الأمن الاجتماعی و وسائل تحقیقه في ظل عهد مير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه)

هوية الکتاب

الأمن الاجتماعي ووسائل تحقيقه في ظل عهد مير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه)

مؤس رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4202 لسنة 2017

تأليف م. علاء عبد الرزاق

العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة

ص: 1

اشارة

مؤس رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 4202 لسنة 2017

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) (23) وحدة الدراسات الاجتماعية الأمن الاجتماعي ووسائل تحقيقه في ظل عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) تأليف م. علاء عبد الرزاق

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني: www.inahj.org الإيميل: Info@ Inahj.org

ص: 4

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني

ص: 5

والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیه السلام).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحدیث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما کتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية والتي اكتنزت في متونها الكثير من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره،

ص: 6

متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية موسومة ب (سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي ستصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وكان البحث الموسوم ب (الامن الاجتماعي ووسائل تحقيقه في ضل عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) المالك الاشتر (رحمه الله) تحت عنوان الدراسات الاجتماعية، حيث تناول البحث مفهوم الأمن

ص: 7

الاجتماعي، وما جاء في العهد العلوي الشريف الى مالك الاشتر من وسائل تحقيقه.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

مقدمة

تلعب الفوارق الطبقية الواضحة وعوامل التمييز بين أفراد المجتمع لأسباب عرقية ودينية دورا مهما في تشظية المجتمع وفقدانه لتماسكه و وحدته وبالتالي قيامه بالدور الذي يفترض ان يقوم به في ظل المبادئ الاسلامية الاصلية التي دعا اليها الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله وسلم).

ولقد جاء عهد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لعاملة على مصر مالك بن الحارث النخعي ليثبت الاسس الخاصة بالعدل والامن الاجتماعي مدركاً طبيعة الظروف السياسية التي سبقت توليه خلافته الظاهرية ولا سيما وقد أرسل

ص: 9

مالكاً واليا على بلد شهد بوادر انطلاقة الثورة ضد الحاكم السابق.

ينطلق البحث من فرضية اساسية الا وهي ان العهد العلوي تضمن جملة من المبادئ الخاصة بتحقيق الامن الاجتماعي والتي يفترض ان يجري التعريف به في بداية البحث والادوات التي تساعد وتعمل على تحقيقه؛ ولم يكتفي العهد بتبیان ضرورات المحافظة على مبادئ الامن الاجتماعي بل امتد ليشمل الوسائل الفاعلة واللازمة لتحقيق هذا المبدأ الهام في الحياة الانسانية.

ينقسم البحث المبحثين اساسيين يتناول الاول دراسة مفهوم الامن الاجتماعي وتناول الظروف التاريخية والاجتماعية التي رافقت الحقبة التي سبقت تولى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لخلافته الظاهرية، واما المبحث الثاني فيتناول الاليات التي تعمل على وضع مبادئ الامن

ص: 10

الاجتماعي موضع التطبيق، ولقد ادرك الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ان توافر الكرامة والحقوق الانسانية للفرد في المجتمع مترابطة مع تحقيق الاليات الخاصة بالأمن الاجتماعي وجعل هذا المبدأ المعول عليه في محاسبة الرعية للحاکم وتغييره اذا أخل بتطبيق شروطه ومبادئه.

ص: 11

ص: 12

مفهوم الأمن الاجتماعي

يمكن تعريف الامن الاجتماعي على انه سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تتحداهم كالأخطار العسكرية وما يتعرض له الأفراد والجماعات من القتل والاختطاف والاعتداء على الممتلكات بالتخريب أو السرقة «في حين يرى فريق من علماء الاجتماع أن غياب أو تراجع معدلات الجريمة يعبر عن حالة الأمن الاجتماعي، وأن تفشي الجرائم وزيادة عددها يعني حالة غياب الأمن الاجتماعي، فمعيار الأمن منوط بقدرة المؤسسات الحكومية والأهلية في الحد من

ص: 13

الجريمة والتصدي لها وأن حماية الافراد والجماعات من مسؤوليات الدولة من خلال فرض النظام، وبسط سيادة القانون بواسطة الاجهزة القضائية والتنفيذية، واستخدام القوة إن تطلب الأمر؛ ذلك التحقيق الأمن والشعور بالعدالة التي تعزز الانتماء إلى الدولة بصفتها الحامي والأمين لحياة الناس وممتلكاتهم وآمالهم بالعيش الكريم(1).

ولقد ربط البعض من المفكرين الاسلاميين بين الامن الاجتماعي وبين تحقيق مقاصد الشريعة وصلاح الدنيا يتحقق بالأمن على مقومات العيش الانساني الامن، وهو الاساس والطريق لصلاح الدين.(2)

ص: 14


1- علي أسعد برکات، الامن الاجتماعي، دمشق، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011، ص: 145
2- محمد عمارة، الإسلام والامن الاجتماعي، القاهرة، دار الشروق، 1998،ص: 21

وقد حدد الماوردي قواعد صلاح الدنيا وانتظام عمرانها، وهي عنده ستة أشياء (دین متبع، وسلطان قاهر - دولة قوية - وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح) فإنه قد جعل "الأمن العام" القاعدة الرابعة من قواعد صلاح الدنيا وانتظام العمران، وعن هذه القاعدة يقول: (وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر به الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قِوام أوَدِهم، وانتظام جملتهم ... والأمن المطلق: ما عَمَّ والخوف قد يتنوع تارة ويعم، فتنوعه بأن يكون تارة على النفس، وتارة على الأهل، وتارة على المال، وعمومه أن يستوجب

ص: 15

جميع الأحوال)(1).

ومن ذلك أيضاً أن الأمن الاجتماعي هو عبارة عن: (حالة تنطلق من الشعور بالانتماء وتستند إلى الاستقرار وتستمد مقوماتها من النظام بمعنى أن تلك الحالة تفترض وجود بناء تنظيمي أو تنظيم جماعي اتفاقي يشعر الأفراد بالانتماء إليه، ويتسم بالثبات والاستقرار والدوام، ويحدد مواقع أعضاء التنظيم وحقوقهم وواجباتهم بما يساعد على توقيع سلوكيات أعضاء التنظيم في الحالات التفاعلية).(2)

والامن الاجتماعي هو: (الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع من الانسان فرداً أو جماعة، في سائر

ص: 16


1- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (450 ه)، أدب الدنيا والدین، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1407 ه - 1987 م، ص 119
2- أحمد المراياتي، العنف: أسبابه وخلفياته النفسية والاجتماعية، 1997، ص 11

ميادين العمران الدنيوي، والمعاد الاخروي.

والامن الاجتماعي هو سيادة حالة من العلاقات التي تقوم على شعور الفرد بالأمن والطمأنينة نتيجة وجود شبكة من التشريعات والانظمة والتي تضمن حقوقه الاصلية واللصيقة بكونه انساناً بغض النظر عن انتماءاته الفرعية الاخرى، وهذه الحالة من الاطمئنان تفرز تقدماً على مختلف الصعد والاتجاهات وتعزيزاً للقيم التي يحملها الانسان عن نفسه وعن المحيط الذي يعيش فيه بحيث تتولد ثقة متبادلة بين الفرد والسلطات القائمة.

ص: 17

المبحث الثاني: آليات تحقيق الأمن الاجتماعي

وبعد هذا التوضيح يبدو من المناسب تحديد الكيفية التي تمكن عن طريقها الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من تحقيق أسس الامن الاجتماعي في عهده لمالك بن الحارث الاشتر رضوان الله تعالى عليه.

