ملاك التفاضل في الإسلام

هویة الکتاب

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الثانية

ملاك التفاضل في الإسلام

كيف تكون أفضل من غيرك عند الله تعالىٰ؟

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ﻫ

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الثانية

ملاك التفاضل في الإسلام

كيف تكون أفضل من غيرك عند الله تعالىٰ؟

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء علیهم السلام للدراسات الحوزوية الإلكترونية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المعهد

لا يخفىٰ ما للأخلاق من أهمّية كبرىٰ في حياة الإنسان، فبها يستطيع أن يتواصل مع الآخرين إيجاباً وسلباً، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تتدخَّل في هذا الجانب من الحياة لتضفي عليه أُطُراً واضحة للتعامل المنهجي مع الآخر.

فبالمعرفة وتطبيقها يستطيع المرء أن يشقَّ طريقه في هذه الحياة، ليكون عنصراً مؤثِّراً في المجموعة، بحيث يفتقده الناس إذا غاب، ويستأنسون به إذا حضر.

من هنا، نجد النصوص الدينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة أن يعمل المرء علىٰ أن يزيد من معارفه العلمية، بشرط أن تكون ضمن الحدود الإنسانية والدِّينية، وأن يجعل من سلوكه لوحة مرسومة تُترجِم تلك المعارف الإنسانية والدِّينية.

من هنا، كان معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية أحد المؤسَّسات العلمية التي تهدف إلىٰ نشر المعارف الإلهيَّة، وإيصالها إلىٰ أكبر عدد ممكن من المتلهِّفين لارتشاف تلك المعارف.

وللتعريف العامِّ بالمعهد ونشاطاته نذكر النقاط التالية:

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ص: 3

ثانياً: أنَّ الموادَّ الدراسية تُعَدُّ علىٰ أيدي أساتذة متخصِّصين، وتُدرَّسُ من قِبَل أساتذة أكْفاء في حوزة النجف الأشرف.

ثالثاً: الدراسة في المعهد عن طريق الانترنيت وليست مباشرة، وهي لمدَّة ثلاث سنوات، والسنة الرابعة تطبيقية عملية.

رابعاً: أنَّ المعهد يساهم في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت (علیهم السلام) ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

خامساً: بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين (علیها السلام) الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

سادساً: أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت (علیهم السلام) وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 4

سابعاً: أنَّ المعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن ستَّة كُتُب في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ، سلسلة من الكُتُب الأخلاقية، التي كتبها مؤلِّفها سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، بأُسلوب واضح، تُمثِّل خُطُوات عملية لتنشئة جيل يتمحور سلوكه حول مرجعية القرآن الكريم وسُنَّة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) .

نسأل الله (عزوجلّ) أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف

من الأُمور الفطرية لدىٰ بني البشر هي: أنَّهم يسعون قَدْر إمكانهم إلىٰ الكمال، ولا تجد عاقلاً يُحِبُّ أنْ يكون في آخر الركب أو دون غيره، لذلك كان ولا زال الإنسان يبحث عمَّا يُكمِّل به ما وجد نفسه عليه من قَدَر النَّقْص، إذ رأىٰ أنَّه يبدأ حياته كأضعف ما يكون الموجود، حتَّىٰ إنَّه لا يستطيع أن يُغذّي نفسه ما لم يُعِنْه غيره، ولأيّام طوال، ثمّ وبمرور الأيّام وجد أنَّه يتكامل من حيث البدن، وأنَّ قدراته تطوَّرت كثيراً في استعمال أدوات بدنه، فأحسَّ بنوع من التكامل من هذا الجانب، فاستخرج المعادن، وأنشأ المصانع، وبنىٰ ناطحات السحاب، وكسىٰ بدنه بأنعم كساء، ووفَّر له أترف العيش.

وكان الإنسان قد التفت إلىٰ أنَّ تلك الحاجة المادّية تحتاج - حتَّىٰ تكتمل بصورة راقية - إلىٰ المعرفة، فأخذ بالتعلُّم والاكتساب مستفيداً ممَّا وهبه الله تعالىٰ له من أدوات للاستيراد والتحليل العلمي، قال تعالىٰ: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 78﴾ (النحل: 78).

وحتَّىٰ تكون حركته منهجية، فقد عمل علىٰ ضبط حركته الفكرية من خلال إنشاء المعاهد العلمية علىٰ اختلاف تخصُّصاتها وتدرُّجاتها.

إلَّا أنَّه رغم ذلك كلِّه، وجد أنَّ هناك جانباً آخر في كيانه هو الآخر

ص: 7

بحاجة إلىٰ رعاية وتكميل، ذلك الجانب هي روحه، فهي ما زالت متعطِّشة إلىٰ الكمال الوجودي.

فبَحَثَ - تنفيذاً لأوامر فطرته التي تدعوه إلىٰ التكامل - عن طُرُق ووسائل لإشباع تلك الحاجة وإرواء ذلك الظمأ، ولكنَّه أخفق في كثير من الأحيان، وتلكَّأ وتعثَّر، لأنَّه لم يستند إلىٰ ركن وثيق، فأخطأ الطريق، وزاغ عن الهدف، ولم تُمكِّنْه تجربته الشخصية من الوصول حيث الكمال، لذلك شرع في اللجوء إلىٰ مصدر معرفي منضبط، لا وِجهة له سوىٰ الكمال، فكان المعصوم - نبيًّا فرضناه أم إماماً - ممثِّلاً عن السماء، ليحطَّ المرء رحاله عنده، ويرتشف من معين كماله، ما يُنقِذه من الانحطاط، وما يرفعه عن أسفل سافلين.

وقد أخذت السماء علىٰ عاتقها - لطفاً بالعباد - أنْ تُبيِّن لهم أنجع الطُرُق وأخصرها للوصول إلىٰ الكمال، فرسمت منهجاً منضبطاً بعيداً عن المثاليات والخيالات، عبر الشرائع السماوية، لتكون مركبَ كمالٍ لمن يُحِبُّ التكامل.

هذه الأوراق - وهي الحلقة الثانية من سلسلة (لنكن لهم زيناً) - هي محاولة لتسليط الضوء علىٰ المنهج التكاملي للإنسان، من خلال استنطاق آيات الكتاب الحكيم، وكلمات المعصومين (علیهم السلام)، حيث سيتمُّ تتبُّع الآيات الكريمة والنصوص الحديثية في ما يتعلَّق بالتكامل والأفضلية عند الله تعالىٰ، لنجد في المحصَّلة أنَّ مسالك التكامل تتمثَّل في: (العلم، التقوىٰ، الإيمان، العمل الصالح، الجهاد)، وسيتمُّ بيانها من خلال تمهيد وخمسة فصول.

فهذه الخمسة هي مركب النجاح وسُلَّم الفلاح، وهي منهج عملي

ص: 8

منضبط يشمل جميع مناحي الحياة الحاضرة والمستقبلية، علىٰ مستوىٰ الشخص والأُمَّة.

هي خطوات عملية - لا نظرية - تأخذ بيد الإنسان نحو هدفه الأسمىٰ، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ 6﴾ (الإنشقاق: 6)، وقال تعالىٰ: ﴿وَأَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ 42﴾ (النجم: 42).

أسأل الله (عزوجلّ) أنْ يجعلها في خير وإلىٰ خير، وأنْ يتقبَّلها بقبوله الحسن، إنَّه وليُّ النِّعَم.

حسين عبد الرضا الأسدي

مكَّة المكرمة

عيد الغدير الأغرّ (1439ﻫ)

(30/ آب/ 2018م)

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾.

(الحجرات: 13)

﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11﴾.

(المجادلة: 11)

﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً 95﴾.

(النساء: 95)

* * *

ص: 11

ص: 12

الإهداء

إلىٰ من بلَّغه رسول الله (صلی الله علیه و آله) سلامه..

ووَسَمَه بباقر العلم..

إلىٰ صاحب النفس الأبيَّة..

والروح الشامخة..

إلىٰ من سَطَر العلم بأحرف من نور..

ونَشَره بأرقّ من شذا عُرف العود..

إلىٰ من رَسَمَ طريق التكامل، وكان في أعلاه..

ونَقَشَ علامات التفاضل، وكان هو زينَتَها..

إليك أنت يا باقر العلم..

من عبدك الرقّ..

فاقبله..

فأنتم أهل بيت لا تردُّون من مدَّ يده إليكم..

* * *

ص: 13

ص: 14

تمهيد

اشارة

ص: 15

ص: 16

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾ (الحجرات: 13).

نذكر هنا عدَّة تأسيسات تربوية يُؤسِّسها الإسلام، وهي التالي:

1 - الاعتماد على مسبِّب الأسباب

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ﴾.

خطاب عامٌّ لجميع الناس.

التفتوا، أيُّها البشر، أيُّها الناس، إنَّ الذي خلقكم ليس إلَّا الله تعالىٰ.

صحيح أنَّنا نُولَد ظاهراً من أبٍ وأمٍّ، وهما أساس وجودنا.

صحيح أنَّ الشجرة تنمو من أصل بذرة في أرض وماء وهواء.

صحيح أنَّ المطر ينزل من السحاب.

لكن كلَّ هذه الأُمور إنَّما هي أسباب ظاهرية، إنَّما كانت أسباباً بتخويل من مسبِّب الأسباب الخالق الحقيقي جلَّ وعلا.

وإلَّا، فقد تتوفَّر الأسباب الظاهرية ولا تحصل النتيجة المرجوَّة المتعارفة المعتادة!

فكم من رجل وامرأة سالمَين من كلِّ عيب وعاهة، ولكن لا يحصلون علىٰ وليد يملأ عليهم فراغ حياتهم!

ص: 17

وكم من بذرة تُزرَع في أرض وماء وهواء، ولكن لا نراها تشقُّ لحدها لتعانق الهواء!

وكم من سحابة تُرعِد وتُربِد، ولكن لا تجود علينا بقطرات غيث تسقي الأرض وتروي الحشاش!

وهذا إن دلَّ علىٰ شيء فإنَّما يدلُّ علىٰ أنَّ هذه الأُمور ما هي إلَّا أسباب ظاهرية، يوجد وراءها سبب حقيقي هو الذي يُعطيها الإذن بشقِّ طريقها الطبيعي، ذلك هو الله تعالىٰ.

قال عزَّ من قائل في محكم كتابه الكريم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ 63 أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 64 لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ 65 إِنَّا لَمُغْرَمُونَ 66 بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 67 أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ 68 أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ 69 لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ 70 أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ 71 أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ 72 نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ 73 فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ 74﴾ (الواقعة: 63 - 74).

وهذه الحقيقة كلُّها أشار لها قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ﴾.

وإذا علمنا هذه الحقيقة فينبغي علىٰ العاقل أن يهتمَّ ببناء علاقة وثيقة مع الإله الربِّ تعالىٰ شأنه، لأنَّه هو مسبِّب الأسباب، فلا بدَّ من الاعتماد عليه في كلِّ صغيرة وكبيرة.

وليُعلَم أنَّ الاعتماد علىٰ مسبِّب الأسباب يُعطي للمتوكِّل سيطرة وولاية وهيمنة علىٰ الأسباب الظاهرية، فرُبَّ سبب ظاهري لم يعمل في عبد متوكِّل علىٰ الباري تعالىٰ.

ص: 18

وما نار النمرود التي أُلقي فيها إبراهيم (علیه السلام) عنك ببعيد.

وهل تزوَّجت مريم لتلد عيسىٰ (علیه السلام) ؟!

أَوَلم يكن زكريا (علیه السلام) شيخاً كبيراً وزوجته عاقراً؟!

وهنا تنبيه:

المطلوب هو التوكُّل لا التواكل!

إنَّ التوكَّل يعني الاعتماد في تسبيب الأسباب علىٰ الله تعالىٰ، وعدم الاعتقاد بأنَّ غيره قادر بذاته علىٰ الرزق أو الإحياء أو قضاء الحوائج وما شابه، وهذا لا يمنع من أن يقوم الإنسان باستعمال الأسباب الظاهرية، كلَّا، بل هو دافع لذلك، علىٰ حدِّ ما روي من أنَّه جاء رجل إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، أُرسل ناقتي وأتوكَّل أو أعقلها وأتوكَّل؟ قال: «اعقلها وتوكَّل»(1).

فأنت عندما تطلب من شخص أن يقضي لك حاجتك، فلا بدَّ أن يكون في ذهنك أنَّه لولا أنَّ الله تعالىٰ قد هدىٰ قلبه إليك، ولولا أنَّ الله تعالىٰ قد جعل قضاء حاجتك عنده، لكان هو والجدار سواء!

وروي أنَّ جبرئيل قال لمَّا سأله النبيُّ (صلی الله علیه و آله) عن التوكُّل علىٰ الله تعالىٰ: «العلم بأنَّ المخلوق لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يُعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوىٰ الله، ولم يرجُ ولم يخف سوىٰ الله، ولم يطمع في أحد سوىٰ الله، فهذا هو التوكُّل»(2).

ص: 19


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 551).
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 260/ باب معنىٰ التوكُّل علىٰ الله (عزوجلّ) والصبر والقناعة والرضا والزهد والإخلاص واليقين/ ح 1).

وعن الفرق بين التوكُّل والتواكل، روي أنَّ الإمام عليًّا (علیه السلام) قال لقوم أصحّاء جالسين في زاوية المسجد: «من أنتم؟»، قالوا: نحن المتوكِّلون، قال (علیه السلام): «لا، بل أنتم المتأكِّلة، فإن كنتم متوكِّلين فما بلغ بكم توكُّلكم؟»، قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، قال (علیه السلام): «هكذا تفعل الكلاب عندنا!»، قالوا: فما نفعل؟ قال: «كما نفعل»، قالوا: كيف تفعل؟ قال (علیه السلام): «إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا»(1).

وروي عن عليِّ بن عبد العزيز، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما فعل عمر بن مسلم؟»، قلت: جُعلت فداك، أقبل علىٰ العبادة وترك التجارة، فقال: «ويحه أمَا علم أنَّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوة؟! إنَّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمَّا نزلت: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2 و3)، أغلقوا الأبواب وأقبلوا علىٰ العبادة وقالوا: قد كُفينا، فبلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم علىٰ ما صنعتم؟! قالوا: يا رسول الله، تكفَّل الله (عزوجلّ) بأرزاقنا، فأقبلنا علىٰ العبادة! فقال: إنَّه من فعل ذلك لم يستجب الله له، عليكم بالطلب، ثمّ قال: إنّي لأبغض الرجل فاغراً فاه إلىٰ ربِّه يقول: ارزقني، ويترك الطلب»(2).

2 - الوحدة النوعية للبشر

﴿إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ﴾.

مهما كثرت الاختلافات بين البشر، فإنَّ هناك ما يجمعهم.

ص: 20


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 220/ح 12798/20).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 192/ح 3721).

إنَّ القرآن الكريم يشير إلىٰ أنَّ الناس كلَّهم يرجعون إلىٰ جهة واحدة، هي أنَّهم كلَّهم لآدم، وآدم من تراب. وعليه فالناس كلُّهم متساوون من الجهة النوعية الإنسانيَّة، بل وكلُّهم يرجعون إلىٰ عنصر واحد هو التراب.

فكلُّ الناس يتَّحدون في الإنسانيَّة، وفي هذا دافع لبني البشر أن يتوحَّدوا جميعاً، وأن لا يرىٰ بعضهم نفسه أفضل من غيره، أو أرقىٰ، وبذا سيتَّضح بطلان مدَّعىٰ اليهود بأنَّهم شعب الله المختار، أو كما نقل عنهم القرآن الكريم: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارىٰ نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 18﴾ (المائدة: 18).

بل في هذا دافع أكيد لخصوص المسلمين أن يتوحَّدوا في دائرة الإسلام.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ القرآن الكريم يُؤكِّد علىٰ الوحدة النوعية للبشر، فإذا وُجِدَت دواعٍ أُخرىٰ للوحدة، فهذا يُمثِّل دافعاً أقوىٰ للتوحُّد، والمسلمون عندهم الدواعي الكثيرة التي تجعلهم وحدة واحدة، فمن ذلك وحدة شعائرهم الإسلاميَّة علىٰ نحو العموم، ومن ذلك وحدة الشأن الإسلامي، وغيرها كثير، ممَّا ستعرفه في مستقبل البحث إن شاء الله تعالىٰ.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ﴾ يشير إلىٰ جهة الوحدة بين أفراد النوع البشري.

هذا من جهة، ولكن من جهة أُخرىٰ تأتي الآية لبيان أمر واقعي آخر، وهو التالي:

ص: 21

3 - الاختلافات الواقعية بين البشر

﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ﴾.

هنا تشير الآية إلىٰ أنَّ الاختلافات التي وقعت بين البشر إنَّما هي بأُمور عرضية لا ذاتية، وذلك الاختلاف أخذ مستويات عديدة، أشار لها القرآن الكريم، ونحن شاهدناها وجداناً.

فمن ذلك: الاختلاف في الشعوب والقبائل، الذي أنتج الأبيض والأسود والأحمر.

ومن ذلك: الاختلاف في مجال الاقتصاد، الذي أنتج الخادم والمخدوم، والسيِّد والعبد، والغنيَّ والفقير، يقول تعالىٰ: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 32﴾ (الزخرف: 32).

ومن ذلك: الاختلاف بالألسنة والألوان، قال تعالىٰ: ﴿وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 22﴾ (الروم: 22).

وقد قيل: إنَّ اللغات الموجودة لدىٰ البشر تتراوح بين (4000) إلىٰ (5000) لغة!

ومن ذلك: الاختلاف في الانتماء الدِّيني والمذهبي، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 17﴾ (الحجّ: 17).

ومن ذلك: الاختلاف في بصمة الإبهام الأيسر، الذي استُفيد منه كثيراً في المباحث الجنائية.

ص: 22

إذن، رغم أنَّ البشر يرجعون إلىٰ أصل واحد هو أنَّهم بنو آدم وآدم من تراب، لكن توجد إلىٰ جانب ذلك الكثير من نقاط الاختلاف العرضية.

وهنا سؤال مهمٌّ: هل إنَّ هذا الاختلاف الذي جعله الله تعالىٰ أمراً واقعياً بين البشر هو مدعاة للتناحر والتنافر بينهم أم لأجل شيء آخر؟!

هذا ما ستجيب عنه النقطة التالية:

4 - كيفية توظيف الاختلافات بين البشر

﴿لِتَعارَفُوا﴾.

إنَّ القرآن الكريم يشير إلىٰ أنَّ الهدف من جعل ذلك الاختلاف علىٰ اختلاف أشكاله هو (التعارف)، أو بحسب تعبير أهل البيت (علیهم السلام): (التعايش).

فتلك الاختلافات مدعاة للتكامل بين أفراد البشر، وإذا أردت أن ترىٰ ذلك وجداناً فانظر إلىٰ نتائج الاختلافات، فانظر إلىٰ أنَّ الاختلاف في المستوىٰ العلمي، جعل بعض الناس عالمين، والبعض الآخر جاهلين، ممَّا يستدعي أنْ يتعلَّم الجاهل من العالم، فالمريض يرجع إلىٰ الطبيب، والجاهل إلىٰ العالم، وهكذا.

والاختلاف في المعيشة والاقتصاد، جعل البعض مزارعاً والآخر سائقاً وثالثاً بائعاً وهكذا. وقد قيل قبلاً:

الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ

بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ

والاختلاف في الألسنة جعل لكلِّ مجموعة من البشر لغتها الخاصَّة التي تتفاهم بها أفرادها.

ص: 23

فالاختلافات لا تدعو إلىٰ التناحر بقدر ما تدعو إلىٰ التعارف والتوافق، هكذا هو الإسلام.

ولذا تراه قد صهر في بوتقته الخلافات بين الأوس والخزرج وألَّف بين قلوبهم، وجعل الناس سواسية كأسنان المشط.

ثمّ إنَّ الإسلام عمل علىٰ أن يكون المسلمون وحدة واحدة، تجمعهم أُصولهم العقائدية المتَّفق عليها. فشعائرهم واحدة، وصلاتهم واحدة، وصومهم في شهر واحد، وقبلتهم واحدة، وحجُّهم لمكان واحد.

فالإسلام يدعو إلىٰ الوحدة.

روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «فإنَّهم [أي الناس] صنفان: إمَّا أخ لك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخلق»(1).

إذن الإسلام يُؤكِّد علىٰ مبدأ التعارف والتعايش، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنَّه قال: «صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر ملء مكيال: ثلثاه فطن، وثلث تغافل»(2).

وروىٰ زيد الشحّام عن الإمام جعفر بن محمّد (علیهما السلام) أنَّه قال: «يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلُّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمَّة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنَّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يُؤدِّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوء ما يُؤدِّب أصحابه»(3).

ص: 24


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 84).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 359).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 383/ ح 1128).

فهذا هو ما يدعو إليه الإسلام، وما هذا التناحر والتنافر الذي نراه بين أفراد البشر إلَّا أثر من آثار الابتعاد عن القرآن الكريم وتعاليمه القيِّمة، وهذا ما حكاه القرآن الكريم عن اليهود والنصارىٰ حيث يقول عزَّ من قائل: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارىٰ عَلىٰ شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلىٰ شَيْءٍ﴾، فهذا هو الاختلاف الحاصل بينهم. ولكنَّهم غفلوا عن أساس الوحدة بينهم: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ﴾، وهذه الحالة ليست خاصَّة باليهود والنصارىٰ، بل هي عامَّة لكلِّ أبناء الدِّين المختلفين: ﴿كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾، وحكم هؤلاء هو علىٰ الله تعالىٰ حيث إنَّه: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 113﴾ (البقرة: 113).

فهذه الآية لها مدلول تطبيقي واسع كما رأينا من متابعة مضمونها.

5 - التفاضل مبدأ واقعي

اشارة

بعد أن عرفنا التأسيسات السابقة، نصل إلىٰ نقطة جوهرية في البحث، وهي التالي:

هل الناس متساوون أم مختلفون؟

هل الناس علىٰ مستوىٰ واحد أم أنَّهم يختلفون؟

والجواب:

من الأُمور الفطرية لدىٰ الإنسان هو حُبُّ الكمال، فتجد كلَّ إنسان يُحِبُّ أن يكون كاملاً وأفضل من غيره. ومن الأُمور الوجدانية أنَّ الناس عموماً مختلفون فيما بينهم بأُمور أكثر من أنْ تُحصىٰ، وأنَّ مفهوم التفاضل بينهم يعمل عمله في علاقاتهم وصداقاتهم وكثير من مفردات حياتهم.

ص: 25

ولكن كيف يكون أحدنا أفضل من غيره؟

ما هي الأساسات التي يتفاضل بنو البشر وفقها بعضهم علىٰ البعض الآخر؟

لقد مرَّ مفهوم التفاضل بأدوار عديدة تبعاً لحضارات وثقافات بني البشر، فبعض الثقافات تقول: إنَّ أساس التفاضل هو كثرة الأموال وكثرة الأولاد: ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً 34﴾ (الكهف: 34).

وبعضها يذهب إلىٰ أنَّ الأساس هو الجاه والسلطة والتسلُّط، وبعضها يذهب إلىٰ النسب والحسب.

ولكن الإسلام يقول: إنَّ التفاضل يكون علىٰ أساس الحصول علىٰ ما من شأنه أنْ يساعد في الحصول علىٰ السعادة الأبدية عند الله تعالىٰ يوم المعاد، لا السعادة المؤقَّتة في الدنيا، إذ ﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 64﴾ (العنكبوت: 64).

وهناك، في عالم القيامة، لا تنفع الأُمور المذكورة أبداً، فأمَّا عن المال والأولاد فيقول تعالىٰ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَىٰ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 89﴾ (الشعراء: 88 و89).

وهناك لا فائدة من الأنساب، فيقول تعالىٰ: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101﴾ (المؤمنون: 101).

وهناك: ﴿فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ 33 يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ37﴾ (عبس: 33 - 37).

ص: 26

إذن، لا المال ولا الأولاد ولا العشيرة ولا أيُّ شيء آخر ينفع في يوم القيامة، ولا يتفاضل بهذا بعض علىٰ بعض.

إذن، بِمَ يتفاضل البعض علىٰ البعض؟!

الجواب:

أنَّ القرآن الكريم يذكر عدَّة موارد للتفاضل، بها يصبح أحدنا أفضل من غيره، وكلَّما اجتمعت عدَّة موارد في شخصٍ واحد كلَّما زاد كماله.

والتفاضل في الإسلام يكون بخمسة أشياء تُمثِّل ملاكات التفاضل فيه، وهي ما ذكرته الآيات التالية:

أوَّلاً: العلم، قال تعالىٰ: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11﴾ (المجادلة: 11).

ثانياً: التقوىٰ، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾ (الحجرات: 13).

ثالثاً: الإيمان، قال تعالىٰ: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11﴾ (المجادلة: 11).

رابعاً: العمل الصالح، قال تعالىٰ: ﴿وَسارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134 وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135 أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ 136﴾ (آل عمران: 133 - 136).

ص: 27

خامساً: الجهاد، قال تعالىٰ: ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً 95﴾ (النساء: 95).

وهناك قواعد خاصَّة بكلِّ واحدٍ من هذه الملاكات تأتي تباعاً إن شاء الله تعالىٰ.

وهنا عدَّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: التفاضل التكويني والتشريعي

إذا لاحظنا الموجودات، نجد أنَّها يتفاضل بعضها علىٰ بعض بأُمور تكوينية، كتفاضل الإنسان علىٰ الحيوان والحيوان علىٰ النبات والنبات علىٰ الحجر، وهذا التفاضل الذاتي قد أُعطي من الله تعالىٰ وفق مصالح خاصَّة، ولا دخل للإنسان في كونه إنساناً. وهذا وإن استلزم تفاضلاً معيَّناً، ولكنَّه لا يرفع من درجة الإنسان، لأنَّ كونه إنساناً جاء من الله تعالىٰ من دون جهد وعمل منه. ومن الخطأ أن يقيس المؤمن نفسه إلىٰ الحجر أو إلىٰ بهيمة ويقول: أنا أفضل منها، فإنَّ هذا ليس فعل العاقل، ولا دخل له في تكامل الإنسان الأخلاقي والوجودي.

وهناك تفاضل تشريعي، ينشأ من فعلٍ يقوم به الإنسان بإرادته، كالعلم والتقوىٰ والإيمان والجهاد، وهذا النوع من التفاضل هو الذي يستلزم الثواب والأفضلية ويستحقُّ به فاعله الحمد والثواب، وهو ما ينبغي أن يعمل المؤمن علىٰ تحصيله ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً.

ص: 28

الملاحظة الثانية

هناك من يريد إلغاء مبدأ التفاضل في الإسلام، باعتبار أنَّ الإنسان بمجرَّد أن يتشهَّد الشهادتين فلا بدَّ أنْ نحكم بوثاقته وصحَّة عقيدته وبتساويه مع جميع المسلمين في جميع المستويات، وبالتالي لا يجوز لنا أنْ نحكم سَلْباً علىٰ بعض التصرُّفات التي تصدر من بعض من تشهَّد الشهادتين بلسانه حتَّىٰ وإنْ كانت تلك التصرُّفات منافية لمبادئ الإسلام، بل وصريحة بارتكاب محذوراته.

ولكن القرآن الكريم يردُّ علىٰ من يريد أن يُؤسِّس لهذا الأمر، ويُؤكِّد علىٰ مبدأ التفاضل في الإسلام في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، فيقول عزَّ من قائل: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 10﴾ (الحديد: 10).

ويقول تعالىٰ: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9﴾ (الزمر: 9).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَما يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلاَ الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ 58﴾ (غافر: 58).

ويقول تعالىٰ: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 16﴾ (الرعد: 16).

ص: 29

الملاحظة الثالثة

إنَّ حصول المؤمن علىٰ أوسمة كمالية تزيد في كماله وتجعله من الأفضلين و الأكرمين، لا يستلزم تكبُّره علىٰ غيره من البشر، ولا يستلزم سيادته الدنيوية عليهم أو جعلهم تحت سلطته، كما يفعل أبناء الدنيا عندما يكونون في موقع الأفضل دنيوياً، وإنَّما تلك الملاكات التفاضلية تجعل من الإنسان كريماً عند الله تعالىٰ، ولا يتنافىٰ هذا مع إكرام الناس له واحترامه، لكن ليس من ذاتيات التفاضل في الإسلام هو ذلك، ولذلك نجد أنَّ الأنبياء (علیهم السلام) وهم يُمثِّلون الخطَّ الأوَّل للكمال الوجودي، قد أُوذوا كثيراً من أقوامهم، وفي نفس الوقت تجدهم علىٰ مستوىٰ عالٍ من التواضع واحترام الآخرين، فهذا نبيُّنا الأكرم (صلی الله علیه و آله) كان من سيرته أنَّه كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان (صلی الله علیه و آله) يأكل علىٰ الحضيض وينام علىٰ الحضيض(1)(2). وأنَّه ما كان (صلی الله علیه و آله) يأكل متَّكئاً علىٰ يمينه ولا علىٰ يساره، ولكن كان يجلس جلسة العبد تواضعاً لله (عزوجلّ) (3). وأنَّه كان (صلی الله علیه و آله) يكره أنْ يتشبَّه بالملوك(4).

ولذلك أمرنا دينُنا باحترام الجميع. أمَّا من هم أكبر سنًّا منّا، فلأنَّهم أكثر خدمةً منّا للدِّين وأكثر طاعةً لله تعالىٰ. وأمَّا من هم أصغر منّا، فلأنَّهم أقلّ ذنوباً منّا. وأمَّا الذين بأعمارنا، فلأنَّنا نعلم بذنوبنا ولا نعلم بذنوبهم!

ص: 30


1- الحضيض هو قرار الأرض.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 271 و272/ باب الأكل متَّكئاً/ ح 6).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 271 و272/ باب الأكل متَّكئاً/ ح 7).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 271 و272/ باب الأكل متَّكئاً/ ح 8).

يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «النَّاسُ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1).

وروي أنَّ الله سبحانه أوحىٰ إلىٰ موسىٰ (علیه السلام): إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسىٰ لا يعترض أحداً إلَّا وهو لا يجسر أن يقول: إنّي خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتَّىٰ مرَّ بكلب أجرب فقال: أصحب هذا، فجعل في عنقه حبلاً، ثمّ جرَّ به، فلمَّا كان في بعض الطريق شمَّر الكلب من الحبل وأرسله، فلمَّا جاء إلىٰ مناجاة الربِّ سبحانه قال: يا موسىٰ، أين ما أمرتك به؟ قال: يا ربِّ، لم أجده. فقال الله تعالىٰ: وعزَّتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوَّة(2).

وهذا يُنتج التالي:

أنَّ الأساسات التي يذكرها القرآن الكريم للتفاضل مبتنية علىٰ نظرة القرآن الكريم الواقعية للحياة وللإنسان، التي تعتبر أنَّ السعادة الحقيقية والفوز الحقيقي إنَّما هو بلحاظ عالم الآخرة، كما يقول تعالىٰ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ 185﴾ (آل عمران: 185).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 64﴾ (العنكبوت: 64).

وعليه، فلا يغفل أحد ويعترض بقوله: إنَّنا نرىٰ أنَّ الكثير ممَّن

ص: 31


1- انظر: نهج البلاغة (ص 427/ ح 53).
2- عدَّة الداعي (ص 204).

حصل علىٰ بعض تلك الأساسات يتجرَّع الأمرَّين في الدنيا، فإنَّ جواب هذا بات واضحاً إن شاء الله تعالىٰ.

والحاصل:

أنَّ بني البشر، في الوقت الذي اتَّحدوا في أصل واحد رجعوا إليه، قد تفاضلوا فيما بعد بأُمور مختلفة، بعضها من نسج الخيال، وبعضها أُمور واقعية، والإسلام له نظريته الخاصَّة في التفاضل، عرفنا أنَّ أساساتها خمسة (العلم، الإيمان، العمل الصالح، التقوىٰ، الجهاد)، وسيكون البحث الآن في تلك الأساسات للتفاضل، وما يتفرَّع عليها من أدبيات وتربويات، ضمن فصول خمسة، نسأل الله (عزوجلّ) أن يُوفِّقنا لمراضيه، ويُجنِّبنا معاصيه.

* * *

ص: 32

الفصل الأوَّل: التفاضل بالعلم

اشارة

ص: 33

ص: 34

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11﴾ (المجادلة: 11).

في البداية أُشير إلىٰ نقطتين مهمَّتين:

النقطة الأولى

هذه الحياة، مثل بناءٍ يرتفع إلىٰ ما لا نهاية، فكلُّ حجر فيه لا بدَّ من أن يكون فوقه حجر وتحته حجر آخر، ومن هنا، فإنَّ فوق كلِّ مرؤوس رئيساً، كما أنَّ فوق كلِّ رئيس من هو أعلىٰ منه...(1).

فهل تريد أن تبقىٰ حجراً في أدنىٰ البناء! لا ينظر إليه إلَّا قصار القامة! أم تريد أن تصعد علىٰ القمَّة، لينظر لك كلُّ طويل الباع، ويتمنّىٰ الوصول إليك كلُّ من له همَّة؟!

لا أعتقد أنَّك تريد الاحتمال الأوَّل، بل حتماً ستختار الاحتمال الثاني، وحينها نقول:

هل تتوقَّع أن تصل إلىٰ القمَّة وأنت تمشي علىٰ حدائق الورود! وتلعق من العسل المصفّىٰ، وتُصفِّق لك الجماهير! وأنت مع ذلك كلِّه متَّكئ علىٰ أريكة من ريش النعام أو فرو السنجاب! ويأتيك رزقك من فوق رأسك ومن تحت قدميك؟!

ص: 35


1- واجه عوامل السقوط لهادي المدرِّسي (ص 115).

كلَّا وألف كلَّا، فلا بدَّ قبل الوصول إلىٰ العسل والشهد من إبر النحل، فليس المجد تمراً أنت آكله! بل لا بدَّ له من ضريبة قاسية، تتطلَّب منك الجهد الجهيد والعمل الدؤوب.

ولكن يبقىٰ الإنسان طموحاً، وعجولاً، ويتمنّىٰ أنْ يطفر مرَّةً واحدة إلىٰ القمَّة، وإنْ كان ولا بدَّ، فلا بدَّ من وسيلة سريعة جدًّا كلمح البصر أو هو أقرب، فما هي تلك الوسيلة؟!

إنَّ أسرع مراكب النجاح هو مركب العلم والمعرفة، وبه يتفاضل المؤمنون بعضهم علىٰ البعض الآخر.

إنَّك لا تجد ناجحاً في الدنيا إلَّا وتجد في جعبته المعرفة التامَّة، بما يريد أنْ يصل إليه وكلِّ ما يتعلَّق بهدفه. وإلَّا، فمن دون العلم يبقىٰ المرء يتخبَّط خبط عشواء.

وما ألطف ما قيل: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم).

لقد طالب النبيُّ يوسف (عليه وعلىٰ نبيِّنا وآله السلام) أن يكون مسؤولاً عن المالية لأنَّه أعلم من غيره، فقال لعزيز مصر: ﴿اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 55﴾ (يوسف: 55).

وكان من أهمّ مميِّزات (طالوت) التي جعلته مَلِكاً علىٰ بني إسرائيل هو العلم: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 247﴾ (البقرة: 247).

وقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قلب ليس فيه شيء من الحكمة

ص: 36

كبيت خرب، فتعلَّموا وعلِّموا، وتفقَّهوا ولا تموتوا جُهّالاً، فإنَّ الله لا يعذر علىٰ الجهل»(1).

النقطة الثانية

تُمثِّل الحياة الدنيا بما فيها من فُرَص محدودة، ورغبات أكثر بكثير من الفُّرَص المتاحة، مضمارَ سباق وتنافس مستمرٍّ، لا يهدأ فيه العاقل دون أن يحوز قصب السبق قبل غيره، بطُرُق إنسانية مشروعة - كما هو المفترض -.

وخلال هذا المضمار، يكتشف المرء كلَّ يوم سرًّا من أسرارها، يجعله يعي حقيقتها أكثر، الأمر الذي يعني أنَّ تغيير التصوُّرات، ثمّ القناعات سيستمرُّ باستمرار استهداف الإنسان لهدف معيَّن، وبالتالي، فإنَّ السلوك المتوقَّع سيتلوَّن بلون التصوُّرات والقناعات باستمرار، وهذا واقع معاش.

إنَّ من بين أهمّ أهداف الإنسان، بل هو هدف فطري لديه، هو هدف (تتميم المعرفة) أو (طرد الجهل)، ذلك الهدف الذي يحكيه الفضول العلمي لديه، وشوقه الحارق لمعرفة ما يجهل، ولو لم يكن يعنيه.

وهو هدف له مراتب طولية كثيرة بل غير متناهية، وتتحدَّد تلك المراتب حسب الجهد المبذول والغاية المستهدفة.

ولأنَّ العلم موجود منهجي، فقد أبىٰ عن العشوائية، وتنفَّر عن الترويض إلَّا بمنهج موضوعي واقعي، وحيث أدرك الإنسان هذه الحقيقة، فقد بادر إلىٰ تأسيس المعاهد والجامعات والدور العلمية، لتعمل علىٰ ضبط العلوم منهجياً.

ص: 37


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 10/ ص 147/ ح 28750).

ولذلك برزت ظاهرة التخصُّص العلمي، لتضفي انضباطاً في طلب العلم.

أمام هذا الواقع، أُلفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: حيث إنَّ العلم موجود تراكمي غير متناهي، الأمر الذي يحكيه قوله تعالىٰ: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 76﴾ (يوسف: 76)، فمن الخطأ إذن أن يرضىٰ طالب العلم بالحالة العلمية التي هو فيها، بل عليه أن يكون أكثر شيءٍ طمعاً في تحصيل مزيد من العلم والمعرفة ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً.

وفي اللحظة التي يرىٰ الفرد فيها نفسه قد وصل من العلم غايته، فإنَّه في الحقيقة بدأ بجهل مظلم، وفيه انتكس.

فحيث إنَّ للعلم مراتبَ غيرَ متناهية، فستجد دوماً من هو أعلم منك، فمن الخطأ إذن أن يغترَّ أحدنا بما عنده من معرفة، أو بما حصده من شهاداتِ نجاح، أو بما كتبه من بحوث ومقالات وكُتُب.

ثانياً: أنَّ العلم يُمثِّل حلقة من حلقات سلسلة الأهداف الواقعية التي يلزم علىٰ المؤمن السعي لتحقيقها، ولكنَّه لوحده غير كافٍ للوصول إلىٰ السعادة الحقيقية الواقعية، فنحن إلىٰ جنب العلم نحتاج إلىٰ:

1 - ورعٍ يحجزنا عن محارم الله تعالىٰ، لئلَّا يكون العلم حجَّة علينا أمام الله تعالىٰ.

2 - ضبطٍ منهجي وتخصُّصٍ معرفي، بالرجوع إلىٰ النُّخَب العلمية والمتخصِّصين فيه، ليكون تحصيلنا للعلم منضبطاً.

3 - توسُّلٍ بالله تعالىٰ أن يجعل ما نُحصِّله من العلم طريقاً كاشفاً لنا يوصلنا إلىٰ رضاه والجنَّة، وتنبع الحاجة إلىٰ التوسُّل به جلَّ وعلا في هذا الشأن من أنَّ العلم سلاح ذو حدَّين، والحُرُّ تكفيه إشارة.

ص: 38

ثالثاً: أنَّ العلم، في الوقت الذي هو فضيلة، هو مسؤولية يتحمَّلها كلُّ من سار في طريق تحصيله، ومسؤوليته تتضمَّن التالي:

1 - إنَّ العلم يستلزم التواضع، وفي اللحظة التي يحسُّ فيها أحد طالبي المعرفة بالتكبُّر والغرور، فعليه حينها أن يتوقَّف، ويتأمَّل، وينظر في أعماق نفسه، فإنَّ الغرور بالعلم مقتل للعالِم.

2 - ليس للعلم قدرة علىٰ حماية نفسه ولا علىٰ تسويقها، ممَّا يعني أنَّ مهمَّة حمايته وتسويقه قد أُلقيت علىٰ من حصل علىٰ شيء منه، وتتعاظم هذه المسؤولية طردياً مع زيادة اكتساب العلوم.

لاحظوا: أنَّ واقعنا اليوم برز فيه صراعان: صراعُ القدرة، وصراعُ المعرفة، ونحن نلاحظ بأُمِّ العين أنَّ الغلبة للقدرة، إذ العلم لوحده غير قادر علىٰ حماية نفسه رغم أهمّيته، بل هو محتاج إلىٰ قدرة تحميه، وكلُّ طالب علم قد أُلقي عليه جزءٌ من هذه المهمَّة الخطرة.

