قِطاف شهر رمضان

هوية الکتاب

قِطاف شهر رمضان

(سهلٌ.. ممتنع - ربيع القرآن - قبسات من الصحيفة السجّادية)

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1438ﻫ

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

قِطاف شهر رمضان

سهلٌ ممتنع

ربيع القرآن

قبسات من الصحيفة السجّادية

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدِّمة المعهد

لقد حثَّت النصوص من القرآن الكريم والروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) علىٰ طلب العلم وتحصيله، ومن جملة تلك النصوص قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9﴾ (الزمر: 9).

وفي هذه الآية استفهام استنكاري، استنكاراً للمساواة بين العالم وغير العالم.

وروي في كتاب المحاسن عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اغْدُ عالماً أو متعلِّماً، وإيّاك أن تكون لاهياً متلذِّذاً»(1).

وفي حديث آخر: «وإيّاك أن تكون من الثلاثة متلذِّذاً»(2).

وكلُّنا يعرف صعوبة طلب العلم بكلِّ أصنافه في الأزمنة الماضية وما يتطلَّبه من جهد ومال وتعب، لكن بالعلم ذاته أصبح طلب العلم متيسِّراً لكلِّ إنسان وإن كان حبيساً في بيته، لأيِّ علَّة أو سبب.

إنَّ معهد تراث الأنبياء في النجف الأشرف هو من المشاريع الرائدة في هذا المجال، والتي صيَّرت الدراسة الحوزوية التمهيدية في متناول أيدي جميع الناس بمختلف شرائحهم، لكي يرتقوا بعد ذلك في سُلَّم العلم، وليأخذوا حظّاً وافراً

ص: 3


1- المحاسن للبرقي 1: 227/ ح 154.
2- المصدر السابق.

من العلوم التي تُصيِّرهم بعد ذلك أهلاً للانخراط في الحوزات العلمية، أو أن يبقوا في مجتمعاتهم كشريحة مثقَّفة متديِّنة متفقِّهة، تعرف أُصول دينها وفروعه، كي يُورِّثوها لأجيالهم جيلاً بعد جيل، وليحسنوا تربيتهم وتقويمهم.

ومن الجدير بالذكر أنَّ المعهد أُنشئ قبل حوالي عام واحد فقط، وقد تجاوز عدد الطلبة المسجِّلين فيه (1750) طالباً وطالبةً من مختلف دول العالم من الصين وأمريكا وأُوروبا وبلاد المغرب العربي وغيرها.

فالمعهد أُوجِد من أجل تسهيل مهمَّة طلب العلم، لمن لا يستطيع الوصول إلىٰ منهله ومرتعه: النجف الأشرف، ولا يعني هذا الاستغناء به تماماً، بل المعهد وما يبثُّه من دروس ومحاضرات إنَّما يُمثِّل الخطوة الأُولىٰ في مجال طلب العلم، وعلىٰ من أراد الاستمرار أن يسعىٰ لأكثر من هذا.

إنَّ من أولويات المعهد - بالإضافة إلىٰ الدراسات الحوزوية الإلكترونية - هو نشر وطباعة البحوث والمؤلَّفات العلمية لطلبة وأساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، لما في ذلك من خدمة عظيمة نُقدِّمها لطالبي المعرفة في كلِّ مكان، و دعم لمسيرة الكُتّاب، وتنمية لجوانب المعرفة.

ومن هذا المنطلق فقد تمَّت طباعة كتاب (كيف تُقبِل القلوب ولماذا تُدبِر؟)، من تأليف سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، وكان الكتاب الثاني أيضاً من تأليفه، وهو الكتاب الذي بين يديك، كتاب (قِطاف شهر رمضان) حيث كتبه في شهر رمضان المبارك من عام (1438) للهجرة، وقد عالج فيه ثلاثة مواضيع رئيسية، تنفع في مختلف مجالات حياة المؤمن، وكان لكلِّ موضوع منها ثلاثون مقالة قصيرة.

راجين من المولىٰ عزَّ اسمه القبول، والأخذ بعين الرضا.

معهد تراث الأنبياء

للدراسات الحوزوية الإلكترونية

ص: 4

الإهداء

إلىٰ يعسوب الدين، ومولىٰ المؤمنين..

إلىٰ من يحلو ذكره في شهر الطاعة والغفران، بل في كل زمان..

إلىٰ من لا يخلو ذكرٌ طيِّب من نسيم فضائله..

إلىٰ من وُلِدَ في بيت الله، واستشهد في بيت الله..

إلىٰ من كان من اليقين ما لا يزداد فيه ولو انكشفت له الحُجُب..

إلىٰ صاحب ختم جواز المرور إلىٰ الجنَّة..

إليك يا مولاي يا أمير المؤمنين..

هذه بضاعة مزجاة... من عبدك الرقِّ..

* * *

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف

الحمد لله والحمد حقُّه كما يستحقُّه حمداً كثيراً غير منقطع، والصلاة والسلام علىٰ أشرف الأنام في عالم الإمكان، سيِّدنا الأعظم محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

أمَّا بعد..

في هذه الحياة، يسير الإنسان رغماً عنه إلىٰ قبره، فهو في كلِّ نَفَسٍ يقترب خطوة إلىٰ نهايته فيها، وإلىٰ بداية عالم جديد، له أحكام وقوانين تختلف عن أحكام وقوانين هذه الحياة الدنيا.

يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن المجتبىٰ (علیه السلام): «رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ. وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَإِنَّه يُسَارُ بِه وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ المَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً»(1).

إزاء هذه الحقيقة الواقعية، ما الذي ينبغي للمرء فعله؟

ماذا يلزمني أنا، ويلزمك أنت أن نفعله حتَّىٰ لا نعيش الإحساس بالغبن عندما نخسر ساعات عمرنا دقيقة بعد دقيقة؟

كيف لنا أن نكون ممَّن وظَّفوا حياتهم لخدمة آخرتهم ولتمهيد قبورهم بفراش ملائم لرقدة يطول أمدها حتَّىٰ اليوم الآخر؟

ص: 7


1- نهج البلاغة: 401/ ح 31.

لا شكَّ أنَّ (استغلال الوقت) بعد (تقسيمه) و(عمل جدول منظَّم) يؤدّي إلىٰ الإحساس بنشوة (الانتصار) علىٰ (الخسارة التكوينية) لعمر الفرد.

أنا أخسر دقائق عمري كلَّ لحظة، تكويناً ورغماً عنّي، فلماذا لا أجعل تلك الدقائق نفسها مصدر ربحي وتجارتي!؟

وهذا ما أرادته منّا الروايات الشريفة التي دعت إلىٰ أن يستمرَّ كلُّ واحد منّا بملئ ساعات ودقائق حياته واستغلالها بما يؤدّي إلىٰ تقدُّم الفرد وتطوّره وحصوله علىٰ الجديد.

روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «أيُّها الناس، إنَّ الرزق مقسوم، لن يعدو امرؤٌ ما قُسِمَ له، فأجملوا في الطلب. وإنَّ العمر محدود، لن يتجاوز أحدٌ ما قُدِّر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل...»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: «إنَّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما»(2).

وقد وهبت الشريعة المقدَّسة للمؤمن فترات زمنية متعدِّدة، هي أشبه شيء بوقت الاستراحة من العمل المجهد، ليعمل المؤمن فيها علىٰ تطوير مهاراته، وعلىٰ تصحيح أخطائه بعد مراجعتها، وعلىٰ زيادة معارفه.

وكان (شهر رمضان) أهمّ تلك المحطّات، حيث الشياطين مغلولة، وحيث ينعكس جوع البطن علىٰ الروح لتشرق بهالة نورانية لا يحسُّ بها إلَّا الصائمون، وسيجنون ثمرتها ريحاً في الجنَّة هي أطيب وأرقّ من ريح الصبا.

ص: 8


1- أعلام الدين للديلمي: 336.
2- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 144.

قبيل شهر رمضان من عام (1438) للهجرة، جاءت الفكرة بكتابة (مقالات قصيرة) متنوِّعة، تعالج مجالات مختلفة في الحياة، فكانت تلك المقالات ضمن (قِطاف شهر رمضان) علىٰ ثلاثة أقسام، هي التالي:

القسم الأوَّل: سهلٌ.. ممتنعٌ:

وهي ثلاثون مقالة تعالج مفاهيم تربوية واجتماعية وحياتية مختلفة وضرورية جدًّا من أجل حياة مستقرَّة ودافئة وجميلة، لكن الذي حصل أنَّ كثيراً من الناس تناسوها، وتغافلوا عنها، فصاروا يعملون بضدِّها، رغم تنظيرهم لضرورتها وصدحهم بأنَّها من أساسيات الحياة.