وسوف يتم في ثنايا البحث التعرف على اسس الامن الاجتماعي والكيفية التي استطاع العهد العلوي ان يلبيها بأدق تفاصيلها عن طريق

1. العلاقة مع الاخر المختلف في نصوص العهد والتجربة العلوية بشكل عام

2. كيفية توزيع الفيء

3. عارة الارض واستجلاب الخراج

4. تعامل الوالي مع الرعية

5. النظر بعدل وبدون تحيز لجمیع صنوف

ص: 18

المجتمع من تجار وصناع وعمال

6. كيفية تنظيم العقوبات والاجراءات الجزائية.

أنّ الانحراف في قيادة التجربة الإسلاميّة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) تحوّل بمرور الزمن الى نظرية وقواعد في الحكم استقرت بشكلها الأكثر انحرافاً في أيام خلافة عثمان، فكان الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يمثّل الاتجاه الآخر والصحيح وقد برز هذا الأمر جلياً أيام خلافة عثمان عندما دخل الإمام عليه السلام في صراع مکشوف وعلني معه ليثبت للأُمّة محتوى واُسس وأخلاقيات نظريته في الحكم الإسلامي وقيادة التجربة، وكانت الاُمّة مهيّئة أكثر من أي وقت مضى للإحساس بحقيقة الاُمور وحقيقة الاختلاف بين منهج الخلفاء ومنهج الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في رؤية الإسلام ووعيه وقيادة تجربته في الحكم والخلافة، لكن هذا التهيّؤ

ص: 19

من قبل الاُمّة كان بحاجة الى كثير من الصقل والتدريب لكي يتحوّل من مجرد معرفة ونظر الى موقف عملي ونفسي لتحمّل أعباء ذلك الوعي فيما يتطلّبه من مواقف وحزم وصبر على المشاق، سواء في جانب التصدّي للانحراف وتحمّل النتائج أو في جانب الصبر على التطبيق الجديد للإسلام فيما يقرّره المنهج الآخر من زهد في الدنيا وعدالة في التوزيع والحكم والنظرة المتساوية لجميع فئات المجتمع قد لا تصبر عليها النفوس التي درجت وأشربت إتّباع المنهج السابق الذي كرّسه الحكام السابقين وتحوّل الى ميوعة مطلقة في التعامل مع الحدود والأخلاق الإسلاميّة زمن حكومة عثمان. ولهذا قال الإمام (عليه السلام) مخاطباً الاُمّة: «أنا لكم وزيراً خيراً مني لكم أميراً...» أي أن أكون بعيداً عن القرار «وزیر» خير وأفضل من أكون في موقع القرار والمسؤولية «أمير» إذ أنّ الموقع الثاني يستبطن إصدار الأوامر والقرارات الصعبة التي تتطلب قاعدة

ص: 20

بشرية واعية ومطيعة قد وطّنت نفسها على خوض غمار الصعوبات، وعلى هذا الأساس فإنّ بيعتكم لي يجب أن تكون بيعة قد أخذت في حسابها جميع هذه الاُمور وإلّا «فأنا لكم وزيراً خيراً مني لكم أمير».

وقد قبلت الاُمّة شروط الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بعد أن بلغ الإصرار أشدّه على الإمام في قبول الخلافة - وكان مقتضى هذا القبول قبول المنهج الجديد في العمل السياسي والاجتماعي والإداري، وكانت خلافته (عليه السلام) بداية عهد جديد ونقطة تحوّل في الخط الذي وجد بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم.(1)

ص: 21


1- حول هذه الخلفية التاريخية يُنظر: علي شريعتي، الامام علي في محنه الثلاث، محنة التاريخ، محنة التشيع، محنة الانسان، ترجمة: علي الحسيني، بیروت، دار الامير، الطبعة الثانية، 2007. وعزيز السيد جاسم، على سلطة الحق، بغداد، وزارة حقوق الانسان، المركز الاعلامي، الطبعة الثانية، 2014. واحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الاسلام، بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1973

لقد تولّى الامام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الخلافة في أعقاب المشاعر الثورية التي تألّبت ضد عثمان بن عفّان والتي نتج عنها مقتله، والمسلمون وقتئذٍ كانوا في مرحلة تصاعد المعنويات وارتفاعها، وفي لحظة زخم ثوري سليم باتجاه القضاء على الانحراف ومحاولة بناء تجربة إسلاميّة صحيحة، وكان الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بصدد استثمار هذه الحالة وتوظيفها في بناء المجتمع الجديد.

فالمهمات التي كانت أمام الإمام تحتاج الى هذا النوع من الطاقة الحرارية والوعي وبدونهما لا يمكن خوض غمار الجهاد لإعادة بناء المجتمع والدولة، الأمر الذي لا يسمح بمهادنة معاوية وإبقاء الباطل ولو مؤقّتاً، لأنّ مهادتنه تعني قتل هذه الروح لما

ص: 22

تؤدّيه من الشكّ في حقانيّة الإمام ومبدئيته.

لقد جاء الإمام (عليه السلام و هو بصدد القضاء على مظاهر الفساد الحكومي والإداري الذي خلّفه معاوية في الدولة والمجتمع الإسلامي، واجتثاثه مع جميع تأثيراته وجهازه الإداري الفاسد، ولم يكن بالإمكان حتّى في منطقة السياسة - إقرار معاوية ومهادنته لأنّ من شأن هذا الإقرار توطيد سلطته وإسباغ المشروعيّة على نظامه الحكومي والإداري وهذا يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام من إضعاف موقف معاوية وصولاً الى إزالته من الشام، كما أنه يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) من ضرورة أن يُدرك الناس حقيقة المعركة بينه وبين معاوية.(1)

ص: 23


1- يُنظر في هذا الشأن: محمد مهدي شمس الدين، ثورة الامام الحسين عليه السلام، ظروفها الاجتماعية واثارها الانسانية، بیروت، دار الكتاب الاسلامي، 2006، و محمد الحسيني اسماعيل، السقوط الاخير، تاريخ الصراع على السلطة منذ ظهور الاسلام وحتى الوقت الحاضر، القاهرة، مكتبة وهبة، 2006، وعلاء عبد الرزاق، المقاومة السياسية لائمة اهل البيت من الصادق حتی الهادي، بغداد، دار الفراهيدي، 2016

ولهذا كان اعتماده (عليه السلام) على رجال عرفوا بموقفهم الثوري الساخط على النهج الذي اتبعه الحاكم السابق دليل على مضيه في إعادة بناء التجربة الاسلامية بما يتلائم مع أسس الاسلام المحمدي الاصيل وكان مالك بن الحارث الاشتر من ابرز القادة والولاة والذين كانوا موضع ثقة الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) والايدي القادرة على انجاز عملية الاصلاح. وكان عهده لمالك ذلك العهد الذي يعد من أطول العهود السياسية مصداقاً للرؤية الخاصة التي يحتفظ بها الامام (صلوات الله وسلامه عليه) لمالك وللدور الذي يمكن ان يؤديه في عملية الاصلاح المنشود.

ان الاسس التي انطلق منها الامام امير المؤمنين

ص: 24

(صلوات الله وسلامه عليه) في هذا العهد قد بنيت على تصوره للدور الذي اسند للأشتر كعامل له على مصر ومن الممكن ان يكون ما ورد فيه قابلا للتطبيق من لدن الولاة الاخرين فضلا عن امكانية تطبيقه من لدن أي حكم يسترشد بالمبادئ الصالحة والمثلى في تعامله مع الرعية.

اولا المهام الموكلة للوالي بحسب هذا العهد هي جباية الخراج وتحصيل المال لخزينة الدولة واستصلاح الرعية وهي السياسة الداخلية وعارة الارض وهي السياسة الاقتصادية.

