاد قسيماً للوجوب والندب دون الطلب.
3- المقصود: (المولوي بالمعنى الأعم) فلا يتوهم التناقض، نظراً لأن الحديث عن الإرشادية التي هي قسيم المولوية، لأنها قسيم المولوي بالمعنى الأخص، وقسم من المولوي بالمعنى الأعم.

للإيجاب فمع رفع العقاب لو خالف، مع استحقاقه، أو بدونه(1)؟

على العكس من المولوي بالمعنى الأخص فإنه يستحق على خلافه العقاب ولم يرفع.(2)

6-أو هي ليست إرشادية بل مولوية بالمعنى الأخص؟

وتحقيق حال الصغريات، فرع تشخيص الضابط في المولوي والإرشادي أولاً، وتشخيص كُنه وماهية ومعنى الإرشادي ثانياً، ومعرفة هل الأمر ظاهر في المولوية بالوضع أو مستعمل فيها أو لا، بل هي مجرد داعي كما ذهب إليه الآخوند، والظهور فيها لاقتضاء المقام أو غيره ثالثاً، ثم الإرشادي من الأمر هل هو ظاهر في الإلزام رابعاً، وملاحظة قرائن الحال والمقال في كل مصداق مصداق خامساً، وغير ذلك(3) وسنتطرق لذلك في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.

ص: 131


1- أي بدون الاستحقاق.
2- أي بنحو الأصل فيه ومبدئياً _ كما رفع في الإرشادي _ وإن أمكن رفعه بالشفاعة والتوبة ونحوها.
3- كبحث (الغرض) و (الفائدة) من التقسيم للمولوي والإرشادي، وما يترتب على كل منهما من الآثار.

ص: 132

المبحث الرابع: هل مبحث (الأوامر الإرشادية) من المباحث الأصولية؟

اشارة

ص: 133

ص: 134

وأما ضرورة أن تعد مباحث الأوامر والنواهي الإرشادية(1) من الأصول _ بعضها من مسائله وبعضها من مبادئه التصورية أو التصديقية، فبيان ذلك والدليل عليه هو:

ص: 135


1- أي الضابط في (المولوي) و (الإرشادي)، وظهور الأمر في أيهما؟ ثم ظهور الإرشادي في الإلزام وعدمه، وليس مصاديقها، فإنها من الفقه كما هو بيّن وسيأتي أيضاً.

أولاً: أجزاء العلوم

اشارة

فإن هنالك بحوثاً ثلاثة:

أ- الضابط في الأمر المولوي والإرشادي

الأول: الضابط في الأمر المولوي والإرشادي، وهل (الإرشادي) هو: ما أنشأ بلحاظ المصلحة الدنيوية، والمولوي ما أنشأ بلحاظ المصلحة الأخروية؟ أم إن الإرشادي هو: غير ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته؟ أم إنه هو كل ما لم يصدر من المولى بما هو مولى أي معملاً مقام مولويته والمولوي ما كان كذلك، بقيد إذا كان في مقام التشريع، أو لا، والمولوي بعكسه _ كما فصلنا الحديث عن هذه الضوابط الثلاثة وسائر الضوابط في فصل الضوابط.

والظاهر ان مبنى الكثير من الأصوليين: أن أمثال هذا المبحث ينبغي أن يعد من (المبادئ التصديقية) لعلم الأصول؛ فإنها هي القضايا الثابتة في مرتبة سابقة والمبرهن عليها في علم سابق ويعتمدها العلم اللاحق كمقدمات مسلّمة لأقيسته، وذلك كحجية خبر الواحد بالنسبة لعلم

ص: 136

الفقه، كما أنه لو كان البحث عن صرف المفهوم والمعنى كان بحثاً عن (المبدأ التصوري).

لكن ذكرنا في مباحث الأصول وجهاً لعد مثل هذا ولاحقه من مسائله، فليلاحظ وليتأمل فيه، وسيأتي وجه آخر لإثبات ذلك بل وجوه بإذن الله تعالى.

ب _ هل الأمر ظاهر في المولوية؟

الثاني: هل الأمر _ مادة وصيغة _ ظاهر في المولوية؟ أو لا؟(1) وكذلك النهي سواء كان بصيغة إنشاء أم كان إخباراً في مقام الإنشاء.

والظاهر أن هذه مسألة أصولية.(2)

ج _ هل (الإرشادي) ظاهر في الإلزام؟

اشارة

الثالث: إن ما كان من الأمر أو النهي للإرشاد، هل هو ظاهر في الإلزام بالفعل أو الترك _ على ما أوضحناه من مسلك الشيخ والميرزا من: إنقسام الأمر الإرشادي إلى واجب ومندوب _ أو لا؟

والظاهر أن هذه مسألة أصولية كذلك.

ص: 137


1- قد أشرنا في مواضع أخرى من هذا الكتاب إلى الأقوال في المسألة وأن الإرشادية والمولوية هل هي صرف دواعي الاستعمال كما هو الحق، أم إنها مما استعمل فيه اللفظ بنحو الاشتراك اللفظي أو غيره.
2- راجع عنوان (مسائل علم الأصول) وما سيأتي بعد قليل.
الدليل على مبنى القدماء

ويمكن إثبات كونها بأجمعها من (مسائل علم الأصول)، على مسلك القدماء ومبناهم إذ إنهم قد إرتأوا:أن أجزاء (العلم) ثلاثة وهي: (الموضوع، والمسائل، والمبادئ)(1)، والمبادئ تنقسم إلى: مبادئ تصورية وتصديقية، وأضاف قوم (المبادئ الأحكامية)(2) لكن الظاهر رجوعها للأولين.

ثم إن قوماً أضافوا (الخاتمة) كجزء من أجزاء العلم، وذلك كجملة من مباحث الإجتهاد والتقليد.

وهذا التقسيم الرباعي لأجزاء العلم هو الأوفق بالقواعد، والأقرب للاعتبار، وللغاية من كل علم.

كما أن عليه جرت سيرة علماء كل فن وعلم في تصنيفاتهم عادة، ولذا نجدهم رغم تصريحهم بأن هذه البحوث من المبادئ التصورية أو التصديقية أو الأحكامية، فإنهم يدرجونها في (العلم)(3) وما ذلك إلا لأنه المحقق للغرض من كتابة ذلك العلم وبه تتم الفائدة.

ولا يضر كونه من مسائل علم سابق مرتبةً، ولا تصريحهم بأنها من المبادئ، فإنهما باعتبارين _ فهو (جزء علم) أي من مسائله، باعتبارٍ، و (جزء العلم) أي من مبادئه، باعتبار آخر، وهو كونه من مسائل علم

ص: 138


1- الأصول: ج1، ص9.
2- ككون (الحكم) مجعولاً بالاستقلال أو مجعولاً إنتزاعياً، وإرتأى السيد البروجردي أن منه بحث الملازمات.
3- وقد أجبنا عن شبهة (الاستطراد) في مباحث الأصول _ فراجع.

سابق وممهداً لمسائل لاحقة، وعلى أي فإنه لو لم يسلم بذلك، فإنه لا كلام في كونها من المبادئ التصورية والتصديقية.

ص: 139

ثانياً: موضوع علم الأصول

اشارة

فإن موضوع علم الأصول هو:

(الأدلة الأربعة بذواتها) كما هو رأي صاحب الفصول رحمه الله.

أو (الأدلة الأربعة من حيث الدليلية) أو (بوصف الدليلية) كما هو رأي صاحب القوانين رحمه الله، ولعله المشهور.

أو (الكلي المنطبق على موضوعات مسائله) كما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه الله.

أو (كل مسألة لها دخل في تعيين الوظيفة الفعلية، إذ لا موضوع لعلم الأصول) كما ذهب إليه صاحب المصباح رحمه الله.

أو (ما يستنبط منه الأحكام الشرعية من حيث الاستنباط) كما ذهب إليه السيد الوالد رحمه الله في الأصول.

ص: 140

المباحث الثلاثة ينطبق عليها موضوع الأصول

وحينئذٍ نقول: إن البحث عن ظهور الأمر في المولوية _ ولو بالقرائن المقامية العامة _ وكذلك البحث عن ظهور الأمر الإرشادي _ بعد قيام الدليل عليه _ في الإلزام، وكذا ضابط المولوي والإرشادي _ فتأمل(1)، مما ينطبق عليه موضوع علم الأصول؛ وذلك تبعاً لما فصلناه في (كتاب قاعدة الملازمة بين حكمي الشرع والعقل)، من تأسيس الأصل الكلي في المقام، من أنَّه:

(بل قد يقال بإمكان إدراج كل ذلك _ بدءً من مثل الصحيح والأعم والمشتق والأوامر والنواهي وهل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ وهل هو ظاهر في المولوية أم لا؟ وهل الإرشادي منه يلزم إتباعه ولو في الجملة أم لا؟، ومروراً بمثل العام والخاص... في (علم الأصول)، بناء على تعريف موضوعه ب(الكلي المنطبق على موضوعات مسائله)؛ فإن (موضوعات مسائله) ينطبق على خبر الواحد وظاهر الكتاب، كما ينطبق على المشتق والصحيح والأعم وحكم العقل بكذا، كما ينطبق محموله، فإن الأولين محمولهما (الحجية) وكذا الأخير، والأوسطان محمولهما (كونه حقيقة أو مجازاً في المتلبس أو المنقضي أو في الصحيح والأعم

ص: 141


1- وجهه: عدم إنطباق ما سيأتي عليه، وعلى ظهور الأمر الإرشادي في الإلزام وعدمه _ وفيه نظر: إذ إن مراجعة كتب قدامى الأصوليين تتكفل بإثبات الانطباق؛ فإنها عادة تبحث هذين الموضوعين مما يصدق عليها (الكلي المنطبق على موضوعات مسائله) ولكن قد أهملها بعض متأخري الأصوليين أو أشاروا إليها إشارة عابرة. والحق مع المتقدمين كما أوضحناه في مواضع عديدة من هذا الكتاب فليتدبر.

ومآله ل(الحجية) في ماذا؟(1)... وذلك كله بناء على ما ذهب إليه الآخوند، أو (ما يستنبط منه الأحكام من حيث الاستنباط) كما ذهب إليه السيد الوالد، ومراده من (ما) أي الأدلة الأربعة..، فإن هذين التعريفين شاملان لكل ما سبق فتأمل).(2)

ونضيف هنا بأن موضوع علم الأصول بناء على كونه (الأدلة الأربعة بذواتها) أو (الأربعة بوصف الدليلية) أيضاً منطبق على كلتا المسألتين المطروحتين ههنا، وهما هل الأمر ظاهر في المولوي؟ وهل الأمر الإرشادي ظاهر في الإلزام؟

بيان ذلك:

إن (الأدلة الأربعة) مشحونة بالدوال على الأحكام الإرشادية، كما هي مشحونة بالدوال على الأحكام المولوية، سواء كانت بصيغة الإنشاء أم الإخبار.

وكما أن (ظاهر الكتاب) مما يعرف منه الحكم المولوي، كذلك يعرف منه الحكم الإرشادي.

فيقع البحث حينئذٍ عن أن الأمر لو ورد في الكتاب والسنة، فهل هو ظاهر في _ أو هل الأصل فيه(3) _ المولوية أم لا؟ ثم لو علم كونه إرشادياً _ بالقرينة _ فهل هو ظاهر في الإلزام أم لا؟

ص: 142


1- أي المشتق مثلاً (حجة) في المنقضي عنه المبدأ أيضاً وهل هو (حجة) في الأعم... وهكذا.
2- مباحث الأصول كتاب قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ص 115 – 116.
3- العدول، نظراً لالتزامنا مسلك أن المولوية والإرشادية من الدواعي، فلا ظهور للأمر في أي منهما، بل لو كان فللأصل أو القرينة الخاصة.

نعم لا يجري ذلك في تشخيص (الضابط).

النقض بإندراج الطب والتاريخ في الفقه وجوابه

لا يقال: ليس كل ما دل عليه الكتاب والسنة، من الأصول، وإلا اندرج الطب والتاريخ مثلاً، فيه أيضاً؟

إذ يقال: ذلك مما يلزم من عدّهم موضوع الأصول (الأدلة الأربعة بذواتها) أو حتى مع إضافة قيد بوصف الدليلية(1) وهو مما يستشكل به على من أطلق، ولذا قيد الوالد ب(الأحكام الشرعية) وب(من حيث الاستنباط)، فكان اللازم إضافة (من حيث الدلالة على الحكم الشرعي) مثلاً على (الأدلة الأربعة)، كما أن موضوع النحو (الكلمة من حيث الإعراب والبناء).

وعلى أي فالإيراد غير وارد في المقام؛ نظراً لصدق (الحكم الشرعي) على (الحكم الإرشادي) كما فصلناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.

فالبحث فيه هو (عن الأدلة الأربعة من حيث الحكم الشرعي المتعلق

ص: 143


1- قد يدفع الإشكال عن صاحب القوانين بأن من (حيث الدليلية)، مخرج للأغيار إذ يراد بها (الدليلية على الأحكام الشرعية) لكن فيه أن بيان المراد لا يدفع الإيراد، إلا أن يجاب بأن الألف واللام للعهد الذهني؛ إذ يقطع عدم إرادة (من حيث الدليلية على القضايا التاريخية) مثلاً، لكن اللازم مع ذلك أن يكون التعريف جامعاً مانعاً، واندفاع الإيراد على (الأصول) لتصريحه بالحكم الشرعي إذ قال (ما يستنبط منه الحكم الشرعي من حيث الاستنباط) أي من حيث استنباط الحكم الشرعي فإن الألف واللام للعهد الذكري أو فقل عوض عن المضاف إليه.

بفعل المكلف) وليس كذلك الطب والتاريخ، ولا المعارف والكلام.(1)

الإشكال بأن الحكم الإرشادي ليس عارضاً ذاتياً لموضوع الأصول

اشارة

لا يقال: (الحكم الإرشادي) ليس من العوارض الذاتية لموضوع الأصول؟

إذ يقال:

1- البحث عن (الحجية) وهو عارض ذاتي

أولاً: وزان البحث فيه كوزان البحث في الأمر المولوي، إذ البحث عن (حجية) ظواهر الكتاب والسنة على الأحكام الإرشادية المستفادة منها، كالبحث عن (حجيتها) على الأحكام المولوية المستفادة منها، و (الحجية) من العوارض الذاتية.

2- وعن (الظهور) وهو ذاتي

ثانياً: إن البحث عن (ظهور الأوامر والنواهي) في الكتاب والسنة في المولوية أو الإرشادية، ثم عن ظهور الأمر والنهي الإرشاديين في الإلزام وعدمه، و (الظهور) من العوارض الذاتية للكتاب والسنة.

وغير خفي أن البحث الثاني صغروي والبحث الأول كبروي، وإن كان الثاني بدوره يقع كبرى لصغريات ظواهر الكتاب؛ إذ يقال:

ص: 144


1- فإن الأولين ليسا (من حيث الحكم الشرعي) والأخيرين ليسا حول الحكم من حيث تعلقه بفعل المكلف لتعلقهما بالاعتقاد.

(هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب) ثم يقال: (هذا ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر في الوجوب حجة، فهذا حجة).

أو (هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب المولوي، فهذا ظاهر في الوجوب المولوي)، أو (هذا أمر إرشادي، وكل أمر إرشادي ظاهر _ أو الأصل فيه _ الإلزام، فهذا كذلك).

3- النقاش في الكبرى

ثالثاً: النقاش في الكبرى، إذ لا نسلم أن موضوع العلم هو (ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض) كما ذهب إليه الآخوند، إذا أريد بالذاتي ما يقابل (الغريب) إذا عمم (الغريب) لما يعرض بواسطة أمر داخلي أعم وما يعرض بواسطة أمر خارجي مساوٍ.(1)

والصحيح هو إما (أخذ العرض الذاتي) في مقام الواسطة في العروض مطلقاً، ليعم الذاتي وبعض الغريب بإصطلاح الكفاية، أو (تعميم الذاتي) لما يعرض بواسطةامر داخلي وإن كان أعم.

لكن لا يخفى أن (الأول) أي إرادة مطلق ذي الواسطة في الثبوت من (العارض الذاتي) غير تام أيضاً، كما لا يخفى وسنشير له في الهامش بإضافةٍ، كما هو، كالثاني، غير مقصود للآخوند وإن أوهمه ظاهر تقابل (بلا واسطة في العروض) و (الواسطة في الثبوت).

وقال السيد الوالد في الأصول: (وبذلك تبين أنه حيث لا يهم أن تكون المحمولات _ أي محمولات المسائل _ أعراضاً ذاتية أو غريبة، لا يهم أن يكون محمول العلم عرضاً ذاتياً أو غريباً) وقد أوضحناه في

ص: 145


1- كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب.

مباحث الأصول كتاب القطع.(1)

وقال المحقق الأصفهاني: (والتحقيق إن الإلتزام بعدم الواسطة في العروض، من رأس من باب لزوم ما لا يلزم؛ والسر فيه أن حقيقة كل علم عبارة عن مجموع قضايا متفرقة يجمعها الإشتراك في ترتب غرض خاص، ونفس تلك القضايا مسائل العلم، ومن الواضح أن محمولات هذه المسائل أعراض ذاتية لموضوعاتها وبهذا يتم أمر العلم، ولا يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع دائماً في نفس العلم...)(2)، وسيأتي بعد قليل مزيد إيضاح لذلك بإذن الله تعالى.

وقد فصلنا الحديث عن (العارض الذاتي) وعدم صحة كبرى اشتراطه في موضوع العلم في الأصول، مباحث القطع، المجلد الأول.

ص: 146


1- الأصول: مباحث القطع.
2- نهاية الدراية: ج1، ص26.

ثالثاً: مسائل علم الأصول

اشارة

ومسائل علم الأصول، دليل آخر، فإن:

الظاهر أن كافة المسائل التي تتعلق بالأوامر والنواهي والإنشاءات الإرشادية(1)، تعد من (علم الأصول)، وذلك لإنطباق ضابط المسألة الأصولية عليها، وسنكتفي بذكر رأي الميرزا النائيني في ضابط المسألة الأصولية، لأنه الرأي المنصور.(2)

الميرزا النائيني: (مسائل الأصول ثلاثة أنواع)

فقد ذهب الميرزا إلى أن (المسائل المبحوث عنها في علم الأصول:

أ- إما مسائل يبحث فيها عن دلالة الألفاظ بما هي).

ومن الواضح أن مباحث المشتق والصحيح والأعم وأشباهها، منها، وكذلك مبحث هل (الأمر) _ مادة وصيغة _ ظاهر في المولوية؟

ثم إن ما كان منه للإرشاد، هل هو ظاهر في الإلزام؟

ص: 147


1- وهي ما ذكرناه تحت عنوان الثاني والثالث من (أولاً: أجزاء العلوم) فراجع.
2- كما فصلناه في مباحث الأصول كتاب قاعدة ا لملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وقال: (ب- أو عن حال الأحكام ولو لم تكن مدلولاً عليها بشيء من الألفاظ) كالبراءة والاحتياط العقليين، ومنه أيضاً الأحكام الإلزامية العقلية فيما لا عقاب عليه، مما لو كان أمر به الشارع كان أمراً إرشادياً، أو فقل إن العقل يحكم به حكماً إرشادياً _ أي لا باعتبار كونه حجة باطنة، بل بلحاظٍ صرفٍ للمصلحة في المتعلق.

وقال: (ج- أو عن دليلية الدليل، كمباحث حجية خبر الواحد والكتاب وغيرهما من مباحث الحجية).(1)

وهذا يشمل _ إطلاقاً أو ملاكاً _ البحث عن حجية خبر الواحد وغيره، على الحكم الإرشادي؛ لما فصلناه في موضع آخر من صدق (الحكم) عليه حقيقة واصطلاحاً.

وقد فصلنا في (مباحث الأصول) بعض النقض والإبرام في كلامه فليراجع.

أعمية (العارض) لا تخرج المسألة عن العلم

وقد فصلنا في (مباحث الأصول) أن كون (العارض) أعم(2) لا يخرج المسألة عن العلم، مبنى(3)، وأوضحنا بناءً: إن البحث عن العارض _

ص: 148


1- وذلك كما نقله السيد الوالد في (الأصول): ج1، ص14، عن المحقق النائيني.
2- فإن الظهور في الوجوب يعرض أوامر الكتاب والسنة بواسطة أمر أعم؛ إذ لا يعرض أوامر الكتاب والسنة مباشرة، بل يعرضها بواسطة أمر أعم وهو (الأمر) وإن كان داخلاً، وهذا على رأي (الكفاية) عرض غريب.
3- إذ أوضحنا في مباحث الأصول إن الصحيح هو أخذ (العرض الذاتي) في مقابل الواسطة في العروض مطلقاً، لكن مع إخراج مثل العارض بواسطة أعم خارج كما هو واضح، ليعم العرض الذاتي والغريب باصطلاح الكفاية، أو (تعميم الذاتي) لما يعرض للداخل وإن كان أعم _ كما هو الحق _) ومآلهما واحد، وعلى هذا ف(الظهور في الوجوب عارض لذات أوامر الكتاب والسنة، لا لأمر آخر، وإن كان بواسطة أمر أعم داخل)، فراجع (مباحث الأصول كتاب القطع) وكذا مبحث ظهور الأمر في المولوية ثم ظهور الإرشادي منه في الإلزام.

كظهور الأمر في الوجوب أو فيالمولوية، أو الإرشادي في الإلزام _ وإن لم يكن خاصاً بذاته بما ورد في الكتاب والسنة إلا أنه كما قال الوالد: (إن البحث فيه(1) عنهما(2) إنما هو بالنسبة لما ورد فيهما(3)، وإن أفاد في غيرهما، كما أن البحث في الطب عن خصوص بدن الإنسان وإن أفاد لبدن الحيوان أيضاً)(4)، إذن فهو (خاص عرضاً) أي اعتباراً ولحاظاً، وقد أوضحناه في مباحث الأصول، ودفعنا بعض ما ربما يورد عليه فراجع.

ص: 149


1- أي في مبحث الألفاظ.
2- أي الأوامر والنواهي.
3- أي الكتاب والسنة.
4- الأصول: ج1، ص16.

ص: 150

رابعاً: الغاية من علم الأصول

اشارة

فإن الغاية من علم الأصول(1) مما تصلح للتمسك بها، فإنها:

(الحجة في الفقه) والتي عدها السيد البروجردي رحمه الله هي موضوع علم الأصول، وقد تعد (الغاية) كما أشرنا إليه في الأصول(2)، والأمر سهل لكونهما بالاعتبار.

والأدق أن يقال: (الموضوع) هو (الحجة في الفقه) أو ما أشبه، و (الغاية) هي (الاحتجاج) على مسائله أو على المكلف.

ولا فرق في كون (الإحتجاج) هو (الغاية)، بين ذلك القول في موضوعه، أو القول بأن موضوعه هو (الأدلة الأربعة) أو (هي بوصف الدليلية) على قولي صاحب القوانين والفصول.

الغاية هي (الإحتجاج)، (ومعاني الحجة)

إذ (الغاية) هي (الإحتجاج) بأي معنى أخذنا (الحجة) و (الإحتجاج)، فسواء قلنا:

بأن (الحجة) يراد بها معناها اللغوي أي ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس، فإن غاية الأصول بناءً عليه: (الإحتجاج) بالأدلة الأربعة على المولى وعلى العبيد(3) بجعل حكم أو رفعه.

أم قلنا بأن (الحجة) هي الكاشف التام أو الناقص.

أم قلنا هي الإنكشاف _ كما ذهب إليه الأصفهاني _ فإن غاية الأصول على هذا هي: الكشف بالأدلة الأربعة عن الأحكام الشرعية أو إنكشافها بها.

أم قلنا بأن (الحجة) هي المنجز والمعذر _ كما ذهب إليه الآخوند _ فإن غاية الفقه هي اتخاذ الأدلة الأربعة منجزة لدى إصابة الفقيه ومعذرة لدى خطأه.

أم قلنا بأن (الحجة) هي (الأوسط) كما ذهب إليه الشيخ، فإن غاية الأصول هي (الإحتجاج بجعل الأدلة الأربعة، أوسط في القياس، لإثبات الحكم الشرعي).

أم صرنا إلى قول الميرزا النائيني في معنى وتعريف (الحجة)، أو

ص: 151


1- والأولى تقديم (الغاية) على كل من (الموضوع) و (التعريف) نظراً لما صرنا إليه من أن تحديد موضوع كل علم إنما هو بغايته، فإن (الغاية) تحدد (الموضوع) ثم يأتي (التعريف) كاشفاً، وفي مرحلة الإثبات دالاً.
2- مباحث الأصول، قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وعلى أي فإن اعتبار (الحجة في الفقه) هي (الموضوع) لعلم الأصول، غير ضار بالمقام، بل يتم الاستدلال به أيضاً، وإن لزم إضافة قيد (القريبة) لئلا يدخل علم الرجال ونظائره.
3- فيحتج المكلف بحديث (الرفع) على المولى مثلاً، لرفع الأحكام التكليفية فقط أو والوضعية أيضاً، بالنسبة للمضطر والمكره والجاهل بعد الفحص... إلى آخر التسعة، كما يحتج المولى على العبيد مثلاً ب(أخوك دينك فاحتط لدينك) وبالعلم الإجمالي على الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي... وهكذا.

سائر الأقوال العشرة التي فصّل الحديث عنها في مباحث الأصول كتاب القطع وأشرنا لها في هذا الكتاب إشارة سريعة.

وعلى أي حال فإن هذه الغاية لعلم الأصول وهي (الإحتجاج بأدلته على الأحكام الشرعية في الفقه) جارية في الأحكام الإرشادية كجريانها في الأحكام المولوية تماماً؛ إذ قد أوضحنا فيالبحث السابق إبتناء (الفقه) على كلا نوعي الأوامر المولوية والإرشادية، وامتلائه بكلا نوعي الأحكام.

وعلى هذا تكون (الحجة) و (الإحتجاج) على الأحكام الإرشادية وجوبية كانت أو ندبية، هي الغاية لعلم الأصول أيضاً، كما كانت (الحجة) على الأحكام المولوية غاية له.

الأحكام الإرشادية كثيرة ومبتلى بها

ونضيف: إن الأحكام الإرشادية هي من أشد ما يبتلى به المكلف، ولا تعدِم من آثار الأحكام المولوية إلا (استحقاق العقاب)، بل إنها مما تترتب عليها آثار كثيرة فقهية وأصولية وكلامة، وقد أشرنا لبعض الآثار والثمار في موضع آخر وفصلنا الحديث أكثر في مباحث الأصول، كتاب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

ونشير هنا إلى كثرتها، فإن كافة الأوامر والنواهي الإرشادية الواردة في مواطن المستقلات العقلية، بناء على مبنى كثير من الأصوليين كالفقيه الهمداني في مصباحه والمظفر في أصوله وغيرهما من كونها إرشادية، تعد مؤدياتها أحكاماً إرشادية وجوبية أو ندبية، محرمة أو

ص: 152

مكروهة، وقد ذكرنا في مباحث الأصول، أن المستقلات العقلية لدى التتبع، هي بالعشرات ولعلها بالمئات، وهي أمهات المسائل في مختلف أبعاد الفقه وأبوابه، وقد أشرنا إلى الكثير منها في مباحث هذا الكتاب في مواضع متفرقة(1) فليلاحظ.

وكذلك فإن هنالك المئات بل الألوف من الأحكام التي عدت إرشادية، لكون مصلحتها دنيوية، أو لكون مصلحتها معلومة للمأمور قبل الأمر أو لغير ذلك، على ما فصلناه في بحث الضوابط، وأشرنا لمسائل كثيرة من مصاديقه في مطاوي الكتاب(2) _ مما يثبت إلقاء نظرة سريعة عليها: (ابتناء الفقه) عليها إلى جوار ابتنائه على الأحكام المولوية.

الغاية (الحجة) أو (المؤمن)؟

وبعبارة أخرى: الغاية من علم الأصول _ أو موضوعه _ هي (الحجة)(3) أو (الإحتجاج) على (الحكم) أو (الوظيفة) وليس خصوص (المُؤَمّن) من العقاب، بل (المؤمن) من مخالفة المولى، سواء ترتب عليه عقاب أم لا، بل سواء كان فيه استحقاق عقاب أم لا؟ كما فصلنا

ص: 153


1- ولعلها بلغت في هذا الكتاب الخمسين أو تجاوزته.
2- ومنها (غسل الجمعة) و (السواك) و (الحجامة) ومنها أيضاً أمثال (اشهدوا إذا تبايعتم) و (استشهدوا شهيدين من رجالكم) و (أشهدوا ذوي عدل منكم) في الطلاق و (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وغيرها مما عدوا أوامرها إرشادية، فراجع كل تلك العناوين وغيرها في مطاوي الكتاب.
3- راجع تفصيل ذلك في كتاب مباحث الأصول كتاب القطع الجزء الأول عند الحديث عن موضوع علم الأصول وأنه (الأدلة الأربعة بذواتها) أو (بوصف الدليلية) أو هي _ كما ارتضيناه _ (الحجة).

هذاالتفكيك في مبحث آخر.

وقد ذكرنا في مباحث الأصول: (أن الأصولي حيث كان يبحث عن الحجة في الفقه، وحيث كانت أهم حجتين، هما الكتاب والسنة _ لندرة موارد حكم العقل والإجماع _ وكان الكتاب والسنة معتمدين على الظواهر في الأغلب شبه المستغرق من الموارد، فكان لابد للأصولي من أن يبحث عن (الظواهر)، وهل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ وكذا النهي؟ وهل هو ظاهر في المولوية أم لا؟ وإذا كان للإرشاد فهل هو للإلزام أم لا؟، وعن ظهور (المشتق)، و (أسامي) العبادات والمعاملات ووضعها للصحيح أو الأعم، و (أدوات العموم) وغيرها فإنهاوإن لم تكن خاصة بالكتاب والسنة بل عامة فقد يتوهم إنها من المبادئ التصديقية لعلم الأصل..).(1)

ومن البين امتلاء الكتاب والسنة ب(الظواهر) الدالة على الأحكام الإرشادية، واستخدام أدوات العموم أو الإطلاق فيها وكون موضوعاتها من المشتق وغيره.

ص: 154


1- مباحث الأصول كتاب الملازمة، ص117.

خامساً: تعريف علم الأصول

اشارة

فإن تعريف علم الأصول هو:

(العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية) كما هو تعريف المشهور.

أو (العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه الحكم) كما عرفه السيد الوالد.(1)

أو (القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل) كما ذهب إليه الآخوند.(2)

أو (العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية، من دون حاجة ا لى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها).(3)

ص: 155


1- الأصول: ج1، ص18.
2- كفاية الأصول: أوائله.
3- مصباح الأصول: ج1، ص15.

صدق (الحكم) لغة وعرفاً على الإرشادي

ومن الواضح صدق (الحكم) على الحكم الإرشادي الوجوبي أو الندبي، حقيقة، على حسب أكثر تعاريفه العشرة التي أُشير إليها في المبحث السابق.

والظاهر صدقه عليه لغة وعرفاً حقيقة، فإنه يطلق عليه دون حاجة لوجه مصحح أو قرينة صارفة، كما أن وصفه ب(الإرشادي) تمييز له عن (المولوي) بالمعنى الأخص(1) أو فقل عن (التكليفي) بل و (الوضعي) وليس قرينة مجاز.

وذلك لما ذكرناه مراراً من أن المولوية والإرشادية ليسا جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل هي دواعٍ للاستعمال كما ذهب إليه الآخوند، وأوضحنا هنالك الحال أيضاً على سائر الأقوال.

بل إن تعميم مسائل الأصول، التي مهدت (القواعد) لاستنباط أحكامها، لِما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل، أي للأصول العملية _ كما صنعه الآخوند _ وهو ما يقبله الآخرون وإن لم يعبروا بهذا التعبير، بل ارتاؤوا شمول (الحكم) للوظيفة بإرادة المعنى الأعم منه(2)، يمكن

ص: 156


1- قد أوضحنا في مكان آخر أن المولوي بالمعنى الأخص قسيم للإرشادي، وأن المولوي بالمعنى الأعم مقسم لهما _ أي للمولوي بالمعنى الأخص ولأحد قسمي الإرشادي _ وهو المولوي النصحي.
2- قد فصلنا معنى (الحكم) وتعاريفه على المباني المختلفة في موضع آخر فليلاحظ، فإنه على أكثرها يشمل (الوظيفة) أيضاً ومنها (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) ومنها (المحمولات الشرعية) إلى آخره، بل إن عدم شموله غير ضار؛ لأن ملاك إدخال (الحكم) في الفقه هو نفسه ملاك إدخال (الوظيفة) فيه.

الاستناد إليه(1) أيضاً في عدم الحصر في الحكم بالمعنى الأخص وصحة شموله للإرشادي _ فتأمل.فيكون تعريف الأصول على هذا _ حسب تعريف المشهور _ (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية المولوية والإرشادية والوظائف العملية) أو (العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه الحكم المولوي أو الإرشادي أو الوظيفة) ويضاف الشق الثالث لتعريف الآخوند أيضاً وهكذا.

ولا أقل من أن حالها حال مباحث المشتق والصحيح والأعم.

ص: 157


1- من حيث ظهور أن الملاك ليس صدق (الحكم المولوي) بل الملاك هو (حكم فعل المكلف) مولوياً كان أو إرشادياً (حكماً) كان بالمعنى الأخص أو (وظيفة)، فإن المدار (فعل المكلف) من حيث مسؤوليته أمام الشارع، أو من حيث (اعتبارٍ) للشارع قد تعلق به، أو من حيث (الوظيفة) بالمعنى الأعم.

كافة البحوث الأصولية جارية في الأحكام الإرشادية

ثم إن كل البحوث المطروحة في (الأصول) جارية في الأحكام الإرشادية كجريانها في الأحكام المولوية تماماً.

مباحث الأصول: خمسة أقسام

بيان ذلك:

إن مباحث علم الأصول تنقسم إلى خمسة أقسام:

1- مباحث (الألفاظ): كمباحث المشتق، والصحيح والأعم، والأوامر والنواهي: كظهور الأمر في الوجوب، وظهوره إذا وقع عقيب الحظر في الإباحة، وكذا كون العام المخصص بالمنفصل _ أو حتى المتصل أيضاً(1) _ ظاهراً في تمام الباقي.

2- مباحث (الحجج اللفظية): وهي (الحجج) بالمعنى الأخص أي الأدلة الإجتهادية، كخبر الواحد والشهرة والإجماع المنقول وحجية أحد

ص: 158


1- أو العكس _ أي من حيث الترقي.

الخبرين عند التعارض، وحجية الظن الإنسدادي على (الكشف)، إذ عليه يمكن عده من الحجج اللفظية، لا على (الحكومة)، لأنها بتقرير (الكشف) تبتني على دعوى الإجماع على عدم رضى الشارع بالامتثال الإجمالي والاحتياط، أو على اتخاذ الاحتياط هو القاعدة والمسلك العام، وتفصيله في مظآنه، وكذا حجية ظواهر الكتاب لغير من خوطب به.

3- مباحث (الحجج العقلية): وهي مباحث (الاستلزامات) كالتلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته وكذا استحبابه واستحبابه، وبين الأمر بالشيء والنهي عن ضده.

4- مباحث (الأصول العملية الشرعية): ك(رفع ما لا يعلمون) للبراءة الشرعية و (أخوك دينك فاحتط لدينك) للاحتياط الشرعي، و (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً) في صحيحة زرارة، ونظائرها في سائر صحاحه، للاستصحاب.

5- مباحث (الأصول العملية العقلية): ك(الاحتياط) لدى الشك في العنوان والمحصل وأطراف العلم الإجمالي، و (قبح العقاب بلا بيان)، وكالظن الانسدادي على (الحكومة)، وإن كان يمكن عد الأول والأخير، من الثالث(1)، كما يمكن عد (أخوك دينك) من الرابع ومن الثاني، على حسب متعلقه.(2)

ص: 159


1- أي مباحث الحجج العقلية.
2- من (الرابع) كما في الشبهات البدوية فإن الاحتياط عندئذ على فرضه أصل عملي ووظيفة وليس طريقاً ومن (الثاني) كما في أطراف العلم الإجمالي فإنه طريق لإحراز الواقع _ فتأمل.

الإرشادية والمولوية، دواعي أو معاني أو..؟

وهذه كلها كما تجري في الأوامر المولوية تجري في الأوامر الإرشادية، خاصة على مسلك الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي من انقسامها إلى الواجب والمندوب، فكيف على مسلكنا من كون (الإرشادي) من (المولوي بالمعنى الأعم) كما فصلناه في موضع آخر.وذلك سواء التزمنا بأن الإرشادية والمولوية والتهديد والتعجيز وغيرها، دواعي، وليست من معاني الصيغة، بل ولا مما استعملت فيها، لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز، بل استعملت في (إنشاء الطلب) فقط، كما هو مسلك الآخوند.(1)

أم التزمنا بأن الصيغة قد استعملت في معاني عديدة بنحو الاشتراك اللفظي كما لعله المشهور.

أم قلنا بأنها حقيقة في (إبراز اعتبار الفعل على ذمة المخاطب) ومجاز في غيره كما اختاره المصباح.

إلا أن الأمر على (مسلك الآخوند) و (الاشتراك اللفظي) أوضح، وعلى (المجاز)، فالأمر كذلك بعد القرينة.(2)

بل قد يقال: في كلا الأمرين المولوي والإرشادي (اعتبار للفعل على ذمة المخاطب وقد أبرز باللفظ) وقد أوضحناه في موضع آخر.(3)

ص: 160


1- كفاية الأصول/ حسب (الوصول إلى كفاية الأصول) ج1، ص415 _ 417.
2- أي بعد فرض تحقق (الموضوع) وهو الأمر الإرشادي، ببركة القرينة، فيبحث عن ظهوره في الوجوب مثلاً، وعن التلازم بينه وبين وجوب مقدمته.. الخ.
3- إذ ذكرنا أن الإرشادي ينقسم إلى الوجوبي والندبي وذكرنا أيضاً فرق الوجوب الإرشادي عن الوجوب المولوي.

جريان الأقسام الخمسة في الأوامر الإرشادية

وتوضيح الجريان:

اشارة

إن البحوث السابقة في العناوين الخمسة كلها جارية في الأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية وذلك:

1- جريان مباحث الألفاظ

كجريان مباحث الألفاظ في الأوامر والنواهي والأحكام المولوية حذو القذة بالقذة، إذ يبحث: هل الأمر الإرشادي ظاهر(1) في مطلق الطلب، أو في الوجوب أو الندب، أو مشترك لفظي، أو كالمشترك(2) وماذا لو وقع عقيب الحظر الإرشادي بل المولوي؟

وما هو ظهور العام الإرشادي المخصّص بالمنفصل أو المتصل؟وواضح أن (المشتق) الأصولي(3) هو مما يتعلق به الأمر الإرشادي كالمولوي، فتجري فيه مباحثه، فهل هو حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أم فيما انقضى عنه، بل وحتى فيما سيتلبس، لكن بلحاظ

ص: 161


1- أي إما لأنه أحد أصناف (إنشاء الطلب) حسب الآخوند فيجري عليه ما جرى علي كلِّيه، أو لأنه أحد المعنيين أو المعاني الحقيقية المستعمل فيها فجرى ذلك كله فيها، أو لأن البحث _ على القول الثالث _ في ظهوره المجازي _ أي بعد القرينة _ في ماذا؟ بل قد يقال بشمول (إبراز اعتبار الفعل في ذمة المخاطب) للأمر الإرشادي، فهو حقيقة فيه لا مجاز؛ إذ لا فرق بين المولوي والإرشادي على مسلك الشيخ من كون الإرشادي للوجوب والندب أيضاً، من حيث كونه اعتباراً للفعل في ذمة المكلف.
2- كالمشترك بلحاظ القول الثالث إذ لا وضع بل هو مجاز لكنه كالمشترك مآلاً _ فتأمل.
3- وهو أعم من المشتق اللغوي والنحوي كما لا يخفى.

حال التلبس؟

وكذا (الصحيح والأعم) سواء في ذلك أسماء العبادات أم المعاملات، كلما وقع أحدها متعلقاً للأمر الإرشادي.

2

2- جريان مباحث الحجج اللفظية

كما تجري مباحث الحجج اللفظية ك: هل خبر الواحد (حجة) في الأحكام الإرشادية، وكذا الشهرة والإجماع المنقول؟

ولعله يقال بأن الأمر فيه أسهل وأهون وأن العقلاء يتوسعون في ضوابط حجيته نظراً لارتفاع(1) العقاب فيه، أكثر، وتفصيله في محله، ولعلنا نوفق له في المجلد الثاني بإذن الله تعالى.

وهل (حجيته) شرعاً هي بنحو المولوية أو الإرشاد؟

وبعبارة أخرى: هل هي (تعبديه)، أم صرف إرشاد لبناء العقلاء مع تصرف الشارع فيه بتوسعة أو تضييق أو لا؟

وبعبارة أخرى: فإن البحث عن (الحجية) ومعانيها، جارٍ في الدال على الحكم الإرشادي كجريانه في الدوال على الحكم المولوي؟

نعم يجري بعض معاني (الحجية) العشرة في (الخبر الدال) عليه، لا كلها.

ص: 162


1- لكن من دون تجرده عن المصلحة والمفسدة والنفع والضرر _ وحتى الملزمين منهما _ كما لا يخفى، بل وكذا من دون التجرد عن إعمال مقام المولوية لما فصلناه في موضع آخر من أن في الإرشادي في الجملة أيضاً نحو إعمالٍ للمقام، وقسمنا الأمر إلى المولوي _ التشريعي والمولوي _ النصحي.

فإن (الحجة) بمعنى (الكاشف التام(1) أو الناقص) أو بمعنى (الانكشاف) على ما ذهب إليه الأصفهاني في معنى الحجية، جار.

وكذلك بمعنى (ما يحتج به المولى على عبده و بالعكس) وهو المعنى اللغوي فإن (الإحتجاج) أعم مما يترتب عليه العقاب، بل استحقاقه.

وبمعنى (ما تلزم الحركة على طبقه) جار أيضاً، على مسلك الشيخ من كون الإرشاد للوجوب أيضاً.

وبمعنى (ما يقع أوسط في القياس) وهو ما انتخبه الشيخ معنى للحجية، وهو المعنى المنطقي للحجية، جارٍ أيضاً.

كما أنه يجري أيضاً على حسب تعريف الميرزا النائيني للحجة إذ عرفها ب(الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات، التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه)(2)، وذلك بأدنى تصرف، إذ قد فصلنا في موضع آخر تحقق (الجعل الشرعي) في الأحكام الإرشادية _ الوجوبية والندبية وقسيماهما.ولكن: لا يجري مبحث (الحجية) في الأحكام الإرشادية على معنى (المنجزية والمعذرية) وهو مسلك الآخوند، إذ لا عقوبة في الإرشادي، وإن كان للوجوب كما أسلفنا بيانه.

ص: 163


1- أي عن الواقع وأحكام الشارع، أو عن مراد المتكلم.
2- فوائد الأصول، تقريرات المحقق الكاظمي: ج3، ص7.

اللهم إلا لو أريد بالتنجيز والتعذير معنى أعم.(1)

نعم يبقى أن بحث معنى (الحجية) والدليل على إرادة أيها، فإنها من المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأصول، وهذا جار على كلا تقديري كون مؤدى (الحجة) أمراً مولوياً أو إرشادياً.(2)

وكذلك هل (الظن الإنسدادي) على الكشف، حجة في الإرشادي كالمولوي؟ وماذا لو تعارض خبران إرشاديان أحدهما موجب والآخر محرم مثلاً؟ وهل ظواهر الكتاب من أوامر ونواهي إرشادية، حجة لغير من خوطب بها؟ وهكذا.

3- جريان مباحث الاستلزامات

كما تجري مباحث الاستلزامات ومطلق الحجج العقلية، فهل يستلزم وجوب الشيء إرشادياً وجوب مقدمته؟ واستحبابه استحبابه؟

وكذلك هل الحكم بالاستلزام _ لورود حكم به _ مولوي أو إرشادي.(3)

ثم هل (وجوب المقدمة)(4) مولوي؟ أو إرشادي؟

ص: 164


1- كاستحقاق العتاب والملامة فإنه متحقق في مخالفة الإرشادي _ الوجوبي.
2- وقد فصلنا الحديث عن (الحجية) ومعانيها العشرة والرأي المنصور في مباحث الأصول _ كتاب القطع.
3- فبما هو مولى يحكم بالاستلزام، أو إنه مرشد له فقط وكاشف عن الترابط تكويناً؟ راجع للتفصيل: (مباحث الأصول: قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع).
4- أي لما كان ذو المقدمة مأموراً به بالأمر الإرشادي، بل مطلقاً، فلو أوجب ذو المقدمة فهل تجب المقدمة _ لو تعلق بها أمر _ مولوياً أم إرشادياً؟ وبعبارة أخرى: هل يحكم الشرع حكماً ثانياً _ بعد حكم العقل _ مولوياً بما حكم به العقل؟ بل هل يعقل ذلك؟ أو إنه يرشد له؟ وهناك صور عديدة ذكرناها في بحث الملازمة من الأصول.

وهل وجوب مقدمة (الواجب الإرشادي)، بالإنبساط، أم الترشح، أم بمعنى اللابدية العقلية فقط؟

وهل يستلزم الأمر بالشيء إرشادياً، النهي عن ضده؟

وهل يجتمع الأمر والنهي الإرشاديان في شيء واحد؟

وغير خفي أن بعض أدلة الإمكان والامتناع جارية في المقام.

وهل يجتمع الأمر المولوي والنهي الإرشادي أو العكس؟

4- جريان مباحث الأصول الشرعية

وكذلك مباحث الأصول العملية الشرعية، إذ يبحث عن: جريان البراءة الشرعية عن (الحكم) و (الوجوب) أو (الحرمة) في الإرشادي؟ وإن لم تجر عن العقاب؛ إذ الفرض أنه لا عقاب.

وهل (البراءة الشرعية) إرشاد لحكم العقل أم أنها (مولوية)؟

أي هل إنه بما هو مولى قد رفع الأحكام بقوله (رفع ما لا يعلمون) مثلاً أو إنه بهذه الجملة ونظائرها أرشد إلى حكم العقل فقط؟وتظهر الثمرة في التمسك بالإطلاق والتقييد؛ إذ يصح على المولوية دون الإرشادية؛ إذ على الإرشادية يكون المرجع هو الدليل اللبي وهو مما لا إطلاق له، إلا أن يعد إطلاق الدال كاشفاً عنه _ فتأمل، وقد فصلناه في موضع آخر.

كما يجري (الاستصحاب) في الحكم الإرشادي فبناء على إرشادية (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) كما ذهبوا إليه فلو شك

ص: 165

في شموله للدين الضئيل أو للكتابة ولو بالآلة، أو إذا تداين الأب من ابنه، فهل يتمسك بالإطلاق(1) لشموله له؟ _ وهذا مثال للإطلاق _ وهو من القسم الأول. وأما مثال الاستصحاب فهو: كما لو شك في الشبهة الحكمية في استمرار حكم (اكتبوه) لمن لم يكتبه حين الاستدانة، للأزمنة اللاحقة، إذا لم يستفد حكمه من إطلاق الآية نفسها لمكان (إذا) فتأمل، فهل يستصحب؟

وكذلك البحث في آية «وأشهدوا إذا تبايعتم» و «استشهدوا شهيدين من رجالكم» و «أشهدوا ذوي عدل منكم» على مبناهم من كونها الإرشادية، والبحث جار كذلك عند الشك في المقتضي والمانع؟(2) وكليهما عند الشك في كل من وجود المانع أو مانعية الموجود؟(3) وهل هو حجة بالنسبة لمثبتاتة العقلية والعرفية

ص: 166


1- أي إطلاق (بدين) لمقدمات الحكمة، وإطلاق (اكتبوه) وإطلاق (تداينتم).
2- ومثاله الظاهر أوامر الطبيب، فلو شك في بقاء المرض، فهل يستمر بالعلاج؟ وهو شك في المقتضي، فلو لم يجر الأصل في الموضوع _ وهو المرض _ لسبب من الأسباب كتعارض الحالين ومجهوليتهما، فهل يجري في الحكم الإرشادي وهو وجوب العلاج مثلاً، وكذلك لو شك في بقاء الضياء للشك في مقدار الدهن أو للشك في إطفاء الريح _ كما مثل بنظيره الشيخ قدس سره، فلو شك في بقاء الإضاءة المأمور بها أمراً إرشادياً للشك في المقتضي أو المانع فهل يستصحب موضوع الحكم الإرشادي؟ وهل له استصحاب الحكم الإرشادي؟
3- كما لو شك في أن ما استجد عليه من الحالات رافع لتأثير الدواء السابق _ مثلاً ومانع عنه أم لا؟ أو شك في وجود المانع من رأس.

كالشرعية أم لا(1).. إلى غير ذلك من البحوث.(2)

وكذلك (الاحتياط)، سواء في الشبهات البدوية، أم في أطراف العلم الإجمالي بوجود حكم إرشادي؟ وكذلك الأمر في (التخيير) فليتدبر.

5- جريان مباحث الأصول العقلية

وكذلك جريان (الأصول العقلية) وذلك كجريان (البراءة العقلية) لكن لا عن العقاب _ إذ لا عقاب في الإرشادي _ بل عن العتاب؟ إذ قد ذكرنا في موضع آخر: أن العقل لا يحكم بقبح العقاب بلا بيان فقط بل بقبح العتاب والملامة بلا بيان أيضاً. وقد اقتصروا على الأول؛ لأنه هو الضرر الأجلى، أو لأنه الأكثر ابتلاءً، أو لأن مطمح نظرهم كان المؤمّن من العقاب، أو للغفلة، أو لشبه ذلك كتعميم العقاب للعتاب فإنه من مراتبه.وكذلك جريان (الاحتياط) لدى الشك في العنوان والمحصل للحكم الإرشادي وفي أطراف العلم الإجمالي وهل (الظن الإنسدادي) على الحكومة، حجة في الإرشادي كالمولوي؟

ص: 167


1- نظراً لكون (الحكم الإرشادي) مجعولاً للمولى لما سبق تفصيله من أنه (اعتبار) منشأ وموجَد أو مبرَز _ على الرأيين _.
2- كاستصحاب الشرائع السابقة في أوامرها ونواهيها الإرشادية _ الوجوبية أو الندبية أو التحريمية.

تلخيص فيه تحصيل وتفصيل

والحاصل:

إنه لا يخلوا إما أن نقول بأن ما توجه له الأمر أو النهي الإرشادي(1)، مندرج في علم الفقه، كالمولوي منها، أو لا؟

على القول باندراج الأحكام الإرشادية في الفقه

فإن قلنا بالاندراج، فلا شبهة حينئذٍ في أن تشخيص مصاديق كل منها وبيان كونه واجباً إرشادياً أو مندوباً كذلك، على القول بكون الإرشادي ينقسم إلى القسمين أيضاً، كبيان كونه واجباً بالوجوب المولوي أو مستحباً كذلك، يكون من مسائل علم الفقه؛ فإن موضوعه (فعل المكلف _ أو الأعم كما سبق) ومحموله (من حيث الحكم الشرعي) _ وقد فصلنا أعميته من الحكم المولوي والحكم الإرشادي إذا كان للوجوب أو الندب، وعلى هذا يكون بحث (الحجج) على تلك الأحكام و (الأصول العملية) فيها، من مسائل علم الأصول ك(الحجج)

ص: 168


1- أي المأمور به بالأمر الإرشادي أو المنهي عنه كذلك أي (الأحكام الإرشادية).

العقلية أو اللفظية و (الأصول العملية) على الأحكام المولوية، والوظائف.

كما يكون بحث معنى (الحجية) وأيها المراد، من المبادئ التصورية أو التصديقية على المشهور، أو من مسائله على بعض الوجوه التي ذكرناها هنا وفي (مباحث الأصول).

ويكون بحث معنى المولوي والإرشادي وحدود كل منهما، كذلك مبدءً تصورياً، ويكون تحديد (الضابط) مبدءً تصديقياً على المشهور ومسألة أصولية على المنصور.

نعم لو أرشد الشارع إلى أمرٍ، مما لم يكن مولوياً _ نصحياً ولا إرشادياً للوجوب أو للندب(1)، بل لصرف ملاحظة مصلحة المتعلق دون أي دخل لذاته الشريفة فيه ودون أي إعمال إلزام ولو باعتبارٍ غير اعتبار مولويته(2)، فإنه لا يكون من (الفقه) ولا تكون الأدلة عليه من الأصول؛ لعدم انطباق (الحكم الشرعي) عليه عندئذٍ لا حقيقة ولا عرفاً بأي معنى من المعاني العشرة (للحكم) أخذناه، كما سبق.

على القوم بعدم اندراجها في الفقه

وأما على القول بالعدم وأن مؤديات الأوامر والنواهي الإرشادية، خارجة عن (الفقه) فنقول: فلابد من معرفة الضابط للأمرين ثم تطبيقه

ص: 169


1- كما فصلنا الحديث عن هذين النوعين، في موضع آخر.
2- لكن فيه: أن صدق (الحكم الشرعي) على ما أعمَلَ إلزامه دون أي لحاظٍ لمقام مولويته بل لاعتبار آخر _ كأعلميته مثلاً أو رئاسته _ على خلاف القاعدة فلا وجه لإخراجه بهذا القيد، إلا أن يقال: تكفي في الإضافة أدنى نسبة. أو يرجع إلى ما ذكرناه من الأدلة في بحث الاجتهاد والتقليد والتفقه، فليراجع وليتأمل.

على الصغريات، لإدراج ما انطبق عليه ضابط المولوية في الفقه، وغيره، في علم آخر.(1)

فيكون تحديد الضابط مسألة أصولية(2) أو من المبادئ التصديقية لعلم الأصول، وكذلك بحث ظهور الأمر في المولوية أو الإرشادية.(3)إذ يكون حال (الضابط) في كون (الأمر) مولوياً أو لا، حال معرفة الضابط في ما يدل على العموم أو الإطلاق، أو الدوالّ على الوجوب أو الندب، أو الإباحة كالأمر عقيب الحضر، في كونها مسائل أصولية _ كما أوضحناه في عنوان أجزاء العلوم وعنوان مسائل علم الأصول _ فتأمل.

وكذا كون (الأمر) ظاهراً في المولوية أم لا؟ فإنه أوضح؛ إذ وزانه هو وزان هل الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ كما أشرنا له في الهامش أيضاً.

فإن كل ذلك يبحث عنه في علم الأصول بلحاظ (الغاية) منه وهي (الحجة) أو (الإحتجاج) في الفقه _ كما ذكرناه في مبحث الغاية، كما أن (ضابط) المسألة الأصولية ينطبق على المقام وهو _ كما ذهب إليه الميرزا النائيني _ (كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط).(4)

وكذلك تعريفه بأنه (العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها

ص: 170


1- كالأخلاق، وغيره.
2- فإنها لا تختص بالضابط بين صنف داخل وآخر داخل، بل تشمل الضابط بين داخل وخارج.
3- وهذا أقرب لكونه مسألة أصولية وأوضح وهو المنصور، بأن يبحث بعد القول بأن الحكم الإرشادي خارج عن الفقه، وظهور الأمر فيه في الإلزام وعدمه، خارج عن الأصول _ عن إن مطلق الأمر هل هو ظاهر في المولوية أم لا؟
4- فوائد الأصول: ج1، ص19.

صغرياتها، يستنتج منها حكم فرعي كلي).(1)

وقد أشرنا لبعض بحث ذلك في (مسائل علم الأصول) و في (تعريفه) و (موضوعه).

نعم يخرج مبحث ظهور الأمر الإرشادي _ ولو بالأصل، بعد ثبوت إرشاديته بالقرينة _ في الوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، وظهور العام الإرشادي في الشمول، وغيرها عن مسائل الأصول، وكذلك مباحث دلالة الأمر الإرشادي على الفور أو التراخي أو المرة أو التكرار أو غير ذلك.

ص: 171


1- المصدر.

ص: 172

المبحث الخامس: من موارد الابتلاء في (أصول الدين) و(أصول الفقه) و(القواعد الفقهية) و(الفقه)

اشارة

ص: 173

ص: 174

من موارد الابتلاء في أصول الدين

النظر والمعرفة _ للمبدأ وصفاته وما يتعلق به من: بعث الرسل ونصب الأوصياء والمعاد _.

و (الإيمان) و (العدل) و (الإحسان) قال تعالى «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(1) و «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ»(2)، وهذان يرتبطان بموارد الابتلاء الفقهية.و (أوامر الإطاعة)، وهذا يمكن ارتباطه بأصول الدين وبالفقه _ كلاحقه _ تبعاً لمتعلقه.

و (أوامر التوبة) .

وسنفصل الحديث عن هذه العناوين في المجلد الثاني من هذا

ص: 175


1- النحل: 90.
2- الرحمن: 60.

الكتاب بإذن الله تعالى، كما سنترك الحديث حول بعض العناوين الآتية للمجلد الثاني بلطف الله، ونشير إليها ههنا إشارة عابرة فقط، فنقول:

من موارد الابتلاء في (أصول الفقه)

1- البراءة العقلية

اشارة

ومنها: البراءة العقلية و (قبح العقاب بلا بيان)، فهل «رفع ما لا يعلمون» إرشاد إليه، وإلى ما استقل به العقل من رفع العقاب والمؤاخذة، ورفع الحكم في مرحلة الظاهر، عن الجاهل به قصوراً، حسناً ولزوماً.

أو أنه (صادر من المولى بما هو مولى) حسب الملاك السابق في المولوية، أي إنه بما هو مولى رفع ما وَضَعَه مولوياً.

أو إن شئت فقل: هل حديث الرفع تأسيس مطلقاً؟ أو في الجملة؟ أعم من كونه تأسيساً مولوياً ابتداءً أو إمضاءً(1)، أو إرشاد؟ وإن كان يستلزم الإمضاء إلا أنه قد يكون بلحاظه وقد لا يكون بلحاظه _ فتأمل.

فهل الشارع بما هو مولى: قد رفع ما لا نعلمه _ حكماً أو عقاباً _ بهذا الحديث، بل وبمثل قوله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا»(2) و «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»(3) أم أنه مرشد فقط إلى حكم العقل؟

ص: 176


1- وإطلاق (التأسيس) عليه عندئذٍ، فيه مسامحة كما لا يخفى.
2- الطلاق: 7.
3- - الإسراء: 15.

فهو ك«أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(1)، على ما فصلناه في موضع آخر من هذا الكتاب، وسيتضح اختلاف ذلك، حسب الاختلاف في المباني (التسعة) في المولوي والإرشادي، بإذن الله تعالى.

التحقيق: الفرق بين الأقوال في معنى (الرفع)
وتحقيق ذلك:

أن كلاً من (الإرشادية) و (المولوية) محتمل، إذا قلنا بأن المراد من (الرفع):

رفع الحكم في مرحلة الظاهر، لاحتمال كونه إرشاداً إلى البراءة العقلية إذا قيل بأن (قبح العقاب بلا بيان) دال بالبرهان الإني(2) على رفع الحكم في مرحلة الظاهر، أو دلالته بدلالة الاقتضاء عليه؛ إذ لا معنى لبقاء الحكم في مرحلة الظاهر مع رفع العقاب عنه ب(قبح العقاب بلا بيان) فإن دعوى بقائه(3) تساوق كونه بياناً، ومع القول بعدم كونه كذلك(4) فإبقاؤه أي استمرار (اعتباره)، لغو.والأمر كذلك لو قلنا بأن المراد (رفع المؤاخذة) إن لم يَعُد إليه بأن أريد ب(رفع الحكم في مرحلة الظاهر) رفع (مرتبة التنجز).

دون ما إذا قلنا بأن المراد (الرفع) في مرحلة الواقع _ مما قيل

ص: 177


1- - البقرة: 275.
2- فإن رفع الحكم الظاهري ملزوم له، وهو (العلم) ورفع العقاب لازم وأثر ومعلول.
3- أي الحكم في مرحلة الظاهر.
4- أي عدم كونه بياناً.

باستلزامه التصويب(1)_ فإن قاعدة قبح العقاب بلا يبان، لا تتحدث عن رفع الحكم الواقعي، فلا مجال لاحتمال إرشادية حديث الرفع _ على هذا _ إليها.

وأما على ما ذهب إليه الشيخ من أن رفع الحكم المشكوك، إنما هو بعدم إيجاب الاحتياط فالمرفوع بحديث الرفع إذن _ على رأيه _ هو وجوب الاحتياط(2)، فإن (رفع ما لا يعلمون) مولوي، ولا وجه لإرشاديته إذ لا تشمل البراءة العقلية وهي مفاد (قبح العقاب بلا بيان) هذا الاحتياط؛ فإنه لا يقبح إيجابه عقلاً، بل العقل يحسنه، اللهم إلا بناء على القول بأن البراءة (لطف) من المولى بالعبد، فيكون (رفع ما لا يعلمون) إرشاداً إليه، لا إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ويؤيده ظهور كون (رفع) امتناناً.

المراد بالموصول في حديث الرفع

ثم إنه لا فرق فيما ذكر بين ما إذا قلنا بأن المراد من الموصول في (ما لا يعلمون): (الأعم من الحكم والموضوع) بأن يراد «الحكم المجهول» و «الموضوع المجهول» ليشمل الشبهة الحكمية والموضوعية.

أو قلنا بأن المراد به (خصوص الحكم)، وفي هذا سواء قلنا بأن إطلاقه يشمل ما لو كان منشأ الجهل بالحكم عدم وصوله إلى المكلف

ص: 178


1- إذ يستلزمه لو قيل برفعه مرتبة الاقتضاء أو الإنشاء، دون ما لو قيل برفعه مرتبة الفعلية.
2- وقال في موضع آخر: إن المرفوع هو (المؤاخذة) ولعله الأصح نقلاً عنه إذ لا يكفي رفع وجوب الاحتياط، دون رفع المؤاخذة وهي مرتبة التنجز _ وهي الرابعة من مراتب الحكم حسب الآخوند _ اللهم إلا أن يجمع بين كلاميه بإرادته كليهما.

_ وهو المعبر عنه بالشبهة الحكمية _ أو كان منشؤه الأمور الخارجية _ وهو موارد الشبهة الموضوعية _ لتكون نتيجته كسابقه(1)، أو لا.

أو قلنا بأن المراد بالموصول (الفعل الخارجي) أي خصوص الفعل الصادر من المكلف في الخارج، أي الفعل غير المعلوم عنوانه للمكلف، كما إذا لم يعلم بأن شرب هذا السائل شرب ماء أو شرب بول، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.

إلا أن يفصل في البراءة العقلية ويقال بأن: (قبح العقاب بلا بيان) لا يشمل الشبهة الموضوعية؛ إذ بعد العلم بالحكم، يلزمنا العقل بالاحتياط لإحرازه، دون ما لو كان الشك في الحكم نفسه، فيكون على هذا (رفع ما لا يعلمون) مولوياً ناسخاً لحكم العقل بالاحتياط، ولا وجه لإرشاديته، ويبقى أن (رفع ما لا يعلمون) لو شمل الشبهتين _ كما سبق في الفرضين الأولين _ بناء على مولويته في الموضوعية، فإنه قد يرجح ذلك مولويته في الحكمية أيضاً، لئلا يلزم محذور كون حديث الرفع مولوياً وإرشادياً في آن واحد، لكن فيه أن (المولوية والإرشادية) دواعي، وليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه فلا إشكال من هذه الجهة.

هل يشمل حديث الرفع، الدفعَ؟

ثم إنه لا فرق أيضاً بين ما لو قلنا بأن (الرفع) يشمل الدفع أم لا؟ نظراً لأنه ظاهر في إزالة الشيء الثابت، فلا يعم منع المقتضي من التأثير في وجود مقتضاه وهو الدفع.

ص: 179


1- وهو ما إذا أريد بالموصول الأعم من الحكم والموضوع.

لكن فيه: أن (رفع) بصيغة المجهول، يفهم منه عرفاً (الأعم)، فيكون المحصلة على هذا: أن الشارع لم يجعل الحكم الظاهري أو مرحلة التنجز _ ابتداءً _ في حق كل مَن لا يصله الحكم، كما أنه يرفع الحكم الظاهري والتنجز _ بعد وضعه _ عن كل من لا يصله الحكم.

لكن قد يقال: الظاهر منه عرفاً بل دقة أيضاً الدفع لا الرفع فإنه من البداية لم يضع مرتبة التنجز على من لا يصله، لا إنه وضعه ثم رفعه.

بل قد يقال بلغوية الوضع ثم الرفع، فلابد من أراده الدفع من حديث الرفع اللهم إلا لضرب القانون ثم الاستثناء، فلذلك عبر بالرفع. وفائدة (ضرب القانون ثم الاستثناء)، التمسك بإطلاق المستثنى منه لدى الشك _ كما ذكر الوالد على ما ببالي في موضع آخر _.

أو يقال: (الرفع) بلحاظ ثبوت تلك الأحكام في الأديان السابقة ولو في الجملة، فإنه يكفى مصححاً للإطلاق.

أو يقال: إطلاقه عليه مجاز، بعلاقة المشارفة أو الأوْل، فيصح إطلاق (الرفع) على ما إذا تحقق المقتضي مع مقدمات قريبة فكأنه موجود وقد رفع.

على أي فإن الرفع والدفع كلاهما مما يستقل به العقل، فيبقى لإحتمال الإرشادية في حديث الرفع، وجه.

هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً: فالظاهر المولوية، لانطباق الضابط الأول للمولوية عليه، وكذا في ما سبق وسيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 180

اختلاف الحال في الأحكام التكليفية والوضعية

ثم إنه يختلف الحال لو قلنا بأن حديث الرفع خاص بالأحكام التكليفية عما إذا قلنا إنه يعم الوضعية أيضاً؛ إذ إن (قبح العقاب بلا بيان) يقتضي رفع الوجوب أو العقاب لو ترك الواجب المشكوك، ولا يقتضي رفع الجزئية للجزء المشكوك، وإن اقتضى رفع حرمة الترك، وكذلك الحال في كل الأقسام الثلاثة التي ذكرها الآخوند على تفصيل _ وسيأتي تفصيله بعد قليل.

وعلى أي، فإن حديث الرفع لا مجال لدعوى ارشاديته في رفعه للأحكام الوضعية؛ لعدم مشموليتها للبراءة العقلية، ليكون الحديث إرشاداً إليها، نعم هو محتمل المولوية والإرشادية ثبوتاً _ في الأحكام التكليفية.

وقد يمثل لما سبق ب(سببية الإفطار) في نهار شهر رمضان لوجوب الكفارة، فإنه مجرى حديث الرفع ك(حرمته)(1) فلو أُكره عليه أو أُجبر أو كان جاهلاً قصوراً، فإن (الأقوى عدم وجوبها عليه على الجاهل، خصوصاً القاصر والمقصر غير الملتفت حين الإفطار).(2)

لكن هل يقتضي حديث الرفع، رفع السببية؟ الظاهر نعم؛ للتلازم عرفاً بين الرفعين.

ص: 181


1- أي حرمة الإفطار.
2- العروة الوثقى: الصوم، الفصل 6 في ما يوجب القضاء والكفارة، ووافقه السيد الوالد قدس سره والسيد العم دام ظله في حاشيتهما على العروة، والسادة القمي والكلبايكاني وآخرون (رحمهم الله).
البراءة العقلية في التكاليف الإلزامية وغيرها

كما أنه يختلف الحال في بحث آخر وهو: فيما إذا قلنا بأن البراءة العقلية خاصة بموارد الشك في التكاليف الإلزامية، ولا تجري في غيرها، بلحاظ أن ملاكها (قبح العقاب بلا بيان) والتكليف غير الإلزامي لا عقاب عليه.(1)وقلنا بأن البراءة الشرعية أعم، فهي تشمل المستحبات والمكروهات، سواء أطلقنا شمولها لها أم فصلنا بجريانها في التكاليف الضمنية دون الاستقلالية كما ذهب البعض إليه.

فإن (رفع ما لا يعلمون) _ بناءً على ذلك _ مولوي في غير موارد جريان البراءة العقلية أي في غير التكاليف الإلزامية، وإرشادي _ أي محتملة _ فيها(2)، وقد ذكرنا في موضع آخر أن من فوائد (المولوية) صحة التمسك بالإطلاق دون الإرشادية _ على تفصيل.

وبما سبق من مثال حديث الرفع، وبغيره _ كما فصلناه في موضع آخر أيضاً _ يظهر أن بحث المولوية والإرشادية غير خاص بالأوامر والنواهي بل شامل لمطلق الإنشاءات(3) بل وإن كانت بشكل جملة خبرية، فيشمل مثل (رفع ما بيد الشارع وضعه) أي كل (اعتبار) كان أمره بيد الشارع بما هو شارع.

ص: 182


1- وإن كان قد يقال بأن هذا هو المشهور من القاعدة، وإلا فإن أختها هي (قبح الذم أو العتاب بلا بيان) فيشمل (المكروه) أيضاً، وترك المستحب كذلك.
2- أي في الإلزامية.
3- فهل المولى بما هو مولى (يترجى)؟ أو لا، بل بما هو صديق؟ أو بما هو ناصح؟ وكذا (الحض) و (الحث) و (السخرية) و (التسوية) وغيرها _ والحال في (التهديد) بالعكس، أي هل يصدر من (الناصح) بما هو ناصح بعد الفراغ عن صدوره من المولى بما هو مولى؟ فتأمل.
التفصيل بين الأقسام الثلاثة للحكم الوضعي

وعلى هذا فإن بحث المولوية والإرشادية يشمل كل الأحكام الوضعية، سواء قلنا بكونها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو الأحكام التكليفية كما هو رأي الشيخ الأنصاري قدس سره، أم قلنا بكونها مجعولة بالاستقلال، وسواء قلنا بإمكان جعلها استقلالاً أم لا؟

وسواء فصلنا بين ما يمكن جعله استقلالاً بإنشائه، كما يمكن جعله تبعاً للتكليف لكونه منشأ انتزاعه وذلك كالزوجية والملكية والحرية والرقية والحجية والولاية _ وهذا هو ثالث أقسام الآخوند الخراساني قدس سره _ فكل خطاب من الشارع دال على أحدها، يمكن فيه ثبوتاً كونه مولوياً كما يمكن كونه إرشادياً وقد ذكرنا في مطاوي الكتاب آيات وروايات عديدة(1) دالة على هذه الأحكام وفصلنا فيها الحديث.

ص: 183


1- كالآية الشريفة «لكم رؤوس أموالكم» و «لا تَظلمون ولا تُظلمون» و «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» و ما أشبه.

وبين ما لا يمكن جعله تشريعاً أبداً، لا استقلالاً ولا تبعاً للتكليف، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه تكويناً، وذلك كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه، وذلك مثل اعتبار (الدلوك) سبباً لوجوب الصلاة و (الاستطاعة) شرطاً للتكليف بالحج وكذا اعتبار (البلوغ) شرطاً للتكليف بالصلاة و (الحيض) مانعاً عنها، وهذا هو أول أقسام الآخوند.

وقد ناقشنا رأيه بالتفصيل في مباحث الأصول كتاب القطع ج1.

وبين ما يكون منتزعاً من التكليف كالجزئية والشرطة والمانعية لما هو جزء أو شرط أو مانع ل(المكلف به) كشرطية الاستقبال والتستر ومانعية أجزاء غير المأكول، فهو مجعولبتبع جعل التكليف فيمكن جعله بالتبع لا استقلالاً كما هو رأي الآخوند في ثاني أقسامه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول إمكان جعل هذا القسم استقلالاً أيضاً.

وعلى أي حال فإنه على رأي الآخوند فإن المولوية غير متعقلة في أول أقسامه(1) مطلقاً، وهي ممكنة في ثالث أقسامه(2) مطلقاً، والتفصيل جار في ثاني أقسامه فتمكن المولوية تبعاً لا استقلالاً.

وأما على ما صرنا إليه فإنها فيها بأجمعها ممكنة، والإثبات تابع للسان الدليل والقرائن، بعد معرفة الضابط للمولوي والإرشادي.

وبذلك كله ظهر الحال على رأي الشيخ أيضاً، فلا يستشكل بأنه كيف يمكن رفع الأحكام الوضعية أو وضعها مولوياً وهي ليست مجعولة بالاستقلال؟ فلابد من كونها إرشادية؟

إذ الظاهر إمكان المولوية و تبعيتها لمنشأ الانتزاع، فإن جُعِل مولوياً تشريعاً كانت(3) كذلك، أو مولوياً نصحياً كانت مثله، وإن كان صرف النصح كانت كذلك، أو صرف الإخبار فهي مخبر عنها كذلك.

هذا بعض القول في حديث الرفع وتمامه يستدعي مجالاً آخر والله المستعان.

ص: 184


1- وهو الثاني بترتيبنا ههنا.
2- وهو الأول بترتيبنا.
3- أي الأحكام الوضعية.

2- (التخيير)

الأقسام الثلاثة للتخيير

و (التخيير) بأقسامه الثلاثة:

الأول (التخيير الشرعي): كما بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجحات _ وهو تخيير شرعي ثابت بدليل خاص، هو قوله عليه السلام: (إذن فتخير)(1) _ فهل هو مولوي أو إرشادي؟ فعلى القول بالضابط الخامس للمولوية والإرشادية(2)، والقول بأن التخيير في هذه الصورة من المستقلات العقلية، لا السقوط، فإنه إرشادي، وأما على إنكار هذا الضابط والصيرورة للضابط الأول(3) _ كما صرنا إليه _ أو على القول باستقلال العقل بالسقوط، فإن التخيير هنا يكون مولوياً.

والحاصل إن محط البحث هو:هل (إذن فتخير) مولوي؟ بمعنى هل المولى بما هو مولى، أنشأ حكماً اعتبارياً هو (التخيير) أم إنه أرشد إلى حكم عقلي أو قاعدة عقلائية في المقام؟(4)

الثاني: (التخيير العقلي) كما في موارد التزاحم _ ووجود الملاك في

ص: 185


1- بحار الأنوار: ج2، ص245، ح57.
2- الضابط الخامس هو (الإرشادي: كل ما ورد في موطن المستقلات العقلية).
3- الضابط الأول هو (المولوي: ما صدر من المولى بما هو مولى، معملاً مقام مولويته) مع قيد (إذا كان بقصد التشريع) أو لا.
4- وأما بحث أن (إذن فتخير) هل هو مولوي طريقي أو مولوي نفسي؟ فله مجال آخر، ولعلنا نبحثه وأمثاله في الجزء الثاني، وقد بحثنا بعض نظائره _ كالتعلم _ في (مباحث الأصول).

كل منهما مع عدم القدرة على الجمع بدون كون أحدهما أهم _ والأمر فيه أوضح، لاستقلال العقل به، فلو ورد بالتخيير نص، فيجري البحث أنه هل هو مولوي أو إرشادي؟

الثالث: التخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي في مثل (أكرم كل عالم) مع العلم خارجاً بعدم وجوب الجمع بين إكرام فردين منهم، فإنه مخير بينهما عقلاً، فلو ورد نص بالتخيير هنا فهل هو مولوي أو إرشادي؟

ومن القسم الثاني: (التخيير) بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، فيما علم إجمالاً بوجود أحكام كثيرة للمولى، وعدم إهمالها، وعدم صحة إجراء (البراءة) عنها؛ لاستلزامه الخروج من الدين، وعدم إيجاب الاحتياط أو الاجتهاد تعييناً؛ لاستلزامه العسر والحرج، وعدم مرجعية قواعد كالقرعة أو كل أصل أصل في موطنه، فإن التخيير بين هذه الطرق الثلاثة إليها، عقلي، فلو ورد نص به فهل هو إرشادي؟ أم إنه مولوي؟ فعلى الضابط الخامس لا محيص عن الإرشادية وعلى الضابط الثاني(1) والثالث(2) والأول وبعض آخر، فإنه مولوي.

الدوران في التوصليات والتعبديات

ويمكن بيان موارد (التخيير) وتحقيق استقلال العقل في أي واحد منها، بنحو آخر في موارد دوران الأمر بين المحذورين _ مما يمكن فيه

ص: 186


1- الضابط الثاني (المولوي: ما صدر لمصلحة الآخرة) للحاظ مصلحة الآخرة في التخيير بين الطرق الموصلة إليها _ فتأمل.
2- الضابط الثالث (المولوي: ما كان محبوباً للمولى وصدر جهة محبوبيته) لأن محبوبية المؤديات تسري للطرق إليها _ فتأمل.

دعوى استقلال العقل بالتخيير _ إذ أن الدوران:

قد يكون في (التوصليات) مع وحدة الواقعة _ كدوران إنقاذ هذا الغريق بين كونه واجباً أو حراماً؛ لدوران أمره بين كونه مؤمناً محقون الدم أو كافراً حربياً _.

وقد يكون في (التعبديات) مع وحدتها أيضاً _ كما لو دار أمر صلاتها بين الوجوب والحرمة، لاحتمالها الحيض أو الطهر مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب _.

وقد يكون فيهما مع تعددها(1) كما لو أقسم على فعل أمر وترك آخر، ثم اشتبها.

فإن في الصورة الأولى، ذهب صاحب الكفاية إلى التخيير بينهما عقلاً والحكم بالإباحة شرعاً، والتزم المحقق النائيني بالتخيير عقلاً ولم يلتزم بأي حكم ظاهري شرعاً، وقيل بالتخيير شرعاً، وقيل بتقديم احتمال الحرمة؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

والحديث حول هذه الصور الثلاثة وتفصيل الأقوال فيها والمحاكمة بينها طويل فليراجع مظآنه، إلا أن القصد هنا مجرد الإشارة إلى ما يرتبط بالمقام إجمالاً وأنه على القول بالتخيير عقلاً، فإن النص لو ورد بالتخيير فإنه يحتمل فيه الإرشاد والمولوية، وأما على القولبالحرمة أو التخيير شرعاً فلا(2) فتدبر جيداً، ولعلنا نرجع لتفصيل ذلك في المجلد الثاني

ص: 187


1- أي في التعبديات والتوصليات مع تعدد الواقعة.
2- فإنه على الحرمة البدوية فإن (تخيَّر) وارد عليها، فهو مولوي، وعلى التخيير شرعاً، فإنه مولوي على بعض الضوابط، ولعله يعرف مما سبق _ فليتدبر.

بإذن الله تعالى.

من الثمرات

ثم إنه قد يظهر الأثر في عقد القلب وعدمه، أو الرضا والإنكار والتكذيب، أو كونه هتكاً أو لا، لو بنى على عدمه قولاً وفعلاً، أو يتعدى للحرمة وعدمها؟ وسيأتي تفصيل ذلك ووجوه الأخذ والرد فيه مع ذكر ثمرات أخرى عديدة، في الجزء الثاني بإذن الله تعالى، كما وسيأتي في آخر الكتاب بإذن الله تعالى بحث حول الوجوب التخييري للاجتهاد والتقليد في الأحكام الإرشادية، كالمولوية، تماماً، كما سنبحث (التخيير) ومولويته أو إرشاديته، مما أشرنا إليه هنا إجمالاً وتفاصيل أخرى عديدة، في المجلد الثاني إذا شاء الله تعالى.

3- (الاحتياط)

اشارة

و (الاحتياط) فهل قوله عليه السلام «أخوك دينك فاحتط لدينك» (1) مولوي أو إرشادي لحكم العقل أو الفطرة بالاحتياط، فلا عقوبة أخرى _ أو لا وجوب آخر أيضاً _ وراء وجوب العنوان الواقعي المفوَّت بترك الاحتياط ووراء عقوبته.

بل قد يستند في أصل الاحتياط إلى قوله تعالى «اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ

ص: 188


1- - بحار الأنوار: ج2، ص258.

تُقَاتِهِ»(1) و «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2) و «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(3) فإن الحكم بالبراءة في ما شك في حكمه، اقتفاء لما لا علم به، و «لاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(4) فإن من مصاديق (التهلكة) الاقتحام في الشبهة التحريمية، أو ترك العمل بأطراف الشبهة الوجوبية، ذلك أن (عدم الاحتياط) خاصة فيما يتعلق بشؤون الآخرة _ مما أقل أهوالها وعقوباتها، أكبر من أهوال الدهر مجتمعة _ إلقاء للنفس في التهلكة.

وتفصيل بعض الكلام في ذلك:

قبح الاحتياط بالجملة، وحسنه في الجملة

إنه لا ريب في قبح (الاحتياط الكلي الشامل) عقلاً، لا ذاتاً بل لأدائه لاختلال النظام، المختلف باختلاف الوضع العام، وباختلاف الأفراد وحالاتهم؛ فإن الجمع بين كل المحتملات، والأخذ بالاحتياط في جميع الشبهات يؤدي للاختلال عادة، ولاستلزامه العسر والحرج الشديدين المستنكرين عقلاً ولتفويته الأهم عادة.

كما لا ريب في حسنه الذاتي، وحسنه الفعلي فيما لم يؤد للاختلال، ونظائره، وذلك لسببيته لإحراز أغراض المولى، وحسن تحفظ العبد عليها، فكون الاحتياط الشمولي قبيحاً للمحذور الخارجي، لا ينافي حسن التبعيض فيه بالقدر الذي لا يؤدي لتلك المحاذير.

ص: 189


1- - آل عمران: 102.
2- التغابن: 16.
3- - الإسراء: 36.
4- البقرة: 195.

وقوله عليه السلام: (أخوك دينك فاحتط لدينك) لا يراد به الصورة الأولى قطعاً بل الثانية، وحينئذٍ فهل (احتط) إرشاد لحكم العقل بالاحتياط أم هو مولوي؟

ومن ثمراته أنه لو كان مولوياً أمكن التمسك بإطلاقه في موارد الشك، دون ما لو كان إرشادياً(1)ولا إطلاق للمرشَد إليه؛ لأنه لُبّي.

الاحتياط العلمي والاحتياط العرفي

ثم إنه يمكن الاحتياط بوجهين:

الوجه الأول: الأخذ بالاحتياط في جميع الشبهات العرفية، والاستمرار في ذلك إلى أن يبلغ حد الاختلال أو العسر والحرج الشديدين أو مطلقاً أو تفويت الأهم، فيكف عندئذٍ.

الوجه الثاني: الاحتياط في (الأهم محتملاً) أو في (الأقوى احتمالاً)(2) وهما المشار إليهما في الكفاية بقوله: (كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر، ترجيح بعض الاحتياطات، احتمالاً أو محتملاً).

واستقلال العقل بحسن الأخير(3)، لا ينفي استقلاله بحسن الأول، إلا أن الأخير أرجح وأحسن، فهو مرجوح بالنسبة للثاني، راجح في حد نفسه، لكن قد يقال بمرجوحيته(4) لتفويته الأهم.

ص: 190


1- على تفصيل ذكرناه في موضع آخر فليلاحظ.
2- كالموارد التي كان التكليف فيها مظنوناً، لا موهوماً.
3- أي الوجه الثاني للاحتياط بصورتيه.
4- البالغة حد الحرمة أو مجرد الكراهة، وعلى القول ببلوغه حد الحرمة لزم تقييد كلام الآخوند ب(الراجح إلزاماً) أي رجحاناً مع المنع من الترك.

وعلى أي فهل (احتط لدينك) يشمل بإطلاقه الصورتين؟

الظاهر الشمول، فعلى هذا، فإن (الثاني) يحتمل كون (أحتط) فيه مولوياً، ويحتمل كونه إرشادياً؛ لاستقلال العقل به أما (الأول) فإن قلنا ببقاء رجحانه وحكم العقل بحسنه رغم تفويته للأهم، كان كذلك(1) وإلا كان (احتط) بناء على شموله له(2)، مولوياً.

لا يقال: كيف يشمله وقد فوت الأهم؟

إذ يقال: ليس الأهم إلزامياً ليكون تفويته محرماً، بل هو الأحسن، فيكون ككل موارد تزاحم مستحب مع مستحب أرجح _ فتأمل.(3)

الاحتياط في المتباينين والارتباطيين والاستقلاليين

ثم إن حديث المولوية والإرشادية في (أخوك دينك فاحتط لدينك) جارٍ مطلقاً أي سواء كان التردد بين المتباينين، أم بين الأقل والأكثر الارتباطيين، بل والاستقلاليين أيضاً _ وقد فصلناه في مباحث الأصول كتاب القطع _.ولا فرق في ذلك كله بين كون العلم الإجمالي متعلقاً بأصل التكليف فأراد الامتثال، أو كان في مرحلة الامتثال، كما لو علم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين بعد الإتيان بهما فإن عليه إعادتهما، لو لم نقل بجريان

ص: 191


1- أي جرى فيه الاحتمالان.
2- لكن قد يقال إن حكم العقل _ على فرضه _ بمرجوحيته، قرينة على عدم الإطلاق وعدم شموله له.
3- لوضوح أن من موارد (الأهم عقلاً) ما يعد تفويته قبيحاً عقلاً، وممنوعاً عقلاً وشرعاً إلزاماً، بل لعل أكثرها كذلك.

قاعدة الفراغ.

وعلى أي حال، فالبحث هو أن (احتط) مولوي أم إرشادي في هذه الموارد كلها؟، لاستقلال العقل بها أجمع، أو التفصيل لاستقلال العقل بالأول دون الثاني مثلاً.

ثم إن البحث _ في المتباينين _ جار أيضاً بلحاظ بحث (حرمة المخالفة القطعية) كما لا يخفى، بل هو جارٍ على بحث (وجوب الموافقة القطعية)؛ لدعوى استقلال العقل بها أيضاً، فإذا كان مفاد (احتط لدينك) الحرمة والوجوب(1) معاً _ كما هو الظاهر _ أمكن كونه إرشادياً ثبوتاً كمولويته، وإن كانت المولوية والإرشادية هي المتعينة إثباتاً، كما أن البحث من حيث المولوية والإرشادية، في قوله عليه السلام (احتط لدينك) جارٍ أيضاً _ سواء وجوباً أم استحباباً _ وسواء قلنا بوجوبه الغيري أم وجوبه النفسي بدعوى حسنه الذاتي _ على كلا تقديري قولنا بتنجيز العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء كما صرنا إليه في الجملة(2)، وعدمه _ كما هو المشهور _ وسواء طرأ ذلك بعد حصول العلم الإجمالي أم قبله.

ص: 192


1- أي حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية.
2- وتفصيل الاستدلال عليه في مباحث الأصول بإذن الله تعالى، وأشرنا فيما أشرنا إلى أن (بناء العقلاء) على اجتناب أطراف الشبهة المحصورة، لا يختص بما لو كان كلها مورد الابتلاء أو غير مضطر إليه. ألا ترى إنه لو علم بوجود سم قاتل في أحد الإناءين وكان أحدهما بعيداً عنه خارج قدرته على شربه، فإن بناء العقلاء بل حكم العقل يقضي بتجنب الإناء الباقي، ولا يسوغون له شربه بتعلل أن قسيمه خارج مورد الابتلاء _ وتفصيل الأخذ والرد في مباحث الأصول.
جريان البحث في التدريجية وغير المحصورة و...

وسواء قلنا بمنجزيته في الأمور التدريجية، كالدفعية _ بأقسام التدريجية المختلفة _ أم لا، وسواء كانت الأطراف محصورة، أم كانت بحكمها، وذلك كما فيما كان من قبيل شبهة الكثير في الكثير.

نعم في الشبهة غير المحصورة، قد يقال بعدم استقلال العقل بحسن الاحتياط فيها، بل وبعدم شمول (احتط لدينك) فيها _ فتأمل.(1)

وسواء اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف وقلنا بانحلال العلم الإجمالي أم لا.

وفي الأجزاء الخارجية والتحليلية

ثم إن الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين يختلف الأمر فيه بين ما كان من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية، وما كان من موارد الدوران بينهما في الأجزاء التحليلية كالجنس والفصل والإطلاق والتقييد، وذلك حسب الأقوال في المسألة.فإن في الصورة الأولى ذهب الآخوند الخراساني والمحقق النائيني قدس سرهما وجماعة، إلى جريان البراءة النقلية دون العقلية، فعلى هذا فإن (البراءة النقلية) حكم مولوي ناسخ لحكم العقل البدوي بالاشتغال، ولو كان صدر فيها أمر بالاحتياط فرضاً أمكن كونه إرشادياً؛ لحكم العقل

ص: 193


1- إذ الظاهر الحُسْنُ عقلاً في الجملة لكن ندباً، وكذا يمكن دعوى شمول (احتط) له، واستحبابه، على القول بأن الأمر لمطلق الطلب، أو على الاشتراك اللفظي، أو على القول بكونه للوجوب، والقول بتركبه بل حتى القول ببساطته ودلالته على الوجوب في بعض المراتب بالذات، في بعضها على الاستحباب بالقرينة وفيه ما لا يخفى مبنى وبناءً.

بالاشتغال وعدم انحلال العلم الإجمالي، كما أمكن كونه مولوياً.

وأما الشيخ الأنصاري قدس سره فقد ذهب إلى جريان البرائتين؛ لانحلال العلم الإجمالي إلى يقين بوجوب الأقل وشك في وجوب الأكثر(1)، فعلى هذا يمكن كون البراءة النقلية مولوية، كما يمكن كونها إرشادية، ولو فرض شمول (احتط) للمقام، فإنه مولوي ناسخ لحكم العقل البدوي بالبراءة ولا مجال لإرشاديته.

وقال بعض بأنه مجرى قاعدة الاشتغال، ف(احتط) على هذا يمكن فيه كلا الأمرين كما سبق.

هذا كله على مبنى الضابط الخامس في المولوية والإرشادية، دون المبنى الأول المنصور، وبعض المباني الأخرى _ كالثاني والثالث _ فإن عليها لا يختلف الحال في المولوية والإرشادية بين كون المتعلق من المستقلات العقلية أو لا؟ إذ المدار في (الأول) على إعمال مقام المولوية، وفي (الثاني) على (المصلحة الأخروية) وفي الثالث على (المحبوبية) وذلك ظاهر مما سبق ويأتي أيضاً فليلاحظ.

وأما الصورة الثانية: فإن فيها تفصيلاً طويلاً فلتراجع المطولات، ويعرف حال المولوية والإرشادية في صورها المختلفة على الأقوال المتعددة، بلحاظ ما ذكرناه هنا وفي سائر مواضع الكتاب والله المسهل المستعان.

