الرق و العبودية في الاسلام

هوية الکتاب

قسم الشؤون الفكرية والثقافية معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الرِقُ و العُبوُديَة في الاِسلاٰم

الشيخ كاظم القره غولي

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

ص: 1

اشارة

الرق والعبودية في الإسلام تأليف

الشيخ كاظم القره غولي

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأولى: 1442ه-

العدد: 500 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

مقدمة المعهد

بسم الله الرحمن الرحيم

معهد تراث الأنبياء، مؤسسة علمية حوزويَّة تُدِّرس المناهج الدينيَّة المعدَّة

لطلاب الحوزة العلميَّة في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرةً.

يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلامية وعلوم آل البيت عليهم السلام ووصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصص من المبرمجين والمصممين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.

وبالنظر للحاجة الفعليَّة في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ

المعهد على عاتقه تأسيس جامعة متخصصة في هذا المجال، فتم إنشاء جامعة البنين علیهاالسلام الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلامية لإعداد مبلّغات رساليات قادرات على إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائديَّة والفقهيّة والقرآنيَّة.

على أنَّ المعهد لم يُهمل الجانب الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجهاً لإيصال فكر

ص: 3

أهل البيت عليهم السلام وتوجيهات المرجعية الدينيَّة العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعيّة المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقي العصري.

والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، في مختلف العناوين العقائدية والفقهيّة والأخلاقية، التي تهدف إلى ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عليهم السلام الموروثة.

الكتاب الذي بين يديك، هو أحد إصدارات معهدنا لمؤلفه سماحة الشيخ كاظم القره غولي، والذي تعرض فيه لمسألة الرق والعبودية في الإسلام، مستعرضاً إِيَّاها بطريقة علميّة، وقد أجاد فيما أفاد في توضيحها بالبيان الوافي نسأل الله عزوجل أن يجعل عمله وعملنا في عينه، وأن يتقبله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تُمثل الحُرّيَّة أمنية قديمة ولدت مع وطء الإنسان الأرض لأوَّل مرَّة، وهي باقية معه إلى انتهاء أجله وأجياله. فالإنسان يريد أن يعمل باختياره وإرادته التي تنطلق من أعماق نفسه والتي تبتني على إدراكه لما فيه منفعته (بالمعنى الشامل لدفع مفسدة). إنَّ حُريَّته واختياره تجعل لحياته مذاقاً آخر يدفعه للعمل من أجل الحياة، والتنكر لهذه الحُرّيَّة تنكّر لإنسانيَّة الإنسان، فهو يفقد الحياة مذاقها. وقد اختلفت تلك الحرّيَّة المنشودة باختلاف الأفراد، بل والأُمم والظروف التي يمرُّ بها الإنسان .

إنَّ الميل لشيء وتعلُّق الإرادة به مرهون بتصور مسبق عند الإنسان بنفع أو دفع ضرر . واختلاف الأفراد ربَّما يكون من جهة الاختلاف في أهميَّة ذلك النفع وإدراك عدم المزاحم من الضرر والفساد المترتب على ما يطلق له العنان في ارتكابه ويكون مختاراً في إيجاده. وتختلف الجهات التي تدخل في تقييم الأفراد لما يميلون إليه أو تتعلّق به إرادتهم. فبعض يكون ميزان التقييم عندهم مرتبطاً بالانسجام مع ما تمليه الغريزة التي لا تفارقه كغريزة الجنس وغريزة حُبِّ البقاء وحُبِّ الراحة وغريزة التسلّط على الأشياء وأبناء النوع وغيرها، وبعضهم الآخر تكون موازين التقييم عنده مرتبطة بإدراك العقل لما ينسجم مع إنسانية الإنسان ودوره اللائق به في الوجود، ولو خالف ما تبعث عليه الغريزة. وبين هذين الميزانين آلاف وربَّما ملايين الموازين باختلاف الأفراد. فما ينشده الإنسان مرتبط

ص: 5

بشكل مباشر به لا بغيره وإن أمكن لغيره تغييره بشكل غير مباشر من خلال تغيير مقدماته.

إنَّ هذه الأمنية القديمة ليست محض صورة تمرُّ على مخيلة الإنسان ككثير من الخيالات العابرة أو الأماني الفارغة . إنّها أمنية ملكت نفسه واستقرت فيها لا تفارقها، ولا يترك الإنسان فرصة تمرُّ لجعلها واقعاً. وربَّما رضي بالموت دفاعاً عنها أو سعياً إلى تحقيقها. وقد تمكّن كثير من صانعي التاريخ من تحريك عشرات الآلاف ممن يقاتل من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود، وما ذاك إلا للقيمة التي تتمتّع بها الحُرِّيَّة في نفس كل فرد.

إلَّا أَنَّ رغبات الإنسان واسعة وطموحه غير محدود، ويعسر أنْ يتعقل أنَّ بإمكانه أنْ يُحقِّق كلَّ ما يُدرك أنَّ فيه منفعة له، ولذلك فهو مضطر إلى التخلّي عن بعض طموحاته. وربَّما كان ما يطمح لتحقيقه مورداً لطموح آخرين من أبناء نوعه، فما وهبته له الطبيعة من الحُرّيَّة ومالت نفسه للتمدد عليه يضطر إلى تحديده ببعض الحدود. وهذا أمر حتمي لكل فرد من أبناء النوع الإنساني، فأكثر الجبابرة تكبراً وأشدّهم على الناس قسوةً يُقيّد حُرِّيَّته ولا يترك المجال لنفسه أن تطلب كلَّ شيء، وإن اختلفت دائرة التقييد من فرد إلى آخر. فهم متفقون في أصل التحديد لا في حدوده.

وقد انطلق الإنسان في مسيرته على الأرض بحركة فردية لكل من آدم وحواء عليهماالسلام حيث نزلا ،مفترقين، حتَّى إذا التقيا في جبل عرفات أو غیره بدأ انطلاق حركة جديدة من مقدّماتها التباني على تحديد ما ينبغي للإنسان أن يُحققه بما لا يصطدم بعلاقته مع الآخرين، ضمن دائرة من يشعر أنه بحاجة إلى إقامة العلاقة معهم، بنحو تكون المحافظة على العلاقة أهم من المكسب الذي يرجوه من المواجهة معهم، أو لا يجره إلى مواجهة خاسرة ، أو غير مربحة في الحد الأدنى مع من لا يرى ضرورة تحسين علاقة معهم.

ص: 6

ومن هناك بدأ القبول بترك بعض ما مالت إليه نفسه وأتاح له التكوين التمتّع به والاستفادة منه وطريقة الإنسان العاقل ترجيح الأهم عند التزاحم.

ومن هناك كانت بداية التحديد لحرّيّاته قانونيًّا، وهذا بغضّ النظر عن البعد الدِّيني الذي لا شكّ أنَّ له انعكاس في تحديد مساحة الحريَّة، فقبل بالتضحية ببعض مراداته. وكلَّما اتسعت دائرة الاجتماع ازدادت القوانين التي يتبانى عليها أبناء المجتمع. وحين لاحظت الجماعات أنها قد تصطدم مع غيرها وضعت بالاتفاق مع غيرها بعض القوانين التي تمثل قيوداً أخرى يرجع سبب القبول بها إلى أنها تدفع بعض أسباب الاختلاف مع الآخرين، وربَّما جلبت مصلحة مشتركة للجماعتين لم تكن لتتحقق لولا قبول مثل هذا التقنين. حتَّى إذا اتسعت طموحات الإنسان توسعت دائرة القوانين التي تحكمه إلى أن ظهرت الدول البسيطة التي لا تزال قائمة في أكثر بلدان العالم. ثم تطورت الحالة فاحتاج الناس إلى الدولة المركبة بحكم التطور الذي يدفع الدول إلى الاتحاد فيما بينها لأسباب سياسية واقتصادية مختلفة، والدول البسيطة هي الأساس في الدول المركَّبة. وتطوّر الأمر بعد ذلك فاحتاجت الدول المركَّبة والبسيطة بحكم التواصل مع بقية الدول إلى توسعة دائرة القوانين لتأخذ طابعاً أممياً كما هو الحال في القوانين التي تُصدرها هيأة الأُمم المتحدة أو أضيق في الدائرة لتشمل دولاً معيَّنة كما في دول الاتحاد الأوربي والكومنولث.

وكيف كان، لا يرضى الإنسان من دون قاهر خارجي أو سعي لتحقيق مصلحة أكبر أنْ تُسلب منه حقوق يمكن أن يتمتّع بها. وتأبى نفسه أشدّ الإباء أنْ تكون رهينة بإرادة واختيار الغير ولو في جانب واحد من حياته. فكيف يرضى أن يكون مملوكاً لغيره؟ بل ربَّما رفض أنْ تُسلَب حُرّيَّة غيره بالكامل، فدائرة الرفض عنده لا تتحدد بحدود سلب حُرِّيَّته، بل تتعداها إلى سلب حُرِّيَّة الغير.

ص: 7

من هنا كان الاستعباد أمراً تشمئز منه النفوس. خصوصاً إذا ما اقترن بحالات شديدة من الانتهاك لإنسانية الإنسان حتَّى إِنَّ بعضهم لم يتمتّع بحقوق الحيوانية.

إنَّ هذه الرؤية الواقعية عند الإنسان تصطدم عند بعض أتباع الشريعة - ممن لم يتأمل في أحكامها - بتلك الشريعة الصادرة من الحق تعالى وربَّما وقف حيران أمام دخولها في منظومة الأحكام الشرعية. وقد يعتمد عليها بعض من لا ينتمون إلى الشريعة لتوجيه سهام الطعن والتشكيك في سماوية هذه الشريعة. ومما أسهم في ذلك الصورة القائمة التي حملها الغربيون عن الجهات الدينية والأديان على العموم، فقد رأوا الفظائع من الكنيسة من حين بدء السلطان المادي لها، وكان ذلك في سنة (756ه-) حينما وضع ملك فرنسا قسماً من المالية الأراضي تحت تصرُّف البابا، فاستقوت الكنيسة مادّيًّا، واستعرت الحرب بين البابوات ورجال السياسة للسيطرة على أوربا، فمال الناس إلى الكنيسة باعتبارها تمثل روحانية المسيح في نظرهم. فزادت قدرة الكنيسة حتَّى آلت الأمور إلى السيطرة على أوربا بكاملها. وصار البابا يُنصب الملوك والأساقفة ويعزلهم. وحين فكّر خلفاء القسطنطينية في أنْ يُؤسسوا لأنفسهم حكومة مستقلة دخلوا أُوربا في حروب إلى أن تمكنوا من تأسيس دولة مستقلة عام (1052ه-) ، مع وصارت لهم كنيسة خاصة بهم، وهي الكنيسة الأرثودوكسية.

وقد باعت الكنيسة الجنَّة وأصدرت صكوك الغفران، وكأنَّ البابوات أقاموا يوم القيامة قبل وقته وأعطوا الاستحقاقات قبل أوانها.

وشكلوا في وقتٍ محكمة تفتيش العقائد بموجب مرسوم صدر من البابا عام (1215ه- ) ، واقض عجباً من أحكامها التي صارت عاراً على جبين الكنيسة، بل والإنسانية، وستبقى كذلك إلى يوم القيامة.

ص: 8

في عهدهم ذاك شنقوا خمسة ملايين شخص بجرم التكفير، وأودعوا الناس سجوناً مرطوبة حتى الموت. ومن سنة (1481ه-- 1499م) أي في ظرف (18) سنة أحرقوا بحكم محكمة التفتيش (1020) شخصاً حيًّا، وشقوا نصفين (6860) شخصاً، وعذَّبوا (97023) شخصاً حتّى الموت.

وفي القرون الوسطى وبحكم محكمة التفتيش أحرقوا من العلماء والمفكّرين فقط (350 )ألفاً وهم أحياء. لقد سوَّدوا وجه التاريخ، فقد جرّمت السياط (برنيلي) لقوله بأنَّ النجوم لا تقع من مواقعها. وحكمت على (كاميلاند) بالسجن مع الأعمال الشاقة (27) مرَّة لقوله: إنَّ هناك عوالم غير عالمنا، ولإشارته إلى الهدف من الخلقة في كلماته. وعذَّبوا (هاروي) لأنَّه أثبت أنَّ في عروق البدن مادَّة سيّالة باسم الدم تجري فيها، وليس في العروق دم ساكن. وسُجِنَ (كريستوفر كولومبس) لاكتشافه أرضاً لم تتنبأ بها التوراة والإنجيل.

وأما مع المسلمين فالأمر بمنتهى الوحشية، فقد تحامل البابوات على المسلمين بحجّة إنقاذ بيت المقدس، ليقودوا حرباً صليبية بدأت من عام (1095م) وانتهت في عام (1270م) ، وكان العامل الأصلي حقد البابا على المسلمين. فانطلق جيش هائل بلغ تعداده المليون مقاتل فعلوا الفظائع، ولم ينج منهم إلا عشرون ألفاً.

يقول الراهب روبرت الذي كان حاضراً بشخصه في هذه الوقائع: (إنَّ جيشنا كان يتحرَّك في الطرق والميادين والسطوح، وكان كاللبوة إذا قُتِلَ شبلها يلتذ من المجازر العامة كما يُمزّق الأطفال قطعة قطعة، ويقتل الشيخ والشاب في صف واحد، ويشنق عدة أفراد في حبل واحد، لا لشيء إلا للتسريع في العمل. كان جيشاً ينهب كلّ ما يجد في طريقه، ويشقّ بطون الموتى ليستخرجوا من بطونهم النقود والمجوهرات. وذات مرّة أحضر أحد أمراء العسكر (بوآمون)

ص: 9

كلَّ من اجتمع في القصر، فقتل النساء والرجال والشيوخ والعجزة والعملة الأبرياء، وبعث الشباب للبيع في أنطاكيا )(1).

وكتب قائد هذا الجيش الدموي (جود فرد آدوبريون )في تقرير له إلى البابا: (إذا أردتم أن تعلموا ماذا عملنا بالأعداء المسلمين) الذين وقعوا بأيدينا في بيت المقدس، فيكفيكم أن تعلموا أنَّ أفرادنا كانوا يحملون عليهم في معبد سليمان ورواقه في لجة من الدماء، وكان الدم يبلغ ركبة الفرس )(2).

وبعد ذلك ما فعلوه في الأندلس عند سقوط دولها الإسلامية.

وقد تسبب مجموع الفجائع المرتكبة باسم الدين والتي صدرت أوامرها من البابوات مباشرةً أو أنَّهم باركوها في توجيه ضربة هائلة لهيكل الأديان السماوية. وأحدثت فجوة بين الناس والأديان، مما أسقط قداستها ودعا إلى التشكيك في كل حكم يُنسَب إليها .

وقد ساهم الفهم الخاطئ للتعاليم الدينيَّة وفلسفتها في حصول تصور مجانب للحقيقة عن الأديان السماوية، حيث غدا البعض ينظر إلى الأديان باعتقاد أنّها تسلب حُرّيَّة الأفراد وتُحدِّد سلوكهم بشكل كبير، خصوصاً إذا لاحظنا أنَّ التعاليم الدينيَّة تشمل جميع وقائع الحياة مما يعني أنَّ فسحة الاختيار تتقلص إلى حد بعيد، إذ لا ينبغي وفق التعاليم الدينيَّة تجاوز حدود الشريعة، والالتزام بالحدود يعني التضييق لدائرة الاختيار، وهذا يعني سلب الحُرّيَّة عن الكثير من الاختيارات لولا التعاليم الشرعية.

وإذا أضفنا إلى ذلك ما بنت عليه المدرسة الإسلاميَّة الأُخرى ممن أعطوا للأمن والتنظيم أهمية زائدة على حساب العدل والحُرّيَّة - يوم دعمت مؤسسات

ص: 10


1- تاريخ تمدن اسلام وعرب (ص 407)، فارسي
2- تاريخ البرمالة ( ج 3 ص 226)، فارسي

الحكم التي تكفلت مسؤولية الأمن والنظام، وأضفت على إطاعتها صبغة الشرعيَّة، فسدَّت طريق المطالبة بالحقوق والحريات، وأصرت ذلك بإطار شرعي -، يتبيَّن لنا عمق الإشكال الذي يتولد عند من لم يفهم هذه التعاليم. وقد جرَّ هذا إلى أن تدعم السياسة هذا الفهم، لأنَّه يُؤمّن لهم خضوع الأُمَّة واستسلامها، إذ أنَّ الظالم والمستبد يسعى دائماً لقتل الحرّيَّة للآخرين، والتي تمثل أهمّ المنّن الإلهية على البشر. ومن هنا فهو يخشى كثيراً من نشر العلوم التي تُلهم الناس الحُرّيَّة، أمثال الحكمة النظرية والسياسة المدنية، والتاريخ بتفصيله وحقوق الأُمم. ولا يرى ضيراً في نشر كُتب اللغة والعلوم الدينية المبنية على التفريق بين المعاد والمعاش وتقتصر في اهتمامها على المعاد.

لكن التأمُّل المنصف يُعطينا نتيجة حتمية مفادها خطأ هذه التصورات عن الشريعة المقدَّسة، وأنّها ارتكزت في تعاليمها على تحرير الإنسان من القيود وأسر الشهوات. وفرضها لسلوكيات خاصة وإن كان تحديداً للخيارات المتاحة للإنسان، إلَّا أَنَّه في الغالب ليس تحديداً بالنحو الذي يُسلب معه اختيار الإنسان حيث اقتصر دور الأنبياء على البشارة والإنذار، وربَّما أضافت لهما بعض الآيات مهمَّة ثالثة تتمثل بالشهادة التي لا ربط بها بلا شك في اختيار الإنسان.

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً » (الأحزاب: 45 ).

وبشارة الأنبياء وإنذارهم مبتنيان على اختيار الإنسان، فهم يُبشّرون من التزم بتعاليم السماء، ويُنذِرون من عواقب المخالفة، ولم يسلب اختيار الملتزم وإلا لم يستحق ثواباً، ولا المخالف وإلا لما استحق العقوبة، فإنها بدون اختيار العبد ظلم، وما أغنى الحق تعالى عن الظلم، فإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف. والاختيار وإن لم يبقَ على حاله قبل الشريعة، لأنَّ الشريعة أخبرت باستحقاق العقوبة على المخالفة، وهذا يعني عدم وجود الاختيار المحض، إلّا

ص: 11

أنَّه باق، لأنَّ الضرورة قد قامت على أنَّ الكمال المنشود للإنسان والذي تروم الشريعة أن يصل إليه لا يمكن نيله إلَّا من خلال الاختيار.

«فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29).

وعند ترك الامتثال يفقد فرصته للوصول إلى الكمال بلا فرق بين أن يكون متنكّراً للشريعة أو مؤمناً بها. فترتب الحرمان على مخالفة الشريعة أمر واقع. فالشريعة لا تُلغي الاختيار، بل تُحدد ما ينبغي أن يختاره العبد مما فيه مصلحته الشخصيَّة أو مصلحة النوع على المشهور، وتتوعد بالوزر على المخالفة، وتعد بالأجر على المتابعة.

ولا فرق في الظرف الذي تقع فيه تلك الآثار بين الآخرة وبين الحياة الدنيا على شكل حد أو تعزير أو قصاص. فكما لا تلغي العقوبة الأُخروية الاختيار ولا تنافيه لا تنافي الحدود والتعزيرات اختيار الإنسان وحُرِّيَّته. بل إنَّ الدِّين هو العامل القيّم للحصول على الحرّيَّة الواقعية، وهو العامل الذي يُحرّك الإحساس السياسي والسعي نحو نيل الحقوق، كما يُنقل عن الكواكبي.

نعم يُركّز الإسلام على عبوديَّة الإنسان للحق تعالى، لكن تلك العبودية أمر حق لا غبار عليه، وهو أمر تكويني لا تناله يد الجعل الشرعي إثباتاً ولا نفياً، والشريعة تُنبهنا إلى هذا الواقع التكويني، وتُحدّد ما يناسب هذا الواقع من سلوكيات. ونحن عبيد الله سواءً اعتقدنا بشريعة أم لم نعتقد.

ثمَّ إِنَّ الأحكام التي يخفى وجه الحكمة فيها كانت دائماً مورد تساؤل وربَّما تشكيك من النفوس التي جُبلت على البحث عن فلسفة الأشياء، ومنها تشريع استرقاق أبناء النوع بأي سبب كان.

وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ محاولة لتسليط الضوء على هذا الحكم الشرعي وفهمه مع بعض المفردات التي ترتبط به، ليكون الحاصل

ص: 12

ظهور مفردة من منظومة الأحكام الشرعية مع جوِّها كاملاً، والذي له أكبر الأثر في تعقُلها وقبولها.

وقد تعرّضت لشيء من تاريخ الاسترقاق، واعتمدت في ذلك كاملاً على الموسوعات التاريخية الكبيرة، وقد خلا هذا الفصل من دراسة تحليلية واستنتاج، إذ الغرض من التعرُّض للتاريخ هنا هو مجرَّد أخذ تصورات عما كان عليه حال العبيد في المجتمعات في مختلف أصقاع الدنيا، وليس للتحقيق في كلّ ما ذكره المؤرّخون. ولم أتعرَّض لما كان عليه الحال في الأمريكتين، أولاً لعدم وجود شواهد على الاستعباد عند الهنود الحمر، وثانياً لعدم وجود مدوّنات هناك، إذ يبدو أن وسيلة وصول مفردات التاريخ وهي الكتابة لم تكن موجودة عند العالم الجديد هناك رغم مفردات البناء الضخمة في حضارتي المايا والأنكا. فالهنود الحمر حتى وصول المستعمر الإسباني في آخر العقد الأخير من القرن الخامس عشر وبداية الاستعمار والاحتلال في القرن السادس عشر وما تلاه لم تكن عنده مدوّنات، لعدم الوصول إلى الكتابة، كما لم توجد مدونات في أستراليا، ولا عند الأسكيمو ، ولا في المجتمعات التي كانت منعزلة في الغابات أو في الجزر النائية، إذ الكتابة منجز متأخّر للبشر ابتدأ بالكتابة المسمارية في وادي الرافدين، وبعد ذلك بمدة الهيروغليفية - والتي هي والتي هي كتابة صوريَّة – في مصر، فاستفادت الشعوب التي لها تواصل مع الشرق الأوسط في تلك الأزمنة من تلك التجربة وأنشأت كتابتها الخاصة، وقد أخذت الحضارة اليونانية من طريقة وادي الرافدين رغم بعدها جغرافيا، وتركت الهيروغليفية رغم قربها جغرافيا، لأنَّ الكتابة المسمارية أكثر كفاءة وقابليَّةً في التعبير عن المعاني، فالهيروغليفية اعتمدت الصور والصور أضعف قابليّةً للتعبير عن المعاني المختلفة بخلاف كتابة الأصوات، فصار لكلِّ خطه الخاص وأبجديته المختصّة، وربما لكل منطقة، كما

ص: 13

في كتابة العرب والفرس والأفغان وبعض الأوردو والأتراك إلى زمن قريب حيث كان الكل يكتب بالحروف العربية .

وسعیت بعد ذلك إلى معالجة المشكلة لهذا الحكم، بل ولكلِّ الأحكام التي ثبت أنَّها جزء من الشريعة من خلال ذكر فصل مختصر عن التوحيد في التشريع، والذي يفترض أنْ يُورِث التسليم الإجمالي بكل حكم شرعي.

كما وبيَّنت جهات الخلط التي ربَّما يتبعها أو يقع فيها الغربي عن غير عمد لتظهر الصورة من كلامه بنحو مشؤوم ومقيت.

وقد استعرضت بعض جهات الحكمة التي لها دخل في ثبوت هذا الحكم (وأعني بجهات الحكمة المصالح التي تترتب على هذا الحكم والتي دعت إلى تشريعه)، واستعرضت على عجالة جهات التحديد لذلك الحكم وأبواب الحُرّيَّة التي فتحها الشارع المقدَّس لإنهاء رقّ الأفراد، وربما أصل الرقّ بين الناس ولو بعد حين.

وكلّي أمل أن أكون وُفِّقت لمعالجة المسألة على قلة البضاعة وقصر اليد وضيق الوقت، سائلاً المولى أن يتقبَّل منّي هذا الجهد المتواضع وشأنه التفضّل على عباده، إنَّه ذو الفضل العظيم.

كاظم القره غولي

ص: 14

الفصل الأول: نبذة تاريخية عن الرق

اشارة

ص: 15

* الرقُ في وادي الرافدين.

*الرق في مصر القديمة.

*الرق عند الفينقيين.

* الرق عند اليونانيين.

* الرق في حضارة روما.

*الرق عند المغول.

*الرقُ في أُوربا ومستعمراتها الجديدة في القرون الوسطى وما بعدها.

* الرق في أمريكا الشمالية.

* الرق في أمريكا الجنوبية.

* أخذ الزنوج من أفريقيا.

* الرق في الديانة اليهودية والديانة النصرانية.

ص: 16

لم نظفر بما يُثبت لنا بداية نشوء الاسترقاق، ولا أعتقد أنَّ أحداً ظفر بذلك، لأنَّ عمليّة استرقاق الآخرين كانت منتشرة في وقت لم تتوفّر فيه وسائل التدوين ولم تُعرَف الكتابة بعد. فالطريق منحصر بإخبارات الأنبياء لو وُجِدَت والأساطير المنقولة إنْ كانت، ويبدو أنَّ كليهما غير موجود. لكن الذي يقوى في النظر أنَّ الحرب التي خاضها البشر مع بعضهم والتي لا شكّ في أنّها كانت تسفر - فيما تسفر عنه - عن حالات أسر للأفراد كانت هي المنطلق لهذا الحكم الاجتماعي الذي بموجبه صار بعض الأفراد سلعة لآخرين يبيعونها وينتفعون بها في موارد الحاجة. حيث انقدح في ذهن بعض الآسرين أن إبقاء الأسرى أحياءً للانتفاع بهم أفضل من قتلهم، فاستحسنها الآخرون وجروا عليها.

ومنابت الصراع مركوزة في النفس البشرية وأخذ الصراع بُعداً دموياً من مراحل وجود الإنسان الأولى في الأرض، ولا أصدق شهادة على ذلك من قتل أحد ولدي آدم أخاه.

« وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبَّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(المائدة : (27) . والقتال أو القتل لا يحتاج إلى طرفين متعنتين، بل يكفي تحقق صفة التعنت من طرفٍ واحدٍ، ولذا لم يمنع تعقل هابيل من صدور القتل من خصمه وأخيه قابيل.

«لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطِ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ » (المائدة: 28 و 29).

ص: 17

ولا غرابة في انتشارها في مجتمعات متباعدة من الناحية الجغرافيَّة، فإنَّ ذلك يعود إلى أحد سببين :

1 - أن يكون الاسترقاق قد ظهر قبل أن تتباعد المجتمعات، فانطلاقة البشر كانت من مكانٍ واحدٍ ثمّ اتسعت دائرة الانتشار لهذا النوع على الأرض، وظلت تلك المجموعات تنتشر طلباً لأسباب العيش الكريم والرخاء النسبي إلى أن ملأت قارّات الأرض. وهذا - لو ثبت - يعني أنَّ من الممكن أن يكون صاحب الفكرة شخصاً واحداً فاستحسن الناس فكرته، حتَّى إذا سمعت بها بقيَّة المجتمعات التي هي قريبة بحسب الفرض من بعضها راقت لها أيضاً واتَّخذتها طريقة في التعامل مع أسراها.

2 - إنَّ فكرة امتلاك الأسرى لأجل الانتفاع بهم في المصالح الشخصية والعامة ليست فكرة بعيدة عن ذهن الإنسان ولا تحتاج إلى إعمال نظر وتفكير بحيث نستبعد أن تنقدح في أذهان أفراد متعدّدة من أُمَم متنائية ثمّ تُطبق على الواقع، فالإنسان على اختلاف منطلقاته الفكرية واختلاف انتمائه تحكمه أمور متعدّدة، وغرائزه وميوله متقاربة، ومن ميوله المتقاربة حرصه على الانتفاع بكل شيء للوصول إلى أغراضه ولو كان من خلال امتلاك أبناء نوعه وتسخيرهم لتحقيق مآربه.

والذي يُرجّح في النظر هو هذا الاحتمال ، لأنَّ الوجه الأول يستلزم انتشار ظاهرة الاسترقاق في كل المجتمعات، وأنّى لنا إثبات انتشارها في جميع مجتمعات العالم؟ نعم يوجد احتمال أنَّ بعض التجمعات البشرية لم تقبلها من أوّل الأمر، أو أنّها قبلت بها أولاً ثمّ رفضتها بعض الأجيال كما حصل في عصرنا الحاضر حيث قُضي على الرقّ تماماً في كلِّ العالم إلَّا ما يُنقل عن حالات جزئية جدا في موريتانيا.

ص: 18

وربَّما ساهم السببان في انتشارها، فبعض الأمم عملت بها وتبانت عليها كنتاج لفكر بعض أبنائها، وبعضها الآخر استوحاها من عمل غيرها.

ثم اتسعت بعد ذلك دائرة الأسباب لتشمل الحكم باستعباد المدين لصاحب الدين في شرائط خاصّة، أو استعباد السارق لمن سرق منه، أو استعباد الرجل لزوجته وإمكان بيعها، وجواز بيع الآباء أولادهم كعبيد، واستعباد القاتل من قِبَل وليّ الدم.

هذا فيما يخصُّ أصل انطلاقة الاسترقاق مع أنّها لم تكن في بعض الأجيال الأولى لهذا النوع على الأرض جزماً. ومن البعيد جدا أن يكون مأخذها دينيا خصوصاً مع ملاحظة أنَّ تشريع مثل هذا الحكم ابتداءً يُشكل مفردة في منتهى الغرابة تستدعي بحسب العادة أن يشير إليها الموروث ولو من الأديان اللاحقة. بل من المطمئن به أنَّ الشرائع قبلت بها كواقع مع إجراء شيء من التشذيب والتنظيم. وكثير من الأمور التي ترجع إلى إدارة المجتمع ومعاملاته شأن عقلائي اقتصرت الشرائع بنحو عام على إعطاء محدّدات عامة وأُطر كلّيّة، وأمرت أن لا تحصل عملية تجاوز عليها.

هذا إذا كانت تلك المساحة من مسؤولية تلك الشريعة، وأما إذا كانت الشريعة قد اختزلت مهمتها بجانب علاقة الفرد بربه بشكل أساسي، فهي لا تتدخل في ذلك. ومن تلك المساحات التي ترك تنظيمها باعتبارها شأن عقلائي -إلا فيما يرجع إلى محدّداتها العامة - العقود، حيث كان دور الشارع فيها الإمضاء عادةً لا التأسيس. نعم، أعطى قواعد عامة وقوانين كلّيّة لا شك أنها كانت عادةً في حدود التشذيب والتقييد.

ومنها طريقة إدارة البلدان بالنحو التفصيلي، ولذا قَبلَ الأئمة عليهم السلام ببعض جزئيات الإدارة التي استحدثت في الأُمة الإسلامية مثلاً بعد انفتاحها على

ص: 19

الحضارات الأُخرى واستفادتها من تلك التجارب التي لا شكّ أنَّها كانت غنيّة، ولكن ضمن أُطر ومحدّدات عامة. وليس ذلك إهمالاً لمسألة غاية في الأهمية، بل هي مساحة قابلة للمتغيّرات الكثيرة والاختلافات الهائلة بحسب الزمان والمكان والثقافة والظروف، فأوكلتها الشريعة إلى العقلاء وفق ما يرونه، ولكن ذلك منضبط بتلك المحدّدات التي لا تضمن عدم معارضة الشريعة فقط، بل بنحو تكون مساهمة في إقامتها.

وأمَّا من جهة ما نُقِلَ لنا بعد انتشار الكتابة فسنستعرض بعض ما ورد عن الحضارات القديمة إلى العصر الحديث لتكون الصورة واضحة المعالم.

الرق في وادي الرافدين

مما لا شك فيه انتشار ظاهرة الاستعباد في وادي الرافدين، وقد حفظت لنا الشواهد التاريخيَّة مواد قانونية في مسلة حمورابي لتأطير عملية الاسترقاق بإطار قانوني محدد.

( لقد قامت البنية الاجتماعية في بلاد ما بين النهرين على نظام طبقي

وتكرَّست في قانون حمورابي، فقد قسَّم المجتمع إلى ثلاث طبقات:

1 - العبيد (عبدوم)، وهم الطبقة الأخيرة يُولدون عبيداً أو يُستعبدون من جراء فقدان الحُرِّيَّة ( الأسر العجز عن وفاء الدين القاتل الذي يُعفى عنه)، يتصرف فيهم السادة كيف يشاؤون، وهم للسلع أقرب منهم للبشر، ومع ذلك لم تُعدَم حقوقهم الإنسانية، فزواجهم شرعي وإن يكن من طبقة الأحرار، وإعتاقهم ممكن ، وتملكهم الأموال المنقولة ممكن، وتظلمهم يلقى آذانا صاغية.

2 - المساكين (مشكينو)، وهم العبيد المعتقون، وبعض الأجانب والعمال والفلاحين وأصحاب الحرف الوضيعة، وقد يبيعون أنفسهم ليصبحوا عبيداً.

ص: 20

3 - الأحرار )(1) .

(لم يكن البابليون يبالون أن يكون الرقيق منهم أو من غيرهم، فكان الرجل يبيع ابنه الحقيقي والمتبنّى إذا أجرم بحق أبيه. وكذلك كان الزوج في حِلٌّ من أنْ يتخلص من زوجته المشاكسة بأن يبيعها ، وكان العدو المأسور عندهم يُعامل معاملة العبد )(2) .

(إنَّ العبد ذَكَراً كان أم أنثى يتساوى قانوناً مع الشيء المادي المنقول ويوسم غالباً، ويجب بتريد الطبيب الذي يزيل هذا الوسم، ويُعاقب معاقبة صارمة من يساعد أو يقبل عنده عبداً هارباً، بل قد يُحكم عليه بالموت إن كان الهارب من عبيد القصر .... وفي زمن حمورابي غدا الثمن التجاري للعبد الذَّكَر الذي بلغ أشده عشرين عشرين مثقالاً، وهذا هو ثمن ،حمار، وهو أقل دون شكٍّ من ثمن .الثور. وتتمُّ هذه الصفقات بموجب عقود مكتوبة حسب المتعارف ، ويكفل البائع حقوق المشتري إن وجد في العبد عيوب مستورة، وذلك لفترة اختلفت مدتها قديماً ولكن جعلها القانون شهراً.

إِنَّ حقيقة حال العبد القديمة والتي تركت لها أثراً في معجم اللغة نسبت إليه أصلاً غريباً ، فهو إما من الأسلوب أو حصيلة عملية شراء قانونية تمت خارج حدود البلاد. ومنذ القدم فعلاً ولد بعض العبيد في الوطن إما من أبوين عبدين أو حتّى من أبوين يتمتعان بحُرِّيَّتها ....، وعلاوة على ذلك فإنَّ باستطاعة الآباء الأحرار أن يبيعوا أولادهم. وللدائن الحق باسترهان مديونه وامرأته وأولاده منها. وفي هذه الحالة الأخيرة فمن الحقِّ القول: إنَّ القانون لا يقرُّ العبوديَّة إِلَّا لفترة لا تتعدّى ثلاث سنوات. ولكن مُددت هذه الفترة القصوی

ص: 21


1- تاريخ النظم القانونية والاجتماعية (ص 96)، بشيء من التصرف.
2- الحضارة الإسلامية (ج 1 ص 316)

فيما بعد قانونيًا وواقعيا .... ولكن يستطيع العبد دوماً أن ينال الحريَّة إن وهبها إياه سيده أو منحه إياها لقاء مبلغ ما وكسب الحُرّيَّة بالمال. وقد كثر اللجوء إلى هذه الوسيلة ...، وقد يفرض عقد العتيق بعض الواجبات نحو سيده ما دام هذا الأخير على قيد الحياة. وللعتق مفاعيل معجلة التنفيذ فيما يختص بالأموال الشخصيَّة. وكان التحرير يتمُّ أيام حمورابي في احتفال ديني يُطهر أثناءه جبين العبد حتَّى غدا لكلمة (التطهير) معنى (العتق ))(1).

من خلال ما تقدم من المنقولات يمكن أن نقول : إنَّ عمليّة الاسترقاق كانت منتشرة في العراق القديم، وإنّها اكتسبت طابعاً قانونيا يتمكن المالك من التصرف بالعبيد كما يتصرفون بسلعهم الأخرى، وإنَّ دائرة أسباب الاسترقاق لم تقتصر على الأسر، بل عمَّت لحالات العجز عن وفاء الدين والقاتل الذي يُعفى عنه، ويجوز للأب أن يبيع ولده أو المتبنّى إذا أجرم بحقه، بل حتّى زوجته المشاكسة، وللدائن أنْ يسترق زوجة المدين وأولاده لمدة محددة قانوناً. وأنَّ الزواج مسموح به للعبيد كما أنّ عتقهم ممكن سواء كان بمقابل أو بدون مقابل وإن المحرر ينتقل إلى طبقة المساكين التي هي دون طبقة الأحرار.

الرقُ في مصر القديمة

لا شبهة في وجود الرقّ في مجتمع مصر الفرعوني، ولا أدل على ذلك مما حكاه القرآن الكريم في قصة يوسف علیه السلام ، حيث إنّ القافلة حينما وجدوه في البئر عزموا على بيعه كما عبّر القرآن: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» (يوسف: 19)، ثمّ نطق صراحةً بأنهم قد اشتروه في مصر، مما يعني وجود حالة الرق ورواج الشراء، والشواهد التاريخية تُثبت ذلك. وفي جعل يوسف علیه السلام على خزائن الأرض دليل على أنَّ المعتق لا يُغلق عليه طريق الرقي.

ص: 22


1- تاريخ الحضارات العامّ (ج 1 ص 151 و 152)

( في حضارة وادي النيل قسم المجتمع إلى طبقتين: الطبقة العليا التي كانت تُشكّل (3٪) من السُّكّان، وهم فرعون وحاشيته، وطبقة العامة التي تتكون من الفلاحين والعمال والجيش والعبيد.

وقد تكاثر العبيد في مصر بفعل الحروب والتجارة والولادة. وعلى الرغم من اعتبارهم سلعاً إلَّا أنَّ وضعهم في مصر كان أفضل منه عند اليونان أو الرومان. فزواج العبيد شرعي تعترف به الدولة، كما أنَّ زواج الحرّ من أَمَة جائز قانوناً. وللعبد الحق في تعاطي بعض الأعمال التي تعود عليه بالثروة وترفع من شأنه. وعندما اشتدَّ التنافس بين بعض الفراعنة وكهنتهم تودَّد الفراعنة إلى العبيد لدعم سلطانهم، فتعزّز بذلك مركز العبيد)(1).

( لا شكّ في أنَّ الرقّ كان منتشراً، ويبدو أنَّ الأرقاء كانوا أجانب في الأصل أسرى حرب وأسرى قراصنة أو لصوصيَّة قدَّمتهم بلادهم بمثابة جزية أو تم شراؤهم من الخارج ...، ولكن ليس من مثل واحد أكيد على وجود عبد مصري بحصر المعنى، مع أننا نجهل مصير الأولاد الذين أنجبتهم في مصر النساء الأجنبيات المستعبدات... وكان الملك نفسه سيّد غالبية العبيد الأول، يحتفظ بالقسم الأكبر منهم ويستخدمهم في خدمة البلاط، أو في أعمال العناية بالأملاك العامة، أو في أعمال المناجم والمقالع الشاقّة، ولا شكّ أنَّه بعد أنْ أُسندت إليهم في البدء أعمال الترجمة، فحادث يوسف علیه السلام مثلاً ليس بالبعيد عن الحقيقة، وكان الملك قد وهب بعضهم أيضاً للمقربين إليه وخصوصاً لمحاربين، فجعلهم بذلك يهتمون بمغانم النصر، وقد أدى عمله هذا إلى توزيع العبيد على طبقات المجتمع المصري المختلفة، إلَّا أنّهم ما لبثوا أن استحالوا مواد تجارية تُباع وتُؤجر وتُقرَض .... ويجوز لنا فضلاً عن ذلك التأكيد أنَّ قسمة العبد المرغم على العمل

ص: 23


1- تاريخ النظم القانونية والاجتماعية (ص 48 و 49)

تحت تهديد العصا الدائم ما كانت لتختلف عمليا عن قسمة الفلاح نفسه، وهو لم يتّصف قطُّ بصورة مجتمعية متميّزة، وما لبث أن امتزج وانصهر في مجموع السكان بالرغم من تميزه أصلاً بلغته ودينه وأخلاقه وربَّما بصورته الطبيعية أيضاً )(1) .

الرقُ عند الفينيقيين

تُؤكَّد الشواهد التاريخية أنَّ الرقّ كان موجوداً في الحضارة الفينيقية، وإن كانت طبيعة العمل به مختلفة عن طبيعة العمل في الحضارات الأخرى، بحيث يمكن القول: إنَّهم لم يكونوا عبيداً بالمعنى الحقيقي. ومنشأ ذلك أنَّ الفينيقيين اعتبروا أنَّ الشرط الأساسي للازدهار في الأعمال والتجارة هو عدم إجبار الناس على العمل وإن كانوا عبيداً، لأنّهم كانوا يرون أنَّ اليد العاملة الحرة هي وحدها القادرة على أن تُعطي الإنتاج الأفضل، ولهذا أوصوا بحسن معاملة العبد في كل شؤونه من مسكن وملبس و مطعم، وأُتيحت لهم فرصة الزواج والتملك وإمكان الوصول إلى وظائف معيَّنة عند عتقهم. وهذا يوصلنا إلى أن طريقة تعاطي الفينيقيين مع العبيد أفضل بشكل لافت من طريقة تعامل الحضارات الأخرى القريبة جغرافيا منهم.

الرق عند اليونانيين

كانت الطبقيَّة أساساً ثابتاً من أسس تنظيم المدينة في أثينا، فكان شكان دولة المدينة في أثينا يتكونون بشكل عام من ثلاث طبقات اجتماعية طبقة المواطنين، وهي أعلى الطبقات، وطبقة العبيد، وطبقة الأجانب المقيمين، وهي الطبقة الوسطى.

وكانت قصَّة استعباد الناس أمراً طبيعيًّا عند اليونانيين وبسيطاً، وكان للرقّ دور كبير في حياتهم العامة لاسيما في الحقل الاقتصادي. وكان الرأي العام

ص: 24


1- تاريخ الحضارات العام (ج 1 ص 72 و 73).

والمفكرون يعتبرونه من الأمور البديهية المتعارف عليها والتي لا تحتاج إلى تفكير ومناقشة. فقد أجازه أفلاطون وقال: إنَّه ظاهر المشروعية لا يحتاج تبريره إلى برهان، ولكنَّه أوصى مالكي الرقبة بالعدل مع الأرقاء وحسن معاملتهم مع أنه عاش في أيام الديمقراطيّة اليونانية. أما أرسطو فقد عرف الرقيق بأنهم ملكية آلية حيَّة، وقال: إنَّ الطبيعة تدمع جميع المخلوقات منذ اللحظة الأولى لولادتهم بطابع القيادة أو الطاعة. واعتبر أنَّ الرقيق للسيد كالجسد للروح. وأكد أنَّ جميع الذين لا يستطيعون أنْ يُقدِّموا لليونان إلَّا أجسادهم وسواعدهم، قد قضت عليهم الطبيعة بالرقّ، ومن الأفضل لهم أن يخدموا شعباً عظيماً كاليونان على أن يُتركوا لأنفسهم. وكان عدد الرقّ مرتفعاً جدًّا، فهم ثلث سكان أثينا. ولم يكن الأرقاء في وضع اجتماعي واحد، بل كانوا على درجات تختلف باختلاف مقام أسيادهم وأعمالهم ، فمنهم خُدّام البيوت، أو العُمّال في المرافق العامة، أو مديرو المصارف والأعمال، والاختصاصيون اللامعون كالأطباء والموسيقيين، ومنهم العبيد الخاصون، والعبيد العامون (أي عبيد المدينة) الذين تتكفّل المدينة بتأمين موارد عيشهم وهم في الغالب من البنائين ورجال الشرطة والموظفين الصغار. وقد يُعتق العبد إما بشراء الحُرِّيَّة وإما بإرادة السيّد، فينال حُرِّيَّته وينتقل إلى طبقة الأجانب، ولأنّهم عُوملوا معاملة إنسانيّة فإنَّهم لم يثوروا مرة واحدة في أثينا.

وأما في أسبارطة(1) فقد كان العبيد يُشكّلون نصف السكّان، وكان نظام

ص: 25


1- أسبارطة :مدينة معروفة من مدن اليونان القديمة، لها نظام يختلف عن أثينا، فقد كان محور : اهتمامهم الأساسي العسكرة والقوة، والانضباط التام، بخلاف أثينا التي أعطت الفكر مساحة كبيرة من الاهتمام، والفكر هو الذي يُخلَّد الأُمم لا القوَّة، والمنجز العسكري أسير زمانه عادةً بخلاف الفكر ، ومن هنا عبر ذكر أثينا الآفاق والقرون، وخفت بل ضاع ذكر أسبارطة مع شدة عظمتها في زمانها

الحكم عسكريًا يقوم على أساس التمييز الطبقي، وكان المجتمع يتكون من ثلاث فئات المواطنون، والعوام، والعبيد.

والمواطنون هم الأسبارطيُّون الخاضعون لتربية عسكرية صارمة، وكان يحظر عليهم أي عمل إلا الاستعداد للحرب والقتال دفاعاً عن المدينة. وكانوا يتركون الطفل عند أمه لسبع ، ( وأما الطفل ذو العاهة فيُلقى به من أعالي جبل تايجتييس حتّى يموت)، ثم تتعهده الدولة فتُعلّمه الموسيقى والرياضة البدنية والعلوم الأخلاقية والمدنيَّة، فينشأ على احترام القوانين والمسنين واحتقار العبيد. وإذا بلغ (17) سنة كانت الجندية ،مهنته، فينتقل إلى الثكنة ليعيش فيها حتَّى سنّ الثلاثين، وعندها يحين موعد زواجه اللّازم قانوناً، لأنَّ العزوبة جريمة يُعاقِب عليها القانون.

وكان العبيد يعيشون في حالة بؤس شديد، ولا يُعاملون كما يُعامل أقرانهم في أثينا. ونظراً لتكاثر عددهم كان الأسبار طيون يقتلون قسماً كبيراً منهم كلّما أحسوا بأنَّ خطرهم على الدولة صار وشيكاً، ولكن حين تُذكر الأرقام نجد أنَّ عدد العبيد أكبر بكثير من النسبة التي تقدَّمت منه وهي نسبة النصف، وأما في تاريخ الحضارات العام فينقل ما يلي:

( لقد كثر استعمال العبيد في جبل لوريون جنوبي شبه الجزيرة، حيث تمّ استثمار مناجم الرصاص الممزوج بالفضَّة. تعاقد معهم الملتزمون الذين يسعون وراء الكسب السريع ولا يهتمون لاستبقاء طاقتهم على العمل. وكانوا يعملون بأدوات بدائية في دهاليز ضيّقة تُنيرها مصابيح زيتيّة مدخنة، وكانوا يجمعون خارج المنجم في معسكرات حقيرة دون عائلاتهم طمعاً في تجنَّب نفقات تغذية إضافيَّة، تحيط بهم طبيعة كئيبة قضت الغازات الكبريتية المتصاعدة من المعدن المذوب على كل أثر للحياة النباتية فيها.

ص: 26

وأمَّا في المدينة فإنَّ العبيد إذا ما وجدوا لا يجمعون بأعداد كبيرة في مكانٍ واحد، بل هم على العموم مشتتون هنا وهناك فالبيت الذي يخدمه عشرون عبداً تقريباً يخرج بعظمته عن النطاق العادي، وفي فقدان العبيد من البيوت دليل على الفاقة القصوى، ولكن البيت العادي لا يزيد عدد العبيد فيه عن الثلاثة أو الأربعة، وهم نساء بنوع خاص .ويمتزج هؤلاء العبيد بالحياة العائلية، ولا يُعاملون معاملة سيئة. ويحد وجود الزوجة شبه الدائم في البيت من بعض تجاوزات الزوج..

وقد يذهب بعض الأسياد إلى أبعد من ذلك مستوحين في ذلك حرصهم على مصلحتهم الحقيقيَّة، فبعد أن يدركوا أنَّ هذا أو ذاك من عبيدهم سيعمل باندفاع إذا كان حُرًّا عمليا وأفاد من عمله إفادة شخصيَّة يأذنون له أن يمارس لحسابه الخاص مهنة صغيرة أو تجارة صغيرة، أو يُؤسس عائلة ويعيش على حِدَة، غير أنَّه يتوجب على هؤلاء المحظيين الكثيرين في مدينة ناشطة كأثينا أن يدفعوا فريضة يومية لسيدهم. فيعيلون أنفسهم بمعزل عنه ويجمعون ثروة صغيرة بما يفيض عن كسبهم.

في مثل هذا الظرف يصبح من الطبيعي أن يتدنى الحاجز القائم بين الفقراء من الرجال الأحرار وبين العبيد، ولا يميز هؤلاء سوى شعر قصير، وهم لا يرتدون أيّ لباس خاص. وكثير منهم أغريق أقحاح لم يفرض عليهم العبودية سوى ملابسات الحروب....، وقد حماهم القانون من شراسة الغير. ولم يفت أن يُحدّد بخمسين جلدة العقوبات الجسديّة التي يستطيع القضاة أنفسهم أن يحكموهم بها في حالة ارتكاب الجرم. وإذا ما كانوا محقين في التشكي من قساوة سيدهم جاز لهم اللجوء إلى بعض المعابد وطلب عرضهم للبيع. وإذا ما اقتنع الكاهن بحقيقة شكاويهم يرغم سيدهم عمليًّا على القبول بهذا البيع ويُمدّد أجل

ص: 27

وفادة الشاكي. فأثينا في هذا المجال قد سبقت المدن اليونانية الأخرى أشواطاً بعيدة: الأخلاق فيها أكثر عذوبةً، والقانون نفسه أخذ يتأثر بالأخلاق. وعلى الرغم من ذلك فإنَّ التحرير فيها لا يزال أمراً نادراً، كما لا تزال استثنائية نجاحات بعض العبيد المتميزين بنشاطهم وذكائهم الذين يتوصلون إلى جمع ثروات حقيقية في التجارة والأعمال المصرفية ويحصلون لا على الحُرّيَّة من أسيادهم فحسب، بل على صفة المواطن من الدولة أيضاً التي يُؤدُّون لها الخدمات المالية)(1).

إنَّ مثل هذا يُؤكِّد انتشار حالة الرقّ بشكل كبير جدًّا في اليونان القديمة. ولمَّا كانت اليونان تُمثل حضارة متقدمة، فمن الطبيعي بروز حالة التقنين لجوانب متعددة من حياة الناس، ومنها مسألة الرقّ التي امتدت على أفق كبير في حياة المجتمعات.

الرق في حضارة روما

إنَّ الاسترقاق الذي مارسته روما أخذ أبعاداً خطيرة جدا، حيث استعبدت شعوب كاملة، وتجاوز عدد المستعبدين الملايين في وقت كان المليون يُمثل رقماً غاية في الصعوبة بين الأحرار فكيف بالعبيد؟ وفي هذا الصدد يقول مؤلّفا تاريخ الحضارة العام (روما وإمبراطوريتها):

(كان من نتيجة الحروب الظاهرة والإثراء الذي عقبها أن دخل إيطاليا عدد لا يُحصى من العبيد أجل كانوا عبيداً من أقدم العهود، فقد استطاعت روما بعد كانا أنْ تُجنّد منهم جوقتين، ولكنهم غدوا الآن جماهير غفيرة، وأن قانون الحرب الذي يمشي عليه كافّة المتحاربين أصبح بحكمه بعض أسرى هنيبعل

ص: 28


1- تاريخ الحضارة العام (ج 2 /ص348-350)

عبيداً في اليونان. وقد غذى الأسواق بهم منزلاً إليها في الظروف العاديَّة أسرى الحرب، بل جميع سُكّان المدن المفتوحة عنوة في أغلب الأحيان. وقد حدث ما هو أسوء من ذلك التنكيل الذي لا يعرف للشفقة معنى، ففي سنة (167م) بعد النصر وإخضاع الأهالي أصدر بولس إميليانوس أمره باختطاف وبيع (150,000) شخص من سُكّان الأيبير. وفي كل مكان أذن، في البلقان وآسيا 15) وأفريقيا وأسبانيا وغاليا باع قضاة المالية بالدلالة مرافقي الجيوش من التجار الغنائم البشرية التي كانت تنقل بعد ذلك مواكب كئيبة إلى الأسواق الخاصَّة، ويجب أن لا ننسى أنَّ قيصر أمر ببيع مليون من الغاليين، وأنَّ المصادر الأُخرى من قرصنة وعبودية دين لم ينج منها سوى المواطنين. واستيراد برابرة لا أهمية لها إذا ما قورنت بهذا المصدر. ولن تخفف تغذية الأسواق بالعبيد ما دامت روما قادرة على خوض الحروب الظافرة. وقد انتهى إلى إيطاليا أوسع البلدان المتوسّطيَّة ثروة آنذاك العدد الأكبر من هؤلاء العبيد أو على الأقل أفضلهم قوَّةً وذكاءً أو جمالاً. وبديهي أنْ ليس لدينا أي إحصاء لهذا الموضوع، ولكننا لا نشكَّ في أنَّ العبيد الذين دخلوا بشبه الجزيرة بلغوا الملايين.