ولما ادرك الامام امير المؤمنين ان الرعية تضم إلى جنب المسلمين ابناء ديانات وملل اخرى ومنها المسيحية واليهودية فقد ارسی اسس الامن الاجتماعي برسم الكيفية التي يتم عن طريقها التعامل مع معتنقي العقائد المغايرة للإسلام وهنا ارسی قواعد تمس تأمين الامن الاجتماعي الذي

ص: 25

یُشعر الجميع بالمساواة والعدل والطمأنينة.

ترك بعهده لمالك النخعي والمعروف بعهد الاشتر الوصايا التي تجمل طريقة التعامل مع الاخر المختلف فابتدأه بالقول: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه.(1)

وهنا يؤكد الامام امير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه) ان تقبل الاخر ومعاملته على انه اما اخ في الدين أو مماثل في الخلقة أمر لا يقتصر على

ص: 26


1- عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لمالك الاشتر واليه على مصر، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية، النجف الاشرف، 2012، ص: 15 - 33

سلوك خارجي بل يمتد لأن يكون سلوكاً نابعاً من الذات حتى يتحول الى سلوك فطري يستند على محبة الرعية بجميع تنوعاتها واختلافها وهو يعني ان لا يأخذ الراعي نظرة مسبقة تتميز بالحيف والتمييز بالمعاملة فهم نظراؤه في الخلق الامر الذي يستوجب عليه معاملته بأحسن مما يتوقعون، ان تذكير الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لمالك بان الانسان الذي يعتنق ديناً أخر هو نظير لك في الحلقة هو دعوة لحسن التعامل معه وعدم التعالي عليه بأي شكل من الاشكال، وكان (صلوات الله وسلامه عليه) يدرك تمام الادراك ان اهل الذمة كانوا يواجهون عنتاً في حالة جمع الضرائب والرسوم وتحصيلها منهم وفكرة النظير في الخلق تضاهي وتكمل الاخوة في الدين وتضع أساساً لعلاقة تقوم على المساواة بين جميع الناس من مختلف الملل والنحل والقوميات والاعراق وتحدد الاطار القانوني والشرعي لحرية الاعتقاد تلك

ص: 27

الحرية التي لا يمكن قهرها. وبطبيعة الحال كان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه على يقين تام بأن الكلام المتعلق بالمعاملة المثلى مع الاخر لن يكون لوحده السبيل الناجح والامثل لتحويل التعامل مع المكونات المذهبية والدينية الاخرى الى اسلوب افضل ما لم تكن هنالك اجراءات عملية ترافق هذا الخطاب، فاردفه باتباع الاساليب الاكثر نجاعة لتحويل هذا السلوك الى سلوك عملي بقوله: ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً - تأكل حقوقهم او تقتنص الفرص لسلبهم ما لديهم وبين صلوات الله وسلامه عليه اولوية العفو والصفح في مقابل العقوبة والانتقام إذ ان من شأن اتباع الصفح والعفو وتقديمه على الانتقام والاخذ بالظنة ان يشيع بين الرعية من مسلم وغیر مسلم طابع التسامح في المعاملة ولا يورث احناً أو عداوات بين جهة وجهة أخرى.

ص: 28

كان الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يدرك تمام الادراك ان المسلمين قد فتحوا بلداناً تميزت بموروث حضاري فاق ما كان موجوداً عند العرب من سكان شبه الجزيرة العربية وبالتالي كانت نظرة العربي لهذه الشعوب والاقوام نظرة تقوم على الحسد والرغبة بالتشفي والانتقام وهو ما يتنافي وروح الاسلام الحقيقية وكان في تعامله مع الاسرى الفرس في المدينة المنورة خير دليل على رغبته في تعريف الاخر بالأسلوب الاسلامي الحضاري الامثل في التعامل مع الاخر.

ان توعية الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لولاته بضرورة الاخذ بأساليب اکثر عدالة وتسامحاً مع الاخر جاء لرؤيته الخاصة للرعية فقد وصفها بالقول: أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنکم خزّان الرعية ووكلاء الأمّة ولاتضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم

ص: 29

ولا تمسّن مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد.(1)

وهذا يعني ان الامام (صلوات الله وسلامه عليه) لم يعمل فقط على حث الولاة على ان لا یکون اسلوب التعايش مع الاخر هو اسلوب عمل فقط بل هو اسلوب حياة قائم على الحب الصادق والاحترام وعدم اعتماد أي اسلوب يقوم على القسوة والفضاضة ونهيه عن استخدام السوط دل على ان هذه الاداة كانت هي الاسلوب الشائع المستخدم في الحقبة التي سبقته والتي شهدت استئثاراً وظلماً وغبناً لحقوق الرعية. ولعل اظهار الولاة المحبة للرعية بمسلمهم ومعاهدهم من شأنه أن يعود بالنفع على علاقة الامة ببعضها البعض ويشيع المحبة والتراحم بين مختلف الفئات وهو أدعى لشيوع العدل واستقرار الدولة من الاساليب

ص: 30


1- جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الانسانية، بیروت، دار الأندلس ، 2010 ص: 250

التي تقوم على الظلم والاستبعاد.

انتهج الإمام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) اسلوب العدل والمساواة في الحقوق والغاء اي شكل من اشكال التمايز والذي عده السبب الاول لبذر الكراهية والاختلاف في النظرة من فئة لفئة أخرى ولعل حادثة المسيحي البصير الذي كان يسئل الناس في مسجد الكوفة ما يقيم به أوده قد بينت ان التساوي في العطاء وضرورة انفاق بيت المال على المسيحي كما هو الحال مع المسلم ضرورة أساسية لحفظ الكرامة الانسانية: استعملتموه حتی إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بیت المال.(1)

کما سعى الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلى توفير المستلزمات الضرورية التي تجعل من العلاقة مع الاخر علاقة طبيعية تقوم على

ص: 31


1- نفس المصدر السابق

الود والاخاء والتعاون ولعل واحدة من أهم هذه المستلزمات هي الغاء الفوارق الطبقية الفاضحة والتي نمت بعد الفتوحات واوجدت طبقة مهيمنة مسيطرة بحکم انتهائها العرقي والديني وعدت الاراضي المفتوحة بمثابة أسلاب يجب تقاسمها مع اهمال تام لشؤون الرعية فقال في عهده لمالك: الله الله - يا مالك في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم - أي لا سبيل لهم لإدارة أمورهم - من المساكين المسكين هو الذي أسكنه الفقر من الحركة -، والمحتاجين - المحتاج هو صاحب الحاجة، وأهل البؤسي - أي شديدي الفقر - والزمني - أي ذوي الأمراض والعاهات التي تمنع عن العمل -، فإن في هذه الطبقة قانعاً - أي سائلاً - ومعترّاً - أي متعرّضاً للعطاء بلا سؤال - واحفظ الله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، و قسماً من غلاّت صوافي الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدني - أي دون تمييز في

ص: 32

ذلك الضمان بين المركز والمحيط أو بين العاصمة والمحافظات أو بين المدينة والأرياف -، فلا يشغلنك عنهم بطر - أي طغيان الملك والنعمة -، فإنك لا تعذر - أي لا يقبل الله ولا الناس عذرك.(1)

لقد أيقن الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه ان الاخذ بأساليب الحوار مع الاخر والقائم على الاحترام والاعتراف بالكينونة المادية والعقلية لابد وان يستند على جملة من المقومات منها الحرية وضرورة الحفاظ على الكرامة الانسانية ومعاملة الاخر كالذات، ففيما يخص الحرية اشترط الا يجبر عامل على عمل فلا قيمة للعمل لديه مالم يكن نابعاً من الاختيار الحر، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه بهذا الشأن: (ولست أجبر أحداً على عمل يكرهه.)(2)، كما كان المفهوم الحرية دلالات