ص: 194


1- ولوجه آخر مذكور في (الأصول) فراجع.

4- (الاستصحاب)

و (الاستصحاب) فقوله عليه السلام في صحيحة زرارة «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(1) هل هو إرشاد لحكم العقل، أم مولوي؟

أم يصار للتفضيل بين (الشك في المقتضي) و(الشك في الرافع)(2) _ سواء وجود الرافع أو رافعية الموجود _ أو التفصيل بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية(3) أو التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية بقسميها الحدسي والحسي، والفرق بين المجتهد والمقلد فيها(4) ، أم غير ذلك من سائر التفاصيل.

وبذلك تظهر الثمرة في تنقيح (حكم العقل) بإبقاء ما كان على ما كان مطلقاً أو في الجملة، إذ لو تم فيجري البحث في أن أمر الشارع بالإبقاء مولوي أم إرشادي، ولو لم يتم فإنه مولوي دون تأمل.

ص: 195


1- التهذيب: ج1، ص321، الباب 22، ح8، وبحار الأنوار: ج2، ص281، الباب 33، ح55.
2- بأن يقال بناء على عدم بناء للعقلاء، وحكم للعقل بالاستصحاب في الشك في المقتضي، مع الذهاب إلى شمول أدلة الاستصحاب النقلية له، بأن حكم الشارع بالاستصحاب في الشك في المقتضي ، مولوي، وفي الشك في الرافع، إرشادي، مع قطع النظر عن ورود إشكال استعمال اللفظ في أكثر من معنى وعدمه.
3- فلو قيل بشمول التقلي لها كلها وعدم شمول العقلي لبعضها ، كان الأمر فيها كالسابق عليها في الهامش السابق _ و قد فصلنا بحث ذلك في (مباحث الأصول _ القطع) بالمناسبة وتمام الكلام فيه في (الاستصحاب) _.
4- فلو قيل بشمول النقلي لها كلها وعدم شمول العقلي لبعضها ، كان الأمر فيها كالسابق عليها في الهامش السابق _ و قد فصلنا بحث ذلك في (مباحث الأصول _ القطع) بالمناسبة وتمام الكلام في في (الاستصحاب) ، وفصلنا في (مباحث الأصول) القول بصحة إجراء المقلد (الاستصحاب) في الموضوع دون الحكم الكلي، ودون الموضوع الحدسي الذي هو من شأن أهل الخبرة _ فليلاحظ.

ولنترك تفصيل البحث عن الأدلة على كون أوامر الاستصحاب مولوية أو إرشادية(1) للمجلد الثاني، إذا شاء الله تعالى.

5، 6- مباحث (الاستلزامات)

اشارة

وكذا مطلق مباحث الاستلزامات ومنها:

5- هل الأمر بالمقدمة مولوي أو إرشادي؟
اشارة

فهل لو أمر الشارع بالمقدمة، فهو أمر مولوي وإن كان غيرياً أو صرف إرشاد؟

بل قد يقال بأن: الأمر بذي المقدمة، أمر بالمقدمات، لانبساطه عليها على قول أو لترشحه منه إليها _ على قول آخر _ وإن لم يصرح بالأمر بالمقدمات، فهل هذا الأمر المنبسط أو المترشح _ المستفاد عرفاً من الأمر بذيها، أو الدال ذلك الأمر عليه بدلالة الإيماء والإشارة _ مولوي أو إرشادي؟

نعم على مبنى إرادة اللابدية العقلية في لزوم المقدمة لا يجري بحث المولوية والإرشادية.

ثم القائل بالوجوب الشرعي، هل يقول به من باب الوجوب المولوي، أو من باب الوجوب الإرشادي _ على القول بوجود النحوين من الوجوب _؟

ص: 196


1- كظهور التعليل في الرواية في كونه تعليلاً بأمر ارتكازي، والاستظهار من (ينبغي) بكونه للأرشاد ، أو ظهور كون التعليل لحكم مولوي سابق، في كون الحكم بالإبقاء، مولوياً، وغير ذلك من وجوه الطرفين ووجوه النقض والإبرام فيها.
رأي الآخوند فيما لو أمر الشارع بالمقدمات

بيان ذلك:

إنه تكرر صدور أمر من الشارع بالمقدمات، وذلك في كل موارد الأوامر الغيرية وغيرها(1) وذلك كقوله تعالى: «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم»(2) وقول الإمام عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة)(3) وقوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»(4).

وقد ذكر الآخوند قدس سره أن من الواضح أن تعلق الأوامر الغيرية في هذه المواطن إنما هو بملاك المقدمية، وأضاف: إن هذا الملاك موجود في غيرها من المقدمات فيكشف بذلك كون الأمر الغيري متعلقاً بكل المقدمات لوجود نفس الملاك.

المصباح: هي أوامر إرشادية

وأشكل عليه في مصباح الأصول بأن: (الأوامر المتعلقة بهذه المقدمات، في الشرعيات والعرفيات، ليست أوامر مولوية غيرية، بل إنما هي أوامر إرشادية إلى الشرطية، بشهادة فهم العرف، فلا وجوب للمقدمات في هذه الموارد كي نتعدى منها إلى غيرها لوجود الملاك فيه) ثم استشهد بالأوامر المتعلقة بالأجزاء كالركوع والسجود، وبالأوامر

ص: 197


1- المراد ب(الأوامر الغيرية) الغيرية المحضة، كوضع السلم للصعود، إلقاء الحبل لإنقاذ الغريق، وكقوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»، والمراد من (غيرها) النفسية _ الغيرية كأوامر الوضوء للصلاة، بل وأوامر الأمر بالمعروف على تفصيل يذكر في محله.
2- المائدة: 6.
3- وسائل الشيعة: ج1، ص373.
4- الأنفال: 60.

المتعلقةبالشرائط في باب المعاملات كقوله تعالى: «وأشهدوا ذوي عدي منكم» الوارد في الطلاق(1)، فإنه إرشاد إلى شرطية حضور العدلين في صحة الطلاق، ومن المعلوم أن الأوامر المتعلقة بالشرائط في باب المعاملات، ليست أوامر مولوية بل إرشادية إلى الشرطية فكذا المقام).(2)

الظاهر صحة رأي الآخوند

لكن الظاهر هو صحة ما ذهب إليه صاحب الكفاية، وذلك بناء على ما فصلناه في مبحث (ضوابط المولوي والإرشادي).

فإنه إن كان ضابط (المولوي) _ كما هو الحق _ (ما صدر من المولى بما هو مولى، معملاً مقام مولويته) فالظاهر أن هذه الأوامر كذلك، وذلك ما يفهمه العرف أيضاً.

ولا يشترط في (المولوية) وجود المصلحة في المتعلق، بل سواء وجد فيه، أو فيما يؤدي إليه _ أي ذي المقدمة _ أم لم تكن هنالك مصلحة أصلاً فرضاً، فإن الأمر مولوي إذا صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته، كما فصلناه عند البحث عن ضوابط المولوية والإرشادية، وبالعكس فإن وجود المصلحة في المتعلق لا يحتم كون الأمر به مولوياً إلا لو أعمل مقامه، بل لو لاحظ في أمره صرف مصلحة المتعلق للعبد، كان إرشادياً.

ص: 198


1- غير خفي أن الطلاق (إيقاع) وليست (معاملة) إلا على التوسعة في معنى (المعاملة) وكان الأولى التمثيل ب(واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الوارد في الدين أو (أشهدوا إذا تبايعتم) الوارد في البيع، نعم بناء على إرادة الأعم من العقود والإيقاعات، من (المعاملات)، لا بأس به، والأمر سهل.
2- مصباح الأصول: ج1، ق1، ص546- 547.

وإن كان الضابط هو (ما أنشأ لمصلحة الآخرة) فكذلك.

وإن كان الضابط هو الثالث أي (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته) كان كذلك أيضاً.

نعم لو كان الضابط هو (ما كان في غير موارد المستقلات العقلية) تمّ ما ذكره المصباح، لاستقلال العقل بوجوب المقدمة _ لا بمعنى صرف اللابدية كما لا يخفى _ لكن قد فصلنا النقاش هناك في صحة هذا الضابط، كبرى، فليراجع.

ويمكن معرفة الحال بناء على سائر الضوابط من مراجعة ذلك الفصل، ونكتفي بالإشارة إلى الضابط التاسع وهو (ما يترتب عليه الثواب والعقاب) فقد يقال بعدم ترتب الثواب والعقاب على المقدمة وحيث قد بحثنا ذلك تفصيلاً في (مباحث الأصول) كتاب (الملازمة بين حكم العقل والشرع) فلا حاجة للإطالة.

الأوامر في المعاملات وغيرها ليست ظاهرة في الإرشادية

وأما ما نظر به من الأوامر المتعلقة بالشرائط في باب المعاملات، فقد فصلنا في موضع آخر من الكتاب، الجواب عنه، ونضيف هنا _ وبإيجاز:

إن الظهور الثانوي في باب العقود والإيقاعات قد انعقد _ كما قيل _ على كون الأوامر والنواهي، إرشادية للشرطية والمانعية وشبههما، وعلى ذلك استقر فهم العرف، كما أشار إليه الوالد في الأصول والأصفهاني

ص: 199

في نهاية الدراية(1)، أما غيرها فلا، بل الأمر والنهي فيها باق على الأصل من الظهور في المولوية، وفهم العرف على ذلك فإن «أعدوا لهم مااستطعتم من قوة»(2) يفهم منه العرف، المولوية لا الشرطية، وكذلك «فاغسلوا وجوهكم»(3)، بل إن استفادة الشرطية، تبعية، بل إن صريح قوله عليه السلام: (وجب الطهور والصلاة) الحكم التكليفي، لا الوضعي وأما تنظيره بأداء الركوع والسجود وغيرهما، فلعلنا نتطرق له صغرى في مجال آخر، على أنه قياس مع الفارق كما لا يخفى.

ولا يخفى جريان تلك البحوث في مقدمة (المستحب) أيضاً، وفي مقدمة المكروه، كذلك.

أقسام مقدمة الحرام

وأما مقدمة الحرام، فالظاهر أن العقل يستقل بحرمة مقدمة الحرام، سواء كانت علة تامة للوقوع في الحرام أم كانت مقتضياً لوقوعه(4) بحيث يمكن المكلف ترك الحرام رغم إتيانه بتلك المقدمة(5) فقد يقال بإرشادية (النهي) لو تعلق بها _ في الصورتين _ نظراً للالتزام بالضابط الخامس في المولوية والإرشادية، لكنه باطل مبنى، كما فصلناه في فصل ضوابط

ص: 200


1- وإن ناقشنا فيه، في الجملة، في موضع آخر فليلاحظ.
2- الأنفال: 60.
3- المائدة: 6.
4- وقد يقيد بما إذا كانت مقدمة موصلة وإلا كان تجرياً فقط.
5- ولا يهم (العقل) كون المفسدة في ذيها لا فيها، في استقلاله بالحرمة والمنع كما نشاهد ذلك من أنفسنا بالوجدان.

المولوية والإرشادية، فاللازم ملاحظة لسان الدليل وأنه صدر من المولى بما هو مولى أو بما هو ناصح _ حسب ما صرنا إليه من الضابط الأول.

ولعل لذلك(1) التزم المحقق النائيني بأن المقدمة في الصورتين محرمة، لكنه فصّل فقال: بالحرمة النفسية في الصورة الأولى لا الغيرية، واحتمل كلاً من الحرمة النفسية نظراً للتجري والغيرية نظراً لترشحها من ذي المقدمة، في الصورة الثانية.

وعلى أي فإن ما يهمنا هو: أن النهي المتعلق بمقدمة الحرام، مولوي في الصورتين، ولا يهم بعد ذلك _ فيما هو المقصود في المقام _ كون الحرمة نفسية أو غيرية.

نعم القسم الثالث من مقدمة الحرام وهو (ما لم تكن المقدمة علة تامة للحرام، بل كانت مقتضياً فقط، ولم يقصد المكلف التوصل بها للحرام) _ وهو ما حكم فيه النائيني بعدم الحرمة _ الظاهر لزوم التفصيل فيه بين ما لو وقع في الحرام بعدها أو لا(2)، فإن لم يقع فالأمر كما قال، وإن وقع، فقد يقال بالحرمة إذا احتمل المكلف أداءها إلى الحرام، وإن لم يقصد التوصل به، وعلى ذلك بناء العقلاء _ فتأمل، وتفصيله في بحث المقدمة الموصلة.

وعلى أي فإن محور البحث عنا هو أن العقل لا يستقل بقبح هذا النوع من المقدمة _ أما مطلقاً كما صار إليه النائيني، أو فيما إذا لم

ص: 201


1- أي لظهور إعمال المولى مولويته في المنع عن مقدمة الحرام؛ إذ لو كان صرف إرشاد لما كان حراماً نفسياً بل ولا غيرياً فتأمل.
2- كما أشرنا إلى جانب من التفصيل في القسم الثاني أيضاً، لكن في الهامش.

يقع ذو المقدمة، أو وقع ولكن إذا لم يحتمل أداءها للحرام فقط، كما صرنا إليه _ ومع عدم استقلاله بالقبح، فإن النهي لو ورد، فإنه سيكونمولوياً، أيضاً، على الأصل وإن أمكن كونه إرشادياً _ إذا أخذنا الضابط الخامس هو المحور _.

6- هل النهي عن (الضد) مولوي أو إرشادي؟
اشارة

وكذلك لو نهى عن الضد فهل هو نهي مولوي أو إرشادي؟ للزوم اللغوية وتحصيل الحاصل مثلاً، من المولوية بعد الأمر بضده الأول.

والبحث جارٍ على كلا القولين: من كون الغرض صرف الوجوب الثابت في الإرشاد أيضاً، أو كونه استحقاق العقاب أيضاً.

بيان ذلك:

إن البحث في الإرشادية والمولوية(1) جار سواء كان البحث عن (الضد الخاص)، أم كان البحث عن (الضد العام).

المباني الثلاثة في معنى الاقتضاء

نعم يختلف الحال، على المباني في معنى (الاقتضاء) في قولنا (الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد العام) _ وهو الترك _.

1- فقد يقال: يراد به أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن تركه، ف(صل) هو عين (لا تترك الصلاة) إثباتاً، وثبوتاً _ على تفصيل _.

2- وقد يقال: يراد به أنه يدل عليه بالتضمن؛ بدعوى تركب

ص: 202


1- أي إرشادية ومولية النهي عن الضد.

الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك.

3- وقد يقال: يراد به إنه يدل عليه بالإلتزام.

فعلى الأول: فقد يقال: إن الأمر لو كان مولوياً كان النهي عن تركه كذلك، وكذا لو كان إرشادياً، للعينية، لكن ليس كذلك لو ورد نهي لفظي آخر عن الترك _ كما سيأتي.

لا يقال: لو كان النهي عن الترك مولويا، لزم تحصيل الحاصل واللغوية وسائر المحاذير التي ذكرت، فيما لو كان أمر (الإطاعة) مثلاً مولوياً؟

إذ يقال: إنه مع قطع النظر عن الأجوبة التي فصلناها في رد دعوى كون الأمر في المشبه به، إرشادياً بتوهم تلك المحاذير، فإنه حتى على قبول الدعوى إلا أنها غير جارية في المقام لفرض العينية.

إلا أن يقال بجريان تلك المحاذير في (الأمر بعد الأمر) أيضاً، وقد أجبنا عنه هنالك أيضاً، لكن العمدة في الجواب هو أن مرادهم من (العينية) هو أن الأمر بالشيء بنفسه، عين النهي عن ضده العام، وليس هذا مورداً للإشكال، فإنه لا شك في أنه لو كان هذا مولوياً كان ذاك كذلك؛ لأنه هو، بل مورد البحث والنقض والإبرام هو: ما لو ورد نهي عن ضده العام، فهل هو مولوي أو لا؟ وهذا هو النظير للأمر بعد الأمر.

لكنه كما ترى غير كلام مدعي العينية؛ إذ لا ريب في تغاير هذا النهي مع ذاك الأمر ذاتاً، ولا يتوهم إرادة العينية فيها في حقه _ فيقع فيه البحث أنه مولوي أو إرشادي؟

ص: 203

والأمر على الضابط الأول الذي ارتضيناه، واضح، واختلافه على سائر الضوابط والأقوال، بيّن أيضاً، ويظهر مما سبق وسيأتي خاصة عند تطبيق الضوابط التسعة على بحث الاحتياط، فليلاحظ.

وأما لو قيل بالتضمن، فإنه يمكن أن يكون (طلب الفعل) مولوياً و (المنع عن تركه) إرشادياً، وإن جمعا في لفظ واحد؛ لأنه اعتبار وهو خفيف المؤونة.

وسيتضح أكثر بما سنشير له بعد قليل فيما لو قيل بالالتزام.هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً فالظاهر وحدة السياق والمساق، نعم لو قيل _ على خلاف هذا المبنى _ ببساطة الوجوب؛ فإنه الطلب الشديد، لما كان محيص عن دلالته على المنع من الترك بالالتزام لا بالتضمن، فيندرج في العنوان الثالث الآتي.

وأما لو قيل بالالتزام، فيجري بحث المولوية والإرشادية إذ يمكن كلاهما، إذ لا ضير في أن يلاحظ المولى العارف بأن أمره بالشيء يستلزم النهي عن ضده العام أي الترك، أمره بالشيء مولوياً، ونهيه عن ضده _ المنشَأ بنفس إنشاء أمره _ إرشادياً، أي يعمل مقامه في الأول دون الثاني، فلا وجه لتوهم عدم إمكان التفكيك بين اللازم والملزوم من هذا الحيث(1)، كما يمكنه إعمال مقامه في الطرفين دون لزوم محذور لزوم تحصيل الحاصل أو اللغوية كما فصلناه في محله فليلاحظ.

والأمر أوضح لو نهى عن الضد، بكلام آخر.

ص: 204


1- أي حيث المولوية والإرشادية.
7- وحسن أو وجوب (رفع التكليف لدى العجز)، والمراد بالرفع هنا الأعم من الرفع والدفع.

قال تعالى « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا»(1) و «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا»(2) .

8- وحسن ووجوب (رفع التكليف بالإكراه).

قال تعالى «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ»(3) وقال صلى الله عليه وآله في صحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه و...».(4) ، وقد أشرنا لبعض مباحث حديث الرفع في هذا الكتاب، ولبعض مباحثه في (مباحث الأصول _ القطع)، ونترك تفصيل الكلام حول هذين، لموضعه بإذن الله تعالى.

9- وحجية مطلق الظن الانسدادي على الحكومة

و (مطلق الظن الانسدادي) على الحكومة استناداً لدفع الضرر المظنون(5) الحاكم بقبحه العقل، والناشئ من ترجيح المرجح ، والدال

ص: 205


1- البقرة: 286.
2- الطلاق: 7.
3- النحل: 106.
4- وسائل الشيعة: ج15، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، ص369، ح1.
5- لا يخفى أن هذا الوجه دليل مستقل، قسيم لدليل الانسداد ، وما سيأتي من (أو استناداً إلى استقلال) هو المعدود من مقدمات دليل الانسداد.

عليه الشرع، قال تعالى «أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ»(1) ، فتأمل(2) بل يكفي الموهوم منه إذا كان في الشؤون الخطيرة، وشؤونالآخرة، فيما يرتبط بالتكاليف كلها، منها _ أو استناداً إلى استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح، فيستقل العقل تبعاً لذلك بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة إجمالاً.

فلو تمت مقدمات الانسداد، وأفادت حجية مطلق الظن، وقلنا بأن نتيجتها حكم العقل بحجيته، ثم دل من الشارع دليل _ ولو كان قاعدة الملازمة(3)_ فتأمل، على حجية (الظن المطلق) أو بعض أقسامه(4)، فإن كلام الشارع عن الحجية وإن كان ظاهره جعلها، لكنه إرشاد لحكم العقل، وليس مولوياً على على عدد من المباني في ضابط المولوية والإرشادية(5)، سواء(6) كان ما دل من الشارع على حجية الظن خاصاً(7) كقيام خبر واحد على حجية (الشهرة) مع القول بانسداد باب

ص: 206


1- المطففين: 4.
2- إذ بعض الروايات فسرت (يظن) في الآية ب (يعلم) أو ( يوقن) فهي أجنبية عن المقام، اللهم إلا أن يقال بأنه تفسير بالأجلى والأخص، إذ مطلق الظن _ بل الاحتمال بأنهم يبعثون _ يكفي في منعهم من التطفيف ، فكأن الله تعالى قال: دعهم لا يوقنون بذلك فرضاً لكن ألا يظنون؟ _ والله العالم.
3- على تفصيل ؛ حيث أشكل الآخوند في إمكان قيام قاعدة الملازمة في المقام على ذلك ، وقد تطرقنا لكلامه والجواب عنه في (مباحث الأصول _ القطع) ، كما بحثنا الكلي الذي استند إليه وجوابه في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم الشرع و حكم العقل).
4- والفرض أن دليل الشارع على حجية هذا الظن لم يُفِد علماً ، ولم يكن علمياً.
5- كمبنى أن كل ما استقل العقل به ، فإن ما يرد من الشرع حوله فهو إرشادي، وتفصيل ذلك وغيره يلاحظ في مبحث الضوابط.
6- تفصيل لما أجملناه قبل قليل.
7- أي دل عليه بخصوصه، وإن لم يكن (حجة) عند الانسدادي، ولا نقصد (الظن الخاص) في باب الانفتاح.

العلم والعلمي ك(خذ بما اشتهر بين أصحابك) أو على حجية (خبر الواحد) ك(العمري ثقتي) ف(خذ) على هذا المبنى أمر إرشادي وليس مولوياً، فلا استحقاق للعقوبة بمخالفته مثلاً.

أو كان عاماً كالأدلة الشرعية الدالة على دفع الضرر مطلقاً أو خصوص المظنون منه، كقوله تعالى «لا تضار والدة بولدها»(1) و الحديث (لا ضرر ولا ضرار) و «ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون»(2) فإن في ترك العمل بالظن _ وهو الطرف الراجح _ والتمسك _ بالوهم المرجوح _ خوف وقوع في الضرر يقتضي (حكم العقل) بلزوم اتباع الظن _ لانسداد باب العلم والعلمي _ ومع حكمه، فإن كلام الشارع بلزوم دفع الضرر إرشاد إليه، وكذا لو دل من الشارع دليل على قبح ترجيح المرجوح.

اللهم إلا أن يلتزم بإمكان ووقوع اجتماع الحكمين _ كما هو الحق _ فينتج مبنى جديداً وهو (الكشف) و (الحكومة) معاً؛ إذ لا مانعة جمع بينهما، بأن يقال: نتيجة برهان دفع الضرر المظنون، وكذا نتيجة مقدمات الانسداد: حكومة العقل وحكم الشرع مولوياً معاً بحجية الظن ، وتمام

ص: 207


1- البقرة: 233.
2- المطففين: 4 والأولان دليلان لدفع الضرر والأخير دليل دفع الضرر المظنون، فإن التصريح مبني على ضرورة حكم العقل بلزوم دفعه بناء على إرادة (الظن بمعنى الراجح) من (ألا يظن) أو الأعم منه ومن العلم، وبناء على انسداد باب العلم بالمعاد، وإلا لما تم الاستدلال بالآية على حجية الظن في صورة الانسداد، لكنه فيه: إنه سيكون أولى عندئذٍ.

الكلام في ذلك موكل إلى محله.

10- عدم حجية الظن على الانفتاح

وعدم حجية (مطلق الظن) في صورة الانفتاح، فإن ذلك مما يحكم به العقل، فهل ما ورد من الشرع كقوله تعالى «إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(1) إرشاد إلى عدم حجيته؟ أم أنه مولوي بمعنى أن الشارع بما هو مولى اعتبره غير حجة، سواء كان هنالك أقوام ارتأوا الحجية وبنوا عليها، أم لا.

بل وحرمة إتباع الظن في صورة الانفتاح.

قال تعالى «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا»(2).

ومما يبعد كونه إرشادياً _ على خلاف من ذهب إلى إرشادية الأوامر والنواهي في مطلق المستقلات العقلية _ آخر الآية الشريفة؛ فإن (مسؤولاً) لا يجتمع مع الإرشاد على مسلك المشهور فيه(3)، وإن اجتمع على مسلك الشيخ من الإرشاد _ الوجوبي، لكن ظاهر الآية الشريفة المولوية _ الوجوبية،وتفصيل الكلام عن ذلك كسابقه، يترك لمباحث الأصول _ مباحث الظن ، والله الموفق المستعان.

ص: 208


1- يونس: 36.
2- الإسراء: 36.
3- من أنه ما لا يترتب على مخالفته شيء، زائداً على ما في متعلقه _ فعلاً أو تركاً _ من الضرر.

ومن موارد الإبتلاء في (القواعد الفقهية)

قاعدة (لا ضرر)

ومن القواعد الفقهية قاعدة (لا ضرر) الشهيرة إستناداً إلى رواية «لا ضرر ولا ضرار» فقد روى الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار... فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وأرم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1) والرواية صحيحة، وهي مستفيضة مشتهرة في كتب الفريقين بل ادعى بعض الأعلام تواترها.(2)

والبحث في (المولوية والإرشادية) مبني على التحقيق في معنى (لا ضرر ولا ضرار) وشموله لكل من عدم تشريع الحكم الضرري، ولتشريع حكم يتدارك به الضرر _ كحق الشفعة كما في رواية عقبة بن خالد عن

ص: 209


1- الكافي: ج5، ص292، باب الضرار، ح2
2- ك: فخر المحققين في كتاب الإيضاح باب الرهن.

الإمام الصادق عليه السلام _.

فهل (لا ضرر) تأسيس، أو إمضاء، أو إخبار؟

المباني الخمسة في معنى (لا ضرر)

اشارة

وبعبارة أخرى: هل الشارع رفع الضرر أي (الحكم الضرري) كما ذهب إليه الشيخ، أو نهى عن الضرر كما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني.

وبعض القول في ذلك يظهر ببيان أنه يختلف الأمر بناء على المباني المختلفة في مفاد (لا ضرر ولا ضرار) فنقول إن المباني فيه _ بدواً _ خمسة:

1- منبى الشيخ: نفي الحكم الضرري

الأول: مبنى الشيخ الأنصاري من أن المراد به (نفي الحكم الناشي من قبله الضرر) فقد أطلق اسم الأثر على المؤثر، بعلقة العلية والمعلولية، فكان (الضرر) عنواناً ل(الحكم) أي مفاد الحديث نفي جعل (الحكم الضرري) فكل حكم موجب لوقوع العبد في الضرر فهو مرفوع في عالم التشريع.

فيشمل (التكليفي) كوجوب الوضوء الضرري و (الوضعي) ك(لزوم) البيع للمعيب.

وعلى هذا فقد يقال: بأن ذلك مما لا استقلال للعقل به، إذ للمولى الحقيقي أن يتصرف في عبده كما يشاء، هذا كبرى، ثم إننا لا نعرف

ص: 210

كل ملاكات أحكام الشارع وتزاحماتها فلعله الأصلح بحال العبد دنيا أو أخرى ومن حيث المجموع _ فتأمل.(1)

وعلى هذا فإن لا ضرر مولوي ولا مجال للقول بإرشاديته من هذه الجهة.(2)

لكن قد يقال: إن العقل مستقل بقبح تشريع الشارع حكماً ضررياً دون مزاحم أهم بلحاظ المجموع (أي العبد ومن يتعلق به، ومجتمعه، ديناً ودنياً وآخرة) فما كان من الأحكام ضررياًمحضاً، أو كان ضرره أقرب من نفعه _ بعد الكسر والانكسار _ لا يعقل أن يشرعه الشارع؛ فإنه وإن كان مالكاً حقيقاً قادراً، إلا أنه بالنظر لحكمته وغناه وعدله، فكيف بالنظر لرحمته(3) لا يعقل منه ذلك، وهذا مما يستقل به العقل، فيحتمل _ ثبوتاً _ على هذا كون (لا ضرر) إرشاداً إليه، ويبقى الإثبات رهين الاستظهار من لسان الدليل والأصل والقرائن، وأن (لا ضرر) إخبار عن عدم جعل حكم ضرري، أو إرشاد، أو إنشاء لنفي جعله، أو لجعل حكم يتدارك به الضرر.

2- نفي الضرر غير المتدارك

الثاني: مبنى من ذهب إلى أن المراد (نفي الضرر غير المتدارك) مما يلزم منه (ثبوت التدارك) في كل مورد أمر الشارع فيه بما يضر، كما في

ص: 211


1- سيأتي وجهه بعد قليل بإذن الله تعالى.
2- إشارة إلى إمكان القول بإرشاديته من جهة أخرى أو كونه إخباراً، نظراً لتعدد الرواية، فإن الظاهر أن (لا ضرر) صدرت مراراً عديدة من رسول الله صلى الله عليه وآله، بعضها بدون قيد وبعضها بقيد (على مؤمن) أو بقيد (في الإسلام).
3- وقد فصلنا كلي ذلك ضمن بيان قاعدة اللطف في (فقه التعاون على البر والتقوى).

أكل المخمصة، ويستفاد منه جعل حكم يتدارك به الضرر، فالأمر فيه كسابقه من حيث القول باستقلال العقل به، وعدمه؛ نظراً لإنكار الكبرى السابقة، أو قبولها، فتحتمل الإرشادية عندئذٍ أيضاً على الرأي المنصور.

3- مبنى الأصفهاني: نفيٌ أريد به النهي

الثالث: مبنى شيخ الشريعة الأصفهاني من أن (لا ضرر) نفي أريد به النهي كقوله تعالى: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»(1) أو قوله صلى الله عليه وآله (لا غش بين المسلمين)(2) كعكسه في الإيجاب ك(يعيد صلاته) أو (أعاد الصلاة).

فإن ذلك نفي كُنِّي به عن مبغوضية الشيء، فيكون نفياً أريد به النهي، فقد أخبر عن عدم وجود الشيء في مقام النهي عنه، مما يكشف عن شدة مبغوضيته إلى درجة أن الشارع تلقى عدمه أمراً مسلّماً.(3)

فيكون معنى (لا ضرر) حرمة الإضرار بالغير فكأنه قال (لا تُضِّر) الغيرَ و (لا تضارَّه)، فهو أيضاً من المستقلات العقلية، إلا أن حدوده ليست كذلك، إذ لا يستقل العقل بحرمة مطلق الإضرار بالعدو، أو بحرمة (الإضرار القليل) ككلمة خشنة أو نظرة حادة أو صوت مرتفع أو رائحة كريهة(4) فتأمل.

ص: 212


1- البقرة: 197.
2- سنن الدارمي: ج2، ص248.
3- فإن غاية (النهي) عدم وقوع المنهي عنه، فلو أخبر المولى بعدم وقوعه جزماً _ رغم علمنا بوقوعه وعلمه _ كشف أنه يريد عدم وقوعه ورؤية الكون خالياً منه.
4- كأن (يطبخ) طعاماً فيه ثوم مثلاً في داره مما يضر جاره. فهل يصح القول أنه مما يستقل العقل بحرمته لأنه اضرار بالغير؟ فتأمل إذ لعله من تزاحم الحقين لا من باب عدم استقلال العقل بحرمة هذا الإيذاء، وتفصيله يطلب من (الفقه).

فيكون (لا ضرر) مولوياً في (المراتب الدانية) _ تمسكاً بإطلاقه _ وإرشادياً في (أصله) لكونه من المستقلات، بناء على الضابط الخامس للإرشادية والمولوية.(1)

ولا يرد اجتماع اللحاظين المحال؛ لما سبق من أن المولوية والإرشادية ليستا جزء الموضوع له أو جزء المستعمل فيه، بل هما من الدواعي، كما ذهب إليه الآخوند، ولأجوبة أخرى عديدة ذكرناها، منها صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان كل منها كأن لم يستعمل إلا فيه، فراجع (فقه التعاون على البر والتقوى).

4- مبنى الآخوند: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع

الرابع: مبنى صاحب الكفاية من أنه أريد ب(لا ضرر) نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وذلك ك(لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه) و (لا ربا بين الوالد والولد) وهذا ينتج عكس سابقه في الجملة فتأمل.

ومفاد (لا ضرر) على هذا: أن الحكم الثابت لموضوعه في حال عدم الضرر، منفي عنه إذا كان الموضوع ضررياً؛ فإن وجوب الوضوء الثابت له حال عدم كونه ضررياً، ينتفي عنه إذا صار ضررياً.(2)

فقد يقال إنه ليس من المستقلات العقلية، فالمولوية فيه على القاعدة، لكن الظاهر أنه أيضاً من المستقلات العقلية فالإرشادية

ص: 213


1- نعم على الضابط الأول وهو المنصور، هو مولوي في الأصل والحدود، لصدروه من المولى بما هو مولى، ولا يضر كون (أصله) مما استقل به العقل في كونه مولوياً، كما فصلناه في فصل (الضوابط).
2- ولعل هذا المعنى من حيث المورد أخص مطلقاً من المعنى الذي ذهب إليه الشيخ.

محتملة أيضاً.

5- مبنى الوالد: شمول (لا ضرر) لها جميعاً

المبنى الخامس: ما صار إليه السيد الوالد قدس سره من شمول (لا ضرر) لتلك المعاني (الأربعة السابقة) بأجمعها قال: (لا يبعد أن يكون أقرب المجازات إلى الجملة المذكورة _ بعد تعذر الحقيقة _ يشمل :

1- عدم إضرار الشارع بالحكم.(1)

2- وإضرار أحد بالآخر.(2)

3- والتدارك إن أضره، فإنه كما إذا أمكن الحقيقة يشمل كل ذلك، كذلك المجاز، لوضوح الأولين، وعدم التدارك معناه بقاؤه، فعدمه معناه نوع من وجوده فهو يمنع امتداده).(3)

وقلنا (الأربعة) لأن كلام الآخوند أخص مطلقاً من حيث المورد من كلام الشيخ فيدخل في أول أقسام كلام الوالد.

ولعله وجّه كلام شيخ الشريعة الأصفهاني بإرادة (لا ضرر جائزاً) أي (لا إضرار جائزاً) أي بالغير، ولم يبقه على ظاهره من إرادة (النهي) فلا يرد الإشكال عليه بأنه لا جامع بين (النفي والنهي) حقيقة، أو أنه ليس بعرفي على الأقل فتأمل.

ص: 214


1- أي بجعله حكماً وهو مفاد كلام الشيخ.
2- وهو مفاد كلام الشيخ الشريعة.
3- الأصول: ج2، ص242- 243.

قاعدة (اليد) و (سوق المسلمين) و (الإقرار)

بل حتى مثل قاعدة (اليد) و (سوق المسلمين) ومثل (من ملك شيئاً ملك الإقرار به) فإن اعتبارهما(1) إمارة الملك _ كما هو الظاهر ، ونفوذ إقراره هل هو بما هو مولى؟ أو بما هو مرشد وناصح؟، وهو المعبر عنه بإمضائيات الشارع، لكن قد يقال الإمضاء أعم من كونه بما هو مولى أو بما هو مشفق ناصح أو معلم مرشد _ بل (الإمضاء) منصرف لأولهما(2) فتأمل.

وبعبارة أخرى:

هل قوله عليه السلام (من ملك شيئاً ملك الإقرار به) تشريع لملك الإقرار به؟ أي إيجاد لهذا الاعتبار في عالمه(3)، فالشارع بما هو مولى قد جعل له هذا الحق، أم أنه إخبار عن ملكه _ تكويناً اعتبارياً للإقرار به، وإرشاد إلى ذلك نظراً؛ لأن ملك الإقرار به شعاع من ملكه.

وكذلك كون (اليد) أو (السوق) أمارة الملك، فبعد الفراغ عن عدم مونها أصلاً، فهل هي (أمارة مولوية) أي جعلها الشارع بما هو مولى، علامة ودليلاً وأمارة؟ ولا كاشفية لها بذاتها ، بوجهٍ؟

أم أن كاشفيتها ذاتية _ ولو بنحو الاقتضاء _ وقد تممها الشارع _

ص: 215


1- أي (اليد) و(السوق).
2- أي كونه بما هو مولى ، قد أجاز و أمضى، بل لعل مادة (الإمضاء) ظاهرة في المولوية واستخدامها في الإرشاد مجاز، ولو بلحاظ استلزامه للإمضاء.
3- حسب الرأي المنصور من كون ااإنشاء هو إيجاد الاعتبار والمنشأ هو (الاعتبار الموجَد) وليس (الاعتبار المبرَز).

كما قال به الأصفهاني في الكشف الناقص كما في (الظن)؟

أم أن كاشفيتها ذاتية _ ولو اقتضاء _ وقد كشف الشارع عن ذلك فقط؟

الظاهر الأوسط، وتفصيل ذلك في (القواعد الفقهية) بإذن الله تعالى.

ص: 216

ومن موارد الابتلاء في (الفقه)

حفظ الأمانة وردّ الوديعة

(حفظ الأمانة) و (ردّ الوديعة)،

قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»(1)، والظاهر أن رعاية الأمانة غير رعاية العهد، فهما عنوانان، ويستقل العقل بحسن كليهما، والنسبة بينهما التباين لو قلنا بتعلق العهد بالمعنويات والأمانة بالماديات.

وقال تعالى «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».(2)

البحث جار في مادة الأمر وصيغته

والظاهر أنه لا فرق في البحث عن إمكان وعدم إمكان المولوية في بعض الأوامر بناء على بعض الضوابط _ كضابط المستقلات العقلية _

ص: 217


1- - المؤمنون: 8.
2- - النساء: 58.

بين ورود مادة الأمر _ كما في المقام _ وورود صيغته؛ إذ ما ذكر من المحاذير _ على فرض صحته _ من لزوم اللغوية أو تحصيل الحاصل أو التسلسل أو ما أشبه، جار في المادة كجريانه في الصيغة كما لا يخفى.

بيان ذلك:

إن الظاهر أنه لا فرق في بعض ضوابط المولوية والإرشادية _ ثبوتاً _ بين استخدام مادة الأمر كالمقام، أو صيغته، فإنه إن كان المقياس للمولوي هو (ما عدا المستقلات العقلية) وهو الضابط الخامس، فإن الأمر هنا إرشادي لكونه منها، ولا يجدي استخدام مادة الأمر.

نعم إن كان المقياس هو (ما صدر من المولى بما هو مولى، إذا كان في مقام التشريع) فإنه يمكن في كل من المادة والصيغة، كونهما للمولوية والإرشاد، نعم مادة الأمر أقرب للمولوية منها للإرشاد؛ إذ المستظهر منها ذلك عرفاً.

بل قد يقال: إن استخدام (يأمركم) في الآية في موطن المستقل العقلي، يعد من الأدلة على عدم صحة الضابط السابق _ أي الخامس _ فتدبر.

وكذلك الحال في المعطوف عليها وهو قوله تعالى «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»(1) فإن (وجوب الحكم بالعدل) من المستقلات العقلية، وقد فصلنا في (فقه التعاون على البر والتقوى) كون المستقلات العقلية: قد يراد بها (الأحكام العقلية) أي الأحكام التي يستقل بها العقل، وقد يراد بها (الأدلة المستقلة العقلية) أي ما كانت فيه الصغرى

ص: 218


1- النساء: 58.

والكبرى جميعاً عقليتين والمراد في هذه الآية وسائر الآيات المبحوث عنها هنا، هو المعنى الأول فلا تغفل.

و (الإنصاف) كقوله عليه السلام «أنصف الناس من نفسك».(1)

وهو أيضاً مما يستقل العقل بحسنه وبوجوبه في الجملة.

وهل (الإنصاف) عنوان آخر غير عنوان (العدل) أو هو من مصاديقه؟ ولعلنا نفصل الحديث عن هذا العنوان كبعض العناوين اللاحقة في الجزء الثاني إذا شاء الله تعالى.

وحسن أو وجوب (النفقة)، قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ»(2)، والظاهر أن التعبير به «حقه» لتعليل «آتِ» فإن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وبذلك يندرج في المستقلات العقلية، وإن لم نقل باندراج مطلق (إعطاء ذي القربى) فيها.

صلة الرحم ومعنى (أولى)

و (صلة الأرحام)، قال تعالى «وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ».(3)

وقد يقال: باستفادة قاعدة عامة من قوله تعالى «أولى» وهي أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض مطلقاً، فتكون هي الأصل والاستثناء بحاجة إلى دليل، فتكون الآية من الأدلة العامة على حق الإرث والحضانة

ص: 219


1- نهج البلاغة: ج3، الخطبة 53، ص85.
2- الإسراء: 26.
3- - الأحزاب: 6.

وتجهيز الميت والرعاية وغير ذلك.

والظاهر أن (أولوية) بعض الأرحام ببعض، من المستقلات العقلية في الجملة، وإن كانت حدوده بين مشكوكة أو معلومة العدم(1)، كما أن أولوية النبي صلى الله عليه وآله المذكورة في صدر الآية الشريفة «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» من المستقلات العقلية أيضاً _ فتأمل.وغير خفي أن (الأولوية) من الحقائق التشكيكية ذات المراتب، وأنها طولية في مثل الأب والأخ، وعرضية في الأخوين، وطولية أو عرضية على الأقوال في مثل الأب والجد.

كما أن (الأولوية) غير مقتصرة على (الإرث) بل مراتب من الولاية أيضاً(2) ويدل عليه إضافة إلى الفتوى، إثبات الأولوية في صدر الآية للنبي صلى الله عليه وآله، فإنها غير خاصة بالإرث كما لا يخفى.

نعم لا ريب أن أولوية أولي الأرحام ببعضهم ليست عامة شاملة، كأولوية النبي صلى الله عليه وآله، بالمؤمنين للأصل وللدليل الخارجي.

قطع الأرحام

وقبح وحرمة قطع (الأرحام)، قال الله تعالى «وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ».(3)

ولا ينبغي الريب في أن النهي عن قطع (ما أمر الله به أن يوصل)

ص: 220


1- كأخ ابن العم، من أمه أو ابن خال ابن العم مثلاً.
2- ومنها الولاية على البكر في الزواج على القول بها.
3- البقرة: 27.

المستفاد من تعلقه(1) ب(ما أمر) ومن اللحن والسياق، مولوي، ولا يضيره لحوق «أولئك هم الخاسرون» به؛ إذ ذكر النتيجة لا يخل باستظهار كون المقام مقام المولوية، بل قد يؤكده أحياناً، بل الأمر كذلك حتى على ضابط مثل (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) فإن (الخسارة) في الآية، ظاهرها أن المراد بها الأخروية، لا أقل من الأعمية(2)، ومثل (ما كان محبوباً أو مبغوضاً للمولى وقد صدر لذلك).

الإنفاق

والإنفاق كقوله تعالى «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم».(3)

وإضافة الرزق إليه تعالى، مشعر بوجه الإلزام في «أنفقوا» وبذلك يندرج في المستقلات العقلية، وإن لم نقل باندراج مطلق الإنفاق فيها، نعم حسن مطلقِهِ عقلاً لا ريب فيه.

هل (أنفقوا) مولوي أم إرشادي؟

وهل «أنفقوا مما رزقناكم» أمر مولوي أو إرشادي؟

(الظاهر): المولوية، ولا يصرِف الأمرَ عن ظاهره(4)، كونُ السياق سياق النصح والإرشاد، واللحن لحن ناصح ومرشد.

ودعوى (الظهور) ليست للوضع ولا للاستعمال في المولوية، إذ قد

ص: 221


1- أي تعلق (يقطعون).
2- أي للدنيوية والأخروية.
3- المنافقون: 10.
4- أي ظاهره المولوي.

فصلنا أن المولوية والإرشادية، دواعي، وليست جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل لشهادة الحال بذلك والقاعدة والأصل، كما فصلناه في مكان آخر.

كما أن الظاهر أنه مولوي _ تشريعي(1) فيستحق العقاب على تركه.كما لا يضر باستظهار المولوية، دعوى كون حسن ووجوب إنفاق بعض ما رزقنا الله، من المستقلات العقلية، لما سبق من الضابط في المولوية.(2)

والظاهر أن أصل الإنفاق من بعض الرزق، من المستقلات، دون حدوده وتفاصيله خمساً وزكاة وغيرهما.

ولا تنفع دعوى اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه، لا لعدم اتحاده مع حدوده حتى على فرضه(3) _ فقط، بل لأن الاتحاد في (الوجود) لا في (الجهة)، و (المستقلات) تتعلق بالجهات.

هذا مع قطع النظر عن النقاش في أصل المبنى.

وعلى أي فإنه لو قيل: بأن (الأصل) من (المستقلات العقلية) دون (الحدود) فإنه على الضابط الخامس: يكون الأمر بالأصل إرشادياً وبالحدود مولوياً لو افترقا، أما لو اتحدا في أمر واحد فقد فصلنا في مكان آخر: إمكان كون الأمر الواحد مولوياً (للأصل) إرشادياً (للحدود) بدون لزوم محذور اجتماع اللحاظين المحال _ فتدبر.

ص: 222


1- في قبال المولوي النصحي.
2- وإنه ما أمر به المولى معملاً مقام مولويته، وليس الضابط كونه من غير المستقلات العقلية.
3- أي فرض اتحاده مع مصاديقه.

وحسن أو وجوب (التعاون على البر والتقوى) و (حرمة التعاون على الإثم والعدوان)، قال تعالى «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1) وقد فصلنا الحديث عن هذه الآية الشريفة _ بما ينفع في سائر المباحث والآيات _ في (فقه التعاون على البر والتقوى).

استباق الخيرات

و (استباق الخيرات) قال جل اسمه: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ»(2) وقال جل وعلا «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ».(3)

وهل (استباق الخيرات) و (المسارعة للمغفرة) لها الموضوعية أم الطريقية؟ أي هل يطلبان لذاتهما أم لغيرهما؟ وبعبارة أخرى هل هما واجبان _ في الواجب _ ومستحبان _ في المستحب _ نفسياً أو غيرياً؟

وذلك بعد الفراغ عن عدم اتحادهما مع مدخولهما، ولذا أمكن لا عقلاً فقط بل عرفاً أيضاً: التفكيك في الحكم.(4)

والظاهر أنهما من المستقلات العقلية، فمن ذهب إلى الضابط الخامس، فإنه يرى الأمر فيهما إرشادياً، أما بناء على الضابط الأول، فهل صدر ذلك من المولى بما هو مولى أو بما هو ناصح؟

ص: 223


1- المائدة: 2.
2- المائدة: 48.
3- - آل عمران: 133.
4- بأن يكون إتيان الخير _ كالصلاة وإطعام اليتيم _ واجباً، وتكون المسارعة إليه، مستحبة.

ذكر الله سبحانه

و (ذكر الله تعالى) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً»(1) فإنه _ كسوابقه ولواحقه _ مما تحكم به الفطرة والعقل والعقلاء أيضاً _ إضافة للشرع _ نظراً لكونها من الأوليات أو الفطريات أو المشهورات.

و (الذكر) أعم من الذكر بالقلب واللسان، ولا انصراف له لأحدهما، ولو كان فبدوي.

ثم الظاهر إن أصل (الذكر) وكميته (أي الذكر كثيراً) من المستقلات العقلية، ومما تحكم به الفطرة والعقلاء أيضاً، فيقع البحث في أن مثل قوله تعالى: «اذكروا الله ذكراً كثيراً» مولوي أو إرشادي؟

الدعاء

و (الدعاء) قال سبحانه وتعالى «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».(2)

والتعليل ب«أستجب لكم» لا يقتضي ظهور «ادعوني» في الإرشادية؛ لما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وأشرنا إليه في هذا الكتاب، من أنه أعم.

والظاهر أن (الدعاء) واجب في الجملة، ومستحب مطلقاً، فمن أعرض عن الدعاء مطلقاً ارتكب محرماً.

ص: 224


1- - الأحزاب: 41.
2- - غافر: 60.

حرمة التبذير ومسائل أخرى

وحرمة (التبذير) قال تعالى « وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً»(1) وعن بشر بن مروان: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام، فدعا برطب، فأقبل بعضهم يرمي بالنوى، قال: فأمسك أبو عبد الله يده فقال «لا تفعل. إن هذا من التبذير، وإن الله لا يحب الفساد»(2)، فهل النهي فيه ولواحقه مولوي يستتبع الحرمة واستحقاق العقاب أم لا، فلا؟ وسيأتي أن وضوح التحريم فيه، في متفاهم العرف، من الأدلة على أن النهي والأمر في المستقلات العقلية، مولوي وليس إرشادياً، ولعل ذكر المفعول المطلق(3) بعد النهي لأجل بيان إنه تمام علة النهي فلا يتوهم عدم الحاجة إليه.

و (عدم إطاعة أمر المسرفين)، قال تعالى « وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ».(4)

الغيبة والجهر بالسوء

وقبح أو حرمة (الغيبة) قال تعالى: « وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً»(5) وقال سبحانه «لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ».(6)

ص: 225


1- - الإسراء: 26.
2- تفسير العياشي: ج2، ص288، ح58 في تفسير سورة الإسراء، نقلاً عن (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً).
3- وهو (تبذيراً).
4- - الشعراء: 151.
5- الحجرات: 12.
6- [8]- النساء: 148.

والظاهر أنها من المستقلات العقلية، ولعل في قوله تعالى «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه»(1) الوارد وكأنه في مقام التعليل، إشعاراً بأنه من المستقلات العقلية، بل الأمور الفطرية؛ إذ ذاك انتقاص من جسده، وهذا من سمعته ومكانته ونفسه.

وكذلك قد يستظهر كون «الجهر بالسوء» _ وهو أعم من الغيبة(2) _ من المستقلات العقلية _ قبحاً وحرمة _ من إضافته للسوء ومن استنثاء (إلا من ظلم) فإن الجهر بالسوء من مصاديق الظلم وانتهاك حق الآخرين، ويخرجه منها كونه مظلوماً.

مولوية النهي عن الغيبة تدل على بطلان الضابط الخامس

ثم الظاهر من فتوى الفقهاء ب(حرمة الغيبة) وحرمة مصاديق «الجهر بالسوء من القول» بل ومن ترتب العقاب عليها حسب الروايات، إن النهي عنها مولوي، فيكون ذلك صالحاً للإستشهاد به على بطلان الضابط الخامس للمولوية والإرشادية من كون كل مستقل عقلي فإن الأمر فيه أو النهي عنه إرشادي.

وبذلك ظهر عدم تمامية ما ذكره في مواهب الرحمن:

(إن الحكم في الآية الشريفة _ أي آية لا يحب الله الجهر بالسوء _ موافق للفطرة ... وإليه يشير ما ورد في كلمات الفقهاء: إن التكاليف

ص: 226


1- الحجرات: 12.
2- لشموله لما لو جهر بالسوء بحضرته، وكذا شموله للسباب وسيأتي تفصيله في المتن.

الواردة في الأحكام الفطرية إنما تكون إرشادية، لا أن تكون مولوية)(1) إذ الفقهاء أفتوا بحرمة السب والقذف وغيرهما من مصاديق الجهر بالسوء من القول، والروايات رتبت عليها العقاب بين تعزير وحدّ، وقد فصلنا في مبحث الضوابط في الضابط الخامس، عدم تمامية الكبرى.

والظاهر أن غيبة البعض للبعض شاملة لغيبة شخص لشخص أو لجماعة أو لمؤسسة، من شركة أو نقابة أو إتحاد أو غير ذلك، وكذلك هي أعم من غيبة جماعة أو مؤسسة لغيرها.

ولعل الوجه في التعبير ب(بعض) مع أن الأشخاص (أفراد) و (مصاديق) وليسوا أجزاءاً وأبعاضاً، مزيد الردع عن الغيبة إذ كأن كلاً منهم بعض من كل وجزء من جسد، فما يضر هذا أو يشينه فإنه قد أضر ببعضه وجزءه، لا بفرد ومصداق خارج عنه.

وبعبارة أخرى لاحظ التعبير بذلك (المجتمع البشري) ككل، وكل واحد منهم، جزء.

ثم إن (عدم حب الله) لشيء وإن كان بحسب ذاته أعم من الكراهة والحرمة، إلا أنه في مثل المقام وبتناسب الحكم والموضوع، يفيد الحرمة فالنهي تحريمي إلزامي وليس تنزيهياً.

والظاهر أن «الجهر بالسوء من القول» أعم من الغيبة لشموله الأقوال الثلاثة التي ذكرها في مجمع البيان لتفسير الآية من (الشتم في الانتصار وغيره) و (الدعاء على أحد ظلماً) و (ذمه وشكايته) والظاهر صحتها بأجمعها.

ص: 227


1- مواهب الرحمن: ج10، ص110.

وتفسير الإمام الباقر عليه السلام، الآية بالأول، والإمام الصادق عليه السلام بذكر الضيف سوء ما فعل مضيفه إن لم يحسن ضيافته، الظاهر أنه تفسير بالمصداق ولذا قال السيد السبزواري رحمه الله: (والسوء من القول: كل ما يسوء المقول فيه فيشمل السبوالقذف، ثم عمم (السوء) أو حكمه حتى يشمل الغمز واللمز والإتهام بالسيء من الصفات والأعمال، والبهتان، وإلصاق العيوب، والدعاء عليه... والتقييد بالقول من باب الغالب).(1)

آيات أخرى

وهناك آيات في أبعاد عديدة نشير لها إشارة ولعلنا نعود لتفصيل بعضها في الجزء الثاني بإذن الله تعالى ومنها:

النميمة

(النميمة) قال تعالى: «هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ»(2) وفي صحيح ابن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب)(3) وقد استظهرنا في بعض بحوثنا أن هذا ونظائره من (الفطريات) وليس من (المشهورات).

ص: 228


1- مواهب الرحمن: ج10، ص99.
2- القلم: 11.
3- وسائل الشيعة: ج8، ص616، الباب 164 من أبواب العشرة، ح1.

اليأس من روح الله تعالى

و (اليأس من روح الله)، قال تعالى « وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ»(1).

والظاهر أنه من الكبائر؛ بشهادة تتمة الآية «إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».

و (اليأس) من روح الله، أعم من: اليأس من غفرانه، أو اليأس من نصرته وفرجه، واليأس من عطائه وكرمه، واليأس من رحمته وما شاكل ذلك.

والوجه في كون اليائس من رحمة الله كافراً، أن مرجع اليأس من رحمته إما إلى نسبة العجز إليه تعالى أو البخل أو الجهل، وكلها كفر؛ إذ الله قادر عالم جواد، دون ريب.

وبذلك يظهر أن اليأس من روح الله، مما يستقل العقل بقبحه، وحرمته، والنهي عنه حسب الضابط الخامس، إرشادي، وحسب الضابط الأول المنصور وكذا الثاني والثالث بل وضوابط أخرى، مولوي.

التصرف دون رضى المالك

و (التصرف في مال الغير إلا بطيبة نفسه)، قال تعالى «فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً»(2) و « لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ

ص: 229


1- يوسف: 87.
2- النساء: 4.

حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا»(1) بتنقيح المناط القطعي، أو بإلغاء الخصوصية وبعدم القول بالفصل، بل القول بعدم الفصل. ويكفي قوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه»، بل (ذلك من أوضح البديهيات الشرعية والأدلة الأربعة على ذلك قائمة).(2)والظاهر أن كلاً من (الملكية للشيء) و (قبح وحرمة التصرف في ما ملكه الغير بدون رضاه)، من (المستقلات العقلية).

ثم إنه لا ريب في مولوية النهي عن التصرف في مال الغير دون رضاه واستحقاق فاعله العقاب، ويعد هذا دليلاً أيضاً على بطلان الضابط الخامس للمولوي، من اشتراط كون متعلقه غير المستقلات العقلية.

كتمان الحق والهدى

و (كتمان الحق والهدى) قال تعالى: «وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».(3)

ويمكن إلحاق هذا بما يرتبط بأصول الدين، لكون الكتمان فيه أجلى المصاديق.

ثم هل (كتمان الحق) محرم كما كان بيانه وإظهاره واجباً؟ ذلك صغرى البحث عن لزوم اللغوية في إنشاء الحكم لكلا طرفي الموضوع

ص: 230


1- النور: 27.
2- الفقه، المحرمات: ج93، ص224.
3- البقرة: 42.

أو العنوان؟ وتفصيله يطلب من مبحث (إقتضاء الأمر بالشيء، النهي عن ضده).

لكن قد يقال: إنهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما، بل لهما ثالث، فلا لغوية.

لكن فيه: إنه إذا وجب إظهاره، أغنى عن تحريم كتمانه حتى لو أمكن، سواء كان لهما ثالث أم لا فتأمل.

وعلى أي فإن النهي عن كتمان الحق نهي مولوي _ غيري.

واحتمال كونه مولوياً نفسياً للمفسدة السلوكية، واهي، وإن كان يمكن توجيهه بما ليس ههنا محل بحثه. والظاهر أن قبحه وحرمته مما يستقل به العقل وتحكم به الفطرة أيضاً، فيقع البحث في مولوية النهي عنه أو إرشاديته تبعاً لذلك.

الإفساد في الأرض

و (الإفساد في الأرض) قال تعالى: «وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ».(1)

وقد يقال: إن الإفساد في الأرض حقيقة أخرى غير صرف القتل والجرح وتخريب الحرث والنسل؛ فإنها قد تكون ولا يصدق(2) ولعلها مقدمة له ومن العلل المعدة.

ص: 231


1- البقرة: 60.
2- أي قد تكون تلك الأمور ولا يصدق الإفساد في الأرض.

لكن قد يقال: إن مثل عنوان الإفساد، كلي طبيعي متحد مع مصاديقه(1) إلا أنه تترتب عقوبتان على المفسد في الأرض، واستحقاقان، لتحقق العنوانين وتغايرهما ذاتاً ومفهوماً وإن اتحدا خارجاً ومصداقاً، ولعله يأتي تفصيله في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.

وعلى أي فإن قبح وحرمة الإفساد في الأرض، يعد من المستقلات العقلية بل الأمور الفطرية وعليه إطباق كافة العقلاء، فالنهي عنه مولوي أو إرشادي، حسب المباني في ضابطهما.

الكذب وقول الزور

و (الكذب) و (قول الزور) قال تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(2) فإن الكذب من (قول الزور)، كالغناء.وقال تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ».(3)

والظاهر أن (الكذب) من المستقلات العقلية، دون الغناء، فبناءً على شمول (قول الزور) لهما والذهاب إلى ضابط كضابط (إن كل ما كان من المستقلات العقلية، كان الأمر أو النهي فيه إرشادياً)، فقد يقال: بلابدية كونه إرشادياً في كلا الشقين، وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وقد أجبنا عن مثل هذا بأجوبة عديدة مبنىً وبناءً في (فقه التعاون

ص: 232


1- من جرح وسرقة وتخريب وقتل وما أشبه.
2- الحج: 30.
3- النحل: 105.

على البر والتقوى) وبأجوبة ثمانية في مباحث الأصول _ مباحث القطع.

ونضيف هنا أن المولوية والإرشادية ليست جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل هما من دواعي الإستعمال، فلو قصدا بالقياس للشقين لم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى _ وقد أشرنا لذلك في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ _.

ثم الظاهر أن «اجتنبوا قول الزور» أعم من أن يكون قائلاً أو مستمعاً، مصدقاً أو مشجعاً أو مستمتعاً، أو شبه ذلك لأن من فعل أياً منها فليس بمجتنب له.

تحميل الآخرين غير أوزارهم

و (إلقاء التبعات على الآخرين وتحميلهم ذنباً لا يتحملونه)، قال تعالى: «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1) و «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(2).

والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين ما لو ألقى شخص حقيقي، أو حقوقي، تبعة أوزاره وخطاياه، على شخص حقيقي أو حقوقي، فلا يجوز تحميل (الشركة) أو (المنظمة) مثلاً ذنب الأخطاء، على أحد أفرادها إذا لم يكن هو المخطئ، أو لم يكن الوزر عليه بأكمله فيحمِّله كلَّه، أو تحميلها على شركة أخرى منافسة أو حتى على عدو مادام محفوظ الحقوق كالذمي والمعاهد.

ويظهر بذلك عدم جواز إلقاء الدولة تبعة أوزارها وأخطائها، على

ص: 233


1- النجم: 38.
2- الأنعام: 164.

أحد الوزراء أو المسؤولين ممن ليس هو السبب أو ليس السبب الأقوى أو ليس إلا جزء العلة، تبرئة لساحتها، فكيف بإلقاء التبعات على (المخالف) و (المعارض) فإنه ذنب مضاعف ومعصية متكررة، ولهذا البحث مجال آخر.

هل «لا تزر» نفي أريد به النهي؟

ثم إن «لا تزر وازرة وزر أخرى» وإن كان نفياً، إلا أنه قد يقال إنه إخبار في مقام الإنشاء بمعنى أنه نفي أريد به النهي، فهو كقوله تعالى: «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»(1) وكقوله عليه السلام: «لا غش بين المسلمين» فإن الإخبار عن عدم تحقق شيء في المستقبل يعد كناية عن مبغوضيته، فيصح الإخبار عنه في مقام النهي عنه، وذلك نظير ما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني في معنى (لا ضرر ولا ضرار).وإن أبيت، فلا أقل من كونه إخباراً يكشف عن إنشاء سابق، بل لا أقل من كونه دالاً على مبغوضية ذلك للمولى، ويستفاد من تناسب الحكم والموضوع، حرمته، وعلى أي فإنه من المستقلات العقلية.

ثم إن الموقع للآخرين في المعصية والسبب لها، يتحمل وزرها أيضاً من غير أن ينقص من وزر فاعلها شيء، ففي صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن الإمام الباقر عليه السلام: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى، لعنته

ص: 234


1- البقرة: 197.

ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)(1) وهذا الإستثناء مما يستقل به العقل أيضاً، بل قد يقال بخروجه موضوعاً عن الآية فتأمل.(2)

وكذلك (الراضي بفعل قوم) فإنه يشركهم في الإثم والوزر والعقوبة، كما يظهر من خبر قتل الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ذراري قتلة الإمام الحسين عليه السلام لرضاهم بفعال آبائهم، وغيره، فراجع الصافي والبحار وغيرهما. والحديث عن خروجه موضوعاً، كسابقه.

لكن هل استقلال العقل بقبحه وحرمته لكونه مصداقاً من مصاديق الظلم؟ أو أنه مما يستقل به العقل مع قطع النظر عن تعنونه بعنوان الظلم؟

قد يستظهر الأول ولذا يحسن لو كان بطلب(3)، من الآخر غير ذي الوزر كما نشاهد ذلك تكويناً أيضاً _ فتأمل.

قهر اليتيم

و (قهر اليتيم)، قال تعالى «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ».(4)

والظاهر أن انطباق عنوان (الظلم) على عناوين أخرى أخص مطلقاً أو من وجه _ ومنها قهر اليتيم _ لا ينفي حكم العقل بقبح تلك العناوين

ص: 235


1- الكافي: ج1، ص42، ح3، و ج7، ص409، ح2.
2- فإنه لا يحمل حمل غيره، بل يحمل حمل نفسه، وغيره حامل أوزاره فتدبر.
3- لمصلحة حقيقية، أو متوهمة، أو حتى بلا مصلحة؛ لأنه حقه فله اسقاطه إلا في حدود (الواجب) من: حفظ العرض وماء الوجه و (الحرام) من إذلال النفس في الجملة _ مثلاً.
4- الضحى: 9.

حقيقة وبذاتها؛ لأنه واسطة في الثبوت لا العروض.

لكن قد يقال: إنه مع قطع النظر عن عنوان الظلم، وبلحاظها بذاتها بما هي هي

وبالاستقلال، فإنه لا حكم للعقل بقبحها، إلا أن يقال إن (القهر) كالظم مما لا يمكن أن يكون إلا قبيحاً وإلا لم يكن (قهراً) كما لم يكن ذاك ظلماً _ فتأمل.

ثم إنه لا يخفى أن الظلم حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فقد يكون أحد العناوين المندرجة تحته أشد قبحاً وحرمة من عنوان آخر، وذلك كقهر اليتيم أو غيره، وكظلم الأب أو الإبن، والمعلم أو المتعلم، والنبي أو المؤمن العادي.

وعلى أي فإن استقلال العقل بقبح قهر اليتيم، لا يضر بكون النهي عنه مولوياً؛ لما صح عندنا من الضابط الأول للمولوية وهو (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته).

حسن اللعن واستحبابه أو وجوبه

وكذلك حسن (اللعن) في الجملة، قال تعالى: «أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ»(1) فإنه وإن كان خبراً إلا أنه _ بدلالة الإيماء والإشارة بل بدلالة الاقتضاء _ يدل على حسن اللعن بل لا يعقل فيه غير ذلك، إذ كيف (يلعن الله) قوماً من غير أن يكون لعنهم حسناً؟ إذ إن أفعاله تعالى _ على ما ذهب إليه العدلية والمعتزلة وبه يحكم صريح العقل والوجدان _ معللة بالأغراض، وهو لا يفعل ولا يأمر إلا بالحسن ولا يترك ولا ينهى

ص: 236


1- البقرة: 159.

إلا عن القبيح، فإنه لا يعقل أن يلعن جل اسمه من لا يستحق اللعن، ومع استحقاقه لها كان لعنه حسناً وتركه قبيحاً.

بل قد يقال: إن «يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» إنشاء بصيغة الإخبار، سلمنا، لكنه لا أقل من كونه إخباراً يكشف عن الإنشاء في مرتبة سابقة، بل يكفي كشفه عن الحسن سواء البالغ حد الإيجاب أو لا.

وقد ذكرنا في موضع آخر ما فصله الميرزا الشيرازي من أن الجملة الخبرية(1) لو أريد بها الإنشاء وتردد الأمر بين الوجوب والندب، كان مقتضى القاعدة الحمل على الوجوب فليلاحظ.

ثم إن ظاهر «يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون» الاستمرار؛ لظهور الفعل المضارع فيه، ويؤكده سياق الآية.

هل بغض الإمام عليه السلام لشخص، سبب للعنة الله له أو كاشف عنها؟

وروى الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل عن منصور بن يونس عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجلٌ قال لي إعرِف الآخر من الأئمة، ولا يضرك إن لا تعرف الأول؟ قال فقال: «لعن الله هذا؛ فإني أبغضه ولا أعرفه، وهل عرف الآخر إلا بالأول»(2)، والرواية صحيحة الإسناد.

ويستفاد منها أن بغض الإمام لشخص، سبب لعنة الله له لمقام الفاء(3)

ص: 237


1- كما في (يعيد صلاته) وكما في «أمرهم شورى بينهم» على احتمال فصلناه في (شورى الفقهاء) وأشرنا إليه في هذا الكتاب عند البحث عن هذه الآية الشريفة.
2- الكافي: ج1، ص373، ح7.
3- أي في قوله: (فإني).

ويحتمل كونه كاشفاً عن لعن الله له، فإذا كان علة الثبوت كان الأول، أو الإثبات فالثاني.

بل قد يقال: إنه لا مانعة جمع، فإن بغضه عليه السلام له، سبب وكاشف معاً، ولا يلزم محذور اجتماع اللحاظين المحال، لما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) من النقاش في استحالة جمع اللحاظين في لفظ واحد، صغرى وكبرى.

وهل قوله عليه السلام (لعن الله هذا) إخبار أم إنشاء؟ الظاهر الثاني؛ إذ يرى العرف أنه دعاء.

هل هم كفرة أم مشركون؟

وروى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن حكيم وحماد عن أبي مسروق: قال سألني أبو عبد الله عليه السلام عن أهل البصرة فقال لي: (ما هم؟)قلت: مرجئة وقدرية وحرورية فقال: «لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء»(1)، والرواية حسنة بل صحيحة الإسناد.

ومن البين أن للكفر إطلاقين، يتنافى بالأول منهما مع الشرك، دون الثاني، وهما: الكفر بأصل وجود الله تعالى، والكفر بوحدانيته، والمراد هنا الثاني(2)، وقد يقال: يمكن إرادة الأول بدعوى كفرهم بالله لا بوحدانيته فقط، إذ ما عقدوا قلبهم على عبادته هو غير الله، وأما الشرك

ص: 238


1- الكافي: ج2، ص387، ح13.
2- فلا يستشكل ب(كيف وصفهم الإمام بالكفر والشرك في وقت واحد)؟

فجرياً على ظاهر حالهم.

و (على شيء) أي على شيء ذي أصل أو قيمة، أي على شيء صحيح أو معتبر أو حجة.

والظاهر منه أن (الأفعال العبادية) ليست بشيء مادام الاعتقاد فاسداً، يظهر به وجه عدم قبول الأعمال من منكر الولاية.

والظاهر أن استحقاق تلك الملل، اللعن، فطري، ومن المستقلات العقلية؛ فإن من أنكر (الحق) وعاند وكابر وهو به عالم، فإنه مستحق عقلاً لأن يطرده الله عن رحمته، فكيف بمن أنكر خالقه وبارئه والمنعم عليه بكل شيء؟ أو أنكر رسوله أو وصيه أو صفاته وهو بها عالم؟ تكبراً وتجبراً _ بل حتى لو كان تقصيراً _ فإنه يستحق اللعن أي الطرد عن ساحته جل اسمه فإن ذلك هو ما اختاره، وهو الأثر الوضعي لقراره وفعله، وإذا استحق (اللعن) ثبوتاً استحق أن (يلعن) إثباتاً، أي استحق أن يدعى عليه باللعن والطرد، هذا أولاً، ولكون أصل وجود الله تعالى ووحدانيته، والأمر بين الأمرين، فطرياً، فاستحقاق لعن المنكر كذلك، ثانياً.

لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من الخمر عشرة

وروى الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام قال: (لعن رسول الله: الخمر، وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها

ص: 239

والمحمولة إليه)(1)، والرواية موثقة سنداً.

قال في (الفقه): (ثم الظاهر عدم جواز استعمال الخمر مطلقاً حتى في التطلية وتليين الأشياء الصعبة، وما أشبه ذلك؛ لإطلاق بعض الأدلة، ومنها رواية تحف العقول حيث قال عليه السلام (وجميع أنحاء التقلب فيه) وإن كان ربما احتمل الحلية لتعارض العمومات، بعمومات أخرى..).(2)

وإذا كان قبح شرب الخمر _ أي قبح مطلق ما يذهب بالعقل _ بل وحرمته، من المستقلات العقلية، فإن قبح سائر ما ذكر في الرواية من عصر وبيع وسقي... الخ، يندرج في كلي ما ذكرناه في مباحث الاستلزامات، وأن النهي _ وقبله القبح _ المتوجه لذي المقدمة، منبسط على المقدمة؟ _ وهو الرأي المنصور _ أو مترشح منه إليها؟ _ على رأي مشهور _ وأما الوجوب بمعنى اللابدية العقلية فهو، بعد أنه مفروغ منه ولا ريب فيه، فإنه ليس المراد _ ولا ينبغي أن يكون المراد _ من قاعدة الملازمة _ وقد فصلنا ذلك في مباحث الأصول كتاب الملازمة بين حكمي العقل والشرع فليلاحظ _.وعلى أي، فإن هذه الرواية يمكن أن تعد من الأدلة على إنبساط الوجوب للمقدمة، ولا أقل من الترشح فليتدبر.

ولعن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله، دليل حسن اللعن، بل دليل وجوب اللعن في الجملة، فإن (الفعل) وإن كان لا جهة له، إلا أن خصوصية المورد والمادة وتناسب الحكم والموضوع والسياق وقرائن أخرى،

ص: 240


1- الكافي: ج6، ص398، ح10.
2- الفقه، كتاب الأطعمة والأشربة: ج77، ص42.

يستفاد منها الإيجاب بحسب المتفاهم عرفاً ونظراً لبعض أدلة الأسوة كقوله عليه السلام: (فليتأس متأسٍ بنبيه، وإلا فلا يأمننَّ الهلكة)(1) وغيره.

وقد أشرنا لذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى)، وسنفصله في مباحث الأصول بإذن الله تعالى.

حسن الشفاعة

و (حسن الشفاعة)، قال تعالى: «مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا».(2)

والظاهر أن (الشفاعة الحسنة) أيضاً مما يستقل بحسنها العقل، فالأمر فيها لو ورد أو كان بعض الأخبار عنها في مقام الإنشاء، فهو مولوي غيري، وليس مولوياً نفسياً لظهور (الطريقية) فيه، نعم لا دلالة للأمر بها كلما ورد، على كونه للوجوب، وذلك نظراً لقرينية خصوصية متعلقها، فإن كان واجباً كانت كذلك وإلا كانت مندوبة؛ لضرورة عدم زيادة ما بالعرض على ما بالذات والفرع على الأصل، ولعدم مصلحة سلوكية فيها، وإن أمكن تصويره(3) فحالها حال (الأمر بالمعروف) في تبعية وجوبه واستحبابه، لما عليه (المعروف) من وجوب أو ندب، ويكون حالها نظير ما قاله الآخوند في تبعية دلالة كلمة (كل) على الاستغراق والعموم، على حسب مدخولها.

ص: 241


1- وقد تحدثنا عن دليل الأسوة بعض الشيء في (الأصول) فليراجع.
2- النساء: 85.
3- كما ذكرنا نظيره أو ما يقرب منه في (فقه التعاون على البر والتقوى).

ثم إنه لا يبعد كون الجزاء في الآية (وهو يكن له نصيب منها) بين التكويني وبين التفضليّ، ولعل استقلال العقل بحسن الحسن منها، لكونها من مصاديق (الإحسان) الحاكم بحسنه العقل الصريح.

وفي مقابل الشفاعة الحسنة، الشفاعة السيئة كالشفاعة في الحدود، (والمشهور بين الفقهاء حرمة الشفاعة في الحدود، لكن الذي يستظهر من بعض الأدلة الكراهة لا الحرمة... والمسألة بحاجة إلى التتبع والتأمل).(1)

ثم إن الشفاعة، لحسنها العقلي، وردت الآيات والروايات الكثيرة الدالة على ثبوتها للمعصومين عليهم السلام ولغيرهم.

فمنها: ما رواه الصدوق عن أبيه عن الحميري عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ثلاثة يشفعون إلى الله فيشفَّعون: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (2) والحديث معتبر.

ويمكن إلحاق هذا بما يرتبط بأصول الدين بالمعنى الأعم.

مسائل أخرى

ومن المسائل _ ولعلنا نبحثها في الجزء القادم بإذن الله تعالى _ وجوب تقليد الأعلم _ على القول به _ فهل الأمر به _ لو ورد _ مولوي أو إرشادي؟ بل مطلق وجوب رجوع الجاهل للعالم، وربما عدّ بعض الأعلام هذه المسألة من المسائل الأصولية، كما

ص: 242


1- الفقه، المحرمات: ج93، ص211 – 212.
2- الخصال: ج1، ص156، ح197.

ذكره السيد العم دام ظله.(1)

فهل كل ما ورد فيها من الأوامر في الشريعة، إرشادي أو مولوي؟

فعلى الأول: لا استحقاق للعقاب بالترك إلا على المؤدى، وعلى الثاني: يترتب الاستحقاق على القول بالنفسية والمصلحة السلوكية، وعلى القول بالغيرية أيضاً على ما أشرنا إليه في فقه التعاون(2) من استحقاق العقاب على الغيري أيضاً دون مسلك المشهور.

ص: 243


1- راجع بيان الفقه.
2- فقه التعاون على البر والتقوى: ص417.

ص: 244

المبحث السادس: أصناف الأوامر المحتمل أو المدعى كونها إرشادية

اشارة

ص: 245

ص: 246

ويمكن تصنيف الأوامر والنواهي الواردة في لسان الشرع والمذكورة في جوامع الحديث كوسائل الشيعة وجامع أحاديث الشيعة وغيرها، والتي تطرق علماؤنا لبعضها في كتب الفقه، ولبعضها في كتب الكلام والعقائد، ولبعضها في كتب الأخلاق ولبعضها في كتب الحديث، إلى الأصناف التالية:

ص: 247

1- ما يتعلق بالتجارة

اشارة

فمنها الأوامر والنواهي الواردة في شأن التجارة.

وذلك كقول أمير المؤمنين عليه السلام (تعرضوا للتجارة فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس).(1)

وهل يراد ب(الناس) العامة، كما هو ظاهر أو منصرف بعض الروايات الأخرى؟ أم مطلق الناس؟

الظاهر الثاني فإنه(2) ممدوح مطلقاً، وإن كان الأول من باب تأكد الداعي، أو الداعي على الداعي.

ثم هل مفاد (تعرضوا للتجارة) هو نفس مفاد (اتجروا) وقد كني به عنه؟

الظاهر ذلك عرفاً، إلا أنه لدى الدقة فإن (التعرض للشيء) إشارة لتمهيد مقدماته أو بعضها، وأما (اتجروا) فإشارة للمباشرة.

ص: 248


1- الوسائل: ج14، ص5، ب1، ح11.
2- أي الاستغناء عن الناس.

وهل (حسن التجارة) أو حتى (التعرض لها) من المستقلات العقلية أم لا؟ فإن كان منها كان الأمر بها إرشادياً _ على مسلك الضابط الخامس _ وكذا على ضابط كون الملاك المصلحة الدنيوية، دون ما لو قلنا بالضابط الأول، فإنه يراعى كون الأمر بها، قد صدر منالمولى بما هو مولى أو لا؟ أو قلنا: بأن الملاك ضابط المحبوبية وأحرز من الروايات محبوبية التجارة.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: (ترك التجارة ينقص العقل).(1)

وقال عليه السلام: (التجارة تزيد في العقل).(2)

وقد تتبعت المعاني الموضوع لها العقل أو المستعمل فيها، فوجدتها أربعة عشر معنى، وقد أشرت إلى تفصيل ذلك في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) وكتاب (الضوابط الكلّية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) فليراجع.

(زيادة العقل)، محبوبة للمولى بما هو مولى

ومن البيّن لمن تتبع الآيات والروايات: أن (زيادة العقل) محبوبة للمولى جل اسمه ول «رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(3) بما هم موالي، فيتعين حمل الأمر به _ فيما أمر به _ على المولوية، أو يرجح _ على الضابط الثالث والأول.

ص: 249


1- الكافي الشريف: ج5، ص148، باب فضل التجارة والمواظبة عليها، ح1.
2- المصدر: ح2.
3- المائدة: 55.

وقال عليه السلام: (اتجروا بارك الله لكم).(1)

ولعل قوله عليه السلام (بارك الله لكم) بصيغة الماضي من باب كونه من المضارع المحقق الوقوع، وقوله (يبارك الله لكم) الآتي، جرياً على المعتاد، إضافة لإفادة الاستمرار والتجدد كما هو شأن صيغة المضارع.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: (لا تدعوا التجارة فتهونوا، اتجروا يبارك الله لكم).(2)

و (الهوان) مذموم وهو بين محرم ومكروه، فكذا ترك التجارة فإنه بين حرام ومكروه، تبعاً لمقدميته للحرام أو المكروه، بناء على ا لترشح من ذي المقدمة أو بناء على مبنى شمول الدليل نفسه للمقدمة وذيها، ولا يبعد ترادفه مع (الذلة)، وقد يقال: (الذلة) بلحاظ الناس و (الهوان) بلحاظ النفس، كقوله عليه السلام: (وهانت عليه نفسه)(3) ولعلهما مما إذا اجتما افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فتشمله أدلته مثل (ولم يفوض إليه أن يذل نفسه).(4)

وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله حين أهبط آدم من الجنة أمره أن يحرث بيده، فيأكل من كد يده، بعد نعيم الجنة...).(5)

والظاهر أن الأمر متعلق ب(الحرث)، و ب(يده) من باب المصداق فهو

ص: 250


1- فروع الكافي: ج5، ص318، ح59.
2- تهذيب الأحكام: ج7، ص3، ب1، ح6.
3- نهج البلاغة: ج4، ص3.
4- الكافي الشريف: ج5، ص63، باب كراهة التعرض لما لا يطيق، ح2.
5- مستدرك الوسائل: ج12، ص24، ب8، ح9.

محقق للموضوع، وليس قيداً، وإن أمكن أخذه قيداً؛ لما في خصوص الحرث باليد من الفائدة البدنية.وتظهر الثمرة في الالتزام باستحباب (الحرث باليد) في الجملة(1) حتى مع وجود الآلات.

شواهد على أن أوامر التجارة مولوية

وقد يقال بكون هذه الأوامر وما سيأتي من الأوامر (مولوية)؛ لانطباق ضابط المولوية الأول عليها، كما سيجيء، أي لصدورها من المولى بما هو مولى، أو لاستشعار محبوبيتها للمولى من مراجعة لحن الأمر بها في بعض الروايات، فتكون مولوية على الضابط الثالث أيضاً، ويشهد له كونها واجبات كفائية، فإنها مفاد الأمر المولوي لا الإرشادي، ومستحبات(2)، وقد رتب عليها الثواب، والتعليل(3) غير صارف للإرشادية كما أوضحناه في موضع آخر وكما أشرنا إليه في فقه (التعاون على البر والتقوى).(4)

ولعل مما يرجح مولوية أوامر التجارة، ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذنية عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني قد كففت عن التجارة وأمسكت عنها، قال: (ولم ذلك، أعجز بك؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفوا عن التجارة،

ص: 251


1- بأن يقال باستحباب أن يقوم بالحرث بيده أحياناً.
2- (واجبات كفائية) في (الأصل)، و (مستحبات) في المراتب والخصوصيات.
3- أي كونها معللة في الروايات.
4- عند التطرق لكلام السيد الحكيم حول إرشادية أمر التوبة.

والتمسوا من فضل الله عز وجل).(1)

وهي حسنةٌ على رأي جمع منهم العلامة المجلسي في مرآة العقول.(2)

ووجه الاستشهاد قوله عليه السلام: (والتمسوا من فضل الله عز وجل) فإن ما كان كذلك(3) كان محبوباً للمولى، ورجح أن طلبه لمحبوبيته له وإن كان (كذلك تذهب أموالكم) مما قد يستظهر منه المصلحة الدنيوية، وفيه ما ذكرناه في موضع آخر من: أن (الأموال) للمصلحتين معاً، بل كون (المصب) الدنيوية غير ضار، بعد أنه ليس الملاك بل الملاك هو (ما صدر من المولى بما هو مولى) كما فصلناه في فصل الضوابط.

ومما يدل صراحة على محبوبية التجارة، ما رواه محمد بن عذافر عن أبيه قال: (أعطى أبو عبد الله، أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتجر بها، ثم قال: أما إنه ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوباً فيه، ولكني أحببت أن يراني الله جل وعز متعرضاً لفوائده..)(4)، مما يدل على محبوبية التجارة للمولى بما هو مولى؛ فإن كونه متاجراً وكونه متعرضاً لفوائد الله تعالى متحدان بالحمل الشائع الصناعي وإن لم يتحدا بالذاتي الأولي.

وبعبارة أخرى: أحدهما كلي طبيعي والآخر مصداقه _ فتأمل.

ص: 252


1- الكافي الشريف: ج5، ص149، باب فضل التجارة والمواظبة عليها، ح11.
2- ج9، ص131.
3- أي ما كان مصداقاً للالتماس من فضل الله تعالى، كالتجارة.
4- الكافي الشريف: ج5، ص76، ح12.

وإننا وإن لم نصر إلى الضابط الثالث(1) إلا أن كون الشيء محبوباً للمولى، مما يساعد على استظهار كون الأمر به قد صدر من المولى بما هو مولى.

ص: 253


1- ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته.

2- الأوامر في الصنائع والحرف

اشارة

وحسن أو وجوب (الصنائع والحرف) للمعاش، قال العلامة المجلسي: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «... والله يحب المحترف الأمين».(1)

من شواهد مولوية أوامر الصناعات

والظاهر أن قوله عليه السلام: (والله يحب المحترف الأمين) شاهد على مولوية الأوامر في شأن الحرف ومنها ما صدّرت به الرواية من (تعرضوا للتجارة فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس)، إذا ذهبنا للضابط الثالث في المولوي وهو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته).

نعم قوله عليه السلام: (فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس) شاهد على الإرشادية.

وكذا إذا ذهبنا للضابط الثاني وهو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا) إلا أن يقال كما فصلناه في موضع آخر بأن (الغنى عما في أيدي الناس) ذو مصلحة أخروية أيضاً، والملاك في لحاظ المولى: هو (المصب).

ص: 254


1- بحار الأنوار: ج10، ص100، ح103.

وقال الشيخ الأعظم في المكاسب: (مع إمكان التمثيل للمستحب (من المكاسب) بمثل الزراعة والرعي مما ندب إليه الشرع، وللواجب، بالصناعة الواجبة كفايةً، خصوصاً إذا تعذر قيام الغير به فتأمل).(1)

ولعلنا نتكلم حول (الزراعة) و (الرعي) في الجزء الثاني بإذن الله تعالى، فإن الروايات فيها متعددة، والمستظهر منها المولوية، ولذا اعتبرها الشيخ والوالد وعدد من الأعاظم رحمهم الله، مستحبة، فهي موجبة للأجر والثواب، رغم أن مصالحها فيما يبدو في بادئ النظر، دنيوية، بل قد يعد هذا من أدلة عدم تمامية الضابط الثاني المدعى كونه الفارق بين المولوي والإرشادي.

ثم الظاهر أن وجوب (الصناعة) مولوي غيري، إذ احتمال المصلحة النفسية أو المصلحة السلوكية فيها ضعيف وإن كان ذا وجه _ ولعلنا نفصله لاحقاً بإذن الله تعالى.

«كاتبوهم» أمر مولوي أو إرشادي؟

وقال الصدوق: وروى العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله «فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» قال عليه السلام: «الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة»(2) والرواية صحيحة سنداً.

وهل (كاتبوهم) مولوي تشريعي للندب، بعد الفراغ عن عدم وجوبه للدليل الخارجي، فهو مستحب ويترتب عليه الثواب؟ أو مولوي _

ص: 255


1- كتاب المكاسب: أول المكاسب المحرمة، ج1، ص8.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3، ص132، ح3491.

للنصح، أو إرشادي؟ احتمالات.

ولعل ما يشهد للأول إلحاقه تعالى ب«وآتوهم من مال الله الذي أتاكم» فإنه أنسب بمقام المولوية.

نعم «إن علمتم فيهم خيراً» بناء على كون معناه (إن كانت الكتابة خيراً لهم)(1) قد يصرفها للإرشاد، بناء على الضابط السادس(2) والثامن(3) وعلى بعض آخر _ كالثاني(4) وغيره _ فتأمل.أما على الضابط المنصور وهو الأول، فلا صارف وكذا على الثالث، وبعض آخر.(5)

وقد يستظهر من جعل (العمل والحرفة) في سياق (الشهادتين)، كونهما مطلوبين للمولى بما هو مولى، فالأمر فيها _ لو ورد _ مولوي.

من أدلة مطلوبية (العمل) بكل أشكاله

كما أن مما يدل على (مطلوبية) العمل بأي شكل من الأشكال، ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذنية عن زرارة قال: إن رجلاً أتى أبا عبد الله عليه السلام وقال له: إني لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي، ولا أحسن أن أتجر، وأنا محارَف محتاج؟ فقال: (اعمل، فاحمل على رأسك، واستغن عن الناس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد حمل

ص: 256


1- تبيين القرآن: ص366.
2- وهو ما كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر.
3- وهو ما عادت المصلحة للمأمور.
4- وهو ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا.
5- كالتاسع.

حجراً على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه، وإن الحجر لفي مكانه لا يدرى كم عمقه، إلا أنه ثمَّ بمعجزته).(1)

إذ قد يقال: إن ظاهر (اعمل) المولوية، خاصة بقرينة الاستشهاد بعمل رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدل على مطلوبية مطلق العمل حتى (الصعب) والحقير ظاهراً منه، بقرينة تنزله عليه السلام إلى (احمل على رأسك) وهو عمل صعب، ولعله مستحقر في بعض الأعراف.

ولعل في قوله عليه السلام: (استغن عن الناس) دلالة على شدة مطلوبية (اعمل) بل على مولويته، لكراهة الشارع بما هو شارع: الاستعطاء والاحتياج إلى الناس تقصيراً، فيكون ما يرفعه مطلوباً ومحبوباً للمولى.

كما يتضح ذلك بملاحظة رواية تحف العقول المعروفة، وقد ذكرنا في (فقه التعاون) تفصيلاً حول أن (التعليل) ليس قرينة على الإرشاد، فتبقى الرواية الأولى في دائرة البحث عن كون الأمر فيها مولوياً أو إرشادياً.

كما أن المورد _ في الرواية الثانية _ لا يخصص الوارد.

وهذا الإخبار مما يستفاد منه الرجحان والمطلوبية فإنها لازمه(2) فيجري الكلام في أن هذا الطلب _ المستفاد صريحاً من روايات أخرى _ هل هو مولوي أم إرشادي؟

ص: 257


1- الكافي الشريف: ج5، ص76، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الإقتداء بالأئمة عليهم السلام في التعرض للزرق، ح14.
2- أي المطلوبية، لازم لكونه خيراً أي لازم لما تضمنه هذا الأخبار، فهنا نوع استخدام.

3- ما يتعلق بالمعاش والحياة الشخصية

اشارة

3- ما يتعلق بالمعاش والحياة الشخصية(1)وقال الإمام الصادق عليه السلام (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير)(2)، والمخالطة أعم من المعاملة وهي تشمل مثل الزواج والمباحثة والشراكة.(3)

هل النهي عن (مخالطة من لم ينشأ في الخير) تنزيهي؟

والنهي وإن كان تنزيهياً لا تحريمياً _ حسب المشهور في مثله _ إلا أنه هل هو تنزيه مولوي _ نصحي؟ أم مولوي _ تشريعي فيفيد الكراهة؟ أم إرشادي؟ ثم هو _ على فرض إرشاديته ليس إلزامياً، بناء على تقسيم الإرشادي للإلزامي وغيره كما هو مسلك الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي _ اللهم إلا فيما وقع مقدمة للحرام.

والظاهر أن النهي عن مخالطة ومعاملة من لم ينشأ في الخير، مبني على الغالب وليس مما عليه (المدار) مطلقاً..

ص: 258


1- لا يخفى أن هذا القسم أعم مما سبقه إلا أنه أفرد بالذكر لأهميته.
2- فروع الكافي: ج5، ص158، ح5.
3- أي المخالطة بالزواج، أو بالمباحثة للدروس، أو الشراكة التجارية، وغيرها أو غير ذلك.