فكانت تلك المقالات كنواقيس رنّانة، تُذكِّر الناس بما تناسوه، بأُسلوب هو أقرب إلىٰ (النقد البنّاء) منه إلىٰ (التهكُّم).

القسم الثاني: ربيع القرآن:

وهي ثلاثون مقالة أيضاً، تشرح كلُّ واحدة منها جنبة متعلِّقة بالقرآن الكريم في مفاهيمه المختلفة.

إنَّ شهر رمضان المبارك هو ربيع القرآن، فكان مناسباً جدًّا أن نتعرَّف علىٰ بعض المفاهيم المتعلِّقة بهذا الكتاب الإلهي في هذا الشهر الفضيل.

وهذه المقالات لا تُمثِّل الغاية في تلك المفاهيم، وإنَّما هي أشبه بالقدحة الأُولىٰ لإضاءة أعظم، فهي تُمثِّل المفتاح، وبعد المفتاح يحتاج الفرد إلىٰ عمل وجهد ووقت لتنفتح له خزائن المعارف القرآنية.

القسم الثالث: قبساتٌ من الصحيفة السجادية:

الصحيفة السجّادية هي مجموعة الأدعية المشهورة للإمام زين العابدين (علیه السلام)، وكان هذا القسم معنيًّا بتسليط الضوء علىٰ بعض ما

ص: 9

حوته تلك الأدعية من معارف مختلفة تتعلَّق بمجالات الحياة المتعدِّدة، فكانت هنا أيضاً ثلاثون مقالة قصيرة، سينكشف للقارئ بعد الاطِّلاع عليها أنَّ عليه أن لا يقرأ أدعية الصحيفة السجّادية المباركة تعبّداً ورغبةً في تحصيل الثواب فقط، وإنَّما عليه أن يقرأها أيضاً بتأمُّل وتدبُّر، ليحصل منها علىٰ معارف حياتية مختلفة، تعالج الكثير من جوانبها الروحية والاجتماعية وغيرها.

وقد خُتِمَت هذه المقالات التسعون بمقالة أخيرة تتعلَّق بيوم العيد، وبيان معناه وما ينبغي فيه وما لا ينبغي، سواء علىٰ المستوىٰ الفردي أو الاجتماعي أو الديني.

وقد تمَّ تسجيل هذه المقالات الإحدىٰ والتسعين، وقد تمَّ بثُّ القسم الأوَّل منها (سهلٌ.. ممتنعٌ) عبر قناة (تربية.. بلون جديد) من خلال الرابط: (https://t.me/newcoloreducation).

والقسم الثاني (ربيع القرآن) عبر قناة (لبَّيك يا مهدي) من خلال الرابط: (https://t.me/labaikyamahdi).

والقسم الثالث (قبساتٌ من الصحيفة السجادية) عبر قناة (شرح عقائد الإماميَّة) من خلال الرابط: (https://t.me/aqaedalemamia).

وكذلك فقد تمَّ بثُّها عبر قنوات مركز القمر للإعلام الرقمي التابع للعتبة العبّاسية المقدَّسة، في مركز التسوق الإلكتروني التابع له عبر برنامج (telegram) وعبر قناته علىٰ (youtube)، بتوجيه من الأخ العزيز سماحة الشيخ حسين الترابي مدير المركز، الذي كان صاحب الفكرة في كتابة مقالات قصيرة خلال الشهر الفضيل، وقد ارتأىٰ فيما بعد أن تُطبَع هذه المقالات في كتاب مستقلٍّ لتعمَّ الفائدة.

ص: 10

فالله (عزوجلّ) أسأل أن يتقبَّل منّا ومنه بقبوله الحسن، وأن يجعله ذخراً لنا في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلَّا من أتىٰ الله بقلب سليم.

الإخوة والأخوات..

إنَّ باب (إدلاء الملاحظات) و(النقد البنّاء) مفتوح لحضراتكم من خلال التواصل عبر معرِّف برنامج (telegram) التالي: (Husseinalasadi@).

وأخيراً، أدعو إخوتي وأخواتي في الله تعالى، أن يعملوا قدر الإمكان علىٰ بذل جهودهم من أجل استغلال دقائق الحياة، عسىٰ الله تعالىٰ أن يتقبَّل واحدة من كلماتهم، أو عملاً من أعمالهم، يُخلِّدهم به، فإنَّ:

دقّات قلب المرء قائلة له *** إنَّ الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثاني

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

الخميس (18/شوال/1438ﻫ)

(13/تموز/2017م)

ص: 11

ص: 12

القسم الأوَّل: سهلٌ.. ممتنعٌ

اشارة

ص: 13

ص: 14

1- اختيار مناسب

كيف تكون الأُمُّ يكون الولد، فهي المربّية الحقيقية للولد، لأنَّ الأب يقضي أغلب نهاره خارج البيت في ترتيب أُمور المعيشة، ومواصلة العلاقات الاجتماعية، والجلوس مع الأصدقاء، وقد يقضي أيّاماً عديدة وهو لا يرىٰ أولاده.

أمَّا الأُمُّ، فهي المدرسة الأُولىٰ للأطفال، وجليستهم، ومربّيتهم، فكيف تكون سيكون أولادك. لذلك لزم علىٰ الأب في أوَّل حقٍّ من حقوق أولاده أن يختار لهم الأُمَّ العفيفة العاقلة المؤدَّبة.

وهو ما نصَّت عليه الروايات الشريفة، عن السكوني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «اختاروا لنطفكم، فإنَّ الخال أحد الضجيعين»(1).

وقال: «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) خطيباً، فقال: أيُّها الناس، إيّاكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»(2).

وعن سعد بن عمر الجلّاب، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «إنَّ

ص: 15


1- الكافي للكليني 5: 332/ باب اختيار الزوجة/ ح 2.
2- الكافي للكليني 5: 332/ باب اختيار الزوجة/ ح 4.

الله تعالىٰ خلق الجنَّة طاهرة مطهَّرة، فلا يدخلها إلَّا من طابت ولادته»، وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «طوبىٰ لمن كانت أُمُّه عفيفة»(1).

فعلىٰ كلِّ شابٍّ أن يكون واعياً لهذه الحقيقة، وليضع في فكره أنَّ اختياره لفتاة لا بدَّ أن يكون وفق حسابات دقيقة من حيث الدين والأخلاق والأدب والمستوىٰ الثقافي المتناسب مع مستواه الثقافي والفكري، حتَّىٰ يتمكَّن من التواصل معها، وبالتالي يتمكَّن معها من بناء أُسرة نموذجية وأولاد يشقّون أمواج الحياة بثبات.

وعلىٰ المرأة أن لا تنسىٰ، أنَّ عليها أيضاً أن تختار الرجل المناسب ليكون أباً لها ولأولادها!

2- العفاف

هناك صفات تختصُّ بالرجال، وهناك صفات تختصُّ بالنساء، وهناك صفات مشتركة بينهما. فهناك صفات تكون لائقة بالرجل، وإذا اتَّصفت بها المرأة تكون غير لائقة بها، وهناك صفات بعكس ذلك، قال أمير البلاغة والبيان (علیه السلام): «خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ: الزَّهْوُ والْجُبْنُ والْبُخْلُ، فَإِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَمَالَ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِضُ لَهَا»(2).

وهناك صفات تكون لائقة بالاثنين معاً، وسيحكي عدم

ص: 16


1- علل الشرائع للصدوق 2: 564/ باب 363/ ح 1.
2- نهج البلاغة: 509 و510/ ح 234.

الاتِّصاف بها من الاثنين معاً عن نقص أخلاقي، وما أكثر هذه الصفات، كالصدق والبرِّ بالوالدين وأداء الحقوق وغيرها.

ففي أيَّة خانة نضع صفة (العفَّة) و(العفاف)؟

يعتقد كثير من سواد الناس أنَّها صفة خاصَّة بالنساء، فالنساء هنَّ من يجب أن يكنَّ عفيفات، وربَّما ينكرون هذا الادِّعاء بألسنتهم، ولكن السلوك العملي شاهد صدق علىٰ اعتقادهم ذاك، وهذا له شواهد كثيرة، ربَّما يكون ذكر بعضها مؤلماً للقلب.