كان العبيد فئات متفاوتة الكفاءات، وقد استخدموا في شتى الأعمال، فكان هناك عبيد للأبهة يستخدمهم سيدهم للمتعة والتباهي، وكان آخرون خدماً مدربين، واستخدم غيرهم من المثقفين أمناء سرّ يُوثَق بهم، وقام آخرون بأعمال تتطلب خبرة واختصاصاً...، وقد استخدم بعض العبيد عُمالاً اختصاصيين في مشاريع خاصة صغرى ، فإذا أتقنوا مهنتهم غدا السماح لهم ولاسيما في المدن بممارستها لحسابهم الخاص لقاء أتاوة معيَّنة أمراً أعظم نفعاً)(1) . لقد بلغ الإجحاف والازدراء بحقِّ العبيد في روما حدا كاد أن يقلب

ص: 29


1- تاريخ الحضارة العام (ج 2 ص 178 و 179)

الأمور رأساً على عقب. خذ مثلاً على ذلك في الزراعة، فقد كان بعض الملاك يملكون العشرات، ويتضح من فحص القواعد التي يضعونها بصددهم أنه لا يغفل رأس المال الذي يُمثلونه، فهو لا يرضى بأن يموتوا جوعاً أو نتيجةً لعمل مرهق أو لضرب في عقوبة. وإذا ما أرادوا بيعهم عندما يتقدمون في السن أو يمرضون فإنَّهم يُباعون مع العربات والحدائق العتيقة، بل يُباعون مع الثيران الطاعنة في السن. فكلُّ شيء يؤول بالنسبة لهم أو لبعضهم على الأقل إلى مسألة إنتاج مماثلة لمسألة إنتاج المواشي التي يُغذِّيها صاحبها ويحرص على أن لا ينهكها ولا يسيء معاملتها.

لذلك إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أعمال العنف التي يأتيها في غياب السيد المتكرّر وكيل هو نفسه عبد في أغلب الأحيان، لا يجب بأن نبالغ في تصوُّر السجون المظلمة والتقييد بالسلاسل وعقوبات الشنق . ولكن يجب أن لا ننسى النتائج الأُخرى للحساب نفسه، فقد منع السيّد إلَّا في ظروف استثنائية من إعتاق العبد الذي يعجز عن استمالة جميله أو يجمع بعض المال الذي يبتاع به حُريَّته، وقد منعه أيضاً من القبول بالمحاذير والنفقات التي تستتبعها تربية أولاد العبيد وهم قليلون على كل حال بسبب ندرة النساء بين العبيد. وهكذا فقد انحطّ العبد إلى مرتبة الحيوان، وفقد كلَّ أمل بالعطف وبمستقبل أفضل.

سوء الحال الشديد هذا، والإجحاف بحقِّ العبيد من جهة، وإحساس العبد الفطري بالحقِّ في أن لا يذل ولا يهان تبعاً لإحساسه بشريته الذي لا يفارقه، إضافةً إلى وجود الحياة الاجتماعية في الشعوب التي استعبد فيها مع وجود أفراد يشاركونه المحنة ممن يحملون إرثاً حضاريا حملوه من البلدان الشرقية ومن اليونان على وجه الخصوص، كل ذلك جعل فتيل الثورة مشتعلاً في نفوس ،العبيد، ولا ينتظر إلّا فرصة لتتحوّل إلى بركان. وهكذا كان حيث انطلقت ثلاث

ص: 30

ثورات للعبيد في روما يفصل بين الواحدة والأُخرى ثلاثون سنة استدعى إخمادها عمليات عسكريَّة كبيرة ، وهي ما اصطلح عليها الرومان حروب العبيد. كانت الأولى والثانية في صقليّة، وقد تزعمها رجال من أصل شرقي، ولم تنتقل العدوى إذ ذاك إلَّا إلى بعض النقاط من إيطاليا الجنوبية.

وانفجرت الثانية في إيطاليا بقيادة رجل من أصل ملكي هو سبارتاكوس حيث قاد سنة (63م) ما لا يقل عن (60,000) رجل لتقع ملحمة فجيعة دامية ووحشية إلى حد بعيد. وقد تمكن من إلحاق الهزيمة بأعدائه، واتجه بالثائرين معه إلى بلدانهم، فعبر الألب ووصل إلى غاليا شمال الألب، لأنه كان يعلم أنَّ مصيره وأصحابه فيها هو القتل المحتوم.

إلَّا أَنَّه عاد بعد ذلك إلى جنوب إيطاليا ربَّما تحت تأثير الطمع بثروة شبه الجزيرة، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن عودته كانت بتأثير من أتباعه الذين كانوا من بلدان أخرى غير بلده، فاستجاب لهم، وأعدم منهم - بعد أن طوردوا في إيطاليا وحوصروا قبلها - الآلاف، وانتهت حركته سنة (71م).

وكيف كان فقد آلت الأمور بعد ذلك إلى أنْ يتبارى كبار القوم في انتهاج العتق ويتباهوا فيه كمادة دعائية. ومن هنا حاول بعض الزعماء الوقوف في وجه هذا المد، فقد أصدر أوغسطس عدداً من القوانين الرادعة، فمنع العتق عن الرقيق قبل أن يبلغوا الثامنة عشرة، كما حظر عتق خمس العبيد مرة واحدة وشدَّد في تطبيق الأحكام القانونية الصادرة من قبل والتي لم تسمح إلا لحفيد المعتوق أنْ يتمتّع بكافة الامتيازات الخاصة بالرعيَّة الرومانية. إلَّا أنَّ العمل لم يستمر طويلاً بهذه القوانين حتّى في حياة صاحبها ومشرعها.

وبعد ذلك أخذت المسألة بعداً قانونيا حيث أُجريت بعض التعديلات على التشريعات القديمة، فقد أصدر هدريانوس أمراً حظر على مالكي العبيدبيع

ص: 31

أية أمة للمتجرين بالنخاسة أو بيع رقيق لأي من المتعهدين بحفلات المصارعة(1) والمصارعين، أو بإجراء عملية خصاء لهم.

وفي مدوّنة تيوستنيانوس أكثر من (70) نصا أو مرجعاً صدرت كلها في القرن الثاني توصي بالدفاع عن الرقيق العامل في بيت صاحبه.

كل ذلك ثبت في كتب التاريخ، وهو ما يخصّ العهد الإمبراطوري الأوّل الممتد على القرنين الميلاديين الأول والثاني.

وأما في العهد الإمبراطوري الثاني الذي يمتد على القرنين الثالث والرابع الميلاديين حيث شهدت أوربا الدخول الواسع في المسيحية وإعلان الإمبراطور دخوله في المسيحيّة، فقد اختلفت الحال بالنسبة للعبيد خصوصاً في القرن الرابع الذي اتسعت فيه أملاك التجار، مما يعني استحالة مراقبة التجار بشكل دائم، فاضطروا إلى معاملة العبيد معاملة الشركاء الزراعيين وإسكانهم أرضاً يُوكل إليهم أمر زراعتها ولهم حصّة من ثمرها. فالعبد الريفي على وجه الخصوص يعيش وحده مع عائلة يتعهد بإعالتها، ولكن القانون مع ذلك أبعد من أن يعتقه. ويبدو أنَّ الكنيسة لم تتدخل ولم تعمل من أجل تشريع يُخفّف به عن العبيد.

الرق عند المغول

كان المغول قبل قيام دولتهم يقتنون العبيد ويحصلون عليهم من الخطف في الحروب أو بواسطة الغزوات التي يُستلب فيها الفتيان والجياد، وينضم إليهم بعض المساكين الذين يهبون أنفسهم لتكتل غير تكتلهم، أو بعض الأبناء من

ص: 32


1- لقد برزت في أيام مجد الحضارة الرومانية ظاهرة بشعة أكلت الكثير من البشر وأكثر ضحاياها من العبيد، وهي ظاهرة ألعاب المصارعة، لأنها لا تعدو نوع لهو بشري بطريقة وحشية، وقد يبرز لهذه المعارك رجال أحرار يدفعهم لذلك الطمع بالجوائز التي كانوا يفوزون بها، وقد بنيت لها المسارح والملاعب في المدن الغربيَّة للنجاح العظيم الذي حققته.

عامة الناس الذين يُقدِّمهم آباؤهم لأحد القادة أو المحاربين اعترافاً بخدمة مؤداة، فيصبحون كلُّهم من أملاك العائلة التي تقتنيهم، ويُوزّعون مع الأملاك أو يدخلون في مهر الفتيات ويرافقونهنَّ عند أزواجهن. وعبوديتهم وراثية لا تزول إلا بالإعتاق. وقد يحدث أنْ تُستعبد قبيلة كاملة إذا ما غلبت على أمرها.

وكانت حياة العبيد قاسية ولكن عملهم لا يختلف عن عمل الخدام.

الرق في أوربا ومستعمراتها في القرون الوسطى

حينما نتحدث عن الاسترقاق في أوربا ما بعد الثورة الصناعية فإنَّ الذهن ينصرف لا محالة إلى أفريقيا منجم العبيد لهم وإلى الأمريكتين محل الاستثمار. وأمَّا أُوربا نفسها فلم تكن بحاجة إلى أيدي عاملة، لوجود زخم سكاني كبير، وأعداد هائلة منهم كانت تعاني الفقر الشديد، فأيَّة حاجة إلى جلب العبيد إلى أوربا ؟ وعلى أيَّة حالٍ لم تكن في أوربا ظاهرة ذات أبعاد واسعة بعنوان ظاهرة العبيد.

وأما بالنسبة لاستعباد غير الأفارقة فإنَّ أُوربا لم يكن لها طريق إلَّا إلى العرب والمسلمين الذين يمتدّون جنوب أوربا وجزء من شرقها، وكانت الدولة العثمانية ذات سطوة كبيرة هدَّدت عروش ملوك أوربا الغربية وسحقت دولاً شرقية فيها، فأيدي الأوربيين كانت مقطوعة عن أراضي المسلمين.

وأمَّا شرق العالم الإسلامي فإنَّه لم يكن قد اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلا متأخّراً، وانشغل الناس حينها بالتوابل التي كانت تمثل مورداً للكسب الهائل، فلم يبقَ إِلَّا الأفارقة والهنود الحمر، ولم يتوفّر لهم أي طريق لاستعباد الهنود الحمر ، لأنّهم كانوا رُحَلاً لا تستهويهم حياة الاستقرار، وكانوا الصلابة بحيث يُفضّلون الكسر على الانحناء أمام رغبات الرجل الأبيض كما يقول (جوهر لال نهرو ) ، وهذا هو الذي أدّى إلى استئصالهم تقريباً حيث من

ص: 33

قتل البيض عشرات الملايين منهم ، ويُقدِّرهم بعض بمائة وعشرين مليوناً، ولو كان ثَمَّة طريق لترويضهم أو استعبادهم لما سلكوا معهم طريق السحق هذا.

ولهذا السبب التفت أهل المستعمرات إلى زنوج أفريقيا، فالكلام عن الرقّ في أُوربا الصناعية ينحصر بزنوج أفريقيا المنقولين إلى أمريكا الشمالية والجنوبية.

وفي أوَّل الأمر لم يتعرَّض الأوربيون تقريباً لأفريقيا السوداء إلى جنوب العالم الإسلامي، فقد حصروا همهم في الدوران حوله لبلوغ آسيا، فاكتفوا بأن أقاموا على شواطئها القواعد البحريَّة والأسواق التجارية للذهب والعبيد والعاج.

ولقرون لم يعرف الأوربيون من جنوب الصحراء إلَّا السواحل ساحل العاج وساحل الذهب وساحل العبيد الذي كانت تُؤسَر فيه الرجال ويُكبَّلون بالقيود والأغلال.

نظر الأُوربيون إلى أفريقيا السوداء في الدرجة الأولى نظرتهم إلى مخزن عبيد، وقد انتمى العبيد المنقولون إلى أمريكا خاصَّة إلى مجموعات من الشعوب، فقد توزّع البانتو ولاسيما بانتو أنغولا في كافة أنحاء أمريكا المزودة بالعبيد، وتكاثر عدد الداهوميين في كافة أنحاء البرازيل وغويانا وغوادلوب والمرتينيك وسان - دومنغ، ونُقِلَ الفانتي أشانتي بأعداد كبيرة إلى كل مكان لا سيما إلى مناطق غويان المختلفة.

أمَّا ياروبنين حيث حققوا حضارة جميلة جدا اشتهرت ببرونزيتها ومنقوشاتها العاجية والخشبيّة ومصنوعاتها الخشبية وبلغت ذروتها بين السنة (1575م) و (1648 م) ، فقد أُرسلوا بصورة خاصة إلى كوبا والبرازيل في المنطقة المحيطة بباهيا .

ص: 34

الرقُ في أمريكا الشمالية

في أمريكا الشمالية شيَّد الرق لنفسه مراكز في المناطق الجديدة فيما وراء البحار منذ القرن السادس عشر وما تلاه بيد أنَّ الرقّ لم يستفحل أمره وتشتدُّ وطأته إلَّا بعد انقضاء وقت طويل. ولا أخذت القوى الجديدة للديمقراطية والصناعية تشع من بريطانيا العظمى إلى بقيَّة العالم الغربي منذ نهاية القرن الثامن عشر كان الرق محصوراً من الناحية العملية في المستعمرات النائية.

إنَّ الثورة الصناعيّة في بريطانيا العظمى قد أخرت كثيراً من القضاء على الرقّ، لأنّها استثارت الطلب على المواد الأوَّليَّة التي كان العمل المسترق يقوم على إنتاجها. فمنجم العبيد في أفريقيا هو الذي فعل مناجم المواد الخام.

لقد عمل الزنوج في الولايات الجنوبية مثل فرجينيا وكارولينا وجورجيا في المزارع الكبيرة كمزارع التبغ على شكل جماعات.

أمَّا الولايات الشمالية فقد كانت الحالة تختلف فيها، لأنَّ مزارعهم كانت صغيرة الحجم ولم تكن تحتاج إلى عدد كبير من الأيدي العاملة أو العبيد، بل كان كل فرد يباشر العناية بأرضه مما خلق بينهم روح المساواة. كما يُؤكَّد ذلك جواهر لال نهرو في كتابه (لمحات من تاريخ العالم).

في عام (1718م) كان عدد السكان في لويزيانا ( 2500) من البيض و (4500) من الزنوج. وفي القسم الأوسط من المستعمرات نيويورك ونيوجرسي وبنسلفانيا وديلاوير كان عدد السكّان عام (1763م) حوالي (410,000) نسمة بينهم(000 ,29) من الزنوج. وأما في الشمال وإنكلترا الجديدة فإنَّ عدد السُّكّان عام (1763م) بلغ (795,000) نسمة بينهم (17,000) من الزنوج. وارتفاع العبيد يعني ضخامة عمليات الإنتاج وضخامة الشركات واتّساع آفاق عملها.

ص: 35

كان عصير الدبس وثفالة القصب يخضع لعمليّات تخمير معقدة لصنع مشروب الروم الذي تجري مبادلته في غينيَّة بالزنوج الذين يباعون عبيداً أرقاء في جنوب أمريكا.

لقد انطلقت بموازاة ظاهرة انتشار الرقّ في أمريكا حركة تناهض الرقّ. وقد كان بعض الساسة الكبار مثل واشنطون وجفرسون يتوجعون لبقاء نظام الرقّ - وقد كانوا أنفسهم مالكي رقّ ! - إلَّا أنَّ هذا النظام بدأ بالذبول والاضمحلال. وقد قاومت المناطق التي تنتج القطن في الجنوب من الاتحاد الأمريكي الشمالي. فقد لبث دعاة الرق يملكون زمام الحكم، فاستفحل نظام الرقّ واتَّسع بشكل مريع بين عام (1833 م) وهو عام تحريم الرق في الإمبراطورية البريطانية وعام (1863م) وهو عام إلغاء الرقّ في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع أنَّ إعلان استقلال أمريكا الصادر عام (1776م) نص على أنَّ الناس يُولدون متساوين، وبالرغم من هذه العبارة ظلّ العبد الزنجي محروماً من الحقوق إلَّا أقلها إلى أن قامت الحرب بين الولايات الشمالية والجنوبية وانتهت بإلغاء الرقّ. إلَّا أنَّ ذلك لم يلغ التمييز العنصري المقنن إلى الثلث الأخير من القرن العشرين.

وكان البابا أو بانوس الثامن قبل ذلك أي في (22) نيسان / 1639م) أصدر رقيماً يحظر الرقّ بجميع أشكاله، إلَّا أنَّ مشاكل الأُمَم لا تُحل بقرارات من سلطات لا أدوات تنفيذية لها .

الرقُ في أمريكا الجنوبية

لقد بدأ إدخال الزنوج إلى البرازيل منذ السنوات الأولى من القرن السادس عشر لمساعدة الهنود على قطع الأشجار وجرها. وما أن ظهرت مغارس

ص: 36

القصب حتَّى استوردوا بأعداد كبيرة. وقد توسعت مغارس ومطاحن السُّكَّر في البرازيل بشكل كبير بعد اشتداد الطلب في أوربا على الشر المنتج هناك. وقد بلغت المطاحن في عام (1710م) حوالي (528) مطحنة سكر تقريباً. وقوام عمل المطاحن والمغارس وأداتها عبارة عن الزنوج. وبزيادتها تحقق السبب الأكبر لنقل الزنوج الأفارقة إلى أمريكا الجنوبية. وقد اكتسب استيرادهم من أفريقيا طابع التجارة الضخمة، وكانت الأعداد تُنقل بالجملة.

وقد بلغ عدد الزنوج الذين دخلوا البرازيل بين عامي (1570م) و (1670م) ما يقارب الأربعمائة ألف - وفق بعض الإحصائيات - مما يعني أنَّ المعدل السنوي هو أربعة آلاف عبد، إلَّا أنَّ معدّل حياة الزنجي في البرازيل لم يتجاوز السنوات السبع.

وفرَّ الزنوج القسم الأكبر من اليد العاملة في مغارس ومطاحن السكّر، فقد عمل فيها سبعون في المائة منهم، وقد استُخدم فيها زنوج أنغولا من البانتو بصورة خاصة، وهم قصير و القامة وزاهر و البشرة، وكانوا مزارعين جيدين ذوي قدرة غير محدودة على تحمُّل التعب. أما الزنوج الباقون فقد استخدموا خدماً وطهاةً وحمالين. وكان الداهوميين أكبر قامة وأجمل مبسماً يتميزون بشدة حميتهم.

لعبت البرازيل دور المنطقة الاقتصادية المسيطرة بالنسبة لأنغولا، فإذا تزايد طلب السُّكَّر البرازيلي في أوربا طلب البرازيليون عبيداً وجلوداً من غينيا وأنغولا، وإذا هبطت نسبة تصدير السُّكَّر البرازيلي انهارت تجارة أنغولا وغينية.

إنَّ زنوج حضارة عصر الحديد بنقلهم إلى البرازيل تقنياتهم في الزراعة وتربية المواشي وصناعة الحديد والعمل المنزلي وتعودهم على تطبيق التقنيات الأوربية قد مهدوا الحضارة. ولم يبد الزنوج أيّ تذمر من حياتهم في البرازيل

ص: 37

الاستوائية، فقد ألفوها بسهولة، وبذلك تفوّقوا على الهنود العابسين المنطوين على أنفسهم ، وقد أظهروا قوَّة إبداعيَّة ومهارة ، حتَّى إنَّهم كانوا يتفوقون على البيض إذا دخلوا المدارس معهم.

ومما ساعد في تغيير المعادلات هناك أنَّ النساء البيض كنَّ يتزوجن مبكّراً، أو كنَّ منشغلات بإصدار الأوامر، وركّزن على الأراضي ومطاحن السُّكَّر، مما جعلهنَّ يُقصرن في دورهن كزوجات وأُمهات ، فاحتجن إلى الزنجيات لإرضاع الأولاد وتربيتهم وتدبير المنازل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قضت مصلحة الأبيض بإنجاب العبيد وتأمين اليد العاملة، مضافاً إلى مآرب أُخرى ساعد عليها جمال الزنجيات، فأجسامهنَّ كانت غاية في الجمال. ومقابلهنَّ النساء البيض اللاتي صرن أُمَّهات من الصغر مع بدانة الأبدان. فانتشر أولاد البيض من الزنجيات، وكانوا يدعونهم لتناول الطعام مع إخوانهم من البيض على مائدة واحدة، وهؤلاء كانوا يتحرّرون بمجرد وفاة الأب. وإذا لاحظنا كثرة النساء الزنجيات المتسرّى بهنَّ من السود ظهر لنا عدد أولادهن من البيض.

كلُّ ذلك يكشف لنا عن حقيقة لا غبار عليها، وهي أنَّ الزنوج في أمريكا الجنوبية لم يعانوا مما عانى منه الزنوج في أمريكا الشمالية.

أخذ الزنوج من أفريقيا

انطلقت عملیات نقل الزنوج بشكل موسّع على أيدي البرتغاليين، وربَّما ظلت في طابعها العام حكراً عليهم ، وكانت في بادئ الأمر من سوق خاص ومنظمة خاصة سُمّيت بساحل العبيد. وكانت أعداد كبيرة منهم تشترى من الأفارقة الذين ما انفكُوا في نزاعات دائمة فيما بينهم في الدولة الواحدة فضلاً عن

ص: 38

الدول المتعدّدة. وقد أذكى الأوربيون نار الفتنة بين أبناء البلد الواحد والقبيلة الواحدة لتستمر تجارتهم المربحة. وقد استخدم النخاسون في أفريقيا وسطاء زنوجاً (تانغوسو) يقومون بالمقايضة في الداخل ويلجؤون عندما تقتضي الحاجة إلى الحيلة والعنف.

واستخدم أصحاب المزارع في أنغولا بعض عبيدهم البومبير والزنوج أو الخلّاسين القساة والمفسدين. وكان التانغوسمو والبومبير يفاوضون عملاء الأمراء الأفريقيين (النسادو) وهم خلاسون مسيح يعتبرون أنفسهم بيضاً، ويقيمون في بلاط الأمراء ويبيعون عبيد هؤلاء. أما الثمن فبارود وأسلحة من البرتغال، وأدوات حديديَّة ولعب من البرتغال أو الهند الشرقية أو غيرها.

أمَّا النقل إلى العالم الجديد فقد كان بطرق مزرية قضت على الكثير من العبيد المنقولين. فالوحشيّة والقساوة التي ليس لها حد خُلق الأُوربيين، واللامبالاة بالآخرين شأنهم.

(النخاسون ينقلون قطع العبيد، أما القطعة فزنجي يتراوح سنه بين (15) و (25) سنة، ويبلغ (180سم) طولاً ، ويتمتّع بصحة جيدة. وبين الثامنة والخامسة عشرة، وبين الخامسة والعشرين والثلاثين يقتضي ثلاثة زنوج للحلول محلَّ القطعة . أما دون الثامنة وفوق الخامسة والثلاثين فيقتضي أربعة .زنوج. وقد استحصل النخاسون على العبيد عن طريق مفاوضة زعماء الأفريقيين الذين يبيعون أسرى الحرب، لذلك عمد النخاسون إلى الدبلوماسية بشتى أساليبها. فشجعوا النزاعات وأضرموا نيران الخلافات حول وراثة العرش، وكان الزنوج المنقولين لم ينتموا إلى الطبقات الدنيا في المجتمع الأسود، بل شحنة الزنوج أشبه بمملكة زنجيَّة مصغرة تضم مهزومي حرب وراثة عرش الأمراء وكبار الموظفين ورجال الحاشية والمحاربين والمزارعين. فوصل من

ص: 39

ثُمَّ إلى البرازيل زنوج متطوّرون فكريا، ضليعون في أمور الإدارة والقيادة والتنظيم وجنود وعمال أكفاء، أي شعوب بلغت مستوى حضارياً رفيعاً)(1) .

وبعد ذلك يقول: (في السنوات الأولى من القرن السابع عشر صدر مرفأ لواندا سنويًا بين عشرة آلاف واثني عشر ألف عبد ، يُنقلون في سُفُن ذات أربع صوار تتراوح حمولتها بين (36) و (130) برميلاً يُكدَّس فيها (500) عبد تقريباً. وكان الملاحون يستفيدون من الرياح الجنوبية الشرقية التي تهب الانقلاب من الشرق إلى الغرب، ثمّ من التيار الاستوائي الجنوبي، فتستغرق الرحلة (35) يوماً من أنغولا إلى برنمبوك ، و (40) يوماً إلى باهيا، و (50) يوماً إلى ريودي جانيرو . لكن نسبة الوفيات أثناء الرحلة كانت مرتفعة جدا، فقد حدث أحياناً أن نصف الزنوج لم يبلغوا أمريكا. ولم يُرسل الباقون على قيد الحياة إلى البرازيل وحدها. فبين (1524م) والسنة (1526م) نقل أحد النحاسين (17703) قطعة أرسل منها (7454) قطعة إلى البرازيل و (1184) إلى جزيرة القديس توما و (9070) إلى الهند القشتالية في المنطقة الإسبانية، وأُعيد تصدير زنوج البرازيل بالمئات سنويًّا إلى منطقة ريودي جانيرو لابلاتا الإسبانية)(2) .

واستمرت تجارة زنوج الكونغو، ولم تلغ قانوناً إلا في عام (1885م) في مؤتمر برلين الذي دعا له بسمارك حسب ما ينقل روبرت روزدل بالمر في (تاريخ العالم المتمدن).

وقد حاول الأوربيين أن يُكسبوا عملياتهم الاستعمارية في أفريقيا طابعاً دينيًا عندما حاولوا العمل بالتبشير الديني المسيحي هناك، إلَّا أنّها باءت بالفشل الذريع. وكان السبب الرئيسي في فشلها تجارة العبيد.

ص: 40


1- تاريخ الحضارات العام (ج 4 ص 527 )
2- المصدر السابق ص 528)

الرقُ في الديانة اليهودية والديانة النصرانية

لقد أباحت شريعة اليهود لمعتنقيها الغزو والاسترقاق، ولم تمنعهم عن شيء من ذلك، بل أباحت لهم تخريب البلاد واستعباد الأسرى أو قتلهم كما نجد ذلك في الإصحاح العشرين من سفر التثنية، والإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج.

(إنَّ الحرب والرقّ متّصلان اتصالاً وثيقاً في العهد القديم، فنجد في التوراة (عدد 1 صحاح 31 آية (2 أنَّ الربَّ يُكلِّم موسى قائلاً: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين. وفي الآية السابقة وما بعدها: فتجنَّدوا على مديان كما أمرك الربُّ واقتلوا كلَّ ذَكَر .... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم.

أمَّا بالنسبة للأجانب فقد أُبيح لبني إسرائيل أن يستعبدوهم (لاويين 1/ صحاح 25/ آية 44 وما بعدها) وأمَّا عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم منهم تقتنون عبيداً وإماءً، وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم ممن تقتنون، ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم، وتستملكونهم لأبنائكم من بعد ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر، وأمَّا إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلّط إنسان على أخيه بعنف)(1).

ويبدو أنَّ العبيد عند اليهود كما هو الحال عند المسلمين يتكاثرون بالنسل، وينطبق هذا على جميع من يتجر بالرقيق، ولما كان العبيد ملكاً لأصحابهم فأبناؤهم ملك لهم أيضاً.

ويوجد في العهد القديم هذان الاصطلاحان (الذي يُولد في البيت)، و (الذي يُشترى بالمال) ، كما أشار إلى ذلك آدم متز(2).

ص: 41


1- الحضارة الإسلامية (ج 1 ص 315)
2- المصدر السابق

وقد حدثنا القرآن الكريم عن سبب لاستعباد بعض بني إسرائيل، ويتمثل ذلك في السرقة، فمن سرق شيئاً جوزي بالاسترقاق لصاحب الشيء المسروق.

قال تعالى: «ثُمَّ أَذَنَ مُؤَذِّنُ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ... »إلى أنْ يقول: «قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» (يوسف: 70 - 75).

ثمّ يقول بعد ذلك: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ... »(يوسف: (76) .

والظاهر أنَّ هذا الحكم لم يكن معمولاً به في مصر، ويظهر من جوابهم قبل ذلك حين سألوا عن جزاء السارق أنّهم لم يقترحوا عقوبة جديدة لم يُعمَل بها قبل ذلك، فقولهم: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يدلُّ على أنَّ طريقتهم مع السارقين هي الحكم باستعبادهم ولو إلى حين.

وهذا المعنى تُؤكَّده الرواية الواردة عن الرضا عليه السلام : «كانت الحكومة في بني إسرائيل إذا سرق أحد شيئاً استُرِقَّ به، وكان يوسف علیه السلام عند عمته وهو صغير، وكانت تُحِبُّه ، وكانت لإسحاق عليه السلام منطقة ألبسها إياه يعقوب، فكانت عند ابنته، وإن يعقوب طلب يوسف بأخذه من عمته، فاغتمت لذلك وقالت له : دعه حتّى أُرسله إليك، فأرسلته وأخذت المنطقة وشدتها وسطه تحت الثياب، فلما أتى يوسف أباه جاءت فقالت: سرقت المنطقة، ففتشته فوجدتها في وسطه، فلذلك [قال] إخوة يوسف حيث جعل الصاع في وعاء أخيه:« إن يَسْرِقُ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» [يوسف: 77]، فقال لهم يوسف: ما جزاء [ من ] وُجِدَ في رحله؟ قالوا: هو جزاؤه كما جرت السُّنَّة تجري فيهم، «فَبَدَاً بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعاء أَخِيهِ» [يوسف: 76]،

ص: 42

ولذلك قال إخوة يوسف: «إِنْ يَسْرِقُ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» يعنون المنطقة ... (1) .

وفي رواية إسماعيل بن همام عنه عليه السلام : وكان إذا سرق أحد في ذلك الزمن دفع إلى صاحب السرقة فكان عبده(2) .

وفي رواية داود بن القاسم الجعفري، قال: سُئِلَ أبو محمد عليه السلام عن قوله تعالى: «إِنْ يَسْرِقُ ... »، فقالت سارة ابنة إسحاق: متى سرقها يوسف فأنا أحقُ به، فقال لها يعقوب : فإِنَّه عبدك على أن لا تبيعيه ولا تهبيه، قالت: فأنا أقبله على أنْ لا تأخذه مني وأعتقه الساعة...) الخبر (3).

وقد يبدو من هذه الرواية أنَّ هذا الحكم خاص بالمنطقة وليس حكماً عاماً لكل . سرقة، لكن ظاهر الآية الشريفة أنَّ حكم عامٌ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) (يوسف : (75 )، على أن قولها :( متى سرقها فأنا...) قد يكون تطبيقاً لحكم كلي.

ويُنسب لليهود أنَّهم كانوا إذا احتاجوا باعوا أولادهم الصغار غير البالغين).

ولكن ليس من الإنصاف أن نحمل هذا الحكم على اليهودية وإن كان فعلاً لليهود.

أما الكنيسة فيبدو أنها لم تُحرّك ساكناً باتجاه محاربة الاستعباد، فهي لم تتدخل ولم تعمل من أجل تشريع يُخفّف به عن العبد، نعم يُنسب إليها أنها جعلت الإعتاق أسهل، واعترفت الدولة بشرعيَّته .

ص: 43


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 83 / ح (6)
2- المصدر السابق ص 82 ح 5
3- الخرائج و الجرائح (ج 2 ص 739 53 ؛ الحضارة الإسلامية (ج 2 ص 299)

يقول مؤلّفا الجزء الثاني من تاريخ الحضارات العام: (وإذا كانت الكنيسة قد سهلت الإعتاق بإجراء مبسّط اعترفت الدولة بشرعيَّته منذ قسطنطين، أو إذا شجعته أخيراً فإنَّها لا تُلزم نفسها ولا أتباعها ،به، بل تصدر حكماً قاسياً على العصاة والمهيجين منهم : ( إذا أقدم شخص ما بداعي الشفقة على حثّ العبد على احتقار سيّده والتحرُّر من العبودية والإعراض عن الخدمة بحسن نية واحترام فليكن مبسلاً)(1) .

ثم بعد ذلك بأسطر يقولان: (كان من حقنا أيضاً أن نتوقع تشريعاً أقل صرامة بصدد العبيد ولكن الديانة المسيحيَّة لم تعمل كما يبدو على تقوية النزعة التي أوجدتها الفلسفة الإنسانية في عهد الأنطونيين والتي لم تحرز تقدماً يُذكَر، فإنَّ قسطنطين قد منع ملاحقة السيد الذي يموت عبده المذنب متأثراً بالعقوبة المفروضة، ولن تُلغى قبل القرن السادس الشروط التي قيَّد بها أُوغسطس حق الإعتاق)(2)

ويبدو أنَّ المسيحيَّة تُوصي العبيد باحترام أسيادهم، وهذا إقرار منها بالعبودية.

قال الدكتور جورج بوش (لم تعترض المسيحية على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرّض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبوديّة، حتّى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئاً ضد أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولم تكدر سلامة عائلة واحدة قط، ولا بحثت عن مضارّ العبودية ولا عن قساوتها، ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً. وبالإجمال لم تُغيّر النسبة الشرعيَّة بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك

ص: 44


1- تاريخ الحضارات العامّ (ج 2 ص 608 و 609)
2- المصدر السابق ( ص 609 و 610)

قد أثبتت حقوق كلّ من الفريقين وواجباتهما ، إلا أنَّ المسيح ورُسُله عملوا بأصل الفريقين وبما يشتركان فيه، وأنَّ فداءهما بواسطة واحدة، وعظموا قيمة الإنسان وتساوي جميع الأفراد أمام الله، وعلموا أنَّ نصيبهم واحد في الآخرة كل حسب أعماله ، وعلموا أيضاً مبادئ العدل والمحبَّة العامة )(1).

وفي موقع آخر يفيد هذا المعنى: (إنَّ الديانة المسيحية لم تتعرض لموضوع الاسترقاق ولم تُهيِّئ حلّاً لهذه المشكلة الاجتماعية، بل تركت الحبل على الغارب وأوكلت أمر الرقّ، بل نُظم الحكم كلُّها إلى الدولة الرومانية الحاكمة آنذاك، وكان كلُّ نشاط السيد المسيح منصبا على الدعوة إلى التمسك بمكارم الأخلاق وتطهير النفس من أوضار المادة وأدران الشرور، من دون تدخل في شؤون الإدارة العامة ونظم الحكم. وعلى هذا النحو سار القديسون بعد المسيح، فلم يُنقل عنهم منع نظام الاسترقاق أو تحديد له، بل روي عن بعضهم إيصاء العبيد بطاعة السادة)(2).

أين هذا مما نراه في أحكام الإسلام في أصل الاسترقاق وفي حدوده وعدم تعطيل عتق العبيد واشتراط شرائط خاصة له ؟ بل لا يتوقف العتق إلا على النيَّة وإيقاع اللفظ المعبّر عن ذلك دون حاجة إلى أي إجراء قانوني، والأكثر من ذلك أنه اكتسب طابعاً عباديًا يتوقع الفاعل منه أعظم الأجر والثواب من الله تعالى.

وقد تكرّر في الروايات في أجر الإعتاق قولهم عليهم في الرجل يعتق المملوك يعتق الله بكلِّ عضو منه عضواً من النار»(3). ويُضاف إلى ذلك أنَّ الحالات التي شُرّع فيها الاسترقاق في الإسلام

ص: 45


1- 1) قاموس الكتاب المقدس (ج 2 ص 63)
2- قاموس الكتاب المقدس (ج 2 ص 60)
3- وسائل الشيعة (ج 23 ص 9/ ح 1/28982)

اقتصرت على الحرب الدينيَّة مع الكُفَّار، وهذا غير ما كان يحصل لحكام روما، ولا هو مشابه لما تقول به الديانة اليهودية من سعة دائرة الاسترقاق.

ص: 46

الفصل الثاني :التوحيد في التشريع

اشارة

ص: 47

*وجود الذات المقدَّسة.

*الذات الإلهية لا حد لها .

*وحدة الذات الإلهية.

* التوحيد الربوبي.

* التوحيد في التشريع.

ص: 48

لما كانت المسألة المبحوث عنها في هذا الكتاب مسألة حكم شرع في الشريعة الإسلامية صُوبت بسببه سهام الطعن للشريعة - إثر عدم تصورها مع جذور ذات الحكم وأساساته وجذور أصل التشريعات وفروع الدين -، كان من المناسب أن نعقد فصلاً نُسلّط الضوء فيه على جذور أصل التشريعات وفروع الدِّين، ولا تُرتجى فائدة كبيرة من ذلك ما لم تنطلق من منشأ الاعتقاد بحق التشريع الله تعالى، والذي لا يُشركه فيه أحد، فإذا تم ذلك يكون قد توفّر عندنا جواب قطعي لأيَّة شبهة تورد على حكم شرعي ثبت في أصل الشريعة. ويقتصر عندها البحث المهم عن دخول ذلك الحكم في منظومة الأحكام الشرعيَّة، وإقامة الدليل على أنَّ الشارع المقدَّس قد شرع هذا الحكم.

وعلى هذا يكون البحث من جهات أخرى نافلة، إذ إنَّه بعد فرض ثبوت حق التشريع الله تعالى دون أي شريك وثبوت تشريعه الحكم ما لا يبقى أمام العبد إلَّا أنْ ينصاع مذعناً بهذا الحكم وساعياً لامتثاله، أي يُسلَّم بالحكم ويحمل نفسه على امتثاله.

وعليه يكون الإشكال على أصل تشريع حكم من الأحكام غير خالٍ من التهافت، لأنَّه يصطدم بما فُرِضَ من الاعتقاد بأن التشريع إعمال حق -ثبت بالدليل - الله تعالى، إذ من شأنه التشريع وقد شرع.

نعم ، لو كان الكلام في تحديد الحكمة الداعية إلى هذا التشريع لا اعتقاد عدمها أو مخالفتها له لانتفى التهافت ، وحينئذ لا يُسمّى إشكالاً.

كل ذلك مقتضى الإيمان، فلا إيمان بدون تسليم، وقد قال تعالى: ﴿فَلا

ص: 49

وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: 65 ) .

إنَّ مقتضى الاعتقاد بالشريعة الإذعان والتسليم بالحكم الذي يصدر من الله تعالى، بل بما يُخبر به النبي الله ويحكم به ، وإلا فلا إيمان، وهذا هو صريح الآية المتقدّمة، ومن الضرورات التي يقضي بها الوجدان، ﴿وَما آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (الحشر: 7)، فمقتضى نبوّته عصمته في تبليغ الأحكام في الحد الأدنى وفي تشخيص الموضوعات على رأي الأكثر ، والقرآن يقول عنه صلی الله علیه وآله: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى »(النجم: 3 و 4 ) .

ومعرفة ذلك منه صلی الله علیه وآله يستدعي التسليم لكلّ ما يقول، وأنَّ ما يقوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونفس الكلام يسري في الأئمة علیه السلام أعلاماً لدينه وهداة لخلقه، ومن هنا كان الراد عليهم كالراد والذين نصبهم على الله تعالى وفق رؤية مدرسة أهل البيت عليهم السلام

هذا بالنسبة لمن اعتقد بالشريعة وصار من أتباعها؛ وأما غير المعتقد بها فإنَّ احتجاجنا عليه يكون في هذه المرحلة أيضاً من خلال البحث في أساس المشكلة عندهم، والتي تفرّع عنها مثل الإشكال في محلّ الكلام، فإذا ثبت حقُ التشريع المتمحض الله تعالى دون شركة من غيره، يُفترض أن ينقلع منبت الإشكال إلَّا في خصوص ثبوت هذا الحكم في الشريعة أو ثبوت صدوره من الله تعالى.

فينحى الكلام منحى آخر ، وليس هذا الكتاب محل معالجته والأخذ والرد فيه، بل يصبح البحث فقهياً محضاً، تتبع فيه آليات البحث الفقهي لإثبات الفروع والأحكام الشرعية.

ص: 50

وعليه فهذا الفصل بتفاصيله ونتيجته التي هي عبارة عن إثبات انحصار حق التشريع بالله تعالى دون غيره تختص فائدته بمن لم يؤمن بثبوت هذا الحقِّ له تعالى منحصراً. نعم بالنسبة لأتباع هذه الشريعة يكون ما سنذكره داعماً لمعتقده وإن كنا سنقتصر على القليل مما ذُكِرَ في مباحثه. وغرضنا الإيجاز جدا، إذ أنَّ مباحث التوحيد بتفاصيلها مطروحة في الكتب الكلاميَّة والفلسفيّة.

وهذه قاعدة عامة، فليس من حقٌّ أحد أن يشكل على البناء إلا من جهة عدم ملاءمته للمبنى، أمَّا أن يورد على البناء أنّه غير منسجم مع مبنى المشكل دون المتبنّي فلا وجه له بالمرة، فكما لا يقبل الملحد منّي أنْ ألومه على ترك الصلاة، لا يحق له أن يلومني على أدائي لها. نعم يحق لي أن ألومه على إنكاره دين الله بعد أنْ أُبيّن له الدلائل والشواهد على وجود الله وضرورة بعثه للأنبياء بدينه للناس، بل يحق لي أن ألومه قبل بيان الدلائل له إذ إنكاره لا يمكن أن يكون مستنداً إلى دليل تام، إذ لا دليل على عدم وجود ما هو موجود، ويحق له أن يطالبني بدليل على اعتقادي به تعالى وبدينه إن كنت أدعوه إلى الإيمان به، وإلا فلا يُمثل أي أحد من البشر من حيث هو بشر جهة لها الحق في سؤالي عن دليل اعتقادي.

وهذا يسري إلى كلَّ الفروع المبتني ثبوتها على مبنى وأساس، فالالتزام بها يحتاج إلى إثبات أساسها، والتنكر لها وردها مجردة عن مبناها غير سائغ.

نعم ، قد يقبل المتبنّي لمبنى آخر فرعاً دون أصله إذا وافق بعض متبنياته، كما يقبل أتباع المذاهب الفكرية الوضعية وأتباع الديانات الأخرى بعض أحكام الإسلام، مثل احترام المرأة، والبناء على إعطائها حقَّها، وتكافؤ الفُرَص على أساس الكفاءة لا على أساس عرق أو نسب أو حالة ماديّة، واحترام خصوصيات الأفراد، والحثّ على طلب العلم وتنظيم الأمور، وبعض مفردات التكافل الاجتماعي، كالزكاة والصدقات المستحبة، وغير ذلك كثير.

ص: 51

فرفض الإيدلوجية لا يستدعي رفض كلّ جزئياتها، فها نحن لنا مذهبنا وديننا، ونشترك مع بقيَّة المذاهب والأديان في موارد تربو على الحصر والإحصاء، وتتّسع لتشمل جملة من المعتقدات وطائفة من الأخلاق وسيل من الأحكام الفرعية.

وكيف كان ، لما كان التوحيد في التشريع متوقفاً في إثباته على إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته ومدبّريَّته للكون صار من الضروري التعرُّض بشكل مختصر لأدلة تُثبت هذه المقدّمات، وقد رتَّبناها حسب تسلسلها.

وقد تضمنت الحديث في جملة من الآيات الشريفة ورواية واحدة، وليس الغرض من ذكرها إلَّا الاستشهاد بها وليس الاستدلال.

وجود الذات المقدسة

تُعتبر مسألة وجود الله تعالى من المسائل البديهية عند أتباع الديانات السماوية، بل وكثير من أتباع الديانات غير السماوية وإن اختلفت تصوراتهم عن هذه الذات.

ومن هنا نرى القرآن يرفض أن يجعل مسألة أصل وجود الله تعالى منطلقاً للبحث مع الآخرين، قال تعالى: «في اللهِ شَكٍّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ» (إبراهيم: 10).

فالمنهج القرآني غالباً ما يتجنَّب البحث في إثبات وجود الله سبحانه. ولعلّ منشأ ذلك أنَّ معرفة الإنسان بالله تعالى فطرية، ربما حجب-ت عن البروز ببعض المؤشّرات، لكنَّها مسألة لا تفارق الإنسان، وكيف تفارقه وهي مودعة في فطرته ، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ »(الروم: (30).

ص: 52

ويمكن أن يكون المنشأ هو أنَّ إثبات وجود الله تعالى مسألة لا طريق لها إلَّا العقل، وبدون ذلك لا يكون الخطاب الشرعي مؤثراً، فتأثيره متوقف على كونه خطاباً شرعياً، وكونه شرعيّاً غير ثابت ما لم يثبت أصل وجود الشارع وهو أمر ينحصر دليله بالعقل.

لكن الإنصاف أنَّ هذا لا يُشكّل مانعاً من التعرُّض للمسألة ولو على نحو التنبيه وإثارة العقل، وقد تعرّض القرآن لذكر أمور ثبتت بالعقل كوجوب إطاعة الله تعالى، وإطاعة الرسول، وعدم وجود شريك له، وفي إثبات صفاته، والنبوَّة، والإمامة والمعاد، وغير ذلك

ومما يُؤكَّد أنَّ سبب عدم التعرُّض مكرَّراً لإثبات وجود الله تعالى هو وضوح المسألة طريقة طرحها، فقد طُرحت على نحو الاستفهام كما في الآية المتقدمة في سورة إبراهيم، وقوله تعالى:« أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ »(الطور : (35). وكيف كان، فقد أسهبت كُتُب الكلام في بيان البراهين على وجود الذات ونحن نكتفي هنا ببرهان واحد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كُتب المقدَّسة، الكلام، والبرهان الذي سنذكره يُسمّى ببرهان النظم وخلاصته :

لا شكّ في وجود أشياء خارج الذهن البشري نُدركها بأذهاننا، وما يحصل أذهاننا عبارة عن صور ينتزعها الذهن من الواقع الخارجي تحكي عنه، ومن منا لا يُدرك وجود أرض وشمس وقمر وبحار وجبال وغير ذلك كثير؟

ولا شكّ في أنَّ مفردات الكون التي نُدركها خاضعة لقوانين دقيقة، وأنَّ كل ما موجود في الكون خاضع لقانون العليَّة، فما من شيء إلا وله علَّة، وأنَّ الأشياء لا يمكن أن تتحقق خارجاً بدون علتها ، فكلُّ ما في الكون الذي نُدركه لا بدَّ أنْ تكون له علَّة، إذن فعالم المادة الذي أبداننا جزء منه لا بد أن تكون ل-ه علَّة، وعلَّته لا تخرج عن أحد احتمالين:

ص: 53

الأوّل: أنَّ هذه المادة بنفسها أجرت القوانين بكل تفاصيلها على نفسها، فانتهت إلى هذا النظام الذي يبهر العقول والذي لم نكتشف منه إلى الآن إلَّا اليسير. ورغم كل فتوحات العلم ما زال حال الإنسان «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» (الإسراء: 85 ) .

الثاني: أنَّ العلة موجود خارج عن إطار المادة متّصف بالعلم والقدرة متوفّر على الكمال.

والاحتمال الأوّل باطل، لأنَّ دقة القوانين والسُّنَن الحاكمة على الكون وكثرة تفاصيلها كاشفة بما لا يقبل الشكَّ عن أنَّ علَّة العالم على مستوى عالٍ جدًّا من العلم والإدراك والقدرة التي يصعب، بل يعسر تصوّر حدودها وسعتها، فنوع الأثر كاشف عن صفة المؤثر. ولكن المادة صماء عمياء، فكيف أجرت هذه القوانين الدقيقة وبهذا النحو ؟ لا شكّ أنَّها فاقدة لهذه الصفات، فيستحيل أن تكون هي العلَّة للعالم، فلم يبقَ إلَّا أن تكون العلة خارجة عن عالم المادة، وهي التي لم تحط بها عقولنا مباشرة ولم يتعلق الإدراك بها بذاتها، بل من خلال ملاحظة طبيعة آثارها. وكثيراً ما يُدرك وجود أشياء بآثارها كالحب والبغض عند الآخرين، حيث لا طريق إلى إدراك وجودها مباشرةً عند عامة الناس إلا من كُشِفَ له الحجاب، وإنَّما نجزم بوجودهما وانتفائهما من خلال وجود وانتفاء الآثار. ولا مواربة في ذلك ما دامت الملازمة ثابتة. فالعقل حاكم أن وجود أحد المتلازمين كاشف بالضرورة عن وجود الآخر، فذلك مقتضى الملازمة، وأنَّ انتفاء أحدهما يستدعي انتفاء الآخر، هذا عندما يكون المتلازمان متساويين، أمَّا اللازم الأعمّ أو الأخصّص فيجري في كل منهما أحد الحكمين دون الآخر، فبثبوت اللازم الأخصّ يثبت الملزوم ، وانتفاؤه لا يكون كاشفاً عن انتفاء الملزوم، وبانتفاء اللّازم الأعم ينتفي الملزوم، وبثبوته لا يكون كاشفاً عن ثبوت الملزوم.

ص: 54

وتلك العلَّة التي أوجدت عالم المادة لا بدَّ أنْ تكون بنحو لا تكون معلولة لغيرها أو تنتهي إلى ما لا يكون معلولاً لغيره، فإنَّ الوجود لا بدَّ أنْ يقف في المبدأ إلى ما لا يمكن أنْ يُوهَب له الوجود وإلّا وصلنا إلى ما لا نهاية، وهو التسلسل، أو أننا ندور. وكلّ من الدور (الذي هو توقف الشيء على نفسه بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط)، والتسلسل (الذي هو استمرار سلسلة العلل إلى ما لا نهاية) باطل كما ثبت في محلّه ، فلا بدَّ أنْ ينطلق الوجود وتبدأ سلسلة المعاليل من ذات واجبة لذاتها بذاتها لم يوهب لها الوجود من غيرها، وتلك هي المقدَّسة ومبدأ الفيض وعلَّة العلل .

الذات الإلهية لا حد لها

إنَّ الذات الإلهية التي أُقيمت البراهين المتعددة على وجودها تمتاز بكونها صرفة بمعنى أنها لا يحدُّها عدم، فلا حدَّ في الذات، وكل الموجودات سوى الذات المقدَّسة لها حد تنتهي إليه ويتميّز وجودها عن غيره، أي إنَّ كلَّ الموجودات سوى الله تعالى محدودة بالعدم وحدودها العدمية هي التي يُصطلح عليها الماهية ، وما بعد هذا الحد يكون الموجود معدوماً، ووجوده مقتصراً على ما قبل هذا الحد، (على ما في العبارة من تسامح).

والذات المقدَّسة ليس لها ماهيّة، ولا يمكن أن تكون لها ماهيّة، وقد ورد عن الرضا علیه السلام : «ليس له حد ينتهي إلى حدّه، ولا له مثل فيُعرَف بمثله »(1).

سر ذلك أنَّ وجوده تعالى ليس معلولاً لغيره، بل وجوده لذاته بذاته، وما كان هكذا وجوده لا تقبل ذاته حدا، إذ لا يتصوّر لذاته العدم، فلا يفاض الوجود عليه من غيره، وكل ما له ماهيَّة يحتاج لوجود الماهية وتحققها إلى علَّة

ص: 55


1- التوحيد للصدوق (ص 33 ح 1)

والله تعالى ليس له علة، فهو موجود بذاته مستغن بذاته، لا يُفرَض له حد ولا يتصوّر له ذلك، فلا علمه محدود ، ولا قدرته محدودة، ولا سمعه محدود، ولا غير ذلك مما يستلزم الحد، فهو صرف الوجود الذي لا يقبل الحد.

وهذا البيان يحتاج إلى توضيح أكثر نحيل طالبه إلى كُتب الكلام وكُتب الفلسفة في مباحث الإلهيّات بالمعنى الأخص كما يُعبّرون، والتي أسهب بعضها في بيانه، وتوضيحه بما لا يقبل اللبس ، وإنما تعرَّضنا له هنا لأنَّ إثبات التوحيد متوقف على صرفية الوجود.

وحدة الذات الإلهية

احتل التوحيد مكانة مهمة في الشرائع السماوية، حيث إنَّ أتباعها لم يختلفوا كثيراً في صفات الذات الثبوتية، وهي التي مؤداها ثبوت كل كمال لهذه الذات كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك وبأعلى مرتبة وجودية)، وإنما وقع الاختلاف في سلب النقائص عنها كالشريك والجسمية وغير ذلك.

وأهم هذه المسائل نفي الشريك عنه تعالى، حيث أقرّت الديانات المسيحيّة والمجوسية والبوذية والبراهماتية بصفات الله الثبوتية، وإنما اختلفت في مسألة التوحيد - أي نفي الشريك - بشعبه المتعددة.