وبعبارة أخرى: هو حكمة وليس علة، فمن نشأ في الخير ولم تحسن معاملته فلا ترجح معاملته، أو من لم ينشأ في الخير وعلم الإنسان أو ظن ظناً معتبراً عقلائياً أنه ممن يلتزم بعهوده ومواثيقه، فإن معاملته راجحة.

اللهم على ملاحظة المصلحة والمفسدة السلوكية فيهما، ولعل الراجح ملاحظة مجموع الجهتين، على أن مصب الرواية لعله يكون لحاظ الجانب الطريقي، فتدبر، وعلى كل التقادير فإن بحث (المولوية) و (الإرشادية) جارٍ وإن كان مما يرجّح المولوية، لحاظ جانب المصلحة السلوكية: مصباً أو قيداً أو تشريكاً.

الأمر بسؤال الله (الغنى في الدنيا)، مولوي أو إرشادي؟

ومن الأوامر والنواهي المتعلقة بشؤون المعاش والحياة الشخصية مما تجمعه كلمة (النصح)، كلام الإمام الصادق عليه السلام (سلوا الله الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة)(1) فهل هو مولوي _ بأحد قسميه _ للندب، أم إرشادي؟

والظاهر من هذا الحديث ومن غيره: مطلوبية (الغنى) للمؤمن، في الدنيا، ومحبوبيته، وكذا (العافية)، كمطلوبية (المغفرة) في الآخرة و (الجنة) ولذا طلب الإمام عليه السلام سؤالها من الله تعالى.

ص: 259


1- فروع الكافي: ج5، ص71، ح4، نقلاً عن (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) للإمام الشيرازي قدس سره.

شأن المولى إصلاح شؤون العبد لكلا الدارين

وقد يعد هذا الحديث من الأدلة على ما ذكرناه من موضع آخر من: أن شأن المولى بما هو مولى ليس طلب ما يصلِح آخرة الإنسان فقط، بل ما يصلح دنياه أيضاً.

فالحديث هذا من صغريات قوله تعالى: «ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة»(1) وقال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: (إنها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا، ورضوان الله والجنة في الآخرة) كما في مجمعالبيان(2) ونظيره في الكافي(3)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام (في الدنيا: المرأة الصالحة)، وقال في الصافي: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة» كالصحة والأمن والكفاف وتوفيق الخير.

وفي مجمع البيان: (قيل: العلم والعبادة في الدنيا) ومثله ذكر الصافي.

وقال الصافي: (أقول: كل ذلك أمثلة للمراد فلا تنافي بينها) أي كلها تفسير بالمصداق، وهو الأظهر.

وإذا ثبتت محبوبية أمثال ذلك للمولى، كان الأمر بها مولوياً بناء على

ص: 260


1- البقرة: 201.
2- مجمع البيان: ج2 ص51.
3- الكافي: ج5، ص71، ح2، قال أبو عبد الله: (رضوان الله والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا).

الضابط الثالث للمولوية والإرشادية، وكان من مرجحات كونه مولوياً، على الضابط الأول.

الغنى وسؤاله مطلوبان طريقياً أو موضوعياً؟

ثم الظاهر أن (سؤال الله تعالى، الغنى) مطلوب قد اجتمعت فيه الجهتان: الموضوعية والطريقية، فإن (سؤاله تعالى) مطلوب في حد ذاته بل هو شرف ما فوقه شرف، ومطلوب لطريقيته للغنى؛ فإنه (علة معدة) و (مقتضٍ)، قال تعالى: «وقال ربكم ادعوني استجب لكم».(1)

ثم إن (مطلوبية الغنى) للمؤمن، هل هي طريقية أم موضوعية أيضاً؟

ولعل مما يؤيد الأول ما رواه علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم العون على تقوى الله، الغنى).(2)

ومما يؤيد الثاني: الرواية السابقة في تفسير الآية؛ إذ أن الإمام عليه السلام فسر (الحسنة) في الآية ب(السعة في الرزق والمعاش) الظاهر في الحسن الذاتي لا الغيري، خاصة بقرينة نظائره في السياق فتأمل.

ولعلنا نتطرق لتفصيل ذلك في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.

ثم أن (سؤال الله الغنى) مما يظهر من السيد الوالد قدس سره حيث عنون الفصل ب (استحباب تحصيل المال الحلال وإنفاقه)(3)، أنه اعتبره مولوياً لا إرشادياً، لكنه ساكت عن كونه مولوياً _ تشريعياً للندب أو مولوياً _

ص: 261


1- غافر: 60.
2- المصدر: ح1.
3- فروع الكافي: ج4، ص52، ح1.

نصحياً، وإن كان الظاهر الأول.

الانفاق بإقتصاد

ومن الروايات:

ما ورد عن الإمام أبي جعفر قال قال علي بن الحسين عليهما السلام (لينفق الرجل بالقصد، وبلغة الكفاف، ويقدم منه فضلاً لآخرته، فإن ذلك أبقى للنعمة وأقرب إلى المزيد من الله عز وجل وأنفع في العافية).(1)و (القصد) الاقتصاد و (وبلغة الكفاف) ما يبلغه لما يكفيه، وقد يكون (يقدم فضلاً منه لآخرته) قرينة على كون ما سبقه مولوياً أيضاً فتأمل.

ومنها:

قول الإمام الصادق عليه السلام: (إذا جاد الله تبارك وتعالى عليكم فجودوا، وإذا أمسك عنكم فأمسكوا، ولا تجاودوا الله فهو الأجود).(2)

ولعل (وإذا أمسك عنكم فأمسكوا) لبيان مقتضى القاعدة، ولمن يقع في العَنَت ولا يتحمل عادة وقد يسيء الظن بالله لو جاد فلم يجد عليه، وقد يدعى انصرافه عن مثل أئمة المسلمين، ومن لفّ لفهم، أو من يتحمل عادة، وقد يفهم ذلك من (ولا تجاودوا الله فهو الأجود).

ص: 262


1- فروع الكافي: ج5، ص71، ح4، نقلاً عن (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) للإمام الشيرازي قدس سره.
2- الكافي: ج4، ص54، ح11.

الأمر بالذهاب للسوق لأنه عزة، مولوي

ومنها:

ما عن هشام بن أحمد قال كان أبو الحسن عليه السلام يقول لمصادف: (أغد إلى عزك _ يعني السوق _).(1)

والظاهر أن هذا الأمر مولوي، صدر من المولى بما هو مولى.

ويدل عليه: أن (عزةَ) مثلِ مصادف، عزة للشيعة ورفعة لهم، فهي محبوبة للمولى بما هو مولى للشيعة، بل إن عزته بما هي هي وبما هو هو، مطلوبة؛ فإن «وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».(2)

والحاصل أن (عزة) كل مؤمن مطلوبة، موضوعياً وطريقياً، أو نفسياً وغيرياً.(3)

والحديث هذا صحيح إذ قد ورد عن محمد وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن علي بن عطية عن هشام بن أحمد (أحمر).(4)

قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: (الحديث صحيح، وقوله «اغد إلى عزك» أي إلى ما هو سبب له). (5)

ص: 263


1- تهذيب الأحكام: ج7، ص3، ب1، ح4.
2- المنافقون: 8.
3- موضوعياً ونفسياً بلحاظه هو، غيرياً وطريقياً، بلحاظ أن عزة كل مؤمن تسهم في عزة سائر المؤمنين فهي طريق ومقدمة أيضاً.
4- وقد ورد بهذا السند في الكافي الشريف: ج5، ص149، ح7، كتاب المعيشة، باب فضل التجارة والمواظبة عليها.
5- مرآة العقول للعلامة المجلسي: ج19، ص130 طبعة دار الكتب الإسلامية.

أقول: قد يقال إن (اغد إلى عزك) أعم مما ذكره طاب ثراه؛ إذ نفس الجلوس في (المتجر)، عزّ وليس فقط ما يترتب عليه من الاتجار والاستثمار والثراء.

ولعل في قوله (كان أبو الحسن عليه السلام يقول) دلالة على استمرار قول ذلك منه عليه السلام، ولعله كان يتشرف يومياً مبكراً إلى محضر الإمام عليه السلام ليستزيد علماً وتقوىوخلقاً، ويبقى إلى أن ينبهه الإمام عليه ب(اغد إلى عزك) للأخذ بحسنة الدنيا أيضاً _ وهي في المقام حسنة للآخرة كذلك.

ونظائره كثيرة، كما في ما ورد للمعلى بن خنيس ولمولى له وغيرهما، فراجع (الوسائل) و (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً) و (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار) وغيرها.

وقد سبق قول الإمام الصادق عليه السلام لرجل محتاج (أعمل، فأحمل على رأسك، واستغن عن الناس).(1)

وقال الإمام الصادق عليه السلام (باشر كبار أمورك بنفسك وكِل ما صغر منها إلى غيرك).(2)

وقد يستظهر منه الإرشاد إلى ما هو الأصلح له، وإن كان يمكن أخذه وأمثاله مولوياً؛ لعناية الإمام بما هو مولى وإمام، بأتباعه، كي لا ينشغلوا بغير الأهم أو بسفاسف الأمور.

ص: 264


1- فروع الكافي: ج5، ص76، ح14.
2- غوالي اللئالي: ج3، ص197، ح13.

4- ما يتعلق بمكارم الأخلاق

اشارة

ومن الأوامر والنواهي المتعلقة بمكارم الأخلاق، ما ورد من أمير المؤمنين عليه السلام (حصنوا الأعراض بالأموال)(1)، وبمضمونه أحاديث كثيرة تغني عن البحث عن سنده وسندها، إضافة إلى مطابقته للأصول والقواعد.

تحصين الأعراض بالأموال

و (التحصين) أعم من ما كان بنحو العلة المحدثة أو المبقية، أي أعم من الدفع والرفع.

و (العرض) أعم من: ماء الوجه والسمعة الحسنة وكرامة الإنسان، ومن (العرض) بالمعنى الأخص.(2)

والظاهر أنه أعم من عرض الإنسان وعائلته وجماعته وتياره ومجتمعه وأمته وذوي مذهبه ودينه، وهو أهم من المال.

ص: 265


1- غرر الحكم: الفصل29، ح12.
2- كبذل مال لحماية نسائه من الاختطاف، أو من الانجراف للفساد والإنحراف.

وبناء على كونه(1) مولوياً فإنه يستفاد منه الوجوب وإن كان طريقياً، وأما الاستحباب في غير المعتد به منه(2) فهو للانصراف(3)، وأما دعوى الانصراف عن غير عرض نفسه وأهله، فلعله بدوي، ولو كان فالملاك محكّم.

وبناء على ذلك يجب بذل المال _ مثلاً _ لتكوين الجمعيات والمنظمات التي تهتم بالحفاظ على سمعة حسنة للإسلام والمسلمين أو للشيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام أو للعتبات المقدسة وأهلها أو ما أشبه.

هل الحدود تعطل مؤقتاً؟

ومن هذا الباب ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره من عدم إجراء بعض الحدود أو كلها مؤقتاً _ والانتقال للتعزير أو الغرامة أو ما أشبه _ لو كان ذلك يضر بسمعة الإسلام والمسلمين، من باب الأهم والمهم، ومثل هذه الرواية تصلح دليلاً أو مؤيداً.

والظاهر أنه(4) مولوي على الضابط الثاني والثالث، بل والأول أيضاً؛ فإنه(5) من شؤون الآخرة ومحبوب للمولى بما هو مولى، والظاهر صدور الأمر منه بما هو مولى فإنه «عزيز عليه ما عنتم

ص: 266


1- أي تحصين العرض.
2- أي من (العرض).
3- أي انصراف أدلة لزوم حفظ العرض عن القليل من ماء الوجه وشبهه، لا انصراف (حصنوا) إذ لا حاجة له بعد كونه مقدمة المستحب.
4- أي قوله عليه السلام: (حصنوا الأعراض بالأموال).
5- أي حفظ الأعراض وتحصينها.

حريص عليكم».(1)

هل النهي عن (فضول المطعم) مولوي؟

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إياكم و (فضول المطعم)؛ فإنه يَسِم القلب بالقسوة ويبطئ الجوارح عن الطاعة ويُصِمّ الهمم عن سماع الموعظة، وإياكم و (فضول النظر)؛ فإنه يبذر الهوى ويولد الغفلة...).(2)

والظاهر من (التعليل) لحاظ شؤون الآخرة، فالأمر مولوي بناء على مَن يرى الضابط في المولوية والإرشادية هو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) أو (الدنيا).(3)

كما أنه مولوي عند من يرى الضابط (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته) وكذا في (المبغوضية).

نعم على الضابط الأول الذي ارتضيناه من كونه (ما صدر من المولى بما هو مولى) فهل هو (مولوي تشريعي) أو (مولوي نصحي) أو (إرشادي) للإلزام أو للكراهة؟

الظاهر أنه مولوي _ تشريعي _ للكراهة، إن لم يقع مقدمة لحرام، وإلا فمولوي للحرمة بناء على ترشح الحرمة من ذي المقدمة لها، أو شمول دليل التحريم وانبساطه على مجموع المقدمة وذيها _ كما ارتضاه البعض وصرنا إليه _.

ص: 267


1- التوبة: 128.
2- أعلام الدين: ص339، وبحار الأنوار: ج100، ص27، ب2، ح40.
3- اللفّ والنشر مرتّب.

ثم إن (القسوة) رذيلة، وليست محرمة، إلا ما كان منها طريقاً للحرام.

و (الطاعة) أعم من الواجبة والمستحبة.

و (سماع الموعظة) مندوب إلا لو كان مقدمة للواجب من العمل والاتعاظ.

و (الهوى) بين حرام ومكروه و (الغفلة) رذيلة، كذلك.

ثم الظاهر إن ما عدا العلة الأولى والرابعة والخامسة من العلل الخمسة المذكورة في الرواية، مقدمية وغيرية، أما الأولى فإنها مذمومة بالذات، وكراهتها نفسية، وقد تقع مقدمة للحرام فتحرم على المبنى.

وقال الإمام الباقر عليه السلام لمحمد بن مسلم _ وكان رجلاً موسِراً جليلاً _ (تواضع) قال الراوي: فأخذ قوصره من تمر فوضعها على باب المسجد، وجعل يبيع التمر... ثم أخذ رحى وقعد على بابه وجعل يطحن.(1)

(التواضع) من المستقلات العقلية والأمر به مولوي؟

و (التواضع) على أربعة أقسام _ كما ذكره السيد الوالد قدس سره _: التواضع لله، وللناس، وللعلم، وللعمل، وإطلاق روايات التواضع تشملها بأجمعها، والانصراف للأولين، بدوي.

ولا ريب في كون التواضع لله من المستقلات العقلية، وقد يستظهر

ص: 268


1- رجال الكشي: ج1، ص388، ح278.

كونه كذلك بالنسبة للبواقي.. فعلى هذا هل الأمر بالتواضع مولوي أو إرشادي؟

(المرجع): الضابط في الإرشادية والمولوية، كما فصلناه في مبحث آخر، وفي المقام هل قوله عليه السلام (تواضع) مولوي أو (إرشادي)؟

ربما يقال: إنه حيث لا توجد قرينة مقامية معيِّنة فإنه محكوم بحكم كليّة.

وغير خفي أن ما قام به محمد بن مسلم كان من باب المصداق، ولعل ترك الإمام تحديده، كي يتعود الأصحاب على تطبيق الكليات على الجزئيات، بل الاجتهاد، هذا.

والحديث عن مكارم الأخلاق ومفرداتها من حيث المولوية والإرشادية، يستدعي بحثاً طويلاً بل ربما مجلداً كاملاً، فلنتركه لوقت آخر إذا شاء الله تعالى.

ص: 269

5- الأوامر والنواهي في الشؤون الإدارية وشؤون النظم أو السعادة

اشارة

ومنها:

الأوامر المتعلقة ب(النظم والنظام)، أو المتعلقة بعوامل وأسباب وعلل النظم والنظام، وكذا جملة من الأوامر المتعلقة بما تتحقق به كل من: السعادة أو التقدم أو الإزدهار.

والنسبة بين الأولين(1) هي العموم والخصوص من وجه، ومع الأخير(2): المطلق، فتأمل.(3)

وكذا ما جعل لها من قوانين وأحكام وطرق وسبل وضمانات: كالشورى، وتدبر العواقب، والتنافس، والحرية في إطارها الصحيح، وكنظام العقوبات ومنه الحدود والتعزيرات، والتعاون، والمواساة، والايثار، والأخوة الإسلامية، والأمة الواحدة، بل: وذكر الله تعالى،

ص: 270


1- وهما السعادة والتقدم.
2- المراد بذلك: النسبة بين كل من الأولين وهذا الأخير وهو الإزدهار.
3- إذ الظاهر اختلاف النسبة باختلاف الجهات أو المضاف إليه، ومع الاتحاد ف: بين الأول والثالث: من وجه، وبين الأخيرين: المساواة _ فتأمل.

والصلاة في أوقاتها(1)، والتوسل بالأنبياء والأوصياء(2) إلى غير ذلك مما يحتاج بيان كل واحدٍ منها إلى كتاب، وقد فصل السيد الوالد قدس سره الحديث عنها في (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) وفي (موسوعة الفقه)، في كتب الحقوق والقانون والسياسة والإدارة والاقتصاد والدولة الإسلامية وغيرها، وسنشير هنا إشارة عابرة إلى بعضها.

من روايات النظم والنظام

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم».(3)

وهل وصيته كانت بما هو إمام مفترض الطاعة؟ أو بما هو عالم بالأصلح لأنه باب مدينة علم الرسول؟ أو بما هو أب شفيق؟

الظاهر الأول _ وإن لم تكن هذه الجهات مانعة جمع _، فالوصية مولوية، لكن هل هي (مولوية _ تشريعية) فيستحق العقاب على المخالفة، أم هي (مولوية _ نصحية) فلا وإن كانت ملزِمة؟ الظاهر الثاني، إلا بلحاظ بعض (الغايات) فيدور الأمر مدارها، بناء على بعض

ص: 271


1- فإنها مما يسبب السعادة الدنيوية والأخروية ويربي على النظم، ويسبب التقدم والإزدهار _ بنحو المقتضي _.
2- فإنه من أهم أسباب التقدم والسعادة، كما أن الالتزام بالأدعية في أوقاتها من عوامل تنظيم حياة الإنسان وتعويده على النظام.
3- نهج البلاغة: ج3، الخطبة 47، ص76.

الأقوال في المقدمة الموصلة.(1)وتفصيل بعض القول في ذلك إنه وردت روايات عديدة تأمر ب(النظم والنظام) أو تتحدث عن العلة الغائية أو غير ذلك، ومنها:

قوله عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم).(2)

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر... والأمانة نظاماً للأمة والطاعة تعظيماً للإمامة).(3)

وقال عليه السلام: (وأعظم ما افترض سبحانه _ من تلك الحقوق _ حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم).(4)

وقد يستفاد من هذه الروايات (وجوب) النظم والنظام، وقد يستظهر أن الأمر بها مولوي، وبيان ذلك بايجاز:

ص: 272


1- ذكرنا في موضع آخر الخلاف في استحقاق العقاب على المقدمة المفوِّتة أو الثواب على الموصلة، أو عدمه كما هو رأي الآخوند.
2- نهج البلاغة: الكتاب 47، وصيته للحسن والحسين عليهم السلام لما ضرب ابن ملجم.
3- نهج البلاغة: ج4، ص55، الكلمة 252.
4- نهج البلاغة: ج2، ص198، ح216.

(الوصية) تنقسم للإرشادية والمولوية

إن (الوصية) وإن اشتهر على بعض الألسن أنها للإرشاد، إلا أن الظاهر أنها تنقسم إلى مولوية وإرشادية، فإن المولى قد (يوصي) عبده، بما هو ناظر لمصلحته أي ملاحظاً المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه، صرفاً.

وقد يوصي عبده معملاً مقام مولويته أي يوصيه بما هو مولى.

ويشهد له قوله تعالى «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(1) وقوله تعالى «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»(2) وقال تعالى «ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله».(3)

ومن البين أن متعلق الوصية في هذه الآيات: حكم مولوي إلزامي؛ فإن الله بما هو مولى قرر للذكر مثل حظ الأنثيين وفرضه، وهو حكم تكليفي ب(الإعطاء) ووضعي ب(الملكية).

كما أن (لا تموتن إلا وأنتم مسلمون) نهي مولوي من يعقوب لبنيه.

وأما

(أن اتقوا الله) فهو أمر مولوي للإيجاب والإلزام.

ولا تلزم محاذير اللغوية، أو تعدد استحقاق العقاب بالمخالفة، أو التسلسل، وغيرها من إعماله جل اسمه مقام مولويته، وقد فصلنا ذلك

ص: 273


1- النساء: 11.
2- البقرة: 132.
3- النساء: 131.

في فقه التعاون وفي مباحث الأصول.

إلا أن يقال: إن الوصية (دال) وتلك (مداليل) والدال إرشاد لها ووعظ بها، فلا تسري المولوية من المدلول للدال.لكن فيه: اتحادها معها(1) اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه، فقد أطلقت عليها(2) ولذا يصح قولك (وصيتي هي أكرم زيداً) بدون تكلف تأويل أو تقدير.

الأقوال في (الوصية) ومعانيها

قال السيد السبزواري رحمه الله: (و "أن" في قوله تعالى "أن اتقوا الله" أما على أنها مصدرية بتقدير الجار أي بأن «اتقوا الله»(3)، أو تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول، وهو يرجع للأول أيضاً).(4)

لكن لعل الفرق أنه على الأول: فإن «أن اتقوا الله» متعلَّق للوصية، وعلى الثاني: هي كعطف البيان ولا حاجة لتضمينها معنى القول لتصحيح حذف الجار.(5)

ويوضحه: أن (الوصية) من (وصي) (ووصي أصلٌ يدل على وصل شيء بشيء.. ووصيت الليلة باليوم، وصلتها، وذلك في عمل تعمله،

ص: 274


1- أي اتحاد الوصية مع تلك المداليل.
2- أي أطلقت الوصية على نفس تلك المدلولات من (اتقوا الله) وغيره.
3- أو يكون أوْله إلى (بتقوى الله).
4- مواهب الرحمن: ج9، ص386.
5- إذ على إرادة نظير عطف البيان يكون المراد كقولك ولقد وصينا الذين... وكانت وصيتنا هي: أن اتقوا الله.

والوصية من هذا القياس، كأنه كلام يوصى أي يوصل) كما في معجم مقاييس اللغة، مادة وصي(1).

وقال في (المفردات): (الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ من قولهم أرض واصية: متصلة النبات)(2).

وفي مجمع البحرين: (الوصية فعيلة من وَصَى يصي إذا أوصل الشيء بغيره لأن الموصي يوصل تصرف بعد الموت بما قبله)(3).

وقال في الجواهر: (وذكر غير واحد من الأصحاب أن الوصية منقولة من وصي يصي بالمعنى الأخير)(4) _ وهو إذا وصلته به _.

وقال في مواهب الرحمن في تفسير القرآن: (مادة وصي تأتي بمعنى الوصل والعهد؛ لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته، ويوصل تصرفاته وأعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضاً).(5)

والظاهر أن معنى العهد يعود للوصل أيضاً فإنه نوع وصل.وقال في مواهب الرحمن أيضاً: (الوصية العهد والأمر، ومنه الوصية المعروفة)(6)، و (الأمر) مصداق للوصل، ولوورد كمعنى مستقل للوصية، فهو دليل أيضاً على ما صرنا إليه من انقسام (الوصية) للمولوية والإرشادية.

ص: 275


1- معجم مقاييس اللغة: ج6 ص116
2- نفردات غريب القران: ص525
3- مجمع البحرين: ج4 ص511
4- جواهر الكلام : ج28 ص241
5- مواهب الرحمن: ج2، ص71.
6- مواهب الرحمن: ج7، ص322.

فالوصية على هذا إن كانت مولوية كانت وصلاً لإرادته بعبده، أو عهداً منه إليه بأن يفعل، بما هو مولى عليه _ بناء على التغاير.

وإن كانت إرشادية كانت وصلاً لوعظه بعبده.

وقال في الجواهر (وهي: إنشاء الموصي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة)(1) وهو وإن كان تفسيراً للمعنى الإصطلاحي إلا أنه يشعر بمعناه المنقول منه أيضاً.

الوصية بالنظم مولوية، على كل معانيها

وعلى ما سبق فإن قوله عليه السلام: (أوصيكما بتقوى الله ونظم أمركم) وصية مولوية بنظم الأمر، كما هي وصية مولوية بالتقوى، فإنها (وصل لإرادته بعبده) و (عهد منه إليه بأن يفعل كذا) و (أمر بالمتعلق) و (إنشاء منه عليه السلام لاعتبار أمر _ هو التقوى والنظم _ في ذمة المخاطب ومطلق من بلغه الكتاب) فيدل على وجوب نظم الأمر إلا لو علم بارتكاز أو مناسبة حكم وموضوع(2) أو غير ذلك، عدمه، فتأمل.

أو يقال: إن الوصية دالة على الطلب، وهو جنس للوجوب والندب _ على قول _ فيكون الموصى به، بين واجب ومندوب، لكن الأصل فيه الوجوب؛ لما ذهب إليه الميرزا النائيني رحمه الله من: أن (الأمر) لا يدل وضعاً على أكثر من الطلب، لكن عنوان الوجوب ينتزع منه نظراً

ص: 276


1- جواهر الكلام : ج28 ص241
2- كالنظم في أمر يسير كتنظيم سطح المكتب الشخصي مثلاً، أو تنظيم غرفة الجلوس فرضاً، فإنه مندوب وليس بواجب.

لحكم العقل بلزوم الامتثال إذا صدر من العالي ولم يقترن بالترخيص، أو لما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره من: دلالة الأمر على طلب المولى وإرادته، وإرادة المولى حقيقة تشكيكية، ولأن شدتها من سنخها فيكون مقتضى الإطلاق الإرادة الشديدة، وقد أشرنا إلى ذلك في فقه التعاون على البر والتقوى.(1)

وكلا الوجهين جارٍ في (الوصية) كجريانه في (الأمر) وإن ناقشنا فيهما في محله.

ضوابط المولوية منطبقة على (الوصية)

بل نقول: إن الضوابط التي ذكرت للمولوي والإرشادي من الأوامر والنواهي، جارية بعينها في (الوصية)؛ إذ المولوي منها:

على القول الثاني (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) وقد يقال إن المقام كذلك، خاصة بلحاظ سوقه مع (تقوى الله) بوزان واحد. وإن تضمن مصلحة الدنيا أيضاً فإن المقياس (المصب) فتأمل.

وعلى القول الثالث: (ما كان محبوباً للمولى، وقد صدر لجهة محبوبيته).

وعلى القول الخامس: (ما عدا المستقلات العقلية).

وعلى القول التاسع: (ما ترتب عليه الثواب والعقاب) وهكذا.ولا يستبعد كون المقام كذلك؛ فإن (النظم) على ما يظهر من هذه

ص: 277


1- فقه التعاون على البر والتقوى: ص69-70.

الرواية وغيرها (محبوب للمولى).

نعم قد يقال إن (النظم) من المستقلات العقلية، فالأمر فيه _ على الضابط الخامس _ إرشادي، وفيه: الإشكال مبنى كما فصّل في فصل الضوابط.

العموم في (نظم أمركم)

ثم إن إضافة (نظم) ل(أمركم) يفيد العموم؛ نظراً لتعلق الوصية ب(جنس النظم) و لإضافة (الأمر) إلى (الضمير) الظاهر في عموم أمورهم.

ثم الظاهر إن (أمركم) يشمل: الشؤون العامة والشؤون العائلية والشؤون الشخصية؛ فإن كل ذلك من مصاديق (أمركم)، كما يشمل (الشركات) و (الاتحاديات) و (النقابات) وسائر التجمعات أيضاً، لصدق (أمركم) على كل تلك المصاديق حقيقة، خاصة بقرينة قوله عليه السلام: (أوصيكما وجميع ولدي... ومن بلغه كتابي) فإن كل أولئك قد بلغهم كتابه عليه السلام.

(نظام الأمة) غاية وعلة للإمامة والأمانة، أو حكمة؟

وأما قوله عليه السلام: (فرض الله الأمانة) _ أو (الإمامة) كما في خطبة الصديقة الزهراء عليها أفضل الصلاة وأزكى السلام _ (نظاماً للأمة..)

فإن (نظاماً للأمة) هو الغاية للأمانة، وحيث أنها واجبة لصريح قوله عليه السلام (فرض الله الأمانة) وكما عليه الإجماع يكون واجباً؛ فإن ما

ص: 278

أوجبت لأجل أدائها إليه، يكون لازم التحصيل دون ريب.

وإلا لما وجب الموصل إليه، لأجله، وحيث كان الأمر بالموصِل مولوياً، كان الموصَل إليه مطلوباً مولوياً أيضاً.

وبعبارة أخرى: المقام من قبيل العنوان والمحصِّل وقد فصلنا في (فقه التعاون على البر والتقوى) الحديث عن أن (العنوان) لو وجب كان (المحصِّل) مجرى للإحتياط.

لكن قد يقال: (الغاية) المذكورة (حكمة) وليست علة.

لكن فيه: الظاهر والمتفاهم عرفاً (العلية) وهي (الأصل).

إلا أن يجاب بكثرة بل غلبة كون ما يذكر في مقام التعليل أنه (حكمة) فتأمل، هذا. وبحث (الحكمة والعلة) بحاجة إلى رسالة مستقلة.

كما يدل عليه قوله عليه السلام: (وأعظم ما افترض الله... فجعلها _ أي حقوق الرعية على الوالي وبالعكس _ نظاماً لالفتهم وعزاً لدينهم).

وصريح كلامه عليه السلام، أن حقوق الرعية على الوالي والوالي على الرعية _ وهي أعظم ما افترض الله _ قد جعلت (نظاماً لالفتهم)، ويدل على وجوبه أيضاً: السياق؛ فإن إعزاز الدين واجب فيكون ما جعل معه _ بل قبله _ غاية، واجب التحصيل كذلك.

ص: 279

(التدبير في المعيشة)

وقد جاء حول (التدبير) كما في أمالي الطوسي عن أيوب بن الحر قال سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله عليه السلام: بلغني أن الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب؟ فقال أبو عبد الله: (لا، بل هو الكسب كله، ومن الدين التدبير في المعيشة).(1)

روايات يستفاد منها: مولوية (التدبير في المعيشة)

وإذا كان (التدبير في المعيشة) من الدين كما هو صريح هذه الرواية، كان محبوباً للمولى بما هو مولى، فيكون الأمر به مولوياً على الضابط الثالث للمولوية، وكان من مرجحات كونه مولوياً، على الضابط الأول المختار.

وروى الصدوق في أماليه عن عبد العظيم الحسني عن الإمام أبي جعفر الثاني عن آبائه عليهم السلام قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: التدبير قبل العمل، يؤمنك من الندم).(2)

وقد فصلنا في موضع آخر أن (التعليل) لا يصرف الأمر ونظائره للإرشادية، كما فصلنا في مواضع أخرى أن لحاظ المصلحة الدنيوية ليس ملاك الإرشادية والمولوية، إضافة إلى أن (الندم) أعم من موارد الدنيوية، لشموله الأخروية؛ فإنه بحسب المتعلق.

ص: 280


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص670، ح17.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص532.

وروى الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من حجر مرتين).(1)

وتصدير الحديث ب(المؤمن) ربما يشهد بأن هذه الصفات مطلوبة منه بما هو مؤمن، فيدل على كونها محبوبة للمولى بما هو مولى، وقد فصلنا وجهه في (شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية) عند البحث عن آية «وأمرهم شورى بينهم»(2) فليراجع.

وفي معاني الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله (لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق).(3)

و(العقل) وكماله وتمامه، هو أول مطلوب للباري تعالى، ويشهد له ما ورد من الروايات حول العقل ومنها قوله تعالى (ما خلقت خلقاً أحب إلي منك.. بك أثيب وبك أعاقب).(4)

ومن وصية النبي صلى الله عليه وآله لمن طلب منه وصية قال: (أوصيك إذا أنت هممت أمراً فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غياً فانته منه).(5)

ولعل ظاهر (الرشد) و (الغي) هو ما كان بلحاظ مصالح الآخرة، لكن الأظهر أنه أعم، ولا يضر ذلك باستظهار المولوية على غير الضابط الثاني.

ص: 281


1- الكافي: ج2، ص241، ح38.
2- الشورى: 38.
3- وسائل الشيعة: ج15، ص290، ح4.
4- بحار الأنوار: ج1، ب2، ص97، ح9.
5- سفينة البحار: مادة دبر.

احتمالا المولوية والإرشادية في أوامر (التدبير)

والحاصل أن أوامر التدبير _ لو وردت وكلما وردت _ فإنه يحتمل فيها:

كونها إرشادية _ إن روعي فيها مصلحتها الدنيوية، على الضابط الثاني، أو صدرت من المولى لا بما هو مولى بل بما هو ناصح واعظ.

كما يحتمل كونها مولوية إن روعي فيها مصلحتها الأخروية، أو ادعي كونها محبوبة للمولى وقد صدر الأمر بها بما أنها محبوبة له _ أو صدرت من المولى بما هو مولى وإن كانت المصلحة دنيوية _ ويرشد إليه قوله عليه السلام: (ومن الدين التدبير في المعيشة).ولعله يرشد له أيضاً قوله: (جيد التدبير لمعيشته) لتصدير الحديث _ كما سبق _ ب(المؤمن) الدال على أن ذلك من شأن إيمانه، فيكون مأموراً به بما هو مؤمن ومولى عليه، ويكون الأمر به بما الآمر مولى معملاً مقام مولويته.

والظاهر أن (التدبير في المعيشة) مقدمي، فيجب حيث تجب، ويستحب حيث تستحب، ويحرم حيث تحرم _ كما لو كانت المعيشة معيشة محرمة(1) فيكون التدبير لها كذلك.

نعم لا تبعد المصلحة السلوكية في (التدبير) كما ذكرنا نظيره في (التعاون) في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) ولعله يمكن

ص: 282


1- كمعيشة الغاصب أو الحاكم الجائر أو معيشة من يتكسب بالحرام كبيع الأصنام أو الغناء أو بيع السلاح لأعداء الدين، فإن التدبير لها محرم.

الاستشهاد له بقوله عليه السلام (ومن الدين التدبير في المعيشة) _ فتأمل.

الأوامر والنواهي في (الحدود) بالمعنى الأعم

وأما ما ورد حول (الحدود) ومن مصاديقه (الحدود والتعزيرات بالمعنى الأخص) فمنه قوله تعالى «تلك حدود الله» (1)وهي إشارة إلى ما تقدم من الأحكام في شأن اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، بدءً من أول السورة، إلى قوله تعالى: «ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين».(2)

وقد سبق في الآيات السابقات ذكر مصاديق لحدود الله في الإرث، وذلك ك: «لكم نصف ما ترك أزواجكم»(3)، وقاعدة لا ضرر «غير مضار»(4) واليتامى «آتوا اليتامى أموالهم»(5) وغير ذلك.

وفي آية أخرى «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله».(6)

كما ذكر الله تعالى في موضع آخر، مصاديق أخرى لحدود الله ك: «المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء..

ص: 283


1- النساء: 13.
2- النساء: 14.
3- النساء: 12.
4- النساء: 12.
5- النساء: 2.
6- التوبة: 112.

ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة..».(1)

ثم قال: «الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان... تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون».(2)وفي آية أخرى: «... هن لباس لكم وأنتم لباس لهن... وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر... تلك حدود الله فلا تقربوها».(3)

وفي الصافي: («حدود الله» حرمات الله ومناهيه)(4).

كما وردت الحدود في قوله تعالى: «وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه»(5) في سورة الطلاق، حول تحديده تعالى إحدى حقوق المطلقة، وفي سورة المجادلة حول الظهار وكفارته.

ص: 284


1- البقرة: 228.
2- البقرة: 229.
3- البقرة: 187.
4- التفسير الصافي: ج1 ص226
5- الطلاق: 1.

هل هي مولوية أم إرشادية؟

ويقع البحث هنا حول قوله تعالى: «تلك حدود الله فلا تعتدوها»(1) و «تلك حدود الله فلا تقربوها»(2) فهل النهي مولوي أم إرشادي؟

فقد يقال: بالإرشادية لنظير ما ذكر في أوامر الطاعة من: لزوم التسلسل لو قلنا بالمولوية أو اللغوية أو تحصيل الحاصل، وقد فصلنا في (فقه التعاون) و (مباحث الأصول _ مباحث القطع) الجواب عن ذلك، فلا بأس بالالتزام بالمولوية فيها.

(الحدود) بالمعنى الأخص

وأما الحدود بالمعنى الأخص، فقد وردت فيها آيات عديدة منها: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد»(3) و «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون»(4) و «الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون»(5) و «من قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة ودِيَةٌ مسلمة إلى أهله»(6) قال في الصافي: (أي فعليه تحرير رقبة)(7).

وقال تعالى: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في

ص: 285


1- البقرة: 229.
2- البقرة: 187.
3- البقرة: 178.
4- البقرة: 179.
5- النور: 4.
6- النساء: 92.
7- التفسير الصافي: ج1 ص483

المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً».(1)

(الحدود) أعم من التكليفية والوضعية

ومن البين أن تلك الحدود _ تكليفية كانت أو وضعية _ (حدود مولوية) فإن «ويتعد حدوده» في الآية الأولى، إما عطف بيان وتفسير ل«ومن يعص الله ورسوله» أو من باب ذكر الخاص بعد العام، والأول أظهر، إضافة إلى دلالة «ويدخله ناراً» على المولوية دون ريب.

كما أن «تلك حدود الله» في الآية الأولى والثالثة، تشير _ فيما تشير إليه _ إلى الأحكام الوضعية؛ فإن «لكم نصف ما ترك أزواجكم» حكم وضعي؛ إذ اللام للملك، فنصف ما تركته الزوجة يدخل قهراً في ملك الزوج. و «الطلاق مرتان» حكم وضعي فإن له حق الطلاق مع الرجوع مرتين وحق الطلاق بدونه في الثالثة. و «غير مضار» و «آتوا اليتامى أموالهم» حكم تكليفي، وكذا «كلوا واشربوا» حكم للإباحة، ولعل في «لهن مثل الذي عليهن بالمعروف» إشارة للحكمين: التكليفي والوضعي، أي لهن من الحقوق ومن الأحكام مثل الذي عليهن من الحقوق والواجبات، فلها حق القسم وحق النفقة وعليها واجب الإطاعة في الاستفراش، وللزوج عليها حق التمكين وتجب عليه النفقة.

كما أن «تلك حدود الله» تصلح دليلاً أيضاً على ما بيّناه في موضع آخر من: أن المولوية والإرشادية لا تختص بالأحكام التكليفية بل تشمل الوضعية أيضاً.

ص: 286


1- النساء: 34.

إضافة إلى أن (الحد) بمعنى (المنع) و (الحد) الحاجز بين الشيئين و (حدود الله): شرائعه وواجباته ومحرماته التي لا يجوز تجاوزها ومنها قوله عليه السلام: (للصلاة أربعة آلاف حد)(1)؛ إذ الشرائع حدود مضروبة لا يجوز للمكلف تخطيها وتجاوزها دون إذن من مالكها وجاعلها، وقد سمي الحد حداً لمنع المكلف من اقتحامه وتجاوزه.

قال في مجمع البحرين: («أقمتم حدوده» أي أحكام وشرائعه)(2) وقال (الحد الحاجز بين الشيئين ومنه حد عرفات)(3) وقال (ومنه: حدود الإيمان، ويجمعها: الشهادتان والإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله والصلاة... والولاية).(4)

وقال في المفردات: (وحد الدار ما تتميز به عن غيرها) و (حد الزنا والخمر سمي به لكونه مانعاً لمتعاطيه عن معاودة مثله، ومانعاً لغيره أن يسلك مسلكه).(5)

وبذلك ظهر أن ما ذكر من (وحدود الله هي شرائعه وأحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة)(6)، تفسير بالأخص، خاصة مع اشتمال ما سبق في الآية الشريفة على الحلالك«أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم» و «كلوا واشربوا» ولعلهما مستحبان في الجملة. والمستحب ك«وابتغوا ما كتب الله لكم» ولعل منه «فالآن باشروهن» لاستحبابه والواجب

ص: 287


1- الكافي: ج3، ص272، ح6.
2- مجمع البحرين: ج1، ص472.
3- المصدر.
4- المصدر: ص473.
5- مفردات غريب القرآن: ص109.
6- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج3، ص98 ذيل آية 187 البقرة.

ك«ثم أتموا الصيام إلى الليل». والحرام ك«ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد»، إلا أن يكون بلحاظ «فلا تقربوها» فتأمل.

ثم إن من البين أن الحدود بالمعنى الأخص هي أيضاً، داخلة في دائرة المولوية لصريح قوله تعالى «كتب»(1)، ولا يضرّ به، تعليله بمصلحة دنيوية في الآية اللاحقة إذ هي مصلحة أخروية أيضاً _ هذا صغرى _ أما كبرى، فقد أوضحنا في موضع آخر أن الملاك في المولوية والإرشادية، ليس المصلحة الدنيوية أو الأخروية، بل إعمال مقام المولوية وعدمه.

ثم إن «اجلدوهم» مولوي دون نقاش.

متى تعطل الحدود؟

ولا يخفى أن (الحدود) شرعت لمصلحة نوع الإنسان؛ فإن (الجريمة) لو لم تُمنع و (المجرم) لو لم يُردع، فإن الفساد سيعم المجتمع كله، وتلزم الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام ونظائر ذلك من المفاسد، ولذا قال الله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(2) فإن أولي اللبّ يدركون ذلك، و (القصاص) سبب التقوى، والوقاية من انتشار القتل العمد والجرح العمد.

نعم هناك بحث تطرق له السيد الوالد قدس سره بالتفصيل، وأشار لبعض جوانبه عدد من الفقهاء، وهو أن (الحدود) تسقط أو تتحول إلى التعزير

ص: 288


1- قال في الصافي: (قيل أي فرض وأوجب عليكم).
2- البقرة: 179.

أو تؤجل في صور وحالات عديدة:

منها: صور الشبهة الخمسة، وهي: شبهة الجاني، وشبهة الشاهدين، وشبهة القاضي، وشبهة المجتهد المرجع للتقليد، وشبهة شورى الفقهاء.

ومنها: صور الاضطرار والإكراه والإلجاء _ على تفصيل فيها _ وأصله واضح.

ومنها: صورة عدم تطبيق قوانين الإسلام في السياسة والاقتصاد والاجتماع من: حريةٍ وتعدديةٍ وشورى وأخوةٍ وعدلٍ وإحسان، وبيت مالٍ يتكفل حوائج المحتاجين، وحريةِ إقامةٍ وحضرٍ وسفرٍ، وتجارةٍ وزراعةٍ واستيرادٍ وتصدير، وغير ذلك، فإنه إذا لم يطبق الإسلام بكل جوانبه أو بالأعم الأغلب منها، فإنه لا يصح إجراء (الحدود).

بل اللازم إجراء (الحد والتعزير) على الحاكم المستبد الجائر، الذي عطّل قوانين الإسلام، ثم أراد إجراء الحد على آحاد الناس، كما يشير إليه كلام الإمام الرضا، عليه السلام مع المأمون، عندما أراد إجراء الحد على السارق الفقير الذي ادعى أنه سرق اضطراراً لا اختياراً، فقال له الفقير: (ابدأ بنفسك فطهّرها ثم طهّر غيرك، وأقم حد الله عليها ثم على غيرك).

فالتفت المأمون إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: ما تقول!؟

فقال عليه السلام: إنه يقول (سرقتَ، فسرق)، فغضب المأمون غضباً شديداً... فقال الفقير: (.. والأخرى أن الخبيث لا يطهّر خبيثاً مثله، إنما يطهّره طاهر، ومن في جنبه حد، لا يقيمالحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه. أما سمعت قول الله عز وجل «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

ص: 289

وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون»).

فالتفت المأمون إلى الإمام الرضا عليه السلام فقال: ما ترى في أمره؟

فقال عليه السلام: (إن الله جل جلاله قال لمحمد صلى الله عليه وآله «قل فلله الحجة البالغة» وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة، وقد احتج الرجل...) وقد احتجب المأمون عن الناس بعد ذلك، واشتغل بأمر الإمام الرضا عليه السلام حتى سمّه، فقتله).(1)

ومنها: صورة ما لو أوجب تطبيق الحدود ضرراً أكبر، من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.

ومنها: صورة ما لو قَابَلَنا الكفارُ بالمثل، وكان عدم ذلك أهم، بنظر شورى الفقهاء.

ومنها: غير ذلك، وتفصيل ذلك يطلب من المفصلات.(2)

هل (عظوهن واهجروهن) مولوي أو إرشادي؟

وأما قوله تعالى: «فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن»(3) فهل هو مولوي أو إرشادي؟

قد ينتصر للإرشادية بسبق قوله تعالى «واللاتي تخافون نشوزهن» فإن ما أمر به أو نهى عنه لصرف لحاظ ما فيه من المصلحة أو المفسدة من غير إعمال المولى مقامه، إرشادي، فلا كراهة ولا حرمة لترك ذلك،

ص: 290


1- بحار الأنوار: ج49، ص290، نقلاً عن علل الشرائع وعيون الأخبار.
2- يراجع الفقه الدولة الإسلامية والفقه الحقوق والفقه القانون وغيرها للسيد الوالد قدس سره.
3- النساء: 34.

وقال السيد الوالد: (لكنه إرشاد وليس بواجب)(1)، وإذا كان إرشاداً فإنه (يتبع) المصلحة والمفسدة، وهما أمران متغيران تبعاً للأوضاع والأحوال وشرائط الزمان، والأفراد والأمم، إلا أن يتمسك بالأصل في الطبيعة الإنسانية وما عداه خلافه، فهو ثانوي، والآية تشير لمقتضى الطبع الأولي.

وكذلك الحال على الضابط الثاني للإرشادية، وهو:

(ما أنشأ بلحاظ المصلحة الدنيوية) فإن مصلحة الزوج (بل الزوجين) الدنيوية روعيت في تشريع الهجر والضرب الخفيف لدى عصيانها.

وقولنا (مصلحة الزوجين) روعيت في تشريع (الضرب الخفيف)؛ لأن انهدام الأسرة بتفتتها أسوء للمرأة أيضاً فضربها الخفيف، مع فرض عصيانها وطغيانها، وبقصد أن ترجع الحياة لطبيعتها الملائمة، أنفع لها وأحمد عاقبة من تركها تسترسل في العصيان والطغيان، وذلك كمن يجري عملية جراحية، فإنها مؤلمة إلا أنها لصالحه مآلاً.

وقد ينتصر للمولوية بسبق قوله تعالى «الرجال قوامون على النساء» إذ هذه (القوامية) مجعولة من المولى بما هو مولى، وهي:

1- تكوينية «بما فضل الله بعضهم على بعض»2- وتشريعية مشروطة «بما أنفقوا من أموالهم» فما يتفرع عليه من «واللاتي... فعظوهن...» مولوي أيضاً.

ص: 291


1- الفقه، الواجبات: ج92، ص267، مادة هجران الناشزة، ولا يخفى أنه قدس سره استخدم الإرشاد بالمعنى الأعم من المولوي، بقرينة مقابلته للواجب، فيصلح لإرادة المستحب _ فتأمل.

لكن الظاهر أنه مولوي للندب مع شروطه، أو مولوي في تشريع جوازه إذ ضرب الغير حرام بالعنوان الأولي، وقال السيد السبزواري قدس سره: (والأمر في المقام للإباحة، ويمكن أن يكون للندب، لأنه من المعروف)(1)، فلو ترك الموعظة وهجر المضجع والضرب _ المقيد في الروايات بالخفيف _ كان على هذا الرأي _ مكروهاً(2) أو جائزاً نظراً لإمكان غضِّه طرفَه عن حقه، بل مطلقاً.

نعم ربما يقال: بكون تركه محرماً _ في الجملة _ مقدمياً لو أدى إلى طغيانها وهدم الحياة الزوجية وضياع الأولاد بنين وبنات؛ فإن المولى بما هو مولى يريد استقرار الحياة الزوجية وعدم تخريبها؛ فإن (الأسرة) هي أساس بناء المجتمع فلو انهارت، إنهار.

لذا يأمر مولوياً بالوعظ والهجر والضرب إن توقف إصلاحها على ذلك، نعم في الدرجات الخفيفة من الخراب، فإن ترك الوعظ والهجر والضرب، مكروه.

كما أن العكس صحيح أيضاً، فلو أدى (الضرب) إلى هدم الحياة الزوجية وضياع الأولاد وطغيانها الأكثر، كما هو المشاهد في كثير من النساء، خاصة في هذا الزمن، حَرَم الضرب لكونه مقدمة الحرام.

ص: 292


1- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج8، ص205.
2- بناء على أن ترك المستحب، مكروه، أو لقرينة تناسب الحكم والموضوع.

فلسفة الضرب التأديبي وشروطه

قال السيد الوالد في (تبيين القرآن): (فإن ضرباً تأديبياً خفيفاً بشروطه يُبقي كيان الأسرة، خير من انهدامها بسبب عواطف طائشة ويجب أن يكون الضرب غير مبرح(1) ولا مدم، حتى قال البعض إنه بالسواك)(2) وقد تبع هذا البعض قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في معنى الضرب (إنه الضرب بالسواك)(3) وإن اعتبره السيد السبزواري مصداقاً(4) وورد في رواية (من لا يحضره الفقيه) عن الإمام الصادق عليه السلام: (والضرب بالسواك وغيره ضرباً رفيقاً).(5)

وغير خفي أن الهجر والضرب يجوز _ بالمعنى الأعم _ الصيرورة إليهما، إن احتمل تأثيره في إصلاح حالها وعودة الحياة إلى طبيعتها وإلا _ بأن كان يزيدها تعنتاً ويزيد الأمور إعضالاً، ويزيد من اتساع الخرق على الراقع _ فإنه غير مشرَّع؛

أ-إذ الحكمة من تشريعة ردع النشوز فلو زاد النشوز وأكّده لم يجز مطلقاً أو في بعض مراتبه.ب-ولدلالة (فإن أطعنكم) على أن تشريعه _ أو الإرشاد إليه _ لغرض إرجاعها إلى الإطاعة، فإن أنتج عكسه، لم يشرّع.

ص: 293


1- والمبرِّح ما يوجب المشقة والشدة، مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج8، ص180.
2- تبيين القرآن: ص95. سورة النساء الآية 34.
3- كما في مجمع البيان في تفسير الآية الشريفة: ج3، ص80.
4- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج8، ص199.
5- من لا يحضره الفقيه: ج3، ص521.

سلمنا لكن الانصراف، لعله بيِّن.

ج-ولأن عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيدة باحتمال التأثير، وقد يقال: إنه يجب أن يكون الضرب ضرب تأديب فقط، لا ضرب انتقام وتشف وعدوان وطغيان؛ فإذا كان كذلك فإنه محرم، فإن ظاهر «واللاتي تخافون نشوزهن... واهجروهن واضربوهن» إن الهجران والضرب لدفع النشوز، وليس للانتقام والعدوان.

كما ينبغي أن يعلم أن حقه عليها، منحصر في الاستفراش(1) وفي الخروج من البيت على المشهور، وقيده السيد الوالد بكونه (بالمعروف) لقوله تعالى: «وعاشروهن بالمعروف» فلا حق له بمنعها من الخروج لزيارة والديها مثلاً بالقدر المتعارف لمثلها في وضعها، في أعراف البلد، مما لا يضر بحقه العرفي في الاستمتاع.

فما عدا هذين الحقين، لا حق له عليها، كما يتوهمه كثير من الناس فلا يجب عليها، الطبخ والكنس وحتى إرضاع الطفل وشبهه، نعم لها بذلك أجر عظيم مذكور في الروايات الشريفة.

والحاصل أن مولوية أمر (اهجروهن، واضربوهن) لا تتوقف على القول بأنه للوجوب، بل تصح المولوية مع القول بأنها للندب بل حتى مع القول بالجواز _ فإن الأمر عقيب توهم الحظر للجواز، وكذلك الأمر بعد الحظر؛ فإن الضرب محرم بعنوانه الأولي كما سبق، فالأمر بعده للجواز فهذا تشريع

ص: 294


1- وقد ورد في (من لا يحضره الفقيه) ج3، ص521، عن أبي عبد الله عليه السلام (فإذا كان _ أي النشوز _ من المرأة فهو أن لا تطيعه في فراشه).

لجواز الضرب وليس صرف إرشاد إليه.

وأما الضابط الثاني فقد فصلنا في موضع آخر أنه غير تام فإن (المولوية) لا تنحصر فيما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة، بل لنا النقاش صغروياً بأن مصلحة الزوج _ بل الزوجين _ الأخروية أيضاً هي في استقرار الحياة الزوجية، ولو كان بضربها ضرباً خفيفاً لو انحرفت عن الجادة لترجع إلى جادة الصواب.

قال السيد الوالد: (وقد ذكرنا إنه لا يستبعد حق المرأة في ضرب الرجل إذا فعل المنكر، لأنه لا دليل على الخروج عن إطلاقات أدلة النهي عن المنكر عند من يرون الوصول إلى حد الضرب).(1)

إجمال شروط جواز الضرب

والحاصل: إن (ضرب الزوجة) مشروط بشروط:

أولاً: أن لا يكون (نشوزها) من باب الجهل بالحكم، قصوراً.

ثانياً: أن لا يكون (نشوزها) من باب الجهل بالموضوع، قصوراً _ ولعله يلحق بهما التقصير في الجملة، فتأمل.

ثالثاً: أن لا يكون (نشوزها) لإنكارها الحكم أو الموضوع، لشبهة.

رابعاً: أن لا تكون مخالفتها زوجها، لاختلاف اجتهادها أو تقليدها في حق الخروج من المنزل لها مطلقاً، أو فيما لو كان في دائرة «عاشروهن بالمعروف».

خامساً: أن لا تكون مخالفتها من باب الاضطرار أو الإكراه أو الإلجاء.

ص: 295


1- الفقه، الواجبات: ج92، ص172.

سادساً: أن لا يكون من باب المقابلة بالمثل في الجملة.(1)سابعاً: أن لا يكون لعدم انفاقه عليها.

ثامناً: أن يكون ضربها تأديبياً، الغرض منه التربية، لا التشفي والانتقام.

تاسعاً: أن يكون خفيفاً.

عاشراً: أن يحتمل تأثيره في إصلاحها.

الحادي عشر: أن لا يسبب سوء سمعة للإسلام والمسلمين.

الثاني عشر: أن يكون في حدود (حقّه) وهو الإطاعة فقط في أمر الاستفراش، ويضاف له الخروج من المنزل أكثر من حقها العرفي _ لا أن يضربها لعدم تنظيف البيت أو الطبخ أو حتى إدارة الأطفال _ وإن كان لها بذلك أجر عظيم، إلا أنه ليس واجباً عليها، فلا يحق ضربها لأجل ذلك.

الثالث عشر: أن لا يزاحم بأهم آخر.

الرابع عشر: ويضاف لذلك أن هذا حق متقابل، فكما له ضربها في حدود النهي عن المنكر، لها أيضاً ضربه في حدود النهي عن المنكر، وبكافة ضوابطه المذكورة في بابه.

وواضح أن خيار الضرب سواء منه لها، أم منها له، خيار لا يصار إليه إلا عند الضرورة والإضطرار، فهو كأكل الميتة أو كالعملية الجراحية.

ص: 296


1- كما لو ضربها ظلماً، فامتنعت من الاستفراش أو خرجت من منزله _ فتأمل.

ثم إن هنالك احتمالاً آخر في (اهجروهن واضربوهن) غير كونه مولوياً للاستحباب، أو إرشادياً للمصلحة، وهو كونه للإباحة، لكون الأمر بعد الحظر، فإن هجرهن وضربهن محظور ومحرم، إلا لو نشزت، لكنه خلاف سياق الآية، ولعله خلاف المتفاهم عرفاً منها، كما أنه خلاف المشهور _ فتأمل.

ص: 297

6

6- الأوامر والنواهي في الشؤون الاقتصادية

اشارة

ومنها: شؤون الحياة الاقتصادية: كالملكية وأسبابها، من بيع وصلح وإجارة، وغيرها.

«لكم رؤوس أموالكم»

قال تعالى «فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون»(1).

وظاهر (اللام) الملكية لا الاختصاص، فالآية ظاهرة في الحكم الوضعي، وإن استتبعه التكليفي كجواز التصرف.

والظاهر عدم اختلاف الحكم التكليفي _ بعدم جواز التصرف للغير فيه مثلاً _ باختلاف المبنى في (لكم)، وإن اختلف حال بعض الأحكام التكليفية بكون اللام للملك أو الاختصاص.(2)

ص: 298


1- البقرة: 279.
2- إذ للمالك تصرفات لا تحق لمن له صِرف الاختصاص، كالبيع وشبهه.

هل (لكم) في الآية، مولوي أم إرشادي؟

فهل قوله تعالى: «لكم رؤوس أموالكم» إرشادي إلى كونها لهم، فهو إخبار، أم إنه إنشاء(1) وقد صدر من المولى بما هو مولى؟

وبعبارة أخرى: هل قوله تعالى «لكم» بما هو مولى ومشرع، أو بما هو مرشد ومبيّن وإن تضمن الإمضاء أيضاً؟

ولعل مما يؤيد كونه إنشاءً، سبق التهديد ب«فأذنوا بحرب من الله ورسوله»، وسبق التوبة؛ فإنها تلائم مقام المولى ومقام الإطاعة والعصيان.

لا يقال: لو كان إنشاء لما علّق على التوبة، إذ لا ريب في كون رؤوس أموالهم لهم، تابوا أم لا؟

إذ يقال:

أما نقضاً: فبأن التالي الفاسد أعم، إذ لو كان إخباراً، لجرى نفس الإشكال.

وأما حلاً: فإنه صورة شرط وليس به، كما في نظائره من وجه، من أمثال «وربائبكم التي في حجوركم من نساءكم اللاتي دخلتم بهن».(2)

شأن النزول لا يخصص الوارد

ثم إن شأن نزول الآية ونزولها في مورد الربا، وأن له رأس ماله الذي

ص: 299


1- أي: إنشاء جعل الملكية لهم، ابتداءً أو إمضاءً.
2- النساء: 23.

أقرضه دون زيادة أو نقيصة، مورد وهو لا يخصص الوارد، كما لا يخفى.

ولذا قال السيد السبزواري قدس سره: (التاسع: يدل قوله تعالى: «وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم» على ثبوت أصل الملكية وتقريرها بين الناس وإمضاء جميع المعاملات والتكسب بالأموال ما لم يكن منهياً عنه شرعاً فإن المال إنما يكون رأساً إذا صرف في وجوه المعاملات).(1)أقول: وذلك لمكان اللام في «لكم» وكون الأصل فيها الملكية، واستدلاله بكلمة (رؤوس) تام، ونضيف أن مقتضى إثبات كون (المال لكم) ولو كان مجرداً من كلمة (رؤوس) هو ذلك، ويدل عليه عرفاً؛ فإنها من أهم ما يتوخى منها(2) عرفاً وتراد له.

وبعبارة أخرى: يدل عليه بالدلالة الإلتزامية عرفاً؛ فإن لازم ملكيته جواز التقلب والتصرف فيه بشتى أنحائه، إلا ما حرّم.

ثم إن الوجه في قوله تعالى: «لكم رؤوس أموالكم» دون (لكم أموالكم) هو: كي لا يتوهم أن (الربا) من مالهم _ كما كانوا يعدونه كذلك _ فهو (لهم).

قاعدة «لا تَظلمون ولا تُظلمون»

كما يستفاد من قوله تعالى: «لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» قانون عام سيال في شتى أبواب المعاملات، ويمكن الاستناد إليه في تحريم الغبن والغش والاحتكار والاجحاف والإكراه الأجوائي وما أشبه، فإنه وإن كان

ص: 300


1- مواهب الرحمن: ج4، ص454.
2- أي المعاملات من أهم ما يتوخى ويراد من الأموال.

جملة خبرية و"لا" نافية(1) إلا أنها تفيد الحرمة، كما فصلناه في موضع آخر، من أن الجملة الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب، تكون ظاهرة في الوجوب أو الحرمة منه(2)، دون الاستحباب والكراهة، مثل (يعيد صلاته) أو (يتوضأ).

والظاهر أن هذا القانون «لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» من المستقلات العقلية، ورغم ذلك فإن النهي مولوي لا إرشادي، نظراً لأن ضابط المولوية هو (ما صدر من المولى بما هو مولى) كما فصلناه في بحث ضوابط المولوية والإرشادية، وليس (ما كان متعلقه مستقلاً عقلياً أو لا).

«لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل»

وقوله تعالى « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا».(3)

شواهد على كون النهي مولوياً

والظاهر أن النهي في «لا تأكلوا» مولوي تشريعي للتحريم، وليس مولوياً نصحياً ولا إرشادياً؛ ولذا يستحق عليه العقاب، ولأنه الأصل إذ الأصل هو (كون المولى بصدد بيان الأحكام)(4) فتأمل.(5)

ويؤيده لحوق «ولا تقتلوا أنفسكم» فإنه مولوي، إلا على مسلك

ص: 301


1- أما الناهية فيقال فيها: (لا تَظلِموا ولا تُظلَموا).
2- أي من الطلب.
3- النساء: 29.
4- الفقه / البيع: ج5، ص141.
5- قد فصلنا وجهه في موضع آخر من الكتاب.

من يرى إن الأمر والنهي في موطن المستقلات العقلية، إرشادي.كما يؤيده تصدير الآية بتوجيه الخطاب للمؤمنين فإن ذلك أنسب بمقام المولى والعبد والإطاعة والعصيان.

كما يدل عليه الاستثناء؛ فإن التجارة عن تراض جائزة وجوازها حكم تشريعي مولوي؛ إذ هو قسيم الأحكام الخمسة الأخرى، فكذلك المستثنى منه لأن تخالف المستثنى والمستثنى منه في الإرشادية والمولوية خلاف المتفاهم العرفي جداً.

ولا يضعفه التعليل ب «إن الله كان بكم رحيماً» _ بناء على عوده للحكمين(1)_ فإنه حكمة التشريع.

الإرشادية، على المسالك الأخرى

نعم قد يصار إلى الإرشادية بناءً على:

مسلك من يرى الضابط في الإرشادي: ما أنشاء بلحاظ مصلحة الدنيا.(2)

أو مسلك من يرى أنه كل ما تعلق بالمستقلات(3) والمقام منها؛ لاستقلال العقل بقبح وحرمة أكل أموال الناس بالباطل.

أو مسلك من يرى أنه: ما كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل

ص: 302


1- أي (لا تأكلوا) و (لا تقتلوا).
2- وهو المسلك والضابط الثاني.
3- وهو الضابط الخامس.

الأمر(1) بدعوى أن مفاسد أكل أموال الناس بالباطل معلومة للناس قبل النهي الإلهي.

أو مسلك من يرى أنه: ما لم تتوقف المصلحة والمفسدة على الأمر.(2)

أو مسلك من يرى أنه: ما عادت المصلحة للمأمور.(3)

ومن الإشكالات عليها

وإن ورد على الأول: إن المصلحة(4) أخروية أيضاً، وعلى التشريك تجتمع الجهتان(5) كما فصلناه في موضع آخر، إلا بناء على كون إحداهما (المصبّ).

والثالث: دعوى أنه كذلك في الجملة لا مطلقاً(6) إلا أن يقال: بكفاية (المولوية) في الجملة كضابط للإرشادية فتأمل.(7)كما يرد عليها جميعاً: الإشكال المبنائي كما أوضحناه في فصل الضابط في الإرشادي والمولوي، وقد أوضحنا في (فقه التعاون) و (الأصول مباحث القطع) أن ذكر الحكمة لا يخدش في ظهور كون الآمر

ص: 303


1- وهو الضابط السادس.
2- وهو الضابط السابع.
3- وهو الضابط الثامن.
4- أي في الردع عن أكل أموال الناس بالباطل.
5- المولوية والإرشادية.
6- إذ ليس كل مأمور يعلم بوجه المصلحة.
7- إذ يلزم كونها كلها إرشادية لكونها بأجمعها كذلك (أي معلومة في الجملة) والتالي بين البطلان.

أمراً بما هو مولى.

وما ذكر كله كان بلحاظ أن المنهي عنه في «لا تأكلوا أموالكم» هو التصرفات اللاحقة للمعاملة.

وقد بحثنا في موضع آخر شمول «لا تأكلوا» للمعاملة نفسها فليتدبر.

شمول (الأكل بالباطل) للدولة

و (الأكل بالباطل) أعم من: أكل الناس بعضهم لأموال البعض، ومن أكل الدولة لأموال الناس بالمصادرة لأموالهم وبواسطة الضرائب بشتى أنواعها ك: الضريبة على الاستيراد والتصدير، أو الضريبة على الإرث، أو الضريبة على البناء والزراعة والسقي، أو الضريبة على حيازة المباحات، أو على السفر والإقامة وغيرها أو غير ذلك.

ثم (الأكل بالباطل) أعم من الغصب ومن الغبن والإجحاف وغير ذلك.

لماذا سمي (المال) مالاً؟

وقال السيد السبزواري قدس سره: (و (المال) من (الميل) والمراد به كل ما تميل إليه النفس، سواء كان ملكاً أم لا، وسواء كان عيناً خارجية أم منفعة أم انتفاعاً).(1)

وفي مجمع البحرين: (سمى المال مالاً لأنه مال بالناس عن

ص: 304


1- مواهب الرحمن: ج8، ص116.

طاعة الله).(1)

وفي المفردات: (والمال سمي بذلك لكونه مائلاً أبداً وزائلاً، ولذلك سمي عرضاً)(2) وكل هذه الوجوه ونظائرها، صحيحة، ولا مانعة جمع بينها.

لكن قد يقال: المنصرف من (المال) عرفاً هو (الملك)، وتسرية الحكم لغيره بالمناط.

وهل المراد ب(الباطل) الباطل العرفي أم الشرعي أم اللغوي أم الواقعي؟ أم العرفي والشرعي؟ تفصيله يطلب من مظانه.(3)

والظاهر أن أكل الأموال بالباطل _ بكل تلك المعاني والمصاديق السابقة _ من المستقلات العقلية فيقع البحث أن النهي في الآية الشريفة مولوي أو إرشادي؟ وعلى الثاني فهل تترتب العقوبة على (الأكل بالباطل) لا من باب مخالفة الإرشاد والنصح؛ إذ لا عقوبة فيه، بل من باب مخالفة حكم العقل _ بناء على حكومته _ المرشَد إليه بالشرع؟

«لا تؤتوا السفهاء أموالكم»

وقوله سبحانه «وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً».(4)

ص: 305


1- مجمع البحرين: مادة مول.
2- مفردات الراغب: مادة مول.
3- وقد بحث ذلك السيد الوالد في موسوعة الفقه ج67 كتاب الأطعمة والأشربة، كما أشرنا له في بعض مباحث هذا الكتاب.
4- النساء: 5.

حرام نفسي أم غيري؟

والظاهر أنه مولوي تشريعي للتحريم(1) وإن كان توصلياً، لكن هل هو نفسي ليحرم مطلقاً؟ أو مقدمي ليحرم إذا كان من قبيل (الموصِلة)؟ أو (مطلقاً) لا للترشح إذ لا يعقل الترشح من الشيء للأجنبي عنه (وهو غير الموصلة) بل إما بدعوى انبساط التحريم وشموله دفعةً: لذي المقدمة ومقدمتها وما توهم أنه مقدمة، عقلاً، في باب الإطاعة، ولو بداعي الحائطة.

أو للتجري، أو لا بل بمعنى صرف اللابدية العقلية فتأمل.

وتفصيل ذلك موكول إلى (الأصول).

ثم على تقدير استفادة الحرمة، هل يستفاد الحكم الوضعي أيضاً بضمانه لو آتاه فأتلفه؟

وقد أوضحنا في فصل آخر إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية، في أمر أو نهي واحد، لكن على بعض معانيها، والمقام منها.

ولعل هذا الحكم يعد من المستقلات العقلية.

هل الآية تشمل الحكومات والشركات؟

وهل تشمل الآية الشريفة إيتاء (الشركات) التي سقطت عن الأهلية ودخلت في دائرة (السفهاء)، فعلى الحكومة (الحجر) على تلك

ص: 306


1- وليس إرشادياً، بل ليس حتى مولوياً نصحياً ولذا يستحق على خلافه العقاب.

الشركات؟ وكذا هل تشمل الآية الشريفة إيتاء (الحكومة التي فقدت الكفاءة المالية والإدارية)، فعلى الناس منع الحكومة من التصرفات المالية عندئذٍ؟

الظاهر شمول المناط القطعي لذلك، وإن لم يشمله اللفظ ظاهراً، وإن كان قد يستأنس له بما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: (كل من يشرب الخمر فهو سفيه).(1)

إذ لعل المراد منه: أنه كذلك لا من جهة السفه المالي بل مطلقاً، وبعبارة أخرى: (السفهاء) عام للسفية الأموالي والسفيه من حيث ارتكابه معصيةً كشرب الخمر، ولعله تؤيده روايات أخرى، فراجع البرهان في تفسير القرآن.

نعم شمولها لشخص رئيس الشركة مثلاً بما هو شخص أو لشخص رئيس الحكومة، لا ريب فيه، إنما كان الكلام في شمولها ل(الجهة) بما هي جهة.

هل المخاطَب المجتمع أيضاً؟

ثم إن المخاطب في «لا تؤتوا» الولي والحاكم الشرعي لمن لا ولي له، ولعل «لا تؤتوا» شامل (للمجتمع)(2) فهو المسؤول عن مثل أداء وأفعال الحكومات والشركات، ولعل هذه الآية يمكن الاستناد إليها في ولاية المجتمع على عموم شؤونه، أو ولاية عدول المؤمنين، وبحثه

ص: 307


1- الصافي: ج1، ص311، ذيل آية 5 من سورة النساء.
2- وقد يدعى أنه ظاهر الخطاب.

موكول لمحله من الفقه. هذا.

ولم يستبعد السيد السبزواري قدس سره شمول «السفهاء» لكل مَن ارتكب المعاصي من غير اختصاص بشرب الخمر؛ لأن (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان) وكل ما كان خلافه فهو سفه.(1)

ويقويه عموم السفهاء؛ فإنه _ أي العاصي _ يصدق عليه سفيه قطعاً، اللهم إلا أن يقال بالانصراف خاصة بلحاظ (التي جعل الله لكم قياماً) _ فتأمل.(2)

«لا تنقصوا المكيال والميزان»

وقال تعالى: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».(3)

والظاهر أن «لا تنقصوا المكيال والميزان» مولوي، والنهي تحريمي، ويدل عليه قوله «إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط».

ص: 308


1- مواهب الرحمن: ج7، ص283.
2- قد يدعى أن (قياماً) أعم من قيام شؤون دنياهم وآخرتهم، وإيتاء المال لشارب الخمر وسائر العصاة، خلاف (قيام) شؤون الآخرة بل الدنيا أيضاً.
3- هود: 84 - 86.

الآية دليل نفي الضابط الخامس

وقد تعد هذه الآية من أدلة نفي الضابط الخامس المذكور كفارق بين الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية؛ إذ (نقص المكيال والميزان) مما يستقل العقل بقبحه، خاصة لمن كان في خير وبخير «إني أراكم بخير» أي في سعة ورخص وخصب، أي في كثرة الأموال وسعة الأرزاق.(1)

فاللازم كون نهيه إرشادياً، عليه(2) ولا يصح مع ترتيب العذاب عليه(3)، إلا أن يقال: إن قبحه مما يستقل به العقل لا حرمته.

أو يقال: إن ترتيب العذاب أعم من كونه مولوياً أو إرشادياً؛ لحكم العقل به، مع الالتزام بأن مخالفة المستقل العقلي مما يستحق عليه العذاب فتأمل.(4)

«أوفوا المكيال والميزان بالقسط»

وأما (أوفوا المكيال والميزان بالقسط):

فإن أريد به: (الوفاء به كاملاً وتاماً) دون زيادة، كان بياناً لحكم ضد (تنقصوا) ومصداقاً لمبحث الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وأنه هل

ص: 309


1- مجمع البيان: ذيل الآية الشريفة.
2- أي على هذا الضابط.
3- فإن (الإرشادي) لا عقاب عليه.
4- إذ يجاب عن الأول باستقلال العقل بالحرمة أيضاً، وبأن الاستقلال بالقبح ملازم للحكم بالحرمة كما ذكروه، وبأن استقلاله بالقبح كاف في لزوم محاذير اللغوية وشبهها التي ذكروها _ فتأمل، وعن الثاني بأن ظاهر الآية استحقاق العقاب على مخالفة أمره ونهيه _ فتأمل.

يمكن كونه تأسيساً أم هو صرف تأكيد؟

فعلى الأول: هو مولوي، وعلى الثاني: إرشاد لما علم من حكم الضد.

وإن أريد به: (دفع بعض الزيادة أيضاً) ولو بقرينة الفهم العرفي لذلك، فيكون «أوفوا» دالاً على مطلب آخر، إضافة على ما أفاده «لا تنقصوا»:

فيمكن القول بكونه مولوياً، والأمر للندب؛ بدلالة مادة «أوفوا»، ويؤيده السياق.ويحتمل كونه إرشادياً للنصح، وإن لم يمنع كونه مولوياً؛ لما سبق من كون المولوي على قسمين التشريعي والإرشادي.

كما يحتمل كونه مولوياً، والأمر للوجوب، ويؤيده تقييد «أوفوا» ب «القسط»، ولعله من باب المقدمية لإحراز «لا تنقصوا».

«لا تبخسوا الناس أشياءهم»

وأما «لا تبخسوا الناس أشياءهم» فقد قال في الصافي: (تعميم بعد تخصيص؛ فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو غيره)(1) و (البخس) أعم من المادي والمعنوي، فلو أعطى المعلم لتلميذه درجةً دون ما يستحق فقد بخسه حقه وصدقت عليه الآية.

والظاهر أن النهي مولوي تحريمي، وعموم «أشياءهم» لكونه

ص: 310


1- الصافي: سورة هود، آية 84، ج2، ص213.

جمعاً مضافاً، لشتى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.

والظاهر شمول «أشياءهم»، (للملك) و (للحق) ومنه (ملك أن يملك) و (حق الاختصاص)، وقد يستظهر من الآية الشريفة (حق الطبع وبراءة الاختراع) وشبه ذلك، لصدق «أشياءهم» عليه عرفاً ودقة.

وكذا «ولا تعثوا في الأرض مفسدين».

«والذين يكنزون الذهب والفضة»

وقال تعالى: «... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ».(1)

والاستدلال بها لا يتوقف على القول بأنها إخبار في مقام الإنشاء، بل يكفي كونها إخباراً عن حكم إنشائي في مرتبة سابقة؛ فإنه لا ريب أنه مولوي تشريعي لا مولوي نصحي كما أنه ليس إرشادياً، بقرينة العقاب المذكور لذلك.

وهل قبح (الكنز) أو (حرمته) مما يستقل به العقل؟ بل هل له قبح ذاتي أم عارضي؟

الظاهر قبحه عرضاً، وحينئذٍ يستقل به العقل(2)، ولا يلجؤنا ذلك

ص: 311


1- التوبة: 34 - 35.
2- إذ لا يستقل العقل بقبح الكنز ذاتاً.

إلى القول بإرشادية النهي عنه، كما فصلناه في فصل الضوابط من عدم تمامية هذا الضابط.

أنواع (الكنز المحرم)

و (الكنز المحرم) يشمل:

ما لم يؤد حقه الشرعي، من زكاة أو نفقة واجبة أو ما أشبه من الامور الواجبة بالعناوين الأولية.

كما يشمل ما وجب بعنوانه الثانوي، كصور الاضطرار _ لحفظ نفس محترمة من الهلاك أو لحفظ اقتصاد البلد من الدمار، بعد تشخيص الفقيه الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء لذلك(1)_ وليس هذا خاصاً بالكنز، بل يشمل كل ما لو توقف واجب أهم عليه وإن كان قليلاً.لكن هل على الحاكم (البدل) كما ذكروا ذلك في أكل المخمصة؛ جمعاً بين الدليلين كما أشار إليه السيد الوالد(2) _ أي حق المالك، وضرورة المحتاج المضطر _ أم لا؟ أم التفصيل بين الحالات الشخصية وبين الحالات العامة النوعية(3)، وبين ما كان وظيفة الحاكم الإسلامي أو كان وظيفة الشخص نفسه، أو بين ما كان أخذ المال منه ضرراً عليه عرفاً؛ لقلَّته أو لحاجته إليه، وما لم يكن لكثرته وعدم الحاجة إليه؟

ص: 312


1- فصلنا الحديث عن ذلك في (شورى الفقهاء، دراسة فقهية أصولية)، كما فصل بيان ذلك السيد الوالد قدس سره في العديد من كتبه ومنها (الفقه الدولة الإسلامية) و (الشورى في الإسلام).
2- الفقه، الواجبات والمحرمات: ج93، ص329.
3- الشخصية كحفظ مؤمن من الهلاك، والنوعية كما سبق من مثال اختلال اقتصاد البلد.

محل بحث ذلك هو (الفقه).

لكن هل يشمل (الكنز) من أدى حقوق المال، لكنه (كنز) ماله أي جمّده ولم يصبَّه في عجلة (الدوران الإقتصادي)؟

تحديد (الكنز) في الروايات ووجه الجمع بينها

قد يقال: كلا لقوله صلى الله عليه وآله: (كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهراً، وكل مالٍ أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفوناً في الأرض).(1)

ولعله محمول على المعهود ذلك الزمن من عدم تأثير ذلك على عجلة الدوران الاقتصادي للمال، دون مثل هذا الزمن في الجملة، حيث يؤثر ذلك في التضخم وغيره؛ لأن المال كلما قلّ في الأيدي دورانُه، كلما ارتفعت وغلت أسعاره.

وبذلك يجمع بين: مثل هذه الرواية ومثل ما روي عن الإمام علي عليه السلام: (ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أم لم يؤدِ، وما دونها فهو نفقة)(2)، مما يحمل على صورة تأثيره على وضع اقتصاد البلد ودوران المال وحركته.

لا يقال: (هذا جمع تبرعي)؟

إذ يقال: لعله يساعد عليه نفس كلمة (كنز)؛ فإن ما لا يضر

ص: 313


1- بحار الأنوار: ج8، ص242 وفي معناه أيضا عنه صلى الله عليه وآله: (كل مال يؤدي زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض) الأمالي: ج2، ص133.
2- المصدر: ص243.

بالدوران ليس (كنزاً) وما أضر (كنز)، ولو بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع _ فتأمل.

لا حقيقة شرعية للكنز

أو يقال: بأن الظاهر أن لا حقيقة شرعية ل(الكنز) بل هو باقٍ على معناه العرفي، وعلى ذلك يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وآله وأنه تشخيص المصداق حينذاك، وهو ما ذكرناه.

كما لعله يؤيده اختلاف التقديرات في الروايات، ففي رواية أخرى عن العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية: (إنما عنى بذلك، ما جاوز ألفي درهم).(1)

كما يؤيده رواية أبي ذر عندما سأل عثمان بن عفان، كعب الأحبار، فقال له: (ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا ولو اتخذ لبنةمن ذهب ولبنة من فضة، ما وجب عليه شيء) فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: (يا ابن اليهودية الكافرة، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين، قول الله أصدق من قولك حيث قال تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة»).(2)

جمع آخر

وقد يقال: لا تعارض بين الروايات؛ فإن رواية الرسول صلى الله عليه وآله مطلقة، تقيِّدها رواية الأمير عليه السلام؛ إذ رواية الرسول صلى الله عليه وآله: (وكل مالٍ أديت زكاته

ص: 314


1- البرهان: ج3، ص409، ذيل الآية الشريفة.
2- الصافي: ذيل الآية الشريفة: ج2، ص120.

فليس بكنز، وإن كان مدفوناً تحت الأرض) مطلقة إذ أن (كل مالٍ أديت زكاته) مطلق _ أي سواء بلغ أربعة آلاف درهم أم لا.

ورواية الإمام نص وهي: (ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز، أدى زكاته أم لم يؤد) فتقيد ذلك الإطلاق.

لا يقال: (كل) نص؟

إذ يقال: هو بلحاظ مدخوله، والعرف يرى عدم التهافت بالجمع ب(كل مالٍ أديت زكاته مما لم يزد على أربعة آلاف، فليس بكنز).

هذا إن لم نقل بانصراف رواية الرسول صلى الله عليه وآله عن (العدد) وأن جهة الكلام (كونه مدفوناً وعدمه) _ فتأمل.

وعلى أي تقدير، فإن تحقيق ذلك وتفصيله في الفقه بإذن الله تعالى.

قبح (الكنز) مستقل عقلي، لا حدوده

وغير خفي: أن قبح أو حرمة أصل الكنز من المستقلات العقلية، دون حدوده وأنواعه، فالنهي الوارد في حد أو نوع، لا محذور في الالتزام بمولويته وإن كان القائل ممن يذهب للضابط الخامس؛ فإن كون أصله من المستقلات، لا ينافي مولوية الأمر والنهي في الحد أو النوع الخاص منه _ ولذا أمكن للقائل بكون (أمر الإطاعة) إرشادياً، القول بمولوية (الأمر بالصلاة) وشبهها مما هو حصة منه(1) _ فتأمل.

ص: 315


1- أي حصة من أمر الإطاعة أو نوع منه.

«أوفوا بالعقود»

و « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ».(1)

مولوية «أوفوا بالعقود» حسب الضوابط التسعة

والظاهر المولوية، تشريعاً، للوجوب، كما أن الظاهر حسن الوفاء بالعقود ذاتاً، ووجوبه عقلاً، وأنه من المستقلات العقلية، ولا يضر عدم انطباق بعض الضوابط المذكورة للمولوي ك(ما توقفت المصلحة على الأمر) وهو السابع أو (ما لم تكن المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر) وهو السادس، أو الضابط الآخر وهو (ما عادت المصلحة فيه للآمر) وهو الثامن، أو (ما عدا المستقلات العقلية) وهو الخامس؛ إذ قد سبق بطلان تلك الضوابط، نقضاً وحلاً.

وأما ما عداهما فقد يقال بانطباق الضوابط الأخرى: الأول والثاني والثالث(2)، نعم على الضابط التاسع قد يقال: إن (الوفاء بالعقد) واجب توصلي، فلا يترتب عليه الثواب، وعلى هذا الضابط فإن ما لا يترتب عليه الثواب، فإنه إرشادي.

دعوى (التنقيح) عدم حرمة (الفسخ) شرعاً

لكن قال في التنقيح: (ثم إن المراد بالوفاء، ليس هو الأمر المولوي،

ص: 316


1- المائدة: 1.
2- ويجري في الضابط الثاني والثالث ما ذكرناه عند الحديث عن آية (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) فليلاحظ.

حتى يقال إن الإتمام واجب تكليفي والفسخ والنقض محرمان شرعاً؛ وذلك للقطع بأن البقاء على الالتزام ليس من الواجبات، وبأن الفسخ ليس من أحد المحرمات الشرعية بحيث يوجب الفسق ويخرج المرتكب له عن العدالة بسببه، وهذا مما تشهد به ضرورة الفقه، فلابد من كون الأمر به في الآية المباركة إرشاداً إلى اللزوم وعدم انفساخ العقد بالفسخ، نظير النهي عن صلاة الحائض بقوله: (دعي الصلاة أيام اقرائك).(1)

إشكالات عديدة على كلام التنقيح

لكن يرد عليه: أن دعوى القطع عهدتها على مدعيها، وليس القطع مما يحتج به في مقام الاستدلال والبحث الفقهي الاستدلالي.

وليس كل محرم شرعاً يستلزم الفسق وسقوط العدالة، ليحتج بعدمه على عدمه(2) إلا لو كان كبيرة من الكبائر أو مع الإصرار عليه، مشروطاً كل ذلك بالعلم بحرمته وإلا فإنه لو جهل _ أو كان اجتهاده عدم الحرمة _ فإنه لا يسقط العدالة كما لا يخفى.

وأما دعوى ضرورة الفقه على عدم الحرمة للفسخ والنقض، فهي أيضاً دعوى غير تامة؛ كيف؟ وقد صرح بعض الأعاظم بالحرمة، ومنهم الميرزا محمد تقي الشيرازي في حاشيته(3) قال: (إن وجوب الوفاء بالعقد، باعتبار أن تركه ظلم وعدوان ولازم ذلك عدم ثبوت حق الفسخ لأحد الطرفين بالاستقلال، فنفس حرمة الفسخ كاشفة عن فساده وعدم تأثيره..

ص: 317


1- التنقيح في شرح المكاسب: ج38، ص24.
2- أي يحتج بعدم لزوم الفسق على عدم الحرمة.
3- نقلاً عن حاشية كتاب المكاسب للأصفهاني: ج4، ص34.

بل نفس الرجوع؛ حيث إنه ظلم، حرام...) ولا يرد عليه ما أورده عليه الأصفهاني، كما لعلنا سنفصله في المجلد الثاني بإذن الله تعالى.

كما يظهر من (فقه الصادق) التردد بين الإرشادية والمولوية أو احتمال كليهما، ولو كان خلاف ضرورة الفقه لما جهله مثله وهو من أعاظم الفقهاء، قال:

(الثالث أن الأمر بالوفاء إما أن يكون إرشادياً أو يكون أمراً مولوياً نفسياً.. وعلى الأول… وإن كان مولوياً نفسياً، فيمكن تقريب دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ بوجهين.. ثانيهما: الإجماع على أنه لو كان حراماً كان غير مؤثر).(1)

وقال السيد الوالد في (البيع):

(وهل الأمر للإرشاد؛ باعتبار أن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، أو مولوي؟ الظاهر الثاني.. ومن الواضح أن الأمر بالوفاء ليس كذلك _ أي ليس إرشادياً _ فإذا لم يفِ كان معاقباً).(2)هذا ومما يؤكد كون الأمر بالوفاء، مولوياً، حسنه الذاتي، ومصلحته الذاتية، وتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات.

ونهي الحائض عن الصلاة مولوي لا إرشادي

ثم إن استناده للتنظير ب(صلاة الحائض) وإن النهي عنها ب(دعي الصلاة أيام اقرائك) إرشاد للبطلان، غير تام أيضاً؛ فإن النهي مولوي

ص: 318


1- فقه الصادق: ج22، ص382 - 383 المتاجر، المكاسب المحرمة.
2- الفقه، البيع: ج5، ص83.

ويحرم عليها (الصلاة أيام الحيض) وهو المشهور شهرة عظيمة بل لعله إجماعي.

قال في العروة الوثقى: (فصل في أحكام الحائض، وهي أمور، أحدها: يحرم عليها العبادات المشروطة بالطهارة كالصلاة والصوم والطواف والاعتكاف).(1)

ولم يحشّ عليه أي من المراجع العظام، فيما بيدي من تعليقاتهم، ومنهم السيد الخوئي نفسه، ومنهم: الميرزا النائيني، والشيخ عبد الكريم الحائري، وآقا ضياء العراقي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والسيد حسين البروجردي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محسن الحكيم، والسيد أحمد الخوانساري، والسيد الكلبايكاني، والشيخ محمد رضا آل ياسين، والشيخ علي الجواهري رحمهم الله جميعاً وغيرهم.(2)

وكذلك لم يحش عليه السيد الوالد، والسيد حسن القمي، والسيد المرعشي النجفي رحمة الله عليهم.(3)

ولا مجال لاحتمال إرادتهم التحريم وضعاً، كما يظهر عند ملاحظة سائر المحرمات المذكورة في أحكامها، وكما هو الأصل في مصطلح (الحرمة) مادةً وصيغةً، وكما درج عليه الفقهاء.

ص: 319


1- العروة الوثقى: فصل في أحكام الحائض، ج1، ص231، من الطبعة المحشاة بحواشي خمسة من المراجع.
2- راجع العروة الوثقى بتعليقات خمسة عشر علماً من الأعلام: ج1، ص570.
3- راجع العروة الوثقى بتعليقات خمسةٍ من الأعلام: ج1، ص231.

«أحل الله البيع»

وقوله تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا».(1)

فقد يقال: إن (أحل الله البيع) (إرشاد) لحليته، بل هو إخبار وإن استلزم الإرشاد والفرق أن (الإرشاد) إنشاء، دونه(2)؛ لظهور كونه في مقام التعليل، لرد كلامهم بدعوى المثلية بينهما.

وقد يقال: إنه مولوي تشريعي؛ بدعوى أن ظهوره في التشريع والإنشاء، أقوى من ظهور السياق في الإخبار، وأن (الالتفات)(3) في القرآن غير عزيز حتى صار كأنه الأصل.

هل المراد ب «أحل» الحكم الوضعي أم التكليفي؟

ثم هل «أحل» يقصد به الحكم التكليفي فقط، أو الحكم الوضعي بمعنى الصحة أو النفوذ أو ما أشبه، أو كلاهما؟قال الشيخ في المكاسب: (قوله تعالى «وأحل الله البيع»؛ حيث أنه يدل على حلية جميع التصرفات المترتبة على البيع، بل قد يقال: إن الآية دالة عرفاً بالمطابقة على صحة البيع، لا مجرد الحكم التكليفي لكنه محل تأمل).(4)

ص: 320


1- البقرة: 275.
2- أي دون الإخبار، وإن استلزم الإرشاد فإنه ليس إنشاءً.
3- وفي المقام: الالتفات من (الإخبار) في (ذلك بأنهم قالوا..) إلى الإنشاء ب(أحل الله البيع وحرم الربا).
4- المكاسب: كتاب البيع، المعاطاة، لدى الاستدلال بآية «أحل الله البيع»، ج3، ص40 من الطبعة التاسعة.

وظاهر أن تأمله في دعوى الدلالة بالمطابقة على صحة البيع، لا على دلالتها على الحكم التكليفي.

ثم إن ظاهر كلامه، دلالتها إنشاءً على الحكم التكليفي لا إخباراً.

ولتحقيق هذا المبحث مجال آخر، إذ المقصود بها البحث هنا هو أن دلالته على الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي أو كليهما _ على مختلف المباني _ هل هي مولوية أم إرشادية؟

هل حلية البيع مستقل عقلي؟

ثم أنه هل (حلية البيع) من المستقلات العقلية؟

قد يقال: نعم لكونه وجهاً من وجوه التصرف والتقلب في الملك، وهو مما يستقل العقل بحسنه وجوازه.