لو أنَّ امرأة ضحكت بصوت عالٍ وبقهقهة ملفتة للنظر في سوق عامٍّ، سينتقدها الكثير من الناس، وسيعتبرونها قد تعدَّت وتجاوزت حدود العفَّة، ولا يرون ذلك أبداً من الرجل.

انظر لو أنَّ امرأة خرجت من دون حجاب وقد برز بعض شعرها، سيعتبرها المجتمع المسلم مخترقة لحجاب العفَّة، بينما لو خرج رجل بملابس قصيرة بحيث يظهر أكثر ظهره لو انحنىٰ قليلاً، وبحيث تظهر سيقانه إلىٰ الركب، وبحيث يظهر القسم الأكبر من صدره... إنَّه لا بأس بكلِّ ذلك، لأنَّه رجل.

والشواهد من هذا القبيل كثيرة.

ولكن الحقيقة في الإسلام غير ذلك.

إنَّ العفاف صفة مشتركة بين الرجال والنساء، فكما هو مطلوب من النساء أن يكنَّ عفيفات، كذلك مطلوب من الرجال أن يكونوا عفيفين.

ولذلك لم يُفرِّق القرآن بينهما من هذه الناحية، نعم، لا ننكر أنَّ متطلِّبات العفَّة في المرأة أشدّ منها في الرجل، ولكن بالتالي فإن العفاف مطلوب من الاثنين بالحدود التي رسمها الشارع المقدَّس.

ص: 17

قال تعالىٰ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ 30 وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: 30 و31).

والخلاصة:

إنَّ العفاف يعني الشرف، والشرف مطلوب من الاثنين معاً.

3- ترك الغناء

كلُّ شيء يمارسه الفرد له حسابه الخاصّ، حتَّىٰ إنَّ الكتاب الذي سيؤلِّفه الفرد في حياته ليقرأه في آخرته لن يغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها، فليس هناك ما يُسمّىٰ (كلمةٌ تمرُّ ولا تضرُّ)، ولا (إنَّما هو كلام أسمعه)، فإنَّ كلَّ ذلك داخل تحت العمل.

وليس هناك من جارحة عند الإنسان إلَّا ولها طاعة ولها معصية، وعلىٰ كلِّ جارحة منها مَلَك يكتب عليها ما تمارسه من أدوار في الحياة، وفوق ذلك كلِّه هناك كتاب يستنسخ الأعمال ويحفظها بأمانة ليرجع يعرضها في يوم تقوم فيه الأشهاد. وتبقىٰ المراقبة الأُولىٰ والأخيرة للحاكم الشاهد، الذي منَّ علىٰ الفرد بتلك الجوارح ليعيش بها حياته ويمارس بها أدواره ولتساعده للنجاح والفلاح.

ومشروع المؤمن في هذه الحياة أن يجعل من كلِّ جوارحه عاملة بالطاعة مجانبة للمعصية.

فلا يخدعنَّ أحد نفسه، ولا يسمح لنفسه أن تخدعه، ليُبرِّر سماعه لكلام لهوي عبثي، بحجَّة واهية ما أنزل الله بها من سلطان.

ص: 18

عن مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت وأُمّي، إنَّني أدخل كنيفاً لي، ولي جيران عندهم جوار يتغنين ويضربن بالعود، فربَّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنَّ، فقال: «لا تفعل»، فقال الرجل: والله ما آتيهنَّ إنَّما هو سماع أسمعه بأُذُني، فقال: «لله أنت، أمَا سمعت الله (عزوجلّ) يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ [الإسراء: 36]؟»، فقال: بلىٰ، والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من أعجمي ولا عربي، لا جرم أنَّني لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله، فقال له: «قم فاغتسل وسَلْ ما بدا لك، فإنَّك كنت مقيماً علىٰ أمر عظيم، ما كان أسوء حالك لو متَّ علىٰ ذلك، احمد الله وسَلْه التوبة من كلِّ ما يكره، فإنَّه لا يكره إلَّا كلَّ قبيح، والقبيح دعه لأهله، فإنَّ لكلٍّ أهلاً»(1).

4- قوِّ نفسك

أمام النفس المطمئنَّة والإلهيَّة تحدّيات كبيرة وكثيرة، وعليك أن تساعدها في مواجهة تلك التحدّيات حتَّىٰ الانتصار، إنَّ النفس أشبه ببطارية شحن، كلَّما استعملتها أكثر كلَّما احتاجت إلىٰ شحن أكثر، إنَّ النفس بحاجة ماسَّة إلىٰ شحن مستمرٍّ، هذا الشحن الذي يُقوّيها أمام التحدّيات المنتظرة.

وهناك أُمور كثيرة تقوّي نفسك بها، نذكر لك منها:

ص: 19


1- الكافي للكليني 6: 432/ باب الغناء/ ح 10.

1 - الدعاء: فإنَّه «ترس المؤمن»(1)، و«شفاء من كلِّ داء»(2)، وهو سلاح الأنبياء(3).

2 - الإعطاء: فإنَّ «قوت الأجساد الطعام، وقوت الأرواح الإطعام»، كما يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام) (4).

3 - ألقها في الصعاب وراقبها، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيه، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيه أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْه»(5).

4 - ضع نفسك في مكانها المناسب، ولا تنزل بها إلىٰ أقلّ من قدرها.

عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته له: «يا عليُّ، ثمانية إن أُهينوا فلا يلوموا إلَّا أنفسهم: الذاهب إلىٰ مائدة لم يدع إليها، والمتأمِّر علىٰ ربِّ البيت، وطالب الخير من أعدائه، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في سرٍّ لهم لم يُدخِلاه فيه، والمستخفُّ بالسلطان، والجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بالحديث علىٰ من لا يسمع منه»(6).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ»(7).

5 - الصلاة: عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول:

ص: 20


1- الكافي للكليني 2: 468/ باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ ح 4.
2- الكافي للكليني 2: 470/ باب أنَّ الدعاء شفاء من كلِّ داء/ ح 1.
3- راجع: الكافي للكليني 2: 468/ باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ ح 5.
4- مشكاة الأنوار للطبرسي: 561/ ح 1894.
5- نهج البلاغة: 501/ ح 175.
6- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 355/ ح 5762.
7- نهج البلاغة: 500/ ح 159.

«لو كان علىٰ باب أحدكم نهر فاغتسل منه كلِّ يوم خمس مرّات، هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟ إنَّما مثل الصلاة مثل النهر الذي يُنقي الدَّرَن، كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارةً لذنوبه إلَّا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه»(1).

6 - أبعدها عمَّا يُضعِفها: يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربع يمتن القلب: الذنب علىٰ الذنب، وكثرة مناقشة النساء - يعني محادثتهنَّ -، ومماراة الأحمق، تقول ويقول ولا يرجع إلىٰ خير[أبداً]، ومجالسة الموتىٰ»، فقيل له: يا رسول الله، وما الموتىٰ؟ قال: «كلُّ غنيٍّ مترفٍ»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله) - في مواعظه لأبي ذر -: «إيّاك وكثرة الضحك، فإنَّه يميت القلب»(3).

وقال الإمام عليٌّ (علیه السلام): «مَنْ قَلَّ وَرَعُه مَاتَ قَلْبُه، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُه دَخَلَ النَّارَ»(4).

7 - أكثِر من ذكر الله تعالىٰ، فإنَّ «مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح»، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (5).

8 - اقرأ الكتب الأخلاقية، واحضر مجالس الوعظ والإرشاد، وزُرْ القبور من الفينة والأُخرىٰ.

ولا تنسَ حضورك اليومي إلىٰ المسجد، فلا تبتعد عن الأجواء الإيمانية أبداً...

ص: 21


1- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين: 237 و238/ ح (284/80).
2- الخصال للصدوق: 228/ ح 65.
3- الخصال للصدوق: 526/ ح 13.
4- نهج البلاغة: 536/ ح 349.
5- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 487.

5- وليمة

من المؤكَّد أنَّ إطعام الطعام يُمثِّل سعادة للروح، ويدخل تحت استحباب الهدية للمؤمن وإطعامه.

يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام): «لذة الكرام في الإطعام، ولذَّة اللئام في الطعام»(1).