ولأنَّ هذه المسألة محل خلاف كبير كثرت الآيات القرآنية المتعرضة لها، حيث تجاوزت المائة آية بكثير، وتعرَّضت سورة التوحيد لهذه المسألة ولم تتعرّض لغيرها، وبعض الآيات بينت المسألة من خلال ذكر اللازم: «لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةً إلّا اللهُ لَفَسَدَتا »(الأنبياء : ( 22 ) .

والمهم هو التعرُّض لبرهان من براهين وحدته، وهو مركب من مقدمتين:

1 - الذات المقدَّسة وجودها صرف.

2 – كل ما وجوده صرف لا يتثنى ولا يتكرّر .

ص: 56

وقد بينا بشكل مختصر المقدّمة الأولى، ويبقى الكلام في إثبات الثانية.

إنّ الله تعالى بحكم أنه لا ماهية له وجود صرف، فلا يتطرق إليه التعدّد، لأنَّه مع التعدُّد لا بدَّ من التميز وإلَّا فكيف حصل التعدُّد(1)، والتميز لا يحصل مع وجود غيريَّة فيه، والمفروض أنه وجود صرف خالٍ عن كل مغاير سواه، فلا مميز له عن الثاني، فكلُّ ما نفرضه ثانياً يرجع أولاً، إذ لا حدَّ يُميّز الثاني عن الأول، فيكون الثاني هو الأوَّل، وهكذا.

فلا يمكن أن تتثنّى الذات الإلهية، أي لا يمكن أن يكون عندنا ذاتان مقدستان .

وقد حوت سورة النمل على خمس استفهامات استنكارية تكرّرت في خمس آیات متتالية من (60) - 64) من السورة، هي:

«أَإِلَهُ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمُ يَعْدِلُونَ » (النمل: 60 ) .

«أَإِلَهُ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(النمل: 61).

«أَإِلَهُ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ »(النمل: (62) . )

«أَإِلَهُ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ »(النمل: 63). )

«أَإِلَهُ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »(النمل: 64).

والاستفهامات الاستنكارية تفترض المستفهم عنه واضح الثبوت، وإلا فلا معنى للإنكار.

ولذلك ذكرنا الآيات، إذ ليس من المناسب الاستدلال بالآيات في مثل

ص: 57


1- لكي يتحقق التعدُّد لا بدَّ أنْ يتميّز الأوّل عن الثاني، وإلَّا كيف صار أحدهما أولاً والآخر ثانياً، فلا بد من وجود اختلاف بينهما على أساسه صار هذا أوَّلاً وذاك ثانياً، فالأوّل لا بدَّ أنْ يكون فيه ما هو مفقود في الثاني، والثاني كذلك، أي لا بدَّ من وجود ما به الاشتراك وما به الامتياز، والثاني موجود فيه ما هو غير موجود في الآخر، فالآخر فيه عدم وجود وهو ينافي كونه موجوداً صرفاً

هذا المورد، ولا محذور في الإتيان بالآيات إن كانت واردة في مقام التنبيه ولفت النظر.

التوحيد الربوبي

تبيَّن إلى الآن بشكل مختصر أنَّ علة العالم واحدة، وهي الذات المقدَّسة ولا يمكن أن يكون لهذه الذات شريك في عليَّتها للأشياء، وهذه المسألة يشركنا في الاعتقاد بها حتَّى مشركو الجزيرة، فقد قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله »(القمان (25)، «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ »(الزخرف: 9).

نعم اعتقدت بعض الديانات المبتدعة بوجود مبدأين لهذا العالم، كالزرادشتيين والبراهمة وغيرهم.

والذي كان شائعاً بين الوثنيين الشرك في تدبير الأمور، وهو المعبّر عنه بالشرك في الربوبية.

ومن الأدلة التي تُذكر لإثبات الوحدة في التدبير وحدة النظام، فإنَّ مما لا يقبل الشك وجود الترابط العجيب بين مفردات الكون والأنظمة الحاكمة عليه، وما وقف عليه العلم إلى اليوم من قوانين مع سعته لا يُمثل إلَّا اليسير من الأنظمة المتلائمة المترابطة التي يُحكم بها هذا الكون، ومع كل اكتشاف لقانون جديد يتجلى لنا الترابط العجيب بين مفردات هذا الكون، مما يوصلنا إلى نتيجتين قطعيتين:

الأُولى: أنَّ خالق هذا الكون واحد.

الثانية: أنَّ مدبّر هذا الكون واحد.

«أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (الأعراف: 54 ) .

وقد نفت بعض الآيات القرآنية الشريك في التدبير من خلال نفي اللّازم،

ص: 58

قال تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ »(الأنبياء: (22).

وقال تعالى:« وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ »(المؤمنون: (91).

التوحيد في التشريع

يتفرع على التوحيد في الربوبية والتدبير التوحيد في التشريع، لأنه بعد الفراغ عن أنَّ الله تعالى هو الرب والمدبر للكون ومنه الإنسان، فلا وجه لأن يسود أي شخص على آخر، وقد نُقِلَ عن الكاتب الروسي (ديستوفسكي): إنّ-ا إذا لم نقل بواجب الوجود، فكلُّ شيء جائز، إذ أنَّ الناس سواسية، والتشريع ملازم لتقييد المشرع له، سواء كان فرداً أم مجتمعاً، مضافاً إلى أنَّ التشريع يعني - في ضمن ما يعني - أن تسنَّ القوانين الجزائيَّة التي تعني المعاقبة على المخالفة أو العصيان. وهذا يعني وجود ولاية للمشرع على المشرع له، ولا ولاية على الأفراد لله تعالى، وهذا يعني أنَّه لا مفر من الالتزام بأنَّ حقّ التشريع لا يثبت أصالةً إلَّا الله تعالى، وأما المعصومون بما فيهم الأنبياء فوظيفتهم بيان الأحكام التي نزلت من الشارع المقدَّس، ووظيفة الفقهاء تشخيص ما أراده الشارع والسير على طبقه، ومن نظر إليهم باعتبارهم مشرعين يكون قد أشرك في التشريع،

«اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة: (31).

نعم ربَّما أعطى الله تعالى بعض عباده المكرمين حقا بأنْ يُشرع بعض الأحكام، وذلك لا ينافي التوحيد في التشريع، لأنَّ حقَّ التشريع الثابت للأولياء ليس حقا أصيلاً وبالذات فالحق بالذات ليس إلا الله تعالى، ولا يسوغ الحكم بغير حكم الله تعالى،« وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (المائدة: 44).

ص: 59

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » (المائدة: 45 ) .

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » (المائدة: 47 ) .

وعلى هذا فالعقل حاكم بأنَّه لا حق لأحد في تشريع الأحكام إلَّا الله تعالى، والإنسان بحكم عبوديته الله تعالى ملزم بالإذعان والتسليم لحكمه والانقياد له في مقام العمل والتطبيق، فإذا ثبت تشريعه في مورد ما حكماً معينا وجب علينا القبول به، ولا يجوز لنا الرد عليه مهما كان ذلك الحكم، ولو تعلّق بعبودية فرد الفرد، دون حاجة إلى الرجوع لمصالح ذلك الحكم ومفاسد تركه.

وما يجري في المجالس النيابية في الدول التي تريد تطبيق الشريعة عبارة عن تشخيص المصالح في موارد خاصة، وعلى أساسها تُطبق بعض القوانين، لا أنّها بصدد الحكم بحكم مغاير للشريعة، لا أقل أنَّ هذه وظيفتها من الناحية النظرية وإن خالفتها عملاً في بعض الحالات.

ويرجع قسم منها إلى تشريعات في مساحات الفراغ التي تركت الشريعة سنَّ القوانين فيها، لأنّها شأن عقلائي تنتفي الحاجة لإعمال الشارع ولايته التشريعية عليها، وتركت التحديدات التفصيلية لصاحب الشأن، فالأب هو الذي يُحدّد بعض جزئيّات حدود مساحة تحرك أولاده، وربُّ العمل أيضاً له ذلك، ومسؤولو الأحزاب ورؤساء الدوائر يُحدّدون ملامح النظام الداخلي ضمن دائرة مسؤوليتهم، ومجالس النوّاب وجهات التشريع أيضاً تفعل ذلك.

وعدم وجود تلك التشريعات في الشريعة لا يعني بالضرورة أن مثل هذه التشريعات مخالفة للشريعة، نعم الشريعة لها محدّدات عامة وعلى الناس أن لا يتجاوزوها.

إلى هنا انتهينا إلى أنَّ حقّ التشريع لا يثبت أصالةً إِلَّا الله تعالى، لأنَّه هو المدبر لأمر الكون لا يقع شيء فيه إلا بإذنه تكويناً، وما لم يشأ لا يمكن أن يجد له

ص: 60

محلًّا في صفحة الوجود، وقد اقتضت حكمته أن يجعل لعباده شيئاً من الاختيار وإعمال الإرادة، واقتضت حكمته أن تكون درجة الإنسان في الوجود اللامتناهي زماناً بعد البعث مترتبة على الطريق الذي يختاره، بل كلُّ المكلفين بما فيهم عالم الجن في الدنيا.

وبعد توضيح معالم الطريق الذي يوصل إلى السعادة والكمال بواسطة الأنبياء وإيجاد كلَّ ما يُقرّب من الطاعة وحسن اختيار الطريق ويُبعد عن المعصية وسبيل الضلال، صار الإنسان ملزماً بالتحرُّك في الطريق الذي حدده له مالك الأمر برمته ومدبّر الدنيا بأكملها، ولا يوجد أي موجود سواه له حقّ الإطاعة بالذات إلا هو، نعم قد يأمرنا بإطاعة آمر غيره كما في الآباء والأمهات والأزواج، حيث أثبت لهم حق الطاعة ضمن دائرة ضيقة، لكنه ليس حقاً ثابتاً لهم بالذات، بل هو في طول حقٌّ الطاعة الثابت الله تعالى ومتفرّع عليه .

ومن هنا صار الإنسان ملزماً بسلوك طريق الحقِّ لا غيره« فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» (يونس: (32). والتشريعات الإلهيَّة كاملة تُشكّل معالم الطريق، ولا يملك أحد حقّ تشريع في مقابل تشريعات الله تعالى، ومن تصدّى لمثل ذلك فقد نصب نفسه شريكاً له تعالى في تشريعه ولو كان التشريع لنفسه.

وعلى هذا فإنَّه متى ما ثبت أنَّ الله تعالى شرع حكماً ما كان علينا التسليم به والإتيان بما لا يخالفه في مقام العمل، فالمشكلة عند المتشرع تقف على تحديد الحكم وإثبات تشريعه من الله تعالى من الناحية النظرية، فلا يبقى عليه إلَّا التطبيق عملاً لو اقتضى الحكم تصرُّفاً عملياً.

ولما ثبت أنَّ الشارع المقدَّس قد جعل الرقّ تشريعاً وجعل له دائرة تسبيب ضيقة، فما علينا إلا الإذعان بذلك، والإنكار على حكم من هذا القبيل

ص: 61

بعد ثبوته ملازم لإنكار حقٌّ التشريع الذي ملكه الله تعالى بذاته بما هو مدبّر وحيد لهذا الكون، وفي ذلك رد على الله تبارك وتعالى - أعاذنا الله وسائر المؤمنين من ذلك -

***

ص: 62

الفصل الثالث: جهات الخلط في البحث

اشارة

ص: 63

*اختلاف المبنى يمنع الإشكال على البناء.

*ازدواجية المعايير.

*حمل مساوئ التطبيق على النظرية.

* تطبيق المعصوم يُمثل واقع نظرية الإسلام.

*النظر للحكم الشرعي بمنظار الحكم الجزائي محضاً.

*التكوين يدعم التشريع.

*الأصل في كل ما نواجهه هو الابتلاء.

*موارد في التشريع والتكوين يتوهم منها الظلم.

* دفع محذور الظلم.

*الحكمة الداعية للتشريع في الموارد الموهمة للظلم .

*الانطلاق من الأحكام الوضعية للإيراد على الأحكام الإلهية.

*اختلاف القوانين الإلهية عن الوضعية.

* تحميل الحكم سلبيات أحكام مشابهة.

*النظر التجزيئي للأحكام.

ص: 64

كثيراً ما يقع الخلط في المسائل الفكريَّة خطاً أو تعمداً، ونتيجة ذلك انحراف المجتمع أو القارئ عما تقتضيه المبررات الموضوعية من اعتقاد، فيقع في الاعتقاد الخاطئ أو يبتعد عن الاعتقاد الحقِّ.

وقد ابتلي الإسلام كمنهج عام للحياة بتدليس أعدائه وتقصير أتباعه، فتسبب ذلك في سَلِّ سيف البغي والتهجم عليه. ولا أعتقد أنَّ الباغي غافل عمّا يفعله من خلط أوراق، وإنَّما هو أمر دُبر بليل. وهم يجرون عليه كطريقة خُطّط لها بدقة، ودُرِسَت بشكل معمق، ورُسِمت خطوطها العامة بتأن كبير، من أشخاص أو جهات مارست التدليس كمهنة، واللعب بعقول الناس لقرون متمادية، وامتهنت النفاق والدجل حتى صار خُلقاً عاما لها.

وكثيراً ما أعطى الأتباع معاول التهديم للأعداء جاهزة، والأحمق يريد أن ينفع فيضر ، ومن أعوزته المعرفة كان قوله في مضمارها شططاً، ومن فاتته أدواتها أتى من القول بدعاً .

كعشواء قامت للحصاد بليلها ***فتخبط غثا تارةً وسميناً

ولعمري إنَّ ما أتى الإسلام من سوء فعال وأقوال أبنائه ومنتحليه أعظم من كثير مما أتى به أعداؤه.

فالأشاعرة أرادوا أن يحفظوا التوحيد إذ الله خالق كل شيء، فنسبوا الله كل قبيح، والمعتزلة أرادوا صيانة ساحة الحقِّ من القبائح والظلم فصاروا أسوأ من الثنوية، إذ إنَّهم وصلوا إلى التعدُّد في الخالقيَّة، فأفعالنا مخلوقة لنا -وفق معتقدهم ولا ربط لها بالله تعالى -، وهذا يعني تعدّد الخالقين بعدد الفاعلين المختارين.

ص: 65

والصدمة التي وجهتها التيّارات السلفية الجهاديَّة لصورة الإسلام العظيم أكثر بكثير في آثارها مما تركته حروب الكُفَّار على الدِّين، وأسوأ الآثار في ذلك أنَّ عظمة الدين في نفوس العديد من الأتباع قد اهتزت، والحمد لله أن بدائل الفكر والإيدولوجيات مليئة بالهنات والثغرات ولكن من يريد أن يطعن يُركّز على ما يمكن أنْ يُقنعك بأنَّه ثغرة في الفكر والمعتقد، وليس مهما عنده أنْ يجد ما هو أسوأ منها في بدائله.

ولا أقل من افتعال الضوضاء الذي قد يمنع من الإصغاء إلى حقّ القول، وتلك طريقة حفظها القرآن عن الكُفَّار في عصر صدر الرسالة.

« وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهِذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » (فصلت: (26).

ومسألتنا التي نحن بصدد بيان واقع الحال فيها لم تخرج عن ذلك، حيث وقعت فيها جهات خلط متعددة. وقد رأيت أنَّ من الضروري تسليط الضوء على هذه الجهات، لتكون النتيجة التي يُراد الوصول إليها أقرب إلى ما تقتضيه الموضوعية في البحث وتتمثل هذه الجهات ب-:

أولاً: اختلاف المبنى يمنع الإشكال على البناء

إن طبيعة التفكير البشري عبارة عن الاستفادة من معلومة أو معلومات للوصول إلى معرفة ما كان مجهولاً قبل عملية التفكير. فالتفكير عبارة عن الانطلاق من المعلوم إلى المجهول. ولا يحصل ذلك إلا من خلال ترتيب المقدّمات واحدة على الأُخرى بأقيسة منطقيَّة. فهو استفادة من المقدمات التي ليست إلّا معلومات ظهرت أثناء التفكير (معلومات وسطية) أو معلومات هي كانت ظاهرةً لنا قبل عمليّة التفكير (معلومات أوَّليَّة).

ص: 66

وبعض هذه المعلومات تحظى بمنزلة الأساس الذي يتّخذ البناء شكله من خلالها. وكلَّ معلومة تُعتبر أساساً بالنسبة للمعلومات المترتبة عليها والمتفرعة منها .

و اختلاف المعلومات الأساسيَّة يُؤدّي إلى اختلاف المعلومات المتفرّعة عليها. ولا يمكن تجريد المعلومة الفرعيَّة عن الأساسية ليُناقش في صحتها دون النظر إلى تلك الأساسة.

ويُسمّى الاختلاف في المعلومة الفرعية بالاختلاف البنائي، والاختلاف في المعلومة الأساسيَّة بالاختلاف المبنائي.

وعلى أية حال، وكيف كان، فإن بعض الاختلافات البنائية قد تتفرع على الاختلافات المبنائيَّة، وعلى هذا فلا مجال للإشكال على البناء دون ملاحظة المبنى، أو مع البناء على مبنى آخر. نعم يجوز مناقشة المبنى الآخر لو كان للمناقشة والإيراد مجال.

وهذا ما حصل في مسألة الرقّ، حيث إنَّ الإشكال عند المشكلين لم يُلحظ معه أصل الحكم بالرقّ ومنطلقه ومبناه، بل ربما انطلق بعضهم في إشكاله من عدم انسجام مثل هذا الحكم مع ما تقول به الحضارة الغربية وما قامت عليه، لا على أساس التوحيد في التشريع الذي هو الأصل في التزامنا بهذا الحكم وغيره من الأحكام.

إنَّ من أقرَّ بالعبودية لله تعالى اعتماداً على أدلَّة قطعية واتَّبع ديناً إلهيا خاصا يقول بحقِّ التشريع الثابت الله تعالى على عباده، وأنَّ عليهم أنْ يُطيعوه فيما شرّع لهم من أحكام، ويتَّبعوا ما سنَّ من السُّنَن ويعتقدوا بالرؤية الكونية في ذلك الدين، لا يجوز الإشكال عليه إذا عمل بتشريع في شريعته أو التزم به نظريا - من هذه الجهة - ممن لا يعتقد بهذه الشريعة اعتماداً على ما بنى عليه المشكل من عدم اعتقاد بهذا المبدأ والدين السماوي.

ص: 67

نعم ربَّما أمكن الإشكال في مثل هذه الحالة إذا كان المعتقد بدين يقول بقاعدة معيّنة في دينه وفعله أو معتقده الجزئي الذي هو محل الإيراد لا ينسجم مع تلك القاعدة، فيقال: إنَّ هذا البناء لا ينسجم مع المبنى الذي يقول به.

فالإشكال على البناء ليس له وجه وجيه إلا من جهة عدم مناسبته مع المبنى الذي اعتقد به المشكل عليه. وعلى هذا فلا وجه لقصر النظر على بعض أحكام الشريعة الإسلامية إذا كانت منسجمة مع ما تقول به من قواعد وتقره من قوانين، ولا توجيه الطعون إليها لمجرَّد مخالفتها لما عليه أصحاب المذاهب الفكريَّة الأُخرى. ولا يجوز لتابع شريعة ما معتقد بها أن يشكل على مفردة من الأحكام الواردة فيها أو الاعتقادات انسجامها مع الخطوط العامة للمعتقد مع في تلك الشريعة. إلَّا إذا كان تساؤله في حدود البحث عن الحكمة في الحكم أو جهة المناسبة مع متبنيات تلك الشريعة.

ونحن نعتقد بأنَّ حق التشريع يختص بالله تعالى بالذات، وأنَّ ذلك يُمثل جهة من جهات التوحيد التي لا بد للمسلم من الاعتقاد بها، وبدون ذلك يصبح مشركاً. ومن هنا وصف القرآن من أطاع غير الله في تشريع من نفسه أنه متَّخذ ربًّا من دون الله تعالى، ولو كان التشريع يُمثل حكماً دينيًّا.

«اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة: 31). فالأحبار والرهبان وإنْ كانوا يُمثّلون علماء الدين الذين كان يُفترض فيهم أنْ يُبينوا أحكام الله تعالى، إلَّا أنّهم حين بينوا أحكاماً من أنفسهم جعلوا أنفسهم بمنزلة الشريك الله تعالى في التشريع. ومن أخذ منهم من غير جهة حكايتهم عن الله تعالى كان مشركاً في جهة التشريع، وهو ما استوجب أشدّ الإنكار من الله تعالى، وأيَّة دعوى أعظم من أنْ يُجعَل شخص شريكاً لله تعالى؟

وفي الخبر الصحيح عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول

ص: 68

الله عزوجل : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ»، فقال: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرَّموا عليهم حلالاً ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون )(1) .

وفي (مجمع البيان): وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، ثمّ انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية:« اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً »، حتى فرغ منها، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: «أليس يُحرمون ما أحل الله فتُحرمونه، ويحلُّون ما حرم الله فتستحلونه؟»، قال فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم )(2) .

وهناك بعض آخر من الأخبار في هذا المورد رواها الحويزي في (نور الثقلين)(3).

ولا يجوز الاكتفاء ببعض جهات التوحيد، وإلا فإنَّ كُفَّار مكة كانوا موحدين في الخالقيَّة كماتقدم.وتوحيدهم هذا لم يُغير شيئاً من حقيقة استحقاقهم الخلود في النار، وجواز القتل عليهم إن لم يدخلوا في الدين الإسلامي، وغير ذلك من الأحكام التي تترتب على الكفر.

ونحن نعتقد بأنَّ الله تعالى مالك لنا ولكلِّ شيء في عالم الخليقة على نحو الحقيقة لا الاعتبار، وأنَّ كلَّ شؤوننا قائمة به تعالى، فهو الملك الحقِّ، ولا ملكيّة حقيقيَّة إلَّا له تعالى، وأنَّ غيره إذا مَلَك فبشكل اعتباري غير حقيقي، إذ لا توجد رابطة حقيقية بين المالكين سواه وبين ما ملكوا ، وإنّما هو نوع اعتبار اعتبره

ص: 69


1- الكافي ج 2 ص 398 باب الشرك/ ح 7)
2- مجمع البيان ج 5 ص 43 و 44
3- راجع نور الثقلين (ج2 /ص 209

العقلاء فمن اشترى سلعةً من غيره يتسلط على التصرُّف فيها بما شاء لا ينشأ بينه وبينها ارتباط إلا في حدود الاعتبار. وعلى هذا الارتباط ساغ له التصرف فيما مَلَكَ. فكيف لا يسوغ للمولى (جل وعلا) أن يتصرف فيمن هو مملوك بجميع شؤونه له، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟

إنَّ البشر عبيد الله تعالى بكل معنى الكلمة، وعبوديتهم ليست في حدود الاعتبار، بل هي عبوديَّة حقيقية، لأنَّ مالكيَّته لهم حقيقية. ومن هنا كان عليهم الاعتقاد بتشريعاته، بل والالتزام بها وامتثالها. ومن أذعن بوجود الله تعالى ووحده واعتقد بنبوة النبي الأكرم صلی الله وآله وجب عليه التسليم بما جاء به عن ربه وإِنْ اشمأزت منه نفسه استغراباً وتعجباً ما دام قد اعتقد بحقِّ المشرع في ذلك وأيقن بصدق المبلغ.

وليس رضا النفس أو اشمئزازها دليلاً على صحة ما رضيت به وبطلان ما اشمأزت منه، فإنَّ رضاها واشمئزازها ناشئ من إدراكها للمناسبة وعدم المناسبة، ولا يتيسر لها في جُلَّ الموارد أنْ تُدرِك الأمور بنحو تحيط بجميع شؤونها.

وما دام الإدراك ناقصاً أو محتمل النقصان، فلا يترتب أي أثر على الرضا والاشمئزاز.

هذا مضافاً إلى أنَّ رغبة النفس وإرادتها ونفرتها وكراهتها ليست ميزاناً فَض أو تُقبَل الأشياء على أساسه،وإدراك المناسبة وعدم المناسبة ليس إلا بعض مقدّمات الالتزام فعلاً أو تركاً، فنزعات النفس ليست ناشئة من مدركاتها ولا مرهونة بها، فحبُّها وبغضها الباعث نحو الإقدام أو الإحجام له مناشئه الخاصة، وقد لا تلتفت إليها النفس في وقت تعيش الرغبة أو النفرة من الأشياء وبها.

ص: 70

وعلى هذا لا يسوغ لخارج عن الشريعة أن يشكل علينا في حكم خاص علماً أنَّه منسجم تمام الانسجام مع القواعد التي نعتقد بها والتي ننطلق منها للتعامل مع الأحكام الواردة في الشريعة لمجرَّد أنَّه لم يستسغه، فاستساغته له وعدمها مبنيّة على الأسس التي يعتقد هو بها، والتي لا نرى صحتها، والأُسس التي نقول بها لا تنافي هذا الحكم، فلا وجه لإشكاله من الناحية المنطقية من هذه الجهة. وليس إشكاله هذا زائداً على إشكاله - لو كان - على أصل المعتقد. وعندئذٍ لا بد من الاقتصار وفي مقام المحاججة معه على أصول المعتقد، وقد تقدم شيء مختصر عن ذلك.

ونضيف إلى ذلك كله أننا نعتقد بحكمة الله تعالى، وأنه لا يعبث بخلقه ولا يتَّخذ منهم لهواً، ولا يمكن ذلك، لأنه يستلزم الحاجة تعالى عنها علوا كبيراً. «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لا تَخَدْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ »(الأنبياء : (17).

وبدون ذلك المحذور لا يتَّخذ الله لهوا ولو كان من لدنه، و (لو) حرف امتناع لامتناع يمتنع جزاؤها لامتناع شرطها، فالآية تدل على امتناع اتخاذ اللهومن الله تعالى، وتلك القاعدة تشمل كل أفعاله وتشريعاته، فما من حكم إلا وفيه حكمة، والحكمة عادة ما تكون هي المصلحة الداعية إلى تشريعه إن كان وجوباً أو استحباباً، ودفع المفسدة في متعلقه إن كان حرمة أو كراهة. وكل منهما تعود على المكلفين. نعم هذا ما يعتقده مشهور العدلية المتمثلين بالشيعة والمعتزلة من العامة.

ولا يتوقف اعتقادنا الكلّي هذا على معرفة الحكمة بخصوصها في الموارد الجزئية، وإنَّما هي قضيَّة كلّيَّة لها مدركها ودليلها الخاص، وليست مستقاة من بعض الموارد الجزئية.

فنحن نعتقد بأنَّه ما من حكم إلا وهو مطابق للحكمة، وأنَّ الحكمة صفة

ص: 71

الله تعالى تحيط بأفعاله كلها وتشريعاته، حيث لا مجال لفعل أو تشريع بدون حكمة. ويكفينا لانقياد النفوس لأحكامه تعالى علمنا الإجمالي بالحكمة وإن لم يُشخّص وجهها. ولا يجب علينا استظهار وجه الحكمة أو تشخيصه، نعم لا تُنكِر أنَّ تشخيصها أدعى لامتثال الأحكام ورفع الشبهة ودرء الشكوك عنها.

بل لا نحتاج إلى علم بالحكمة الداعية للتشريع والتي يُلتزم أنَّها ثابتة في متعلقاتها، فلو جزمنا صدور أمر لمجرد الاختبار أو كما قيل : كانت المصلحة الداعية إلى جعله متعلّقة بنفس الجعل، لوجب علينا امتثاله تجسيداً للعبودية ورعاية لحق المولوية.

والحكم بوجوب الإطاعة لأوامر المولى حكم عقلي ليس من موضوعه وجود مصلحة في متعلقه، وليس للعقل حكم بضرورة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد التي في متعلقاتها، وإنَّما هو أمر له دليله الخاص عند القائل به (1).

وعلى هذا لا يسوغ للغير أن يطالبنا ببيان وجه الحكمة في أحكام الله تبارك وتعالى، حيث لم ندع يوماً أنَّنا نعرف الحكمة في كل أحكام الله تعالى، وليس

ص: 72


1- إذ قد يلوح من قوله تعالى: «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ »(الأنفال: (24) ، إذ الآية فرضت أنَّ ما يدعونا إليه الدِّين فيه إحياء لنا وبتعبير آخر يُحقق لنا المصالح ويجنبها المفاسد، ولكن الاستدلال هذا غير تام، لأنَّ الآية ليست ظاهرة فيه، فإن إحياء الإنسان إنّما هو بإخراجه من مهبط الفناء والبوار كما يقول صاحب الميزان، فدعوة النبي صلی الله علیه وآله تحفظ للفرد حياته الروحية التي هي حقيقة وجوده. نعم، المتتبع في موارد الروايات التي تحدثت عن الحكم أو العلل في الأحكام الشرعية قد يصل إلى الجزم بتبعيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد التي في متعلقاتها، فمن جهة تنوّعت موارد الأحكام التي تعرّضت لها الروايات ومن جهة أخرى إنّ المعصومين عليهم السلام كانوا دائماً يجيبون عن السؤال المتعلق بتحديد الحكمة من التشريع دون أيَّة مفردة تنبيه أو لفت نظر للسائل، وكأنَّ الأئمة علیهم السلام يُقررون للسائل ما كان مبعثاً لسؤاله، وهو ضرورة وجود حكمة داعية للتشريع.

تشخيصها من وظيفة المشرع له ، وإنَّما يحتاج إليها نفس المشرع ليُشرع على أساسها أحكامه، ولا يحتاج المشرع له أكثر من معرفة التشريعات نفسها ليمتثلها، وأحكام الله تعالى واجبة الامتثال وإن لم نقل بموافقتها للحكمة التي في متعلّقها، لأنَّه هو المالك الحقُّ الذي ثبت له دون غيره حقٌّ التشريع.

إِنَّ اختلاف المنطلق الفكري للعلماني أو للمدعي اتِّباع دين آخر عن المنطلق الفكري للمسلم المبتني على التوحيد في كل جوانبه بما فيها التشريع، يجعل إشكاله في الموارد الجزئية للأحكام في غير محله. نعم له التساؤل وإيراد الشبهات والمطالبة بالأدلة في حدود أصل المنطلق، وعندئذ يكون الجواب مختلفاً، والباب مختلفاً، وأدلتنا هناك عديدة كافية وافية شافية.

إنَّ اعتقادنا بأحكام الرقّ وملكيَّة الإنسان قد نتج عن اعتقادنا بحق التشريع الثابت الله تعالى بعد اعتقادنا بالتوحيد، وعن يقيننا ببعثة النبي الأكرم وصدقه في دعوى النبوَّة، وعدم احتمال الاشتباه في التبليغ لأحكام الله تعالى، أي اعتقادنا بعصمته. وقد جاء فيما جاء في الكتاب المنزل على قلب النبي صلی الله علیه وآله أحكام تقرُّ حكم العبودية وتُمضيه ضمن دائرة أسباب محدودة، وثبتت حقوق محدودة على المملوك.

وعلى هذا فالعبودية كتشريع حكم صدر من أهله ووقع في محله، وهو مطابق للحكمة جزماً وفق مبنى المشهور، شأنه شأن بقيَّة أحكام الله تعالى. وإنَّ المصلحة التي دعت إلى تشريعه تعود إلى العباد لا إلى الله تعالى لأنّه الغني المطلق. وذلك يكفينا لمنع الإيراد من هذه الناحية، ولسنا ملزمين ببيان وجه الحكمة بشكل مفصل، وإنْ كنّا سنتعرض إلى بعض وجوهها. وعلى هذا فالإشكال على ديننا من هذه الناحية لا وجه له ولا يكون زائداً على الإشكال على أصل الدِّين والمعتقد الذي له إجاباته الخاصة.

ص: 73

ثانياً: ازدواجية المعايير:

بعد إقرارنا بوجود الله تعالى واعتقادنا الجازم بتدبيره لأمرنا يكون استغراب واستهجان تقييد حُرّيَّة الفرد مراعاة لحقِّ الواحد القهار وقيوم السماوات والأرض من أعجب الأمور بعد إقرارنا بضرورة تقييد الحُرِّيَّة رعايةً لحق أمثالنا من البشر، فما من مجتمع يقبل أن تُطلق يد الفرد ليفعل ما يحلو له ويقول ما يحلو له بحق أبناء نوعه، وصارت موازين التمدن والتحضّر مرتبطة إلى حد بعيد بهذا الجانب، فكلما كثر الاهتمام بحقوق الأفراد وسعى القانون للحفاظ عليها وُصِفَ بأنَّه قانون متحضّر ، والأمة التي تُطبقه بأنّها متحضّرة متقدمة، وليس في ذلك مشكلة عندنا، إلَّا أنَّ المشكلة في عدم إجراء هذه المعايير مع الله تعالى، أليس ذلك من ضياع الموازين؟

إنَّ إقرار القوانين التي تحفظ حقوق أبناء النوع وإنكار حقٌّ خالق الأنواع أو ترك مراعاة حقه تعالى لا يناسب إلا المنكر لوجوده تعالى والكُفَّار، وأمَّا الالتزام بعدم التضييق على العباد فيما يرجع إلى حفظ حقه تعالى مع الإقرار بالتوحيد وما يرجع إليه فهو في غاية التنافر وعدم الانسجام.

وعلى هذا فالتزامنا بتحديد الحُرّيَّة الفرديّة رعايةً لحق الله تعالى أولى من التزامنا بتحديد الحُرّيَّة الفرديَّة رعايةً لحقوق الآخرين من أفراد النوع الإنساني.

والعجيب أنّ بعض المنتقدين لاعتقادنا بذلك يرون ثبوت الحقوق حتّى للحيوانات في الطبيعة ويسعون لاستصدار قوانين لحماية تلك الحيوانات أو الأعمّ تحت عنوان الطبيعة، ولا شبهة في أنَّ القوانين التي صدرت في هذا الاتجاه والتي يطالب بصدورها تحدُّ من حُرِّيَّة الأفراد، وهل بعد ذلك عجب؟ فالإنسان له حقٌّ يُحدّد قانوناً حُرّيَّة الآخرين، والحيوانات لها حقٌّ يُحدِّد حُرِّيَّة الآخرين، والله تعالى ليس له حقّ تُحدد لأجل الحفاظ عليه حُرّيّات الأفراد اقض عجباً !

ص: 74

وما تقدَّم يتبيَّن أنَّ الإقرار بوجود الله تعالى وتدبيره لأمرنا وقيوميته بعد ثبوت خالقيته يجعل حقَّ التشريع منحصراً به، وإن كان من مفرداته سلب كامل حُرّياتنا، فملكيته لنا ولجميع شؤوننا حقيقية.

إنَّ مالكيَّته تعالى الحقيقيَّة لنا تحصر حق الطاعة به تعالى ولو لم يكن في تشريعاته مصلحة لنا، فكيف وكل تشريعاته مطابقة للحكمة المنبثقة من إحاطته بالمصالح والمفاسد التي ترجع إلى العباد؟

ولا يسوغ حينئذ الإشكال على معتقد ذلك بالقول: إنَّ ذلك مستلزم لتحديد الحُرِّيَّة الشخصيَّة، لأنَّ المنطلق الفكري للمعتقد بالتحديد من هذه الناحية والأساس الذي تفرّعت وبنيت عليه هذه الأحكام ونظائرها مختلف عن المنطلق الذي ينطلق منه الكافر الذي لا يعتقد بوجود الله تعالى، أو يعتقد بوجوده وخالقيَّته ولا يعتقد بانبساط يده على الكون، وأنَّه قد غُلَّت يده - تعالى عن ذلك علوا كبيراً - ، «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا »(المائدة: 64).

فالإشكال هنا بنائي مع أنَّ المبنى والمنطلق مختلف، وقد تقدم أنَّ الإشكال البنائي لا وجه له ممن يختلف في المبنى، إلَّا إذا كان البناء غير منسجم مع المبنى ومخالفاً لبعض قواعده، وهنا نقول مرَّةً أخرى: إنَّه يلزم أن يرجع البحث إلى علم الكلام.

ثالثاً: حمل المساوئ في التطبيق على النظرية

تقدَّم أنَّ الإسلام ابتلي بتقصير الأتباع وتدليس الأعداء، أما تقصير الأتباع فيتجلّى في ابتعادهم في جهة العمل والتطبيق عمَّما جاءت به الشريعة الغراء من المفاهيم ،والأحكام وشتّان بين ما رسمته الشريعة لنا من المنهج وطريقة الحياة المفترضة وبين ما عليه الأمة وأتباع هذه الشريعة.

ص: 75

وجهة التقصير الأخرى عند الأتباع أنهم لم يستوعبوا ما جاءت به الشريعة، ولم يبذلوا الوسع في مقاربة حقيقة الدِّين ورؤاه معتقداً وأخلاقاً وتشريعات، واتَّخذوا صورة مشوّهة للدِّين وبنوا عليها، بل وعرضوها على أنها هي حقيقته لا غير.

وقد تسبب ذلك في التهجم على الإسلام واتهامه بشتى التهم من الظلم والإجحاف والرجعيّة والتاريخية وأنَّه من وضع البشر، وكل ذلك بشكل غير موضوعي.

فقد نهتنا الشريعة أشد النهي عن الغيبة مثلاً ، وصوّرتها بصورة أكل لحم الأخ الميت، وعلمنا ذلك منها بشكل جلي لا لبس فيه، ومع ذلك الوضوح لا زالت ألسنتنا تقضم أعراض الناس وتنهش لحومهم.

وحرمت الشريعة تبرُّج النساء، وترك الحجاب بأشدّ الألسنة، وتوعدت فاعل ذلك بالعذاب الأليم، ومع ذلك فإنَّ شعوبنا تعتقد بالإسلام ديناً وهي تُخرِج بناتها ونساءها سافرة متبرجة .

وغير ذلك من الأمثلة.

ومن رأى في سلوك الأُمَّة هذا ونظائره إشكالاً فلا ينبغي له أنْ يُوجه إشكاله إلى الإسلام، ليس الخلل في الإسلام وإنما في حملته وهم المسلمون، وليس من المنطق أن ننتقد فكراً ونحاسبه اعتماداً على سلوكيَّة لمتبنّيه، إلَّا إذا كان ذلك الفكر سهيماً في خلق هذه السلوكية ،وإيجادها، أو أنّه يأذن بها، أو أنَّ تعاليمه كانت بعيدة عن حاجات البشر وفيها ضرب من المثالية يعجز أتباعه عن امتثال أوامره واتباع تعليماته، وكلّها غير موجودة في الإسلام.

لقد شُنّت علينا هجمات إعلامية كبيرة لتبني الإسلام لمسألة الرقّ والعبوديّة، وكان أحد منطلقاتهم سيرة بعض المسلمين وطريقة تعاطيهم مع هذه

ص: 76

المسألة، فالأغلب ممَّن مَلَكَ الرقاب لم يكن يتّبع تعاليم الإسلام في هذا الأمر، كما أنَّه لا يتّبعها في غيره، وهل سوّغنا لأنفسنا أن نمس الدين المسيحي بسوء مع انَّ أتباعه لا زالوا يرتكبون الفظائع بحق الشعوب وبحق أنفسهم؟ وهل تعرضنا له بنقد وشبهة مع تخلق معتنقيه بأنانية مقيتة دعت الآباء إلى اقتناء القطط والكلاب عوضاً عن تحمُّل أعباء الإنجاب والتربية على ما في ذلك من مخالفة للميول الفطريّة عند الإنسان؟ وهل نظرنا إليه بعين الإشكال حين ادَّعى معتنقوه أنّهم يرتكبون ما شاؤوا دون عقاب لأنَّ المسيح قد فداهم؟

وهل تحاملنا على النصرانية لأنَّ أتباعها قالوا: إنَّ الله ثالث ثلاثة؟ وهل أجزنا لأنفسنا أن نطعن بالدين اليهودي لأنَّ أبناءه ادعوا أنهم أنصار الله وأحبّاؤه؟ وهل أوردنا على سماويته حين قالوا: إِنَّ عُزيراً ابن الله ؟

لا زال أبناؤنا يُذبحون، وما برحت أراضينا تُنتهك وتُسلَب، وخيراتنا تُنهَب، وكرامتنا تُهدَر، ومجتمعاتنا تنخر بمؤامرات اليهود والنصارى وبمباشرة منهم أو بتسخير لأذنابهم دون أنْ يُشكّل ذلك أيَّة مثلبة في نفوسنا عليهم، ولا منقصة فيهم من جهة كونهم يهوداً أو نصارى ولا مغمزة في أصل ديانتهم، ومنطق القرآن دليلنا وهادينا.

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ » (البقرة: 285 ) .

«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَمَا أُنْزِلَ إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »(البقرة: 136).

«قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (آل عمران: (84 ).

ص: 77

«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ» (المائدة: 59).

وما أجمل قوله تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلَهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (العنكبوت: (46) .

ولو أراد القرآن الذم أو الطعن فإنَّه يطعن بأفراد الأُمَّة لا بدينها:

«وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » (التوبة: 30).

«یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ »(التوبة : 34 ) .

إنَّ المتتبع لسلوكيات أتباع الديانات الأخرى، بل والإيدولوجيات ولو لم تكن سماوية المنشأ يجد الكثير من المفردات التي يستحق أن ينتقد أصحابها، بل والكثير التي تشمئر منها النفوس، ولكن لا تجد مفكّراً إسلامياً واحداً ينتقد نفس تلك الديانات ولا يحمل خطايا الأتباع على كاهل أديانهم ما لم يكن منشؤها دينيًا أو مجوّزها كذلك. ولا نجد أحداً من الكتاب الإسلاميين يتحامل على الدين المسيحي (وهو أكبر الأديان السماوية من حيث الأتباع) لسوء أتباعه، نعم قد نحمل على ما يعتقد به البعض أنه دين إلهي مفترياً بذلك على الله تعالى وعلى نبيه عيسى علیه السلام ، ولو كان فاعله راهب بمستوى البابا.

وقد تجنّت الكنائس ورهبانها على الدين المسيحي بأكبر الجرائم، ومنها مسألة صكوك الغفران وتجويز بعضها نكاح الذكور من الذكور، وهو من أبشع الأفعال، وتشريعه أشدّ بشاعةً منه، ولم نتعرض ولو بشيء يسير إلى أصل الديانة أو رسولها، فلماذا هذا التجنّي علينا ؟

ص: 78

وعلى هذا فاستغلال مفهوم الرقّ الذي قال به الإسلام وجاءت بعض آيات القرآن مقرة به اعتماداً على طريقة خاطئة جرى عليها أتباع هذا الدين أو بعضاً منهم لا يجري وفق منطق صحيح وذوق سليم.

وليس ذلك من التبرير للأخطاء، لأننا لسنا بصدد دفع الشبهة عن فاعل بل بصدد درء التهمة عن دين جاء به خير الخلائق وسيد الكائنات من ربه العالم الحكيم المنان على جميع العباد انطلاقاً من سلوك سيئ لبعض أتباعه.

إن المشكلة هنا تنشأ من الخلط بين النظرية والتطبيق، ولا الخلط بين النظرية والتطبيق، ولا يُؤثر من حيث النتيجة كون هذا الخلط أمراً معتمداً أو أنه كان للغفلة والخطأ، وإن كنا نعتقد أنَّ المفكّرين الذي أشكلوا على ديننا من هذه الناحية قد تعمدوا ذلك لأجل التدليس على الناس، وإلا فإنَّه لا يكاد يخفى على الناظر ولو لم يكن بمستوى المفكّر أنّه لا يجوز حمل أخطاء التطبيق على النظريَّة، وأنَّ الإشكال على النظريَّة له أبوابه الخاصَّة، نعم ربَّما كشف التطبيق في حالات خاصة عن خلل في النظرية وليس محلُّ الكلام منها .

ومن جهات الإيراد الخاطئ على النظرية أن يترك فيها مجال للفكر وإعمال النظر في بعض المجالات الجزئية، فيأتي بعض أتباع هذه النظرية أو الدين فيستظهر ما يراه مناسباً لما اعتقد به من الدين، ويجد الناقد فيه جهة إشكال، فإنَّه لا يجوز الإشكال على النظريَّة من هذه الناحية إلّا إذا جزمنا أنّ نظره مطابق لواقع ما اعتقد به من الدين، ويقتصر جواز الإشكال على تلك القراءة التي يحتمل فيها الخطأ وعدم المطابقة لوجهة نظر الشريعة أو النظرية.

فالشريعة الإسلاميّة مثلاً رسمت الخطوط العامة لتحصيل المعرفة ، وبيَّنت الكثير من المعارف الدنيوية والأخروية، لكنَّها حيَّتنا على النظر والتأمل في مفردات هذا الكون للوصول إلى المعارف، وجعلت أجر التفكر أعظم بكثير من أجر العبادات الأُخرى.

ص: 79

وليست طُرُق المعرفة قطعية النتائج دائماً، لعدم وجود المقدمات التي توصل إلى الجزم والقطع في الكثير من المفردات فتكون النتيجة غير قطعية ولو عند بعض الأفراد.

وحصول القطع بشيء من هذا القبيل عند البعض لا يستلزم قطعيتها عند الكلِّ، للاختلاف في آلات الفكر ومقدمات إعمال النظر.

وتحميل النظرية مثل هذه الإشكالات الواردة على القراءة على غير ما يقتضيه الفكر السليم ويستدعيه الإنصاف في الحكم على الأفكار.

وهذه جهة من جهات التدليس التي مارسها أعداء الإسلام حيث اختلفت القراءات وتعددت الأنظار في الكثير من المفردات، وكانت بعض الأنظار واضحة الخطأ عند غير القائل بها، فوجهت سهام النقد للإسلام بشكل عام لتلك الأنظار.

تطبيق المعصوم علیه السلام يُمثل واقع نظرية الإسلام

قد يسري إشكال على الفرد إلى شريعته فيما إذا كان ذلك الفرد يُمثّل الشريعة بكلِّ شؤونه كما في المعصومين بما فيهم النبي صلی الله علیه وآله، فإِنَّ أَيَّة ملاحظة على سلوك من سلوكيّاته أو قول من أقواله تُشكّل ملاحظة على الشريعة نفسها، فهو في حركته في المجتمع وعلى المستوى الفردي يُمثَل الشريعة المجسدة عملاً، فهو لا ينطق عن الهوى ولا يسكت عن الهوى ولا يفعل ولا يترك عن الهوى فمنطقه في كلّ مواقفه ودوافعه ليس إلَّا الشارع المقدَّس وتوجيهاته.

نعم، لقائل أن يقول: هناك بعض الشواهد في الكتاب والموروث الروائي له دلالات غير ذلك، فكيف يمكن الالتزام بأنَّ كلَّ ما يصدر عن الأنبياء والأئمة المعصومين لا بدَّ أن ينبثق من الشريعة التي ينتسبون إليها مع أن الكتاب يُحدثنا عن شواهد مخالفة لذلك؟

ص: 80

ومن تلك الشواهد قوله تعالى بخصوص موسى الا وهو نبي من أولي العزم من الرُّسُل : «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (الأعراف: 150).

وفي سورة طه :« قالَ يا هَارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تأخذ بِلِحْيَنِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي » (طه: 92 - 94 ) .

فهذا هارون النبيُّ خشي من موسى أنْ يقول فيه ما هو خلاف الواقع، وقوله لو حصل لم يكن انطلاقاً من شريعته.

ولا شكّ أنَّ طلب موسى من الله تعالى أنْ يأذن بالنظر إليه لم يكن منطلقاً من شريعته، كما لا شكّ أنَّ ذهاب يونس مغاضباً لم يكن انطلاقاً من شريعته.

ونقول في مقام الإجابة:

أوَّلاً: لم يتّفق العلماء على عصمة الأنبياء في الموضوعات، فقد ذهب بعض إلى عدم اتساع دائرة العصمة للموضوعات(1)، وقد يكون نظر المشهور

ص: 81


1- سُئِلَ الشيخ السديد المحقق المفيدقدس سره في المسائل العكبريَّة : الإمام عندنا مجمع على أنه يعلم ما يكون، فما بال أمير المؤمنين علیه السلام خرج إلى المسجد وهو يعلم أنه مقتول وقد عرف قاتله والوقت والزمان؟ وما بال الحسين بن علي علیهما السلام سار إلى الكوفة وقد علم أنّهم يخذلونه ولا ينصرونه وأنه مقتول في سفرته تيك، ولِمَ لمَّا حضر وعرف أنَّ الماء قد مُنعَ منه وأنَّه إن حفر أذرعاً قريبةً ونبع الماء لم يحضر وأعان على نفسه حتّى تلف عطشاً ؟ والحسن علیه السلام وادع معاوية وهادنه وهو يعلم أنَّه ينكث عليه ولا يفي ويقتل شيعة أبيه علیه السلام ؟ فأجاب رحمه الله وقال: وأما الجواب عن قوله : إنَّ الإمام يعلم ما يكون، فإجماعنا أن الأمر على خلاف ما قال، وما أجمعت الشيعة على هذا القول، وإنَّ إجماعهم ثابت على أنَّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث.... إلى آخر ما ذكره. (نقله المجلسي في مرآة العقول: ج 3 ص 125)و واضح من كلامه ومورد الإشكال نفي العلم بموضوع أنَّ حفر الأرض واجب أو لا، لأنه لا يقول بضرورة علم الحسين علیه السلام بوجود الماء ليجب الحفر ، وكذا مصالحة الحسن علیه السلام ويمكن نسبة هذا القول لكلِّ من دفع الشبهة في تناول الإمام المعصوم علیه السلام الطعام المسموم بغياب الملك المحدّث عنهم وإلقاء النسيان عليهم، ومن نفى العلم الفعلي عنهم، ويُجمع بين هذه الوجوه الثلاثة أنَّ الموضوع لم يكن مشخّصاً حين ارتكاب الفعل ، أو لم يكن ملتفتاً إليه وإن كان معلوماً في وقت سابق. وإنّي وإنْ لم أقبل بهذه الوجوه بالنسبة للأئمة علیهم السلام لكن المبحوث عنه هنا وجود قائل بأنه قد لا يحصل علم بالموضوعات مما يترتب عليه الوقوع في مخالفة الواقع. وقال السيّد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان وأما الأخبار فقد تكاثرت عن النبي صلی الله علیه وآله و أئمة أهل البيت علیهم السلام أن نور النبي صلی الله علیه وآله أول ما خلقه الله، وأنَّ نورهم ونور النبي صلی الله علیه وآله واحد، وأنَّ الله آتاه علم ما كان وما يكون وما هو كائن وحياً، وأنهم أخذوه عنه بالوراثة. عليهم وقد ورد في بعضها وسياقه سياق التفسير لسائرها أنهم إذا شاؤوا علموا وإذا لم يشاؤو الم يعلموا الرسائل الأربعة عشر : ص 385 و 386). وكلامه الله في بيان كيفية إقدامه على تناول الطعام المسموم، وهذا يعني أنه علیه السلام يمكن أن لا قدس يكون عالماً بموضوع وجوب الاجتناب، وهو الطعام المسموم

دخول الموضوعات ضمن مساحة العصمة. وفي الحقيقة فإنَّ من خصّ ثبوتها بتبليغ الأحكام لم ينفها عن الموضوعات، بل قالوا: إنَّ تبليغ الأحكام مساحتها المتيقنة والموضوعات لا يُعلَم دخولها في دائرتها. نعم، يمكن للمتتبع أن يعثر على عدم العصمة في الموضوعات غير ما تقدَّم كبعض الآيات الواردة في قصَّة

سلیمان علیه السلام مع الهدهد: «ما لي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذَّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ »(النمل: 20و21 )، ثمّ بعد ذلك يقول: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (النمل: (27).

ومثاله أيضاً ما ورد من قصَّة موسى علیه السلام الخضر علیه السلام.

ص: 82

ولمشكل أن يشكل على دلالة مثل هذه الآيات، فهي كانت في موارد عدم معرفة التأويل، ولا علاقة لها بالموضوعات.

وثانياً : أنَّ التوهم في تشخيص الموقف الذي تستدعيه الشريعة لا يعني أنَّ منطلقه في ذلك الموقف ليس هو الالتزام بالشريعة، فاعتراض موسى علیه السلام علی الخضر علیه السلام كان من منطلق الالتزام بالشريعة.

وثالثاً: أنَّ غاية ما يترتب على ما ذُكِرَ الإشكال على المثال، والإشكال على التمثيل لا يعني عدم قبول الممثل له إذا نهض دليل تام عليه.

ورابعاً: أنَّ عدم ثبوت عصمة بعض الأنبياء في الموضوعات لا يُثبت أكثر من أنَّ مجرَّد العصمة لا تستدعي عدم الخطأ في الموضوعات، وذلك لا يمنع من أن تكون بعض المراتب للمعصومين قد ينكشف لهم الستر في الموضوعات والأنبياء درجاتهم متفاوتة:« تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (البقرة: 253 ) .

وخامساً: لا مانع من الالتزام بأنَّ كلَّ سلوك المعصوم لا بد أن يكون موافقاً للشريعة، دون القول: إنَّ كلَّ شأن في حركته لا بد أن يكون منطلقاً من شريعته التي ينتسب إليها.