قال السيد السبزواري قدس سره: (السادس: يدل قوله تعالى «أحل الله البيع وحرم الربا» على ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد، وهي معلولة لها، ولا فرق بين كونها مصالح ومفاسد عامة أو خاصة).(1)

أقول: وجه الاستدلال، لعلّهُ البرهان الإنّي؛ إذ ننتقل من أنه تعالى أحل البيع، ومن تحريمه الربا، إلى وجود المصلحة أو المفسدة، نظراً لحكمته تعالى، وإلا لكان للخصم أن يقول بدلالتها على العكس، وأنه تعالى يفرق بينهما بأنه هو _ جل اسمه _ الذي يحلل ويحرم وقد حلل

ص: 321


1- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج4، ص453.

هذا وحرم ذاك، فلا وجه لدعواهم التماثل، فيعود الاستدلال إلى كونه استدلالاً بحكمته تعالى، لا بالآية، إلا أن يستند إلى سبق (لا يقومون) الموجود في الربا، دون البيع، وإلى ما لحق من «يمحق الله الربا ويربي الصدقات».(1)

روايات دالة على كلي محبوبية العمل الاقتصادي وهل هي مولوية؟

ثم إن مما يدل على كلي محبوبية العمل الاقتصادي:

التأذي بحرِّ الشمس للرزق

1- ما رواه الكافي عن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ، يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفِك. فقال لي: (إني أحب أن يتأذى الرجل بحرِّ الشمس في طلب المعيشة).(2)

2- وقد نقلنا في موضع آخر رواية أخرى، حيث دفع الإمام الصادق عليه السلام مالاً لعذافر، ليتجر به، وقال: (.. ولكني أحببت أن يراني الله جل وعز متعرضاً لفوائده)، وذلك مما يقتضي كون الأمر بالعمل والتجارة مولوياً؛ بناء على كون ضابط المولوية هو (ما كان محبوباً للمولى وقد أمر به لمحبوبيته) فإن (حبهم) و (بغضهم)

ص: 322


1- البقرة: 276.
2- الكافي: كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمة في التعرض للرزق، ح13.

صلوات الله عليهم هو (حب الله وبغضه) فهم، كأمهم البتول وجدهم الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، ممن (يرضى الله لرضاهم ويغضب لغضبهم).

ومن الواضح أن حبه عليه السلام لتأذي الرجل بحر الشمس، ليس حباً شخصياً نابعاً من الهوى والعياذ بالله، بل هو نابع من كون ذلك مما يحبه الله تعالى ومما يثيب عليه؛ فإن كل ما فعله الشخص لأنه يحبه الله، مثاب عليه.

فلا يقال: حبه حبّان: حب بما هو مولى، وحب بما هو صديق أو إنسان أو ما أشبه _ فإنه ممحض في الله وحبه بما هو إنسان حب بما هو لله أيضاً _.

لكن قد يقال: إن (حبه) بما هو مولى مشرع غير حبه بما هو ناصح فتأمل، وتمام الكلام في هذا البحث في علم العقائد.

وأما إذا صرنا للضابط الأول، فإن ذلك مما يرجحه.

3- بل يدل على محبوبية ومطلوبية (العمل الاقتصادي) للمولى بما هو مولى قول رسول الله صلى الله عليه وآله (العبادة سبعون جزءً أفضلها طلب الحلال).(1)

والظاهر أن (طلب الحلال) متحد مع (العبادة) اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه بل قد يقال: ليس الحمل حملاً شائعاً صناعياً بل هو ذاتي أولي، لأنها جنسه فتأمل.

ص: 323


1- المصدر: باب الحث على الطلب والتعرض للرزق، ح6.

وعلى أي فإن (الأمر) بالعبادة لو وقع، فإنه أمر مولوي حسب مقتضى الأصل والقاعدة، وإن أمكن كونه بما هو ناصح إرشادياً.

رواية (إصلاح المال من الإيمان)

4- وقول أبي عبد الله عليه السلام: (إصلاح المال من الإيمان).(1)

فإن (الإيمان) هو أول مطلوب للمولى بما هو مولى، قال تعالى «لتؤمنوا».

و (إصلاح المال) قد يقال بأنه أعم من: (حفظه صالحاً) بأن يُبقي الدار أو البستان سالماً من الخراب أو من آفات الزرع، ومن (تنميته) بأن يتجر به لينمو ويتضاعف، ومن (ترشيدإنفاقه) بأن يقتصد في الإنفاق فلا يمسك ولا يسرف(2) ولعله يشمل عموم العلة المحدثة والعلة المبقية بأن يكتسبه من حلّه وينفقه في محله فإذا فعل ذلك كله فقد (أصلحه).

طلب الرزق أجره أعظم من الجهاد

5- وعن زكريا بن آدم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: (الذي يطلب من فضل الله عز وجل ما يكفّ به عياله، أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله عز وجل).(3)

والحديث صحيح، ولعله يستفاد منه (المولوية الغيرية) للاكتساب

ص: 324


1- الكافي: كتاب المعيشة، باب إصلاح المال، ح3.
2- ومنه مثلاً إغلاق صنبور الماء عند الوضوء في الفواصل، أي عند كل غسل لعضو، فإنه نوع (إصلاح) للمال، ومنه عدم رمي الفاكهة وعلى النوى بقايا، كما ورد في روايات أخرى أيضاً، ومنه عدم إسراف الشركات أو الدولة في الضيافات وفي تكاليف الاستقبال الرسمي وغيره.
3- الكافي: كتاب المعيشة، باب من كد على عياله، ح2.

لا (النفسية).

والرواية كما ترى صريحة في (الأجر) من الله فينطبق الضابط التاسع للمولوي على من اكتسب طالباً فضل الله دون ريب.

6- وروى علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام: (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله).(1)

والحديث حسن.

ولا يضر انطباق عناوين أخرى على العمل والتجارة والصنعة، فإن الواسطة واسطة في الثبوت لا العروض.

وكذلك مثل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(2) فهل هو مولوي أو إرشادي؟

وبعبارة أخرى: هل «أحل الله البيع» إخبار أم إنشاء؟ وعلى كونه إنشاء فهل إنه بما هو مولى قد أحل البيع؟ أم أمضى بناء العقلاء عليه؟ وهل (أحل) يقصد به (الحكم التكليفي) بمعنى الجواز؟ أم (الحكم الوضعي) بمعنى النفوذ؟ أم الأعم؟ فصلنا ذلك في موضع آخر فليلاحظ.

ص: 325


1- المصدر: ح1.
2- البقرة: 275.

7

7- الأوامر والنواهي في الشؤون السياسية

اشارة

ومنها القضايا السياسية:

«يضع عنهم إصرهم والأغلال»

كقوله سبحانه وتعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ».(1)

الوضع التشريعي والتكويني للإصر

والظاهر أنه صلى الله عليه وآله «ويضع عنهم» ذلك بما هو مولى (تشريعاً)، كما تدل عليه الروايات الآتية وما ذكر فيها من المصاديق التشريعية ل(الإصر)، ويؤيده السياق فإن «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» مولوي، وكذا «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث» فإنه بما هو مولى لا بما هو مرشد، أو هو شامل له ولمصاديق تكوينية من (الإصر) مما كان على الأمم السابقة، ولما قام به صلى الله عليه وآله، تكويناً، من وضع الآصار والأغلال عنهم بإسقاط الحكومات الكابتة للحريات، فهو

ص: 326


1- الأعراف: 157.

أعم من (الوضع) التكويني والتشريعي، كما أنه أعم من رفع قانون كابت أو وضع قانون مطلِق، إطلاقاً أو مناطاً.

كما أن الظاهر أنه أعم _ ملاكاً _ من الدفع والرفع، أو العلة المحدثة والمبقية، وإن توهم في بدو النظر غير ذلك.

والظاهر أن وضعه ذلك عنهم، أعم من: كونه بعدم تشريع ما هو كذلك، وتشريع خلافه.

والظاهر أن «ويضع عنهم» إخبار عن حاله صلى الله عليه وآله، وليس إنشاء بصيغة إخبار؛ فإنه بعيد جداً بالنظر لسياق الآية، وإن كان ممكناً بالنظر للجملة الفعلية نفسها، لكنه إخبار عما من شأنه وفعله بما هو مولى، لا بما هو ناصح ومرشد، فيصلح مثالاً: للأقوال والتشريعات، وللأفعال المولوية خارج دائرة الأوامر والنواهي المولوية، وذلك كما أن من الأقوال والأفعال(1) ما هو إرشادي مما لم يكن أمراً ولا نهياً، والحاصل: أنه سواء كان إنشاء أم إخباراً عما صنعه الشارع، فإن (وضعه) تعالى عنهم إصرهم والأغلال، مولوي، أي صادر عنه بما هو مشرّع ومولى، فمن خالف وعارض، أثم واستحق العقاب.

أنواع ومصاديق الإصر والأغلال

و أما (الإصر) فقد قيل: (أصل الإصر: الضيق والحبس)، و (الشدّ والعقد)، و (الذنب) وحمل عليه قوله تعالى: «ولا تحمل علينا إصراً» أي ذنباً يشق علينا، و (العقوبة)(2) و (الإصر) (عقد الشيء وحبسه بقهر)

ص: 327


1- كالإشارة فإنها قد تكون إرشادية (للطريق) وقد تكون مولوية (بأن افعل كذا).
2- مجمع البحرين مادة إصر.

و الإصار: (الطنب والأوتاد) و (المأصِر): (محبس السفينة).(1)

والظاهر أن (الإصر والأغلال) يشملان:

ما جعلوه على أنفسهم بسوء تدبيرهم وتصرفهم، من قوانين كابتة اجتماعية؛ فإنه صلى الله عليه وآله كذلك فعل بها، فوضعها عنهم ورفعها وأزالها، وكان ذلك من شأنه بما هو مشرع للأفضل، ولما يسعد الناس ديناً ودنياً وآخرة.وما جعلته الحكومات عليهم، من قيود وحدود وضغوط، كذلك.

وما جعله الله عليهم بسوء فعلهم.

وأكثر المصاديق المذكورة في الروايات هي من هذا القبيل؛ ولذا قال السيد الوالد: (وفي الأمور التي قيدتهم من الشرائع والتقاليد).(2)

ومن النوع الثالث قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ».(3)

وهو الذي طلبه المؤمنون في قوله تعالى: «رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا».(4)

ومنه التكاليف الامتحانية التي ابتلى بها اللهُ، الأممَ السابقة.

ص: 328


1- مفردات الراغب.
2- تبيين القرآن: ص182.
3- الأنعام: 146.
4- البقرة: 286.

ومنه (أنه فرض عليهم الغسل والوضوء بالماء ولم يحل لهم التيمم، ولم يحل لهم الصلاة إلا في الكنائس والبيع والمحاريب، وكان على الرجل إذا أذنب أن يجرح نفسه جرحاً مبيناً ليعلم أنه أذنب).(1)

و (تحريم السبت، والعروق والشحوم، ووجوب القصاص دون الدية، وقتل نفوسهم في التوبة).(2)

وهذه كلها تشريعات مولوية، وتنقسم إلى (ما جعل عليهم) مولوياً(3) وما رفع أو (ما لم يجعل لهم) مولوياً، ومن الثاني: عدم جعل الدية بدلاً، وعدم جعل التيمم، والأول ينقسم إلى واجب وحرام كما لا يخفى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى في حديث طويل نقله الصافي جاء فيه:

(قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعت(4) ذلك عن أمتك.. وكانت الأمم السالفة، حسنتُهم بحسنة وسيئتهم بسيئة، وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك، وجعلت الحسنة بعشر(5) والسيئة بواحدة.وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة، وإن أمتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم

ص: 329


1- البرهان: ج3، ص223، الأعراف، آية 157.
2- مجمع البيان: ج4، ص374، الأعراف 157.
3- كجرح الرجل نفسه إذا أذنب، وتحريم الشحوم وشبههما.
4- وهذا رفع مولوي تشريعي.
5- وهذا جعل تكويني، صادر من المولى بما هو مكون لا بما هو مشرع.

يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر.(1)

وكانت الأمم السالفة إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت له سيئة، وإن أمتك إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتُ ذلك عن أمتك.

وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا، كتبت ذنوبهم على أبدانهم، وجعلت توبتهم من الذنوب: أن حرّمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستوراً كثيفة، أو قبلت توبتهم بلا عقوبة.(2)

وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة، ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك...).(3)

ومما سبق يظهر أن (الإصر) لا يختص ب(التكاليف الشاقة) _ كما فسره به في الصافي ذيل الآية 286 من سورة البقرة(4) وأنه يشمل (الشدائد) كما فسره بها لاحقاً.

بل يشمل كل حكم تكليفي ووضعي، كما يشمل بعض الآثار التكوينية للأفعال.

ص: 330


1- وهذا كلاحقه، كسابقهما.
2- وهذا يتكون من تكوين وتشريع، فالأول شِقُّه الأول، والثاني شِقُّه الثاني (تحريم الطعام)، بل إنه يتضمن التكوين أيضاً (جعل التحريم والحرمان، توبة)
3- الصافي: ج1، ص231، ذيل آية 286 من سورة البقرة.
4- الصافي: ج1، ص229.

ثم إن (وضع الإصر والأغلال عن الناس) مما لا شك في حسنه عقلاً، وهو من المستقلات العقلية حسناً ووجوباً.

المولوية أو الإرشادية على الضوابط التسعة

وحيث أوضحنا في فصل الضوابط: أن الضابط الخامس للمولوي _ وهو ما كان في غير المستقلات العقلية _ غير تام، ومثله الضابط السادس والسابع والثامن، أمكن كون وضع الآصار، مولوياً، بل هو كذلك على الضابط الأول الذي صرنا إليه(1) بل وعلى الضابط الثالث(2) فإنه لا شك في محبوبية وضع الآصار عن العباد، له تعالى ولرسوله الكريم، ولذا طلبه صلى الله عليه وآله منه تعالى واستجاب له جل اسمه.

وكذا على الضابط الثاني(3) أيضاً، فإن التخفيف عن العبيد، أدعى لإطاعتهم وانقيادهم؛ فإنه وإن كان لمصلحتهم دنيوياً في بادي النظر، إلا أنه لمصلحتهم الأخروية مآلاً، وهو المقصد الأصلي للتشريع.لكن يرد عليه أن (المصب) عرفاً المصلحة الدنيوية _ فتأمل.

«ولا تركنوا إلى الذين ظلموا»

وقوله تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(4) و (الركون) هو الميل إليهم ولو أدنى ميل.(5)

ص: 331


1- وهو (ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته) مع قيد (إذا كان في مقام التشريع) أو لا.
2- وهو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته).
3- وهو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة).
4- - هود: 113.
5- كما في مجمع البحرين أول مادة (ركن).

والظاهر أن (النهي) في الآية (مولوي) للتحريم، وليس (إرشادياً) ولا (مولوياً) للنصح؛ فإن ضابط المولوي الأول، منطبق عليه؛ إذ قد صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته؛ ولذا رتب عليه استحقاق العذاب بمس النار، وكذا ينطبق عليه الضابط الثاني وهو (ما أنشأ بلحاظ مصلحة ومفسدة الآخرة) _ وإن كان فيه مصلحة ومفسدة الدنيا أيضاً _ والثالث وهو (ما كان مبغوضاً للمولى وقد صدر لجهة مبغوضيته) وبرهانه الإني: العقاب.

مصاديق هامة للركون للظالم

وقد ذكرت في الروايات مصاديق للركون للظالم:

1- فمنها: (مودتهم).

2- ومنها: (النصيحة لهم).

3- ومنها: (الطاعة).

كما نقله الطبرسي في مجمع البيان عنهم عليهم الصلاة والسلام، فتكون الآية والرواية من أدلة حرمة إطاعة القوانين التي سنّها الحاكم الجائر أو الدولة المستبدة، سواء في الشؤون السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم غيرها، اللهم إلا ما لزم منه اختلال النظام والهرج والمرج، كقوانين المرور مثلاً؛ فلا وجه لما قاله البعض من نفوذ حكم الحكومات الوضعية.

4- ومنها: (محبة بقاء السلطان) لأجل فائدة تعود للإنسان، كما فيما

ص: 332

رواه الكافي(1) عن الإمام الصادق عليه السلام : (هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى ان يدخل يده في كيسه فيعطيه)(2)، وملاكه شامل لمن أحب بقاءه لمصلحة عائدة لحزبه أو جماعته أو مرجعيته، كما نرى ذلك في أمثال (الأزهر) مثلاً.

5- ومن المصاديق، ما ذكره في المجمع(3) من (الإنصات إليه)(4) و (السكون إليه بالمحبة له). كما يبدو منه تعميم (الذين ظلموا) للمشركين؛ إذ فسر الآية الشريفة ب(لا تميلوا إلى المشركينفي شيء من دينكم)، وهو تام لأن الشرك نوع من الظلم عظيم؛ لقوله تعالى: «لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم».(5)

وشمولها(6) للحاكم الجائر واضح، لقوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون».(7)

6و7و8- ومن المصاديق (السكون إلى قولهم)(8) و(إظهار الرضا

ص: 333


1- الكافي: ج5، ص108، ح12.
2- نقلاً عن الصافي: ذيل الآية الشريفة ج2، ص475.
3- مجمع البيان: ج5، ص344، ذيل الآية الشريفة.
4- لأنه يشجعه بنفس القدر ويعطيه ثقة بنفسه، ويزيد مكانته واحترامه لدى الناس أو حتى لدى جماعته هو.
5- لقمان: 13.
6- أي آية (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا).
7- المائدة: 44.
8- ومنه: الاعتماد على التقارير الصادرة من مراكزهم حول أوضاع البلاد، ودعاواهم بالاستقلال وخدمة الناس وغير ذلك.

بفعلهم)(1) و (مصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم).(2)

حرمة الركون للظالم سواء في الأمور الدينية أم الدنيوية

والظاهر أن التقييد ب(الركون إلى الظالمين في الأمور الدينية ونحوها محرم)(3) غير تام؛ لإطلاق الآية وللملاك فإن الركون للظالم في شؤونه الشخصية العائلية والاقتصادية، كذلك محرم لترتب نفس المفاسد المذكورة في الروايات، من تقوية الظالم، وحب بقائه حتى يحل المشكلة مثلاً وغيرها.

وقد جاء في رواية محمد بن عذافر عن أبيه قال لي أبو عبد الله (يا عذافر نُبِّئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع! فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟) قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد الله عليه السلام لما رأى ما أصابه: (أي عذافر! إنما خوفتك بما خوفني الله عز وجل به) قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات).(4)

وفي رواية أبي يعفور: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك ربما أصاب الرجل منّا الضيق والشدة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة _ أي السد _

ص: 334


1- وإطلاقه شامل _ وملاكه _ حتى لأفعالهم الصحيحة، فإن الرضا بالفعل من الفاعل الغاصب الظالم لا يخلو من تأييده أو الرضا بذاته ولو بدرجة ما _ أي الرضا بالفاعل من حيث صدور هذا الفعل منه.
2- ومن ذلك التزاور معهم والمشاركة معهم في ندواتهم ومؤتمراتهم وغيرها، مجمع البحرين مادة ركن.
3- الفقه المحرمات: ج93، ص164.
4- وسائل الشيعة: ج17، ص178، باب 42 من أبواب ما يكتسب به، ح3.

يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله: (ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً، وانَّ لي ما بين لابنيها، لا، ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ الله من الحساب).(1)

وهذه الموارد كما ترى شؤون دنيوية شخصية.نعم يستثنى من ذلك كله ما لو زوحم بالأهم وأحرزت أهميته، شرط إذن الفقيه الجامع للشرائط في ذلك أو إذن شورى المراجع؛ فإنه شأن عام يحتاج لإذنهم كما فصل في محله.

ثم إن الآية والروايات منصرفة عما مثل له قدس سره، من الرجوع لطبيب كافر أو ركوب الطائرة مع أن الطيار كافر مثلاً(2)، ولعله قدس سره قصد من (نحوها) ما ذكرناه.

بل قد يقال: بأن الأمر لو دار بين طبيب مسلم وكافر أو طيارين كذلك، وكانا متساويين، عُدّ انتخاب الكافر ركوناً للظالم، إلا لو لزم عسر وحرج.

وقد يقال: باختلاف الأعراف والشرائط والزمان والمكان في صدق (الركون) عرفاً وعدمه _ فتأمل.

شمول (الذين ظلموا) للحاكم والحزبي والعالم

والظاهر أعمية (الذين ظلموا) من الحاكم والوزير ومساعده ونائبه ووكيله وكذا الجندي والشرطي ورجال الأمن والاستخبارات وأشباههم.

ص: 335


1- المصدر: ص179، ح6.
2- الفقه المحرمات: ج93، ص164.

بل الظاهر أعميته من مطلق الظالم حاكماً كان أو لا، فالركون إلى شيخ العشيرة، لو ظلم أحد أفرادها، أو إلى قائد الحزب، أو حتى عالم المحلة _ فرضاً _ لو ظلم، مصداق للآية الشريفة، بل حتى ركون الأخ إلى أخيه لو ظلم زوجته مثلاً، والانصراف لو كان فبدوي، إلا أن لا يعد (ركوناً) إليه عرفاً، أو يزاحم بالأهم عقلاً أو شرعاً.

والظاهر أن قبح وحرمة الركون للظالم من المستقلات العقلية كقبح وحرمة الظلم نفسه.

ولا يضر ذلك بما أشرنا إليه من كون النهي مولوياً؛ لما ذكرناه في فصل (الضوابط) من النقاش المبنائي في الضابط الخامس للمولوي.(1)

«الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ».(2)

ومعنى الآية كما جاء في (التبيين): («هم ينتصرون» أي ينصر بعضهم بعضاً لدفع ذلك البغي).(3)

والظاهر أنه تفسير بأحد مصاديق «ينتصرون».

وقال في (الصافي): (على ما جعله الله لهم، كراهة التذلل) وقال: ("الحلم" عن (العاجز)، محمود، وعن (المتغلب) مذموم لأنه إجراء

ص: 336


1- وهو ما عدا المستقلات العقلية.
2- الشورى: 39.
3- تبيين القرآن _ سورة الشورى _ الآية 39، ص500.

وإغراء على البغي).(1)

مما يظهر منه أن (الانتصار) محمود في ما إذا كان عكسه (التذلل)، كما أنه محمود على المتغلب الذي يجرؤه العفو، لا مطلقاً، ويؤيده قول أمير المؤمنين عليه السلام: (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه).(2)وأما (البرهان) فقد اعتبر (الانتصار) رخصة، إن شاء فعل وإن شاء ترك.(3)

لكن الظاهر ان الانتصار مطلوب للمولى بما هو مولى، ولذا عده من صفات المؤمنين، وجاء في سياق جملة مما أحبه الشارع وطلبه.

إلا أن يريد بالرخصة الأعم من الندب، إذ هو حق، فلا وجوب.

وقال في (المجمع): («هم ينتصرون» ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا) وقال (ينتصرون أي يتناصرون..).

(وقيل: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفاً يعفو عمن ظلمهم وهم الذين ذكروا قبل هذه الآية وهو قوله «وإذا ما غضبوا هم يغفرون» وصنفاً ينتصرون ممن ظلمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية، فمن انتصر وأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما حد الله، فهو مطيع لله ومن أطاع الله فهو محمود).(4)

ص: 337


1- الصافي: ذيل الآية الشريفة، ج4، ص 378.
2- نهج البلاغة: ج4، ص4، الكلمات القصار، رقم 11.
3- البرهان: ذيل الآية الشريفة، ج7، ص93.
4- مجمع البيان: ج9، ص57.

وقد يسئل عن وجه الجمع بين الآية الشريفة وقوله تعالى: «والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له».(1)

ولعله: في هذه الآية لوحظ الجانب الشخصي والفردي وفي تلك النوعي والعام أو الفارق بالعنوان الثانوي وعدمه، ولعله «ينتصرون» مسؤولية الغير و «من تصدق» يرتبط بالمظلوم نفسه.

والظاهر أن (انتصار المظلوم) لنفسه، من ظالمه، بين واجب ومستحب، على القول بالمولوية، في ما لو ورد أمر بالانتصار _ كما قد تفيده الآية الشريفة _ على ما أوضحناه في موضع آخر من إفادة الجملة الخبرية الإسمية والفعلية، الوجوب، لو قامت قرينة على إفادتها المطلوبية دون قرينة معينة للوجوب أو الاستحباب.

ثم انه قد يرجح عدم انتصار المظلوم من ظالمه، في الحقوق الشخصية في الجملة فيما دخل في دائرة (أعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)؟

وأما على الإرشادية فهي صفة ممدوحة لا غير، إلا على القول بأن من الإرشاد ما هو للإلزام كما نقلناه عن الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما.

«وأمرهم شورى بينهم»

وقال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».(2)

ص: 338


1- المائدة: 45.
2- الشورى: 38.

وقد بحثنا حول هذه الآية الشريفة في موضع آخر من هذا الكتاب، كما فصلنا الحديث عنها في (شورى الفقهاء) ونضيف هنا:

إن هذه الآية والآية التالية، وإن كان ظاهر سياقها، الإخبار، إذ الكلام عن أن «ما عند الله خير وأبقى»(1) للذين يتصفون بهذه الصفات.إلا أنه يمكن استظهار دلالتها على الوجوب المولوي بأحد وجهين:

الدليل الأول على إفادة الآية، وجوب الشورى

أحدهما: ما ذكره السيد الجد الأكبر الميرزا الشيرازي الكبير قدس سره من: أن الجمل الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب والإنشاء، فإنها تكون ظاهرة في الوجوب لو لم تقم القرينة على أن المراد أي نوع من الإنشاء وهل هو الوجوبي أو الندبي، مستدلاً بالتبادر عرفاً (فإنهم لا يفرقون بين صيغة الأمر وبين الجمل الخبرية إذا علموا أن المراد بها الإنشاء، مجازاً، في فهم الوجوب واستفادته من اللفظ، بشيء أصلاً.. مع قيام القرينة الصارفة عن استعمالها في الأخبار، مع عدم القرينة على تعيين أن المراد أي نحو من الإنشاء، وكما يثبت بالأول ظهور الصيغة وضعاً أو إنصرافاً، فكذا يثبت بالثاني ظهور الجمل حينئذٍ في الوجوب ظهوراً عرفياً مستنداً إلى قرينة عامة لازمةٍ للفظ في جميع الموارد على أن المراد الوجوب، إما باستعمال الجمل فيه بخصوصه أو انها مستعملة في مطلق الطلب وهو منصرف إليه عند الإطلاق بأحد أسباب انصراف المطلق إلى بعض أفراده، كما مر في الصيغة..).(2)

ص: 339


1- الشورى: 36.
2- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص33-34.

ومستدلاً ب(تتبع الآثار والأخبار المأثورة عن المعصومين الأطهار صلوات الله عليهم وجعلنا معهم في دار القرار؛ فإن من تتبع الكتب المدونة فيها يرى أن غالب ما كان المراد بيان وجوب شيء فهو إنما يبين بالجملة الخبرية الخالية عن القرينة اللاحقة لخصوص المورد، على تعيينه...).(1)

إلا أن يقال: إن سياق الآيات سياق المدح، وليس الطلب.

ويمكن الجواب أنه لو كان كذلك(2)، فإنه كاف في الدلالة على المقصود، إذ (المدح) دليل المطلوبية والمحبوبية بل صريح قوله تعالى: «وما عند الله خير وأبقى» ليس المحبوبية فقط، بل ثواب الآخرة أيضاً.

وينتقل من (المحبوبية) و (الثواب) للوجوب، إما استناداً إلى السياق _ فإنها مطلوبة مع المنع من الترك(3)_ أو استناداً إلى أن (الشورى) مما لو رجح لوجب، أو استناداً إلى مناسبة الحكم والموضوع في خصوص الشؤون الخطيرة، وإن كان الأخيران ينتجان الوجوب في الجملة لا على إطلاقه(4)_ فتأمل.

ص: 340


1- المصدر: ص37.
2- قلنا (لو) إذ قد يقال: إن بيان الطلب في قالب المدح والثناء أو في قالب الإخبار، قد يكون أوقع في النفوس وأشد تأثيراً كما أنه أشد بلاغة، فلعل الآية الشريفة كذلك.
3- وقد أشرنا في (شورى الفقهاء) إلى دفع الإشكال الذي قد يورد على كون بعض ما في السياق مستحباً.
4- إذ لو رجحت الشورى في الشؤون الخطيرة، وجبت، لا مطلقاً، وكذا مناسبة الحكم والموضوع.

الدليل الثاني

والثاني: ما ذكرناه في (شورى الفقهاء) من (كون الأصل فيما يعد صفة للمؤمن انه واجب التحصيل؛ لكون الصفة بمنزلة المعرِّف الذي ينتفي المعرَّف عند انتفائه؛ ولكون الظاهر هو ذلك...) وأشرنا إلى بعض الإيرادات على هذا الوجه وأجوبتها.(1)

ولو رفعنا اليد عن دلالتها على الوجوب، فلا شك في دلالتها على الاستحباب، خاصة بقرينة ما ذكر عليه في الآية السابقة من الثواب(2)، فيجري الكلام السابق من دلالة الآية _ ولو بالدلالة الإلتزامية بل بدلالة الاقتضاء(3)_ على كون الشورى مأموراً بها بالأمر المولوي الندبي لا صرف الإرشادي.

إلا أن يقال: يكفي في المدح، مطلوبية الممدوح عقلاً _ فإن العقل رسول من باطن _ ولا يتوقف على طلبه شرعاً.

ويرد عليه: إنه لا شك في مطلوبيتها شرعاً؛ للعشرات إن لم تكن المئات من الروايات التي أكد الشارع فيها طلبه ودعوته للتشاور والمشورة والشورى، وقد أشرنا إلى بعضها في (شورى الفقهاء _ دراسة فقهية أصولية)، كما ذكر السيد الوالد قدس سره قسماً كبيراً منها في كتاب (الشورى في الإسلام) وغيره، كما تجد قسماً وافراً منها في كتاب: الوسائل وجامع أحاديث الشيعة وبحار الأنوار وغيرها.

ص: 341


1- للتفصيل يراجع: شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية: ص161.
2- وهو «وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون».
3- وهي ما تتوقف صحة أو صدق الكلام عليه، وفي المقام فإن صحة مدح المؤمنين بأنهم «أمرهم شورى بينهم» متوقفة على مطلوبية الشورى للشارع، في رتبة سابقة.

بل نقول: يستفاد من نفس الآية، مطلوبية الشورى شرعاً، وليس عقلاً فقط.

ص: 342

8_ الأوامر والنواهي في الشؤون الاجتماعية

«امسكوهن بمعروف»

كقوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ»(1) و «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ»(2) و «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ».(3)

والظاهر أن الأمر بامساكهن بالمعروف أو بالمعاشرة معهن بالمعروف وأشباهه، صغرى لكبرى وجوب أو استحباب المعاشرة والائتمار والمشورة وغيرها، بالمعروف، مع الوالدين والأولاد والأقرباء والأصدقاء وغيرهم، كل على حسب (المعروف) في معاشرة مثله، والائتمار بالمعروف.

وعلى هذا، فالظاهر إن حسن (المعاشرة بالمعروف) تعد من الامور الفطرية، ومن ما يستقل به العقل، والأمر به أمر مولوي؛ لانطباق ضابط

ص: 343


1- البقرة: 231.
2- الطلاق: 6.
3- البقرة: 228.

المولوية الأول عليه وهو ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته؛ بل وإنطباق الضابط الثاني عليه، فإنه وإن كان ذا مصلحة دنيوية إلا أن الأخروية هي المصبَّ أو أحد الوجهين؛ وكذا الضابط الثالث(1)، وقد أوضحنا في فصل ضوابط المولوية والإرشادية، عدم تمامية الضابط الخامس(2) نعم من ذهب إليه أو إلى الضابط السادس، عليه أن يلتزم بكون هذه الأوامر إرشادية، فلا عقوبة لو خالف، وهو خلاف الظاهر والمستفاد من الأدلة.

الاحتمالات في المراد ب(المعروف)

وفي (المعروف) احتمالات؛ إذ (المعروف):

أ _ قد يراد به المعروف (اللغوي).

ب _ وقد يراد به: المعروف (العرفي) وهذا قد يقصد به المعروف في العرف العام، أو يقصد به المعروف في العرف الخاص مطلقاً، أو خصوص عرف المتشرعة.

ج _ وقد يراد به المعروف الشرعي.

د _ وقد يراد به المعروف (الواقعي).

وقد يعرف (المعروف) ب(كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه، إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه، و (المنكر) كل فعلٍ قبيحٍ عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه) كما في الشرائع وتحرير الأحكام وغيرهما.

ص: 344


1- ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته.
2- وهو إن الأمر المولوي هو ما كان في غير موطن المستقلات العقلية.

وقد ذكر السيد الوالد رحمه الله في الفقه كتاب الأطعمة والأشربة(1) في قوله تعالى: «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث»(2) احتمالات ثمانية في (الخبيث) منها هذه الأربعة، وذكر ثامنها انه مجمل لا يعلم المراد منه.ويظهر من السيد السبزواري رحمه الله تعميم (المعروف) ل(ما ورد في الشرع وما يحكم به العقل؛ فإن جميع ذلك من المعروف).(3)

وقال: (المعروف، من العرف، وهو ما استحسنه العقل ولم يردع عنه الشرع، فيشمل الفطريات والمحسنات العقلية وبناء العقلاء، فإن جميعها حسن ومعروف، وإن كان الفرق بينهما بالاعتبار، والشرع حاكم ومسلط عليها جميعاً فإنه يتممها).(4)

وهذا أصح من تفسيره للمعروف في مواضع أخرى ب(والمعنى أن لهن من الحقوق فيما تعارف بين الناس، على الرجال، مثل ما للرجال عليهن)(5)و (ثم ارجع ذلك إلى العرف المتداول في كل مجتمع).(6)

وذلك لأن (العرف المتداول في كل مجتمع) و (ما تعارف بين الناس على الرجال) نسبته إلى (المعروف الوارد في الشرع) هي العموم من وجه، وكذا نسبته مع (الفطريات والمحسنات العقلية وبناء العقلاء)، إلا

ص: 345


1- الفقه الأطعمة والأشربة: ج76، ص10-12.
2- الأعراف: 157.
3- مواهب الرحمن: ج4، ص8.
4- المصدر: ص39.
5- المصدر: ص8.
6- المصدر: ص19.

أن يعتبر قوله (ولم يردع عنه الشارع) ناظراً لذلك، لكنه غير كافٍ لدفع الإشكال _ فإن ظاهر (الأول) المعروف الشرعي والعقلي، وظاهر (الثاني) المعروف العقلي دون ردع، وظاهر (الأخيرين) المعروف العرفي.

وقد فسر (المعروف) في الصافي ب(بالوجه الذي لا ينكر في الشرع، ولا في عادات النساء فلا يكلفنهم ما ليس لهن، ولا يكلفونهن ما ليس لهم).(1)

وظاهره: إرادة الأعم من المعروف العرفي والمعروف الشرعي، مع تفسيره المعروف الشرعي بل والعرفي بالسلب الذي هو أعم من الإيجاب، وفيه أنه لا يصدق على كل ما لم ينكره الشرع انه (معروف) وذلك مثل المباحات _ لا عرفاً ولا شرعاً ولذا لا يجب ولا يستحب الأمر به، كما ليس (لهن) ذلك في قوله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف».(2)

والظاهر أن المعروف والمنكر من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث.

هل المراد المعروف العرفي أم الأعم؟

وقد يقال: الظاهر إرادة (المعروف العرفي)، لأن العرف هم الملقى إليهم الكلام، وذلك مقتضى (بلسان قومه)، ولا حقيقة شرعية ل(المعروف)، غاية الأمر ان الشارع تصرف فيه بعض التصرف زيادة ونقيصة ف(ليلة) من أربعة (معروف شرعاً) وإن لم يكن كذلك عرفاً.

و (الجامع): إن الأصل: (العرفي) وما عداه بحاجة للدليل.

ص: 346


1- الصافي: ج1، ص189، آية 228 من سورة البقرة.
2- البقرة: 288.

وقد يقال: المراد ب(المعروف) الأعم من المعروف العرفي والشرعي والعقلي، وليس مآل القولين واحداً، والكلام هو في (الظهور).

قال السيد الوالد:

(ويحتمل أن يراد ب«المعروف» كل ما هو معروف عقلاً أو شرعاً. وبعبارة أخرى كلما أمر به الشارع أمراً خاصاً كالصلاة، أو أمراً عاماً لينطبق عقلاً على موارد خاصة، كالإحسان إلى الحيوان؛ فإن حسنه عقلي ولكن بمعنى أن العقل بنفسه يدرك حسنه، ويشمله كلي شرعي هو قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»).(1)

ثم إن الإمساك بالمعروف والتسريح بالمعروف، من مصاديق (العدل) فهو من المستقلات العقلية.

«كونوا قوامين بالقسط»

قال تعالى: «كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ».(2)

و (القوام بالقسط) أبلغ في الدلالة من (القائم بالقسط) فإنها صيغة مبالغة.(3)

وقد يقال إنه لا تقتصر دلالته على الكمية فقط أي لا يعني القيام دائماً به فقط، بل يفيد الكيفية والشدة والتشدد والاحتياط فيه أيضاً. ومنه ما أشارت له الرواية من (أن يقول الرجل حقاً، وإن كان على نفسه أو

ص: 347


1- الفقه: ج48، ص195.
2- النساء: 135.
3- إذ (فعّال أو مفعال أو فعولُ) (في كثرةٍ عن فاعل، بديلُ).

والديه، فلا يميل لهم عن الحق).(1)

ولعل (القوام بالقسط) دال على إقامته أيضاً أي بعث الآخرين للقيام به لا مجرد القيام به كثيراً _ فتأمل.

والظاهر أن لا وجوب آخر للقوامية بالقسط وراء وجوب القسط نفسه؛ فإن آحاد القسط واجبة، إلا إذا قيل بدلالتها(2) عرفاً على لزوم تحصيل الملكة لتلازمهما عادة، فتكون الآية من أدلة وجوب الملكة وراء الالتزام العملي، بناء على كونها أمراً وراء العمل _ كما هو الظاهر _ وأنها صفة نفسانية وحالة راسخة.

وإذا لم يكن لها وجوب آخر وراء القسط نفسه، كان الأمر بها إرشادياً إلى وجوبه، بنفس الأدلة التي سيقت لإرشادية أمر (الإطاعة) على المشهور أو أمر (التوبة) كما ذكره السيد الحكيم في المستمسك، والجواب، الجواب؛ إذ ملاك المولوية صدوره من المولى بما هو مولى، وهو جار في المقام دون لزوم محذور تسلسل أو تحصيلِ حاصلٍ أو لغوية أو ما أشبه، فراجع تفصيله في (فقه التعاون على البر والتقوى) و (مباحث الأصول).

وعلى أي فإن (القيام بالقسط) من المستقلات العقلية.

لكن هل (القوامية) به كذلك؟ إذا أريد بها الاحتياط في القيام بالقسط، بإتيان حتى محتملاته وإن لم تكن في أطراف العلم الإجمالي،

ص: 348


1- كما في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمام الصادق عليه السلام (إن للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقاً وإن كان...) عنه البرهان: ج2، ص339.
2- أي صيغة (قوام).

وبمعنى الإتيان بشيء من أطرافه حائطةً له.قد يرجع في الحكم بذلك إلى كلي الحكم في (الاحتياط) وانه من المستقلات أم لا؟ وقد فصلناه في موضع آخر من الكتاب.

الشهادة لله

وأما (الشهادة لله) فإنها مقتضى العبودية لله تعالى، فهي على هذا من المستقلات العقلية.

ومفاد (الشهادة لله) إخلاص العمل له، بأن يأتي به لله، لا للرياء والسمعة أو عداءً لشخصٍ _ بأن يقيم الشهادة عليه، وإن كانت حقاً، حقداً منه عليه وبغضاً منه له، لقضية سابقة بينهما مثلاً _ أو لإحراز مصلحة ما.

ولو خلينا والآية، لأفادت الوجوب النفسي التعبدي لأداء الشهادة لله، لكن الدليل الخارجي يكفي صارفاً، فتبقى دلالتها على أصل المطلوبية في ضمن الاستحباب.

وقد بحثنا عن الإخلاص بعض الشيء في ضمن آية أخرى و هي: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين».

قاعدة الحمل على الصحة

وكقاعدة الحمل على الصحة المستفادة من قوله تعالى «لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً»(1) وغيره.

ص: 349


1- - النور: 12.

ولعل ذكر (المؤمنين والمؤمنات) مما يستفاد منه كون (الظن خيراً) محبوباً للمولى بما هو مولى، وان طلبه صادر منه بما هو مولى لا بما هو ناصح فقط؛ إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.

و (ظنهم بأنفسهم) مع أن المورد مورد (الظن بالغير) بنكتة كونهم وحدة واحدة ويداً واحدة وجماعة أو مجتمعاً واحداً، فما يضر بالبعض فإنه مضر بالكل.

ولعل المستظهر أن المراد مطلق: (حسن الظن بالغير) وليس (حسن الظن بالذات).

و «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ»(1)، وقد فصلنا في الأصول الحديث عن هذه الآية الشريفة والإجابة عن إشكال «ان بعض الظن إثم» موجبة جزئية فهي بحكم (المهملة) فلا تنتج، فكيف بأن تنتج قضية كلية؟

ثم الظاهر أن اجتناب (ظن السوء) بالآخرين من المستقلات العقلية في الجملة...

ص: 350


1- الحجرات: 12.

9- ما يتعلق بالطب والصحة

دليل إرشادية (الأوامر الطبية) ومولويتها

وأما الأوامر الطبية وما يرجع إلى صحة المرء وسلامة جسده وأعصابه ونفسه، وقواه أو قواها، بل وعقله بل وروحه(1) فقد ادعي أنها إرشادية، إما بلحاظ أن مصالحها دنيوية، أو بلحاظ أنها لم تصدر من المولى بما هو مولى بل بلحاظه الصرف لما في المأمور به من المصلحة.

وبعبارة أخرى: إنها مما لا يترتب على مخالفته سوى ما في نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، ولا على موافقته إلا ما يقتضيه فعله كذلك _ وهو ما ذهب إليه الشيخ قدس سره في تعريف الإرشادي.(2)

لكن الظاهر أن بعضها مولوي، نظراً لانطباق ضابط المولوية

ص: 351


1- إذ توجد في الإنسان أربع حقائق وجواهر هي: الجسم والنفس والروح والعقل كما فصلنا ذلك في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
2- رسائل فقهية للشيخ الأنصاري: ص54.

المرتضى، عليها، وإن لم ينطبق عليها عدد آخر من الضوابط(1)، فلا يصح سوقها بعصى واحدة.

إذ قد يقال: بأن المستفاد من لحن الكثير منها أو من القرائن المقامية والمقالية المحتفّة، أنها مولوية _ ندبية أو وجوبية، لا إرشادية.

نعم، لعل قسماً منها من قبيل (المولوية _ النصحية)، وليس (المولوية _ التشريعية)، وبرهانه الإنِّي: عدم استحقاق العقاب أو الثواب، فلابد من ملاحظة كل مورد مورد بحياله.

تعلم السباحة والرماية

ومن الأمثلة على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله (علموا أولادكم السباحة والرماية).(2)

وكلاهما نافع: للصحة وسلامة النفس والبدن وقوة الأعصاب _ المؤثر في حسن الخلق _ ولسلامة العقل وسلامة الفكر، كما أن بهما اجتناب (الفراغ) الموجب للفساد، فيكونان السبب لسلامة الروح والعقل من هذه الجهة أيضاً، كما أنهما من العلل المعدة ل(المنعة) من العدو، وغير ذلك.

والظاهر من الروايات ومن مذاق الشرع، أن هذه الأواخر، محبوبة للشارع الأقدس، فيكون طلب ما يضمنها ويؤدي إليها، لجهة محبوبيته، فينطبق الضابط الثالث، بل والثاني أيضاً، ويرجح كونه مصداقاً للضابط

ص: 352


1- كالضابط الثاني والرابع والسادس، على مناقشة صغروية في انطباق بعضها على كل روايات المقام.
2- الكافي: ج6، ص47، باب تأديب الولد ح4 نقلاً عن (الفقه الطب).

الأول أيضاً.

وتظهر الثمرة في دعوى (المولوية) لأمر تعليم الرماية والسباحة، في استحبابها وترتب الأجر والثواب عليها.

ثم إنه إذا ثبت استحباب التعليم، ثبت استحباب التعلّم، للملازمة عرفاً بينهما، كما ذكروا ذلك في آية «لينذورا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»(1) في بحث حجية خبر الواحد.

السفر

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (سافروا تصحوا وتغنموا).(2)

وسببية السفر للصحة، بلحاظ أنه موجب لتقلب الأحوال، والتعرض لمختلف الأجواء، وللضغط الذي يواجه به البدن، وكلها من أسباب تقوية مناعته، وتعويده على شدة التحمل والجلد، وذلك من أسباب (صوموا تصحوا)(3) و(حجوا تصحوا)(4) ومن فوائد الحج أيضاً؛ إذ قال تعالى: «ليشهدوا منافع لهم».(5)

ص: 353


1- التوبة: 122.
2- الدعوات: ص76، ح180.
3- بحار الأنوار: ج59، ص267، ح45.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص345، ب2، ح1 وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله (سافروا تصحوا، وجاهدوا تغنموا، وحجوا تستغنوا).
5- الحج: 28.

من الأدلة على أن منافع الدنيا محبوبة للمولى بما هو مولى

ويظهر من آية (الحج) أن هذه المنافع(1) محبوبة للمولى بما هو مولى ومطلوبة له، مما يكون قرينة على أن طلبه ما يؤدي إليها _ كالسفر وغيره _ كان بجهة محبوبيته له، ومولوياً.

بيان ذلك: إن الظاهر شمول «ليشهدوا منافع لهم» لشتى منافع الدنيا والآخرة _ ومنها الصحة والسلامة والربح والغنيمة، وهما موطن الشاهد في ما صرنا إليه من مولوية أمر السفر وأشباهه _ فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عندما قال: إني سمعت الله عز وجل يقول «ليشهدوا منافع لهم» فقيل: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: (الكل).(2)

وفي العيون عن الإمام الرضا عليه السلام: (وعلة الحج: الوفادة إلى الله عز وجل.. وما فيه من استخراج الأموال وتعب الأبدان وحظرها عن الشهوات.. ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر..).(3)

ولذا قال الفاضل المقداد رحمه الله: (ولو حمل على منفعتي الدنيا والآخرة لما كان بعيداً من الصواب، ولذلك نكّر المنافع الدال ذلك على تكثيرها)(4)، بل قد عرفت دلالة بعض الروايات على التعميم.

وعلى أي، فإن من يلاحظ الآيات والروايات ومنها (صوموا تصحوا) و (حجوا تصحوا) و (سافروا تصحوا) لا يبقى له شك في محبوبية الصحة

ص: 354


1- ومنها الصحة والمنافع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
2- الصافي: ج2، ص486 ذيل آية 28 سورة الحج.
3- الصافي: ج2، ص487.
4- كنز العرفان في فقه القرآن.

للمولى جل وعلا، بما هو مولى؛حيث جعلت الصحة غاية لعدد من أهم الواجبات من فروع الدين فيعرف بالبرهاني الإني(1)، من جعلها غاية لشيء (كالسفر) محبوبيته للمولى بما هو مولى.

وأما سببيته (للغنيمة) فلأن السفر يفتح للإنسان: آفاقاً جديدة، وعلاقات جديدة، ويقدح في ذهنه أفكاراً جديدة.

وغير خفي أن ذلك كله بنحو المقتضي لا العلة التامة، إلا أنه كافٍ في دعوى محبوبيته للمولى، وان الأمر به قد صدر لجهة محبوبيته.

ثم إننا قد فصلنا في موضع آخر من الكتاب وفي (فقه التعاون على البر والتقوى) في مبحث إرشادية أو مولوية أوامر (التوبة) أن (التعليل) لا يصلح بحد ذاته صارفاً للأمر عن المولوية؛ فإنه قد يكون لتقوية الداعي لإطاعة الأمر المولوي.

وهل (للسفر) حسن ذاتي أم عارض؟ الظاهر الثاني، فحسنه على هذا مقدمي فلا استقلال للعقل بحسنه، إلا بناء على ما سيأتي في مبحث الاستلزامات.

حكمة مبغوضية السفر منفرداً ومولوية النهي

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام (إن رسول الله نهى أن يسافر الرجل وحده وقال: الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة نفر).(2)

وقوله صلى الله عليه وآله: (الواحد شيطان..) لأن شطن بمعنى (بعد من الصلاح

ص: 355


1- إذ الصحة معلول للصوم وللسفر وللحج ثبوتاً، وهي علة أو حكمة لتشريع وجوب بعضها، إثباتاً.
2- مستدرك الوسائل: ح9270.

والخير)(1)، والمسافر وحده بعيد عن الصلاح والخير وعن رحمة الله، لأنه قريب من الأخطار، وقريب من تمكن الشيطان منه بالوسواس والخوف وغيرهما.

وأما كون الاثنين (شيطانين) فلأن الشيطان قد يغري أحدهما بالآخر بما يحرم، أما الثالث فيكون حجاباً حاجزاً عادة.

وهل نهيه صلى الله عليه وآله عن (السفر وحده) نهي مولوي أو إرشادي؟

قد يستظهر الأول بقرينة وصفه (بالشيطان) فإن مقام النبي بما هو نبي ورسول ومولى، هو النهي عن إتباع الشيطان أو عن ما يوجب الاتصاف بصفاته، وقد يعد رجحان كون النهي عن السفر وحده، مولوياً، مرجحاً لكون الأمر به، مولوياً كذلك، لقرينة التقابل.

إطعام الحامل: التمرَ

وقال الرسول صلى الله عليه وآله (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر؛ فإن ولدها يكون حليماً نقياً).(2)

فوائد (الحلم) ومولوية أوامره

و (الحلم) صفة يراد بها رضى الله تعالى والقرب إليه، وهو من أسباب سمو الروح، وهو زكاة للنفس، كما أنه حاجز عن كثير من المعاصي، كما انه موجب لمحبة الناس، وإذا كانت جهاته الأخروية هي محط النظر في هذا الحديث وأمثاله أكثر من جهاته الدنيوية، انطبق ضابط المولوية

ص: 356


1- مجمع البحرين مادة شطن.
2- بحار الأنوار: ج63، ص141، ب3، ح58.

الثاني عليه (وهو ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة).

بيان ذلك:إن (الحلم) مما تعمر به الآخرة ومما يغفر الله به الذنوب.

والروايات الدالة على ذلك عديدة ومنها ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا وقع بين رجلين منازعة، نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت، وستجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت، سيغفر لك إن أتممت ذلك، قال: فإن رد الحليم عليه ارتفع الملكان).(1)

وعلى ذلك فإن الأمر بالحلم أو بما يؤدي إليه هو أمر مولوي، بناء على الضابط الثاني، بل وبناء على الضابط التاسع للمولوية.(2)

سلمنا لكنه يظهر من الحديث ونظائره أنه محبوب للمولى بما هو مولى فينطبق ضابط (المولوية) الثالث عليه، وهو (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته)، إذ لا شك في أن (الحلم) محبوب للمولى جل وعلا وللرسول وأولي الأمر وإنه مطلوب لهم.

ويدل عليه الكتاب والسنة.

فمن الكتاب قوله تعالى: «إن إبراهيم لأوّاه حليم»(3) و «فبشرناه بغلام حليم»(4) ووصف الله تعالى نفسه ب(حليم) مكرراً.

ص: 357


1- الكافي: ج2، ص112، باب الحلم، ح9، والأصول ص364 نقلاً عن الفقه: ج96، ص310.
2- وهو أن المولوي ما يترتب عليه الثواب والعقاب.
3- التوبة: 114.
4- الصافات: 101.

ومن السنة: ما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف).(1)

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (كان علي ابن الحسين عليهما السلام يقول: (إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه).(2)

وأما على الضابط الأول، فإنه مولوي لو استظهرنا أن (أطعموا) بقرينة هذا التعليل ب(يكون حليماً) والتعليل ب(نقياً) الظاهر في الطهارة والنقاء من الذنوب(3)، قد صدر منه بما هو مولى.

وعلى (المولوية) فإن إطعامها التمر، يكون مستحباً ويترتب عليه الثواب.

العلاج والتداوي

وقال النبي صلى الله عليه وآله: (تداووا فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء).(4)و (تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء).(5)

ص: 358


1- الكافي: ج2، ص112، باب الحلم، ح8، و (الأصول) ص 364 نقلاً عن الفقه كتاب الآداب والسنن: ج96، ص309.
2- المصدر: ح3.
3- قال في مجمع البحرين: (النقي من حسن باطنه، والتقي من حسن ظاهره) _ انتهى ولعل (نقي) في الحديث يراد به كونه مختاراً أي مصطفى إذ من معاني (الانتقاء): (الاختيار).
4- مكارم الأخلاق:ص362.
5- الدعوات:ص18 فصل التداوي بتربة مولانا وسيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام ح498.

استظهار مولوية الأمر بالتداوي

وقوله صلى الله عليه وآله: (تداووا) لا يستبعد استظهار كونه (مولوياً)، وانه صادر منه بما هو مولى لنا، فإنه بما هو مولى، يبغض المرض، وترك التداوي منه، وقد فصلنا كون الرسول والإمام معنيّاً، بما هو مولى، بكلا شأني الدنيا والآخرة، في فصل آخر.

ويمكن الاستناد في مطلوبية (التداوي) و (العلاج) و (الاستشفاء) إلى قوله تعالى: «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس»(1)، بل حتى إلى مثل «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين»(2) مما يدل على محبوبية (الشفاء) و (مطلوبيته) للباري جل وعلا، فيدل بالملازمة العرفية على مطلوبية سببه وعلته المعِّدة، سواء ما كان من قبيل القسم الأول(3)، أم ما كان من قبيل القسم الثاني(4) المشار إليهما في الآيتين الشريفتين.

وغير خفي إمكان انطباق (الضابط الثاني) على (التداوي)؛ إذ المريض يقعد به المرض عن شؤون الآخرة، وكذا (الضابط الثالث) فإنه(5) محبوب للمولى بذاك اللحاظ، وكذا (الرابع) فإنه لا تلزم من إعمال المولوية فيه، التسلسل وسائر المحالات.

ص: 359


1- النحل: 69.
2- الإسراء: 82.
3- أي التداوي بالأسباب الطبيعية.
4- أي التداوي بالأسباب الغيبية.
5- أي التداوي.

التداوي عند الضرورة فقط من المستقلات العقلية

وهل (التداوي من المرض) من المستقلات العقلية؟ الظاهر انه في الجملة كذلك، فهو على (الضابط الخامس) إرشادي.

وقد عقد السيد الوالد قدس سره لذلك باباً وصدّره ب (مسألة: تستحب المعالجة والمداواة في الجملة، وقد تجب).(1)

والظاهر أن استحبابه أو وجوبه غيري، توصلي، مقدمي.(2)

وقيدنا بقيد (في الجملة) إذ ليس مطلق التداوي مما يستقل العقل بحسنه أو يحبّذه الشارع.

ومن ذلك قول الإمام علي عليه السلام: (أمش بدائك ما مشى بك).(3)

وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: (تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء)(4)، وعنون في (الفقه الطب) ذلك ب (كما يستحب أن لا يكثر من الدواء).وإذا ثبت كون أصل التداوي محبوباً للمولى، أو انه يراد به شؤون الآخرة _ في محط النظر ولو في الجملة _ كان عدم الإكثار من الدواء، وتحمل المرض إلى حينٍ وعدم الإسراع للدواء، كذلك.

لكن قد يقال بعدم كونه من المستقلات العقلية، وإن كان أصله من المستقلات. فتأمل.

ص: 360


1- الفقه: الطب
2- وليس نفسياً، تعبدياً، مقصوداً لذاته.
3- وسائل الشيعة: ح2489.
4- وسائل الشيعة: ج2، ص409، مكارم الأخلاق في معالجة المريض.

الحجامة

وقال الرسول صلى الله عليه وآله: (احتجموا إذا هاج بكم الدم؛ فإن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله).(1)

والأمر للوجوب، والتعليل مؤكد له، بل هو من قبيل العنوان والمحصّل، ولولا الشهرة على عدمه، لكانت روايات الحجامة كفيلة بإثباته، ومعها لا محيص عن الاستحباب، إلا فيما كان مقدمة للواجب، فواجب.

وفي تفسير القمي: (فما مررت بملأ من الملائكة، إلا قالوا يا محمد احتجم وأؤمر أمتك بالحجامة).(2) مما يدل على شدة الإهتمام بشؤون الدنيا والأمور الطبية، كالاهتمام بشؤون الآخرة.

وعنون في (الفقه: الطب) ب: (تستحب الحجامة استحباباً مؤكداً) كما عنون ب (استحباب الحمام).

وروايات الحجامة كثيرة وقد ذكرت فيها منافع كثيرة.

مولوية الأمر بالحجامة

ولعل المستظهر من رواية تفسير القمي أن الأمر بها مولوي؛ فإن دلالة (وأؤمر أمتك بالحجامة) قوية على ذلك، لا نظراً ل(أؤمر) فقط بل للتعبير ب(أمتك) أيضاً، والظاهر أن نسبة (الأمة) إليه أي بما هو نبي مرسل لا بما هو ناصح، ولذا قال في مجمع البحرين: (أمة كل نبي،

ص: 361


1- مستدرك الوسائل: ج13، ص80، ح14819.
2- تفسير القمي: ج2، ص9، معراج رسول الله صلى الله عليه وآله سورة الإسراء.

أتباعه. ومن لم يتبع دينه _ وإن كان في زمانه _ فليس من أمته).(1)

وكذا ما علل فيه ب(إن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله) لما علم من مبغوضية وحرمة (إتلاف النفس والقتل والانتحار) لدى الشارع ولدى المولى بما هو مولى.

وكذا ما ورد من قول أبي عبد الله عليه السلام: (نزل جبرئيل على رسول الله بالسواك، والخلال، والحجامة).(2)

فإن نزول جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله بذلك دليل على محبوبيته للمولى، ونزوله على النبي صلى الله عليه وآله به بما هو محبوب فينطبق الضابط الثالث، ويستظهر منه استحقاق الثواب عليه، فينطبق الضابط التاسع، كما يقرب استظهار انطباق الضابط الأول الذي ارتضيناه.

وقال الإمام الرضا عليه السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتحل)(3).وواضح قرينية (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر) لكون (فليكتحل) مولوياً لا إرشادياً، لكنه للاستحباب للصارف، وقد يشعر أن مصلحته أخروية بالأساس وإن تضمن الدنيوية؛ فإن المقياس (المصبّ) ومحط النظر أولاً وبالذات.

ص: 362


1- مجمع البحرين: مادة أمم.
2- الفقه: ج97، ص541، ناقلاً عن الفروع ج2، ص184.
3- وسائل الشيعة: ج2، ص99، ح1603.

10- ما يتعلق بالأكل وخصوصيات الأطعمة

اشارة

وهناك المئات _ ولعله الآلاف _ من الآيات والروايات التي تتحدث بإيجاز حيناً وبإسهاب أحياناً أخرى، حول الطعام، وآداب الأكل والشرب، وآداب السفرة والمائدة، وأنواع الأطعمة والأشربة بما فيها الفواكه والخضروات، بين آمر ببعضها وزاجر عن البعض الآخر _ مما لم يكن حراماً _ وبين مخبر عن فوائدها أو أضرارها وبين مصرح بمحبوبيتها ومطلوبيتها لله أو الرسول أو الأئمة عليهم الصلاة والسلام أو ملوح بذلك أو دال عليه بدلالة الإيماء والتنبيه والإشارة أو غير ذلك.

وقد صرح في بعضها بالحكمة، ولم يصرح في بعضها الآخر.

ثم إن ما صرح فيه بحكمته، قد يكون ما ذكر فيه هو المصلحة الدنيوية، وقد يكون المصلحة الأخروية، وقد يكون الخطاب فيه للناس وقد يكون للمؤمنين.

ص: 363

الأمر بالأنواع والخصوصيات مولوي أم إرشادي؟

وقد جرى بعض الحديث عن ذلك عند الحديث عن آية (كلوا واشربوا) وأن أصل طلبهما مولوي أم إرشادي؟، ويجري الحديث الآن عن (الأنواع) و (الخصوصيات)، ولو ثبتت المولوية ههنا، ثبتت في (الأصل) بطريق أولى.

إلا أن يقال: لا أولوية بل لا تلازم؛ إذ قد توجد في (النوع) أو (الخصوصية)(1)، خصوصية بها يكون مولوياً، وهي لا توجد في (الأصل)، لكنه قد يستفاد ذلك عرفاً منه(2)، وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: «كلوا من طيبات ما رزقناكم»(3).

وقد صرح بعض الفقهاء (بالاستحباب) في الكثير من تلك الموارد، نظراً لبعض ما سبق، وغيره، مما أشرنا إليه في مواضع أخرى من الكتاب.

نموذج للأمر الطبي

قال في (الفقه الطب): (مسألة: يستحب أن يمضغ الطعام جيداً).

واستند إلى رواية الأمير لابنه الحسن عليهما السلام (... وجوّد المضغ)(4).

وذلك مبني على استظهار المولوية؛ إذ على الإرشادية لا استحباب.

ص: 364


1- الخصوصية: ككيفية الأكل والشرب _ عملاً أو نية _ ووقتهما وغير ذلك.
2- أي قد يستفاد (منه) أي الأمر المولوي للنوع أو ذي الخصوصية، (ذلك) أي كون الأمر في (الأصل) مولوياً.
3- البقرة: 57.
4- الدعوات:ج173.

لكن قد يقال إن إنشاء الأمر هذا بلحاظ مصلحةٍ دنيويةٍ، فعلى الضابط الثاني في المولوية والإرشادية، فإنه أمر إرشادي، ويستتبع ذلك أن لا ثواب ولا استحباب، لكن هذا الضابط غير تام كما فصلناه، والصحيح هو الضابط الأول وهو أن (المولوي ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته) مع قيد (إذا كان في مقام التشريع) أو لا، ويبدو انه قده استظهر صدوره من (المولى بما هو مولى) وسنوضح ذلك بعد قليل بإذن الله تعالى.

مصاديق لأطعمة يستحب أكلها ويثاب عليها، على المولوية

وقال: (يستحب اختيار جملة من الأطعمة ورعاية آدابها).

وقال: (يستحب اختيار خبز الشعير) وذكر روايات كثيرة.وقال: (يستحب شرب اللبن).

وفي طب النبي صلى الله عليه وآله (شرب اللبن من محض الإيمان)، ولعله لأنه يقوي العقل _ فإنه غذاء المخ _ ويهدئ الأعصاب، وهما من أهم ما يحفظ الإيمان(1)، ولعل له تأثيراً غيبياً أيضاً.

وقد يستفهم عن سبب كونه من (محض الإيمان)، وعدم الاقتصار على كونه (من الإيمان)؟ ثم هل (من) نشوية أو تبعيضية؟

وقال: (ويستحب الملح) قال الصادق عليه السلام: (عليكم بالأبيضين الخبز والرقة) يعني الملح.(2)

ص: 365


1- ولعله أيضاً لأن (اللبن) مما يهدئ من الغريزة الجنسية، وذلك مسلّم في بعض أنواعه.
2- مستدرك الوسائل: ج16، ص359، ح20170.

وقال: (ويستحب أكل الهريسة) واستشهد بروايات عديدة.

وقال: (ويستحب أكل العسل).

وفي فقه الرضا عليه السلام (عليكم بالعسل وحبة السوداء).(1)

و (عليكم) تعني (أوصيكم) وقد يقال: ظاهر (أوصيكم) المولوية لا الإرشادية؟ لكن فيه أن (عليكم) أقرب للمولوية، عكس (أوصيكم) فإنها أقرب للإرشادية والتعبير عن أحدهما بالآخر، لا يقتضي ثبوت خصوصياته له(2) إذ لا (ترادف) حقيقي في اللغة كما فصله الوالد في (الأصول) و (الفقه)، وقد فصلنا في موضع آخر الحديث عن مفاد (الوصية).

وقال: (يستحب أكل التمر والابتداء به) و خاصة( الصيحاني).

وقال: (يستحب أكل العنب) و (الرمان) و (الزبيب) و (التفاح) و (السفرجل على الريق) و (التين) و (البطيخ) وغيرها، و (الخضروات) و (السعتر) و (الأهليلج الأسود) وغير ذلك.

وكل ذلك لروايات مستفيضة في أكثرها فراجع (جامع أحاديث الشيعة) و (بحار الأنوار) و (الفقه الطب) وغيرهما.

واستقراء كل ذلك مما يطول به المقام، لكثرة الروايات الواردة فيها، وصراحة بعضها في المقصود، وحاجة بعضها للتنقيح والإيضاح، ولعلنا نبحث جانباً من ذلك في المجلد الثاني، إذا شاء الله؛ مع بحث أسنادها

ص: 366


1- فقه الرضا عليه السلام: ص346.
2- أي خصوصيات المفسِّر للمفسَّر.

نظراً لصحة سند بعضها، وتواتر بعضها تواتراً إجمالياً أو مضمونياً، واحتفاف بعضها بالقرائن المفيدة للعلم أو الإطمئنان.

ولنكتف ههنا بروايتين كمثال وللتبرك:

فقد قال الإمام الباقر عليه السلام (وكله [ أي العنب ] حبتين حبتين إنه يستحب).(1)

فإن (يستحب) نصٌ في الاستحباب الظاهر في استحقاق الثواب، واحتمال إرادة الاستحباب اللغوي بعيد _ فتأمل.

(أكل الرمان يطرد الشيطان)، وهل الجملة الخبرية هنا، إنشائية؟

وقال الإمام الصادق عليه السلام: (من أكل رمانة على الريق، أنارت قلبه، وطردت شيطان الوسوسة أربعين صباحاً)(2)، وبمضمونها أحاديث كثيرة في (الفروع) و (المحاسن) وغيرهما ومنها (.. وطردت عنه وسوسة الشيطان ومن طردت عنه وسوسة الشيطان، لم يعص الله، ومن لم يعص الله دخل الجنة).(3)

وقد ذكر السيد الوالد جانباً من فلسفة ذلك _ إضافة إلى الجانب الغيبي _ ب(أقول: الوسوسة من فساد "الدم" و الجسم، والرمان ينقي المعدة "والدم" فلا يفسد الجسم كما تقدم)(4)، فإن (الرمان) يطهّر الدم من السمومات، كما يصفي الكلية وغيرها.

ص: 367


1- الفقه/ الآداب والسنن، ج97، ص533، ناقلاً عن الفروع ج2، ص178.
2- المصدر: ص539، ناقلاً عن المحاسن ص543.
3- الفروع: ج2، ص179.
4- الفقه: ج97، ص539، بتصرف وإضافة.

ومن البين لحاظ المصلحة الأخروية في هذه الروايات؛ فإن (أنارت قلبه) ظاهر في ذلك، و (طردت عنه شيطان الوسوسة) كالصريح في ذلك، و (لم يعص الله) صريح في ذلك، فعلى الضابط الثاني، فإن الأمر _ لو ورد _ فهو مولوي.

وقد سبق إمكان اعتبار الجملة الخبرية، إنشائية، ووقوعه، ولو لم يكن المقام منها، فإن هذه الجملة لا شك دالة على مطلوبيته للمولى، فقد فصلنا في موقع آخر ما ذهب إليه الميرزا الشيرازي قدس سره من: أن الجملة الخبرية لو قامت قرينة على إرادة الطلب منها، كان الأصل فيها الوجوب عندئذٍ لا الندب، بل تكفي الدلالة على الندب، فإنه مولوي، بل لا حاجة لنا لكل ذلك، إذ أن دلالة مثل هذه الجملة (أنارت قلبه) و (طردت عنه وسوسة الشيطان) وغيره، بالدلالة الإلتزامية أو بدلالة الاقتضاء، على سبق أمر من المولى، لو أنكرت، فإنه تكفي معرفة (غرض المولى) وإن لم يشفع بأمر، في رجحان الإتيان بما يحقِّقه بل وجوبه _ على حسبه _ كما فصلنا ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى)، بل لا حاجة لنا إلى كل ذلك؛ إذ يكفي صريح كلام الإمام في ترتيب الثواب عليه(1) ب: (دخل الجنة) على كونه مطلوباً للمولى بما هو مولى لا بما هو ناصح وإلا فلا ثواب، فينطبق عليه الضابط التاسع للمولوي، وهو ما ذهب إليه الشيخ من (ما يترتب عليه الثواب والعقاب).

كما أن الضابط الثالث أيضاً مما ينطبق على المقام وهو (ما كان محبوباً للمولى، وقد صدر لجهة محبوبيته) وكذا الأول؛ فإن المستظهر

ص: 368


1- أي على أكل الرمان.

من ذلك كله أن طلبه قد صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقامه.

الحاصل: على المولوية، لأكل العسل والتمر وشبههما ثواب، دون الإرشادية

و (الحاصل) انه بناء على استظهار المولوية، فإن أكل العسل والتمر وسائر المذكورات، يكون مستحباً ويترتب عليه استحقاق الثواب لكونه إطاعة لأمر المولى، دون ما لو قلنا بالإرشادية، وان المرشِد مخبر عن المصلحة على رأيٍ، ومنشأ بداعي النصح للعمل على رأي آخر، فلا استحباب ولا ثواب في إطاعته، إلا على ما ذهبنا إليه من أن (النصح) قد يصدر من المولى بما هو مولى، فيكون لخصوص هذا (الثواب)، دون النصح الصادر مجرداً عن مقام المولوية أو لحاظها.و (التحقيق): اختلاف الأمر حسب الاختلاف في الضوابط التي يصار إليها للمولوي والإرشادي، وحسب اللحن والقرائن في كل مورد ومورد، فلابد من ملاحظة كل مورد ورواية بذاتها، كما قد فصلنا الحديث عن (الضوابط) في موضع آخر فتدبر جيداً.

ص: 369

11- ما يتعلق بالوعظ والنصح

الفرق بين الوعظ والنصح

قد يقال: إن الفرق بينهما أن (الواعظ) يطلق عادة على ما يرتبط بمكارم الأخلاق أو شؤون الآخرة، فلا يطلق على النصائح الطبية مثلاً، ولا على النصائح التجارية وما أشبه مما يعود للجسد أو المال وشؤون الدنيا عموماً، فلا تقول (وعظته) بشرب الدواء الكذائي أو ببيع منزله أو ما أشبه.

و (الناصح) يطلق عادة على ما يرتبط بشؤون المعاش أو الشؤون الشخصية، أي شؤون الدنيا عموماً، تقول: نصحته بشراء كذا أو بعدم السفر أو الزواج من تلك المرأة.

وإن كان قد يطلق كل منهما على الآخر، فإنهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

لكن الأصح هو أن (النصح) أعم.

ص: 370

فإن الوعظ هو الزجر المقترن بالتخويف _ كما في المفردات(1)_ وأضاف (وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب)(2) والظاهر أن الوعظ أعم من التعريف الأول بلحاظ قيد (التخويف) وبلحاظ (الزجر) إذ لا يشترطان فيه، إضافة إلى أن مفهوم الوعظ أقرب للإيجاب منه للسلب(3) تقول: وعظه بأن يقرأ القرآن أو يزيد من إكرام أمه أو أن يتصدق دائماً.(4)

فقول الخليل أقرب، نعم ربما يكون قيد (يرق له القلب) أخص من (الوعظ) فتأمل.

وربما تكون استعمالاته في القرآن الكريم، أعم(5)، قال تعالى: «يعظكم لعلكم تذكرون»(6) و «يا أيها الناس قد جائتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين»(7).

أما (النصح) فهو (تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه).(8)

ص: 371


1- مفردات ألفاظ القرآن: ص876.
2- مفردات ألفاظ القرآن: ص876.
3- و (الزجر المقترن بالتخويف) كله سلب.
4- ولا زجر فيها ولا تخويف.
5- أي من قيدي الزجر والتخويف، وإن كان موردها كله: (الخير).
6- النحل: 90.
7- يونس: 57.
8- مفردات ألفاظ القرآن: ص808.

معنى (النصيحة لأئمة المسلمين)

وبذلك يظهر أن (النصيحة لأئمة المسلمين)(1) هي كل فعل أو قول يؤدي لصلاحهم، لا بما هم أشخاص أو بما هم حكام، بل بما هم (أئمة المسلمين)، فقد لوحظت (الإضافة للمسلمين) فإنه بما هو متصف بهذه الصفة ومتقلّد هذه المسؤولية، من حقوقه على الناس _ وبالعكس _ أن يفعلوا كل معروف ومنه أن يضغطوا كل ضغط عليه، لكي تستقيم حكومته ويصلح حاله وتحسن إدارته، فلو لم يفعلوا أخلوا بحق من حقوقه، بما هو إمام لهم، عليهم، وأخلوا بواجب من واجباتهم.

ولعل مما يشهد لهذا المعنى قول الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه)(2) وقول الإمام الصادق عليه السلام: (عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه).(3)

وبذلك ظهر ضعف ما توهمه بعض من: أن النصيحة لهم هي (الإخلاص لهم وخلوص النية لهم)، فإنه غير معهود عرفاً، وغير متفاهم منه عرفاً، وإن كان أحد معنييه لغة كما سيأتي.

وقد توهم في مثل صحيحة بن وهب عن الإمام الصادق عليه السلام: (يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب)(4)، فإن

ص: 372


1- كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبته بمسجد الخيف برواية صحيحة السند في الكافي: ج1، ص403، ح1.
2- الكافي: ج2، ص208، ح5.
3- المصدر: ح6.
4- الكافي: ج2، ص208، ح2.

إرادة (الإخلاص له) بعيدة، والأقرب هو ما ذكرناه من (تحري كل فعل أو قول فيه صلاحه).

وكذلك رواية الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه)(1)، فإن إرادة (ليخلص لأخيه كإخلاصه لنفسه) بعيدة. بل ك(تحري كل ما فيه صلاحه) هو المراد.

وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام: (فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم... وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب...).(2)

ويتضح ذلك بملاحظة قوله عليه السلام: (وأقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم).(3)

كما يدل على ما ذكرناه أيضاً قول أمير المؤمنين عليه السلام: (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)(4) و (من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة)(5) و (من قبل النصيحة أمن من الفضيحة)(6) و(كيف ينتفع بالنصيحة من يلتذ بالفضيحة)(7) و (مناصحك مشفق عليك، محسن إليك، ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك وفي مخالفته فسادك).(8)

إذ من الظاهر أن المعنى المعهود عرفاً للنصيحة هو المراد في كل

ص: 373


1- المصدر: ح4.
2- نهج البلاغة: ج1، ص84، خ34.
3- المصدر: ص235، خ121.
4- غرر الحكم: ح843.
5- المصدر.
6- المصدر.
7- المصدر.
8- غرر الحكم: ح9839.

هذه المواطن لا (الإخلاص والخلوص) أو (الإحكام).

وورد في صحيحة الريان بن الصلت في تعليل الإمام الرضا عليه السلام عدم نهيه قوماً يتعاطون أموراً قبيحة (النصيحة خشنة)(1)، والظاهر أنه عليه السلام لم يكن يحتمل التأثير فيهم، أو كان هناك ضرر أهم.

على إنه لو أريد بالنصح في (والنصيحة لأئمة المسلمين) معناه اللغوي، كان معناه (خلوص النية لهم في نصحهم وإرشادهم وزجرهم عن الباطل وأمرهم بالمعروف، لحقهم عليه بما هو إمامهم) _ لو كان إماماً بالحق، وإلا كان سالبة بإنتفاء الموضوع _ ويعني (خلوص النية لهم) في ذلك كله، أن يقوم بما يقوم به لا لأجل جلب مصلحة شخصية، أو دفع ضرر محتمل، بل لمحض الإخلاص والخلوص لهم، بما هم أئمة للمسلمين، والذي مآله إلى: خلوص النية بل نية القربة أيضاً، بكل قول أو فعل يراد به تسديدهم _ حدوثاً أو بقاءً _.

وبعبارة أخرى يعني: (خلوص النية لهم فيقوم (بمقتضى) خلوصها لهم بما هم أئمة المسلمين) و (مقتضاها) هو كل قول أو فعل يثبتهم على الحق ويردعهم عن الباطل.

كما يحتمل في (النصيحة لأئمة المسلمين) المعنى الثاني للنصح وهو (الإحكام)، بأن يحاول ويسعى لإحكام وإستحكام أمورهم على الحق وإحكام إدارتهم الأمور بما يرضي الرب، وبما يضمن لهم حسن العاقبة، ولذا سمي الخياط ب(الناصح) لإحكامه ربط قِطَع القماش بعضها ببعض، ف(يحكم) ربط أمورهم وأحكامهم بالحق، أو يحكم ربط بعضها

ص: 374


1- علل الشرائع: ج2، ص581، ح17.

ببعض، مما يكون حقاً مرضياً لله تعالى.

وعلى أي فإن (النصيحة) لأئمة المسلمين، من المستقلات العقلية، بكل محتملات معانيها الثلاثة، بل لعله من الأمور الفطرية لكونه شكراً للنعمة _ بتصدي الإمام العادل لإدارة شؤون الأمة، وسهره وتكبده المشاق لإقرار أمنها وإزدهارها وسعادتها وتقدمها _ وفيه جلب المنفعة ودفع المضرة.

فالأمر بها، يعد على (الضابط الأول)، مولوياً، فهو واجب، وفي تركه العقاب.

نعم على (الضابط الخامس)، الأمر إرشادي، لكنه غير تام مبنى كما فصلناه في موضعه.

معنى (النصح)

وعلى أي فإن النصح أعم من ما فيه صلاح الدنيا أو الآخرة، ومما يعود إلى الشخص أو المجتمع، ومما كان فيه زجر وتخويف أم لا، بل ومما كان ضاراً بالآخرين أو لا، مادام فيه (صلاح صاحبه) بنظر الناصح.وقد جاء النصح في القرآن الكريم لكلا جانبي الدنيا والآخرة، قال تعالى: «وقاسمهما أني لكما من الناصحين»(1) و قال «لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين»(2) و «فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون»(3).

ص: 375


1- الأعراف: 21.
2- الأعراف: 79.
3- القصص: 12.

وعلى أي فهو أعم من الوعظ، ويؤيد أعميته مادة اشتقاقه فإنه من (النصح) الذي أتى _ كما سبق _ بمعنيين:

أ- (الإحكام) ولذا قيل للخياط (الناصح) لأنه يحكم قطع القماش بعضها ببعض، أو يحكم صنعته، و (نصحت الجلد) أي خطته.

ب- و (الإخلاص) أو (الخلوص) ومنه ناصح العسل أي خالصه.

وعلى كليهما فإنه شامل لكل ما ذكر(1) فإنه النصح له، أما بمعنى خلوص النية في ما ينصحه، أو بمعنى إحكامها وإتقانها، وكل منهما أعم.

فعلى ضوء مبحث (مولوية الأوامر وإرشاديتها) والضابط فيها، يظهر الحال في أوامر ونواهي المعصومين عليهم السلام الواردة في شؤون المعاش والاقتصاد أو الشؤون الطبية أو الأخلاقية أو غيرها مما يتعلق بالشخص نفسه أو الأعم، فهل هي إرشادية بدون طلب؟ أو إرشادية طلبية لغير الإلزام؟ أو إرشادية طلبية ندبية؟ أو إرشادية طلبية وجوبية؟ أو أنها مولوية؟

ثم هل (الوعظ) و (النصح) إرشاديان للندب أو للوجوب أيضاً _ على ما ذهب إليه الشيخ من إنقسام الإرشادي إلى الواجب والمندوب _ بل هل هما ممحضان في الإرشادية أم إن من أقسامهما ما هو مولوي؟(2)

ص: 376


1- أي مما فيه صلاح الدنيا والآخرة ...الخ.
2- وسيأتي إن المولوي على قسمين: مولوي _ تشريعي ومولوي _ نصحي، والفارق ليس في الوجوب إذ كلاهما واجب، بل في استحقاق العقاب وعدمه.

12- أوامر ونواهي العقود والإيقاعات

ومنها: الأوامر والنواهي المتعلقة بأبواب العقود والإيقاعات، من أجزائها وشرائطها وموانعها وروافعها، فهل هي مولوية ولو للندب؟ أو إرشادية للشرطية والمانعية وغيرها؟ وقد تكلمنا في موضع آخر من الكتاب عنها بالتفصيل، فليراجع.

ص: 377

13-14- مصاديق أخرى

ومنها: ما يتعلق بالتوصليات.

ونقصد بالتوصلي ما يقابل التعبدي _ وهو المعنى الرابع الذي ذكرناه لهما في (فقه التعاون على البر والتقوى) _ أي سواء كان توصلياً بالقياس للمكلف _ وهو المعنى الأول _ أم لا، وسواء كان توصلياً بالقياس للإختيار والقصد _ وهو المعنى الثاني _ أم لا، وسواء كان توصلياً بالقياس للفرد المحلل والمحرم أم لا _ وهو المعنى الثالث _ (1) وذلك كأوامر نزح البئر وغسل البدن من الخبث.

فهل هي مولوية غيرية، أو مولوية نفسية، أو إرشادية؟ أو بالاختلاف؟

ومنها: الكثير مما تعلق بأبواب الأحكام من ارث وقصاص وغيرها.

ومنها: أوامر الصحة أو القبول في العبادات، كالأمر بالاستقبال والساتر وحضور القلب، والنهي عن القهقهة، فهل هي إرشادية للشرطية والمانعية؟ أم مولوية تكليفية؟ ذهب بعض الأعلام للأول، والأصح الثاني، وسنفصل الحديث عن هذا في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.

ص: 378


1- راجع تفصيل هذه المعاني الأربعة في فقه التعاون على البر والتقوى ص350 _ 354.

المبحث السابع: الضابط والملاك في الأوامر والنواهي الإرشادية

اشارة

ص: 379

ص: 380

إن ما ذكر كضابط للأوامر والنواهي بل مطلق الدوالّ الإرشادية والمولوية، أو ما يصلح

أن يعدّ ضابطاً هو:

1- ما صدر من المولى مُعمِلاً مقامه

اشارة

(الأمر المولوي) هو: (ما صدر من المولى بما هو مولى أي معمِلاً مقام مولويته)(1) سواء كان الأمر لمصلحة عائدة للآمر أم للمأمور أم لغيرهما، سواء كان(2) متعلقاً بهما أم أجنبياً عنهما كما فصلناه في موضع آخر، أم كان لا لمصلحة _ فرضاً _ بل تشهياً بل حتى عبثاً، لكنهأعمل

ص: 381


1- ونضيف قيداً آخر لضابط الأمر المولوي المعهود عندهم أي ما سميناه بالأمر المولوي بالمعنى الأخص وهو: (إذا كان في مقام التشريع) أو (إذا كان في مقام الإلزام بما يعتبره مستحقاً للعقاب بالمخالفة) أو (إذا كان ملاحظاَ أن خلافه هتك له) إذ أننا نرى أن ل(ما صدر من مقام المولى بما هو مولى) فرداً آخر وهو كونه بما هو مولى في مقام النصح، إذ قد (ينصح ملزماً) بما هو مولى لكن لا يلاحظ كون الخلاف هتكاً له ولا يعتبر استحقاق العقاب على المخالفة، بل يلاحظ صرف مصلحة الواقع الإلزامية وأن مقامه يقتضي إلزامه ناصحاً وسيأتي مزيد إيضاح له بإذن الله تعالى.
2- أي ذلك الغير.

مقام مولويته، إذ له ذلك بما هو مالك، وإن لم يجر ذلك في المالك الحقيقي، لكنه نظراً لحكمته، لا بلحاظ توقف المولوية على عدم كونه كذلك(1).

ومن لوازمه: حكم العقل باستحقاق(2) الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة.

فتفسيره به، تفسير باللازم، وليس بذاتي باب الكليات الخمسة(3)، بل ولا ذاتي باب البرهان.(4)

وبذلك يظهر عدم تمامية (الضابط التاسع) الآتي ذكره، إضافة إلى ما حققناه في محله: من أنه لا استحقاق للثواب على الإطاعة، بل كله تفضل.

و (الإرشادي) هو: ما صدر منه _ أو من غيره _ بما هو ناصح، ملاحظاً(5) المصلحة في المتعلق سواء كانت دنيوية أم أخروية، أم كانت واجدة لكلتيهما، بالمساواة أو التغليب بشقيه(6)، وسواء كان محبوباً للآمر بما هو هو(7) أم لا(8) أم لم يكن محبوباً له، بل حتى لو كان

ص: 382


1- أي تشهياً أو عبثاً.
2- أو يقال: لازمه الاستحقاق بحكم العقل.
3- أي باب إيساغوجي.
4- فإنه لا ينتزع من حاق ذات الشيء، وليس مما يستحيل انفكاكه عنه، ومما وضعه بوضعه ورفعه برفعه _ بل هو (لازم عرفي) _ فتأمل.
5- هذا قيد توضيحي لا احترازي.
6- أي سواء غلبت المصلحة الدنيوية، الأخروية، أم العكس، في لحاظ الآمر.
7- القيد راجع للمتعلق لا للآمر، أي في حد ذاته وبعنوانه الأولي.
8- بأن كان محبوباً له بعنوان ثانوي عارض.

مبغوضاً له(1)، فتأمل وسيأتي وجهه بإذن الله تعالى.

و (بما هو ناصح) تفسير بالمصداق؛ لأن الإرشادي مطلق غير (الصادر من المولى معملاً مقام مولويته) فيشمل ما صدر من النظير للنظير وغيره، ناصحاً كان أو غير ناصح، أو الصادر من المولى لا بلحاظ مقام مولويته، ولا ناصحاً، ولعل منه صورة (التعاهد المتبادل) وصورة ما يراه الطرف نصحاً مفيداً ويراه هو أمراً بلا فائدة بل مضراً فإنه (إرشادي) وليس بنصح _ فتأمل.

فالأولى التعبير ب(ما صدر منه _ أو من غيره _ لا كذلك، _ أي غير معمل مقام مولويته _ بل بما هو ناصح أو شبهه أو لا كذلك)، هذا إن تشبثنا بكون المولوي والإرشادي من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما.

هل البعث في الإرشادي، حقيقي؟

والبعث على هذا إما أن يصار إلى كونه حقيقياً _ وهو المنصور لشهادة الوجدان بأن (الناصح) باعث وليس مخبراً فحسب، نعم ملزومه الإخبار _ أو صورياً، فلا طلب وبعثحقيقة(2)، بل هو مجرد عنوان مشير(3) فهو كالمرآة، وبعبارة أخرى: الأمر الصادر من الواعظ صوري،

ص: 383


1- يتصور ذلك مع تعدد الجهة بأن كان مبغوضاً له من جهة، وقد نصح به، لجهة أخرى لاحظها ولعل من مصاديقه (التباني) الذي ذكره الميرزا الشيرازي، وبذلك يظهر اجتماع المولوي مع المبغوضية أيضاً.
2- أي في أوامر الناصح والواعظ، كالطبيب إذا أمر بدواء، أو الخطيب إذا أمر _ ناصحاً _ بعمل أو نهى _ بما هو ناصح _ عن معصية.
3- أي عنوان مشير للفائدة والمصلحة في متن الواقع أو للضرر والمفسدة فيما نهى عنه، في حاق الواقع، بلا بعث ولا زجر.

وهو في واقعه إخبار عن المصلحة والمفسدة في المتعلق، لكن بقالب الأمر، فلا بعث فيه، ولا زجر في النهي منه، كما ذهب إليه البعض، وهذا القول لضعفه، لا حاجة لرده.

الأقسام الثلاثة للنصح

بل(1) ربما أمكن القول أن (النصح) على ثلاثة أقسام:

1 فقد يصدر منه بما هو مولى _ فيكون للإيجاب أو الندب _ على حسب نوع نصحه _ وإن بدون استحقاق العقاب بناء على إمكان التفكيك بينهما _ كما سيأتي بإذن الله تعالى من أن الأمر الإرشادي قد يكون للوجوب وقد يكون للندب، بل الصادر من غير المولى أيضاً قد يكون للإيجاب كما لو أمره الطبيب إلزاماً بدواء نظراً لخطورة حاله، نعم يبقى البحث عن منشأ سلطته للإيجاب مادام غير مولى وليس برب، ونتطرق له لاحقاً بإذن الله تعالى.

2 وقد يصدر من غيره بما هو صرف متوخي لمصلحة المأمور، لكن ملزماً أو نادباً، وذلك كالنصح الصادر من الصديق، أو حتى العدو المنصف.

3 كما قد يصدر من المولى لا بما هو مولى، بل بما هو ناصح نصحاً إلزامياً أو ندبياً.

ص: 384


1- الترقي بلحاظ أنه بعد الالتزام بأن الإرشاد والنصح يتضمن بعثاً حقيقياً، يلتزم بأن منه ما هو للإيجاب، إذ البعث قد يكون له أو للندب.

ما الفرق بين الأمرين المولويين؟

لكن على هذا يشكل الفرق بين الأوامر المولوية بالمعنى الأخص، والأوامر الصادرة من المولى ناصحاً لكن بما هو مولى له، فيكون هذا دليلاً على أنه لا يوجد نصح صادر من المولى بما هو مولى(1) وعلى أنه لا نصح واجباً(2)؟

وجه الفرق بين المولويين: التشريعي والنصحي

لكن قد يجاب باختلاف الاعتبار، وباختلاف الآثار.

أما الثاني فلأن صدور الأمر منه بما هو مولى معملاً مقام مولويته، يستلزم استحقاق العقاب لو خالف، دون ما لو صدر منه بما هو مولى ناصحاً غير ملاحظ ولا معتبر ما سبق، فلا عقاب بل تترتب المفسدة فقط.