وفي قضيَّة الإطعام لا بدَّ أن نلتفت إلىٰ:

أوَّلاً: أنَّ الشريعة قد شرَّعت عدَّة أنواع للإطعام في مناسبات خاصَّة، وكأنَّها جعلت من هذه المناسبات أوقات رسمية لإقامة الولائم، وهي وإن لم تكن واجبة ولكنَّها من المستحبّات التي تجرُّ محبَّة الناس بلا شكٍّ، فعن عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام)، عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال في وصيَّته له: «يا عليُّ، لا وليمة إلَّا في خمس: في عرس، أو خرس، أو عذار، أو وكار، أو ركاز. والعرس التزويج، والخرس النفاس بالولد، والعذار الختان، والوكار في شراء الدار، والركاز الذي يقدم من مكّة»(2).

ثانياً: هناك مفردات للإطعام - غير ما ذُكِرَ في الرواية المتقدِّمة - ينبغي أن يداوم عليها الإنسان ما أمكنه إلىٰ ذلك سبيلاً، خصوصاً وإنَّ بعضه تُعَدُّ من الواجبات العرفية، مثل:

إطعام الضيف وإكرامه، وكدعوة الإخوة المؤمنين(3)، وكإطعام

ص: 22


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 420.
2- الخصال للصدوق: 313/ ح 92.
3- عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات: الفردوس، وجنَّة عدن، وطوبىٰ [و] شجرة تخرج من جنَّة عدن، غرسها ربُّنا بيده». (الكافي للكليني 2: 200 و201/ باب إطعام المؤمنين/ ح 3).

الصائم في إفطار شهر رمضان(1)، وكإطعام اليتيم(2)، وإطعام الجائع(3).

فعن ابن القدّاح، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من أطعم مسلماً حتَّىٰ يُشبِعه لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة، لا ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل إلَّا الله ربُّ العالمين...»، ثمّ تلا قول الله تعالىٰ: ﴿أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14﴾ [البلد: 14](4).

وعن حسين بن نعيم الصحّاف، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أتُحِبُّ إخوانك يا حسين؟»، قلت: نعم، قال: «تنفع فقراءهم؟»، قلت: نعم، قال: «أمَا إنَّه يحقُّ عليك أن تُحِبَّ من يُحِبُّ الله، أمَا والله لا تنفع منهم أحداً حتَّىٰ تُحِبَّه، أتدعوهم إلىٰ منزلك؟»، قلت: نعم، ما آكل إلَّا ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلّ والأكثر، فقال أبو عبد الله: «أمَا إنَّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم»، فقلت: جُعلت فداك،

ص: 23


1- عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من فطَّر صائماً فله مثل أجره». (الكافي للكليني 4: 68/ باب من فطَّر صائماً/ ح 1).
2- عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قبض يتيماً من بين مسلمين فأدخله إلىٰ طعامه وشرابه، أدخله الله الجنَّة البتَّة، إلَّا أن يعمل ذنباً لا يُغفَر له». (عوالي اللئالي للأحسائي 1: 190/ ح 274). وقال (صلی الله علیه و آله) - لرجل يشكو قسوة قلبه -: «أتُحِبُّ [أن] يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك. (مجمع الزوائد للهيثمي 8: 160).
3- عن أبي حمزة، عن عليِّ بن الحسين (علیهما السلام)، قال: «من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنَّة، ومن سقىٰ مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم». (الكافي للكليني 2: 201/ باب إطعام المؤمنين/ ح 5).
4- المحاسن للبرقي 2: 389/ ح 17.

أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليَّ أعظم!؟ قال: «نعم، إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك»(1).

ثالثاً: ومن هذا يتبيَّن أنَّه ليس من السُّنَّة أن يأكل أحدنا في (الفاتحة)، بل علىٰ العكس، السُّنَّة أن يصنع الجيران والأقرباء الطعام لأصحاب المصيبة ويبعثوه إليهم، فقد روي أنَّه لمَّا جاء نعي جعفر بن أبي طالب قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأهله: «اصنعوا طعاماً واحملوه إليهم ما كانوا في شغلهم ذلك، وكلوه معهم، فقد أتاهم ما يُشغِلهم عن أن يصنعوا لأنفسهم»(2).

علماً أنَّ الإطعام في الفواتح إذا كان من أموال الورثة القاصرين أو البالغين من دون رضاهم لا يجوز، وعلىٰ من يريد أن يُطعِم الناس في الفاتحة أن يفتح كيسه وينفق منه، لا أنَّه يظهر بمظهر السخي من مال غيره علىٰ مبدأ (وهب الأمير ما لا يملك)!

6- العناد

اشارة

من طبيعة البشرية أنَّها طبيعة معاندة، لا ترعوي عن خطئها بسهولة، ولا تعترف بما يخالف رأيها وإن كان علىٰ حقٍّ إلَّا بعد اللتيا والتي.

وهذا ما أفرز ثنائية مستمرَّة علىٰ خطِّ تاريخ الوجود البشري علىٰ الأرض.

ص: 24


1- الكافي للكليني 2: 201 و202/ باب إطعام المؤمنين/ ح 8.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان 1: 239.

فهناك من أنكر وجود الله تعالىٰ، وهناك من أثبت وجوده.

هناك من وحَّد الله تعالىٰ، وهناك من أشرك به غيره.

البعض آمن بدعوات الرُّسُل في اللحظة التي عرف قلبه الحقَّ فيها، وهناك من أنكرها وجحدها رغم ألف دليل ودليل.

هناك من سلَّم للنبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) ما بلَّغه من أمر الله تعالىٰ يوم غدير خُمٍّ، وهناك من أنكر أصل الحادثة، أو سلَّمها لكنَّه حرَّفها عمَّا أُريد منها.

فالثنائية موجودة علىٰ طول خطِّ التاريخ، وهي من إفرازات التعصُّب الأعمىٰ والعناد غير المبرَّر، وبالتالي حدثت عندنا خروقات بشرية لا يقبلها عاقل.

وفي الحقيقة، إنَّ الذي يقف وراء هذه الطبيعة هي (الأنانية) التي تدفع المرء إلىٰ أن لا يؤمن بالحقِّ إذا كان فيه ضياع لمصالحه، ولذلك تجد أنَّ كبار قريش كانوا يأتون ليلاً ليستمعوا القرآن من النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، لكنَّهم لم يؤمنوا به نهاراً.

وقد أشار القرآن الكريم إلىٰ مفردات من هذه الطبيعة في آياته الشريفة:

يقول تعالىٰ: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 14﴾ (النمل: 14).

ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ...﴾ (سبأ: 31).

من مفردات العناد غير المبرَّر

إنَّ هذه الطبيعة قد أنتجت الكثير من السلوكيات المنحرفة عن خطِّ الإنسانية والشريعة، أدَّت بها إلىٰ إنكار الكثير من مقولات العقل والدين، وهذه الطبيعة يمكن أن يستفيد منها الإنسان في حياته في بعض

ص: 25

الأحيان، فالعناد قد يُولِّد الصمود ضدَّ العقبات، لكن عليه أن ينتبه، فلا يمضي وراء عناده إلىٰ الحدِّ الذي يُنكِر ضروريات العقل، أو يخرج عن ما يمليه عليه ضميره، ولذلك تجد أنَّ هناك مفردات خرج المعاندون فيها عن خطِّ العقل والإنسانية، ومن أوضح المفردات هو التعصُّب للعشيرة، حتَّىٰ لو كانت علىٰ خطأ.

يقول الإمام زين العابدين (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ عن العصبية -: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرىٰ الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يُحِبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه علىٰ الظلم»(1).

إنَّ التعصُّب للعشيرة والاعتزاز بها أمر لا مشكلة فيه في حدِّ نفسه، فإنَّ العشيرة هي جناح الرجل ويده، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (2)، ولكن الخرق يكون في تجاوز ذلك إلىٰ الرضا بفعالها ولو كانت علىٰ خطأ وباطل.

أمَّا إذا لم يحصل هذا الخرق فيكون التعصُّب لها ممدوحاً ولا ضير فيه.