3 - حيث إنَّ العلم موجود تكاملي، فهو رهن التطوُّر والتقدُّم، وهو لوحده موجود صامت لولا الطالب له والناطق به، هذا يعني أنَّ مسؤولية تطوير العلم قد أُلقيت أيضاً علىٰ كلِّ من حصل علىٰ جزء منه، وهذه المسؤولية تقتضي مزيداً من بذل الجهد والوقت، بل والمال. وتقتضي أيضاً التضحية بالكثير من الراحة والدعة والحياة المخملية.

فعلينا أن لا نرضىٰ بالحالة التي نحن فيها علمياً، وأن نسعىٰ للكثير الكثير من العلم والمعرفة، إلىٰ جنب التواضع والورع.

علينا ونحن نسعىٰ لتحصيل العلم أن نتذكَّر قول الشاعر:

ولا بدَّ أنْ أسعىٰ لأشرفِ رتبةٍ *** وأمنعَ عن عيني لذيذَ منامي

وأقتحمَ الخطبَ المهولَ بحيث أن *** أرىٰ الموتَ خلفي تارةً وأمامي

ص: 39

فأمَّا مقاماً يضربُ المجدُ دونه *** سرادقَه أو ناعياً لحمامي

إذا أنا لم أبلغْ مقاماً أرومه *** فكم حسراتٍ في نفوس كرامِ

حدود طلب العلم

اشارة

تقدَّمت الإشارة إلىٰ أنَّ العلم مركب النجاح والأفضلية، والسؤال المهمُّ هنا هو:

كيف أحصل علىٰ العلم؟ وكيف أستفيد منه؟

هنا عدَّة حدود لا بدَّ من مراعاتها والالتزام بها، حتَّىٰ يُؤتي العلم ثمرته:

الحدُّ الأوَّل: معرفة فضل العلم

(أنَّ المعقولات تنقسم إلىٰ موجودة ومعدومة. والعقول السليمة تشهد بأنَّ الموجود أشرف من المعدوم، بل لا شرف للمعدوم أصلاً. ثمّ الموجود ينقسم إلىٰ جمادٍ ونامٍ، والنامي أشرف من الجماد. ثمّ النامي ينقسم إلىٰ حسّاس وغيره، والحسّاس أشرف من غيره. ثمّ الحسّاس ينقسم إلىٰ عاقل وغير عاقل، ولا شكَّ أنَّ العاقل أشرف من غيره. ثمّ العاقل ينقسم إلىٰ عالم وجاهل، ولا شبهة في أنَّ العالم أشرف من الجاهل. فتبيَّن بذلك أنَّ العالم أشرف المعقولات والموجودات، وهذا أمر يلحق بالواضحات...)(1).

ولذا روي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إذا أتىٰ عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يُقرِّبني إلىٰ الله تعالىٰ، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم»(2).

ص: 40


1- منية المريد للشهيد الثاني (ص 126و127).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 10/ ص 136/ ح 28687).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «فضل العالم علىٰ العابد بسبعين درجة، بين كلِّ درجتين حضر الفرس سبعين عاماً، وذلك أنَّ الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهىٰ عنها، والعابد مقبل علىٰ عبادته لا يتوجَّه لها ولا يعرفها»(1).

الحدُّ الثاني: تعلَّمْ أوَّلاً ما يهمُّك

هل تعلم كم عدد المسائل الفقهية مثلاً؟ ولكن هل يتوجَّب عليك أن تتعلَّمها كلَّها؟ كلَّا، يجب عليك أن تتعلَّم المسائل الابتلائية منها.

وهكذا في حياتك الاجتماعية أو التجارية أو العلمية، فإذا كنت مهندساً لم يتوجَّب عليك أنْ تصرف عمرك الثمين ووقتك الأغلىٰ في طلب الآثار أو الفلك، فإنَّ هذا يُؤدّي إلىٰ تشتيت الفكر وهدر الطاقة وقلَّة - إن لم نقل انعدام - الفائدة.

ولعلَّ هذا هو مقصود بعض الأحاديث التي تحثُّ علىٰ الفكر والتفكُّر في العلم حتَّىٰ تثمر شجرته، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أكثر الفكر فيما تعلَّم، أتقن علمه، وفهم ما لم يكن يفهم»(2).

الحدُّ الثالث: المثابرة علىٰ التعلُّم

إنَّ العلم كالسمكة، ما أن تظنَّ أنَّك أمسكتها وظفرت بها، حتَّىٰ تنساب بين يديك سريعة تغور في أعماق المياه. تذهب ولا ترجع.

كلُّ صيد لا بدَّ له من شباك محكمة، تغلق علىٰ فريستها طُرُق الهروب بإحكام، فلا تستطيع بعد ذلك هرباً.

وهكذا العلم، وليس هناك ما ينفع في العلم إفادةً واستفادةً من المثابرة عليه.

ص: 41


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 12).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 435).

يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «علىٰ المتعلِّم أن يُدئِب نفسه في طلب العلم، ولا يملَّ من تعلُّمه، ولا يستكثر ما علم»(1).

الحدُّ الرابع: ارجع إلىٰ مصادر العلم

للعلم عدَّة مصادر، أهمُّها:

أ - الدِّين: من كُتُب سماوية وتعاليم الأنبياء والمعصومين (علیهم السلام)، وهي مثل قواعد جاهزة للوعي، تنفع دنيا الناس وآخرتهم.

ب - التجارب والخبرات: هذه الخبرات المتجمِّعة علىٰ شكل كُتُب في المكتبات، أو قَصص في صدور الكبار، لهي من أهمّ مصادر المعرفة، وفي ذاك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الحسن (علیه السلام): «أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَىٰ إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَه مِنْ ضَرَرِه، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه»(2).

ج - الأبحاث: فالعالم يعمل في حقل العلم علىٰ جمع وتصنيف وتنظيم حقائق يتمُّ الكشف عنها يوماً بعد يوم، والمطلوب منك أن تكون علىٰ برج المراقبة، تنتظر أيَّ بحث يخرج إلىٰ عالم النور، لتسرع بكلِّ ما عندك لتضيفه إلىٰ مصادرك المعرفية.

الحدُّ الخامس: استعن بغيرك

قيل: إنَّ التملُّق لا يجوز إلَّا في حالين: حال التضرُّع إلىٰ الله تعالىٰ، وحال طلب العلم.

ص: 42


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 328).
2- نهج البلاغة (ج 3/ ص 41).

فإذا رأيت من نفسك نقصاً في علم، فلا تتردَّد في الذهاب إلىٰ المؤسَّسة العلمية أو الشخص العالم، ممَّن تثق بهم ليعطوك - ولو بالتملُّق لهم - ما يُكمِّل نقصك.

وليكن طلبك للعلم كطلب كميل بن زياد، حيث إنَّه الوحيد ممَّن سمعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) يتحدَّث عن دعاءٍ للخضر مفيد، فلم يسأله أحد عنه، إلَّا كميل، فإنَّه ذهب إلىٰ بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) وطرقه وسأله عن ذلك الدعاء، فعلَّمه له الأمير (علیه السلام)، وكانت ثمرة ذلك أنَّ الدعاء ترك اسم الخضر، وصار دعاء كميل بن زياد(1)!

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «اطلب العلم، تزدد علماً»(2).

طبعاً هذا لا يعني أن تأخذ العلم من أيٍّ كان، بل لا بدَّ أن تأخذه ممَّن يُمثِّلون المصادر العلمية تمثيلاً واقعياً حقًّا. والحُرُّ تكفيه إشارة.

ص: 43


1- في كتاب إقبال الأعمال للسيِّد ابن طاووس (ج 3/ ص 331): قال كميل بن زياد: كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين (علیه السلام) في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: ما معنىٰ قول الله (عزوجلّ): ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 4﴾ [الدخان: 4]؟ قال (علیه السلام): «ليلة النصف من شعبان، والذي نفس عليٍّ بيده إنَّه ما من عبد إلَّا وجميع ما يجري عليه من خير وشرٍّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلىٰ آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبد يُحييها ويدعو بدعاء الخضر (علیه السلام) إلَّا أُجيب له»، فلمَّا انصرف طرقته ليلاً، فقال (علیه السلام): «ما جاء بك يا كميل؟»، قلت: يا أمير المؤمنين، دعاء الخضر، فقال: «اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء، فادع به كلَّ ليلة جمعة أو في الشهر مرَّة أو في السنة مرَّة أو في عمرك مرَّة، تُكْفَ وتُنصَر وتُرزَق، ولن تُعدَم المغفرة. يا كميل، أوجبَ لك طولُ الصحبة لنا أنْ نجود لك بما سألتَ»، ثمّ قال: «اكتب: اللّهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء...».
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 83).

الحدُّ السادس: اعمل بعلمك

كم من الناس يعلمون أنَّ الجهل ظلام، ولكنَّهم أغمضوا عيونهم عن نور العلم ليبقوا في ظلمة الجهل؟!

وكم يا تُرىٰ من الناس يعلم أنَّ ترك العمل بالعلم يعني الجهل بوجهٍ آخر، بل الجهل أهون من ترك العمل بالعلم؟!

وإذا كنت لا تعلم ذلك، فأعرني أُذُنيك قليلاً، وافتح قلبك قبل عينيك واستمع لأمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول: «لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكًّا، إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقَّنتم فأقدموا»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «علمٌ لا يُصلِحك ضلال، ومال لا ينفعك وبال»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كلُّ علم وبال علىٰ صاحبه يوم القيامة إلَّا من عمل به»(3).

الحدُّ السابع: اطلب التوفيق من الله تعالىٰ

فكم طالب للعلم قد رجع من طلبه بخُفَّي حُنين! وكم من باذل نفسه وماله من أجل العلم وما حصل علىٰ قبس قليل منه! فليس العلم ببذل الجهد فقط، وليس العلم بالحصول علىٰ الشهادات التقديرية وأوسمة الشرف، إنَّما العلم كلُّ العلم ما وفَّق الله تعالىٰ له، يقول الإمام

ص: 44


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 67)، وجاء في الهامش: من لم يظهر أثر علمه في عمله فكأنَّه جاهل وعلمه لم يزد علىٰ الجهل، ومن لم يظهر أثر يقينه في عزيمته وفعله فكأنَّه شاكٌّ متردِّد، إذ لو صحَّ اليقين ما مرض العزم.
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 339).
3- منية المريد للشهيد الثاني (ص 135).

الصادق (علیه السلام): «ليس العلم بالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالىٰ أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوَّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يُفهِمك»(1).

الحدُّ الثامن: إنَّ العلم وسيلة لا هدف

اشارة

إنَّ العلم يُمثِّل الخطوة الأُولىٰ في التعامل مع الواقع الخارجي، فهو وسيلة كشف الواقع، التي من خلالها نطرد الجهل عن أنفسنا، وهذا أمر اتَّفق عليه الجميع.

وللعلم دور مهمٌّ في تشذيب السلوك وتعديله، إذ إنَّ كثيراً من سلوكياتنا سيكون مصيرها الإرباك وعدم الانضباط إذا لم يتمّ تحديدها بالعلم والمعرفة.

ولا شكَّ أنَّ للعلم فضيلة عظيمة، يحكي عنها الواقع المعاش، فالعاقل ينظر إلىٰ العالم في أيِّ اختصاص من اختصاصات الحياة بتبجيل واحترام، ولا نصيب للجاهل منهما من هذه الجهة، فالعلم - كما قالوا - نور، والجهل ظلام.

وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «قلبٌ ليس فيه شيءٌ من الحكمة كبيت خرب، فتعلَّموا وعلِّموا وتفقَّهوا ولا تموتوا جُهّالاً، فإنَّ الله لا يعذر علىٰ الجهل»(2).

إنَّ فضيلة العلم تكمن في طريقيته وكونه وسيلة للكشف عن الواقع، فإذا طُلِبَ العلم لغير هذا الهدف، كان وبالاً علىٰ صاحبه، كمن

ص: 45


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 562 - 565)، عنه بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 1/ ص 224/ ح 17).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 10/ ص 147/ ح 28750).

يطلب تعلُّم السحر والشعوذة، وكمن يطلب العلم لا لشيء سوىٰ التباهي به أمام الناس.

وإنَّ كونه وسيلة يعني أنَّه مطلوب لغيره، بمعنىٰ أنَّك تتعلَّم من أجل شيء آخر، فما هو الشيء الآخر الذي تطلبه من أجله؟

قد يطلبه البعض ليباهي به الناس، وهذا سيُؤدّي به إلىٰ أنْ يتكبَّر علىٰ الناس، ولا يُظهِر من علمه إلَّا بالمقدار الذي يخدم هدفه في مباهاة الناس والتكبُّر عليهم.

وقد يطلبه البعض لا لشيء إلَّا لملئ ذهنه بالمعلومات، من دون أنْ يعمل بشيء منها، ومن دون أن يعمل علىٰ نشر علمه لغيره، وهذا سيكون أشبه بخزانة فيها مجموعة من الكُتُب، أو كما عبَّر القرآن الكريم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 5﴾ (الجمعة: 5).

فهذه كناية عن أنَّهم رغم معرفتهم بالحقيقة، إلَّا أنَّهم لم يعملوا بمضمونها، فصاروا كما وصفهم القرآن الكريم.

قد يطلبه البعض لهدف جيِّد، ولكنَّه يبخل بنشره، فلا يُعلِّم غيره، حتَّىٰ إذا طُلِبَ منه، أو حتَّىٰ إذا رأىٰ طالباً للعلم، وهذا سيكون كدودة القزِّ، التي تلفُّ حول نفسها خيوطاً غالية الثمن، ولكنَّها لا تستفيد منها، بل ستكون وبالاً عليها في يوم من الأيّام.

روي أنَّه قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام): «ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم، حتَّىٰ أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجُهّال، لأنَّ العلم كان قبل الجهل»(1).

ص: 46


1- أمالي الشيخ المفيد (ص 66/ المجلس السابع/ ح 12).

إنَّ العلم النافع للإنسان، في دنياه وآخرته، وما سيكون سبباً مهمًّا من أسباب تزكية النفس وتعديل السلوك وتنمية الفضائل، هو العلم المقرون بالتالي:

أوَّلاً: العمل بمقتضىٰ العلم

فإذا علمت بمسألة فقهية، فعليك أن تُطبِّقها، ولا تتغافل عنها في مقام العمل، وإذا دعاك العلم إلىٰ فضيلة، فعليك أن تباشر بممارستها، ولا تتركها نظرية قابعة في الذهن.

روي أنَّه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كلُّ علم وبالٌ علىٰ صاحبه، إلَّا من عمل به»(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة، عالم لم ينفعه علمه»(2).

ثانياً: نشره

فإنَّه يزكو ويزيد علىٰ النشر، وهذا أحد الفوارق المهمَّة بين العلم والمال، فإنَّ المال ينقص مع البذل، وأمَّا العلم فإنَّه ينمو مع العطاء والنشر.

ثالثاً: إحاطته بالتقوىٰ

فإنَّ العلم سلاح ذو حدَّين، وإذا لم يتمّ تحديده بسور التقوىٰ وحصن الإيمان، فإنَّه من الممكن أن يتحوَّل إلىٰ سبب من أسباب هلاك العالم، فإبليس لم يكن يعوزه العلم ولا تنقصه المعرفة، إلَّا أنَّه لم يعمل بمقتضىٰ علمه، بل انسلخ منه وتكبَّر، فكان عاقبته ما نعلم.

لو كان للعلم من غير التقىٰ شرفٌ

لكان أشرفَ كلِّ الناس إبليسُ

رابعاً: تحمُّل مسؤوليته

كما أنَّ العلم يُعطي لصاحبه فضلاً علىٰ الناس واحتراماً بينهم، هو

ص: 47


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 38).
2- المصدر السابق.

يفرض عليه مسؤولية عظيمة جدًّا، يكفي أنَّ من مسؤوليته أنَّه يترتَّب عليه الحساب الدقيق، فليحذر من يسير في طريق طلب العلم، إلَّا إذا أجهد نفسه بالعمل والتقوىٰ.

روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد»(1).

خامساً: طلبه من الله تعالىٰ

إنَّ كلَّ ما في هذا الكون خاضع لإرادة الله تعالىٰ ومشيئته، وإنَّك لن تستطيع الحصول علىٰ شيء ما لم يُيسِّره لك ربُّ العزَّة والجلال، فإحساسك بالفقر الوجودي في ذاتك وصفاتك وأفعالك، وتمثُّلك الفقرَ للغنيِّ الحميد، سيكون من دواعي وأسباب ترشيحك لتحمُّل علم من العلوم الإلهيَّة، فالتقوىٰ، والدعاء، طريقان مهمّان جدًّا لتحصيل العلم كأهمّية الطلب. فهنا ثلاثة طُرُق لتحصيل العلم:

الأوَّل: التقوىٰ، قال تعالىٰ: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 282﴾ (البقرة: 282).

الثاني: الدعاء، قال تعالىٰ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 114﴾ (طه: 114).

ثالثاً: الطلب والجدّ، فقد روي عن الإمام السجّاد (علیه السلام): «حقُّ العلم أنْ تفرغ له قلبك وتحضر ذهنك وتذكر له سمعك وتشتحذ(2) له فطنتك، بستر اللذّات ورفض الشهوات»(3).

ص: 48


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 47/ باب لزوم الحجَّة علىٰ العالم وتشديد الأمر عليه/ ح 1).
2- شحذت الحديدة: حددتها.
3- شرح إحقاق الحقِّ للسيِّد المرعشي (ج 12/ ص 117).

ونختم هذا الأساس بوصيَّة الإمام الصادق (علیه السلام) عندما قال له عنوان البصري: يا أبا عبد الله أوصني، فقال (علیه السلام): «أُوصيك بتسعة أشياء، فإنَّها وصيَّتي لمريدي الطريق إلىٰ الله (عزوجلّ)، والله أسأل أنْ يُوفِّقك لاستعماله: ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها»، قال عنوان: ففرغت قلبي له، فقال:

«أمَّا اللواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنَّه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلَّا عند الجوع، وإذا أكلت فكُلْ حلالاً وسمِّ الله، واذكر حديث الرسول (صلی الله علیه و آله): ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه، فإن كان لا بدَّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

أمَّا اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إنْ قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إنْ قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل: إنْ كنت صادقاً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لي، وإنْ كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لك، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنصيحة والدعاء.

وأمَّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً...»(1).

* * *

ص: 49


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

ص: 50

الفصل الثاني: التفاضل بالتقوى

اشارة

ص: 51

ص: 52

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾ (الحجرات: 13).

محورية التقوى في طريق التكامل

كثيراً ما نسمع عن أهمّية التقوىٰ في طريق التكامل، وكثيراً ما يُؤكِّد القرآن الكريم والروايات الشريفة علىٰ آثارها الجليلة، فإنَّ من يتدبَّر في آيات القرآن الكريم، يجد أنَّه تعالىٰ قد جعل للتقوىٰ الكثير من الثمرات المهمَّة إسلاميًّا، علىٰ مستوىٰ الدنيا وعلىٰ مستوىٰ الآخرة، وهكذا الحال في الروايات.

أمَّا عن المستوىٰ الدنيوي، فالتقوىٰ هي مفتاح الخيرات والبركات، يقول تعالىٰ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 96﴾ (الأعراف: 96).

وهي مفتاح العلوم، يقول تعالىٰ: ﴿... وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 282﴾ (البقرة: 282).

وهي أشرف لباس بني آدم، يقول تعالىٰ: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوىٰ ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26﴾ (الأعراف: 26).

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال في قوله تعالىٰ: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ

ص: 53

لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً﴾: «فأمَّا اللباس فالثياب التي يلبسون، وأمَّا الرياش فالمتاع والمال، وأمَّا لباس التقوىٰ فالعفاف، إنَّ العفيف لا تبدو له عورة، وإنْ كان عارياً من الثياب، والفاجر بادي العورة وإنْ كان كاسياً من الثياب، يقول الله: ﴿وَلِباسُ التَّقْوىٰ ذلِكَ خَيْرٌ﴾، يقول: العفاف خير، ﴿ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26﴾»(1).

وهي السبيل إلىٰ الفلاح والنجاح والرزق الحلال، قال تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً 3﴾ (الطلاق: 2 و3).

وهي من أهمّ مسقطات الذنوب، يقول تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً 5﴾ (الطلاق: 5).

وهي مفتاح الهداية وفرقان الحقِّ عن الباطل، يقول تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29﴾ (الأنفال: 29).

وأخيراً - وليس آخراً - هي محور قبول الأعمال، يقول تعالىٰ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27﴾ (المائدة: 27).

وأمَّا عن مستوىٰ الآخرة، فالتقوىٰ هي ما ينال بها الإنسان الجنَّة، يقول تعالىٰ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ 31﴾ (النحل: 31).

ص: 54


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 226).

ولطالما أكَّد القرآن علىٰ أنَّ العاقبة للمتَّقين، يقول تعالىٰ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83﴾ (القَصص: 83).

والتقوىٰ هي سبب رئيسي لأنْ ينال الإنسان البشارة عند الموت، يقول تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ 63 لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 64﴾ (يونس: 63 و64).

وهي سبب مهمٌّ للخلود في الجنَّة حيث النعيم المقيم، يقول تعالىٰ: ﴿وَسارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133﴾ (آل عمران: 133).

ويقول تعالىٰ: ﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ198﴾ (آل عمران: 198).

ويقول تعالىٰ: ﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ20﴾ (الزمر: 20).

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فمن يراجع القرآن الكريم والروايات الشريفة، يجد لها آثاراً أكثر من هذا بكثير.

ولكن ما هي حقيقة التقوىٰ؟

الجواب:

إنَّ التقوىٰ مأخوذة من الوقاية، والحصانة، والمناعة، عن فعل أيِّ شيء يكرهه الله تبارك وتعالىٰ، أو ترك أيِّ شيء يُحِبُّه الله تبارك وتعالىٰ، وهي بهذا المعنىٰ ذات ثلاث مراتب طولية:

ص: 55

المرتبة الأُولىٰ: مرتبة الورع والاجتهاد، والورع هو الابتعاد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، بل وعن الشبهات. وأمَّا الاجتهاد فهو بذل الجهد في عمل الواجبات والطاعات.

ونتيجة هذين الأمرين هي التقوىٰ بمرتبها الأُولىٰ.

وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد»(1).

وهذه المرتبة لا يُعذَر فيها مؤمن، فكلُّ واحدٍ منّا مطلوب منه هذه المرتبة إلَّا أنْ يكون له عذر شرعي مناسب.

المرتبة الثانية: هي مرتبة فعل المستحبّات وترك المكروهات، والتزام هذه المرتبة يُمثِّل حصانة للمرتبة الأُولىٰ، فإنَّ المؤمن إذا التزم بفعل المستحبّات فهو يفعل الواجبات من باب أولىٰ، وإذا ترك المكروهات فإنَّه يترك المحرَّمات من باب أولىٰ.

ومن هنا، لو وجدنا شخصاً يفعل المستحبّات دون الواجبات، أو يترك المكروهات دون المحرَّمات، فإنَّ مثل هذا الشخص عنده خلل في منظومته المعرفية والعملية كما هو واضح.

البعض يُتعِب نفسه كثيراً في فعل بعض المستحبّات، ولكنَّه يترك لأجلها بعض الواجبات، والحال أنَّ المستحبّات إنَّما تأتي بعد الواجبات، وهي إنَّما جُعِلَت بمثابة الحصانة للواجبات كما قلنا.

ومن هنا ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا أضرَّت النوافل بالفرائض فارفضوها»(2).

ص: 56


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 70).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 68).

المرتبة الثالثة: مرتبة التفكُّر، بمعنىٰ أن يصل المؤمن إلىٰ مرحلة لا يُفكِّر أصلاً بترك واجب أو فعل محرَّم، بل قد يصل إلىٰ مرحلة أعمق وأعمّ، بأن لا يُفكِّر في ترك مستحبٍّ أو فعل مكروه، وهذه مرتبة كمالية عالية، هي ممكنة، ولكن دونها خرط القتاد، وهي تحتاج إلىٰ كثير من المجاهدات العملية للنفس الأمّارة بالسوء، إلىٰ أن تصل إلىٰ حدٍّ تألف فعل الخير وترك الحرام، بحيث يُحذَف من القاموس الذهني غير ذلك.

ومن هنا ورد أنَّ صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام(1).

ولقد كان تذكير العباد بالواضحات المهمّات من إحدىٰ طُرُق التربية الاجتماعية لدىٰ أهل البيت (علیهم السلام)، فكانوا يُذكِّرون المرء بما يساعدهم علىٰ الالتزام بالشريعة ويدفعهم نحو (التقوىٰ).

ومن ذلك ما ورد من أنَّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية! فعظني بموعظة!

فقال (علیه السلام): «افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت:

فأوَّل ذلك: لا تأكل رزق الله، وأذنب ما شئت!

والثاني: اخرج من ولاية الله، وأذنب ما شئت!

والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله، وأذنب ما شئت!

والرابع: إذا جاء مَلَك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت!

والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار، وأذنب ما شئت!»(2).

ص: 57


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 302).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 126).

والملفت للنظر، أنَّنا عندما نقرأ الروايات، نجد أنَّها تُؤكِّد أنَّ صفة التقوىٰ هي من أهمّ الصفات العملية التي يجب أن يتحلّىٰ بها من ينتحل التشيُّع، ومن دون التقوىٰ لا يمكن أن تنال ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، فكأنَّ التقوىٰ هي شيفرة الدخول إلىٰ حرم ولاية أهل البيت (علیهم السلام) .

فعن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال لي: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيُّع أن يقول بحبِّنا أهل البيت؟ فوَالله ما شيعتنا إلَّا من اتَّقىٰ الله وأطاعه، وما كانوا يُعرَفون يا جابر إلَّا بالتواضع، والتخشُّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرِّ بالوالدين، والتعهُّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس إلَّا من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء».

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة!

فقال (علیه السلام): «يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أُحِبُّ عليًّا وأتولّاه، ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أُحِبُّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فرسول الله (صلی الله علیه و آله) خير من عليٍّ (علیه السلام) ثمّ لا يتَّبع سيرته ولا يعمل بسُنَّته ما نفعه حبُّه إيّاه شيئاً، فاتَّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلىٰ الله (عزوجلّ) [وأكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته.

يا جابر، فوَالله ما يُتقرَّب إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلَّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا علىٰ الله لأحد من حجَّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليٌّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوٌّ، ولا تُنال ولايتنا إلَّا بالعمل والورع»(1).

ص: 58


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74 و75/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 3).

من هنا تجد أهل البيت (علیهم السلام) يحاسبون أصحابهم علىٰ كلِّ صغيرة مهما صغرت إذا كانت تتنافىٰ مع الورع والتقوىٰ، وفي هذا المجال يُروىٰ عن أبي بصير، قال: كنت أُقرئ امرأة وأُعلِّمها القرآن (بالكوفة)، فمازحتها بشيء، فقدمت علىٰ أبي جعفر (علیه السلام)، فقال لي: «يا أبا بصير، أيُّ شيء قلتَ للمرأة؟»، فقلت بيدي علىٰ وجهي أُغطّيه! قال: فقال: «لا تعد إليها»(1).

طُرُق مختصرة إلى التقوى

اشارة

لا شكَّ أنَّ الوصول إلىٰ المقام الحقيقي للتقوىٰ يتطلَّب قبل كلِّ شيء المعرفة بالله تعالىٰ وثوابه وعقابه، ولكن مع ذلك، فقد جعل الله تعالىٰ العديد من الطُّرق المختصرة - رغم صعوبتها أحياناً - تُوصِل العبد إلىٰ التقوىٰ من أقرب طُرُقها، ونذكر منها التالي:

الطريق الأوَّل: الوقاية خير من العلاج

ليس لإبليس طريق واحد للإغواء حتَّىٰ يستطيع المرء التوقّي منه، بل له ألف طريق وطريق، تتجدَّد مع الزمن، يطرحها للبحث مع معاونيه من الجنِّ والإنس، ليُقرِّر فيما بعد ماذا سيستعمل مع المؤمن حتَّىٰ يُسقِطه ويُرديه، ليفرح ويمرح، لذا كان لزاماً علىٰ المؤمن أنْ لا يترك الدعاء واللجوء إلىٰ الله تعالىٰ حتَّىٰ يؤمنه من الوقوع في المهالك.

من هنا، وحتَّىٰ لا يحتاج المؤمن إلىٰ تجشُّم العناء وتكلُّف الحلول ليتخلَّص من أثر الذنب الذي أوقعه به إبليس، كان لا بدَّ عليه أنْ يتوقّىٰ

ص: 59


1- مدينة المعاجز للسيِّد هاشم البحراني (ج 5/ ص 109 و110)؛ دلائل الإمامة للطبري الشيعي (ص 103)؛ وأخرجه البياضي في الصراط المستقيم (ج 2/ ص 184/ ح 14)؛ والعلَّامة المجلسي في بحار الأنوار (ج 46/ ص 247).

من البداية من الذنب فلا يحتاج إلىٰ التوبة منه، وليس الإناء إذا انكسر وأُصلح كالإناء الذي لم ينكسر، وليس الإصبع الصناعي كالإصبع الطبيعي، وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ من أهمّ طُرُق التقوىٰ هو أنَّ الإنسان يبتعد من البداية عن أن يقع في معصية، فإنَّه إذا عصم نفسه ساعده الله تعالىٰ إذا رأىٰ منه صدق النيَّة وإخلاص العمل.

وفي إشارة لهذا الطريق روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «اجتناب السيِّئات أولىٰ من اكتساب الحسنات»(1).

وروي عنهم (علیهم السلام): «جِدُّوا واجتهدوا، وإنْ لم تعملوا فلا تعصوا، فإنَّ من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإنْ كان يسيراً، وإن من يبني ويهدم يوشك أنْ لا يرتفع له بناء»(2).

وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام): «توقّي الصرعة خيرٌ من سؤال الرجعة»(3).

الطريق الثاني: عجِّل بالتوبة

لم يُكتَب لبني البشر في هذه الدنيا أن يكونوا معصومين - إلَّا من عصم الله تعالىٰ -، وبالتالي فالخطأ وارد في قاموس مسيرة الإنسان، والذنب محتمل جدًّا في خطواته، وهذا من الواضحات، إلَّا أنَّ هذا لا يعني أنَّ الأقلام رُفِعَت والصُّحُف جفَّت وقُضي الأمر وانتهىٰ القضاء! كلَّا، فليس هذا ما عرفناه من الرأفة الإلهيَّة والرحمة السماوية، بل هناك ألف طريق وطريق للخلاص من الأخطاء والذنوب تبدأ من أوَّل مرحلة - وهي مرحلة الوقاية خير من العلاج - إلىٰ نهاية ما كتبه الله

ص: 60


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 125).
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 294).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 187).

تعالىٰ علىٰ نفسه من الرحمة، قال تعالىٰ: ﴿وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ54﴾ (الأنعام: 54).

ومن أوسع ما فتحه الله تعالىٰ من الرحمة الإلهيَّة لبني البشر هو باب التوبة، يقول الإمام السجّاد (علیه السلام) في مناجاة التائبين: «إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلىٰ عفوك سمَّيته التوبة، فقلت: ﴿تُوبُوا إِلَىٰ اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ [التحريم: 8]، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه(1)؟!

ولكن هذا الباب علىٰ سعته مشروط بشروط، أهمّها: الاستعجال بالتوبة، لأنَّ العمر أقصر بكثير من التأجيل، والموت أقرب بكثير من التسويف، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن (علیه السلام): «... وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...»(2).

فعلىٰ المؤمن أن يُعجِّل بالتوبة، ولا يكن كأعشىٰ بني قيس، حيث قال ابن هشام: إنَّ أعشىٰ بني قيس خرج إلىٰ رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله]:

ص: 61


1- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 402).
2- نهج البلاغة (ج 3/ ص 48 و49).

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** وبِتُّ كما بات السليم مسهَّدا

إلىٰ آخر أبياته.

فلمَّا كان بمكَّة أو قريباً منها، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنَّه جاء يريد رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] ليسلم، فقال له: يا أبا بصير، إنَّه يُحرِّم الزنا! فقال الأعشىٰ: والله إنَّ ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال له: يا أبا بصير، فإنَّه يُحرِّم الخمر! فقال الأعشىٰ: أمَّا هذه فوَالله إنَّ في النفس منها لعلالات، ولكنّي منصرف فأتروّىٰ منها عامي هذا ثمّ آتيه فأُسلم. فانصرف، فمات في عامه ذلك، ولم يعد إلىٰ رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم(1).

الطريق الثالث: لا تضع نفسك في مأزق

اشارة

لكلِّ فعل ردُّ فعل مساوٍ له بالقوَّة، معاكس له بالاتِّجاه.

فالقمر كلَّما ابتعد عن الأرض قلَّت جاذبيَّته للأرض فتحدث ظاهرة الجزر، وكلَّما اقترب منها قويت جاذبيته لها فتحدث عملية المدِّ.

وأينما تضع نفسك - وهذا فعل - فلا بدَّ أن تتوقَّع له ردُّ فعل، ومعه، فإذا وضعت نفسك في موضع من شأنه الابتعاد عن الورع والتقوىٰ، فهذا فعل له ردُّ فعل لا بدَّ منه، وهو الابتعاد عن التقوىٰ بمقدار ابتعاد ذلك الفعل عن التقوىٰ، ولذا كان مطلوباً من المؤمن أنْ لا يُدخِل نفسه في مداخل التهمة، وطُلِبَ منه الابتعاد عن تلك الموارد مهما أمكن، وهو ما عبَّرت عنه بعض الروايات بالابتعاد عن ما يُعتذَر منه، عن الإمام الحسين (علیه السلام): «إيّاك وما تعتذر منه، فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كلَّ يوم يسيء ويعتذر»(2).

ص: 62


1- السيرة النبوية لابن هشام (ج 1/ ص 259 و260).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 248).

وعن داود الرقّي، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه»، قيل له: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: «يتعرَّض لما لا يطيق»(1)، في رواية أُخرىٰ: «يدخل فيما يُتعذَّر منه»(2).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ»(3).

وعندما نستنطق الروايات عن هذا الأمر، نجد أنَّها تشكَّلت علىٰ شكل مجموعات، لسان حالها يقول لك: ابتعد عن هذا فإنَّ عاقبته وخيمة، وكلُّها - كما سترىٰ - مآزق تجعل المؤمن في زاوية ضيِّقة وقريبة جدًّا من المعصية ومواقعة الذنب. وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من هذا الأمر، نذكر منها علىٰ سبيل المثال:

1 - اهرب من الفتوىٰ

يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في نصيحته لعنوان البصري: «... واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً»(4).

2 - ابتعد عن الشبهات

يقول رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أُمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقىٰ الشبهات استبرأ لعِرضه ودِينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعىٰ حول الحمىٰ يُوشِك أن يواقعه»(5).

ص: 63


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 4).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 5).
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 41).
4- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).
5- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 428 و429/ح 7291 ).
3 - لا تمشَ خلف امرأة وتنظر لمحاسنها

روي عن الإمام الكاظم (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ 26﴾ [القَصص: 26]: «قال لها شعيب (علیه السلام): يا بنيَّة، هذا قويٌّ قد عرفتيه برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبتِ إنّي مشيت قدّامه، فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلىٰ الطريق فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء»(1).

4 - لا تنفرد بامرأة

روي عن محمّد الطيّار، قال: دخلت المدينة وطلبت بيتاً أتكاراه، فدخلت داراً فيها بيتان بينهما باب وفيه امرأة، فقالت: تكاري هذا البيت؟ قلت: بينهما باب وأنا شابٌّ، قالت: أنا أُغلق الباب بيني وبينك، فحوَّلتُ متاعي فيه، وقلت لها: أغلقي الباب، فقالت: تدخل عليَّ منه الرَّوح، دعه، فقلت: لا، أنا شابٌّ وأنت شابَّة أغلقيه، قالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك ولا أقربك، وأَبَتْ تغلقه، فأتيت أبا عبد الله (علیه السلام) فسألته عن ذلك، فقال: «تحوَّل منه، فإنَّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان»(2).

5 - لا تنظر إلىٰ امرأة نظرة محرَّمة

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله (عزوجلّ) لا لغيره أعقبه الله إيماناً يجد طعمه»(3).

ص: 64


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4974).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 252/ ح 3913).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 18/ ح 4969).

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً، حشاهما الله تعالىٰ يوم القيامة بمسامير من النار، وحشاهما ناراً، حتَّىٰ يقضي بين الناس، ثمّ يُؤمَر به إلىٰ النار»(1).

6 - لا تهتك ستر مؤمن

روي عنه (صلی الله علیه و آله): «من اطَّلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقًّا علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين، الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله، ويُبدي للناس عورته في الآخرة»(2).

الطريق الرابع: لا تكذب

لا شكَّ أنَّ الإنسان في هذه الدنيا يحتاج إلىٰ غيره من أفراد بني البشر، ذلك لأنَّه مخلوق اجتماعي بطبعه، وهو لا يستطيع توفير جميع احتياجاته بنفسه، فلا بدَّ له من المعايشة مع باقي أفراد جنسه، وهذه المعايشة تحتاج إلىٰ ما يديمها، وليس هناك ما يديمها سوىٰ الثقة المتبادلة بين الأفراد، ولكن الكذب يهدم تلك الثقة، وبالتالي يُفكِّك المجتمع، ولذا كان الكذب هو مفتاح الشرور.

عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ الله (عزوجلّ) جعل للشرِّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب»(3).

وروي أنَّ رجلاً أتىٰ سيِّدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، علِّمني خُلُقاً يجمع لي خير الدنيا والآخرة، فقال: «لا تكذب»، فقال الرجل: فكنت علىٰ

ص: 65


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 282).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 338/ باب الكذب/ ح 3).

حالة يكرهها الله فتركتها خوفاً من أن يسألني سائل: عملت كذا وكذا فأفتضح، أو أكذب فأكون قد خالفت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما حملني عليه»(1).

ولقد حفظ لنا التاريخ وثيقة سوداء عن معاوية وحرصه علىٰ الكذب علىٰ الله (عزوجلّ) ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام)، فقد قال ابن أبي الحديد في شرح النهج:

(روي أنَّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتَّىٰ يروي أنَّ هذه الآية نزلت في عليِّ بن أبي طالب: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلىٰ ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ 204 وَإِذا تَوَلَّىٰ سَعىٰ فِي الْأَرضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ 205﴾ [البقرة: 204 و205].

وأنَّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي [قوله تعالىٰ]: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 207﴾ [البقرة: 207]، فلم يقبل. فبذل له مائتي ألف [درهم] فلم يقبل. فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروىٰ ذلك)(2).

ونفس سمرة هذا كان قد لعن معاوية لفقده مصلحة دنيوية، كما نقل ابن الأثير في كامله: (... ولمَّا مات زياد كان علىٰ البصرة سمرة بن جندب وكان علىٰ الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، فأقرَّ سمرة علىٰ البصرة ثمانية عشر شهراً، وقيل: ستَّة أشهر، ثمّ عزله معاوية، فقال سمرة: لعن الله معاوية، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذَّبني أبداً)(3).

ص: 66


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 69/ ص 262).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 4/ ص 73).
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير (ج 3/ ص 495)؛ تاريخ الطبري (ج 4/ ص 217).

الطريق الخامس: لا تغضب

لا شكَّ أنَّ الذي ميَّز الإنسان عن الحيوان هو العقل، وهذا الأمر من الوضوح بمكان، ولكن العلم يُحدِّثنا أنَّ الإنسان في مرحلة الغضب ربَّما يصل إلىٰ مرحلة يفقد فيها عقله، وعندها سيصبح كأيِّ موجود لا عقل له، وبعبارة صريحة: سيصبح المرء في حالة الغضب هو والمجنون سواء من هذه الناحية، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام): «الغضب ممحقة لقلب الحكيم»، وقال: «من لم يملك غضبه لم يملك عقله»(1).

لذا جاء تأكيد النصوص الدِّينية علىٰ أهمّية تمالك النفس وضبطها عند الغضب، فهذا الأمر هو مفتاح من مفاتيح التقوىٰ، لأنَّ الغضب يمنع الإنسان من الالتزام بما تمليه عليه التقوىٰ.

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ هذا الغضب جمرة من الشيطان، تُوقَد في قلب ابن آدم، وإنَّ أحدكم إذا غضب احمرَّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإنَّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»(2).

والظاهر أنَّ المقصود من (دخل الشيطان فيه) ليس المعنىٰ الحقيقي، وإنَّما الكناية عن تملُّك الشيطان زمام الأمر عند الغضب، ممَّا يعني الوقوع في مصائد الندم والحسرة وعضِّ الأنامل!

ومن هنا، فإنَّ هدوء النفس، وعدم الغضب، يُعتَبر واحداً من أهمّ الحلول الاجتماعية للمشاكل التي تقع بين الناس، وفي ذلك روي عن معلّىٰ بن خُنَيس، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال:

ص: 67


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 305/ باب الغضب/ ح 13).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 304 و305/ باب الغضب/ح 12).