وكيف كان، فأيَّة ملاحظة يمكن أن يُوجّهها ابن أُمّ إلى المعصومين علیه السلام؟

لا شكّ في انعدام هكذا ملاحظة سواء كانت في مورد البحث أم في بقية الموارد، فهم كانوا يعيشون حالة مثالية بكل معنى الكلمة، لأنَّ القيم الإلهية حاكمة عليهم، وقد تلبسوا بها إلى أعلى درجة.

وهل تجد ملاحظة على سلوك رسول الله مع مملوكيه مع أن أحدهم وأبرزهم وهو زيد بن حارثة فضَّل البقاء مع رسول الله صلی الله علیه وآله على أنْ يذهب حُرَّا

ص: 83

برفقة أبيه إلى دياره(1)؟

وحين يُسئل قنبر : مولى من أنت؟ يجيب بما يُظهر كامل الافتخار بأنَّه مولى لعلي بن أبي طالب علیه السلام، فقال : مولاي) من ضرب بسيفين، وطعن بر محين، وصلّى القبلتين، وبايع البيعتين، وهاجر الهجرتين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا مولى صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وخير الوصيين، وأكبر المسلمين ويعسوب المؤمنين، ونور المجاهدين، ورئيس البكائين، وزين العابدين، وسراج الماضين، وضوء القائمين وأفضل القانتين، ولسان رسول ربِّ العالمين، وأوَّل المؤمنين من آل ياسين المؤيَّد بجبرائيل، والمنصور بميكائيل المتين، والمحمود عند أهل السماء أجمعين ... )(2) إلى آخر كلماته التي ذُكِرَت، والتي تُظهر اعتزازاً ما بعده اعتزاز بعلي علیه السلام وبمولويته، مع أنه كان يكفيه أن يقول في جوابه: أنا مولى عليّ بن أبي طالب علیه السلام

رابعاً النظر للحكم الشرعي بمنظار الحكم الجزائي محضاً

لقد حصل الكثير من مفردات الخلط بين التشريعات الدينية وبين القوانين الجزائيَّة، فألبست بعض التشريعات على غير حق ثوب قوانين الجزاء، وكيلت للشريعة التُّهم ووجهت إليها الطعون اعتماداً على ذلك. إِنَّ الدِّين الإسلامي يُؤكِّد وبشكل دائم في خطابات كثيرة وبألسنة متعدّدة

ص: 84


1- البحار (ج 42 ص 133)
2- هو زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي من بني عبد ود، تبنّاه رسول الله صلی الله علیه وآله قبل الوحي، وكان وقع عليه السبي، فاشتراه رسول الله صلی الله علیه وآله بسوق عكاظ. ولما نبئ رسول الله صلی الله علیه وآله دعاه إلى الإسلام ،فأسلم، فقَدِمَ أبوه حارثة وأتى أبا طالب وقال سَلْ ابن أخيك فإما أن يبيعه وإمَّا أَنْ يعتقه، فلمَّا قال ذلك أبو طالب الام الرسول الله صلی الله علیه وآله ، قال : «هو حُرٌّ فليذهب حيث شاء»، فأبى زيد أن يفارق رسول الله ، فقال حارثة : يا معشر قريش اشهدوا، إنَّه ليس ابني وقال رسول الله صلی الله علیه وآله، : «اشهدوا أنَّ زيداً ابني»، فقام يُدعى زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم

أنَّ الدنيا دار كسب وليست دار جزاء، وأنَّ بعض قوانين الجزاء التي شرعها الشارع المقدَّس وأراد إجراءها في الدار الدنيا إنَّما شُرّعت لأجل مصالح خاصة ودفع بعض المفاسد، ولولا هذه المصالح لما شُرّعت هذه القوانين، ولذلك لا تنال هذه القوانين كل الحالات التي يستحقُ العبد فيها الجزاء، وتتساوى بعض المفردات في الحد والمجازاة مع الاختلاف فيها من حيث هتك حرمة المولى والحيثيات الموجبة لزيادة قبح الفعل، فمن سرق في شروط خاصة تُقطع يده ولا يفرق في ذلك بين المحتاج للمال حاجة لا تصل إلى حد الضرورة المسوغة لأكل مال الغير وبين السارق وهو غير محتاج للمال المسروق، وما ذلك إلا لأنَّ هذا الجزاء لم يشرع لأجل المجازاة على ذلك الفعل بل لإيجاد مانع عند العبد المجازى من العودة إليه، وعند غيره من ارتكاب مثله.

والذي نفهمه من منظومة التشريعات السماوية أنَّ الله تعالى أراد من وجود الإنسان في الدنيا الامتحان والابتلاء الذي يتم من خلال مجموعة من التكاليف التي تُبيّن للعبد ولو إجمالاً على نحو يمكن أن يصل إليها لو أراد أن يصل، أو يمكن الاحتياط بشأنها لو لم يعرفها تفصيلاً، ووعد المطيعين أعظم الأجر والمسيئين أشد أنواع العذاب.

وقد صرّحت بعض النصوص الشرعيَّة بأنَّ الغرض من هذه النشأة هو الابتلاء والامتحان ، وأنَّ ما يترتب على هذا الامتحان سيحصل عليه العبد أو ينزل به في دار أخرى خلقها الله تعالى لذلك.

وقد اقتضت مصلحة العباد أن تتقدّم بعض مفردات الجزاء إلى الدار الدنيا، فالله تعالى رؤوف بعباده لا يكتفي بمجرد إتمام الحجة عليه، وإنَّما هيّأ لهم كلَّ ما يُقرِّ بهم إلى الطاعة ويُبعِدهم عن المعصية من حسن خطاب وتكرار أمر أو تشريع عقوبة دنيوية أو ترتيب أثر تكويني على الأعمال.

ص: 85

التكوين يدعم التشريع

إنَّ الله تعالى بعد بيان مفردات الشريعة بأكثر الطُّرق تأثيراً في نفوس العباد أعمل الجعل التشريعي والتكويني لجر العبد إلى الطاعة.

أمَّا التشريعي فمن خلال سَن قوانين جزاء في الدنيا للمذنبين يُجازون طبقها بحد أو تعزير يُفرَض من الحاكم المتصدّي لإدارة البلد عموماً أو خصوص مسألة القضاء.

وحدود دائرة هذين الأمرين ما ظهر من المخالفات الشرعية أمام الملأ، ومن خلال كفارات لمخالفات خاصة لا يُشترط ظهورها في ترتيب الكفّارة عليها، بل تثبت وإنْ لم يُعلَم بالمخالفة الموجبة لها أحد، ولا تُفرض عليه من أحد إلَّا الشارع المقدَّس بحكمه الكلّي، فإن شاء امتثل وإلا فهو عاص الله تعالى، ومن خلال دية وقصاص تثبت في الجنايات على الغير يوجبها الحاكم الشرعي الجاني إنْ رُفِعَت القضيَّة إليه، وإلا بقيت ذمته مشغولة بها.

وأمَّا التكويني فمن خلال ترتيب بعض الآثار التكوينية على ما يوصف بالحسن والقبح من الأفعال، ويمكن أن يرجع عذاب الآخرة إلى هذا القسم بوجه، من خلال الالتزام بأنَّ العذاب الأخروي لازم تكويني للأعمال السيئة، وكذلك بالنسبة للحسن من الأفعال(1)، ويكون الجعل الشرعي لعنوان الحرمة والوجوب جزءاً من الملزوم التكويني. والعمل السيئ سبب بحسب التكوين لآثار سيئة، والحسن سبب كذلك لآثار حسنة. وحسن آثار الفعل من الدواعي للإتيان به، كما أنَّ قبحها رادع عن فعله وخلق السببية بين العمل وآثاره

ص: 86


1- ذهب بعض الأكابر إلى ذلك حين حاول دفع بعض الشبهات التي أوردها إبليس على حكم الله تعالى بطرده من الجنَّة حيث كانت الشبهة الرابعة وفق نقل الشهرستاني: لا عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر ؟

التكوينية من مفردات الجعل التكويني. وقد وظف من الباري تعالى في محرّكيَّة العبد ورادعيّته نحو الأعمال الحسنة وعن الأعمال القبيحة.

الأصل في كل ما نواجهه في الدنيا هو الابتلاء

إنَّ الآثار التكوينية أو التشريعية المترتبة في الدار الدنيا على مخالفة شرعية لا تخرج عن دائرة الابتلاء، فهي من مفردات هذه النشأة التي هي نشأة امتحان وابتلاء. و على هذا إذا شُرَّع حكم معيَّن، وأُجري على شخص معيَّن، وكان فيه تبعة سيئة عليه دون تقصير منه في ذلك، لم يكن من الظلم في شيء، فإن لم يصلح كونه جزاء للمقصّر ، فإنَّ فيه صلاحيّة أن يكون نحو ابتلاء.

وللممتحن الحقُّ في كيفيَّة إجراء الامتحان واختيار مادته وطريقته، خصوصاً إذا كان الممتحن مالكاً لجميع شؤون الممتحن كما في الشارع المقدس.

موارد في التشريع والتكوين يتوهم منها الظلم

يندفع بما تقدَّم إشكال يمكن أنْ يُورَد على بعض العلاقات التكوينية التى أخبرتنا بها الروايات الشريفة، وكذلك على بعض التشريعات الإلهية لبعض قوانين الجزاء. ومنها:

1 - ما يظهر من بعض الروايات الشريفة من أنَّ ابن الزنا شر من أبيه وأُمه، حيث يلوح منها أنَّ منشأ شره تكونه من مقاربة محرمة بين رجل وامرأة غير زوجته، والفاعل غير الولد ، فلماذا يُجازى بفعل سوء من والديه؟

ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام قال: «يقول ولد الزنا: يا رب ما ذنبي ؟ فما كان لي في أمري صنع ! قال: فيناديه منادٍ فيقول: أنت شر الثلاثة، أذنب والداك فتبت عليهما، وأنت رجس، ولن يدخل الجنة إلا طاهر»(1)

ص: 87


1- بحار الأنوار ج 5 ص 285 / 5 ، عن علل الشرائع ج 2 ص 564 / باب 363/ ح 2)

وفي رواية زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام : «لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره ولا في لحمه ولا في دمه ولا في شيء منه، »يعني ولد الزنا(1) . وفي بعض الأخبار أنَّه لا يدخل الجنَّة، كرواية سعد بن عمر الجلاب: قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: ( إن الله خلق الجنَّة طاهرة مطهرة فلا يدخلها إلَّا من طابت ولادته، وقال أبو عبد الله : «طوبى لمن كانت أمه عفيفة »(2)

وقد تقدَّم في الرواية الأولى: ولن يدخل الجنَّةَ إِلَّا طاهر».

وفي رواية المحاسن عن أبي عبد الله لا ، قال : «خلق الله الجنَّة طاهرة مطهرة لا يدخلها إلَّا من طابت ولادته»(3).

وربَّما كان مضمون هذه الروايات أشكل من سابقاتها، لأنَّ سابقاتها تحدثت عن كونه أكثر شرا وهذه تحدَّثت عن نتيجة جزائية، فهي تشير إلى دخوله النار أو لازمه أو في الحد الأدنى عدم دخوله الجنة.

ولعله لكلّ هذه الروايات ذهب الصدوق والسيد المرتضى وابن إدريس رحمه الله على ما نُسِبَ إليهم القول بكفر ولد الزنا(4) .

وهذا مخالف لأصول العدل - كما يقول المجلسي -، إذ لم يفعل باختياره ما يستحق به العقاب، فيكون عذابه ظلما وجوراً، إذ ظاهر الروايات أنَّ الموضوع ليس إلَّا كونه ابن زنا، وهو شيء لا دخل للولد به.

2 - ما يلوح من بعض الأدلة من أنَّ حلّية الطعام الذي تتكون منه النطفة وحرمته يُؤثّر على الولد المتكون منها، من جهة الاقتضاء ليصبح شريراً مائلاً

ص: 88


1- بحار الأنوار (ج 5 ص 285 ح 6 ، عن ثواب الأعمال (ص 263)
2- بحار الأنوار ج 5 ص 285 / ح 4) ، عن علل الشرائع ج 2 ص 564 / باب 363/ ح 1).
3- بحار النوار (ج) 5 ص 287 / ح 11) ، عن المحاسن للبرقي (ج 1 ص 139 / ح29).
4- نسبه في الجواهر (ج 6 /ص 107 إلى السرائر لابن إدريس، وعن المرتضى، واستظهره من كلام الصدوق

نحو المخالفات الشرعيَّة، ولا ذنب له في ذلك.

3 - ما نصت عليه الروايات من أنَّ ترك البسملة حين الاقتراب من الزوجة يجعل الولد شركاً للشيطان حيث لا ذنب للود في ذلك.

4 - ما نطقت به الأخبار من أنَّ فعل بعض المكروهات في حال انعقاد النطفة من جهة مكان الانعقاد أو زمانه أو حالة الأب والأُمِّ تُؤثر في إيجاد نوازع الشر عند الولد مع أنَّه لا دخل في ذلك له.

5 - ما أشارت له الأدلة الشرعيَّة من أنَّ من عق والديه عقه أولاده، فصدور العقوق من الأولاد كان بسبب ما أتى به آباؤهم منه، مع أن الولد يُعاقب على عقوقه هذا المتسبب عن عقوق أبيه أو أمه لأبويهما أو أُمَّيهما.

6 - ما ورد في الخطابات الشرعية من أنَّ من ظَلَمَ ظُلِمَ ولو في عقبه، والذي يعني أنَّ ظلم الوالد قد يتسبب في ظلم ولده، فلماذا تُحمل الولد التبعة السيئة لفعل والده؟

7- ما جاء في كلام المعصومين عليهم السلام من أنَّ من طرق باب الناس طُرِقَ بابه، فوقوع الأب في الزنا يتسبب في وقوع نساء من بيته في هذا الفعل، ومن المجزوم به أنهنَّ محاسبات على ذلك، فكيف تُعاقب على فعل مسبب تكويناً عن فعل سوء صدر من غيرها.

8 - الحكم بعبودية ابن العبد، فما ذنبه في ذلك؟ وهل يُجازى الأولاد والأحفاد وإن بعدوا بوقوف أحد أجدادهم في وجه المسلمين في الحرب؟

وغير ذلك كثير، كل هذه الموارد ونظائرها قد يُتوهّم فيها الإشكال من جهة مخالفتها ظاهر القواعد التي نفهمها من القرآن والسُّنَّة من أنَّه لا تزر وازرة وزر أُخرى، وأنَّ كلَّ نفس بما كسبت رهينة، وأن ليس للإنسان إلَّا ما سعى، وليس بما كسب غيرها، ولو كان مثل الأب فضلاً عن الجد القريب والبعيد.

ص: 89

دفع محذور الظلم

في مقام الجواب عن كلِّ هذه الشَّبُهات لا بدَّ من المعالجة من جهة ملاءمة ذلك لعدل الله تعالى وعدم استلزامه الظلم الذي تُنزّه الله تعالى عنه، ومن جهة مناسبته لحكمته تعالى بعد الفراغ من عدم منافاته لعدله تعالى.

أمَّا الجهة الأولى، فدفع الشبهة فيها سهل (في الجملة) بعد ما تقدم، حيث يقتضي أنْ لا يُجازى الإنسان بفعل غيره، وأن لا يتحمل أكثر من تبعات فعله المحدَّدة في التشريع الإلهي، وأنْ لا يُحاسب على شيء غير اختياري، حيث لا معنى لسن قانون جزائي في مورد ليس للعبد فيه قدرة، إذ العقوبة إِنَّما شُرّعت في الإسلام لتشكل رادعاً عن الفعل المحرم، ولا معنى للرادعيَّة في الأمور غير الاختيارية، لعدم إمكان الارتداع فيها، والردع عما لا يمكن الارتداع عنه لغو لا طائل منه ولا فائدة فيه، وما تقدم من موارد الإشكال لم يتحقق فيه شيء من الأُمور الثلاثة، وسنأتي على ذكرها مفصلين بمقدار ما تستدعيه الحاجة إلى البيان هذه والتوضيح.

أما كون ابن الزنا شر الثلاثة، فهو وإن كان ثمرة سوء لزرع الغير وهما الأب والأُمُّ ، إِلَّا أَنَّه ليس جزاءً بالنسبة للولد الذي يتراءى ثبوت الظلم بحقه، وإنّما هو نوع ابتلاء ابتلاه الله تعالى به لحكمة دعته إلى أن يبتليه بخصوص هذا الابتلاء، فنزعة الولد إلى الشر ودافعه القويُّ لذلك نوع جزاء للوالدين وضاغط عليهما قبل أن يفعلا فعلها المحرَّم ، أي إن إدراكهما لهذا الأثر السيّئ وترتبه على الفعل المحرَّم نوع رادع أو مكمل للرادعيَّة عن الفعل، ومع ذلك لم يرتدعا، فترتّب هذا الأثر الذي هو مورد إيذاء لهما عادةً في ظهوره في الدنيا، لما له من تبعات سيئة عليه وعليهما، وكذلك مورد إيذاء لهما بلحاظ آثاره في الآخرة على الولد، فهما يخافان على آخرة الولد في كثير من الحالات.

ص: 90

و عدم اهتمام نسبة كبيرة من الآباء والأمهات بذلك لا يُسقط الاهتمام بهذه المصلحة من قبل الخالق (جل وعلا)، وقد تقدَّم فيما سبق من طيّات البحث أنَّ التكوين كثيراً ما يقع في خدمة التشريع، فالملازمة بين الولادة من عملية زنا وبين نزعة الشرّ في الولد المولود منها ملازمة في التكوين أوجدها الله تعالى بإعمال خالقيته وليس بإعمال مشرعيَّته، ولذا فهي غير مرتبطة بالتشريع ولا علاقة لها بالإيراد على الدين الإسلامي أو غيره.

نعم لما تضمنت التشريعات جنبة جزائيَّة وباعثية باتجاه متعلقات الأحكام، كانت هذه المسألة ذات صلة بالشريعة، إذ كيف يُحرّك من لا يكون قادراً على التحرُّك، وكيف يُعاقب على مخالفة أمر أو نهي من لا قابلية عنده على ترك تلك المخالفة.

وأما بالنسبة للولد فإنَّ هذا الأثر - وكما تقدَّم - نوع ابتلاء له، والله تعالى هو المبتلي، وله الحق في اختيار جهة الابتلاء، فبعض يمتحنه بالغنى، وبعض بالفقر، وبعض بالمرض، وبعض بالعافية، وبعض بضغط الظالم عليه، وما إلى ذلك من أنواع الابتلاء، والجامع لكلّ ذلك قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً» (الأنبياء: 35).

فحاله في ذلك كشخص يعيش في دولة حكومتها جائرة، وهي تُوفّر بيئة تساعد على انتشار المعصية ومقارفتها من الأفراد، وتضغط عليه بشدة لارتكاب المحرَّمات وفعل الموبقات على نحو لا يصل إلى حد الإجبار وسلب الاختيار. فالتكليف لا يسقط لمجرَّد وجود ضاغط على العبد لترك امتثاله ما لم يصل إلى حد الإجبار.

وكما قبلنا أن يكون ضغط الظالم على العبد ابتلاء له، فلنقبل كون نزعة الشرِّ عند ابن الزنا نوع ابتلاء له، حيث لا يصل ذلك إلى حد يُجبَر على فعل الشرّ ، ولا شك ولا شبهة في ثبوت الاختيار عنده.

ص: 91

وهذا هو المصحح لثبوت العقوبة عليه فيما إذا فعل شرا، فالجزاء بالنسبة له في الآخرة وربَّما ترتبت بعض مفردات الجزاء في الدنيا على سوء اختياره الذي كان الدافع له قويًا عنده بحكم تولَّده من عمليّة مقاربة محرَّمة .

نعم يقوى في النفس كثيراً أنَّ جزاءه على العمل المحرم أقل من جزاء ابن حلال على مثل ذلك الفعل المحرَّم، بحكم كون الداعي عنده أقوى. وأنَّ جزاءه على الإتيان بالواجبات والمستحبّات أكثر من غيره ممن ليس له ذلك الدافع إلى الشر، لأنَّه ترك الاستجابة لتلك النزعة القوية واتَّجه بالاتّجاه المعاكس لها ممتثلاً أمر ربه، فمعاناته في ذلك أكبر .

ولو لم يكن في البين تفاوت بينه وبين غيره في الجزاء لما كان ذلك مخالفاً لمقتضى العدل ما دام الاختيار موجوداً، ولا يُشترط على المشرع العادل في تشريعه للعقوبة على الفعل أن يجعل مثل تلك الخصوصية دخيلة في تحديد مقدار

الجزاء على المخالفات ما دام قد أخبرنا ولو بشكل إجمالي بمقدار العقوبة. وكيف كان، فإنَّه لم يجازَ بفعل غيره، ولا تحمل أكثر من تبعة فعله المسنونة في قوانين الجزاء، ولم يُسلب منه الاختيار، فلا مجال لتصور الظلم في المقام، ولم يحصل ما ينافي عدل الله تعالى.

وقد تترتب بعض الآثار الجزائيَّة في الدنيا على أفعاله التي دعته إليها نزعة قويَّة أتته بفعل غيره، لكنَّها ليست من الظلم في شيء ما دام لم يُسلَب منه الاختيار في ارتكابها.

وبعض البيان المتقدم يُظهر لنا انسجام تأثير حليّة الطعام وحرمته على الميل عند الولد للاستقامة أو الانحراف، وكذلك تأثير ترك البسملة عند الوقاع على إشراك الشيطان في الولد ، وتأثير فعل المكروهات أو بعضها في ميول الولد ويظهر انسجام ذلك مع عدل الله تبارك وتعالى، فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها .

ص: 92

وإنّي لأحتمل قويًّا أَنَّه لا بدَّ من أن ينجو بعض أولاد الزنا يوم القيامة، إذ الحجة الإلهية لا تتم بمجرد الإمكان النظري دون وقوع لمفردة من الممكن على الأرض.

فالقرآن صريح أو كالصريح في أنَّ الحجّة لا تتم على الناس إلا ببعثة الأنبياء:«وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » الإسراء : 15). والمنفي شأن التعذيب بدون بعث الرسول الذي يعني أنه ثابت قبل نزول الآية ،وبعدها، لأنَّ ذلك شأن الله تعالى، وهو أمر غير قابل للتحديد في ظرف دون آخر: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُل» (النساء: 165).

مع أنَّه يمكن أن يقال: إنّ بعض المسائل الاعتقاديَّة الدِّينيَّة يمكن أن تثبت بالعقل، لكن مجرد الإمكان غير كافٍ، وبما أنَّ الكلام عام لكلِّ الأُمم، فهذا يعني أنَّ الآيات تتحدث عن أنه بمجرَّد عدم بعثة الرُّسُل لا تتم الحجة، وهذا يشمل ما لو كانت الأُمَم مسبوقة بأجيال كان فيها أنبياء تحدثوا عن الواجب تعالى ووحدته والمعتقد الديني عموماً، والجزيرة العربية كانت مسبوقة بالنبوات وأخبار الأُمم التي تنتسب إلى الأديان السماوية، بل وكان فيها من أتباع تلك الديانات، ومع ذلك يقول القرآن: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنا »(القصص: 59 ) .

وقد قيل: إن الله تعالى يحتج يوم القيامة على أهل الجمال حين يُبررون انحرافهم بأنه تعالى ابتلاهم بالجمال بيوسف علیه السلام ،ويحتج على أهل الملك والسلطة بسليمان ، ويحتج على أهل البلاء بأيوب علیه السلام وكيف كان، فإنَّه ما لم تتحقق مفردات من نجاة بعض أبناء الزنا فإنَّه يبقى مجال لأنْ يحتج أولاد الزنا أنَّ منشأ انحرافنا ولادتنا من الحرام ولا دخل لنا بذلك.

ص: 93

ولله الحجة البالغة.

وأمَّا استدعاء عقوق الأب أو الأُمّ لأنْ يكون أولاده عاقين، فإنَّه ليس جزاءً للولد، نعم هو جزاء للأبوين في الدنيا كبقيَّة الآثار التكوينية التي لا نستبعد أن تكون قد أخذت طابع الجزاء على العمل في الدنيا، نعم هو ابتلاء للولد، ونزعته للعقوق لم تصل إلى حد سلب اختياره وأفقده قدرته على مقاومتها، ولم يجاز -لو جوزي - بأكثر من استحقاقه، فإنَّ بإمكانه أنْ يَقهَر هذا النازع ويكسر هذا الدافع ويبر والديه، فيستحقُ أجراً لا نستبعد أن يكون أكثر مما يستحقه باز آخر.

وأمَّا ترتب الظلم على الأبناء في بعض حالات ظلم الآباء فالمشكلة فيه أصغر من سابقاتها، لأنها لا ترتبط بفعل للابن يستوجب العقوبة الأُخروية، لا على نحو الحتمية ولا على نحو الاستدعاء.

نعم يبقى فيها ترتب الظلم عليه بفعل غيره، إلَّا أنَّ ذلك ليس على نحو الجزاء له، بل لو كانت له صفة جزائيَّة فإنَّما هي بلحاظ والديه أو أجداده، وأما بالنسبة له فليس من الجزاء في شيء، فيدخل تحت دائرة الابتلاء، كما لو جاءه شخص وظلمه ابتداءً، وكثيراً ما تتجاوز الناس على بعضها البعض بشكل ابتدائي ، فهو ابتلاء ولا يقتضي العدل دفع الابتلاء الذي هو غاية وجودنا في هذه النشأة.

وأما ترتب طرق باب الشخص على طرقه لباب غيره، فلا وجه فيه ينافي العدل، ولا توجد سببيَّة حقيقية بين الأمرين على نحو يسلب اختيار أهله ليقال: إنَّ ذلك ،ظلم، بل غاية ما يمكن أن يحصل هو تهيؤ الظروف لأنْ يُفعَل مع بعض أهله ما فعل هو بعرض غيره.

وكل ما تقدّم من جهة التكوين ليس ضروري التحقق (بخلاف جهة

ص: 94

التشريع المتمثلة بالحكم على ولد العبد بالعبودية)، فقد يتدارك الفعل بتوبة أو استغفار أو ندم أو فعل ما هو سبب لتكفير الذنوب، وليس ببعيد أن يكون أثر ذلك أنْ يستر الله ويُغطّي ذلك الذنب أو المرجوح على نحو الكراهة من خلال إلغاء ترتب الأثر عليه.

وقد وردت بعض الأعمال التي تُلغي بعض آثار مكروهات الوطء كقراءة آية الكرسي أو الدعاء وغير ذلك، وفي ذلك شهادة إن لم تكن دلالة على أن ترتب تلك الآثار ليس حتميًّا.

ومن خلال ما تقدَّم يظهر أنَّ أيا من هذه الموارد ولو كانت حتمية لا ينافي عدل الله تبارك وتعالى، بل غاية ما توجبه أنْ يُحدد نوع الابتلاء للغير ومفردته، ولا ضير في ذلك، لأنَّ تحديد نوع الابتلاء سواء كان ابتدائيا -دون تأثير من فعل الغير -أو غير ابتدائي يرجع إلى إرادة الممتحن ورغبته، خصوصاً وأنَّ المبتلي مالك لجميع شؤوننا.

قال إن كنتُ مالكاً ***فلي الأمر كله

الحكمة الداعية للتشريع في الموارد الموهمة للزوم الظلم

وأما الجهة الثانية، فدفع الإشكال فيها قد اتضح مما تقدَّم أيضاً، وخلاصة الجواب عنها أنَّ الله تعالى أراد تقوية الداعي لامتثال الأحكام التي شرعها لعباده، حيث عَلِمَ منهم أنهم لا يرتدعون لمجرَّد ترتب الجزاء الأُخروي عن مخالفة أحكامه. ومن جملة فعله تعالى في هذا الجانب أن جعل بعض الآثار التكوينية السيئة مترتبة على بعض الأعمال التي لم يرد لهم ارتكابها، ليقوى الداعي عندهم للالتزام بأحكام الشريعة وعلى هذا فالجزاء الأخروي يُعتبر جزء السبب، والأثر التكويني جزءاً آخر.

ص: 95

وعلى شاكلة هذا جرى الأمر في الأعمال الحسنة، حيث رتَّب سبحانه على بعضها آثاراً تكوينية حسنة، فمن أراد أن يقترب من امرأة لا يجوز له مقاربتها يجد أمامه عدة موانع من أنْ يُحقق ما يريد تدعوه إلى ترك هذا الفعل، وكلّ هذه الموانع التي نتحدث عنها قد تمنع من اختيار هذا الفعل المحرَّم، فهي في مقام منعه ذاتيا وليست نافعة له بعد اختياره لفعل هذا المنكر، وهذه الموانع عبارة عن الجزاء الأخروي السيّئ، والخوف من أنْ تُطرق بابه ويُعتدى على عرضه كما تجاوز على غيره، والمانع الثالث هو الخوف من أنْ يُرزَق ولداً ميّالاً إلى الشرّ ذا نزعة قويَّة للباطل، وغير ذلك، وكلها موانع عن القرار ليمتنع وقوع الفعل بعد ذلك وليست مانعة للفعل بعد اختياره. وهناك موانع أُخرى قد تترك أثرها في المقام، كتشريع عقوبة الجلد أو الرجم في الدنيا، وإسقاط العدالة، وغير ذلك.

وهل ينافي حكمة مولى يُحِبُّ عبده ويُحِبُّ له الخير أنْ يُشرع له أو يُوجد تكويناً ما يساهم في منعه من إيقاع نفسه في المهالك؟

فتشريع العبودية لأولاد المحارب لدين الله تعالى والذي يُؤسَر والحرب قائمة دون أن يسلم وقبل أن يُقدّر عليه مناسب لحكمته تعالى، وهو تشريع غير خالٍ من المصلحة، لأنَّه سيزرع الخوف في نفس هذاالمحارب قبل الحرب وأثنائها قبل القدرة عليه، وهذا التردُّد يُشكّل داعماً قويا لإيمانه ولو بحسب الظاهر، لتكون المرحلة الأولى قبل أن ينزل الإيمان إلى قلبه.

ومن أعظم موانع الإيمان المكابرة التي تزول بمجرد أنْ يُعلن إسلامه ولو ظاهراً، وبذلك يكسر الحاجز الأكبر من الإيمان، فأدلتنا على اعتقادنا متينة لو أرادت أيَّة نفس أنْ تُفكّر بموضوعيَّة فإنَّها تقبلها لا محالة، ولا تبقى إلَّا المكابرة ومحاولة التخلّص من قيود التكليف وثقله، وهي لا تصل دائماً إلى تحمل عبء العبودية للإنسان، خصوصاً مع ملاحظة أنَّ العبودية ستسري إلى ذرّيَّته.

ص: 96

والمصلحة الأُخرى المتصوَّرة في المقام أنَّ تشريع العبودية في المقام يدفع المقاتلين المؤمنين إلى بذل الجهود بشكل أكبر للسعي للحصول على رقّ مع ما يتبعه من رقّ أبنائه، ففرق بين أن يسعى المقاتل لنيل غنيمة متمثلة بعبد أو جارية دون سريان ذلك إلى ذرّيَّتهما وبين سعيه لنيل أمة تلد إماءً وعبيداً، فقوّة السعي مرهونة بأهميَّة ما يسعى إليه، نعم يُفترض أن يكون سعيه لنيل الأ. والثواب من الجهاد، ولكن لا تخلو الغنيمة من تأثير في نفوس المقاتلين، والشارع المقدَّس يُشرع أحكامه على أساس واقعي لا افتراضي قائم على ما ينبغي أو ما لا ينبغي.

والمصلحة الملحوظة في الأحكام هي المصلحة الواقعية لا الافتراضية في متعلّق تلك الأحكام، ويظهر بذلك لنا وجه الحكمة في ترتيب ميل الأبناء إلى عقوق آبائهم فيما إذا عقّ الآباء والأجداد، حيث ستجتمع عدة أسباب تضغط على العبد لمنعه من العقوق،وأحدها خوفه من أنْ يُعَقِّ ويُهمَل في أُخريات عمره، والتسبب في استحقاق الأولاد لعقوبة العقوق وحرمانهم من أجر البر العظيم. وقد لا يجدي ذلك كلُّه، لكن عدم جدواه عند البعض لا يعني أنَّ الإرادة الإلهيَّة عندما أرادت تقنين القوانين الكونية وإيجاد علاقة السببية لم تلحظه.

وهكذا الكلام في بقيَّة الموارد، فلا حاجة إلى إكثار الكلام في ذلك.

وبهذا يتّضح أنَّ هذه القوانين التشريعية والعلاقات التكوينية منسجمة تمام الانسجام مع الحكمة ولا تنافيها، ولا نريد أن ندعي أنَّ وجه المصلحة فيما تقدم من الموارد منحصر بما ذُكِرَ ، فربَّما خفي علينا الكثير من وجوه الحكمة، ولكن يكفينا لبيان ملاءمة الحكم التكويني أو التشريعي للحكمة الإلهية الإشارة إلى بعض المصالح المترتبة على هذه الأحكام.

ص: 97

خامساً: الانطلاق من الأحكام الوضعية للإيراد على الأحكام الإلهية

كثيراً ما تتولَّد الإشكالات في نفوس المشكلين على الأحكام الإلهية من خلال ملاحظة الأحكام الوضعية ومقارنة الأحكام الإلهية بها، إلَّا أنَّ ذلك ليس منطقيًا لاختلاف منطلقات وضوابط كلّ من النوعين، وانتفاء المسانخة بين النوعين يمنع المقارنة بينهما، إذ مع انتفاء تشابه المنطلقات والمناطات لا بدَّ من وقوع الاختلاف.

اختلاف القوانين الإلهية عن الوضعية

تختلف القوانين الوضعيّة عن القوانين الإلهية بأمور توجب اختلاف هذه القوانين، فالواضع للقوانين الإلهية هو الله تعالى، والواضع للقوانين الوضعية هو الإنسان، فالاختلاف بين النمطين له عدة أسباب، منها:

1 - إِنَّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية مما يمكن أن يترتب على التشريع، مما يجعله مطابقاً لما عليه المصلحة الواقعية للأشياء، فلا يُخطئ تشريعه تعالى شيئاً من المصالح التي ترجع إلى العبد إلا إذا كانت معارضة بمفسدة أكبر أو مساوية، أو لم تكن المصلحة بمستوى يستدعي ضرورة التحفّظ عليها. وأما المشرّع من البشر فإنَّه لا طريق له إلى معرفة المصالح الواقعيَّة إِلَّا في حدود الظنّ أو التوهم في الغالب، ولو عَلِمَ ببعضها لم يتيسر له العلم بمعارضتها من المفاسد.

وعلى هذا فاحتمال الخطأ في تشريعات الإنسان وارد جدا، مما يستدعي وضع آلية في الدساتير تسمح بالتغيير بشكل مستمر في المواد الدستورية وفي موارد تطبيقاتها أو الاستفادة منها.

2 - إِنَّ المشرع في التشريع الإلهي غير محتاج إلى المشرع لهم، فهو مالك لجميع شؤونهم، فليس من الضروري رضا المشرع لهم بالتشريع في أوّل الأمر، وشرعيَّة التشريع غير متوقفة على رضا المشرع لهم أو إمضائهم له، نعم

ص: 98

قد يصاغ بطريقة محببة لهم من خلال بيان المصالح والمفاسد أحياناً، وخطاب رقيق في أحيانٍ أُخرى، وغير ذلك، إلَّا أنَّ إقراره كقانون غير متوقف على رضاهم.

وأما التشريع الوضعي فهو في الغالب موقوف على رضا الناس، لأنَّ الدساتير الوضعيّة لا تكون عادةً سارية المفعول واجبة الاتباع إلا بعد تصويت الشعوب عليها، فلا بدَّ أنْ تُكتب بطريقة تسترضى بها الناس أو أكبر نسبة منهم، مما يستدعي حيف المشرّع وميله عن المصالح التي يفترض أن يُدركها في التشريعات في الموارد التي يظنُّ أنَّها لا تنال رضا الناس.

يضاف إلى ذلك أن وضع المشرع كمنصب يجعله محتاجاً إلى الناس، ليعيدوا انتخابه أو انتخاب حزبه في الانتخابات الدورية التي تأتي بعد الدورة التي حصل فيها التشريع، أو ليلقى مستوى من المقبولية عندهم.

3 - إِنَّ المتصدّي في النظم الديمقراطيَّة لمنصب التشريع الوضعي والداخل في دائرته يُحدِّد من خلال انتخاب الأمم ويتساوى في ذلك من جهة التأثير السفيه والحليم والعبقري وسواه والعالم والجاهل.

وبعبارة جامعة يتساوى فيها جميع أفراد المجتمع على اختلاف خصوصياتهم من جهة الإدراك وتحمُّل المسؤولية، وفي ذلك إجحاف بحق النخبة وذوي التشخيص العالي، حيث لا ينسجم مع الإنصاف تساوي مثلهم مع من لم يعرف للعقل وزناً ولا للحكمة أثراً.

ولكن قد يقال: إنَّ الضرورة دعت إلى ذلك، فضلاً عن إمكان تدارك هذا النقص من خلال تحرك النخبة لإقناع الأُمة بوجهة نظرها، وهو أمر لا يتيسر دائماً.

وكيف كان، فأهليَّة المنتخبين للتشخيص قد لا تخلو من تأمل لعدم دقة

ص: 99

الآلية المتبعة في انتخابهم أو تعيينهم، فالطرق المتبعة في التعيين لا تُؤدّي بالضرورة إلى انتخاب الأكفأ، بل الأكثر توفيقاً في أداء الدعاية الانتخابيَّة، والتي كثيراً ما تكون مرتبطة بالشركات التجارية والمؤسسات الإعلامية الكبرى، هذا في الدول الديمقراطية وليست حالات الانتخاب الفاشل والاختيار الخاطئ بالقليلة، فهتلر جاء إلى الحكم من خلال الانتخابات ولا يجري هذا الأمر بالنسبة للتشريع الإلهي، فالله تعالى يرى الأمور على واقعها، وعلمه على نحو واحد بالآثار الحاضرة والمستقبلية، ولو أنيطت بعض التشريعات الدينيَّة بأفراد فإنَّما تُناط بهم لا من جهة كونهم بشراً فقط، بل من جهة إحاطتهم بالواقع بتعليم إلهي ونور ربّاني، وتعيينهم كان بواقع حالهم، لأنَّ المعين لهم هو الله تعالى. فلا فرق حتَّى وإن قلنا بالولاية التشريعية لبعض المعصومين علیه السلام ، فتشريعهم عند إعمال ولايتهم لا يقاس به تشريع من مشرع وضعي.

4 - يختلف التشريع الإلهي عن التشريع الوضعي في أنَّ المشرع الأول تربطه رابطة قويَّة بالمشرع لهم . فهم عباده وهو يُحِبُّهم بأعلى درجات الحب، وقد دعته محبته لهم إلى تشخيص طريق الحقِّ لهم ودعوتهم لسلوكه، وفي كلّ حكم يُشرعه لهم مصلحة تعود لهم دونه، لأنَّه غني عن العالمين غير محتاج إلى اعتقادهم فضلاًعن أعمالهم، وأنّى للغني المطلق النقص والحاجة؟

وأما التشريع الوضعي فليس من الضروري أن تتجدد فيه محبَّة المشرع للمشرع لهم، وكثيراً ما ينظر للتشريع على أنه وظيفة بأجر، وأين هذا من تشريع يبعث نحوه الحُبُّ، حيث يفترض أن يكون الملحوظ فيه مصلحتهم لا رضاهم، وقد لا يرضى الفرد بشيء فيه مصلحة له إمَّا لعدم إدراكه المصلحة أو لأنَّه يُفضّل لذَّة عاجلة على مصلحة وكرامة لاحقة.

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ

ص: 100

خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »(البقرة: 216 ) .

5- يختلف التشريع الإلهي عن الوضعي بأنَّ المشرع في الأَوَّل يسعى لمنع وقوع المشرع له في المفسدة، وقد عولج ذلك من خلال التشريعات في رتب متقدّمة على الفعل ذي المفسدة الكبيرة أو المصلحة المهمة، وبتعبير أوضح تحركت التشريعات الإلهية لسد جميع أبواب عدم التحرُّك عند العبد، ولو كانت تلك الأبواب متقدّمة بمراتب على الفعل المقصود، فحينما أُريد توجيه الناس للانتهاج بمنهج المعصومين علیهم السلام - لأن منهجهم ليس إلا المنهج الذي أرادته السماء - عولج هذا الأمر من خلال بعض التشريعات التي تعلقت بمقدمات موصلة لهذا الأمر، أو مقرّبة له في الحد الأدنى، ومنها التكليف بمحبة أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام حيث جعل أجر الرسالة المودَّة في القربى، وقد صرَّحت الآيات بأنَّ هذا الأجر لنا لا للرسول صلی الله علیه وآله ، وأنه ليس إلا سبيلاً إلى ربنا، والمحبَّة تُقرّب الإنسان من التأثر بالمحبوب والانتهاج بنهجه، والمحب للمحبّ مطيع، والتكليف بالإطاعة بدون المحبَّة أصعب منه مع المحبة. وحاولت تهيئة مقدّمات المحبَّة حيث جعل النظر إلى باب دورهم عبادة، والنظر إلى وجوههم عبادة، والعين طريق القلب. وذكر مناقبهم عبادة، وفي ذلك تنبيه للقلب على بعض موجبات المحبَّة، لأنَّ الإنسان يُحِبُّ الكمال ، فإنَّ علم توفر شخصيَّة على الكمالات أحبَّها لكمالاتها. على أنَّ في بعض المناقب بيان لفضلهم علينا وعلى الوجود أجمع، والنفوس مجبولة على حُبِّ من أحسن إليها .

واسْتُحِبَّت زيارة قبورهم والسجود على تربة بعضهم والتأثر بمصائبهم وغير ذلك من الموارد والمراد من الكل الانتهاج بنهجهم مما يعني الالتزام بدين الله الحقِّ. وليس هذا إِلَّا مثالاً.

ص: 101

وأما التشريعات الوضعية فلا تعالج المشاكل في مراحل متقدمة سعياً لدفع المفسدة أو تحصيل المصلحة في مرحلة لاحقة تتبع أولى مراحل المعالجة بمراحل. ومن هنا قد تتعلَّق بعض التشريعات الإلهية ببعض الأفعال أو التروك التي لا يرى المشرعون البشر مسوغاً لتعلق التشريعات بها.

6 - إِنَّ المشرعين للقوانين الوضعيّة يقصرون النظر على خصوص الدنيا، ولا يرون أنفسهم معنيين بالآخرة، ومن هنا لا يجعل نصب أعينهم إلا ما يمكن أن يحصل عليه المشرع له في الدنيا مما يعني أن غاية نظرهم إلى التمتّع الذي يمكن أن يتحقق للمواطن في الدنيا . وأما التشريع الإلهي فإنَّه ينظر إلى خلال مفرداتها في زيادة استحقاق الثواب والمنزلة في الآخرة، بل من خلال مساهمتها في وصول العبد إلى الكمال المنشود دفعاً ومنعاً. فالإنسان لم يُخلَق ليعيش في الدنيا، وإنّما أُريد له أن يكسب في الدنيا لينتفع بذلك في الآخرة، أُريد له أن يرتقي في الجانب المعرفي، واستعداده في هذا الجانب هو الذي أظهره الله تعالى حين علمه الأسماء كلَّها بعد أن تساءلت الملائكة عن سرّ أمرهم بالسجود له، وحين رأت ذلك منه أذعنت لأمر ربها وسجدت له. ومن هنا لزم أن يكتسب الموقف الذي يعرض أمام المكلَّف (المشرع له) حكمه من خلال مساهمته في تحقيق الغرض من الخلقة ومن وجوده في الدنيا. فالغرض البدوي للتابع للتشريع الإلهي نيل الحظوة وكسب المنزلة عند الله تعالى واستحقاق الثواب ودفع موجب العقاب في الدار الآخرة. وأين هذا من غرض التمتُّع في الدنيا؟ والغرض الإلهي من التشريع تقريب العبد من الكمال المناسب له.

وملخص الكلام أنَّ الغرض من التشريع الإلهي غير الغرض من التشريع

ص: 102

الوضعي، وهذا موجب اختلاف الحكم الإلهي عن الحكم الوضعي في أكثر الحالات.

7 - سعة دائرة التشريع الإلهي لتشمل الأفعال التي لا يعلم بها إنسان آخر، لأنَّ الحاكم هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وهو أقرب إلى المشرع له من حبل الوريد، والمخالف يعلم بعدم إمكان خفاء شيء عليه، بخلاف المراقب في التشريعات الوضعية، فإنَّه ليست له قابليّة الاطلاع على كلّ الأفعال، مما يعني للمشرع له إمكان الاحتيال على التشريع ومخالفته دون استتباع العقوبة. فتشريع عقوبة ضمن قانون وضعي على فعل لا يطّلع عليه أحد كاللغو، بخلاف تشريعها من الله تعالى ، لأنَّ الحَكَم هو الرقيب الذي لا يحدُّ علمه شيء ولا يغيب عنه شيء.

ويترتب على ذلك أن يكون المانع من مخالفة التشريعات السماوية مانعاً ذاتيًا ينشأ من طريقة النفوس في سعيها لدفع الضرر المحتمل، وأما المانع عن مخالفة القوانين الوضعية عادةً فليس إلّا المانع الخارجي فيما إذا أمكن للجهة المطبقة للقانون أن تطلع على مخالفة المشرع له.

8 - إِنَّ جُلَّ التشريعات التي تصدر من البشر لوحظ فيها جانب الآخرين، فالفرد وفق هذه التشريعات ملزم بترك التجاوز على الآخرين وأداء ما يلزم عليه أداؤه لهم، وأهمل فيها جانب المشرع له إلى حد بعيد. وأمَّا التشريعات الإلهية فيمكن أن يقال: إنّ جُلّ اهتمامها منصب على شخص المشرع له، ولذلك فهي غالباً ما تحد من حُرّيَّة الإنسان فيما لا يرجع إلى التجاوز على الآخرين وترك ، واجباتهم، وتهتم كثيراً بالجانب الشخصي في الإنسان، نعم اهتمام التشريعات الإلهية بهذا الجانب يكون في حدود ما يصبُّ في النهر الأُمّ لروافد التشريع، وهو التوحيد. وغرض التشريع الإلهي الأوّل هو اتّباع الحقِّ

ص: 103

وطلب الجزاء الحسن منه تعالى، والذي يُرتجى منه أن يترك أثره في توحيد الله تعالى بعد معرفته. وهو ما وجهتنا إليه السماء أصالة(1). وهذا الطريق هو الذي يزيل كلّ الحُجُب ويُحطَّم كلَّ الأقفال عن جوهرة العبودية التي كلما اتضحت معالمها عند العبد وتجلّت على نحو يظهر تأثيرها، بل حاكميتها على الجانب العملي أشرقت أنوار التوحيد في قلبه، فتوحيد الله تعالى وعبودية العبد وجهان لعملة واحدة في نفس العبد.

وقد يتعلّق الغرض الإلهي ببعض المقاصد الدنيوية ولكن بالقصد الثانوي وينحصر القصد الأوّلي بالآخرة، حتّى إذا أخذ هذا الاعتقاد موقعه في نفس العبد ترتّب عليه أن ينظر إلى كل ما يعرض أمامه من خيار للفعل أو الترك في حدود الآثار المترتبة عليه في الآخرة.

إنَّ الإسلام يعالج مشاكل العباد في مرحلة المقتضي والدافع، ولا يدع سبيلاً يمكن أن يترك أثراً على العبد في جهة سموّ الأهداف والغايات من الأفعال إلَّا سلكه . وأما التشريعات البشرية فإنَّ تأثيرها يقتصر على إيجاد المانع من الأفعال غير المرادة، ولا علاقة لها بتوجيه المقتضي والدافع وتشذيبه إلَّا بوجوه بعيدة.

فالتشريع الإلهي يقوم على ركنين البشارة والإنذار، وما اللجوء إلى الإنذار إلّا لتدارك النقص الحاصل في استجابة العبد في مرحلة المقتضي، وإلّا فإنَّ المقتضي مقدَّم في الرتبة على المانع في التشريع والتبليغ الإلهي، ولعله لذلك

ص: 104


1- نعم أرادت أن تمنع الظلم على الآخرين من خلال لائحة الحقوق واللائحة القضائيَّة، إلَّا أنَّ ذلك ليس هدفاً أصليًّا، بل كان ذلك لدفع الظلم الذي قد يُشغل الناس عن الغاية الأساسية، فإقامة العدل الذي جُعِلَ غاية لبعثة الأنبياءعلیهم السلام ، أي غاية لخلقة البشر، إنَّما هو بمستوى رفع المانع من الوصول إلى الغاية، وبذلك يُفهم ما ورد في سورة الحديد: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد: 25)

تقدَّمت البشارة على الإنذار في بيان مهمَّة الأنبياء ووصف القرآن حيث يقول تعالى:

- «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» (النساء: 165).

- «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً »(الإسراء : 105 ) .

- «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً » (الأحزاب: 45 ) .

- «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» (الأنعام: 48).

- «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » (الإسراء: 9 و 10).

9 - إِنَّ التشريع الإلهي خصوصاً في الشريعة المحمدية (على من جاء بها أزكى التحايا وأطيب التسليم )هو تشريع لكلِّ أبناء النوع البشري.

-« لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً » (الفرقان: 1).

- «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»(سبأ: (28) . .

-نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ » (المدَّكِّر : 36 و 37)

بل والجنِّ أيضاً: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرُّ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً » (الجن: 1 و 2 ) .

وهو تشريع أريد له أن يكون باقياً ببقاء النوع البشري على الأرض، إذ خُتِمَت النبوّات بنبوة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله : «ما كانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» (الأحزاب: 40 ) .

ص: 105

فاقتضى ذلك أنْ تُلاحظ صلاحية التشريع لمختلف الأُمم وعلى ترام-ي الأيام والسنين، ولما كان هذا الاختلاف كبيراً وينعكس بلا شكّ على المصالح الداعية للتشريع كما ينعكس على قبول الأُمم لمناسبته لها استدعى ذلك ملاحظة كل هذه الجزئيات والخروج بحصيلة كلّيّة لجميع تلك الموارد، لتكون تلك الحصيلة باعثة نحو تشريع الحكم أو تركه. وهذا يعني أن الحكم قد لا يكون إطلاقه لزمان ما منسجماً مع المصلحة لكن وفق التقييم العام الممتد على اختلاف الأُمم وامتداد السنين واجب التشريع لعظم المصلحة التي لا يقبل الشارع بفواتها، فتقييم موافقة الحكم للحكمة لا يتحدد بظرف خاص أو أُمَّة معيَّنة مع عدم تيشر طريق لرفعه بعد ذلك، اللهم إلَّا ضمن دائرة العناوين الثانوية. وقد جعل البعض منها ما يصدر من الفقيه من أحكام في مساحة الفراغ، فقد بنى هذا البعض على أنه يوجد حكم بالإباحة في مورد الفراغ، لكن إذا تصدّى الفقيه لإصدار حكم كان واجب النفاذ على مقلديه، لأنَّه حكم ثانوي، وشأن الأحكام الثانوية رفع الأحكام الأوَّليَّة.

وهذا غير جارٍ في الأحكام الوضعيّة، فالمشرع غير معني ببقيَّة الأُمم ولا بالأجيال اللاحقة ،البعيدة، فتشريعه ينطلق من حاجة ومنفعة تمليها المرحلة وخصوصيَّة الأُمَّة، وعند تبدل ما يُحقق المصلحة تتغيّر الأحكام والتشريعات. حين احتاجت المصانع إلى الاستفادة من العنصر النسوي في بريطانيا، لأنها أيدي عاملة هائلة العدد معطّلة عن العمل ، شرعت الجهات القانونية ملكيَّة المرأة عام (1882م) مع أنّها قبل ذلك ولقرون طويلة لم تكن تملك، وقد شرعت دول كثيرة إلزاميَّة التعليم والملكية الفكرية وغير ذلك كثير .

10 - إنّ التشريع السماوي بني على أساس أنَّ كلَّ مفردة في الدنيا تُشكّل

ص: 106

حلقة من سلسلة ابتلاءات تنتهي بوفاة الإنسان. وقد يكتسي أثر قانون جزائي ثوب ابتلاء، وبدون ذلك يُعَدُّ ظلماً كما تقدم.

والتشريع غير الإلهي لا ينظر إلى ما في الدنيا على أنه مصداق للابتلاء، فإذا كان كذلك فقد يتّصف تشريع ما بأنه ظلم، بخلاف التشريع الإلهي الذي لا إشكال أنه موافق للحكمة.

ومن هنا قبلنا في التشريع الإلهي ترتب أثر سوء لفعل شخص على آخر له رابط بالأوَّل، وهذا الأثر نوع جزاء سوء للفاعل ونوع ابتلاء للآخر.

هذه الفوارق وغيرها ( وقد تقدّم بعضها جعلت نمط بعض التشريعات السماوية مختلفاً عن التشريعات في القوانين الوضعية.