وأما الأول: فبأحد وجوه ثلاثة:

فإما أن يقال: إن المولى بما هو مولى معملاً مقامه، قد يأمر بما هو مشرِّع وقد يأمر بما هو ناصح، فهناك (مولوية) في كليهما وهناك (وجوب) كذلك(3)، لكن (الوجوب) على قسمين فإنه اعتبار وهو خفيف المؤونة.أو يقال: إن الأمر الصادر منه بما هو مولى معملاً مقامه، لو كان بلحاظ أن خلافه هتك له كان أمراً مولوياً بالمعنى الأخص، ولو كان بلحاظ ما يعود للعبد من الفائدة _ لكنه أمره بما هو مولى لا بلحاظ الهتك _ كان نصحاً، لكنه واجب على التقديرين إذ صدر منه بما هو مولى معملاً مقامه.(4)

ص: 385


1- وهو القسم الأول.
2- وهو كل الأقسام الثلاثة الآنفة التي ندعي أن النصح فيها قد يكون إلزامياً وقد يكون ندبياً.
3- أي في كليهما.
4- فإن المولى يقول لعبده: إنني بما أنا مولى آمرك بأن تفعل ما هو لمصلحتك الشخصية وأوجب ذلك عليك.

أو يقال: إن (ما صدر منه بما هو مولى) مَقْسَمٌ، و (معملاً مقام مولويته) فصل _ وليس تفسيراً _ يُخرج (النصح)، مع كون الجامع الوجوب، ويراد ب (معملاً مقامه) أي سلطته.

وبعبارة أخرى(1) (بما هو مولى) أي بما له من السلطة، إلا أن السلطة على نوعين: سلطة التشريع، فمولوي، وسلطة النصح(2)، فإرشادي.

وهذا كله غير ما لو كان الصادر منه، لا بما هو مولى، بل بما هو محب أو صديق لكنه أيضاً بما هو ناصح نصحاً إلزامياً أو ندبياً.

وبذلك ظهر اندفاع إشكال التضاد بين إعمال مقام المولوية والنصح، كما ظهر اندفاع إشكال التضاد بين النصح والوجوب _ فتأمل.

ص: 386


1- وهي الأدق.
2- إذ العقل يرى للمولى سلطة النصح كما يراها لبعض آخر غيره، ولا يراها لكل أحد، إذ لا يراها للجاهل العالم بجهله بل للجاهل المركب وإن تصور أنها له.

الأقسام الخمسة للمولوي والنصحي

والحاصل أن رؤوس الأقسام خمسة.(1)

1 ما صدر منه بما هو مولى مولوياً(2) بأن يقول: آمرك بما أنا مولى، مرتباً على الخلاف استحقاق العقاب.

2 ما صدر منه بما هو مولى(3) ناصحاً بأن يقول: أنصحك بما أنا مولى حريصاً على مصلحتك ملزماً لك أو نادباً.

3 ما صدر منه لا بما هو مولى، ناصحاً، بأن لا يلاحظ مقام مولويته عند النصيحة ملزماً أو نادباً.

4 ما صدر من غير المولى ناصحاً، ملزماً تارة ونادباً أخرى.5 ما صدر من غيره مدعياً مقامه فيأمر مولوياً، وهو من مصاديق من لا علو له لكن يأمر مستعلياً ولا شأن للخامس في موضوع البحث.

وهذه الأقسام كلها متصورة ومتمايزة وذات آثار مختلفة ومتحققة خارجاً.

أما في الشارع فلابد من ملاحظة لسان الدليل كما سنذكره في موضع آخر بإذن الله تعالى.

ص: 387


1- وهي أكثر بتفريعات بعضها، كانقسام الثاني والرابع إلى الإيجاب والندب.
2- يراد بذلك مع قيد: بما هو مشرع، أي بما هو ذا سلطة للتشريع، أي بلحاظ أن خلافه هتك له، أي بلحاظ أنه يريد ترتيب استحقاق العقاب على الخلاف وبعبارة أخرى: (مولوياً) أي بمعناه الأخص، لأن القسم الآتي حسب ما أوضحناه مولوي أيضاً.
3- وهذا أيضاً يصح إطلاق (بما هو مولى مولوياً) عليه ويراد ب(مولوياً) بالمعنى الأعم، أي لا بلحاظ الهتك والمشرَعية.

2- ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة

اشارة

(الأمر المولوي): (ما أُنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة)، أو (ما لوحظت فيه مصلحة الآخرة)(1)، والنهي المولوي: (ما صدر بلحاظ مفسدة الآخرة).

والظاهر أن مراده أعم مما لو كانت المصلحة عائدة للمكلف نفسه، أو لمن يتعلق به، أو للأجنبي عنه، أو لمجتمعه.

أما (الإرشادي): ف(ما صدر بلحاظ المصلحة أو المفسدة الدنيوية) كذلك.

أو يخصص (المولوي) بما كانت مصلحة الآخرة، عائدة لنفسه فقط، أما ما عاد لغيره، فهو إرشاد، فمثل «قوا أنفسكم» مولوي أما «وأهليكم» فإرشاد(2).

والمراد ب(لحاظ مصلحة ومفسدة الآخرة أو الدنيا): المصبّ ومحط النظر، فلا يضر كونه واجداً للمصلحة أو المفسدة الأخرى، بل لا تضر حتى الغلبة للآخر.

فلو نهى عن الخنزير أو الخمر بلحاظ مفاسدهما الدنيوية _ غالبة كانت أو مساوية أو أقل من المفسدة الدنيوية _ كان إرشاداً.

ولو نهى عنهما بلحاظ مفاسدهما الأخروية كان نهياً مولوياً.

ص: 388


1- ولعله الأولى (ما أنشأ لمصلحة الآخرة) إذ (لحاظ) يشمل الداعي، إلا لو أراد القائل التعميم للسبب والداعي _ فتأمل.
2- ولا يخفى ما فيه من مخالفته للفهم العرفي، وللسياق.

قال في جواهر الكلام: (وإن أريد بالإرشاد معناه المصطلح أي الدال على ما هو الأليق والأصلح بحال العبد في الأمور الدنيوية خاصة، كما يستفاد من كلامهم في الأمر الإرشادي وغيره...).(1)

وجه عدم تمامية هذا الضابط

لكن قد يورد عليه:

1- النهي مولوياً عن ما فيه مفسدة دنيوية

اشارة

أولاً: حلاً بأن المولى لو نهاه بما هو مولى عن ما فيه مفسدة دنيوية، بلحاظها، بل حتى عن المباح، لكونه مولى ومالكاً له، معملاً مقام مولويته، فإنه مولوي وليس إرشادياً؟ فإن النهي وإن كان بلحاظها (أي لأجلها، منع، لكن بما هو مولى) إلا أنه مادام أعمل مقام مولويته، كان لحاظها (داعياً)، بل لو اعتبرها (علة تامة)، فإنه مادام أعمل مقام مولويته فإنه نهي مولوي؛ إذ المفسدة عندئذٍ علة لإعماله مقام المولوية في النهي، فلا تدافع، وآية ذلك استحقاق العقاب عندئذ بالمخالفة.

كما أنه لو نهى بلحاظ مفسدة الآخرة، لكن بما هو ناصح، لكونه غير مولى، أو غير معمل مقام المولوية، فإنه إرشاد.

ص: 389


1- جواهر الكلام: ج29، ص396.
هل رعاية المصالح الدنيوية من شأن المولى؟

ولعل منشأ هذا الضابط توهم أن (رعاية مصالح الآخرة) وما يُنشأ من الأمر بلحاظها، لا يصدر إلا من المولى وبما هو مولى، وأن رعاية (مصالح الدنيا ومفاسدها) بالنسبة لعامة الناس، ليس من شأن الله والرسول والإمام، فلو أمروا بلحاظها أو نهوا كذلك، كان إرشاداً.

لكن هذا الوهم بمكان من الضعف:

أما الشق الأول، فلوضوح إمكان ووقوع رعاية غير المولى _ كالصديق _ لمصالح الآخرة، لصديقه، فيأمره بأمرٍ بهذا اللحاظ، ووضوح أن المولى قد يأمر ناصحاً غير ملاحظٍ مقامه ولا معملٍ إياه، ويتضح ذلك أكثر بملاحظة حال الأب في نصحه ابنه بما يعود لآخرته.

وأما الشق الثاني، فلأن المستظهر من الآيات والروايات: إن رعاية مصالح العباد: الدينية والدنيوية، المادية والمعنوية، ما عاد للآخرة محضاً أو للدنيا محضاً أو بالاشتراك، كلها محط نظر المولى (جل وعلا) ورسله وأوصيائه، وكلها مما من شأنه (جل اسمه)، بل لقد عد الله تعالى رعاية كلا الجانبين من أغراض البعثة.

قال تعالى: «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم »(1) ولعل الظاهر أن «يحل لهم الطيبات» و «يحرم عليهم الخبائث» و «يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم»

ص: 390


1- الأعراف: 157.

هي لمصالح عائدة لدنياهم، وإن استلزمت مصالح أخروية.

كما أن الظاهر إن ذلك صادر من مقام المولى (جل وعلا) بما هو مولى، وكونها للامتنان لا ينفي ذلك بل يؤكده، خاصة بلحاظ السياق وأن «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» فإنه منه صلى الله عليه وآله، بما هو مولى، وأمره بالمعروف امتنان وتفضل عليهم لعود فائدته إليهم.

ويؤكده تصدير الآية الشريفة ب «الذين يتبعون الرسول» الظاهر في مقام مولويته _ فتأمل.

وقوله تعالى: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»(1)، وكذلك: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء»(2)، «فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ»(3)، «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»(4)، «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(5)، «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».(6)وقوله عليه الصلاة والسلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(7) و (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(8)، فإن كثيراً منها ذات مصالح وفوائد دنيوية.

ص: 391


1- البقرة: 219.
2- يوسف: 24.
3- آل عمران: 148.
4- التوبة: 128.
5- البقرة: 201.
6- الحج: 28.
7- وسائل الشيعة: ج17، ص76، باب عدم جواز ترك الدنيا التي لابد منها للآخرة، ح2.
8- بحار الأنوار: ج16، ص210.

وما ورد في تعليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من المصالح الدنيوية والأخروية، مثل رواية التهذيب في الكافي (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)(1) وقد فصلنا الحديث عن ذلك في (فقه التعاون).(2)

كما يمكن الاستدلال على ذلك بخطبة الصديقة الزهراء عليها الصلاة والسلام كما فصلناه في الكتاب المزبور.(3)

ولذلك نجد المئات بل الألوف من الروايات قد وردت حول (سعادة الدنيا) وسبل ذلك، وقد وردت مثلاً الألوف من الروايات حول الشؤون الطبية للإنسان،كما وردت حول (سعادة الآخرة).

وقد أشرنا إلى جانب من البحث عن (الغرض) وإنه دنيوي أيضاً في مواضع مختلفة من فقه التعاون على البر والتقوى(4) فليراجع.

2- النقض بوجود المولوي في العرف

وثانياً: نقضاً بما ذكره الميرزا الشيرازي رحمه الله بقوله: (مع أن الوجوب والندب لا ينحصران في الأوامر الشرعية، بل يجريان في العرفية أيضاً، إذ لا ريب إن بعضها _ أيضاً _ وجوبي، وبعضها ندبي، وبعضها

ص: 392


1- الكافي: ج5، ص56، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
2- فقه التعاون على البر والتقوى: ص129-134.
3- المصدر: ص135-156.
4- فقه التعاون على البر والتقوى: ص168-189.

إرشادي، ولا ريب أن الوجوبية والندبية منها ليست إلا لمصالح دنيوية، فبطل الفرق المذكور)(1).

ومحصله أن الأوامر العرفية منها ما هو مولوي دون ريب، لكن لازم هذا الضابط كونها بأجمعها إرشادية، لأن الأوامر العرفية كلها عائدة لمصلحة دنيوية.

وبعبارة أخرى: لو تم هذا الضابط كانت الأوامر العرفية كلها إرشادية (لكون مصالحها دنيوية صرفة) والتالي باطل فالمقدم مثله.

لكن قد يورد عليه: أن الأوامر المولوية العرفية _ وجوبية كانت أم ندبية _ كثيراً ما تكون لمصلحة أخروية، فلو قال له (أسق الحديقة) لكي تنمو ثمارها فيتصدق بها، فإن المصلحة أخروية، والأمر عرفي مولوي، إلا أن يفرق بالمصلحة القريبة والبعيدة(2) لكنه لو تم فإنه لايتم في شتى أوامر الموالي لعبيدهم(3) لو لاحظوا بها مصلحة الآخرة كأمره لعبده بالصلاة أو إصلاح ذات البين قربة لله أو ما أشبه.

وبعبارة أخرى: كما أن أوامر مولى الموالي تنقسم إلى المولوية والإرشادية، وإلى ما لوحظت فيه مصلحة الآخرة والدنيا، كذلك الموالي العرفية.

فالظاهر أن النقض غير تام.

ص: 393


1- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص21.
2- بأن يقال المصلحة القريبة لسقيها، دنيوية، وهي الملاك، وإن كانت المصلحة البعيدة أخروية.
3- وجه عدم التمامية: إن (المصب) هو الملاك، فلو كان محط النظر (الأخروية) كانت الدنيوية مندكة فيها وإن كانت قريبة، وبالعكس.

كما ظهر عدم تمامية تنزل المحقق الرشتي رحمه الله بقوله: (فهذا التعريف لو صح، صح في خصوص الأوامر الشرعية) لابتناء التنزل على تسليم حصر العرفية في ما كان لمصلحة الدنيا، وقد ظهر لك وجه الإشكال عليه، ولعدم صحته في الشرعية أيضاً: فإن الأوامر الشرعية لو صدرت بلحاظ المصالح الدنيوية، لكن منهم عليهم السلام بما هم موالي، كانت مولوية _ فتأمل.

3- النقض بلزوم كون أمر الإطاعة، مولوياً

اشارة

ثالثاً: النقض أيضاً بما ذكره المحقق الرشتي رحمه الله: (بلزوم كون أمر الإطاعة مولوياً)(1) وأجاب: بقبول كونه كذلك، على النقيض من الميرزا الشيرازي رحمه الله تماماً.

وإننا وإن التزمنا بكونه مولوياً، كما فصلناه في محله، إلا أن للقائل بهذا الوجه أن لا يلتزم بالمولوية، لكن مع إضافة قيد (ما لوحظت فيه مصلحة الآخرة في ذاته) للمولوي، فيخرج أمر الإطاعة؛ لأن المصلحة هي في غيره، وهي العناوين الكلية كالصلاة التي ورد أمر الإطاعة عليها السلام.

لكن يرد عليه عندئذٍ (بعدم كونه فارقاً لدى العقل) لإتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده، وجنسه مع أنواعه(2) فيجاب:

ص: 394


1- نظراً لكون المصلحة فيه أخروية، مع أن المفروض أو المسلم به _ عند بعضهم _ أنه أمر إرشادي.
2- أي إن أمر (أطع) كلي طبيعي وهو متحد من (صلِّ) فإذا كان (صلِّ) مولوياً لكون مصلحته أخروية، كان (أطع) كذلك لإتحاده معه، فكيف يفرق بكون (صلِّ) مولياً، دونه؟

أولاً: إن المقام ليس من ذاك الباب(1) لأن أحدهما متعلق للآخر وليس فرده.(2)

ثانياً: إننا لا نقول بالكلي الطبيعي.(3)

ثالثاً: إن الحيثية مختلفة.

وفيه: أنه وإن تعددت الحيثية، فإنه(4) لا يشكل فارقاً لدى العقل، مادام الملاك مصلحة الآخرة.أو يقال إن تعدد الحيثية مع اتحاد الوجود غير مجدٍ، فإن المصداق هو الحامل للغرض وهو واحد(5)، فالأمر إما مولوي أو لا، والحيثية داع للآمر ليأمر مولوياً _ فتأمل.

رابعاً: وبذلك ظهر أن في دعوى (عدم كونه فارقاً لدى العقل) كفاية من غير حاجة لتعليل ذلك باتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه؛ فإنه سواء التزمنا بأصل وجوده ثم اتحاده معها على فرضه وعدمه، فإن (في ذاته) لا يصنع فارقاً لدى العقل بين أمر (أطع) وأمر (صلِّ) من حيث حمله المصلحة الأخروية وكونه مولوياً بهذا اللحاظ وعدمه.

نعم يبقى أصل إشكال أن (ما لوحظت فيه مصلحة الآخرة ولو لذاته)

ص: 395


1- أي من باب إتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه.
2- فإن (صلِّ) متعلَّق ل(أطع) وليس مصداقه، بل مصداق متعلَّقه، أي مفعوله فقولك (أطع أمري) مصداق (أمري) _ وهو متعلَّق ومفعول أطع _ هو (صلِّ).
3- أي لا نقول بالكلي الطبيعي أصلاً نظراً لكونه من فروع القول بأصالة الماهية، كما فصلناه في فقه التعاون على البر والتقوى فليلاحظ.
4- أي كون المصلحة لذاته أو بالعرض.
5- فإن (الصلاة) هي ما يتحقق به أمر (صلِّ) وهي بعينها، يتحقق به أمر (أطع).

ليس هو المقياس للمولوية، للنقض بالناصح، ولما سبق من أن الملاك (ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته).

الشيرازي: (أمر الإطاعة) إرشادي، والمصلحة دنيوية

ثم أن الميرزا الشيرازي نقل هذا الضابط عن بعضهم، بهذا البيان:

(الطلب في (الوجوب والندب) لمصلحة أخروية، وفي (الإرشاد) لمصلحة دنيوية)(1).

ثم أورد عليه ب (لا ريب أن أوامر الإطاعة كلها إرشادية، مع أنها ليست إلا للمصالح الأخروية)(2).

أجوبة ثلاثة

لكن ربما يجاب:

أولاً: مبنى بما أشرنا إليه في موضع آخر(3) من أن أوامر الإطاعة، مولوية، وأنه لا يلزم محذور التسلسل أو تحصيل الحاصل أو تعدد العقاب أو اللغوية أو ما أشبه من كونها كذلك.

ثانياً:(4) على الصحيح من كون الإرشاد للوجوب أيضاً، كما

ص: 396


1- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص21.
2- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص21.
3- كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) أيضاً.
4- مرجع هذا الجواب إلى التفصيل في (أمر الإطاعة) فما كان متعلقه (أمر مولوي) كأقم الصلاة، كان إرشادياً وما كان متعلقه (أمر إرشادي) كاشرب الدواء فإن (أطع) في مورده أي لو قال لاحقاً (أطع أمري باشرب الدواء)، يمكن كونه مولوياً.

ارتضاه هو قدس سره(1) فإنه لا محذور من كون أوامر الإطاعة مولوية في مواردها(2) حتى وإن قبلنا مبناه من كونأمر الإطاعة إرشادياً، إذ يقصد به أمر الإطاعة (للأوامر المولوية)؛ إذ لا تلزم تلك المحاذير من كون أمر إطاعة (الأوامر الإرشادية)، مولوياً؛ إذ مثل تعدد العقاب، يلزم من مخالفة المولوي لا الإرشادي، فلا يصح قوله (كلها)، نعم يلزم الإشكال في الجملة.(3)

اللهم إلا لو قيل بانصراف كلامه إلى ما تعلق بالأوامر المولوية منها.(4)

ولا محذور في كون (الأمر) إرشادياً و (الأمر بإطاعته) مولوياً _ على المسلك الأول _ بأن يأمره ناصحاً مرشداً ثم يتلبس بلباس المولى فيأمره بإطاعة ذلك الأمر.

بل على هذا الضابط أيضاً إذ يمكن أن يأمره ملاحظاً المصلحة الدنيوية، ثم يأمر بالإطاعة ملاحظاً المصلحة الأخروية في هذا الأمر، نظراً لمحبوبيته له أو لمقربيته له أو ما أشبه _ فتأمل، لأنه وإن لم يلزم محذور تعدد العقاب مثلاً واللغوية (لوجود داع جديد للإطاعة وهو داع الاستجابة لطلب المولى بما هو مولى) لكنه يلزم محذور التسلسل

ص: 397


1- قال: (ومن المعلوم أن الإرشاد قد يقع بطريق الحتم، وقد يقع على غير وجه الحتم) تقريرات المجدد الشيرازي: ج ص16.
2- بل لا حاجة للتقييد بصورة الالتزام بكون الإرشاد للوجوب، إذ يتم حتى على القول بأن لا إلزام فيه، بل صرف ندب، نعم أمر الإطاعة المتوجه إليه على هذا لا يكون إلا ندبياً نظراً لعدم زيادة الفرع على الأصل.
3- أي في خصوص الأوامر المولوية مما كان متعلقاً لأمر «أطيعوا».
4- أي من أوامر الإطاعة.

وتحصيل الحاصل؛ إذ الفرض قبول مبنى الإرشادية نظراً لهذين المحذورين.

ثالثاً: _ وهو عكس الثاني _ يمكن لهذا القائل بهذا القول أن يقول بأن أمر (الإطاعة) لوحظت فيه المصلحة الدنيوية للمأمور(1) وإن كان متعلقه قد لوحظت فيه المصلحة الأخروية، ف(صل) للأخروية، و (أطع) الصادر بعده، لوحظت مصلحته الدنيوية، فإن من لا يطيع يتضرر دنيوياً.(2)

لكن فيه أنه وإن أمكن ثبوتاً، إلا أنه خلاف الظاهر من أوامر الإطاعة، ومن ظهور اتحاد العلة أو الحكمة في الأمرين.(3)

4- نقض الشيرازي بالسواك وغسل الجمعة

اشارة

ورابعاً: كما أورد الميرزا الشيرازي عليه (وكذا بعض أوامر المندوبات إنما هي لمصلحة دنيوية، كالأمر بغسل الجمعة لحكمة إزالة الرائحة الكريهة، وكالأمر بالسواك لمنافع عديدة دنيوية)(4) وظاهره أن قصده: (مع أن أوامرها مولوية، فيلزم من هذا الضابط كونها إرشادية).

وكلامه قدس سره صحيح من حيث الالتزام بكون أوامرها مولوية، وذلك نظراً للضابط الذي ارتضيناه من كون ملاكها (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام المولوية) من غيرفرق بين كون الداعي لذلك مصلحة

ص: 398


1- فهي إرشادية إذن على هذا الضابط، ولا يلزم النقض.
2- فإنه يسقط من أعين الناس مثلاً.
3- أمر (أقم الصلاة) و (أطيعوا الله).
4- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص21.

دنيوية أو أخروية، وبين كونه محبوباً له وقد صدر لجهة محبوبيته أو لا.

إلا أن من يلتزم بهذا الضابط الثاني، له أن يجيب عن هذا النقض بجوابين:

أولاً: الأمر بالغسل والسواك، مولوي لمصالحهما الأخروية

(كبرى) بأن غسل الجمعة والسواك وإن تضمنا مصالح دنيوية، إلا أنهما قد ندب إليهما _ مولوياً(1)، كما هو الظاهر والمبنى _ لمصالحهما الأخروية، فلا يلزم كونهما إرشاديين.

ووجود المصالح الدنيوية، بل لحاظها أيضاً لا يضر بالمولوية، لو كان المصبّ لحاظ الأخروية كما سيجيء، بل ذلك ككل أوامر الواجبات التي لها حِكَم دنيوية، فإن وجودها لا يصحح القول بأنها بلحاظها(2) وأنها لمصلحة دنيوية، فهي إرشادية.

ثانياً: أ- (السواك) ليس لصرف المصالح الدنيوية، وأدلته
اشارة

و (صغرى) بأنه ليس من التام القول ب (إنما هي لمصلحة دنيوية) فإن الروايات صرحت بمصالح أخروية أيضاً.

أما السواك ففي الكافي والخصال وثواب الأعمال والمحاسن عن محمد بن عيسى اليقطيني عن الصادق عليه السلام قال: (في السواك اثنتا عشرة خصلة: هو من السنة... ويرضي الرب (أو الرحمن)... ويضاعف

ص: 399


1- ولا حاجة للاستدلال على مولوية أمر غسل الجمعة _ سواء قبلنا بكونه للندب كما هو المشهور أم للوجوب كما وردت به رواية صحيحة وإن كان معرضاً عنها _ لأن مبنى المشهور على مولويته، كما هو مبنى كلا طرفي النقاش.
2- أي أوامرها بلحاظ مصالحها وحِكمها الدنيوية.

الحسنات... وتفرح به الملائكة)(1).

وفي رواية الخصال (مرضاة للرب، يضاعف الحسنات سبعين ضعفاً، وهو من السنة...)(2) وبذلك المضمون روايات كثيرة.

وظاهر، أن خصالاً مثل كون الشيء (من السنة)، وأنه (يرضي الرب)، وأنه (مرضاة للرب)، وأنه (يضاعف الحسنات)، تعد من المصالح الأخروية، وأنه قد ندب إليها بهذا اللحاظ، ولا يضر ذكر المصالح الدنيوية أيضاً بل ولحاظها أيضاً، بذلك، إذ المستظهر كون المصب هو لحاظ تلك لا هذه(3)، بل لو قيل بكون هذه المصب أيضاً كان مصداقاً لاجتماع الأمرين: المولوي والإرشادي، فلا يتم النقض على القائل بهذا الضابط، كما أن الظاهر إن هذا الندب مولوي (أي بما هو مولى دعى وندب لا بما هو ناصح).

وأما كونها من مصالح الآخرة؛ فلأنه بعد العلم بأنه لا يشترط فيها تحققها في الآخرة كما لا يخفى، نقول: ظاهر (الحسنات) ما في الآخرة.

و (مرضاة الرب) تعد مصلحة أخروية، وإن كان متعلقها أعم، إذ هو شامل للدنيا والآخرة، فإن رضاه في الدنيا أيضاً من مصاديق مصالح الآخرة إذ الملاك ب (رضاه تعالى) لا (متعلقه).وبعبارة أخرى: نظراً لأن (مصالح الآخرة) تعد عنواناً مشيراً لكل ما يرضي الرب، حتى لو كان مما يعمر به الدنيا، فإنه بتعلق رضاه به يكون

ص: 400


1- جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص310، كتاب السفر والنظافة والملابس، أبواب السواك.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص311، كتاب السفر والنظافة والملابس، أبواب السواك.
3- (تلك) أي الأخروية، (هذه) أي الدنيوية.

إعماراً للآخرة أيضاً، أو لوحدة الملاك لدى أصحاب هذا الضابط.

وأما (السنة) فإنه قد يقال أنها (ما سنه الأنبياء أو الرسول) صلى الله عليه وآله وعليهم، وهو أعم مما سنوه لشؤون الدنيا والآخرة.

وهو وإن كان كذلك، إلا أنه قد يقال إن إتباع السنة هو ذا مصلحة أخروية بلحاظ الانتساب(1) وظاهر الرواية التحريض على (السواك) لأنه سنة الأنبياء.

ثم إن ظاهر مقام سنّهم أمراً، أنهم بما هم أنبياء قد سنّوه لا بما هم ناصحين، أو إن شئت فقل: أنهم سنّوه بما أنه يرضي الرب أو محبوب له، ولا يمنعه لحاظ كونه مصلحة للمأمور كما سبق _ فتأمل.

ثم إن الروايات، وإن ذكرت مصالح دنيوية ك (مطهرة للفم، ومجلاة للبصر، ويذهب بالبلغم، ويزيد في الحفظ، ويبيض الأسنان، ويذهب بالحفر، ويشد اللثة، ويشهي الطعام)(2)، إلا أنه معها لا يصح القول ب (إنما هي لمصلحة دنيوية)، كما لا يعلم أنه بلحاظها، بل لعله بلحاظ مصالح الآخرة مصباً _ كما سبق وسيأتي.

بل _ وكما سبق فإنه _ حتى لو كان باللحاظين، فإنه لا امتناع من جمع اللحاظين فتكون أوامر السواك والجمعة مولوية _ إرشادية؛ إذ لا مانعة جمع بينهما على جملة من الضوابط ومنها هذا الضابط.

فيكون حال السواك من هذه الجهة حال (قراءة القرآن الكريم)، ففي

ص: 401


1- فإن العمل بما سنّوه وإن كان أمراً دنيوياً إلا أن الالتزام به نظراً لأنهم سنوه وبلحاظ انتسابه لهم، يعد مما يثاب عليه الشخص، ومن المصالح الأخروية.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص310، كتاب السفر والنظافة والملابس، أبواب السواك.

الدعائم عن الإمام الصادق عليه السلام: (ثلاث يذهبن النسيان ويحدثن الذكر: قراءة القرآن، والسواك، والصيام).(1)

وفي رواية الفقيه عن الرسول صلى الله عليه وآله (يا علي قراءة القرآن والسواك واللبان، منفاة للبلغم).(2)

والحاصل: أن وجود الجهات الدنيوية لا يصرف الأمر عن كونه مولوياً، غايتة الاجتماع.(3)

الوجه في كون أوامر الصناعات والتجارة والأخلاق والطب، مولوية

وبذلك ظهر الوجه فيما نذهب إليه من كون كثير من الأوامر الصحية والطبية، وكذا الأوامر المتعلقة بالصناعات والحرف والتجارة ومكارم الأخلاق وغيرها، مولوية، إذ إن الملاك هو (صدوره من المولى بما هو مولى).

ووجود مصالح دنيوية فيها بل وتصريح الروايات بذلك، لا يدعو إلى إرشاديتها فإن الملاك ما سبق(4)، سواء كانت مصالحه متمحضة في الأخروية، أم كانت دنيوية _ أخروية فيعرض الآخر، أم كانت المصلحتان طوليتين بنوعيهما _ أي: القريبة دنيوية، والبعيدة أخروية، أو بالعكس _ أم كانت دنيوية صرفة، فإنه في هذه الأقسام الخمسة لو صدر الأمر من المولى بما هو مولى، كانت مولوية، وإلا فإرشادية.

ص: 402


1- جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص314.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج21، ص313.
3- أي اجتماع المولوية والإرشادية.
4- أي صدوره من المولى بما هو مولى.

وبذلك ظهر أن ما أمر به لمصالح دنيوية فإنه على أربعة أقسام من: التمحض والاشتراك والطولية بقسميها من حيث غايته القريبة والبعيدة.

وفي المقام، فإن كل تلك الحكم المذكورة للسواك، قد تكون أخرويتها ودنيويتها في عرض الآخر وقد تكون طولية.

وبناء على هذا الضابط: المقياس هو المصب، فتكون ثلاثة منها(1) ممكن كونه مولوياً، ويبقى واحد(2) منها لابد من القول بإرشاديته، إلا أنه _ كصغرى _ لا نجد في أي مورد من موارد أوامر الشرع _ سواء الطبية أم ما يرتبط بالحِرَف، أم مثل السواك وغسل الجمعة _ ما كانت مصالحه متمحضة في الدنيوية، فلا يرد النقض بأن السواك وغسل الجمعة حيث كانت مصالحهما دنيوية، كان أمرها إرشادياً والتالي باطل فالمقدم مثله.

ثانياً: ب- (غسل الجمعة) شرّع للمصالح الأخروية

كذلك الحال في (غسل الجمعة) فإنه لا يصح القول: بأن الأمر به، إنما هو لصرف المصلحة الدنيوية بحكمة (إزالة الرائحة الكريهة) كما قال به الميرزا الشيرازي(3)، ففي الفقيه والهداية، قال الصادق عليه السلام: (غسل يوم الجمعة طهور، وكفارة لما بينهما من الذنوب، من الجمعة إلى الجمعة)(4).

ص: 403


1- وهي ما كانت مصلحته أخروية _ دنيوية في عرض الآخر، وما كانت المصلحتان في طول الآخر والأخروية هي القريبة والدنيوية البعيدة، أو العكس.
2- ما تمحض في الدنيوية، فإنه على هذا الضابط لابد من القول بإرشاديته، دون ما لو قيل بما ذهبنا إليه من الضابط، فإنه عليه يمكن مولويته أيضاً.
3- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص21.
4- جامع أحاديث الشيعة: ج3، ص36، كتاب الطهارة.

وظاهر أن (تكفير الذنوب) من مصالح الآخرة، بل حتى (الطهور)؛ فإن منصرفه المعنوي، سلمنا لكنه شامل له، هذا إن لم نقل بأن (كفارة لما بينهما) مفسر له.(1)

وفي المستدرك عن الرسول صلى الله عليه وآله: (فإنه ليس شيء من التطوع أعظم منه)(2)، وظاهر (التطوع) _ بلحاظ المادة _ ما كان من شأن العبد والمولى(3) _ فالأمر واضح على الضابط الأول _ بل على هذا الضابط، فإن ظاهر أن يكون العبد طوع أمر الله تعالى، هو شؤون الآخرة _ فتأمل.وفي رواية علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة قال أبو جعفر عليه السلام: (الغسل واجب يوم الجمعة)(4)، وظاهرٌ كونه مولوياً، وإرادة مصلحة الآخرة منه. ووجوبها وإن لم يلتزم به، لإعراض المشهور، إلا أنه لا وجه لرفع اليد عن الظهور فيهما(5)، فإنه لا إعراض هنا، بل العكس ثابت فإنه مبنى المشهور.

بل إن روايات أخرى ذكرت حكماً أخروية صريحة لغسل الجمعة.

ومنها: رواية التهذيب والكافي، قال سألت أبا الحسن الأول عليه السلام: كيف صار غسل يوم الجمعة واجباً؟ فقال عليه السلام: (إن الله تبارك وتعالى أتمّ صلاة الفريضة بصلاة النافلة، وأتم صيام الفريضة بصيام النافلة، وأتم وضوء الفريضة بغسل اليوم الجمعة، ما كان في ذلك من سهو أو

ص: 404


1- أي: وإلا كان المراد به المعنوي دون شك، وإن كان بنحو (اللابشرط).
2- جامع أحاديث الشيعة: ج3، ص37، كتاب الطهارة.
3- فإنه من مادة (طوع) فهو نظير (الإطاعة) ويوضحه قولك فلان طوع أمر فلان.
4- المصدر.
5- أي المولوية ومصلحة الآخرة.

تقصير أو نسيان أو نقصان)(1).

ومن البين أن إتمام الصلاة والصيام والوضوء الواجب، بشيء، إنما هو من مصالح الآخرة.

ومنها: ما في عيون الأخبار وعلل الشرائع عن محمد بن سنان، فيما كتب إليه الرضا عليه السلام عن علة غسل العيدين والجمعة وغير ذلك من الأغسال (لما فيه من تعظيم العبد ربه، واستقباله الكريم الجليل، وطلب المغفرة لذنوبه...)(2)، فإن هذه كلها أخروية.

بل قد تعد تلك الحكمة(3) مندكة في هذه، وبلحاظها، مقدمة لها، فهي المقصود الأصلي وهذه الطريق، بل لو قيل بكون كل منهما، علة تامة للتشريع، ثم التداخل فإنه لا يضر كما سبق.

تنبيه:

إنما فصلنا الحديث عن (السواك) و (غسل الجمعة)، نظراً لأن ما ذكر إضافة إلى موضوعيته وأهمية غسل الجمعة والسواك، فإنه نافع جداً في توضيح ما نذهب إليه من مولوية كثير من الأوامر الطبية، وما يرتبط بالحرف والصناعات والتجارة وشبهها، لشدة ارتكاز إرشادية أوامرها نظراً لمصالحها الدنيوية، في أذهان الكثيرين، فليتدبر جيداً.

ص: 405


1- جامع أحاديث الشيعة: ج3، ص40، كتاب الطهارة.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج3، ص41، كتاب الطهارة.
3- أي رائحة الآباط.

3- ما كان محبوباً للمولى، وقد صدر لمحبوبيته

اشارة

الأمر المولوي: (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته له)، قال المحقق الرشتي قدس سره: (وباعتبار محبوبية الفعل عنده، وملاحظته إياها حين الأمر، غير إرشادي).(1)

وذلك سواء كان لتعلق أغراضه به ووجود المصلحة أو المفسدة فيه _ كما في الموالي العرفية، أو المولى الحقيقي على مسلك العدلية؛ فإن تعلق الأغراض ووجود المصلحة أو المفسدة أعم من كونها عائدة للآمر أو المأمور أو الأجنبي عنهما _ أم لم يكن _ كما على مسلكالأشعري من عدم معللية أفعاله تعالى بمصالح ومفاسد في المتعلقات _ إلا أن يقول(2) بعدم محبوبيته كعدم وجود المصلحة فيه، وهو منه غير بعيد.

و (الإرشادي): ما سيق الأمر فيه للنصح، وكان لأجل مصلحة عائدة للمكلف _ دنيوية كانت أو أخروية _ أو لغيره ممن يرتبط به أو مطلقاً فتأمل.(3)

وإن شئت فقل: (فإنه باعتبار ما فيه من النصح والإرشاد، وملاحظته إياه إرشادي)(4) و (الإرشادي ما سيق للنصح، بمعنى أن الغرض من الأمر فيه هو خصوص النصح، كسائر الأوامر المسنونة لأغراض أخرى، مثل الامتحان والتسجيل والتهديد ونحوها، فإن سيق الأمر للنصح فهو

ص: 406


1- بدائع الأفكار: ص266.
2- أي الأشعري.
3- إذ لا يصدق (النصح) على الأمر لمصلحة أجنبية عن المكلف تماماً.
4- بدائع الأفكار: 266، فما بين القوسين هو مختاره قدس سره، وما أضفناه إن وافق رأيه فبها، وإلا كان تفصيلاً جديداً فليلاحظ.

إرشادي، سواء كان الفعل المأمور به محبوباً للآمر في نفسه أيضاً أو مبغوضاً له؛ إذ قد تقتضي المصلحة الإرشاد إلى الفعل المبغوض للآمر)(1).

وبذلك يظهر أنه على هذا القول _ بل وعلى القول الأول والثاني أيضاً كما سيظهر لاحقاً بإذن الله تعالى _ فإنه يمكن كون الأمر مولوياً وإرشادياً لاجتماع الجهتين فيه، بناء على عدم أخذ كل من (النصح) و (الصدور لجهة المحبوبية)، (بشرط لا)، كما هو الظاهر(2)، وخلافه خلاف الحكمة، وإلا امتنع الاجتماع كما لا يخفى.

وهذا الضابط هو الذي استظهره المحقق الرشتي من ما حكي عن السلطان، وذهب إليه في (بدائع الأفكار) كما نقلناه عنه.

فرق هذا عن الأول والنسبة بينهما

والفرق بين هذا والأول: أن المدار في المولوية على هذا (محبوبيته للمولى) فقط أو (وصدوره لأجل محبوبيته) كما هو صريح الرشتي، فلا يهم إعماله مقام مولويته وعدمه(3)، وعلى ذاك (إعمال مقام المولوية) سواء كان محبوباً ذاتاً أم لا، وسواء صدر لجهة المحبوبية أم لا؟

وهما متغايران ذاتاً.

أما النسبة بينهما، فقد يقال بأنها (من وجه)؛ لافتراق (المحبوبية)

ص: 407


1- بدائع الأفكار: 266.
2- ولا يخفى أن المحقق الرشتي لا يقصد من قوله (خصوص النصح): (بشرط لا) وإلا لناقض التزامه بإمكان اجتماع الجهتين _ فتأمل.
3- إلا أن يدعي التلازم، لكنه لا ينفعه.

عن (إعمال المقام) في أمره إرشاداً لما هو محبوب له، لكن دون إعمال مقامه، كالأب الناصح؛ وافتراق (إعمال المقام) عن (المحبوبية) في ما لو أعمل مقامه آمراً بما لا يحبه ولا يبغضه، أو آمراً بما هو مبغوضه.ويتصور ذلك فيمن أمر بمبغوض له، لإكراه مكره له، أو جبر جائر له، معملاً مقام مولويته، أو من أمر كذلك (أي بمبغوض، معملاً..) ترويضاً لنفسه أو امتحاناً لها أو لو فعل ذلك في باب (التباني).

وكذلك النسبة بين (إعمال المقام) وبين (صدوره لأجل محبوبيته).

لكن قد يقال:

في الأول إنه لو أمر بمحبوب له وبلحاظ محبوبيته له، لم يكن إرشاداً، بل كان مولوياً للندب أو الوجوب _ حسب درجة المحبوبية _ وإن لم يعمل مقامه.

لكن قد يورد عليه بما سبق من أن الملاك: (إعمال المقام)، ولا تلازم بين الأمر بالمحبوب وإن كان بلحاظ محبوبيته وبين إعمال المقام؛ إذ قد يأمر بالمحبوب، ناصحاً.

وفي الثاني: أنه بالمآل محبوب له ولو لطرو عنوان ثانوي بل قد يقال باستحالة أمره ب(المبغوض حتى بعد طرو العنوان الثانوي)، لاستحالة الترجيح بلا مرجح فكيف بترجيح المرجوح فتأمل.(1)

سلمنا، لكنه محال بالنظر للحكمة، فلا يصدر من الحكيم.

ص: 408


1- إذ قد يقال: (الترجح بلا مرجح) محال دون (الترجيح)، والحق أن (الترجيح) محال أيضاً إن قصد ب(المرجح) الأعم مما كان من جهة المريد والإرادة فتدبر.

والحاصل أنه قد يقال النسبة(1) هي العموم المطلق وهو تام بناء على تعميم (المحبوب) بالمحبوب ولو لطارئ أي بعد الكسر والانكسار فكل ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته كان محبوباً له حتماً ذاتاً أو لطارئ وقد لوحظت محبوبيته وصدر لأجلها، وليس كلما صدر لأجل محبوبيته، مولوياً إذ لعله صدر لأجل محبوبيته ناصحاً.

وبذلك يظهر الإشكال على ما ذكره المحقق الرشتي من (سواء كان الفعل ...) إذ أن المصلحة لو اقتضت الإرشاد للمبغوض، كان محبوباً بالمآل والنتيجة وبعد الكسر والانكسار، إلا أن يريد المبغوض بعنوانه الأولى، ويؤيده ظاهر قوله (في نفسه)، لكن فيه أن التقسيم عندئذٍ شكلي.(2)

لكن هذا الإشكال غير ضار بملاك تقسيمه إذ الملاك عنده (الصدور لجهة المحبوبية) أو (لجهة النصح) فلا يضر به كون الصادر لجهة النصح منقسماً إلى المحبوب في نفسه والمبغوض حتى بعد الطارئ أم لا.(3)

وعمدة الإشكال على هذا القول: أن الضابط بالوجدان والعرف هو (إعمال مقام المولوية) وعدمه، وبرهانه الإني دوران استحقاقه للعقاب بالمخالفة وعدمه على ذلك لا غير.(4)

ص: 409


1- أي بين (إعمال المقام) وبين (المحبوبية الأعم من كونها ذاتاً أو لطارئ)، وإلا فإن النسبة مع المحبوبية الذاتية، هي العموم من وجه كما لا يخفى.
2- إذ مفاده (سواء كان محبوباً بعنوانه الأولى أم بعنوانه الثانوي).
3- بأن أرجع المبغوض في نفسه إلى المحبوب بالمآل فينقسم إلى المحبوب في نفسه والمحبوب لطارئ.
4- فلو صدر من المولى لمحبوبيته وبلحاظها لكنه لم يعمل مقام المولوية لم يستحق العقاب على المخالفة، وإن استحق العتاب إذ العتاب يترتب على مخالفة النصح مطلقاً.

وبذلك ظهر أن (المحبوبية) داع، والملاك هو (إعمال مقام المولوية).فقد وقع خلط لدى هذا القائل ظاهراً بين الداعي والملاك.

كما أن الظاهر من تعريفه للمولوي والإرشادي، إنهما عنده من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث.(1)

4- المولوي ما لم يلزم منه التسلسل ونظائره

(الأمر المولوي) هو: غير ما يلزم من إعمال المولوية فيه أحد المحاذير التالية:

من تسلسلٍ، أو تحصيلٍ للحاصل، مما هو محال ذاتاً.

أو لغويةٍ، مما هو محال وقوعاً _ من الحكيم جل وعلا _.

أو تعدد عقابٍ أو تعدد استحقاقه _ مما هو خلاف الضرورة من الشرع _.

و (الإرشادي): ما يلزم منه أحدها.(2)

والظاهر ضرورة إضافة قيد على هذا التعريف ل(المولوي) لأنه تعريف بالأعم؛ إذ يستبعد ذهاب هذا القائل إلى مولوية كل ما لا يلزم منه أحد هذه المحاذير.

ذلك أن الأوامر الإرشادية _ كأوامر الطبيب والصديق والأدنى ناصحاً

ص: 410


1- كأوامر الامتحان، فإنها لا محبوبية لمتعلقها، للمولى، كما لم تسق لأجل النصح، وكأوامر التهديد وغيرها.
2- أي من إعمال مقام المولوي أحد تلك المحاذير.

بل والأعلى كذلك _ لا ريب في عدم لزوم أحد المحاذير المذكورة منها، رغم أنه لا شك أنها إرشادية.

وهذا القيد ينبغي أن يكون أحد الضوابط الأخرى (كالمحبوبية) أو (معملاً مقامه) أو ما أشبه، ففي الحقيقة ليس هذا ضابطاً جديداً، بل هو قيد يضاف إلى أي ضابط من الضوابط تم انتخابه.(1)

وغير خفي أننا حيث ذهبنا إلى القول الأول، فإن كبرى هذا الضابط تعتبر قيداً لما ذكرناه(2) والنقاش إنما هو في صغراه فيما عدا الأخير.

وبعبارة أخرى نقول: لا محذور _ إلا الأخير _ في عدّ أوامر (الإطاعة) و (التوبة) وشبهها مولوية، أي لا يلزم التسلسل ولا تحصيل الحاصل ولا اللغوية، أما آخر المحاذير(3) فننكر كونه محذوراً(4) كما فصلناه في (فقه التعاون)، وفي (مباحث الأصول) فليلاحظ.(5)

5- المولوي: ما عدا المستقلات العقلية.

(المولوي): ما عدا موارد المستقلات العقلية مطلقاً أو في الجملة(6)، و (الإرشادي) ما ورد فيها.

ص: 411


1- فيقال مثلاً: المولوي هو ما صدر عن المولى معملاً مقام مولويته شرط أن لا يلزم منه أحد المحاذير التالية... وهكذا.
2- إذ قد بان لك أنه ليس ضابطاً بل تتمة لأحد الضوابط وقيد له لا غير.
3- وهو تعدد استحقاق العقاب، أو تعدده.
4- فإنه وإن لزم، إلا أنه لا بأس به، ولنا أن نلتزم به.
5- وذكرنا هناك وجهاً لعدم لزوم هذا المحذور أيضاً، فالنقاش في هذا المحذور صغروي وكبروي، أي إنه ليس بمحذور، وإذا كان محذوراً فليس بلازم.
6- يستبعد الالتزام بالإطلاق إذ لا ريب في وجود إرشاديات في ما عدا المستقلات العقلية، كموارد النصح، فالظاهر أن (في الجملة) هو المتحتم من هذا القول ويراد به بالقياس للمستقلات ومن هذه الجهة.

وهذا ما ذهب إليه جمع من المتأخرين، وأصروا عليه أي إصرار، بل ادعوا استحالته ذاتاً ووقوعاً، وهو الذي قال عنه المحقق الرشتي رحمه الله:

(إن صيرورة الواجبات الشرعية المطابقة لحكم العقل، كوجوب رد الوديعة وأمثالها، إرشادية، مما لا يساعد عليه اصطلاحهم، وإن كان قد يطلق عليه في لسان من لا مهارة له في الفن، بل عن بعض تفسير الأمر الإرشادي بخصوص الأوامر الواردة في المستقلات العقلية وإن ما عداها من الأوامر كلها غير إرشادي، فهو كلام خال عن التحصيل حسبما عرفت).(1)

وقال: (لا يشك أحد من القوم في كون (أطيعوا الله) أمراً شرعياً، وكذا سائر الأوامر الشرعية الملحوظ فيها فوائد الآخرة بلا واسطة أو معها).(2)

وحيث بحثنا خصوص هذا الضابط في (فقه التعاون) وفي (مباحث الأصول) بالتفصيل، لذا لا حاجة بنا هنا إلى الإعادة.

6- المولوي: ما لم تكن المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر

اشارة

(المولوي): ما تكون المصلحة الباعثة للأمر، غير معلومة للمأمور قبل الأمر.

ص: 412


1- بدائع الأفكار: 266 أواخرها _ بتصرف بسيط.
2- المصدر 266 أوائل الصفحة.

و (الإرشادي): ما تكون المصلحة معلومة له قبله، وقد نقله المحقق الرشتي في بدائعه.

لا يقال: إن (علم المأمور) هو في مرتبة لاحقة عن كون صدور الأمر من الشارع مولوياً أو إرشادياً، وظاهر هذا الإشكال الاستحالة، إذ (علم المأمور) متأخر عن كون الأمر مولوياً أو إرشادياً، فكيف يكون سبباً له؟

إذ يقال: إن (علم المأمور بالأمر) متأخر، لا (علم المأمور بالمصلحة) وهو المعتبر ملاكاً في هذا الضابط.

ثم إن (علم المأمور بالمصلحة) سبب للصفة لا للموصوف، أي لنوع الأمر وكونه إرشادياً لا لأصله _ فتأمل.

وجوه الإيراد على هذا الوجه

والصحيح في الجوب أن يقال: إن بناء العقلاء على (محورية صدور الأمر من المولى بما هو مولى) وأنه ملاك المولوية مطلقاً كما سبق في الضابط الأول، إضافة إلى أن الوجدان يشهد والارتكاز على أن (الأمر الصادر من المولى) في عالم الثبوت: قد يكون مولوياً وقد يكون إرشادياً، سواء علم المأمور بالمصلحة أم لا، وسواء علم المولى بعلم المأمور بالمصلحة أم لا وسواء لاحظ علمه بها أم لا، فالأمر في (أفق نفس المولى) على نوعين مع قطع النظر عن (أفق نفس العبد).

ص: 413

وبعبارة أخرى: إن المولى عند إصدار الأمر _ وقبل أن يعلم المأمور بأمره، وسواء علم بالمصلحة أم لا _ إما أن يأمر مولوياً وبما هو مولى، أو إرشادياً وبما هو ناصح.

وبعبارة أخرى: سواء كانت المصلحة معلومة للمأمور أو لا، فقد يأمر مولوياً أي معملاً مقام المولوية، وقد يأمر إرشادياً أي ناصحاً؛ فإن الطبيب الناصح بشرب كذا، أمره إرشادي،سواء علم المأمور وجه المصلحة أو لا، وأمر الشارع بالصلاة مولوي، سواء علمنا الوجه وأنه (قربان كل تقي)(1) و (معراج المؤمن) وشبههما، أم لا.

كما يرد على هذا الوجه استلزامه لتال فاسد، وتوضيحه: أن (الأمر الواحد) إما مولوي وإما إرشادي، وليس مولوياً بالقياس إلى مكلف وإرشادياً بالقياس إلى آخر وهو التالي الفاسد لهذا الضابط، فإنه وإن كان ذلك ممكناً لتنوع المتعلق، ولكون الإرشادية وشبههما من الدواعي _ كما قاله الآخوند _ فلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل وإن لزم فلا استحالة كما بيناه في موضع آخر، إلا أنه خلاف الظاهر والمتفاهم العرفي والارتكاز.

كما ينقض هذا الوجه: بلزوم كون الأوامر المولوية كلها بالنسبة للأنبياء والأوصياء بل ومطلق الراسخين في العلم، إرشادية، نظراً لعلمهم بمصالحها قبل الأمر لا أقل في الجملة.

لكن المحتمل في من يذهب لهذا الضابط إنه يرى أنه معلومية المصلحة للمأمور قبل الأمر، سبب لانصراف الأمر إلى الإرشادية، فهو ضابط إثباتي لا ثبوتي، أو نقول: إذا تم ما أوردناه على هذا الضابط ثبوتاً فالأولى صرفه إلى إرادة عالم الإثبات، وأنه ما هو الأصل لا ما هو الملاك.

ص: 414


1- الكافي: ج3، ص265، باب فضل الصلاة، ح6.

ويحتمل أنه يرى أن معلوميتها(1) سبب للاستحالة، بنفس أو ببعض البراهين التي ذكرت للاستحالة في المستقلات العقلية كلزوم تحصيل الحاصل(2) أو اللغوية، والجواب، الجواب.

النسبة بين هذا الضابط وسابقه

والظاهر أن النسبة بين هذا الضابط وما سبقه هو العموم من وجه؛ إذ هذا الضابط يبتني على معلومية المصلحة للمأمور من قبل، سواء كانت(3) أمراً مستقلاً عقلياً أم لا، وذاك: على كون المأمور به مستقلاً عقلياً، سواء علم المأمور بالمصلحة أو لا.

إلا أن يقال: إن (المستقل العقلي) لابد وأن تكون مصلحته معلومة للمأمور؛ وإلا لم يكن مستقلاً عقليا،ً فالنسبة هي العموم المطلق.

وفيه أن استقلال العقل بحكمٍ، أمر، وعلم المأمور بوجه المصلحة فيما حكم فيه العقل أمر آخر، ولا تلازم، إلا أن يقال بشهادة الوجدان بمعلومية المصالح فيها ولو إجمالاً وارتكازاً فتأمل.

وبذلك ظهر أن صرف هذا الضابط إلى (المستقلات العقلية) خلاف الظاهر، مع كون النسبة من وجه.

وببيان آخر: لا ريب في كون قسم من غير المستقلات العقلية معلومة المصلحة، أما في الموالي العرفية فواضح، وأما في أوامر

ص: 415


1- أي المصلحة.
2- بدعوى أن (الداعي) في المأمور موجود قبل الأمر نظراً لعلمه بالمصلحة، فإيجاد (الداعي) مرة أخرى، بالأمر، تحصيل للحاصل، وإن لم يوجده الأمر، كان لغواً.
3- المصلحة، أو حاملها.

ونواهي الشارع؛ فلمعلومية مصالح ومفاسد كثير منها للمكلفين قبل الأمر؛ لوضوحها أو لبيان كثير منها في الآيات والروايات، قبل التشريع، كما في آية تحريم الخمر.كما أن قسماً من (المستقلات العقلية) غير معلولة المصلحة لكل مكلف كما سبق، ولو رفضنا ذلك، لما سبق، وذهبنا إلى أن (النسبة)(1)، هي العموم والخصوص المطلق، فهو أيضا دليل على عدم صحة صَرْفِ هذا الضابط إلى (المستقلات العقلية).

كما يمكن للقائل بهذا الضابط أن يجعل الملاك أمراً آخر قريباً منه، وهو: (أنّ علم الآمر بعلم المأمور بالمصلحة قبل الأمر) هو الملاك، ورده يظهر مما سبق فلا نطيل.

7- المولوي: ما توقفت المصلحة على الأمر

اشارة

(المولوي): (ما كانت المصلحة فيه موقوفة على الأمر).

و (الإرشادي): (ما تكون المصلحة الداعية للأمر، حاصله في نفس الفعل ذاتاً، موجودة قبل الأمر، بمعنى أن الآتي بذلك الفعل يدرك تلك المصلحة، وإن لم يأمره به آمر، أو لم يأته بداعي الأمر).(2)

ولعل المقصود: إن كل (تعبدي) اشترط فيه قصد القربة فهو (مولوي)، فحيث أنه (قبل الأمر به) لا يعقل قصد القربة به، فالمصلحة موقوفة على الأمر، وكل (توصلي) فهو إرشادي.

ص: 416


1- أي بين (معلوم المصلحة للمأمور) و (المستقلات).
2- الأقوال 6 و 7 و 9 نقلها المحقق الرشتي في بدائع الأفكار ص266.

ويحتمل كون المقصود: أن (الأمر بالشيء) إذا أوجد مصلحة فيه، كان الأمر مولوياً، وإذا لم يوجدها بل كانت قائمة بذات المتعلق كان الأمر به إرشادياً.

وغير خفي إن هذا تصويب باطل، إلا أن يراد أن (الأمر) يوجد مصلحة إضافية في المأمور به _ وهي مثلاً مصلحة إطاعة المولى أيضاً _ إضافة للمصلحة الملزمة الواقعية وهذا تام، لكنه كالتاسع تفسير باللازم، فإن (ما أعمل المولى فيه مقام مولويته) تترتب مصلحة إضافية على إطاعته، وما لم يعمل لا مصلحة له إلا المتعلق _ فتأمل؛ إذ قد يقال إطاعة (النصح) من المولى فيه تلك المصلحة الإضافية (والتي هي تقديره واحترامه مثلاً لانتساب الأمر إليه) وقد يجاب: أن المصلحتين الإضافيتين تختلفان بالنوع أو الشدة والضعف.

ولعل الفرق بين هذا الوجه(1) وسابقه أن سابقه يجعل المدار على (العلم)(2) من غير ارتهان المصلحة بالأمر وعدمه فكلما علمت المصلحة من قبل، كان الأمر إرشادياً وإن لم تعلم كان مولوياً.

أما هذا فإنه يجعل المدار على (نفس المصلحة) وأنها متولدة من (واقع الأمر) أو من (واقع المتعلق)، فإذا تفرعت المصلحة عن (الأمر) كان مولوياً، وإذا تفرعت على (المتعلق) كان إرشادياً.

وبعبارة أخرى: يدور الوجه السابق مدار الإثبات والعلم، وهذا يدور مدار الثبوت والمصلحة، وتوقفها على الأمر أو الواقع والمتعلق، وهو ما

ص: 417


1- أي على الاحتمال الأول في تفسيره.
2- أي علم المأمور بالمصلحة.

يشهد له ما قبل قوله (بمعنى) فإنه يوحي بالتغاير وكون المدار الثبوت، لكن ما بعده، يوحي بكون المدار (العلم) (1) مما يوحي بالعينية، ولو في شق (الإرشادي)، فتأمل.

وجوه عدم تمامية هذا الضابط

لكن قد يورد عليه _ بناء على عودته للتفريق بملاك التعبدية والتوصلية _ أنه غير مطرد ولا منعكس وذلك ل:

أ- إن هذا الضابط إن تم فإنها يتم في الأوامر المولوية دون النواهي المولوية.(2)

إلا أن يقال: بأن فيها أيضاً (المفسدة) متوقفة على النهي، ولولاها لما كانت مفسدة، فتأمل.

ب- إنه غير تام، لإنتقاضه بأوامر الموالي العرفية فإنها مولوية، ولا تتوقف على قصد القربة.(3)

فإن المصلحة _ في أغراض المولى الملزمة كما لو سقط ابنه في البئر _ غير متوقفة على الأمر، ولا على قصد القربة، مع أن الأمر في مثل هذا المورد مولوي بلا شك، لكن على هذا التعريف والضابط يلزم أنه: حيث لا توقف للمصلحة على الأمر فلا (مولوية) بل هو إرشادي، وبطلانه واضح.

ص: 418


1- - إذا كان مراده من (يدرك) الإدراك والمعرفة، لا (الوصول إلى الشيء).
2- إذ ظاهر القائل: الالتزام ب(كل تعبدي فهو مولوي، لا غير) وهذا الإشكال على الحصر وعلى عقد السلب، أو يقال: لأن النواهي المولوية لا يشترط فيها قصد القربة.
3- إذ ظاهره الالتزام ب(كل توصلي فهو إرشادي، لا غير).

ج- ونقضه(1) المحقق الرشتي بلزوم كون الأوامر التوصلية(2) كلها إرشادية _ ومنها أوامر الدَّين مثلاً _ مع أنه لا يساعده اتفاقهم على كون التوصليات أوامر شرعية.

د- بل وينقض بالأمر في (التعبدي)، لو كان في مقام النصح، بأن أمره أمراً مولوياً أولاً، ثم أمره ناصحاً ثانياً، إذ المصلحة موقوفة على الأمر الأول لا الثاني، كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى (المولوي) أعم من (التعبدي) وليس مساوياً له(3)، بل النسبة (من وجهٍ)، ومادة الافتراق ما ذكر في (د)(4) فتأمل.

ووجهه: أنه لو أمره ثانياً ناصحاً (بتعبدي) فإن هذا الأمر الثاني لا يطلق عليه أنه أمر تعبدي إذ لا يشترط في سقوطه وامتثاله قصد القربة وإن اشترط في الأول، إلا أن يجاب بالاتحاد عرفاً أو دقة لاتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه _ فتأمل، وقد سبق وجهه في نظيره.

و (الإرشادي) نسبته مع التوصلي (من وجه)(5) وليس مساوياً له أيضاً.

ص: 419


1- وهو أعم مما نقضنا عليه، أو مباين لو قصد خصوص أوامر الشارع التوصلية.
2- كأمره مثلاً بتقسيم الإرث، وبالدفاع عن المظلوم، وبتسليم الثمن أو المثمن للبائع أو المشتري.
3- لشمول المولوي، للنهي المولوي مع أنه ليس تعبدياً كما سبق في ( أ ).
4- فإنه تعبدي وليس مولوياً.
5- إذ يوجد إرشادي وليس توصلياً كما لو أمره ناصحاً بالعبادات فتأمل؛ إذ يصح القول أنه توصلي إذ لا يشترط فيه قصد القربة وإن اشترط في الأمر الأول وسيأتي وجهه، كما يوجد توصلي وليس إرشادياً كما لو أمره مولوياً بنزح البئر أو أداء الدين أو ما أشبه.

8- المولوي: ما عادت المصلحة للآمر

اشارة

(المولوي): (ما عادت المصلحة للآمر) و (الإرشادي): (ما عادت للمأمور).وقد أشار إليه الميرزا الشيرازي بقوله: (ويتلوه في البطلان ما ربما يتوهم من أن الفرق: أن الطلب في الوجوب والندب إنما هو لمصلحة عائدة إلى الآمر، وفي الإرشاد إنما هو لمصلحة عائدة إلى المأمور)(1).

ولا وجه لإعادة ما نقلناه عن المحقق الرشتي من الضابط السابق إلى هذا، إلا توهم أن الضبط في تعريفه هو (الأمر) وليس (الآمر)، لكن يكذبه ما قابله به من الإرشادي هناك فتدبر.(2)

إشكالات عديدة

ويرد عليه:

أولاً: أنه قد تكون المصلحة عائدة للآمر، ومع ذلك يأمره أمراً إرشادياً؛ إذ لو طلب منه ما تعود مصلحته إليه _ أي إلى الآمر الطالب _ لكن بما هو صديق أو بلحاظ التباني _ كما ذكره الميرزا في موضع آخر _ أو حتى بلحاظ صرف الإرشاد والوعظ والنصح، فإنه إرشاد.

وبذلك ظهر: عدم تمامية كلام الميرزا في الإجابة على هذا الوجه، بقوله: (فإن الحال في الإرشاد وإن كان كذلك)(3)، إذ المصلحة في

ص: 420


1- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص22.
2- فإن المقابلة هنا هي بين (الآمر) و (المأمور) وهناك بين (الأمر) و (الفعل).
3- تقريرات المجدد الشيرازي ج2، ص26.

الإرشاد قد تعود للآمر، ومع ذلك يكون طلبه إرشادياً؛ لعدم إعماله مقام المولوية.

وثانياً: أنه قد تكون المصلحة عائدة للمأمور، ومع ذلك يأمره أمراً مولوياً، أي بما هو مولى معملاً مقام مولويته.

وبذلك يظهر صحة نقض الميرزا الشيرازي لولا أن مثاله قد يستشكل عليه، وكان الأولى أن يعلله بما ذكرناه، قال قدس سره: (إلا أن الوجوب والندب لا يلزمهما أن يكون الطلب فيهما لما ذكر، بل قد يكون لمصلحة راجعة إلى المأمور، كما إذا كان الآمر يحب وصولها إلى المأمور فيأمره بذلك)(1)، ومثاله أوامر المولى الحقيقي كلها.

لكن قد يستشكل عليه: إن (حب الآمر وصول المصلحة للمأمور) هي مصلحة عائدة له، أو فقل (تنفيذ المأمور، لما أحبه الآمر) مصلحة للآمر؛ لأنه محقق غرضه.

وقد يجاب: أنه لو تم، ولم نقل بأن المراد بالمصلحة غير مثل ذلك(2)، فإنه لا يتم في الله تعالى؛ لما ثبت بالبداهة من علم العقيدة والكلام، أن أفعاله تعالى لا تعلل بأغراض عائدة له تعالى بل لنا، فحبه تعالى لمصلحة تعود لنا، راجع لنا أيضاً(3).

ثالثاً: (مع أنه لو بني على ذلك، لزم كون أوامر الشارع بأسرها

ص: 421


1- المصدر.
2- لأنها مندكة في مصلحة المأمور، وطولية، ومقصوده بالعرض.
3- إذ ليس (حبه) ذا مصلحة نفسية له مثلاً والعياذ بالله.

إرشادية، كما لا يخفى وفساده أظهر من أن يذكر فافهم).(1)وهو تام، إلا أن يفرق القائل _ كما أشرنا إليه _ بين مثل محبة الشيء بما هو ، ويعده من ما عادت المصلحة فيه للآمر توسعاً أو يجعله قسيماً فيقول (المولوي هو ما عادت المصلحة للآمر، أو ما أمره به محبة له وإن لم تعد مصلحته له)، وبين ما يعود النفع فيه حقيقة للمأمور، فيخص الإرشادي بالثاني فلا يلزم كون أوامر الشارع كلها، إرشادية، لكنه يكون تلفيقاً من هذا الضابط ومن الضابط الثالث.

وعلى أي حال فالضابط في حد ذاته _ سواء قبل التعديل أم بعده _ محل تأمل لما سبق إيضاحه من أن المقياس: إعمال مقام المولوية وعدمه، إضافة إلى لزوم النقوض الثلاثة قبل التعديل، وغيرها بعده.(2)

9- المولوي: ما يترتب عليه الثواب والعقاب

(المولوي): هو (ما يترتب على موافقته أو مخالفته: الثواب والعقاب)،أما (الإرشادي) فبخلافه.

وهذا مما نقله المحقق الرشتي في بدائع الأفكار أيضاً، وقد ذكره الشيخ قدس سره أيضاً.

لكن يرد عليه

أولاً: ما سبق من أنه تعريف باللازم.

ص: 422


1- المصدر.
2- ببيان أنه: يلزم من هذا التعديل والتعميم، عدم وجود أمر إرشادي أبداً؛ لانطباق ضابط المولوي على أمر الصديق وعلى أمر المولى ناصحاً، لأنه مما أمر به محبه له.

ثانياً: إنكار الكبرى فإن النهي في المكروهات الشرعية، مولوي، لكن لا عقاب.

وبعبارة أخرى هذا تعريف بالأخص.

نعم لا يرد: أنه لا تلازم بين (الوجوب) وترتب الثواب أو العقاب بالفعل والترك، إذ(1) سبق أن التلازم هو بين خصوص الوجوب المعمل فيه مقام المولوية، لا الوجوب الذي أنشأه بما هو ناصح، وذلك(2) لأن المدعي أدعى التلازم بين المولوي والثواب والعقاب، لا بين مطلق الوجوب _ وإن كان غير مولوي _ والثواب.

نعم قد يورد عليه أنه لا تلازم بين (المولوي) و (استحقاق العقاب بالمخالفة أو حتى الثواب بالموافقة) نظراً لما أسلفناه من أن المولوي أعم من المولوي بالمعنى الأخص والمولوي _ النصحي أي (النصح) إذا كان صادراً من مقام المولى بما هو مولى لكن ناصحاً، ولا استحقاق للعقاب فيه على المخالفة، إلا أن يجاب بأن التلازم المدعى إنما هو بين (المولوي بالمعنى الأخص) وبين الاستحقاق.

ثالثا: ثم إنه كان الأولى بهذا الضابط أن يكون (ما يترتب على موافقته أو مخالفته، استحقاق العقاب) لا (العقاب) لأن (الاستحقاق) هو الذي يترتب دوماً دون الفعلية، ولأن (الاستحقاق) يصلح فارقاً، أما (العقاب) فلا؛ لكونه قد يرفع ب(التوبة) أو (الشفاعة) أو (التبديل)، قال تعالى: «فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»(3) فيلزم كون ما هو كذلك

ص: 423


1- تعليل ل (لا تلازم).
2- تعليل ل (لا يرد).
3- الفرقان: 70.

_ من الأوامر المولوية _ إرشادياً، رغم بداهة مولويته؛ فإن أمر الصلاة، مولوي، ولا ينقلب إرشادياً لرفع العقاب بالتوبة أو نظيرها لدى المخالفة.اللهم إلا أن يريد من (يترتب) أي شأناً، أو أن يقيد ب(بما هو)(1) لكنه يستلزم المحذور الآخر(2) وأما الأول(3) فمآله للاستحقاق.

تنبيه:

اشارة

إن (المولوي والإرشادي) يكونان من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما على بعض تلك الضوابط، ومن قبيل الضدين اللذين لهما ثالث، على بعضها الآخر، خاصة إذا لوحظ في (الإرشادي)، ما هو ظاهر لفظه من: الإرشاد إلى مصلحة في المتعلق أو ما أشبه، فليتدبر.

ص: 424


1- أي يقال: ما يترتب على مخالفته أو موافقته بما هو، أي في حد ذاته، مع قطع النظر عن الرافع.
2- وهو أن المترتب على الموافقة والمخالفة بما هو، هو: استحقاقهما، لا: (هما).
3- أي إرادة (شأناً) من (يترتب).

التحقيق: الدوران في (الضابط)، مدار (الغرض)

والتحقيق:

إنه ينبغي أن يلاحظ (الغرض) من تصنيف الأوامر والنواهي إلى الإرشادية والمولوية، فإنه سيكون الفيصل في تعريفهما والمائز بينهما، والمرجع في أحكامهما، بعد أنه لم يرد في الشرع هذان المصطلحان ليبحث عن حدودهما فيه.

وقد أوضحنا سابقاً أن ما ورد في الشرع هو بعض صيغ (الإرشاد)(1) ومادته، ولفظ (المولى) ومادته وبعض مشتقاته(2)، وليس مجموع الصفة والموصوف(3) أي المركب منهما، ثم إن ذلك الذي ورد لا يطابق الاصطلاح، إذ _ كما فصلناه في محله _ كل منهما أعم من كل من المولوي والإرشادي المصطلحين بل والإخبار أيضاً.

ص: 425


1- ك (مرشداً) و (يرشدكم) و(استرشده) و (إرشادي له) إضافة إلى (الرشاد) و (رشداً) و (رشدٌ).
2- ك: (ولي) و (الولي) و (مولاهم) و (مولاه) و (أولى) و (وليت عليه) وقد نقلنا في هذين الهامشين نص الكلمة كما وردت في القرآن الكريم أو السنة المطهرة _ فراجع ذلك البحث.
3- أي (الأمر المولوي) و (الأمر الإرشادي).

1- هل الغرض استحقاق الثواب أو العقاب؟

اشارة

فإن كان (الغرض) معرفة ما يستحق عليه الثواب أو العقاب وما لا يستحق، إنطبق على بعض الضوابط دون بعض كما سنوضحه بعد قليل.

ويرد عليه أولاً: إنه غرض كلامي

ولكن يرد عليه:

أولاً: إنه غرض كلامي(1) وليس أصولياً ولا فقهياً؛ وذلك لأن (غرض الأصولي) كشف(2) الحجة على الأحكام الشرعية،

سواء استلزمت (استحقاق العقاب) أو (العقاب) أم لا، فإن كافة الأحكام الوضعية لا استحقاق للعقاب عليها، بل لا معنى له، ك(الحرية والرقية) و (الولاية والنيابة والقضاء) و (الزوجية) وغيرها، بل وكذا (الطهارة والنجاسة) بل وكذا (الجزئية، الشرطية، المانعية والقاطعية والرافعية) وغيرها، نعم الحكم التكليفي المنتزع منها _ أو المنتزعة هي منه _ لو كان، فإن عليه استحقاق العقاب أو الثواب، لا عليها.

وعلى أي فإنه حتى على الاستلزام، فإن بحث الأصولي عنها ليس من هذه الجهة.

ص: 426


1- الباحث عن المبدأ والمعاد وأحوالهما ومنها استحقاق العقاب بمخالفته تعالى.
2- بناء على إدخال (العلم أو المعرفة أو الكشف) في غرض العلوم، وإلا كان غرضه (الحجة في الفقه) ومآله لتحصيلها أو (الاحتجاج) على الحكم الشرعي أو على المكلف وعلى مولاه، كما أوضحناه في فصل آخر، وعلى أي فإن (المعرفة) غرض طولي؛ ولذا صح أن يقال الهدف من النحو (صون اللسان عن الخطأ في المقال) فإنه غرض الغرض، وأن يقال: الغرض منه (معرفة كيفية صون اللسان من الخطأ في المقال) فإنه الغرض القريب.

وأما (غرض الفقيه) فهو معرفة الحكم الشرعي، نعم استحقاق العقاب، لازم بعض أقسامه.

وثانياً: إنه أخص من المولوي

وثانياً: إنه أخص من (المولوي) أيضاً فهو ليس طارداً للإرشادي فحسب، بل لأقسام مهمة جداً من المولوي، وذلك ككل الأحكام الوضعيةكما فصلناه في موضع آخر من الكتاب من كونها مولوية، وأجبنا عن توهم كونها إرشادية، وأوضحنا المراد من الإرشادية هناك حيث لا يراد بها ما هو قسيم المولوي _ فليلاحظ.

بل إنه طارد لأمثال حديث الرفع وقاعدة لا ضرر التي أوضحنا في بحثهما أنهما مولويان _ فليراجع.

بل إنه طارد أيضاً للمباح من التكليفية بل والمكروه منه أيضاً(1) فيستلزم ذلك حصر الفقه في الأحكام الثلاثة فقط.(2)

بل هو طارد لكل الأوامر التوصلية رغم كون بعضها مولوياً _ فتأمل.

لا يقال: إذا فرض (الغرض) ذلك، كان هو المحدد للمولوي والإرشادي فلا يصح نقضه بخروج ما لا ينطبق عليه هذه الغرض، عن المولوية؟

إذ يقال: النقض بلحاظ (إرتكازية) كون تلك مولوية، أو بلحاظ كون (بنائهم) عليها، أو ما أشبه، مما يكشف منه بالبرهان الإني، عدم تمامية

ص: 427


1- إلا أن يدرجا في (ما لا يستحق عليه العقاب) وفيه: إن (الإرشادي) كذلك أيضاً فيدخل، إلا أن يقيد ب(في ما كان من شأنه ذلك) فتأمل.
2- أو القبول بما صرنا إليه من أعمية (الفقه) من المولوي والإرشادي فتأمل.

كون (الغرض) هو ذلك.

النسبة بين هذا الغرض والضوابط التسعة

وعلى أي تقدير فإن كان الغرض هو ذلك، فإنَّ نسبته مع الضوابط التسعة هي كما يلي: فإنه غير متطابق مع:

الضابط الأول لما أشرنا إليه قبل قليل.(1)

ومع الضابط التاسع فإنه أخص؛ إذ (الاستحقاق) أعم من (الترتب)، إلا إذا أريد بالترتب الأعم من الاستحقاق، لكنه يرد عليه أنه يكون عندئذٍ تعريفاً لفظياً فإنه جعل الغرض هو الضابط، مع أن الضابط في رتبة الموضوع بل هو هو(2) والغرض معلول له ثبوتاً وكاشف عنه إثباتاً.

وأما الضابط الثاني فإن النسبة هي العموم والخصوص من وجه، إذ استحقاق العقاب يترتب على مطلق ما أعمل فيه المولى مقام مولويته، وإن كان لمصلحة الدنيا(3)، بل نقول: هناك (مولوية) ولا استحقاق للعقاب، كما في مفاد أمثال حديث الرفع ولا ضرر(4) وأما ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة لكنه بما هو ناصح لا بلحاظ مقام المولوية فإنه (إرشادي)، ولا استحقاق للعقاب بالترك.لكن قد يلتزم القائل بالضابط الثاني بالمولوية مطلقاً في كل ما كان

ص: 428


1- في (ثانياً).
2- والاختلاف بالإجمال والتفصيل لا غير.
3- وهذا على مبنانا.
4- وهذا على مبناه إذا كان ما لاحظه الشارع في ذلك هو مصلحة الآخرة لعبيده، وهذا لا شك فيه في بعض الأحكام الوضعية على الأقل.

بلحاظ الآخرة، بل نقول: هناك (إرشادي) وفيه استحقاق العقاب كما لو أمر مولوياً بما فيه مصلحة الدنيا _ فتأمل(1)، فالتعريف غير مطرد ولا منعكس.

وأما الثالث: فلا تطابق أيضاً بينه وبين (الغرض) لا سلباً ولا إيجاباً إذ لا دليل(2) على كون كل محبوب للمولى موجباً لاستحقاق الثواب، وكل مبغوض له موجباً لاستحقاق العقاب.

لكن قد يقال أنه مع قيد صدور الأمر لجهة المحبوبية والنهي لجهة المبغوضية، قد يقال بالتلازم.

لكن فيه: أنه ما دام غير معملٍ مقام مولويته فإنه لا يستلزم أمره ونهيه وإن كانا لجهة المحبوبية والمبغوضية، استحقاقاً للعقاب أو الثواب _ فإن الناصح كذلك، وكذا الأحكام الوضعية وكذا عكسه(3) فإنه قد يوجب استحقاق العقاب إذا صدر منه بما هو مولى، وإن لم يكن محبوباً له، كما ادعى إنه في صورة (التباني) كذلك فتأمل.

والحاصل أن (المولوي) منه محبوب للمولى وقد أصدر لمحبوبيته ك(التعبديات)، ومنه ما لا استحقاق للعقاب عليه (كبعض التوصليات بل كلها على رأي).

و (الإرشادي) الاول منه: قسم منه فيه الاستحقاق، كالعدل والتوبة

ص: 429


1- لخروجه عن المبنى وللخلط في بعض الصور.
2- هذا الإشكال مبنائي كما لا يخفى.
3- أي ليس كل ما ليس محبوباً للمولى، فإن مخالفة أمره لا توجب استحقاق العقاب إلا أن يعمم كما سبق للمحبوب حتى بعد الكسر والانكسار.

وأمر الإطاعة على بعض الآراء، والثاني منه: ما لا استحقاق وهو واضح.

وقد يقال: (كل ما كان محبوباً للمولى وقد أمر به لذلك) لا يستلزم مخالفته استحقاق العقاب، كالأحكام الوضعية وكالتوصليات، و (كل ما لم يكن محبوباً) أو أمر به لا لمحبوبيته، بل لجهة أخرى، قد يستحق على مخالفته العقاب كصورة التباني أو الإتفاق وكالأمر الإمتحاني وما كان لتقية _ فتأمل.

وأما الرابع: فقد سبق أنه ليس كل ما لم يلزم منه التسلسل وسائر المحاذير، مما يترتب عليه استحقاق للعقاب، نعم ما لزم منه التسلسل وشبهه فليس مولوياً، وإن استحق عليه العقاب كأمر (العدل) فتأمل.

وعلى أي ف(المولوي) قد يستحق عليه العقاب وقد لا يستحق (كأمر الصلاة وأمر إزالة الخبث) و (الإرشادي) كذلك.

وأما الخامس: فإن (المستقلات العقلية) مما يستحق عليها الثواب والعقاب _ على رأي، رغم أنها على التعريف الخامس إرشادية.

كما أن بعض (المولوي) من غير المستقلات لا يستحق عليه العقاب، كالأحكام الوضعية والمكروه والمباح.

وبتعبير آخر: (المستقلات العقلية) قد يكون الأمر بها مولوياً وقد يكون إرشادياً على رأي، وقد يستحق عليها العقاب وأحياناً: لا، وكذا (غيرها) فالنسبة، من وجه.

وأما بناءً: فيلزم كون كل المستقلات العقلية غير مولوية، فهي (إرشادية) ضابطاً وغرضاً، إلا لو قيل باستحقاق العقاب عليها

ص: 430

وإن كان لا للأمر الشرعي بل للعقلي.وأما كون غيرها ماذا؟ فهذا الضابط ساكت عنه فلو أوكله للسان الدليل، فبها، وإلا لو ارتأى(1) كون مطلق ما عداها مولوياً، لزمه استحقاق العقاب على التوصلي أيضاً أو المكروه وما أشبه.

أما السادس: فإنه يلزم منه كون كثير من الأوامر المولوية، إرشادية، لكن يستحق العقاب عليها نظراً لعلم المأمور بالمصلحة فيها إذا علم بها من قبل كالصلاة؛ فإنها معلوم _ قبل التشريع _ كونها قربان كل تقي ومقرِّبة لله تعالى، بل ذلك بديهي، وكونها تنهى _ اقتضاءً _ عن الفحشاء والمنكر.

وبالعكس بأن يمثل بما جهلت مصلحته من التكليفيات _ كالمستحبات والمكروهات _ والوضعيات، فإنها مولوية على هذا الضابط لكن لا استحقاق للعقاب.

أو يقال: إن ما لم تكن المصلحة فيه معلومة للمأمور قبل الأمر، قد يكون إرشادياً أي لا استحقاق للعقاب عليه، كما إذا أمر ناصحاً بما تجهل حكمته، مع أنه حسب هذا الضابط (مولوي) لكن لا يترتب عليه استحقاق العقاب فهذا التعريف أيضاً غير مطرد ولا منعكس، والنسبة: من وجه.

وأما مادة الجمع للمولوي _ على هذا _ المستحق عليه العقاب فهو مثل أمر سجدتي السهو أو أمر صوم خصوص شهر رمضان، على فرض جهل وجهه.

ص: 431


1- وهو بعيد.

أما السابع: فإنه يرد عليه: أن العاصي يستحق العقاب بمخالفة الأمر المولوي تعبدياً كان أو توصلياً، ولا يستحقه بمخالفة الأمر الإرشادي تعبدياً كان أو توصلياً فتأمل، فإنه إشكال مبنائي، إضافة إلى ما قلناه من (العقاب) على بعض الإرشادي _ كأمر الطاعة والعدل _ على رأي.

وأما بناء (فإن ما توقفت المصلحة فيه على الأمر) مولوي على هذا الضابط، لكنه قد لا يستحق عليه العقاب فلا ينطبق عليه (الغرض) وذلك كالأمر الإمتحاني أو الأمر الصادر تقية أو ذو البداء.

(وما لم تتوقف) إرشادي على هذا، لكنه قد يستحق عليه العقاب كبعض أوامر التوصليات على رأي.

وأما الثامن: فهو كذلك غير مطرد ولا منعكس، إذ (ما تعود المصلحة فيه للآمر) قد لا يستوجب استحقاق العقاب، لكونه ناصحاً بما يعود نفعه إليه _ إلى إلى الآمر _ مع أنه على هذا الضابط مولوي.

و (ما تعود المصلحة فيه للمأمور) قد يستوجب استحقاق العقاب، كأمر الصلاة والصوم، مع أنه على هذا الضابط: (إرشادي)، فلا يستوجبه، فالنسبة بين ذلك الغرض وهذا الضابط: العموم والخصوص من وجه أيضاً.

2- أم الغرض: الحجة على الحكم الشرعي؟

اشارة

وإن كان الغرض هو معرفة الحجة على (الحكم الشرعي) _ من وجوب وحرمة وغيرهما _ وما هي (وظيفة المكلف) مع قطع النظر عن الاستحقاق للعقاب والثواب _ كما هو مطمح نظر الأصولي _ فكل

ص: 432

ما هو (حجة على الحكم الشرعي) فمولوي، كان الضابط الأول غير متطابق أيضاً:

التطابق وعدمه بناء على التعاريف السبعة ل(الحكم)

وذلك إن عرفنا (الحكم) بأنه (مطلق الإلزام) _ بناء على أن لا إلزام في الإرشادي _ أو (خصوص الأحكام الخمسة) دون (الوضعية)؛ فإن ضابط المولوية الأول ينطبق على(الوضعية) وعلى الاستحباب والكراهة، مع عدم انطباق (الغرض) فلا تطابق، نعم بناء على الشمول (للوضعية) فهما متطابقان.

وأما على تعريف الحكم بأنه (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) فإن الإرشادي كذلك، لكنه لا ينطبق عليه الضابط الأول.

وكذا ليس بتام على التعاريف الأخرى للحكم من أنه (الاعتبار الشرعي المسبوق بالطلب والإرادة) أو (طلب الفعل أو الترك مع الإلزام أو بدونه) أو (المحمولات الشرعية) فإنها بأجمعها تنطبق على الإرشادي(1) وهذا الضابط يطردها، فليس تاماً لعدم مطابقته للغرض، إلا لو ادعي انصراف هذه التعاريف، لكنه غير مجد في مقام التعريف والضابط، فإنه لابد في هذا المقام من التحديد والتقييد، كما أن الدليل على العموم والشمول، كما بيناه في مكان آخر.

ص: 433


1- فإن الإيجاب نصحاً (اعتبار شرعي) وكذا (الدعوة أيضاً)، كما أن (الإيجاب مولوياً) اعتبار شرعي بالمعنى الأخص، وفي (الإرشاد) طلب للفعل أو الترك، كما أن مفاد الأمر الإرشادي (محمول شرعي) كما هو مفاد الأمر المولوي وقد فصلناه في مكان آخر فليلاحظ.

كما أنه ليس بتام إذا عرف ب (مطلق الإلزام) بناء على مسلك الشيخ القائل بانقسام الإرشادي إلى الواجب والمندوب _ وإن كان دون استحقاق للعقاب في أولهما أيضاً، ولذا لم نستثن فيما إذا كان الغرض ذلك(1) فإنه إضافة لورود النقضين السابقين(2) يرد النقض بالأمر الإرشادي الوجوبي، لكن باتجاه معاكس فتدبر، إلا لو قيل بانصراف (الإلزام) إلى غير الوجوب الإرشادي، وقد سبق جوابه.

والحاصل: إن الغرض لو كان (الحجة على الحكم) وعرفنا الحكم بأحد التعاريف الأخيرة، لكانت الأوامر الإرشادية كالمولوية، محققة للغرض تماماً، فلم يكن من الصحيح اعتبارها أجنبية عن (الأصول) واعتبار (أحكامها) أجنبية عن (الفقه) وإبعادها عنه، وكان هذا الضابط الأول غير تام لأنه تعريف بالأخص.

وأما الضابط الثاني:(3) فإنه غير متطابق مع هذا (الغرض) على التعريفين الأولين للحكم؛ لكونه(4) أعم من الغرض(5) فإن (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة) يشمل (الوضعي) و (الاستحباب والكراهة) كما يشمل الإرشادي أيضاً، سواء قلنا بأنه قسيم للطلب أم قلنا بأنه قسم منه، وسواء قلنا بأنه منقسم للوجوب والندب أم أنه قسيم للأخير فقط.

ص: 434


1- أي إذا كان الغرض: استحقاق العقاب وعدمه، و (لم نستثنِ) أي هناك، بالقول (إلا على مسلك الشيخ).
2- ب(الوضعية) و (بالاستحباب والكراهة).
3- وهو (المولوي) ما أنشأ بلحاظ مصلحة الآخرة.
4- أي هذا الضابط.
5- فإن الغرض (الحجة على الحكم الشرعي) المقصود به خصوص التكليفية الخمسة أو الإلزام _ مع الالتزام بعدم وجوده في الإرشاد _.

نعم على التعريف الثالث(1) ينقض بهما فقط، دون (الوضعي)، أو بأحدهما فقط فتدبر.وأما على التعاريف الأخيرة للحكم فغير تام لكونه أخص منه؛ إذ الغرض هو (الحجة على الحكم الشرعي) أي (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) مثلاً وهذا أعم من الضابط؛ فإن الخطاب الإلهي المتعلق بأفعالهم قد يكون لمصلحة الدنيا فيكون إرشادياً على الضابط الثاني، لكنه مولوي بناء على تعميم (الغرض)، ويلزمه طرده عن ساحة مطمح نظر الأصولي، مع أنه منه لانطباق الغرض عليه، وكونه ليس (مولوياً) بحسب هذا الاصطلاح، غير ضار؛ إذ هذا الاصطلاح وهذا التقسيم لا وقع له ولا فائدة فيه بعد أجنبيته عن الغرض، هذا.

وأما الضابط الثالث فإنه ليس بتامٍ على التعاريف الثلاثة الأولى ل(الحكم)؛ إذ (الغرض) هو: (الحجة على الحكم الشرعي) المراد به الأحكام الخمسة، أو مع الوضعية، أو الإلزام مع الإلتزام بعدم وجوده في الإرشادي، لكن مقياس (المحبوب الصادر أمره لأنه محبوب) أعم؛ إذ يشمل غيره أيضاً؛ إذ المأمور به بالأمر الإرشادي أيضاً محبوب صادر أمره لأجل محبوبيته.

وأما على التعاريف الأخيرة ل(الحكم) فإن هذا الضابط الثالث أخص من الغرض(2) فلا وجه له.

ويعرف حال بقية الضوابط في نسبتها لهذا الغرض مما ذكرناه.

ص: 435


1- أي الشامل للحكم الوضعي.
2- لإنطباق الغرض أي (الحجة على الحكم الشرعي) أي (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين) على الإرشادي أيضاً.

فإن بالتدبر فيما سبق، يظهر الحال في مدى تطابق (الضوابط) السبعة الأخيرة مع (الغرض) بتفاسيره السبعة الآنفة؛ فإن الضابط التاسع مثلاً كالضابط الأول في كونه أخص على التفاسير الأربعة الأخيرة وحال الثلاثة الأولى مختلف(1) _ فتأمل جيداً.

3- أغراض أخرى

اشارة

هذا كله لو كان الغرض(2) هو ما سبق.(3)

وأما لو كان الغرض غيرهما ك:

تحصيل وإحراز القرب لله تعالى، أو محبته جل اسمه، أو الحصول على المصلحة الدنيوية أو الأخروية أو هما معاً وكذا (السعادة) في الدنيا أو الآخرة أو هما معاً.

فمع قطع النظر عن كونها أغراضاً كلامية أو أخلاقية، وليست فقهية ولا أصولية، فإنها وإن كانت أغراضاً للفقيه والأصولي، لكنها أغراض طولية بعيدة وليست غرضاً قريباً له، وبما هو فقيه وأصولي، فما ذكره السيد بحر العلوم من:

(موضوعه فعل مكلفينا ** غايته الفوز بعلّيينا)

ينبغي أن يقصد به (غايته البعيدة) و (المقصود الأسمى) لا القريبة،

ص: 436


1- إذ في بعضها، الضابط أعم، فلاحظ.
2- أي من تقسيم الأوامر والنواهي إلى المولوية والإرشادية، ومعرفة أي نوع هي؟
3- من (ما يستحق عليه الثواب والعقاب) وعدمه، ومن (الحجة على الحكم الشرعي).

وإلا لما تمايزت كثير من العلوم المشتركة في هذا الغرض(1)، به(2) مع أن تمايز العلوم بالأغراض.