ص: 26


1- الكافي للكليني 2: 308 و309/ باب العصبية/ ح 7.
2- قال (علیه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّه لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عِتْرَتِه وَدِفَاعِهِمْ عَنْه بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِه، وَأَلمُّهُمْ لِشَعَثِه، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْه عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِه، وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُه الله لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَه مِنَ المَالِ يَرِثُه غَيْرُه...، أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَىٰ بِهَا الْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُه إِنْ أَمْسَكَه وَلَا يَنْقُصُه إِنْ أَهْلَكَه، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَه عَنْ عَشِيرَتِه فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْه عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْه أَيْدٍ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُه يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِه المَوَدَّةَ». (نهج البلاغة: 65/ الخطبة 23). وقال في موضع آخر: «وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِه تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْه تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ». (نهج البلاغة: 405/ ح 31).

ومن هنا ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم»(1).

خارج عن العناد

رغم أنَّ البشرية غلبت عليها في أكثر مقولات الدين والعقل صفة العناد والجحود، إلَّا أنَّ هناك بعض المفردات استطاعت أن تفرض نفسها بقوَّة علىٰ البشرية، بحيث رضخت لها البشرية رغماً عنها، نعم، قد يتعامل البعض مع هذه الحقائق معاملة الأوهام والخيالات لكنَّها بالتالي حقيقة معترف بها من قِبَل الجميع.

ومن تلك الحقائق:

أوَّلاً: الموت، فإنَّه قد فرض نفسه بقوَّة علىٰ الجميع، فلا تجد بشراً مهما كان، قد استطاع أن يخرق هذه الحقيقة أو يدَّعي أنَّه سيخرقها.

وسبحان الذي قهر عباده بالموت والفناء.

ثانياً: المرض، فإنَّه استطاع هو الثاني أن يتحدّىٰ كبرياء البشر، وأن يتجاوز جميع الحدود الموضوعة أمامه، ليجعل الجميع حذرين منه.

ثالثاً: عدم العلم بلحظة الموت، حقيقة أُخرىٰ جعلت من الجميع يعيش القلق منها، والحذر من حضورها في أيِّ وقتٍ.

رابعاً: تناقص العمر، فإنَّ أطول ما يكون عمر ابن آدم هو في اللحظة التي يُولَد فيها، ويبدأ عمره بالتناقص بعدها شيئاً فشيئاً، فالإنسان في هذه الحياة يقطع المسافة إلىٰ قبره من دون توقُّف، فنَفَسُ المرء خطاه إلىٰ أجله، وكلُّ يوم يمضي فإنَّه يأخذ معه من العمر جزءاً، يجعل المرء يقترب خطوة من القبر.

ص: 27


1- سنن أبي داود 2: 503/ ح 5120.

خامساً: الضعف، فإنَّ المرء مهما كان قويّاً، فإنَّ قوَّته في تهالك بطيء، وسيأتي يوم لا يجد المرء من نفسه بعد قوَّتها إلَّا الضعف.

7- التخلّي عن المسؤولية

اشارة

من طبيعة كثير من الناس أنَّهم يحاولون أن يلقوا بمسؤولية أفعالهم غير الجيِّدة علىٰ غيرهم، في محاولة منهم لتخليص أنفسهم من السؤال والعتاب، وتبرز هذه الطبيعة أكثر ما تبرز في لحظات الخوف، كما نراها جليَّة في تصرُّفات كثير من الأطفال عندما يرمون بأفعالهم علىٰ غيرهم.

وهذه الطبيعة تنوَّعت في نظرياتها وتجلّياتها، فقد بدأت بالأطفال عندما يحاولون تخليص أنفسهم من العقاب، أو في محاولة منهم للتقرُّب من مصدر يعتبرونه مصدر قوَّة، كالأب أو المعلِّم، واستمرَّت لتُولِّد صفة الكذب عند كثير من ضعفاء الشخصية، وانتهت بمذهب الجبر الذي أسَّس له بنو أُميَّة عندما حاولوا إقناع الناس بأنَّ ما يصدر منهم من أفعال إنَّما هم قد أُجبروا عليه، وبالتالي لا مجال لمؤاخذتهم، لذلك كان معاوية يقول: (وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون)(1)، وعبيد الله بن

ص: 28


1- قال المفيد ; في الإرشاد 2: 14: (فلمَّا استتمَّت الهدنة علىٰ ذلك، سار معاوية حتَّىٰ نزل بالنخيلة، وكان ذلك يوم جمعة، فصلّىٰ بالناس ضحىٰ النهار، فخطبهم وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألَا وإنّي كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدميَّ لا أفي بشيء منها له).

زياد يقول: (أوَ ليس قتل الله عليّاً)(1).

وهذه الطبيعة جعلت الكثير يتخلّون عن أفعالهم رغم التصاقها بهم، ولو لم يستطيعوا التخلّي عنها ورميها علىٰ غيرهم، فإنَّهم يحاولون إيجاد المبرِّرات ولو كانت واهية لتصحيح التصرُّف الصادر منهم، فإذا رأيت أحداً اغتاب مؤمناً وردعته لقال لك: إنَّ ذلك الشخص مستحقٌّ للغيبة، أو يقول لك: كلُّ الناس تغتاب وليس أنا وحدي!

وإذا رأيت موظَّفاً يعيث في دائرته فساداً ونصحته لقال لك: إنَّ الدولة والحكومة هي الفاسدة، وتناسىٰ أنَّ الدولة والحكومة ما هي إلَّا هو وأنت وأنا! أو يقول لك: كلُّ الموظَّفين يفعلون كما أفعل! ليُخفِّف عن نفسه اللوم بتوزيع الخطأ علىٰ نفسه وغيره.

وهذه الطبيعة لم يعشها الإنسان في الدنيا فحسب، بل حتَّىٰ في الآخرة أيضاً، فتجد القرآن الكريم ينقل لنا أنَّ بعض الظالمين لأنفسهم حيث يحاولون أن يتخلَّصوا من موقف الخزي، فيعملون علىٰ اتِّهام غيرهم بإضلالهم.

يقول تعالىٰ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرىٰ عَلَىٰ اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّىٰ إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا

ص: 29


1- قال المفيد ; في الإرشاد 2: 116: (وعُرِضَ عليه [أي ابن زياد لعنه الله] عليُّ بن الحسين (علیهما السلام)، فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا عليُّ بن الحسين»، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال له عليٌّ (علیه السلام): «قد كان لي أخ يُسمّىٰ عليّاً قتله الناس»، فقال له ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليُّ بن الحسين (علیه السلام): «﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الَانْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ [الزمر: 42]»، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقيَّة للردِّ عليَّ!؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه).

وَشَهِدُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 37 قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ 38 وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 39﴾ (الأعراف: 37 - 39).

وقال عزَّ من قائل: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً 29﴾ (الفرقان: 27 - 29).

وقال تعالىٰ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31 قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32 وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 33﴾ (سبأ: 31 - 33).

ومن المضحكات المبكيات أنَّ الشيطان ورغم أنَّه سبب رئيسي في أكثر مشاكل ومعاصي الإنسان، إلَّا أنَّه يتلبَّس تلك الطبيعة، ويلقي باللوم علىٰ الإنسان نفسه، وقد ذكر القرآن موقفين في ذلك:

ص: 30

الأوَّل: ما نقله عن قصَّة برصيصا، فإنَّ الشيطان وبعد أن أغواه تبرَّأ منه(1)، يقول عزَّ من قائل: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ 16﴾ (الحشر: 16).

الثاني: في يوم القيامة، حيث يحاول أن يُخلِّص نفسه هو الآخر ممَّا وسوس به لبني آدم.

قال تعالىٰ: ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 22﴾ (إبراهيم: 22).

ص: 31


1- عن ابن عبّاس، قال: إنَّه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا، عَبَدَ الله زماناً من الدهر، حتَّىٰ كان يؤتىٰ بالمجانين يداويهم، ويُعوِّذهم فيبرأون علىٰ يده، وإنَّه أُتي بامرأة في شرف قد جُنَّت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده. فلم يزل به الشيطان يُزيِّن له، حتَّىٰ وقع عليها، فحملت. فلمَّا استبان حملها قتلها ودفنها . فلمَّا فعل ذلك، ذهب الشيطان حتَّىٰ لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنَّه دفنها في مكان كذا. ثمّ أتىٰ بقيَّة إخوتها رجلاً رجلاً، فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقىٰ أخاه فيقول: والله لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئا يكبر عليَّ ذكره! فذكر بعضهم لبعض حتَّىٰ بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس، فاستنزلوه، فأقرَّ لهم بالذي فعل، فأُمِرَ به فصُلِبَ. فلمَّا رُفِعَ علىٰ خشبته، تمثَّل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أُخلِّصك ممَّا أنت فيه؟ قال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة. فقال: كيف أسجد لك، وأنا علىٰ هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء. فأومىٰ له بالسجود، فكفر بالله، وقُتِلَ الرجل. فهو قوله: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر: 16]). (تفسير مجمع البيان للطبرسي 9: 438).