والاختلاف في النمطين يجعل الحكم على نمط من خلال الحكم على النمط الآخر غير صحيح،لانعدام المماثلة بين النمطين، فلا يجوز التعامل مع الأحكام الإلهية بطريقة مشابهة للتعامل مع الأحكام الوضعيّة.

بقي أمر وهو أنَّنا ذكرنا لأكثر من مرّة أنَّ المسلم ينظر إلى الأعمال من جهة مساهمتها في زيادة استحقاقه في الآخرة ، أي إن غايته الأجر والثواب في الآخرة،ومن جهة أُخرى ذكرنا أنَّ الغاية من التكاليف التوحيد، وهو الغرض خلقة من الإنسان. ولا يعني ذلك التهافت في الكلام، لعدم وجود المنافاة، لأنَّ نظر العبد عادةً إلى الدار الآخرة، ومطلوبه من سعيه كسب الأجر والثواب وأما النظر الإلهي في الغاية من التكليف وهي المتمثلة بالتوحيد، فالعبد لأجل كسب الثواب يتحرَّك لامتثال التكاليف، وامتثاله لها يُقوّي في نفسه الجانب العقيدي ويجلي التوحيد عند العبد.

ففعل الله تعالى عبارة عن الخلق والتشريع، وفعل الإنسان عبارة عن الالتزام بحكم الله تعالى، وهما فاعلان ،مختاران وكلّ منهما له غاية دعته إلى فعله الاختياري، ولا يُشترط اتحاد هذه الغاية.

ص: 107

سادساً: تحميل الحكم سلبيات أحكام مشابهة

قد تحمل المفاهيم إرثاً ثقيلاً سيئاً نتيجةً لبعض الممارسات التي تصدر من بعض الشعوب تحت غطاء تلك العناوين. فيُحمل معتقد تلك المفاهيم كلَّ ذلك الإرث وإن لم يرضَ بتلك الممارسات، لأنَّه لا يرى المفهوم مغطياً لها، فهي في نظره غير داخلة تحته. وهذا التحميل غير صحيح، ولا يقبل به المنطق الصحيح في التعامل مع اعتقادات الغير وتقييمها .

ومن تلك المفاهيم العبودية والرقّ، حيث إنّها مرت بمراحل تاريخية سوداء، واستغلّ فيها بعض أبناء هذا النوع أبشع الاستغلال، وامتهنت كرامتهم إلى أبعد حد. وصُدّروا كسلعة لا يُحسَب لشعورها حساب، إذ ليس لها شعور، ولا ينبغي أن يكون لها بحسب نظرهم. والمبرّر الذي اعتمدوا عليه في ذلك هو الغلبة والقهر دون أي مبرر آخر. والمسوّغ للعبودية عندهم دائرته أعم مما يقره الإسلام، وهو فاقد لغاية سامية، إذ لا ينظر فيه إلا إلى جانب الغالب المنتصر والقوي المهيمن الذي يريد الانتفاع من كلِّ شيء، ويُسخر كلُّ شيء لمصلحته، بخلاف ما يقول به الإسلام من سبب لها ، لأن دائرته ضيقة عندنا. وجزء من الحكمة فيه يعود إلى نفس المستعبد ولو في حدود المانع من البقاء على الكفر قبل الاستعباد.

للخروج بنتيجة موضوعية وتقييم منصف لقضيَّة ما جعلت محلاً للبحث ومورداً للشبهة لا بدَّ أنْ يُحرّر موضوع البحث ومحل النزاع، وإلا فإنَّ البحث سيكون قليل الجدوى وعديم الفائدة، والبحث عن مسألة تشريع العبودية في الإسلام لا يخرج عن ذلك، فالعبودية بوصفها مفهوماً - وُجهت الطعون للإسلام على أساسه - دون تحديد ما انصب عليه التشريع الإسلامي سيكون فضفاضاً، وتناوله على سعته ودون اختصاص بحدود ما يقول به الإسلام لأجل

ص: 108

نقد هذا الدين لا يقره المنطق الصحيح. والمورد الذي شُرّع منه حكم الرقّ في الإسلام خاص، ودائرته ضيقة قياساً بما كان سبباً له عند الحضارة الغربية منذ عصر النهضة إلى أوائل القرن التاسع عشر أو ما بعد منتصفه في بعض الدول التي تدّعي أنّها حاملة لواء الحُرّيَّة وحائلة دون استعباد الأفراد، وإن كان واقعها أنّها تحولت من استعباد الأفراد إلى استعباد الشعوب، وأنَّ ما تذرفه من الدموع على حُرّيَّة الشعوب المسلوبة ليست إلا دموع تماسيح ورداء جميل لمرتد بشع الصورة أسود القلب سيّئ النية.

لقد انطلقت بعض الشُّبهات، بل والإشكالات بحسب زعم المدعين الموردة على تشريع العبودية من واقع الممارسة الغربية لهذا التشريع (القانوني) والتطبيق له وفق الضوابط التي كانوا يجرون عليها، فاكتسبت المسألة سمعة سيئة جدا من جهة السبب المسوغ لهذا الحكم في بلدانهم. والحق أنَّ ملاحظة المسألة من جهة السبب يجعلها مقيتة إلى حد بعيد، وتشمئز منها النفوس غاية الاشمئزاز، حيث إنَّ الاسترقاق وإنْ لم يُعرف تاريخ بدئه، إلَّا أنَّ الدافع له أمر غريزي في نفس الإنسان يدعوه إلى استثمار كل شيء لمصلحته الشخصيَّة وإنْ كان مشاكلاً له في النوع و مشتركاً معه في جوانب الإنسانية، فهو يسعى إلى استخدام كلّ ما من شأنه أن يسهم في إبقاء حياته أو زيادة نصيبه من هذه الدنيا، ولكنَّه حين احتاج إلى المجتمع اضطر إلى التنازل عن بعض مراداته، فقبل بمشاركة بعض أبناء نوعه له فيما يمكن أن يستفيد منه وحده، أي إنَّه قَبلَ أنْ يشترك الجميع في المجموع، فحاجته إلى أبناء نوعه دعته إلى التنازل عن طلب بعض ما يمكن أن يحصل عليه مفرداً.

ولكن إذا ما سنحت له الفرصة واستغنى ولو ظاهراً عن غيره سعى إلى استعباد ذلك الغير، فمتى ما عدَّ الإنسان نفسه في أفراد المجتمع لم يسع إلى

ص: 109

استعباد أفراده ، بل يسعى إلى استعباد أفراد من غير مجتمعه، أو أنه يرى نفسه فوق مجتمعه مما يدعوه إلى الاعتقاد بأنَّ أمره نافذ عليهم، وربما اعتقد أنه مالك أمرهم ونفوسهم.

وعلى هذا فالإنسان يسعى إلى استثمار كلُّ شيء وتملكه إلَّا إذا كان مساوياً له في المنزلة.

والذي يبدو من بعض الكتب التاريخية أنَّ الاستعباد كان أمراً شائعاً في كلُّ الأُمَم، وأنَّ المنشأ الأكثر شيوعاً إن لم يكن الوحيد هو القتال والأسر في الحرب، حيث يُؤخَذ المأسور عبداً للآسر، وتصبح ذريَّته المولودة بعد الأسر رقًا، إلَّا أنَّ دائرته اتسعت بعد ذلك لتشمل تسلّط الأب على عياله ومن يملك أمرهم حيث لا يرى لهم حرمة في مقابله، وتشمل دائرة الرعيَّة بالنسبة للحاكم لأنه لا يرى نفسه مشاركاً لهم في منزلة أو نفوذ حكم، بل هو قاهر فوقهم يفعل بهم ما يشاء، وتشمل في بعض الحالات دائرة المدين بالنسبة للدائن.

والإسلام لم يقرّ من أسباب العبودية إلَّا الحرب، وألغى الأسباب الأُخرى، فهو لم يمض سببيَّة الولاية في الاستعباد، وحدد أحكاماً للولاية وحقوقاً للمولى عليه ولداً أو نساءً.

أما الولد فله حق التربية والحضانة ودفع الأخطار عنه والتعليم وحفظ الأموال، ولم يسوّغ حتَّى الضرب للتأديب إلَّا ضمن شرائط خاصة وفي حد ما لا يترك أثراً على البدن وإن كان بمستوى الاحمرار، وأوجب الدية فيما إذا ترك الضرب أثراً على جلد الولد، كلُّ ذلك بنحو الإلزام، وأما الأحكام غير الإلزاميَّة فكثيرة. نعم أوجب في المقابل على الولد أن يُحسن صحبة الأبوين في الدنيا، وأن لا يكون تقصيرهما معه في شيء باعثاً على قطيعتهم أو ترك برهم وأكسب البرَّ أهميَّة كبرى جعلته تالياً للتوحيد في الخطابات الإلهية القرآنية

ص: 110

المتكرّرة، وحرَّم أدنى درجات العقوق من التأفف أو حدّ النظر أو النهر للأبوين.

وأمَّا النساء فقد أسقط الإسلام عنهنَّ الكثير من الواجبات تجاه الزوج، فليس له عليها إن لم ترضَ أن تتولى أمر المنزل ولا الطبخ ولا تربية الطفل ولا الحضانة وغير ذلك، وألزمت المرأة ببعض القيود التي هي من شأن الحياة الاجتماعية ولو كانت على مستوى المنزل.

والمحصل أنَّ الإسلام رفع مكانة المرأة إلى منزلة ما كانت لتحلم بها قبله، وكسبت من الحقوق أضعاف ما كان ثابتاً لها قبل الإسلام .

وأمَّا الحكّام فالشارع أفهم أتباعه أنَّ الولاية تكليف وليست تشريفاً، وأنَّ مسؤولية الوالي ثقيلة جدا لمن أراد أن يتّبع أحكام الله تعالى، وحساب الوالي بمنتهى العسر يوم القيامة، والمتصدّي للحكم على شفير الهاوية في كل لحظة، وليس له على الأُمّة حقٌّ الطاعة إلا ضمن دائرة خاصّة ضيّقة جدًا بالقياس لما عليه الحكّام وضعاً.

ومن هنا تبيَّن أنَّ الإسلام قد ضيّق حقوق الحكّام إلى حد لم يُضيقه أي دستور في العالم، وهل يوجد في دساتير العالم ضابطة تجعل بعض أفراد الأُمة ورعيَّتها أفضل من الحُكّام ، نعم لقد أتى الإسلام بهذه الضابطة حيث جعلت الكرامة منوطة بصلاح النفوس والتقوى، والقرآن ناطق بذلك: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ» (الحجرات: 13).

وليس للحاكم آية كرامة ومنزلة إلَّا أنْ يقيم حدًا ويُؤدّي حقوق العباد.

وأمَّا سلطة الدائن على المدين فلا علاقة لها في الشريعة بحرية المدين، ولا مجال أبداً لسلب حُرّيَّة المدين واسترقاقه. ولم يبقَ إِلَّا سبب واحد للاسترقاق وضمن دائرة أضيق وهو الحرب في

ص: 111

شرائط خاصَّة، فالإسلام لم يُشرع سبباً للسبي إلَّا المحاربة الله ولرسوله، وأن يُقبض على الفرد أسيراً في الحرب قبل أن ينطق بالشهادتين، فلا استرقاق إلَّا في الحروب التي تحمل الطابع الإلهي، وليست كل الحروب المتصفة بهذه الصفة سبباً لذلك، بل لا بدَّ أنْ يكون الطرف المقابل كافراً ، وأما إذا كان المقابل مؤمناً منحرفاً فلا يجوز استرقاقه بوجه وإنْ حاربه حجة الله تعالى .

وأين هذه الحصة من سبب الاسترقاق مما جرت عليه أُمم وشعوب استباحت كرامة شعوب أخرى لا لشيء إلا لأنها أقوى منها؟ وأين هذا من الإغارة على الشعوب لغرض الاسترقاق؟ وأين هذا من تسلّط الرجال على النساء والأطفال إلى حد بيعهم وشرائهم؟

وعلى هذا فملاحظة كلِّ الأسباب المعهودة عند الشعوب على بشاعة أكثرها والانطلاق من ذلك لتوجيه الطعون إلى الإسلام مما لا يقره عقل ولا يقتضيه المنطق الصحيح في التفكير.

وأمَّا بالنسبة لمن جوّز الإسلام استرقاقهم فالأمر فيه غاية في الوضوح حيث يظهر أنَّ الله تعالى حيث أنزل الإنسان إلى الأرض وجعل منه الشعوب والقبائل أراد منه أن يقيم حكومة التوحيد والدولة الإلهية، وذلك ما فيه منفعة العباد وصلاح البلاد، وابتدأ الأمر بإرسال الرُّسُل وبعث الأنبياء مبشرين و منذرين وداعين إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وحين يكثر المستجيبون لهذه الدعوة والملبّون لهذا النداء يخشى الأولياء أنْ يُجهر بالكفر على الإسلام والإيمان إن لم يقوموا بوجهه، ليكون السيف عوناً للكلمة الطيبة وسنداً لها، فمن أبى وامتنع عن الاستجابة لدعوة ربّ العباد ومالك جميع شؤونهم وأصر على موقفه رغم التهديد بالقتل انتفى احترامه وفق الموازين الإلهية وإعمال السيف آخر الخيارات، فتسقط عضويته في المجتمع الإسلامي بل

ص: 112

الإنساني، لأنَّ إنسانية الإنسان بالروح والتي هي من أمر الله تعالى، والروح التي لا تقرُّ بالتوحيد لا تستحقُ الوجود، فلا يُعامل معاملة الإنسان.

ولا شبهة ولا ضير في أنَّ القتل أشدّ من الاسترقاق، فإذا جاز قتلهم وفق منطق كلَّ العقلاء الذين يُجوِّزون قتل من حاربهم جاز استرقاقهم على نحو لا يتعامل معهم معاملة الأسياد غير المسلمين مع عبيدهم، فنفقة العبد على مولاه وكسبه للمولى، وقد وصى الإسلام الأسياد بمعاملة عبيدهم معاملة واحد من العيال، ومنعوا من ضربهم وسبهم وتعذيبهم، فاستعباده ليس إلا حكم لوحظت فيه مصلحة للشخص المستعبد ولبقية أفراد المجتمع، وقد فُتِحَت له- في مقابل ذلك عشرات الأبواب للتحرُّر إن على نحو الاستحباب أو الوجوب، وقد تعرَّضنا لهذا في بحث خاص.

وبعد ذلك كله هل يبقى مجال ليقول ذو لب: إِنَّ الإسلام قد أجحف بحق العبيد مع أنَّهم هتكوا أعظم حجاب وهو حجاب حرمة الله حين كفروا به وسلوا سيوفهم محاربين الجنده؟ ولو لم يُؤسَروا لأعملوا في الأرض الفساد واستباحوا حرمة العباد. وفوق ذلك كله لم يُشرع حكم الاستعباد إلا في حقٌ من ثبت في محاربة الحقِّ إلى أنْ أُسِرَ ، وأما من ولّى هارباً من المعركة ولو قبل انتهائها بلحظات لم يجز أسره خارج ساحة المعركة وهل بعد هذا تحديد للسبب وتضييق له ؟

وكيف كان، فالإسلام قلّص أسباب الاستعباد إلى أدنى حد، وفتح جميع الأبواب لتحريرهم من هذا القيد الذي أتى به سوء اختيارهم أو سوء اختيار آبائهم قبل ذلك، وكان بإمكانهم أن يعلموا أنَّ مصيرهم إن بقوا على هذا الموقف هو الاستعباد، وقد أعذر من أنذر. وقبل ذلك أصدر الكثير من الأحكام التي لا تجعل فارقاً بينهم وبين الأحرار إلا قيد العبوديّة أو إذن المولى في التصرُّف

ص: 113

ومع هذا لا يصح الإشكال من الغربيين على تشريع الاسترقاق في الإسلام اعتماداً على تعدد الأسباب الموجبة له عندهم، كما لا يحق لهم أنْ يتهجموا على ديننا بذلك ويدعوا تقدُّمهم في مدنيتهم على ما جاء به الدِّين لأنَّهم منعوا من الاستعباد، حيث إنَّ الاستعباد الذي كان سائداً في بلدانهم كان جُلُّه إِنْ لم يكن كلُّه من منشأ لا يقره الإسلام، بل ويسخط على فاعله أشد السخط، حيث إنَّ كلَّ عبيد أوربا في القرون الوسطى كان قد أُتي بهم من أفريقيا بطريقة لا تنم عن إنسانية فاعليها، حيث أغاروا على بلدان آمنة لا لذنب لهم إلا لون بشرتهم، والغاية هي الاستعباد، وأين حرب غايتها الاستعباد من حرب غايتها توحيد ربِّ العباد ؟ بَعُدَ الفرق بين الغايتين.

وربَّما وُجِدَت عندهم في تلك الأزمنة بعض حالات الاستعباد التي منشؤها التولّي لربّ العائلة على أفرادها، وهذا ربَّما كان أشنع من استعباد الشعوب الأخرى، لأنَّه يحمل طابع قساوة أكثر، وهل لبائع ولده أو عياله ليُستعبدوا شيء من الرقّة؟

نعم ينحصر أمر الاستعباد في الإسلام بحصّة من خان الله تعالى وخالف أوامره ورفع السيف بغية محاربة جند ربِّه، والشعوب لا تقبل أن يعيش بينها خائن لها فتحكم عليه بالموت ولا تعترض ولو بكلمة على من خان الله ورُسُله أليس من خان الله تعالى وخالف ميثاق فطرته أولى بالحكم المزبور؟ وقد بينا في موضع من هذا الكتاب أنَّ الضرورة هي التي دعت إلى إجراء بعض قوانين الجزاء الإلهية في الدنيا، وإلا فإنَّ الدنيا دار كسب، وجني الثمار غداً في القيامة، وإنَّ تشريع الاستعباد لأجل بعض المصالح التي فيه مما سيتم التعرض له مفصلاً.

ص: 114

سابعاً النظر التجزيئي للأحكام

إِنَّ أحكام الإسلام قد شُرّعت لتُشكّل بمجموعها منظومة متكاملة يدعم بعضها بعضاً، ويرفد كلُّ جزء منها أجزاء أخرى، ليكون الحاصل أكمل نظام شرعه أكمل وأعلم موجود وأرأف مشرّع.

وقد يختلف التقييم إذا نظرنا إلى حكم ما بشكل منفرد عما إذا نظرنا إليه جزءاً من كلّ، فاللون الأسود الذي يتلوّن به جزء لوحة تنقبض منه النفس إذا قصرت نظرها عليه، وتشعر بجمال كبير إذا لاحظته ضمن بقية أجزاء اللوحة الجميلة، وقد لا يتمُّ جمالها إلا من خلال وجوده فيها. ولا زال الناس يتزيَّنون باللون الأسود في اللباس وفي البدن بإطلاق لحية، أو صبغ شعر بالأسود، أو بوضع رمش أسود، أو بوشم في البدن، نعم يُشترط أنْ يقع في محله وإِلَّا انقلبت النتيجة.

والأحكام الشرعية ربَّما كانت من هذا القبيل، خذ مثلاً على ذلك مقاربة النساء التي لا تكون بالضوابط الشرعيَّة، فإنَّ الغربي إذا سمع بما تقوله الشريعة فيه من الحرمة المغلظة، وأنَّه مما يهتز له العرش، لا ينقضي تعجبه من ذلك، حيث يرى أنَّه لا ينقص من إنسانيّة الإنسان ولا من بدنه، وربما يرمي من يرفضه بالتحجّر والرجعية، ولكن إذا لاحظه من جهة تأثيراته السيئة في العلاقات العائلية، وإحجام الكثير من الناس عن الزواج وتشكيل العوائل، وضياع الأطفال بعد انفصال الوالدين نتيجةً لذلك، وفتح باب الانشغال بالملذات غير المحددة عن غاية الخلقة، وما يستتبع ذلك من آثار وخيمة على مستوى الفرد والمجتمع، يتبيَّن أنَّ هذا التحريم لو لم يُشرع لما كانت لوحة منظومة الأحكام الشرعية المتكاملة جميلة.

وحكم العبودية في الأحكام كاللون الأسود في اللوحة الفنية حيث تشمئز

ص: 115

منه النفس التي تسعى لتحطيم القيود، وربَّما أنكرت المعاد هرباً من التقيُّد «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْتَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ »(القيامة : 5 و6).

فكيف ترضخ النفس للقبول بحكم العبودية للإنسان، وتحتمل كل قيود الرقية ؟

من هنا لا بدَّ للخروج بحكم موضوعي - في خصوص المسألة المبحوث عنها - من ملاحظة عدة أمور:

1 - الحكمة الداعية إلى التشريع.

2 - الجو الذي شُرّع فيه ذلك الحكم.

3 - تمحض الحكم للصفة الجزائيَّة في التشريع وعدمه.

4 - تحديد الموضوع الذي صُبَّ الحكم عليه.

وهذا ما سنبحثه مفصَّلاً في الفصل القادم .

***

ص: 116

الفصل الرابع :أمور لا بد من ملاحظتها

اشارة

ص: 117

*العلم منطلق الأحكام الإلهية.

*الشارع يهتمُّ بالعقل.

* المصالح الشخصيَّة الفائتة لا تمنع من تشريع الحكم.

* الجو الذي شُرّع فيه الحكم.

*تشخيص مورد الحكم.

*العبد ما بعد العتق

*أكثر أُمَّهات الأئمة الاثني عشر كنَّ إماءً.

*الجو الذي عاشه العرب قبل الإسلام.

*تشريع الرقّ آلية لإنهائه بعد حين.

*الشريعة تدفع باتجاه العتق الذي فيه مصلحة العبد.

*موارد الانعتاق القهري.

*موارد العتق في الكفارات

ص: 118

العلم منطلق الأحكام الإلهية

يحيط الجهل بالإنسان إحاطة تامة، وربَّما فُتِحَت له بعض منافذ المعرفة الجزئية، ولكن لا تتيسر له المعرفة الكاملة بالأشياء والإحاطة التامة بوجوداتها، فتراه في حياته متخبطاً في كثير من الأحيان، ولما لم تقبل الحياة في جل مجالاتها التوقف اقتضت الضرورة التحرُّك على هذه الحالة، فاضطر الإنسان إلى العمل على الظنِّ، وقد تفاوتت رؤية الناس من جهة احتمال إصابة الواقع في النظر والتحليل، فبرز أهل الخبرة الذين لا يتميزون دائماً بحصول العلم لديهم فيما نظروا إليه مما هو مرتبط بمجال اختصاصهم ، ولكن احتمال إصابتهم للواقع أقوى من احتمال إصابة غيرهم، ومع القطع إجمالاً بعدم المطابقة بين نظرهم و الواقع في كثير من الحالات، إلَّا أنَّ الحاجة دعت إلى الرجوع إليهم في المفردات التي لا طريق لنا للعلم بها، أو لأجل الحصول على الظنِّ مع حصوله عندهم.

وتقييمنا لسلوكهم في طريق التشخيص لا يعتمد على النتيجة وملاحظة المطابقة للواقع وعدمها، والحكم والتقييم الصحيح إنَّما يكون في ظرف الحكم أو على أساس ما يظهر من مبررات الحكم في ظرفه لا في ظرف انكشاف الواقع بعد ذلك لو انكشف، لأنَّ المنطق يقتضي أنْ نُقيّم سلوك الإنسان في ظرفه الذي لم يكن فيه طريق لتحصيل العلم بواقع الأمر الذي أريد له التشخيص فيه حيث ساغ الحكم اعتماداً على الظن، وانكشاف مخالفته للواقع بعد ذلك لا يعني بالضرورة سلوكه الطريق الخطأ للوصول إلى الحكم، لأنه حكم حين حكم وهو يعلم أنَّ حكمه قد لا يطابق الواقع، لكنَّه اعتمد الاحتمال الأقوى حين

ص: 119

إصداره ذلك الحكم، وربَّما اعتمد المحتمل الأقوى وإن لم يكن الاحتمال أقوى، وربَّما لاحظ كلا الأمرين معاً.

خذ لذلك مثلاً طبيباً رأى أن مريضه محتاج إلى إجراء عملية جراحية، وكانت معطياته تقول: إنَّ احتمال نجاح العمليَّة (95٪)، وكان فشل العملية يجعلها غير ذات جدوى وليس بمستوى احتمال الوفاة، فلو أجرى له هذه العمليّة فإنَّه يقدم عليها وهو يعلم أنَّه وبمستوى (5٪) قد تفشل هذه العملية، فإذا لاحظنا لحظة اتّخاذ القرار يمكن أن نجزم بصحته، ولكن هل يصح أن نُقيّم إقدامه بعد ظهور النتيجة؟ فلو فشلت العملية لا يكون مناسباً القول: إنَّ خياره كان خاطئاً ، إذ الخطأ والصواب في القرار منوط بالمعطيات التي تظهر لصاحب القرار قبيل اتَّخاذ قراره، وكلّها كانت تقول : إنّ إجراء العملية أمر حسن .

«وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» (الأعراف: 188).

وما تقدَّم من الكلام ينطبق على الأحكام القضائية والأحكام التشريعية، ومن هنا جاء التذييل والتعديل، بل والإلغاء في قرارات الجهات التشريعية التي قد لا يُشَكُ أحياناً في أنها أرادت التشريع الأفضل والأنسب، لكن باب الخطأ مفتوح، لعدم الطريق إلى العلم بالمصالح الداعية لذلك التشريع، أو لعدم الإحاطة بمعارضات المصالح من المفاسد التي قد تترتب على الحكم، فمنشأ التذييل والتعديل والإلغاء للقوانين التشريعية أو الأحكام القضائية هو وجود الجهل واحتمال الخطأ مع الاعتماد حين التشريع على الظنِّ.

وعلى هذا الأساس لا يُلام المشرعون أو القضاة إذا حصل تغيير أو تعديل في أحكامهم لاحقاً عند تعيين الخطأ، لأنّهم لم يُصدروا حكماً معتمدين على مقدمات تورث اليقين، بل اعتمدوا على ما هو حجة في التحرك نحو

ص: 120

التشريع والحكم القضائي، وتلك الحجّة لا تورث القطع في كثير من الحالات، وقُبِلَ بحجيَّتها مع وجود احتمال الخلاف للضرورة مثلاً.

إنَّ التشريعات الدينيَّة مطابقة للحكمة وموافقة لها ومنسجمة معها تمام الانسجام، وإنَّه تعالى لا يُصدر حكماً في موضوع ما إلا وقد لاحظ جميع المصالح والمفاسد المترتبة عليه، ولاحظ جهة الرجحان بعد الكسر والانكسار (1)، ومقدار ذلك الرجحان، وهل يوجب الحكم الإلزامي أو غير الإلزامي، أو أنه يلزم منه تشريع الحكم الذي لا ربط له بشكل مباشر بفعل العبد وإن ترتّب عليه تحديد الفعل في رتبة لاحقة، كما في الأحكام الوضعية(2). ويجري مثل هذا الكلام في القوانين الجزائية الإلهية.

من خلال ما تقدَّم يتبيَّن أنَّه لا مجال للشك في حكم - صدر من عادل حكيم أحاط علمه بكلِّ شأن من شؤون مورد الحكم وواقع الحكم وتبعاته - من قِبَل من لا طريق له إلى معرفة واقع الأمر، ومن اقتصر إدراكه لو وُجِدَ على بعض الجهات الخاصة والتي ساغ الاعتماد عليها في الحكم والتشريع بموجب الضرورة، مع الاحتمال عند الحاكم نفسه بالخطأ لعدم الاعتماد على المقدمات اليقينية لعدم توفرها.

ص: 121


1- أي لاحظ الحاصل النهائي بعد ملاحظة المصالح والمفاسد، فالتاجر لا يلاحظ التفاوت بين سعر الشراء وسعر البيع فقط ليقدم على الشراء، بل يلاحظ كل جهات الخسارة من أُجرة نقل وخزن وعرض وحراسة وضريبة وبديل آخر ذا ربح ولا يقدر على الجمع بينهما وغير ذلك، ولا يلاحظ الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء فقط، بل قد يلحظ الكسب الإعلامي وثقة المستهلك و انعكاس هذه الصفقة على صفقاته الأخرى، فهو يلاحظ في الخسارة عدة جهات وفي الفائدة عدة جهات ليُصدر حكمه النهائي عن جدوائيَّة الصفقة، وحكمه النهائي هو الحكم بعد الكسر والانكسار.
2- المراد بعضها، وهو ما يُشكّل موضوعاً للأحكام التكليفيَّة

وأنى للعقل البشري الإحاطة بواقع الأشياء؟ ومن هنا نفهم ما جاء في بعض الروايات الشريفة من أنَّ دين الله لا يُصاب بالعقول (1) ، وأنَّ السُّنَّة إذا قيست مُحِقَ الدِّين (2).

والعقل حاكم أنَّه لا حجة لجاهل على عالم.

الشارع يهتم بالعقل

ونحن بكلامنا هذا لا تنقص من أهميَّة العقل في نظر الشارع المقدَّس، فإنَّه جعل للعقل منزلة خاصة جدا، فهو أحبُّ الخلق إليه، وهو المناط في توجه الخطاب الشرعي وترتب التكليف، وهو المناط في استحقاق الثواب والعقاب بل هو الحاكم في أصل الاستحقاق، والتشديد من جهة العقوبة المستحقة وعظم الثواب له ربط بقوَّة عقل المشاب أو المستحق للعقوبة، والعقل أحد الأدلة الأربعة على الأحكام الشرعيَّة، ولكن إدراكه للأحكام الشرعية إنَّما هو في

ص: 122


1- عن ثابت الثمالي، قال: قال علي بن الحسين علیهما السلام : «إنَّ دين الله عزوجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة، ولا يُصاب إلَّا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سَلَّمَ، ومن اقتدى بنا هدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم». (كمال الدين: ص 324 باب 31 ح 9).
2- عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشر من الإبل، قلت: قطع اثنين ؟ قال: «عشرون»، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون»، قلت: قطع أربعاً؟ قال: «عشرون»، قلت: سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟ إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان فقال: مهلاً يا أبان، هكذا حَكَمَ رسول الله صلی الله علیه وآله ، إنَّ المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف يا أبان إنَّك أخذتني بالقياس، والسُّنَّة إذا قيست مُحِقَ الدِّين». (الكافي: ج 7 ص 299 و 300 باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل.../ ح 6).

حدود ضيقة جدًّا، لأنَّ إدراكه التام الذي على أساسه يمكن إصدار الحكم ليس مجاله إلَّا بعض أحكام الاستلزامات، كإدراك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، واستلزام النهي لبطلان العبادة، وما إلى ذلك.

وأمَّا إصداره للحكم من جهة إدراكه للمصالح والمفاسد المترتبة على متعلقات الأحكام فليس إليه سبيل، لأنَّ العقل لا يمكن أن يحكم إلَّا إذا لاحظ الحاصل النهائي من عملية موازنة جميع المصالح وجميع المفاسد المترتبة على الفعل، فإن رأى بعدها رجحان المصلحة بنحو لا يسوغ فواتها حكم بالوجوب، وإن حصل العكس بأنْ رأى أنَّ المفسدة هي الراجحة بنحو لا يقبل الشارع بحصوله حكم بالحرمة، ومثلها الحكم بالكراهة والاستحباب في أصل الرجحان دون لزوم تحصيل المصلحة ودفع المفسدة.

وتكمن المشكلة في أن العقل لا يمكنه الإحاطة بجميع المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل وإنْ أمكنه إدراك بعضها، وإدراك بعضها لا يجعل العقل يحكم، فالعقل لا يحكم إلا على نحو البتّ والقطع والجزم، واحتمال وجود مصلحة أو مفسدة غير مدرَكة من قِبَل العقل يمنعه من إصدار حكمه الذي لا بدَّ أنْ يكون قطعيًّا.

فإذا ثبت أنه غير قادر على الحكم ،لذلك، ثبت أنه غير قادر على ردّ حاكم في المقام أو غيره، لأنَّه لا يرد إلَّا إذا كان لديه حكم مخالف، فإذا قام الدليل على عدم وجود حكم عقلي مخالف ارتفع من البين إشكال العقل على الأحكام الشرعيّة في المجالات التي لا طريق له فيها لإدراك الأحكام، نعم يمكن الإشكال على الطريقة، فلو اعتمد مشرّع على طريقة خاطئة لاستنباط حكم أمكن للعقل أنْ يُخطَّى الطريقة، إلَّا أنَّ المفروض أنَّ الشارع المقدَّس لم يحكم إلَّا اعتماداً على حضور الأشياء عنده وانطلاقاً من علمه بها.

ص: 123

إنَّ المدافع عن هذا التشريع وأمثاله ببيان وجوه الحكمة والمصلحة فيها لا يريد أن يدَّعي الإحاطة بكل الجهات التي لها ربط بالحكم الشرعي، بل غاية ما

أَنْ يريده تسليط الضوء على بعض المصالح التي يرى أنّها قد تترتّب على الحكم الشرعي من خلال ترتبها على ما تعلّق به ذلك الحكم، فهو مقرّب للنفوس التي كثيراً ما تنفر من بعض التشريعات اعتماداً على وجوه واهنة واستحسانات باطلة وإعمال ذوق غير سليم، والتي لا تكتفي بالبيانات الإجمالية، وبعلمها بحكمة الله تعالى وعدله.

المصالح الشخصية الفائتة لا تمنع من تشريع الحكم

إن الله تعالى وهو العالم بخفايا النفوس وواقع سرائرها من جهة كونه مشرّعاً للأحكام لاحظ حقيقة المصالح الواقعية التي تعود للعبد، سواء كانت من المصالح التي ترجع إلى تنظيم حياته وتحديد حقوقه وحدوده فيما إذا تقاطعت مراداته مع مرادات أو مصالح غيره من أبناء نوعه، أو التي ترجع إلى كسب الراحة ودفع المشاق والمشاكل، أو كانت ترجع إلى ما يُكمل إنسانيته ويُرقِّيه في عبوديته، أو كانت ترجع إلى ضمان مصالح النوع وتحصيلها، أو مصالح بعض أفراد النوع، أو ما كان يحافظ على الطبيعة أو يساهم في تطويرها .

وهذه المحتملات ليست متنافرة في وجودها الخارجي، فقد تتداخل ويوجد ما يُحقق مصلحة للفرد والنوع والطبيعة، وقد يرجع بعضها إلى البعض الآخر كمفردات التكافل الاجتماعي التي مصلحتها الظاهرة ترجع إلى بعض أبناء النوع ممن لم يتمكن من تأمين متطلبات حياته المادية، إذ يمكن أن تُوفّر مصلحة لنفس الدافع للمال، لأنَّها تنعكس على الجانب الأخلاقي للفرد وارتقاء شعوره بالمسؤولية تجاه الآخرين والرأفة على خلق الله والملكات والأخلاق الحسنة تدفع باتجاه صدور الأفعال الحسنة.

ص: 124

وعلى أساس علم الله تعالى بذلك شرع الأحكام والقوانين، إلَّا أنَّ تطبيق القانون لا بدَّ أنْ يُوكل إلى أفراد الأُمَّة بأن تتصدى لإدارة البلدان أو لتطبيق الأحكام، وحيث إنَّ الأفراد لا يعلمون بواقع الحال، تعيَّن أحد أمور ثلاثة: إهمال تطبيق الأحكام، لئلا تقع أخطاء في مجال التطبيق فتُؤدّي إلى فوات مصلحة مهمَّة أو تُحقِّق مفسدة يهتم بدفعها أو إيكال تطبيقها إلى المتصدّي بلا ضابطة خاصة من المشرّع، فتحرز فيها بعض المصالح المتوفّرة في بعض متعلقاتها، أو تدفع مفاسد، ولكن بثمن فوات مصالح أو بروز مفاسد أُخرى كانت ستدفع، أو تحصل من خلال إهمال المطالبة بتطبيق الأحكام أو تشريع قواعد عامة لا يُنظر فيها إلى الخصوصيات التي لا يُدركها المتصدي لتطبيق الأحكام، وتُؤثر في مقدار العقوبة المستحقة، أو في المجازاة بالإحسان، أو في إثبات الحقوق ومقدارها.

أمَّا الأول فباطل جزماً، لأنَّه خلاف الحكمة، ويفتح باب الفوضى على مصراعيه، وتضيع الحقوق والحدود ، مما يُؤدّي إلى انشغال الأفراد في نزاعات لا حد لها ولا حصر تُشغلهم عن السعي لتحقيق الغاية من خلقهم.

وأمَّا الثاني فهو وإنْ كان أقل ضرراً من الأوّل إِلّا أنَّه سيجرُّ بعد حين إلى أن تضيع حقوق الأُمة تحت أقدام مزاج المتصدي ورغباته.

ولا يبقى إلَّا الخيار الثالث حيث تلاحظ فيه بعض الخصوصيات التي يُحفظ معها أكبر مقدار يمكن الحفاظ عليه من الحقوق، ويمكن معرفتها من قِبَل المتصدّي للتطبيق.

ولا أدَّعي أنَّ كلَّ ما له دخالة في اختلاف الاستحقاق مما يمكن أن يلاحظه المتصدّي للتطبيق يُؤخَذ في مواضيع القوانين، فقد يجرُّ ذلك إلى التشعب والتعدّد الذي يصعب على المتصدين الإحاطة به.

ص: 125

وعلى هذا فالخصوصيّات التي لا مجال لمعرفتها من المتصدين لتطبيق القوانين وإجراء الحدود بحسب العادة لا يُشرع الفارق في القانون لأجلها، وكذا الخصوصيات التي يعسر الاطّلاع عليها.

وربَّما أمكن ملاحظة الخصوصية ومعرفتها لكنَّها لا تُلاحظ في تشريع القانون، لأنّها إذا لوحظت وأمثالها تشعبت القوانين إلى حد بعيد يصعب الإحاطة بها لتجري على الأرض وتُطبّق .

ولو أمكن أن يعلم بها إمام متصدّ لحكم الأُمة يترأس الجهاز التنفيذي فيها لم يُمنَع من عدم ملاحظتها، لأنَّ التشريع للكلِّ، أي للإمام المعصوم ولغيره من جهة، ومن جهة أخرى لا تنقاد النفوس للأحكام المختلفة التي لا تُعرَف جهات الاختلاف فيها وإن علمت مسبقاً أنَّ المتصدّي معصوم.

وهذا ما حصل لداود علیه السلام الذي كانت نفسه تتوق إلى الحكم بحسب ما يراه من الواقع لا بحسب الظاهر(1) يضاف إلى ذلك أنَّ الإمام أو النبيَّ أُريد له أن يكون قدوة، فالضرورة حاكمة في الجملة أن تكون طريقته في إدارة المجتمع وتطبيق أحكام الشريعة وإجراء قوانينها ممكنة التطبيق من غيره، ولما لم يمكن للغير إدراك تلك الخصوصيات تحتمَّ أن يكون جريان التطبيق من الإمام دون ملاحظ-ة تلك الخصوصيات والاقتصار على الظاهر له ولغيره.

ص: 126


1- وقد تعرّض القرآن لذلك بقوله: «وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ» (الأنبياء: 78). وقد قيل: إنَّ معنى كون الإمام صاحب الزمان علیه السلام يحكم بحكم داود هو أن يحكم بمقتضى علمه بالواقع وليس اعتماداً على ما تُؤدّي إليه الأمارات الحجة أو البينات. نعم، ورد في الروايات أنَّ ما حصل هو مناقشة في الحكم بين الوالد وولده ولم يصدر إلَّا حكم واحد منهما

وقد يختلف الأمر إذا قامت في آخر الزمان دولة الحق لأسباب، منها: ارتقاء إدراك الأُمَّة وإمكان إذعانها لأحكام الإمام عجل الله تعالی فرجه ، ومنها : أنَّ المتصدي سيبقى هو المعصوم إلى أن تقوم الساعة.

ثمّ إِنَّه قد يُسَنُّ قانون جزئي يُجريه ويُطبقه البشر، ويكون من مفردات تطبيقه مجازاة أفراد غير مستحقين للجزاء بحسب الواقع، كمن شهد عليه شاهدان عادلان بحسب الظاهر بارتكاب جرم معيّن مع اشتباههما في الشهادة أو مع تعمد الكذب من أحدهما على الأقل، دون أن يظهر عليه عدم العدالة، فإنَّ شهادتهما مقبولة حينئذ، ويترتب على ذلك إجراء العقوبة عليه أو إقامة الحد.

ومثل هذا الخطأ لا ينافي العدل ولا يُعَدُّ ظلماً، فليست كل عقوبة من دون استحقاق ظلماً، والوجه في ذلك أن طبيعة القوانين الكلية التي أريد للبشر أنْ يُطبقها لا بدَّ وأنْ يحصل فيها مثل هذا، لأنَّ معرفة الواقع غير ممكنة لمجري الحكم، فلا يمكن المجازاة على الواقع، وترك العقوبة في كل الموارد التي لا طريق فيها لمعرفة الواقع فيه ما فيه من المفاسد وضياع حقوق أصحاب الحقوق، والأنكى من ذلك كله انشغال المجتمع عن هدف خلقته، فإنَّ انتشار الظلم يدفع الأفراد للبحث الدائم عن ما يمكن أن يحمي مصالحهم ووجودهم، ولذا جُعِلَت إقامة العدل غاية لخلقة البشر ، لأنّها غاية لبعثة الأنبياء، وبعثة الأنبياء إنَّما كانت للأخذ بأيدي الناس إلى غايات خلقتهم.

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد: (25).

وفي الحقيقة لا تُشكّل إقامة العدل غاية حقيقية، بل هي عملية رفع مانع من موانع الوصول إلى الغاية، فالعدل الذي جاء الأنبياء لإقامته ظرفه الدنيا، ووجود الإنسان لا تُشكّل النشأة الدنيوية فيه إلَّا القليل، فلا يمكن أن تكون

ص: 127

غاية الخلقة مقتصرة على فترة قصيرة من الخلقة وهذا بخلاف المعرفة والكلام موكول إلى محله.

فلا يبقى إِلَّا الاعتماد على بعض الضوابط الظاهرية، والتي عُلِمَ سلفاً أنّها قد تتسبب في معاقبة من لم يذنب وسلب حقٌّ بعض أصحاب الحقوق، وهو أفضل الخيارات أمام المشرع ، لأنه بدون ذلك تضيع حقوق آخرين أكثر عدداً تمن يضيع حقه بعدم الرجوع إلى هذا القانون الكلّي.

والمشرّع لا يلحظ عند تشريعه للأحكام - المعتمد إجراؤها على الظاهر - خصوص فلان الذي سيظلم أو خصوص الحالات التي سيُسبب فيها القانون ضياع حقوق بعض الأفراد، لأنَّ التشريع الكلّي تُلاحظ فيه كل الحالات، فإنَّ إصدار التشريع فعل واحد، فلا بد من عملية موازنة واحدة للمصالح تدخل فيها كل المصالح الجزئية في التطبيقات والمفاسد في الموارد الجزئية.

فإن كان إرجاع الحقوق وإقرارها في موارد تطبيقه -على سعة دائرتها - أكثر من ضياعها، لزم بمقتضى الحكمة تشريعه، إذ ليس من الحكمة ترك تشريع حكم تضيع فيه (أي الترك) حقوق الأفراد بعدد عشرة مثلاً مع أنه يمنع من ضياع حقّ تسعين آخرين، ولا يبعد أن يكون ترك تشريعه ظلماً لهؤلاء التسعين.

والملحوظ في التشريعات المصلحة العامة، إذا لم يتوفّر طريق آخر يُحفَظ فيه حق أكثر من تسعين وفي كل الموارد، وأما الموارد التي تسبب فيها بضياع حقوق الأقلية، فالظلم فيها حصل من الشخص الذي تجاوز على الحقِّ، ويُعَدُّ جريان الحكم في غير محله على الفرد ابتلاء أو امتحاناً، وسيعوض المبتلى بأجر من الله تعالى إن صبر وترك الجزع.

ص: 128

الجو الذي شرع فيه الحكم

لقد جاء الإسلام في وقت كان فيه النظام الاقتصادي العالمي كله قائماً على الرقّ، فالتجارة عمادها الرقّ ، والصناعة قائمة على الرقّ، والزراعة مرتكزة عليه، وإلغاء الرقّ جملة واحدة كان يعني انهيار الاقتصاد الشامل، وهذا يعني بروز أثر مخرّب، وهو مما لم يأتِ الإسلام له.

لذلك اقتصر دور الإسلام ابتداءً على تحديد منابعه وتضييق دائرتها إلى أبعد حد، ثمّ وضع الحجر الأساس لمشروع زوال أصل الرقّ بعد حين، حيث لا تُوجّه صدمة إلى الاقتصاد، وسنت القوانين بنحو رضي بها العبيد واستماتوا دفاعاً عنها قبل أسيادهم، ولم يشعر الأسياد بالحيف الكبير لولا كبرياؤهم الزائف الذي ربَّما منعهم من قبول النظرة لهم من الإسلام بالعين نفسها التي ينظر بها إلى العبيد.

وقد سلك الشارع طريق التدرج في تشريع بعض الأحكام وإن كان بوتيرة أسرع، كما في تحريم الخمر حيث بيَّن مفاسده بشكل مجمل أوّلاً: «يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمُ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما»(البقرة: (219)، ثمّ حرَّمها في أوقات الصلاة حيث قال: «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (النساء: 43 ) ، ثمّ حرَّمها بقول مطلق حيث قال: «يا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(المائدة: 90 ) .

وهكذا حصل في حكم الرقّ، فقد وُضِعَت الأسس العمليَّة لإنهاء عمليّة الرقّ بصورة تدريجية لا يتأثر بها اقتصاد الشعوب، بل تبقى الدورة الاقتصادية مستمرَّة، ولكن بصورة يُفترض أن يتقلّص معها يوماً بعد يوم تأثرها بإلغاء الرقّ إلغاء متباطئاً، ولكن بزخم الاستمرارية.

ص: 129

وبقاء الحكم التشريعي في منظومة الأحكام الشرعية ببقاء الشريعة لا يعني ضرورة وجود الرقّ خارجاً في كل وقت، وها نحن اليوم نعيش بلا وجود للعبودية في الواقع الخارجي مع وجود الحكم في الشريعة، نعم لم ينشأ ذلك من تطبيق الشريعة، لكن ذلك ليس إيراداً ، لأنَّ الشريعة لو طبقت وعمل بها أتباعها لأخضعوا الدنيا كلَّها للإسلام ولسُدَّ باب الاسترقاق الجديد إلا ما تولّد من أبوين قنّين أو ما زاد على ذلك بيسير، كما لو اشترط مالك الجارية على المحلّل له وطؤها أنْ يكون ولدها رقًا، وهؤلاء سيكونون مورداً للإعتاق الواجب في موارد الكفارات العديدة وفي موارد الاستحباب، فليس ببعيد أن تكون جهة التشريع قد ضمنت أسباب انتهاء ظاهرة الرقّ، وبقي التطبيق من مهمة الأتباع.

هذا بالإضافة إلى ما تقدَّم من أنَّ إلغاء الرقّ جملةً واحدةً يعني إيجاد مانع قوي من إيمان المالكين وبقاءهم على الكفر بكل ما له من تداعيات.

تشخيص موارد الحكم

من المهم جدًّا في تقييم حكم ما بموضوعية ودون حيف وميل وإجحاف أنْ تُحدد موضوع ذلك الحكم، لنرى إن كان بإمكاننا الرؤية لجهات المناسبة بين ذلك الحكم والمورد الذي شُرّع فيه.

والرق بوصفه حكماً شرعياً لا يخرج عن هذه الدائرة، ولذا فإنَّ من الضروري تسليط الضوء على من حكم الشارع عليهم بالعبودية، والشرائط المعتبرة في فعليّة هذا الحكم، وتأثيرات هذا الحكم في أفق مستقبل المحكوم به لو ارتفع هذا الحكم.

إِنَّ الرقّ لم يُشرع إِلَّا في خصوص من أُسِرَ في حرب الحق بين المسلمين والكفّار، ولم يكن قد أسلم قبل أن يُقدر عليه.

ص: 130

تتفق الأديان السماوية ويتَّفق أتباعها على أنَّ الذي لا يتبع الدين الحق يكون مآله في الدار الآخرة إلى النار، وعذاب النار لا يقاس بأي أنواع العذاب في الدنيا، لا من حيث الكيف ولا من حيث الكم، مع ملاحظة أنَّ الدار الآخرة لا تُحد بزمان، وليس الحكم بالرقية شيئاً يُعتد به في مقابل عذاب جهنم، ومع ذلك ترى أتباع الديانة المسيحية واليهودية يقبلون أنْ يُعذَّب من لا يتّبع الدين الحق بالنار في القيامة، ويردُّون على الله تعالى أن حكم بعبودية شخص لجرم هو أكبر من ترك الدِّين الحقِّ، بل هو ترك له مع محاربته وحمل السلاح لقتل أصحاب الدعوى، والمشرع في الموردين هو الله تعالى، خصوصاً مع ملاحظة أنَّ الاستعباد الذي يقول به الإسلام لم ينظر له كحكم جزائي محض، بل هو حكم شُرّع لأجل مصالح ذكرنا في طيّات الكتاب جملة منها. أم أنا جعلنا الله تعالى أهون المشرعين وهو أولاهم، بل لا حق في التشريع لغيره؟

لقد تسالمت النواميس البشرية على أنَّ خيانة الوطن جرم ما بعده جرم، وسُنَّت القوانين الجزائيَّة لكلِّ الدول في الأزمنة السابقة وللكثير منها في زماننا الحاضر على حكم الإعدام لمن تثبت بحقه جريمة خيانة الوطن والوطن والدولة أمر اعتباري، وتحديده بحد خاص ليس إلا في حدود البروتوكولات، وربَّما تغيَّر الحد بحسب الاتفاقيات، والوطن ليس إلَّا أرض نحيا عليها ونرتبط بها، وفي المقابل ارتباطنا بالله تعالى أمر حقيقي، بل لا نكتسب وجودنا إلا من خلال ارتباطنا به تعالى، ونعمه علينا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فلماذا نستكثر على الله تعالى أن يحكم بالرقيَّة التي هي دون القتل على من ارتكب أعظم خيانة له وهو صاحب أكبر حقٌّ ؟ أم أننا جعلنا الله تعالى أهون علينا من غيره؟

لقد أطبقت آراء كلَّ الأُمم على جواز قتل من شهر السيف محارباً لها، وإلَّا فلماذا يحاربون من حاربهم؟ والقتل أشدّ من الاسترقاق، فلماذا نُجوز لأنفسنا

ص: 131

قتل من يحاربنا ولا نقبل أن يحكم الله عزوجل باسترقاق من حارب جنده؟ وجنده يحاربون لهدف مقدّس سام، وغيرهم يحاربون لأسباب تافهة ورغبات حُكّام أكثرها نابعة من الأنانية؟

إنَّ المحارب الذي يُؤسَر في حرب لإذكاء الفتنة وطمس معالم الحق وإعلاء كلمة الباطل لم يحترم ربوبية الله تعالى ، مع أنَّ الجيش الذي حاربه تصبُّ حركته في مصلحته وأمثاله لحملهم على الدخول في جبهة الحق والفئة التي تؤمن بالله فكيف يُستكثر على الله تعالى أنْ لا يَحترم إنسانيته، بل أنْ لا يُجعَل له حرمة في جهة خاصة فقط وإن كانت جهة مهمة وهي جهة ملك أمر نفسه؟ أليس من يشكل على حكم تشريع الرقّ في الدين الإسلامي ينطلق من منطلق حقوق الإنسان؟ فهلا قال بحقوق خالق الإنسان والتزم بضرورة مراعاة ذلك؟

إنَّ واقع الحال في منطلق مثل هذه الإشكالية هي أنها مفردة في قائمة طويلة، الغاية منها أو نتيجتها في الحد الأدنى إسقاط حرمة الدين الإسلامي والسعي لتكذيبه، وهذا ما يتجلّى بمظاهر مختلفة، فمرة يأتينا بمظهر الإشكال على سلوك النبي صلی الله علیه وآله، و أخرى بمظهر الإشكال على زوجات النبي صلی الله علیه وآله وثالثة بالإيراد على أصحابه البررة، ورابعة بدعوى التهافت في الكتاب الكريم، و خامسة بوصم الإسلام بالدِّين الإرهابي، وغير ذلك الكثير.

إن الميزان الإلهي في تقييم الأفراد مرده إلى التقوى، فأكرم الناس عند الله هو الأتقى، فإذا لم تكن تقوى ولم يكن إيمان ورفع السيف في وجه الحقِّ، فأية حرمة أبقاها العبد لربه ليُبقي الله له على حرمة ؟ فغير الموحد لا قيمة لإنسانيته بحسب الموازين الشرعية والمقاييس الإلهية، بل هو كالأنعام، بل أضل سبيلاً. هذا لو كان المتبع هو المجازاة بمثل العمل، فكيف إذا كان الحكم الإلهي تُراعى فيه المصالح العامة للعباد؟ حينئذٍ لا مجال لحزازة أو غضاضة في مثل هذا التشريع الإلهي لمنصف فتح عينيه وأراد أن يرى الحقيقة.