النسبة بين هذه الأغراض، والمولوي والإرشادي

فإن(3) الثلاثة الأولى عامة شاملة لموارد الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية، دون الأخير فإن بينه وبينهما(4) عموماً من وجه.

فإن الأولين(5): نسبة كل منهما مع (المولوي) هي (العموم والخصوص من وجه) إذ ليس كل مولوي موجباً للقرب إليه تعالى ومحبته، بل خصوص التعبدي منه، دون التوصلي(6)، إلا لو قصد به القربة لكنه أمر خارج وأجنبي عن خصوص علقة المولوي بهما.

وأما مادة الإفتراق: من الجهة الأخرى، فلأنه ليس كل موجب للقرب أو المحبة، مولوياً أي مأموراً به بالأمر المولوي، وذلك كمحقق غرض المولى من غير أمر، إما لغفلته _ في الموالي العرفية _ كما لو سقط ابن المولى في البئر بدون علمه، أو لوجود مانع عن الأمر به أو النهي عنه رغم وجود غرضه، كما في صدر الإسلام وتدريجية نزول الأحكام، أو لمانع كالاستحالة، كما فيما يلزم من الأمر به مولوياً، المحال؛ كما قالوه

ص: 437


1- كعلم الأصول وعلم الكلام وعلم الدراية وعلم الرجال وعلم التاريخ والسيرة والتفسير وغير ذلك.
2- أي بالغرض.
3- هذا جواب (وأما لو كان الغرض غيرهما... فمع قطع النظر عن كونها..).
4- أي الأوامر المولوية والإرشادية (ومثلها النواهي).
5- يراد بهما (القرب) و (المحبة).
6- كغسل اليد من النجاسة.

في المستقلات العقلية، فإن عدم تعلق الأمر بها لا يمنع كونها موجبة لقربه ومحبته، بل إن المأمور به بالأمر الإرشادي أيضاً قد يكون موجباً للقرب إليه ومحبته، فالنسبة هي (من وجه).

وأما (الإرشادي) فإن نسبتهما إليه هي العموم والخصوص من وجه أيضاً.

فإن بعض المقرب أو المحبوب إرشادي، وهذه مادة الإجتماع، كغسل الجمعة على رأي وككل المستقلات العقلية (كالعدل وحفظ الأمانة والتوبة) على رأي مشهور، بل وككل (النصائح) و (المواعظ) الصادرة من الشارع.

وبعض الإرشادي غير مقرب: كما فيما لوحظت مصلحته صرفاً وكانت المصلحة أو المفسدة دنيوية محضة.

كما أن بعض المقرب، غير إرشادي، كالتعبديات، وذلك كله يختلف حسب الضوابط التسعة فلاحظ وتدبر.

وأما الثالث: فإن النسبة بينه وبين (المولوي) تختلف، لو أريد به أي من السعادتين، عما لو أريد خصوص سعادة (الآخرة) أو (الدنيا) بناء على كل ضابط ضابط من الضوابط التسعة، ويعرف الحال في جميع ذلك من التدبر فيما ذكرناه آنفاً والله المسدد الهادي وهو المستعان.

ص: 438

شمول بحث (المولوية) و (الضوابط) للأحكام الفطرية والعقلائية

إن البحث عن (المولوية) و (الإرشادية) في المستقلات العقلية من حيث الإمكان وعدمه، جار بعينه في الأحكام الفطرية، وذلك لأن الأدلة التي سيقت للطرفين، في المستقلات العقلية، بعينها جارية في الأحكام الفطرية والعقلائية، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مكان آخر.

وكذلك الضوابط التسع، فإنها جارية فيها، فمن ذهب إلى استحالةٍ ذاتيةٍ أو وقوعيةٍ لكون الأوامر مولوية في مواطن المستقلات العقلية، نظراً للزوم التسلسل أو تحصيل الحاصل، منالمحالات الذاتية أو اللغوية أو تعدد العقاب أو تعدد استحقاقه _ من المحاذير الوقوعية، بلحاظ الحكمة، أو منافاة ما علم ضرورة من الدين _ في أمر الإطاعة أو التوبة مثلاً كما فصلناه والجواب عنه في مباحث الأصول، كتاب الملازمة بين حكم العقل والشرع، وكما بحثناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) _ لا مناص له من أن يذهب إلى استحالة كون الأوامر مولوية في موارد الأحكام الفطرية والعقلائية.

ولذلك كان لابد أن يعمم مورد البحث والخلاف والنقاش للأقسام الثلاثة الأخرى من الأوامر والنواهي جميعاً (أي المتعلقة بالأحكام الفطرية، والعقلائية، بل والشرعية، فيما لو أمر بها ثانياً _ كما أشرنا له في (فقه التعاون) و (مباحث الأصول) _ فليراجع.

الثمرة

وتظهر الثمرة ليس في الوجوب والحرمة شرعاً واستحقاق العقاب كذلك، وعدمها فقط، بل فيما علم من الخارج أنه ليس بإلزامي أيضاً،

ص: 439

فإن ثمرة الذهاب (للمولوية): (استحقاق الثواب)، دون ما لو صرنا (للإرشاد) في مثل (الصفح الجميل) المعلوم عدم وجوبه، من الارتكاز ولسان الأدلة والإجماع وسائر الأدلة، بعد عدم حكم الفطرة أو العقل بأكثر من الحسن والرجحان لا إلى حد المنع من نقيضه.

كما تظهر الثمرة أيضاً في (استحقاق العتاب) في (المكروه).

موارد الابتلاء بمبحث الإرشادية والمولوية كثيرة جداً وهامة

وقد ظهر مما سبق: أن موارد الابتلاء في مبحث (الإرشادية والمولوية) ليست بالقليلة، بل هي كثيرة جداً وهامة جداً.

فإن المستقلات العقلية _ وهي مورد النزاع والنقاش أيضاً _ كثيرة جداً من حيث الأنواع(1) وإن جمعها جامع اعتباري أو انتزاعي وهو التحسين والتقبيح العقليان(2) بل وإن قيل بكونهما جنساً أو جنساً عالياً(3) كما فصلنا ذلك في محله.

ومثلها أيضاً الأحكام الفطرية فإنها كثيرة جداً.

وكذلك الأحكام العقلائية، فإنها كثيرة جداً أيضاً.

ص: 440


1- وقد أشرنا للكثير منها في مطاوي هذا الكتاب، وربما بلغت الخمسين حكماً من الأحكام التي استقل بها العقل أو أكثر، وهي بأجمعها من أهم الأحكام على الإطلاق.
2- فإنها جميعاً مما حسّنه العقل أو قبّحه.
3- لكنه جامع محمولي اعتباري او انتزاعي وليس موضوعياً فهو كالقول بأن كل الأحكام الشرعية يجمعها جامع واحد هو (الوجوب أو الحرمة) فإنه لا يقتضي إندراج موضوعاتها تحت جامع جنسي واحد إلا على القول الباطل من تعميم قاعدة (الواحد) وأنه لا يصدر منه إلا الواحد ولا يؤثر إلا في الواحد، وإن وحدة المحمول تكشف عن وحدة الموضوع الذاتية _ فتأمل، نعم قد يقال بكون (الحسن) و (القبح) ثبوتاً ذاتياً لكل ما حسنه أو قبحه العقل، بذاتي باب البرهان.

بل إن مبحث (المولوية والإرشادية) لا يقتصر على ما ذكر من موارد حكم العقل أو الفطرة أو العقلاء، بل إنه يشمل المئات _ ولعل الألوف _ من الأوامر أو الأحكام الواردة في لسان الشرع مما لا حكم للعقل أو الفطرة أو العقلاء بها، لقصورهم عن إدراك واقعها وجهاتها والمصلحة أو المفسدة فيها _ مما يحتمل كونها مولوية (قد أعمل الشارع مقامه فيها)_ حسب الضابط الأول، أو (كانت محبوبة له) _ حسب الضابط الثاني _ بل حتى (كانت مصلحته أخروية) _ حسب الضابط الثاني _ ومما (لم تكن من المستقلات العقلية) _ حسب الضابط الخامس _.

وقد أشرنا في هذا الكتاب للعشرات من الأمثلة على ذلك في شتى الأبواب.(1)

ظهور الفرق على المباني التسعة في (فاحتط لدينك)

ويتضح الفرق _ على المباني التسعة _ أكثر بملاحظة أدلة (الاحتياط) _ إضافة إلى قاعدة (لا ضرر) _ فوجوب الاحتياط المستفاد من (فاحتط لدينك) أو الآيات الشريفة المشار إليها آنفاً، على (الضابط الأول) يمكن كونه _ ثبوتاً _ مولوياً، كما يمكن كونه إرشادياً، على تفصيل ذكرنا بعضه في بحث (الاحتياط) فليلاحظ، ولعلنا نكمله في الجزء الثاني إذا شاء الله تعالى، عند التطرق لرأي المحقق العراقي وما لدينا عليه من تحفظات.

ص: 441


1- وذلك ككثير من الأوامر والنواهي والأحكام، الواردة في الشؤون الاقتصادية والمالية والتجارية، وككثير من الأوامر والنواهي والأحكام الواردة في الشؤون الطبية والصحية، وككثير من الأوامر والنواهي والأحكام، الواردة في الشؤون الشخصية والمعاشية.. وغيرها.

أما إثباتاً فالأمر موقوف على ملاحظة لسان الدليل والقرائن، وأنه أمر بالاحتياط بما هو مولى تشريعاً، أو بما هو مولى ناصحاً، أو بما هو مرشد ناصحاً موجباً أو نادباً(1)، فهل سبق (أخوك دينك) يفيد الإرشاد، بدعوى أن كليّ التعليل يفيده؟ أو أن خصوص تمهيد تقديم عنوان (الأخوة) هو المفيد لذلك أم لا؟

والظاهر أن أمره به بما هو مولى مشرّعاً، وأن وجوب الاحتياط في الجملة(2) مولوي غيري وإن احتملت نفسيته، وسنفصل الحديث عن النفسية والغيرية في الجزء الثاني بإذن الله تعالى، كما فصلنا الحديث عن (الأصل) وأنه المولوية أو الإرشادية، في موضع آخر، وعن أن التعليل ليس دليل الإرشاد في موضع ثالث وفي (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي مباحث الأصول.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى ما ذكره السيد الوالد في الأصول قال:

(ثم إن أوامر الاحتياط، كسائر الأوامر الواردة عنه سبحانه، أو عنهم عليهم الصلاة والسلام، كلها مولوية، إلا ما علم بخروجه... وتقسيمها إليها وإلى الإرشادية، فلا يترتب عليها سوى ما كان العقل مستقلاً به، من حسن الإنقياد، واستيفاء الواقع بدون الاستحباب؛ فلا تصح نيته، فيه، في موارد الطرق والأمارات والأصول، غير ظاهر الوجه، وإن ذكره جمع... وبذلك ظهر صحة قصد الاستحباب في موارد الاحتياط..).(3)

ص: 442


1- فصلنا الحديث عن هذه الاحتمالات الأربعة في موضع آخر.
2- أي في خصوص ما كان في أطراف العلم الإجمالي، أو كان من قبيل العنوان والمحصل، أما غيرهما فهو مندوب.
3- الأصول: ج2، ص165- 166، أواخر الجزء السادس في الطبعة الأولى.

أما على الضابط الثاني فهو مولوي بلحاظ (دينك)، وظهور كون (الدين) في إنه بما هو دين قد شرع لمصلحة الآخرة.لا يقال: إنه للمصلحتين؛ لأن الشارع في حكمة تشريعه الأحكام، لاحظ كلتا جهتي المصلحة والمفسدة الدنيوية والأخروية، إجمالاً، بل قد يدعى اجتماع الجهتين في كل حكم حكم.

ويمكن الاستناد في الكلي أو الكلية إلى قوله تعالى «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة»(1) و «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم»(2) و «ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(3) وغيرها وللتفصيل مجال آخر.

إذ يقال: كونه لهما غير ضار، بل يقال: بالأصل(4) والغلبة(5) والشأن(6) بل حتى ظهور مادة (دين) في ما دان الله به عباده لشؤون الآخرة _ فتأمل.

أما الضابط الثالث فكالأول، إذ توجد كلتا جهتي (المصلحة) و (المحبوبية) في متعلقات الأحكام وفي (الاحتياط)، وكذا جهتا (المبغوضية) و (المفسدة)

أ- فإن (متعلقات الأحكام) محبوبه أو مبغوضه للمولى و (الاحتياط)

ص: 443


1- البقرة: 202.
2- الأعراف: 157.
3- الأنبياء: 107.
4- بمعنى (الراجح).
5- فإن الأغلب في تشريعات الشارع لحاظ مصلحة الآخرة.
6- فإن شأن الشارع بما هو شارع شؤون الآخرة _ وقد ناقشنا ذلك في موضع آخر.

فيها كذلك(1) سواء كان(2) لمصلحة أو مفسدة أخروية أم دنيوية فيها أو فيه(3)؛ فإن كل ما يعود للمكلف مما هو لصالحه دنياً أو ديناً وآخرةً فهو محبوب للمولى، وعكسه المبغوض له، فإنه «أرحم الراحمين»(4) و «رؤوف رحيم»(5) و «يريد الله بكم اليسر»(6) و «ما سألتكم من أجر فهو لكم»(7) وغيرها مما يستظهر منه كون كل ما هو لصالح العباد محبوباً لله تعالى مطلوباً له، وتفصيله في محله.

ب- كما أنها(8) ذات مصلحة أو مفسدة، للمكلف، كما أنه كذلك.(9)وعلى ذلك فإن أمره بالاحتياط قد يكون (لمحبوبية متعلقاته) أو ما يوصل له، للمولى، وقد يكون (لمحبوبيته ذاتاً) له، فيكون مولوياً _ حسب هذا الضابط _ إلا أن الفرق في مولويته النفسية أو الغيرية، وقد يكون (للمصلحة) في متعلقاته، أو فيه، كما أن أمره يمكن كونه قد سيق للنصح لها، فيكون إرشادياً.

فاللازم ملاحظة الأدلة في عالم الإثبات، فقد يستظهر من قوله عليه السلام

ص: 444


1- والبحث إنما هو في حسنه الذاتي أو تبعاً.
2- أي الأمر والنهي.
3- أي في (متعلقات الأحكام) أو (في الاحتياط).
4- يوسف: 64.
5- النور: 20.
6- البقرة: 185.
7- سبأ: 47.
8- أي متعلقات الأحكام.
9- أي كما أن الاحتياط ذا مصلحة أو مفسدة، وذلك بناء على المصلحة السلوكية فيه.

(أخوك دينك) وعنوان (الأخوة) أنه لسان مراعاة مصلحة المكلف مثلاً فهو إرشاد، أو يستظهر المولوية بلحاظ مادة (دينك) الظاهرة في كونها مطلوبة للمولى محبوبه له ... وهكذا.

أما على الضابط الرابع: فقد يقال: بإرشادية أمر الاحتياط بدعوى حصول محاذير تحصيل الحاصل أو اللغوية أو تعدد العقوبة مما فصلنا الحديث عنها وعن أجوبتها في فقه التعاون وفي مباحث الأصول وسيكون لها مزيد تتمة في الجزء الثاني من هذا الكتاب بإذن الله تعالى.

لكن قد يفصل على حسب المحاذير؛ فإنه بناء على محذور لزوم (تعدد العقاب) أو (تعدد استحقاقه)، من المولوية، فإن أوامر الاحتياط إرشادية لجريانه(1) فيها.

إلا أن يجاب بما أجبنا به عن ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) من النقاش صغرى وكبرى(2)، فليراجع.

أما بناء على كون المحذور (تحصيل الحاصل)، فإنه غير جار؛ إذ الأمر بالاحتياط لإيجاد داع الجمع بين المحتملين مثلاً، والأمر بالعنوان الواقعي كان لإيجاد الداعي له.

إضافة إلى ما أجبنا به في مباحث الأصول من أن (الداعي) حقيقة تشكيكية، فالأمر الجديد المولوي يوجد الرتبة الأشد منه، فلا تحصيل

ص: 445


1- أي محذور تعدد العقاب، فإنه لو كان أمر الاحتياط مولوياً، لزم عقابان على مخالفة الواقع بعدم الاحتياط في الوصول إليه.
2- (صغرى) بعدم لزوم ترتب عقابين حتى لو كان الأمر مولوياً، و (كبرى) بالالتزام بترتب عقابين، ولا محذور فيه، إلا توهم الإجماع أو الضرورة وقد أجبنا عنها هنالك.

للحاصل؛ إذ الداعي قد يكون ضعيفاً غير كافٍ في التحريك، أو يقال: إن الأمر المولوي بالاحتياط أو بالإطاعة _ في بابها _ سيكون جزء العلة الأخير، للتحريك، إلى غير ذلك من الأجوبة التي فصلناها هنالك مع ما يرد عليها من الأجوبة.

وبه يظهر اندفاع محذور اللغوية.

أما التسلسل فلا يلزم من مولوية أمر (الاحتياط) وإن قيل بلزومه من مولوية أمر (الإطاعة) وأمر التوبة فليتأمل، إذ قد يدعى لزومه ببيان: أن الأمر بالاحتياط لو كان مولوياً، لزم الاحتياط في امتثاله أيضاً فيكون الأمر بالأمر بالاحتياط مولوياً أيضاً، وهكذا، وفيه ما لا يخفى وأجوبتنا في بابي الإطاعة والتوبة جارية هنا أيضاً.

وأما على الضابط الخامس: فالامر بالاحتياط (إرشادي)؛ لأن الاحتياط مما استقل به العقل، فيكون الأمر به إرشادياً، وقد سبق تفصيله والنقاش مبنائياً فيه.

وأما على الضابط السادس: فإن أمر الاحتياط قد يقال بكونه إرشادياً أيضاً؛ لأن المصلحة فيه معلومة للمأمور قبل الأمر، لوضوح أن مصلحته إحراز الواقع وتحصيل مرادات المولى، اللهم إلا أن يراد (معلومية المصلحة بالخصوص) فيمكن على هذا كون أمر الاحتياط مولوياً، وفيه ما لا يخفى بناء، ومبنى.أما السابع: فقد يقال: بأن أمر الاحتياط، بناء عليه، إرشادي؛ إذ لا تتوقف مصلحة الاحتياط على الأمر به، لأنها هي (إحراز الواقع) وهي متحققة أمر به أم لا.

ص: 446

اللهم إلا على كون مراده التفصيل بالتعبدية والتوصلية(1)، فإن مفاد (احتط): هو (الإتيان بقصد القربة) فيما احتمل فيه ذلك، فيكون مولوياً فيما أحرز كون متعلقه من التعبديات وتردد مصداقه بين هذا وذاك، وإلا فإرشادي، إلا لو أشكل عليه بعدم إمكان قصد القربة في المردد وتفصيله في بابه.

لكن لا دلالة له(2) على كون نفس (الاحتياط) تعبدياً، وأمره مولوياً.

والحاصل أنه على هذا يكون أمر الاحتياط المتعلق بالتعبديات، مولوياً، والمتعلق بالتوصليات، إرشادياً.

أما الثامن: فإن أمر الاحتياط، بناء عليه، في مولى الموالي، إرشادي مطلقاً لعدم عود المصلحة إليه، بوجهٍ.

وأما في الموالي العرفية، فإن الحال يختلف فإن كان أمره به(3) بلحاظ مصلحة عائدة له إذا أدى العبد (المتعلَّق) كان مولوياً، وإلا كان إرشادياً. وغير خفي الإشكال المبنائي على هذا القول ولزوم كون أوامر الله تعالى كلها، إرشادية، واستحالة الأمر والنهي المولوي في حقه.

وأما بناء على الضابط التاسع: فإن المرجع ظاهر لسان أوامر الاحتياط وقرائن المقام، فإن دلت على الثواب بالاحتياط والعقاب بالترك، كان أمره مولوياً وإلا فإرشادياً، بعد كون مقام الثبوت محتملاً للأمرين إلا على ما ذهب إليه البعض في الأمر المتوجه للمقدمة _ بعد

ص: 447


1- فكل تعبدي مولوي، وكل توصلي إرشادي.
2- أي لنفس أمر (أحتط لدينك) بذاته.
3- أي أمر المولى العرفي (به) أي بالاحتياط.

فرض عدم حسن ذاتي للاحتياط في نفسه ولا مصلحة سلوكية _ من عدم استحقاق ثواب عليها ولا عقاب على تركها؛ لجريان نفس الوجوه في المقام _ وقد فصلناه في (مباحث الأصول) والجواب عنه هناك _ إذ على هذا الرأي في المقدمة، وأنه حتى لو تعلق بها أمر أو نهي صريح شرعي فإنه لا ثواب عليه ولا عقاب، كما ذكره الآخوند في عدم العقاب والثواب على الغيري إلا من باب الأحمزية أو التفضل، فراجع كلامه في مقدمة الواجب _ أقول: على هذا الرأي في المقدمة يكون أمر الاحتياط (إرشادياً) لا محالة.

شمول البحث في المولوية والإرشادية لكل ما وضعُه ورفعُه بيد الشارع

وبما سبق كله ظهر أن الأولى التعميم، والتعبير ب(الأوامر والنواهي ومطلق الأحكام(1) وإن لم تكن من مؤدياتها(2) ومطلق ما جعله الشارع أو رفعه) قد تكون مولوية أو إرشادية.

فإن (لا ضرر ولا ضرار).

و (رفع ما لا يعلمون) و «أحل الله البيع».

وغيرها...ليست من الأوامر والنواهي على عدد من الأقوال،أو مطلقاً(3)، كما فصلناه في هذا الكتاب عند التطرق لتلك العناوين الثلاثة.(4)

ص: 448


1- المراد: مطلق الأحكام الوضعية إضافة للتكليفية.
2- بأن (أخبر عنها) إذ قد يكون بإخباره منشِأ وقد يكون مرشداً.
3- (أو مطلقاً) إشارة للأخيرين أي (رفع) و (أحل).
4- أي عنوان (لا ضرر) و (رفع) و (أحل).

ونشير هنا: أنه ليس (لا ضرر) نهياً على عدد من الأقوال.(1)

فإنه قد يقال: بكونه نفياً للحكم بلسان نفي موضوعه فهو ك(لا ربا بين الوالد والولد) كما ذهب إليه الآخوند.

وقد يقال: بأن المراد به نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر أي نفي الحكم الضرري كما ذهب إليه الشيخ.

وقد يقال: بأن المراد نفي الضرر غير المتدارك.

وعلى كل هذه الأقوال فإنه (حكم) قد (رفع) مولوياً، كما هو الظاهر، ويحتمل كونه إرشاداً إلى ذلك، وعلى أي فإن البحث عن مطلق ما وضعه ورفعه بيد الشارع، وعن كونها مولوية أو إرشادية؟ وعن الأقوال التسعة في (الضابط) لها، جارية فيها حذو القذة بالقذة _ فتدبر.

ص: 449


1- لا على القول بكون (لا ضرر) نفياً أريد به النهي ك(لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) كما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني.

ص: 450

المبحث الثامن: لا اختصاص للبحث بالمستقلات العقلية بل يشمل الفطرية وغيرها

اشارة

ص: 451

ص: 452

ذكرنا في مواضع من الكتاب: أنه لا يختص البحث والنقاش عن إرشادية الأوامر والنواهي أو مولويتها، بمباحث المستقلات العقلية، ونظائرها مما ذكرناها في هذا الكتاب وأن الأوامر الواردة فيها هل هي إرشادية أو مولوية.

الأحكام الفطرية وملاكها

بل ينبغي أن يعمم البحث والنقاش للأحكام الفطرية _ مما يتعلق بفعل المكلف _ وهي ما كان ملاكها _ على المشهور _ (وجوب دفع الضرر البالغ) _ وقد أضفنا (البالغ)(1)، إذ لا تحكم الفطرة بوجوب دفع مطلق الضرر _ وذلك مثل قبح وحرمة قتل النفس أو الغير(2) وإذهاب

ص: 453


1- خلافاً للمطلِقين.
2- إدخال قتل الغير، في الحكم الفطري بوجوب دفع الضرر البالغ، إما لكون حكم الفطرة أعم من دفع الضرر البالغ عن النفس أو الغير، وإما لعودة ضرر قتل الغير إلى النفس، دنيا أو أخرى أو دنيا وأخرى.

القوة، أو قطع العضو، وإتلاف الحرث والنسل عبثاً.

بل _ على ما نرى _: وما كان ملاكها (وجوب شكر المنعم) أيضاً، بل حتى (جلب المنفعة المحتملة) أيضاً قال تعالى: «اشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ».(1)

و (الشكر للنعمة) بنفسه يصلح التمثيل به للمقام وملاكاته؛ لأن (بالشكر) تدفع النقم، فينطبق على (الشكر) ضابط وملاك الحكم الفطري _ عند المشهور _ وبه استجلاب المنفعة فينطبقعليه ضابط وملاك الحكم العقلائي _ عندهم _ ونرى أنه يجب شكر المنعم لذاته أيضاً(2) فإنه مما تحكم به الفطرة حتى مع قطع النظر عن دفعه المضرة أو جلبه المنفعة.

فهل قوله تعالى «وأشكروا» صرف إرشاد إلى حكم فطري للإيجاب أو للندب الإرشاديين، أم إنه أمر مولوي؟ ثم هل إنه مولوي _ تشريعي فلو (كفر النعمة) استحق العقاب من حيث أنه كفران، ومع قطع النظر عن المتعلق؟ أم إنه (مولوي _ نصحي) فلا عقاب؟

وقال تعالى: «اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ»(3) و «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ».(4)

وفي كليهما دفع مضرة، وجلب منفعة، بل وكلاهما نوعُ شكر

ص: 454


1- النحل: 114.
2- الوجه في قولنا (أيضاً) إننا صرنا إلى إمكان إجتماع الأحكام الأربعة (فالشكر) حكم عقلي وعقلائي وشرعي وفطري، لوجود ملاكها بأجمعها فيه.
3- المائدة: 7.
4- الضحى: 11.

للمنعم حسنٍ، بين مندوب وواجب مع قطع النظر عن أدائه لذينك الأمرين.(1)

الأحكام العقلائية وملاكها

وكذلك (الأحكام العقلائية ) وهي التي قيل أن ملاكها (جلب المنفعة) ومنها (الآراء المحمودة) و (التأديبات الصلاحية) وغيرها.

ومن مصاديقها قوانين (المرور)، بل مطلق الضوابط التي توضع لحفظ الأمن أو الاستقرار أو النظم في البلاد، بل وحتى القوانين التي تضمن الرقي والإزدهار للبلاد والعباد، مما عبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام في عهده للأشتر ب(استصلاح أهلها، وعمارة بلادها) و (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله) وغيره _ مما تفصيله بحاجة إلى كتاب مستقل(2) _ فإنها بين: جلب منفعة، أو دفع مضرة نوعية، أو شخصية، و (كلاهما) ملاك لحكم العقلاء كما (هما) مما تحكم به الفطرة والعقل، فلو تعلق بها (أمر) من الشارع، بكلِّيها أو بمصداقٍ من مصاديقها، كبعض قوانين (الطريق) وحقوق المارة المذكورة في الفقه(3)، فهل هي مولوية أو إرشادية؟

ص: 455


1- أي دفع المضرة وجلب المنفعة.
2- وقد فصل الحديث عن ذلك السيد الوالد قدس سره في موسوعة الفقه: (السياسة) وأيضاً (الدولة الإسلامية) وغيرهما.
3- ومنها: أحكام (الرواشن) و (التخلي في الطريق النافذ وغيره) و (الجلوس في الطريق) و (حمى الدار) و (من سبق فيه) وغيرها، فراجع الجواهر وفقه الصادق والفقه، وقد أفرز (الفقه) كتاباً خاصاً باسم (الفقه: المرور).

وقد فصلنا في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) _ الجزء الأول _ الضابط في الوجوبات الأربعة: (الشرعي) و (العقلي) و (العقلائي) و (الفطري)، وفوارقها، كما فصلنا فيه أيضاً إمكان تطابق حكمين أو أكثر على عنوان واحد وموضوع فارد، فيكون فطرياً وعقلياً أيضاً أو وعقلائياً أو وشرعياً كذلك _ فليراجع.

كما بحث ذلك السيد العم دام ظله في (بيان الفقه) كتاب الاجتهاد والتقليد فليلاحظ.

مصاديق للأحكام الفطرية والعقلية في الآيات، وهل هي مولوية أم إرشادية؟

فهل الأوامر والنواهي الواردة في مواطن الأحكام الفطرية أو المستقلات العقلية، مولوية أم إرشادية؟

وكذلك الأوامر والنواهي الواردة فيما حكم به العقلاء بما هم عقلاء، أو مما لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء عليها(1) كالعدل على رأي البعض(2)، والجود والكرم والشجاعة والتواضع وحسن الخلق وغيرها مما عدوه من (المشهورات) بالمعنى الأخص، ومن التأديبات الصلاحية(3)

ص: 456


1- الترديد لإختلاف المبنى؛ إذ إننا نرى أن (ما حكم به العقلاء بما هم عقلاء) له واقع وراء حكمهم ويشهد له قولنا (بما هم عقلاء)؛ إذ العقل نور كاشف، ويرى البعض كالشيخ المظفر قدس سره إن المشهورات بالمعنى الأخص و (ما حكم به العقلاء بما هم عقلاء) لا واقع وراءه إلا تطابقهم، وعدّ منه العدل، فراجع أصول الفقه والمنطق، وقد ناقشنا رأيه في (الأصول) مفصلاً.
2- حيث ارتأوا أنه من (المشهورات) وقد فصلنا بطلانه في (الأصول _ مباحث القطع) فليراجع.
3- كدعوى أن حسن العدل وقبح الظلم، من هذا الباب أي من المشهورات بالمعنى الأخص من قسم التأديبات الصلاحية.

أو عدوها من الخلقيات والآراء المحمودة(1)، أو حتى من (الانفعاليات)(2) _ ونرى أنه من الفطريات والمستقلات العقلية(3)_.

وذلك كقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».(4)

وقوله تعالى «وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا».(5)

بل حتى مثل قوله تعالى «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا»(6) فهل الأمر بالتبيّن مولوي أم إرشادي؟

وهل هو (إرشاد) ل(الحجية)؟ أم (جعل) لها؟ أم لا لسان له من هذه الجهة؟

بل وحتى مثل حسن الكتابة في «إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ».(7)

بل وحتى قاعدة القرعة حيث قال عليه السلام: «القرعة لكل أمرٍ مشكل»(8) وقال تعالى «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ»(9) و «إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ»(10) بناء على استفادةتشريع القرعة منها ولو استصحاباً

ص: 457


1- كدعوى أن حسن الشجاعة والكرم وقبح ضدهما، من هذا الباب.
2- كدعوى أن الرحمة والشفقة من هذا الباب.
3- وقد فصلنا الحديث عن ذلك كله في (الأصول _ مباحث القطع).
4- الأعراف: 199.
5- الإسراء: 37.
6- الحجرات: 6.
7- البقرة: 282.
8- موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام: ج9، ص127.
9- الصافات: 141.
10- آل عمران: 44.

للشرائع السابقة، وهي مما يحكم بها العقلاء بما هم عقلاء.

وكحسن التقية «إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً»(1) فعلى المولوية، لو لم يلتزم بالتقية، فعل محرماً واستحق العقاب، دون الإرشادية، فلا استحقاق للعقاب عليها ولا حرمة، أو الأول فقط على مبنى التفكيك.

وقد جرى بحث ذلك بالتفصيل في هذا الكتاب في ضمن تصنيفها مبدئياً إلى ما ورد في (شؤون العقيدة وأصول الدين)، وما ورد في (أصول الفقه)، وما ورد في (الفقه)، وما ورد في (القضايا الأخلاقية)، إضافة إلى ما ذكرناه في ضمن عناوين أخرى في فصل، آخر وما ذكرناه أيضاً من مصاديق لهذه العناوين في مواضع متعددة من الكتاب.

كما أن بعضها صالح لأن ينطبق عليه عنوانان أو أكثر، نظراً لتعدد المراتب(2)، أو تنوع المصاديق أو اختلاف التعاريف.(3)

ولا يخفى أن قسماً من المذكورات، فطري، وقسم منها عقلي يحكم به العقل، وقسم منها عقلائي، وقسم منها مجمع لحكمين لحاكمين أو أكثر.

وقد أوضحنا في (فقه التعاون) إمكان بل وقوع تطابق حكمين أو أكثر، على موضوع واحد، فيكون فطرياً وعقلياً أيضاً، أو وعقلائياً، أو وشرعياً كذلك.

ص: 458


1- آل عمران: 28.
2- فهو في مرتبة واجب، وفي أخرى، مستحب، وفي مرتبة أصل وفي مرتبة خَلق (كالمعرفة والإيمان).
3- أي تعاريف العلوم وتعاريف الموضوع نفسه.

فمما ورد في أصول الدين:

عبادة الله تعالى

قوله تعالى «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».(1) وكلاهما(2) فطري، كما أن كليهما(3) يعد من المستقلات العقلية، حسناً وحكماً(4) و (اللام) للغاية أو للتعليل.

وقد يقال (ليعبدوا) ليس متعلقاً ل(أمروا) بل متعلقه ما تعدى إليه بالباء، وهو مقدر، وقد يكون نفس (العبادة) فتكون (ليعبدوا) بلحاظ إخلاص الدين له، فتفيد أن (العبادة من غير إخلاص) غير مطلوبة وغير مأمور بها.

وقد يستدل بها على (الحكم الوضعي) وهو البطلان لما لا إخلاص فيه من العبادات، لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به.ولا ينبغي الريب في أن الأمر بالعبادة مولوي، لكنه ممتنع على بعض المباني في ضابطه(5) وغير تام على بعضها الآخر(6) فليلاحظ.

قوله تعالى «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً»(7)، وسيأتي بيانه.

ص: 459


1- البينة: 5.
2- أي عبادة الله، والإخلاص له في العبادة.
3- نعم المستقل العقلي هو أصل العبادة لا خصوصياتها وكيفياتها.
4- فالعقل يحكم بحسنهما وكذلك بوجوبهما، وكذلك الفطرة.
5- كالضابط الرابع والخامس.
6- كالضابط السادس في الجملة.
7- الإسراء: 34.

الإخلاص في العبادة

قوله تعالى «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».(1)

(فادعوه) يعني (فاعبدوه)، وإخلاص الدين له، بعبادته وحده والإيمان به وبرسوله والأئمة _ كما في تفسير البرهان عن الإمام الباقر عليه السلام _ وبإطاعتهم، ويؤيد هذا التفسير والتعميم قوله تعالى (الدين) فإن (الدين) هو الشريعة والطريقة وما دان به الإنسان لله تعالى، وهو أعم من العقيدة والشريعة والأصول والفروع والاعتقاد والعمل، كما يدل عليه قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم» و «إن الدين عند الله الإسلام».

والظاهر أن كل ذلك من المستقلات العقلية، بل من الفطريات، بل قد اجتمع فيها ملاكات الأحكام الأربعة وهي: دفع الضرر المحتمل وجلب المنفعة وشكر النعمة والمصلحتان(2)، وقد فصلنا ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى).

هل تسلب (لا إله إلا الله) من غير الموالي؟

كما يدل عليه ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي والشيخ في مجالسه، فقد روى الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال يا أبان إذا قدمت الكوفة فأروِ هذا الحديث: (من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً وجبت له الجنة) قال: قلت له: إنه يأتيني من كل صنف أفأروي لهم هذا الحديث؟ قال: (نعم يا أبان. إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين،

ص: 460


1- غافر: 65.
2- أي الأخروية والدنيوية.

فتسلب (لا إله إلا الله) منهم، إلا من كان على هذا الأمر).(1)

وهذا الحديث على القاعدة، ومطابق مضمونه لسائر الأدلة،

1- ومنها ما سبق عند الحديث عن (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فإن إخلاص الدين لله تعالى مقوِّم جوهري.2- ومنها قوله تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون»(2) وقد فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى).

3- ومنها قوله تعالى: »اليوم أكملت لكم دينكم وأتمتت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً»(3) فبدون ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام لا يرتضي الله تعالى الإسلام ديناً، و (الدين غير المرضي لله) لا يدخل الجنة إذ (ما طُلب لم يُفعل وما فُعل لم يُطلب) فكما أن المسيحية المحرفة (دين غير مرضي لله) فلا تدخل الجنة كذلك دين بلا ولاية لأمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه السلام.

وقد فصلنا الحديث عن ذلك في (دروس في التفسير والتدبر) وكذلك في (شعاع من نور فاطمة عليها السلام) وفي (إضاءات في التولي والتبري).

4- ومنها قول الرسول صلى الله عليه وآله: (إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي

ص: 461


1- الكافي: ج2، ص520، ح1، الطبعة الرابعة، من دار الكتب الإسلامية.
2- البقرة: 85.
3- المائدة: 3.

أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً).(1)

فمن ترك أحدهما، ضل، وكما أن من ترك القرآن لا يدخل الجنة، كذلك من ترك عِدله والثقل الآخر.

وبعبارة أخرى: ظاهر هذه الرواية، وآية إكمال الدين، ونص تلك الرواية السابقة: أن الإيمان بالله والإيمان برسوله والإيمان بالأئمة، من قبيل (الأقل والأكثر الارتباطيين)، فهي كارتباطية أجزاء الصلاة حيث تبطل بترك الأركان عمداً وسهواً وبترك الأجزاء عمداً، ولولا الدليل لبطلت بالترك سهواً أيضاً، لعدم (مطابقة المأتي به للمأمور به) وقد فصلنا الحديث عن (الارتباطية) في (فقه التعاون) فليلاحظ.

5- ويدل عليه أيضاً حديث سلسلة الذهب عن الإمام الرضا عليه السلام (كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي) ثم قال عليه السلام: (بشروطها وأنا من شروطها) .(2)

والظاهر أن (بشرطها) شرط لدخول الحصن ولولاها لم يدخله، وليس شرطاً للجزاء وحده، بل لو كان شرطاً ل(أمن) لكفى إذ تكون تلك الرواية شارحة له، وإن عدم أمنه من العذاب _ بقاء _ لإخراجه من الحصن، بل لا حاجة لضمها إليها فإن العذاب شامل للنار فلا يأمنه من لا يلتزم بالشرط.

بل إن صريح بعض روايات سلسلة الذهب: كونه شرط دخول الحصن، فقد روى الشيخ في مجالسه (قال أبو الصلت الهروي: كنت مع

ص: 462


1- بحار الأنوار: ج1، ص100، ح59.
2- بحار الأنوار: ج49، ص123، ح4.

الرضا لما دخل نيسابور وهو راكب بغله شهباء وقد خرج علماء نيسابور في استقباله فلما صار إلى المرتعة تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا يا ابن رسول الله، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدثنا عن آبائك صلوات الله عليهم أجمعين.

فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز، فقال: حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين سيد شبابأهل الجنة عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن الله تقدست أسماؤه وجل وجهه، قال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، عبادي فأعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصاً بها، أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي) قالوا: يا ابن رسول الله، وما إخلاص الشهادة لله؟

قال: (طاعة الله ورسوله وولاية أهل بيته).(1)

6- كما يدل عليه قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)(2)، فبدون تحكيمه صلوات الله عليه، ليسوا بمؤمنين بصريح الكتاب، وقد فصلنا بعض الحديث عن ذلك في (شعاع من نور فاطمة عليها السلام).

ص: 463


1- الأمالي للطوسي: ج2، ص201.
2- النساء: 65.

ومما ورد في القواعد الفقهية

ومن النواهي الواردة فيما يتعلق بالقواعد الفقهية:

حرمة الاضرار بالغير مطلقاً

قوله تعالى «من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار»(1)، بناء على استفادة قاعدة كلية منها، وهي حرمة الإضرار بالغير مطلقاً، تنقيحاً للمناط أو إلغاءً للخصوصية، أو لعدم القول بالفصل بل القول بعدمه(2)، أو بضميمة آيات أخرى مثل قوله تعالى «ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا»(3) و «لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده»(4) مما يفهم منه أن الملاك هو (الضرر) و (الإضرار) وهي من المستقلات العقلية بل الفطرية، وإذا تم ذلك كانت قاعدة فقهية، وإن عدها البعض من أصول الفقه، وفيه ما لا يخفى.

ويكفي في معرفة القاعدة الكلية قوله صلى الله عليه وآله: (لا ضرر ولا ضرار)(5) وقد فصلناه في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.

ص: 464


1- النساء: 12.
2- الأولان بلحاظ عمل الفقيه، والأخيران بلحاظ ما يلحظه من عمل سائر الفقهاء وربما أعيد الثاني وهو (إلغاء الخصوصية) للأول.
3- البقرة: 231.
4- البقرة: 233.
5- الكافي: ج5، ص293، باب الضرار، ح2.

ومما ورد فيما يتعلق بأصول الفقه

وقوله تعالى «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا».(1)

و (وجوب التبين) عن خبر الفاسق، خاص بما إذا أراد أن يعمل بمفاده أو توقف واجب عليه(2) لا مطلقاً لأنه واجب غيري كما ذكر السيد الوالد في الفقه.(3)و (وجوب التبين) حكم تكليفي يدل عليه منطوق الآية، وسيأتي أنه يدل أيضاً على الحكم الوضعي أي الحجية أيضاً.

والظاهر أنه مولوي لا إرشادي؛ لظهور صدوره من المولى بما هو مولى، خاصة مع توجيه الخطاب للمؤمنين وتصدير الأمر ب(يا أيها الذين آمنوا) فإنه الأنسب لمقام المولوية إن لم يكن المناسب.(4)

أما التعليل ب (أن تصيبوا) فإنه لا يمنع المولوية كما أشرنا إليه مراراً وأوضحناه في فقه التعاون، فإن المولى لو أعمل مقام مولويته ثم استدل بعلةِ حكمهِ وسببهِ كان ادعى لاستجابة العبد وانقياده، نعم قد يستظهر من التعليل _ أحياناً _ كون الأمر المعلل إرشادياً، وذلك موقوف على مناسبات الحكم والموضوع والسياق، والمرجع الفهم العرفي.

ص: 465


1- الحجرات: 6.
2- كحفظ حرمة المؤمن من أن تهتك وماء وجهه وكرامته من أن تراق، كما لو أشاع الفاسق إشاعة سيئة عن مؤمن.
3- الفقه: الواجبات: ج92، ص41.
4- (الأنسب) بلحاظ أن النصح والإرشاد، يناسب أيضاً كون الخطاب للمؤمنين لكن المولوية أنسب. (المناسب) بدعوى أن الخطاب إذا كان للمؤمنين كان المناسب كونه مولوياً فإنه مقتضى مقام (الإيمان)، ولا مناسبة لكونه إرشادياً _ فتأمل.

لا يقال: لا عقوبة وراء الاقتحام في ما أدى إليه (عدم التبين)، من المحرمات، فذلك برهان إني على الإرشادية.

إذ يقال: أولاً: قد يلتزم بها، استناداً لظاهر الآية ونظائرها ولبناء العقلاء _ فتأمل.

وثانياً: عدم استحقاق العقوبة _ أو عدمها _ أعم من كونه إرشادياً؛ إذ قد فصلنا في موضع آخر أن (المولوي) قسمان: تشريعي ونصحي، والعقوبة إنما هي على الأول، كما أوضحنا أن النصح قد يكون مولوياً وقد يكون إرشادياً.

ثم إنه يستفاد من (وجوب التبين) في المنطوق وعدمه في المفهوم: عدم حجية خبر الفاسق وحجية خبر العادل، لأنهما الملزوم لهما(1) ثبوتاً.

وأما إثباتاً فقد يتساءل هل الآية إرشاد إليهما كما استظهره البعض(2) أم لسانها لسان نفي الحجية في المنطوق _ ولو بالتبع _ وجعلها _ في المفهوم _؟

الظاهر ابتناء ذلك على التحقيق في معنى (الحجية) وهل معناها (ما يحتج به المولى على عبده)؟ وهو المعنى اللغوي أو (الكاشفية التامة والناقصة)؟ كما ذهب إليه الأصفهاني أو (المنجزية والمعذرية)؟ كما ذهب إليه الآخوند، أو (الأوسط)؟ كما ذهب إليه الشيخ، أو (مجموع

ص: 466


1- أي الحجية واللاحجية هما ملزوم وجوب التبين وعدمه، فلأن خبر العادل حجة لا يجب التبين، ولأن خبر الفاسق ليس بحجة وجب.
2- قال في دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام: (لأن وجوب التبين المذكور في المنطوق إرشاد إلى نفي الحجية، وعدمه المستفاد من المفهوم إرشاد إلى الحجية). ج2، ص663.

صغرى وكبرى القياس)؟ وهي الحجة المنطقية أو (ما يلزم إتباعه) أي (لزوم الحكة على طبقه)؟ أو غير ذلك، فإنه قد يستظهر من الآية _ على بعضها _ الإرشادية، بليستبعد جداً على بعضها(1) الجعل(2) ولا محيص ظاهراً من الإرشادية، وقد يستظهر على بعضها(3) الجعل والإنشاء والمولوية.

وحيث فصلنا ذلك في الأصول _ مباحث القطع _ فقد أغنانا ذلك عن البحث ههنا فليراجع.

وعلى أي تقدير فإن (حجية) خبر العادل و (عدم حجية خبر الفاسق) قد تعد من المستقلات العقلية، فيقع الكلام في أن ما دل من كلمات الشارع على جعلها _ سواء استندنا إلى هذه الآية أم غيرها ك«ولينذروا» والروايات المعروفة، هل هو مولوي؟ كما هو ظاهر بعضها، أو إرشادي؟ كما يُلجئ إليه كون (الحجية) من المستقلات العقلية، فبناء على الضابط الخامس لا محيص من صرفه عن ظاهره؟

وقد يقال: إن الاستناد لهذه الآية أو غيرها من الآيات والروايات والاحتجاج بها لعدم وجوب التبين في العادل ولحجية خبر الواحد، يصلح دليلاً لكون ارتكازهم على أن (كون الشيء من المستقلات العقلية، لا يمنع من كون الأمر في مواطنها مولوياً، وكونه منشِأ للحجية وموجداً، لا مخبراً ومرشداً).

ص: 467


1- كالمعنى الثاني (الكاشفية التامة أو الناقصة).
2- أي الجعل للحجية.
3- كالمعنى الثالث والسادس.

لا يقال: كلامهم عن الحجية، لا الجواز(1) أي الحكم الوضعي، لا التكليفي.

إذ يقال: أولاً مدار بحثهم، كلا الأمرين، كما أن ظاهر الآية: وجوب التبين في خبر الفاسق وحرمة الأخذ به دون تبين، ويستفاد من التعليل أو من مفهوم الشرط أو غيره جواز الأخذ _ بالمعنى الأعم _ بخبر العادل، كما يستفاد منها بالملازمة العرفية جعل الحجية للعادل وسلبها عن الفاسق.

ثانياً: البحث عن (المولوية) و (الإرشادية) غير خاص بالأحكام التكليفية بل شامل للأحكام الوضعية أيضاً، كما فصلناه في موضع آخر من الكتاب، فلو كان الحكم التكليفي في مواطن المستقل العقلي، لغواً أو تحصيلاً للحاصل أو ما أشبه مما ذكروا من المحاذير، كان الحكم الوضعي كذلك إذ يقال جعل الحجية لما استقل العقل بحجيته، لغو وتحصيل للحاصل و.. والجواب الجواب.

وبعبارة أخرى: استظهار المولوية في الحكمين(2) _ حسب الفهم العرفي وحسب بناء العقلاء(3) _ دليل على أن كون الحكم _ تكليفياً كان أو وضعياً _ مما يستقل به العقل، غير مانع عن كون الأمر به مولوياً، أو عن القدرة على جعله وضعياً.

ص: 468


1- وهذا التوهم على عكس القول الذي نقلناه قبل قليل من كون ظاهر الآية إنشاء الحكم التكليفي (وجوب التبين) لا إنشاء الوضعي (الحجية) وإنما هي ترشد إليه.
2- أي التكليفي والوضعي.
3- إذ بناؤهم على أن المولى (يجعل الحجية) لما له كشف ناقص وقد يسلبها عنه وليس مرشداً فقط.

ومما ورد في مسائل الفقه

ومن الأوامر والنواهي الواردة في الآيات فيما يتعلق بمسائل الفقه:

حرمة ظاهر (الفواحش) وباطنها

قوله تعالى «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(1)، وقال تعالى: «ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن».(2)

والمستفاد من «إنما حرم ربي الفواحش» تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، بدليل تعليقه تعالى وترتيبه التحريم على الوصف وهو مشعر بالعلية بل دليل عليها عرفاً في الجملة، وبدليل (حصره) تعالى التحريم في «الفواحش».

ولا يضر به تعريف (الفواحش) بكل ما تزايد قبحه، كما في الصافي، أو ب(أقبح القبائح وهي الكبائر) كما في المجمع، إذ الحصر إضافي(3) وعلة التحريم كونها فاحشة.(4)

وبعبارة أخرى: وجود (محرم آخر غير الفواحش) يبعث على السؤال عن وجه الحصر ب(إنما) فيجاب بأنه إضافي، ولا ينفي كون (ما حصر التحريم فيه) سبب تحريمه كونه فاحشة.

بل قد يقال: بتعميم (الفواحش) للذنوب الصغيرة أيضاً؛ لأنها من (الفحش) وهو تجاوز الحد، وبعبارة أخرى: كل ذنب فهو فاحشة حتى

ص: 469


1- الأعراف: 33.
2- الأنعام: 151.
3- أي بالقياس إلى غير الذنوب الصغيرة، فإنها محرمة أيضاً وليست بفاحشة.
4- وعلة تحريم الذنوب الصغيرة مفاسدها أيضاً، وإن لم تكن بتلك المثابة.

بالمعنى الأخص(1) لكونه بالنسبة لله تعالى.

وأما «ولا تقربوا» فالحديث فيه كما فصلناه في الحديث عن «لا تقربوا الزنى».

وأما قوله تعالى «ما ظهر منها وما بطن» فيتضمن أو يشعر بدفع دخل مقدر؛ إذ قد لا يظهر للعيان كون ما حرمه الشارع، فاحشة، فأوضح تعالى إن منها ما بطن فلا يكشف الناس فحشه، إلا إنه باطن فهو موجود حقاً، لذا حرمه الله العليم القدير، فلا ينبغي الإنكار نظراً لعدم فهم كونه فحشاً، ومنه نكاح زوجة الأب كما كانت عادة الجاهليين في غير أمة الأب، فكشف الرب عن كونه فاحشة.

ولعل (مما بطن) في الجملة (النزاع) و (الجزع) و (تأويل الآيات حسب الأهواء والشهوات، بل والمعتقدات الباطلة) كما يفعل كثير من الفلاسفة والعرفاء والصوفية(2) و (مصادرة الحريات) و (الاستبداد) و (الاستئثار) و (الحدود الجغرافية) بل إن كثيراً من مصاديقها تعد مما (ظهر من الفواحش)، نعم بعض (الجزع) و (النزاع) و شبههما مما لا يتضمن محرماً أبداً قد يكون مكروهاً فحسب _ فتأمل.

ويمكن عد الآية الشريفة _ وهي ظاهرة في التحريم المولوي _ من الأدلة على بطلان ما ذهب إليه القائلون بالضابط السادس(3) بل حتى

ص: 470


1- وهو تعريفه بما تزايد قبحه أو أقبح القبائح.
2- وقد أشرنا لجانب من الحديث عن ذلك في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
3- لكون مفسدة الفواحش معلومة غالباً للمأمور قبل الأمر، فلزم كونها إرشاداً حسب هذا الضابط.

الثاني(1) بل وحتى الرابع، والخامس وهو كون الأمر والنهي في موارد المستقلات العقلية، إرشادياً.إذ ظاهر الآية بل نصها تحريم (الفواحش) ولا ريب في استقلال العقل بقبح (الفاحشة) والنقاش إن كان أحياناً فصغروي، فيلزم ما توهموه من محذور تحصيل الحاصل؛ إذ مع وجود (الداعي إلى الارتداع) فإن حرَّم الشارع، لا ليوجد الداعي، فلغو وعبث، وإن حرمه ليوجده فتحصيل الحاصل، وإن كان مؤكداً فقط، كان مرشداً لا مولوياً _ كما استدلوا به في نظير المقام _ وقد أجبنا عنه في فقه التعاون بالتفصيل وفي الأصول بتفصيل أكثر بأجوبة عديدة فليلاحظ.

ثم إن (ما بطن من الفواحش) قد أوّل في الروايات ب(أئمة الجور)، ففي تفسير علي بن إبراهيم القمي (وما بطن) قال (من ذلك أئمة الجور)(2)، وفي الكافي الشريف (إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله في القرآن هو (الظاهر)، و (الباطن من ذلك): أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو (الظاهر)، و (الباطن من ذلك) أئمة الحق)(3) ويؤيده الاعتبار.

وقد فصلنا الحديث عن فلسفة (الباطن) وأوضحنا الدليل على تمامية الروايات المأولة للباطن بأمثال ذلك في (دروس في التفسير والتدبر)

ص: 471


1- لكون مفاسدها عائدة غالباً للشؤون الدنيوية فيلزمهم القول بمولوية خصوص ما كانت مفسدته أخروية، أو كان مصب النهي ذلك.
2- تفسير القمي: ج1، ص230.
3- الكافي: ج1، ص374، ح10.

وذكرنا هنالك وجوهاً عديدة(1) لدلالة (الكتاب) على (الباطن) مما لا يفهم منها عادة.

وعلى أي فإن قبح الفواحش بمعنى (أئمة الجور) وتحريمها(2) أيضاً من المستقلات العقلية، فيقع الكلام في أن النهي فيها إرشادي أو مولوي، ومسلكنا هو الضابط الأول كما أشرنا إليه مراراً، بل تتم المولوية على عدد من الضوابط الأخرى أيضاً.(3)

قتل النفس والغير

قوله تعالى «وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ»(4)، ومن الواضح أن كلاً من قبحه وحرمته مما يستقل به العقل به ومما تحكم به الفطرة والعقلاء، سواء كان المراد به قتل الغير أو قتل النفس على الاحتمالين في الآية الشريفة(5) فيلزم على ضابط (المستقلات العقلية) أن يكون النهي فيه إرشادياً، ولا عقوبة، والتالي باطل فالمقدم مثله.وقد سبق أن التعليل بمثل (إن الله كان بكم رحيماً) ليس قرينة الإرشادية.

وغير خفي أن ما ذكر في عدد من الروايات من تفسيره بالنهي عن أن يحمل المجاهد على العدو وحده بدون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيُقتل،

ص: 472


1- وقد بلغت تسعة وجوه.
2- بمعنى حرمة الاعتراف بهم والرضى بفعلهم والعمل لهم والإطاعة وما أشبه، إذ لدى تعذر الحقيقة يصار لأقرب المجازات.
3- كالضابط الثاني والثالث وغيرهما.
4- النساء: 29.
5- وقد عُبِّر عن (قتل الغير) ب(لا تقتلوا أنفسكم) بلحاظ مجموع المجتمع.

تفسير بالمصداق.

ولا يتوهم معارضه، هذا الحكم العقلي بقبح وحرمة قتل النفس، بعموم حق الإنسان في التصرف؛ بنفسه إذ لا دليل على ذلك بل الدليل على خلافه لأن الإنسان مملوك لله فلا يحق له التصرف في نفسه إلا بإذنه تعالى.

إضرار الزوج بزوجته وبالعكس

قوله تعالى «لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ».(1)

والمحتمل في «لا تضار» أن يكون على البناء للفاعل أي «لا تضار والدة» زوجَها «بولدها» بسبب ولدها، بأن تترك إرضاعه تعنتاً وإغاظة لأبيه، خاصة إذا ألفها الولد، ولم يكن للأب بديل مناسب، أو أن تطلب منه ما ليس بمعروف، كأن تطلب منه فوق وسعه من النفقة أو أجرة الرضاعة أو أن تمنعه من الاستماع بها والجماع، أو أن تمنعه من معاشرة ولده، وكذلك: (ولا مولود له له بولده) أي لا يضرها بسبب ولده، بأن يمنعها من إرضاعه مع قدرتها ورغبتها، أو يحرمها من رؤيته أو يحرمها من الحضانة أو يضيق عليها لترضعه دون مقابل.

والحاصل أن لا تضار أي لا تُضِر _ بكسر الضاد _ ومفعوله محذوف وهو زوجها كما يحتمل أن يكون على البناء للمفعول أي لا تُضَر بفتح الضاد من قِبَل زوجها.

ص: 473


1- البقرة: 233.

ولا يختلف المعنى إلا أنه يتعاكس المقطعان على الوجهين.(1)

والحاصل أن في كلا الوجهين أخذ (المضارة) بمعنى الإضرار قال في المجمع (وإنما قال تضار، والفعل من واحد، لأنه لما كان معناه المبالغة، كان بمنزلة أن يكون الفعل من اثنين) وفيه تأمل.

ولا يبعد أن يصار لوجه ثالث هو إرادة معنى باب المفاعلة _ كما هو القاعدة والأصل فيه _ إذ (المضارة) غير الإضرار والضرر، فإنها مفاعلة قائمة بالطرفين.(2)

والنكتة في استخدام باب المفاعلة هنا هي أن إضراره بزوجته _ بسبب الولد، أو متذرعاً به _ هو إضرار به أيضاً في الحقيقة، بل هو إضرار بالولد كذلك، كما أن العكس كذلك، إذ إضرارها بزوجها _ بسبب الولد _ إضرار بنفسها أيضاً؛ لانعكاس كل ضرر يورده أحدهما على الآخر، على نفسه أيضاً، نفسياً وعصبياً وصحياً وأخلاقياً وفكرياً وروحياً واجتماعياً أيضاً بل وأخروياً كذلك.

وعلى أي فإن (المضارة) بهذا المعنى مما يحكم العقل بقبحه وحرمته كالإضرار، فكلاهما من المستقلات العقلية، وكذلك يعد من (الفطريات) أيضاً بل (الأوليات)؛ إذ لا واسطة ولو خفية.

وقال السيد الوالد في الفقه: (والإضرار المحرم... يشمل الإضرار المالي والبدني والنفسي والعرضي والفكري، وهو داخل في

ص: 474


1- الصافي في شرح الآية الشريفة، وكذا مواهب الرحمن، بإضافة وتوضيح منّا.
2- كما صار إلى ذلك السيد السبزواري في (مواهب الرحمن) قال (والمضارة الضرار من الجانبين).

الإضرار النفسي).(1)ونضيف: (والإضرار الروحي والعقلي، بناء على وجود أربع حقائق في الإنسان، وهي: الجسد والنفس والروح والعقل، وقد فصلنا ذلك والأدلة على التربيع وأنها جواهر أربعة وليس بعضها قوى للبعض، في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).

ولعل مما يورد به على القائل بضابط (المستقلات العقلية) هو هذه الآية الشريفة من وجهين: الأول: وضوح كونها مولوية، مع أن لازم ضابط (المستقلات العقلية) كونها إرشادية والثاني: إن الظاهر إطلاقها وشمولها للأضرار القليل كالبالغ، فمع الالتزام بقبح وحرمة البالغ منه عقلاً دون القليل، يلزم كون الآية مولوية في القليل إرشادية في البالغ، لكن فيه تأمل من وجوه مبنى وبناء(2) كما لا يخفى وقد أشرنا لنظيره في موضع آخر.

الوفاء بالعهد

قوله تعالى «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً»(3)، وقد أدخلنا هذه الآية تحت عنوانين، لكون كليهما متعلقاً لها؛ فإن (العهد) للجنس أو الاستغراق _ على القولين _ وليس للعهد الذكري أو الذهني أو

ص: 475


1- الفقه، المحرمات: ج93، ص263.
2- إذ أولاً العقل يستقل بقبح مطلق الإضرار لا خصوص البالغ منه، نعم قد يفصل في الحرمة، فتكون الآية إرشادية فقط على مبناهم وثانياً: قد سبق مراراً إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى بل هو في المقام في معنى واحد والمولوية والإرشادية ليست موضوعاً له ولا مستعملاً فيه، إلا أن يستند إلى أنه خلاف الظاهر فتأمل.
3- الإسراء: 34.

الحضوري _ و (العهد) شامل للعهد الكائن بين الإنسان وربه، وللعهد بينه وبين غيره الأعلى أو الأدنى أو المساوي، فيشمل: عهد الحكومة للشعب أو لقطاع منه كالاتحادات والنقابات والشركات، وعهد شركة لشركة، أو عائلة لعائلة، أو حسينية لحسينية مثلاً، ويكون المسؤول (الشخص) تارة و(الجهة) أخرى.

وقوله في تفسير القمي (وقوله «وأوفوا بالعهد» يعني إذا عاهدت إنساناً فأوفِ به)، تفسير بالمصداق كما لا يخفى.

وكذلك قوله في مجمع البيان (وأوفوا بالعهد في الوصية بمال اليتيم وغيرها) والظاهر أن الأصح هو ما ذكره لاحقاً ب(وقيل إن كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد)(1) ويدل عليه قوله تعالى «وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم»(2) و «لا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً».(3)

وعلى أي فإن الوفاء بالعهد بأقسامه يعد من المستقلات العقلية، ومما تحكم به الفطرة والعقلاء.

ولا ريب في أن الأمر بالوفاء بالعهد بأقسامه مولوي، ولذا قال الوالد: (إن الوفاء بالعهد الذي هو قسيم للنذر، واجب نصاً وإجماعاً، كما أن الوفاء بالعهد في المعاهدات بين الطرفين أيضاًواجب نصاً وإجماعاً)(4)، والإجماع هذا يعد دليلاً على بطلان مسلك مَن رأى أن الضابط للمولوي هو (ما كان الأمر في غير المستقلات العقلية)، إلا أن يلتزم القائل

ص: 476


1- مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.
2- البقرة: 40.
3- النحل: 95.
4- الفقه: الواجبات: ج92، ص289.

بوجوب الوفاء بالعهد عقلاً لا شرعاً وفيه ما لا يخفى.

وقال الفاضل المقداد: (دلت [ أي آية «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً» ] على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين:

صيغة الأمر في قوله «وأوفوا» والأمر للوجوب.

كون العهد مسؤولاً، ولا يسئل عن غير الواجب فيكون الوفاء به واجباً).

وقال في آية «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم»(1) (عهد الله هنا أعم من أن يكون بنذر أو عهد أو يمين).(2)

أخذ الفائض والأخذ بالعفو

قوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».(3)

و (العفو) الزائد والفائض، وقد يراد به ما يفهم منه عرفاً وهو: ترك المؤاخذة على الإساءة.

قال الوالد قدس سره في تبيين القرآن: (أعف عن الناس، أو خذ عفو أموال الناس).

فهو _ في الرواية التالية _ على المعنى الأول(4) للعفو، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في الفقيه أنه قال لرجل من ثقيف (إياك أن

ص: 477


1- النحل: 91.
2- كنز العرفان: ج2، ص116، البحث الثاني: العهد.
3- الأعراف: 199.
4- أي الزائد والفائض، وهو الأول مما ذكرناه، وثاني التبيين.

تضرب يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنا أمرنا أن نأخذ منه العفو)، وإن احتمل كونه من (العفو) الذي هو ضد (الجهد) أي أمرنا أن نأخذ منهم ما لا يجهدهم.

وقد جاء (العفو) بالمعنى الثاني(1) في رواية في المجمع: أن جبرئيل قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: (يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك).

وقد فسر (العفو) في بعض الروايات ب(الوسط) ولعل من مصاديقه ما فسر به البعض (العفو) ب(التساهل، وعدم الاستقصاء في القضاء والاقتضاء).

وهذه الآية مقيدة أو منصرفة إلى الأدلة الدالة على أخذ الخمس والزكاة فقط.

وعن ابن عباس وآخرين أنها منسوخة بآية الزكاة، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله، يأخذ الفضل من أموال الناس ليس فيها شيء مؤقت _ كما في المجمع، لكن فيه أنها مقيدة أو مخصصة بها ولا يسمى هذا نسخاً _ فتأمل.

والظاهر أن حسن (العفو) من المستقلات العقلية بمعانيه الثلاثة:أما الأول فإنه لا شك أنه يرى حسن أخذ الحاكم بعض الفائض من أموال الأثرياء لإنفاقه على الفقراء، وقد شخص الشارع المصداق

ص: 478


1- وهو الإغماض عن السيئة وترك المؤاخذة عليها.

في الخمس والزكاة.

كما أنه يرى حسن (العفو عند المقدرة) و (أن تعفو عمن ظلمك).

كما أنه يرى حسن (التوسط في الأمور والاعتدال) وقبح الإفراط والتفريط.

ولم يستبعد الوالد قدس سره في (الفقه): وجوب العفو عن المجرمين لأنه (أقرب إلى نفوذ الإسلام.. خصوصاً إنه وقع في سياق الأمر بالمعروف)(1)، والظاهر أنه يريد العفو في الجملة لا مطلقاً.

الأمر بالعرف

ويراد ب(العرف): (المعروف).

وقد يقال: إن (المعروف) يراد به (المعروف لدى العرف)، وليس المعروف اللغوي أو الشرعي إذ لا اصطلاح للشرع فيه، نعم وسّع أو ضيق فما لم يقم دليل عليه، فالأصل محكم، ولقرينة (خذ) _ فتأمل.

لكن الظاهر أن المراد ب(المعروف) هو الأعم من المعروف عقلاً أو شرعاً أو عرفاً، أي كل ما صدق عليه (المعروف) من غير مدخلية لوجه الصِّدق، في الإطلاق والتسمية، نعم يخرج ما أخرجه الشارع دون ريب.

وتفسير (العرف) ب(الولاية) كما في رواية العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام، تفسير بأجلى المصاديق كما لا يخفى.

«وأعرض عن الجاهلين» أي أعرض عن مجادلتهم، أو عقوبتهم، والرد عليهم بالمثل، وهو من كرم الأخلاق وحسن الطباع، قال في تبيين

ص: 479


1- الفقه: الواجبات: ج92، ص16.

القرآن (قابل سفههم بالحلم)، وقد تعد كلها من المستقلات العقلية فيجري فيها من هذا الحيث مبحث أنها إرشادية على الضابط الخامس أو لا؟

قوله تعالى «وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا»(1) ، وسيأتي بيانه في عنوان (الأخلاق).

قوله تعالى «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا»(2)، وقد سبق بيانه في عنوان (أصول الفقه).

قوله تعالى «إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»(3)، وقد سبق بحثه في أول الكتاب.(4)

التقية

قوله تعالى «إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً».(5)

و (التقية) قد تكون واجبة(6)، وقد تكون جائزة، وقد تكون محرمة، والظاهر أن منها المستحب والمكروه أيضاً إذا كان الرجحان أو المرجوحية لا إلى حد المنع من النقيض.

ص: 480


1- الإسراء: 37.
2- الحجرات: 6.
3- البقرة: 282.
4- تحت عنوان: (من الأوامر الإرشادية في القرآن الكريم)
5- آل عمران: 28.
6- قال الوالد قدس سره في الفقه الواجبات ص282: (.. والإجماع القطعي قائم من عامة طوائف المسلمين على وجوب التقية عند تحقق موضوعها، والعقل يدل على تقديم الفاسد درءً للأفسد).

والتزام الفقهاء بكون (الأمر بها) مولوياً، أو كون (جوازها) مولوياً، من الأدلة على بطلان اعتبار (الأمر) في (المستقلات العقلية) إرشادياً لا محالة كما ذهب إليه القائلون بالضابط الخامس، وهم كثير من متأخري الأصوليين.

نعم اقتضاؤها للحكم الوضعي(1) _ ليس من المستقلات العقلية فينبغي لحاظ لسان الأدلة من الآيتين(2) والروايات.

التجسس والتحسس

قوله تعالى «وَلَا تَجَسَّسُوا».(3)

و (التجسس) حرام بالأدلة الأربعة سواء كان من الدولة على الناس أم من الناس على الناس، كتجسس الشريك على شريكه أو الزوج على زوجته.

فقد قال الإمام الصادق عليه السلام كما في موثقة إسحاق: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذموا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته)(4)، وقد ذكرنا مراراً أن التعليل ولو بمصلحة أو مفسدة دنيوية لا يصرف الأمر _ بما هو _ للإرشادية، فالنهي مولوي.

ص: 481


1- كصحة الصلاة تقية.
2- (إلا أن تتقوا منهم تقاة) و (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106.
3- الحجرات: 12.
4- وسائل الشيعة: ج12، ص275، ب150، ح3.

نعم (التحسس) جائز قال تعالى: «اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه».(1)

والفرق أن (التجسس) يقال في الشر وما يكرهه، و (التحسس) في الخير والمحبوب كما ذكره الوالد.(2)

والظاهر أن قبح التجسس وحرمته من المستقلات العقلية، كما يحكم به العقلاء، ولعله فطري أيضاً، وقد استثني منه أمران فقط 1- تجسس الدولة على الموظفين في حدود عملهم الحكومي، كي لا يظلموا الناس، 2- والتجسس على الكفار الحربيين أو مَن يخاف منه من المعاهدين أو مقابلة بالمثل حتى لو كانوا أهل ذمة دون مطلق المعاهد وأهل الذمة لو لم يكونوا كذلك؛ وذلك نظراً لتزاحم التكليفين في باب الامتثال فيقدم الأهم.

الإقتراب للزنا

قوله تعالى «وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً»(3)، وقد أشرنا له في الأصول، ونضيف هنا إن قبح وحرمة الزنا مما تطابقت على حرمته الفطرة والعقل والعقلاء، كلواحقه _ فتأمل.

وقال في مجمع البيان («وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً»(4) (أي وبئس الطريق الزنا، وفيه إشارة إلى أن العقل يقبح الزنا من حيث أنه لا يكون للولد نسب، إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض،

ص: 482


1- يوسف: 87.
2- الفقه المحرمات: ج93، ص81.
3- الإسراء: 32.
4- الإسراء: 32.

فيؤدي إلى: قطع الأنساب وأبطال المواريث وإبطال صلة الرحم وحقوق الآباء على الأولاد، وذلك مستنكر في العقول)(1).

وظاهر كلامه أن قبح الزنا من (الفطريات) لا (الأوليات) لوجود الواسطة وإن كانت خفية _ فتأمل.(2)

كما أن الظاهر أن هذه القضية(3) ليست من (المشهورات) فإنها ما لا واقع لها وراء تطابق الآراء عليها بل واقعها ذلك، وليس قبح الزنى كذلك، بل هو ثابت مع قطع النظر عن حكم سائر العقلاء أي أن له واقعاً بنفسه.

بل قد يقال بحكم العقل بقبح الزنى في مرتبة سابقة على التوالي الفاسدة التي ذكرها قدس سره، فإنه (تصرف في ملك الغير بدون إذنه) وهو قبيح عقلاً، ولا نقصد ب(الغير): (المرأة) ليناقش بعدم قبحه إذن في صورة رضاها، بل أعني بالغير: الرب الجليل سبحانه؛ فإنه لا يجوز عقلاً التصرف في مملكته بدون رضاه، ولعل قوله تعالى «إنه كان فاحشة» يشير إلى هذه الجهة وقوله جل وعلا «وساء سبيلاً» يشير إلى ما ذكره قدس سره.

وبعبارة أخرى: ما ذكره يشير إلى طريقيته للفساد، وما ذكرناه يشير إلى الموضوعية وإنه في حد ذاته فاحشة وفساد وتعدٍ لقوله تعالى

ص: 483


1- مجمع البيان: سورة الإسراء، آية 32.
2- إشارة إما للخلاف في تعريف (الفطريات) وإما إلى أن قبح الزنى قد يعد من (الكسبيات) لا (الفطريات).
3- أي (قبح الزنا) بل وحرمته.

«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(1) وقد سبق بيانه، ومن مصاديقه قوله تعالى «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ»(2)، ومن مصاديقه أيضاً قوله تعالى «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ»(3) وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

النزاع والصراع

قوله تعالى «وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ».(4)

وهل (للنزاع) قبح وحرمة وراء ما يتضمنه من المحرمات (كالضرب والجرح وهتك الأعراض بالسباب وغيره، والغيبة والتهمة والنميمة)؟

الظاهر ذلك، وأنه مما يستقل به العقل؛ ولذلك علل في الآية بلوازمه لا بما تضمنه فلو فرض عدم تضمنه أي محرم فإنه يبقى قبيحاً ومحرماً لاستلزامه الفشل وذهاب الريح، فيدخل على هذا في كلي ما أشرنا إليه في بحث الاستلزامات من ترشح القبح والحرمة من ذي المقدمة، للمقدمة _ وهو رأي _ أو شمول وإنبساط الدليل الدال على حرمة (وقبح) ذي المقدمة لحرمة (وقبح) المقدمة(5) _ وهو المنصور _.

بل إن السيد الوالد في (الفقه) ذهب إلى حرمة النزاع نفسياً لا

ص: 484


1- الأعراف: 33.
2- النمل: 54.
3- الأنفال: 47.
4- الأنفال: 46.
5- والشمول إما عقلاً، أو بدعوى أن المتفاهم عرفاً من الدليل اللفظي الدال على حرمة ذي المقدمة، هو ذلك.

مقدمياً، مستظهراً من الأدلة الدالة على النهي عن النزاع، ذلك.(1)

وحيث أن قبحه مما يستقل به العقل، فلا مجال لحديث الترشح أو الإطلاق والشمول، لاستقلال العقل به ابتداءً وإن كان منشؤه ذو المقدمة والسراية، فتأمل.(2)

ولا فرق في قبح النزاع بين كونه في الشؤون الدنيوية _ كالنزاع على رياسة أو إمارة أو منصب _ والشؤون الأخروية _ كالنزاع على إمامة جماعة أو انتخاب مرجع تقليد أو تأسيس حسينية أو ما أشبه _.

نعم النزاع مع (المبطِل) غير قبيح بعد ملاحظة أهم الأمرين من نوع الباطل ونوع النزاع ولوازمهما وآثارهما، ويتضح بهذا إن كثيراً من النزاعات بذريعة الدفاع عن الحق، مرجوحة.

الإصلاح بين الناس

قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»(3)، وقوله سبحانه «وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ»(4) وقوله جل اسمه «أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ».(5)

ولعل « فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» من باب تعدد المطلوب؛ فإن (الإصلاح) بين الناس في حد ذاته حسن وبين الأخوين _ وهم عامة

ص: 485


1- الفقه، المحرمات: ج93، ص364.
2- لتمامية ذلك على مسلك الوالد قدس سره لا غيره.
3- الحجرات: 10.
4- الأنفال: 1.
5- النساء: 114.

المؤمنين _ أحسن، وعلى هذا فلو أصلح بينذميين مثلاً كان حسناً والجامع: أن العام والخاص والمطلق والمقيد المثبتين، لا يقيد أحدهما الآخر.

وهل حسن (الإصلاح) من المستقلات العقلية؟

الظاهر ذلك، ولعله مما يدل عليه (حسن الكذب فيه) كما في الروايات، ومنها ما ورد في الخصال عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (ثلاث يحسن فيهن الكذب، المكيدة، وعدتك زوجتك، والإصلاح بين الناس) ولعل المراد ب(عدتك زوجتك) ما كان لإصلاح أمر دينها أو آخرتها أو ما أشبه. فاضطر لوعدها بما لا يقدر على الوفاء به مثلاً، أو وعدها كاذباً مضطراً بأن يلبي رغبة لها، فيها فساد دنياها أو آخرتها أو أبناءها، فله أن يكذب في وعده.

وفي الثواب العظيم المذكور على (إصلاح ذات البين)، دلالة على أن الأمر به مولوي، لا نصح، فليس إرشادياً إذن،رغم كونه مستقلاً عقلياً.

نعم لا حكم للعقل بوجوب الإصلاح في حد ذاته وبما هو هو _ وإن قلنا بكونه حاكماً كما هو الحق _ بل يحكم برجحانه وحسنه، في حد ذاته _ مع قطع النظر عن طريقيته.

وقال الوالد في (الفقه): (والظاهر أن الإصلاح من المستحبات)(1) ولعلنا لو خلينا وظاهر الآيات وبعض الروايات استظهرنا الوجوب _ فتأمل.

ص: 486


1- الفقه، الواجبات: ج92، ص160.

وقال (وعلى أي حال، فالأمر محمول على الوجوب أو الاستحباب أو الإرشاد أو الأعم فلكل مورده)(1)، ومنه يظهر أنه قدس سره يذهب إلى إمكان إجتماع الإرشادية والمولوية في أمر واحد، وهو الحق كما فصلنا في موضع آخر.

الصبر والمصابرة والمرابطة

قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ».(2)

و (الصبر) و (المصابرة) _ وهي مفاعلة، بأن يبعث بعضهم بعضاً على الصبر ويسنده ويعضده ويشد أزره ليصبر _ كلاهما من المستقلات العقلية على القول بأن ملاكها دفع الضرر المحتمل(3) ومن الفطريات لو كان هذا(4) ملاكه(5) _ كما هو المشهور، ومنهما معاً حسب ما ارتأيناه لنفس العلة(6) ولجلب المنفعة أيضاً كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى)(7) فإن في (الصبر) دفع أضرار عظيمة دنيوية(8) وأخروية(9) على الفرد نفسه وعلى المجتمع كما أن به جلب المنافع الدنيوية والأخروية الكثيرة.

ص: 487


1- المصدر.
2- آل عمران: 200.
3- كما ذهب إليه في التنقيح/ تقريرات الشيخ الغروي: ج1، ص3، إلا أنه قيد بكون معناه (العقاب) فلا ينطبق على المقام فتأمل.
4- أي دفع الضرر المحتمل.
5- أي إن هذا هو ملاك الفطري.
6- أي دفعاً للضرر المحتمل.
7- ص270-271.
8- فإن أدنى ضرر (الجزع) تحطيم الصحة والأعصاب.
9- فإن من أضراره الوقوع في النزاع والغيبة وغير ذلك.

وروى علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام («اصبروا» على المصائب «وصابروا» على الفرائض «ورابطوا» على الأئمة).(1)

وبمضمونها روايات عديدة ذكرها الصافي والبرهان وغيرهما، ومنها ما ورد في الكافي الشريف («اصبروا» على الفرائض «وصابروا» على المصائب «ورابطوا» على الأئمة)(2) ولا اختلاف بينها وكذلك سائر المتعلَّقات التي ذكرت في الروايات أو التفاسير ل(اصبروا) مثل: على دينكم، على الجهاد، على طاعة الله، عن معاصيه، وغيرها، إذ هي تفسير بالمصداق؛ فإن كلاً من المصائب والفرائض بحاجة لصبر ومصابرة أيضاً.

وعلى أي فإن الصبر على المصائب والفرائض والمصابرة عليها، كلها من المستقلات العقلية.

وقال الوالد في الفقه: (لكن الظاهر أن الصبر من الفضائل الأخلاقية لا من الواجبات الشرعية).(3)

لكن ظاهر الأمر في الآية بل الآيات: (الوجوب) إما مولوياً فيستحق العقاب على تركه، وإما إرشادياً فلا.(4)

ولعل فهم المشهور أو الارتكاز صارف له إلى ما ذكره قدس سره، ونعني بالارتكاز ارتكاز مطلوبيته لا لنفسه بل طريقياً فيكون قرينة على

ص: 488


1- تفسير القمي: ج1، ص136، ذيل الآية الشريفة.
2- الكافي: ج2، ص81، ح3.
3- الفقه، الواجبات: ج92، ص152.
4- سبق أن الإرشاد قد يكون للوجوب، إلا أنه لا عقاب عليه.

عدم وجوبه _ فتأمل، وعلى أي فإن اصبروا مولوي للندب وليس إرشادياً للنصح.

الهجرة

قوله تعالى «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا».(1)

و (الهجرة) في مورد الآية واجبة؛ إذ إقامة الدين واجبة، فهي من المستقلات العقلية بناء على كلي بحث الاستلزامات واستقلال العقل بوجوب المقدمة ترشحاً من وجوب ذيها، أو تضمناً كما أوضحناه من قبل وأن وجوباً واحداً يمتد على المقدمات وذيها بوقت واحد، لا ترشحاً، نعم بناء على مسلك اللابدية العقلية في وجوب المقدمة، لا وجوب بالمعنى الأخص.(2)وشأن نزولها (أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا، حين كانت الهجرة واجبة)(3)، وتأويلها ما ذكره القمي (نزلت فيمن اعتزل أمير المؤمنين ولم يقاتلوا معه فقالت الملائكة لهم عند الموت فيم كنتم؟ «قالوا كنا مستضعفين في الأرض...»).(4)

وينسجم هذا التأويل مع الذهاب إلى أن (توفاهم) هي بصيغة ا لمضارع بحذف التاء الثانية ك(تنزل الملائكة والروح فيها)، بل حتى لو كانت بصيغة الماضي، إذ هو من المضارع المحقق الوقوع فيعبر عنه

ص: 489


1- النساء: 97.
2- المعنى الأعم هو الشامل لللابدية العقلية، والتي لعل إطلاق الوجوب عليه، يعد مجازاً في العرف الخاص والعام _ فتأمل.
3- التفسير الصافي: ج1، ص232.
4- تفسير القمي: ج1، ص149.

بصيغة الماضي.

و (وجوب الهجرة) مقدمي لإقامة الدين كما أشرنا إليه.

ثم إن (المراد من إقامة الدين: إقامة دين نفسه أو عائلته أو مَن الشارع فوّضه إليه مما يكون البقاء في تلك البلاد سبباً لانحرافهم عقيدة أو عملاً).(1)

ولا يخفى أن كون إقامة دينه أي دين نفسه، هو مورد نزول الآية، غير مخصص للوارد.

ويمكن إضافة قسم رابع هو إقامة دين عامة الناس إذ كلكم راع، ولعله يمكن إدراجه في الثالث إلا أن ينصرف إلى من فوضه إليه، الشارع، بالخصوص _ كالأَمَة ومن هو قيِّم عليه _ لا العموم.

كما أن الهجرة العكسية، كما فيمن لا يستطيع إقامة دينه في بلاد الإسلام لغلبة جائر فيهاجر لبلاد كفرٍ بمقدوره إقامة دينه فيها، كذلك، تنقيحاً للمناط المسلّم، ولذا قال في الفقه (وكذلك بلاد المسلمين إذا سيطر عليها الكفار أو الفاسقون المانعون من إقامة الشعائر)(2)، وغير خفي أن عكس الهجرة الواجبة، (التعرب بعد الهجرة) إن فسرت مكانيةً أو فسرت بالأعم منها ومن الكفر بعد الإيمان.

الشورى والاستشارة

قوله تعالى « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ».(3)

ص: 490


1- الفقه، الواجبات: ج92، ص268.
2- الفقه، الواجبات: ج92، ص468.
3- آل عمران: 159.

قوله تعالى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».(1)

والظاهر أن الفرق بين (الشورى) و (الاستشارة) أن الاستشارة:استخراج آراء الغير وطلب المشورة، سواء عمل بما أدت إليه المشورة أم لا، نعم قد يقال: بلزوم العمل لئلا يلزم نقض الغرض منها(2) إلا أنه لا يستفاد من أمر (شاورهم بذاته).أما (الشورى) فالظاهر أنها تدل على العمل بما أدت إليه، بالتضمن، وإلا لم يكن (أمرهم شورى بينهم) بل كان استبداداً وإثرة.

(والظاهر أن مقتضاها العمل برأي الأكثرية؛ إذ لا يصدق (شورى) مع العمل برأي الأقلية، ثم إنه ترجيح للمرجوح، فراجع تفصيل النقض والإبرام في (شورى الفقهاء _ دراسة فقهية أصولية).

فعلى هذا فقد يقال: إن المستظهر أن «وأمرهم شورى بينهم» لسانها لسان جعل (الحجية) لآراء الأكثرية، بل يكفي في الدلالة على ذلك أن لسانها لسان جواز بالمعنى الأعم، العمل بآراء الأكثرية، فإذا جاز كان منجزاً ومعذراً _ كما ارتأى الآخوند في معنى الحجية _ ولزمت الحركة على طبقه _ حسب الرأي الآخر _ وصح وقوعه أوسط في القياس _ كما ارتأى الشيخ في معنى الحجة _، وكان مما يحتج به المولى على العبد وبالعكس والثالث عليها، كما هو معناها اللغوي.

ص: 491


1- الشورى: 38.
2- وهو تطييب القلوب، وتفعيل المشاركة، فتأمل إذ الغرض كشف الصائب أو الأصوب وفيه أن الظاهر تعدد الأغراض فيراعى الأهم فتأمل.

نعم قد لا يستظهر منها جعل الطريقية والكاشفية _ فتأمل.(1)

بل نقول: إن «وشاورهم في الأمر» لا يقل دلالة على الحجية من دلالة «ولينذروا قومهم» و«لعلهم يحذرون» وأشباههما، وحيث قد أسهبنا في الحديث عن الآيتين الشريفتين وسائر الروايات والأدلة على (جواز بل وجوب الاستشارة والشورى وحجية رأي المشير) وعن الإشكالات والردود في (شورى الفقهاء _ دراسة فقهية أصولية) فلنكتف هنا بهذا القدر والله الهادي.

وهل حسن الاستشارة وحسن الشورى من المستقلات العقلية؟

الظاهر إنها مما يحكم به العقلاء، ومن المستقلات العقلية، وحسب ما ارتأيناه من الضابط في المولوي وهو (ما صدر من المولى بما هو مولى) فإن الأمر بها (مولوي) في العديد من الآيات والروايات و (إرشادي) في بعضها حسب المستفاد عرفاً من لحنها وسياقها.

إذ قد يستظهر أن «وشاورهم في الأمر» أنشأ من المولى معملاً مقام مولويته، في مقام التشريع، فهو مولوي _ للوجوب أو مولوي _ للندب، وأن «وأمرهم شورى بينهم» إخبار في مقام الإنشاء أو إخبار بقوة الإنشاء أو إخبار كاشف عن إنشاء أو إخبار يستلزم الإنشاء عرفاً بقرينة وقوعها في سياق «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم» وغيرها _ فتأمل.

ص: 492


1- إذ قد يقال: إنه لا يقل دلالة (أمرهم شورى بينهم) على متممية الكاشفية، عن نحو قوله عليه السلام (نعم، خذ منه ما تحتاج إليه من معالم دينك) فإن الكاشفية الذاتية للشورى كالكاشفية الذاتية لخبر الواحد، ناقصة تتمم بالتعبد.

وقد فصلنا الفرق بين هذه الأربعة أو إمكان عود بعضها لبعض دون بعض في (مباحث الأصول)، كما فصلنا الحديث عن أصل البحث وأطرافه في (شورى الفقهاء).

بل إن كونها (مولوياً) يتم على عدد من الضوابط الأخرى، ومنها (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته).. نعم هي إرشادية على عدد من الضوابط التي ذكرناها في فصله فليلاحظ، وإذا ثبت (حسنها) ثبت حسن (الإشارة) وثبت (قبح منعها)، وحَسُن ردعُ المانع، والظاهر أنها بأجمعها من المستقلات العقلية.

والظاهر أن الاستشارة يجب أن تكون من فريقين: من له خبرة وإطلاع، ومن يرتبط به الأمر، ولا يصح حصرها في الأول(1) لمكان قوله تعالى (وأمرهم) (بينهم) فلو لم يُستشرالمعني بالأمر واستشير الأجنبي وإن كان خبيراً لم يصدق (وأمرهم شورى بينهم) ولا (شاورهم في الأمر).

نعم ينبغي أن لا يكون سفيهاً فيما يستشار فيه؛ للانصراف، وحينئذ يستشار وليّه.

وقد فصلنا الحديث عن الاثنين في موضع آخر من الكتاب.

الركون إلى الظلمة

وقوله تعالى «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ».(2)

والظاهر أن قبح وحرمة الركون للظالم من المستقلات العقلية،

ص: 493


1- كما ذكر في دروس تمهيدية في تفسير الآيات الأحكام.
2- هود: 113.

ويشهد له ما سبق من تأويل «قل إنما حرم ربي الفواحش» بأئمة الجور، فإنهم من الفواحش، والعقل مستقل بقبح ارتكابها والاقتراب منها، كما أشرنا له عند الحديث عن تلك الآية الشريفة، لكن لا حاجة بنا إلى إرجاع المقام لها، لأنه أوضح، وإن صلحت شاهداً.

وأما «تركنوا» فيعني (تميلوا أدنى ميل) كما في مجمع البحرين وغيره.

وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: (ركون مودة ونصيحة وطاعة).(1)

وأضاف في المجمع: (الإنصات إليه) (وقيل: لا تداهنوا الظلمة)(2) وتفسيره بالمشركين، تفسير بالمصداق كما لا يخفى.

وقال في مجمع البحرين مادة ركن (لا تطمئنوا إليهم، وتسكنوا إلى قولهم، وتظهروا الرضا بفعلهم، ومصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم)(3).

ومن ذلك: الذهاب إلى مجالسهم، ومعاشرتهم، بل حتى البيع والشراء معهم.

وتدل عليه رواية صفوان بن مهران الجمال.(4)

ورواية محمد بن عذافر عن أبيه، قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (يا عذافر نبئت أنك تعامل أبا أيوب الربيع، فما حالك إذا نودي بك في

ص: 494


1- تفسير القمي: ج1، ص339.
2- مجمع البيان: ج5 ص344.
3- مجمع البحرين: ج2 ص220
4- وسائل الشيعة: ج17، ص182، باب 42 من أبواب ما يكتسب به، ح17.

أعوان الظلمة؟) قال فوجم أبي _ أي اشتد حزنه _ فقال له أبو عبد الله: (إنما خوفتك بما خوفني الله عز وجل) قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات).(1)

ورواية أبي يعفور: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له جعلت فداك ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: (ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً، وأن لي ما بين لأبتيها، لا، ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ الله من الحساب).(2)وعلى أي فإن (قبح) أصل الركون للظلمة من المستقلات العقلية، كقبح الظلم، ومما يحكم به العقلاء بل هو مقتضى الفطرة أيضاً.

والنهي لا شك في كونه مولوياً، خاصة بقرينة «فتمسكم النار».