«قال رجل للنبيِّ (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله، علِّمْني، قال: اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك.

فمضىٰ إلىٰ أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلمَّا رأىٰ ذلك لبس سلاحه، ثمّ قام معهم، ثمّ ذكر قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لا تغضب)، فرمىٰ السلاح، ثمّ جاء يمشي إلىٰ القوم الذين هم عدوّ قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعليَّ في مالي، أنا أُوفيكموه!

فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولىٰ بذلك منكم!».

قال: «فاصطلح القوم، وذهب الغضب»(1).

الطريق السادس: تواضَعْ

ليس المدار في العظمة علىٰ عظم الجثَّة أو علوِّ المكان، بل علىٰ الهمَّة والعظمة النفسية، من هنا كان المتكبِّر ذليلاً حقيراً رغم أنَّه يرىٰ نفسه أفضل من غيره، ولا تجده يعير أيَّة أهمّية لغير نفسه، ولكنَّه غفل عن أنَّه كما يرىٰ الناس صغاراً، كذلك الناس يرونه صغيراً، ولذا ورد الذمُّ كثيراً علىٰ التكبُّر، يقول الإمام الباقر (علیه السلام): «ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلَّا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك، قلَّ ذلك أو كثر»(2).

أمَّا التواضع، فإنَّه يرفع الإنسان إلىٰ حيث لا يعلم إلَّا الله تعالىٰ، حيث كثرت الأحاديث علىٰ أنَّه من تواضع لله رفعه الله.

ولا شكَّ أنَّ من طُرُق الوصول إلىٰ الله تعالىٰ والحصول علىٰ

ص: 68


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 304/ باب الغضب/ ح 11).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 186).

التقوىٰ، هو أنْ يتواضع المرء لخالقه وخلقه، تواضعاً لا يُخرجه عن عزَّة النفس ولا يُدخِله في مغبَّة الكبر.

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أوحىٰ الله إلىٰ موسىٰ بن عمران (علیه السلام): أتدري يا موسىٰ لم انتجبتك من خلقي واصطفيتك لكلامي؟

فقال: لا يا ربِّ.

فأوحىٰ الله إليه: إنّي اطَّلعت إلىٰ الأرض فلم أجد عليها أشدّ تواضعاً لي منك.

فخرَّ موسىٰ ساجداً وعفَّر خدَّيه في التراب تذلُّلاً منه لربِّه (عزوجلّ) .

فأوحىٰ الله إليه: ارفع رأسك يا موسىٰ، وأمر يدك في موضع سجودك، وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك، فإنَّه أمان من كلِّ سقم وداء وآفة وعاهة»(1).

وهكذا أهل البيت (علیهم السلام) كانوا أكثر الناس تواضعاً رغم عظمتهم، وقد وصف ضرارُ أميرَ المؤمنين (علیه السلام) في مجلس معاوية بأوصاف كان جُلُّها التواضع لله تعالىٰ والناس، حيث روي أنَّه قال: (... كان والله فينا كأحدنا، يُدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويُقرِّبنا إذا زرناه، لا يُغلَق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نُكلِّمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسَّم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم...)(2).

الطريق السابع: أخلِص العمل

قديماً - في بني إسرائيل - كان عابد يعبد الله دهراً طويلاً، فجاءه

ص: 69


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 78/ ح 188).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 41/ ص 15).

قوم، فقالوا: إنَّ هاهنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالىٰ، فغضب لذلك وأخذ فأسه علىٰ عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها.

فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أُريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرَّغت لغير ذلك، فقال: إنَّ هذا من عبادتي، قال: فإنّي لا أتركك أن تقطعها، فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلىٰ الأرض وقعد علىٰ صدره!

فقال له إبليس: أطلقني حتَّىٰ أُكلِّمك، فقام عنه، فقال له إبليس: يا هذا، إنَّ الله تعالىٰ قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، وما تعبدها أنت، وما عليك من غيرك، ولله تعالىٰ أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلىٰ أهلها وأمرهم بقطعها، فقال العابد: لا بدَّ لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد علىٰ صدره!

فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك، وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتَّىٰ أقول لك، فأطلقه، فقال إبليس: أنت رجل فقير، لا شيء لك، إنَّما أنت كَلٌّ علىٰ الناس يعولونك، ولعلَّك تُحِبُّ أن تتفضَّل علىٰ إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس!

قال: نعم.

قال: فارجع عن هذا الأمر ولك عليَّ أن أجعل عند رأسك في كلِّ ليلة دينارين، إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت علىٰ نفسك وعيالك وتصدَّقت علىٰ إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يُغرَس مكانها ولا يضرُّهم قطعها شيئاً، ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إيّاها!

ص: 70

فتفكَّر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ، لست بنبيٍّ فيلزمني قطع هذه الشجرة، ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها، وما ذكره أكثر منفعةً، فعاهده علىٰ الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلىٰ متعبَّده، فبات، فلمَّا أصبح رأىٰ دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك لغد، ثمّ أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم يرَ شيئاً!

فغضب وأخذ فأسه علىٰ عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال له: إلىٰ أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر علىٰ ذلك، ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أوَّل مرَّة، فقال: هيهاتَ، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس علىٰ صدره وقال: لتنتهينَّ عن هذا الأمر أو لأذبحنَّك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخلِّ عنّي، وأخبرني كيف غلبتك أوَّلاً وغلبتني الآن؟

فقال: لأنَّك غضبت أوَّل مرَّة لله، وكانت نيَّتك الآخرة، فسخَّرني الله لك، وهذه المرَّة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك(1).

لم يكن لأحد أن يعصم نفسه من إبليس بمحض عمله، ولا كان له التملُّص من غطرسته بكثرة عمله، لأنَّ إبليس يجري من ابن آدم مجرىٰ الدم في العروق، كما جاء ذلك في كتاب لأمير المؤمنين (علیه السلام) إلىٰ معاوية: «... فإنّي أُعلمك ما أغفلت من نفسك، إنَّك مترف، قد أخذ منك الشيطان مأخذه، فجرىٰ منك مجرىٰ الدم في العروق...»(2).

ولكنَّك إذا رجعت إلىٰ القرآن الكريم وروايات أهل البيت (علیهم السلام)

ص: 71


1- معجم المحاسن والمساوئ لأبي طالب التجليل التبريزي (ص 494 - 496).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 15/ ص 87).

لوجدت هناك مخلَصاً جيِّداً ومندوحة مناسبة للتخلُّص من تسلُّط إبليس، ألَا وهو طريق الإخلاص.

يقول تعالىٰ: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 36 قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 37 إِلىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 38 قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 39 إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 40 قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ 41 إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ 42 وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ 43 لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ 44﴾ (الحجر: 36 - 44).

ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): «ولا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، إذ لو لم يكن بهذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله بقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44﴾ (الفرقان: 44)(1).

فالإخلاص طريق الخلاص، وهو منجاة المؤمن علىٰ كلِّ حالٍ، ففي الدنيا الناس تُحِبُّ المخلِص في عمله، ومن لا يقصد فيه إلَّا وجه الباري جلَّ وعلا، وفي الآخرة لا يُقبَل عمل فيه شرك ورياء، وبالتالي، فالإخلاص هو المنجىٰ.

في قصَّة النبيَّين موسىٰ وشعيب (علیهما السلام) جاء: فلمَّا دخل [موسىٰ] علىٰ شعيب إذا هو بالعشاء مهيَّأ، فقال له شعيب: اجلس يا شابّ فتعشَّ، فقال له موسىٰ: أعوذ بالله، قال شعيب: ولِمَ ذاك؟ ألستَ بجائع؟ قال: بلىٰ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيتُ لهما، وإنّا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، فقال له

ص: 72


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 99/ح 86/3)، عن مصباح الشريعة.

شعيب: لا والله يا شابّ، ولكنَّها عادتي وعادة آبائي، نُقري الضيف ونُطعم الطعام، قال: فجلس موسىٰ يأكل(1).

الطريق الثامن: أحبس جوارحك

عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنَّعْنَ خلف آذانهنَّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمَّا جازت نظر إليها، ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقَّ وجهه!

فلمَّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل علىٰ صدره وثوبه، فقال: والله لآتينَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأُخبرنَّه».

قال: «فأتاه فلمَّا رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل (علیه السلام) بهذه الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ 30﴾ [النور: 30]»(2).

خلق الله تعالىٰ بني البشر من جسم وروح، الجسم يُمثِّل الجانب المادّي المتدنّي من وجوده، والروح تُمثِّل الجانب المجرَّد المتعالي من وجوده، وقد جعل تعالىٰ الجسم أداةً طيِّعة بيد الروح، فهي تستعمل الجسم كما تستعمل أنت سيّارتك(3)، ولها منافذ علىٰ العالم مرتبطة بالبدن.

ومن أهمّ تلك المنافذ هي الجوارح، أو ما يُسمّىٰ بالحواسِّ الخمس.

ص: 73


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 13/ ص 21).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 521/ باب ما يحلُّ النظر إليه من المرأة/ ح 5).
3- هذا تشبيه لواحدة من نظريات علاقة الروح بالبدن، وهناك نظريات أُخرىٰ ليس هنا محلُّ ذكرها.

ورغم أنَّ الجسم أداة للروح، ولكن هذه المنافذ (الجارحية) الجسمية تُؤثِّر أعمق أثر بالروح بما تنقله لها عن العالم الخارجي.

لذا كان من أهمّ صفات من يريد التقوىٰ هو فرض السيطرة علىٰ هذه المنافذ، وإقامة حواجز متينة وحرس شديد يمنع ورود أيِّ شيء يتنافىٰ مع التقوىٰ، كلُّ ذلك لشدَّة تأثير هذه المنافذ علىٰ الروح، وهو ما تُعبِّر عنه بعض الروايات بالتأثير علىٰ الفؤاد أو القلب أو الروح، لا فرق، فالمعنىٰ هنا واحد عموماً.

وفي هذا المجال يصف أمير المؤمنين (علیه السلام) المتَّقين فيما يصفهم: «... فالمتَّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، غضُّوا أبصارهم عمَّا حرَّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم علىٰ العلم النافع لهم...»(1).

ويقول الإمام السجّاد (علیه السلام) مبيِّناً أثر بعض الجوارح علىٰ الروح والقلب: «... وأمَّا حقُّ اللسان فإكرامه عن الخنىٰ، وتعويده علىٰ الخير، وحمله علىٰ الأدب، وإجمامه إلَّا لموضع الحاجة والمنفعة للدِّين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يُؤمَن ضررها مع قلَّة عائدتها، ويُعَدُّ شاهد العقل والدليل عليه، وتُزيِّن العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

وأمَّا حقُّ السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلىٰ قلبك إلَّا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً أو تكسب خُلُقاً كريماً فإنَّه باب الكلام إلىٰ القلب يُؤدّي إليه ضروب المعاني علىٰ ما فيها من خيرٍ أو شرٍّ، ولا قوَّة إلَّا بالله.

ص: 74


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 160 و161).

وأمَّا حقُّ بصرك فغضُّه عمَّا لا يحلُّ لك، وترك ابتذاله إلَّا لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً، فإنَّ البصر باب الاعتبار.

وأمَّا حقُّ رجليك فأنْ لا تمشي بهما إلىٰ ما لا يحلُّ لك، ولا تجعلهما مطيَّتك في الطريق المستخفَّة بأهلها فيها فإنَّها حاملتك وسالكة بك مسلك الدِّين والسبق لك، ولا قوَّة إلَّا بالله.

وأمَّا حقُّ يدك فأنْ لا تبسطها إلىٰ ما لا يحلُّ لك فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها ممَّا افترض الله عليها، ولكن تُوقِّرها بقبضها عن كثير ممَّا يحلُّ لها وبسطها إلىٰ كثير ممَّا ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل وجب لها حسن الثواب في الآجل»(1).

الطريق التاسع: أنصِف المسلمين من نفسك

دعا أبو عبد الله (علیه السلام) مولىٰ له يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: «تجهَّز حتَّىٰ تخرج إلىٰ مصر، فإنَّ عيالي قد كثروا».

قال: فتجهَّز بمتاع، وخرج مع التجّار إلىٰ مصر، فلمَّا دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامَّة فأخبروهم أنَّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا علىٰ أنْ لا يُنقِصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلمَّا قبضوا أموالهم انصرفوا إلىٰ المدينة.

فدخل مصادف علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام) ومعه كيسان في كلِّ واحدٍ ألف دينار، فقال: جُعلت فداك هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح.

فقال: «إنَّ هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع؟».

ص: 75


1- من رسالة الحقوق للإمام السجّاد (علیه السلام) . انظر: تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص257).

فحدَّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا.

فقال: «سبحان الله، تحلفون علىٰ قوم مسلمين ألَا تبيعوهم إلَّا بربح الدينار ديناراً؟!».

ثمّ أخذ أحد الكيسين فقال: «هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح»، ثمّ قال: «يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال»(1).

هي كلمة قليلة الأحرف، ولكنَّك لا تجد مضمونها إلَّا عند الأوحدي! إنَّها (الإنصاف)!

لقد جعل الإسلام هذا المعنىٰ الذي تحويه هذه الكلمة من أهمّ سُبُل التقوىٰ، لما في الإنصاف من الابتعاد عن إيذاء العباد والعمل علىٰ نفعهم، وهو من أهمّ مشارب التقوىٰ.

عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في كلام له: ألَا إنَّه من يُنصِف الناس من نفسه لم يزده الله إلَّا عزًّا»(2).

الإنصاف مأخوذ من الفعل (نصف)(3)، والإنصاف يعني: العدل، من أخذ نصف الشيء وإعطاء الآخر النصف الثاني، كناية عن العدل، وذلك يكون في الفرد المنصِف: (إذا أخذ الحقَّ، وأعطىٰ الحقَّ).

فالمقصود: أن يكون تعاملك مع الناس بالعدل، بمعنىٰ أن تأخذ حقَّك، وتُعطي ما عليك من حقٍّ، لا تبخس الناس أشياءهم، ولا تسمح لأحد أن يبخسك حقَّك!

ص: 76


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 7/ ص 13 و14/ ح 58/58).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 144/ باب الإنصاف والعدل/ ح 4).
3- راجع: الصحاح للجوهري (ج 4/ ص 1432/ مادَّة نصف)؛ وتاج العروس للزبيدي (ج 12/ ص 500/ مادَّة نصف).

لاحظ الآن، كم ترىٰ من المواقف اليومية التي تحتاج فيها إلىٰ الإنصاف!

كم تحتاج فيها إلىٰ أن تُعطي شيئاً قليلاً لا يُنقِصك شيئاً!

هل رأيت رجلاً كبيراً ينتظر دوره عند الطبيب، فقدَّمته علىٰ نفسك؟!

هل رأيت امرأة ضعيفة تحاول أن تكون في جانب السيّارة البعيد عن الشمس فأعطيتها مقعدك؟!

هل خفَّفت علىٰ أولادك وزوجتك بعضاً من الواجبات التي تفرضها عليهم رأفةً بهم؟!

وهل...؟!

تذكَّر: أنَّ إنصاف الناس من النفس لا يختلف فيه الحال بين القريب والغريب.

وأنَّه طريق من طُرُق التقوىٰ.

الطريق العاشر: لا تُسرِف

كلُّ شيء في هذا الكون، له موازين محدَّدة، لو زاد عنها أو نقص لاختلَّ نظامه، لذا فإنَّه تعالىٰ: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ 17﴾ (الرعد: 17).

وهو القائل عزَّ من قائل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ 49﴾ (القمر: 49).

ص: 77

والإسراف من موجبات نقض التقوىٰ، لأنَّه خروج بالشيء عن الحدِّ الذي جعله الله تعالىٰ له في عالم التكوين أو التشريع. سواء كان في مقام الصرف علىٰ العيال، أو في مقام التصدُّق علىٰ الغير، فالمطلوب من المؤمن هو التوازن بين الإسراف والتقتير.

قال تعالىٰ يصف عباده: ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67﴾ (الفرقان: 67).

روىٰ العيّاشي: ... دخل علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام) رجل فقال: يا أبا عبد الله، قرضاً إلىٰ ميسرة؟

فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إلىٰ غلَّة تُدرَك؟»، فقال: لا والله، فقال: «إلىٰ تجارة تُودي؟»، فقال: لا والله، قال: «فإلىٰ عقدة تُباع؟»، فقال: لا والله، فقال: «فأنت إذاً ممَّن جعل الله له في أموالنا حقًّا».

فدعا أبو عبد الله بكيس فيه دراهم فأدخل يده فناوله قبضة، ثمّ قال: «اتَّق الله ولا تُسرِف ولا تُقتِّر، وكن بين ذلك قواماً، إنَّ التبذير من الإسراف قال الله: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً 26﴾ [الإسراء: 26]»، وقال: «إنَّ الله لا يُعذِّب علىٰ القصد»(1).

وروي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في الأنصاري الذي أعتق عند موته خمسة أو ستَّة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار: «لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنوه مع المسلمين، يترك صبية صغاراً يتكفَّفون الناس!»(2).

وممَّا يشهد علىٰ أنَّ المسرف بعيد عن التقوىٰ، وبالتالي فهو بعيد

ص: 78


1- تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 288).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 67/ باب المعيشة/ ح 1).

عن الله تعالىٰ، أنَّه عُدَّ من الأفراد الذين لا يُستجاب دعاؤهم، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال فيمن لا يُستجاب لهم: «... ورجل رزقه الله (عزوجلّ) مالاً كثيراً فأنفقه، ثمّ أقبل يدعو: يا ربِّ ارزقني، فيقول الله (عزوجلّ): ألم أرزقك رزقاً واسعاً؟ فهلَّا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تُسرِف، وقد نهيتك عن الإسراف؟!»(1).

الطريق الحادي عشر: لا تستمع الغناء

عن مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام)، فقال له رجل: بأبي أنت وأُمّي إنَّني أدخل كنيفاً لي ولي جيران عندهم جوار يتغنَّين ويضربن بالعود، فربَّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنَّ؟ فقال: «لا تفعل»، فقال الرجل: والله ما آتيهنَّ إنَّما هو سماع أسمعه بأُذُني! فقال: «لله أنت، أمَا سمعت الله (عزوجلّ) يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ [الإسراء: 36]؟!»، فقال: بلىٰ والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من أعجمي ولا عربي، لا جرم إنَّني لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله.

فقال له: «قم فاغتسل(2) وسَلْ ما بدا لك، فإنَّك كنت مقيماً علىٰ أمر عظيم، ما كان أسوء حالك لو متَّ علىٰ ذلك! احمد الله وسَلْه التوبة من كلِّ ما يكره فإنَّه لا يكره إلَّا كلَّ قبيح، والقبيح دعه لأهله فإنَّ لكلٍّ أهلاً»(3).

ربَّما يعتقد البعض أنَّ الغناء من وسائل الترفيه عن النفس، والترفيه محلَّل، ولكن الدِّين يقول: إنَّ التحليل والتحريم هو من شأن

ص: 79


1- المصدر السابق.
2- الظاهر أنَّ المراد هنا هو غُسل التوبة.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 432/ باب الغناء/ ح 10).

الباري تعالىٰ، فهو الربُّ فقط، وهو الذي له الحقُّ في التشريع، وقد أرشدنا الإسلام إلىٰ أنَّ الله تعالىٰ قد حرَّم الغناء وجعله منافياً للتقوىٰ، أي إنَّ الغناء من موجبات دخول جهنَّم، ومن أراد الوقاية من العذاب فلا بدَّ له من لبس درع التقوىٰ، والغناء يتنافىٰ مع ذلك.

الطريق الثاني عشر: اقضِ حوائج المؤمنين

عن صفوان الجمّال، قال: كنت جالساً مع أبي عبد الله (علیه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل مكَّة يقال له: ميمون، فشكا إليه تعذُّر الكراء عليه، فقال لي: «قم فأعن أخاك»، فقمت معه فيسَّر الله كراه، فرجعت إلىٰ مجلسي، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما صنعت في حاجة أخيك؟»، فقلت: قضاها الله - بأبي أنت وأُمّي -، فقال: «أمَا إنَّك أنْ تُعين أخاك المسلم أحبُّ إليَّ من طواف أُسبوع بالبيت مبتدئاً»(1).

في الحسابات الإلهيَّة، رُبَّ عمل صغير في حجمه، لكنَّه كبير عند الله تعالىٰ.

ليس مهمًّا أن تعمل عملاً لنفسك، فقد يكون ناشئاً من (الأنانية) الممدوحة - إنْ صحَّ التعبير -، وستحصل علىٰ ثواب بلا شكَّ، لكن، أنْ تساعد غيرك، تقف معه، تسانده، وتعاونه، لهو عمل عند الله يُعطي عليه الكثير من الأجر.

لاحظوا: كم هو مهمٌّ الطواف حول البيت العتيق، حتَّىٰ روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «استكثروا من الطواف، فإنَّه أقلُّ شيء يوجد في صحائفكم يوم القيامة»(2).

ص: 80


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 198/ باب السعي في حاجة المؤمن/ ح 9).
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي (ج 3/ ص 165 و166/ باب الحجّ/ح 59).

وحتَّىٰ كان له من الفضل الشيء العظيم، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «كان أبي يقول: من طاف بهذا البيت أُسبوعاً وصلّىٰ ركعتين في أيِّ جوانب المسجد شاء، كتب الله له ستَّة آلاف حسنة، ومحىٰ عنه ستَّة آلاف سيِّئة، ورفع له ستَّة آلاف درجة، وقضىٰ له ستَّة آلاف حاجة، فما عُجِّل منها فبرحمة الله، وما أُخِّر منها فشوقاً إلىٰ دعائه»(1).

ولكن مع ذلك فإنَّ الإمام الصادق (علیه السلام) يجعل قضاء حاجة المؤمن أفضل من الطواف سبعة أشواط ابتداءً ومن دون فرض.

إذن، كم هو عظيم قضاء حاجة المؤمن.

الطريق الثالث عشر: اصبر

كان أبو طلحة يُحِبُّ ابنه حبًّا شديداً، فمرض! فخافت أُمُّ سُليم [زوجته] علىٰ أبي طلحة الجزع، حين قرب موت الولد، فبعثته إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) ...، فلمَّا خرج أبو طلحة من داره، توفّي الولد!

فسجَّته أُمُّ سُليم بثوب، وعزلته في ناحية من البيت، ثمّ تقدَّمت إلىٰ أهل بيتها وقالت لهم: لا تُخبروا أبا طلحة بشيء!

ثمّ إنَّها صنعت طعاماً، ثمّ مسَّت شيئاً من الطيب.

فجاء أبو طلحة من عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: ما فعل ابني؟ فقالت له: هدأت نفسه، ثمّ قال: هل لنا ما نأكل؟ فقامت فقرَّبت إليه الطعام. ثمّ تعرَّضت له فوقع عليها، فلمَّا اطمأنَّ قالت له: يا أبا طلحة، أتغضب من وديعة كانت عندنا فرددناها إلىٰ أهلها؟ فقال: سبحان الله، لا، فقالت: ابنك كان عندنا وديعة، فقبضه الله تعالىٰ!

ص: 81


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 411 و412/ باب فضل الطواف/ ح 2).

فقال أبو طلحة فأنا أحقُّ بالصبر منك، ثمّ قام من مكانه فاغتسل وصلّىٰ ركعتين، ثمّ انطلق إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فأخبره بصنيعها.

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فبارك الله لكما في وقعتكما...»(1).

لم تُبْنَ الدنيا علىٰ أن تكون دار راحة وسرور لعباد الحقِّ (عزوجلّ)، إنَّما هي دار بلاء وابتلاء، يُغربَل فيها المحسن حتَّىٰ كأنَّ الله تعالىٰ لم يخلق البلاء إلَّا له!

وكأنَّ بينه وبين عبده عداوة!

وما هي بعداوة، ولكنَّها التصفية والغربلة، ﴿حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).

وهل ينقىٰ الذهب إلَّا بفتنته بالنار؟!

وهل يُعرَف الصديق إلَّا عند الشدائد؟!

وهل يظهر الحلم إلَّا عند الإغضاب؟!

وهل يُعرَف المؤمن إلَّا عند المصيبة؟!

فإذا صبر فقد رفع عَلَم الإيمان، وكشف عن باطنه الموافق لظاهره، وإلَّا فشأنه صار لك معلوماً.

لذا جاءت الروايات لتُؤكِّد هذا المعنىٰ، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ للنكبات غايات لا بدَّ أنْ تنتهي إليها، فإذا أُحكم علىٰ أحدكم بها فليطأطئ لها ويصبر حتَّىٰ يجوز، فإنَّ إعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروهها»(2).

ص: 82


1- مسكن الفؤاد للشهيد الثاني (ص 69)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 79/ ص 150 و151).
2- كتاب التمحيص لمحمّد بن همّام الإسكافي (ص 64/ ح 147).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(1).

ولذا كان الصبر شعار أهل بيت العصمة (علیهم السلام)، منتظرين بذلك أجرهم من الله تعالىٰ، كما يقول أبو عبد الله الحسين (علیه السلام): «رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علىٰ بلائه ويُوفّينا أُجور الصابرين»(2).

ذلك الأجر الذي قال عنه تعالىٰ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157﴾ (البقرة: 155 - 157).

ولا شكَّ في العلاقة القويَّة والآصرة المتينة بين التقوىٰ والصبر، فالصبر يقود إلىٰ التقوىٰ من أخصر طُرُقها، لما فيه من حبس النفس علىٰ طاعة الله تعالىٰ والهروب والتوقّي من معاصيه وتحمُّل المصائب بجلادة، وفي هذا المعنىٰ يقول تعالىٰ مبيِّناً واحدة من أواصر الترابط بين التقوىٰ والصبر: ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّىٰ الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ 10﴾ (الزمر: 10).

الطريق الرابع عشر: اقرأ عن المتَّقين

لا شكَّ أنَّ من أهمّ المؤثِّرات علىٰ الإنسان هو تأثير القدوة الذي

ص: 83


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 87/ باب الصبر/ ح 2).
2- مثير الأحزان لابن نما الحلّي (ص 29).

يتَّخذه المرء له في حياته، ولذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو القدوة والأُسوة لما فيه من مؤثِّرات إلهيَّة علىٰ متَّبعيه ومحبّيه، يقول تعالىٰ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21﴾ (الأحزاب: 21).

وهكذا بقيَّة الأنبياء (علیهم السلام)، يقول تعالىٰ: ﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...﴾ (الممتحنة: 4).

ومن هنا، كان لزاماً علىٰ من يريد الوصول إلىٰ التقوىٰ أن يقرأ عن المتَّقين، لما في ذلك من تأثير أشار له الإمام الرضا (علیه السلام)، حيث روي عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً أحيىٰ أمرنا»، فقلت له: وكيف يُحيىٰ أمركم؟ قال: «يتعلَّم علومنا ويُعلِّمها الناس فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا»(1).

إنَّ تأثير القدوة يكون من خلال معايشته ومسايرته، وإن لم يمكن ذلك فمن خلال قراءة سيرته وحياته، ولذا نجد أنَّ هناك فنًّا وأدباً خاصًّا لكتابة سير الناجحين، لتكون ملهمة لمن يأتي بعدهم في أن يتَّخذ من سيرتهم مشعلاً ينير له درب الحياة.

وإن أردت نموذجاً للمتَّقين، فإنَّك لن تجد كأهل البيت (علیهم السلام) نموذجاً، باعتراف القاصي والداني.

اقرأ في سيرة أيِّ واحدٍ منهم، ابتداءً بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وانتهاءً بمهدي الأُمَم ¨، فإنَّك لن تُعدَم الحكمة، والقول الطيِّب، والفعل الحسن، في كلِّ مفردة من مفردات حياتهم.

ص: 84


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 180).

لذا اعتبر الإمام الرضا (علیه السلام) أنَّ مجرَّد سماع كلام أهل البيت (علیهم السلام) يُؤدّي إلىٰ دفع الناس لاتِّباعهم في سيرتهم.

يبقىٰ عليَّ وعليك، أنْ نعمل عملاً مزدوجاً، بين قراءة سيرتهم، وبين العمل علىٰ نشر شذاها بين الناس، وليكن معلوماً أنَّ هذا الأمر يُعتَبر من مقتضيات التشيُّع لأهل البيت (علیهم السلام)، خصوصاً في هذا الزمن الذي صار نشر المعلومات سهلاً جدًّا.

علينا أن نعي دورنا في ما يستلزمه منّا ولاؤنا لهم (علیهم السلام)، ولنتذكَّر أنَّه ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38﴾ (المدَّثِّر: 38).

* * *

ص: 85

ص: 86

الفصل الثالث: التفاضل بالإيمان

اشارة

ص: 87

ص: 88

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11﴾ (المجادلة: 11).

مهما كان عند الإنسان من إمكانات.

ومهما كان عنده من قابليّات.

فإنَّه لا يستطيع أن يعيشها بأمان.

ما لم يحصل علىٰ قدرٍ معتدٍّ به من الإيمان.

لا يشكُّ مسلم في أنَّ الإيمان درجة كمالية لا تُنال إلَّا بعد قطع شوط من الإقرارات والاعترافات التي تتمحور حول الإسلام الذي ارتضاه الله تبارك وتعالىٰ ديناً لا غيره.

ولا شكَّ أنَّنا نُدرك بأنَّ المؤمن له فضيلة وكرامة عند لله تعالىٰ، وذلك للنصوص الدِّينية الكثيرة في هذا المجال، يكفي في ذلك ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «لا يُعذِّب الله أهل قرية وفيها رجل واحد من المؤمنين»، وروي أنَّه (صلی الله علیه و آله) نظر إلىٰ الكعبة فقال: «مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك علىٰ الله، ووالله للمؤمن أعظم حرمةً منك لأنَّ الله حرَّم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأنْ يُظَنَّ به ظنَّ السوء...، وليس شيء أحبُّ إلىٰ الله من مؤمن تائب ومؤمنة تائبة، وإنَّ المؤمن يُعرَف في السماء كما يُعرَف الرجل في أهله وولده»(1).

والسؤال المهمُّ هنا هو: كيف يكون الفرد مؤمناً؟

ص: 89


1- انظر: روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 293).

كيف نُحصِّل الإيمان؟

اشارة

تتلخَّص حقيقة الإيمان في أنَّه يُمثِّل القوَّة الذاتية التي تمنح الإنسان الرضا والقناعة بما قسم الله تعالىٰ له، وتسري في كيانه، لتُعطيه الروح المعنوية العالية للالتزام بالإسلام.

وقد لخَّصه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: «الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان»(1).

إذن، للإيمان ثلاثة أركان، هي:

الركن الأوَّل: الإقرار باللسان

يعني النطق بالشهادتين: (أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله).

تلك الكلمة التي تترتَّب علىٰ قائلها أحكام الإسلام، واعتبار كلِّ من نطق بها مسلماً كبقيَّة المسلمين الآخرين، له ما لهم وعليه ما عليهم من حقوق وواجبات، كالحكم بالطهارة، وتزويجه من بنات المسلمين، ودفنه في مقابرهم عند موته، وحفظ أمنه وحرمته بعد أن يتعهَّد بحفظ أمن وحرمة المسلمين وصيانة أعراضهم وأموالهم والالتزام بعاداتهم وتقاليدهم، دفعاً للحرج وتسهيلاً للناس.

وهذا المعنىٰ يُحقِّق المرتبة الأُولىٰ من الإيمان، وهي مرتبة الإسلام، حسبما صرَّح به قوله تعالىٰ: ﴿قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 14﴾ (الحجرات: 14).

وكما نلاحظ وجداناً أنَّ هذا الركن موجود عند عامَّة المسلمين حتَّىٰ المنافق منهم، لأنَّ الإسلام هو ما عليه ظاهر الناس من النطق

ص: 90


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 178/ ح 239).

بالشهادتين، كما يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... والإسلام ما جرىٰ علىٰ اللسان، وحلَّت به المناكحة»(1).

ولذلك، ربَّما يكون الإسلام ناشئاً عن دوافع متعدِّدة ومختلفة، بما فيها الدوافع المادّية والمنافع الشخصية، ومثل هذا الإسلام سيكون هشًّا، يندثر ويتلاشىٰ لأدنىٰ شبهة أو عند تغيُّر المصلحة أو ما شابه، تماماً كما يقول الشاعر:

صلّىٰ وصام لأمرٍ كان يطلبه

فلمَّا انقضىٰ الأمر لا صلّىٰ ولا صاما

وقد نقل التاريخ أنَّه لمَّا سُلِّم علىٰ عبد المَلِك بن مروان بالخلافة، كان في حجره مصحف فأطبقه، وقال: هذا فراق بيني وبينك(2).

إذن، القول باللسان وحده لا يُحقِّق الإيمان.

الركن الثاني: التصديق بالجنان

أي التصديق والعقد القلبي علىٰ ما نطق به لسانه، أو كما تُعبِّر الروايات بأنَّه ما وقر في القلب، وبعبارة صريحة: لا بدَّ أن يكون باطن الإنسان موافقاً لظاهره، حتَّىٰ يتقدَّم خطوة مهمَّة جدًّا نحو الإيمان الكامل. وللتأكيد علىٰ الدور المهمِّ لعقد القلب في الإيمان، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «لو أنَّ العباد وصفوا الحقَّ وعملوا به ولم تُعقَد قلوبهم علىٰ أنَّه الحقُّ ما انتفعوا»(3).

إذن، هذا المستوىٰ من الإيمان يُطلَب فيه الرضا والتصديق القلبي، وهذا كما ترىٰ لا تتدخَّل فيه المصالح الدنيوية أو المادّية، ولا يكون

ص: 91


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 50/ ص 208).
2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 10/ ص 389).
3- تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي (ج 3/ ص 546 و547/ ح 87).

ضعيفاً ولا هشًّا، بل سيكون قويًّا لا تزلزله العواصف، لأنَّه مستند إلىٰ القلب، ولا أحد من البشر يستطيع أن يملك القلب أو يُجبرك علىٰ تغيير معتقداتك.

ولذلك روي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقلُّ منه والمؤمن لا يستقلُّ من دينه شيء»(1).

وسبب ذلك واضح، إذ إنَّ الإنسان لا يُصدِّق عادةً بشيء في قلبه إلَّا إذا كان متيقَّناً منه، وما يتيقَّن به لا يمكن أن يُغيِّره أحد، تماماً كما إذا رأيت شيئاً بأُمِّ عينيك وصدَّقت به، فلا يمكن لأحد أنْ يُقنِعك بأنَّك لم ترَه كما رأيته، وهذا التصديق القلبي يجعل القلب يرىٰ الحقائق بالبصيرة، ويجعله يُصدِّق بالأُمور التي لا تُدركها أدوات البدن - الحواسّ الخمسة الظاهرية -، بل سيرىٰ بروحه المجرَّدة ما لا يراه غيره من الذين زاد تعلُّقهم بالدنيا، فهذا أمير المؤمنين (علیه السلام) وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (صلی الله علیه و آله): «أفأعبد ما لا أرىٰ؟»، فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تُدركه القلوب بحقائق الإيمان...»(2).

وبهذا التصديق القلبي أصبح المؤمن بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ممَّن لم يرَه أخاً له (صلی الله علیه و آله)، فقد روي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «متىٰ ألقىٰ إخواني؟»، قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: «بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق»(3).

ص: 92


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 241/ باب المؤمن وعلاماته وصفاته/ ح 37).
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 99).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 12/ ص 184/ ح 34583).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «أيُّ الخلق أعجب إليكم إيماناً؟»، قالوا: الملائكة، قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربِّهم؟!»، قالوا: فالأنبياء، قال: «فما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!»، قالوا: فنحن، قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! ألَا إنَّ أعجب الخلق إليَّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صُحُفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيه»(1).

الركن الثالث: العمل بالأركان

إذا اعترف الإنسان بلسانه بالإسلام، وصدَّق به بقلبه، فلا بدَّ من أن يظهر أثر هذا التصديق من خلال الإعمال الصالحة، لتأتي مرحلة الالتزام بأحكام الإسلام، علىٰ مستوىٰ الأعمال الجارحية - علىٰ الأقلّ - من صلاة وصوم و...

وهذا الأثر الذي يُبرز حقيقة الإيمان هو الذي يجعلنا نُصدِّق بأنَّ مدَّعي الإيمان مؤمن حقيقي أو لا، بغضِّ النظر عن كيفية إبراز هذا الجانب، سواء كان بالقول أو بالعمل.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ الآيات والروايات تدلُّ علىٰ الارتباط الوثيق بين الإيمان والعمل الصالح.

أمَّا الآيات فكثيرة، قال تعالىٰ: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدىٰ 82﴾ (طه: 82).

وقال تعالىٰ: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 97﴾ (النحل: 97).

وقال تعالىٰ: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً 88﴾ (الكهف: 88).

ص: 93


1- الدُّرُّ المنثور لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 26).

وأمَّا الروايات فكثيرة أيضاً، منها: ما روي عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: أيُّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: «ما لا يقبل الله شيئاً إلَّا به»، قلت: وما هو؟ قال: «الإيمان بالله الذي لا إله إلَّا هو، أعلىٰ الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظًّا»، قال: قلت: ألَا تُخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: «الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك...»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن، لا يقبل الله أحدهما إلَّا بصاحبه»(2).

تمثيل مادّي لعلاقة الإيمان بالعمل الصالح

وإذا أردت توضيح حقيقة العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعمل الصالح فإليك مثالان للتوضيح:

الأوَّل: أنَّ للشجرة جذراً وأغصاناً وثماراً وأوراقاً، فكلَّما قوي الجذر قوي الجذع، فتزداد الأغصان وتكثر الأوراق وتُثمر الشجرة، وكلَّما زادت الأوراق استفادا أكثر من أشعَّة الشمس فيستفيد بالتالي الجذع فالجذر. فكلَّما قوي هذا ازدادت تلك، وكلَّما ازدادت تلك قوي هذا.

وهكذا الإيمان، كلَّما قوي كثرت الأعمال الصالحة، وكلَّما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان.

الثاني: جهاز الهاتف النقّال (الموبايل) تعتمد الاستفادة منه علىٰ وجود (رصيد) وتوفُّر (شبكة)، ومن دون أحدهما لا يبقىٰ من الهاتف

ص: 94


1- انظر الرواية بطولها في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 33 - 37/ باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلِّها/ ح 1).
2- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 479/ ح 3104).

إلَّا جرمه! فلو أردت الاستفادة منه وعمل اتِّصال، فلا بدَّ لك من رصيد وشبكة.

وهكذا الاتِّصال مع الله تعالىٰ، لا بدَّ لك فيه من رصيد (هو الإيمان)، ومن شبكة اتِّصال قائمة وفعّالة (وهي الأعمال الصالحة).

بيان حقيقة المؤمن

اشارة

عن عمر بن أبان، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «يا معشر الشيعة إنَّكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، ما يمنعكم أن تكونوا مثل أصحاب عليٍّ (علیه السلام) في الناس، وإن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذِّنهم، وصاحب أماناتهم وودائعهم...»(1).

لقد بيَّنت الروايات الشريفة أنَّ الإيمان الحقيقي يتجسَّد بمن أحبَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، وهذا ما نعتقده نحن الشيعة، ولطالما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ عليًّا وشيعته هم الفائزون».

من هنا نجد أنَّ الروايات الشريفة كثيراً ما ذكرت مواصفات الشيعة الحقيقيين، تارةً بلفظ المؤمن، وأُخرىٰ بلفظ الشيعة.

وينبغي أن نُذكِّر بأنَّ الروايات لم تذكر ذلك لأجل أن يملأ المرء ذهنه علماً بلا عمل، وإنَّما ذكرت ذلك لكي يكون دافعاً للعمل.

ونكتفي بنموذج من كلا التعبيرين:

النموذج الأوَّل

روي عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله): «المؤمن قيَّده القرآن عن كثير من هوىٰ نفسه»(2).

ص: 95


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 134).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 162/ ح 814).

هذا الحديث يشير إلىٰ معاني جليلة وعظيمة جدًّا، فإنَّ المؤمن إذا أراد أن يغتاب أحداً مثلاً، منعه قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ 12﴾ (الحجرات: 12).

وإذا أراد أن ينبز أحداً بلقب سيِّئ أو يستهزئ به، منعه قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأَيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11﴾ (الحجرات: 11).

وإذا نُقِلَ له خبر عن أحدهم، لم يُصدِّقه حتَّىٰ يتبيَّنه، لأنَّ القرآن يقول له: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ 6﴾ (الحجرات: 6).

وإذا كان لوحده لا يراه إنسان، امتنع عن المعصية، لأنَّ القرآن يتمثَّل له وهو يقول له: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً 108﴾ (النساء: 108).

وإذا أراد أن يلفظ كلمة، رنَّ في أُذُنه قوله تعالىٰ: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ (الإسراء: 36).