ص: 33


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره؛ ص: 25
2- نهج البلاغة، شرح ابن ابی الحدید، بغداد، دار الكتاب العربي، مصدر سبق ذكره؟ الخطبة 192

اوسع في نهج الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من مجرد الاشارة الى الاحرار والارقاء الذين استرقوا بفعل الفتح إذعد الحرية صفة ملازمة للانسان (لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً) فالحرية اذن مطلقة، وحدودها الرفض والقبول ضمن نطاق الحياة الداخلية والوجدان، والاحرار مخيرون يقبلون ويرفضون عن اقتناع وايجابية والحرية هنا هي التي تنشأ الثورات وتقيم الحضارات وتبني علاقات على اساس التعاون الخير وتربط الافراد والجماعات بما يشدهم إلى الخير.(1)

وشدد الامام امير المؤمنين على المساواة اذ عدها الركن المكمل للحرية في تشييد مجتمع يقوم على احترام الانسان مهما كان هذا الانسان متميزا

ص: 34


1- جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الانسانية، مصدر سبق ذكر، ص: 213

عن المجموع وكان تقسيمه للمال والفيئ بالتساوي ایمانا منه بان الانسان لا يتميز عن الانسان الاخر الا بتقواه وان ما يتميز به من عمل مرده الى الله وقد بين مشروعه الذي جاء لينقض مشروع الاثرة والتمايز واذي كان قائما قبله بالقول: (الا وأيما رجل من المهاجرين والانصار من أصحاب رسول الله يرى ان الفضل له على سواه بصحبته، فان الفضل غدا عند الله، فانتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بینکم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد).(1)

وهذا النمط من المساواة في المال ومنع استثار شخص أو جهة بالمنافع العامة طبقاً لتمايز في العرق أو في الدين أو في سابقة من العمل هي التي تفسح المجال امام نظرة اكثر اتساعاً وشمولا في التعامل مع الاخر المغاير وتمنع عنه اي شعور بالنقص والدونية جراء تميز في الجانب العقائدي، وهو ما

ص: 35


1- نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 10

عبر عنه الامام امير المؤمنين أفضل تعبير إذ قال: (إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة).

ولم ارى في هذا المال لأبناء اسماعیل دون غيرهم، وان ادم لم يولد عبدا ولا امة).(1)

وامن الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بضرورة ان تكون الدولة القيمة والراعية لكل رعاياها، فالرعية جسد واحد وعلى الدولة أن ترعی اعضاؤه جميعاً بما تستحق، ولا وجود لتفرقة أو تمييز بين فرد وفرد وهو ما يوفر قاعدة مثلى لعلاقات سوية بين المسلمين ومعتنقي الملل والاديان الاخرى، والعرب وغيرهم من الاقوام الاخرى.

ونظر الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لمبدأ اسلامي أصيل وهو مبدأ عمارة الارض

ص: 36


1- نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 10

فبين السبل الاكثر مثالية لان يكون هذا المبدأ مترافقاً مع احترام الذات الانسانية، ذلك ان عمارة الارض لا تتم بجهد جماعة دون اخرى او بجهد شخص يستأثر بمغانمها بل بجهد الرعية من مسلمهم ومعاهدهم وبالتالي تعود منافع الارض وعمارتها للناس أجمعين، ولقد جسد فكرته صلوات الله وسلامه عليه بقوله: «ولا تبيعن للناس في الحراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا رزقاً يأكلونه ولا دابة يعتملون عليها، ولاتضر بن أحدهم منهم سوطاً لمكان درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج، فإنما امرنا أن نأخذ منهم بالعفو»(1)

واذ اعلن الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) تمجيده للعمل وان الارض ملك لزارعيها فكان ذلك انصافا للموالي من الذين كانوا

ص: 37


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 23

فلاحين وحرفيين في المناطق التي فتحها العرب المسلمون: (ثم أعرف لكل امرئ منهم ما بلی، ولا تضيعن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ ان تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى ان تستصغر من بلائه ما كان عظیماً)(1)

ولم يكن من منهاج امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يفرض على الناس عقیدة معينة فيما يتعلق بالدين، وفي كل ما له صلة قريبة أو بعيدة بالوجدان الخالص وحياة الانسان الداخلية والتي تتصور وتتلون بالوان نابعة من الذات، ويأبى ان يفرض على احد من الناس أن يؤمن بما يؤمن به المسلمون ديناً، فالناس أحرار أن يؤمنوا بالله على ما يرون، وان يعتقد كل منهم على طريقته في الاعتقاد شرط أن لا يلحق ذلك الاذى بالجماعة،

ص: 38


1- عهد الاشتر، المصدر نفسه، ص: 21

والخلق كلهم عيال الله. ويأبى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يجعل الانسان الحکم الاول والاخير على تصرفات الخلق وهم لا يلحقون بك الاذى، فرب امرئ يُستصغر شأنه وهو أرفع منك شأناً وأوضح قوله صلوات الله وسلامه عليه منهجيته بهذا الشأن: «فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربما یکون وليه وأنت لا تعلم»(1)

کما شدد الامام امير المؤمنين على ضرورة نزع فتيل التعصب والكراهية من النفوس، فقدم الالية المناسبة والتي تقوم على حصاد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك، وضرورة ان يكون أبن أدم وصي نفسه، واتباع القاعدة المثلى للسلوك الانساني وهي: «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ماتكره لها،

ص: 39


1- باقر شريف القريشي، حياة الامام الحسين عليه السلام، تحقيق مهدي باقر القریشی، کربلاء المقدسة، العتبة الحسينية المقدسة، ط (2) 2008، ص: 159

وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».

ولعل وصايا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لعماله و ولاته في الكيفية التي يمكن عن طريقها معاملة أهل الذمة تكشف عن سياسته التي لم تكن لتفرق قيد أنملة عن سلوكه المثالي المستند على روح الشريعة وما اوصاه به رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقد أوصى معقل بن قیس بالقول: «إتق الله يا معقل ما استطعت ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فأن الله لايحب المتكبرين» وبين ان اتباع النهج الاسلامي الاصيل والذي ينأى عن الاعتبارات المادية التي شابت هذا النهج حري به ان ينشر العدل والقسط بين الناس أجمعين مهما كانت دياناتهم ومعتقداتهم فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ولو سلكتم الحق، واضاء لکم الاسلام، لما ظُلم منکم مسلمُ أو معاهد.» کما شدد على محمد بن ابي بكر واليه على

ص: 40

مصر بضرورة العدل على أهل الذمة بقوله: "أوصيك بالعدل على أهل الذمة وبإنصاف المظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس، والاحسان ما استطعت، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء، كما عهد لنصاری نجران بان "لا يُضاموا ولا يظلموا ولا ينقص حق من حقوقهم".