بل يمكن عدّ هذه الآية من الأدلة على سقم الضابط الخامس الذي ارتآه عدد من متأخري الأصوليين، للأمر المولوي والإرشادي وهو (الإرشادي: كل ما كان في مورد المستقلات العقلية) فإن ظاهر التهديد، المولوية، لا النصح، وظاهرها التهديد بل نصها، لا الإخبار، كما يؤيده لحوق «وما لكم من دون الله من أولياء» مما يستظهر منه أن المقام مقام الولي والولاية وما أشبه _ فتأمل.

والظاهر أن «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا» مما اجتمع فيه ملاك النهي

ص: 495


1- المصدر: ص178، ح3.
2- المصدر: ص179، ح6.

بأقسامه الأربعة: العقلي والفطري والعقلائي والشرعي؛ إذ فيه ضرر محتمل _ بل مقطوع _ كما أنه كفران للنعمة _ وهو دافع للمنفعة، وطارد للمصلحة _ وهي الملاكات للأربعة لتلك الأحكام الأربعة، على تفصيله المذكور في محله.(1)

وهل هو خاص بالحاكم والسلطان والملك ومن دار في فلكهم، كالوزير والشرطي والأمني؟ أم عام لكل ظالم حتى لو كان رئيس شركة أو رب عائلة؟ الظاهر والملاك والأصل هو الثاني، إلا أن يقال بالانصراف _ فتأمل.

ومن الأوامر والنواهي الواردة في الآيات فيما يتعلق بالأخلاق:

التكبر والتبختر

قوله تعالى «وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا».(2)

أي مختالاً فخوراً وعلى وجه الأشر والبطر والخيلاء والتبختر في المشي، وقيل: (المرح: شدة الفرح بالباطل).

والأول مادي ظاهري، والثاني نفسي باطني، ولعله أعم منها.

ورغم استقلال العقل بقبحه إلا أن النهي عنه مولوي؛ لما ذكرنا من أن ملاك المولوي (ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته) وظاهر الآية ذلك ولذا قال الوالد (لا يجوز مشي الإنسان مرحاً).(3)

ص: 496


1- راجع تفصيل القول حول هذه الملاكات الأربعة في (فقه التعاون على البر والتقوى).
2- الإسراء: 37.
3- الفقه، المحرمات: ج93، ص351.

وقد ورد في رواية (من لا يحضره الفقيه) عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمحمد بن الحنفية (وفرض على الرجلين: أن تنقلهما في طاعته، وأن لا تمشي بهما مشية عاص فقال عز وجل «ولا تمش في الأرض مرحاً»)، نقلاً عن الصافي(1).

وقال في المجمع (لأن من الناس من يمشي في الأرض بطراً، يدق قدميه عليها، ليري بذلك قدرته وقوته، ويرفع رأسه وعنقه).(2)

وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام: (فرض الله على الرِجلَين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال « ولا تمشفي الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً» وقال: «وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».(3)

وظاهر الرواية الأولى الموضوعية وإن هذه الكيفية من المشي مبغوضة.

وظاهر الرواية الثانية: الطريقية وإن المشي للمعصية مبغوض.

والظاهر أن كلا القسمين (مشياً ومشية) من المستقلات العقلية، إلا أن الأول قبيح لذاته، والثاني بالترشح أو غيره، حسب ما فصل في بحث الاستلزامات.

قوله تعالى «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً

ص: 497


1- تفسير الصافي: ج3 ص193 ، من لا يحضره الفقيه: ج2 ص627
2- مجمع البيان: ج6، ص252، ذيل الآية الشريفة.
3- الكافي: ج2، ص36، ح1.

وَرِئَاء النَّاسِ».(1)

الحسد

قوله تعالى «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ».(2)

و (الحسد) قسمان: اختياري لذا يقع مورداً للنهي، وقال تعالى «ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض»(3) _ واختياريته تكون ولو بلحاظ اختيارية مقدماته.

ومنه ما يرد وروداً دون إرادة.

ف(الأول) مما يستقل العقل بقبحه ولكن هل يحكم بحرمته ما لم يظهر؟ الظاهر حكمه بكراهته وأما ما يظهر من بعض الروايات كرواية علي بن إبراهيم (لا يجوز للرجل أن يتمنى امرأة رجل مسلم أو ماله ولكن يسأل الله من فضله)(4)، فلعله محمول على ما لو أظهر، ولولا الشهرة على الكراهة لو لم يُظهِر وحديث الرفع _ وهو حاكم _ لكان اللازم الصيرورة للحرمة لنص الرواية، وظهور روايات أخرى عديدة ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال أبو جعفر عليه السلام: (إن الرجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر، وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب).(5)

وهو محمول إما على ما سبق كما ذكر الوالد: (الظاهر من

ص: 498


1- الأنفال: 47.
2- - النساء: 54.
3- النساء: 32.
4- تفسير القمي: ج1، ص136، ذيل الآية الشريفة.
5- وسائل الشيعة: ج15، ص365، الباب 55 من أبواب جهاد النفس، ح1.

الصحيحتين: الحسد الذي يظهر، لا الحسد الذي لا يظهر وإنما هو صفة نفسية).(1)

أو محمول على درجات الإيمان والفضيلة(2)، ويراد بالكفر الأعم من كفر العقيدة ومن مثل عدم شكر النعمة.

وأما (الثاني) فإنه وإن كان نقصاً إلا أنه ليس قبيحاً؛ إذ ظاهر هذا العنوان وشبهه: (القصدية)، وعلى أي فإنه لا يحرم إلا إظهاره.والعقل مستقل بقبح الإظهار وحرمته في الاختياري وغيره.

والنهي فيه _ على ما نرى _ مولوي؛ لانطباق الضابط الأول عليه.

ولا يخفى أن تفسير الكثير من الروايات كما في الكافي وغيره للآية ب(نحن المحسودون الذين قال الله، على ما آتانا الله، من الإمامة)(3) تفسير بأجلى المصاديق.

و (التمني) هو قول القائل لما لم يكن، ليته كان كذا، وليته لم يكن كذا، لما كان.

وقد ورد في شأن النزول أن أم سلمة قالت: (يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزوا ونبلغ ما يبلغ الرجال) فنزلت الآية.(4)

وقيل في شأن نزولها: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن

ص: 499


1- الفقه، المحرمات: ج93، ص103.
2- أي في (ليأكل الإيمان) إذ ما وجب من الإيمان، حرم ما يزيله، دون مارجح منه واستحب.
3- الكافي: ج1، ص205، ح1، بحار الأنوار: ج23، ب17، ص287، ح7.
4- تفسير مجمع البيان: ج3، ص73.

نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا نرجوا أن يكون الوزر علينا، نصف ما على الرجال في الآخرة، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فنزلت الآية) أي «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً».(1)

ولا تهافت بين شأني النزول؛ إذ قد ذكرنا في (دروس في التفسير والتدبر) أن الآية الواحدة أو جملة من الآيات كانت تنزل مراراً عديدة على رسول الله صلى الله عليه وآله، بمناسبات عديدة، كما أن القرآن كله أنزل أكثر من مرة، إحداها نزوله جملة في ليلة القدر.

ومن التفسير بالمصداق قول الإمام الصادق عليه السلام: (لا يقول أحدكم: ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء، كان لي؛ فإن ذلك يكون حسداً، ولكن يجوز أن يقول اللهم أعطني مثله)(2).

والظاهر أن (سؤال الله من فضله) من المستقلات العقلية أيضاً، بل هو أمر فطري كذلك؛ فإنه جلب منفعة، وطلب من العالي بل المولى الحقيقي جل اسمه.

قوله تعالى «وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3)، وقد سبق بيانه.

ص: 500


1- النساء: 32، تفسير مجمع البيان: ج3، ص73.
2- مجمع البيان: ج3 ص74
3- الأنفال: 46.

قوله تعالى «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»(1) والإصلاح بين الأخوين مسألة فقهية كما هو مسألة أخلاقية لذا أدرجناه في العنوانين وقد سبق بعض الحديث عنه.

قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ»(2)، وقد سبق بيانه.

قوله تعالى «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا»(3)، وقد سبق بيانه.قوله تعالى « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ».(4)

قوله تعالى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(5)، وقد سبق بيانه.

خفض الجناح للمؤمنين

قوله تعالى «اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»(6) ، وفي آية أخرى «وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين».(7)

وحيث أن العام والخاص المثبتين، لا يقيد أحدهما الآخر، كان التقييد محمولاً على مراتب الفضل والتأكيد.(8)

وهل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وآله؟ الظاهر لا، لما قد فصلناه في

ص: 501


1- الحجرات: 10.
2- آل عمران: 200.
3- النساء: 97.
4- آل عمران: 159.
5- الشورى: 38.
6- الحجر: 88.
7- الشعراء: 215.
8- فإن خفض الجناح لمطلق المؤمن حسن، ولمن اتبعه من المؤمنين أحسن.

(شورى الفقهاء) من كون الأصل في خطابات القرآن للنبي صلى الله عليه وآله إنها عامة للجميع.

وعلى أي فإن (خفض الجناح) للمؤمنين _ أي التواضع لهم والرفق بهم _ يعد من المستقلات العقلية، حسناً، وأما وجوباً (فإذا توقف عليه واجب الهداية والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجب)(1)، فيكون استقلال العقل بحسنه عندئذٍ مبنياً على كلي الالتزام في بحث الاستلزامات، بالترشح أو بصرف القول باللابدية العقلية.

الصفح الجميل

قوله تعالى «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ».(2)

وروي عن علي بن الحسين عليهما السلام: (إن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب)، كما ورد ذلك عن الإمام الرضا عليه السلام.(3)

وقال في الفقه: (الفرق بين العفو والصفح: أن (الصفح) إبداء أنه لم يرَ، و (العفو) أنه بعد أن أظهر الرؤية، يعفو عن الذنب).(4)والظاهر أن العقل مستقل بحسنهما بذاتهما حتى مع قطع النظر عن كونهما شكراً للنعمة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه).(5) وهذا مع قطع النظر عن

ص: 502


1- الفقه، الواجبات: ج92، ص100.
2- الحجر: 85.
3- وسائل الشيعة: ج12، ص170-171، ح6و7.
4- الفقه، الواجبات: ج92، ص159.
5- نهج البلاغة: ج4، ص4، ح11.

أنها مما يدفع به الضرر المحتمل.

والظاهر أن الأمر مولوي _ للندب، لا إرشادي، ولا للوجوب إلا لو توقف عليه الواجب.

وعن ابن عباس وآخرين: (إن الآية منسوخة بآية القتال)(1)، لكن لا تعارض ليلتزم بالنسخ، إذ لكل مورده إذ يحسن قتالهم والشدة عليهم في موضعه، كما يحسن العفو الجميل عنهم في موضعه، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله، حتى آخر أيام جهاده، كان يصفح عنهم صفحاً جميلاً متى أمكنه الله منهم، كما في فتح مكة.

ص: 503


1- مجمع البيان: ج6، ص129.

ص: 504

المبحث التاسع : هل الأمر الإرشادي خبر أم طلب أم قسيم له؟

اشارة

ص: 505

ص: 506

الظاهر أن الأمر الإرشادي كالمولوي، (طلب)، وليس قسيماً له بدعوى أنه مما ينشأ كسائر الإنشاءات المغايرة للطلب كالترجي والتهديد والتمني.

بل هو طلب بداعي الإنشاء، وقد استعمل الأمر فيه، في الموضوع له، حقيقة، وإن اختلف الداعي، فيكون كمسلك الآخوند في استعمال الأوامر في التهديد أو الترجي أو ما أشبه، مما هو مستعمل في الموضوع له حقيقة وإن اختلفت الدواعي، ولئن نوقش في هذه الكبرى ولم يُرتضَ مسلك الآخوند على إطلاقه، فإنه لا نقاش في الأمر الإرشادي في كونه كذلك.

فإن النقاش في التهديد والتمني والإرشاد وغيرها مما كان بصيغة الأمر أو النهي، يتصور في موضعين:

الأول: هل تدل تلك الأوامر المستعملة في مقام التهديد والإرشاد و... على الطلب أم لا؟

أي هل الطلب تمام أو جزء الموضوع له أو المستعمل فيه، أم لا؟

ص: 507

الثاني: هل تدل، على التهديد والتمني والإرشاد _ سواء دلت على الطلب أم لا؟ _ باعتباره جزء الموضوع له أو جزء المستعمل فيه، أو هي مجرد دواعي كما ذهب إليه الآخوند، ولا تلازم بين البحثين والدلالتين، كما لا تلازم بين دلالة الأمر التهديدي على الطلب وعدمه، وبين دلالة الأمر الإرشادي عليه وعدمه.

من أدلة كون الأمر الإرشادي طلباً

وعلى أي فإن الأمر الإرشادي (طلب) وليس قسيماً له.

ويظهر ذلك أيضاً بملاحظة أمر (الإطاعة) على القول بإرشاديته؛ للزوم التسلسل أو تحصيل الحاصل أو غيرهما من المحاذير، من مولويته، فهل تجد أنه لا طلب فيه؟

وكذلك الأمر في كل (المستقلات العقلية) _ على القول الذي لعله المشهور من كونها إرشادية كما فصلنا بحثه في الضابط الخامس _ فهل لمدعٍ أن يدعي أن (اعدلوا) أو (توبوا إلى الله) أو (لا تظلم) لا طلب ولا زجر فيه؟ لأنه إرشادي، وكذلك أوامر الواعظ والناصح، فهل ترى أن أمر الواعظ الناس بالصلاة والصوم، مجرد عن الطلب؟

وكذلك يظهر ذلك بملاحظة حال الطبيب أو حالنا لو أمرنا ولدنا المريض، بشرب الدواء الكذائي، فإننا نجد من أنفسنا أننا طلبنا منه شرب الدواء، سواء طلبناه منه مولوياً ومع إعمال مقام المولى والأب، أم طلبناه منه صِرفاً بداعي الإرشاد لمصلحته وشفائه.

ص: 508

خصوصاً في (المميز) فإنه ليس بلحاظ مقام المولوية دائماً، بل على ما ذهبنا إليه من وجود النوعين للأمر المولوي، فإنه قد يكون (مولوياً نصحياً) وليس (مولوياً يستحق عليه العقاب) أي ليس من قسم (المولوي في مقام التشريع)، والحق أن الأقسام الثالثة متصورة في المقام(1) وفي كلها الطلب.

هل الأمر الإرشادي خبر؟

أما القول بأن الأمر الإرشادي هو (نوع من الخبر) وإنه إخبار صرف عن المصلحة.

فإنه خلاف الوجدان، وقد اختلط على قائله ما بالذات وما بالعرض؛ فإن الأمر الإرشادي طلب كاشف عن المصلحة، بل لدى الدقة: كاشف عن اعتقاد الآمر بوجود المصلحة، سواء كشف عن (المصلحة) حقيقة أيضاً _ كما في أوامر مولى الموالي ورسله والأصياء عليهم السلام _ أم كشف عن صرف اعتقاده بها، طابق الواقع أم لا.وبعبارة أخرى: هو (طلب) يدل بالدلالة الالتزامية على المصلحة، أي لازمه (الخبر)، أو يقال إنه يدل على ما ابتنى عليه الطلب وهو وجهه، أي هو الخبر عن المصلحة، فالخبر(2) (ملزومه) ثبوتاً و (لازمه) إثباتاً.

وبعبارة أخرى: (متقدم طبعاً على الإرشاد وإنشاء النصح) و (متأخر عنه في عالم الإثبات والدلالة).

ص: 509


1- الإرشادي والمولوي النصحي والمولوي التشريعي.
2- أي مؤداه ومفاده من المصلحة أو الاعتقاد بها.

ولا يمكن الاستدلال باستعمال الإخبار في الإنشاء _ كما في (يعيد صلاته) وكما في (الدعاء) _ فإنه مما ورد في اللغة وجرى عليه العرف، وهو _ بعدُ _ بحاجة للقرينة، أما عكسه فلا، نعم هو ممكن ذاتاً، بأن يأمر أمراً إرشادياً ب(اشرب هذا الدواء) مجرداً إياه من الطلب، قاصداً صرف الإخبار _ بصيغة الأمر هذه _ بالفائدة فبدل أن يقول له: (هذا الدواء مفيد) يقول له: (اشربه) قاصداً المعنى الخبري المحض.

وبذلك اتضح أن كلاً من الموضوع له(1) والمستعمل فيه، في الأمر الإرشادي، هو (الطلب).

وإذا كان طلباً فهل هو قسيم للوجوب والندب أم قسم منهما؟

يبقى أن الأمر الإرشادي _ بعد الفراغ عن كونه طلباً _ هل

أ _ هو قسيم للوجوب والندب(2) فيكون الأمر على ثلاثة أقسام: ما دل بالوضع أو القرينة المعينة(3) على الوجوب، وما دل على الندب، وما دل على الإرشاد.

ب _ أو هو قسم منهما(4) أي الأمر إما للوجوب أو الندب، وكل منهما إما مولوي أو إرشادي؟

ص: 510


1- أي بلحاظ إنطباق الكلي الطبيعي لوضع _ المادة والصيغة _ عليه، إذ لا وضع خاص له.
2- أي قسيم للأمر الدال على الوجوب وللأمر الدال على الندب _ فدقق، ولك أن تقول: مؤدى الأمر الإرشادي هل هو قسيم للوجوب والندب؟
3- - أي لا الصارفة، فإنها في خصوص المجاز، أما المعينة فإنها لتعيين المراد من أحد فردي المشترك اللفظي أو المعنوي.
4- أي قسم من الأمر الوجوبي والندبي _ كما سبق.

كلام الشيخ والميرزا (قدس سرهما) بأن الإرشادي على قسمين

وهو ظاهر ما نقله المحقق الرشتي عن الشيخ الأنصاري (قدس سرهما) قال: (بأن ينقسم كل من الأمر الإلزامي وغير الإلزامي، إلى الإرشادي وغيره كما عليه شيخنا العلامة)(1).

ويمكن العكس(2) أي الأمر إما إرشادي أو مولوي، وكل منهما إما يفيد الوجوب أو الندب، وهذا هو الظاهر من المحقق الرشتي حيث قال: (سواء بلغ النصح مرتبة لا يرضى بتركهالآمر الناصح، كأوامر الإطاعة أو لم يبلغ تلك المرتبة، فهو أيضاً كغيره ينقسم إلى الوجوبي والندبي).(3)

وهو ظاهر الميرزا الشيرازي الكبير أيضاً قال: (الثانية: عدوا من معاني صيغة الأمر، الإرشاد، ومن المعلوم أنه قد يقع بطريق الحتم وقد يقع على غير وجه الحتم)(4) والظاهر أن مراده من (الحتم): الوجوب، لا اللابدية العقلية(5)، بل ذلك صريح عبارته اللاحقة، حيث صرح بوحدة حقيقة الوجوب في الأمر الإرشادي معه في المولوي.(6)

ص: 511


1- بدائع الأفكار: ص266.
2- والسر أن كلاً من الدال والمدلول عليه (أي الأمر والوجوب مثلاً) يصلح لأن يوصف بالمولوية والإرشادية، كما أن كلاً من هذين الداعيين يمكن وصفه بالإلزامي وغيره. وبعبارة أخرى: أن كلاً من الإرشادي والمولوي والوجوب والندب يمكن تقسيمه إلى الآخَرين؛ بلحاظ أن الأربعة كلها بين مدلولةٍ للأمر وبين دواعي له.
3- - بدائع الأفكار: ص266.
4- تقريرات المجدد الشيرازي، للمولى علي الروزدري ج2، ص16.
5- بل لعلها لا معنى لها في المقام _ فتدبر.
6- المصدر.

إشكال التضاد بين الإرشادية والإيجاب، وجوابه

لكن قد يورد عليه بالتهافت؛ فإن (الإرشاد) يناقض (الإيجاب) بل حتى (الندب).

وقد يجاب: بأنه يناقض الإيجاب المستتبع لاستحقاق العقاب والثواب، وهو خصوص (الإيجاب إذا كان في مقام التشريع) لا مطلق الإلزام(1) فكيف بالندب.

والصحيح أنه: لا يناقض ذاك(2) أيضاً لما فصلناه في مبحث إجتماع الجهتين، فإنه لا يناقض (المولوي) بالمعنى الأخص؛ (الإرشادي) بالمعنى الأخص(3) على حسب بعض الضوابط، فكيف يتنافى الإرشادي والإلزام؟ فليلاحظ.

وإن كان لفظ (الإرشاد) قد يوهمه؛ لشدة أنس بعض الأذهان بكونه عارياً عن الإلزام، غفلة عن أن (الإرشادي) لا يراد به ما توهموه، بل يراد به: إما (ما صدر من المولى لا بما هو مولى)(4) سواء تضمن إلزاماً أم لا، أو (ما صدر لمصلحة الدنيا)(5) كذلك(6)، أو غير (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته)(7) كذلك، أو (غير المستقلات العقلية)(8) كذلكأو

ص: 512


1- الأعم من (الإيجاب النصحي).
2- أي الإيجاب المولوي التشريعي.
3- لاحظ تعريفنا للمولوي والإرشادي بالمعنى الأخص في موضع آخر من الكتاب.
4- وهو الضابط الأول.
5- وهو الضابط الثاني.
6- أي سواء تضمن إلزاماً أم لا.
7- وهو الضابط الثالث.
8- وهو الضابط الخامس.

ما أشبه، وكلها أعم من (الإلزام)، بل أن (الإرشاد) كما ورد في الآيات والروايات أيضاً أعم، فراجع الفصل المتعلق بذلك.

ويظهر ذلك بملاحظة حال الطبيب حيث قد يرشد إلزاماً لدواء _ لدى خطورة المرض _ وكذلك الواعظ والخطيب حيث يرشدان إلزاماً، للواجبات كالصلاة والصيام، ويردعان زاجرين إلزاماً عن الزنا والسرقة، ويرشدان ندباً إلى صلاة الليل والصدقة وهكذا، بل قد نرى ذلك من (المستشار) ومن (الصديق) _ فإنه قد يطلب _ بإلحاح أو بدونه _ أمراً مما يعود لمصلحة المأمور أو الآمر، نادباً له تارة وموجباً أخرى، بل قد يصعب تصور المجرد عنهما وإن صح ووقع.

لكن قد يورد عليه: بأنه لو أَلزَمَ خرج عن مقام الإرشاد إلى مقام المولوية، ولو إدعاءً.

ويظهر إندفاع هذا الإشكال بملاحظة (الضابط) في المولوي والإرشادي، وتعريفهما، كما سبقت الإشارة إليه، ونضيف:

(الإيجاب) اعتبار وهو خفيف المؤونة

إن التحقيق: أن (الإيجاب): (اعتبار) وهو خفيف المؤونة، فإنه عبارة عن (إلزام الآخر بالعمل بشيء) و (حكمه عليه بذلك) أو (إيجاد الإلزام في عالم الاعتبار) أو (إبراز ذاك الاعتبار) حسب المباني، فلغير المولى أن يرشد (ملزماً) أي: موجداً لهذا الاعتبار أو مبرزاً له، وللمولى حال كونه غير معمِل مقامه، أن يرشد كذلك، وأدل دليل على إمكان الشيء

ص: 513

وقوعه، بل إننا نجد من أنفسنا ذلك فيهما(1) بل(2) نجد من أنفسنا، أن الداني قد يأمر مرشِداً ملزماً مع علمه بكونه دانياً، بل حتى مع عدم استعلائه فتأمل.(3)

(الإلزام) في (الأمر الإرشادي)

لكن الكلام هو في كونه ملزماً للآخر أو لا؟ فهل لو أوجب وجب؟ أي بإنشائه الإيجاب _ بعد الفراغ عن إمكانه ووقوعه _ هل على المخاطب أن ينبعث؟ ولو لم يكن الآمر مستعملاً مقام مولويته؟ أو ولو لم يكن مولى بل كان عالياً فحسب؟ أو بدونه _ مساوياً كان أم أدنى _ أيضاً مع الاستعلاء، أو حتى بدونه؟(4)

وبعبارة أخرى: الكلام في حكم العقل بلزوم الانبعاث عن مطلق الإلزام، وليس في وجوده وعدمه، إذ إيجاده في عالم الاعتبار بلا مؤونة.

من وجوه (الإلزام) في الأمر الإرشادي كونه (مولى ومالكاً)

وبعبارة ثالثة: الكلام في وجه الإلزام ومنشئه، وهل هو مما يُلزِم _ عقلاً أو شرعاً أو عرفاً _ أم لا؟أ- ففي الأمر المولوي وجهه: (كونه مولى ومالكاً)، و (إعماله) مقام

ص: 514


1- أي غير المولى، والمولى غير معمل مقامه.
2- الترقي بلحاظ حمل (غير المولى) الآنف، على المساوي، وإلا كان ذكراً لأحد مصاديقه.
3- سيظهر وجهه مما سيأتي والجواب عنه.
4- وقد يقال بعدم إمكان هذا الأخير موضوعاً إذ لا يعقل إيجابه مع عدم كونه مولى ولا عالياً ولا مستعلياً، ولو فعل كان صورياً، نظير الاستهزاء، لكن سيظهر إمكانه ووجهه من ما سيأتي في (من وجوه وأدلة السلطة) فلاحظ.

مولويته، سواء مقام مولويته التشريعية أم مولويته _ النصحية.(1)

ب- وفي الأمر الإرشادي _ الإلزامي من المولى، وجهه: كونه (مولى ومالكاً) كذلك وإن لم يعمل مقام مولويته التشريعية ولا مقام مولويته النصحية.

ويظهر الفرق في:

استحقاق (العقاب) لو أعمل مقام مولويته بما هو مشرع.

واستحقاق (العتاب) لو أعمل مقام مولويته النصحية، فلم يمتثل، ويراد بالعتاب ما كان بلحاظ مخالفة المولى، كالعقاب، لا بلحاظ صرف ملاحظة التفريط بمصلحة المتعلق.

وعدم استحقاقهما لو أمر مرشِداً ملزماً دون إعمال مقامه بأي النحوين، فلم يمتثل، نعم يستحق العتاب، لكنه لا بلحاظ تفريطه بمقام المولى الناصح بل بلحاظ تفريطه بمقام المرشِد الناصح.

هل (العلو) من وجوه الإلزام؟

ج- وأما وجه (الإلزام) في الأمر الإرشادي _ الإلزامي من غير المولى، فمع كونه عالياً، فقد يقال إن وجهه: (كونه عالياً)؛ فإن العقل يرى أن له (أن يلزم)، مع رؤيته وجوب الالتزام، لكن الأصح إن ذلك ليس لكونه عالياً بل لما سيأتي في المساوي والأدنى ولعله بالأولوية.

وبعبارة أخرى: ليس الملاك الوحيد لحكم العقل بلزوم الإطاعة هو:

ص: 515


1- فصلنا في موضع آخر تعريفهما والوجه فيهما.

صدور الأمر عن المولى، بل يكفي _ في الجملة _ صدوره عن العالي.(1)

وقد يصار إلى التفكيك بين الإلزام والإلتزام، بأن يقال بأن الحق (للآمر) في الإلزام والحق (للمأمور) بعدم الإلتزام؛ إذ لا تلازم بين الأمرين، ولخصوص هذا مجال آخر من البحث، وأنه هل يجري ما ذكر من إمكان التفكيك في الأحكام الظاهرية، في الأحكام العقلية أيضاً؟

وقد ذكرنا طرفاً منه في (مباحث الأصول).

وجوه أخرى للإلزام

اشارة

د- وأما وجه (الإلزام) في الأمر الإرشادي الإلزامي، من غير المولى، ممن لم يكن عالياً، بل مساوياً _ كالصديق _ أو أدنى _ كالولد _ فإن انبعث عن مصلحة بالغة، أو حق عقلي أو شرعي أو عرفي، فما يمكن أن يذكر من الوجوه للإلزام هو:

أ- لأنه أمر بذي المصلحة البالغة

الوجه الأول: إنه قد يقال بإلزام العقل له، لا بلحاظ، لحاظ المصلحة البالغة فحسب، كي لا يكون للأمر أثر، بل بلحاظ إلزام الآمر أيضاً، أي (لأنه أمر بذي المصلحة البالغة، فأتبعه) ووجهه: أن (العقل) يعتبر له سلطة من هذا الحيث، بل (الفطرة) بذلك قاضية أيضاً، وعلى ذلك بناء العقلاء. واستحقاقه العتاب(2) _ وهو من مراتب العقاب _ هو

ص: 516


1- التقييد ب(في الجملة) إذ ليس كل ما صدر عن العالي، لازم الإطاعة بحكم العقل بل مع قيود ستتضح مما سيأتي، وهي (الملاك للإطاعة).
2- إذ يلومه العقلاء.. ويقال له: لماذا لم تسمع كلامه أو كلامها؟ ولا يقتصر في العتاب على عدم الفعل نفسه وإهماله المصلحة البالغة، بل يسند أيضاً إلى تركه نصح الناصح الملزِم وإن كان أدنى، وصرفه للأول خلاف الظاهر، ولذا يرمى بالتكبر مثلاً لو خالف فإن هذا الوصف ظاهر في أن نسبة الأمر إلى الآمر قد لوحظت، لا مصلحة الواقع ومفسدته فقط.

البرهان الإني على ذلك _ فتأمل(1)

ب- منشأ السلطة (مالك الملوك) ورجوع الإلزام له مآلاً

اشارة

الوجه الثاني: وقد يدعى استناد تلك السلطة إلى المالك الحقيقي تعالى شأنه وإن لم يكن (الآمر) مولى ومالكاً، وأن الإلزام يعود إليه بالمآل؛ استناداً إلى أحد الأدلة التالية:

1- لظواهر أدلة الأمر بالمعروف
اشارة

1- ظواهر أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد قبول كون (المعروف) الأعم من (المأمور به) شرعاً و (ذي المصلحة)، وبعبارة أخرى أعم من (المعروف شرعاً وعرفاً)(2) وتسليم أنه باق على معناه اللغوي والعرفي، وإن تصرف فيه الشارع زيادة ونقصاً، وبعد قبول أن (الأمر) أعم من الإرشادي والمولوي، لكن قد يصار إلى عدم تمامية الشرط الأول ومسلّمية الشرط الثاني.

أما الأول فلكفاية الحديث عن وجه (الإلزام) في أمر غير المولى ممن لم يكن عالياً أيضاً، لو أمر بالمعروف الشرعي (أي خصوص المأمور به في الشرع، كالصلاة والصوم)، أو نهى عن خصوص المنهي عنه في الشرع مرشداً ناصحاً.

ص: 517


1- إذ سبق أن (الإرشادي) لا عقاب عليه فكيف بما كان من غير المولى ومن غير العالي؟ وفيه: أنه يراد بالعتاب غير العقاب فلا تناقض.
2- وقد فصلنا المراد ب(المعروف) وإنه يراد به المعروف، شرعاً أم عرفاً أم عقلاً أم غير ذلك عند التطرق للآية الشريفة، في هذا الكتاب فراجع.

ودعوى أن الوجه شمول أدلة الأمر بالمعروف له، فلا يرد عدم كونه ملزماً بما هو أمر صادر منه إرشاداً يجاب عنها: إضافة إلى ما سبق من مخالفته بناء العقلاء والعرف والاعتبار، بشمول أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له، هذا مع قطع النظر عن النقاش المبنائي وأن (المعروف) أعم من الشرعي والعقلي والعرفي، كما أشرنا له في فصل آخر.

وأما الثاني فلأن (أءمر بالمعروف وأنه عن المنكر) قد يقال بمسلميّة كونه أعم من المولوي والإرشادي _ ولو فيما إذا صدر من المولى في الاول ومن غيره في الثاني _(1) والانصراف ل(الأمر) مولوياً، بدوي، فتأمل.

هل للآمر بالمعروف مولوية طولية؟

بل قد يقال: إن الظاهر أن الآمر بالمعروف له (مولوية طولية) وليس مجرد (ناقل) أو (مخبر) إذ ليس شأنه شأن (المرآة العاكسة) فقط، أو العلامات والنُصُب المشيرة، وذلك مما نراه من أنفسنا بالوجدان.

ويشهد له الاعتبار، وذلك سواء أمر مولوياً أو إرشادياً بذلك.

لكن قد يقال: هذا وإن صح، إلا أنه لا ينفع في المقام من دعوى السلطة للآمر إرشاداً، وهو مساوٍ أو أدنى، إلا أنه يقربه، إذ مآل هذا إلى أن (الأمر) ولو إرشاداً، له المولوية فهو خروج موضوعي.

وفيه: إن (أمره) قد يكون إرشادياً، لكن وجه الإلزام فيه المولوية.وبعبارة أخرى: قد يأمر بما هو ذو الولاية، وقد يأمر بما هو ناصح

ص: 518


1- الأول (المعروف الشرعي) والثاني (المعروف العرفي).

لكن مولى الموالي يعتبر نصحه لازم الاتباع، وبملاحظة (ضابط) المولوية والإرشادية المذكور في فصله وملاحظة (الطولية) في المقام، يظهر إندفاع الإشكال بجلاء.

وبعبارة أخرى: هو (إرشادي) بلحاظ نسبته للآمر و (مولوي) بلحاظ نسبته لمولى الآمر، وسيأتي بيان آخر لذلك بعد قليل بإذن الله تعالى.

2- ولأدلة الهداية والإضلال

2- واستناداً إلى المستفاد من قوله تعالى: «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك».(1)

فالملاك: (الإضلال) و (الهداية)؛ فإن الظاهر أن عنوان (يضلوك) هو العلة التامة لمذمومية (الإطاعة) وحرمتها، فيكون عنوان (يهدونك) في المقابل، كذلك _ أي علة لممدوحية الإطاعة ووجوبها.

وبعبارة أخرى: يتشكل قياس استثنائي هو:

أ: إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك.

ب: لكن الإضلال _ فاعلاً وقابلاً _ حرام.

ج: فالإطاعة حرام.

ويفهم بعلاقة التقابل حكم ضده _ سواء كانا ضدين لا ثالث لهما أم لا _ فإن المتفاهم عرفاً من هذا الكلام (وإن تطع الأقل منهم يهدونك) (لكن الهداية _ فعلاً وقبولاً _ واجبة) (فالإطاعة واجبة).

ص: 519


1- الأنعام: 116.

بل إننا لسنا مضطرين للتمسك بهذه الآية الشريفة في الاستدلال؛ إذ يكفينا قوله تعالى «فبهداهم اقتده»(1) و «إن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم» (2)وغيرهما، والحاصل أن من أطاعته هداية، فإنها محمودة لازمة، وإن كان أدنى، بل ولازمة، فلأنه (هادي) تلزم إطاعته سواء كان آمراً بما هو مولى معمِلاً مقامه، أو بما هو ناصح، فإن إطاعته لازمة بما هو مأمور بالأمر بالهدى والمعروف _ فيكون مولوياً طولياً _ كما سبق _ بهذا الاعتبار _ أي بأوْله إلى المولوي وكونه (استناداً) مولوياً، لا يقتضي انقلاب ذاته من الإرشادية للمولوية كعكسه أي لو أمر إرشاداً بإطاعة أوامره المولوية كأمر الواعظ وكأمر الإطاعة حسب رأيهم.

3- ولتقريره تعالى لأمر مؤمن آل فرعون

3- وإلى تقريره تعالى في قوله «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين»(3) سواء كان النصح بمعنى الخلوص أو الإحكام، أم ما نعهده من الموعظة، وتحري صلاح الغير بقول أو فعل _ وقد فصلنا ذلك في موضع آخر.

إذ الظاهر أن (أخرج) أمر إرشادي إلزامي بقرينة تناسب الحكم والموضوع، من الأدنى، ولا يصلح ما بعده(4) صارفاً كما سبق فتأمل.

ص: 520


1- الأنعام: 90.
2- الأعراف: 193.
3- القصص: 20.
4- وهو «إني لك من الناصحين».
4- ولآية الدعوة لسبيل الله تعالى

4- وإلى قوله تعالى «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(1) بعد وضوح شمول الأمر ب (أدع) لكل مسلم وأعلى أو مساو أو أدنى، من المدعو والمتعظ. والرسول صلى الله عليه وآله، طرف الخطاب وليس المقتصر عليه الخطاب.

والظاهر شمول «أدع» للدعوة بأمر مولوي أو إرشادي وغيرهما، فلو (دعى) وجب القبول ولو (وعظ) وجب (الإتعاظ).

ووجوب (الإتعاظ) ليس للزوم اللغوية لولاه؛ كي يستشكل بعدم لزومها دائماً _ فتأمل، بل لأنه المتفاهم عرفاً من هذا الكلام الملقى للعرف فهو كقوله تعالى «ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون».(2)

ولا يخفى أن بعض هذه الأربعة يمكن عده وجهاً مستقلاً دون حاجة لإرجاعه للوجه الثاني _ فتدبر.

ج- منشأ الإلزام والسلطة، كونه (حقاً)

الوجه الثالث: وقد يقال بأن السلطة ناشئة من (الحق)(3) وهو اعتبار آخر غير المصلحة، فإنه مع قطع النظر عن وجود مالك حقيقي وإعطائه سلطة، أو قوة كالعقل وإعطائها السلطة، يجد المرء أن (الحق) في نفس

ص: 521


1- النحل: 125.
2- التوبة: 122.
3- هذ الوجه قسيم للوجهين السابقين لو قيل بأن سلطة (الحق) ثابتة مع قطع النظر عن حكم العقل أو الشرع بها، وإلا كان وجهاً لهما لا قسيماً.

الأمر ومتن الواقع هو منشأ السلطة لذي الحق _ سواء كان حقاً شخصياً أم حقاً نوعياً(1) _ فتأمل.

وفي المقام فإن هنالك (حقاً) في نفس الأمر ومتن الواقع، لكل شخص بأن (يرشد) غيره من بني نوعه ملزماً إياه بما هو (حق) أو بما هو (ذو مصلحة بالغة)، فعليه أن يلتزم ويطيع.

ولا يخفى أنه ينبغي التمييز بين أمور ثلاثة: (ملاك الإلزام) و (من هو الملزِم) و (الدليل عليه في عالم الإثبات).

والأول هو: (المصلحة البالغة) و (الغرض) و (الحق)، وقد يقال إنه (المولوية) و (المالكية) لكنها صغرى الثالث(2) ولعل الأول منه أيضاً.

والثاني هو: الشرع أو العقل أو الفطرة، وقد يكون هو (العرف)، وقد تجتمع كلها في أمر كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى).

والثالث هو: ما استندنا إليه في الوجه الثاني من الآيات الكريمة وكذا الروايات، وفي الوجه الأول والثالث من بناء العقلاء، وكذا إرشاد الوجدان إلى صريح حكم العقل وشهادة الفطرةبذلك، بل و (الإجماع) اللطفي أو الحدسي أو غيرهما، على بعض المصاديق(3) وغيره، ولم نفصل في البحث بين هذه الثلاثة لملاحظة اعتبار آخر، فليدقق.

هذا كله في غير المولى وغير العالي.

ص: 522


1- راجع للتفصيل حول منشأ (الحق) و (السلطة)، الفقه: الحقوق، ج100 من موسوعة الفقه.
2- أي الحق.
3- ك(حق) مولى الموالي والرسول والأوصياء عليهم السلام، في (الإلزام)، وكحق (العقل) فيه حاكماً أو مدركاً على القولين.

للمولى مقامان: مقام المولوية ومقام النصح، ولهما شُعَب

أما (المولى) فقد يقال أنه لا ريب في أنه وبما هو مولى له مقامان:

مقام المولى والمولوية، وبلحاظ مقامه هذا قد (يشرّع) حكماً كلياً، وقد (يأمر) بمصداق خارجي، وقد (ينصح) ملزماً.

ومقام الناصح والهداية، وبلحاظ مقام (الناصح) قد (يأمر) وقد (يرشد) دون أمر، أو (يخبر)، ولذا نجد اختلاف نصح المولى عن غيره فإن استناده له هو السبب لذلك _ فتدبر.

وبوجه آخر إنه قد يظهر في مقام الآمر وقد يظهر في مقام الناصح، وقد يأمر ناصحاً أو ينصح آمراً.

وبعبارة أخرى: المولى قد يأمر بما هو مولى _ أي مولوياً _ وهو على هذا إما أن يأمر مشرّعاً أو مطبّقاً(1) أو ناصحاً ملزماً، وقد يأمر لا بما هو مولى، بل بما هو عال _ إرشادياً بل حتى مولوياً(2) _.

ومن مصاديق (علوه) لو أمر بما هو محيط بالجهات لكن مولويته في هذا لا بلحاظ (مالكيته) بل بلحاظ إحدى الوجوه الثلاثة المذكورة آنفاً _ فتأمل، أو بما هو محب مثلاً أو صديق أو ما أشبه، كذلك.

وحدة حقيقة الوجوب في الأمرين المولوي والإرشادي

ولعل مما يوضح ذلك ويسهل قبوله: إيضاح أن حقيقة الوجوب والإيجاب في الأمر المولوي والإرشادي، وكذا الندب والاستحباب

ص: 523


1- أي مطبقاً لكلي ما شرّعه على المقام.
2- إذا أمر لا بما هو مالك.

فيهما، واحدة.

قال الميرزا الشيرازي، بعد أن ذهب إلى أن الإرشاد ليس من مقولة الإخبار بل الإنشاء، وأنه من الطلب لا الإيقاع:

(... هل هو _ أي الأمر الإرشادي _ مغاير للوجوب ومباين له بحسب الحقيقة فيما إذا كان بطريق الحتم، وللندب كذلك، إذا لم يكن بطريق الحتم والإلزام، أو أنه متحد في الصورة الأولى للأول، بحسب الحقيقة، وفي الثانية، للثاني كذلك، وإنما يغايرهما بالأمور الخارجية، ويكون هو والوجوب والندب من الأفراد المتماثلة المتحدة بحسب الحقيقة، المختلفة بالخصوصيات الخارجية كأفراد إنسان وفرس وغير ذلك، وأصنافها؟ الظاهر الأخير أعني كونه طلباً ومتحداً مع الوجوب والندب في الحقيقة).(1)

والظاهر أن مقصوده من (هل الأمر الإرشادي مغاير للوجوب..) هو أن (المُنشَأ به) مغاير للوجوب أو لا؟ لا الأمر بنفسه؛ إذ الأمر سبب للوجوب، وليس عِدلاً له حتى يبحث عنالتغاير أو الاتحاد؛ فإن (الأمر) فعل ولفظ وعلة أو مبرِز والوجوب مفعول واعتبار ومعلول أو مبرَز.(2)

لا فرق بين (الأمرين) حتى في منشأ الطلب

بل الظاهر أنه لا يصح حتى تفريقه بينهما بالمنشأ، فقد قال: (إن منشأ الطلب قد يكون (الاقتضاء في نفس الآمر)، فيكون لخصوصية الآمر مدخلية في الأمر فيكون حينئذ وجوباً أو ندباً، وقد يكون مجرد

ص: 524


1- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص17.
2- اللفّ والنشر، مرتب.

مصلحة الشيء المأمور به من دون اقتضاء له بحيث يمكن اجتماعه مع بغضه وقوعَ الفعل في الخارج، فيكون طلبه حينئذ من لسان المصلحة بحيث لا يدخل خصوصية نفسه في هذا الأمر فيكون إرشاداً).(1)

فإن في الإرشاد أيضاً: (الاقتضاء في نفس الآمر) وإلا لما رجح أمره بذي المصلحة، لكنه تارة (يدخل نفسه) بما هو مولى، وأخرى (يدخل نفسه) بما هو ناصح، أي إن (الاقتضاء في نفس الأمر، وكذا الطلب والإيجاب) قد يكون لكونه مالكاً، وقد يكون لكونه (محباً مشفقاً) ف(لخصوصيته مدخل) في الموردين لكن تارة خصوصية مالكيته وأخرى خصوصية شفقته ومحبته.

بل قد يقال: إن أوامر الشارع هي للجهة الثانية؛ فإنه جل اسمه لأنه (رؤوف بعباده، رحيم بهم) شرّع وأمر ونصح وأرشد، لا لأنه مالك لهم وإن صح ذلك أيضاً؛ فإنه لا يزيده أمره ونصحه بما هو مالك شيئاً، ولا ينقصه، أي ليس من لوازم (مالكيته) ذلك، لكنه من لوازم ومقتضيات (رحمته) التي ألزم بها نفسه والتي وسعت كل شيء والله العالم.

الفرق في منشأ المنشأ

نعم الفرق في (منشأ المنشأ).

وبعبارة أخرى أمره في الموردين(2) هو لرغبة وشوق وإرادة في نفس الآمر، لتحقق المأمور به في الخارج، بعثته للأمر، وإلا لما أمر، بل لما أمكن أن يأمر.

ص: 525


1- المصدر.
2- الإرشادي والمولوي.

نعم (منشأ) هذا الاقتضاء الذي في نفسه حسب تعبيره _ أو الرغبة والشوق والإرادة فإنها مرجعه(1)_ ومنشأ دخالة خصوصية ذاته، قد يكون لحاظه مولويته وخصوصية ذاته بما هو مالك وقد يكون لحاظ خصوصية ذاته بما هو مشفق، وإن كان هذا مستلزماً لحاظ الخارج ومصلحته، وذلك لوضوح أنه قد يعمل خصوصية ذاته في (النصح والإرشاد) أيضاً، فبما هو مولى ينصح ويرشد، وقد سبق وجهه.

ولعل قوله (يغايرهما بالأمور الخارجية) يفسّر بما ذهب إليه الآخوند من أن (المولوية والإرشادية) دواعي للاستعمال، وليسا من الموضوع له ولا المستعمل فيه، وعليه لا ريب في اتحاد حقيقة الوجوب فيهما(2) وكذا الندب.

لكن قد يقال: إن الفارق باستحقاق العقاب في مخالفة المولوي دون الإرشادي، برهان إني على تغاير الوجوبين ذاتاً.وفيه: إنه(3) أعم من كونه ذاتي باب البرهان _ اللازم منه اختلاف الذات لاختلاف ذاتيّهما _ ومن كونه عرضاً لازماً، بل حكماً عقلياً وإن كان دائماً، بل الجواب على مسلك الآخوند أوضح، فإن استحقاق العقاب ليس لازم الوجوب بل لازم المولوية وهي أجنبية عنه.(4)

ص: 526


1- أي الرغبة، مرجع الاقتضاء، وأما الإرادة فمتأخرة عنه _ فتأمل.
2- أي في الأمر المولوي والإرشادي.
3- أي استحقاق العقاب.
4- أي عن الوجوب، لكونها داعياً.

اجتماع كلا النوعين مع البغض وعدمه

وأما (الاجتماع مع البغض) فإنه ممكن في الموردين، فكما يمكن أن يأمر إرشادياً بما يبغضه، يمكن أن يأمر مولوياً بما يبغضه، إذ كما أن البغض لو كان (محكوماً) أمكن أن يأمر إرشادياً، كذلك أمكن أن يأمر مولوياً، ولو كان (حاكماً) لم يمكن في الموردين.

فإن المصلحة والمفسدة الخارجية، لابد أن تسري إلى نفس الحكيم (بل مطلقاً لكن بنظره هو فيها) وتؤثر حبّاً وبغضاً، بعد لحاظها.

وكأنه قدس سره رأى أن لحاظ المصلحة والمفسدة الخارجية لا يسري لداخل نفسه فلا يتولد منهما حب وبغض، فيمكن أن يأمر إرشادياً بما فيه مصلحة، وإن كان يكرهه نفسياً، فلم يلزم اجتماع المتضادين.

في (التباني) يمكن الأمر بالمبغوض في كلا الأمرين

وبعبارة أخرى: كما ذهب قدس سره في صورة (التباني) إلى إمكان الإرشاد لمبغوضه(1) كذلك يمكن تصوير (الأمر) مولوياً _ في صورة التباني _ بمبغوضه، بنفس الوزان، بأن يتبانيا على أن يأمره مولوياً _ معملاً مقام مولويته _ على مبغوضه، متى ما فعل كذا _ لكمال رجوليته مثلاً _ فإن لم يمكن هذا لم يمكن ذاك، والحل ما سبق من محكومية البغض وعدمه.

وفي غير صورة (التباني)

ويمكن تصويره أيضاً بغير صورة التباني، وذلك كما لو أمره مولاه الحقيقي بأن يأمر عبده _ أي عبد المأمور _ مولوياً _ (بأن يعمل مقامه

ص: 527


1- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص19-20.

في أمره) بأمر يكرهه، فإن المولوية تجتمع هنا مع المبغوضية.

وأما تصوير (التباني) في المقام فذلك كما لو تبانى موليان على أمرِ كلٍ منهما الآخرَ بأمر يكرهه، أو بأمرِ كل منهما الآخر ليأمر عبده أو رعيته بأمر يكرهه، بالتقابل.

أمثلة فقهية للتباني على المبغوض

ويمكن التمثيل له فقهياً ليعلم أنه واقع وليس صرف فرض، ببناء كنيسة للكفار في بلادنا، فإنه محرم شرعاً ابتداءاً، لكن الكفار لو اشترطوا لسماحهم بناء مسجد في بلادهم، السماح لهم ببناء الكنيسة في بلادنا، فلو فرض أن بناء المسجد كان بتشخيص (الحاكم الشرعي) المستجمع للشرائط أو (شورى الفقهاء)، أهم كيفاً أو كماً _ بأن سمحوا ببناء مائة مسجد لنا مقابل كنيسة واحدة لهم _ وفرض أنه أهم، أو كان بناءهم الكنيسة قليل الفائدة جداً لهم وبناء المسجد عميم الفائدة لنا، بل حتى مع تعارض الضرر القليل من عملهم مع النفع الأكثر من عملنا؛ إذ لا إطلاق ل: (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) بل هي في الجملة، إذ العقل يحكم على حسب درجاتهما.بل وكذا لو اشترطوا لدفع كامل الدية لقتيلنا المسلم في بلدهم، دفع كامل الدية لقتيلهم رجلاً أم إمرأة أم طفلاً على يد مسلم في بلدنا، فقد احتمل الوالد _ أو ذهب _ إلى الجواز في صورة إحراز الأهم والمهم.

وهذان _ وأمثالهما كثيرة _ أمثلة للتباني على المبغوض بالعنوان الأولي، لكنه يؤمر به أو يعمل به بالعنوان الثانوي _ فليتدبر.

ص: 528

والحل كما سبق فإنه بعد الكسر والانكسار لو بقيت مبغوضيته، له، لما أمكن أن يأمر به إرشادياً ولا مولوياً، ولو قيل بالإمكان فإنه مما لا يقع من الحكيم لكونه خلاف (الحكمة).

ولو صار محبوباً له لمزاحم أهم بعد الكسر والإنكسار ك: لحاظ طرو عنوانِ أمرِ مولاه له بالأمر بمبغوضه بالعنوان الأولي، أو كالتباني _ فإنه(1) لم يأمر حينئذٍ بالمبغوض، بل أمر بالمحبوب سواء أمر مولوياً ام إرشادياً.

هل الأمر الإرشادي قسم للطلب غير الإلزامي؟

ج _ أو أنه قسيم للندب بالمعنى الأخص، وقسم للطلب غير الإلزامي، فهو قسيم للوجوب لكن بلحاظ جنسه(2) فيكون التقسيم هكذا: الأمر إما للطلب الإلزامي أو لغيره، والثاني إما إرشاداً أو مولوية؛ إذ في كليهما ندب غير بالغ حد الإلزام.

لكن الفرق إعمال مقام المولوية وعدمه.

لكن قد ظهر لك عدم تمامية هذا بعد أن أوضحنا (أن المولوية و الإرشادية دواعي فقط، وليست جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه) وبعد أن أوضحنا (وحدة حقيقة الوجوب والندب في البابين) فراجع.

والحاصل: الاختلاف في الداعي، وجِهَةِ الإيجاب والاستحباب، لا فيهما.

وإن شئت قلت: (نَدَبَهُ إليه) بما هو مولى مشرع، أو بما هو مولى

ص: 529


1- جزاء (ولو).
2- - وهو الطلب غير الإلزامي.

ناصح، أو بما هو مرشد بقسميه(1) أي بما أن الفعل ذا مصلحة، فإن كان الباعث لحاظ حال الآمر وكونه مولى مشرعاً بل مولى ناصحاً، كان الندب والاستحباب بالمعنى المعهود، لكن قد يتأمل في شمول (المعنى المعهود) للثاني، وإن كان الباعث والداعي للأمر، لحاظ حال المأمور به وما فيه من مصلحة، كان أمراً إرشادياً مندوباً إليه، إلا القسم الرابع.

من ثمرات هذا المبحث: دخول الأوامر الإرشادية في الفقه

وتظهر الثمرة في هذه الأقوال في أنه على رأي الشيخ (قدس سره) وهو الرأي الأوسط، يلزم إدخال قسم كبير جداً من الأوامر الإرشادية _ وهو ما كان منها للوجوب أو للندب على رأيه _ بل جلها في الفقه لكونها إما للوجوب أو الندب.

نعم ما كان منها لمحض النصح، دون إعمال مقام المولوية بقسميه(2)، فإنه خارج عن الفقه وداخل في الأخلاق.

وعليه تدخل كثير من الأوامر الطبية في الفقه، وكثير من الأوامر المتعلقة بالأمور الاقتصادية والمالية والتجارية، وكذلك المواعظ والنصائح الواردة من الشارع الأطهر، فيمايتعلق بشؤون الدنيا والآخرة مما تعلق منها بأفعال المكلفين، فإنها على هذا إما للوجوب أو للندب.

وقد ذكرنا في فصل آخر أن (مسائل الفقه) أعم من ما صدر من المولى بما هو مولى تشريعاً، وما صدر منه بما هو مولى نصحاً، أي مطلق ماكان للوجوب أو الندب، هذا.

ص: 530


1- أي مرشد نادباً أو غير نادب.
2- المولوي التشريعي والمولوي النصحي.

أما على الرأي الأول فلا، وكذا الثالث، فتأمل.

ويظهر وجه التأمل مما فصلناه في مبحث دخول مباحث الأوامر والنواهي الإرشادية في (الفقه) و (الأصول) بوجهين.

نعم على القول بأن الأمر الإرشادي لا طلب فيه أصلاً، فإنه خارج.

للمعصومين عليهم السلام: الولاية التكوينية والاعتبارية والتشريعية

ولعل مما يدل على كلام الشيخ قدس سره، أو يدل على ضرورة إدخال كل ما سبق في (الفقه) _ تأسيساً أو تأكيداً لما ذكرناه في ذلك الفصل _: أن الرسول صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام، له الولاية التكوينية والاعتبارية(1) والتشريعية.

أما (التكوينية) فلقوله تعالى: «فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله»(2) وقوله «ما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله»(3) فإن (إغناء) الرسول لهم، تكويني، بعضه بأسباب طبيعية وبعضه بأسباب غيبية، والظاهر إرادته من (إرادة الرب في مقادير أموره، تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم) أو ما يعمّه، وللمئات من الأدلة الأخرى، فراجع (بحار الأنوار) و (حق اليقين) و (من فقه الزهراء عليها السلام) وغيرها.

وأما (الاعتبارية) فإنه أولى بالولاية من الأب والجد وحاكم الشرع وعدول المؤمنين في الجملة.

بل هو (أقوى) في الولاية من ولايتهم، وقال صلى الله عليه وآله: (أنا وعلي أبوا

ص: 531


1- ويمكن عد (الاعتبارية) من مصاديق ومراتب (التكوينية) وأفردت بالذكر لأهميتها وخواصها، فإن (التشريعية) كذلك من مراتب (التكوينية).
2- آل عمران: 49.
3- التوبة: 74.

هذه الأمة).(1)

وأما (التشريعية) فل(إن الله أدب نبيه، ففوض إليه دينه) كما ثبت بروايات أخرى عديدة: تشريع النبي صلى الله عليه وآله لبعض الأحكام، وإمضاء الله تعالى لها.

(النصح) من شؤون الولاية

ثم إن (النصح) موجِباً وملزِماً، من شؤون الولاية الاعتبارية بل والتكوينية أيضاً فإن من له الولاية الاعتبارية، من شأنه أن ينصح المولَّى عليه، نصحاً إلزامياً وغير إلزامي؛ فإنه بحاجة لكليهما، وكذا من له الولاية التكوينية، فإن (النصح) الإلزامي محقق لغرضه، فإنه وإن أمكنه الإيجاد التكويني لما يراد بالنصيحة إلا أن مقتضى عالم الامتحان والابتلاء والاختبار: أن يمزج الأمرين ويتوصل إلى غرضه بالنحوين.(2)ويدل على ذلك (فعله) جل وعلا؛ فإنه بين (تكويني)، كما دلت عليه أخبار (الطينة) وغيرها، و (نصحي) كما امتلأ به الكتاب والسنة، وكما بعث الرسل لأجله في الجملة، و (تشريعي).

بل وكذا من له الولاية (التشريعية) فإنه يناسبه أن ينصح من يشرع لهم الأحكام، ويعظهم بالالتزام والإطاعة والإتباع، ويحذرهم مغبة الخلاف، هذا.

وموضوع (الولاية) بشعبها له بحث طويل جداً ولعل الله تعالى يوفقنا

ص: 532


1- بحار الأنوار: ج23، ص259.
2- أي النحو الاختياري عبر النصيحة والتشريع، واللاختياري عبر التصرف التكويني.

لكتابة بحث مستقل عنه، إنه الموفق المستعان.

كما هو من شؤون (الرحمة)

بل مع قطع النظر عن ثبوت هذه المقامات لهم صلوات الله عليهم، فإنه بلحاظ «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»(1) ينبغي أن (ينصح موجباً أحياناً) كما (ينصح غير موجب أو ملزم) أحياناً أخرى؛ فإن ذلك مقتضى كونه (حريصاً علينا) و «بالمؤمنين رؤوف رحيم» وكون (عَنَتِنَا) عزيزاً عليه، فيريد رفعه _ فيما يرفعه _ بالنصح بقسميه(2) بالعمل بما يسبب دفعه أو رفعه، ويمكن التعبير عن هذا المقام _ إضافة للمقامات الثلاثة المتقدمة _ ب(مقام الرحمة) فإنه يقتضي النصح الإلزامي أيضاً.

كما هو من شؤون (المسؤولية)

كما أن (مقام المسؤولية) عن تحقيق أغراض البعثة وغاياتها، يقتضي ذلك أيضاً. وهذه الغاية وهذا المقام هو المشار إليه في قوله تعالى: «ليظهره على الدين كله» _ وقد ذكرنا بعضاً من التفصيل في كتاب: (فقه التعاون على البر والتقوى)، كما أنه المشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله و «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3) _ وهذا مما يوضح مقام المسؤولية _ ومن البين أن من طرق إتمام مكارم الأخلاق: أن ينصح موجباً، ويحكم

ص: 533


1- التوبة: 128.
2- الإلزامي وغير الإلزامي.
3- - بحار الأنوار: ج16، ص210.

مرشداً بإيجاب أو ندب.

بل إن كون الغرض من البعثة (إتمام مكارم الأخلاق) مع أن قسماً كبيراً منها داخل في دائرة (الإرشاد) باصطلاحهم، دليل آخر على كونها من (أحكام المكلفين) وضرورة إدراجها في الفقه _ فتأمل.

وبعبارة أخرى: إن لهما صلوات الله عليهما وآلهما، كل العناية بشؤون الدنيا كشؤون الآخرة، وبالأمر المولوي كالإرشادي، ولذا عد سبحانه وتعالى من أهداف بعثته صلى الله عليه وآله «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1)، وقد فصلنا ذلك في موضع آخر فليلاحظ.

هل التشريع والنصح، واجبان على النبي صلى الله عليه وآله؟

وبذلك يظهر: أنه كما أن إصداره الأوامر (المولوية التشريعية)، واجب عليه صلى الله عليه وآله، ومسؤولية له، فكذلك إصداره الأوامر (المولوية النصحية) وكذلك إصداره (الأوامر الإرشادية الايجابية والندبية)، وكما أن (التشريع) عليه واجب، كذلك (النصح) صادراً منه بما هو مولى أو لا، ملزِماً وغير ملزم.وبعبارة أخرى: مقام (النصح) منه ما هو فرع مقام (المولوية) أو هو صنف من أصنافه، كما أن منه ما هو قسيم له.

ويتفرع عليه: لزوم ووجوب أو استحباب الإطاعة والإتباع لدى كل من الأوامر المولوية والإرشادية، وكذلك الإنزجار والارتداع لدى صدور

ص: 534


1- الأعراف: 157.

أي نهي مولوي تشريعي أو مولوي إرشادي، أو إرشادي _ إيجابي أو ندبي.

نعم لا يجب الاتباع والإنزجار عند مطلق الإرشاد وإن لم يكن للإيجاب أو الندب، وذلك كالنصائح الطبية المحضة.

فرق كلامنا عن كلام سلطان العلماء

وغير خفي أن ما صرنا إليه مغاير لما نقله المحقق الرشتي عن السلطان من (كون كل أوامر الشرع، إرشادية)؛ فإنه يرى وجود جهتي المولوية والنصح النابع من لحاظ المصلحة، في كل أوامر الشارع، حتى المولوي _ التشريعي؛ لأنه أخذ (الإرشاد) بالمعنى الأعم، فهو كتعريف صاحب الجواهر للإرشاد _ بالمعنى الأعم _ بالهداية، ولا يرى أن (النصح) منه ما هو مولوي، أما ما ذكرناه فإنه يعتبر من (النصح) ما هو من مصاديق مقام المولوية وإن كان منه ما هو قسيم له، بل أوضحنا أن (القسيم) على قسمين أيضاً: إلزامي وغيره.

ثم إن مآل ما ذكرناه إلى التغاير الذاتي والوجودي بين المولوي النصحي والمولوي التشريعي والإرشادي الإلزامي، أما مآل كلامه فهو التغاير بالمفهوم لا الوجود أي بحمل هو هو لا ذو هو _ فتأمل.

ص: 535

ص: 536

المبحث العاشر: هل الأوامر والنواهي في المعاملات إرشادية؟

اشارة

ص: 537

ص: 538

ثم إنه قد يقال: بالتفصيل حول الأوامر والنواهي في المعاملات حيث أنهم ذهبوا عادة إلى كونها إرشادية _ أي إلى كون الشيء سبباً أو شرطاً أو شطراً أو مانعاً _ كقوله تعالى «أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ»(1) للطلاق، أو اشتراط العربية _ على فرضها _ في البيع دون الصلح، أو ذكر اسم الله على الذبيحة، في الحلية، كقوله تعالى «فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ»(2) أو التنجيز في الصحة، أو عدم العيب والغبن، في اللزوم.

معاني وإطلاقات (الأمر الإرشادي)

وينبغي أن يعلم المراد من (الأمر الإرشادي) أولاً، فإنه في عرف الفقهاء والأصوليين قد أطلق على معاني عديدة، ولربما أراد به فقيه معنى، وفقيه آخر معنى آخر، بل قد تختلف استعمالات (الإرشادي)

ص: 539


1- الطلاق: 2.
2- المائدة: 4.

لدى الفقيه الواحد في الأبواب المختلفة.

قال الشيخ قدس سره:

(فإنا لا نعني بالأمر الإرشادي إلا ما لا يترتب على مخالفته سوى ما يقتضيه نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، ولا على موافقته إلا ما يقتضيه فعله كذلك).(1)

وتبعه (التنقيح) فقال: (إرشادياً بمعناه المصطلح وهو (عدم ترتب شيء عليه)، نظير الأمر بالإطاعة في قوله تعالى: «أطيعوا الله والرسول»(2) الذي يرجع الإنشاء فيه إلى الإخبار بوجود المصلحة ونحوه).(3)

وقد فصلنا في موضع آخر من الكتاب عدم تمامية إرجاع الإنشاء في الأمر الإرشادي إلى الإخبار.

وقال في مصباح الفقيه: (أما عن آية الإطاعة، فبأنها مسوقة للإرشاد إلى ما يستقل به العقل، وليس الطلب فيها مولوياً).(4)

مما قد يستظهر منه ذهابه للضابط الخامس الذي فصلناه في هذا الكتاب.

ولا يخفى أن هذا المعنى أخص من المعنى الأول الذي ذكره الشيخ؛ إذ هذا خاص بالإرشاد إلى ما استقل به العقل، وذاك أعم منه ومن كل

ص: 540


1- رسائل فقهية: ص54.
2- آل عمران: 32.
3- التنقيح في شرح المكاسب: الخيارات، ج38، ص28، أصالة اللزوم في البيع.
4- مصباح الفقيه: ج2، ص136 الفصل الثالث في كيفية الوضوء.

ما لا يترتب على مخالفته سوى ما يقتضيه نفس ترك المأمور به، سواء استقل به العقل أم لا؟

وقال في الجواهر: (إن أريد بالإرشاد معناه الأعم أي الهداية إلى ما فيه المصلحة، فهو غير مناف للتحريم ضرورة كون الأحكام الشرعية جميعها إرشادية بهذا المعنى.وإن أريد بالإرشاد معناه المصطلح أي الدلالة على ما هو الأليق والأصلح بحال العبد في الأمور الدنيوية خاصة، كما يستفاد من كلامهم في الأمر الإرشادي وغيره...).(1)

والمعنى الثاني هو الضابط الثاني الذي فصلناه في مبحث ضوابط المولوية والإرشادية في هذا الكتاب.

ويظهر من المحقق الأصفهاني أن الإرشاد أعم مما كان إرشاداً للحكم التكليفي أو الوضعي.

قال في نهاية الدراية: (الأمر بالوفاء _ بالعقد _ هل هو إرشاد إلى الصحة أو اللزوم أو هما معاً).(2)

ولعله منه أخذ المحقق الخوئي حيث قال: (المراد بالإرشاد في المقام إنما هو في مقابل التكليف لا في مقابل المولوية، بمعنى أن حمل الأمر على الصحة واللزوم المعبر عنه بالإرشاد، وحمله على الوجوب والتكليف، كلاهما حمل للأمر على المولوية في المقام، وليس أحدها

ص: 541


1- جواهر الكلام: ج29، ص396.
2- حاشية كتاب المكاسب: ج4، ص26، ما استدل به على لزوم البيع.

مولوياً والآخر إرشادياً بمعناه المصطلح وهو عدم ترتب شيء عليه).(1)

ولعل المستفاد من كلام السيد الوالد في (البيع) أن الإرشاد إن قصد به لحاظ أن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، فهو أعم من المولوية وليس في قبالها، وإن قصد به ما كان لكشف الجهل كأمر الطبيب حيث لا ثواب ولا عقاب، أو للتأكيد مثل أطيعوا الله، كان مقابلاً للمولوية).(2)

ثم إن مما ذكرناه في بحث ضوابط الأمر المولوي والإرشادي، يظهر وجود اطلاقات أخرى عديدة، للإرشادي، فقد ذكرنا هنالك تسعة إطلاقات للإرشادي مع تحقيق القول فيها فليراجع.

الإمكان ثبوتاً والتفصيل إثباتاً

وحينئذٍ فنقول: مورد البحث في الأوامر والنواهي في المعاملات وأنها إرشادية أم لا، هو الإرشادي _ الوضعي، أي الإرشاد للحكم الوضعي، وهو المولوي بالمعنى الآخر(3) ويراد بالمولوي، المولوي _ التكليفي.

فقد يقال: لا ريب في إمكان ذلك ثبوتاً، بأن يعتبر المشرِّع، كل تلك الأوامر والنواهي مولوية _ تكليفية(4)، فيكون البيع الغرري والبيع الربوي وبيع آلات القمار وشبهها، محرماً تكليفاً، وليس فقط باطلاً وضعاً، ويكون عدم ذكر اسم الله على الذبيحة أو إجراء العقد بغير تنجيز

ص: 542


1- التنقيح: ج38، ص25.
2- البيع: ج1، ص83، آية العقود.
3- لأن المولوي شامل للمولوي التكليفي: كالوجوب، والمولوي الوضعي كالصحة.
4- في قبال المولوية _ الوضعية.

أو بغير العربية مثلاً، محرماً، وكذا يكون إيقاع الطلاق في طهر المواقعة أو بغير شاهدين محرماً كذلك وهكذا.

إنما الكلام في الإثبات فنقول:قد يقال: باختلاف موارد النهي بين كون مصبِّه (الأصل) أو (الخصوصيات)، وبين كون متعلقه (المحرم ذاتاً) وغيره، وبين كونه ذا مفسدة أو لا.

فإن النهي عن البيع الربوي وبيع آلات القمار وبيع الخمر وبيع المصحف للكافر لا للهداية(1) وشبهها، نهي مولوي _ تكليفي ووضعي، فيستدعي الحرمة، كما هو الأصل في النهي، كما يستدعي البطلان _ وهو الحكم الوضعي _ إما لانتزاعه منه كما ذهب إليه الشيخ، وإما بالاستقلال.

وإما النهي عن مثل ترك ذكر اسم الله على الذبيحة، أو إجراء عقد النكاح بغير تنجيز أو بغير العربية _ على القول بلزومها _ أو إيقاع الطلاق في غير طهر المواقعة أو بغير شاهدين، أو بيع المجهول أو بيع النقدين بدون تقابض في المجلس وما أشبه، فهل هو مولوي _ تكليفي، إن قصد الجد أي قصد بذلك ترتيب الآثار؟ أو قصد التشريع؟ أو مطلقاً، للحرمة أو للكراهة؟ أم هو إرشاد للفساد فقط كما عليه المشهور؟

وكذلك الأمر في «أوفوا بالعقود» فهل هو مولوي _ تشريعي

ص: 543


1- ذهب المشهور إلى حرمته مطلقاً، وذهب الوالد إلى استثناء ما لو كان للهداية بقدر الضرورة كما يظهر منه في (البيع، ج4، ص63).

للوجوب بمعنى حرمة الفسخ، أم إن الفسخ باطل فقط؟

(الإرشادي) فيما لو تعلقت الأوامر والنواهي بالأجزاء والشرائط

وإجمال بعض القول في ذلك في ضمن البحث الآتي، فنقول وبالله نستعين:

الذي يظهر من المحقق الرشتي رحمه الله في بدائع الأفكار هو اختصاص دعوى إرشادية أوامر ونواهي المعاملات بما تعلق بأجزائها وشرائطها، قال: (ومنها _ أي من معاني الصيغة _ الإرشاد... وجميع ما تعلق بأبواب المعاملات من أجزائها وشرائطها)(1)، فيظهر منه عدم الالتزام بالإرشادية إن توجه النهي إلى أصل المعاملة كالنهي عن المعاملة الربوية.

تفصيلات أخرى

ولعله يستفاد من السيد الوالد في (الأصول) تفصيل آخر بين ما لو تعلق النهي بالمسبب(2)_ كبيع المصحف للكافر _ أو تعلق بالأثر الذي لا ينفك عن المعاملة _ كالنهي عن أكل ثمن العذرة _ وبين ما لو تعلق بالسبب _ كالبيع وقت النداء _.(3)

ص: 544


1- بدائع الأفكار: ص265 الطبعة الحجرية.
2- لعل المراد من قوله قدس سره (تعلق النهي بالمسبب) ما كان مصب النهي إرتكازاً _ أو بأية قرينة أخرى _ هو المسبّب وهو انتقال المبيع للغير كالمصحف للكافر و (بالسبب) ما كان مصب النهي هو الناقل أي البيع نفسه، ولا محذور من حيث المسبب كالبيع وقت النداء لأي شيء محلّل؛ فإن النهي في المثالين وإن تعلق ظاهراً بالسبب، أي بالبيع نفسه إلا أن الجهة والمصب الحقيقي مختلف.
3- الأصول: ص466، عنوان النهي عن المعاملة.

والحديث عن سائر التفاصيل، وعن مدى وجود (الظهور الثانوي في باب المعاملات _ أي في الإرشاد _)(1) وحدوده أو (الوضع _ أي الحكم الوضعي _ هو الأصل في الأوامروالنواهي المتعلقة بالمعاملات بالمعنى الأعم الشامل للإيقاعات ولو بقرينة فهم المشهور منها ذلك)(2)، يستدعي كتاباً مستقلاً وسنبحثه في المجلد الثاني لهذا الكتاب لو وفقنا له.

دعوى أن النهي المتعلق بأصل المعاملة إرشادي ودليلها

و سنقصر البحث في هذه العجالة على النهي المتعلق بأصل المعاملة فنقول:

ذهب السيد الخوئي إلى أن كافة النواهي الواردة في المعاملات إنما هي إرشادية، حتى مثل النهي عن بيع الخمر والبيع الربوي وبيع آلات القمار فإنها إرشاد إلى تقيد المعاملة بعدم كونها متعلقة بآلات القمار مثلاً، أي هي إرشاد لمانعيته.

قال في (المحاضرات): (وأما الروايات الواردة في أبواب المعاملات فأيضاً كثيرة... ومنها: الروايات الدالة على المنع عن بيع الخمر، والبيع الربوي، والبيع الغرري، وبيع النقدين بدون التقابض في المجلس، وبيع المجهول، وبيع آلات القمار والغناء وبيع غير البالغ، وما شاكل ذلك، مما يعتبر عدمه في صحة المعاملة، سواء أكان من أوصاف العوضين، أم

ص: 545


1- حاشية المكاسب للأصفهاني: ص26.
2- الفقه، البيع: ج5، ص142، والظاهر من قوله (بقرينة فهم المشهور منها ذلك) اقتصاره على الأمر والنهي المتعلق بالأجزاء والشرائط لا أصل المعاملة، كما سيتضح.

كان من أوصاف المتعاملين، أم كان من غيرهما.

والحري بنا أن نقول في هذا المقام هو أن هذه النواهي جميعاً نواهي إرشادية، فتكون إرشاداً إلى مانعية هذه الأمور عن صحة العبادات والمعاملات ومُبرِزة لاعتبار عدمها فيهما.. فيكون مرد ذلك إلى أن المطلوب هو حصة خاصة من العبادة أو إن الممضاة من المعاملة هي الحصة المقيدة بعدم ما تعلق به النهي.

وتسمية هذه النواهي بالنواهي الإرشادية، إنما هي من جهة أنها ليست بنواهي حقيقة، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها باعتبار اشتمالها على مفسدة ملزمة لينتزع منها الزجر عنها، ولتكون تلك النواهي _ عندئذٍ _ مصداقاً له، لفرض أنه لا مفسدة فيها، فلا شأن لها، عدا كونها مبرزة لتقييد العبادة أو المعاملة بشيء وإرشاداً إلى مانعيته. كما أن الأوامر الواردة في هذه الأبواب سميت بأوامر إرشادية من ناحية أنها ليست بأوامر حقيقية وأنها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ولا يترتب عليها ما عدا ذلك).(1)

الجواب عن الدعوى

اشارة

لكن الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدس سره إذ يرد عليه: _ فيما يرتبط بالمعاملات _.(2)

ص: 546


1- محاضرات في أصول الفقه: ج4، ص145 - 146.
2- وهناك وجوه للتأمل في ما ذكره حول العبادات، تذكر في مجال آخر.

1- هي نواهي مولوية

أولاً: إن قوله (ليست بنواهي حقيقة، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها باعتبار اشتمالها على مفسدة ملزمة لينتزع منها الزجر عنها) غير صحيح كبرى؛ إذ الأمر والنهي المولوي هو ما صدر من المولى بما هو مولى، أي معملاً مقام مولويته سواء كان نابعاً عن مصلحة أو مفسدة حقيقية في المتعلق أم لا، ألا ترى إن المولى لو نهى عبده معملاً مقامه عن صعود السطح لا لمفسدة فيه، بل تمريناً على الطاعة له أو حتى امتحاناً أو ليري غيره مدى إطاعة عبيده له أو ليريهم عصيانهم له وخذلانهم له، بل حتى تشهياً أو شبه ذلك مما لا مفسدة في نفس المتعلق، فإنه نهي مولوي يستحق على مخالفته العقاب وإن لم تكن فيه مفسدة. وقد فصلنا الحديث عن ذلك في الضابط الأول للمولوي والإرشادي، بل اشتراط المفسدة فيالمتعلق في مولوية النهي، غير تام على عدد من الضوابط الأخرى للمولوي والإرشادي أيضاً.

2- وجود المفسدة في نفس تلك المعاملات

ثانياً: إن قوله (لفرض إنه لا مفسدة فيها، فلا شأن لها ما عدا كونها مبرزة لتقييد العبادة أو المعاملة بشيء أو إرشاداً إلى مانعيته) غير تام صغرى؛ إذ هي دعوى بلا دليل، بل الدليل قائم على وجود المفسدة في (بيع الخمر) و (الفقاع) و (البيع الربوي) و (البيع الغرري) و (بيع آلات القمار) وكذا (العقد على الأم) (بيع الميتة) و (بيع السلاح لأعداء الدين) و (السحق) و (الغناء) أو شبهها.

فإن المفسدة لا تنحصر في مجرد ترتيب الآثار والتصرف في الثمن

ص: 547

والمثمن في تلك المعاملات، بل هي كائنة في نفس إجراء العقد والمعاوضة والبيع.

اتصاف (الكلام) بالحسن والقبح، والمصلحة والمفسدة

اشارة

ويدل عليه إضافة إلى الاعتبار فإن (الكلام) يتصف بالحسن والقبح، وهو يحمل المصلحة والمفسدة؛ أرأيت (السباب) و (القذف)؟ وكذلك النطق بكلمة الشهادتين وعكسه التلفظ بألفاظ الكفر، ولذا ورد (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) فإنه لتأثيره الواقعي مدخلية في جعله المحلِّل والمحرم، وإن حل محله (المعاطاة) أيضاً فإنها (فعل) ذو تأثير أيضاً.

نعم الكلام قد يكون حسناً ذا مصلحة في حد ذاته، كذكر الله تعالى والشهادتين، وقد يكون حسنه مكتسباً من الغير ك(المدح والثناء) على المؤمن أو الفاجر أو أئمة الهدى وأئمة الضلال والردى، واتصافه بالحسن والمصلحة حينئذٍ وإن كان اكتسابياً إلا أنه حقيقي فإن الواسطة واسطة في الثبوت لا العروض.

ومخالفة(1) جملة مما ذكره للشهرة العظيمة، بل الإجماع كما سيأتي، الآيات والروايات(2) الناهية؛ فإن ظاهرها بل نص بعضها النهي المولوي التحريمي عن نفس المعاملة وليس عن ترتيب الآثار فحسب، كما أن ظاهرها أن النهي عنها لوجود المفسدة فيها.

وتحقيق ذلك موكول إلى محله من الفقه، إلا أننا نكتفي ههنا بإشارة

ص: 548


1- عطف على (الاعتبار).
2- فاعل (يدل).

إجمالية إلى عناوين ثلاثة من ما ذكره فقط:

1- الربا والأدلة على حرمة نفس المعاملة الربوية

اشارة

قال تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا».(1)

1- الآيات الكريمة

وظاهره تحريم نفس المعاملة الربوية أيضاً، لا مجرد ترتيب الآثار؛ فإنه مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة، إضافة إلى قرينية مقابلته ب(أحل الله البيع) الظاهر في حلية نفس معاملة البيع إضافة إلى حلية ما يترتب عليه من التصرفات.

وقال في مجمع البيان: («ذلك» أي ذلك العقاب لهم «بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا» معناه: بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا... «وأحل الله البيع وحرم الربا» أي أحل الله البيع الذي لا ربا فيه وحرم البيع الذي فيه الربا).(2)ويشهد له أيضاً وضوح الفرق بين قوله تعالى: «وحرم الربا» وقوله «لا تأكلوا الربا».(3)

والحاصل أن الظاهر أن النهي مولوي _ تشريعي تكليفي للتحريم مطلقاً، وليس مولوياً وضعياً فقط ولا هو إرشادي فحسب.

ص: 549


1- البقرة: 275.
2- مجمع البيان: في تفسير الآية 275 من سورة البقرة.
3- آل عمران: 130.

وسيأتي الاستدلال بقوله تعالى «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» عند البحث عن بيع آلات القمار فليلاحظ.

2- الروايات الشريفة

كما يشهد له: ما رواه في ثواب الأعمال، والمستدرك، ولب اللباب للراوندي، عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله (... وإن اكتسب منه _ أي من الربا _ مالاً، لا يقبل الله تعالى منه شيئاً من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما كان عنده منه قيراط).(1)

فإن ظاهر (اكتسب منه مالاً) أي اكتسب من المعاملة الربوية، وإن احتمل إرادة الاكتساب من ما أخذه من الربا، لكنه خلاف الظاهر خاصة بلحاظ (ما كان عنده منه قيراط).

وما رواه في مجمع البيان: (إذا أراد الله بقرية هلاكاً ظهر فيهم الربا).(2)

وواضح أن ما يظهر من الربا هو معاملاته في الأسواق(3) أو هو الأظهر من معنييه.

وما رواه الكافي عن أبي جعفر عليه السلام: (أخبث المكاسب كسب الربا).(4)

ص: 550


1- جامع أحاديث الشيعة: ج23، ص171، الباب 1 من أبواب تحريم أخذ الربا ح33366 (9).
2- المصدر: ح33374 (17).
3- كالأقراض الربوي أو الربا المعاملي، لا نقل البضاعة بعدها من أحدهما للآخر أو تسديد القرض زائداً فإنه لا ظهور لكونه ربوياً، أو ذاك أظهر.
4- المصدر: ح (21).

ونظيره ما رواه الفقيه: (شر المكاسب كسب الربا)(1)

بناء على أن المراد ب(المكسب) اسم الآلة لا المصدر _ فتأمل.

بل حتى لو أريد (المصدر) إذ (العقد الربوي) كسب واكتساب، أما المتعاقَد عليه ف(مكسوب).

وما ورد في نهج البلاغة والمستدرك (يا علي أن أمتي سيفتنون من بعدي... فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع).(2)

فإن ظاهر مقابلة الخمر بالنبيذ هو (أعيانها)، وظاهر مقابلة الربا بالبيع: (العقد) فيهما؛ إذ إرادة (المبيع) من (البيع) خلاف الأصل وخلاف المتفاهم عرفاً.

لكن قد يقال إن ظاهر الربا: ما روبي عليه لا العقد فإنه المستحَّل بالبيع _ فتأمل.

وأكثر صراحة من ذلك: الروايات المستفيضة المصرحة بلعن بائع الربا ومشتريه.ومنها: ما رواه في التهذيب والفقيه عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام (لعن رسول الله الربا وآكله (وموكله _ فقيه) وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه).(3)

فإن اللعن للبائع والمشتري، ظاهره: لبيعه وشرائه _ وإن لم يرتب

ص: 551


1- المصدر: ح (24).
2- المصدر: ح (27) و (28).
3- المصدر: ح (41).

عليه الآثار _ بل لعله صريحه لسبق (آكله) ولحوق (كاتبه وشاهديه).

وظاهر أن اللعن عليه لوجود الفساد فيه لا في غيره، وإلا لإقتصر اللعن على ما فيه الفساد، ولو تنزلنا فإن اللعن على مجموع البيع والشراء وترتيب الآثار.

وهنالك روايات أخرى عديدة دالة على المقصود.

منها: قوله صلى الله عليه وآله: (يا سلمان، وعندها يظهر الربا... ويتعاملون بالرشوة والربا).(1)

ومنها: قول الإمام الرضا عليه السلام (... فبيع الربا وشراؤه وكسبه على كل حال، على المشتري والبائع).

ومنها: رواية تحف العقول المشهورة: (أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا... فهذا كله حرام ومحرم).

بل يستفاد أيضاً من روايات الأبواب الأخرى مثل ما رواه الفقيه عن أبي عبد الله عليه السلام: (لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم يكن كيلاً ولا وزناً).(2)

فإن (المعاوضة) عبارة عن نفس المعاملة كما لا يخفى.

ولذلك وغيره قال في الجواهر ممزوجاً بالشرائع ( (في الربا) المحرم كتاباً وسنة وإجماعاً من المؤمنين بل المسلمين، بل لا يبعد كونه من ضروريات الدين).(3)

ص: 552


1- جامع أحاديث الشيعة: ج16، أبواب الجهاد، ح12 باب 12.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج23، ص186، باب 2، ح33415.
3- جواهر الكلام: ج23، ص332.

ثم قال: (لكن لا يخفى أن ظاهر الأصحاب بل وجملة من النصوص: تحريم نفس المعاملة وما يحصل بها).(1)

2- بيع الخمر وأدلة حرمته بذاته

1- الآيات الكريمة

قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فأجتنبوه لعلكم تفلحون».(2)

وظاهر الإطلاق الأحوالي ل(اجتنبوه) هو اجتناب بيعه وشرائه أيضاً.

قال في الجواهر: (باعتبار عدم تحقق الاجتناب عنها مع التصرف فيها بالتجارة)(3)، والبيع والشراء.كما أن الغاية المذكورة «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله»(4) أيضاً عامة لبيع الخمر؛ فإنه العلة المعدة لوقوع العداوة والبغضاء أو المقتضي؛ فإن بيع الخمر كشربه ليس أي منهما علة تامة لإيقاع العداوة والبغضاء بل مقتضٍ أو علة معدة _ فتأمل.

قال في الجواهر: (بل وكذا قوله «والرجز فاهجر»(5) بناء على أنه القذر

ص: 553


1- المصدر: 334.
2- المائدة: 90.
3- جواهر الكلام: ج22، ص11.
4- المائدة: 91.
5- المدثر: 5.

كما عن الجوهري والقاموس، بل هو المناسب لقوله تعالى «وثيابك فطهر»(1) وعن تفسير علي بن إبراهيم «الرجز» الخبيث، والمحكوم بنجاسته شرعاً خبيث قذر، فيجب هجره ... والتصرف بالتجارة والبيع والشراء، خلاف الهجر المأمور به فيكون محرماً).(2)

2- الروايات الشريفة

وتدل عليه الروايات أيضاً.

فقد روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (... إن الذي حرم شربها، حرم ثمنها).(3)

بضميمة أن المتفاهم عرفاً من تحريم الثمن تحريم المعاملة نفسها، لا جوازها ثم حرمة التصرف في الثمن والمثمن _ فتأمل.

وروى في الفقيه وأمالي الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث مناهي النبي صلى الله عليه وآله: (ونهى النبي عن بيع النرد (ونهى عن بيع الخمر _ الأمالي) وأن يشترى الخمر وأن يسقى الخمر وقال لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه).(4)

ولو صير إلى كراهة بعضها للدليل الخارجي، لم يضر بالأصل، من

ص: 554


1- المدثر: 4.
2- جواهر الكلام: ج22، ص12.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج22، ص200 باب تحريم بيع الخمر، ح 31816 (1).
4- المصدر: ص201، ح (4).

كون النهي مولوياً تشريعياً تكليفياً لا وضعياً، بل كان صرف انتقال من تكليفي إلى آخر للقرينة.

وفي الكافي والخصال وعقاب الأعمال عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: (لعن رسول الله في الخمر عشرة.. وبايعها ومشتريها..).(1)ونظائرها كثير كما فيما نقله الجواهر عن الايضاح والغوالي، أنه عليه السلام قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها).(2)

3- الشهرة بل الإجماع
اشارة

وعلى ذلك انعقدت الشهرة العظيمة بل الإجماع.

قال في الجواهر: (الأعيان النجسة ذاتاً كالخمر والأنبذة المسكرة والفقاع وغيرها، من النجاسات التي عرفتها في كتاب الطهارة _ عدا الكلب الذي ستعرف البحث فيه، والرق الكافر فإنه لا خلاف ولا إشكال في جواز التكسب به _)(3) وظاهر جواز التكسب به وعدمه، هو بالبيع والشراء ومطلق المعاوضات فإنها هي التكسب به.

ثم قال: (وكيف كان فلا خلاف يعتد به في حرمة التكسب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة؛ لقول الصادق عليه السلام في خبر تحف العقول (أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام ومحرم...)).(4)

ص: 555


1- جامع أحاديث الشيعة: ج22، ص202، ح31821 (6).
2- جواهر الكلام: ج22، ص11.
3- المصدر: ص8.
4- المصدر: ص8-9.

ثم حكى عن شرح الإرشاد للفخر وتنقيح المقداد قولهما: (إنما يحرم بيعها لأنها محرمة الإنتفاع).(1)

وقال: (عن التذكرة: الكلب إن كان عقوراً حرم بيعه عند علمائنا.. وعن المنتهى: إجماع المسلمين كافة على تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير، وإجماع علمائنا على تحريم بيع الكلام عدا الأربعة، وعن النهاية: الإجماع على تحريم بيع الخمر والعذرة والدم، وعن الخلاف: إجماع الفرقة على تحريم بيع الخمر... وعن المبسوط: الإجماع على تحريم بيع الخنزير وإجارته واقتنائه والانتفاع به، وعن السرائر: بيع الخمر للمسلم حرام وثمنه حرام.. وعن الانتصار: قد ثبت حظر شربه _ أي الفقاع _ وكل ما حظر شربه، حظر ابتياعه، والتفرقة بين الأمرين خروج عن إجماع الأمة...).(2)

كما عنون السيد البروجردي رحمه الله في جامع أحاديث الشيعة ب(باب تحريم بيع الخمر وثمنه وشراءه وغرسه..).

هل الهيروئين والكوكائين كالخمر؟

وقال السيد الوالد قدس سره: (بيع الخمر بلا إشكال ولا خلاف... ولا يبعد أن يقال مثل ذلك فيما يتعارف هذه الأيام من الهيروئين والكوكائين وما أشبه؛ لوحدة الملاك في الجميع، بل لدليل الضرر وغير ذلك.. وفي صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي قال: (إن الله عز وجل لم يحرم الخمر لإسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر

ص: 556


1- المصدر: ص10.
2- المصدر.

فهو خمر).(1)بل أضاف: (وقد ذكرنا في الفقه عدم استبعاد حرمة بيع الخمر والخنزير حتى للكفار الذين يجوزون استعمالهما.. لأن النصوص الوارة فيها تمنع عن قاعدة الإلزام..).(2)

وقال في فقه الصادق: (الثالث: يحرم التكسب بما يزيل العقل كالخمر وكل مسكر مائع والفقاع بلا خلاف في شيء من هذه الثلاثة بل عن غير واحد دعوى إجماع العلماء على ذلك كله بل عليها إجماع المسلمين.. أما الخمر فيشهد لعدم جواز بيعها وضعاً... ويشهد لحرمة بيعها تكليفاً: الخبر المشهور من أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها..).(3)

3- بيع آلات القمار

1- الاستدلال بالآيات على حرمة نفس البيع

قال تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل».(4)

فإن من (باع) الخمر أو آلات القمار أو ما أشبه، يصدق عليه عرفاً أنه أكل الأموال بالباطل(5) فإن المراد ب(الأكل) مطلق التصرف، ووجه إطلاقه عليه أنه أقرب التصرفات للإنسان من بدء نشئته، وأهم الغايات المتوخاة

ص: 557


1- الفقه، المحرمات: ج93، ص60.
2- المصدر: ص61.
3- فقه الصادق: ج20، ص92، المكاسب المحرمة.
4- البقرة: 188.
5- يصدق (بالبيع) ذلك، حتى دون أن يتصرف بالمال.