وهزَّ قلبَه قوله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16﴾ (ق: 16).

ص: 96

وهكذا في كلِّ محرَّم، بل في كلِّ حركة وسكون، يقف أمامه القرآن الكريم فيمنعه من فعل المحرَّم ويدفعه نحو فعل ما يُرضي الله تعالىٰ، مهما كانت العواقب، وهو يتقوّىٰ بقول الإمام الحسين (علیه السلام): «من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس»(1).

ويفتخر بأنَّه يتَّبع مولاه أمير المؤمنين (علیه السلام) حين تخلّىٰ عن المكر رغم أنَّ مصلحته الدنيوية فيه، لا لنقص في معرفته بالمكر والخديعة، وإنَّما لأنَّه كما قال (علیه السلام): «والله ما معاوية بأدهىٰ منّي، ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهىٰ الناس، ولكن كلَّ غدرة فجرة، وكلَّ فجرة كفرة، ولكلِّ غادر لواء يُعرَف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة [أي لا يستضعفني شديد القوَّة]»(2).

ولأنَّه (علیه السلام) التزم بمبدأ «ولقد أصبحنا في زمان قد اتَّخذ أكثر أهله الغدر كَيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلىٰ حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله، قد يرىٰ الحُوَّلُ القُلَّبُ وجه الحيلة، ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدِّين»(3).

ص: 97


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 268/ح 293/14)؛ والنصُّ الكامل هو التالي: عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدِّه (علیهم السلام)، قال: «كتب رجل إلىٰ الحسين بن عليٍّ (علیه السلام): يا سيِّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد فإنَّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس، والسلام».
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 180 و181).
3- نهج البلاغة (ج 1/ ص 92).

النموذج الثاني

أي الصفات التي جاءت لتصف المؤمنين بلفظ الشيعة - وهي كثيرة جدًّا - نذكر منها ما روي عن الإمام العسكري (علیه السلام): «شيعة عليٍّ (علیه السلام) هم الذين لا يبالون في سبيل الله أَوَقع الموت عليهم أو وقعوا علىٰ الموت، وشيعة عليٍّ (علیه السلام) هم الذين يُؤثِرون إخوانهم علىٰ أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم، ولا يفقدهم من حيث أمرهم، وشيعة عليٍّ (علیه السلام) هم الذين يقتدون بعليٍّ في إكرام إخوانهم المؤمنين»(1).

إنَّ شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يخلو حالهم من:

أوَّلاً: اطمئنانٍ تامٍّ بما هم عليه من الحقِّ، ذلك الاطمئنان الذي ينعكس علىٰ عدم خوفهم من الموت أنّىٰ جاءهم.

ثانياً: أنَّ أنفسهم تاقت إلىٰ الآخرة وما فيها من نعيم، وبالتالي فقد زهدت في الدنيا، فلا يُهمِّهم أن يُعطوا ما يُحِبُّون إلىٰ إخوانهم المؤمنين، لأنَّ عطاءهم يصبُّ في هدفهم النهائي المرسوم، إذا العطاء غذاء لروحهم، وتقدمة يُقدِّمونها لأنفسهم في يوم لا ينفع مال ولا بنون.

ثالثاً: أنَّهم وقفوا أنفسهم علىٰ ما يرضاه الله تعالىٰ، فلن تفقدهم في موضع طاعة، ولن تجدهم في موضع معصية.

رابعاً: وبالتالي، فهم قد جعلوا من أمير المؤمنين (علیه السلام) رمزاً يقتدون به، خصوصاً فيما يتعلَّق بإكرام المؤمنين.

مسالك الإيمان

اشارة

لقد جاء الإسلام بتعاليم لأتباعه هي في الوقت التي كانت دقيقة، كانت مرسومة بأدقّ خطَّة، بحيث إنَّ من يريد اتِّباعها بدقَّة، فإنَّه سيجد

ص: 98


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (علیه السلام) (ص 319).

أمامه خطَّة واضحة المسالك والمعالم، ومن هنا وجدنا أنَّ بعض الروايات الشريفة ترسم مسالك الإيمان بأدقّ وأحلىٰ خطَّة، نذكر عناوينها باختصار مع ذكر بعض الروايات في ذلك:

المسلك الأوَّل: لا تكذب

قال رجل له (صلی الله علیه و آله): المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: المؤمن يسرق؟ قال (صلی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك»، قال: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 105]»(1).

نعم ورد الاستثناء في بعض الموارد، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «الكذب مذموم إلَّا في أمرين: دفع شرِّ الظلمة، وإصلاح ذات البين»(2).

المسلك الثاني: ثق بالله تعالىٰ

فعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لا يصدق إيمان عبد حتَّىٰ يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده»(3).

المسلك الثالث: ارضَ بقضاء الله

عن الإمام الباقر (علیه السلام): «بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بعض أسفاره إذ لقيه ركب، فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فقال (صلی الله علیه و آله): ما أنتم؟ قالوا: نحن مؤمنون، قال (صلی الله علیه و آله): فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلىٰ الله تعالىٰ، فقال (صلی الله علیه و آله): علماء حكماء

ص: 99


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 118/ ح 275).
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 96/ ح 10323/8).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 64/ ص 314).

كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتَّقوا الله الذي إليه ترجعون»(1).

المسلك الرابع: أحبَّ وأبغضْ لله

عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتَّىٰ يُحِبَّ أبعد الخلق منه في الله، ويُبغِض أقرب الخلق منه في الله»(2).

المسلك الخامس: نَوِّرْ قلبك

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «استقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال: يا رسول الله، مؤمن حقًّا. فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): لكلِّ شيء حقيقة، فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلىٰ عرش ربّي [و]قد وُضِعَ للحساب، وكأنّي أنظر إلىٰ أهل الجنَّة يتزاورون في الجنَّة، وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار! فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): عبد نوَّر الله قلبه، أبصرتَ فاثبت. فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك. فقال: اللّهمّ ارزق حارثة الشهادة. فلم يلبث إلَّا أيّاماً حتَّىٰ بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرية فبعثه فيها، فقاتل فقتل تسعة - أو ثمانية - ثمّ قُتِلَ».

وفي رواية القاسم بن بريد عن أبي بصير، قال: استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر(3).

ص: 100


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 52 و53/ باب حقيقة الإيمان واليقين/ح 1).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 369).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 54/ باب بيان حقيقة الإيمان واليقين/ ح 3).

المسلك السادس: أخلص الإيمان

عن المسيح (علیه السلام): «نقُّوا القمح وطيِّبوه وأدقُّوا طحنه تجدوا طعمه ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غبُّه»(1).

المسلك السابع: أحفظ أدنىٰ الإيمان

عن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «أدنىٰ ما يكون به العبد مؤمناً أن يُعرِّفه الله تبارك وتعالىٰ نفسه فيقرَّ له بالطاعة، ويُعرِّفه نبيَّه (صلی الله علیه و آله) فيقرَّ له بالطاعة، ويُعرِّفه إمامه وحجَّته في أرضه وشاهده علىٰ خلقه فيقرَّ له بالطاعة»، قال سُليم: قلت له: يا أمير المؤمنين، وإن جهل جميع الأشياء إلَّا ما وصفت؟ قال: «نعم، إذا أُمِرَ أطاع، وإذا نُهي انتهىٰ»(2).

المسلك الثامن: اهرب عن أدنىٰ الكفر

عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أدنىٰ ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يواخي الرجل علىٰ دينه فيُحصي عليه عثراته وزلّاته ليُعنِّفه (ليعيره خ ل) بها يوماً [ما]»(3).

* * *

ص: 101


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 392).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 414/ باب أدنىٰ ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالًّا/ ح 1).
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 394/ ح 48).

ص: 102

الفصل الرابع: التفاضل بالعمل الصالح

اشارة

ص: 103

ص: 104

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَسارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134 وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135 أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ 136﴾ (آل عمران: 133 -136).

السباق في مضمار السعادة

من أهمّ أساليب الدعوة إلىٰ التفوُّق في علم النفس الاجتماعي، هي مسألة التسابق بين مجموعة أفراد، ذلك أنَّ من طبيعة المرء أنَّه يميل إلىٰ الراحة والدعة، حتَّىٰ لو كان عنده هدف مهمٌّ ومصيري، فإذا وجد نفسه وحده يسير في الطريق نحو الهدف فإنَّ من طبعه أن لا يستعجل بالمسير، ولكن إذا كان هناك من ينافسه في الوصول إلىٰ الهدف ذاته، فإنَّ طبيعته (الأنانية) وحبَّه لذاته يدفعه نحو السير حثيثاً للوصول قبل الآخرين، ليفوز بمعانقة الهدف قبلهم. وهذا الأمر من الوجدان قريب، وكلُّنا لاحظ كيف أنَّ أطفاله يتسابقون للفوز بجلب كأس الماء لأبيهم حتَّىٰ ينالوا كلمة (أحسنت)!

ص: 105

وهل رأيت كيف أنَّ التلاميذ تكاد أصابعهم تصل إلىٰ عينَي معلمهم لو سألهم سؤالاً وكانوا يعرفون الجواب؟!

إذن، مبدأ التنافس من أهمّ مبادئ العمل الاجتماعي إذا أُريد له النجاح.

ولم يكن الإسلام بعيداً عن هذا المبدأ، بل تجده يُؤكِّد علىٰ هذا المبدأ تأكيداً شديداً، إنْ علىٰ مستوىٰ الآيات، وإنْ علىٰ مستوىٰ الأحاديث.

يقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ 22 عَلَىٰ الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ 23 تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ 24 يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ 25 خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ 26﴾ (المطفِّفين: 22 -26).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 148﴾ (البقرة: 148).

ويقول تعالىٰ: ﴿... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَىٰ اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 48﴾ (المائدة: 48).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (علیه السلام)، قال: «إذا أردتَ شيئاً من الخير فلا تُؤخِّره، فإنَّ العبد ليصوم الحارَّ يريد به ما عند الله (عزوجلّ) فيعتقه الله من النار، ويتصدَّق بصدقة يريد بها وجه الله فيعتقه الله من النار»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «كان أبي يقول: إذا هممت بخير فبادر، فإنَّك لا تدري ما يحدث»(2).

وعن أبي ذرٍّ في حديث وصيَّة النبيِّ (صلی الله علیه و آله) له: «يا أبا ذرٍّ، اغتنم

ص: 106


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 142/ باب تعجيل فعل الخير/ح 5).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 142/ باب تعجيل فعل الخير/ح 3).

خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحَّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.

يا أبا ذرٍّ، إيّاك والتسويف بأملك فإنَّك بيومك ولست بما بعده، فإنْ يكن غد لك تكن في الغد كما كنت في اليوم، وإنْ لم يكن غد لك لم تندم علىٰ ما فرَّطت في اليوم»(1).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فُتِحَ له باب خير فلينتهزه، فإنَّه لا يدري متىٰ يُغلَق عنه»(2).

وهذا ما يجعل العمل الصالح والمسارعة به من أهمّ ما يُميِّز بعض المسلمين عن بعض - بالإضافة إلىٰ العلم والتقوىٰ والإيمان كما عرفت فيما سبق -.

والآيات التي افتتحنا بها هذا الفصل تشير إلىٰ هذا المبدأ: مبدأ المسارعة في العمل، فليس المطلوب هو مجرَّد العمل، بل المطلوب المسارعة فيه، فلعلَّ غيرك يسبقك إلىٰ الهدف، فتبقىٰ تأكل نفسك حسرات، وإلىٰ هذا المعنىٰ يشير الدعاء الوارد في أدعية شهر رمضان المبارك: «... واجعلني ممَّن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري»(3).

معانٍ ملكوتية

اشارة

لقد ذكرت الآيات الشريفة في بحثنا أنَّ الهدف من المسارعة هو الحصول علىٰ المغفرة والجنَّة التي عرضها السماوات والأرض، ثمّ نلاحظ أنَّها تقول: إنَّ تلك الجنَّة العريضة هي جنَّة أُعدَّت للمتَّقين، وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ الذي من

ص: 107


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 526/ ح 1162/1).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 74/ ص 165).
3- مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي (ص 568).

شأنه المسارعة إليها هم المتَّقون، أمَّا غير المتَّقي فلعلَّه يُشغِل نفسه بسقط الطريق عن مواصلة السباق! ولذا تُعرِّج الآيات علىٰ ذكر مصاديق العمل الصالح الذي يسير بك حثيثاً نحو الجنَّة، وهي:

أوَّلاً: انفِقْ

كان عبد الله بن المبارك يحجُّ سنة ويغزو سنة، وداوم علىٰ ذلك خمسين سنة، فخرج في بعض سنيِّ الحجِّ وأخذ معه خمسمائة دينار إلىٰ موقف الجمال بالكوفة ليشتري جمالاً للحجِّ، فرأىٰ امرأة علوية علىٰ بعض المزابل تنتف ريش بطَّة ميِّتة!

قال: فتقدمت إليها، فقلت: ولِمَ تفعلين هذا؟

فقالت: يا عبد الله، لا تسأل عمَّا لا يعنيك!

قال: فوقع في خاطري من كلامها شيء، فألححت عليها، فقالت: يا عبد الله، قد ألجأتني إلىٰ كشف سرّي إليك. أنا امرأة علوية ولي أربع بنات يتامىٰ، مات أبوهنَّ من قريب، وهذا اليوم الرابع ما أكلنا شيئاً، وقد حلَّت لنا الميتة، فأخذت هذه البطة أُصلحها وأحملها إلىٰ بناتي يأكلنها!

قال: فقلت في نفسي: ويحك يا ابن المبارك أين أنت عن هذه؟ فقلت: افتحي حجرك، ففتحت، فصببت الدنانير في طرف إزارها وهي مطرقة لا تلتفت.

قال: ومضيت إلىٰ المنزل ونزع الله من قلبي شهوة الحجِّ في ذلك العام، ثمّ تجهَّزت إلىٰ بلادي، فأقمت حتَّىٰ حجَّ الناس وعادوا، فخرجت أتلقّىٰ جيراني وأصحابي، فجعل كلُّ من أقول له: قبل الله حجَّك وشكر سعيك، يقول لي: وأنت قبل الله حجَّك وشكر سعيك، إنّا قد اجتمعنا بك في مكان كذا وكذا، وأكثر الناس عليَّ في القول، فبتُّ متفكِّراً، فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام وهو يقول لي: «يا عبد الله، لا تعجب فإنَّك

ص: 108

أغثت ملهوفة من ولدي، فسألت الله أن يخلق علىٰ صورتك مَلَكاً يحجُّ عنك كلَّ عام إلىٰ يوم القيامة، فإن شئت أن تحجَّ وإن شئت لا تحجُّ»(1).

ليس المطلوب في الإنفاق أن تُنفِق ما لا تحتاجه، فهذا قد يفعله أيُّ شخص، ولكن المطلوب أن تلتزم بما أراده الله تعالىٰ منك من حقوق في ما أودع عندك من أموال، ومن أهمّ حقوق المال: إغاثة الملهوف، والصدقات المستحبَّة - فضلاً عن الواجبة من خُمُس وزكاة أنعام وغلّات وزكاة فطرة - والتوسعة علىٰ العيال وغيرها من الحقوق المذكورة في محلِّها.

المهمُّ أن نعرف هنا: أنَّ الله تعالىٰ قد فرض علينا إغاثة الملهوف بأموالنا، وقدَّم هذا الأمر علىٰ كثير من المستحبّات، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلَّا بما مُتِّع به غنيٌّ، والله تعالىٰ سائلهم عن ذلك»(2).

والملفت للنظر أنَّ الآية الشريفة لا تستعمل صيغة الأمر للدعوة إلىٰ الإنفاق، فلم تقل للمتَّقين: (أنفقوا)، بل هي أخبرت عن أنَّ المتَّقين هذا فعلهم، فقالت: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ (آل عمران: 134)، وهذا إن لم نقل: إنَّه أمر بصيغة الخبر(3)، فهو إخبار عن

ص: 109


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 42/ ص 11 و12).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 78).
3- هناك مبحث في علم الأُصول مفاده أنَّ الإمام (علیه السلام) قد يستعمل صيغة الخبر ويقصد منها الإنشاء (الأمر)، وقال الأُصوليون: إنَّ هذا الأُسلوب أكثر بلاغةً وأقوىٰ إيقاعاً لدفع المكلَّف نحو العمل، فكأنَّ الإمام (علیه السلام) قد أخذ امتثال المكلَّف مفروغاً عنه، فذكر الأمر بصيغة الخبر. وهناك روايات كثيرة في هذا المجال، نذكر منها علىٰ سبيل المثال: عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) أنَّه قال: «لا صلاة إلَّا إلىٰ القبلة»، قال: قلت: وأين حدُّ القبلة؟ قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلُّه»، قال: قلت: فمن صلّىٰ لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: «يعيد». (من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 1/ ص 278/ ح 855).

أمر مفروغ عنه، وكأنَّ الآية تريد القول بأنَّ المتَّقين سجيَّتهم الإنفاق، وطبعهم بذل أموالهم، سرًّا وعلانيةً، علىٰ غرار قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «لو لم يُرغِّب الله سبحانه في طاعته، لوجب أن يطاع رجاء لرحمته، ولو لم ينه الله سبحانه عن محارمه، لوجب أن يجتنبها العاقل»(1).

وهكذا كأنَّ الآية تريد أن تقول: لو لم يأمر الله تعالىٰ المتَّقين بالإنفاق لأنفقوا من تلقاء أنفسهم، لأنَّهم عقلاء.

هذا، ومن الملفت أيضاً: أنَّ الآية تدعو إلىٰ الإنفاق باعتباره فعلاً اجتماعياً من شأنه تقوية أواصر الأُخوَّة والمحبَّة بين المؤمنين، ولذا دعت إلىٰ الإنفاق ليس في السرّاء فقط، إذ لعلَّ هذا لا يكشف عن نيَّة العمل الاجتماعي الهادف، بل دعت إلىٰ الإنفاق في حالة السرّاء والعوز، عندئذٍ تتبيَّن حقيقة الهدف من هذا الإنفاق.

وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ هذا الأمر من موارد وسوسة الشيطان! باعتبار أنَّ الشيطان وفي محاولة منه لمنع الإنسان من الإنفاق، يقول له: إنَّك فقير، وماذا تستطيع أن تُنفِق؟ إذن أمسك علىٰ يدك وجيبك!

ولكن ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّه:

أوَّلاً: لا تستحِ من إعطاء القليل، فإنَّ الحرمان أقلّ منه(2) .

ثانياً: أنَّ الإنفاق ليس منحصراً بالإنفاق المادّي، فكلمةٌ طيِّبة تُنفِقها في إصلاح ذات البين ربَّما تعدل ألف قنطار من الذهب الأحمر! فالمهمُّ هي نيَّة العمل، فإذا كانت لله تعالىٰ، فهي عظيمة مهما صغر العملُ في أعين الناس.

ص: 110


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 417).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 15/ الحكمة رقم 67).

وليس عنك بعيد ما أنفقته العائلة العلوية علىٰ المسكين واليتيم والأسير، رغم كونه بسيطاً في أعيننا. لكن، لأنَّ الهدف كان الله تعالىٰ، فقد كانت هذه الصدقة البسيطة (العظيمة) محطَّ نظر الوحي، فيُخلِّدها في سورة من سُوَر القرآن الكريم.

يقول تعالىٰ مخلِّداً تلك الصدقة:

﴿إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً 5 عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً 6 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً 7 وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً 8 إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9 إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً 10 فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً 11 وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً 12﴾ (الإنسان: 5 - 12).

ثانياً: اكظِمْ غيظك

يُروىٰ أنَّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) استدعىٰ غلاماً له، وناداه مرَّتين فلم يجبه، فقال له زين العابدين: «أمَا سمعتَ ندائي؟»، فقال: بلىٰ قد سمعت، قال: «فما حملك علىٰ ترك إجابتي؟»، قال: أمنت منك، وعرفت طهارة أخلاقك، فتكاسلت، فقال: «الحمد لله الذي أمن منّي عبدي»(1).

ربَّما يتصوَّر البعض أنَّ الإنسان إذا تنازل عن بعض حقوقه فهذا يعني أنَّه غُبِنَ، وأنَّه سيكون جباناً، وأنَّه سيُنبَذ من الناس، وأنَّ الناس لا تحترم إلَّا من يُنفِّذ رغباته مهما كانت الظروف، وأنَّ البقاء للأقوىٰ و...

ص: 111


1- شرح إحقاق الحقِّ للسيِّد المرعشي (ج 28/ ص 67).

ولكن هذه النظرة لهي أقرب إلىٰ حياة الغاب منها إلىٰ حياة العقل.

ولذا تجد أنَّ من يعيش حالة الغضب دائماً، تجده دائماً يعيش التوتُّر والفشل والندم وعضَّ اليدين، حتَّىٰ قيل: إنَّ السفينة في البحر الهائج ومن دون قبطان في ليل داج، لهي أقرب إلىٰ النجاة من الإنسان في حالة الغضب!

إنَّ الإسلام ينظر إلىٰ كلِّ الوجود بنظرة إنسانية، ملؤها الحبُّ والإيثار والتفاني، وهو بهذا يُؤسِّس الكثير من المبادئ التي تتماشىٰ والطبيعة الإنسانية العاقلة، ومن ذلك مسألة كظم الغيظ مع التمكُّن من إمضاء الغضب.

وهذا ما أكَّدته الكثير من النصوص الدِّينية، عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنَّ في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي، فلا أُمحقك فيمن أُمحق، وإذا ظُلِمْتَ بمظلمة فارض بانتصاري لك، فإنَّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»(1).

ثالثاً: أعفُ مهما استطعت

كلُّ شيء في هذا الوجود مبنيٌّ علىٰ أساس نظام متقن لا يقبل التخلُّف، ومن ذلك أنَّ كلَّ شيء في الوجود له مكانه الخاصّ به، لو وُضِعَ في غيره لما حصلنا علىٰ النتيجة المرجوَّة منه، تماماً كما يقول الشاعر:

ووضع الندىٰ في موضع السيف في البلىٰ

مُضرٌّ، كوضع السيف في موضع الندىٰ

وعليه، فإذا سمعنا بالروايات المؤيَّدة بالآيات، تدعو المؤمن إلىٰ العفو عن الظالم، خصوصاً عند المقدرة عليه(2)، لا يعني هذا أن نعفو عنه أينما كان وكيفما

ص: 112


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 304/ باب الغضب/ح 10).
2- مثل حديث أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا قدرت علىٰ عدوِّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه». (نهج البلاغة: ج 4/ ص 4/ الحكمة رقم 11).

كان، وإلَّا كان هذا مشجِّعاً للظالم علىٰ ظلمه(1)، ففي (حالة وجود خطر من جانب العدوِّ، واحتمال أن يُؤدّي العفو عنه إلىٰ تجرّيه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إذا اعتبر العفو استسلاماً للظلم وخضوعاً أمامه ورضىً به، فإنَّ الإسلام لا يُجيز مطلقاً مثل هذا العفو، وكما أنَّ أئمَّة الإسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات...)(2).

إنَّما يعني ذلك أن تعفو حيث يكون العفو مُصلِحاً للظالم، أن تعفو حيث يكون الصفح منتجاً للاستقامة، أمَّا أن تعفو حيث يستمرُّ الظالم بظلمه، فهذا سيجعلك كمجيرة الذئب(3)!

إذا عرفت هذا المعنىٰ، فاعف حيث استطعت أن تعفو، ولكي

ص: 113


1- روي في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 174): ادَّعىٰ رجل علىٰ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) ألف دينار كذباً ولم يكن له عليه، فذهبا إلىٰ شريح، فقال للحسن (علیه السلام): أتحلف؟ قال: «إن حلف خصمي أُعطيه»، فقال شريح للرجل: قل: بالله الذي لا إله إلَّا هو عالم الغيب والشهادة، فقال الحسن: «لا أُريد مثل هذا، لكن قل: بالله إنَّ لك عليَّ هذا، وخذ الألف»، فقال الرجل ذلك وأخذ الدنانير، فلمَّا قام خرَّ إلىٰ الأرض ومات، فسُئِلَ الحسن (علیه السلام) عن ذلك، فقال: «خشيت أنَّه لو تكلَّم بالتوحيد يغفر له يمينه ببركة التوحيد، ويحجب عنه عقوبة يمينه».
2- تفسير الأمثل لناصر مكارم الشيرازي (ج 3/ ص 516/ تفسير الآيتين 148 و149 من سورة النساء).
3- حكي أنَّ بعضهم قال: دخلت البادية فإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلىٰ جانبها جرو ذئب، فقالت: أتدري ما هذا؟ فقلت: لا، قالت: هذا جرو ذئب، أخذناه صغيراً وأدخلناه بيتنا وربَّيناه، فلمَّا كبر فعل بشاتي ما ترىٰ، وأنشدت: بقرتَ شويهتي وفجعتَ قلبي *** وأنت لشاتنا ابنٌ ربيبُ غذيتَ بدُرِّها ونشأتَ معها *** فمن أنباك أنَّ أباك ذيبُ إذا كان الطباع طباع سوءٍ *** فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف (ج 1/ ص 345).

تندفع نحو العفو، ضع في جعبتك بعض الأحاديث التي تُشجِّعك علىٰ ذلك، وسيرة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، وكيف كانوا يعفون عن ألدِّ أعدائهم خير محفِّز لذلك.

روي أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان جالساً في أصحابه فمرَّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال (علیه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلىٰ امرأة تُعجِبه فليلامس أهله فإنَّما هي امرأة كامرأة»، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (علیه السلام): «رويداً إنَّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفو عن ذنب»(1).

وظاهر الرواية أنَّه (عليه السلام) عفا عنه!

وروي عن المبرَّد وابن عائشة: أنَّ شامياً رأىٰ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) راكباً فجعل يلعنه! و الحسن لا يردُّ. فلمَّا فرغ أقبل الحسن (علیه السلام) فسلَّم عليه وضحك، فقال:

«أيُّها الشيخ أظنُّك غريباً، ولعلَّك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكْتَ رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلىٰ وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».

فلمَّا سمع الرجل كلامه، بكىٰ ثمّ قال: أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله

ص: 114


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 98 و99/ الكلمات القصار رقم 420).

إليَّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفه إلىٰ أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبَّتهم(1).

رابعاً: كُنْ محسناً

هناك من الصفات ما هو امتدادي - إذا صحَّ التعبير -، بمعنىٰ أنَّ تلك الصفات لا تقف عند حدٍّ تقول فيه: هاهنا لا غير، بل هي صفات من شأنها أن تزيد كلَّما زيد في مقتضيها، فالإخلاص صفة حسنة، ولكن الإخلاص إذا ازداد انتقل الإنسان من صفة المخلِص - بالكسر - إلىٰ المخلَص - بالفتح -. ولذا كان الأنبياء (علیهم السلام) من المخلَصين - بالفتح -. وهذا ما ورد ثمان مرّات في القرآن الكريم، كلُّها في مقام مدح مقامات بعض الأنبياء (علیهم السلام) (2).

وهكذا الصدق، يزيد حتَّىٰ يصير الصادق صدّيقاً(3).

وهكذا بقيَّة الصفات.

والحقيقة، أنَّ هذا الأمر يرجع في جذوره إلىٰ أنَّ الإيمان هو كذلك، أي هو عبارة عن مراحل تكاملية تصاعدية، وهذا ما وضَّح معالمه مولانا الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث رائع في هذا المجال يقول فيه:

«إنَّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُّلَّم، يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لستَ علىٰ شيء، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ العاشر. فلا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو

ص: 115


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 184).
2- انظر: (يوسف: 24)، و(الحجر: 40)، و(الصافّات: 40 و74 و128 و160 و169)، و(ص 82).
3- سورة يوسف: 46.

فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمناً فعليه جبره»(1).

من هنا نجد أنَّ الآيات - المتقدِّمة بداية الفصل - لم تكتفِ بصفة العفو عن المسيء - وإن كان أثرها عظيماً - ولكنَّها دعت - بنفس الأُسلوب المشار إليه قبل قليل - إلىٰ أن يكون المؤمن محسناً.

صحيح أنَّ العفو عن المسيء يغسل آثار العداوة والبغضاء من القلوب، ولكن الإحسان يقلع جذور تلك العداوة من أعماق القلوب حتَّىٰ لا يبقىٰ لها عين ولا أثر.

يُروىٰ أنَّه كان بالمدينة رجل من ولد عمر بن الخطّاب يُؤذي الإمام موسىٰ بن جعفر الكاظم (علیهما السلام) ويشتم عليًّا (علیه السلام)، وكان قد قال له بعض حاشيته: دعنا نقتله، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشدّ الزجر، وسأل عن العمري، فذُكِرَ له أنَّه يزرع بناحية من نواحي المدينة.

فركب إليه في مزرعته، فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا تطأ زرعنا، فتوطَّأه بالحمار، حتَّىٰ وصل إليه، فنزل وجلس عنده، وضاحكه، وقال له:

«كم غرمت في زرعك هذا؟».

قال له: مائة دينار.

قال: «فكم ترجو أن تصيب فيه؟».

قال: لا أعلم الغيب.

قال: «إنَّما قلت لك: كم ترجو فيه».

قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار.

ص: 116


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 447 و448).

قال: فأعطاه ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك علىٰ حاله».

قال: فقام العمري فقبَّل رأسه، وانصرف.

قال: فراح إلىٰ المسجد فوجد العمري جالساً، فلمَّا نظر إليه قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

قال: فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصَّتك؟! قد كنت تقول خلاف هذا! فخاصمهم وسابَّهم، وجعل يدعو لأبي الحسن موسىٰ (علیه السلام) كلَّما دخل وخرج.

قال: فقال أبو الحسن موسىٰ (علیه السلام) لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: «أيّما كان أخير: ما أردتم أو ما أردت؟ أردت أن أُصلح أمره بهذا المقدار»(1).

خامساً: لا تصرَّ علىٰ ذنب

ما هو السبب الذي من أجله يذنب الناس؟

الحقيقة أنَّ هذا بحث طويل الذيل، ولكن يمكن أن نستفيد من قوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135﴾ (آل عمران: 135)، أنَّ من أهمّ أسباب الذنب هو: نسيان - أو تناسي - الله تعالىٰ، لذا فهم عندما يتذكَّرون يستغفرون.

ولذا كان المتَّقون علىٰ ذكر دائم لله تعالىٰ، وحتَّىٰ لو خانتهم أنفسهم وورَّطتهم في المعصية، فإنَّ هذه الورطة لن تدوم طويلاً، لأنَّهم

ص: 117


1- دلائل الإمامة للطبري الشيعي (ص 311)؛ الإرشاد للمفيد (ص 297)؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 13/ ص 28)؛ إعلام الورىٰ للطبرسي (ص 306)؛ سير أعلام النبلاء للذهبي (ج 6/ ص 271).

ما إن يواقعوا المعصية، حتَّىٰ يُلهِمهم عقلهم بمراجعة أنفسهم، فيرجعوا إلىٰ رشدهم، ويتذكَّروا الله تعالىٰ في جانب المراقبة الدائمة والعذاب الأليم والنِّعَم الجسيمة والرعاية الإلهيَّة الدائمة وغيرها كثير، كلُّ ذلك يدعوهم إلىٰ الإقلاع سريعاً عن الذنب.

نعم، هكذا هم المتَّقون.

في هذا المجال يُروىٰ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال:

«خرجت امرأة بغيّ علىٰ شباب من بني إسرائيل فافتتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلان رآها افتنته، وسمعت مقالتهم فقالت: والله لا أنصرف إلىٰ منزلي حتَّىٰ أفتنه!

فمضت نحوه في الليل فدقَّت عليه، فقالت: آوي عندك، فأبىٰ عليها، فقالت: إنَّ بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني وإلَّا لحقوني وفضحوني، فلمَّا سمع مقالتها فتح لها، فلمَّا دخلت عليه رمت بثيابها، فلما رأىٰ جمالها وهيأتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها، ثمّ رجعت إليه نفسه، وقد كان يُوقِد تحت قدر له، فأقبل حتَّىٰ وضع يده علىٰ النار، فقالت: أيُّ شيء تصنع؟

فقال: أُحرقها لأنَّها عملت العمل، فخرجت حتَّىٰ أتت جماعة بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضع يده علىٰ النار، فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»(1).

وهنا قد وردت رواية عظيمة المعنىٰ ينبغي الانتباه جيِّداً إلىٰ مضمونها، تُذكَر عادةً في ذيل الآية مورد الكلام، وهي عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، قال:

ص: 118


1- قَصص الأنبياء للراوندي (ص 186 و187).

«لمَّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135﴾ [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلا بمكَّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلىٰ صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيِّدنا، لِمَ دعوتنا؟

قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟!

فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا.

قال: لستَ لها.

فقام آخر فقال مثل ذلك.

فقال: لستَ لها.

فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها.

قال: بماذا؟

قال: أعدهم وأُمنّيهم حتَّىٰ يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار.

فقال: أنت لها! فوكَّله بها إلىٰ يوم القيامة»(1).

مسالك سريعة نحو الجنَّة

اشارة

قلنا: إنَّ الله تعالىٰ قد جعل من أهمّ ملاكات التفاضل بين البشر هو العمل الصالح، والأعمال الصالحة كثيرة متكاثرة، ولكن لو اطَّلعنا سريعاً علىٰ الروايات الشريفة، لوجدنا أنَّ هناك بعض الأعمال التي هي صغيرة في حجمها، ولكن لها أثراً عظيماً في الوصول نحو الهدف

ص: 119


1- أمالي للشيخ الصدوق (ص 551/ ح 736/5).

الحقيقي، نحو الله تعالىٰ، حيث السعادة الأبدية، ونذكر هنا بعضاً قليلاً منها عسىٰ الله تعالىٰ أن ينفعنا بها وإخواننا المؤمنين:

المسلك الأوَّل: لا تترك نيَّة الخير

مهما كثرت الأعمال وتنوَّعت، ومهما تعدَّدت فُرَص الخير وتمهَّدت، فإنَّ المدار فيها علىٰ النيَّة الصحيحة، ولذا قال تعالىٰ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً 84﴾ (الإسراء: 84).

مسلك سريع جدًّا، يمكنك من خلاله تحويل جميع حركاتك وسكناتك إلىٰ معمل لصنع الحسنات!

إنَّ الإسلام يطلب منّا أن تكون لنا نيَّة خير في كلِّ فعل، لأنَّ كلَّ فعل - عبادي - إذا لم يصدر عن نيَّة قربية، فلا نفع فيه حسب القانون الإلهي، وهذا ما تُصرِّح به العديد من الروايات الشريفة.

روي أنَّ الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إنَّما قدَّر الله عون العباد علىٰ قدر نيّاتهم، فمن صحَّت نيَّته تمَّ عون الله له، ومن قصرت نيَّته قصر عنه العون بقدر الذي قصَّر»(1).

أضف إلىٰ ذلك: أنَّ الإسلام اعتبر النيَّة خيراً من العمل في كثير من الأحيان، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نيَّة المؤمن أبلغ من عمله»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «نيَّة المؤمن خير من عمله، وإنَّ الله (عزوجلّ) ليُعطي العبد علىٰ نيَّته ما لا يُعطيه علىٰ عمله، وذلك أنَّ النيَّة لا رياء فيها، والعمل يخالطه الرياء»(3).

ص: 120


1- أمالي للشيخ المفيد (ص 65 و66).
2- أمالي للشيخ الطوسي (ص 454/ح 1013/19).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 424/ح 7270).

بل نجد في الإسلام أنَّ خلود أهل الجنَّة وأهل النار إنَّما كان من أسبابه المهمَّة هي النيّات، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 84]، قال: «علىٰ نيَّته»(1).

ولأجل هذا، حثَّ أهل البيت (علیهم السلام) علىٰ لزوم النيَّة في كلِّ عمل مهما قلَّ، ففي وصيَّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، ليكن لك في كلِّ شيء نيَّة صالحة، حتَّىٰ في النوم والأكل»(2).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «لا بدَّ للعبد من خالص النيَّة، في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن هذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد ذمَّهم الله تعالىٰ فقال: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44﴾ [الفرقان: 44]، وقال: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 179﴾ [الأعراف: 179]»(3).

المسلك الثاني: لا تترك البسملة

لو راجعنا القرآن الكريم بتمعُّن، لوجدناه يُعلِّمنا الاستعانة ب- ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في العديد من الموارد المصيرية، ذلك لأنَّ البسملة تبتدئ باسم الله تعالىٰ الخالد الأبدي، فإذا أُريد لشيء الخلود، فلا بدَّ من قرنه باسم الله تعالىٰ، حتَّىٰ ينال حظًّا من الخلود ببركة لفظ الجلالة.

ص: 121


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ح 94).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 464).
3- مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق (علیه السلام) (ص 53 و54).

فتجده مرَّةً يستعين بالبسملة للابتداء بكلِّ سُوَر القرآن الكريم(1)، في إشارة إلىٰ أهمّية الاستعانة بالله تعالىٰ في تحمُّل القرآن ومعانيه والالتزام بمضامينه ومصرَّحاته.

بل إنَّ أوَّل ما نزل علىٰ النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) كان هو: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...﴾ (العلق: 1)، فكانت بداية الدعوة الإلهيَّة مقرونة باسم الله العظيم.

والنبيُّ نوح (علیه السلام)، لمَّا ركب السفينة، ابتدأ فيها باسم الله تعالىٰ، للاستعانة بهذا الاسم المبارك من هول الطوفان وخطر الغرق. قال تعالىٰ: ﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 41﴾ (هود: 41).

وقد كُتِبَ لهذه الرحلة المباركة النجاة والموفَّقية والسلام، قال تعالىٰ: ﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ 48﴾ (هود: 48).

والنبيُّ سليمان (علیه السلام) يبدأ كتابه بالبسملة، وهو في طريق هداية أو قتال قوم سبأ، قال تعالىٰ حكايةً عن ملكة سبأ: ﴿قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ 29 إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ30﴾ (النمل: 29 و30).

من هنا تجد التأكيد الكبير والكثير في روايات أهل بيت العصمة

ص: 122


1- طبعاً عدا سورة براءة لحكمة مذكورة في محلِّها، مرتبطة بأنَّ بداية السورة هي البراءة من الأعداء، وهذا لا يناسبه بلاغياً الابتداء بالبسملة، لما فيها من الرحمة العامَّة والخاصَّة. وبعبارة تفسير الأمثل (ج 1/ ص 27): (وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنَّها تبدأ بإعلان الحرب علىٰ مشركي مكَّة وناكثي الأيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن الرحيم).

(علیهم السلام) علىٰ الالتزام بالبسملة، وفي الحقيقة أنَّ البسملة بقدر ما هي خفيفة علىٰ اللسان، فإنَّ لها آثاراً عظيمة، فحريٌّ بالمؤمن أن لا يترك البسملة بحال من الأحوال.

عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «التسمية مفتاح الوضوء ومفتاح كلِّ شيء»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «من توضَّأ فذكر اسم الله طهر جميع جسده، وكان الوضوء إلىٰ الوضوء كفّارة لما بينهما من الذنوب، ومن لم يُسَمِّ لم يطهر من جسده إلَّا ما أصابه الماء»، وقال (علیه السلام): «من ذكر الله علىٰ وضوئه فكأنَّما اغتسل»(2).

وعنه (علیه السلام): «لا تدع البسملة، ولو كتبت شعراً...»(3).

وعنه (علیه السلام): «إذا توضَّأ أحدكم ولم يُسَمِّ، كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس وكلُّ شيء صنعه ينبغي له أن يُسمّي عليه، فإنْ لم يفعل كان للشيطان فيه شرك»(4).

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): «وأنَّ الله قد فضَّل محمّداً بفاتحة الكتاب علىٰ جميع النبيِّين، وما أعطاها أحداً قبله، إلَّا ما أعطىٰ سليمان بن داود (علیه السلام) منها: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، فرآها أشرف من جميع ممالكه التي أُعطيها. فقال: يا ربِّ، ما أشرفها من كلمات، إنَّها

ص: 123


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 323/ ح 730/12).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 15 و16/ ثواب من ذكر اسم الله (عزوجلّ) علىٰ وضوئه).
3- مستدرك سفينة البحار للشيخ عليٍّ النمازي الشاهرودي (ج 5/ ص 176) نسبه إلىٰ أوَّل كتاب المقتصر شرح المختصر لابن فهد الحلّي.
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 430/ ح 252).

لآثر عندي من جميع ممالكي التي وهبتها لي. قال الله تعالىٰ: يا سليمان، وكيف لا يكون كذلك وما من عبد ولا أَمَة سمّاني بها إلَّا أوجبت له من الثواب ألف ضعف ما أُوجب لمن تصدَّق بألف ضعف ممالكك»(1).