ص: 132

وليس من البعيد أن تكون القوانين الجزائية المشرعة في الإسلام، بل والآثار التكوينية للأعمال الاختيارية التي يمكن أن تُوصف بالحسن و القبح، راجعة كلُّها إلى مصالح العباد، سواء كانوا أصحاب العمل نفسه أو غيرهم، وإلا فإنَّ الحكمة قاضية لولا ذلك بأنَّ الجزاء يكون في الدار الآخرة، إِلَّا أَنَّ حُبَّ الله لعباده يبعث على أن لا يكتسب الامتحان في الدنيا طابع الامتحان فقط ليظهر الاستحقاق وتُبتلى المعادن، دون سعي منه تعالى لإنجاح الممتحن في امتحانه، فدعا ذلك إلى أن تظهر آثار بعض الأعمال الحسنة والسيئة والتي هي مفردات الامتحان في الدنيا كمنبهات للممتحن الشخصي والنوعي ودوافع وروادع ليكون أقرب إلى أداء الدور الصحيح في هذا الابتلاء، وبدون ذلك لا يأتي إلى طريق الحقِّ ويثبت عليه إلَّا الأندر.

والحكم الجزائي للكافر المحارب للحقِّ بالرقية من هذه المنبهات والوسائل المساعدة على استقامة الناس وما أكثرها وما أقل المنتفع بها، فمع كثرة المنبهات في عالمي التشريع والتكوين لا زال المؤمن الحق أندر من الكبريت الأحمر، ولك أن تتصوّر واقع الحال بدونها، ولا يحتاج الأمر إلى تفكير طويل وقد صرَّح القرآن بأنَّ الناس سيكونون أُمة واحدة على الكفر.

«وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» (الزخرف: 33 - 35 ) .

وكيف كان، فإنَّ مسألتنا لو جرَّدناها عن المصالح التي لأجلها شرعت الإرادة الإلهية حكم الرقّ فيها بتفاصيله الكثيرة وشرائطه المتعددة، كفانا في ذلك القول بأنّ ما يستحقه عبد استهان بحرمة الله تعالى وحارب أولياءه ومن يحمل

ص: 133

فكر أوليائه الذي جاءت به ملائكته أنْ لا تُحترم إنسانيته من الله تعالى، بل أنْ لا يُحترم وجوده. ومع كلّ ذلك لم يُشرع الله تعالى حكم عبوديته بناءً على ملاحظة استحقاقه، بل شرعه - انطلاقاً من استحقاقه - لمصالح ترجع إليه قبل أنْ يصبح رقا، بل وبعد أن صار عبداً وإلى غيره من أبناء نوعه. ولولا ذلك لما شرعت العبودية في الإسلام، فأيَّة غضاضة تبقى بعد هذا في مثل هذا التشريع؟

ولا بدَّ مع ذلك من الإشارة إلى أنَّ الحكم بالرقية على الأسير الكافر ليس حكماً فعليا بمجرد الوقوع في الأسر، بل هو موقوف على نظر إمام الأُمَّة وقائدها، وهو ما نستوحيه من سورة محمّد، حيث قال عزوجل :« فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزارَها» (محمد: 4 ) .

وقد فعل النبيُّ ذلك في بعض الغزوات، حيث أثبت لنا التاريخ أنَّه وهب لهوازن بعد غزوة حنين أربعة آلاف أو ستة آلاف رأس سباهم في المعركة، وما ذاك على الرسول بغريب وهو أصل الكرم ومعدن الرحمة .

العبد ما بعد العتق

لقد أعطى الإسلام للعبد بعد عتقه ما لم يُعْطِ غيره من نُظم التشريع، فإِنَّه وبمجرَّد العتق يتمتّع بكامل الحقوق مع بقيَّة المواطنين، والأمثلة على ذلك عديدة بعد الجزم بأنه لا يوجد في نص شرعيّ واحد ما يُثبت فرقاً بين المعتق وبين بقيَّة الأحرار، فضلاً عن سريان نقص لأبناء ذلك المعتق .

فمثل زيد بن حارثة المحرَّر يُعهد إليه بالقيادة العامة لأوَّل جيش يُرسل إلى خارج الجزيرة العربية، وكان من أفراد الجيش الكثير من أبناء الذوات وعلية القوم في الزمن الغابر ، ومنهم قريش التي كانت ترى نفسها فوق جميع الناس، إنّ جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلی الله علیه وآله وصاحب الحظوة والمنزلة الرفيعة عنده

ص: 134

كان فرداً من الجيش مع كل ما يتمتع به من الكفاءة وقابلية القيادة التي لا يُستبعد أنها أكثر مما كان يتمتع به زيد، بل ربما جزمنا بذلك، ولعل النبي صلی الله علیه وآله أراد بذلك أنْ يُؤكِّد طريقة الثوريَّة على الواقع البائس الذي كان سائداً قبل ذلك، هذا لو ثبت أنَّ زيداً كان أميراً على جعفر .

وأسامة بن زيد أصغر قائد لأكبر جيش تمكّن النبيُّ من جمعه في ذلك الوقت، وهو ابن من كان في وقتٍ ما عبداً.

وشرف الاتصاف بصفة أُمّ المؤمنين أعطي لبعض من كنَّ إماءً، فجويرية بنت الحارث بن ضرارالمصطلقيَّة قيل : إنّه اشتراها فأعتقها وتزوّجها، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضري سبيت وأعتقها النبيُّ وتزوجها. وبلال الذي لم يُؤمَر غيره بالارتقاء على أقدس محل عند المسلمين فوق ظهر الكعبة كان عبداً وأُعتق، وقصته مشهورة.

أكثر أُمهات الأئمة الاثني عشرعلیهم السلام له كن إماء

إنّ الإمامة من أعلى المراتب التي ينالها الإنسان، فإبراهيم علیه السلام لم يصبح إماماً إلَّا بعد النبوة والرسالة، ومع ذلك فإنَّ أكثر أُمَّهات أئمتنا علیه السلام كنَّ إماءً في وقت ما.

فقد كانت أُمُّ الإمام السجاد علیه السلام أمَة أُسرَت في حرب المسلمين مع الفرس، وهي على اختلاف الروايات في اسمها بين خولة وشهربانو وشاه زنان وبرة بنت يزدجرد ملك الفرس، جاءت إلى أرض الإسلام أمَةً، فلم يلتفت الإسلام إلى ذلك وفتح لها باب الشرف في الدنيا والآخرة حين اقترنت بسبط النبي صلی الله علیه وآله و ولدت له الإمام الرابع وأبا كل الأئمة اللاحقين، فهي زوجة إمام وأُمّ لتسعة من الأئمة عليهم السلام ، وأيَّة درجة في الشرف أعلى من هذه؟

ص: 135

وكانت أُمُّ الإمام الكاظم لا جارية، وهي حميدة المصفاة التي صارت حُرَّة وملكت أُمَّ الرضا علیه السلام فأهدتها ولدها الكاظم علیه السلام

وكانت أُمُّ الرضا علیه السلام جارية تُسمّى الخيزران المرسية، وقيل: شقراء النوبية، اسمها أروى وشقراء لقب لها، وقيل: سكينة النوبية، وقيل: تكتم وسمان ونجمة. ومهما يكن من حقيقة اسمها فإنّها جارية.

وكانت أُمُّ الجوادعلیه السلام جارية أيضاً يقال لها: سبيكة، وقيل: إنَّ اسمها خيزران، وكانت نوبيّة على قول ، وقيل : إنَّها كانت تُدعى دُرَّة، وقيل: ريحانة.

وأُمُّ الهادي علیه السلام كانت أمة يقال لها: سمانة المغربية، وقيل غير ذلك.

وأُمُّ العسكري الا كانت أمة يقال لها: حديثة أو سوسن أو حربية.

وأُمُّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه أيضاً أمة، وهي السيدة نرجس.

وبهذا يكون سبعة من الأئمة الاثني عشر قد ولدتهم من كنَّ إماءً، مما يعني أنَّ الإسلام لا يسدُّ باب رقيّ ومكانة اجتماعيَّة عن من كان رقّا، وإنَّه بمجرد انتهاء الرقية يكون المعتق فرداً كامل الأهليَّة لنيل أية مرتبة بالغ ما بلغت.

وليس مصادفة أن يكون هذا العدد من أُمَّهات الأئمة عليهم السلام إماءً في وقت سابق، خصوصاً مع ملاحظة أنَّ الضرورة حكمت بأن تكون الرابطة بين نور النبوّة ونور الإمامة هي السيدة الزهراء ، بل أن يكون الرابط النسبي بين الأئمة وجدهم رسول الله صلی الله علیه وآله هي السيدة الزهراء علیها السلام ، ليكونوا أبناء رسول الله، وأنْ يكون أوّل إمام وهو علي علیه السلام من حُرَّة في وقت كان الإسلام في المهد،وكون الأُمَّ أَمَة يُعَدُّ منقصة عند أهل الجاهلية المدعوين إلى الإسلام قد يُنفّر من أهل الدعوة والخضوع لقادتها، فيبقى عندنا تسعة من الأئمة، فإذا لاحظنا أنَّ من أُمُّه أمة منهم كانت النسبة سبعة إلى تسعة فمن البعيد جدا أن يكون ذلك محض مصادفة.

ص: 136

الجو الذي عاشه العرب قبل الإسلام

لا يوجد مجتمع يعيش من دون طريقة حياة خاصة تُقَرُّ بها قوانين خاصة وأعراف حاكمة، والرق باعتباره ظاهرة في المجتمعات التي نما فيها برعم شجرة الإسلام كانت له أحكامه الخاصة، فقد كانت كل غلبة فردية أو قبلية على الخصم سبباً مشروعاً للاسترقاق، وكان كلُّ من يخطف شخصاً فقد مَلَكه واستعبده، بل زاد الأمر على ذلك حيث جعلوا في مراهناتهم إمكان اشتراط أن يمتلك الفائز الخاسر إلى مدَّة معيّنة أو إلى آخر عمره.

ثم كان الجوع والخوف من الطامعين سبباً آخر لانتشار الاسترقاق، الأمر الذي حمل الكثير من الغرباء والفقراء على عرض أنفسهم للبيع في سوق النحاسين طواعية، لكي يجدوا مأوى يكفل لهم الأمان والشبع.

لقد جاء الإسلام الجزيرة العرب والعالم كله والنظام قائم على الاسترقاق وهو مقبول من الجميع، ولا ينظر المجتمع إليه إلَّا كما ينظر إلى تملك حيوان أو سلعة منزلية دون شعور بسوء، ومثل هذا الاستحكام لايُلغى بمجرَّد التشريع خصوصاً مع القيمة المالية الكبيرة التي يُشكّلها الرقُ.

لقد أسلم المؤمنون بالنبي صلی الله علیه وآله وأسسوا معه هذه الدولة، وكانت لهم ميزة الصحبة والريادة ، وحين نزل القرآن يلزمهم بضريبة مالية لمن ناجى النبي صلی الله علیه وآله وهي صدقة النجوى التي كان يُفترض بحكم كونها صدقة أن تذهب لسدّ حاجة الفقراء من إخوانهم المسلمين لم يمتثلها أحد غير عليّ علیه السلام ، فهل يقبلون بالتنازل عن الامتياز المالي الكبير المتمثل بالقيمة المالية للعبيد بأن يتخلوا عن الرقّ الذي كان ملكاً لهم؟ لا شكّ أنَّ ذلك سيكون سبباً لإبائهم عن قبول الإسلام قبل إسلامهم، وربَّما سبباً لمعصيتهم وتمردهم، وربَّما خروجهم من الدين إذا كان التشريع بعد إسلامهم.

ص: 137

إنَّ البديل الأمثل للقضاء على الرقّ يتمثل بتشريع خالٍ من هذا الأثر السيئ، ويكون بحيث يُنظر إليه بنحو لا يعتبر كلفة عليهم إن لم يمكن أنْ يُنظَر له بإيجابيَّة، لكنَّه يكون بآلية تضمن القضاء على هذه الظاهرة بنحو تلقائي دون أي ثقل على النفوس. وقد يقال: إنَّ هذا الكلام ينحصر أثره في تبرير عدم تشريع الإسلام لقانون يلغي بموجبه ظاهرة الرق ولا علاقة له بتشريع سببية المحاربة الله ولرسوله للرقّ الجديد.

لكن الإنصاف أنَّ المسألة لا تقف عند هذا الحد، فلو سُدَّ باب الرقٌ إِلَّا ما سلف لشحت نفوس و تمرّدت، فالكثير لا يتصوّرون إمكان الحياة برفاه دون رقّ، ولا ينحصر ذلك بالعوائل ذوات الدخل العالي، فإنَّ ال-رق كان متوفّراً بنحو يتمتّع به حتّى العوائل المتوسطة الدخل، بل وبعض العوائل الفقيرة.

تشريع الرق آلية لإنهائه بعد حين

لقد شرع الإسلام - الذي لا شكّ أنَّه النظرية المثلى لإسعاد أبناء النوع الإنساني وحفظ إنسانيتهم - أحكاماً في باب الرقّ نكاد نجزم بأنّها وبشكل تلقائي كانت تسير باتجاه إنهاء حالة الرقّ، ولو بعد حين، وليس من السهل أن تحل مشكلة بهذا المستوى من التأصُّل في المجتمعات البشرية بمجرد تشريع تُصدره الشريعة ولو كان هذا التشريع موافقاً للمصلحة، وقد سلّطنا الضوء على بعض المصالح المترتبة على أصل التشريع.

إِنَّ السببيَّة التي شُرّعت للرقّ لا تخرج عن نطاق أمرين:

الأوَّل: الأسر في الحروب مع الكفّار.

الثاني: التوالد بين العبيد.

والسبب الأوَّل بحسب التشريع لم يكن مقدراً له أن يبقى إلى آخر الدهر،

ص: 138

فالفتوحات الإسلامية من الناحية النظرية لم يكن مقدراً لها أن تبقى إلى الأبد، لأنَّ ظرفها المكاني لا يعدو الكرة الأرضيّة، ولو التزم المسلمون بالمبادئ الإسلامية التي انطلقوا على أساسها فاتحين لبقاع الأرض لما بقي موقع لا ترفرف عليه راية الإسلام.

ومع الواقع الحالي المرّ فإنَّ الحرب مع الكفّار تقتصر دائرتها على الدفاع، ومن هاجمني في أرضي يستحقُ أكثر من الرقّ، فجميع نواميس البشر تُجوِّز قتل المهاجم في الحروب التي من هذا القبيل، لأنَّه كان أداة لإرادة رامت احتلال أرضي واستعباد شعبي ولو بقتل أعداد كبيرة منه، وعلى هذا فالسبب الأوَّل للاسترقاق في حكم المعدوم من الناحية العملية في زماننا الحالي.

ويبقى السبب الثاني، والواقع خير برهان على أنه غير كافٍ لاستمرار مشكلة العبيد وجعلها متعسّرة الحل، فقد سارت الأمور بنحو آل إلى أن تترك الأمم الإسلاميَّة الاستعباد حتَّى كاد أن يكون شيئاً أشبه بالأساطير، ولم ينقل لنا التاريخ مفردة تشير إلى أنَّ انتهاء حالة الرقّ في المجتمعات الإسلامية كانت نتيجة لتشريع قانوني في الأزمنة السابقة، بل ما حصل هو جريان الأمور بشكل طبيعي وفق خط رسمته الشريعة الإسلامية سلفاً.

وقد ضاقت دائرة العبودية في القرون الأخيرة إلى حد بعيد في المجتمعات الإسلامية قبل أن يفرض الواقع انتهاءها، أمَّا الغرب فقد حصلت فيه ثورات متكرّرة وحركات عصيان مدنيَّة اضطرت مؤسسات القرار إثرها إلى إصدار مثل هذه التشريعات في عصور متأخّرة.

نعم حصلت ثورة للزنج وحكموا البصرة في زمن الدولة العباسية لكنَّها باءت بالفشل، ولم تكن لها تبعات شكلت عامل ضغط على الدولة لتشريع قانون يصلح تشريع الرقّ أو يُلغيه من أصله، بل شكلت دولة المماليك

ص: 139

ظاهرة بمنتهى الغرابة حين قبل الأحرار بحكم المماليك وأطاعوهم لمدة طويلة دون أن يُسجِّل التاريخ مضايقة ظاهرة عند الناس أنَّ حُكامهم من المماليك.

ولئن ظلَّ الاستعباد قائماً في بعض المجتمعات الإسلامية وعلى نطاق ضيّق جدًّا، فإنَّ ذلك لا يعني وجود معضلة كبيرة صعبة الحل لتشهر على إثرها سيوف الباطل إلى القرن العشرين متوجهة إلى الإسلام كمنهج لا إلى من بقي يستعمل الرقّ.

الشريعة تدفع باتجاه العتق الذي في مصلحة المعتق

لقد شرع الإسلام استحباب عتق العبد المؤمن أو المسلم، وجعله باباً واسعاً إلى الجنَّة، وأطّره بإطار العبادة التي يُفترض أن تهشّ إليها نفوس المؤمنين بهذه الشريعة.

وبهذا أوجدت الشريعة داعياً قويًا عند أتباعها لإنهاء حالة العبوديّة لإخوانهم في الدين.

ومما حفّز الناس على ذلك أيضاً أنَّ سادة الدين من النبي والأئمة المعصومين عليهم السلام كانوا كثيري الإعتاق، وقد جعلهم الله تعالى أسوة للمسلمين، وكُتُب السِّير حافلة بمفردات الإعتاق التي أوقعها الأئمة علیه السلام

وعلى سبيل المثال لا الحصر ينقل لنا التاريخ عن عبد الله بن الحسن أنَّه قال : أعتق على علیه السلام ألف أهل بيت بها مجلت يداه وعرقت جبينه(1).

وعن جعفر بن محمد علیه السلام، قال : أعتق على علیه السلام ألف مملوك مما عملت يداه »(2).

ص: 140


1- بحار الأنوار ج 101 ص 195 ح 15 ، عن كتاب الغارات (ج 1 ص 91 و 92)
2- المصدر السابق

ومثل هذا الرجحان شكّل الخطوة الأولى على طريق إنهاء ظاهرة الرق.

ولم تكتفِ الشريعة بأصل استحباب العتق بل جعلت لبعض الأوقات خصوصيَّة للعتق، كعشيّة عرفة ،ويومها، ومعلوم أنَّ الخصوصية أكثر تحفيزاً للإنسان للامتثال .

ففي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «يُستَحبُّ للرجل أن يتقرَّب إلى الله عشيَّة عرفة ويوم عرفة بالعتق والصدقة(1).

كما حقَّت الشريعة على التعامل معهم برفق، وأوصت بالإحسان إليهم، فقد جاء في الرواية عن الصادق علیه السلام، عن النبي صلی الله علیه وآله في حديث المناهي، قال: «وما زال جبرئيل يوصيني بالمماليك خيراً حتّى ظننت أنَّه سيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا»(2).

وعن أبي ذرّ ، قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: «أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون»(3).

وكان علي علیه السلام يشتري ثوبين يُعطي أحدهما أو أفضلهما قنبر خادمه والآخر له، ولهذا نجد قنبر يفتخر بانتسابه إلى عليّ علیه السلام وبعنوان أنه عبد له، فحين يُستَل : عبد من أنت؟ ينتسب إلى مالكه وسيده علي علیه السلام مع كامل الفخر»(4)

وذلك زيد بن حارثة الذي جاء أبوه مطالباً به ولو بشراء ليدفع عنه وعن

ص: 141


1- وسائل الشيعة (ج) 23 ص 12/ ح 1/28992)
2- وسائل الشيعة (ج) 23 ص 30/ ح 2/29035)
3- وسائل الشيعة (ج 23/ ص 31/ ح 3/29036)
4- قد مرَّ ذلك في ص 81 ، فراجع

أهله ذلَّ الاستعباد يرفض الحريَّة مع أبيه لئلا يفارق سيده ومالكه رسول الله صلی الله علیه وآله ، فأعتقه النبيُّ صلی الله علیه وآله بعد ذلك وتبنّاه(1).

وذلك جون الذي يأذن له الحسين علیه السلام بترك الحرب، فيختار الموت مع سيّده، ويفتخر بمجيء الحسين علیه السلام وهو ينازع في لحظاته الأخيرة في الدنيا لما لاقى من عضِّ السلاح في الحرب(2).

وقد حدّدت بعض الروايات مدة العبودية، وحكمت بالعتق بعدها، ولكن بنحو الاستحباب المؤكَّد وكراهة ترك العتق، فقد جاء عن الصادق علیه السلام أَنَّه قال: من كان مؤمناً فقد عُتِقَ بعد سبع سنين ، أعتقه صاحبه أم لم يُعتقه، ولا يحلُّ خدمة من كان مؤمناً بعد سبع سنين»(3).

وفي رواية أُخرى عنه علیه السلام،قال: «صحبة عشرين سنة قرابة»(4).

كما أنَّ الشريعة لم تقبل بترك المملوك بعد عتقه دون أن يتمكن من إعالة نفسه، وحكمت بوجوب إعالته على المعتق، وقد تعددت الروايات في ذلك، فعن ابن محبوب، قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام لها وسألته عن الرجل يعتق غلاماً صغيراً أو شيخاً كبيراً، أو من به زمانة ولا حيلة له، فقال: «من أعتق

ص: 142


1- قد مرَّ ذلك في (ص83) ، فراجع
2- قال السيد ابن طاووس رحمه الله في اللهوف على قتلى الطفوف (ص 64): (ثم بز جون مولى أبي ذر، وكان عبداً أسود، فقال له الحسين علیه السلام : «أنت في إذن مني ، فإنَّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا»، فقال: يا بن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم، والله إنَّ ريحي لنتن، وإنَّ حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليَّ بالجنَّة، فيطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي، لا والله لا أفارقكم حتَّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم، ثمّ قاتل (رضوان الله عليه) حتَّى قُتِلَ).
3- وسائل الشيعة (ج) 23 ص 59 / 1/29102)
4- وسائل الشيعة (ج) 23/ ص 59/ ح 2/29103)

مملوكاً لا حيلة له فإنَّ عليه أن يعوله حتّى يستغني عنه، وكذلك كان أميرالمؤمنين علیه السلام يفعل إذا أعتق الصغار ومن لا حيلة له »(1) .

وعن الصادق علیه السلام ، عن علي علیه السلام ، قال : «لا يجوز في العتاق الأعمى والمقعد ويجوز الأشل والأعرج»(2).

ومنعت الشريعة من الرجوع في العتق، فإنَّه إيقاع لازم لا خيار لموقعه في إلغائه، وجوزت بيع العبد الآبق مع الضميمة، مع أن الشريعة منعت من بيع ما لا يقدر على تسليمه، وليس ببعيد أن يكون هذا التجويز يُسهل عتقه على المشتري، فإنَّ الآبق يجوز عتقه من المالك، فمالكه الأوّل مستعد لبيعه بثمن بخس، لأنَّه أفضل من دوام إباقه، ومالكه الجديد يُسهل عتقه لقلة ثمنه .

موارد الانعتاق القهري

هناك جملة من الموارد التي حكم فيها الشارع المقدَّس بالانعتاق القهري

وما ذاك إلَّا نوع تضييق لدائرة العبودية، وهي:

1 - إذا مَلَكَ الرجل أحد الآباء أو الأولاد أو إحدى النساء المحرمات عليه كالعمة والخالة، وقبلهما الأُم والأخت والبنت وبنت الأخ وبنت الأُخت.

2- إذا ملكت المرأة أحداً من الآباء أو الأُمهات أو الأولاد.

3- إجراء حكم النَّسَب في الرضاع بالنسبة للموردين السابقين.

4 - - إذا أعتق الرجل نصيبه من عبد اشترك مع غيره في ملكه فإنَّ العبد يُجبر على شراء الباقي، وهو ما يسمونه بالسراية، حيث يسعى العبد في دفع قيمة تلك الحصّة من سعيه وكسبه.

ص: 143


1- وسائل الشيعة (ج 21 ص 528 / 1/27769)
2- وسائل الشيعة (ج) 22 ص 397 ح 1/28881).

5- الحكم بتدبير الولد بتدبير أمه أو أبيه ، والتدبير أن يقول المالك لعبده أو أمته أنت حرٌّ دُبر حياتي ، فيتحرَّر العبد بمجرَّد موت المدبّر، ومنعت الشريعة من الرجوع في تدبير الولد إذا رجع في تدبير الأُمّ.

6 - إذا تحرَّر من المكاتب المطلق شيء تحرّر من أولاده بقدره حتَّى يُؤدُّوا ما بقي فيتحرّرون ويرثون منه بقدر الحرّيَّة.

والمكاتب هو الذي يتكاتب معه سيّده على دفع مقدار من المال في مقابل حُرِّيَّته، فإن اشترط المولى أن لا يتحرر منه شيء إلا إذا دفع كامل المبلغ المتفق عليه سُمّي مكاتباً مشروطاً، وإن لم يشترط عليه ذلك تحرّر منه بنسبة ما دفعه من أصل المال المتفق عليه، فإن دفع ربعه تحرّر ربعه، وإن دفع نصفه تحرّر نصفه، فهذا هو المكاتب المطلق.

7 - التدبير المعلق على موت غير المولى ، كأن يقول لعبده: أنت حُرِّ دُبر حياة فلان - الذي أمر المولى عبده بخدمته -، وقد اختلف الفقهاء في جوازه، وقد بنى مثل المحقق الحلّي على جوازه، ومستنده النقل.

وعلى هذا فإن قال المولى للمملوك: أنت حُرِّ بعد وفاتي جاز له الرجوع عنه، فإذا باعه صح، وإذا قال: أنت حُرِّ بعد وفاة زيد فإن مات زيد فلا كلام في حصول الحرّيَّة، وإنْ مات المولى وبقي زيد حيًّا - وهو محلّ الكلام - انتقل العبد إلى ملك ورثة المولى، ولكنَّهم ممنوعون من التصرُّف فيه، وذلك لأنَّ للمدبّر حق التحرُّر - الحاصل بالتدبير -، وهو موجب لنقص ملكيَّة الورثة له.

8- اشتراط عتق العبد في عقد لازم ، كأن يبيعه على شخص ويشترط على المشتري أن يعتقه، فإذا بنينا على أنَّ هذا الشرط موجب لحدوث حقٌّ للمشروط له بحيث يكون العبد متعلَّقاً لحقِّ البائع، فهنا لو باعه المشتري فإنَّ بيعه باطل، والشرط واجب الوفاء، فيجب عتقه.

ص: 144

9 - تغذية الولد المملوك بنطفة سيّده ، فلو اشترى شخص أمة وكانت حبلى فإنَّه لا يحلّ له وطئها قبل مضي الأربعة أشهر، ويجب عليه العزل لو وطأ بعد ذلك، فإنَّ وطأها قبل مضي الأربعة أشهر أو بعد ذلك ولم يعزل عنها فإنَّه لا يحق له حينئذ بيع الولد، لأنَّه قد غذاه وأنماه بنطفته، هذا ما ذكره التستري في المقابس

وتوضيحه أنَّ حقّ تغدّي الحمل الذي يُمنَع من بيعه في الأمة التي يشتريها سيد وهي حُبلى يثبت لو اجتمعت أمور:

الأوّل: أنْ لا يكون الجنين متكوّناً من المولى ، حتّى لا يكون حُرَّا، بل من مملوك، كما إذا كان للسيد عبد فزوج أمته من عبده فحملت منه، فإنَّ الحمل مملوك كوالديه للسيد.

الثاني : أن يشترط المشتري على البائع دخول الحمل في المبيع وكونه ملكاً له فباعها السيّد مع حملها ولم يستثن الحمل.

الثالث: أن لا ينقضي زمان الحمل أزيد من أربعة أشهر، كما إذا باعها في الشهر الأوّل أو الثاني للحمل.

الرابع: أن يباشر المشتري هذه الأمة قبل مضي أربعة أشهر من نشوئه أو بعد الأربعة أشهر دون عزل عنها.

وبتحقق هذه الأمور يثبت حقٌّ للحمل يمنع من بيعه، وهو تغذيه من نطفة سيّده (المشتري)، فيُعتَق بذلك، هذا هو رأي المشهور، لكن بعض المتأخرين ذهبوا إلى الكراهة.

10 - أنْ يكون مملوكاً وُلِدَ من حُرِّ شريك في أَمَةٍ حال الوطء.

فلو اشترى اثنان جارية - بنحو الاشتراك - فوطأها أحدهما دون استئذان من الآخر فحملت منه، فهنا قولان:

ص: 145

الأوّل: انعقاد الولد حُرًا تبعاً لأبيه، ويضمن الشريك الواطي لشريكه قيمة ولدرقٌ لإتلافه عليه نماء الأمة بإيجاد الولد غير القابل للملك.

والثاني: أنْ ينعقد الولد رقًا تبعاً لأُمّه، لأنَّ الوطء لم يكن حلالاً للواطي لا بالنكاح ولا بالملك المستقل ولا بالتحليل من المالك، فيُحكم بأنَّ الولد مملوك للشريك الذي لم يطأ، إلَّا أنَّه ممنوع عن بيعه لغير الواطي، فعليه تقويمه وأخذ القيمة من الواطي وتسليم الولد إليه، وبمجرد التقويم ينعتق، أو بمجرد أداء القيمة إلى الشريك.

وألحق صاحب المقابس بوطئ أحد الشريكين ما لو وطأها أجنبي لشبهة نكاح أو ملك، فلو قيل برِقيَّة الولد الذي حملت به من هذا الوطء يكون له نفس الحكم.

11 - صيرورة الأمة أُمُّ ولد، فقد نُقِلَ الإجماع على عدم جواز البيع، كما دلَّت على ذلك بعض الأخبار. قال الشيخ الأنصاري في البيع: (ثمّ إنَّ المنع عن بيع أُمّ الولد قاعدة كلية مستفادة من الأخبار كروايتي السكوني(1) ومحمد بن مارد(2) - المتقدمتين -،

ص: 146


1- عن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام قال في مكاتبة يطؤها مولاه فتحمل قال: يرد عليها مهر مثلها وتسعى في قيمتها، فإن عجزت فهي من أُمهات الأولاد» (وسائل الشيعة : ج 23 ص 158 / ح 2/29303).
2- صحيحة محمد بن مارد عن أبي عبد الله علیه السلام في الرجل يتزوج أمة فتلد منه أولاداً، ثم يشتريها، فتمكث عنده ما شاء الله لم تلد منه شيئاً بعد ما ملكها، ثمّ يبدو له في بيعها، قال: «هي أَمَتُه إنْ شاء باع ما لم يحدث عنده حمل [بعد ذلك] وإن شاء أعتق». (وسائل الشيعة: ج 23/ ص 172/ ح 1/29326)

وصحيحة عمر بن يزيد الآتية(1) ، وغيرها. ومن الإجماع على أنها لا تُباع إلا بأمر يغلب ملاحظته على ملاحظة الحقِّ الحاصل منها بالاستيلاد - أعني تشبُّها بالحُريَّة -، ولذا كل من جوّز البيع في مقام، لم يُجوز إلَّا بعد إقامة الدليل الخاص.

فلا بد من التمسك بهذه القاعدة المنصوصة المجمع عليها حتّى يثبت بالدليل ثبوت ما هو أولى بالملاحظة في نظر الشارع من الحقِّ المذكور.

فلا يُصغى إذن إلى منع الدليل على المنع كلّيّة والتمسك بأصالة صحة البيع من حيث قاعدة تسلّط الناس على أموالهم حتى يثبت المخرج)(2).

وهناك بعض الموارد التي خرجت من هذه القاعدة لدليل، أحدهما ما ورد في رواية عمر بن يزيد، ولم نرد الخوض في التفاصيل، لأنها ليست مقصودة في هذا المبحث.

موارد العتق في الكفارات

يُعتبر باب الكفّارات من أوسع الأبواب التي فتحها الله تبارك وتعالى لإنهاء عملية الرقّ، ولو التزم المسلمون بأداء ما وجب عليهم من الكفّارة المتمثلة بالعتق لما بقيت ظاهرة الرقّ فترة طويلة، فلا يُعاب على الشريعة تأخر إنهاء ظاهرة الرقّ.

ص: 147


1- روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام - أو قال: لأبي إبراهيم علیه السلام- : أسألك؟ قال: «سَلْ»، قلت: لِمَ باع أمير المؤمنين علیه السلام أُمهات الأولاد؟ قال: في فكاك رقابهنَّ ، قلت : وكيف ذلك؟ قال: أيُّها رجل اشترى جارية فأولدها ثم لم يؤد ثمنها ولم يدع من المال ما يُؤدّى عنه أخذ منها ولدها وبيعت فأدّي ثمنها»، قلت: فيبعن فيما سوى ذلك من أبواب الدين ووجوهه؟ قال: «لا». (الكافي: ج 6 / ص 193 باب أمهات الأولاد / ح 5؛ من لا يحضره الفقيه : ج 3 ص 139 و 140 ح 3512؛ تهذيب الأحكام : ج 8 ص 238 / و 239 / 95/862).
2- كتاب المكاسب (ج 4 / ص 116 و 1117 ، مسألة المنع عن بيع أُمَّ الولد)

والأبواب التي تكون الكفّارة في مخالفتها متمثلة بالرق كثيرة، فالكفارة المرتبة التي يكون المكلف به أوَّلاً هو العتق تتمثل في:

1 - كفّارة الظهار.

2 - كفّارة قتل الخطأ.

فإنَّه يجب فيهما عتق رقبة، فإن عجز وجب عليه صيام شهرين، فإن عجز فإطعام ستين مسكيناً.

والكفّارة المخيّرة تتمثل في:

1 - كفّارة من أفطر في شهر رمضان بتعمد الأكل أو الشرب أو الجماع أو الاستمناء أو البقاء على الجنابة.

2 – كفارة من أفسد اعتكافه الواجب بالجماع ولو ليلاً، وقد ألحق به جز المرأة شعرها في المصاب.

3 - كفارة حنث العهد.

4 - كفّارة من خرج من الاعتكاف حال كون الخروج محرَّماً وجامع بعد خروجه (على الأحوط).

فإنَّه يجب في جميع هذه الصور -باستثناء الأخيرة فإنَّ الحكم فيها احتياطي - عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً.

والكفّارة التي يجتمع فيها الترتيب والتخيير، هي:

1 - كفّارة الإيلاء.

2 - كفّارة اليمين، وألحق بها المشهور نتف المرأة شعرها وخدش وجهها الإدماء في المصاب، وشق الرجل ثوبه في موت ولده وزوجته.

3 - كفّارة النذر.

حيث يجب عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز صام ثلاثة أيام.

ص: 148

وكفّارة الجمع، وتتمثل في قتل المؤمن عمداً أو ظلماً، وألحق بها بعض الفقهاء الإفطار في شهر رمضان على الحرام، ويجب فيه عتق رقبة مع صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً.

وبعد ملاحظة ما تقدَّم لك أن ترى سعة الباب الذي فتحته الشريعة لإنهاء حالة الرقّ، فإنَّ من يقعون في المخالفات المتقدمة أكثر بكثير من عدد من حُكم عليه بالرقّ خصوصاً مع ملاحظة أنَّ الحرب التي هي سبب سبب أساسي للرقّ تنتهي في زمان والمعاصي المتقدمة لا تنتهي بزمان خاص، فإبليس له نصيبه من الناس، وهو كثيراً ما يظفر بالمؤمنين فيُوقعهم فيما كفارته العتق، فلو أراد الناس الامتثال في ذلك لما أمكن أن تُوفّر الحرب والاستيلاد مورداً كافياً لامتثال التكاليف الكثيرة بالتكفير بعتق نسمة.

***

ص: 149

ص: 150

الفصل الخامس :حكم في أحكام الرق

اشارة

ص: 151

*الحكمة في تشريع العبودية.

*علَّة عدم عدم تقييد العبودية بالكفر.

*علة منع العبد من التملك.

*استحباب العتق لا ينقض الغرض من تشريع الرقّ.

ص: 152

الحكمة في تشريع العبودية

إنّ لتشريع العبودية حكم ومصالح دعت إلى تشريعها، وذلك أمر مفروغ منه عند المشهور، وقد نُقّح في علم الكلام أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، بعد الفراغ عن أنَّ الله تعالى له غرض من كل حكم، فإنَّ الأفعال معللة بالأغراض، لكن حُقِّق أنَّ الغرض عبارة عن مصالح ترجع إلى العباد، ولما كان العلم التفصيلي أدعى لانقياد النفس وتسليمها بالنسبة للمسلم، وأدعى لارتفاع الإشكال من نفس غير المسلم، بل هو لا يقبل بما علمنا به إجمالاً، فانحصر الأمر بالنسبة له بالتفصيل، وحينئذٍ صار لزاماً علينا أن نتعرض إلى بعض ما يمكن أن يقف عليه الذهن البشري من مصالح مترتبة على هذا الحكم الذي هو مورد البحث، وهي ما يلي:

1 - إِنَّ هذا التشريع الذي يعلم به المحاربون للإسلام باعث على تردد بعضهم في حرب المسلمين، وربَّما ترك بعضهم الاشتراك فيها، مما يتسبب في وهن جبهة الباطل، ومن اشترك في الحرب يهيمن عليه التلكؤ في الإقدام على مواطن الخطر واحتمال الأسر، فتخصيص حكم الرقّ بمن أُسِرَ يدعو الكاف-ر المحارب إلى جعل خيار الهرب ماثلاً أمام عينيه لتخليص نفسه وذريته من العبوديّة، وكفى بذلك مصلحة.

ونتائج الحرب لا تترتب على كثرة العدد ولا قوة البدن والتفوق في السلاح، فأكثر ما يُؤثر في حسم المعارك الثبات وعدم التردُّد عند الأفراد المحاربين.

ص: 153

ويمكن أن يكون هذا التشريع سبباً في استماتة بعض الكفار دفعاً لمحذور الأسر مما يُشكّل مفسدة مترتبة على التشريع، إلَّا أنَّ ذلك لا يمنع من تحقق المصلحة المزبورة لدى البعض الآخر ، وبروز التردُّد والضعف عند بعض أفراد الجيش له أثره على الباقين. مضافاً إلى أنَّ الأحكام حين شُرّعت لوحظت فيها المصالح على مرّ العصور، فبروز التردُّد في بعض الحروب إن كان أكثر من بروز الثبات والاستماتة كان في جعل ما ذُكِرَ مصلحة داعية للتشريع.

2 - إن عدم شمول حكم الاسترقاق لمن أسلم قبل القدرة عليه لا شكّ أنَّه باعث على إسلام بعض الكُفَّار إذا سُدَّت عليه الآفاق في الحرب، وهذا الإسلام وإن كان لغرض دفع الاستعباد إلَّا أنَّ الإسلام يُقبَل بحسب الظاهر منه ذلك أوّلاً، ويجري عليه أحكام الإسلام لعدم تكليفنا بالسعي لمعرفة باطن الأفراد، فليس في الإسلام محاكم تفتيش مضافاً إلى أنَّ إعلان الإسلام ولو نفاقاً يجعل الأحكام التي تجري عليه مختلفة، إذ لا يُسمح له بعدها بالارتداد والكفر من جديد، فإن فعلها استتيب مرَّتين أو ثلاثة فإن أبى قُتِلَ في الرابعة، وهذا أحد حدود الشريعة، فدخوله إلى الإسلام ظاهراً يلزمه بالبقاء على دينه الجديد ظاهراً أيضاً.

فإن قيل: إنَّ قبول الشريعة بإسلامه ظاهراً يعني أنَّ الشريعة شجّعت على النفاق وفتحت الباب أمامه، بل ألجأته إلى النفاق الذي يُؤدّي بصاحبه إلى الدرك الأسفل من النار.

قلنا: إن مثل هذا الاحتمال موجود من أول الأمر، ويبقى كاحتمال لمدة، بل إلى آخر عمر المستسلم، لكن عنصر ديمومته أضعف بكثير من بدايته، فإن حالة النفاق تُعتبر قيداً على المنافق يشعر معها بالضيق عادةً، فإظهار أمر وإخفاء ضدّه في غاية الشدَّة على النفس، خصوصاً إذا كان ذلك الأمر يُمثَّل ديناً، والسرُّ أنَّ

ص: 154

الدين يعم جميع وقائع الحياة، ولا يُشكّل مفردة جزئية كإظهار حُب شخص وإضمار بغضه.

وإذا التفتنا إلى أنَّ المستسلم يعيش وسط المسلمين عادةً فإنَّ ذلك سيجعل حياته جحيماً عليه بحسب العادة، فإنَّ إلزام النفس أن تعيش وتتصرف وتتحدث بغير واقعها يُسبب لها أعظم الحرج، مع ملاحظة أنّها لا تأمن أداء الدور الذي تريده بالمستوى المطلوب، فهي في معرض خطر الانكشاف في آية لحظة.

3 - إنَّ المعاند المأسور الذي استُعبد سيعيش في المجتمع الإسلامي، مما يعني أنه سيكون قريباً من أحكام الإسلام وسماع آياته، وهذا سيجر إلى الإيمان في حالات كثيرة، فالمواقف التي يتخذها المعاندون من الإسلام لم تكن على أُسس موضوعيَّة، بل إنَّ نسبة كبيرة منهم جروا على موقف سبق لم يدعوا لأنفسهم فرصة الاطلاع عن قرب على هذا الدين، وبدخولهم في المجتمع الإسلامي سيطلعون عن كثب على رؤية هذا الدين الكونية وإيدولوجيّته وتعاليمه وأخلاق وسلوك معتنقيه وسادته، وهذا ما سيجعلهم أقرب إلى الإيمان، وما أعظمها من حكمة ومصلحة ، فإنَّ الدِّين أعظم من كل حياة فضلاً عن كونه أعظم من كلِّ حُرّيَّة، فالفتنة في الدين أعظم من القتل، والكفر أعظم مفسدة من إزهاق الروح، فضلاً عن مجرَّد فقدانها للحرّيَّة.

4 - لقد حُدِّد رجحان العتق في الشريعة بالرقبة المؤمنة أو المسلمة أو العارفة باختلاف ألسنة الروايات وقد منعت الروايات من إعتاق الكافر، فعن سيف بن عميرة، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام : أيجوز للمسلم أن يعتق مملوكاً مشركا ؟ قال : «لا»(1).

ص: 155


1- وسائل الشيعة (ج) 23 ص 35 ح 5/29046)

ومن هنا حمل الشيخ الطوسي الرواية الواردة في عتق على علیه السلام النصراني على صورة أخرى، وهي رواية الحسن بن صالح، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إنَّ عليا علیه السلام أعتق عبداً له نصرانيا، فأسلم حين أعتقه )(1)

وقد حملها الشيخ على أنه علیه السلام أعتقه لعلمه بأنه إذا أعتقه يُسلم(2).

وهذا التحديد للإعتاق بالإسلام قد يُشكّل دافعاً إضافيًا لقبولهم الإسلام بعد ذلك، أملاً في أنْ يأتيهم من يعتقهم بعد ذلك لوجه الله تعالى على نحو الاستحباب أو اللزوم في بعض الموارد. مضافاً إلى أنَّ للحاكم الشرعي الذي هو وليُّ الأمر أن يشتريهم جميعاً ثمّ يعتقهم.

5 - إِنَّ الجهاد وإنْ كان من أعظم العبادات فإنَّه باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ المجاهدين قد انحصرت همتهم بكسب الدرجة عند الله تعالى. فإنَّ قربيَّته لا تنافي تأثير مؤثر آخر غير الثواب، وهو المتمثل بالغنيمة. ويُشكّل الرقُ الجزء الأكبر من الغنائم في الحروب، مما يدعو المحاربين في جبهة الحقِّ لبذل الوسع أكثر في حربهم مما يُقرب احتمال النصر لأهل الحق.

6 - إِنَّ في استعباد الكفّار سبب لاعتزاز المسلمين بدينهم مما يبعث على التمسك بالدين بدرجة أكبر.

7 - إنَّ إلغاء العبودية يعني إيجاد مانع كبير من إيمان من يملكون العبيد من الكُفَّار، لأنّ قبوله الإسلام يعني الحرمان من بعض الامتيازات التي يتمتع بها حال كفره، وليس ذلك بالأمر الهين عليه. والأحكام الشرعية لا تنبثق من مجرد وجود ملاك ملزم مثلاً ، فقد يوجد ملاك ملزم في مورد إلَّا أنَّ الشارع لا

ص: 156


1- وسائل الشيعة (ج) 23 ص 34 / 2/29043)
2- تهذيب الأحكام (ج) 8 ص 219/ ذيل الحديث 16/783)

يُشرع ذلك الحكم الملزم كما يلوح ذلك من روايات تحدثت عن ذلك بلسان «لولا أن أشق على أُمتي، كقوله صلی الله علیه وآله: «لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة))(1).

حيث يظهر من هذه الرواية أنَّ الحكم بوجوب السواك له مصلحة ملزمة، إِلَّا أَنَّ داعي التخفيف عن العباد ودفع العباد ودفع المشقة عنهم هو الذي منع تشريع الحكم.

أو يلغيها بعد تشريعها كما يظهر ذلك من بعض الآيات، كما في صدقة النجوى التي شُرّعت ثمّ رُفِعَت حيث لم يمتثل الناس ذلك وأحجموا عن مناجاة الرسول صلی الله علیه وآله: «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَظْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (المجادلة: (12) .

فالتشريع ولو للحظة كاشف عن وجود مصلحة ملزمة، ونُسِخَ الحكم ورفع بعد ذلك عن الأُمَّة:« أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ » (المجادلة: ( 13 ) .

وحكم المقابلة مع الكُفَّار، قال تعالى:« إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةُ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفُ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » (الأنفال: 65 و 66).

حيث يظهر من الآيتين أنَّ الله تعالى ألزمهم بالمقابلة ووعدهم بالنصر إنْ كانت نسبة المؤمنين إلى الكُفَّار هي العُشر، ثمّ ظهر ضعفهم فخفف عنهم

ص: 157


1- الكافي ج 3 ص 22/ باب السواك/ ح 1)

وجعل النسبة النصف، والتخفيف في مقابل التشديد، ولا معنى للتشديد بدون الإلزام، وهذا يعني أنَّ مصلحة الإلزام بالقتال حينما تكون النسبة هي العُشْر متحققة.

ومرد ذلك أنَّ المشرع محب للمشرع لهم يسلك في تشريعه لهم السُّبُل الميسرة والأحكام السمحاء، وما ذلك على الله ببعيد.

8 - إنَّ من المسلَّم به أنَّ أقرب الناس لقبول الحق هم الضعفاء والمساكين ومن لا حول له ولا قوة. وبعبارة أخرى: إنَّ هناك علاقة عكسية بين سعة الامتيازات التي يتمتّع بها الفرد وبين قبوله للأديان الإلهية في الغالب، لأنَّ الامتيازات التي تتوفّر لفرد تُشكّل نوع غطاء لعبوديته، لأنّها تسدُّ له بعض أبواب حاجته، فتستكبر نفسه عن قبول الحقِّ،« كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى »(العلق : 6 و 7) .

ومن هنا كان المترفون يقفون في وجه دعوات الأنبياء، وهم أوّل المعارضين لها، قال تعالى: «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ » (سبأ: 34 ) .

وقال تعالى: «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قال مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ » (الزخرف: (23). والفرد حين يقع في دائرة العبودية يحصل فيه ما يُبعده عن الاستعلاء والاستكبار، ويتحقق فيه ما يُشعِره بالضعف، وذلك يجعله أقرب إلى الإيمان، ومن هنا كانت ظروف الضيق والضرّاء نِعْمَ المعين على الاستجابة لدعوات الأنبیاء علیهم السلام

«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيَّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» (الأعراف: 94 ) .

ص: 158

واستغناء الفرد باعث نحو الطغيان كما هو صريح سورة العلق، وقد تقدمت.

ولا يوجد تضييق أكثر من أن يصبح الإنسان مملوكاً لبشر مثله، فيصبح غير ذي قوَّة فينتصر، مما يجعله أقرب للإيمان بدعوة النبي صلی الله علیه وآله.

9 - إن تشريع الرقّ يدعو إلى تجنَّب القوة والعنف الذي يُدمر المدن التي يدخلها المسلمون، فحُبُّ الانتقام لدى الفاتح الذي لم ينل الفتح بلا ضريبة من أصدقائه وربَّما بعض أقربائه وأبناء مجتمعه قد يجره إلى الغفلة عن تعاليم الإسلام أو يُضعفه عن الالتزام بها مع الالتفات لها. وتشريع الرقّ يدخل عنصر المصلحة الشخصيَّة المتمثل بالغنيمة المشروعة في حساب الفاتحين أو المحاربين.

فهو بدون حكم الاسترقاق قد يرى عدوّه الذي هو في موضع الأسر قبل أنْ يُؤسَر موضعاً للثأر لعزيز فُقِدَ، وأمَّا مع ملاحظة الاستعباد فهو يرى فيه إضافةً إلى ذلك مالاً ينتفع به ويعينه على نوائب الدهر، فيتحوّل من السعي لقتله إلى السعي للإمساك به حيًّا .

10 - إِنَّ ذلك التشريع سبب للسعي للمحافظة على العبيد بعد وقوعهم في الأسر، ودافع للاهتمام بسلامتهم وتزويدهم بالمأكل والمشرب، وتوفير حاجاتهم الضرورية لحين أخذ الرأي من النبي أو الإمام.

إذن فالمصالح من تشريع الرقّ متعدّدة، وبعضها يعود على نفس العبيد، والبعض الآخر يعود على المسلمين المحاربين، وبعضها يرجع إلى الكفّار المالكين للرقّ، وبعضها يرجع إلى تقوية جبهة الحقِّ وإضعاف جبهة الباطل.

وقد لا تكفي بعض هذه المصالح منفردة لتشريع الحكم لعدم نهوضها كملاك للتكليف، إلَّا أنَّ وجودها أو احتمالها مجتمعة بضم بعضها إلى البعض الآخر يُسوّغ تشريع هذا الحكم بل يُلزمه ، والأحكام لا تُشرَّع إلَّا بعد ملاحظة جميع ما يترتب عليها من آثار.

ص: 159

إمكان إدراك العقل للحكمة لا للملاك

إنَّ الحكم فعل اختياري للمولى تبارك وتعالى، وكلَّ فعل اختياري لا بدَّ له من غاية تدعو إلى الإتيان به ومن هنا احتاج الحكم الشرعي إلى غاية، وكما يُعبَّر عنه في الاصطلاح الأصولي بالملاك. وهو عبارة عن المصلحة الداعية إلى التشريع إنْ كان الحكم طلب الفعل وجوباً أو استحباباً، والمفسدة الداعية للردع إنْ كان الحكم منعاً حرمةً أو كراهة، والملاك هو المصلحة أو المفسدة في الفعل المطلوب فعله أو تركه، ويلوح من بعض الآيات تبعية الأحكام لهذه الملاكات .

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال : 24).

ويظهر من الروايات ثبوت الملاك لكلِّ الأحكام سواء كانت طلباً للفعل أو ردعاً عنه، فما أكثر الموارد التي يُسئل فيها المعصوم علیه السلام عن علة حكم ما فيُجيب دون أنْ يُنبِّه إلى أنَّه ليس من الضروري ثبوت ملاك لكي يشرع الحكم، وقد اتسعت دائرة السؤال لتشمل المئات من الأحكام، وبتعبير أدق اتسعت دائرة بيان المعصوم لحكم الأحكام سواء كان بيانه ابتدائياً أو استجابةً لطلب من السائل. وقد ذكر الفقهاء في مباحثهم الأصولية أنه ليس للعقل سبيل إلى الأحكام، وهو ما ينسجم مع الروايات المتعددة في ذلك.

إنَّ أبعد شيء عن الدين عقول الرجال.

كما نص البعض على أنَّ طريق معرفة الملاك منحصر بلسان الدليل، فنفس الدليل الذي دل مطابقة على الحكم يدلّ بالالتزام على الملاك، ولا سبيل آخر لإدراك الملاك إلا لسان الدليل.

والمقصود من الملاك الحاصل النهائي للمصالح والمفاسد بعد الكسر والانكسار، وهذا يحتاج إلى توضيح حاصله:

ص: 160

إنَّ وجود الأشياء مرتبط بوجود عللها، وليس من الضروري أن تكون العلَّة بسيطة، فقد تكون مركبة من أشياء متعدّدة، وبعنوان دقّي العلة مركبة من مقتض وشرط وعدم مانع ،وقد يكون المقتضي متعدّداً، وكذا الشرط والمانع.

وعالم الدنيا عالم التزاحم، فقد يكون في الفعل الواحد مصلحة أو مصالح ومفسدة أو مفاسد وإحاطة العقل بجميع المصالح والمفاسد في الفعل الواحد غير متيسرة إلَّا لمن مكَّنه الله تعالى من ذلك كالمعصوم علیه السلام ، وهذا يعني أنَّ العقل البشري لا يمكنه أن يصل إلى الحاصل النهائي للمصالح والمفاسد ليستطيع أن يقول: إنَّ هذا الفعل بالمجموع ذا مصلحة أو ذا مفسدة، ولذا التزمنا أنَّ دور العقل في إدراك الأحكام منحصر بالملازمات ولا يشمل إدراكه بالملاكات.