وبطبيعة الحال فأن نهج التسامح وحسن التعامل مع الاخر والذي كان طابعاً متأصلا في ذات الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لازمه ذم التعصب والتكبر الموروث عن التعصب القبل أو العرقي بمعنى أنه أزال مبررات مثل هذا التعصب والذي قرنه بالكفر ومخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها فقال: «الا وقد امعنتم في البغي وأفسدتم في الارض، فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية، فانه ملاقح البغضاء ومنافح الشيطان التي خُدعت بها الأمم الماضية والقرون الخالية» وهو يعني

ص: 41

هنا ان التعصب كان سبباً من أسباب اضمحلال وسقوط دول وامبراطوريات کبری عبر التاريخ في الوقت الذي يكون فيه التسامح أساساً لديمومة الحضارة الانسانية وتيسير سبل المعاش والتألف: "ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب الشيء من الاشياء، إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء".(1) وبالمقابل نوه الامام (صلوات الله وسلامه عليه) بحملة من الاخلاق التي يفترض ان يتعصب الانسان لها وهي سلوكيات عامة شاملة يتقبلها الموالي والمخالف المسلم والمعاهد فقال بهذا الشأن:» فإذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحاسن الامور، والاخلاق الرغيبة والاحلام العظيمة والاثار المحمودة، والاخذ بالفضل، والكف عن البغي والانصاف للخلق

ص: 42


1- نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 165 - 174

واجتناب المفاسد في الارض.(1)

وحينما يقوم الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بإزالة الاسباب الموجبة للتعصب فهذا يعني انه أزال أسباب الاحتقان بين الجماعات المختلفة ووفر قاعدة من العدل والمساواة وأشاع جوا من الالفة والمودة بين مجموع الامة.

ولعل نظرته هذه تقودنا للتعرف أصلاً على طبيعة نظرته للحياة ككل وموقع الانسان في هذه الحياة، لقد امن الامام (صلوات الله وسلامه عليه) بان «الله خلق الناس حرما في أرضه، وأمناً بين خلقه، وجمع الفتكم فنشرت النعمة علیکم جناح کرامتها، وأسالت لكم جداول نعيمها» وعقد الله بينهم حبل الالفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف احد من المخلوقين لها قيمة، لآنها أرجح

ص: 43


1- المصدر نفسه، ص: 175

من كل ثمن وأجل من كل خطر.(1) وبالتالي كانت الدعوة لاحترام الحياة وتبجيل قيم التألف دون قيم التناحر والتنازع منهجاً أساسياً في سلوكه وممارسته السياسية وهذا يعني إعلاءاً لقيم التنوع وذلك لان الحياة تستند على هذه القيم وعن طريق نشر قيم التألف يتم احتواء الاخر لا بطريقة الالغاء او الضم القسري بل تشعره بان قيمه ومعتقداته محفوظة کانسان، طالما لم يكن هنالك تنافر وشد وعدائية في المجتمع. ولعل تأسيس قاعدة الامن الاجتماعي القادرة على ادارة التنوع هي التي تفسح المجال امام حرية فكرية وعقائدية تستند على احترام الاخر وافساح المجال واسعاً للتعبير عن آرائه ومعتقداته.

وتعزيز الحرية الانسانية والمبني على الاحترام والتبجيل للذات الانسانية جاء عن طريق ارساء الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)

ص: 44


1- نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 175

لجملة من الخطوات و التي كانت سابقة في التاريخ الحضاري الانساني فأعطى للإنسان حرمة في مسكنه وحرية في مزاولته لعمله او حرفته وبين قيمة الانسان التي تستند على مقدار ما يجيد من حرف وقال (صلوات الله وسلامه عليه) بهذا الصدد: «الناس ابناء ما يحسنون» وادرك ان قيمة العمل مقرون بالحرية التي تمنح للإنسان لإنجاز عمله هذا، وامن بحق الانسان في طلب العلم وطلب العلم لا يكون الا بوجود أرضية من الحرية التي تبيح للإنسان تحصيل العلم وأخذه من موارده المختلفة وحرية النظر والتلقي والاخذ والعطاء، وحينما تكون هنالك حرية في تلقي العلم من مصادر ومدارس مختلفة يكون هنالك اختلاف وتباين في وجهات النظر ونشوء لمدارس واتجاهات مختلفة والتي يمكن أن تخالف تصور وتفکیر توجهات الدولة، ووجود مثل هذه التوجهات والمدارس مکفول في المدرسة العلوية، بل كان ضرورياً لتلاقح الفكر، فكلما كان

ص: 45

القاعدة الفكرية متينة وراسخة كان لديها القدرة على النقاش والجدل مؤمنة بان الانفتاح على الاخر هو ما يرص بنیانها ويدعم كيانها، في الوقت الذي تحميل فيه الطروحات الاستبدادية إلى الالغاء والمنع مدركة ان اي حوار مع الفكر المغاير سوف يقوض من هيمنتها وديمومة سيطرتها.

ولقد بين الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) الخطوات الضرورية اللازمة لتكوين علاقات تقوم على الود والاحترام بين مختلف الفئات والافراد اذ امن بان الحقوق والواجبات بين افراد المجتمع تتكافئ بنحو لا يتكامل بعضها الا بالبعض الاخر فقال (صلوات الله وسلامه عليه) بهذا الشأن: «ثم جعل الله حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافئ في وجوهها ويوجب افتراضها بعضاً على بعض، ولا يستوجب بعضها الا

ص: 46

ببعض».(1)

واذا ما كانت هذه هي العلاقة المثلى التي يفترض ان تكون بين الفئات المختلفة في الرعية فهذا يعني ان سبل التواصل بين هذه الفئات المختلفة من عرب او غیر عرب مسلمين أو غير مسلمين ستكون أكثر وداً بحکم احتياج الكل للكل واعتماد الكل على الكل، ولم تكن مثل هذه النظرة الا استمراراً لنهجه الخاص بالمساواة التامة بين الرعية ومساواتهم بالعطاء والفيء دون الاخذ بالاعتبارات التي تقوم على العنصرية والعصبية والدين.

ان الاعتماد على معيار يقوم على حسن العمل وتقبيح التفاخر بالأنساب في تلك الحقبة الزمنية يكشف عن الابعاد الثورية والنهج الانساني الذي تبناه الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ويكشف عن الاسباب التي دفعت مخالفيه

ص: 47


1- نهج البلاغة، الخطبة ((216))

من المستفيدين من الالية السياسية المعتمدة سابقاً لمعارضته واختلاق العقبات التي تحول دون اكماله النهجه الانساني القائم على العدل والمساواة التامة بين الافراد. ولقد جسد (صلوات الله وسلامه عليه) هذه المساواة في القانون والوقوف امام القضاء، والمساواة في الضرائب والمساواة في تولي الوظائف بمعنی فسح المجال امام الجميع لتولي الوظائف التي تتناسب ومؤهلاتهم، عن طريق جملة من الوصايا لعماله وفي الاليات التي اعتمد عليها في حکمه: «ولیکن امر الناس عندك في الحق سواء» و «اعلموا ان الناس عندنا أسوة»، واما العدل في القضاء فقد دلت سيرته وفي أكثر من موضع على ان الاحكام الخاصة بالقضاء تسري على الجميع بما فيهم الخليفة نفسه والذي قد يقف متخاصماً مع يهودي يدعي ان درع الخليفة هي درعه وعندما لا تكون هنالك بينة للخليفة يحكم القاضي بأيلولة الدرع لليهودي والذي لم يكن ليشعر باي درجة

ص: 48

من درجات التمييز أو الحيف في ظل دولة يقف مع رأسها سواء بسواء امام السلطة القضائية.(1)

کما کانت وصاياه للقضاة بضرورة التزام الحق طبقاً لمن لزمه من قريب أو بعيد واتباع نهج العدل على الصديق والعدو: «ولا تبغوا على أهل القبلة ولا تظلموا أهل الذمة». «واخفض لهم جناحك، والن هم جانبك، وابسط لهم وجهك، وأس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمح الأقوياء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك».(2)