المسلك الثالث: لا تترك الصلاة علىٰ النبيِّ وآله

لقد أكَّدت الروايات الشريفة علىٰ أهمّية الصلاة علىٰ النبيِّ محمّد (صلی الله علیه و آله) وآله الطاهرين (علیهم السلام)، ذاكرةً لها الكثير من الثمرات الدنيوية والأُخروية. جاعلةً منها أخصر طريق للحصول علىٰ مرضاة الله تعالىٰ، وفضلها أشهر من نار علىٰ عَلَم، ولا نطيل الكلام بشرح تلك الآثار، فلقد تكفَّلت الروايات الشريفة ذلك:

فقد روي عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يُوضَع في الميزان يوم القيامة الصلاة علىٰ محمّد وعلىٰ أهل بيته»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «صلُّوا عليَّ حيث كنتم، فإنَّ صلاتكم تبلغني وتسليمكم يبلغني»(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «أكثِروا الصلاة عليَّ، فإنَّ الصلاة عليَّ نور في القبر، ونور علىٰ الصراط، ونور في الجنَّة»(4).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «ما من عبد من أُمَّتي يُصلّي عليَّ صلاةً صادقاً بها من قِبَل نفسه، إلَّا صلّىٰ الله عليه بها عشر صلوات، وكتب له بها عشر

ص: 124


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (علیه السلام) (ص 593).
2- قرب الإسناد للحميري القمّي (ص 14/ أحاديث متفرِّقة/ ح 45).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 34/ ص 332)؛ وقريب منه في كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 489/ ح 2147).
4- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 216/ ح 581).

حسنات، ومحا بها عنه عشر سيِّئات(1). وما من عبد يُصلّي عليَّ إلَّا صلَّت عليه الملائكة ما دام يُصلّي عليَّ، فليُقِلَّ العبد من ذلك أو ليُكثِر(2). ومن الجفاء أنْ أُذكَر عند رجل فلم يُصَلِّ عليَّ(3). ومن ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ فقد شقي»(4).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «كلُّ دعاء محجوب حتَّىٰ يُصلّي علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) »(5).

وعن معنىٰ الصلاة علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) يقول الإمام الكاظم (علیه السلام) لمَّا سُئِلَ عن معنىٰ صلاة الله والملائكة والمؤمنين في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً 56﴾ [الأحزاب: 56]: «صلاة الله رحمة من الله، وصلاة الملائكة تزكية منهم له، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له»(6).

نكتة مهمَّة:

الرجاء الاهتمام بذكر الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد في كتاباتنا، بمعنىٰ أن لا نكتفي بكتابة (ص) أو (صلعم) أو (ع) وما شابه، بل لا بدَّ من كتابة (صلّىٰ الله عليه وآله) و(عليه السلام) أو (صلوات الله عليه)، ففي هذه الكتابات آثار تكوينية عظيمة ربَّما لم نطَّلع عليها إلىٰ الآن، ولكن استمع إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث روي عنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من

ص: 125


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2154).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2155).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2156).
4- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2157).
5- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2153).
6- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 156 و157).

صلّىٰ عليَّ في كتاب، لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب»(1).

وقد ورد أنَّ من آداب الكتابة هو ذلك، قال الشهيد الثاني : (... إذا نسخ شيئاً من كُتُب العلم الشرعية، فينبغي أن يكون علىٰ طهارة مستقبلاً طاهر البدن والثياب والحبر والورق، ويبتدئ الكتاب بكتابة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، و(الحمد الله والصلاة علىٰ رسوله وآله)...، وكلَّما كتب اسم الله تعالىٰ أتبعه بالتعظيم، مثل: تعالىٰ، أو سبحانه، أو عزَّ وجلَّ، أو تقدَّس ونحو ذلك، ويتلفَّظ بذلك أيضاً.

وكلَّما كتب اسم النبيِّ (صلی الله علیه و آله) كتب بعده الصلاة عليه وعلىٰ آله والسلام، ويُصلّي ويسمِّ هو بلسانه أيضاً. ولا يختصر الصلاة في الكتاب، ولا يسأم من تكريرها ولو وقعت في السطر مراراً كما يفعل بعض المحرومين المتخلِّفين من كتابة (صلعم) أو (صلم) أو (صم) أو (صلسم) أو (صله)، فإنَّ ذلك كلَّه خلاف الأولىٰ والمنصوص.

بل قال بعض العلماء: إنَّ أوَّل من كتب (صلعم) قُطِعَت يده.

وأقلُّ ما في الإخلال بإكمالها تفويت الثواب العظيم عليها، فقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من صلّىٰ عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب».

وإذا مرَّ بذكر أحد من الصحابة سيّما الأكابر كتب (رضي الله عنه) أو (رضوان الله عليه)، أو بذكر أحد من السلف الأعلام كتب (رحمه الله) أو (تغمَّده الله برحمته) ونحو ذلك.

وقد جرت العادة باختصاص الصلاة والسلام بالأنبياء، وينبغي

ص: 126


1- منية المريد للشهيد الثاني (ص 347).

أن يجعل للأئمَّة (علیهم السلام) السلام، وإن جاز خلاف ذلك كلُّه، بل يجوز الصلاة علىٰ كلِّ مؤمن، كما دلَّ عليه القرآن والحديث.

وكتابة ما ذُكِرَ من الثناء ونحوه هو دعاء يُنشِئه لا كلام يرويه، فلا يتقيَّد فيه بالرواية ولا بإثبات المصنِّف، بل يكتبه وإن سقط من الأصل المنقول أو المسموع منه. وإذا وجد شيئاً من ذلك قد جاءت به الرواية أو مذكوراً في التصنيف كانت العناية بإثباته وضبطه أكثر)(1).

المسلك الرابع: لا تترك الوضوء

من الأُمور العقلائية المعاشة وجداناً، أنَّ كلَّ من أراد الحصول علىٰ شيء من شخص، فلا بدَّ أوَّلاً أن يجعل المقابل يُحِبُّه، وعليه أن يبحث عن الطُّرُق الكفيلة بجعل المقابل يُحِبُّه. وهناك طُرُق كثيرة للحصول علىٰ محبَّة المقابل، منها أن تدخل عليه بأحبِّ الناس إليه، ومنها أن تأتيه بهدية قيِّمة، ومنها أن تُطيعه في عمل يأمرك به، وغيرها كثير.

فإذا جئنا إلىٰ الباري تعالىٰ، نجد من أنفسنا الرغبة العارمة في الحصول علىٰ ما عنده تعالىٰ من النعيم المقيم الذي لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ علىٰ قلب بشر! فلا بدَّ إذن من الحصول علىٰ محبَّة الله تعالىٰ، فكيف أحصل عليها؟

لا شكَّ أنَّ هناك الكثير من الأُمور التي توجب محبَّة الله تعالىٰ، وليس هذا محلَّ ذكرها، المهمُّ هنا أن نذكر أنَّ من أهمّ أسباب الحصول علىٰ المحبَّة الإلهيَّة هي الطهارة، بما لها من معنىٰ واسع يشمل الطهارة الخارجية من النجاسات الظاهرية، والطهارة المعنوية من الذنوب والمعاصي، يقول تعالىٰ: ﴿... لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَىٰ التَّقْوىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ

ص: 127


1- منية المريد للشهيد الثاني (ص 346 - 348).

أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ108﴾ (التوبة: 108).

ويقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222﴾ (البقرة: 222).

هذا، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ من أوضح مصاديق الطهارة المادّية والمعنوية هي الطهارات الثلاث (الوضوء والغُسل والتيمُّم)، وحيث إنَّ كلامنا في المسالك السريعة للجنَّة، فإنَّ أسرع هذه الثلاثة هو الوضوء، لعموم الابتلاء به، ولمزاولته يومياً ثلاث مرّات علىٰ الأقلّ، ولدقَّة أحكامه.

من المأسوف عليه أنَّ البعض من الناس في غفلة عن أهمّية الوضوء، فتجدهم لا يتعاهدون الوضوء إلَّا في الصلاة المفروضة، في الوقت الذي نجد فيه النصوص الدِّينية قد أكَّدت علىٰ الاهتمام بالوضوء أكثر من هذه الناحية بكثير! إنْ علىٰ مستوىٰ الدعوة إلىٰ التكثير من الوضوء، وإنْ علىٰ مستوىٰ بيان ثمرات الوضوء وآثاره، وإنْ علىٰ مستوىٰ بيان ثواب الاستمرار علىٰ الوضوء، وفيما يلي بعض الروايات في هذا الصدد:

ففي مقام الدعوة إلىٰ الالتزام بالوضوء، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من نام علىٰ الوضوء إنْ أدركه الموت في ليله فهو عند الله شهيد»(1).

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «من تطهَّر ثمّ آوىٰ إلىٰ فراشه، بات وفراشه كمسجده، وإن ذكر أنَّه ليس علىٰ وضوء فتيمَّم من دثاره كائناً ما كان، لم يزل في صلاة ما ذكر الله (عزوجلّ) »(2).

ص: 128


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 214/ ح 577).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 116/ ح 434/202).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «من أسبغ الوضوء في البرد الشديد كان له من الأجر كفلان، ومن أسبغ الوضوء في الحرِّ الشديد كان له أجر كفل»(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «إذا توضَّأ الرجل المسلم خرجت خطاياه من سمعه وبصره ويديه ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «أكثِر من الطهور يزد الله في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار علىٰ طهارة فافعل، فإنَّك تكون إذا مِتَّ علىٰ الطهارة شهيداً»(3).

المسلك الخامس: صافح المؤمن

عن أبي عبيدة، قال: كنت زميل أبي جعفر (علیه السلام)، وكنت أبدأ بالركوب ثمّ يركب هو، فإذا استوينا سلَّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح.

قال: وكان إذا نزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو علىٰ الأرض سلَّم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه، فقلت: يا ابن رسول الله، إنَّك لتفعل شيئاً ما يفعله أحد من قبلنا، وإن فعل مرَّةً فكثير!

فقال: «أمَا علمت ما في المصافحة! إنَّ المؤمنين يلتقيان، فيصافح أحدهما صاحبه، فلا تزال الذنوب تتحاتَّ عنهما كما يتحاتَّ الورق عن الشجر، والله ينظر إليهما حتَّىٰ يفترقا»(4).

لم يُكتَب لبني البشر أنْ يعلموا الباطن، ولم تُفرَض عليهم المعاملة

ص: 129


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 9/ ص 291/ ح 26059).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 9/ ص 284/ ح 26031).
3- أمالي الشيخ المفيد (ص 60/ فضل الطهور والموت مع الطهارة/ ح 5).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 179/ باب المصافحة/ح 1).

علىٰ الباطن، وما من طريق إلىٰ الباطن إلَّا الظاهر، ولذا كان تعامل المسلمين علىٰ الظاهر في كثير من الموارد ليس هذا محلَّ ذكرها، المهمُّ أنْ نعرف أنَّ الإنسان عادةً(1) إنَّما يكشف عن باطنه بفعله الظاهري، وجاء الإسلام بتعاليم سامية ترسم طريقة مهذَّبة للكشف عن الباطن بما يخدم المصلحة الإسلاميَّة علىٰ المستوىٰ الفردي والاجتماعي، ومن أهمّ الطُّرُق المرسومة لذلك هي تصافح المؤمنين فيما بينهم.

من هنا تجد التأكيد الشديد علىٰ ضرورة المصافحة بين المؤمنين، وقد ذكرت الروايات الشريفة الكثير من أدبيات هذا الطريق. ومن ذلك ما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله (عزوجلّ) يده بين أيديهما وأقبل بوجهه علىٰ أشدّهما حبًّا لصاحبه، فإذا أقبل الله (عزوجلّ) بوجهه عليهما تحاتَّت عنهما الذنوب كما يتحاتَّ الورق من الشجر»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ما صافح رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجلاً قطُّ فنزع يده حتَّىٰ يكون هو الذي ينزع يده منه»(3).

المسلك السادس: سلِّم علىٰ كلِّ من لقيت

دخل رجل علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فقال: السلام عليك، فقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «وعليك السلام ورحمة الله»، فجاءه آخر فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال (صلی الله علیه و آله): «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته»، فجاءه آخر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «وعليك

ص: 130


1- قلنا: (عادةً) لإخراج المنافق، فكلامنا في المؤمن كما هو المفروض.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 179/ باب المصافحة/ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 182/ باب المصافحة/ح 15).

السلام ورحمة الله وبركاته»، فقيل: يا رسول الله، زدت للأوَّل والثاني في التحيَّة، ولم تزد للثالث؟

فقال: «إنَّه لم يبقَ لي من التحيَّة شيئاً فرددت عليه مثله»(1).

لا شكَّ أنَّ لكلِّ قوم تحيَّتهم الخاصَّة بهم، تعبيراً منهم عن مشاعر الاحترام والتقدير لمن يحيُّونه، والإسلام له تحيَّته الخاصَّة التي هي نفس تحيَّة أهل الجنَّة(2)، تلك التحيَّة هي: السلام.

إنَّ في (السلام) كلَّ مشاعر الحبِّ والاحترام، فهو دعاء للحفظ، ودعاء بالحياة، وأمان من الشرِّ بإلقاء السلام(3)، ودعاء بالرحمة الإلهيَّة، ودعاء لاستنزال البركة الإلهيَّة، وغيرها كثير.

ولذلك تجد أنَّ سيرة الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) كانت علىٰ إفشاء السلام، لما فيه من البركات العظيمة، فلقد ورد في سيرة النبيِّ الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه كان يُسلِّم علىٰ كلِّ من لقيه، حتَّىٰ علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعده(4).

ويكفي في أهمّية السلام أنْ تعرف أنَّ ردَّه واجب، وأنَّ الكلام المتعمَّد

ص: 131


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 148)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 81/ ص 274).
2- ﴿دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 10﴾ (يونس: 10)؛ ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ 23﴾ (إبراهيم: 23).
3- يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «السلام تحيَّة لملَّتنا، وأمان لذمَّتنا». (كنز العُمّال للمتَّقي الهندي: ج 9/ ص 114/ ح 25242).
4- عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهنَّ حتَّىٰ الممات: الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي». (الخصال للشيخ الصدوق: ص 271).

يقطع الصلاة إلَّا السلام، فإنَّه يجب ردُّه ولو أثناء الصلاة - كما هو مذكور في الرسائل العملية -، نعم ذكر الفقهاء أنَّه يُكرَه أنْ تُسلِّم علىٰ شخص وهو يُصلّي.

والروايات الشريفة قد ذكرت الكثير من أدبيات السلام، نذكر بعضاً قليلاً منها:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ابدؤوا بالسلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تُجيبوه»(1).

وقال (علیه السلام): «لا تدعُ إلىٰ طعامك أحداً حتَّىٰ يُسلِّم»(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) في قول الله (عزوجلّ): ﴿فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْأَياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 61﴾ [النور: 61]، قال:

«هو تسليم الرجل علىٰ أهل البيت حين يدخل، ثمّ يردُّون عليه، فهو سلامكم علىٰ أنفسكم»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «يُسلِّم الصغير علىٰ الكبير، والمارُّ علىٰ القاعد، والقليل علىٰ الكثير»(4).

المسلك السابع: داوم علىٰ العمل وإنْ قلَّ

لقد كتب الله علىٰ الإنسان أنْ يكون مخلوقاً من طبعه النسيان، ولا يعني هذا أنَّ النسيان نقمة بقدر ما هو نعمة، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في هذا الشأن: «... وأعظم من النعمة علىٰ الإنسان في الحفظ، النعمة في

ص: 132


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 644/ باب التسليم/ ح 2).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 19/ ح 67).
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 162 و163/ معنىٰ تسليم الرجل علىٰ نفسه/ح 1).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 646/ باب من يجب أن يبدأ بالسلام/ ح 1).

النسيان! فإنَّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد...»(1).

ولكن مع ذلك لا نُنكِر أنَّ النسيان كان ولا يزال من أهمّ مشاكل الإنسان التي تواجهه في مناحي عديدة من الحياة، فالنسيان يجعله ينسىٰ عملاً فلا يتمُّه، أو يتمُّه فلا يُتقِنه، والنسيان يُسبِّب المشاكل مع أصحاب المواعيد، والنسيان يُفقِد المرء تركيزه في العلم، والنسيان يُسبِّب الألم والحزن لطالب العلم - أيِّ علم -، و...

من هنا بحث الإنسان - ولا زال - عن طُرُق ووسائل من شأنها أنْ تُنمّي الذاكرة وتُقوّيها، من شأنها أنْ تلمَّ بأطراف الموضوع حتَّىٰ يكتمل، ومن شأنها أنْ تجعل العلم في متناول يد العقل، ومن شأنها متابعة الفكرة حتَّىٰ تُثمِر، فجاءت الكثير من العلوم التي أعطت قوائم في طُرُق تنمية الذاكرة، كعلم التنمية البشرية (البرمجة اللغوية العصبية)(2)، وغيره من العلوم التي أعطت طُرُقاً لتقوية الذاكرة لحفظ

ص: 133


1- التوحيد للمفضَّل بن عمر الجعفي (ص 38)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 58/ ص 257، فيما قاله الإمام الصادق (علیه السلام) للمفضَّل بن عمر).
2- البرمجة اللغوية العصبية (NLP) هي ترجمة للعبارة الإنجليزية (Neuro Linguistic Programming)، التي تُطلَق علىٰ علم جديد، بدأ في منتصف السبعينات الميلادية، علىٰ يد العالمَين الأمريكيَّين: الدكتور جون غرندر (عالم لغويات)، وريتشارد باندلر (عالم رياضيات ومن دارسي علم النفس السلوكي وكان مبرمج كمبيوتر أيضاً). وهذا العلم فيه الكثير من الميزات التي تُعرِّفك علىٰ خصائص الإنسان الباطنية التي من شأنها أن تُعطيك القدرة علىٰ التأثير في المقابل وإقناعه، ويبحث في سُبُل نجاح المرء في الحياة، ويبحث عن طُرُق إدارة الوقت، وعن الطُّرُق الكفيلة بالحفظ وتقوية الذاكرة، وقد كتب بعض الباحثين الشيعة العديد من الكُتُب في هذا المجال - وإن لم يُسمِّها بعلم البرمجة اللغوية العصبية -، وضمَّنها - علىٰ غير عادة غيره ممَّن كتب في هذا العلم - الكثير من أحاديث أهل بيت العصمة (علیهم السلام) .

الملفات وأماكنها مثلاً، أو حفظ القرآن الكريم، أو حفظ المحاضرة العلمية، أو ما شابه.

والملاحظ أنَّ الكلَّ يتَّفق علىٰ أنَّ من أهمّ طُرُق تقوية الذاكرة وإتقان العمل هو التكرار، فكلَّما تكرَّرت التجربة، وكلَّما تكرَّرت القراءة، وكلَّما تكرَّرت الحادثة، فإنَّ القدرة علىٰ حفظها ستقوىٰ أكثر، أي إنَّ هناك علاقة طردية بين الحفظ والتكرار، وهذا بطبيعته ينتج كلَّ النتائج المرجوَّة من الحفظ.

من هنا نجد أنَّ الإسلام دعا إلىٰ تكرار بعض الأعمال وعدم الاكتفاء بالإتيان بها مرَّة واحدة، فالصلاة لا بدَّ أن تُصلّىٰ كلَّ يوم خمس مرّات، والصوم يُعاد عليك كلَّ سنة، والحجُّ يُستَحبُّ الإتيان به كلَّ سنة، والصدقة ينبغي أن تُعمَل كلَّ يوم، والسلام لا بدَّ أن يُلقىٰ علىٰ كلِّ من لقيت، و...

وأنت إذا لاحظت الروايات الشريفة، تجد أنَّها أمرت الإنسان - ولو علىٰ مستوىٰ الأمر الاستحبابي - بأنَّه إذا بدأت بعمل من الأعمال - دعاءً كان أو غيره - فلا بدَّ أنْ تستمرَّ عليه سنة كاملة، فإنَّ في تكراره لمدَّة سنة الكثير من الفوائد، فالتكرار يزيد من قابلية الحفظ، ويزيد من احتمالية اكتشاف النكات الكامنة في العمل - أيِّ عمل - ويفتح صناديق مغلقة من العلوم، ويزيد من قابلية التركيز وبالتالي التدبُّر في المعاني التي يحتويها العمل، وقد نُقِلَ أنَّ إديسون قد أعاد تجربته في صنع المصباح الكهربائي أكثر من (9999) مرَّة، وفي كلِّ مرَّة يفشل ويُعيَّر بفشله يقول: (لقد تعلَّمت طريقة جديدة خاطئة لصنع المصباح)، وهكذا إلىٰ أن وصل في الناهية إلىٰ صنع ما يضيء لنا ظلام الليل!

ص: 134

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلىٰ هذه الحقيقة، فعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إذا كان الرجل علىٰ عمل فليدُم عليه سنة، ثمّ يتحوَّل عنه إن شاء إلىٰ غيره، وذلك أنَّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أنْ يكون»(1).

وفي رواية أُخرىٰ عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) أنَّه قال: «أحبُّ الأعمال إلىٰ الله (عزوجلّ) ما داوم [ما دام] عليه العبد وإن قلَّ»(2).

وفي رواية ثالثة عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إيّاك أنْ تفرض علىٰ نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالاً»(3).

وروي أنَّ أبا جعفر (علیه السلام) كان يقول: «إنّي أُحِبُّ أنْ أدوم علىٰ العمل إذا عوَّدتني نفسي، وإنْ فاتني من الليل قضيته من النهار، وإنْ فاتني من النهار قضيته بالليل، وإنَّ أحبَّ الأعمال إلىٰ الله ما ديم عليها، فإنَّ الأعمال تُعرَض كلَّ يوم خميس وكلَّ رأس شهر، وأعمال السنة تُعرَض في النصف من شعبان، فإذا عوَّدت نفسك عملاً فدُمْ عليه سنة»(4).

ص: 135


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 82/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 1)، وجاء في هامش المصدر: (يكون) خبر (إن)، و(فيها) خبر يكون الضمير راجع إلىٰ (الليلة). وقوله: (ما شاء الله أن يكون) اسم (يكون)، وقوله: (في عامه) متعلّق ب- (يكون) أو حال عن (الليلة)، والحاصل: أنَّه إذا داوم سنة يصادف ليلة القدر التي يكون فيها ما شاء الله كونه من البركات والخيرات والمضاعفات، فيصير له هذا العمل مضاعفاً مقبولاً. ويحتمل أن يكون الكون بمعنىٰ التقدير، أو يُقدَّر مضاف في (ما شاء الله).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 82/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 83/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 6).
4- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73).

المسلك الثامن: اجلِبْ هدية لأهل بيتك

من الأُمور المتَّفق عليها: أنَّ الإنسان كائن اجتماعي، فهو لا يستطيع العيش بمفرده، بل لا بدَّ أنْ يختلط مع أفراد نوعه حتَّىٰ يستطيع وإيّاهم إكمال مسيرة الحياة، وكلٌّ من الأفراد سيكون خادماً لصاحبه من حيث يعلم أو لا يعلم، علىٰ حدِّ قول الشاعر:

الناس للناس من بدو ومن حضر *** بعض لبعض وإنْ لم يشعروا خدم

ولكن ارتباطات بني آدم مع أفراد نوعه مختلفة بالشدَّة والضعف، فبعض العلاقات تكون ضعيفة جدًّا، كعلاقتك بسائق سيّارة الأُجرة، أو علاقتك بمن تشتري منه الفواكه. وبعضها أقوىٰ قليلاً، ولكنَّها علاقة مؤقَّتة، كعلاقتك بربِّ عملك، فإنَّها علاقة مرتبطة بمدَّة عقدك العمل معه، أو علاقتك مع رفاقك في سفر طويل كسفر الحجِّ مثلاً. وهناك علاقات أقوىٰ من سابقتيها، كعلاقتك مع جارك، ومع أقاربك الأباعد. ولكن تبقىٰ هناك علاقة لا تدانيها علاقة أُخرىٰ في قوَّة الارتباط، تلك هي علاقة الفرد بأُسرته.

هذا، ومن المتَّفق عليه أنَّ كلَّ علاقة إذا أُريد لها الاستمرار - مهما كان نوعها - فلا بدَّ لها من ماء يسقي شجرة الارتباط فيها، فالعلاقة حالها حال وردة في حديقة غنّاء، لا بدَّ لها من سقي مستمرٍّ معتدل حتَّىٰ يُكتَب لها أنْ تعيش وتملأ الجوَّ عبيراً وشذىٰ، وحتَّىٰ تسرَّ الناظر إليها بما لها من ألوان أخّاذة لقلوب من يرونها!

وهذا يعني فيما يعنيه: أنَّ علىٰ المرء أنْ يمتلك اللباقة الكافية والسياسة الواعية لملئ الفراغات بما يُقوّي تلك العلاقات، وكما قلنا: إنَّ أهمّ علاقات المرء هي علاقته بأهله وأُسرته، إذن هو يحتاج إلىٰ تلك اللباقة والسياسة أكثر في علاقته هذه.

ص: 136

وإنْ سألت عن الطُّرُق اللبقة والسياسية التي من شأنها تقوية تلك العلاقة؟

فأُجيب: بأنَّ الطُّرُق أكثر من أنْ تُذكَر، وهي إلىٰ الخبرة والتجربة الشخصية أقرب منها إلىٰ التعليم، وإن أبيت فما عليك إلَّا أنْ تراجع روايات أهل بيت العصمة (علیهم السلام)، لترىٰ بأُمِّ عينيك أروع الطُّرُق لتقوية العلاقة الأُسرية، والتي يتصدَّر قائمة السياسات فيها: حسن الخُلُق، المداراة، الرحمة، الصبر، التوسعة، الحلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وحيث إنَّ كلامنا في طُرُق سريعة للعمل الصالح، فقد وجدت أنَّ من أخصر وأسرع الطُّرُق إلىٰ قلوب العائلة - حسب ما جاء في الروايات الشريفة - هي الهدية - وإن صغرت -، فإنَّ لها أثراً إيجابياً عظيماً علىٰ قلوب العائلة، وهذا ما دعت إليه الروايات الشريفة كثيراً.

فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من دخل السوق فاشترىٰ تحفة فحملها إلىٰ عياله، كان كحامل صدقة إلىٰ قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنَّه من فرَّح أُنثىٰ فكأنَّما عتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرَّ بعين ابن فكأنَّما بكىٰ من خشية الله، ومن بكىٰ من خشية الله أدخله الله جنّات النعيم»(1).

وعن عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: «جاء رجل إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، عندي دينار فما تأمرني به؟

قال: أنفقه علىٰ أُمِّك.

قال: عندي آخر، فما تأمرني به؟

ص: 137


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 201).

قال: أنفقه علىٰ أبيك.

قال: عندي آخر، فما تأمرني به؟

قال: أنفقه علىٰ أخيك.

قال: عندي آخر، فما تأمرني به؟ ولا والله ما عندي غيره.

قال: أنفقه في سبيل الله، وهو أدناها أجراً»(1).

وعن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اطرفوا أهاليكم في كلِّ جمعة بشيء من الفاكهة واللحم حتَّىٰ يفرحوا بالجمعة»(2).

ومع هذا كلِّه، ينبغي أنْ لا ننسىٰ أنَّ علاقتنا مع أهلنا وعائلتنا لا بدَّ أن تكون تحت الإطار الدِّيني الإلهي لا أكثر، فلا بدَّ أنْ لا ننسىٰ أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول لبعض أصحابه:

«لا تجعلنَّ أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإنْ يكن أهلك وولدك أولياء الله فإنَّ الله لا يُضيِّع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله فما همُّك وشغلك بأعداء الله»(3).

المسلك التاسع: لا تبخل بالنصيحة

لا شكَّ أنَّ من أهمّ أهداف النبوّات والأنبياء هي النصيحة لعباد الله تعالىٰ، بما يهديهم إلىٰ الصواب الدنيوي والأُخروي، وهذا ما ذكرته العديد من الآيات الشريفة، فعن هود النبيِّ (علیه السلام) يقول تعالىٰ: ﴿وَإِلىٰ عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا

ص: 138


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 454/ ح 1014/20).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 391/ ح 85).
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 82/ الحكمة رقم 352).

تَتَّقُونَ 65 قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ 66 قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 67 أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ 68﴾ (الأعراف: 65 - 68).

وعن النبيِّ صالح (علیه السلام) يقول تعالىٰ: ﴿فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ 79﴾ (الأعراف: 79).

وهكذا آيات أُخرىٰ تشير إلىٰ هذا المعنىٰ.

والملاحظ: أنَّ الروايات الشريفة لا تحصر النصيحة بالأنبياء وتبليغهم الرسالات السماوية، بل تعتبر أنَّ من أهمّ مقوِّمات الدِّين - أخلاقياً - هي النصيحة، ولذا قال رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله) - لأصحابه-: «الدِّين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم»(1).

وفي بيان هذا الحديث نقل العلَّامة المجلسي  عن النهاية:

(النصيحة كلمة يُعبَّر بها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وأصل النصح في اللغة: الخلوص.

ومعنىٰ نصيحة الله: صحَّة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النيَّة في عبادته.

والنصيحة لكتاب الله: هو التصديق به، والعمل بما فيه.

ونصيحة رسوله (صلی الله علیه و آله): التصديق بنبوَّته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهىٰ عنه.

ص: 139


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 424).

ونصيحة الأئمَّة: أن يُطيعهم في الحقِّ.

ونصيحة عامَّة المسلمين إرشادهم إلىٰ مصالحهم. انتهىٰ)(1).

ولتأكيد مبدأ النصيحة، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من يضمن لي خمساً أضمن له الجنَّة»، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «النصيحة لله (عزوجلّ)، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، و النصيحة لجماعة المسلمين»(2).

وعلىٰ كلِّ حالٍ ففي الروايات التأكيد الكبير علىٰ مبدأ النصيحة، وفيها الكثير من أدبيات النصيحة، ومن أدبياتها المعروفة لدىٰ الناس (حتَّىٰ بلغتهم العامّية) هو ما روي عن الإمام الباقر (علیه السلام): «اتَّبع من يُبكيك وهو لك ناصح، ولا تتَّبع من يُضحِكك وهو لك غاشٍ، وستردون علىٰ الله جميعاً فتعلمون»(3).

المسلك العاشر: احتفظ بابتسامة علىٰ وجهك

لقد ثبت أنَّ الضحك حتَّىٰ وإنْ كان مصطنعاً فإنَّه يرفع الروح المعنوية ويُحسِّن الحالة المزاجية، ومثلما هو الحال مع التدريبات البدنية فإنَّه يُؤدّي لإفراز المهدِّئات الداخلية (الاندورفينات)، والتي تمنح الجسم إحساساً بالاسترخاء، فبمجرَّد الابتسام يتمُّ إفراز مادَّة السيروتونين، وهو ناقل عصبي يُؤدّي للشعور بالسعادة في مجرىٰ الدم، وهو مضادٌّ قويٌّ للاكتئاب.

ص: 140


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 64/ ص 273 و274).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 294/ ح 60).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 603 و604/ باب قبول النصح/ ح 32).

وكما أنَّ الابتسامة ستُدخِل الراحة علىٰ قلب المبتسم وتجعله إنساناً متفائلاً، كذلك لها تأثير علىٰ الجانب المقابل في إدخال السرور علىٰ قلبه، فالابتسامة ذات أثرين، أثر علىٰ المبتسم نفسه، وأثر علىٰ من يرىٰ الابتسامة بادية علىٰ الوجوه، وهذا أمر وجداني، فكلُّنا قد واجه في حياته الكثير من المصاعب التي ذلَّلتها الابتسامة، وكم من عدوٍّ أنهت الابتسامةُ عداوته، وكم من حزين أذهبت الابتسامة حزنه، وكم من مهموم أزاحت الابتسامة همَّه.

وأنت إذا أردت أن تعرف صدق هذا الكلام، فجرِّب أنْ تبتسم في بيتك أوَّل ما تجلس من النوم صباحاً، ابتسم في وجه أُمِّك وأبيك وزوجتك وولدك، لترىٰ أنَّ الابتسامة تسيل من شفتيك لتنهال علىٰ قلوب أفراد العائلة، وستلاحظ أنَّ صباح ذلك اليوم يختلف عن بقيَّة الأيّام!

من هنا تجد أنَّ روايات أهل البيت (علیهم السلام) تُؤكِّد علىٰ المؤمن أنْ يكون محتفظاً بابتسامة علىٰ وجهه وإن كان قلبه حزيناً، بل إنَّ الروايات الشريفة عدَّت هذا الأمر من صفات المؤمن التي لا بدَّ منها، فلاحظ الإمام عليًّا (علیه السلام) حيث يقول في صفة المؤمن: «المؤمن بشره في وجهه(1)، وحزنه في قلبه. أوسع شيء صدراً، وأذلُّ شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنو السمعة(2). طويل غمُّه، بعيد همُّه، كثير صمته، مشغول وقته،

ص: 141


1- البِشر - بالكسر -: البشاشة والطلاقة، أي لا يظهر عليه إلَّا السرور وإن كان في قلبه حزيناً، كناية عن الصبر والتحمُّل. (هامش المصدر).
2- ذلَّ نفسه: لعظمة ربِّه وللمتَّضعين من خلقه وللحقِّ إذا جرىٰ عليه. وكراهته للرفعة: بغضه للتكبُّر علىٰ الضعفاء، ولا يحب أن يسمع أحد بما يعمل لله فهو يشنؤ أي يبغض السمعة. وطول غمِّه خوفاً ممَّا بعد الموت. وبُعد همِّه لأنَّه لا يطلب إلَّا معالي الأُمور. (هامش المصدر).

شكور صبور، مغمور بفكرته(1)، ضنين بخلَّته، سهل الخليقة(2)، ليِّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد(3)، وهو أذلُّ من العبد»(4).

وعن أبي الدرداء: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا حدَّث بحديث تبسَّم في حديثه(5).

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «تبسُّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف القذىٰ عنه حسنة، وما عُبِدَ الله بشيء أحبُّ إلىٰ الله من إدخال السرور علىٰ المؤمن»(6).

المسلك الحادي عشر: حسِّن خُلُقك

قالت أُمُّ سَلَمة (رضی الله عنها) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، المرأة يكون لها زوجان فيموتان فيدخلان الجنَّة لأيّهما تكون؟

فقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «يا أُمَّ سَلَمة، تخيَّر أحسنهما خُلُقاً وخيرهما لأهله. يا أُمَّ سَلَمة، إنَّ حسن الخُلُق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(7).

كلُّ حديقة تحتاج إلىٰ وردة فوّاحة، تنشر عبيرها في الأرجاء، وتُحيّي من يقترب منها بشذىٰ فوّاح من ميسمها، وحديقة بدون وردة هي أقرب إلىٰ غابة صمّاء!

ص: 142


1- مغمور أي غريق في فكرته لأداء الواجب عليه لنفسه وملَّته. (هامش المصدر).
2- الخلَّة - بالفتح -: الحاجة، أي بخيل بإظهار فقره للناس والخليقة الطبيعة. والعريكة: النفس. (هامش المصدر).
3- الصلد: الحجر الصلب. ونفس المؤمن أصلب منه في الحقِّ، وإن كان في تواضعه أذلّ من العبد. (هامش المصدر).
4- نهج البلاغة (ج 4/ ص 78 و79/ الحكمة رقم 333).
5- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 21).
6- الكافي لشيخ الكليني (ج 2/ ص 188/ باب إدخال السرور علىٰ المؤمنين/ ح 2).
7- الخصال للشيخ الصدوق (ص 42/ ح 34).

وهكذا البيت، هكذا عشُّ العائلة، يحتاج إلىٰ من يقوم بدور الوردة في الحديقة، ينشر طيبه أنّىٰ حلَّ في البيت. يفتقده الكبار والصغار إذا غاب، ويفرح به حتَّىٰ جدران المنزل إذا آب، إنَّه حسن الخُلُق، ذاك الخُلُق الذي لا يحتمله إلَّا عبد امتحن الله قلبه للإيمان، وإلَّا من يُحِبُّ أنْ يكون بمنزل قريب من منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة.

روي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي في الآخرة مجالس محاسنكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ وأبعدكم منّي في الآخرة مساويكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون المتشدِّقون»(1).

بل ورد أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أنْ دفن سعداً بن معاذ، أخبر بأنَّه قد أصابته ضمَّة! وعندما سُئِلَ عن سبب ذلك قال: «إنَّه كان في خُلُقه مع أهله سوء»(2).

ص: 143


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 10/ ح 5181).
2- وتمام الرواية في أمالي الشيخ الصدوق (ص 468 و469/ ح 623/2): عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، قال: «أُتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقيل له: إنَّ سعد بن معاذ قد مات! فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام أصحابه فأمر فغُسِّل علىٰ عضادة الباب، فلمَّا أن حُنِّط وكُفِّن وحُمِلَ علىٰ سريره تبعه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثمّ كان يأخذ يمنة السرير مرَّة ويسرة السرير مرَّة، حتَّىٰ انتهىٰ به إلىٰ القبر، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتَّىٰ لحَّده وسوّىٰ عليه اللبن، وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسدُّ به ما بين اللبن. فلمَّا أن فرغ وحثىٰ التراب عليه وسوّىٰ قبره، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنّي لأعلم (أنَّه) سيُبلىٰ ويصل إليه البلىٰ ولكنَّ الله (عزوجلّ) يُحِبُّ عبداً إذا عمل عملاً فأحكمه، فلمَّا أن سوّىٰ التربة عليه قالت أُمُّ سعد من جانب: (يا)سعد هنيئاً لك الجنَّة! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا أُمَّ سعد، مَهْ! لا تجزمي علىٰ ربِّكِ، فإنَّ سعداً قد أصابته ضمَّة!»، قال: «ورجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورجع الناس، فقالوا (له): يا رسول الله، لقد رأيناك صنعت علىٰ سعد ما لم تصنعه علىٰ أحد، إنَّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء. فقال (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الملائكة كانت بلا حذاء ولا رداء فتأسَّيت بها. قالوا: وكيف تأخذ يمنة السرير مرَّة ويسرة السرير أُخرىٰ؟ قال: كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله وصلَّيت علىٰ جنازته ولحَّدته (في قبره) ثمّ قلت: إنَّ سعداً قد أصابته ضمَّة!»، قال: «فقال: نعم، إنَّه كان في خُلُقه مع أهله سوء».

المسلك الثاني عشر: التزم الأجواء الإيمانية

عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفر (علیه السلام)، فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلمَّا هَمَّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (علیه السلام):

أُخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك - أنّا نأتيك، فما نخرج من عندك حتَّىٰ ترقَّ قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا.

قال: فقال أبو جعفر (علیه السلام): «إنَّما هي القلوب، مرَّة تصعب ومرَّة تسهل».

ثمّ قال أبو جعفر (علیه السلام): «أمَا إنَّ أصحاب محمّد (صلی الله علیه و آله) قالوا: يا رسول الله، نخاف علينا النفاق!».

قال: «فقال: ولِمَ تخافون ذلك؟

قالوا: إذا كنّا عندك فذكَّرتنا ورغَّبتنا، وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا، حتَّىٰ كأنّا نعاين الآخرة والجنَّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل، يكاد أنْ نُحوَّل عن الحال التي كنّا عليها عندك، وحتَّىٰ كأنّا لم نكن علىٰ شيء. أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟

فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله): كلَّا، إنَّ هذه خطوات الشيطان فيُرغِّبكم في الدنيا، والله لو تدومون علىٰ الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم علىٰ الماء، ولولا أنَّكم تُذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً حتَّىٰ يذنبوا ثمّ يستغفروا الله فيغفر [الله] لهم، إنَّ

ص: 144

المؤمن مفتن توّاب، أمَا سمعت قول الله (عزوجلّ): ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222﴾ [البقرة: 222]، وقال: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ [هود: 3]؟»(1).

للمكان والزمان تأثير مباشر علىٰ روح الإنسان، فالمكتبة مثلاً - لمَّا كانت مكاناً للمطالعة - يكون الإنسان فيها أكثر توجُّهاً واستعداداً للمطالعة والدرس.

والمسجد - وهو المكان المخصَّص للعبادة - يكون الإنسان فيه أكثر تهيُّؤاً للعبادة واستعداداً للتعامل مع الله تعالىٰ، بما يملكه من إيحاء وتأثير في النفس، وقدرة علىٰ التأثر من خلال التجمُّع للصلاة.

والرفقة الصالحة لها تأثير علىٰ الصاحب منهم، فإنَّ المرء علىٰ دين خليله.

وكما قيل في المَثَل: إنَّ الريح إذا مرَّت علىٰ طيب حملت منه طيباً، وإذا مرَّت علىٰ نتن حملت منه نتناً.

ومنه نفهم السبب وراء تأكيد الروايات الشريفة علىٰ ضرورة الابتعاد عن أماكن الحرام من جهة، وعلىٰ ضرورة الالتزام بأماكن الطاعة من جهة أُخرىٰ.

فأمَّا عن ضرورة الابتعاد عن أماكن الحرام، فيقول تعالىٰ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً 140﴾ (النساء: 140).