لكن ذلك لا يمنع من أن يُدرك العقل بعض المصالح والمفاسد، لكنَّها لا تؤدّي إلى الوصول إلى الحكم لأنّها لا تصل إلى الحاصل النهائي بعد الك- والانكسار كما عبرنا سابقاً، والحكم تابع لما بعد الكسر والانكسار.

فإذا ثبت أنَّ حكماً ما يُمثل جزءاً من منظومة التشريعات أمكن للعقل أن يصل إلى بعض المصالح فيه (في متعلقه) ولا مانع من ذلك، ولذلك يمكن أنْ تُحدّد بعض المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام بشكل مستقر عن الدليل الشرعي.

علة عدم تقييد العبودية بالكفر

يتضح لنا بما تقدَّم أيضاً سبب عدم انتهاء رقّ العبيد بدخولهم في الإسلام، حيث إن فتح باب اختياري لهم كهذا للتخلّص من نير العبودية للإنسان مع عدم وجود طريق لنا لمعرفة واقع حالهم في ذلك فيه ضرر من نواحي:

1 - إلغاء تأثير التخويف بالعبودية الذي تقدم أنَّ فيه جملة من المصالح، لأنَّه سيضمن أنَّه سيتحرَّر على فرض أسره ،قبلها، لأنَّه يمكنه حينها أنْ يُعلن إسلامه فيتحرّر ، فلا يرى محذوراً في المحاربة سوى احتمال الجرح أو القتل

ص: 161

وهذا لا يكون مانعاً غالباً، ولذا وقعت الحروب بشكل دائم بين الدول والمجموعات.

2 - إِنَّ فتح باب التحرُّر هذا يمكن أن يتسبب بصدمة كبيرة للمجتمع الإسلامي، حيث يمكن حصول حالة تآمر على الدولة من داخلها، إذ بإمكانهم أن يتظاهروا بالإسلام. ثمّ إنَّ الحرب ليست عديمة الثمن، ولذا ينبغي استثمار النصر لدرء احتمال تكرارها من جديد، وإلا كان إبقاء الباب مفتوحاً فعلاً سفيهاً. ومن هنا لا تقبل الأُمم المنتصرة من الأُمة المهزومة إلَّا بالتسليم الكامل من دون قيد أو شرط، وفتح باب التحرُّر الاختياري يلغي حالة تسليم الطرف المهزوم ، وبإمكانه أن يستدرك من جديد ليهجم على المجتمع الآخر من الداخل.

3- تقدَّم أنَّ الحكم بالعبودية لمحارب الإسلام حين يقع أسيراً باعث على بذل جهد أكبر من المسلمين للوقوف في وجه الباطل والذب عن الدين، ومع فتح باب التحرُّر لهم بمجرد إعلان دخولهم في الإسلام يلغى هذا الأثر في نفوس المحاربين.

ويمكن دفع هذا الأثر من خلال الحكم بتحريرهم عند دخولهم في الإسلام مع تولّي دفع قيمتهم لمسترقيهم من بيت المال، ولكن يبقى المحذوران السابقان على حالهما.

ولكن الإنصاف عدم دفع هذا الأثر دائماً، فقد لا تسع الموارد المالية للدولة الإسلامية مثل هذا الإنفاق، وقد لا تكون في البين دولة تجعل أحكام القرآن دستوراً لها، أي تكون حكومة وضعيّة في المجتمع الإسلامي، كما عليه الحال في أكثر الدول الإسلامية، بل في كلّها، فيترك الدفع لمالك العبد الذي أسلم ويُراد تحريره على فرض الحكم بتحريره عند إسلامه.

ص: 162

علة منع العبد من التملك

ومن هنا يتبيَّن الجواب على إشكال في المقام، وهو: لماذا مُنِعَ العبد من التملك في الإسلام، وأنَّه وإنْ مَلَكَ فإنَّ تصرُّفه في أمواله مشروط بإذن المولى المالك؟

وجوابه أنَّ تشريعات الإسلام لوحظ فيها كونها مقربة للطاعة ومبعدة عن المعصية، والكفر أكبر المعاصي على الإطلاق، بل إنَّ التوحيد هو الغاية من غالبية التكاليف في الشريعة، وهو الغاية من بعثة الأنبياء، فكل ما يقرب منه يكتسب أهمية كبيرة لذلك، وكذا كلّ مقرّب من مبعد من الكفر الذي هو أبغض المعاصي، وحرمان العبد من تملك المال أو التصرف فيه له فوائد:

منها : أنه يزيد من مخاوف المحارب للإسلام، فيكون مانعاً آخر (مضافاً إلى العبودية) من محاربة الإسلام، وموجباً للتردُّد حين الإقدام على الحرب، مما يمكن أن يترك أثره في إرباك صفًّ أعداء الدين الإلهي.

ومنها: أنّهم إنْ بقوا على كفرهم فإن تملكهم للمال يجعل لهم قوّة وقدرة على الكيد للإسلام، خصوصاً مع دخولهم ضمن المجتمع الإسلامي ولو بعنوان العبيد لهم، فإذا حُرموا من المال ولم يجز لهم العمل كان ذلك خير معين على سلب قوتهم على المحاربة مع المسلمين مرَّة أُخرى.

ولا يلغي هذه الفائدة القول بتملكهم، لأنهم على ذلك لا يجوز لهم التصرف فيه بدون إذن السيد المسلم، فيمتنع كيدهم باستعمال الأموال.

استحباب العتق لا ينقض الغرض من تشريع الرق

إنَّ عمليّة العتق التي أرادها الشارع المقدس مؤطّرة بالإطار العام من الحكم التي لأجلها شُرّع الرقّ واستُحِبَّ العتق، وليس في الحكمين

ص: 163

أي نحو من التنافي، إذ قد يقال بدون تأمل : ما الفائدة من أصل تشريع الرقّ إنْ كان العتق مستحباً إلى درجة كبيرة كما هو الواقع؟ وهل هذا إلَّا نقض للغرض ؟ إذ يرده

- أن نقض الغرض إنَّما يكون إذا كان العتق إلزاميا في كل موارد الرق والواقع ليس كذلك.

2 - إنَّ تطبيق نقض الغرض في المقام إنّما يتحقق إذا كان الغرض من الرقّ هو ذات عمليّة الاسترقاق، وعند انتفائها بالعتق ينقض الغرض، لكننا بينا مفصَّلاً أنَّ الغرض مجموعة من المصالح المترتبة على عملية الاسترقاق والتي تستوفى بنحو لا يتنافى مع الحكم برجحان العتق بعد ذلك.

3 - إِنَّ القدر المتيقن من رجحان العتق هو في صورة إيمان العبد، ومعها لا مصلحة للعبد في بقاء حالة الرقّ، نعم تُوجَد مصلحة للمالك، ومع تنازله عنها طلباً للأجر الأُخروي لا حكمة ظاهرة في بقاء حالة الرقّ، خصوصاً إذا كان مشترطاً فيها الالتزام بفروع الشريعة فضلاً عن أُصولها كما هو الوارد.

ففي رواية إبراهيم بن أبي البلاد :قال قرأت عتق أبي عبد الله علیه السلام، فإذا : «هذا ما أعتق جعفر بن محمد، أعتق فلاناً غلامه لوجه الله لا يريد به جزاءً ولا شكوراً ، على أن يقيم الصلاة، ويُؤتي الزكاة، ويحج البيت، ويصوم شهر رمضان، ويوالي أولياء الله، ويتبرأ من أعداء الله . شهد فلان وفلان وفلان هو: ثلاثة »(1).

وفي رواية أخرى عن غلام أعتقه أبو عبد الله علیه السلام: «هذا ما أعتق جعفر ابن محمد، أعتق غلامه السندي فلاناً على أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا

ص: 164


1- وسائل الشيعة (ج 23/ ص 17 / ح 1/29004)

شريك له، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، وأنَّ البعث حقٌّ، وأنَّ الجنَّة حقٌّ، وأنَّ النار حق، وعلى أن يوالي أولياء الله، ويتبرأ من أعداء الله، ويُحِل حلال الله، ويُحرم حرام الله، ويؤمن برُسُل الله، ويقر بما جاء من عند الله، أعتقه لوجه الله لا يريد جزاءً ولا شكوراً، وليس لأحدٍ عليه سبيل إلا بخير. شهد فلان»(1) .

وقد قيَّدت جملة من الروايات التي ذكرت الأجر للمعتق بالإسلام أو الإيمان أو الصلاح(2)، فكأنَّ العبودية كانت بمثابة الدخول في مدرسة حتَّى إذا تعلم الطالب فيها ما يلزمه كانت لحظة التخرج بالعتق.

4 - إنّ نفس مرور الإنسان بحالة العبودية ولو انتهت بالعتق يترك أثره على المعتق (بالفتح)، لأنَّه سيبقى مولى فلان، وهو أدعى لإيراث حالة من التواضع والابتعاد عن التكبر ، خصوصاً إذا كان من أصل شريف، وأما ذو الأصل الوضيع فقد لا يترك الرقُ السابق عليه أثراً كبيراً.

5 - إنَّ مدَّة الرقّ وإن قصرت تجعل العبد فيها أقرب إلى القبول بالحق والإقرار بالإسلام، ومن الإذعان بشرف عبودية الرحمن، وأقرب الناس إلى الكفر المتجبّرون والمترفون، ومن أين يأتي التجبر والإتراف لمن صار رقًا مملوكاً؟

6 - إِنَّ في الحكم برجحان العتق أو لزومه بعد الاسترقاق فرصة للمالك للرقي من خلال اختيار هذا الفعل الراجح جدا في الشريعة، والإتيان بفعل في راجح في الشريعة موجب للارتقاء في المسير إلى الله تعالى.

* * *

ص: 165


1- وسائل الشيعة (ج 23 ص 18 / ح 2/29005)
2- كما في الحديث الأول والثاني والرابع والسابع من الباب الأوّل من أبواب العتق في كتاب وسائل الشيعة

ص: 166

الفصل السادس :وجوه المنع ودلائل الشرعية

اشارة

ص: 167

* وجوه إنكار تشريع الرقّ. شبهة المنع من شرعيته بالكتاب.

* شبهة المنع من الجهاد الابتدائي.

*القرآن يدلّ على الجهاد الابتدائي في زمن النبي صلی الله علیه وآله

* تشريع الجهاد الابتدائي منسجم مع غاية الخلقة.

*عدم إتيان المعصوم بفعل ليس دليلاً على عدم شرعيَّته .

*عدم تشريع الجهاد الابتدائي لا يدفع الإشكال.

*الجهاد الابتدائي في الديانات السابقة يُقرّب إمكانه في شريعتنا .

*انتفاء الحكم العقلي.

*الآيات التي يظهر منها تخيير الإنسان في مسألة الإيمان.

*دلائل الشرعية :

*الآيات القرآنية.

*السيرة العقلائية.

*فعل المعصوم.

*أصالة عدم النسخ.

*حكمة عدم إلغاء العبودية.

*مصالح التشريع المنظورة لا تختص بزمان خاص.

ص: 168

وجوه إنكار تشريع الرق

قد يُنكر البعض تشريع الرقّ في الإسلام بدعاوى مثل:

1 - عدم وجود ما يدل عليه في الكتاب الكريم، بل يوجد ما ينفيه.

2 - إِنَّ الجهاد المشرع هو الجهاد الدفاعي لا الابتدائي، وقد يُستَدلُّ على ذلك بآيات.

أمَّا الدعوى الأُولى، وهي عدم وجود ما يدلُّ عليه في الكتاب، فمردودة حلّاً ونقضاً:

أما الحلُّ : فلأنَّنا لا نلتزم بضرورة وجود آية أو آيات في الكتاب على كلّ حكم من أحكام الشريعة، فالصلاة التي هي عمود الدين لا يتوفّر القرآن على ما يدلّ على عدد ركعاتها و لا تعداد أجزائها، والواجبات منها والأركان ولا على ما يُعتبر في أجزائها، بل ولا تعرُّض لعدد الفرائض اليومية، ومثل قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً »(الإسراء: (78) ليست دالة على خمسة فروض في اليوم، «كما أنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ» غير ظاهر من نفس الآية أنَّ المراد به صلاة الصبح، إذ لولا الروايات وعلمنا من خارج الآية الشريفة أنَّ صلاة الصبح إحدى الفرائض الخمس لما استفدنا من مجرَّد الآية أنها تُوجب صلاة الصبح.

والصيام لم يتحدَّث القرآن عن ما يجب الامتناع عنه إلَّا الأكل والشرب والرفث إلى النساء، والحج لم يُبيّن القرآن إلا حدوده العامة دون تفاصيل أحكامه.

ص: 169

وأمَّا النقض، فبأنَّ القرآن قد تعرَّض في بعض آياته لهذه المسألة، وهي الآيات التي سنتعرض لها في دلائل الشرعية.

شبهة المنع من شرعيته بالكتاب

أمَّا النفي للاسترقاق في القرآن الكريم وفق الشبهة الثانية، فيمكن أن يكون المستند فيه قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» (محمّد 4) .

إذ قد يقال: إنَّ الآية خيّرت المسلمين أو خصوص القائد منهم في مقام التعاطي مع أسرى الحرب بين خيارين لا ثالث لهما؛ الأول هو إطلاق سراحهم، وهو المعبّر عنه بالمن، والثاني قبول الفداء عنهم، ولم تشر إلى الاسترقاق كخيار أو بديل للتعاطي معهم، بل إنَّها بواسطة الحصر بين الخيارين ظاهرة في نفي الاسترقاق، مما يعني عدم شرعيته وعدم قبول الشريعة به.

ويردُّه أنَّ ذلك إذا تمَّ فإنَّه إنَّما ينفي استرقاق الذين كفروا في الحروب، ولا تنفي شرعيّة المسترقين قبل ذلك ولا شرعيَّة استرقاق أولادهم ولا تنفي شرعيّة شرائهم من الكفّار مثلاً، بل لو تمت دلالتها فهي تسدُّ أحد أبواب الاسترقاق.

وثانياً: أننا وإنْ لم تُنكِر أنَّ ظاهر الآية الحصر في خيارين أحدهما المن، لكن المنَّ لا ينافي الاسترقاق ومن هنا ورد في جملة من التفاسير تفسيره بالإطلاق أوالاسترقاق، كما فُسِّر الفداء بالمال أو بمنّ لدى المسلمين من الأسرى، كما يظهر من الميزان والتبيان ونسبه في مجمع البيان إلى الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن إسحاق(1).

ص: 170


1- تفسير الميزان ج 18 ص (225؛ تفسير التبيان (ج) 9 ص 291؛ تفسير مجمع البيان (ج 9/ ص 162)

وثالثاً: إِنَّ شدَّ الوثاق بمعنى الاسترقاق، إذ أنَّ شدَّ الوثاق هو العزل عن الاستقلال ما لم يمن عليه أو يفاد، وإلا لزم أن يضاف خيار ثالث وهو الاسترقاق، فيكون مخالفة لظاهر الآية، ولكنَّه للقرينة. وهذا ما اختاره في( البيان في تفسير القرآن الكريم)(1) .

ومن الروايات في ذلك رواية طلحة بن زيد، وفي آخرها: «فكلُّ أسير أُخِذَ في تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار، إن شاء منَّ عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم ، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيداً»(2).

وقد نُقِلَ عن الفاضل المقداد أنَّ مسألة الرقّ استفيدت من الروايات لا من متن الآية(3).

رابعاً: يظهر من بعض المفسرين أنَّ الشارع المقدس لم يذكر الاسترقاق في القرآن الكريم بصراحة، ولعلّ ذلك لأنَّه ليس أمراً واجباً، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين يُنفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة.

لكن ذلك التوجيه إنَّما ينفع لو لم ترد الآية بظاهر الحصر: «فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً»، ومجرَّد احتمال هذا التوجيه واقعاً لا يُسوّغ رفع اليد عن ظهور نفيه كبديل للخيارين المذكورين في الآية، فهو على خلاف ظاهرها، ولم يستند إلى قرينة تُسوّغ مخالفة ذلك الظهور.

خامساً: ويظهر من البعض أنها منسوخة بقوله تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ »(التوبة: (5) ، وقوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرَّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ »(الأنفال : (57)، ذهب إلى ذلك ابن جريج و وقتادة(4).

ص: 171


1- نفس المصدر والصفحة.
2- الكافي ج 5 ص 32 باب بدون العنوان/ ح 1)
3- كنز العرفان ( ج 1 ص 365
4- تفسير مجمع البيان (ج 9 ص 162)

سادساً: أنَّ الآية لو سُلَّم ظهورها في نفي الاسترقاق، فإنَّ حجّيَّة ظهورها مشروطة بما إذا لم تقم القرينة على خلافها، والمفروض أنها قامت بالأدلة الأُخرى كالروايات الواردة والواقع الموضوعي التاريخي وفعل المعصوم وإقرار المعصوم للمستعبدين في حروب المسلمين، والإجماع عندنا وعند الشافعية أنَّ الذَّكَر الحُرَّ المكلَّف إذا أُسِرَ تخيَّر الإمام بين القتل والمن والفداء والاسترقاق(1).

وذكر الطبرسي في مجمع بيانه أنَّ أبا يوسف ومحمد بن إسحاق ذهبوا إلى رأي الشافعي(2).

وستأتي دلائل الشرعية.

شبهة المنع من الجهاد الابتدائي

يمكن لقائل أن يقول: إنَّ في القرآن دلالة على أنَّ المشرع هو خصوص الجهاد الدفاعي، وعليه فلا مجال للجهاد الابتدائي، مما يعني انحسار سبب الاسترقاق في الشريعة إلى حد بعيد، وتتمثل الدلالة بآيات

الآية الأولى: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »(البقرة: 190).

فقد حددت الآية من أمر بقتالهم بخصوص الذين يقاتلون المسلمين أولاً، ومنعت عن الاعتداء ثانياً، وربَّما قيل: إنَّ المنع عن الاعتداء وفق هذا السياق ينطبق على مقاتلة الذين لا يقاتلون المسلمين، وبهذا يكون الجهاد الابتدائي اعتداء وفق هذا الفهم، ويمكن الاستشهاد على هذا المطلب وتأييده بما ورد في ذيل الآية التي بعدها، وهو قوله تعالى: «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» (البقرة: 191).

ص: 172


1- زبدة التفاسير (ج 6 / ص 348 و 349)
2- تفسير مجمع البيان (ج 9 ص 162)

ولكن يرد على الاستدلال بالآية

1 - أنَّ الاستدلال بقوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا غير تام هنا، لأنَّ الاعتداء التجاوز على الآخرين بظلمهم، والظلم يقتضي ثبوت حقٌّ أَوَّلاً فيتجاوز عليه، وأوّل الكلام أنَّ الكافر له حقٌّ أنْ لا يُقاتل لأجل أن يدخل في دين الله ، فالتمسك بفقرة: «وَلا تَعْتَدُوا »في المقام من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية له، وهو غير جائز كما حقق في محله(1).

نعم يمكن أن يقال: إنَّ في السياق ما يدلَّ على أنَّ الموضوع متحقق إذ قالت الآية (193): «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ »، وهذا 193) ظاهر في أنَّ تركهم الحرب يمنع من محاربتهم، إذ لا يكونون ظالمين ظلماً يستوجب قتالهم، وأن قتالهم سيكون عدواناً، وستأتي بعد قليل زيادة بيان.

2 - أنَّ الدلالة المدَّعاة إنَّما هي بالمفهوم لا بالمنطوق، فمنطوق الآية الأمر بالقتال لفئة لا النهي عن مقاتلة فئة أخرى، ولكن باعتبار تقييد من أمر بقتالهم بقيد :« يُقاتِلُونَكُمْ »فالأمر منفي عمَّن سواهم، إلَّا أنَّ المفهوم الثابت في المقام ليس بحجة كما حُقِّق في الأصول من أنَّ مفهوم اللقب أو الوصف غير تامين.

3 - لو سلّمنا ثبوت المفهوم للوصف أو اللقب، فغاية ما يدلّ عليه انتفاء الحكم الوارد في المنطوق عن فاقد القيد، فتكون النتيجة لا يجب قتال غير المقاتلين، وهو غير حرمة مقاتلتهم ، فعدم الوجوب لا ينافي المشروعية، فالمستحبّات كلها غير واجبة لكن ذلك لم يمنع من مشروعيتها.

4- قد ورد في الآية التي بعد الآيتين بآية ما يُشكّل قرينة على العمومية لقتال غير المقاتلينن وهو قوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ »

ص: 173


1- ووجهه أنَّ الدليل على حكم يختص دوره بإثبات الحكم عند تحقق الموضوع، فما لم يُحرز الموضوع في رتبة سابقة لا يمكن إجراء الحكم وفق الدليل.

(البقرة: (193)، فالأمر بالقتال معلَّل بأنَّ في القتال منعاً من الفتنة، وقد حقق في محله أنَّ العلَّة تُعمِّم الحكم كما تُخصصه، أي على فرض أنَّ الآية السابقة لا تشمل قتال غير المقاتلين موضوعاً إلَّا أنَّ حكمها جارٍ فيه، أو أنَّ مثل حكمها ثابت له نظراً لوجود نفس العلة فيه، وهو المنع من الفتنة. وتعبيرهم ب-(العلَّة تُعمِّم) يقتضي جريان نفس الحكم لا ثبوت مثله.

5 - في تتمة القرينة وردت غاية للقتال المأمور به، وهي قوله تعالى:« وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ » (البقرة : (193) ، ولا تتحقق هذه الغاية مع ترك قتال غير المقاتلين.

ولكن يُضعف الوجه الرابع والخامس قوله تعالى في ذيل نفس الآية: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ » (البقرة: 193).

ولا يدفع هذا الموهن بالقول: إنَّهم ما داموا كُفَّاراً فهم ظالمون، فقتالهم مشرع وفق الآية، ووجه عدم تماميَّة الدفع أنَّ الضمير في« انْتَهَوا» راجع إلى الكُفَّار المقاتلين، وهذا يعني أنَّ الظلم المذكور في الآية لا يُراد به مطلق الظلم ليشمل الكفر، بل هو خصوص الاعتداء، مضافاً إلى النقض بالظالم بغير الكفر والذي لا تجب مقاتلته قطعاً .

6 - إِنَّ دلالة الآية المزبورة على المدعى لو سُلّمت فإنَّما هي بمستوى الظهور وليست نصًا بلا شكٍّ، وحجّيَّة الظهور مشروطة بعدم قيام القرينة على الخلاف، والقرينة هي الأدلة التي ذكرناها في طيات البحث.

وأمَّا النهى عن الاعتداء، فإنَّه وإنْ كان فيه إشعار بما ذكرناه سابقاً، إلَّا أنَّه لا يصل إلى مرتبة الظهور والقرينة وإنما جاء بعد الأمر بقتال المقاتلين من الكفّار للإشارة أو الدلالة على أنَّ فتح باب المقاتلة ليس بالمطلق وإنَّما هو مقيد بأن لا يحصل اعتداء فيه، وإنّما يتحقق الاعتداء إذا ثبت حق لأحد، فإذا دلَّ الدليل على أنَّ الكافر لا حق له في المسالمة والمهادنة لم يشمل مقاتلته النهي عن الاعتداء .

ص: 174

وكيف كان فالآية لا دلالة فيها على حرمة مقاتلة غير المقاتلين من الكُفّار، ولو تمت الدلالة فلا حجّيَّة لها، لقيام القرينة على الخلاف.

على أنَّ هناك بعض موارد مقاتلة النبي صلی الله علیه وآله للكفار لا يمكن حملها على الجهاد الدفاعي، وفعله صلی الله علیه وآله قرينة قطعية لا شكّ أنّها تُخصص الظهورات إذا كانت على خلافها.

الآية الثانية:« الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصُ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » (البقرة: 194 ) .

ويمكن توجيه دلالتها بأنَّ الآية قد وردت فيها جملة شرطية بينت حكماً، وجزاؤه كان جملة إنشائية فعلها فعل أمر ، والأمر ظاهر في الوجوب إلّا إذا كان في مورد رد توهم الحظر فإنَّه يدلُّ على الجواز، وهنا مورد توهم الحظر، ومنشأ التوهم هو كون الظرف شهراً حراماً ، فالآية بمنطوقها دلَّت على جواز الاعتداء بالمثل على المعتدي، وهذا يعني المنع عن محاربة غير المعتدي بواسطة دلالة المفهوم، فإذا كان الحكم في المنطوق هو الجواز كان المفهوم دالّاً على عدم الجواز، وهو الحرمة.

ویرده

1 - إنّ مورد المنع هو الشهر الحرام، ولا مانع من الالتزام به في الجملة وبحثنا في الجهاد الابتدائي مطلقاً، وهو ما يشمل القتال في غير الأشهر الحُرُم

2 - إنّ محاربة الكافر لو تمَّ عليها الدليل - كما هو كذلك -ليست اعتداءً، فلا يكون المورد من مدلولات المفهوم لو تم، والذي مؤدّاه من لم يعتد عليكم لا يجوز لكم الاعتداء عليه، وإنَّما عبّر بالاعتداء باعتبار التجاوز على حرمة الشهر.

ص: 175

3 - إِنَّ غاية ما يتحقق بالآية ظهورها في الحرمة -لو تم -، والظهور لا حجّيَّة له إن قامت القرينة على خلافه، وفي المقام قامت القرينة على ذلك.

الآية الثالثة: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً » (النساء: 84 ) .

ببيان أنَّ الأمر بالقتال في سبيل الله وتحريض المؤمنين على القتال كان رجاءً لأنْ يكفَّ الله بأس الذين كفروا ، وهذا ما لا يتحقق إلا في الجهاد الدفاعي، إذ يُفترض في الابتدائي أنَّه لا يوجد بأس من الكفّار يتوجه إلى المسلمين ليرام دفعه من خلال الحرب.

وفيه أَنَّ قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ليس غاية للقتال، فإنَّ شأن نزول الآية كان مرتبطاً وفق بعض المرويات ببدر الصغرى حيث إنَّ أبا سفيان بعد واقعة أحد واعد رسول الله صلی الله علیه وآله موسم بدر الصغرى وهو سوق تقوم في ذي القعدة، فتثاقل الناس عن الخروج مع النبي صلی الله علیه وآله ، فأمره الله تعالى بالقتال على كلِّ حالٍ. وأمَّا «عَسَى» فهي مرتبطة بأن يكف الله عنه بأس الكافرين وليست غاية لمقاتلة النبي صلی الله علیه وآله ، وقد قيل: إنَّ (عسى) من الله واجب، فإطماع الكريم إنجاز، ولا أقل من احتمال أن لا يكون كف البأس غاية للأمر بالحرب، بل الأمر مطلق للنبي صلی الله علیه وآله ، فلا ظهور فيها - ولو أغمضنا النظر عن شأن النزول - في تقييد الأمر بالقتال بخصوص الدفاعي.

الآية الرابعة:« لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(الممتحنة: 8).

وفيه أنَّ الآية لا تشمل بإطلاقها إلَّا أهل الذمة وأهل المعاهدة، وأما أهل

ص: 176

الحرب فلا – ذكر ذلك صاحب الميزان(1) - ، وفي مجمع البيان قال: (أي ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد....، وقيل: من آمن من أهل مكة ولم يهاجر.... وقيل: هي عامة في كلِّ من كان بهذه الصفة)(2) .

وثانياً : قيل: إنَّها منسوخة بقوله تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ »(التوبة: 5 ) .

وثالثاً: أنَّ دلالتها في حدود الظهور، وحجّيّته مشروطة بعدم قيام الدليل على الخلاف، وقد قام.

ويُؤيد ما ذكرنا من شرعيَّة الجهاد الابتدائي قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (البقرة: (216 ) . ) ببيان أنَّ الحرب الدفاعية واضحة الدوافع والمصالح فلا تحتاج إلى بيان أنَّه يحتمل فيها الخير، ثمّ تُذيَّل الآية بقوله تعالى:« وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »، فهذا إنْ لم يجعل الآية ظاهرة في خصوص الجهاد الابتدائي فلا أقل من إطلاقها وشمولها له، وإنْ أبيتَ عن كلّ ذلك فلا أقل من التأييد، فقوله تعالى في مقام تسهيل القيام بمهمَّة القتال على نفوس المقاتلين - «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» - يناسب الحكم الذي لا يعرف المشرع له ،مصلحته، كما أنَّ ما تذيَّلت به الآية(3) يناسب ذلك، بل هو أوضح من هذه الفقرة، وإنَّما لا تُعرَف مصلحة الجهاد الابتدائي لا الدفاعي.

واستعمال كلمة (عسى) يدفع احتمال أن تكون الآية بصدد بيان أنَّ

ص: 177


1- تفسير الميزان ج 19 ص 234)
2- تفسير مجمع البيان (ج 9 ص 450 )
3- وهو قوله تعالى: «وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »

الإنسان قد يكره الأشياء التي فيها مصلحة باعتبار المشقة الكبيرة التي فيها، كطالب يعلم أنَّ الدراسة فيها مصلحة له وهو مع ذلك يكرهها، فلفظة (عسى) تناسب المترقب غير المعلوم، وهذا المترقب غير المعلوم يناسب الجهاد الابتدائي في العادة.

القرآن الكريم يدلُّ على الجهاد الابتدائي في زمن النبي صلی الله علیه وآله

مما يمكن أن يُستَدلَّ به على شرعيَّة الجهاد الابتدائي قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتَدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ ثقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً »(الفتح: 16 ) .

ووجه الدلالة أنَّ الآية حصرت الأمر بإحدى نتيجتين: المقاتلة أو إسلام القوم، ولو كان الجهاد دفاعيًا لكان احتمال ثالث وهو انسحابهم واندفاعهم، بل لو كان المقصود أهل الكتاب لكان احتمال رابع وهو دفع الجزية، وعدم التعرض لهذا الاحتمال يعني أنّ القوم المعنيين ليسوا من أهل الكتاب.

وكيف كان فالمعني قوم قاتلهم النبي صلی الله علیه وآله بعد فتح خيبر.

فإن قيل : إِنَّ الآية أشارت إلى واقعة خارجيَّة، وقد تختص هذه الواقعة المستقبلية بعدم وجود الاندفاع بدون الحرب والله بعلمه بما ستأتي به الأيام وتكون عليه الحوادث لمَّا عَلِمَ بعدم ترك هؤلاء للحرب لم يذكر وجه الترديد الثالث.

قلنا: إن كان الحديث عن واقع ما ستكون عليه مسيرة الأحداث فهو تعالى كان عالماً بأنَّ الذي سيتحقق شيء واحد، ولا وجه حينئذ للترديد بين القتال وإسلامهم، بل إمَّا القتال أو الإسلام.

ص: 178

نعم، قد يكون الترديد لمصلحة في عدم تحديد مآل الأمور، ولكنه ليس وجهاً معتدا به جدا، أو يقال : إنَّ الترديد باعتبار الأفراد لا القوم أجمعين.

ومن تلك الأدلة قوله تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (التوبة: 5)، ودلالتها واضحة، كما أن لسانها آب عن التخصيص بخصوص أنَّ الجهاد الدفاعي، وهذا يعني أنَّه على فرض تماميَّة دلالة الآيات التي يمكن أن يقال بدلالتها على المنع من الحرب الابتدائية، فإنَّها لا تنهض لتخصيص مثل هذه الآية لأنَّ لسانها يأبى التخصيص خصوصاً مع ملاحظة «حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ». ومنها: قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » (النساء : (89)، ولكن يمكن التشكيك بدلالتها، إذ سياقها يوحي أنها تتحدث عن المنافقين.

ويكفينا لردّ هذه الدعوى إطلاقات الأدلة التي أمرتنا بقتال غير المسلمين دون تقييد بما إذا كانوا يريدون الهجوم على ديار المسلمين، أي دون اختصاص بالجهاد الدفاعي، ومنها آيات في الكتاب كقوله تعالى: «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً »(النساء : (74 ، لكن دلالتها موقوفة على شرعيَّة القتال في سبيل الله، ولا تثبت شرعيّة القتال على إطلاقه.

وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً»(التوبة: 123 ) .

وقوله تعالى: (يا أيهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(التوبة: (73).

وقوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ » (التوبة: 29).

ص: 179

ويدعم ذلك الواقع الموضوعي التاريخي.

وهل كان لأهل نجران على بعد مسكنهم عن المدينة خطر على الإسلام ليُهددهم النبي صلی الله علیه وآله بالحرب إن لم يسلموا أو يدفعوا الجزية؟ فإنّنا إذا قبلنا بالرواية التي أخرجها البيهقي في (الدلائل) والتي نصت على أنَّ النبيَّ صلی الله علیه وآله كتب إلى أُسقف نجران وأهل نجران: «إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمَّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أذنتكم بالحرب، والسلام»(1).

وإن قلنا: إنَّهم وفدوا إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فما الحاجة إلى المصالحة ودفع الجزية من قِبلهم إِنْ لم يُهددهم بحرب؟

وهل كانت مثل هذه لو وقعت حرباً دفاعية؟

لقد فهم المستشكل والمشكك أنَّ الشارع ما دام قد نفى الإكراه في الدين وجعل اختيار الإسلام مربوطاً بمشيئة العبد فالجهاد الابتدائي لا وجه له حينئذ.

تشريع الجهاد الابتدائي منسجم مع غاية الخلقة

يمكن للمتأمل أن يستقرب الجهاد الابتدائي وتشريعه من جهة أنَّ الله تعالى لما تعلّق غرضه بهداية الناس باختيارهم اقتضى ذلك استعمال كلّ ما من شأنه أنْ يُقرّبهم لما فيه مصلحتهم وكمالهم، حيث إنَّ رحمته اقتضت ذلك(2) أو أنَّ

ص: 180


1- دلائل النبوة (ج 5 ص 385).
2- كما هو مفاد قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ له إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ...» (هود: 118 و 119)، فغاية خلقتهم أنه تعالى أراد أن يرحمهم، ونفس الرحمة اقتضت أن يُقرّبهم مما فيه مصلحتهم وكمالهم.

لطفه تعالى هو الذي أوجب ذلك. ولما كان إرغام الأعداء من خلال الحرب عاملاً مساعداً في دخولهم - أو بعضهم في الحد الأدنى - للإسلام ولو بعد حين، فما المانع من أنْ يُشرع الله تعالى الجهاد ابتداءً؟ وقد صدق الخبر الخبر كما يقولون، فالأُمم التي فُتِحَت بلدانها بقوة السيف تحولت إلى أُمَم مسلمة بعد حين وظلت على إيمانها، وقد طالت الفتوحات الإسلامية الشام والعراق وشمال أفريقيا ودول غرب آسيا ووسطها وجنوبها، ولولا إعمال السيف ولو بأمر حاكم جائر ما كانت هذه الأمم تعبد الله وحده.

فهل لعاقل بعد قراءة التاريخ وملاحظة حال الأُمم في زماننا أَنْ يُشكّك في جدوائية تشريع حرب الكفار ولو ابتداء؟!

نعم، لا نقول: إنَّ كلَّ من هُزِمَ في حربه مع المسلمين وعاش تحت حكمهم تحوّل إلى الإسلام، لكن الغالبية المطلقة تحوّلت، خصوصاً مع ملاحظة تفاهة المعتقدات التي كانت سائدة في تلك الأزمنة وسذاجة الأفكار والتصورات عن الكون والقوى المؤثّرة فيه، فربَّما كان يمنع الكثير منهم أن يدخل في الإسلام عدم وجود تصوّرات واضحة عن الإسلام، أو الخضوع للعقل الجمعي ومتابعة السائد، والنفس تشعر بالاطمئنان مع الجماعة كما تقتضي الطبيعة البشرية، أو المتابعة للقوى المؤثرة في المجتمع، وهم المعبّر عنهم في القرآن الكريم ب-(الملأ ) ، تأثراً بهم أو خوفاً منهم، أو الركون إلى التقاليد الموروثة عن الآباء:« إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ » (الزخرف: (22).

وحاكميَّة الإسلام على تلك المجتمعات تلغي تأثير تلك العناصر والمؤشّرات في البقاء على الكفر عند غالبيَّة الناس، ولسنا بحاجة إلى الإسهاب في إثبات ما أثبته التاريخ بما لا لبس فيه.

وهذا البيان ينفي الاستبعاد، ولا يُثبت لزوم تشريع الجهاد الابتدائي، إذ

ص: 181

قديوجد مانع يمنع من تشريعه كما كان الحال من المسلمين قبل واقعة بدر حتّى نزل قوله تعالى:« أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٌّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ» (الحج: 39 و 40 ) .

وبمجرد أن ارتفع المانع أذن الله لهم بمجاهدة الكفار.

وقد لا تصل المصلحة فيه إلى مستوى يستدعي الحكم بوجوبه، ويشهد لذلك أنَّ أكثر الأنبياء علیهم السلام ، بل غالبيَّتهم المطلقة لم يقودوا جيوشاً أو يدخلوا حرباً، وذلك واضح حتَّى في عظماء الأنبياء عليهم السلام ، فنوح علیه السلام وهو من أولي العزم من الرُّسُل لم يُحدِّثنا التاريخ أنَّه دخل حرباً أو قاد جيشاً، وإبراهيم علیه السلام وعيسى علیه السلام كذلك، وموسى علیه السلام كذلك إلا في واقعة واحدة امتنع فيها قومه من متابعته.

وكيف يُعقل أن يكون المقتضي للجهاد الابتدائي موجوداً وهو توفّر المصلحة الملزمة فيه ولم يتحقق مقتضاه عند الغالبية المطلقة من الحالات؟ أي ترك المانع أثره، وهذا يعني توفّر المانع في كلّ مرَّة، فمنع من أَنْ يُؤثر المقتضي أثره.

نعم، لقائل أنْ يقول: إنَّ الجهاد ابتدائيًّا كان أو دفاعيا لا يتم مقتضاه إِلَّا إذا وجدت دولة أو حاكميَّة لشخص ، مما يعني توفّر القدرة على جمع الجيش وتجهيزه للحرب، ولما لم يكن للأنبياء علیهم السلام دولة يديرونها انتفى موضوع الجهاد، ولذا لم يُحدِّثنا التاريخ عن تصدّي غالبيَّة الأنبياء علیهم السلام للجهاد الدفاعي، كما لم يُحدثنا عن تصديهم للجهاد الابتدائي، ومن توفَّرت له الظروف تصدّى للحرب، كسليمان وداود والنبي(1) الذي كان في زمن طالوت الملك قبل نبوّة داود علیه السلام ، أو في زمان عاصرها ، وموسى علیه السلام لولا أن خذلته أُمَّته بقولتها :

«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهنا قاعِدُونَ » (المائدة: 24 ) .

ص: 182


1- هو شمعون أو يوشع بن نون أو اشمويل، على اختلاف أقوال المفسرين.

وكيف كان فانسجام الجهاد الابتدائي مع الغاية من بعثة الأنبياء علیهم السلام وبالتالي مع غاية الخلقة لا يكفي لتشريعه إلَّا إذا أُحرز عدم مزاحمته لمصلحة تنعكس على التشريع، وهذا يعني أنَّ هذا وجه مقرّب لا موجب للتشريع.

عدم إتيان المعصوم علیه السلام لا بفعل ليس دليلاً على عدم شرعيته

لمَّا كانت الشريعة الإسلامية منهاجاً لبني النوع الإنساني إلى آخر أيام الدنيا، فتشريعاتها غير خاصَّة بزمان دون زمان، وقد لا تدعو حاجة إلى تجسيد حكم من الأحكام في زمان النبي صلی الله علیه وآله ، لكن ذلك لا يعني أبداً أنَّ ذلك الحكم ليس جزءاً من منظومة التشريعات الإسلامية.

نعم، قد تدعو الحكمة إلى تطبيق ذلك الحكم فيما إذا كان قبوله ثقيلاً على النفوس، كما في قضيَّة الزواج ممن كانت زوجة للولد بالتبني ليسهل ذلك على النفوس قبوله ما دام النبيُّ قد فعله« فَلَمَّا قَضى زَيْدُ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً »(الأحزاب: (37).

ولو سلمنا أن النبي صلی الله وعلیه وآله لم يأتِ في حياته بالجهاد الابتدائي فإنَّ ذلك لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم مشروعيته، ففعله حجة في المشروعية، وعدم فعله ليس دليلاً على عدم مشروعيته .

وما دام الدليل القرآني قد تعرَّض لذلك ولو بالعموم أو الإطلاق فإنَّ ذلك كافٍ في إثبات الشرعية.

لم يرد في الكتاب ولا في الروايات متى تجب الصلاة في البلدان القطبية والتي يحيط بها ظلام دامس لأشهر وتشرق الشمس فيها لأشهر دون غروب، لكن هل عنى ذلك أنَّ الصلاة في مثل هذه الظروف ما دامت لم تفعل في زمن النبي صلی الله علیه وآله إذن هي ليست شرعيَّة؟

ص: 183

إن مستند الجهاد الابتدائي ليس فعل النبي صلی الله علیه وآله فقط، مع أنه لو فعله - وقد فعله - لكان حجّة علينا، فعدم فعله لا يدلُّ على شرعيَّته، لكنَّه أيضاً لا يدلُّ على عدم مشروعيته، فإنْ عُثِرَ على دليل آخر دال على الشرعيَّة ثبتت شرعيَّته وإلا فلا، وبتعبير آخر لا يُشترط في شرعيَّة الأشياء فعل النبي صلی الله علیه وآله لها، فإنَّ الالتزام بذلك يمنع من صلاحية الشريعة لكلّ ،زمان، فكل زمان فيه مستحدثات لم تكن محل ابتلاء في الأزمنة السابقة، فلا ركوب الطائرة كان محل ابتلاء، ولا النزول إلى أعماق البحر بالغواصات، ولا استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا النظر إلى وسائل الإعلام، ولا العمل بالمكائن، والقائمة تطول. فقد أغنانا في إثبات شرعيَّتها إطلاقات أدلَّة نُثبت بها حكم الجواز، أو قواعد شرعتها الشريعة نعتمد على إطلاق أدلتها لإثبات جريانها في مثل هذه المسائل.

عدم تشريع الجهاد الابتدائي لا يدفع الإشكال

ثمّ إنَّ نفي الجهاد الابتدائي لا يدفع المشكلة لو كانت، إذ إنَّ الجهاد الدفاعي إذا طبقناه على غزوات مثل مؤتة والتي كانت في الشام، وبنفس الملاك، نُطبقه على معركة اليرموك خصوصاً وقد أوصى النبي صلی الله علیه وآله بحرب الروم - ومن هنا كان جُلّ أبناء المهاجرين والأنصار في الشام ولم يشتركوا في معركة القادسية - ونُطبقه على معركة القادسية، وفي كلّها قد شرع استرقاق الأسرى، فالمشكلة لو كانت في الاسترقاق باقية على حالها، نعم قد تضيق دائرتها، بل لو نفينا جواز الاسترقاق في حروب المسلمين فإنّ أصل المشكلة باقية، لأنَّه لم يلزم الناس بعتق عبيدهم. نعم دائرته ستكون ضيّقة إلى حد بعيد. وفي أصل الإبقاء عليه دليل قاطع على أنَّ نفي الرقّ ليست مسألة عقلية، كما قد يحلو للبعض تصويرها، فالعقل لا يُميز بين حالة وحالة في مثل هذا المقام، وأمَّا إِنْ كان الاستبعاد لمجرَّد

ص: 184

الذوق الشخصي للأفراد أو للاستحسان فإنَّه لا قيمة له في سوق الاستدلالات المنطقة.

ولا اعتداد في ساحة الاعتبار، فالحكم الصادر من جهة حكيمة لا يُعتبر فيه أكثر من وجود مبررات مرجّحة عند الجهة المشرّعة، لأنَّ التشريع فعله، والأفعال تحتاج إلى مبرر أو حكمة داعية إليها عند فاعلها. نعم قد يكون سلوك متوقع أو نوع من التعاطي عند المشرع لهم مؤثّراً في التشريع، كثقل التكليف فإنَّه ربَّما يمنع من تشريع حكم توفّرت المصلحة الكافية في متعلقه للتشريع. ومن هنا سكتت الشريعة عن أشياء وأمرتنا أن لا نتكلفها، وخففت بعض التشريعات مع وجود المصلحة في غير المخفف منها كما في الصلوات الخمس بدل الخمسين، وألغت بعضها بعد أن صارت فعليّة كما في وجوب صدقة النجوى.

لكن كل ذلك لم يخرق القاعدة التي تقول: إنَّ الأفعال الشاملة للأحكام المشرعة بالنسبة لجهة التشريع لا بدَّ لها من مبررات رجّحت صدورها بالنسبة لفاعلها أو مشرعها.

وليس لاستبعاداتنا دخالة في منع التشريع، ومن هنا كفانا إثبات صدورها من جهة التشريع و احتمال وجود مبرّر لها عند تلك الجهة بعد الفراغ عن حكمة الشارع المقدَّس وإحاطة علمه بكلِّ شيء.

الجهاد الابتدائي في الديانات السابقة يُقرب إمكانه في شريعتنا

إِنَّ التاريخ يُحدثنا عن أنبياء وأولياء أنَّهم ابتدأوا محاربة الكفار ولم يكن ما فعلوه حرباً دفاعيَّة.

لا يمكن القول: إنَّ بني إسرائيل الذين طلبوا من نبي لهم أن يُعيّن لهم مَلِكاً للقتال في سبيل الله كانوا يريدون الجهاد الدفاعي، وسياق الآية واضح في

ص: 185

ذلك:« أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبيَّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكَاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنَائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ » (البقرة: (276).

فهم قد طلبوا القتال أوّلاً ، وقول نبيهم : «هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا »شاهد على أنَّ القتال لم يكن مكتوباً عليهم، ولو كان دفاعيا لكان مكتوباً عليهم هذا ثانياً، وثالثاً أنَّ قوله تعالى: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا» ظاهر في أنَّه لم يكن مكتوباً ثمّ كُتِبَ حين طلبوه، ولو كان دفاعيًّا لما عُلّق تشريعه لهم على طلبهم.

وقبلها في قصَّة دخول الأرض المقدَّسة أيضاً لم تكن الحرب دفاعية، والآيات القرآنية ظاهرة في ذلك، قال تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ *يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* قالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ * قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ عَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهنا قاعِدُونَ » (المائدة: 20 - 24).

وحين تثاقلوا عن ذلك حكم الله عليهم بعقوبة التيه لأربعين سنة، وقد حُرمت عليهم الأرض المقدَّسة خلالها، والمقصود بالحرمة المنع التكويني لا الشرعي، فإن تيههم هو الذي منعهم من الوصول إليها.

ص: 186

ونفس الكلام يجري في قصَّة سليمان والملكة بلقيس، فالقصَّة وفق النقل القرآني لم يكن في جزئياتها أن سليمان عليها قد خشي على بلاده أو دينه من مملكة اليمن، بل كأنه علیه السلام لم يكن له عهد وعلم بهم حين جاءه الهدهد بالخبر، ويبدأ سرد القصة من قوله تعالى: «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» ، إلى أن يقول تعالى: «قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *اذْهَبْ بِكِتابي هذا فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرُ ما ذا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأُتُونِي مُسْلِمِينَ »، إِلى أَنْ يقول تعالى: «فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَتُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ »(النمل : 20 - 37 ) .

وقبل ذلك كلّه ما نقله القرآن الكريم عن ذي القرنين الذي مكَّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سبباً، يقول الله تعالى في قصَّته: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً *قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً »( الكهف : 86 - (88) .

فبقرينة مقابلة من ظلم بمن آمن وعمل صالحاً نفهم أنَّ الكافر ممن ظلم وهو ممن يستحق عذاب ذي القرنين العبد الصالح العامل بأمر الله تعالى، ولو كان لهؤلاء حُرّيَّة المعتقد لما استحقوا التعذيب من ذي القرنين.

ولكن لقائل أنْ يقول: إنَّ كلَّ هذه الأمثلة وإنْ كانت دالة بلا شكٍّ على جواز الجهاد الابتدائي، لكنّها موارد خاصة لا يمكن الاستناد إليها لتأسيس

ص: 187

قاعدة كلية تجري على جميع الأنبياء وجميع أجيال المؤمنين، فغاية ما تدلُّ عليه أنَّ تشريع الجهاد الابتدائي جائز في بعض الحالات خصوصاً تشريعه للملأ من بني إسرائيل بعد أن طلبوه، ومن أين لنا إثبات أن ذلك ثابت على جميع الأنبياء أو لهم؟

ويردُّه أنا لا نريد بما تقدَّم من الأمثلة أن نُثبت ضرورة تشريع الجهاد الابتدائي في الشريعة الإسلامية، وإنَّما أردنا إثبات الإمكان وأدلّ دليل على الإمكان الوقوع - كما يقولون -، والمستند هو الأدلة التي ذكرناها بخصوص الشريعة الإسلامية كما ثبت بهذه الأمثلة أنَّ مثل قوله تبارك وتعالى: «لا إِكْراهَ في الدين» (البقرة: (256) ،« فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: (29)، ونظائرهما لا تُمثّل منهاجاً عاماً في التعاطي مع الكافرين على مر العصور، هذا لو كان المراد ترك حُرّيَّة اختيار الدين للناس، فتبقى مثل هذه الآيات والأدلة التي في مقابلها من الوجوه التي ذكرناها لإثبات شرعية الجهاد الابتدائي.

انتفاء الحكم العقلي

ثمّ إِنَّ البعض قد يطرح المسألة في دائرة الاستحالة على الشريعة، فالعقل في نظرهم حاكم بهذه الاستحالة، إذ كيف يأذن الله (عزّ اسمه) بأنْ تشن حرب على قوم ابتداءً ولو كانوا كافرين؟

ونحن نقول أوَّلاً: إنَّ الأحكام العقليَّة لا يمكن أن تكون ثابتة في زمان دون آخر، وفي شريعة دون سواها، فما معنى أن ينفرد العقل بضرورة ثبوت حكم في شريعة سماوية أو ضرورة انتفائه ويقبل أن يوجد ذلك الحكم في شريعة أُخرى؟ فالعقل لا يمكن أن يحكم بنحو البتّ والقطع إلَّا إذا وقف على ما أوجبه بنحو قطعي، والقطع بالثبوت أو الانتفاء في الشرائع يعني أنَّ الله تعالى لا بدَّ أنْ يُشرع هذا الحكم أو أنه لا بدَّ أنْ لا يُشرعه دون ملاحظة خصوصية الشريعة.

ص: 188

وعلى هذا فمتى ما ثبت خلاف ذلك في شريعة سماوية واحدة انكشف خطأ العقل في قطعه، فالقتل ظلماً والذي أثبت العقل حرمته لا بد أن تكون الحرمة ثابتة له في كل الشرائع السماوية، وكذا احترام حقوق الآخرين وعدم ظلمهم. نعم قد يحصل اختلاف بين الشرائع في التطبيقات والصغريات.

وقد أثبت القرآن الكريم تحقق مفردات الجهاد الابتدائي في أُمم سالفة وأنبياء آخرين، وكانت دلالة الآيات على ذلك بنحو لا لبس فيه، فلا بدَّ أنْ تنتفي الاستحالة العقليّة على ثبوته في شريعتنا .

ويرد عليه ثانياً: أنَّه لا منشأ لهذا الحكم العقلي المدعى، لأنَّه إنْ كان منبثقاً من إدراك العقل للمفاسد في ذلك فلا وجه له، لأن العقل غير قابل لإدراك الأحكام من خلال مصالحها وإن التزمنا بأنَّ الأحكام تابعة للمصالح التي في متعلقاتها، إذ المشكلة في قابلية العقل لإدراك المصالح والمفاسد بالنحو الذي يوصل إلى الجزم بالحكم الشرعي، وإن أبعد شيء عن الدِّين - من هذه الناحية - عقول الرجال، وفي طيّات هذا الكتاب شيء من البيان لذلك، وأما إن كان منبثقاً من حكم عقلي مسلّم كقبح الظلم، فالكافر ليس من مصاديقه قطعاً،

«وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (النحل : (33).

بل المتأمل يرى أنَّ المصلحة في حمل السيف في وجه الكفار والمنطلق في الأصل مصلحتهم، فكم هي الأُمم التي دخلت الدين فعاشت عزّ عبوديتها لله وخلعت نفسها عن ربقة ذلَّ الدنيا وهوانها وذلّ التحرر من عبادة الله؟

ولا نريد أن نثبت ضرورة الجهاد الابتدائي انطلاقاً من المصالح المترتبة عليه، وإلا فإنا نقع في خطأ منهجي أشرنا إليه قبل قليل، وهو عدم صلاحية المصالح والمفاسد لإثبات الأحكام الشرعية.