موقف الإسلام

إنَّ موقف الإسلام من هذه النظرية والسلوك واضح جدّاً، فالقرآن الكريم يؤكِّد في العديد من الآيات القرآنية أنَّ الإنسان هو من يتحمَّل مسؤولية أفعاله صغيرة كانت أو كبيرة، بل هو مسؤول حتَّىٰ عن نواياه ودوافعه الداخلية.

فلا يخدعنَّ أحدنا نفسه، فإنَّ كلَّ نفس بما كسبت رهينة.

8- الذنب شؤم مطلق

قد نلتفت إلىٰ أثر الذنب علىٰ النفس (من عدم استجابة الدعاء وتقصير العمر، وهدم الجسم، وذهاب النور من الوجه، وضنك المعيشة وغيرها)، ولكن هناك آثاراً علىٰ غير فاعل الذنب، وتشمل:

الآثار علىٰ الكون: وهو المعبَّر عنه بالعلاقة التكوينية بين التشريع والتكوين، فإذا جار السلطان هانت الدولة، وإذا كذب الولاة حُبِسَ المطر، وإذا مُنِعَت الزكاة ماتت المواشي...(1).

ص: 32


1- عن أبي الحسن الرضا عليِّ بن موسىٰ (علیهما السلام)، قال: «إذا كذب الولاة حُبِسَ المطر، وإذا جار السلطان هانت الدولة، وإذا حُبِسَت الزكاة ماتت المواشي». (أمالي المفيد: 310 و311 / باب ثلاثة من الذنوب وعقوبتها/ ح 2). وهذه العلاقة أكَّدت عليها العديد من الروايات، ومنها ما رواه الكليني ; في الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 1 - 3: عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «الذنوب التي تُغيِّر النعم البغي، والذنوب التي تورث الندم القتل، والتي تُنزِل النِّقَم الظلم، والتي تهتك الستر شرب الخمر، والتي تحبس الرزق الزنا، والتي تُعجِّل الفناء قطيعة الرحم، والتي تردُّ الدعاء وتُظلِم الهواء عقوق الوالدين». وعن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كان أبي (علیه السلام) يقول: نعوذ بالله من الذنوب التي تُعجِّل الفناء، وتُقرِّب الآجال، وتُخلي الديار، وهي قطيعة الرحم، والعقوق، وترك البرِّ». وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمَّة أُديل لأهل الشرك من أهل الإسلام، إذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة».

والقرآن يقول: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 41﴾ (الروم: 41).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنَّه ما من سنة أقلّ مطراً من سنة، ولكنَّ الله يضعه حيث يشاء، إنَّ الله (عزوجلّ) إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدَّر لهم من المطر في تلك السنة إلىٰ غيرهم وإلىٰ الفيافي والبحار والجبال. وإنَّ الله ليُعذِّب الجعل في جُحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلِّها بخطايا من بحضرتها. وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوىٰ محلَّة أهل المعاصي»، قال: ثمّ قال أبو جعفر (علیه السلام): «فاعتبروا يا أُولي الأبصار»(1).

ويشمل أيضاً الآثار علىٰ الأفراد الآخرين: وهي ما روي عن النبيِّ الأعظم (صلی الله علیه و آله): «الذنب شؤم علىٰ غير فاعله، إن عيَّره ابتلي به، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه»(2).

التعيير: هو أن تُظهِر الشماتة به وتُعيِّره به، والروايات حذَّرت منه، يقول النبيُّ الأعظم (صلی الله علیه و آله): «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عيَّر مؤمناً بشيء لم يمت حتَّىٰ يركبه»(3).

ص: 33


1- الكافي للكليني 2: 272/ باب الذنوب/ ح 15.
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 668/ ح 4353.
3- الكافي للكليني 2: 356/ باب التعيير/ ح 2.

وفي حديث آخر عنه (صلی الله علیه و آله): «لا تُظهِر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك»(1).

فلا تُعَيِّرَنَّ أحداً بخطيئته، وابكِ علىٰ خطيئتك.

والغيبة: هي أدام كلاب أهل جهنَّم.

وهي أن تذكر أخاك المؤمن بعيب لا يعرفه الآخر، وهي فاكهة لذيذة عند البعض، وتناسوا أنَّ مثلها مثل من يأكل لحم أخيه ميتاً.

البعض يقول: لا غيبة للفاسق، نعم، ولكن المقصود منها هو أنَّه إذا كان الشخص متجاهراً بفعل ذنب، بحيث إنَّ كلَّ الناس يعرفونه به، فهذا لو ذكرناه بذلك العيب فلا تُعتَبر غيبة، أمَّا إذا كان فيه عيب لا يعلمه الناس فلا يجوز ذكره أمامهم، فهو علىٰ الأقلّ من قبيل حُبِّ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

والرضا بالذنب: هو أمر آخر ممَّا يترتَّب علىٰ الذنوب، فمن رضي بشيء شاركه.

لذلك ورد أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام) سيقتل ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) ممن رضي بقتله، لأنَّ من رضي بفعل قوم فقد شاء الله تعالىٰ أن يجعله منهم(2).

ص: 34


1- أمالي الصدوق: 297/ ح (331/5).
2- عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «تُقتَل والله ذراري قتلة الحسين بفعل آبائها». (كامل الزيارات لابن قولويه: 162/ ح (203/4). وعن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لأبي الحسن عليِّ بن موسىٰ الرضا (علیه السلام): يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) بفعال آبائها»؟ فقال (علیه السلام): «هو كذلك»، فقلت: فقول الله (عزوجلّ): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ﴾ [الأنعام: 164]، ما معناه؟ فقال: «صدق الله في جميع أقواله، لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنَّ رجلاً قُتِلَ في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنَّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم». (علل الشرائع للصدوق 1: 229/ باب 164/ ح 1).

فالحذر أن يرضىٰ أحدنا بفعل ذنب، ولو كان فاعله حبيباً لنا وعزيزاً علىٰ قلوبنا.

9- الغيرة

كان العرب وما يزالون معروفين بالغيرة والحميَّة التي من خلالها يحافظون علىٰ أعراضهم ونواميسهم، الأمر الذي دعا إليه الدين، بالإضافة إلىٰ العقل والفطرة. لذلك كانت الغيرة من الإيمان، فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ غيور يُحِبُّ كلَّ غيور، ولغيرته حرَّم الفواحش ظاهرها وباطنها»(1).

لكن، ومع الأسف، نجد الكثير من الرجال اليوم قد تناسوا هذه الصفة، وصاروا يُقدِّمون نساءهم كأنَّهُنَّ عارضات أزياء، أو كأنَّهُنَّ إماء يتزينَّ بأحسن زينتهنَّ ليشتريها من يرغب بها، وصارت نظرات الشباب معلَّقة بطبقات شعر زوجة تمشي وهي تضع يدها بيد زوجها الذي انتفخ فخراً بعرضه لمحاسن زوجته أمام كلِّ من هبَّ ودبَّ.

إنَّ رواياتنا الشريفة قد ركَّزت علىٰ صفة الغيرة، وجعلتها مداراً للإيمان أو عدمه، فعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إذا لم

ص: 35


1- الكافي للكليني 5: 535 و536/ باب الغيرة/ ح 1.

يغر الرجل فهو منكوس القلب»(1).

وورد في بعض الروايات تقريع أمير المؤمنين (علیه السلام) لمن يسمحون لنسائهم بمزاحمة الرجال، ولا يمنعونهنَّ من ذلك، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا أهل العراق، نُبِّئْتُ أنَّ نساءكم يُدافِعْنَ الرجال في الطريق، أمَا تستحيون؟»، وفي حديث آخر أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «أمَا تستحيون ولا تغارون!؟ نساؤكم يخرجن إلىٰ الأسواق ويزاحمن العلوج»(2).