وفي تفسير هذه الآية، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّما عنىٰ بهذا

ص: 145


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 423 و424/ باب في تنقُّل أحوال القلب/ ح 1).

الرجل يجحد الحقَّ ويُكذِّب به ويقع في الأئمَّة، فقم مِنْ عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68﴾ (الأنعام: 68).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الله لا يُعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة، حتَّىٰ تكون العامَّة تستطيع تُغيِّر علىٰ الخاصَّة، فإذا لم تُغيِّر العامَّة علىٰ الخاصَّة عذَّب الله العامَّة والخاصَّة»(2).

ويقول الإمام عليٌّ (علیه السلام) في حديث (أربعمائة): «لا تجلسوا علىٰ مائدة يُشرَب عليها الخمر، فإنَّ العبد لا يدري متىٰ يُؤخَذ»(3).

وأمَّا عن التزام الأجواء الإيمانية، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ارتعوا في رياض الجنَّة!».

قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنَّة؟

قال: «مجالس الذِّكر»(4).

وعن لقمان الحكيم: اختر المجالس علىٰ عينيك، فإنْ رأيت قوماً يذكرون الله (عزوجلّ) فاجلس معهم، فإنَّك إنْ تكُ عالماً ينفعك علمك ويزيدونك علماً، وإنْ كنت جاهلاً علَّموك، ولعلَّ الله يصلهم برحمة فتعمُّك معهم(5).

ص: 146


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 377/ باب مجالسة أهل المعاصي/ ح 8).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 65/ ح 5515).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 619).
4- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 238).
5- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 394/ باب 131/ ح 9).

وعن الأصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: «من اختلف إلىٰ المساجد أصاب إحدىٰ الثمان: أخاً مستفاد في الله، أو علماً مستظرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردُّه عن ردىٰ، أو يسمع كلمة تدلُّه علىٰ هدىٰ، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً»(1).

المسلك الثالث عشر: لا تنسَ الراحلين عن الدنيا

اشارة

هل مرَّ بك يوم دخلت المستشفىٰ، ومُنِعَتْ عنك الزيارات، ولم يُسمَح لأحد بالدخول عليك أو الكلام معك، ولو بالهاتف؟! هل شغل فكرك آنذاك غير سماع مكالمة من عزيز عليك؟! هل نسيت ألمك عندما سمحوا لأعزّ الناس عليك بزيارة قصيرة لخمس دقائق؟!

لا شكَّ أنَّه حتَّىٰ من لم يمر بهذا الموقف، فإنَّه يستطيع أنْ يتصوَّر هذا الموقف في مخيَّلته! وأكيداً الآن كلُّ من يقرأ هذه الكلمات يستطيع أنْ يتحسَّس - ولو جزئياً - الحالة التي مرَّ بها ذلك المريض.

وأكيداً يستطيع التنبُّؤ بحالة ذلك المريض لو سمحوا للناس بزيارته، ولكنَّه انتظر كثيراً فلم يأتِه أحد من أحبّائه ومن كان يعقد الآمال عليهم!

هكذا هي حالة الراحلين عن الدنيا، إنَّهم ليسوا في مستشفىٰ، ترعاهم الأيادي الرحيمة، إنَّهم أقرب ما يكونون إلىٰ كونهم في سجن لحبس مؤبَّد، وقد مُنِعَ عنه حتَّىٰ ضوء الشمس ونسيم الصبا!

هذا الذي تذكره الروايات الشريفة، وبتعبيرات بلاغية متنوِّعة.

يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ للقبر كلاماً في كلِّ يوم يقول: أنا

ص: 147


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 409 و410/ باب الثمانية/ ح 10).

بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حُفَر النار»(1).

لا أحد منّا اليوم إلَّا وعنده أموات أخذوا أجزاءً كثيرةً من قلبه حينما رحلوا، وتركوا ندوباً عميقة في كبدٍ حرّىٰ.

حريٌّ بنا إذن، أنْ نسلك طريقاً مختصراً لنخدم الموتىٰ و(نزورهم)، لنُمهِّد الطريق لمن يبقىٰ بعدنا أن يذكرنا ويزورنا.

أمَّا كيف نزور الأموات، وكيف نخدمهم؟ فهنا عدَّة نقاط:

أوَّلاً: صلِّ صلاة الوحشة

صلاة ليلة الدفن، وتُسمّىٰ صلاة الوحشة، وهي ركعتان يُقرأ في الأُولىٰ بعد الحمد آية الكرسي، والأحوط لزوماً قراءتها إلىٰ: ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرّات، وبعد السلام يقول: (اللّهمّ صلِّ علىٰ محمّد وآل محمّد، وابعث ثوابها إلىٰ قبر فلان)، ويُسمّي الميِّت. وفي رواية بعد الحمد في الأُولىٰ التوحيد مرَّتين، وبعد الحمد في الثانية سورة التكاثر عشراً، ثمّ الدعاء المذكور. والجمع بين الكيفيتين أولىٰ وأفضل(2).

ففي مرسلة الكفعمي وموجز ابن فهد : قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «لا يأتي علىٰ الميِّت أشدّ من أوَّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإنْ لم تجدوا فليُصلِّ أحدكم، يقرأ في الأُولىٰ الحمد وآية الكرسي، وفي الثانية الحمد والقدر عشراً، فإذا سلَّم قال: اللّهمّ صلِّ علىٰ محمّد وآل محمّد، وابعث ثوابها إلىٰ قبر فلان، فإنَّه تعالىٰ يبعث من ساعته ألف مَلَك إلىٰ قبره مع كلِّ مَلَك ثوب وحلَّة»(3).

ص: 148


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 242/ باب ما ينطق به موضع القبر/ح 4732).
2- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ ص 346/ صلاة ليلة الدفن).
3- تعليقة علىٰ العروة الوثقىٰ للسيِّد عليٍّ السيستاني (ج 2/ ص 352).
ثانياً: صلِّ للميِّت ركعتين

لا ينفع الميِّت عويلنا ولا بكاؤنا، هي جمرة في القلب نُطفِئها نحن بسيل دموعنا، فالقلب لا بدَّ يحزن، والعين لا بدَّ تدمع.

ولكن، نحن ما زلنا في الحياة، ما زلنا لم ندخل السجن المؤبَّد، ومَنْ بين أيدينا رحل عن الدنيا، وهو ينظر إلىٰ ورائه، يتذكَّر لحظات قضاها بفراغ، لم يملأها بخير، وإنْ لم يملأها بشرٍّ، لكنَّها خسارة علىٰ كلِّ حالٍ، حينها، سينادي بأعلىٰ صوته: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ﴾ (المؤمنون: 99 و100)، ولكن الحُجُب منعت صوته من أن يطرق سمعنا.

حينها، ما الذي ينبغي لنا أن نفعله؟

ما هو الشيء الذي يمكن أن نُقدِّمه هدية لذلك الراحل؟

هو وإن كان يطمع منّا بالكثير، ولكنَّه، وهو في تلك الحال، سيكفيه منّا القليل.

ألَا فتذكَّروا ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال - لمَّا مرَّ بقبر دُفِنَ فيه بالأمس إنسان وأهله يبكون -: «لركعتان خفيفتان ممَّا تحتقرون أحبُّ إلىٰ صاحب هذا القبر من دنياكم كلِّها»(1).

ثالثاً: اقرأ علىٰ قبره سورة تبارك

فالقرآن أمان للناس في الدنيا، إذ جاء بتشريعات وقوانين لو التزمها الناس لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وهو هو الأمان لهم في الآخرة، إذ التزام قوانينه منجاة فيها، إذ الآخرة ما هي إلَّا نتيجة ما حصده المرء في هذه الحياة، ولذلك، فإنَّ هداية القرآن كانت سبباً

ص: 149


1- ميزان الحكمة للريشهري (ج 3/ ص 2480)، عن تنبيه الخواطر للورّام (ج 2/ص225).

للحصول علىٰ الأجر العظيم من الله تعالىٰ، قال تعال: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً 9﴾ (الإسراء: 9).

والميِّت الذي انقطع عن هذه الحياة، سينتفع أيضاً بما يصل إليه من قرآن، وقد ذكر القطب الراوندي في دعواته، قال:

قال ابن عبّاس: إنَّ رجلاً ضرب خباءه علىٰ قبر ولم يعلم أنَّه قبر، فقرأ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، فسمع صايحاً يقول: هي المنجية!

فذكر ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: «هي المنجية من عذاب القبر»(1).

رابعاً: اقرأ علىٰ قبره سورة القدر سبع مرّات

قدِّم خيراً، تحصد خيراً.

نظام بُني عليه الكون، تكويناً، وتشريعاً.

كان هناك صديقان، أحدهما حدَّث صاحبه بحديث سمعه من إمامه، وتدور الأياّم، ليموت المتحدِّث، ويأتي المستمع، ليتذكَّر حديث صاحبه علىٰ قبره، فينتفع الاثنان!

عن محمّد بن أحمد، قال: كنت بفيد(2)، فمشيت مع عليِّ بن بلال، إلىٰ قبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع، فقال عليُّ بن بلال: قال لي صاحب هذا القبر عن الرضا (علیه السلام)، قال: «من أتىٰ قبر أخيه ثمّ وضع يده علىٰ القبر، وقرأ ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سبع مرّات، أمن يوم الفزع الأكبر - أو يوم الفزع -»(3).

ص: 150


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 279/ ح 811).
2- قلعة في طريق مكَّة. (هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 229/ باب زيارة القبور/ ح 4701/9). قال أحد أساتذتنا (وهو الشيخ باقر الإيرواني حفظه الله تعالىٰ) في مجلس درسه: (إنَّ الضمير في (أمن) يمكن أن يرجع للقارئ، ويمكن أن يرجع إلىٰ صاحب القبر، ورحمة الله تعالىٰ تسع الاثنين). أقول: الذي يُؤكِّد هذا المعنىٰ، هو أنَّ هذه الرواية أو قريب منها رويت في من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 181/ ح 541) بهذا النصِّ: قال الرضا (علیه السلام): «ما من عبد [مؤمن] زار قبر مؤمن فقرأ عنده ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سبع مرّات إلَّا غفر الله له ولصاحب القبر».
خامساً: زُر القبر

قوانين عالم البرزخ تختلف عن قوانينا في الكثير من المفردات، فهناك حياة بلا حاجة إلىٰ طعام، ولا هواء، بلا حاجة إلىٰ أموال، بلا حاجة إلىٰ بيت، إذ يكفي الميِّت (حفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدَّ فُرَجها التراب المتراكم)(1).

ولكن رغم الاختلافات الكثيرة بين عالمنا والبرزخ، إلَّا أنَّ هناك من المفردات ما اتَّحدا فيها، ومن أهمّها (الزيارة).

لا شكَّ أنَّ زيارتك لمريض أو وحيد تُدخِل السرور علىٰ قلبه، وترفع الوحشة عنه، وسيصيبه من الوحشة الشيء الكثير إذا ما تركته قبل أن يملأ عينيه منك.

وهذا أمر لم يختلف فيه عالم البرزخ عن عالمنا، وهو أمر تُؤكِّده النصوص الدِّينية.

روي عن محمّد بن مسلم أنَّه قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): الموتىٰ نزورهم؟ فقال: «نعم»، قلت: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ فقال: «إي والله، إنَّهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم».

ص: 151


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 71).

قال: قلت: فأيُّ شيء نقول إذا أتيناهم؟

قال: «قل: اللّهمّ جافِ الأرض عن جنوبهم، وصاعد إليك أرواحهم، ولقِّهم منك رضواناً، وأسكِن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتؤنس به وحشتهم، إنَّك علىٰ كلِّ شيء قدير»(1).

وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قلت له: المؤمن يعلم من يزور قبره؟ قال: «نعم، لا يزال مستأنساً به ما زال عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة»(2).

سادساً: سلِّم علىٰ أهل القبور

وكما يستأنس الأموات بزيارتنا لهم، أيضاً يستأنسون بسلامنا عليهم، لأنَّهم وإن ماتوا عن الحياة، إلَّا أنَّهم لم يفنوا، بل بالعكس، إنَّ مداركهم صارت أقوىٰ بكثير ممَّا نحن عليه: ﴿فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 22﴾ (ق: 22).

سلِّموا علىٰ أمواتكم، وأموات غيركم، فلو كُشِفَ عنّا الغطاء، لسمعنا ردَّهم!

عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): كيف التسليم علىٰ أهل القبور؟ فقال: «نعم، تقول: السلام علىٰ أهل الديار من المسلمين والمؤمنين أنتم لنا فرط ونحن إن شاء الله بكم لاحقون»(3).

وقد تقدَّم في رواية محمّد بن مسلم كيفية السلام عليهم أيضاً.

سابعاً: احفظ الميِّت في ولده

من العهد الحسن أن تحفظ أخاه في غيبته، تحفظه في عرضه أنْ لا

ص: 152


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 180 و181/ ح 540).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 228/ باب زيارة القبور/ ح 4).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 229/ باب زيارة القبور/ ح 5).

تهتكه، في سمعته أنْ لا تغتابه، في حقِّه أنْ لا تغصبه، في عياله أنْ لا تجفوهم.

هذا العهد الحسن مستمرٌّ حتَّىٰ بعد الوفاة، ولكن، كيف؟

قالت الزهراء (علیها السلام) في خطبتها في المسجد ناقلة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «المرء يُحفَظ في ولده»(1).

ومن المعلوم أنَّ ولد الميِّت يتيم، وليس بعيداً عنك ثواب من كفل اليتيم.

ثامناً: لا تذكر من الميِّت إلَّا محاسنه

لكلٍّ منّا أخطاؤه، ومن الأخطاء ما لا يُنسىٰ، ولكن أدبيات الإسلام تدعونا إلىٰ أنْ لا نتذكَّر من الموتىٰ إلَّا محاسنهم، وأن نتغاضىٰ عن سيِّئاتهم وأخطائهم، ذلك لأنَّ ذكر سيِّئاتهم قد يكون من الغيبة، وحينئذٍ كيف يمكنك أن تتخلَّص من أثرها، وكيف يمكنك أن تطلب من الميِّت أن يبرأك الذمَّة مثلاً، هذا فضلاً عن أنَّ بعض ما يُذكَر من سيِّئات الأفراد ربَّما لا يكون له واقع، ويكون من البهتان، ولو كان الشخص حيًّا لأمكنه أنْ يُبيِّن حقيقة الحال وأنْ يدافع عن نفسه، ولكن الميِّت لا يمكنه ذلك، فيكون ظلماً مزدوجاً علىٰ ذلك الشخص، هذا إذا غضضنا النظر عن إمكان أنْ يكون ذلك الشخص ممَّن غفر الله تعالىٰ له وأدخله في رحمته، فيكون حينئذٍ من أوليائه، وحذار من التعدّي علىٰ وليٍّ من أولياء الله تعالىٰ، إذ ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحجّ: 38).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اذكروا محاسن أمواتكم، وكفُّوا عن مساويهم(2)، ولا تقولوا في أمواتكم إلَّا خيراً»(3).

ص: 153


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 139).
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي (ج 1/ ص 159/ ح 142).
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي (ج 1/ ص 439/ ح 158).
تاسعاً: الإسراع في تجهيز الميِّت

فإنَّ تأخيره ربَّما يُسبِّب نتن جسده، وبالتالي صدور الروائح الكريهة منه، وبالتالي قد يتقزَّز من يحضر جنازته، وربَّما يكون في هذا إهانة للميِّت، واحترامه واجب كما هو معلوم، وقد دلَّت علىٰ ذلك العديد من الروايات الشريفة، ومنها التالي:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «يا معشر الناس لا ألفينَّ رجلاً مات له ميِّت فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميِّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجِّلوا بهم إلىٰ مضاجعهم يرحمكم الله»، فقال الناس: وأنت يا رسول الله يرحمك الله(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «إذا مات الميِّت أوَّل النهار فلا يقيل(2) إلَّا في قبره»(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «كرامة الميِّت تعجيله»(4).

المسلك الرابع عشر: تواصَلْ مع المؤمنين

عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حدَّثني جبرئيل (علیه السلام) أنَّ الله (عزوجلّ) أهبط إلىٰ الأرض مَلَكاً، فأقبل ذلك المَلَك يمشي حتَّىٰ وقع إلىٰ باب عليه رجل يستأذن علىٰ ربِّ الدار، فقال له المَلَك: ما حاجتك إلىٰ ربِّ هذه الدار؟

قال: أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالىٰ.

قال له المَلَك: ما جاء بك إلَّا ذاك؟

ص: 154


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ ح 1).
2- من القيلولة. كناية عن تعجيل الدفن. (هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ح 2).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 140/ ح 385).

فقال: ما جاء بي إلَّا ذاك.

فقال: إنّي رسول الله إليك، وهو يُقرئك السلام، ويقول: وجبت لك الجنَّة.

وقال المَلَك: إنَّ الله (عزوجلّ) يقول: أيّما مسلم زار مسلماً فليس إيّاه زار، إيّاي زار، وثوابه عليَّ الجنَّة»(1).

لا يستطيع المرء أنْ ينقبض علىٰ نفسه ويتقوقع عليها إلَّا إذا خرج عن الطبيعة الإنسانية إلىٰ طبيعة الخفّاش!

والمفترض في المؤمن أنْ يكون إنساناً بما تحويه الكلمة من معنىٰ، ومن هنا لا بدَّ عليه أنْ يتواصل مع الناس عموماً حتَّىٰ يضمن إنسانيته من جانب، وعلاقاته الاجتماعية من جانب آخر.

وإذا كان هذا الأمر عامًّا لجميع الناس، بمعنىٰ أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يتواصل مع الجميع - ولو لأجل هدايتهم ونفعهم حيث إنَّ المؤمن نفّاع أينما حلَّ -، فتواصله مع خصوص إخوانه المؤمنين له من الأهمّية ما يفوق ما قلناه عن الطبيعة الإنسانية، ذلك أنَّ الروابط التي تربط بين مؤمن وآخر هي أقوىٰ من أيِّ روابط أُخرىٰ، إذ هي روابط إيمانية قائمة علىٰ أساس قاعدة ﴿لِوَجْهِ اللهِ﴾ (الإنسان: 9)، لا علىٰ أساس المصالح الدنيوية الزائلة والمؤقَّتة.

من هنا نستطيع أن نفهم - ولو جزئياً - بعض أسباب التأكيد الشديد علىٰ ضرورة المواصلة بين المؤمنين، ووجوب رعاية السؤال عنهم وتفقُّد أحوالهم، وهذا ما تذكره لنا الروايات الشريفة كثيراً.

عن خيثمة، قال: دخلت علىٰ أبي جعفر (علیه السلام) أُودِّعه، فقال: «يا

ص: 155


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 176/ باب زيارة الإخوان/ ح 4).

خيثمة، أبلغ من ترىٰ من موالينا السلام، وأوصهم بتقوىٰ الله العظيم، وأنْ يعود غنيُّهم علىٰ فقيرهم وقويُّهم علىٰ ضعيفهم، وأنْ يشهد حيُّهم جنازة ميِّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا. يا خيثمة، أبلغ موالينا أنّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلَّا بعمل، وأنَّهم لن ينالوا ولايتنا إلَّا بالورع، وأنَّ أشدَّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلىٰ غيره»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من زار أخاه في الله قال الله (عزوجلّ): إيّاي زرت وثوابك عليَّ، ولست أرضىٰ لك ثواباً دون الجنَّة»(2).

وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي غرة، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من زار أخاه في الله في مرض أو صحَّة، لا يأتيه خداعاً ولا استبدالاً، وكَّل الله به سبعين ألف مَلَك ينادون في قفاه أنْ طبتَ وطابت لك الجنَّة، فأنتم زوّار الله وأنتم وفد الرحمن حتَّىٰ يأتي منزله».

فقال له يسير: جُعلت فداك، وإنْ كان المكان بعيداً؟

قال: «نعم يا يسير، وإنْ كان المكان مسيرة سنة، فإنَّ الله جواد والملائكة كثيرة، يُشيِّعونه حتَّىٰ يرجع إلىٰ منزله»(3).

* * *

ص: 156


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 175 و176/ باب زيارة الإخوان/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 176/ باب زيارة الإخوان/ ح 4).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 177/ باب زيارة الإخوان/ ح 7).

الفصل الخامس: التفاضل بالجهاد

اشارة

ص: 157

ص: 158

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً 95﴾ (النساء: 95).

عندما نلاحظ حركات الأنبياء (علیهم السلام)، نجد أنَّها تشترك في صفة عامَّة هي أهمّ ما يُركِّز عليه الأنبياء (علیهم السلام) في حركاتهم، وهي صفة (تغيير المفاهيم).

وتوضيح ذلك:

أنَّ الأنبياء (علیهم السلام) عندما كانوا يأتون إلىٰ أقوامهم، فإنَّهم يجدون عندهم الكثير من المفاهيم المغلوطة التي قامت حياتهم علىٰ الالتزام بها، فيكون من مهامِّ الأنبياء (علیهم السلام) الأساسية هو تغيير تلك المفاهيم أو تعديلها بما يناسب الفطرة الإلهيَّة وبما يخدم الإنسانية عموماً.

ولنأخذ مثالاً علىٰ ذلك دعوة نبيِّنا الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فلقد جاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) لينشر رسالته وسط مجتمع متشبِّع بمفاهيم عن الأخلاق والحياة هي غاية في الحيوانية، وكان المجتمع آنذاك أشبه بمجتمع الغاب، الذي تسوده غلبة القويِّ علىٰ الضعيف.

ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) جاء بمفاهيم جديدة علىٰ ضوء القرآن الكريم، قلبت المفاهيم الراسخة لدىٰ المجتمع فيما سبق، واستطاع أنْ

ص: 159

يخلق ذلك المجتمع الذي سادته روح الحُبِّ والعفَّة والشجاعة والحلم و... بأسمىٰ معاني تلك الكلمات. الأمر الذي اختصره جعفر بن أبي طالب في حضرة النجاشي بقوله:

(أيُّها المَلِك، إنّا كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيف. فكنّا علىٰ ذلك حتَّىٰ بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلىٰ الله لنُوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أنْ نعبد الله لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...)(1).

وقد نجح الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في تغيير الكثير من المفاهيم التي عشعشت في أذهان أهل الجاهلية، فهذَّبها، وشذبها، وجعلها أفضل ما يمكن أن تكون، حتَّىٰ صار (الإيثار) خُلُقاً يتسابق عليه الفقراء قبل الأغنياء، وحتَّىٰ كانت سعادة أحدهم بالإعطاء أكثر من سعادته بالأخذ...

ولمَّا نأتي لكلمة الجهاد، التي هي من مقوِّمات التفاضل في الإسلام، والذي هو - أي الجهاد - من أفضل ما يتوسَّل به المتوسِّلون إلىٰ الله تعالىٰ، كما يقول تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 35﴾ (المائدة: 35).

ص: 160


1- سير أعلام النبلاء للذهبي (ج 1/ ص 432).

أيضاً سنجد أنَّ نبيَّ الإسلام (صلی الله علیه و آله) قد جاء بمفهوم جديد للجهاد غير ما كان يعرفه الناس.

فليس الجهاد فقط هو ما يحصل بمقارعة الأعداء والدخول علىٰ خطِّ النار في ساحة المعركة، بل هذا نوع من أنواع الجهاد ربَّما يكون هو أهونها! فللجهاد شُعَب كثيرة، تشمل جهاد العدوِّ، وجهاد النفس، وجهاد من أجل إقامة الحقِّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكلمة(1)، والجهاد في طاعة الله، وغيرها كثير(2).

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نتكلَّم في نقطتين:

النقطة الأولى: جهاد العدوِّ في ساحة المعركة (الجهاد الأصغر)

اشارة

كلُّ نظام من الأنظمة، وكلُّ دولة من الدول، وكلُّ مؤسَّسة من المؤسَّسات، تحتاج إلىٰ ما يحميها من الأعداء، فإنَّ الأعداء موجودون في كلِّ مكان، ولا يروق لهم أنْ يروك مرتاحاً مطمئنَّ البال، لذا كان عليك أنْ تعمل (ترسانة) تقيك شرَّهم، وليس ذلك إلَّا جهادهم - ولو بالجهاد الدفاعي -.

عندما نرجع إلىٰ أساسيات الإسلام، نجد أنَّ الجهاد يشغل المناصب الأُولىٰ في هرم الإسلام، وهذا ما تُؤكِّده الآيات والروايات.

ص: 161


1- عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألَا، لا يمنعنَّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلَّم بالحقِّ إذا علمه، ألَا، إنَّ أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر». (ميزان الحكمة للريشهري: ج 1/ ص 656، عن كنز العُمّال للمتَّقي الهندي: ج 15/ ص 922/ ح 43588).
2- فهناك جهاد الآباء في تربية الأبناء، وهناك جهاد الزوجين في حياتهم الزوجية، وهناك جهاد المؤمن ضدَّ الانحرافات في العشيرة أو البيت، وهناك جهاد المؤمن أمام المغريات، وإن كان يمكن إدخال هذه المفردات أو أغلبها تحت عنوان جهاد النفس.

قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 73﴾ (التوبة: 73).

وقال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ 10 تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ11﴾ (الصفّ: 10 و11).

وقال تعالىٰ: ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً 95﴾ (النساء: 95).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للجنَّة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلِّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة تُرحِّب بهم».

ثمّ قال: «فمن ترك الجهاد ألبسه الله (عزوجلّ) ذلًّا وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه. إنَّ الله (عزوجلّ) أغنىٰ (أعزَّ) أُمَّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»(1).

ولا يحتاج إثبات ضرورة الجهاد إلىٰ الكثير من العناء، فكلُّنا يعلم أهمّية الجهاد في الإسلام، ولكن لا بدَّ من الالتفات إلىٰ بعض النقاط المهمَّة في مسألة الجهاد:

ص: 162


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 189 و190).

النقطة الأُولىٰ

إنَّ الجهاد حكم شرعي، يرجع فيه المكلَّف إلىٰ من يُقلِّده في معرفة أحكامه، فقد يكون كفائياً، وقد يكون عينياً، والمسألة واضحة في الكُتُب الفقهية.

النقطة الثانية

ليس في الإسلام مجاملات علىٰ حساب العقيدة.

إنَّ الإسلام يأمر أتباعه بأن يكونوا ليِّنين ودودين يُحِبُّون الخير لكلِّ البشر، ولكن بشرط أنْ لا يكون حبُّهم وودُّهم سبباً لذلَّتهم أو جعلهم تابعين للمنحرفين من البشر.

ولذا نهىٰ الإسلام المسلمين عن الركون إلىٰ الحكومات الظالمة، وعن الخضوع للدول الاستعمارية، قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 113﴾ (هود: 113).

بل ورد الأمر حتَّىٰ بعدم محبَّة بقاء الظالمين، فعن صفوان بن مهران الجمّال، قال: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «اكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكنّي أُكريه لهذا الطريق - يعني طريق مكَّة -، ولا أتولّاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار».

ص: 163

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ أنّي لأعلم من أشار عليك بهذا موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1).

النقطة الثالثة

إنَّ من أهمّ مبادئ الإسلام هو مبدأ النظرة المستقبلية الواقعية للأشياء، فلذا نجد أنَّه لا مكان للخيال أو المثاليات غير الواقعية في الإسلام، ومن هذا المبدأ نجد أنَّ الإسلام يُؤسِّس الجيش الإسلامي، ويأمر ببنائه أشدَّ بناء، وبالاستعداد لأيِّ طارئ خارجي، قال تعالىٰ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ 60﴾ (الأنفال: 60).

ويُقرِّر مبدأ الدفاع عن الدولة الإسلاميَّة: ﴿الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 194﴾ (البقرة: 194).

ولم يكتفِ بالقوَّة العسكرية البرّية فقط، بل أمر حتَّىٰ بالقوَّة

ص: 164


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 740/ ترجمة رقم 828).

البحرية، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من جلس علىٰ البحر احتساباً ونيَّةً احتياطاً للمسلمين، كتب الله له بكلِّ قطرة في البحر حسنة»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنَّ شهداء البحر أفضل عند الله من شهداء البرِّ»(2).

وطبعاً لقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتكلَّم مع الناس علىٰ قدر عقولهم، ولذا لم يذكر سلاح الجوِّ، وإنْ كان داخلاً تحت عموم آية الإعداد للقوَّة المتقدِّمة.

النقطة الرابعة

يخطر علىٰ بال الكثير من أعداء الإسلام أو ممَّن لا يعرفونه أنَّ الإسلام هو دين الدماء والقتل والانعزال وعدم مخالطة المعتقدين بغير دين، ولكن الواقع غير ذلك، فإنَّ الإسلام لا ينهىٰ المسلمين أنْ يكون لهم مع الكفّار الذين لم يسلُّوا سيفاً علىٰ المسلمين علاقات اجتماعية محدودة. فدين الإسلام هو دين السلام، وهو دين العلاقات الاجتماعية التي تخدم الإنسانية، لكن بشرط أنْ لا تُؤثِّر تلك العلاقات علىٰ الثوابت الإسلاميَّة.

يقول تعالىٰ: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلىٰ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9﴾ (الممتحنة: 8 و9).

وهاتان الآيتان تُقرِّران أيضاً مبدأ العلاقات والروابط الدبلوماسية والصداقة مع الدول الكافرة، بالشروط التي ذكرتاها.

ص: 165


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 4/ ص 334/ ح 10767).
2- ميزان الحكمة (ج 2/ ص 755).

ومن نفس هذا المنطلق، نجد أنَّ الإسلام أمر باحترام دم الكافر إذا أسلم قبل أن يظهر عليه المسلمون، فلو أسلم الرجل حرم دمه وعرضه وماله وولده الصغار، وأمَّا الكبار فلا ينفعهم إسلام أبيهم، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقىٰ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً 94﴾ (النساء: 94).

فضلاً عن ذلك أمر بكلِّ ما هو إنساني، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثمّ يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلىٰ ملَّة رسول الله، لا تغلوا ولا تُمثِّلوا، ولا تغدروا(1)، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيًّا ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجراً إلَّا أنْ تضطرُّوا إليها، وأيّما رجل من أدنىٰ المسلمين أو أفضلهم نظر إلىٰ رجل من المشركين فهو جار(2) حتَّىٰ يسمع كلام الله، فإنْ تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبىٰ فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه(3)»(4) .

ص: 166


1- الغلول: الخيانة، وأكثر ما يُستَعمل في الخيانة في الغنيمة. والتمثيل: قطع الأُذُن والأنف وما أشبه ذلك. والغدر: ضدُّ الوفاء. (هامش المصدر).
2- أي نظر إشفاق ومرحمة. والجوار - بالكسر - أن تُعطي الرجل ذمَّةً فيكون بها جارك فتجيره أي تُنقِذه وتُعيذه. (هامش المصدر).
3- أي علىٰ إيمانه أو قتله. (هامش المصدر).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 27 و28/ باب وصيَّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) في السرايا/ ح 1).

النقطة الثانية: جهاد النفس (الجهاد الأكبر)

اشارة

دخل علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجل اسمه مجاشع، فقال: يا رسول الله، كيف الطريق إلىٰ معرفة الحقِّ؟

فقال (صلی الله علیه و آله): «معرفة النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ موافقة الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «مخالفة النفس».

قال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ رضاء الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «سخط النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ وصل الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «هجرة النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ طاعة الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «عصيان النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ ذكر الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «نسيان النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ قرب الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «التباعد عن النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ أُنس الحقِّ؟

قال (صلی الله علیه و آله): «الوحشة من النفس».

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلىٰ ذلك؟

قال (صلی الله علیه و آله): «الاستعانة بالحقِّ علىٰ النفس»(1).

ص: 167


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي (ج 1/ ص 246/ الفصل العاشر في أحاديث تتضمن شيئاً من الآداب الدِّينية/ ح 1).

عن أبي عبد الله (علیه السلام): «إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) بعث بسرية، فلمَّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي (عليهم) الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، ما الجهاد الأكبر؟ قال: «جهاد النفس»(1).

كثيراً ما نسمع بمصطلح جهاد النفس، ونسمع الكثير من الخطباء والعلماء والوعّاظ يدعوننا إلىٰ أنْ نجاهد أنفسنا، عملاً بروايات أهل بيت العصمة (علیهم السلام) .

فما هو جهاد النفس؟

هل هو معركة تُدار في ساحة حرب؟!

وهل يحتاج إلىٰ عدَّة وعدد؟

وهل فيه ضحايا حرب؟

وهل فيه خاسر ورابح؟

يقول الإمام الهادي (علیه السلام): «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون»(2).

إنَّ الإنسان في هذه الدنيا بين رابح وخاسر، والذي يُحدِّد مصيره هو جهاد النفس.

لسنا هنا في مقام شرح المقامات المتعالية التي يتمُّ من خلالها جهاد النفس عند الخاصَّة وخاصَّة الخاصَّة والأولياء والأبرار و...، كلَّا، فنحن نبحث عمَّا يُنقِذنا من نار جهنَّم ويُدخِلنا الجنَّة، فنحظىٰ بالرحمة والرضوان من الله الملك القدوس.

وفي هذا المجال، نبحث عن جهاد النفس ضمن مستويين:

ص: 168


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 12/ باب وجوه الجهاد/ ح 1).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 483).

المستوىٰ الأوَّل: ميدان جهاد النفس

اشارة

يقول العلماء:

إنَّ الإنسان عبارة عن مملكة روحية لها أدوات مادّية تستفيد منها في إنجاز أعمالها، فليس الإنسان بدناً فقط، بل هو في حقيقته روح تستعمل البدن! أي إنَّ هناك علاقة قويَّة جدًّا بين الروح والبدن، ولقد أثبت العلماء - في ميدان الأخلاق والفلسفة والكلام وغيرها من العلوم - هذا الأمر.

المهمُّ أنْ نعرف الآن أنَّ جهاد النفس يبدأ ميدانه مِنْ كيفية ضبط هذه العلاقة، أي إنَّك تبدأ بجهاد نفسك من خلال السيطرة علىٰ أدوات النفس نحو العالم الخارجي، وتلك الأدوات هي ما قد تُسمّىٰ ب- (الأقاليم السبعة)، وهذه الأقاليم السبعة هي: (العين، اللسان، الأُذُن، اليد، الرجل، الفرج، البطن)، فلنطل إطلالة سريعة علىٰ هذه الأقاليم السبعة، ذاكرين آثار جهاد النفس - سلباً وإيجاباً - علىٰ كلِّ واحدةٍ منها:

أوَّلاً: العين

لا توجد نعمة ممَّا يحسُّ بها الإنسان من النِّعَم الإلهيَّة أعظم وأهمّ من نعمة العين، تلك النعمة التي تفتح وجودك علىٰ الوجود الخارجي، فترىٰ بها ما لا يراه الجدار، وتتفاهم بها ما لا يُتفاهم بغيرها. ولولاها لتحوَّل الإنسان إلىٰ مجرَّد صندوق مظلم!

وفي هذه الجارحة تتبلور أهمّية جهاد النفس، فإنَّ العين من أهمّ موارد جهاد النفس، وهذا ما ذكرته الروايات الشريفة، فمن خلال قراءة سريعة للروايات نجد أنَّها تُؤكِّد علىٰ أهمّية السيطرة علىٰ العين، وما يترتَّب علىٰ السيطرة - أو عدمها - من آثار.

ص: 169

ففي مقام بيان آثار الالتزام بأداء مسؤولية العين - التي هي ليس إلَّا غضّ البصر عن الحرام والنظر بها إلىٰ الحلال - يقول تعالىٰ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ 30 وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ (النور: 30 و31).

وقد ورد في تفسير هذه الآية عن الإمام الباقر (علیه السلام):

«استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنَّعْنَ خلف آذانهنَّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمَّا جازت نظر إليها، ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقَّ وجهه!

فلمَّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل علىٰ صدره وثوبه، فقال: والله لآتينَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأُخبرنَّه».

قال: «فأتاه فلمَّا رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل (علیه السلام) بهذه الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ...﴾ [النور: 30]»(1).

إنَّه وبغضِّ البصر حصل النبيُّ موسىٰ (علیه السلام) علىٰ زوجةٍ هي ابنة نبيٍّ، فقد روي عن الإمام الكاظم (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ 26﴾ [القَصص: 26]: «قال لها شعيب (علیه السلام): يا بنيَّة، هذا قويٌّ قد عرفتيه برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبتِ إنّي مشيت قدّامه، فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلىٰ الطريق فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء»(2).

ص: 170


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 521/ باب ما يحلُّ النظر إليه من المرأة/ ح 5).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4974).

وفي نقل: فقال لها شعيب: «أمَّا قوَّته فقد عرفتيه أنَّه يستقي الدلو وحده، فبِمَ عرفتِ أمانته؟ فقالت: إنَّه لمَّا قال لي: تأخَّري عنّي ودلّيني علىٰ الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء، عرفت أنَّه ليس من القوم الذين ينظرون أعجاز النساء، فهذه أمانته»(1).

وبغضِّ البصر صار النبيُّ يوسف (علیه السلام) مَلِكاً علىٰ خزائن الأرض، حيث إنَّها ﴿وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23﴾ (يوسف: 23).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما من مسلم ينظر امرأة أوَّل رمقة ثمّ يغضُّ بصره إلَّا أحدث الله تعالىٰ له عبادة يجد حلاوتها في قلبه»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «اشتدَّ غضب الله (عزوجلّ) علىٰ امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها»(3).

وفي حديث المناهي يقول (صلی الله علیه و آله): «ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً حشاهما الله (عزوجلّ) يوم القيامة بمسامير من نار، وحشاهما ناراً حتَّىٰ يقضي بين الناس، ثمّ يُؤمَر به إلىٰ النار»(4).

وبالمناسبة، هناك خطأ شائع بين الناس حول مفهوم النظرة الأُولىٰ الجائزة، فيتصوَّر البعض أنَّ معناها هي النظرة التي تقع علىٰ المرأة ولا تنتقل عنها مهما طالت، فتلك نظرة أُولىٰ، والحال أنَّ الروايات تُبيِّن أنَّ

ص: 171


1- تفسير القمّي (ج 2/ ص 138).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 5/ ص 327/ ح 13059).
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286 و287).
4- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286).

ذلك فهم خاطئ، وأنَّ المعنىٰ الصحيح للنظرة الأُولىٰ الجائزة هي تلك النظرة غير المقصودة وغير المصحوبة بريبة أو تلذُّذ، والتي يعقبها مباشرةً غضُّ البصر، أمَّا تلك النظرة الطويلة، فإنَّها وبال علىٰ صاحبها(1).

عن جرير، قال: سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري(2).

ثانياً: اللسان

اللسان، وما أدراك ما اللسان!

به تميَّز الإنسان عن بقيَّة الموجودات علىٰ الأرض(3)، وبه نقل أفكاره إلىٰ الآخرين، وبه حفظ التراث والتاريخ، وبه تكلَّم فأطرب

ص: 172


1- في فقه الحضارة للسيِّد السيستاني (ص 185 و186): (ما المقصود بالقول المأثور: (النظرة الأُولىٰ لك والثانية عليك)؟ وهل يجوز إطالة النظرة الأُولىٰ للمرأة والتمعُّن بها بحجَّة أنَّها لا زالت نظرة أُولىٰ جائزة كما يدَّعي البعض؟ الظاهر أنَّ المقصود بالقول المذكور هو التفريق بين النظرتين من حيث الأُولىٰ اتِّفاقية عابرة فتكون بريئة، ولا يُقصَد بها التلذُّذ الشهوي، بخلاف الثانية فإنَّها تكون مقصودة وهادفة طبعاً، فتقترن بنوع من التلذُّذ، وبذلك تكون خسارة، ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفىٰ بها لصاحبها فتنة». وكيفما كان، فمن الواضح أنَّ القول المذكور ليس في مقام تحديد النظر السائغ علىٰ أساس العدد بحيث يعني تجويز النظرة الأُولىٰ وإن كانت هادفة وغير بريئة في أوَّل حدوثها، أو انقلبت إلىٰ ذلك في حالة بقائها واستمرارها، لأنَّ الناظر لا تطاوعه نفسه من غمض النظر عن المنظور إليها، وتحريم النظرة الثانية وإن كانت للحظة واحدة بلا تلذُّذ أصلاً).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 5/ ص 329/ ح 13074).
3- عن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «ما الإنسان لولا اللسان إلَّا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة». (عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي: ص 483). وعنه (علیه السلام): «الإنسان لبُّه لسانه، وعقله دينه». (تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: ص 217).

الأسماع، فأنت إنَّما تذكر الله تعالىٰ، وتُصلّي، وتأمر بالمعروف وتنهىٰ عن المنكر، وتُدخِل السرور علىٰ قلب المؤمن، وتُظهِر الحُبَّ لأخيك، وتُزيح الحزن والهمَّ عن قلبه، وغيرها كثير، بواسطة اللسان.

عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ فِي الإِنْسَانِ عَشْرُ خِصَالٍ يُظْهِرُهَا لِسَانُه: شَاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّمِيرِ، وَحَاكِمٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخِطَابِ، وَنَاطِقٌ يُرَدُّ بِه الْجَوَابُ، وَشَافِعٌ يُدْرَكُ بِه الْحَاجَةُ، وَوَاصِفٌ يُعْرَفُ بِه الأَشْيَاءُ، وَأَمِيرٌ يَأْمُرُ بِالْحَسَنِ، وَوَاعِظٌ يَنْهَىٰ عَنِ الْقَبِيحِ، وَمُعَزّ تُسَكَّنُ بِه الأَحْزَانُ، وَحَاضِرٌ تُجْلَىٰ بِه الضَّغَائِنُ، وَمُونِقٌ تَلْتَذُّ بِه الأَسْمَاعُ»(1).

ولكنَّه مع ذلك صاحب مسؤولية عظيمة، ولذا وجب فيه جهاد النفس علىٰ أعلىٰ مستوياته.

والروايات قد بيَّنت أنَّ الجهاد فيه يتمُّ بالحفاظ عليه من الحرام والاستفادة منه في الحلال.

عن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «إنَّ لسان ابن آدم يشرف كلَّ يوم علىٰ جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا! ويناشدونه ويقولون: إنَّما نُثاب بك ونُعاقَب بك»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يُعذِّب الله اللسان بعذاب لا يُعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربِّ عذَّبتني بعذاب لم تُعذِّب به شيئاً؟! فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفِكَ بها الدم الحرام، وانتُهِبَ بها المال الحرام، وانتُهِكَ بها الفرج الحرام»(3).

ص: 173


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 20/ خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وهي خطبة الوسيلة/ ح 4).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 5 و6).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 115/ باب الصمت وحفظ اللسان/ ح 16).
ثالثاً: الأُذُن

عندما نرجع إلىٰ القرآن الكريم، نجد أنَّه كلَّما ذكر السمع والبصر، فإنَّه يُقدِّم ذكر السمع علىٰ البصر، ونحن نعلم أنَّ القرآن الكريم لا يُقدِّم كلمة ولا يُؤخِّر أُخرىٰ إلَّا وفق حكمة، وما فعله القرآن الكريم من تقديمه السمع علىٰ البصر كشف عن حقيقته العلم الحديث، حيث كشف عن أنَّ جهاز السمع أرقىٰ بكثير من جهاز البصر.

والمهمُّ أن نعلم الآن أنَّ السمع من أهمّ ميادين جهاد النفس، ذلك أنَّ السمع قناة مهمَّة من قنوات الروح، فإنَّ ما يسمعه المرء يدخل مباشرةً إلىٰ قلبه، وهذا ما أكَّده الإمام السجّاد (علیه السلام) في رسالة الحقوق حيث يقول:

«وأمَّا حقُّ السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلىٰ قلبك إلَّا لفوهة كريمة تُحدِث في قلبك خيراً أو تُكسِب خُلُقاً كريماً، فإنَّه باب الكلام إلىٰ القلب، يُؤدّي إليه ضروب المعاني، علىٰ ما فيها من خير أو شرٍّ، ولا قوَّة إلَّا بالله»(1).

من هنا كان المرء مسؤولاً عمَّا يسمعه: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ (الإسراء: 36).

ومن هنا نجد أنَّ الروايات الشريفة تُؤكِّد علىٰ ضرورة ضبط السمع إيجاباً وسلباً، أي تقييد السمع بالمفيد والحلال، وإبعاده عن الحرام واللغو.

ص: 174


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 257).

فبالسمع تفهم ما يقال لك، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «جعل لكم أسماعاً لتعي ما عناها، وأبصاراً لتجلو عن عشاها»(1).

وبالسمع تُنال الرحمة الإلهيَّة، قال تعالىٰ: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204﴾ (الأعراف: 204).

وبالسمع تكون ذاكراً لله تعالىٰ، يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام): «سامع ذكر الله ذاكر»(2).

ولكن هناك مسؤولية لا بدَّ من مراعاتها في السمع، وهي مسؤولية مهمَّة وخطيرة جدًّا.

عن عليِّ بن يقطين، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من أصغىٰ إلىٰ ناطق فقد عبده، فإنْ كان الناطق يُؤدّي عن الله (عزوجلّ) فقد عبد الله، وإنْ كان الناطق يُؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(3).

وممَّا فرض الله تعالىٰ علىٰ السمع هو ما قاله تعالىٰ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً 140﴾ (النساء: 140).

وفي تفسير هذه الآية، ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «فرض علىٰ السمع أنْ يتنزَّه عن الاستماع إلىٰ ما حرَّم الله، أنْ يعرض عمَّا لا يحلُّ له ممَّا نهىٰ الله (عزوجلّ) عنه، والإصغاء إلىٰ ما أسخط الله (عزوجلّ)، فقال في ذلك: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ ...﴾»(4).

ص: 175


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 138).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 283).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 434/ باب الغناء/ ح 24).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ص 35/باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلِّها/ح 1).

فاستماع الغناء، أو الغيبة، أو النميمة، أو هتك الأعراض، كلُّها من عبادة الشيطان، فجاهد نفسك، وجاهد أُذُنك، وابتعد عنها.

رابعاً: اليد

واليد أيضاً من أهمّ ما ميَّز الإنسان عن بقيَّة الحيوانات، فهو يُنجِز بيديه أعمالاً لا يستطيع غيره من الحيوانات إنجازها.

وهنا أيضاً يوجد جانبان في اليد، وكمثال علىٰ ذينك الجانبين نأخذ (الضرب)، فهو أحد الأعمال التي تُنجزها اليد، ولا بدَّ فيه من مجاهدة النفس حتَّىٰ يكون الضرب شرعياً لا حراماً.

فإنَّه إنْ كان الضرب للتأديب فهو حلال، ويستحقُّ فاعله المدح عقلاً والثواب شرعاً، وإنْ كان للتشفّي فهو حرام، ويستحقُّ فاعله الذمَّ عقلاً والعقوبة شرعاً.

وهنا مسألة ابتلائية، وهي مسألة ضرب الآباء لأولادهم، والمعلِّم لتلاميذه، فدعونا نقف وقفة قصيرة هنا.

أمَّا عن ضرب الأب لولده، فلا شكَّ أنَّ من حقِّه ذلك، ولا شكَّ أنَّ الطفل يحتاج إلىٰ نوع من الضرب حتَّىٰ يلتزم بالتأديب، وإنْ كان الأفضل أنْ يكون التأديب بلا ضرب، بل بطُرُق لبقة وحضارية إنْ صحَّ التعبير.

ولكن إنْ كان ولا بدَّ، فلا بدَّ من أنْ تجعل ولدك يفهم أنَّ ضربك له كان للتأديب، وليس عقوبة.

وهذا يعني أنَّه ليس المراد هو نفس الضرب، بل المراد هو أنَّ تُربّي ولدك علىٰ أنَّ هناك ثواباً للمحسن وعقاباً للمسيء، وهذا ما يدعو له الإسلام، فهو من أهمّ أدبياته، وهو ما تُعبِّر عنه الروايات بالمكافأة علىٰ

ص: 176

الصنايع(1)، ولكن مع الالتفات إلىٰ أنَّ أُسلوب الإسلام في ذلك هو تعجيل الثواب وتأجيل العقاب(2).

ثمّ إنَّه لا بدَّ من الالتفات إلىٰ أنَّ هذا الحقَّ إنَّما هو علىٰ غرار الحقِّ بالضرب في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنىٰ أنْ يكون الضرب مظنَّة للصلاح وعدم تمرُّد الطفل، أمَّا إذا لم تُرْجَ هذه الفائدة، فلا شكَّ أنَّ الضرب سيرجع بنتائج سلبية غير ما كان يبتغيه الأب منه - وهكذا الحال في المعلِّم طبعاً -.

جاء في استفتاء موجَّه لمكتب السيِّد السيستاني (دام ظلُّه) ما نصُّه:

(السؤال: هل يجوز ضرب التلاميذ في المدرسة؟ وهل يجب أخذ إذن وليِّ أمر التلميذ المراد ضربه؟

الجواب: يجوز ضرب التلاميذ في حالة إيذائهم للآخرين، أو ارتكابهم محرَّماً، لكن بإذن الوليِّ، والأحوط وجوباً أنْ لا يزيد علىٰ ثلاثة أسواط، ويلزم أن يكون الضرب برفق إلىٰ الحدِّ الذي لا يوجب احمرار البدن، وإلَّا استوجب الدية)(3).

ص: 177


1- عن الإمام الصادق (علیه السلام): «المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنَّها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحُرِّ: صدق البأس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل، والمكافأة علىٰ الصنايع، والتذمُّم للجار، والتذمُّم للصاحب، ورأسهنَّ الحياء». (الخصال للشيخ الصدوق: ص 431/ ح 11).
2- ومن ذلك ما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «صاحب اليمين أمير علىٰ صاحب الشمال، فإذا عمل العبد السيِّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: لا تعجل وأنظره سبع ساعات فإن مضىٰ سبع ساعات ولم يستغفر قال: اكتب، فما أقلّ حياء هذا العبد». (جامع أحاديث الشيعة للسيِّد البروجردي: ج 14/ ص 353).
3- موقع مكتب السيِّد السيستاني: (https://www.sistani.org/arabic/qa/𝟎𝟓𝟖𝟒/).

وما دمنا دخلنا في هذا الموضوع، لنذكر أمراً آخر هو أيضاً من الابتلائيات، وهو ما إذا ضربت ولدي للتشفّي أو للتأديب - لا فرق من هذه الناحية - ووصل الضرب إلىٰ حدِّ الاحمرار فما فوق، فلا شكَّ في ثبوت دية له عليَّ، فكيف أُوفّيه ديته؟

هنا يذكر الفقهاء طريقة شرعية مناسبة جدًّا لذلك، وهي:

أنْ ينوي الأب بما يُنفِقه علىٰ الطفل أنْ يكون بدلاً وتسديداً عن أموال الطفل، وكذا الأب يُسدِّد عن ذمَّة الأُمِّ - لو كانت الدية في ذمَّتها -، أو يأذن لها بالإنفاق عليه كذلك، أو يُنفِق الأب نيابةً عن الأُمِّ في تسديد الأموال عنها(1).

والسرُّ في ذلك: أنَّه لا يجب علىٰ الأب أن يُنفِق علىٰ ولده إذا كان للولد مال يمكنه أن يُنفِق منه، وعندما استحقَّ الدية علىٰ أبيه أصبح ذا مال، فيمكن للأب أن يُفرِّغ ذمَّته ممَّا استحقَّه ولده عليه بأنْ يُنفِق عليه من ماله الذي استحقَّه عليه، والأب وليٌّ شرعي يمكنه أن يفعل ذلك، لكن بشرط عدم كون الإنفاق فيه مفسدة علىٰ الولد(2).

ص: 178


1- في موقع سماحة السيِّد السيستاني: (السؤال: كم هي دية ضرب الطفل واحمرار أو اسوداد الجلد، علىٰ العلم لم أعرف كم مرَّة تمَّ احمرار أو اسوداد الجلد؟ الجواب: تختلف الدية بحسب كون الاحمرار والازرقاق والاسوداد في الوجه أو اليد، ففي الاحمرار دينار ونصف من الذهب في الوجه ونصفها في البدن، والازرقاق ثلاثة دنانير في الوجه ونصفها في البدن، والاسوداد ستَّة دنانير في الوجه ونصفها في البدن، علىٰ الأحوط. ومع الشكِّ في المقدار يجوز الاقتصار علىٰ المتيقَّن. وعلىٰ كلِّ حالٍ يمكن التراضي مع المجني عليه أو طلب براءة الذمَّة منه بعد بلوغه رشده).
2- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ ص 31/ مسألة 85): (يجوز للأب والجدِّ للأب وإن علا التصرُّف في مال الصغير بالبيع والشراء والإجارة وغيرها، وكلٌّ منهما مستقلٌّ في الولاية فلا يُعتَبر الإذن من الآخر، كما لا تُعتَبر العدالة في ولايتهما، ولا أن تكون مصلحة في تصرُّفهما، بل يكفي عدم المفسدة فيه. نعم إذا دار الأمر بين الصالح والأصلح لزم اختيار الثاني إذا عُدَّ اختيار الأوَّل - في النظر العقلائي - تفريطاً من الوليِّ في مصلحة الصغير، كما لو اضطرَّ إلىٰ بيع مال الصغير، وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل، فلا يجوز له البيع بقيمة المثل، وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل، وزيادة درهمين، لاختلاف الأماكن أو الدلّالين، أو نحو ذلك لم يجز البيع بالأقلّ وإن كانت فيه مصلحة إذا عُدَّ ذلك تساهلاً عرفاً في مال الصغير، والمدار في كون التصرُّف مشتملاً علىٰ المصلحة أو عدم المفسدة علىٰ كونه كذلك في نظر العقلاء، لا بالنظر إلىٰ علم الغيب، فلو تصرَّف الوليُّ باعتقاد المصلحة فتبيَّن أنَّه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التصرُّف، ولو تبيَّن أنَّه ليس كذلك بالنظر إلىٰ علم الغيب صحَّ، إذا كانت فيه مصلحة بنظر العقلاء).

جاء في استفتاء شرعي:

(السؤال: كنت في حاله غضب فضربت ابنتي علىٰ عينها، فحصل بها تورُّم ولون أزرق، فما الحكم الكفّارة؟

الجواب: تجب عليك دفع دية ذلك في الفرض، وبإمكانك احتساب ما تصرفه عليها يومياً من الدية الواجبة عليك مهما كانت)(1).

ولا بأس بأن يطلبوا براءة الذمَّة من الطفل حالما يبلغ ويرشد.

وهكذا الحال - في كلِّ ذلك - بالنسبة للمعلِّم(2).

ص: 179


1- موقع مكتب السيِّد السيستاني: (https://www.sistani.org/arabic/qa/𝟎𝟓𝟖𝟒/).
2- في نفس الموقع والرابط: (السؤال: نحن نعلم أنَّ عقاب التلميذ بالضرب أو التوقيف في المدرسة لا يجوز إلَّا بإذن وليِّ أمره، لكن هذا الأمر يصعب بالنسبة لإعداد التلاميذ وحيث إنَّه يصدر من بعض التلاميذ بعض التقصير في الانضباط داخل الصفِّ وعمل فوضىٰ ما يخلُّ بالدرس، فهل تأذنون لنا في تأديب المقصِّر ضرباً يناسب مقام التأديب من دون ضرر يُعتَدُّ به؟ الجواب: لا محيص من مراجعة وليِّ التلميذ بشأن تأديبه بالضرب، ولو كان استخدام الضرب للتأديب متعارفاً في مدارس البلد أمكن اعتبار إدخاله في المدرسة موافقة ضمنية علىٰ تأديبه بهذا الأُسلوب. وعلىٰ كلِّ حالٍ لا بدَّ فيه من مراعاة الحدود الشرعية المبيَّنة في الرسالة العملية. السؤال: هل يجوز ضرب التلاميذ في المدرسة؟ وهل يجب أخذ إذن وليِّ أمر التلميذ المراد ضربه؟ الجواب: يجوز ضرب التلاميذ في حالة إيذائهم للآخرين، أو ارتكابهم محرَّماً، لكن بإذن الوليِّ، والأحوط وجوباً أن لا يزيد علىٰ ثلاثة أسواط، ويلزم أن يكون الضرب برفق إلىٰ الحدِّ الذي لا يوجب احمرار البدن، وإلَّا استوجب الدية. السؤال: هل يجوز تأديب غير الوليِّ أو غير المأذون من قِبَله للطفل بضربه؟ الجواب: لا يجوز لغير وليِّ الطفل أو المأذون من قِبَله أن يضرب الطفل لتأديبه إذا ارتكب فعلاً محرَّماً أو سبَّب أذىٰ للآخرين، ويجوز للوليِّ وللمأذوِن من قِبَله أن يضرب الطفل للتأديب ضرباً خفيفاً غير مبرح لا يُؤدّي الىٰ احمرار جلد الطفل، بشرط أن لا يتجاوز ثلاث ضربات خفيفة علىٰ الأحوط وجوباً، وذلك فيما إذا توقَّف التأديب عليه، وعليه فلا يحقُّ للأخ الشابِّ أن يضرب أخاه الطفل إلَّا إذا كان مأذوناً من قِبَل الوليِّ، ولا يجوز ضرب التلميذ في المدرسة من دون إذن وليِّه أو المأذون من قِبَله بتاتاً).

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ألقىٰ صبيان الكُتّاب ألواحهم بين يديه ليُخيَّر بينهم، فقال: أمَا إنَّها حكومة! والجور فيها كالجور في الحكم! أبلغوا معلِّمكم إنْ ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتُصَّ منه»(1).

خامساً: الرِّجْل

عندما ننظر إلىٰ القرآن الكريم وروايات أهل البيت (علیهم السلام) نجد أنَّها تُعطي الكثير من الأهمّية للسعي.

صحيح أنَّ للسعي معنىً واسعاً يشمل السعي المادّي والمعنوي، إلَّا أنَّنا الآن نتكلَّم عن السعي المادّي، أي بواسطة (الرِّجْل).

ص: 180


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 268/ باب النوادر/ ح 38).

وحول جهاد النفس هنا، نجد أنَّنا أمام مسألة مهمَّة جدًّا، باعتبار الآثار المترتِّبة علىٰ السعي إيجاباً وسلباً.

إنَّك إذا خرجت من بيتك، فإنَّه وعلىٰ باب دارك سيقف مَلَك وشيطان، فإنْ كان مسيرك نحو الله تعالىٰ رافقك المَلَك، وإنْ كان مسيرك لا إلىٰ الله تعالىٰ رافقك الشيطان، فلا تكن من الثاني(1).

في دعاء أبي حمزة الثمالي، يقول الإمام السجّاد (علیه السلام) ويُحذِّرنا من هذه المسألة بقوله: «... أنا صاحب الدواهي العظمىٰ، أنا الذي علىٰ سيِّده اجترىٰ، أنا الذي عصيت جبّار السماء، أنا الذي أعطيت علىٰ معاصي الجليل الرُّشا، أنا الذي حين بُشِّرت بها خرجت إليها أسعىٰ، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت، وسترت عليَّ فما استحييت، وعملتُ بالمعاصي فتعدَّيت، وأسقطتني من عينك فما باليت...»(2).

ومع الأسف، نجد أنَّ هذه الذي يتكلَّم به المولىٰ زين العابدين (علیه السلام) قد ابتلىٰ به الكثير من الناس!

إذن، المسير إذا كان لله تعالىٰ فأنت علىٰ طاعة وعبادة، ولذا كان له الكثير من الآثار العظيمة، فمثلاً:

لو كان خروجك للمسجد، فستحصل علىٰ ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في هذا: «من اختلف إلىٰ المساجد أصاب إحدىٰ الثمان: أخاً مستفاد في الله، أو علماً مستظرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو

ص: 181


1- في كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 397 و398/ ح 41538): «إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه مَلَكان موكَّلان به، فإذا قال: بسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، قالا: وقيت، وإذا قال: توكَّلت علىٰ الله، قالا: كفيت، فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد كفي وهدي ووقي؟».
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 223 و224).

كلمة تردُّه عن ردىٰ، أو يسمع كلمة تدلُّه علىٰ هدىٰ، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً»(1).

وكذلك لو كان خروجك لزيارة أخ في الله تعالىٰ، فستحصل علىٰ ما روي عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيّما مؤمن زار مؤمناً كان زائراً لله (عزوجلّ)، وأيّما مؤمن عاد مؤمناً خاض الرحمة خوضاً، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإذا انصرف وكَّل الله (به) سبعين ألف مَلَك يستغفرون له ويسترحمون عليه ويقولون: طبت وطابت لك الجنَّة إلىٰ تلك الساعة من الغد، وكان له خريف من الجنَّة».

قال الراوي: وما الخريف؟ جُعلت فداك.

قال: «زاوية في الجنَّة يسير الراكب فيها أربعين عاماً»(2).

وما عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، قال: «يُعيِّر الله (عزوجلّ) عبداً من عباده يوم القيامة فيقول: عبدي ما منعك إذ مرضت أن تعودني؟ فيقول: سبحانك أنت ربُّ العباد لا تألم ولا تمرض! فيقول: مرض أخوك المؤمن فلم تعده، وعزَّتي وجلالي لو عدته لوجدتني عنده، ثمّ لتكلَّفت بحوائجك فقضيتها لك، وذلك من كرامة عبدي المؤمن وأنا الرحمن الرحيم»(3).

أمَّا إذا كان المسير لغير الله تعالىٰ، فآثاره وخيمة، ولذلك مصاديق عديدة، نذكر منها مصداقاً ابتلائياً علىٰ سبيل التذكير، وهو الذهاب إلىٰ السوق من دون عمل معقول، حيث ابتُلي العديد من الناس - والنساء علىٰ الخصوص -، بداء التسوُّق اللّامسؤول، والتردُّد علىٰ الأسواق لا لشيء سوىٰ إلقاء النظرات

ص: 182


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 409 و410).
2- كتاب المؤمن للحسين بن سعيد (ص 61 و62/ باب زيارة المؤمن وعيادته/ح 158).
3- أمالي الشيخ الطوسي (ص 629 و630/ ح 1295/8).

والسؤال عن الأسعار من دون شراء، الأمر الذي قد يصل بالبعض من النساء - كما نُقِلَ لي - أن يعتبرْنَ يوم التسوُّق يوماً جائز الإفطار في شهر رمضان! لأنَّ الدوران في الأسواق يستنزف طاقتهنَّ! والبعض منهنَّ يأكلنَ طعام الغداء في الأسواق لعدم كفاية الوقت للدوران حول كلِّ الدكاكين! ويا ساعد الله زوجها إذا لم يكن يُحسِن الطبخ!

هذا إذا غضضنا النظر عن عدم الحشمة، وعن عيون الذئاب التي تنتظر ساعات التسوُّق من النساء، وعن ما يرافق تلك الأحوال من أُمور يُستقبَح التصريح بها. هذا فضلاً عن وقوع العديد من المخالفات الشرعية من أصحاب السوق كالبخس في الميزان والغشِّ والنظر المحرَّم واليمين الكاذبة والسباب وغيرها.

عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنَّه قال: «شرُّ بقاع الأرض الأسواق، وهو ميدان إبليس، يغدو برايته، ويضع كرسيه، ويبثُّ ذرّيته، فبين مطفِّف في قفيز، أو طائش في ميزان، أو سارق في ذراع، أو كاذب في سلعته، فيقول: عليكم برجل مات أبوه وأبوكم حيٌّ، فلا يزال مع أوَّل من يدخل وآخر من يرجع»(1).

ومن هنا، ورد أنَّه لا بدَّ من التركيز علىٰ ذكر الله تعالىٰ في السوق، وعدم دخوله إلَّا لحاجة معقولة، فعن التركيز علىٰ ذكر الله تعالىٰ في السوق، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ذكر الله في السوق مخلصاً عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له ألف حسنة، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر علىٰ قلب بشر»(2).

وعن التركيز علىٰ الدخول لفائدة معقولة وأثرها الإيجابي، روي عن

ص: 183


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 199/ باب السوق/ ح 3751).
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 242).

رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من دخل السوق فاشترىٰ تحفة فحملها إلىٰ عياله كان كحامل صدقة إلىٰ قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنَّه من فرَّح أُنثىٰ فكأنَّما عتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرَّ بعين ابن فكأنَّما بكىٰ من خشية الله، ومن بكىٰ من خشية الله أدخله الله جنّات النعيم»(1).

سادساً: الفَرْج

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أكثر ما تلج به أُمَّتي النار الأجوفان: البطن والفرج»(2).

من المسلَّم علمياً وواقعياً، أنَّ الغريزة الجنسية هي من أقوىٰ الغرائز الإنسانية طرًّا، وأصعبها مراساً، وأشدّها عناداً، وأكثرها استمراراً، ومن أهمّها جدًّا! حتَّىٰ وصل الإفراط في بعضهم إلىٰ أن يعتبر هذه الغريزة هي ملاك العلاقات بين البشر.

إنَّ الغريزة الجنسية - كما يُصوِّرها البعض - أشبه بسيّارة تنزل من جبل من دون كوابح، لا شكَّ أنَّ أثرها سيكون كارثياً، خصوصاً إذا كان (السائق) يضغط علىٰ (دوّاسة البنزين)!

إنَّ هذه الغريزة هي من أخطر الغرائز الإنسانية، وليس معنىٰ هذا أنَّ لها أثراً خطيراً في الجانب السلبي فقط، بل أثرها في الجانبين، السلبي والإيجابي.

أمَّا عن أثرها الإيجابي:

فذلك في حالة السيطرة عليها وكبحها وتقييدها بالشرع والشرعيات.

إنَّ تقييدها يعني حبسها علىٰ الحلال، أي إشباعها من الطريق الشرعي، والثواب المترتِّب علىٰ ذلك أعظم من أن يُوصَف!

ص: 184


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 201).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 79/ باب العفَّة/ ح 5).

عن أبي بصير، عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام) - في حديث طويل -: «ليس شيء مباح أحبّ إلىٰ الله من النكاح، فإذا اغتسل المؤمن من حلاله بكىٰ إبليس وقال: يا ويلتاه هذا العبد أطاع ربَّه وغفر له ذنبه»(1).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من تزوَّج فقد أحرز نصف دينه، فليتَّق الله في النصف الباقي»(2).

وإنَّ تقييدها بالحلال يعني تكوين الأُسرة، وهي اللبنة الأساسية للمجتمع عموماً، ولذا كانت أحبّ بناء بني في الإسلام.

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما بُني بناء في الإسلام أحبّ إلىٰ الله تعالىٰ من التزويج»(3).

والأُسرة مدعاة لإنجاب الأطفال، وهم سيكونون كآبائهم مسلمين، وفي ذلك روي عن عليِّ بن رئاب، عن محمّد بن مسلم أنَّ أبا عبد الله (علیه السلام) قال: «إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: تزوَّجوا فإنّي مكاثر بكم الأُمَم غداً في القيامة، حتَّىٰ إنَّ السقط لَيجيء محبنطئاً(4) علىٰ باب الجنَّة، فيقال له: ادخل الجنَّة، فيقول: لا، حتَّىٰ يدخل أبواي (الجنَّة) قبلي»(5).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والمولود في أُمَّتي أحبّ إليَّ ممَّا طلعت عليه الشمس»(6).

ثمّ إنَّ تقييدها بالحلال وتكوينها للأُسرة يترتَّب عليه الإحساس

ص: 185


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 14/ ص 154/ح 16354/25).
2- أمالي الشيخ الطوسي (ص 518/ح 1137/44).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 383/ ح 4343).
4- محنبطاً (خ)، متحنبطاً (خ). محبنطئ: المغتضب.
5- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 383/ ح 4344).
6- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي (ج 3/ ص 286/ باب النكاح/ ح 30).

بالمسؤولية، والتقليل من الحركات الصبيانية، وكم رأينا من شباب طائش ما إنْ تزوَّج حتَّىٰ دخل عليه الوقار والاستقرار، ولذا كانت الزوجة سكناً وسبباً للمودَّة والرحمة، قال تعالىٰ: ﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 21﴾ (الروم: 21).

ولعلَّه لهذا، كان الزواج من أهمّ أسباب زيادة الرزق، لأنَّ الاستقرار والإحساس بالمسؤولية يجعل من الشابِّ متفكِّراً بعمق، ومفكِّراً بالمستقبل، فهو قبل الزواج كان لا يقول إلَّا (أنا أنا)، وبعد الزواج صار يقول: (أنا وهي)، وبعد أيّام سيقول: (أنا وهي وهو [أي الطفل])، وباستمرار الأيّام سوف لن يقول إلَّا: (هي وهم)! وهذا ما سيدفعه للتعقُّل والعمل بجدٍّ، وبالتالي سيزيد رزقه؛ لجِدِّه واجتهاده، وطبعاً اليد الغيبية ليست بعيدة عن مدِّ مثل هذا الشابِّ بالتوفيق اللازم.

فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «زوِّجوا أيَاماكم، فإنَّ الله يُحسِّن لهم في أخلاقهم، ويُوسِّع لهم في أرزاقهم، ويزيدهم في مروّاتهم»(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «حقٌّ علىٰ الله عون من نكح التماس العفاف عمَّا حرم الله»(2).

وأمَّا عن أثرها السلبي:

فذلك فيما لو لم يتمّ تقييدها بالحلال، فكلُّ ما ذكرناه قبل قليل سيُعدَم، فلا ثواب، ولا أُسرة، ولا أطفال ينشرح الصدر برؤيتهم يكبرون، وليس إلَّا تشتُّت الفكر، وغياب الاستقرار.

ص: 186


1- النوادر لفضل الله الراوندي (ص 178).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 276 و277/ ح 44443).

وهذا ما نجده واضحاً في الغرب، فإنَّهم أشبعوا هذه الغريزة بالطُّرُق غير الشرعية، فافتقدوا الأُسرة والاستقرار، وقد نقل لي أحد أصدقائي أنَّه سأل رجلاً من إحدىٰ البلاد الأُوروبية بأنَّه هل عنده أطفال؟ فقال: نعم. فقال له: وكيف هي زوجتك؟ فقال: ليس لي زوجة! فقال له: إذاً من أين الأطفال؟! قال: من صديقتي؟ قال له: ولِمَ لَمْ تتزوَّجها؟ فقال له: لست غبيًّا لأتزوَّج امرأة غريبة ترث أموالي!

فضلاً عن الأمراض الخطيرة والعياذ بالله المترتِّبة علىٰ انحراف هذه الغريزة، والتي يُعبِّر عنها القرآن الكريم بالسبيل السيِّئ، قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً 32﴾ (الإسراء: 32).

وليس هناك سبيل أسوأ من فقدان المناعة والتحلُّل الخُلُقي وبقيَّة الأمراض كالزهري ومرض السيلان وغيرها من الأمراض والعياذ بالله.

فضلاً عن ذلك كلِّه، يبقىٰ وراء المنحرف العقاب الأُخروي! فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألَا أُخبركم بكبر الزنا؟ هي امرأة تُوطَئ في فراش زوجها، فتأتي بولد من غيره، فتلزمه زوجها، فتلك التي لا يُكلِّمها الله، ولا ينظر إليها يوم القيامة، ولا يُزكّيها، ولهم عذاب أليم»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرَّ نطفته في رحم يحرم عليه»(2).

سابعاً: البطن

الأجوف الثاني الذي حذَّرنا منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو البطن، ذلك أنَّك إذا لاحظت بني البشر، فإنَّك تجدهم كلَّما عملوا عملاً أو جمعوا مالاً أو جازفوا

ص: 187


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 263).
2- المصدر السابق.

مجازفة، بل إذا وُلِدَ لأحدهم ولد، فإنَّه أوَّل ما يُفكِّر، فإنَّه يُفكِّر بالطعام الذي يملأ بطنه، ولذا فإنَّه ربَّما يعمل أيَّ شيء من أجل ملئ بطنه.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فهنا لا بدَّ من جهاد النفس أشدّ مجاهدة، حتَّىٰ يضمن الإنسان سلامته في الآخرة.

إنَّ الأكل إذا كان حلالاً فنعم الأكل، وإلَّا فإنَّه بئس المصير، ولكلٍّ آثاره، فأمَّا إنْ كان الأكل حلالاً، فقد ورد أنَّه قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «من أكل الحلال قام علىٰ رأسه مَلَك يستغفر له حتَّىٰ يفرغ من أكله»(1).

وعن النبيِّ (صلی الله علیه و آله): «من أكل الحلال أربعين يوماً نوَّر الله قلبه»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أكل من الحلال صفا قلبه ورقَّ، ودمعت عيناه، ولم يكن لدعوته حجاب»(3).

فضلاً عن ذلك، فإنَّ الساعة التي تجلس فيها تأكل الحلال، فإنَّ الله تعالىٰ لا يحاسبك عليها، أي إنَّ الله تعالىٰ - كما في الروايات - قد استثنىٰ من الحساب أُموراً قد اضطرَّ إليها الإنسان، وليس من كرم الله تعالىٰ أنْ يضطرَّ الإنسان إلىٰ شيء ثمّ يحاسبه عليه(4).

فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «من ذكر اسم الله علىٰ الطعام لم يُسئل عن نعيم ذلك الطعام أبداً»(5).

ص: 188


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 24/ ح 35).
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 140).
3- مجمع البحرين للشيخ الطريحي (ج 1/ ص 564).
4- ولعلَّ هذا هو معنىٰ ما قد اشتهر علىٰ الألسنة من أنَّ الساعة التي تأكل فيها لا تُحسَب من العمر، إذ إنَّ الله تعالىٰ يحاسب الإنسان علىٰ كلِّ عمره، أمَّا ساعة الأكل الحلال فإنَّ الله تعالىٰ لا يحاسبه عليها لاضطراره إليها. يعني لا يحاسبه علىٰ أكله الحلال لماذا أكله.
5- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 434/ باب 35/ ح 269).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب العبد المؤمن عليهنَّ: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه»(1).

تنبيه:

من النِّعَم التي أنعمها الله تعالىٰ هي نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، وقد فُسِّر بها قوله تعالىٰ: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ 8﴾ (التكاثر: 8)، ولكن التاريخ يُحدِّثنا عمَّن أراد أنْ يُغيِّر هذه الحقيقة، ويُحرِّفها عن واقعها.

عن إبراهيم بن العبّاس الصولي، قال: كنّا يوماً بين يدي عليِّ بن موسىٰ الرضا (علیه السلام)، فقال: «ليس في الدنيا نعيم حقيقي».

فقال له بعض الفقهاء ممَّن يحضره: فيقول الله (عزوجلّ): ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ 8﴾، أمَا هذا النعيم في الدنيا، وهو الماء البارد.

فقال له الرضا (علیه السلام) وعلا صوته: «كذا فسَّرتموه أنتم وجعلتموه علىٰ ضروب، فقال طائفة: هو الماء البارد، وقال غيرهم: هو الطعام الطيِّب، وقال آخرون: هو النوم الطيِّب، ولقد حدَّثني أبي، عن أبيه أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّ أقوالكم هذه ذُكِرَت عنده في قول الله (عزوجلّ): ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ 8﴾، فغضب (علیه السلام) وقال: إنَّ الله (عزوجلّ) لا يسأل عباده عمَّا تفضَّل عليهم به، ولا يمنُّ بذلك عليهم، والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلىٰ الخالق (عزوجلّ) ما لا يرضىٰ المخلوقين به؟

ولكن النعيم حبُّنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل الله (عزوجلّ) عنه بعد التوحيد والنبوَّة، لأنَّ العبد إذا وفا بذلك أدّاه إلىٰ نعيم الجنَّة الذي لا

ص: 189


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 399/ باب 6/ ح 80).

يزول، ولقد حدَّثني بذلك أبي، عن أبيه، عن محمّد بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليٍّ، عن أبيه عليٍّ (علیه السلام) أنَّه قال:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا عليُّ، إنَّ أوَّل ما يُسئل عنه العبد بعد موته شهادة أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، وأنَّك وليُّ المؤمنين بما جعله الله وجعلته لك، فمن أقرَّ بذلك وكان يعتقده صار إلىٰ النعيم الذي لا زوال له»(1).

أمَّا إذا كان الأكل من حرام - والعياذ بالله - فآثاره وخيمة، كما ذكرت ذلك الروايات.

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أكل لقمة من حرام لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة، ولم تُستَجب له دعوة أربعين صباحاً، وكلُّ لحم نبت من الحرام فالنار أولىٰ به، وإنَّ اللقمة الواحدة من الحرام لتُنبِت اللحم»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «إذا وقعت اللقمة من حرام في جوف العبد لعنه كلُّ مَلَك في السماوات والأرض»(3).

المستوىٰ الثاني: طُرُق مختصرة لجهاد النفس

اشارة

عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: «النفس مجبولة علىٰ سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب، والنفس تجري [بطبعها] في ميدان المخالفة، والعبد يجهد بردِّها عن سوء المطالبة، فمتىٰ أطلق عنانها فهو شريك في فسادها، ومن أعان نفسه في هوىٰ نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه»(4).

ص: 190


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 136 و137/ ح 8).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 4/ ص 15/ ح 9266).
3- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 25/ ح 37).
4- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 137 و138/ ح 12642/4).

تشير العديد من الآيات إلىٰ أنَّ في الإنسان جهة ظلمانية جهولة(1)، وهو أيضاً ما تشير له بعض الروايات الشريفة(2).

ثمّ إنَّ من أهمّ ما يستغلُّه الشيطان من الإنسان هي هذه الجهة، فصحيح أنَّ الإنسان هو أفضل الموجودات، ولكن ذلك فيما لو لم تتحرَّك تلك الظلمة الموجودة في أعماق مستنقع النفس! وإلَّا فإنَّه ربَّما يرجع ليصبح أسفل سافلين، ولذا كان من أهمّ ما يهتمُّ به إبليس هي إثارة ذلك المستنقع بما فيه من أوساخ، حتَّىٰ يختلط صفاء النفس بكدرها، فيقع حينها في منيَّته، وهو بعد هذا لا يهتمُّ بالطريقة التي سيمارسها في سبيل ذلك، فإنَّ شعاره هو (الغاية تُبرِّر الوسيلة)، وكما قيل: إنَّه لا يهمُّه لون القطَّة، بل المهمُّ أنْ يصطادها! ولذا كان لإبليس مصائد وحبائل عديدة ومتنوِّعة، حتَّىٰ إنَّ من حبائله بعض العبادات!

وإلَّا فما بالك في الصلاة؟ إنَّها عمود الدِّين، ولكن الشيطان يدخل لبعض المساكين ليراؤوا بصلاتهم، فتنقلب ضدَّهم!

أو ما رأيك بالجهاد؟ إنَّه باب فتحه الله تعالىٰ لخاصَّة عباده، وإذا به ينقلب أحياناً ليكون فوهة من فوهات جهنَّم والعياذ بالله(3).

ص: 191


1- ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً 72﴾ (الأحزاب: 72)؛ ﴿وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ 2﴾ (العصر: 1 و2).
2- عن عمّار بن أبي الأحوص، عن أبي عبد الله (علیه السلام): «إنَّ الله تبارك و تعالىٰ خلق في مبتدأ الخلق بحرين: أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أُجاج، ثمّ خلق تربة آدم من البحر العذب الفرات، ثمّ أجراه علىٰ البحر الأُجاج فجعله حمأً مسنوناً، وهو خلق آدم. (تفسير العيّاشي: ج 1/ ص 182).
3- وفي رواية عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «أوَّل الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر يؤتىٰ بالرجل - أو قال: بأحدهم - فيقول: ربِّ علَّمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك، فيقال: كذبت، إنَّما كنت تُصلّي ليقال: إنَّك قارئ مصلٍّ، وقد قيل، اذهبوا به إلىٰ النار. ثمّ يُؤتىٰ بآخر فيقول: ربِّ رزقتني مالاً فوصلت به الرحم وتصدَّقت به علىٰ المساكين وحملت ابن السبيل رجاء ثوابك وجنَّتك، فيقال: كذبت، إنَّما كنت تتصدَّق وتصل ليقال: إنَّك سمح جواد، وقد قيل، اذهبوا به إلىٰ النار. ثمّ يُجاء بالثالث فيقول: ربِّ خرجت في سبيلك فقاتلت فيك حتَّىٰ قُتِلْتُ مقبلاً غير مدبر رجاء ثوابك وجنَّتك، فيقال: كذبت، إنَّما كنت تقاتل ليقال: إنَّك جريء شجاع، وقد قيل، اذهبوا به إلىٰ النار». (كنز العُمّال للمتَّقي الهندي: ج 3/ ص 480/ ح 7516).

عبد الله بن عمر كان ممَّن لم يبايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) (1)، وغاب عنه - أو تناسىٰ - أنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تستلزم الطاعة المطلقة! ولكنَّه بعد أنْ حكم الحجّاج رقاب المسلمين جاءه ليبايعه! بحجَّة أنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية(2)!

وهذا يعني فيما يعنيه أنَّه لا بدَّ من الجهاد المرير حتَّىٰ يتخلَّص الإنسان من هذا التسلُّط الإبليسي، ولذا كان الجهاد جهاداً، فالجهاد هو بذل أقصىٰ الجهد، لأنَّ العدوَّ شرس منافق، ولذا كان جهاد النفس جهاداً أكبراً!