من سائر التصرفات(1)، فهو نهي مولوي _ تشريعي للتحريم مطلقاً، بل القول بأن المراد به الحكم الوضعي أي عدم صحة المعاملة أو عدم صحة أكل المال بالباطل، خلاف الظاهر جداً.

نعم لا شك في أن أكل ما حصل عليه بالقمار (أو الربا) أكل للمال بالباطل(2) إلا أن صدقه عليه لا يخصصه به؛ لصدقه على نفس البيع عرفاً، ألا ترى أن من أقرض ربوياً أو باع الخمر أو أجرى معاملة ربط زان بفاحشة، يصدق عليه أنه مشغول بأكل أموال الناس بالباطل؟

ويمكن الاستدلال أيضاً بقوله تعالى: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً»(3) فإنه شامل لبيعهم أموال اليتامى وممتلكاتهم.

إلا أن يقال: إن الباء في (بالباطل) سببية، فلا يحل أكل الأموال بسبب الباطل وهو بيع القمار والربا وما أشبه، فهو باطل وليس محرماً غالباً فالباء للسببية، ويؤيده تفسير الباطل ب(الغصب والظلم والوجوه التي لا تحل) أو (اللهو واللعب كما قيل) أو (ما يؤخذ في القمار والملاهي لأن كل ذلك من الباطل) و (روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كانت قريش،يقامر الرجل في أهله وماله فنهاهم الله) (والأولى حمله على الجميع لأنه الآية تحتمل الكل).(4)

وفيه: أنه على فرض صحته، لا ينفي عرفية استفادة حرمته لأنه باطل، ولأن النهي عن الأكل يفهم منه الأعم من النهي عن سببه، ولعل

ص: 558


1- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: ج3، ص104.
2- وقد فصلنا الحديث عن ذلك في موضع آخر من الكتاب فليلاحظ.
3- النساء: 10.
4- مجمع البيان: ذيل الآية الشريفة، ج2، ص25.

لذلك قال السيد السبزواري: (وإنما عبر عز وجل بالباطل ليشمل الحكم التكليفي والوضعي).(1)

بل قد يقال: الباء ل(الملابسة)(2) أو (المصاحبة) ك(أهبط بسلام) و (وقد دخلوا بالكفر) لا السببية فهي أجنبية عن (العقد والبيع والسبب وما أشبه) أي لا تأكلوا أموالكم ملابساً ذلك الأكل بالباطل _ فتأمل، هذا.

وقد بحثنا حول الآية الشريفة بتفصيل أكثر في موضع آخر من الكتاب.

وقال تعالى: «إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبنوه» وقد سبق بيانه.

2- الاستدلال بالروايات

ومن الروايات: ما في آخر السرائر عن جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت..).(3)

وحديث تحف العقول الشهير: (إنما حرم الله الصناعة التي هي حرام كلها، التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكل ملهو به.. فحرام تعليمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات).

ص: 559


1- مواهب الرحمن: ج8، ص116.
2- كما لعلّه يظهر من تفسير مواهب الرحمن حيث فسر الآية ب(أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير حق).
3- جامع أحاديث الشيعة: ج22، ص263، باب 23 تحرم اللعب الشطرنج، ح 32051.

ووجه الاستدلال قوله عليه السلام: (وجميع التقلب فيه) فإن بيعه نوع تقلب فيه دون شك.

وما رواه في المعاني عن أبي عبد الله إنه سئل عن النرد والشطرنج قال: (لا تقربهما).(1)

فإن بيع آلاتهما يعد عرفاً من القرب إليهما.

وما رواه في المستدرك والمقنع وغيرهما في قوله تعالى «فاجتنبوا الرجس من الأوثان»، إن الرجس (الشطرنج) (2)، وواضح أن بائع الشطرنج غير مجتنب له.

ويدل أيضاً عليه وعلى ما سبقه، ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن ابن بكير عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب التي يقال لها لعبة الأمير وعن لعبة الثلاث فقال: (أرأيتك، إذا ميز الله الحق من الباطل مع أيهما يكون؟) قلت: مع الباطل، قال: (فلا خيرفيه)(3)، وهذا الضابط الذي ذكره الإمام عليه السلام ينطبق على بيع آلات القمار والخمر والخنزير والربا وما أشبه كما لا يخفى.

3- الإجماع

قال في الجواهر: (بل في شرح الإرشاد: أن ظاهر الإجماع والأخبار عدم جواز العمل والاستعمال والانتفاع والإبقاء والاكتساب بجميع

ص: 560


1- جامع أحاديث الشيعة: ج22، ص257، ح32019.
2- المصدر: ح32020 و 32021.
3- المصدر: ص260 ح32031 وبمضمونها روايات أخرى أيضاً.

وجوهه.. لكن في المسالك: إن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرم، على تلك الحالة منفعة محللة مقصودة، فاشتراها لتلك المنفعة، لم يبعد جواز بيعها... ومن ثم أطلقوا المنع عن بيعها..).(1)

وأنت ترى: أن البحث عن الجواز في قبال الحرمة لا الجواز بمعنى النفوذ _ وهو الحكم الوضعي _ كما أن (الاكتساب) ظاهره إجراء نفس المعاملة؛ فإنه عرفاً ودقة اكتساب، إذ به يطلب الكسب.

وقال السيد الوالد رحمه الله: (وبيع آلات القمار بلا إشكال ولا خلاف... وبيع آلات اللهو وهو مجمع على حرمته).(2)

وقال السيد الروحاني قدس سره في فقه الصادق: (والظاهر أن حرمة بيعها _ أي آلات القمار _ مما لا خلاف فيه، وعن المستند دعوى الإجماع عليه).(3)

وعلى أي تقدير لو شك في أن النهي مولوي أو إرشادي، وفي المولوي إنه مولوي تكليفي أو وضعي. فالأصل المولوية _ التشريعية التكليفية، كما فصلناه في موضع آخر.

هل الظهور الثانوي في نهي المعاملات الوضع لا التكليف؟

وهل يحمل النهي في المعاملات، على المولوية _ الوضعية دون المولوية التكليفية مطلقاً؛ نظراً لوجود ظهور ثانوي في باب المعاملات

ص: 561


1- جواهر الكلام: ج22، ص25.
2- الفقه، المحرمات: ج93، ص59.
3- فقه الصادق: ج20 ص245، المكاسب المحرمة، الطبعة الرابعة 1429.

كما نقلناه عن الأصفهاني، أو لا، إلا إذا كانت هنالك قرينة خارجية على ذلك _ ومنها فهم المشهور _.

ولعله هذا الذي يستفاد من الوالد قدس سره حيث قيد _ بقرينة فهم المشهور _ قال في (الفقه: البيع) عند الإشارة إلى نهيه صلى الله عليه وآله، عن بيع الغرر بل نهيه عن الغرر أيضاً:

(والنهي _ أي عن البيع الغرري _ لا يراد به الإرشاد بأنه يقع النزاع؛ لأنه خلاف كون المولى في صدد بيان الأحكام، ولا التحريم فقط مثل البيع وقت النداء، بل الوضع؛ لأنه الأصل في الأوامر والنواهي المتعلقة بالمعاملات بالمعنى الأعم الشامل للإيقاعات، ولو بقرينة فهم المشهور منها ذلك، وإن كان ربما يفيد الوضع والتكليف معاً مثل «حرمت عليكم أمهاتكم»(1) فإن عقد الأم حرام تكليفاً ووضعاً كما لا يخفى).(2)

وحينئذٍ ففي كل مورد فهم المشهور من الأمر والنهي الحكم الوضعي فقط، صرنا إليه، وإلا فلا.

هل المراد ب(الأصل) الغالب أم الراجح أم القاعدة؟

ولعل مقصوده من (الأصل) (الغالب) أو (الراجح) المستند للغلبة، لا (القاعدة) وهي (المستفادة من العمومات التي يجب الرجوع إليها عند الشك في بعض الأفراد أو بعض الأحوال) كما ذكره الشيخ في

ص: 562


1- النساء: 23.
2- البيع: ج5، ص141-142.

المكاسب(1) ولا (المعنى اللغوي)، فإن القاعدة والوضع اللغوي هو للتكليف لا الوضع.

وإذا كان المراد الغالب فإنه لا يلحق به (المشكوك) بل يبقى على القاعدة الأولية من الدلالة على الحرمة _ أي الحكم التكليفي _.

وقد أوضحنا أن كون (الغالب) في أوامر ونواهي المعاملات هو إفادة (الحكم الوضعي) إنما هو فيما تعلق ب(الخصوصيات) (من شرط أو جزء أو مانع)، دون ما لو تعلق ب(الأصل) إذ لا غالبية هنالك، بل لعل الغالب هو إفادتها الحكم التكليفي، وذلك كبيع المصحف للكافر والسلاح لأعداء الدين، وبيع الخمر والخنزير، والعقد على الأم والأخت وذات البعل، والبيع الربوي وبيع الصنم وبيع آلات اللهو وما أشبه ذلك.

وأما لو تعلق النهي بالخصوصيات فهل هو وضعي أم تكليفي؟ أي ما هو الأصل في ذلك؟ ثم يبحث عن الدليل الخارجي _ ومنه فهم المشهور _ في كل مورد مورد ولهذا المبحث ذيل طويل ونكتفي بالإشارة هنا فقط فنقول:

تحقيق الحال في عالم الإثبات

وأما الإثبات:

فقد يقال باختلاف الأمر بناء على الأغراض التي لأجلها جرى التقسيم، أو بلحاظ التعاريف التسعة.

ص: 563


1- المكاسب: ج5، ص13-14.

1- فإنه بناء على كون الغرض، (استحقاق العقاب)، فإنه قد يدعى أنه لا ريب في عدم استحقاقه على عدم توفير الشروط والأجزاء، بل المترتب هو (البطلان) فقط، فليست الأوامر المتعلقة بأجزاء وشرائط المعاملات والنواهي عن بعض موانعها، مولوية بل هي إرشادية فقط _ فتأمل.

2- وأما بناء على أن الغرض هو الأعم من (استحقاق العقاب) ومن (استحقاق العتاب) أو (الكراهة) فربما يقال بالمولوية بهذا المعنى والإلتزام بكون ترك الشرط أو الجزء أو ما أشبه، مكروهاً شرعاً، فلو طلق دون شاهدين أو باع دون تنجيز أو باع المجهول أو لم يذكر اسم الله على الذبيحة، فعل مكروهاً(1)، إضافة إلى حكمه الوضعي، من عدم وقوع الطلاق أو البيع ومن عدم حلية أكل الذبيحة _ فتأمل وسيأتي وجهه.

وكذلك لو صرنا إلى أن الغرض هو الثالث أي:

دعوى الوجوب في أوامر المعاملات والإيقاعات

3- لكن بناء على كون الغرض: (الوجوب _ بالمعنى الأعم _ وعدمه).فقد يقال بكون أوامر ونواهي المعاملات، للوجوب والحرمة بالمعنى الأعم(2) _ ولو في الجملة _، إذ إحضار العدلين إلزامي بنظر المولى لدى إرادة الطلاق، لكن لا لإعماله مقام المولوية _ التشريعية، بل لإعماله

ص: 564


1- مع قطع النظر عن العناوين الثانوية الأخرى ك(الإسراف) في الذبيحة، أو (الضرر) و (المفسدة) الناجمة عن ترك الطلاق أو البيع، فرضاً، والعناوين اللاحقة ك(خلف النذر والعهد) وما أشبه.
2- أي الوجوب بالمعنى الأعم من الوجوب المولوي والوجوب الإرشادي كما نقلنا عن الشيخ الأنصاري قدس سره انقسام الوجوب إلى القسمين.

مقام المولوية في باب النصح، لذا لا يترتب عليه عقاب أخروي لو لم يفعل، بل صرف عدم تحقق الطلاق.

وقد يفصل بين كونه _ في ذلك _ بانياً على إهمال حكم الشرع بالاشتراط، معتبراً الشارع وتشريعه كأن لم يكن، فالحرمة، وإلا _ بأن فعل ذلك كسلاً وتساهلاً مثلاً _ فلا، فتنصرف أوامر الاشتراط _ من حيث مولويتها التكليفية، للأول _ فتأمل.

أو يفصّل: في (طلاقه) بدون إشهاد شاهدين أو (نكاحه) بدون إمهار أو (بيعه) دون تنجيز أو بغير العربية أو بغير الماضوية _ بناء على اشتراطها _ بين: علمه باشتراط الشارع، وقصده _ رغم ذلك _ على إيقاع مؤدياتها بدون شرطه أو مع مانعه، وعدمه.

فلو علم وقصد إيقاع مؤدياتها بدون تحقيق تلك الشروط كان آثماً مستحقاً للعقاب، ويستند في حرمته إلى نفس الأدلة الدالة على الاشتراط ما دامت بصيغة الأمر ك«وأشهدو ذوي عدل منكم» من دون حاجة للاستناد إلى عناوين أخرى ك(قصد التشريع) و (الاستخفاف بحكم الشارع) و (رفع لواء في مقابله) وما أشبه ذلك.

أما إذا لم يقصد إيقاع مؤدياتها، بها، فلا حرمة، إذ لا جدية له، بل هو كالعابث، وفي خصوصه يحتاج إلى دليل خاص على الحرمة بل حتى نفس حرمة العقد على أمّه مثلاً، عابثاً وممازحاً يحتاج إلى دليل على حرمته؛ إذ لعل كلامهم خاص بما لو عقد عليها قاصداً تحقق المؤدى، فإنه حرام بنفسه وإن لم يستتبعه عمل.

ص: 565

دليل (الوجوب الإرشادي) لأوامر العقود والإيقاعات

توضيح ذلك: أن المولى يريد لعبيده: أن يسيروا في ضمن حدود مملكته، وفي دائرة تقديره وهندسته.

وقد رتب (استحقاق العقاب) على مخالفة بعض أوامره _ وهي المسماة بالمولوية _ ولم يرتبه على بعضها الآخر _ وهي الإرشادية، منّةً _ لكن حيث توقفت مصالح العباد عليها أيضاً _ كان مقتضى الحكمة إيجابها بنحوٍ من الأنحاء، فجعلها إرشادية، فأصدرها بما هو ناصح لكن بدرجة الإلزام أي نصحاً إلزامياً.

ووجه (الإلزام) أنه لولاها لاختل النظام بدرجةٍ؛ فإنه لو لم يشترط العدلين في الطلاق _ ولم يوجب إشهادهما لزم انفكاك وانحلال عرى العوائل والأسر بأدنى شيء، ولا يخفى ما فيه من الفساد العظيم، وكذا سائر الشروط التي يراد بها التصعيب، كأن تكون في غير طهر المواقعة مثلاً، لذلك (أوجب) من الشروط ما أوجب.

وبعبارة أخرى: إن ذلك هو مقتضى الجمع بين (الحكمة) و (الرحمة)، فبحكمته (أوجب) وبرحمته (رفع) استحقاق العقاب، وعلى هذا فلو طلق دون أن يحضر الشاهدين، فإنه فعل محرماً إرشادياً، لمخالفته الأمر الإرشادي الإلزامي، وإن لم يستحق العقاب، لرفعه، من باب الامتنان و «يريد الله بكم اليسر».(1)

ص: 566


1- البقرة: 185.

الرد: بأنه خلاف ضرورة الفقه، وجوابهلا يقال: إن ذلك خلاف المعلوم بالضرورة من الفقه.

إذ يقال:(1) أن المعلوم بالضرورة هو عدم الوجوب بالمعنى المعهود، وهو ما يستتبع مخالفته استحقاق العقاب، لا هذا المعنى الذي قد لا يخطر على البال عادة، أي الوجوب الإرشادي أو الوجوب غير المستتبع للعقاب.

الإشكال ب(لو كان لبان) وجوابه

لكن قد يقال: لو كان هذا النوع من الإيجاب مقصوداً للشارع _ للحكمة فيه كما ذكر، لبيّنه، لكنه لم يبينه _ إذ نرى خفائه على الجل لولا الكل من الأفاضل، فكيف بعامة الناس وهو مورد ابتلائهم كافة؟

وبتعبير آخر: لو كان مراداً للشارع، لبان إذ هو مما لو كان لبان، لكن التالي باطل فالمقدم مثله.

لكن قد يجاب: أنه أي بيان أعظم من ذكر كل ذلك بصيغة الأمر والنهي؟ فقد يقال إنه بملاحظة اختلاف لحن الشارع في الشرائط والموانع وغيرها حيث ذكر بعضها بصيغة الأمر وبعضها بصيغة الإخبار عن الاشتراط مما قد يصل بنا إلى التفصيل في أدلة الأجزاء والشرائط والموانع وغيرها، فبعضها للوجوب وبعضها لغيره، وهذا مما يحتاج إلى تدبر وتأمل تام في الأدلة.

ص: 567


1- وقد بينا رداً آخر لهذه الدعوى في أمر الوفاء بالعقد فراجعه عند البحث عن آية (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) حيث نقلنا رأي السيد الخوئي وأجبنا عنه بإجابات عديدة تضمنت كلام الميرزا محمد تقي الشيرازي فليراجع هناك وليضم إلى ما ههنا.

هل يكفي (الحكم الوضعي) لدفع اختلال النظام؟

لا يقال: أنه يكفي في دفع محذور اختلال النظام، (الحكم الوضعي) بالبطلان لدى فقد الشروط أو وجود الموانع من غير حاجة للإيجاب.

إذ يقال: الإيجاب أقوى في الداعوية للإلتزام، من الإكتفاء بالوضع، فلزم شفعه به.

سلمنا: لكن المولى مخير بينهما، لوجود بديلين، فيمكن دفع الاختلال بهما ثبوتاً، وأما إثباتاً فظاهر الأمر يكفي في الصيرورة إلى الوجوب، بل هو أولى من تأويل كل هذه الظواهر الواردة في ما استنبط منه الشرطية أو الجزئية أو المانعية، بكونها صِرف نصح وإرشاد لهما، بدون إيجاب ووجوب ولا ندب واستحباب، بل صرف إرشاد للشرطية أو الجزئية مثلاً.

والمرجع: (الظواهر) في الموارد

فمقتضى القاعدة إتباع الظواهر في كل مورد مورد، إلا ما علم بالدليل عدم كونه للوجوب المولوي ولا الوجوب _ النصحي الإرشادي، لا إطلاق القول بأن كل الأوامر والنواهي في العقود والإيقاعات هي إرشادية بالمعنى الأخص(1) كما ذكره المحقق الرشتي وغيره.

وعلى ذلك يكون عدم إشهاد شاهدين في الطلاق، لو قام به

ص: 568


1- أي إرشادية بدون إيجاب أو ندب، أي إرشادية لصرف الاشتراط والسببية مثلاً، وأما الإرشادية بالمعنى الأعم فهي الشاملة لذلك، ولما دل على الوجوب غير المستتبع للعقاب أي الوجوب الإرشادي.

تشهياً(1)، حراماً شرعاً أي مخالفاً للوجوب الإرشادي، لكنه غير مستتبع للعقاب، والمثال الأوضح لو (عقد) على أمّه فإنه حرام وليس باطلاً فقط _ فتأمل.(2)لكن قد يقال: إن «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ»(3) ومطلق أدلة (الامتنان)، تقتضي عدم الحكم التكليفي حتى بمعناه الأعم(4)، وإحراز المصالح ودفع المفاسد يكفي فيه الحكم الوضعي، فإنه وإن كان لا بدرجة الحكم التكليفي في الردع عن الموانع أو البعث لتوفير الشروط، إلا أن مقتضى (الرحمة) هو لحاظ التيسير أيضاً، وإن استلزم بعض الفساد بعدم الإيجاب والتحريم، نظراً لكونهما الأشد ردعاً والأقوى بعثاً _ فتأمل.(5)

وعلى أي فإن هذا في عالم الثبوت كقسيمه ممكن، والملاك الآن هو ظواهر الأدلة وعالم الإثبات.

وقد أستوعبنا البحث عن جانب من ذلك في فصل آخر من هذا الكتاب، كما أن تمام الكلام فيه سيكون بإذن الله تعالى في المجلد الثاني.

ص: 569


1- بل مطلقاً.
2- إذ ذلك للدليل الخاص على الحرمة بل على كونها مولوية توجب استحقاق العقاب، ولو لإرتكاز المتشرعة، ولذا لا دليل على حرمة العقد على أخت الزوجة بل هو باطل فقط _ فتأمل.
3- البقرة: 185.
4- المعنى الأخص: الإيجاب والتحريم المستحق على مخالفته العقاب، والمعنى الأعم: مطلق الإيجاب والتحريم استحق عليه العقاب _ كما في الأوامر المولوية _ أم لم يستحق كما في الأوامر الإرشادية الإيجابية.
5- إذ سبق إن ذلك وإن كان مقتضى الرحمة إلا أن مقتضى الجمع بينها وبين الحكمة، غير ذلك كما أوضحناه.

ص: 570

المبحث الحادي عشر: الوجوب التخييري للاجتهاد في الأحكام الإرشادية وجريان التقليد فيها

اشارة

ص: 571

ص: 572

مسألتان

قد يقال: بجريان (الاجتهاد) وبوجوب (التفقه) في الأحكام الإرشادية _ وجوبية كانت أو ندبية، تخييرياً، كوجوبه في الأحكام المولوية، كما قد يقال بجريان (التقليد) في الأحكام (الإرشادية) كجريانه في الأحكام (المولوية).

والمقصود بالجريان: الصحة _ وضعاً _ والجواز _ حكماً _ والوجوب التخييري.(1)

النسبة بين الصحة والجواز

ولا يخفى أن (الصحة) و (الجواز) متغايران مفهوماً وذاتاً بالحمل الذاتي الأولي، وأما بالحمل الشائع فلعل النسبة هي العموم

ص: 573


1- إن قصد ب(الجواز) الجواز بالمعنى الأعم كان ما بعده عطفاً تفسيرياً وإلا كان مبايناً.

والخصوص من وجه.

إذ رب (جائز) غير صحيح، كصلاة الجاهل قصوراً، فاقدة للركن، أو كإيقاع الطلاق بلا تنجيز أو بغير العربية بناء على اشتراطها.

ورب (صحيح) غير جائز، كالعبادة المرجوحة في بحث الترتب فتأمل، وكالظهار بشرائطه، وكعقد البيع في يوم الجمعة بناءاً على حرمته.ولا يخفى ابتناء تحقيق (النسبة) على التحقيق في معنى (الصحة) فهل هي مطابقة المأتي به للمأمور به؟ أو هي منشأية الأثر؟ أو هي تمامية الشيء وحصوله على حسب مقتضى طبعه أو وضعه؟ وتحقيق ذلك يطلب من مظآنه.

وعلى أي فإن (الاجتهاد) و (التقليد) جاريان في الأحكام الإرشادية، كالمولوية وذلك لجريان الأدلة فيها على مساق واحد.

بيان ذلك:

إنه استدل _ أو قد يستدل _ للوجوب التخييري(1) (للتفقه) في (الأحكام المولوية بالمعنى الأعم)(2) و لجواز التقليد فيها، ووجوبه التخييري، ولحجية قول ورأي الفقيه، بالأدلة الأربعة:

ص: 574


1- بل ولجوازه أيضاً في قبال من ادعى حرمة الاجتهاد.
2- أي الشاملة للتكليفية والوضعية.

الاستدلال بالكتاب

الاستدلال بآية النفر

أما الكتاب: فقد استدل بآية النفر، قال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون».(1)

معنى (الدين) في آية النفر

و (الدين) أعم من الأحكام المولوية والإرشادية(2)؛ فإنها بأجمعها من (الدين)، سواء قصد ب(الإرشادية)، ما يرشد إلى الحكم الوضعي كالشرطية والمانعية وغيرها في المعاملات، بل وكذا في العبادات _ على رأي بعض الأعلام _، أم قصد بها ما هو قسيم الحكم المولوي مطلقاً أي الأعم من التكليفي والوضعي.

وذلك بأن يراد ب(الإرشادي) الحكم الصادر نصيحة وإرشاداً، لكن ما كان منها للوجوب أو الندب(3) كمطلق الأوامر في مواطن المستقلات العقلية _ على مبنى من ذهب للضابط الخامس _ بل وبدون ذلك القيد(4) فيها بناء على استحالته لما ذكروه من محاذير التسلسل وغيره؛ فإن عدم

ص: 575


1- التوبة: 122.
2- بل قد ذكرنا في مباحث الأصول _ كتاب القطع _ أن (الدين) يشمل (الموضوعات المستنبطة) و (مبادئ الاستنباط) وأموراً أخرى.
3- على ما بسطناه في موضع آخر من انقسام الحكم الإرشادي إلى الوجوب والندب تبعاً للشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما.
4- وهو (ما كان منها للوجوب أو الندب).

وجوب المستقلات العقلية أو ندبها، لا يخرجها عن كونها من الدين مادام قد تعلق بها الأمر ولو نصحاً، ألا ترى أن التفقه في «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» وفي «اعدلوا» وسائر المستقلات، تفقه في الدين حقيقة على أي ضابط صرنا إليه في تمييز المولوي عن الإرشادي؟

أو يراد به:(1) أي أمر صدر من المولى جل وعلا غيرَ معملٍ مقامه وكذا من رسوله وأوصيائه عليهم السلام(2) _ على ما صرنا إليه من الضابط الأول _ لكنه أصدره للإيجاب أو الندب فإن قسماً كبيراً منها _ في غير العرفيات الصرفة(3) _ من الدين _ وقد ذكرنا أمثلة كثيرة لذلك في مطاوي الكتاب فلتراجع _.وإذا كان (الدين) أعم، كان (التفقه) فيه كذلك، فإذا وجب هذا(4)، بهذه الآية الشريفة، وجب ذاك(5)، وإذا وجب قبول هذا، وجب ذاك بنفس الوزان، وكذلك الحال في (الحجية).

هل (لينذروا) دليل إخراج (الإرشادي)؟

لا يقال: (الإرشادي) خارج بقوله تعالى (لينذروا) إذ لا استحقاق

ص: 576


1- وهذا أعم من سابقه بلحاظ الإضافة المذكورة في الهامش (أي المولوي النصحي) وبلحاظ شموله ما كان للوجوب وإن لم يكن نصحاً بل لأي غرض آخر بل حتى تشهياً.
2- أو أصدره معملاً مقامه المولوي لكن لا المولوي _ التشريعي، بل المولوي _ النصحي، كما بسطناه في موضع آخر.
3- بل حتى فيها مادام قد (أمر) موجباً أو نادباً _ لكن فيه: الخروج الموضوعي عندئذ _ فتأمل.
4- أي التفقه في مطلق (المولوي).
5- أي التفقه في مطلق (الإرشادي).

للعقوبة فيه، و (الغاية) تخصص أو تعمم، ذاها.

إذ يقال:

أولاً: (الإنذار) أعم مما يستوجب العقوبة بتركه، فإن ترك (الواجب الإرشادي) وإن لم يستوجب العقوبة لكونه غير مولوي، بل كان إرشاداً _ وجوبياً، مما يصح ويصدق عليه (الانذار)، ألا ترى صدق وصحة (أنذره وحذره) لو حذره من مخالفة أمر (الطبيب) رغم أن أمره ليس مولوياً بل هو إرشادي فقط.

إن قلت: (الإنذار) هنا بلحاظ (المتعلق) لا (الأمر الصادر منه).

قلت:

أولاً: يصدق الإنذار بكلا اللحاظين، وثانياً: سلمنا، لكن المقام(1) مثله(2) فلا خروج.(3)

ثانياً: ليس الإنذار غاية للتفقه بل للنفر _ فتأمل.(4)

ثالثاً: قد يقال بكونه حكمة لا علة، ويؤيده الاقتصار على «ولينذروا» دون (يبشروا) مع أنهما وظيفة الأنبياء «بشيراً ونذيراً»

ص: 577


1- وهو الإنذار في الآية الشريفة.
2- لشمول الآية (الإنذار) على مخالفة الأمر و (الإنذار) على ترك المتعلق، والأول هو مفاد قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره والثاني مفاد: (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) و (فأصابهم سيئات ما كسبوا) أو هما أعم.
3- في استدلاله (الإرشادي خارج).
4- إذ ذلك على فرضه غير مجدٍ، لعود المحذور في متعلق (لينذورا قومهم) إذ هو (فيما تفقهوا فيه).

ف«ولينذروا» إذن مشير لا حاصر.(1)

رابعاً: بل الظاهر أن «ولينذروا» هو إحدى العلتين، وعدم تحققها غير ضار بوجوب النفر، لكفاية العلة الأخرى وهي «وليتفقهوا» وعلى هذا فلو تحقق (التفقه) دون الإنذار _ إما لعدم إمكانه كالأوامر الإرشادية لكونها _ على الفرض _ بلا عقوبة فلا إنذار من باب السالبة بإنتفاء الموضوع، أو لعدم القدرة على الوصول للمنذرين مثلاً _ فإنه لا يضر بوجوبه _ فكيف يضر بكونه من (الدين)؟

النقض بالقضايا التاريخية وجوابه

لا يقال: من (التفقه في الدين) الأخبار والتفقه في القضايا التاريخية، فليس كل ما صدق عليه تفقه في الدين، من الفقه، وليس كل تفقه في الدين واجباً؟إذ يقال: لعله لا يطلق عليه (تفقه في الدين)، ولو أطلق فهو مجاز توسعاً(2) ولعله بلحاظ ملزومه أو ما يلزمه من (الأحكام)، ولو كان بذاته وأطلق عليه بما هو فرضاً، فإنه لا يصلح لإدراجه في (الفقه) لا لأنه ليس تفقهاً فرضاً، بل لعدم كونه من (أحكام المكلفين)، والفقه يبحث عن أحكام المكلف، وأحكام ما يرتبط به، فلا قابلية للحمل، عكس (الأحكام الإرشادية).

ص: 578


1- أي (ينذروا) هو الفرد الأبرز من الهدف والغاية وليس الوحيد، فهو مشير للغرض والغاية وليس حاصراً.
2- أي توسعاً في (الدين).

ثم إن صدق (التفقه في الدين) وعدمه(1)، غير ضار بالالتزام بوجوب الاجتهاد في أمر أو التقليد فيه، إذ قد يقال بوجوب الاجتهاد في القضايا التاريخية المرتبطة بالأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام، وكشف الصحيح مما نسب إليهم عن السقيم، وما واجهوه من محن وإبتلاءات، وأحوال أعدائهم وشبه ذلك، في الجملة، وعلى أي فإن ذلك خارج عن محل البحث.

الاستدلال بآية السؤال

وآية السؤال، قال تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون».(2)

فإن السؤال شامل لكلا القسمين(3) من الأوامر والنواهي والأحكام.

و «أهل الذكر» يصدق حقيقة على العالم بالأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية، خاصة بناء على القول بكونها للوجوب والندب، أما (الإرشادي منها للأحكام الوضعية) فالشمول له مما لا ينبغي الترديد فيه.

ويؤيده بل يدل عليه، إن شأن النزول هو (قضايا العقيدة)، والأوامر فيها إرشادية على حسب عدد من المسالك في ضابط المولوي والإرشادي، ومنها مسلك (المستقلات العقلية) _ وهو المسلك الخامس _، ومسلك (معلومية المصلحة للمأمور قبل الأمر) _ وهو

ص: 579


1- أي على مثل القضايا التاريخية، وإلا فإن عدم صدق التفقه في الدين على الأوامر الإرشادية يخرج الآية عن صحة الاستدلال بها.
2- النحل: 43.
3- أي المولوي منها والإرشادي.

السادس _، ومسلك (عود المصلحة للمأمور) _ وهو الثامن _، بل ومسلك (ما لو لم تتوقف المصلحة على الأمر) _ وهو السابع _.

وإن كنا نرى أن الأمر فيها مولوي، نظراً لترجيحنا الضابط الأول وهو (ما صدر من المولى معملاً مقام مولويته)، على احتمال الالتزام بالإرشادية على هذا الضابط أيضاً، نظراً لقيد (إذا كان في مقام التشريع) واستظهار أن الأوامر في شؤون العقيدة لم تكن دائماً لتشريع إيجاب الاعتقاد ليترتب على عدمه استحقاق العقاب بل هي في الجملة إيجاب مولوي نصحي(1)، أو إرشاد غير مولوي نصحي، كما فصلناه هناك _ ولعل تمييز ذلك يعرف بالسياق واللحن وذكر الفوائد وغيرها _ وفيه تأمل.

والتأمل يمكن عوده لأوائل البحث، وإن مورد الكلام هل هو مولوية أو إرشادية أمر «فاسألوا أهل الذكر»، أو هو مولوية أو إرشادية الأوامر الواردة في المسؤول عنه، من الشؤون الاعتقادية.كما يمكن عوده لأواخر البحث؛ إذ شأن نزول الآية قد يكون الأعم من المستقلات العقلية وغيرها، لسبقها ب«وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم» فإن كونهم رجالاً بشراً ليس من المستقلات وأما كونهم يوحي لهم الله، فلعله مستقل عقلي إن أريد به الأعم من الإلهام والنكت والنقر، وإلا _ بأن أريد به خصوص الوحي _ فلعله مما لا يستقل به العقل وعلى أي فإن (الأعمية) غير ضارة بالبحث بل هي نافعة للمقصود كما لا يخفى بل ذهب في (الصافي) إلى أعمية السؤال لكل ما

ص: 580


1- أي بما هو مولى ناصح، يوجب.

أشكل عليهم.

وعلى أي فإن شمول «فاسألوا أهل الذكر» المعدود من أدلة وجوب التقليد _ مطابقة _ وصحة وحجية الاجتهاد والنظر _ إلتزاماً _ للمستقلات العقلية، بل كونها هو شأن النزول _ مما لا ينبغي الريب فيه، فيثبت بذلك جواز الاجتهاد فيها وصحته(1)، كما يثبت جواز السؤال عنها بل ووجوبه كما يثبت جواز التقليد وصحته فيها _ على قول _ وإلا فالسؤال يعتبر طريقاً لتحصيل العلم خاصة لدلالة رأس الآية على ذلك «إن كنتم لا تعلمون».

ثم إن (عدم جواز التقليد في خصوص أصول الدين، من المستقلات) لا يمنع التسمك بالآية الشريفة للتقليد، في سائر المستقلات، كما تمسكوا به للتقليد في الفرعيات _ فتأمل.

الاستدلال بآية النبأ

وآية النبأ، قال تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».(2)

فإذا دلت هذه الآية الشريفة _ بمفهوم الشرط أو الوصف، أو ببركة التعليل _ على (حجية خبر العادل) ووجوب قبول قوله، في كل إخباراته عن (الأحكام المولوية) وعن (الموضوعات الخارجية) التي يترتب عليها الأثر، بلحاظه، دلت على حجية خبره ولزوم قبوله في كل إخباراته عن (الأحكام الإرشادية).

ص: 581


1- لأن (الاجتهاد) علم عرفاً وبعبارة أخرى العالم بالشيء عن إجتهاد (أهل الذكر) عرفاً.
2- الحجرات: 6.

وإذا دلت على جواز أو وجوب التقليد في حد سِيّاته (أي آرائه الاجتهادية) في الأحكام المولوية _ لأنه ليس (بجهالة) بل ولدعوى شمول (النبأ) عرفاً له لأنه ينبأ باجتهاده عن المعصومين عليهم السلام بل ولصدق (التبين) على من سأل مجتهداً عادلاً _، دلت على جواز أو وجوبه في حد سِيّاته في الأحكام الإرشادية أيضاً.

بل إن (النبأ) و (إصابة قوم بجهالة) لها مصاديق كثيرة، من موارد الأحكام الإرشادية، بل هي كثيرة الإبتلاء، كما في موارد الإخبار عن حكم إرشادي(1) وهي في الشريعة بالألوف كما فصلناه في موطن آخر _ أو موارد الإخبار عن تحقق موضوعه ك:استشهاده شهيدين في الطلاق، والشهادة في البيع بشروطه، من الوضعيات وكافة موارد الشؤون (الطبية والصحية) و (التجارية) وغيرها مما أدرجوه في عنوان الإرشاد والنصح، فتأمل.

ص: 582


1- مما يستتبع عدم التبين فيه وقبوله إذا كان من الفاسق أو غير المجتهد في الحدس، إصابة قوم بجهالة، نظراً لتوهم صحة ذلك الحكم وانطباقه عليه وذلك كإخباره بوجوب دفع الزكاة للحاكم أو إنهم لم يدفعوا أو إخباره بارتدادهم بذلك أو ذهابه اجتهاداً إلى ذلك _ بناء على كون وجوبها أو الارتداد بعدمها أو اللا ارتداد مستقلاً عقلياً _ مع قطع النظر أن هذا الحاكم الذي جيء به بالمؤامرة ليس هو الحاكم الذي ينبغي تسليم الزكاة له _ وعلى أي فإن قبول خبر الفاسق بارتداد مالك بن نويرة مثلاً كان (إصابة قوم بجهالة) المراد بها الأعم من الجهل والعمد لأن العامد للحرام، فاعل ذلك (بجهالة) _ فتأمل. أو يمثل لذلك بإخباره عن _ أو اجتهاده ب _ وجوب المساواة مطلقاً _ والواجب العدل لا المساواة على إطلاقها _ أو إخباره عن حرمتها مطلقاً _ وهي واجبة في الجملة _ فأصاب قوماً بجهالة بعد تطبيقه هذه الكبرى الخاطئة عليهم، وعلى أي فإن خبر المجتهد العادل بأن هذا الشيء واجب أو حرام مشرعاً ولو ارشاداً (تبينٌ) فيجري فيه التقليد وليس بعده إصابةً للقوم بجهالة.

آية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت

وآية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به».(1)

و (التحاكم إلى الطاغوت) أعم من التحاكم إليه في الموضوعات (الصرفة) أو (المستنبطة) أو (الشؤون العامة)، ومن التحاكم إليه في الأحكام الإرشادية والمولوية.

وشأن النزول، لا يخصص، إلا أن يستند إلى كلمة (يتحاكمون) وظهورها في باب القضاء، لكن قد يقال بكونه بدوياً وشمول (التحاكم) للتحاكم فيما كان من موارد العقل العملي أو كان من موارد العقل النظري، بل لو اختلف شخصان في معنى آية أو إطلاقها أو عمومها أو ناسخيتها أو غير ذلك، فتراجعا إلى (طاغوت) كان (تحاكماً إليه) أو يقال بالمناط القطعي ومنه يعلم حال تقليده بدون وجود تنازع.

معنى (الطاغوت)

وأما الطاغوت فهو (كل طاغ تعدى الحدود)(2) ولا وجه لتخصيصه بعدها ب(والمراد حكام الجور)(3) خاصة مع ملاحظة شأن النزول، وهو كما عن القمي (نزلت في الزبير بن العوام، نازع رجلاً من اليهود في حديقة فقال الزبير، نرضى بابن شيبة اليهودي وقال اليهودي: نرضى

ص: 583


1- النساء: 60.
2- تبيين القرآن: ص99 ذيل الآية الشريفة.
3- المصدر.

بمحمد صلى الله عليه وآله فأنزل الله، وكذلك حيث سئل عليه السلام (عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟) فقال: (من تحاكم إلى الطاغوت...).(1)

كما نقل في مجمع البيان الأقوال في الطاغوت وهي (كعب بن الأشرف) (وقيل إنه كاهن من جهينة) و (قيل أراد به ما كانوا يتحاكمون فيه إلى الأوثان، بضرب القداح) وقال (وروى أصحابنا عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام إن المعني به كل من يتحاكم إليه، ممن يحكم بغير الحق).(2)وعلى أي فالظاهر أن (الطاغوت) كما يستفاد من ما رواه في المجمع عن الإمامين الهمامين، هو كل من يحكم بغير الحق، صدق عليه (حاكم الجور) عرفاً أم لا؟

ولذا قال في المفردات: (والطاغوت عبارة عن كل متعد، وكل معبود من دون الله... و «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت» عبارة عن كل متعدٍّ، ولما تقدم سمي الساحر والكاهن، والمارد من الجن، والصارف عن طريق الخير، طاغوتاً).(3)

وقال في مجمع البحرين: (الطاغوت: فعلوت من الطغيان وهو تجاوز الحد... وقد يطلق على الكافر والشيطان والأصنام وعلى كل رئيس في الضلالة وعلى كل من عبد من دون الله).(4)

ص: 584


1- الصافي في تفسير الآية الشريفة.
2- مجمع البيان: ج3، ص116.
3- مفردات ألفاظ القرآن: مادة طغى، ص 520 _ 521.
4- مجمع البحرين: مادة طغى، ج1، ص276.

وقال السيد السبزواري في تفسير الآية 256 من سورة البقرة: (ويطلق على كل من كان سبباً للطغيان والضلال، مثل الأصنام والشيطان ورؤساء الشرك والعناد، وتعرف المصاديق من القرائن الحافة بموارد الاستعمال، ففي المقام يراد به كل ضلال وما يكون سبباً للخروج عن الحق والصراط المستقيم، سواء كان صنماً أو إنساناً أو شيطاناً أو العصبية والأهواء الباطلة...).(1)

اللهم إلا أن يقصد في (التبيين) أن المراد به حكام الجور بقرينة (يتحاكموا) وقد سبق ما فيه من شأن نزول الآية وتفسير الإمامين عليهما السلام وغيره، والله العالم.

أمثلة لما يحرم تقليد الطاغوت فيه

بل إن موارد الأحكام الإرشادية فيه كثيرة الإبتلاء وذلك مثل:

هل العدل واجب أو المساواة؟

وهل الشورى محرمة أو الاستبداد؟

وهل نقض بيعة الغاصب كالأول والثاني، واجبة أم محرمة؟

وهل لو استودعت الحاكم الجائر أمانة، فهي واجبة الرد أو يجب إيصالها لأصحابها؟

وغير ذلك مما يستقل به العقل _ كما أوضحنا بعضها في بعض فصول هذا الكتاب _.

فإن تقليد (الطاغوت) في ذلك، محرم، وتقليد غيره الجامع للشرائط

ص: 585


1- مواهب الرحمن: ج4، ص298.

جائز بل واجب، سواء تم الاستناد إلى خصوص هذه الآية الشريفة أم لا؟ وذلك لكفاية سائر الأدلة.

ثم إن (بالكفر به) يشمل: الأخذ بقوله، والاعتماد عليه، وتقليده، والرجوع إليه والتحاكم لديه، وإنفاذ حكمه.

آية الولاية والطاعة

وآية الولاية والطاعة، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».(1)

وقد يدعى وضوح دلالة هذه الآية على المطلوب فإن إطاعة الله والرسول وأولى الأمر، لا تنحصر في أوامرهم المولوية بل الإرشادية كذلك، فإن كانت واجبة فوجوباً وإلا فندباً.

ومن الواضح أن تقليد المجتهد الجامع للشرائط فيها، هو إطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر، لأنهم الآمرون بتقليده كما فصل في كتاب (الاجتهاد والتقليد) وإذا صحت الإطاعة أو وجبت،كشف ذلك بدلالة التنبيه والإشارة على صحة الاجتهاد فيها وجوازه أو وجوبه التخييري أيضاً، لأن التلازم هو المتفاهم عرفاً من مثل هذا الكلام.

أو يقرر ذلك بأنه بعد وضوح كون إطاعة الفقيه الجامع للشرائط، إطاعة للرسول وأولى الأمر، لأنهم الآمرون بإطاعته، فمخالفته مخالفتهم، فإنه لا يعقل حصر إطاعته بغير ما كان عن اجتهاد لندرته،

ص: 586


1- النساء: 59.

ولزوم إطاعته فيه(1) الكاشف عن حجيته ولزومه لتوقفها(2) عليه _ فتأمل.

وعلى أي لو لم يتم الاستدلال بهذه الآية الشريفة على صحة الاجتهاد وجوازه، لكفى في المقام التمسك بها للزوم الإطاعة، والتقليد مع تعميم التقليد لمطلق الأخذ بقوله، ولو كان عن حس، كنقله الرواية الدالة على حكم مولوي أو إرشادي، وهذا كاف كما فصلناه في مبحث آخر من وجوب إطاعة الأمر الإرشادي _ الوجوبي كالأوامر المولوية الوجوبية من غير إخلال عدم استحقاق العقاب على الأول، بوجوبه.

أمثلة (إرشادية) يصدق عليها (الإطاعة) حقيقة

وبعبارة أخرى: يصدق حقيقة على إطاعة الأمر الإرشادي (كاشرب هذا الدواء، أو اتجر بهذه التجارة، أو أشهد إذا تبايعت) أنه (إطاعة)، وعدم استحقاق العقاب، بدليل خارج، ولا تلازم(3) كما فصلناه في موضع آخر.

ألا ترى أن التزام مصادف بقول الإمام عليه السلام له (أغدُ إلى عزك)(4) _ يعني السوق _ (إطاعة) حقيقة مع أنه أمر إرشادي ظاهراً؟ وأنه كان واجباً عليه ذلك _ مع فرض كون الإرشاد إلزامياً _ ؟

وكذا قوله عليه السلام: (باشر كبار أمورك بنفسك وكِل ما صغر منها إلى

ص: 587


1- أي فيما كان عن اجتهاد.
2- أي الإطاعة.
3- أي بين مطلق الوجوب واستحقاق العقاب كما لا تلازم بينه وبين العقاب وهذا أظهر من أن يخفى.
4- تهذيب الأحكام: ج7، ص3، ب1، ح4.

غيرك)(1)، فإنه إرشادي وامتثاله (إطاعة) دون شك، ولا فرق بين كون ذلك (حسياً) كالرواية، وبين كونه بالحدس والاجتهاد في ذلك الحكم.

نعم الإرشادي _ الندبي، تستحب إطاعته، ولعل (كِل ما صغر منها إلى غيرك) إرشاد _ ندبي، فلا يحرم تركه.

وقد يقال بدلالته على الوجوب الإرشادي(2) ويكون الندب في ما ارتكز عدم كونه حراماً أو قامت الضرورة عليه، أو شبه ذلك من القرائن، للقرينة، لكنه مشكل، ولعل تحقيقه يأتي في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.وكذلك قوله صلى الله عليه وآله: (علموا أولادكم السباحة والرماية)(3)، إن استظهر كونها إرشادية، أو قوله (سافروا تصحوا وتغنموا).(4)

وألا ترى أن محاولة معرفة هذه الأوامر ومصاديقها وإطلاقها وتقييدها وعامها وخاصها وتعارضاتها ومرجحاتها وإسنادها، (تفقه في الدين) حقيقة، وأن مستفرغ الوسع فيها (مجتهد)، وأن من لم يستطع، فسألها عن الفقيه فهو (مقلد) حقيقة؟وإن صرنا إلى كونها إرشادية، وجوبية كانت أو ندبية؟

ص: 588


1- عوالي اللئالي: ج3، ص197، ح14.
2- ويؤيده كون كلام الإمام عليه السلام مصداقاً لتزاحم الأهم والمهم وباب الترتب؛ فإن كل إنشغال بصغائر الأمور يفوّت كبائرها، خاصة في مَن هم مصادر الأمور وفيما يرتبط بشؤون الدين والهداية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر _ فتأمل، إذ مفاد ذلك موجبة جزئية لا غير فتأمل.
3- الكافي: ج6، ص47، باب تأديب الولد، ح4.
4- الدعوات: ص76، ح180.

بل نقول: إننا في التسمك بهذه الآية الشريفة، في غنى عن إثبات دلالتها على صحة الإجتهاد وجوازه أو وجوبه، وعلى صحة التقليد وجوازه أو وجوبه، إذا أردنا مجرد إثبات ضرورة إدراج كل مسائل الأحكام الإرشادية في (الفقه) وذلك بعد كونها متعلقه بأفعال المكلفين(1)؛ وذلك لصدق (إطاعة الله والرسول وأولي الأمر) على التمسك بالروايات _ وهي بالألوف _ الدالة على الحكم الإرشادي _ وجوباً أو حرمة بل حتى استحباباً وكراهة _ فإن إطاعة كل شيء بحسبه، فإذا أمر به نادباً إليه مرخصاً في تركه كانت إطاعته بالعمل به، إن شاء، لاستحبابه، ألا ترى أن من صلى صلاة الليل فقد أطاع الرسول صلى الله عليه وآله؟

الاستدلال بالسنة

وأما الروايات:

رواية (العمري ثقتي)

فمنها: صحيحة أحمد بن إسحاق عن الإمام أبي الحسن الهادي عليه السلام قال: سألته وقلت له: مَن أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال:

(العمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون).(2)

ألا ترى أن العمري _ وسائر الثقاة _ لو أدّى إلينا عن الإمام عليه السلام

ص: 589


1- لإخراج إطاعتهم فيما يتعلق بأمور العقيدة، فإنها ليست من الفقه كما لا يخفى لذا لا تدرج فيه عادة.
2- وسائل الشيعة: ج27، ص137، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح4.

قوله: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتحل).(1)

أو قوله عليه السلام: (لا تدعوا التجارة فتهونوا، اتجروا يبارك الله لكم).(2)

أو قوله عليه السلام: (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير).(3)أو قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإن ولدها يكون حليماً نقياً)(4)، إلى غير تلك الأوامر مما تعد (إرشادية) لا مولوية، على عدد من الضوابط وكما قد يستظهر في بعضها، ألا ترى صدق (فما أدى إليك عني فعني يؤدي) (وما قال لك عني فعني يقول) عليها حقيقة؟ وإن مَن عرفها عن اجتهاد فهو (الفقيه) أو أخذها من مجتهد ف(مقلد)؟

وألا ترى: أن المنكِر والمكذب للمجتهد المستفرغ وسعه، العادل، معارض للإمام حيث قال (فإسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون).

وبعبارة أخرى: هو عاصٍ حيث لم يطعه فيما كان الأمر الإرشادي وجوبياً وإن لم يستوجب العقاب، لكون الأمر إرشادياً في تلك الموارد، وقد فصلنا في موضع آخر إمكان ووقوع التفكيك بين (الوجوب) و (استحقاق العقاب).

أدلة (التقليد) شاملة (للإرشادي) بكل تعريفاته

وبذلك يظهر أن (الأدلة) على جواز الاجتهاد وجواز التقليد _

ص: 590


1- وسائل الشيعة: ج2، ص99، ح1603.
2- تهذيب الأحكام: ج7، ص3، ب1، ح6.
3- الكافي: ج5، ص158، ح5.
4- بحار الأنوار: ج63، ص141، ح58.

بالمعنى الأعم من وجوبهما التخييري، وعلى صحتهما، في (الفقه)، هي أعم من (الأحكام المولوية) و (الأحكام الإرشادية)؛ فإنها بأجمعها مما يصدق عليها (الاجتهاد والتفقه) لو اجتهد فيها وتفقه و (التقليد) _ سواء عرفناه بمعنى (العمل عن استناد أو العمل استناداً إلى رأي الغير، كما هو المشهور بين المعاصرين ومن قاربنا عصورهم)(1)، أو (الاستناد إلى فتوى الغير في العمل) كما في التنقيح، أو (الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد، بل ولو لم يأخذ فتواهم) كما ذهب إليه في العروة، أو هو (نفس العمل ولا مدخلية للالتزام) كما ذهب إليه السيد البروجردي أو غير ذلك من الأقوال.(2)

حسنة بن المهتدي و (معالم الدين)

ومنها: حسنة عبد العزيز بن المهتدي:

(قال قلت للرضا عليه السلام: إن شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال نعم).(3)

و (آخذ) _ بعد تقرير الإمام _ دليل الصحة والجواز بل والوجوب _ فيما من شأنه ذلك _ بتناسب الحكم والموضوع كما هو دليل على جواز وصحة بل وجوب طرفه المقابل له.(4)

ونظيرها من حيث اشتمالها على كلمة (معالم ديني) روايتا

ص: 591


1- بيان الفقه: ج1، ص168.
2- وقد أشرنا لها في مباحث الأصول _ كتاب القطع، وقد فصلّها السيد العم حفظه الله تعالى في بيان الفقه ج1، ص168 _ 169.
3- وسائل الشيعة: ج18، ص107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح35.
4- وهو إيصال معالم الدين للطالب وإعطائه، بل ولغيره.

الحسن بن علي ابن يقطين(1) والهمداني.(2)وكما يصدق على من عرف والتزم وعمل عن تقليد: هل الماء طاهر مطلقاً أم لا؟ وهل الكافر يرث أم لا؟ ومن له حق الحضانة؟ وأسباب الخيار؟ ومانعية الحدث عن انعقاد الصلاة، وتروك الصوم، وشبه ذلك، من الأحكام الوضعية، ومن وجودية وعدمية، أنه (أخذ معالم دينه) عن فلان، كذلك يصدق (أخذ معالم الدين) على من استند أو التزم أو عرف عن تقليد: وجوب أو استحباب أو إباحة، وكذا حدود أحكامٍ ك: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم»(3) و «وأشهدوا ذوي عدل منكم»(4) و «فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم»(5) بل وهل أنها تكليفية أم وضعية(6) وكذلك قوله تعالى «إن العهد كان مسؤولاً»(7) و «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين»(8) مما هو أمر إرشادي، أو مما ذهب عدد من الأعاظم لكونه إرشادياً، نظراً لكونه من المستقلات العقلية، أو لغير ذلك(9)، فكيف يعزل هذا الصنف من المباحث عن (الفقه) مع إدراج الصنف السابق فيه؟ مع صدق (معالم ديني) عليها جزماً، بل ومع شمول

ص: 592


1- المصدر: ح33.
2- المصدر: ح27.
3- البقرة: 282.
4- الطلاق: 2.
5- النساء: 6.
6- فهي في (اشهدوا) وضعية على المشهور، وفي (استشهدوا) و (فأشهدوا) ليست وضعية قطعاً، بل هي إما إرشادية على رأي لعله المشهور أو مولوية للندب كما نراه وفصلناه في موضع آخر.
7- الإسراء: 34.
8- البينة: 5.
9- حسب المبنى في الضوابط أو حسب القرائن.

مختلف أدلة التقليد للصنفين، وكونها من أشد ما يبتلى به المكلف، وكونها أحكاماً له أو لما يتعلق به أو لمن يتعلق به؟

الاستدلال ب(أما الحوادث الواقعة)

ومنها التوقيع المبارك لإمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى إسحاق بن يعقوب: (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(1)، فإنه عام شامل لموارد أوامرهم ونواهيهم الإرشادية كالمولوية تماماً.

أمثلة (للإرشادي) من الحوادث الواقعة

وكما تصدق (الحوادث الواقعة) على موضوعات الأحكام المولوية(2) _ مطلقاً أو في الجملة(3)_ فيلزمهم فيها (الرجوع إلى رواة أحاديثهم)، كذلك تصدق على موضوعاتالأحكام الإرشادية _ بأجمعها أو في الجملة _ وذلك ك(الإشهاد) على (الديون الدولية) فهل يشملها قوله تعالى «واستشهدوا شهيدين من رجالكم»؟

وكذا (الاشهاد) على مطلق (العقود والمعاملات الدولية) فهل يشمله قوله تعالى «واشهدوا إذا تبايعتم»(4)؟

و (الاشهاد) على دفع (الأموال) للشركة المحجور عليها بعد رفع الحجر عنها، فهل يشمله قوله تعالى «فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا

ص: 593


1- وسائل الشيعة: ج27، ص140، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
2- كشؤون السلم والحرب والمعاهدات الدولية وغيرها.
3- وهو الأصح إذ ليس كل موضوع لحكم مولوي يصدق عليه (الحادثة الواقعة).
4- البقرة: 282.

عليهم» إطلاقاً أو ملاكاً؟

وكذا لو حدثت واقعة _ شك في حكمها الإرشادي _ كتعامل مع جماعة أو جهة أو شركةٍ لا يدرى هل نشأت في الخير أم لا؟ لتشملها _ بالإطلاق أو الملاك _ رواية: (لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير)؟

وكتردد أمر توجيه الحوزات العلمية في هذا الزمن إلى الإكتفاء الذاتي والاستثمار مثلاً، بين أنه عزٌّ لها، كما أمر الإمام عليه السلام، مصادف بقوله (أغد إلى عزك) أم إنه مزاحم لأدوارها الطبيعية؟

وكذا دوران الأمر الكذائي بين كونه من كبار الأمور ليباشرها مرجع التقليد أو رئيس الدولة أو الوزير، أو صغارها، ليشملها قوله عليه السلام (باشر كبار أمورك بنفسك وكِل ما صغر منها إلى غيرك).

بل قد يدعى شمول (الحوادث الواقعة) للأحكام المستجدة بنفسها، مولوية كانت أو إرشادية، لكن فيه ما لا يخفى فتأمل.

الاستدلال برواية الاحتجاج

ومنها: الروايات المشتملة على لفظ (التقليد) مثل:

رواية الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال: (قال الصادق في حديث طويل: وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها.. فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.. فأما مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً

ص: 594

على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه).(1)

إشارة لسند الرواية

ولا حاجة للبحث السندي عن هذه الرواية، بعد مطابقة مضمونها لسائر الروايات وللأصول والقواعد ولصريح العقل وبناء العقلاء.

بل أن عدداً من الأعلام اعتبروها بخصوصها حجة.

مثل: الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه الذي ضمن ما فيه قائلاً: (وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، وعليها المعول وإليها المرجع).

ومثل الشهيدين إذ قال السيد العم دام ظله: (قد يستظهر من الشهيدين والمحقق النائيني كون التفسير وراويه في غاية الاعتبار).(2)

ومثل: السيد الوالد رحمه الله في الفقه.(3)

أمثلة لتقليد العوام في (الإرشادي)

ومن البين أن عوامهم وعوامنا (يقلدون) فقهائهم أو فقهائنا في موارد الأحكام الإرشادية كالمولوية تماماً، كما فيما سبق من الأمثلة(4)... ومثل:

ص: 595


1- الاحتجاج: ج2، ص263.
2- بيان الفقه: ج1، ص56-57.
3- الفقه الاجتهاد والتقليد: ص41.
4- خاصة في آية (التحاكم إلى الطاغوت) فهم يقلدون فقهاءهم في (هل نقض بيعة الغاصب واجبة أم محرمة)... الخ من الأمثلة، ومثل (المعاملة والمخالطة مع مَن) التي أشير لها ذيل صحيحة أحمد بن إسحاق، ومثل عبادة مَن؟ وكيفية العبادة التي أشير لها ذيل حسنة عبد العزيز بن المهتدي وكذا الاستشهاد في الطلاق وغيره وعدمه، وغيرها ومثل الأمثلة العديدة التي ذكرناها في رواية (وأما الحوادث الواقعة) ك: (الاشهاد على الديون الدولية) وغيرها _ فراجع.

«ولا تقتلوا أنفسكم»(1)، و «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق» فمع أن قبح وحرمة قتل النفس والغير من المستقلات العقلية، والأمر فيها إرشادي حسب مبنى الكثيرين، أو لانطباق الضابط السادس للأمر الإرشادي، وكذا السابع والثامن وكذا الرابع بل وحتى الثاني، عليه، فإنهم يقلدون فقهائهم _ وكذلك عوامنا _ في أصل وموارد جواز قتل النفس والغير وحرمته، كعوامنا.

وكذا مثل قوله تعالى «لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده»(2)، و (غير مضار) و (لا ضرر ولا ضرار)، فإن قبح الضرر ومنعه مما يستقل به العقل، وإن لم يستقل ببعض حدوده أو لم يشخص بعض مصاديقه.

ومع ذلك تجد عوامهم وعوامنا يقلدون (الفقهاء) في الأصل وفي التفريعات، مما استقل به العقل وغيره _ كقطع العضو وذهاب القوة(3) والصوم الضرري وغير ذلك _، وكتقليدهم الفقهاء في (الحجامة) و (التطبير) وغيرهما.

وكذا مثل «ولا تقربوا الزنا»(4)، فإنه من المستقلات العقلية، وقد أشرنا لبعض التفصيل عن ذلك وإنه من (الفطريات) أو (الأوليات) أو (المشهورات) في موضع آخر فليلاحظ.

ص: 596


1- النساء: 29.
2- البقرة: 233.
3- ربما يدعى أن قبح: قطع العضو وذهاب القوة بالكامل، من المستقلات العقلية.
4- الإسراء: 32.

وكذلك قوله تعالى «فاصفح الصفح الجميل»(1)، وقد فصلناه ولواحقه في مواضع أخرى من الكتاب.

بل ومثل( احتجموا إذا هاج بكم الدم فإن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله)(2)، فإنه إرشادي حسب مبنى (ما أنشأ بلحاظ مصلحة الدنيا) ومبنى (ما كانت المصلحة معلومة للمأمور قبل الأمر) ومبنى (ما عادت المصلحة للمأمور) وبعض آخر من المباني.ومثل (تعرضوا للتجارة فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس)(3)، فإنه إرشادي حسب عدد من المباني، ومنها المباني الثلاثة المذكورة في (احتجموا) وكذا مبنى (ما لم تتوقف المصلحة على الأمر) بل حتى على الضابط الأول وهو (ما صدر من المولى بما هو مولى)، على رأيٍ، بلحاظ القرينة، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

فإن عوامهم وعوامنا (يقلدون) كثيراً ما (الفقيه) في وجوب ذلك أو استحبابه أو كراهته وحرمته، وفي معرفة الضابط العام لتحديد موضوعه، وهي كلها، أو في أغلب حالاتها، إرشادية، ويصدق حقيقة عليها قوله عليه السلام: (فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء...) و (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه... فللعوام أن يقلدوه).

لا يقال: لعلهم يقلدون فيها، لما يرون من مولويتها؟

إذ يقال: لا نجد في حالهم فرقاً من حيث التقليد بين: رؤيتهم ذلك

ص: 597


1- الحجر: 85، فهل يستحب الصفح أو يجب أو يحرم أحياناً وأين موضع كل ذلك؟
2- مستدرك الوسائل: ج13، ص80، ح14819.
3- وسائل الشيعة: ج14، ص5، ب1، ح12.

أو إرشاديتها.

وأما بناء العقلاء

فإننا نجد أن العقلاء من كل ملة ونحلة يرجع جاهلهم إلى عالمهم، _ وهذا يعد من أهم أدلة التقليد بل نجد رجوع جاهلهم إلى عالم الدين فيهم(1)، فيها، لا مطلق العالم _ لا في موارد الأحكام المولوية فحسب، بل في موارد الأحكام الإرشادية أيضاً، وأمثلته في الأوامر والنواهي الطبية والتجارية والاقتصادية ومطلق المعاشية والاجتماعية والحقوقية والسياسية، أكثر من أن تحصى، وقد أشرنا لبعضها في ضمن الآيات والروايات السابقة وأشرنا إلى الكثير منها في مطاوي الكتاب.

قال السيد العم دام ظله، في مدرك نظير هذا البناء الذي ادعيناه _ أي بناء العقلاء على التقليد بالمعنى المصطلح _:

(ومدرك حجية هذا البناء العقلائي لنا، أمران على سبيل منع الخلو: أحدهما: إن التقليد من طرق الإطاعة والمعصية، ولا شك كما لا خلاف على الظاهر في أن المرجع في طرق الإطاعة والمعصية هو بناء العقلاء ما لم يردع عنه الشارع ردعاً خاصاً، لعدم وجود ردع عام كما حقق في الأصول.

ثانيهما: إن الظاهر اتصال هذا البناء بعصر المعصومين عليهم السلام، وعدم ردعهم عنه دليل حجيته، فيدخل في السنة الشريفة من جهة

ص: 598


1- ولسنا بحاجة لإثبات الرجوع إلى (الأخص) أي عالم الدين العادل، ببناء العقلاء إذ إنه يثبت أصل الرجوع للعالم، وسائر الشروط _ كالعدالة _ تثبت بالأدلة الأخرى.

تقرير المعصوم).(1)

البناء والسيرة على التفقه والتقليد في (الإرشادي)

والدليلان كلاهما جار في التقليد في الأحكام الإرشادية.

أما الأول فلما أسلفنا من صدق (الإطاعة) حقيقة على إطاعة الأوامر والنواهي الإرشادية، سواء قلنا بإنقسامها للواجب والمندوب كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي قدس سرهما، أم لا _ حسب ما فصلناه في الأقوال الستة الآنفة _ والعقلاء ديدنهم رجوع الجاهل للعالم في مثل ذلك، وبناؤهم على حسنه مطلقاً، ووجوبه في الجملة بل مطلقاً.وأما الثاني فلأنه قد يدعى جريان سيرة المتشرعة منذ زمن المعصومين عليهم السلام وحتى الآن، على:

أ- (التفقه) في الأحكام الإرشادية كالمولوية.

ب- وعلى (سؤال) المعصومين عليهم السلام، ثم العلماء، على مر التاريخ، عن نظره صلوات الله عليه وعن نظر الشارع في مختلف موارد الأوامر والنواهي والأحكام الإرشادية، لا بما هو (عالِم صِرف) ومستشار، بل بما هو (عالم بالدين) وأمين عليه، وناقل لنظر الشارع.

ج- وعلى (الإتّباع) تعقلاً أحياناً وتعبداً أحياناً أخرى، سواء في ما يتعلق ب(الحياة الشخصية) و(الزواج) و (الأولاد) أم (الشؤون الطبية والصحية) أم (التجارة) وشؤون (المعاش) و (الصنائع

ص: 599


1- بيان الفقه: ج1، ص72-73.

والحرف) أم (الشؤون السياسية) و (الحقوق) وغيرها، كلّما (أمر) المعصوم أو الفقيه الجامع للشرائط، بذلك، إذا كان أمراً وجوبياً، سواء كان مولوياً أم إرشادياً، وبذلك يخرج ما أحرز بالقرينة أن أمره للندب _ من غير فرق بين مولويِّهِ وإرشاديِّه _ أو لصرف الإرشاد للمصلحة في المتعلق دون إيجاب، فإن الإسلام دين ودنيا وقد جاء لسعادة الدارين، قال تعالى: «آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة»(1) وفي الحديث (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(2) فكلاهما غرض للشارع، وإحراز أغراض المولى الملزمة، لازم، وإن لم يتعلق بها أمر(3) فكيف به لو تعلق؟

بل لعله يدعى أن الناظر ل(المعصوم) عليه السلام ثم الفقيه، بما هو (مستشار) مجرداً عن مقام علمه الديني، حين استشارته، قليل، وإلا لكان يرجح أن يرجع لغير الفقيه من المتخصصين في ذلك الشأن _ فتأمل.(4)

ثم إن مباحث باب (التزاحم) تجري في الأحكام الإرشادية، كما تجري في (الأحكام المولوية) تماماً، ولعلنا نفصل الحديث عن ذلك في الجزء الثاني إذا شاء الله تعالى.

ص: 600


1- البقرة: 201.
2- بحار الأنوار: ج44، ص139، ب22، ح6، و وسائل الشيعة: ج17، ص76، ب28، ح2.
3- فصلنا جانباً من الحديث عن ذلك في فقه (التعاون) فليراجع.
4- إشارة إلى التأمل في الصغرى، وعدم القلة أولاً، وإشارة إلى عدم الحاجة لها أيضاً لتمامية الاستدلال بدونها كما سبق في هامش سابق ثانياً.

المبحث الثاني عشر: إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية، والنسبة بينهما، وغير ذلك

اشارة

ص: 601

ص: 602

إمكان اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد

اشارة

ثم إنه هل يمكن اجتماع جهتي المولوية والإرشادية في أمر واحد، أو نهي واحد، أو في جعل حكم شرعي واحد؟

الظاهر اختلاف ذلك باختلاف المسالك.

1- بناء على كون المولوي: ما أعمل فيه مقام المولوية

فبناء على المسلك الأول: فإنه لا يمكن كون أمر واحد مولوياً وإرشادياً، وإن كان فيه ملاك الآخر إذ (الأمر المولوي) هو: (ما أعمل فيه مقام المولوية) أي (ما صدر من المولى بما هو مولى) و (الإرشادي) هو: (ما صدر من المولى لا بما هو مولى وكذا ما لم يصدر من المولى) أي (ما لم يعمل) سواء للسالبة بانتفاء الموضوع(1) أم المحمول، وإن كان فيه ملاكه، فلا يجتمع النقيضان.

ص: 603


1- أي لعدم كونه مولى.

وبعبارة أخرى: الأمر المولوي (ما صدر من المولى بما هو مولى) و (بما هو مولى) حيثية تقييدية فهو (بشرط شيء)، والإرشادي (لا بما هو مولى) ويراد به: (بشرط لا) وليس (لا بشرط) الذي يجتمع مع ألف شرط.

وبذلك ظهر: أن النسبة بين الأمر المولوي والإرشادي _ على هذا الضابط _ هي التباين، لا (العموم من وجه في غير الشارع، والتساوي فيه) كما سيأتي عن المحقق الرشتي رحمه الله، فإنه غير تام حتى على ضابطه.(1)

وبعبارة أخرى: كما قال الميرزا الشيرازي رحمه الله: (فإن حيثية الإرشاد كما عرفت إنما هي أن لا يدخل الآمر نفسه في ذلك الطلب، ولا يكون باقتضائه وميله، وحيثية التكليف إنما هي أن يدخل نفسه فيه ويطلب من اقتضاء نفسه، فلا يعقل أن يكون طالباً لشيء واحد من هاتين الجهتين المتناقضتين)(2)، أي من إقتضاء نفسه ولا من إقتضائها.

2- بناء على (ما كان لمصلحة الآخرة)

وأما المسلك الثاني: فإن كان المراد بمصلحة الآخرة والدنيا: المصبّ، والمقصود أولاً وبالذات، فلا يجتمعان، وإلا أمكن اجتماعهما.

نعم يمكن على (المصب) اجتماعهما لو أريد الأعم من (المصب لا بشرط) أي الأعم من (التشريك) كما لو كان كلاهما مصباً ومقصوداً لذاته في عرض الآخر بحيث يكون كل منهما علة تامة للطلب لو إنفرد، دون ما لو أريد ب(المصب) كون جهته الراجحة في الطلب إذ لا يعقل كون

ص: 604


1- وهو الضابط الثالث.
2- تقريرات المجدد الشيرازي: ج2، ص22.

الجهتين المتضادتين راجحتين.

وبذلك يظهر وجه وتحقيق ما قاله في جواهر الكلام: (إن أريد بالإرشاد معناه الأعم أي الهداية إلى ما فيه المصلحة فهو غير منافٍ للتحريم، ضرورة كون الأحكام الشرعية جميعها إرشادية بهذا المعنى، وإن أريد معناه المصطلح أي الدالة على ما هو الأليق والأصلح بحال العبد في الأمور الدنيوية خاصة كما يستفاد من كلامهم في الأمر الإرشادي وغيره...).(1)

3- بناء على (ما صدر لأجل محبوبيته)

وأما المسلك الثالث: فلو قيد فيه صدوره لأجل محبوبيته أو عدمه، كان كالأول(2) بل وكذلك لو لم يقيد بأن قيل: (المولوي ما كان محبوباً للمولى) و (الإرشادي: ما لم يكن) فإنهما لا يجتمعان بالبداهة، إلا على التوجيه الذي ذكرناه قبل قليل على المسلك الثاني.وبما سبق يظهر الحال على بقية الضوابط، نعم يجري بحث (المصب) و (التشريك) على الضابط السابع والثامن _ فليتدبر.

كلام المحقق الرشتي عن النسبة بين الإرشادي والمولوي

ثم إن المحقق الرشتي رحمه الله ذهب إلى أن النسبة بين الإرشادي والمولوي مطلقاً _ أي لو لوحظ مطلق (الأمر) سواء الصادر من الشارع الأقدس أم من غيره _ هي العموم والخصوص من وجه، وفي أوامره هي

ص: 605


1- جواهر الكلام: ج29، ص396.
2- أي يمتنع اجتماعهما.

التساوي على مسلك العدلية.

قال: (فإن أقسام الأوامر ثلاثة: قسم منها ما علم فيه عدم محبوبية الفعل للآمر، وهذا ليس فيه إلا جهة النصح والإرشاد، ومنه أوامر الطبيب، وقوله تعالى «واسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ»(1) وأوامر الإطاعة، إذ ليس للإطاعة المأمور بها محبوبية ومطلوبية للشارع غير محبوبية الواجبات الشرعية وإلا لتسلسل، ولذا لا يثاب ولا يعاقب زائداً على ما يترتب على العناوين الأولية كالصلاة ونحوها، فلو كانت الإطاعة أيضاً محبوبة بمحبوبية مغايرة لزم ترتب المدح والثواب والذم والعقاب عليها، إضافة إلى ما في العناوين الأولية، وهو واضح.

وقسم منها ما علم أنه ليس للنصح والإرشاد، بل لمحبوبية الفعل للآمر كأوامر الموالي إلى العبيد فيما يتعلق به أغراضهم.

ومنها ما اجتمع فيه الأمران وسيق لهما معاً وذلك كالأوامر الشرعية على طريقة العدلية).(2)

وجه عدم تمامية كلامه

لكن قد يورد عليه _ صغرى وكبرى:

إضافة إلى تناقضه مع ما سبق منه: (إذ لا مانع من جعل أوامر الإطاعة أوامر شرعية، وتسميتها (أوامر إرشادية) مما لا يساعده إصطلاح ولا اعتبار، وهل هو إلا تخرص بلا مدرك)(3) وقال قبل ذلك (إن دعوى

ص: 606


1- البقرة: 282.
2- بدائع الأفكار: ص267.
3- بدائع الأفكار 265.

بطلان اللازم _ أي خروج أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ونحوهما من أوامر الإطاعة، عن كونها إرشادية ودخولها في الأوامر الشرعية ... مع أن كونها أوامر إرشادية مما لا ستر عليه ولا ينبغي الإشكال فيه _ مصادرة إذ لا مانع ...الخ):

(الناصح) محب للفعل

أنه لا شك أن الناصح والواعظ والمرشد والطبيب (محب للفعل)، فإن حبه أعم من كونه لمصلحة عائدة له، وكونه لمصلحة عائدة لمن أحبه أو لمن وجب حقه عليه _ ولو بأجرة أخذها منه كالطبيب _ كما لا شك في محبوبية الاستشهاد بشهيدين من رجالكم، لله تعالى، وقد بحثنا ذلك في موضع آخر فليلاحظ.

لا أقل من عدم دليل على دعواه (ما علم عدم محبوبية الفعل للأمر) مدعياً أن الآية كذلك، اللهم إلا أن يقيد الضابط ب(وقد صدر لجهة محبوبيته) فإن عهدة الدليل تقع عندئذ على مدعي ذلك.بل يكفي حبه له(1) في الجملة(2) في نقض الضابط(3) وفي عدم كلية جعل أوامر الطبيب والواعظ من الإرشادي مطلقاً كما في عكسه(4)؛ فإن بعض الأوامر المولوية قد تكون بلا محبوبية الفعل، للآمر، كما في كل فعل يبغضه لكنه يأمر به إضطراراً أو إكراهاً أو ما أشبه مما لو لم يطعه

ص: 607


1- أي الآمر الناصح أو الواعظ المرشد أو الطبيب، للفعل.
2- أي في بعض الأوامر الإرشادية إذ لا شك أن الخطيب والواعظ العالم (محب) لأن يصلي ويصوم الناس الذين يعظهم بذلك.
3- هو الضابط الثالث الذي ذهب إليه المحقق الرشتي قدس سره.
4- الأصل: (كل أمر إرشادي فليس محبوباً للآمر)، عكسه: (كل أمر مولوي فهو محبوب له).

عبده، عاقبه _ فتأمل. وقد ذكرنا وجهه في موضع آخر، وكما في أوامر (التقية) و (البداء) و (الإمتحان).

(أمر الإطاعة) إمتثاله محبوب

وأما (أوامر الإطاعة)،فقد أجبنا عنها بالتفصيل وبوجوه عديدة في (مباحث الأصول) وفي (فقه التعاون على البر والتقوى).

ونضيف: أن أمر الإطاعة لا يصح القول عنه أنه (ما علم فيه عدم محبوبية الفعل للآمر) ثم تعليله ب(ليس للإطاعة المأمور بها، محبوبية ومطلوبية للشارع غير محبوبية الواجبات الشرعية) إذ نفي الأخص لا يستلزم نفس الأعم بل دليله _ وهو التسلسل _ يشهد بنفي الأخص ولذا قيد بعد ذلك ب(فلو كانت الإطاعة أيضاً محبوبة بمحبوبية مغايرة).

وبعبارة أخرى: (أمر الإطاعة) متحد مع (الأمر المتعلق بالعناوين الأولية) كالصلاة، إتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه، وإن فصلنا في موضع آخر إنه لا إتحاد بل هي متعلق له.(1)

وعلى أي فإنه لا ريب في أن منشأ الأمر ب(أطع) هو منشؤه في (أقم)، وهي المصلحة الموجودة في إقامة الصلاة، ولا ريب أن الفعل وهو (أطع) محبوب للآمر قطعاً، منتهى الأمر أنه محبوب لنفس المصلحة الكامنة في متعلقه لا لمصلحة أخرى مغايرة، وهذا لا يضر

ص: 608


1- أي العناوين الأولية، متعلقات لأمر الإطاعة، والأدق أن الأمر المتعلق بالعناوين الأولية متعلَّق لأمر الإطاعة، إذ تعلق أمر (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بأمر (أقم الصلاة) وذلك يعني (أطع أقم الصلاة) ولا إتحاد فإنه كقولك (أطع كلام مولاك) فهل (أطع) متحد مع (كلام مولاه)؟

بإنطباق تعريفه للمولوي ب(ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لجهة محبوبيته) اللهم إلا أن يقيد المحبوبية في الضابط وفي المقام _ أي في قوله (عدم محبوبية الفعل للآمر) في مقام تحديد القسم الأول _ ب(محبوبية مغايرة) ليتم له إخراج أوامر الإطاعة لاحقاً، لأنه لا ينفي محبوبية الإطاعة بل ينفي محبوبيتها بمحبوبية مغايرة لمحبوبية العناوين الأولية كالصلاة أي ما اتحدت الإطاعة معها اتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده _ فتأمل.(1)

ولا فرق بين المحبوب بالذات أو بالعرض

ثم إن تقييده بهذا القيد مما لا وجه له ثبوتاً ولبّاً في التفريق بين المولوي والإرشادي إذ لا فرق لدى العقل في (ما كان محبوباً للمولى وقد صدر لمحبوبيته) في كونه مولوياً، بين كونه محبوباً للموى لذاته أو لمحبوبية ما اتحد معه أو انطبق عليه من العناوين الأولية _ فإنه فيكليهما أعمل المولى ذاته ونفسه في مقام الطلب ولم يكن محط النظر (المتعلق) بذاته (والمأمور) بما هو، وعلى أي فإن الأمر واضح بملاحظة الضابط الأول الذي صرنا إليه.

أوامر الموالي العرفية منها النصحي

كما أن قوله (وقسم منها علم إنه ليس للنصح والإرشاد بل لمحبوبية الفعل للآمر) الظاهر عدم تماميته لو أراد حصر (اوامر الموالي إلى

ص: 609


1- إذ يستلزم هذا التقييد خروج كل الأوامر الغيرية عن كونه مولوية.

العبيد فيما يتعلق بأغراضهم) به، كما هو ظاهره؛ إذ لا ريب في أن أوامر الموالي للعبيد قد يلاحظ فيها النصح والإرشاد أيضاً فإن النصح داع ولا شك في إمكان إجتماعه مع المولوية حتى بمعنى (ما طلبه لأجل محبوبيته له) كما هو مسلكه، وقد فصلنا في موضع آخر أن المولوية والإرشادية ليسا جزء الموضوع له ولا المستعمل فيه بل هما من دواعي الاستعمال فلا مانع من اجتماعهما.

اللهم إلا أن يريد (النصح بشرط لا) ولكن فيه: أن كل شيء كذلك فيعود الفرق إصطلاحياً صِرفاً.

هل كل الأوامر الشرعية اجتمع فيها الأمران؟

ثم إنه لا صحة لدعوى كون الأوامر الشرعية (اجتمع فيها الأمران) و (سيق لهما معاً)، على إطلاقه _ مع قطع النظر عن استلزامه التناقض بحسب تعبيره(1) _ إذ ينقض بالأوامر الامتحانية وأوامر البداء وأوامر التقية، إذ لا محبوبية للفعل فيها، للآمر، وإن توهم المأمور ذلك، إلا الأخير بناء على الكسر والإنكسار كما فصلناه في موضع آخر.

ثم إنه لا جهة نصح فيها.(2)

ص: 610


1- إذ قال في القسم الأول: (ما علم فيه عدم محبوبية الفعل للآمر) وقال في القسم الثاني (بل لمحبوبية الفعل للآمر) فكيف يجتمع ما علم فيه عدم المحبوبية مع ما كان للمحبوبية؟ لكن الأمر سهل إذ الظاهر أن الإشكال على تعبيره فنيّاً بذلك، وليس مراداً له، بل مراده ما اجتمع فيه جهة المحبوبية والنصح _ ولذا أعرضنا في المتن عن عدّه إشكالاً برأسه واكتفينا ب(مع قطع النظر) و (حسب تعبيره) إشارة للخلل في التعبير لا المضمون المقصود له.
2- فهي _ على كلامه _ لا مولوية ولا إرشادية.

بل حتى لو قيد ب(الأوامر الشرعية مما كانت المصلحة فيه، في المتعلق لا في الأمر) فإنه لا يعلم أنها سيقت كلها للجهتين إذ كونها محبوبة له لا يستلزم كون دليلها للنصح، ودلالة دليلها عليه وإن كان ثبوتاً ممكناً إلا أن دعوى سوقها كلها للجهتين مشكلة.

ثم أن المحقق الرشتي لو قيد المولوي الذي جعل ضابطه (ما كان محبوباً للمولى) ب(وقد صدر لجهة محبوبيته له) ورد عليه عدم إمكان اجتماعه مع الإرشادي، حينئذ؛ لأنه (ما لم يصدر لهذه الجهة) ولا يجتمع النقيضان وقد سبق، لكن قد يقال بأن ظاهره صِرف اللحاظ وعدمه، لا بشرط الوحدة والتفرد، وليس (بشرط لا) فلاحظ عبارته وتأمل.

عناوين ثلاثة: (المولوي والإرشادي) (الإمضائي والتأسيسي) (الحقيقة الشرعية)

نعم هنالك عناوين ثلاثة طرحت في الأصول والفقه وهي:

عنوان الأوامر والنواهي، وهل هي مولوية أو إرشادية؟

وعنوان الإمضائية أو التأسيسية في العقود والإيقاعات والحجج وغيرها.

وعنوان (الحقيقة الشرعية) أو (المتشرعية).ومن البين اختلاف ماهية هذه العناوين الثلاثة ومفهومها، إلا أنه قد يجري الحديث عن (النسبة بينها).

أما مباحث (المولوية والإرشادية) فترتبط بمطلق (الأحكام التكليفية

ص: 611

والوضعية) وكل ما وضعه ورفعه بيد الشارع، وهذا هو محور البحث في هذا الكتاب، وقد تكلمنا حوله من جهات عديدة ولله الحمد.

وأما عنوان (التأسيسية والإمضائية) فإنها ترتبط ب(العقود) و (الإيقاعات) أصلاً أو شرائط وموانع، بل وكذا (العبادات) و (الأحكام) _ حسب تقسيم الشرائع، في الجملة _ فتأمل، كما ترتبط ب(الحجج، من أدلة وأمارات).

ف(عقد البيع) و (الرهن) و (القرض) و (الوكالة) و (عقد النكاح) ونظائرها، هي عقود أمضاها الشارع بالنص.

و (عقد التأمين) _ على القول به _ وكل العقود المستحدثة أمضاها الشارع بالعمومات.

و (عقد المتعة) و (عقد الأخوة) مما أسسه الشارع _ على احتمال _.

وكما أن (أصل العقد) قد يكون تأسيسياً وقد يكون إمضائياً، فكذلك شروطه وموانعه.(1)

ومثل ذلك يقال في (الإيقاع) أيضاً (أصلاً) كالطلاق والإبراء، وكحكم الحاكم بما يراه حقاً من الملكية والزوجية والنسب أو (شرائط وموانع) ككونه أصيلاً لا فضولياً _ إذ ذهبوا إلى عدم جريان الفضولية في الإيقاعات رغم إمكان القول بعرفيتها في الجملة _ وكالبلوغ والعقل والإختيار والقصد، إذ قد (أمضى) الشارع بعضها وأسس بعضها إثباتاً أو نفياً.

ص: 612


1- كالعربية والماضوية وتقديم الإيجاب على القبول والمولاة بينهما والتنجيز وغيرها _ على القول بكل منها.

وأما (الحجج) أصلاً أو شرائط _ سواء كانت على الأحكام مما يعبر عنه ب(الأدلة) أو على الموضوعات مما أطلق عليه (الأمارات) _ فإنها كذلك بين (ما أمضاه) الشارع _ وهو الأكثر _ وبين (ما أسسه) بمعنى أن الشارع قد جعل له الحجية أو نفاه عنه: إبتداءً من غير بناء للعقلاء أو سيرة لهم عليه، أو مع بناءهم على العكس، وذلك كالقياس والاستحسان مما نفاه، ولعل مما أثبته (اليد) و (السوق) و (أرض الإسلام) ولو في الجملة _ وتفصيل ذلك يطلب من (الأصول) و (القواعد الفقهية) وقد بحثنا جانباً منه في (مباحث الأصول)_ القطع.

وهناك عنوان ثالث هو مبحث (الحقيقة الشرعية) و (المتشرعية)، وهو ما يرتبط بتنقيح النسبة بين العناوين ومعنوناتها، وتغيير المراد منها وعدمه وذلك ك: (الصعيد والغناء والآنية والصلاة والدعاء) وغيرها، من غير فرق بين (العبادات) و (المعاملات) وبين (الحكم التكليفي) و (الوضعي) بل والموضوع الخارجي، سوى في وضوح نفيها في بعضها.(1)

ولعلنا نفصل الحديث عن العنوانين الأخيرين، وعن النسبة بينهما وبين عنوان (المولوية والارشادية) في الجزء الثاني إذا شاء الله تعالى.

وقبل الختام لابد أن أشير إلى أنني قد أعدت تبويب وترتيب مباحث الكتاب المختلفة، لدى الإنتهاء منه، لذا قد يلاحظ بعض الاختلاف في الإرجاعات وربما بعض التقدم والتأخر الطبعي والرتبي لبعض التفاصيل،

ص: 613


1- فلا (حقيقة شرعية) في معنى الملكية أو الزوجية مثلاً، ولا في مفهوم وماهية البيع والرهن والقرض ولا في معنى الوجوب والحرمة، كما لا حقيقة شرعية في بعض الموضوعات (كالأرض) في (الأرض لله ولمن عمرها) وغيرها.

فليؤخذ بعين الاعتبار.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وإله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

مرتضى الحسيني الشيرازي

29 شهر رمضان 1430

ص: 614

مصادر الكتاب

القران الكريم.

نهج البلاغة.

الكافي الشريف للشيخ الكليني.

أجود التقريرات، تقرير بحث الميرزا النائيني للسيد الخوئي.

الاحتجاج للشيخ الطبرسي.

الأصول للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

أعلام الدين للديلمي.

الأمالي للشيخ الطوسي.

بحار الأنوار للعلامة المجلسي.

بدائع الأفكار للشيخ حبيب الرشتي.

بيان الفقه للسيد صادق الحسيني الشيرازي.

ص: 615

تفسير الصافي للشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني.

تفسير العياشي.

تفسير القمي للشيخ علي بن ابراهيم القمي.

تفسير تبيين القران للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي.

تفسير مواهب الرحمن للسيد عبد الأعلى السبزواري.

تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني.

تقريرات المجدد الشيرازي للمولى علي الروزدري (رحمه الله).

التنقيح، تقريرات بحث السيد الخوئي للشيخ علي الغروي (رحمه الله).

تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي.

جامع أحاديث الشيعة للسيد محمد حسين البروجردي.

جواهر الكلام للشيخ محمد حسن النجفي.

حاشية كتاب المكاسب للشيخ محمد حسين الأصفهاني.

الخصال للشيخ الصدوق.

دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد باقر الإيرواني.

الدعوات لقطب الدين الراوندي.

ص: 616

رجال الكشي.

رسائل فقهية للشيخ الأنصاري.

سنن الدارمي.

شورى الفقهاء، دراسة فقهية للمؤلف.

الشورى في الإسلام للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

العروة الوثقى للسيد محمد طاظم الطباطبائي اليزدي.

علل الشرائع للشيخ الصدوق.

عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي.

غرر الحكم للآمدي.

الفقه: الاجتهاد والتقليد للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه: الحقوق للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه : القانون للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه: الآداب والسنن للسيد محمد الحسيني الشيرازي.الفقه: البيع للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه: الطب للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه: الواجبات للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه: المحرمات للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

الفقه : كتاب الأطعمة والأشربة للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

ص: 617

الفقه: الدولة الإسلامية للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

فقه الصادق للسيد صادق الروحاني.

فقه التعاون على البر والنقوى للمؤلف.

فوائد الأصول تقريرات بحث الميرزا النائيني للمحثث الكاظمي.

كفاية الأصول للآخوند الخراساني.

كنز العرفان في فقه القران للفاضل المقداد.

كنز العمال للمتقي الهندي.

مجمع البحرين للعلامة الطريحي.

محاضرات في أصول الفقه، تقريرات بحث السيد الخوئي للشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله).

مرآة العقول للعلامو المجلسي.

مستدرك الوسائل للميرزا النوري.

مستدرك سفينة البحار للنمازي الشاهرودي.

مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم.

مصباح الأصول تقرير بحث السيد الخوئي.

مصباح الفقيه لآقا رضا الهمداني.

معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

ص: 618

مفردات غريب القرآن للراغب الاصفهاني.

المكاسب للشيخ الأنصاري.

من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.

موسوعة أحاديث أهل البيت للشيخ هادي النجفي (حفظه الله).

نهاية الدراية للشيخ محمد حسين الأصفهاني.

وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي.

الوصول إلى كفاية الأصول للسيد محمد الحسيني الشيرازي.

ص: 619

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.