ص: 189

الآيات التي يظهر منها تخيير الإنسان في مسألة الإيمان

مما يمكن أن يثار في مسألة الاسترقاق أنَّ الله تبارك وتعالى لم يُلزم أحداً بدينه حيث نفى الإكراه في الدين، فينسد باب واسع من الاسترقاق، إذ لا يبقى إِلَّا الحروب الدفاعية، ومن هذه الآيات:

«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ » (البقرة: (256 ) .

«وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29).

وقد تكرّر في الكتاب:« إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةً فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» (المَزَّمّل : (19، الإنسان: (29).

«قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً »(الإسراء: 84).

وفي خصوص أهل الكتاب لم يقف القرآن الكريم على حدود عدم الإلزام بالدين الإسلامي، بل وعد الملتزمين منهم بدينهم بالجنَّة وبشرهم بالنجاة يوم القيامة، وبعض الآيات قد يُدعى أنها صريحة في ذلك، مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »(البقرة: 62).

وفي مورد آخر يقول: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ* بَل مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ *وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » (البقرة: (80 - 82 ) .

ص: 190

حيث إنَّ هذه الآيات كانت في مقام تصحيح معتقد أهل الكتاب، إذ كانوا يقولون : إنَّ النار لن تمسنا إلَّا لوقت قصير، فقسَّمتهم الآيات إلى قسمين، الثاني منهما وهو من آمن وعمل صالحاً فهو خالد في الجنَّة، وأي وجه في إجباره على ترك دينه ما دام له سبيل لأن يكون خالداً في الجنة؟

وفي مورد ثالث يقول: «وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » (البقرة: 111 و 112).

فالآيتان في مقام تصحيح معتقدهم أنَّ الجنة حكر على اليهود والنصارى بعد أن قالت: إنَّ تلك أُمنية لهم، والواقع لا يخضع لسلطة الأماني، وهي دعوى لا دليل على صدقها ولا برهان لمدَّعيها ، بيَّنت أنَّ الذي انقاد الله في المعتقد وأحسن في العمل فلا خوف عليه في آخرته ، مما قد يُفهم منه أنَّ النجاة في الآخرة غير منحصرة بالإيمان بالدين الإسلامي.

وبما تقدَّم قد يتوهم أنَّه لا مجال للجهاد الابتدائي، فيُسَدُّ الباب الأكبر للاسترقاق في الشريعة، وأما ما حصل في العصور الإسلامية الأولى فلم يكن فتحاً إسلاميَّا، وإنَّما هي حروب لأجل التسلّط على مقدرات الشعوب وخيرات الأمم وإخضاع الدول، فلا يكون الاسترقاق الذي تبعها أو كان حاصلاً بسببها شرعيَّا، والشارع المقدَّس لا يقره ولا يُمضيه.

ونحن إذ لا تُنكر أنَّ الكثير من الحروب التي جرت بعد النبي الأكرم صلی الله علیه وآله لم تكن منطلقة من الداعي القربي، ولم تخلص من شائبة داعي حساب المنجز الشخصي والمكسب المالي لعدة ممن تصدّى لخلافة المسلمين بعد النبي صلی الله علیه وآله ، بل أكثرهم، إلَّا أنَّ ذلك لا يلغي النتائج الشرعية لجميع الحروب التي خاضوها.

ص: 191

فنفس خوض الحرب إن لم يكن بإذن المعصوم عليه السلام قد يدخل تحت دائرة الإشكال الشرعي بالنسبة لصاحب قرارها، بل وأدواته أيضاً، لكن الأحكام الوضعيّة المتمثلة بالحقِّ في تملك الغنائم ودخول الأراضي المعمورة حال الفتح حين فُتِحت عنوة ضمن الأراضي الخراجيَّة وفي صحة استرقاق الأسارى الكفار فيها لا شبهة فيها، ومن هنا لم يبحث الفقهاء بشكل واضح في أراضي الخراج التي فُتِحَت بعد النبي صلی الله علیه وآله بين أن يكون فتحها بإذن الإمام علیه السلام أو بدونه، مع الجزم أنَّ بعضها لم يكن فتحها بإذن الإمام علیه السلام .

بل لم نقف في الروايات على تفصيل بين أرض خراجية وأُخرى مردُّه أنَّ فتحها كان شرعيًا أو لا .

ومن هنا كان التعاطي مع أموال الخراج بطريقة واحدة في الموروث الروائي، ولو كان ثَمَّة فرق لانعكس قطعاً في الروايات، إذ لا بدَّ أنْ يُبيِّن الإمام المعصوم علیه السلام ذلك، إذ المسألة عامة البلوى، فغالب الأموال التي تُبنى بها الدول ويُدار نظامها بها في تلك الأزمنة من ضرائب الخراج التي فرضها الشارع المقدَّس . كما لا بدَّ أن يكون ذلك مثاراً للسؤال عن المعصومين علیهم السلام بنحو متكرر، ولو تكرر السؤال لانعكس ذلك فيما نُقِلَ إلينا من رواياتهم علیهم السلام . ولما لم ينعكس كشف ذلك من عدم وقوع المسألة محلاً للسؤال، وعدم تعرض الأئمة علیهم السلام لها. مما يعني عدم وجود فرق في الحكم بين الأرض المفتوحة بإذن الإمام المعصوم وبين المفتوحة عنوة دون إذنه والأرض التي فُتِحَت في زمن بني أميَّة واسعة جدًّا، ونحن نجزم بعدم استئذان الأئمة علیهم السلام في هذه الحروب. ومن ضمن آثار الفتح المستعبدين بعد أسرهم في تلك الحروب، خصوصاً وأنَّ منهم من وصل إلى ملك المعصومين علیهم السلام كالسيدة نرجس أُمَّ الإمام الثاني عشرعجل الله تعالی مع انها بلا شكٍّ أسِرَت في حرب في ما يقرب من منتصف القرن الثالث الهجري فأعتقها الإمام علیه السلام ثم تزوج بها .

ص: 192

إنَّ هذا الفهم لمثل قوله تبارك وتعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ »(البقرة: 256) ليس في محله قطعاً، فالشارع المقدَّس لما تعلق غرضه باستكمال الناس في نشأتهم الدنيوية هذه، وكان منطلق تكليفه للخلق محبّته لهم حتَّى من كان خارجاً عن حريم طاعته - ولذا لم ينفك الخطاب الإلهي عن دفء الخطاب حتّى للمنغمس في بحر المعاصي(1) - اقتضى ذلك أن لا يتركهم دون إعمال عناصر الضغط عليهم، وتجلّى ذلك في الوعيد بالعقوبات في الدار الآخرة وإجراء الحدود والتعزيرات وتفعيل الضاغط الاجتماعي من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتشريع استعمال السيف في بعض الحالات. وأرفقت عناصر الضغط بعناصر التشويق والترغيب بما عند الله تبارك وتعالى، وبما هو من قبيل الآثار التكوينية للأعمال، إنْ خيراً فخير وإنْ شرًا فشر. والآثار التكوينية تكفلها أصل الخلق لا التشريع، فالتكوين هنا كان في خدمة التشريع، أي إنَّ الله تعالى حين خلق الأشياء مع علاقة السببية كان ذلك تمهيداً للالتزام بالتشريعات قبل أنْ يُشرِّع الشرائع، فالعبد ليس مطلق العنان في قبول الإيمان بالدعوات الإلهية وعدمه.

وكيف كان، فهذا الفهم لجعل الإيمان مرتبطاً بمشيئة العبد، ونفي الإكراه في الكتاب ليس في محله، ولا يمكن الركون إليه بوجه، فالأدلة والشواهد على خلافه كثيرة.

وإِلَّا كيف نُفسّر حكم الشارع المقدَّس بقتل المرتد عن فطرة وانتقال ممتلكاته إلى ورثته وبينونة زوجته عنه ؟ فكيف يُعاقَب بمثل هذه العقوبات

ص: 193


1- قال تعالى: «قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» (الزمر: 53)، ويقول في سورة يس «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » (يس: 30)، وغير ذلك من الشواهد.

الشديدة على ترك أمر غير لازم عليه ؟ حتَّى المرتد عن ملة وهو الذي لم يكن أحد أبويه مسلماً وأسلم ثمّ ارتدَّ فإنَّه وإنْ لم يُقتل في أوَّل الأمر لكنَّه يُستتاب فإن لم يتب قتل.

وكيف نُفسّر تشريع إقامة الحدود على المخالفات في الفروع فيما لا يرجع إلى نظم الأمر وحقوق الآخرين؟ وكيف يُحكم بكفر منكر الضروري من الدين ويُعاقب معاقبة الكُفَّار ؟

بل في الفروع أيضاً من خالف وأصرَّ يُستتاب لمرتين أو ثلاث مرات فإن لم يتب قتل، وذلك من حدود الله تعالى.

وكيف نُفسّر التعزيرات على مخالفات الشريعة في فروعها والتي ليس لها حد منصوص ؟

إِنَّ الدِّين إنْ كان اختياريًا ولا يُجبر أحد على اعتناقه فإنَّ كلَّ ما ذكرناه قبل قليل لا يبقى له محلّ ولا مسوّغ.

بل كيف نُفسّر التوعد بالنار للمخالفين؟

إن منطلق التكليف مصلحة العباد كما يلوح ذلك من قوله تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (الأنفال: 24).

والروايات في ذلك هائلة العدد في الموارد الجزئية، والتي بينت الحكم الباعثة على التشريع، وكذلك في الآيات ضمن دائرة أضيق:« إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (العنكبوت: 45 ) .

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » (البقرة : 183 ) .

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »(البقرة: 216).

ص: 194

وغير ذلك.

والمدار في المصلحة ليس بالضرورة مرتبطاً بما يرجع إلى شخص المكلف وبشكل مباشر، بل قد تكون مصلحة أفراد من المجتمع أو المجتمع في طابعه العام. ومثال الأوَّل الأحكام المرتبطة بالعطاء لبعض الناس، كالخمس والزكاة والكفّارات، والتي مردُّها العام مفردة التكافل الاجتماعي. ومثال الثاني الحكم بوجوب الجهاد الدفاعي فيما إذا تهدد المجتمع الإسلامي خطر، وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك. وقد لا يكون الأمر مرتبطاً مباشرةً بالنوع الإنساني، كحرمة تسخير الجنّ والملائكة وحرمة إيذاء الحيوان وربَّما الإضرار بالطبيعة.

نعم قد ترجع بعض آثار هذه الأحكام إلى نفس المكلف لئلا تتجبر نفسه ويقسو قلبه، ولكي يتخلّق بالمسؤولية تجاه بني نوعه وبقيَّة خلق الله تعالى، ولئلا يقع فيما يوجب الإخلال بالنظام العام ولو كان نظام الطبيعة.

لكن الذي دعا إلى رعاية مصلحة العباد هي رحمة الله تعالى بخلقه ومحبته لهم، فكما دعت محبته لخلقه أن يبعث إليهم أنبياءه ورسله بشرائع تكفل لمن حسن اختياره منهم أن يصل إلى ما فيه نفعه ويتجنّب ما فيه مفسدته وضرره وتضمن له أن يصل إلى سعادته.

ولو أراد أحد الناس أن يوقف أو يُبطئ الدعوة الإلهية فإنَّ الحكمة تدعو أنْ يقف الأنبياء في وجهه لدفعه بطريقة مسالمة إن أمكن وإلا فباستعمال السيف والقهر.

ومن هنا ساغ مقاتلة الناس لأجل الإيمان، فإن لم يكن لنفس الشخص فللآخرين، إذ التسامح مع كافر في كفره قد يُسوّغ لآخرين أن يكفروا خصوصاً والنفوس يثقل عليها الإيمان بلوازمه من الالتزام بالشريعة.

ص: 195

«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ *أَمَامَهُ يَسْتَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ » (القيامة : 5 و 6 ) .

ثمّ هل ترى في قول القائل : أنت مختار في أمر ما، وأنا لا أكرهك عليه ولكنَّك إن لم تفعله فإني سأعذبك عذاباً شديداً، هل ترى فيه حُرِّيَّة الاختيار بالمعنى الذي عُهِدَ من عدم الإكراه؟

كلّ ممنوعات القوانين الوضعية لم يتحقق فيها سلب الاختيار، لكن الفرد إن اختار المخالفة استحقَّ العقوبة المشرعة في القانون لمثلها، ولا تجعل الدول شرطيًّا لكل مواطن يتابعه ويمنعه من المخالفة عندما يريد الوقوع فيها. فهل يقال: إنَّ المواطنين لم يلزموا بالمواد المشرعة في القوانين؟ والعقوبات المشرعة في القانون الإلهي أعظم خصوصاً في مسألة الدخول إلى الدين، حيث تطبق الآيات والروايات على أنَّ تاركه سيُخلَّد في النار. وهل بعد ذلك عقوبة؟

إِنَّكَ إِنْ اعتقدت بالشريعة الإلهية اعتقدت بقانون العقوبات الإلهية، فالمعاد ركن من أركان الدين، والمعاد عبارة عن تلك النشأة التي تُبعَث فيها العباد للمساءلة والحساب وأخذ الاستحقاقات إن خيراً فخير وإن شرا فشر، ومع اعتقادك بوجود دار المجازاة كيف يقال: إن الإنسان مخيّر ومطلق العنان؟ حين يقول تعالى:« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» (البقرة : 175 ) .

يأتي تبارك وتعالى بصيغة تعجب بمادة الصبر، وكأنَّ الله تعالى يتعجب لمقدار ما يمرُّ عليهم من العذاب، وفي ذلك بيان للشدَّة الشديدة من العذاب المعد لهم.

وحين يقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حكيماً »(النساء : (56).

ص: 196

وحين تقول: «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ *سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطرانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ »(إبراهيم: 49 و 50 ) .

وحين تقول: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطَّعَتْ لَهُمْ ثِيَابُ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُوسِهِمُ الحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمَّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ »(الحج : 19 - 22).

بعد هذه الصور التي تحكي عن طريقة التعاطي يوم القيامة مع الكفار ونظائرها هل يبقى مجال لعاقل أن يقول اعتماداً على مثل: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ » (البقرة: (256) أو «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» (المزَّمِّل : 19): إِنَّ الشارع لم يلزم الناس أن يؤمنوا بدين معيّن وترك مسألة الاختيار لهم حتَّى وإن أرادوا اختيار الكفر فلا موجب لمجاهدة الكفّار ؟! ما لكم كيف تحكمون.

نعم، الإيمان غير قابل لأنْ يُكرَه الإنسان عليه، لأنه أمر قلبي لا يقبل الاطلاع عليه، فكيف يُكره الفرد عليه ؟ نعم، يمكن الإكراه على التلبس به ظاهراً وإلا فالإيمان الواقعي القلبي لا يقبل الإكراه، إذ لا سبيل للاطلاع عليه ما دام بإمكان الشخص أن يتمظهر به دون أن تُذعِن به نفسه والحكمة الإلهية اقتضت أن يتكامل الإنسان من منطلق الاختيار.

وهذا المعترض لا شك أنه انطلق من النظر من زاوية ضيقة للموضوع، إذ لا شكّ عند المسلم في ثبوت المعاد حيث يُجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ومن جملة العقوبات في ذلك العالم الخلود في النار والذي هو جزاء الموت كافراً. وهنا نسأل: أيهما أفضل أنْ يُرغمه على قبول الدين الإسلامي بقوة السيف واعتماد وسائل الضغط أو يتركه على كفره ليؤول إلى جهنم خالداً فيها وبئس المصير؟

ص: 197

صحيح أنَّ المراد هو الإيمان الذي يدخل إلى القلب والسيف قد يجبره على النفاق، وربَّما أبعد البعض عن الإيمان لأنه بالقهر لا بالاختيار، لكن الأحكام لا ترتبط بالأشياء الجزئية ولا بخصوص المقاطع الزمانية الجزئية، فما دام التشريع والحكم جزءاً من الشريعة فهو حكم لأتباعها في كلّ زمانٍ وفي كل مكان. والقوَّة التي بها فُتِحَت أكثر بلدان الإسلام كان من آثارها تحول شعوب تلك الدول في الغالب إلى الإسلام، خصوصاً في الأجيال اللاحقة، فهلا نظر هذا المستشكل إلى خلاص هذه الشعوب بأكملها وبتعاقب أجيالها من تبعات الكفر والموت عليه ؟

إن الجهاد الابتدائي يساهم في إزالة العقبات وعوامل الفتنة التي تمنع من وصول صدى الرسالة للمجتمعات وقد يلوح ذلك من قوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» (البقرة: 193).

دلائل الشرعية

هناك جملة من الأدلة على إمضاء الشريعة للحكم بالرقية، ومنها:

الآيات القرآنية:

إنَّ المتتبع في الكتاب الكريم يجد آيات فيه تُثبت شرعيَّة تملك العبيد في موارد متعدّدة وإمضاء وجود عبيد في المجتمع الإسلامي، ففي أبواب الكفارات تجد مثل قوله تعالى :

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقُ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» (النساء: (92).

ص: 198

فقد ذُكِرَ تحرير الرقبة المؤمنة في ثلاث موارد من القتل الخطأ في هذه الآية. وتجد قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسًا» (المجادلة: (3).

وقوله تعالى:« لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» (المائدة: 89).

وفي غير آيات الكفارات يقول تعالى: فَكُ رَقَبَةٍ (البلد : 13)، والمراد تخليصها من الرقّ كما أشار إلى ذلك الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة البلد(1).

ويقول: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدُ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» (البقرة: 221).

وهل ترى أنَّ الشارع المقدَّس يوجب إعتاق الرقاب مع أنه لا يقبل بأصل ملكيَّتها ؟ فكيف يبقى عبد ليُعتَق إن لم تكن ملكيَّته قبل الإعتاق صحيحة ممضاة من الشارع؟ وهل نتعقل أن يفاضل الشارع بين الحرة المشركة والأمة المسلمة وبين المشرك الحر والعبد المؤمن، ثمّ يُفضّل الأمة والعبد المسلمين في الزواج على المشركين الأحرار، وهو لا يقرُّ بعبوديتها؟

وفي باب القصاص يقول: «يا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلى الحر بالحرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ» (البقرة: 178).

وهي في الدلالة مثل سابقاتها.

ويشهد لذلك قوله تعالى: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى .

ص: 199


1- تفسير مجمع البيان (ج) 10 ص 364

شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ »(النحل : 75)

وفي هذه الآيات كفاية لإثبات إمضاء الشارع المقدس للاسترقاق في الجملة.

نعم، قد يقال : إنَّ الآيات لم تتحدث صريحاً عن جواز الاسترقاق وشرعيَّته، إلَّا أنّها بلا شكّ تكشف عن الإمضاء، وإلا كيف تطلب منا الإعتاق مثلاً إنْ لم تمض أصل العبودية؟

فإن قيل : لِمَ لم يتحدَّث القرآن عن ذلك، والقرآن فيه تبيان لكل شيء؟ قلنا حين أحالنا القرآن على النبي صلی الله علیه وآله بين المأخذ فقال: «وَما آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر: 7 ) .

ودفع احتمال الخطأ منه صلی الله علیه وآله في ذلك حين قال: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى »(النجم: 3 و 4 ) . فما ذكره النبي صلی الله علیه وآله من الأحكام قد بيّن منشؤه وشرعيَّة مأخذه في القرآن الكريم.

مضافاً إلى أنَّ الشارع المقدَّس لم يُؤسّس مسألة الرق، بل كانت حقيقة واضحة لها أحكامها، واقتصر دوره على الإمضاء والتشذيب في أصلها وفي بعض أحكامها، مما يجعل المسألة غير ذات أهميَّة من جهة أصل بيانها، وفيما ذُكِرَ من البيانات في السُّنَّة غنى وكفاية.

السيرة العقلائية

إنَّ الشريعة الإسلامية لم تكن منقطعة عن الشرائع السماوية السابقة، بمعنى أنها لم تلغ جميع أحكامها إلى أحكام جديدة، بل غيّرت بعض أحكامها إلى ما يتناسب مع قابليّات البشر التي تطورت وما كان فيه عنصر المناسبة لمختلف

ص: 200

الأجيال إلى آخر الدنيا. فدائرة الاختلاف ضيّقة جدا لا تشمل الأحكام التي يمكن للعقل إثباتها، إذ لا معنى لأن يدل دليل عقلي على حكم في شريعة دون أُخرى، إذ منطلق الحكم العقلي ومستنده الله والعبد وبديهيات العقل العملي أو ما هو مترتب عليها، وهي لا تختص بشريعة دون أُخرى. كما تشمل الأحكام التي تكون ملاكاتها مهمة جدًّا في نظر الشارع المقدَّس كحرمة القتل وحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة، إذ لا بد من صلة بين العبد وربه، لكن ذلك لا يُعيّن كيفيتها وغير ذلك، وقد يكون الصيام من ذلك:« كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (البقرة: 183 ) .

وكما أنَّ الشريعة غير منقطعة عن الشرائع الأُخرى فهي غير منقطعة عن النظام الذي تسير عليه المجتمعات بما في ذلك المجتمع القبلي والبدوي الذي كان في الجزيرة العربية آنذاك.

والحكم السلبي على تلك النُّظم لا يعني الخطأ في جميع جزئياتها، ومن هنا كانت غاية بعثة النبي صلی الله علیه وآله تميم مكارم الأخلاق لا أصل بنائها. وفي الممارسات الحياتية أيضاً لم يكن دور الشارع المقدَّس دور إلغاء الجميع ثمّ تشريع البديل لكلّ ذلك، فهو قد أسس للبعض وألغى البعض الآخر، وشذَّب البعض وأمضى الكثير، فقد ألغى الربا ووأد البنات وشرب الخمر وتقديم القرابين للآلهة المزعومة، وأسَّس للجهاد في سبيل الله وللمساواة والصلاة والزكاة وغير ذلك، كما أنه أمضى بعض تلك الممارسات واقتصر على التشذيب فيها فيما لا يتناسب من جزئياتها وأغراض الشارع المقدَّس ، كما في العقود حيث منع من الربا والعقود مع الجهالة وبيع غير المملوك وغير ذلك.

والرقّ كانت ممارسة حياتية في المجتمعات في ذلك الزمان، وكانت مستحكمة في المجتمعات جدا، فإن كان الشارع غير راض بأصلها لكان عليه أنْ

ص: 201

يردع عنها، وإلا كيف يكون غرضه متعلقاً بإلغائها ولا يردع عنها ؟ إِنَّ في ذلك تضييع لغرضه، والعاقل لا يُضيّع ،غرضه، ولو كان ردع لكان اللازم أن يكون متناسباً مع استحكام تلك الممارسة ولا يُكتفى بإشارة أو دلالة عامة، بل لا بدَّ أنْ يكون بدلالة واضحة وبتكرار كبير.

ولو صدر مثل هذا الردع لوصل إلينا بعضه في الحد الأدنى، إذ أنَّ المقتضي للنقل موجود وهو المتمثل بالحثّ الكبير على نقل كل ما يرتبط بالشريعة المقدَّسة كحديث من حفظ من أُمَّتي أربعين حديثاً»(1) وغيره، ولذا تسارع الناس لحفظ الأحاديث، بل تحمل الحديث وحفظه يُحقق للأفراد حيثية الاحترام والمنزلة الرفيعة في المجتمع الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنَّ غرابة القضايا وخروجها عن المنهاج الحياتي المألوف يُشكّل داعياً للاهتمام بمرتبة أكبر بها، والرقُ كان يُمثل جانباً مهما من الحياة اليومية للأفراد والمجتمع، وركناً أساسيًا في الاقتصاد، فلو ورد ردع من الشارع عن إبقاء العبودية لشاع وذاع ونُقِلَ بنحو واسع، ولتسبب ذلك في كثرة سؤال من عامة الناس عن المعصوم علیه السلام نبيًّا كان أو إماماً، مما يُولد بيانات إضافية بأعداد كبيرة، مما يعني وصول مقدار معتد به منها.

وإذا أضفنا إلى ذلك انتفاء المانع من النقل، إذ قد يكون المانع الأساسي من نقل مطلب شرعي ما أنَّ المنقول يكون على خلاف ما تريده المؤسسات الحاكمة فيُتَّقى منها من خلال ترك النقل، ولكن المؤسسة الحاكمة لا يضرُّها كثيراً إلغاء الرقّ، فأدوات القوم زبانيتهم لا عبيدهم، وما أكثر الزبانية في كلّ زمانٍ.

ص: 202


1- عن موسى بن إبراهيم المروزي ، عن أبي الحسن الأول علیه السلام ، قال : قال النبي صلی الله علیه وآله : «من حفظ من أُمَّتي أربعين حديثاً مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله عزوجل يوم القيامة فقيهاً عالماً». ثواب الأعمال: ص 134).

ولما لم يصل إلينا شيء يُذكر من ذلك، إذ ليس من ذلك عين ولا أثر كشف ذلك عن إمضاء الشارع المقدَّس للسيرة العقلائية وارتضائه لها، مما يعني شرعية ما قامت عليه.

فعل المعصوم علیه السلام

لقد امتلك المعصومون علیه السلام إماءً وعبيداً من رسول الله صلی الله علیه وآله حتى الإمام الحسن العسكري علیه السلام ،أما رسول الله صلی الله علیه وآله فقد مَلَكَ زيداً قبل الإسلام ثمّ بقي على ذلك حتَّى نُبِّئ رسول الله صلی الله علیه وآله، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فلما جاء أبوه ليطلب بيعه أو إعتاقه، قال صلی الله علیه وآله :«هو حر فليذهب حيث شاء، فأبى أن يفارق النبيَّ صلی الله علیه وآله»(1)

وقد مَلَكَ جويرية بنت ضرار المصطلقية فأعتقها وتزوجها على ما قيل ومَلَكَ صفية بنت حيي بن أخطب النظري بعد غزوة بني النضير.

وأما أمير المؤمنين علیه السلام فقد مَلَكَ الكثير من العبيد وأعتق الكثير، وممن اشتراه ثمّ أعتقه ميثم التمار كما في( إرشادالمفيد) حيث إنَّه كان عبداً لامرأة من بني أسد(2).

وروى ابن أبي الحديد أنَّ أُمَّ عمر ورقيَّة من أولاد أمير المؤمنين علیه السلام سبية من بني تغلب يقال لها الصهباء سُبّيت في خلافة أبي بكر(3) .

وفي حسنة محمد بن قيس، عن أبي جعفر علیه السلام: «ولقد أعتق ألف مملوك من كدِّ يده وتربت فيه يداه وعرق فيه وجهه...» الخبر(4).

ص: 203


1- قد مرّ ذلك في (ص 81)، فراجع
2- الإرشاد للمفيد ج 1 ص (323) .
3- شرح نهج البلاغة (ج 9 ص 242 و 243). 2/19
4- وسائل الشيعة (ج 1 ص 89/ ح 12/209).

ومثل هذا المضمون في حسنة زيد الشحام(1) .

أصالة عدم النسخ

هناك أصل يعمل به الفقهاء في الموارد التي لا يجدون فيها دليلاً على الحكم الشرعي إثباتاً أو نفياً، وهو أصل الاستصحاب الذي يُشترط فيه أركان أربعة، وأوَّلها اليقين السابق، ثمّ الشك اللاحق في الحكم، أو موضوعه، أو جزء موضوعه. وفائدة الاستصحاب التعامل مع الحكم الذي كان متيقناً في ظرف الشك، وهو أصل مجعول شرعاً له أدلته الخاصة كروايات زرارة التي ورد فيها: «ولا تنقض اليقين بالشكّ أبداً »(2).

ومن تطبيقات هذا الأصل ما يصطلحون عليه أصالة عدم النسخ، فلو عُلِمَ بثبوت حكم في الشريعة وشُكّ في نسخه بعد ذلك بنينا على عدم نسخه، إذ يوجد عندنا علم بثبوته في وقت ما فيتحقق الركن الأوَّل، وشككنا فيه في مرحلة البقاء لاحتمال نسخه فيتحقق الركن الثاني، ودور الاستصحاب هنا إسراء الحكم المتيقن في ظرف إلى ظرف الشكٍّ، فنتعامل مع الحكم المشكوك وجداناً معاملة المتيقن تبعّداً .

وقد عمَّم الفقهاء أصل عدم النسخ إلى الأحكام التي تيقنا بثبوتها في الشرائع السابقة، والتي لم ينهض دليل على نسخها في شريعتنا، فإنَّه رغم وجود الاختلاف في الشرائع كما يشير القرآن إلى ذلك مجملاً بقوله تعالى: «لِكُلِّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا »(المائدة: 48).

وتفصيلاً في بعض الموارد كقول عيسى ال : « وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ» ( آل عمران (50).

ص: 204


1- وسائل الشيعة ( ج 17 ص 37 ح 1/21918).
2- راجع وسائل الشيعة ج 3 ص 466 / ح 1/4192).

وقوله تعالى:« وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَو الحوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ » (الأنعام: 146).

وقد أشارت الروايات إلى تفصيلات متعدّدة في الاختلاف بين الشرائع، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون الاختلاف أصلاً وحالة غالبة، فالقرآن مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية ومهيمن عليه «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (المائدة: 48 ) .

فالأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد فيما تعلقت به، وتلك المصالح والمفاسد تكوينيَّة غير قابلة للتبدل من زمن إلى آخر. نعم، قد يطرأ من الخارج ما يُغيّر الحكم أو تختلف الطريقة التي تحصل بها تلك المصلحة أو تُدفَع بها تلك المفسدة والذي يطرأ من الخارج أمثال مصلحة التخفيف، وبتقدم البشر في حياته قد تضعف همم أفراده فخُفَّفت مثلاً الصلوات اليومية من خمسين صلاة في يوم واحد عند بني إسرائيل إلى خمس مفروضات عند المسلمين.

وكيف كان، فالأصل هو التطابق بين الشرائع في أحكامها، فما ثبت أنه حكم في شريعة سابقة فالأصل بقاؤه إلى شريعتنا وكونه جزءاً منها إلَّا إذا قام دليل على خلاف ذلك، أو دل دليل على انتهاء فعليّة ذلك التشريع.

فإذا أغمضنا النظر عن كلِّ الأدلة التي تقدَّمت و افترضنا عدم وجود دليل على شرعيَّة العبودية في شريعتنا كفانا ثبوتها في الشرائع السماوية السابقة، وقد دلَّت الأدلة على شرعيَّتها في تلك الشرائع، وبواسطة الاستصحاب تُثبت جزئيته للشريعة الإسلامية.

ولكن جريان هذا الاستصحاب مشروط بعدم تماميَّة دليل على خلافه من آية أو رواية أو إجماع أو سيرة، فالاستصحاب الذي هو هنا أصالة عدم النسخ

ص: 205

يقع في طول الأدلة التي يُعبّر عنها بالاجتهاديَّة، سواء كانت موافقة له في النتيجة أو مخالفة، بل جريانه مشروط بعدم قيام دليل موافق أيضاً، إذ بعد وجود الدليل الاجتهادي لا مجال للأصل العملي ولو كان موافقاً له.

حكمة عدم إلغاء العبودية

انطلقت مسيرة النوع البشري على الأرض، عجلتها استعداد وقابلية ميزته عن غيره من المخلوقات الأخرى، ومحركها نوازع جُبِلَ الإنسان عليها لا ينتجها المنطق والاستدلال ولا يلغيها الشكُ ولا يهملها الاسترسال، فه-ي من عناصر إنسانيته التي لا تفارقها قضت حكمة الخلق بأن تتوفّر عليها نفوس بني النوع، وكان لتلك النزعات تجليات في هذه المسيرة التي يكمل فيها كل جيل مسار الجيل الذي سبقه ثمّ يترك المضمار إلى اللاحق منهم.

وقد كان له في هذه المسيرة محطّات مرَّ عليها دون مکث طويل، فقد مرّ ركبه بمرحلة حياة الكهوف، ومحطّة الصيد، وموقف الرعي، واستراحة الزراعة، وكل لها تأثيراتها حتَّى ولج في عالم الصناعة الذي لا زال يتحفه كلَّ يوم بمئات من المفردات التي ربما لم تخطر على بال أسلافه.

وهناك أشياء رافقته لآلاف السنين، ومنها ظاهرة العبودية، والتي كانت نوع تجلّ لبعض النزعات التي شكلت جزءاً مهما من مقتضى إنسانيته، فالنفس البشريَّة يتملَّكها دافع الهيمنة على الأشياء وتسخيرها، حيث اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون البشر كذلك، فإنَّ تكامل الأفراد والمجتمعات يمكن أن يُوفّر فرصة للارتقاء في المضمار الذي أُريد لهم أن يجتازوا ما أمكن منه.

والنوازع التي في أصل الخلقة في أصلها تُشكّل عناصر أساسية لبقاء الفرد والنوع، أو مفردات تساهم في عملية الارتقاء تكفّل التكوين والخلق إيجادها

ص: 206

وأوكل إلى التشريع تشذيبها لئلا تتملك الإنسان وتوصله إلى ضلال الطريق وضياع الفرص.

لقد تعلّقت نفسه بالأرض وما عليها ، وهكذا قضت الحكمة البالغة:« إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » (الكهف: 7) . وقد سعى الناس إلى تحسين الفرص للحصول على ما يمكن أن ينالهم من هذه الدنيا، وبتطور الحياة وتقادم الأيام ولج الإنسان مضمار حساب منافع المستقبل، وخرج عن دائرة أسره السابقة حيث كان همه يومه، فصار يؤرقه خطر المستقبل ويتملكه جني قادم السنين، وهذا يستدعي الاستثمار لتحسين فُرَصه.

وهنا بدأ التحول إلى الإنتاج، وهو يحتاج إلى أدوات، وتوسع النظر إلى الأشياء بعنوان الأداة ليشمل بني النوع، وتحوّل التعاطي مع أسراه في حروبه التي اقتضاها سعيه للاستزادة، وتزاحمه مع سعي الآخرين تحوّل من القتل والتنكيل إلى الاستعباد، وهذا ما شكل منعطفاً نقله من الإفناء إلى التسخير لزيادة الإنتاج وتطوير الحياة.

فالعبودية لم تكن ظاهرة طارئة زالت بزوال سببها أو بعده بقليل، فهي ليست من هامش الحياة في التاريخ الطويل، بل كانت ركن الإنتاج وتطوير العوائد والمكاسب وطريقاً للاستزادة من هذه الدنيا وما تجود به. ومن مقدار الاستفادة من الأشياء تتحدد القيمة والعوض الذي يُدفَع في مقابلها عندما تُنقل ملكيتها إلى الآخرين.

لقد كان العبيد أدوات الاستكمال المادي وآلات تطور الإنتاج، فشكلوا لذلك قيمة مالية كبيرة في دائرة الممتلكات.

إِنَّ في إلغاء الرقّ شرعاً إبعاداً للناس عن القبول للدين الجديد، والإسلام في أوّل فترة انطلاقه كان محتاجاً إلى أن تقوى شوكته، فالنفوس مأسورة للمال

ص: 207

والرقاب ممدودة إليه، ومن هنا قدَّم في الكتاب الكريم على الأولاد في الذكر، بل قدَّم الابتلاء به على الابتلاء بالأنفس:

«المالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا» (الكهف: 46 ) .

«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» (آل عمران: 186).

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً »(آل عمران: 116).

«وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ» (الأنفال: 28).

«فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ » (التوبة: 55 ) .

«كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً» (التوبة: 69).

«وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ » ( سبأ: 35 ) .

«لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا» (المجادلة: 17).

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله »(المنافقون (9)

«إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ » (التغابن: 15).

«وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفِى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحاً» (سبأ: 37)

«سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونا» (الفتح: (11)

«أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً »(الكهف: (34 ) .

ص: 208

«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً »(مريم: (77)

«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ »(المؤمنون: (55).

«يَوْمَ لا يَنْفَعُ مال وَلا بَنُونَ »(الشعراء: (88).

وغيرها.

والعطف وإن كان بالواو التي لا تفيد الترتيب، لكن هذا التكرار في تقديم المال دون أن تجد مورداً واحداً تقدَّم فيه ذكر الأولاد على المال لكاشف قطعي على أهميَّته في النفوس ومنزلته عند الناس.

إنّ الواقع الموضوعي يُؤكَّد أهمّيّة الأموال عند الناس، فطالما كانت مطمحاً للنفوس ومأسراً لها، فكانت فتنة للناس بخلوا بها فتركوا أداء حقوق الله وطمعوا بها فسلبوها من عباد الله.

إنَّ الشارع المقدَّس حين أراد للناس أن تصوم شهر رمضان أعمل من عناصر الترفّق في الخطاب والتودُّد الكثير ليسهل على النفوس قبوله، فهو:

أولاً : بيَّن أنّه ليس تكليفاً خاصًا بكم وإنَّما شمل الأُمم السالفة.

وثانياً: بيَّن أنَّ من فوائده أنَّه يُقربكم من التقوى، وهذا يعني أنّه تشريع في امتثاله مصلحتكم.

وثالثاً: أنَّه لفترة قصيرة على مدى أيام معدودات، ولا قيمة لها في مقابل الأجر الدائم والثواب العظيم في الآخرة.

ورابعاً: التخفيف من خلال تشريع تركه للمريض والمسافر.

وخامساً: يجوز لمن يطيقه بمشقة وصعوبة أنْ يُعوّض عنه بفدية طعام مسكين عن كل يوم.

وسادساً : بيَّن خصوصيَّة الشهر الذي شرع وجوب صيامه، وهي نزول كتاب الله العظيم فيه.

ص: 209

وسابعاً: أنَّ هذا التشريع لم يرد منه العسر وإنَّما أراد التيسير لكم(1).

ولصعوبة هذا التكليف وثقله على النفس ترفق الله تعالى بالناس حين شرع صيامه، فضلاً عما ذكرته الروايات في ذلك ، ولسنا بصدد استقصاء ذلك، لأنّه ليس محل بحثنا .

فهل ترى الشارع المقدَّس يسعى إلى غلق باب العبودية، ولا يقبل باستمرارها، ولا يتعرّض لذلك بالترفّق الذي يناسب ثقل الإعتاق الإلزامي على النفوس؟

صحيح أنَّ من يضره رفع العبودية أقل ممن لا يضره، بل أقل ممن ينفعه، إذ أنَّ الكثير ممن لهم عبيد لا يقتصرون على عبدٍ واحدٍ أو جارية واحدة، كما أنَّ النفع لا يختص بالعبد فقط، بل بزوجته وأولاده إن كانوا محرَّرين، فالعبيد أكثر من سادتهم، لكن عدم إلغاء الرقّ لم يكن يمنع العبيد من الدخول في الدين الجديد، ولا شكّ أنَّ له تأثيراً في رفع مانع عند سادتهم من الدخول إليه.

والواقع التاريخي يدعم ما قلنا، إذ تهافت العبيد على الدخول للإسلام، فقد وجدت دعوة الإسلام صداها في نفوسهم، فأسرعوا في الاستجابة له والدخول فيه.

إذ أنَّ هذا النظام التشريعي الجديد قد رفع الكثير من مفردات الحيف والظلم عليهم، وأنصفهم إلى حد بعيد.

ص: 210


1- «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ *تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* له شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »(البقرة: 183 - 185).

إن هذه مصلحة من جملة مصالح دعت إلى إمضاء ما كان مشرعاً بين الناس مع عدم إقراره بكل حيثياته، فقد أجريت على قوانين الرقّ سبباً وحقوقاً تعديلات خففت الكثير من الأعباء عليهم. وارتفاع تلك المصلحة لا يعني بالضرورة ارتفاع الحكم المرتبط بها، إذ ستبقى المصالح الأخرى التي ذكرناها داعية إلى استمرار تشريعه، فلا يرد حينئذٍ أنَّه لِمَ لم يقطع الاسترقاق بعد دخول الناس إلى الإسلام؟

مصالح التشريع المنظورة لا تختص بزمان خاص

إنَّ الشريعة الخاتمة لمَّا كانت أحكامها ممتدة على كل الأزمنة إلى قيام الساعة، وشاملة لكلِّ المجتمعات على اختلاف ثقافاتها ومبتنياتها، كانت المصلحة الداعية إلى التشريع قد لوحظ فيها كلُّ هذا الاختلاف، بمعنى أنَّ المصالح الداعية إلى التشريع في الغالب عبارة عن حِكَم لا علل وفرق العلَّة عن الحكمة في ذلك أنَّ العلة لا بدَّ من توفّرها في كلِّ مورد من موارد ثبوت الحكم كما لا بد من انتفاء الحكم عن كلّ مورد لم تتحقق فيه العلة، فالحكم يدور مدار علته وجوداً وعدماً، وأمَّا الحكمة فلا يُعتبر فيها ذلك، إذ يكفي أن يكون وجودها غالبيًّا في موارد تشريع الحكم الشرعي الكلّي، فالمدار في ثبوت الحكم تبعاً لعلّته هو وجود العلة، وبانتفاء وجود العلة ينتفي الحكم، والذي يكشف هو الدليل الدال على الحكم، فهو يدلُّ بالمطابقة على الحكم، ويدلُّ عن ذلك بالدلالة الالتزاميَّة على العلَّة، هذا إذا عرفنا أنَّ للحكم علة.

وقد يكتفي الدليل ببيان رابطة العليَّة، فينكشف لنا ثبوت الحكم عندما نعرف بتحقق علته المنصوصة.

وأمَّا الحكم المستند للحكمة فلا مستند لمعرفة ثبوته إلّا الدليل الدال عليه، إذ لا ملازمة بين الحكمة والحكم، كما في الحكم بحجّية خبر الثقة، فالحكمة فيه

ص: 211

هي الظَّنَّ بمطابقة مدلوله ومؤداه للواقع، ولكن لا نقتصر في الحجية على الأخبار التي نظنُّ بصدقها على مسلك مشهور ، فإذا شككنا بصدق الخبر الذي يرويه الثقة، وكانت نسبة مطابقته للواقع (50%) مثلاً أمكن الالتزام بحجيته. ومن جهة أُخرى إذا وجدت أمارة كالقياس وأورث ظناً ولو كان أقوى من الظنِّ الذي يورثه خبر الثقة، فإنَّه لا يكون حجّةً اعتماداً على ابتناء حجية الخبر على إيراثه الظنَّ ، فالحكم بحجّيَّة الخبر ليس معلولاً للظنّ الذي يورثه، فإفادة الظنِّ التي هي حكمة الحكم بحجّيَّة الخبر لا تُعمِّم الحجية لكل ما أوردت الظنَّ ولو لم يكن خبر ثقة، ولا تُخصصه بخصوص الخبر الذي يورث الظنّ. نعم، يُعتبر أن تكون إفادة الظنِّ حالة غالبة في الأخبار، خصوصاً وأنَّ المستند الأصلي للحجيّة هي سيرة العقلاء الممضاة من قِبَل الشارع المقدَّس.

والغالبية المطلقة من الأحكام الشرعيَّة لها حِكم دعت إلى تشريعها لا علل.

إذا تبيَّن ذلك نقول : تشريع الرقّ لا بدَّ أن يكون قد لوحظ فيه المصالح على مرّ العصور وعلى اختلاف الأمم، ويصدر الحكم بتشريع واحد من الشريعة المقدَّسة، فإذا ما حصل وتنفّرت أُمّة في زمانٍ أو أُمَم في مقطع زماني معيَّن من هذا التشريع، لم يكن ذلك وجهاً لرفض الشارع المقدَّس له، أو للالتزام بأنَّ الشارع لم يُشرعه، هذا إذا شكل تنفر أُمَّة ما منه مفسدة قد تُؤثر في منع ذلك التشريع في زمان ما لو أمكن، وإلا فأكثر الناس تكره الحق: «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ » (المؤمنون: (70).

والجهاد يقول عنه القرآن الكريم: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ» (البقرة: 216)، مع أنه واجب.

ولكن إذا شكل تنفّر الأُمة من تشريع الاسترقاق ما يمكن أن يكون مانعاً من قبول الإسلام أو الإقراربأحكامه.

ص: 212

والواقع الخارجي كان على مرّ قرون متمادية لا يرى في الاسترقاق للآخرين الصورة البشعة التي تُصوّر الآن، فقد كان عماد الاقتصاد إلى فترة قريبة، وحالة مألوفة اعتادها الناس، بل اعتادها حتّى العبيد بمستوى معين وكم كان فرح العبيد كبيراً بالإسلام لما أعطاهم من حقوق مع أنه لم يلغ عنهم قيود العبودية، بل كان تمسك العبيد بالإسلام أعظم من تمسك ساداتهم، فقد وجدوا شريعة تُركّز على المساواة في الإنسانية، وتجعل ميزان الأفضلية التقوى، مما يعني أنَّ العبيد قد يكونون وفق موازين الشريعة أفضل من ساداتهم، وكست الشريعة ما يمرون به بلباس الابتلاء والامتحان، وشدة الابتلاء باب لكسب عظيم الأجر واستحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى.

(ومعيار الصواب والخطأ في أي مجتمع أو ثقافة هو ما يسرُّ المجتمع أو الثقافة ككلّ ، إنّها رغبات أو مشاعر المجموعة، وربما كان ذلك يعني رغبات ومشاعر الغالبية العظمى من الجماعة التي تضع معيار الأفراد الذين يُشكلون هذه الجماعة، ويمكن أنْ تُسمّى تلك النظرية بالذاتيّة الجماعية في مقابل الذاتية الفرديَّة التي كان يقول بها هوبز ولترستيس)(1)

والمشاعر والرغبات قد تتبدل باختلاف الزمان وباختلاف الأُمَم .

هذا آخر ما أردنا إثباته في هذا الكتاب وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

***

ص: 213


1- الدين والعقل الحديث ( ص 50 ) .

ص: 214

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الإرشاد الشيخ المفيد :تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام ط 2 ا / / / 1414ه- / دار المفيد بيروت.

3- بحار الأنوار العلامة المجلسي / ط 2 المصححة / 1403ه- / مؤسسة الوفاء بيروت.

4 – تفسير التبيان الشيخ الطوسي تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1 / 1409ه- / مكتب الإعلام الإسلامي.

5- تفسير الميزان: السيد الطباطبائي / منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلميّة قم.

6 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي / تحقيق: لجنة من العلماء ط 1 / 1415ه- مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

7 – تفسير نور الثقلين الحويزي / تحقيق : هاشم الرسولي المحلّاتي/ ط 4 / 1412ه- مؤسسة إسماعيليان/ قم .

8- تهذيب الأحكام الشيخ الطوسي / تحقيق : حسن الخرسان/ ط 3/ 1364 ش / مطبعة خورشيد دار الكُتُب الإسلاميَّة طهران.

9 - ثواب الأعمال الشيخ الصدوق :تحقيق: محمد مهدي الخرسان/ ط /1368/2 ش / مطبعة أمير منشورات الشريف الرضي قم.

ص: 215

10 - دلائل النبوة : البيهقي / ط 1 / 1405 ه- / در الكتب العلمية بيروت.

11 - زبدة التفاسير : الملا فتح الله الكاشاني/ ط 1 / 1423ه- / مؤسسة المعارف الإسلامية قم.

12 - شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / ط 1 / 1378 ه- / دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

13 - علل الشرائع الشيخ الصدوق :تحقيق محمد صادق بحر العلوم/ /1385ه- منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها / النجف الأشرف.

14 - عيون أخبار الرضا علیه السلام : الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه- / مؤسسة الأعلمي/ بيروت

15 - الغارات : إبراهيم بن محمّد الثقفي / تحقيق : جلال الدين الحسيني الأرموي المحدّث.

16 - الكافي: الشيخ الكليني تحقيق: علي أكبر الغفاري ط 5 / 1363 ش / مطبعة حيدري / دار الكتب الإسلامية / طهران. 17

– كمال الدين الشيخ الصدوق/ تحقيق : علي أكبر الغفاري / /1405ه- مؤسسة النشر الإسلامي قم.

18 - المحاسن البرقي / تحقيق جلال الدين الحسيني المحدث/ /1370 ه- دار الكتب الإسلامية / طهران.

19 - المكاسب : الشيخ الأنصاري تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ /الأعظم ط 1 / 1415ه- / مطبعة باقري/ قم.

20 - الملهوف على قتلى الطفوف ابن طاووس / ط 1 / 1417ه- / مطبعة مهر / أنوار الهدى قم.

ص: 216

21 - من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق تحقيق: علي أكبر الغفاري / ط 2 مؤسسة النشر الإسلامي قم. /

22 - وسائل الشيعة: الحُرُّ العاملي / ط 2 / 1414ه- / مطبعة مهر/ مؤسسة آل البيت علیهم السلام/ قم.

23- التوحيد الشيخ الصدوق تحقيق هاشم الحسيني الطهراني / : / جماعة المدرسين/ قم.

24 - الخرائج و الجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط 1 كاملة محققة 1409ه- مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه/ قم.

25 - كنز العرفان المقداد السيوري :تعليق محمد باقر شریف زاده إشراف: محمد باقر البهبودي / 1384 ش / المكتبة الرضويَّة طهران.

ص: 217

ص:218

الفهرس

هوية الکتاب...2

مقدمة المعهد...3

المقدمة...5

الفصل الأول: نبذة تاريخية عن الرق ...15

الرق في وادي الرافدين...20

الرقُ في مصر القديمة...22

الرقُ عند الفينيقيين...24

الرق عند اليونانيين...24

الرق في حضارة روما...28

الرق عند المغول...32

الرق في أوربا ومستعمراتها في القرون الوسطى...33

الرقُ في أمريكا الشمالية ...35

الرقُ في أمريكا الجنوبية...36

أخذ الزنوج من أفريقيا ...38

الرقُ في الديانة اليهودية والديانة النصرانية...41

الفصل الثاني :التوحيد في التشريع ...47

وجود الذات المقدسة...52

الذات الإلهية لا حد لها...55

وحدة الذات الإلهية...56

التوحيد الربوبي...58

التوحيد في التشريع...59

ص:219

الفصل الثالث: جهات الخلط في البحث...63

أولاً: اختلاف المبنى يمنع الإشكال على البناء:...66

ثانياً: ازدواجية المعايير:...74

ثالثاً: حمل المساوئ في التطبيق على النظرية:...75

تطبيق المعصوم علیه السلام يُمثل واقع نظرية الإسلام ...80

رابعاً :النظر للحكم الشرعي بمنظار الحكم الجزائي محضاً:...84

التكوين يدعم التشريع:..86

الأصل في كل ما نواجهه في الدنيا هو الابتلاء:...87

موارد في التشريع والتكوين يتوهم منها الظلم ...87

دفع محذور الظلم ...90

الحكمة الداعية للتشريع في الموارد الموهمة للزوم الظلم ...95

خامساً: الانطلاق من الأحكام الوضعية للإيراد على الأحكام الإلهية...98

اختلاف القوانين الإلهية عن الوضعية ...98

سادساً: تحميل الحكم سلبيات أحكام مشابهة...108

سابعاً النظر التجزيئي للأحكام ...115

الفصل الرابع :أمور لا بد من ملاحظتها...117

العلم منطلق الأحكام الإلهية ...119

الشارع يهتم بالعقل...122

المصالح الشخصية الفائتة لا تمنع من تشريع الحكم...124

الجو الذي شرع فيه الحكم...129

تشخيص موارد الحكم...130

العبد ما بعد العتق ...134

ص:220

أكثر أُمهات الأئمة الاثني عشرعلیهم السلام له كن إماء...135

الجو الذي عاشه العرب قبل الإسلام ...137

تشريع الرق آلية لإنهائه بعد حين...138

الشريعة تدفع باتجاه العتق الذي في مصلحة المعتق ...140

موارد الانعتاق القهري...143

موارد العتق في الكفارات...147

الفصل الخامس :حكم في أحكام الرق...151

الحكمة في تشريع العبودية...153

إمكان إدراك العقل للحكمة لا للملاك...160

علة عدم تقييد العبودية بالكفر...161

علة منع العبد من التملك...163

استحباب العتق لا ينقض الغرض من تشريع الرق...163

الفصل السادس :وجوه المنع ودلائل الشرعية...167

وجوه إنكار تشريع الرق... 169

شبهة المنع من شرعيته بالكتاب ...170

شبهة المنع من الجهاد الابتدائي ...172

القرآن الكريم يدلُّ على الجهاد الابتدائي في زمن النبي صلی الله علیه وآله...178

تشريع الجهاد الابتدائي منسجم مع غاية الخلقة...180

عدم إتيان المعصوم علیه السلام لا بفعل ليس دليلاً على عدم شرعيته ...183

عدم تشريع الجهاد الابتدائي لا يدفع الإشكال...184

الجهاد الابتدائي في الديانات السابقة يُقرب إمكانه في شريعتنا...185

انتفاء الحكم العقلي ...188

الآيات التي يظهر منها تخيير الإنسان في مسألة الإيمان ...190

ص:221

دلائل الشرعية...198

السيرة العقلائية...200

فعل المعصوم علیه السلام ...203

أصالة عدم النسخ...204

حكمة عدم إلغاء العبودية...206

مصالح التشريع المنظورة لا تختص بزمان خاص...211

المصادر والمراجع...215

الفهرس...219

ص:222

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.