ص: 49


1- تفاصيل القصة عند المدرستين الاسلاميتين في الموقع الخاص بالعتبة العلوية المقدسة، باب مناقب الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ووردت عند ابي جعفر محمد بن علي بن شهر اشوب، مناقب ال ابي طالب، المجلد الاول، بیروت، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 2009، ص: 384
2- نهج البلاغة: الجزء الثالث، وصية امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لمحمد بن ابي بكر حين توليته مصر، ص: 31

لم يشأ الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أن يجعل العلاقات بين مكونات المجتمع تقوم على صيغة ((غالب ومغلوب)) ذلك ان العدل والمساواة واتاحة الفرص للجميع للعمل والتفكير بحرية قد أظلت الرعية بظلها وبالتالي لا يمكن أن يكون هنالك قسر أو سعي لإجبار شخص ما على فعل لا يرتضيه، فاستجلاب النفع العام بدلا من تكديس الاموال لدى فئة دون اخرى كان دیدن السياسة العلوية، كما ان العفو يحتل المرتبة الاولى دون العقوبة وتقديس العمل بدلا من الانساب والافتخار بالرمم البالية، ومعيار التقوى كان هو المعيار الذي يميز بين انسان وأخر، ودفع الضرر مقدم على الاخذ بأساليب الشدة والعسف وترك اسلوب التسقيط والاخذ بالظن، كل هذه المرتكزات تدفع الانسان للاطمئنان بان النهج العلوي يقوم على فسح المجال واسعاً امام الانسان لاستكمال شروط بنائه ونضجه العقلي وهذا النضح العقلي

ص: 50

يكون اللبنة الاولى في حوار متكافئ وصولاً للحقيقة.

واذا ما كانت هذه هي الاسس التي استند عليها الامام امير المؤمنين في بناء مجتمع حضاري يقوم على الحوار المتكافئ فذلك يعني ان الاخر المختلف قد أُعطي المساحة الكافية للتحرك والجدل وكان الجدل مع رأس الدولة مسألة طبيعية، وبلغ الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) غاية الحرية في فهم نصوص الاسلام من مختلف جوانبه إذ قال عن اهم دعامات الاسلام: "القرآن حمال ذو وجوه"، وكذلك دعا الامام الى شحذ الذهن وتوظيف العلم من اجل استيعاب وشرح آیات القرآن الكريم وعدم الوقوف عند شرح او فهم دون احتساب لعامل التطور والزمن اذ قال صلوات الله وسلامه عليه: «ان القرآن ظاهره انيق وباطنه عمیق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه». وقبل الامام ان يحاور رجلا كانت تكتنفه الشكوك حول اثنی عشر موقعاً في القرآن الكريم، فقدم الامام امير

ص: 51

المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه له اية التسامح الفكري وحاوره بعد ان سمع جميع حججه قائلا: سأعلمك ما شككت فيه، وناقشه واقنعة بحوار علمي وفكر حر ولاسيما في موضوع ذوي أهمية واثر بالغ على عقيدة المسلم مثل الشك في القرآن.

وبين الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) الضرورة الماسة لدخول الانسان للدين بالقناعة وليس محاباة لشخص أو لجهة فقال بهذا الشأن: من دخل في هذا الدين بالرجال اخرجه منه الرجال کما ادخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل ان يزول.

اما في مسالة العبادات والشعائر الدينية فان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يعطي الحرية للإنسان في ادائها إذ قال:«ان للقلوب اقبالا وادبارا، فاذا اقبلت فاحملوها على النوافل، واذا ادبرت فاقتصروا بها على الفرائض».

ولعل اقتراب الموالي وغير المسلمين من

ص: 52

نهج الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه والائمة من اهل البيت (علیهما السلام) مرده تفسیر مدرسة اهل البيت للدين تفسيرا يلائم مصالح الفئات المقهورة والمغلوب على امرها من الرعية ويخالف مصالح الحكام المتنفذين ولقد وجد الموالي وغير المسلمين بان المدرسة العلوية تفسح المجال امام المجتهدين للانتقال به أي التفسير من حال لحال ویأبی الانکاش والجمود، وبالتالي انسجمت طروحات وافکار هذه المدرسة مع اماني المستضعفين والمضطهدين والذي كان جلهم من الموالي وغير المسلمين.

وكان انفتاح المدرسة العلوية بشكل كبير على الانسان المغاير المختلف و تجاربه الروحية والفكرية قد دفع بهذه المدرسة لان تكون المدرسة الاكثر قدرة على الجدل والتفكير الحر والتأمل لمختلف القضايا الفلسفية والكلامية والسياسية بعيداً عن الاطر الضيقة التي رسمتها السلطات المتعاقبة بحرية

ص: 53

الرأي وتدارس الآراء المخالفة للمذهب بحرية تامة وهو ما اختلفت عنه عن اي مدرسة في تلك الحقبة ولعلها اول مدرسة في التاريخ الانساني تؤمن بنحو لا يتطرق اليه الشك بحرية الرأي وتسمح للمخالف بمناقشة زعيم المدرسة بأدق التفاصيل الخاصة بالمسائل الكلامية، وهذا يعني ان المدرسة العلوية كانت قد اعتمدت اولى اليات الحوار الا وهي احترام الطرف المقابل حتى وان كان مناقضا للمعتقدات وللمقولات التي تنهض عليها المدرسة.

لقد شيد الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه ) أسس الحرية الفكرية والاعتقادية في الاسلام في ظل أنموذج لم يسبقه اليه حاکم جمع بين يديه السلطتين الدينية والزمنية، ولقد بين ملامح وأسس هذه الحرية الفكرية والاعتقادية في اكثر من خطبة او قول أو سلوك واضح جسد ما قاله وعنی به، لقد احترم وبنحو لا يقوم معه شك الاديان الاخرى ومعتنقيها وتراثها الروحي والفكري،

ص: 54

وبين ان عبادة الله الواحد الاحد كانت في الكنيسة كما هي في المسجد وكما كانت قبلهما في البيع، ولم یکن قوله صلوات الله وسلامه عليه: والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الانجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم.. وجادل عدداً من أحبار اليهود في مسجد الكوفة والذين جاؤه ليسألوه حول الله كيف هو وكيف كان ومتی کان، فرحب بهم وأجابهم عن تساؤلاتهم بروح منفتحة ونفس واثقة بعلمها، کما سمح للجدل والحوار بشأن المفاضلة بين الرسل والاديان ووجود الجنة والنار، کما سمح لكافة أشكال المعارضة السياسية أن تمارس عملها طالما لم تعتدي على عموم الناس بقول أو فعل، ولعل رده على شخص أشار عليه بقتل اثنين من الخوارج کانا يظهران عقيدة الخوارج في مسجد الكوفة بالقول: لقد كان ينبغي لك ان تعلم اني لا اقاتل من لم يقاتلني، ولم يظهر لي عداوة وكان ينبغي لو أنني

ص: 55

أردت قتلهما أن تقول لي أتق الله لِم تستحل قتلهما ولم يقتلا أحداً، ولم ينابذاك ولم يخرجا على طاعتك".(1)

وكان رده صلوات الله وسلامه عليه على رجل اراد ان يجادله في مسجد الكوفة بأسلوب شدید مبادراً بالقول: ايها المدعي ما لا يعلم والمقلد ما لا يفهم انا السائل فأجب، فأراد البعض منعه فقال لهم الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): دعوه ولا تعجلوه فان الطيش لا يقوم به حجج الله ولا به تظهر براهين الله، ثم التفت الى الرجل وقال له: سل بكل لسانك وما في جوانحك فاني اجيبك.