إذا كان الرجل لا يغار علىٰ نفسه ولا علىٰ امرأته، وإذا كانت المرأة عديمة الغيرة علىٰ نفسها، فإنَّهم سيكونون من الذين لا يُكلِّمهم الله تعالىٰ يوم القيامة، ومن لا يُكلِّمه الله تعالىٰ في يوم القيامة سيكون ذا مصير أسود، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «ثلاثة لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم، ولهم عذاب أليم: الشيخ الزاني، والديُّوث، والمرأة توطى فراش زوجها»(3).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الجنَّة لتُوجَد ريحها من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجدها عاقٌّ ولا ديُّوثٌ»، قيل: يا رسول الله، وما الديُّوث؟ قال: «الذي تزني امرأته وهو يعلم بها»(4).

إنَّها صور مخزية، ومبكية، ومحزنة، تلك التي نراها اليوم من شباب

ص: 36


1- الكافي للكليني 5: 536/ باب الغيرة/ ح 2؛ وورد في الهامش في تفسير (منكوس القلب): أي يصير بحيث لا يستقرُّ فيه شيء من الخير كالإناء المكبوب، أو المراد بنكس القلب تغيُّر صفاته وأخلاقه التي ينبغي أن يكون عليها.
2- الكافي للكليني 5: 536 و537/ باب الغيرة/ ح 6.
3- الكافي للكليني 5: 537/ باب الغيرة/ ح 7.
4- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 444/ ح 4542.

يدَّعي الإسلام، وهو لا يغار علىٰ زوجته ولا علىٰ أُخته حيث تخرج أمام عينيه بكامل زينتها وبملابس فاضحة، وهو لا ينبس ببنت شفة، وحتَّىٰ لو لم يدَّعِ الإسلام، فإنَّ المسألة فطرية عقلية، لا تحتاج إلىٰ دليل شرعي يمنع منها، لذلك، كان العرب وحتَّىٰ قبل الإسلام معروفين بالغيرة.

قيل: إنَّ أعرابياً في الجاهلية زُفَّت إليه عروسه علىٰ فرس، فقام فقتل تلك الفرس التي ركبت عليها العروس! فتعجَّب الجميع من حوله، وسألوه عن سرِّ عمله، فقال لهم: خشيت أن يركب السائق مكان جلوس زوجتي ولا يزال مكانها دافئاً.

وقيل بأنَّ امرأة تقدَّمت إلىٰ مجلس القاضي موسىٰ بن إسحاق بمدينة الريِّ سنة (286ﻫ)، فادَّعىٰ وكيلها بأنَّ لموكِّلته علىٰ زوجها خمسمائة دينار (مهرها)، فأنكر الزوج، فقال القاضي لوكيل الزوجة: شهودك، قال: أحضرتهم، فطلب بعض الشهود أن ينظر إلىٰ المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي، فقال الزوج: ماذا تفعلون!؟ قال الوكيل: ينظرون إلىٰ امرأتك كي يعرفوها، قال الزوج: إنّي أُشهد القاضي أنَّ لها عليَّ هذا المهر الذي تدَّعيه ولا تُكشِف عن وجهها، فقالت المرأة: فإنّي أُشهِد القاضي أنّي وهبت له هذا المهر وأبرأتُ ذمَّته في الدنيا والآخرة. فقال القاضي وقد أُعجِب بغيرتهما: يُكتَب هذا في مكارم الأخلاق(1).

فأين بنو قحطان عن غيرتهم!؟

أين بنو إبراهيم الخليل الغيور!؟

ص: 37


1- راجع: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 60: 394/ ح 12491.

هل ماتت الغيرة في النفوس، أم أنَّها سُجِنَت في بيوت العجائز، أم أنَّ القوم تخلّوا عن غيرتهم، وصاروا كالأنعام أو أضلّ!؟

10- عدم كتابة الحقوق

جرت سيرة البشر علىٰ العمل علىٰ المحافظة علىٰ حقوقهم المادّية والمعنوية، وعدم تضييعها، ولذلك تجدهم يكتبون، ويُثبِتون، ويُشهِدون، ويتقاضون، ويقيمون الدعاوىٰ، ويترافعون عند القاضي، من أجل استرجاع حقٍّ قد أُخِذَ منهم.

وهذا أمر لا بأس به، والقرآن الكريم أرشد إلىٰ ضرورته، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَاكْتُبُوهُ ... وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنىٰ أَلَّا تَرْتابُوا ...﴾ (البقرة: 282).

بل إنَّها الطريقة التي اتَّخذها الباري جلَّ وعلا مع عباده، فهو يستوثق عليهم كلَّ ما يصدر عنهم حتَّىٰ لا يُنكِرها منكر، فيقول لهم يوم القيامة: ﴿هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 29﴾ (الجاثية: 29).

ليس هذا فحسب، بل إنَّ الروايات ذكرت أنَّ من لا يستوثق علىٰ ماله بوثيقة وما شابه فهو من الذين لا يُستجاب دعاؤهم، لأنَّه خالف الطريقة المتَّبعة لحفظ الحقوق، فعن جعفر بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب!؟ ورجل كانت له امرأة فدعا

ص: 38

عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك!؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد!؟ ألم آمرك بالإصلاح!؟»، ثمّ قال: «﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67﴾ [الفرقان: 67]، ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة!؟»(1).

ولذلك، فإن من لا يلتزم هذه الوصيَّة وهذه السيرة فلا أجر له لو فقد ماله، كما نصَّت علىٰ ذلك رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من ذهب حقُّه علىٰ غير بيِّنة لم يُؤجَر»(2).

إذن، هي دعوة صادقة إلىٰ أن نستوثق على حقوقنا ونستشهد عليها، قبل أن تزلَّ قدم بعد ثبوتها، وقبل أن تنقلب المودّات إلىٰ عداوات، وقبل أن نقع في المصيدة، ولات حين مندمِ.

11- التهاون بصغار الذنوب

إنَّ من أشدّ ما يقع فيه الناس في قضيَّة الذنوب هو استخفافهم بالذنوب، وتقسيم الذنوب - عملياً وإن لم يقولوه بألسنتهم - إلىٰ ذنوب تستحقُّ أن يُبتعَد عنها ويتأمَّل الإنسان في عواقبها ويندم عليها لو فعلها ويتوب منها، وإلىٰ ذنوب ليست كذلك باعتبارها أُموراً هيِّنة ولا تستحقُّ التفكير فيها.

من المؤكَّد أنَّك سمعت من يغتاب الناس أمامك أو يكذب،

ص: 39


1- الكافي للكليني 2: 511/ باب من لا تُستجاب دعوته/ ح 2.
2- الكافي للكليني 5: 298/ باب من أدان ماله بغير بيَّنة/ ح 3.

فنصحته ونهيته عن هذه الذنوب، ومن المؤكَّد أيضاً أنَّك واجهت واحداً أو اثنين منهم وهو يقول لك: أنا أتكلَّم الحقَّ، أنا لست أوَّل من أخذ الغيبة، إنَّ الله تعالىٰ رحيم غفور، إنَّ هذه هيِّنة، وتلك كذبة بيضاء، ولا تُصعِّبها علينا، وإنَّ الله تعالىٰ أعظم من أن يحاسبنا علىٰ هذه الصغار، الناس يقتلون ويزنون وينهبون وأنا لا أفعل شيئاً سوىٰ الكلام بلساني، وما حجم هذه الكذبة أو تلك الغيبة... إلىٰ غير ذلك من التبريرات الواهية، وكلُّها تشير إلىٰ اعتقاد مكنون في داخل الإنسان مفاده أنَّ ما فعلته وإن كان ذنباً ولكنَّه لا يستحقُّ الكثير.

والحال أنَّ الروايات الشريفة اعتبرت هذا التفكير من الأُمور التي تجعل من الذنب عظيماً مهما كان صغيراً، ولقد حذَّرت من هذا التفكير كثيراً، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أشدُّ الذنوب عند الله ذنب صغر عند صاحبه, أشدُّ الذنوب عند الله ذنب استهان به راكبه»(1).

ويقول (علیه السلام): «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِه صَاحِبُه»(2).

ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): «من الذنوب التي لا تُغفَر قول الرجل: يا ليتني لا أُؤاخذ إلَّا بهذا»(3).