ص: 192


1- قال المسعودي في مروج الذهب في ذكر خلافة أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام): (وقعد عن بيعته جماعة عثمانية لم يروا إلَّا الخروج عن الأمر، منهم: سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر، وبايع يزيد بعد ذلك والحجاج لعبد المَلِك بن مروان. (الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: ج 1/ ص 363).
2- لمَّا دخل الحجّاج مكَّة وصلب ابن الزبير راح عبد الله بن عمر إليه وقال: مُدَّ يدك لأُبايعك لعبد المَلِك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، فأخرج الحجّاج رجله وقال: خذ رجلي فإنَّ يدي مشغولة، فقال ابن عمر: أتستهزئ منّي؟ قال الحجّاج: يا أحمق بني عدي ما بايعت مع عليٍّ وتقول اليوم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أوَما كان عليٌّ إمام زمانك؟ والله ما جئت إليَّ لقول النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صُلِبَ عليها ابن الزبير. (الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: ج 1/ ص 363).

وهذا يعني فيما يعنيه أيضاً ضرورة المحافظة علىٰ برنامج خاصٍّ في مجاهدة النفس، وأيُّ تراخٍ معها يعني السقوط في هوة عمقها سبعون سنة!

فكم من أُناس كان يُتوقَّع لهم مكاناً عليًّا، ولكنَّهم سقطوا وأيّ سقطة! فمثل الزبير الذي كان قد وصل إلىٰ مرحلة صار من (أهل البيت)، ولكنَّه لطاعته لتسويلات ولده سقط! رغم أنَّ الزبير كان من محبّي أمير المؤمنين (علیه السلام) ! فقد روي أنَّه قال الإمام عليٌّ (علیه السلام): «ما بال الزبير كأنَّه رجل منّا أهل البيت حتَّىٰ أدركه ابنه عبد الله فلفته عنّا»(1).

ومن هنا، لو رجعنا إلىٰ النصوص الدِّينية، لاستطعنا أنْ نجد عدَّة طُرُق، من شأنها أنْ تساعد علىٰ جهاد النفس، فيما لو اتَّخذها المسلم منهاجاً ثابتاً.

وفيما يلي عدَّة طُرُق مختصرة لجهاد النفس:

الطريق الأوَّل: اتَّخذ قرارك بعزم حالما تستيقظ

قال أبو عبد الله (علیه السلام) لرجل: «إنَّك قد جُعلت طبيب نفسك، وبُيِّن لك الداء، وعرفت آية الصحَّة، ودُلِلْت علىٰ الدواء، فانظر (كيف) قيامك علىٰ نفسك»(2).

جاء أحدهم لأحد العلماء فقال: أُريد أن تكتب لي حرزاً يمنعني من التدخين! فقال له: الحرز بسيط، كأس ماء وعزيمة الرجال!

ص: 193


1- المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي (ج 7/ ص 271/ باب 28/ ح 128)؛ وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «ما زال الزبير منّا أهل البيت حتَّىٰ نشأ ابنه عبد الله بن الزبير، ولقد حلق رأسه وهو يقول: لا يبايع (نبايع خ د) إلَّا عليًّا، ولقد أخذ عمر سيفه فكسره بين حجرين».
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 454/ باب محاسبة العمل/ ح 6).

ولقد قيل: إنَّ عزيمة الرجال تزيح الجبال.

إنَّ من أهمّ صفات المؤمن الحقِّ هو عزمه الشديد الذي لا يزحزحه شيء، وهذا طبعاً ناتج من إيمانه المستقرّ في قلبه، عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد، إنَّ زبر الحديد إذا دخل النار تغيَّر، وإنَّ المؤمن لو قُتِلَ ثمّ نُشِرَ ثمّ قُتِلَ لم يتغيَّر قلبه»(1).

وجهاد النفس أوَّل ما يحتاج، فإنَّه يحتاج إلىٰ عزم قويٍّ يستطيع به المؤمن أن يقلع عن الذنوب ويلتزم بالطاعات.

ففي دعاء المولىٰ زين العابدين (علیه السلام) يُبيِّن فيه أنَّ من أخصر الطُّرُق وأهمّها إلىٰ الله تعالىٰ هو العزم والإرادة، يقول (علیه السلام): «وقد علمت يا إلهي أنَّ أفضل زاد الراحل إليك عزم الإرادة، وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي»(2).

الطريق الثاني: ابحث عن معلِّم

عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ نفسك لخدوع، إنْ تثق بها يقتدك الشيطان إلىٰ ارتكاب المحارم، إنَّ النفس لأمّارة بالسوء والفحشاء فمن ائتمنها خانته، ومن استنام إليها أهلكته، ومن رضي عنها أوردته شرَّ الموارد، وإنَّ المؤمن لا يُمسي ولا يُصبح إلَّا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً إليها»(3).

إنَّك حتَّىٰ تأخذ علماً دنيوياً فإنَّك تحتاج إلىٰ معلِّم، فكيف بعلم الآخرة؟!

ص: 194


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 251/ باب الإخلاص/ ح 266).
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 526).
3- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 140/ باب 1 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه/ح 12650/12).

في جهادك مع نفسك تحتاج إلىٰ من يُعلِّمك طريق الآخرة، أو قل: يُعلِّمك مصير أُولئك الذين أطاعوا أنفسهم وتركوا الآخرة وراء ظهورهم، فتحذَّر من أنْ تكون مثلهم.

وعندك الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) هو أفضل معلِّم لك، فهو (طبيب) ولكنَّه يختلف عن بقيَّة الأطبّاء، فإنَّه (دوّار بطبِّه) يطرق عليك الباب، وبمجرَّد أنْ تفتح الباب - سواء كان تلفزيوناً أو كتاباً أو انترنيت - فإنَّك تجده (قد أحكم مراهمه)، فالدواء والمراهم التي يُعطيكها محكمة، وهو القرآن الكريم الذي هو شفاء لما في الصدور.

وهو طبيب لا يريد أجراً: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90﴾ (الأنعام: 90).

﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ اللهِ وَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 47﴾ (سبأ: 47).

وبعد هذا، فإنَّ أفضل معلِّم لأفضل تلميذ هو التاريخ، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن المجتبىٰ (علیه السلام): «أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَىٰ إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَه مِنْ ضَرَرِه، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه»(1).

إذا عرفت هذا، فخذ هذه الدُّرَّة من التاريخ:

روي «أنَّ عيسىٰ (علیه السلام) كُشِفَت له الدنيا، فرآها في صورة عجوزة

ص: 195


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 41).

شمطاء، عليها من كلِّ زينة، فقال لها: كم تزوَّجتِ؟ قالت: لا أُحصيهم، قال: فكلُّهم مات عنكِ أو طلَّقوكِ؟ قالت: بل كلُّهم قتلتُ! قال عيسىٰ (علیه السلام): بؤساً لأزواجكِ الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجكِ الماضين، كيف أهلكتهم واحداً واحداً ولا يكونون منك علىٰ حذر؟!»(1).

فاحذر من الدنيا، فقد حذَّرك التاريخ منها.

الطريق الثالث: داوم التوبة بإخلاص

نقل بعضٌ: أنَّ رجلاً كان يرمي الجمرات بستّ حصيات لا بسبع، ولمَّا سُئِلَ عن ذلك أجاب: يجب أن أُبقي لي خطّ رجعة مع الشيطان!

إنَّ البعض من التائبين والمجاهدين لأنفسهم لا يتابعون خطَّهم المرسوم، بل تجدهم أوَّل ما يتوبون علىٰ مستوىٰ عالٍ من المقت لأنفسهم الأمّارة بالسوء، ولكنَّهم بالتدريج يخفُّ مقتهم لها ويخفُّ حتَّىٰ يتناسوا جهادهم وتوبتهم.

إنَّ من أهمّ أدبيات الإسلام هو أنَّه يطلب من المسلم الاستمرار بعمله مخلصاً، ولا يقبل أن يكون المسلم مذبذباً لا إلىٰ هؤلاء ولا إلىٰ هؤلاء! فإنَّه لا يوجد إلَّا نجدان، ولا تلاقي بينهما، فليس في الآخرة مكان غير الجنَّة والنار! ولا بدَّ من تحديد الطريق من هنا، فالبداية من الدنيا، والنهاية هناك! فاجهد لنفسك أنْ تختار طريقك بعد تفكير بالمصير النهائي الخالد.

إنَّ الإسلام لا يرضىٰ لنا أن نكون كعبد المَلِك بن مروان، الذي كان يُسمّىٰ بحمامة المسجد! من شدَّة ملازمته للمسجد وللقرآن الكريم،

ص: 196


1- التحصين لابن فهد الحلّي (ص 28).

فلمَّا أتاه الخبر بخلافته كان المصحف في حجره فوضعه وقال: هذا فراق بيني وبينك! وقد قال فيه الجصّاص وهو من أكابر علمائهم: (ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد المَلِك، ولم يكن في عُمّاله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجّاج!

وكان عبد المَلِك أوَّل من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صعد المنبر فقال: إنّي والله ما أنا بالخليفة المستضعف يعني عثمان، ولا بالخليفة المصانع يعني معاوية! وإنَّكم تأمروننا بأشياء تنسونها منه في أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوىٰ الله إلَّا ضربت عنقه!)(1).

وقال: (إنّي كنت أتحرَّج أنْ أطأ نملة، وإنَّ الحجّاج يكتب إليَّ في قتل فئام من الناس فما أحفل بذلك!

وقال له الزهري يوماً: بلغني أنَّك شربت الطلاء! فقال: إي والله والدماء! وقال: عجباً للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يُزكّيه ويمدحه)(2).

الطريق الرابع: المحاسبة والنقد الذاتي

كلُّ شيء يحتمل الزيادة والنقصان، فلا بدَّ فيه من المحاسبة الدقيقة حتَّىٰ تحفظ توازنه، وخذ لذلك مثال محلّ تجاري، والمثال واضح لا يحتاج إلىٰ بيان.

ص: 197


1- نقله الشيخ عليٌّ الكوراني في جواهر التاريخ (ج 3/ ص 494)، عن أحكام القرآن (ج 1/ ص 86)، قال: (وحذف الجصّاص (المأبون) وذكرها ابن خيّاط (ص 210)، وابن عساكر (ج 37/ ص 135)، والنهاية (ج 9/ ص 78)، والبيان والتبيين (ص 294)، ونثر الدُّرَر (ص 385)، وبعضهم جعلها: المأفون).
2- جواهر التاريخ للشيخ عليٍّ الكوراني (ج 3/ ص 496 و497)، عن محاضرات الأُدباء (ص 172).

والنفس من الأُمور التي تَرِدُها الزيادة والنقصان، ولذلك تجد من نفسك في بعض الأحيان شوقاً للعبادة، وللصلاة والدعاء، وتلهُّفاً لمجالس الوعظ، وكرهاً للمعصية، وجدًّا في الابتعاد عن مواطنها، ولكنَّك في بعض الأحيان، تجد من نفسك حبًّا لرؤية منظر محرَّم، أو شوقاً للذهاب لمكان ما يحوي حراماً. وبعبارة مختصرة: إنَّك تجد نفسك بين مدٍّ وجَزْر.

من هنا، احتاج المؤمن إلىٰ مراقبة نفسه مراقبة دقيقة، بأنْ لا يغفل عنها أبداً، فلربَّما انزلقت به - في لحظة من لحظات انتكاستها - إلىٰ هاوية عميقة - والعياذ بالله -. ولا بدَّ أن يعلم المؤمن أنَّ النفس خدّاعة، غَرورة، تخدع صاحبها عند أقلّ غفلة منه.

وهكذا إذا رأىٰ منها إقبالاً علىٰ العبادة، فلا بدَّ أنْ يستغلَّ تلك اللحظات بما يُخلِّده، ولا يصرف هكذا لحظات في غرَّة السهو والغفلة.

يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها علىٰ النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها علىٰ الفرائض»(1).

ويقول الإمام الرضا (علیه السلام): «إنَّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، أو نشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصرت وفهمت، وإذا أدبرت كلَّت وملَّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها»(2).

ولقد عبَّرت روايات أهل البيت (علیهم السلام) عن المراقبة الذاتية للنفس بالمحاسبة، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه

ص: 198


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 74).
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 3/ ص 55/ باب 15 من أبواب أعداد الفرائض.../ح 3005/4).

في كلِّ يوم، فإنْ عمل خيراً (حسناً) استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإنْ عمل شرًّا استغفر الله منه وتاب إليه»(1).

الطريق الخامس: ابتعد عن أصدقاء السوء

نقل أحد العلماء: كان هناك شابٌّ من أهالي كربلاء، ملتزم جدًّا، يعيش ويشمُّ ريح الحسين وأخيه (علیهما السلام) كلَّ ليلة جمعة، وعادةً كلَّ يوم، يزور المرقد الشريف، ويُصلّي ويدعو، وحاله أحسن حال، ولكن...

جاءه أحد أصحابه، وبدأ يذكر له روعة السينما في بغداد - في وقت لم تكن السينما إلَّا في بغداد، أمَّا في مثل أيّامنا ففي كلِّ بيت توجد سينما أضخم بكثير من السينمات المعروفة! - وبعد إلحاح ومجاهدة، أقنعه بأنْ يذهب معه - ليلة الجمعة! - إلىٰ بغداد مع الأصدقاء، وصلوا، رأوا فلماً - ربَّما كان خلاعياً أو قريباً منه -!

ينقل هذا الشخص:

رجعتُ وتلك الليلة لم أنم، ذهبت صباحاً إلىٰ أحد العلماء، فأمرني بالاستغفار والتوبة وعدم العود أبداً، فاستغفرت، ولكن...

في يوم الخميس القادم، جاءني صاحبي، فكانت ممانعتي له أقلّ من الخميس الماضي! وأخيراً - وبعد ممانعة المشتهي - ذهبت معهم، وهكذا جاء خميس بعد خميس، خميس يجرُّ خميساً، إلىٰ أنْ وصل الأمر بي إلىٰ ترك الصلاة والصوم!

بقيت هكذا ردحاً من الزمن، إلىٰ أنْ آلمتني معدتي يوماً، فذهبي للطبيب فأعطاني دواءً فلم ينفع، وبعد إجراء الفحوصات اللازمة تبيَّن أنَّني مصاب بالسرطان!

ص: 199


1- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 76/ باب 13/ ح 203).

ها قد اقترب منك الموت، فماذا تفعل؟!

عندما يأتي الموت يصبح الإنسان كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «...فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً، وَكَأَنَّ الآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً، أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ، وَأَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وَأَضَاعُوا مَا إِلَيْه انْتَقَلُوا، لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا، وَلَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً، أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ، وَوَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ...»(1).

إنَّ من أهمّ الأسلحة ذات الحدَّين - وما أكثرها في الدنيا - هم الأصدقاء، فإنَّه إنْ كان الصديق صالحاً أصلحك وإنْ طال الأمر، وإنْ كان فاسداً أفسدك بأسرع ممَّا تتصوَّر!

ولذا كان هناك موقف صعب جدًّا يوم القيامة متعلّق بالأصدقاء والأخلّاء!

يقول تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً 29﴾ (الفرقان: 27 - 29).

ويقول تعالىٰ: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ67﴾ (الزخرف: 67).

فعلىٰ من يريد أن يجاهد نفسه حقًّا - لا مخادعةً - أنْ يُلزِم نفسه بترك أصدقاء السوء، ولا يرضىٰ لنفسه إلَّا بأصدقاء الخير، وليتذكَّر دائماً قول أمير المؤمنين (علیه السلام) لمَّا قام إليه رجل بالبصرة فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الإخوان؟ فقال (علیه السلام):

ص: 200


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 128).

«الإِخْوَانُ صِنْفَانِ: إِخْوَانُ الثِّقَةِ، وإِخْوَانُ المُكَاشَرَةِ. فَأَمَّا إِخْوَانُ الثِّقَةِ فَهُمُ الْكَفُّ وَالْجَنَاحُ وَالأَهْلُ وَالمَالُ، فَإِذَا كُنْتَ مِنْ أَخِيكَ عَلَىٰ حَدِّ الثِّقَةِ فَابْذُلْ لَه مَالَكَ وَبَدَنَكَ وَصَافِ مَنْ صَافَاه وَعَادِ مَنْ عَادَاه وَاكْتُمْ سِرَّه وَعَيْبَه وَأَظْهِرْ مِنْه الْحَسَنَ، وَاعْلَمْ أَيُّهَا السَّائِلُ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُ المُكَاشَرَةِ فَإِنَّكَ تُصِيبُ لَذَّتَكَ مِنْهُمْ، فَلَا تَقْطَعَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَا تَطْلُبَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِهِمْ، وَابْذُلْ لَهُمْ مَا بَذَلُوا لَكَ مِنْ طَلَاقَةِ الْوَجْه وَحَلَاوَةِ اللِّسَانِ»(1).

الطريق السادس: نظِّم وقتك واستعن ببرنامج عبادي منظَّم

يُحكىٰ أنَّ حطّاباً كان يجتهد في قطع شجرة في الغابة، ولكن فأسه لم يكن حادًّا، إذ إنَّه لم يشحذه من قبل، مرَّ عليه شخص ما فرآه علىٰ تلك الحالة، وقال له: لماذا لا تشحذ فأسك؟

قال الحطّاب وهو منهمك في عمله: ألَا ترىٰ أنَّني مشغول بعملي؟!

إنَّ من يقول بأنَّه مشغول ولا وقت لديه لتنظيم وقته، فشأنه كشأن الحطّاب مع فأسه!

إنَّ شحذ الفأس سيساعده علىٰ قطع الشجرة بسرعة، وسيساعده أيضاً علىٰ تقليل الجهد المبذول لأجل قطع الشجرة، وكذلك سيتيح له الانتقال إلىٰ شجرة أُخرىٰ.

وكذلك تنظيم الوقت، سيساعدك علىٰ إتمام أعمالك بشكل أسرع وبمجهود أقلّ، وسيتيح لك اغتنام فُرَص لم تكن تخطر علىٰ بالك لأنَّك مشغول بعملك.

ص: 201


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 248 و249/ باب في أنَّ المؤمن صنفان/ ح 3).

وهي معادلة بسيطة، فإنَّ علينا أنْ نُجهِّز الأرض قبل زراعتها، ونُجهِّز أدواتنا قبل الشروع في عمل ما. وكذلك الوقت، علينا أنْ نُخطِّط لكيفية قضائه في ساعات اليوم. وإنْ كان الأمر ربَّما من صنف (السهل الممتنع) علىٰ كثير من الناس.

في إحصائيات كثيرة نجد أنَّ أُموراً صغيرة تهدر الساعات سنوية، ودعونا نأخذ مثالاً يومياً في حياتنا:

لو قلنا مثلاً: إنَّك تقضي (10) دقائق في طريقك من البيت وإلىٰ العمل، وكذلك من العمل إلىٰ البيت، أي إنَّك تقضي (20) دقيقة يومياً تتنقل بين البيت ومقرِّ العمل، ولنفرض أنَّ عدد أيّام العمل في الأُسبوع (5)أيّام.

(5) أيّام ضرب (20) دقيقة تعني (100) دقيقة أُسبوعياً.

(100) دقيقة أُسبوعياً ضرب (53) أُسبوعاً تقريباً كلَّ سنة، تعني (5300) دقيقة، ممَّا يعني (88) ساعة تقريباً!

لو قمت باستغلال هذه العشر دقائق يومياً في شيء مفيد، لاستفدت من (88) ساعة تظنُّ أنت أنَّها وقت ضائع أو مهدور!

كيف تستغلُّ هذه الدقائق العشر؟

هناك الكثير من الأُمور المفيدة لك في هذه ال- (88) ساعة، فيمكنك أن تستمع لأشرطة مفيدة، ويمكنك التخطيط للمستقبل، ويمكنك التفكُّر الذي هو عبادة عظيمة.

وهنا نريد القول: إنَّك خلال هذه ال- (88) ساعة - وربَّما هي عند البعض أكثر بكثير - تستطيع أنْ تقيم لنفسك جدولاً مفيداً لجهاد النفس، وله آثار عديدة ومهمَّة، إذا أردت أنْ تعرفها فالتزم بالفقرات

ص: 202

التالية. أمَّا عن الوقت المناسب لأداء هذه الفقرات، فهو متروك لك، تستطيع أنْ تُنظِّمه حسب ظروفك الخاصَّة. فالجدول لا بدَّ أن يكون (مرناً) يتلاءم مع الظروف الخاصَّة المعلومة لكلِّ فرد.

المهمُّ أنْ تلتزم بهذا المقدار القليل، وإنْ كان عندك القدرة علىٰ الزيادة فبها ونعمت:

1 - المحافظة علىٰ أداء الصلاة في أوَّل وقتها مهما كانت الظروف، والأفضل طبعاً أداؤها في المسجد وجماعة.

2 - المحافظة علىٰ الالتزام بالنوافل اليومية أو بعضها المهمّ، كركعتي الشفع والوتر.

3 - المواظبة علىٰ تلاوة القرآن الكريم يومياً بالمقدار المقدور عليه.

4 - التصدُّق يومياً وعدم الإخلال بذلك أبداً، فإنْ لم تجد فقيراً فأعطِ صدقتك لطفل تراه ليفرح قلبه.

5 - أدخِل السرور علىٰ قلب مؤمن كلَّ يوم، ولو كان ذلك برسالة تبعثها له من خلال الهاتف النقّال.

6 - بادر لتحصيل ما يلزم لحجَّة الإسلام.

7 - زيارة المراقد المقدَّسة للمعصومين (علیهم السلام) حسب الظرف والقدرة.

8 - المحافظة علىٰ حقوق الإخوان وعدم التفريط بها.

9 - عدم الخوض فيما لا يعني من الحديث، فإنَّه مضيعة للوقت ومفسدة للقلب.

10 - قراءة تسبيح الزهراء دُبُر كلِّ صلاة.

11 - تلاوة آية الكرسي مرَّة واحدة وسورة التوحيد ثلاث مرّات قُبيل النوم.

ص: 203

12 - الالتزام بالدعاء وطلب التوفيق من الله تعالىٰ.

13 - الالتزام بقدر معتدٍّ به يومياً من واجبات الغيبة، كالدعاء للإمام المهدي ¨، والدعاء بتعجيل فرجه، وقراءة دعاء العهد صباح كلِّ يوم، ودعاء الندبة يوم الجمعة، والتصدُّق عنه ¨، والصلاة عنه ¨، وغيرها من المستحبّات المهمَّة التي عبَّرت عنها كلمات العلماء بواجبات زمن الغيبة.

14 - أقم علاقة خاصَّة بالإمام الحسين (علیه السلام) ولو بالالتزام بزيارة عاشوراء يومياً ولو من بعيد، وإقامة مجلس عزاء ولو في الشهر مرَّة.

وغير ذلك كثير، إذ يمكن لكلِّ واحدٍ منّا أن يجد أُموراً من هذا القبيل، ولا شكَّ أنَّك قارئي العزيز قد خطرت في ذهنك أُمور أُخرىٰ أثناء قراءتك تلك الفقرات.

* * *

ص: 204

وفي الختام

كانت لنا هذه الجولة حول مفهوم التكامل في الإسلام، وهو بحث لا أشكُّ في نقصه وعدم كماله، إذ الكمال لله تعالىٰ وحده لا شريك له، ولكنَّها علىٰ كلِّ حالٍ مفردات عملية تنفع من يلتزم بها، لا لأنّي كتبتها وإنَّما لأنَّها جاءت من منبع صافٍ ومنهل عذب، هي كلمات القرآن الكريم وأهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولا شكَّ في نفعها كلَّ من أخذ بها، نسأل الله تعال أن يتقبَّل منّا بقبوله الحسن.

اللّهمّ تقبَّل منّا القليل، وأعطنا من فضلك الكثير، إنَّك نعم المولىٰ ونعم النصير(1).

* * *

ص: 205


1- كان الفراغ من إتمام الكتابة الأوَّلية لهذه الأوراق في النجف الأشرف ليلة السابع عشر من شعبان (1429ﻫ) المصادف ليلة (8/ آب/ 2008م)؛ وكان الفراغ من مراجعتها وتدقيقها: ظهر الخميس الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك (1439ﻫ) المصادف للسابع من حزيران (2018م) في النجف الأشرف.

ص: 206

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الاحتجاج: الشيخ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386ﻫ - 1966م/ دار النعمان للطباعة والنشر/ النجف الأشرف.

3 - أحكام القرآن: الجصّاص/ تحقيق: عبد السلام محمّد عليّ شاهين/ الطبعة الأُولىٰ/ 1415ﻫ - 1995م/ دار الكُتُب العلمية/ بيروت.

4 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ تصحيح وتعليق: ميرداماد الأسترابادي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ مطبعة بعثت/ قم.

5 - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/ تحقيق: ضياء الدِّين المحمودي بمساعدة نعمة الله الجليلي ومهدي غلام عليّ/ الطبعة الأُولىٰ/1423ﻫ/ دار الحديث للطباعة والنشر.

6 - إعلام الورىٰ بأعلام الهدىٰ: الشيخ الطبرسي/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ الطبعة الأُولىٰ/ 1417ﻫ/ مطبعة ستارة/ قم.

7 - إقبال الأعمال: السيِّد ابن طاووس/ جواد القيّومي الأصفهاني/ الطبعة الأُولىٰ/ 1414ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.

8 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميَّة/ مؤسَّسة البعثة/ الطبعة الأُولىٰ/ 1417ﻫ.

ص: 207

9 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميَّة/ مؤسَّسة البعثة/ الطبعة الأُولىٰ/ 1414ﻫ/ دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع/ قم.

10 - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين الأُستادولي، عليّ أكبر الغفّاري/ الطبعة الثانية/ 1414ﻫ/ دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت.

11 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

12 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ الطبعة الثانية المصحَّحة/ 1403ﻫ - 1983م/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

13 - تاج العروس: الزبيدي/ تحقيق: عليّ شيري/ 1414ﻫ -1994م/ دار الفكر/ بيروت.

14 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ دراسة وتحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا/ الطبعة الأُولىٰ/ 1417ﻫ - 1997م/ دار الكُتُب العلمية/ بيروت.

15 - التحصين: ابن فهد الحلّي/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ الطبعة الثانية/ 1406ﻫ/ قم.

16 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ الطبعة الثانية/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

17 - تعليقة علىٰ العروة الوثقىٰ: السيِّد عليّ السيستاني.

18 - تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): المنسوب إلىٰ الإمام

ص: 208

العسكري (علیه السلام) / تحقيق: مدرسة الإمام المهدي ¨/ الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1409ﻫ/ مطبعة مهر/ قم.

19 - تفسير العيّاشي: محمّد بن مسعود العيّاشي/ تحقيق: الحاجّ السيِّد هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.

20 - تفسير القمّي: عليّ بن إبراهيم القمّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ الطبعة الثالثة/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة دار الكتاب للطباعة والنشر/ قم.

21 - تفسير مجمع البيان: الشيخ الطبرسي/ تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقِّقين الأخصّائيين/ الطبعة الأُولىٰ/ 1415ﻫ - 1995م/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

22 - تفسير نور الثقلين: الشيخ الحويزي/ تصحيح وتعليق: السيِّد هاشم الرسولي المحلّاتي/ الطبعة الرابعة/ 1412ﻫ/ مؤسَّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع/ قم.

23 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ الطبعة الثالثة/ 1364ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

24 - التوحيد: المفضَّل بن عمر الجعفي/ تعليق: كاظم المظفَّر/ الطبعة الثانية/ 1404ﻫ - 1984م/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

25 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ الطبعة الثانية/ 1368ش/ منشورات الشريف الرضي/ مطبعة أمير/ قم.

ص: 209

26 - جامع أحاديث الشيعة: السيِّد البروجردي/ 1399ﻫ/ المطبعة العلمية/ قم.

27 - الجامع الصغير: جلال الدِّين السيوطي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1401ﻫ - 1981م/ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت.

28 - جواهر التاريخ: الشيخ عليّ الكوراني العاملي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1425ﻫ - 2004م/ مطبعة شريعت/ دار الهدىٰ للطباعة والنشر/ قم.

29 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ﻫ/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية في قم المقدَّسة.

30 - الدُّرُّ المنثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة للطباعة والنشر/ بيروت.

31 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ الطبعة الأُولىٰ/ 1407ﻫ/ مطبعة أمير/ قم.

32 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري (الشيعي)/ تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميَّة/ مؤسَّسة البعثة/ الطبعة الأُولىٰ/ 1413ﻫ/ قم.

33 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

34 - سير أعلام النبلاء: الذهبي/ إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط/ تحقيق: حسين الأسد/ الطبعة التاسعة/1413ﻫ - 1993م/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

ص: 210

35 - السيرة النبوية: ابن هشام الحميري/ تحقيق وضبط وتعليق: محمّد محيي الدِّين عبد الحميد/ 1383ﻫ - 1963م/ مطبعة المدني/ مكتبة محمّد عليّ صبيح وأولاده/ القاهرة.

36 - شرح إحقاق الحقِّ: السيِّد المرعشي/ تعليق: السيِّد شهاب الدين المرعشي النجفي/ تصحيح: السيِّد إبراهيم الميانجي/ منشورات مكتبة آية الله العظمىٰ المرعشي النجفي/ قم.

37 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ الطبعة الأُولىٰ/ 1378ﻫ - 1959م/ دار إحياء الكُتُب العربية.

38 - الصحاح: الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار/ الطبعة الرابعة/ 1407ﻫ - 1987م/ دار العلم للملايين/ بيروت.

39 - الصحيفة السجّادية: الإمام زين العابدين (علیه السلام) / تحقيق: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي الأصفهاني/ الطبعة الأُولىٰ/ 1411ﻫ/ مطبعة نمونه/ مؤسَّسة الإمام المهدي ¨/ قم.

40 - الصراط المستقيم: عليّ بن يونس العاملي/ تصحيح وتعليق: محمّد الباقر البهبودي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1384ﻫ/ مطبعة الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

41 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تصحيح: أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

42 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ﻫ - 1966م/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

ص: 211

43 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تقديم: السيِّد شهاب الدِّين النجفي المرعشي/ تحقيق: الحاجّ آقا مجتبىٰ العراقي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1403ﻫ - 1983م/ مطبعة سيِّد الشهداء/ قم.

44 - عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ 1404ﻫ - 1984م/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

45 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليّ بن محمّد الليثي الواسطي/ تحقيق: الشيخ حسين الحسيني البيرجندي/ الطبعة الأُولىٰ/ دار الحديث.

46 - قرب الإسناد: الحميري القمّي/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ الطبعة الأُولىٰ/ 1413ﻫ/ مطبعة مهر/ قم.

47 - قصص الأنبياء: الراوندي/ تحقيق: الميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني/ الطبعة الأُولىٰ/ 1418ﻫ/ مؤسَّسة الهادي.

48 - الكافي: الشيخ الكليني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ الطبعة الخامسة/ 1363ش/ مطبعة الحيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

49 - الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1386ﻫ - 1966م/ دار صادر للطباعة والنشر.

50 - كتاب التمحيص: محمّد بن همّام الإسكافي/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ قم.

51 - كتاب الزهد: الحسين بن سعيد الكوفي/ تحقيق: ميرزا غلام رضا عرفانيان/ 1399ﻫ/ مطبعة العلمية/ قم.

ص: 212

52 - كتاب المؤمن: الحسين بن سعيد/ مدرسة الإمام المهدي¨/ الطبعة الأُولىٰ/ 1404ﻫ/ قم.

53 - كنز العُمّال: المتَّقي الهندي/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري حيّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا/ 1409ﻫ - 1989م/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت/ لبنان.

54 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمّي/ مكتبة الصدر/ طهران.

55 - مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ﻫ - 1950م/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

56 - مجمع البحرين: الشيخ الطريحي/ تحقيق: السيِّد أحمد الحسيني/ الطبعة الثانية/ 1408ﻫ/ مكتب النشر الثقافة الإسلاميَّة.

57 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني (المحدِّث)/ 1370ﻫ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

58 - مدينة المعاجز: السيِّد هاشم البحراني/ تحقيق: الشيخ عزَّة الله المولائي الهمداني/ الطبعة الأُولىٰ/ 1413ﻫ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

59 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1408ﻫ - 1987م/ بيروت.

60 - مستدرك سفينة البحار: الشيخ عليّ النمازي الشاهرودي/ تحقيق وتصحيح: الشيخ حسن بن عليّ النمازي/ 1418ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

ص: 213

61 - مسكن الفؤاد: الشهيد الثاني/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ الطبعة الأُولىٰ/ 1407ﻫ/ مطبعة مهر/ قم.

62 - مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ تحقيق: مهدي هوشمند/ الطبعة الأُولىٰ/ 1418ﻫ/ دار الحديث.

63 - مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق (علیه السلام) / الطبعة الأُولىٰ/ 1400ﻫ - 1980م/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

64 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1411ﻫ - 1991 م/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

65 - المصنَّف: ابن أبي شيبة الكوفي/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحّام/ الطبعة الأُولىٰ/ 1409ﻫ - 1989م/ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت.

66 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

67 - معجم المحاسن والمساوئ: أبو طالب التجليل التبريزي/ الطبعة الأُولىٰ/ 1417ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

68 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ الطبعة السادسة/ 1392ﻫ - 1972م/ منشورات الشريف الرضي.

69 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري/ الطبعة الثانية/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

ص: 214

70 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف/ 1376ﻫ - 1956م/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

71 - منهاج الصالحين: السيِّد عليّ السيستاني/ طبعة مصحَّحة ومنقَّحة/ 1439ﻫ.

72 - منية المريد: الشهيد الثاني/ تحقيق: رضا المختاري/ الطبعة الأُولىٰ/ 1409ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.

73 - موقع مكتب السيِّد السيستاني: (www.sistani.org).

74 - ميزان الحكمة: محمّد الريشهري/ الطبعة الأُولىٰ/ دار الحديث.

75 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح: الشيخ محمّد عبده/ الطبعة الأُولىٰ/ 1412ﻫ/ مطبعة النهضة/ دار الذخائر/ قم.

76 - النوادر: فضل الله الراوندي/ تحقيق: سعيد رضا عليّ عسكري/ الطبعة الأُولىٰ/ مؤسَّسة دار الحديث الثقافية/ قم.

77 - واجه عوامل السقوط/ من سلسلة تعلَّم كيف تنجح (5): هادي المدرِّسي/ الدار العربية للعلوم/ مؤسَّسة أحمد للمطبوعات/ ط الثانية/ 2007م.

* * *

ص: 215

ص: 216

الفهرس

مقدّمة المعهد3

مقدّمة المؤلِّف7

الإهداء13

تمهيد15

1 - الاعتماد على مسبِّب الأسباب17

2 - الوحدة النوعية للبشر20

3 - الاختلافات الواقعية بين البشر22

4 - كيفية توظيف الاختلافات بين البشر23

5 - التفاضل مبدأ واقعي25

الملاحظة الأولى: التفاضل التكويني والتشريعي28

الملاحظة الثانية29

الملاحظة الثالثة30

الفصل الأوَّل: التفاضل بالعلم33

النقطة الأُولىٰ35

النقطة الثانية37

حدود طلب العلم40

الحدُّ الأوَّل: معرفة فضل العلم40

الحدُّ الثاني: تعلَّمْ أوَّلاً ما يهمُّك41

ص: 217

الحدُّ الثالث: المثابرة علىٰ التعلُّم41

الحدُّ الرابع: ارجع إلىٰ مصادر العلم42

الحدُّ الخامس: استعن بغيرك42

الحدُّ السادس: اعمل بعلمك44

الحدُّ السابع: اطلب التوفيق من الله تعالىٰ44

الحدُّ الثامن: إنَّ العلم وسيلة لا هدف45

أوَّلاً: العمل بمقتضىٰ العلم47

ثانياً: نشره47

ثالثاً: إحاطته بالتقوىٰ47

رابعاً: تحمُّل مسؤوليته47

خامساً: طلبه من الله تعالىٰ48

الفصل الثاني: التفاضل بالتقوىٰ51

محورية التقوىٰ في طريق التكامل53

طُرُق مختصرة إلىٰ التقوىٰ59

الطريق الأوَّل: الوقاية خير من العلاج59

الطريق الثاني: عجِّل بالتوبة60

الطريق الثالث: لا تضع نفسك في مأزق62

1 - اهرب من الفتوىٰ63

2 - ابتعد عن الشبهات63

3 - لا تمشَ خلف امرأة وتنظر لمحاسنها64

4 - لا تنفرد بامرأة64

5 - لا تنظر إلىٰ امرأة نظرة محرَّمة64

ص: 218

6 - لا تهتك ستر مؤمن65

الطريق الرابع: لا تكذب65

الطريق الخامس: لا تغضب67

الطريق السادس: تواضَعْ68

الطريق السابع: أخلِص العمل69

الطريق الثامن: أحبس جوارحك73

الطريق التاسع: أنصِف المسلمين من نفسك75

الطريق العاشر: لا تُسرِف77

الطريق الحادي عشر: لا تستمع الغناء79

الطريق الثاني عشر: اقضِ حوائج المؤمنين80

الطريق الثالث عشر: اصبر81

الطريق الرابع عشر: اقرأ عن المتَّقين83

الفصل الثالث: التفاضل بالإيمان87

كيف نُحصِّل الإيمان؟90

الركن الأوَّل: الإقرار باللسان90

الركن الثاني: التصديق بالجنان91

الركن الثالث: العمل بالأركان93

تمثيل مادّي لعلاقة الإيمان بالعمل الصالح94

بيان حقيقة المؤمن95

النموذج الأوَّل95

النموذج الثاني98

مسالك الإيمان98

ص: 219

المسلك الأوَّل: لا تكذب99

المسلك الثاني: ثق بالله تعالىٰ99

المسلك الثالث: ارضَ بقضاء الله99

المسلك الرابع: أحبَّ وأبغضْ لله100

المسلك الخامس: نَوِّرْ قلبك100

المسلك السادس: أخلص الإيمان101

المسلك السابع: أحفظ أدنىٰ الإيمان101

المسلك الثامن: اهرب عن أدنىٰ الكفر101

الفصل الرابع: التفاضل بالعمل الصالح103

السباق في مضمار السعادة105

معانٍ ملكوتية107

أوَّلاً: انفِقْ108

ثانياً: اكظِمْ غيظك111

ثالثاً: أعفُ مهما استطعت112

رابعاً: كُنْ محسناً115

خامساً: لا تصرَّ علىٰ ذنب117

مسالك سريعة نحو الجنَّة119

المسلك الأوَّل: لا تترك نيَّة الخير120

المسلك الثاني: لا تترك البسملة121

المسلك الثالث: لا تترك الصلاة علىٰ النبيِّ وآله124

المسلك الرابع: لا تترك الوضوء127

المسلك الخامس: صافح المؤمن129

ص: 220

المسلك السادس: سلِّم علىٰ كلِّ من لقيت130

المسلك السابع: داوم علىٰ العمل وإنْ قلَّ132

المسلك الثامن: اجلِبْ هدية لأهل بيتك136

المسلك التاسع: لا تبخل بالنصيحة138

المسلك العاشر: احتفظ بابتسامة علىٰ وجهك140

المسلك الحادي عشر: حسِّن خُلُقك142

المسلك الثاني عشر: التزم الأجواء الإيمانية144

المسلك الثالث عشر: لا تنسَ الراحلين عن الدنيا147

أوَّلاً: صلِّ صلاة الوحشة148

ثانياً: صلِّ للميِّت ركعتين149

ثالثاً: اقرأ علىٰ قبره سورة تبارك149

رابعاً: اقرأ علىٰ قبره سورة القدر سبع مرّات150

خامساً: زُر القبر151

سادساً: سلِّم علىٰ أهل القبور152

سابعاً: احفظ الميِّت في ولده152

ثامناً: لا تذكر من الميِّت إلَّا محاسنه153

تاسعاً: الإسراع في تجهيز الميِّت154

المسلك الرابع عشر: تواصَلْ مع المؤمنين154

الفصل الخامس: التفاضل بالجهاد157

النقطة الأُولىٰ: جهاد العدوِّ في ساحة المعركة (الجهاد الأصغر)161

النقطة الأُولىٰ163

النقطة الثانية163

ص: 221

النقطة الثالثة164

النقطة الرابعة165

النقطة الثانية: جهاد النفس (الجهاد الأكبر)167

المستوىٰ الأوَّل: ميدان جهاد النفس169

أوَّلاً: العين169

ثانياً: اللسان172

ثالثاً: الأُذُن174

رابعاً: اليد176

خامساً: الرِّجْل180

سادساً: الفَرْج184

سابعاً: البطن187

المستوىٰ الثاني: طُرُق مختصرة لجهاد النفس190

الطريق الأوَّل: اتَّخذ قرارك بعزم حالما تستيقظ193

الطريق الثاني: ابحث عن معلِّم194

الطريق الثالث: داوم التوبة بإخلاص196

الطريق الرابع: المحاسبة والنقد الذاتي197

الطريق الخامس: ابتعد عن أصدقاء السوء199

الطريق السادس: نظِّم وقتك واستعن ببرنامج عبادي منظَّم201

وفي الختام205

المصادر والمراجع207

الفهرس217

* * *

ص: 222

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.