كما أعلن الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في أكثر من موضع ان معارضته من الدن أي فرد في الرعية لا تنقص أو تثلم حقاً من حقوقه في المال العام أو التمتع بكافة المزايا والحقوق التي يتمتع اي انسان أخر.

ص: 56


1- نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 3

وخاطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الرعية كاشفاً عن رؤيته للعلاقة التي يفترض ان تكون قائمة بينه وبينهم بالقول: «فَلا تَکُفُّوا عن مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَو مشوِرةٍ بِعدلٍ، فإنّی لستُ بنفسی بِفوقِ أَن أُخطئ، ولا آمَنُ ذلك من فعلی، إلّا أَن یَکفیَ اللَّهُ من نفسی ما هُوَ أملكُ بِه منی، فإنما انا وانتم عبِیدٌ مملوکونَ لربٍّ لا ربَّ غیرُهُ؛ یملكُ منّا ما لا نملِكُ من أنفسنا، واخرجنا ممّا کنّا فیهِ الی ما صَلحنَا علیه، فأبدلنا بعدَ الضلالَة بالهُدی، واعطانا البصیرَةَ بعد العمی».(1)

وهذه الاسس مهدت أو وضعت الاساس لقواعد الامن الاجتماعي طبقاً لما نص عليه العهد فالإيمان بمنح الحقوق المختلفة من عقائدية وسياسية واقتصادية واجتماعية لأفراد المجتمع كافة وسوف نری کیف فصل العهد هذه الاسس الخاصة بالأمن الاجتماعي.

ص: 57


1- نهج البلاغة، خطبة (216)

لقد سعى الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلى تدعيم عرى الثقة بين الحاكم والمحكوم الراعي والرعية لما له من تأثير بالغ على ترسيخ حالة الطمأنينة لدى افراد المجتمع وبالتالي اشاعة حالة من الامن والاستقرار فقال في عهده للاشتر: «وأعلم إنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من احسانه اليهم وتخفيف المؤنات عليهم وترك استكراهه ایاهم ما ليس له قبلهم».(1)

وسعى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى جعل العلاقات بين طبقات المجتمع علاقات تقوم على التكافؤ والتضامن والاعتمادية المتبادلة: «وأعلم ان الرعية لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنی ببعضها عن بعض، وكل قد سمی الله سهمه، و وضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظاً».(2)

ص: 58


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 25
2- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 27

وحتى يأمن الناس نزاهة القضاء وحياديته ومن تحقيق العدالة وهي العامل الناجع في تحقيق السلم والامن المجتمعيين بين الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الكيفية التي تكون عليها شخصية القاضي أو من يُسند اليه منصب القضاء: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق بهم الامور ولا تماحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تُشرف نفسه على طمعٍ، ولا يكتفي بأدنی فهمٍ دون أقصاه».(1)

ولكي يضمن استقلال القضاء ونزاهته شرع الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه استقلال المحاكم فقال في العهد: «واعطه أي القاضي من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيرك من خاصتك بذمته ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً» وبين مواصفات القاضي المثالي

ص: 59


1- المصدر نفسه، ص: 34

فهو ذلك الذي: «لا يزدريه الاطراء ولا يستميله الاغراء، وأكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتَقلُ معه حاجته إلى الناس».(1)

ولعل ذات المعايير التي سعى الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لاتباعها مع القضاة عمد الى اتباعها في طريقة اختيار الموظفين فأوصى مالك الاشتر بان لا يكون اختيارهم عن طريق الفراسة أو حسن الظن من لدن الوالي بل بالاختيار بما ولوا للصالحين قبل عهده بالولاية وأن يعمد لاختيار وانتقاء أحسنهم أثراً في العامة وأعرفهم بالأمانة وجها، فان ذلك دليلُ على نصيحتك لله ولمن وليت امره».(2)

ومما لا شك أن اطمئنان الرعية لطرق واليات اختيار القضاة والموظفين يعني انقيادهم الطوعي للمبادئ العامة التي يسي عليها الحكم وتدعيم

ص: 60


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 35
2- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 41

عرى الامن المجتمعي بنحوٍ لا يدع مجالاً لحالات فساد أو اثراء غير مشروع أو حسد أو غل من لدن الرعية لمن تقلد منصباً في الدولة، والسعي في الوقت ذاته لان يكون معيار العدل والنزاهة والاستقامة والاقتداء بسيرة الصالحين هو المعيار الامثل لأي فرد يسعى لان يدرج في مدارج خدمة الرعية وتقلد المناصب التي تعود بالنفع العام على المجتمع.

ولم يكن الأمن الاقتصادي وهو واحد من أهم المعايير التي تدعم وجود الامن الاجتماعي بعيداً عن نصوص العهد ولقد تضمن تأكيداً على الكيفية التي تتم بها جباية الاموال وركز على ضرورة عمارة الارض إذ عدها العصب الاساسي لحياة امنة من الناحية الاقتصادية وربط بين سبل تحصيل الخراج وعمارة الارض وعد عمارة الارض السبيل الاكثر نجاعة لجلب الخراج وفي ذات الوقت جلب رضا الرعية إذ ان عدم رضاهم واعوانهم سوف يعود سلباً على عمارة الارض وسوف يفضي لخرابها أي انه جعل

ص: 61

الرضا المجتمعي وهو احد الادلة الاكثر بروزاً على الامن الاجتماعي معياراً لصلاح الارض وعمارتها.

(ولیکن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد)... وان العمران محتمل ما حملته، وانما يأتي خراب الارض من اعواز اهلها، وإنما يعوز اهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.(1)

وركز الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في العهد على أهمية التجارة والصناعة في تأمين الاحتياجات الانسانية فهي مواد المنافع وأسباب المرافق والتجار والصُناع سلم لا تُخاف بائقته فهم مسالمون وصلح لا تخشى غائلته.(2) ورغم التأكيد على اهمية التجار والصناع ودورهم في الحياة الاقتصادية

ص: 62


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 37 - 39
2- المصدر نفسه، ص: 42

الا ان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه نبه في الوقت ذاته الى ضرورة محاسبة المحتكرين والجشعين منهم ذلك إن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيب على الولاة"(1) وهذا يعني ان هنالك تأكيد في العهد على ضرورة تأمين الاحتياجات المادية للرعية وهذا ما يضمن امناً اقتصادياً ورفاهية للجميع بدون مضارة أو احتکار أو سلب للمنافع ونرى بعد ذلك ان الامام صلوات الله وسلامه عليه أوصى أن يكون البيع بيعاً سمحاً: بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمُبتاع.

ثم تابع وصيته بالعمال والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني والقانعين والمعترين وضرورة أن يتم تخصيص نصيب من بيت المال و قسم من غلات صوافي الاسلام لهم، وعلى الوالي أن ينظر

ص: 63


1- المصدر نفسه، ص: 43

بحسب العهد بعين العدل والمساواة لكل فردٍ من أفراد الرعية وأن يتعهد أهل اليتم والفاقة وذي الرقة ممن لا صلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وعلى الراعي أن لا يهمل أي فرد من أفراد رعيته حتی أولئك الذين لا يمكن أن ينظر اليهم الوالي أو قد يهملهم نظراً لضالة شأنهم و ضعتهم وان یکون هنالك أشخاص يتفرغون لمعرفة أحوالهم وتفقد أوضاعهم فأمثال هؤلاء أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وهذا يعني بسط شروط العدل والمساواة بين مختلف الطبقات الاجتماعية وفي ذلك ضمان لشروط الامن الاجتماعي.(1)

وحتى يُشعر الوالي رعيته بان بسط يد العدل والمساوة يضم الجميع ينبغي عليه أن يجعل لذوي الحاجات قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وأن يجلس لهم مجلساً عاماً يتواضع فيه لله ويبعد الجند والاعوان حتى يكلمهم مُتكلمهم غير متتعتع أي غير متحرج

ص: 64


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 45

من نطق، عملاً بوصية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): «لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع والاعطاء بشكل هني والمنع بإجمال واعذار.»(1)

وحتى تكون العلاقة طبيعية ومنسجمة بين الدولة والمجتمع أوصى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في عهد للأشتر بضرورة أن لا يطول احتجاب الوالي عن الرعية فهو شعبة من الضيق وان مثل هذا الاحتجاب يورث عادات اجتماعية سيئة فيصغر عند الرعية الكبير ويعظم الصغير، ويُحسن القبيح ويُشاب الحق بالباطل، وبين الامام (صلوات الله وسلامه عليه) عدم ضرورة الاحتجاب فالوالي لا يعدو كونه امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق، فلا داعٍ لاحتجابه إذ ان احتجابه سوف يؤدي بالناس إلى الكف عن مسألته أيسوا نتيجة لطول احتجابه مع

ص: 65


1- المصدر نفسه، ص: 48

العلم ان حاجة الناس للوالي تكون اما شکاة من مظلمة أو انصافٍ في معاملة.(1)

وحتى يقطع الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه نشوء أي سياسات طبقية أو بروز طبقة تثري على حساب الصالح العام أوصى في العهد بضرورة أن لا يقوم الوالي بإقطاع أحدٍ من حاشيته وحامته قطيعة، أو يمتلك عقدة (قطعة من الاض) أو ضيعة يضر بمن يليها من الناس في شربٍ أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والاخرة.(2)

وأكد الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على ضرورة عدم سفك الدماء بغير حقها ذلك انه ليس هنالك شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك

ص: 66


1- عهد الأشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 51
2- عهد الأشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 52

الدماء بغير حقها. وعدم المبالغة في العقوبة فان ما فوق الوكزة (وهي الضربة بجمع الكف) مقتلة وفي حالة حصول القتل على اثر عقوبةٍ لا تستحق القتل فان على الوالي دفع الدية لأهل المقتول.(1)

وحتى يضمن الوالي الرضا الاجتماعي فعليه تجنب المن على الرعية بالإحسان أو التزيد فيما كان من فعله، أو أن يعد رعيته بوعدٍ فيخلف الوعد، فالمن يُبطل الاحسان، والتزيد يُذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس.(2)

ص: 67


1- عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره؛ ص: 58
2- المصدر نفسه، ص: 58

الخاتمة والاستنتاجات

أعقبت وفاة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم جملة من المتغيرات التي أفضت بمجملها إلى النكوص عن المسيرة الاصلية التي أرسى دعائمها صاحب العصمة الكبرى (صلوات الله وسلامه عليه) وثلة من صحابته المنتجبين والذين امنوا بان الرسالة الاسلامية السمحة رسالة حق وعدل وانصاف وأمن وامان يعيش في ظلها الناس اخوة متساويين ومتكافئين في الحقوق والواجبات.

ولما كان الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) هو المستحفظ على هذه الرسالة والقيم عليها بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للملكوت الاعلى فقد عمل على اتباع سياسة النصح والارشاد قبل تولي خلافته الظاهرة حفظاً للمصالح الاسلامية العليا وعدم رغبة في تضييع الجهود التي بذلت منذ انطلاق الدعوة

ص: 68

الاسلامية.

ولما أدت السياسية التي اتبعت في عهد عثمان بن عفان ولا سيما سياسة الاثرة والتمييز في العطاء وتقريب بني امية واستبعاد وعزل ونفي الاصحاب الاوائل والذين لم يكونوا يمتلكون عصبية قبلية أو ثروة مادية وتراكم الثروات بيد فئة قليلة وتسليط الاقارب والاصهار على رقاب المسلمين إلى تزايد عوامل السخط والثورة وأدت الى قتله، وضغط المسلمين وجموع الثائرين على الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لتوليه الخلافة فتولاها ساعياً لإصلاح ما فسد في المسيرة الاسلامية وعمل على عزل الولاة الذين كانوا سبباً في تفاقم النقمة على عثمان وبدأ باتباع سياسة ثورية تعمل على اقتلاع الفساد من جذوره وصولا لحالة من العدل والمساواة والامن.

ولعل مفردة الامن بمضامينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية كانت من اولويات

ص: 69

السياسة العلوية ولهذا أكد الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في خطبه ورسائله لعماله على ضرورة نزع الخوف من صدور الرعية وتأمين كل فرد على حياته ومعتقده وعرضه وماله وممتلكاته وتأمين أسس المساواة في العطاء بنحو لا يشعر معه أي فرد بالحيف والظلم ومعاملة الاخر المختلف بنحو ينم على نظرة انسانية عميقة في مدلولاتها، ولكي يأمن تنفيذ هذه السياسة اسند لخلص اصحابه اعمال الولايات الكبرى في دولة الخلافة فكان مالك بن الحارث الاشتر النخعي واحداً من هؤلاء الاصحاب الذين كانوا بمثابة الايادي الأمينة لتنفيذ معطيات السياسية العلوية الجديدة.

ولعل المكانة التي تمتع بها هذا الصحابي الجليل قد دفعت الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لتخصيصه بعهد يُعد أطول عهوده السياسية واكثرها تفصيلاً وشرحاً لطبيعة السياسة التي ينبغي

ص: 70

للوالي أن يتبعها في اقليم شهد عدة من التجارب التاريخية المتعاقبة ومرت عليه دول سادت ومن ثم بادت وفيه مرکز للزعامة المسيحية التي وقفت دائما بالضد من محاولات فرض عقيدة مغايرة على اتباعها، لذلك جعل الرحمة والمحبة للرعية أولى واجبات الوالي وتقديم العفو على العقوبة وستر العورة والابتعاد عن عقد الحاقدين و وشايتهم مما يترك اثاراً سلبية في العلاقة بين الراعي والرعية وعد الخلق صنفان أخ في الدين أو نظير في الخلق وترك بطانة السوء وتدعيم عري وعوامل الثقة بين الراعي والرعية وضرورة التضامن بين الطبقات والفئات الاجتماعية وضمان استقلالية القضاء والمحاكم والتدقيق في اختيار الموظفين وتقديم عمارة الارض على جباية الخراج وتأمين حالة من الرفاهية الاقتصادية للجميع بتحريم الاحتكار، وعدم الترفع عن العمال والاجراء ورقيقي الحال وترك الاحتجاب عن الرعية ومعرفة دقائق وتفاصيل

ص: 71

حياتها بما يصلح أحوالها وعدم الاكتفاء بالسماع، وعدم احاطة الوالي نفسه ببطانة من سوء يقطعهم من اراضي المسلمين، وعدم سفك الدماء الا بالحق وتغليب العفو على العقوبة، وعدم المن على الرعية أو وعدهم بما لا يمكن الوفاء به، وكل هذه النصائح والارشادات التي وردت في العهد العلوي تجعل منه واحداً من أول الوثائق القانونية المفصلة في التاريخ الإنساني ودليل على أصالة النهج الإنساني عند الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وسعيه لتأمين أسس الامن الاجتماعي بمناحيه المختلفة الامر الذي يجعل من عهد الاشتر أول وثيقة سياسية قانونية تم فيها تقديم مصلحة الرعية على الراعي واول وثيقة قانونية سياسية أمنت الانسان على كيانه المادي والمعنوي وأوجدت السبل اللازمة لسير المجتمع في ظل الاهداف السامية التي أرسى أسسها صاحب العصمة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 72

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.