نقل ابن حجر في الصواعق أنَّه وقع لبهلول مع الإمام العسكري (علیه السلام) أنَّه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظنَّ أنَّه يتحسَّر علىٰ ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال: «يا قليل العقل، ما للعب خُلِقنا»، فقال له: فلماذا خُلِقنا؟ قال: «للعلم والعبادة»، فقال له:

ص: 40


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 112.
2- نهج البلاغة: 535/ ح 348.
3- الخصال للصدوق: 24/ ح 83.

من أين لك ذلك؟ قال: «من قول الله (عزوجلّ): ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ 115﴾ [المؤمنون: 115]»، ثمّ سأله أن يعظه، فوعظه بأبيات، ثمّ خرَّ الحسن (علیه السلام) مغشيّاً عليه، فلمَّا أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال: «إليك عنّي يا بهلول، إنّي رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتَّقد إلَّا بالصغار، وإنّي أخشىٰ أن أكون من صغار حطب جهنَّم»(1).

فهل بعد هذا يصحُّ أن نتهاون بذنب ولو كان صغيراً!؟

وأصلاً هل يمكن أن نُسمّي ذنباً صغيراً رغم أنَّه مهما صغر في أعيننا فإنَّه يحكي عن جرأة ووقاحة مع المولىٰ الخالق جلَّ وعلا!؟

علينا أن نتذكَّر أنَّه «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»(2).

12- التهاون بالفتوى

يقضي العقل بضرورة الرجوع في كلِّ فنٍّ واختصاص إلىٰ أهل الخبرة والتخصُّص فيه، فإنَّهم الأدرىٰ به، ويعرفون خفاياه ومخارجه الصحيحة، وهذا الأمر قد دعا إليه الدين أيضاً.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُه بِه، فَإِنَّه أَحْرَىٰ أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ»(3).

ص: 41


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 207.
2- الكافي للكليني 2: 288/ باب الإصرار علىٰ الذنب/ ح 1، عن أبي عبد الله (علیه السلام) .
3- نهج البلاغة: 405/ ح 31.

ولا نقاش في ضرورة التخصُّص العلمي، وثمراته تشهد بضرورته، والناس في حياتهم سلَّموا بهذا المبدأ، وسيَّروا عليه حياتهم، فتجدهم يرجعون إلىٰ البنّاء في مجال البناء ولا يهبون إلىٰ الطبيب فيه، لأنَّه سيكون أمراً مضحكاً للثكلىٰ، وهكذا في مجال الزراعة والطبِّ والاقتصاد والتجارات وتصليح الآلات الميكانيكية وغيرها من المجالات.

هذا، ولكن الواقع يشهد أنَّ الناس - أو علىٰ الأقلّ إن قسماً كبيراً منهم - يعيشون مفارقة في هذا الجانب، ففي الوقت الذي يعتقدون بضرورة الرجوع إلىٰ أهل التخصُّص في كلِّ فنٍّ، ويعملون علىٰ هذا الاعتقاد في حياتهم اليومية، إلَّا أنَّهم وفي الكثير من الأحيان يخالفون هذا الأمر في قضيَّة (الفتوىٰ).

لاحظ عندما تثار مسألة فقهية، ستجد كلَّ واحد من جلسائك يدلي بدلوه، وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلىٰ، وما يذكرونه ليس مبتنياً علىٰ قراءة مسبقة، أو علىٰ معلومة مخزونة، وإنَّما هو مجرَّد تخمينات، واحتمالات، واعتقادات شخصية، واستحسانات، وقياسات، وما شابه.

والأنكىٰ من ذلك، أنَّ كلَّ واحد منهم يعمل علىٰ إثبات قوله، والدفاع عنه، وتخطئة الآخر.

إنَّها حالة يبتلي بها الكثير من الناس، إنَّهم يتهاونون في قضيَّة (الإفتاء) و(إعطاء الحكم الشرعي)، وقليلاً ما تجد شخصاً يتورَّع ويقول: لا أعلم، لنرجع إلىٰ أهل الاختصاص في هذا المجال، وحتَّىٰ لو كان الكثير يرجعون إلىٰ ذوي الاختصاص في هذا المجال، ولكنَّك لو دخلت فيما بينهم لوجدت أنَّ رجوعهم إلىٰ أهل الاختصاص كان بعد مشاحنة طويلة من إعطاء الفتاوىٰ والآراء في هذه المسألة، أو أنَّ

ص: 42

رجوعهم كان من باب ترتُّب بعض الآثار المادّية أو غيرها علىٰ الحكم الشرعي الصحيح، وستجد الكثيرين يسألون عن الحكم الشرعي لمسألة كانوا قد فعلوها لأيّام عديدة أو ربَّما سنين، ولصدفة من غير ميعاد بدا للرجل أن يسأل عن حكم هذا الفعل الذي كان ولا يزال يفعله، أو عن معاملة أكل الدهر عليها وشرب، وستجد الكثيرين يعتبرون سؤال المتخصِّص في هذه المسألة من نافلة القول ومن سقط الزمان، وسوف لن تجد في الكثير من الناس من يُتعِب نفسه في تحصيل الحكم الشرعي من منبعه إلَّا كالملح في الطعام، وهو أقلُّه.

عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: كان أبو عبد الله (علیه السلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة، فأجابه، فلمَّا سكت قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئاً، فأعاد عليه المسألة، فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): «هو في عنقه، قال أو لم يقل، وكلُّ مفتٍ ضامن...»(1).

فهل من معتبر!؟

13- قتل النفس بغير حقٍّ!

إنَّ الله (عزوجلّ) قد جعل أكرم مخلوقاته عليه هو الإنسان، ذاك الذي كرَّمه الله تعالىٰ وحمله في البرِّ والبحر، وفضَّله علىٰ كثير من خلقه، وهو نفسه إذا صار مؤمناً فحرمته أعظم من حرمة حتَّىٰ الكعبة المعظَّمة، وهو

ص: 43


1- الكافي للكليني 7: 409/ باب أنَّ المفتي ضامن/ ح 1.

الذي لا يجوز قتله من دون حقٍّ. لذلك، فقد أوجب الله تعالىٰ علىٰ الناس أن يحترموا حقَّ الحياة لكلِّ البشر.

ولكن هناك واقعاً مريراً نعيشه نحن الذين ندَّعي أنَّنا مسلمون، وكان المفروض أن نعمل كمسلمين وكمؤمنين أيضاً.

كثير من النساء تحاول إسقاط حملها لأدنىٰ سبب، ككثرة أطفالها (الذين بلغوا ثلاثة أو أربعة!)، أو تعبها جراء أعمال البيت، أو أنَّ زوجها طلب منها ذلك، أو لغيرها من الأسباب الواهية، والحال أنَّه لا يجوز إسقاط الجنين الذي انعقدت نطفته، علىٰ تفصيل موجود في الفقه، وخلاصته: إنه بعد ولوج الروح لا يجوز إسقاط الجنين مطلقاً، نعم، يجوز إسقاطه قبل ذلك لكن بشرط أن تخاف الأُمُّ الضرر علىٰ نفسها من استمرار وجوده.

وفي الآونة الأخيرة، وبفضل الوسائل العلمية الحديثة يمكن استعلام وضع الجنين وما إذا كان مصاباً بعاهة خَلقية أم لا، فإذا ثبت علمياً كونه مشوَّهاً ومصاباً بعاهات أو عاهة واحدة، فإنَّ تشوّه الجنين ليس بمجرَّده مسوِّغاً لإسقاطه، نعم إذا كان بقاؤه في رحم الأُمِّ ضرريّاً علىٰ صحَّتها أو حرجيّاً عليها بحدٍّ لا يُتحمَّل عادةً جاز لها إسقاطه، وذلك قبل ولوج الروح فيه، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط مطلقاً(1).

بل المسألة أكثر من هذا، فإنَّه لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان من سفاح إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الضرر علىٰ نفسها من استمرار وجوده، فإنَّه يجوز لها حينئذٍ إسقاطه أيضاً بشرط أن لا تلجه الروح، وأمَّا بعد

ص: 44


1- الفتاوىٰ الميسَّرة للسيِّد السيستاني (دام ظلُّه): 432.

ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط مطلقاً، وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته، وكذا لو أسقطه الأب أو شخص ثالث كالطبيب(1).

علىٰ كلِّ زوجة وكلِّ زوج أن يتذكَّرا قوله تعالىٰ: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ...﴾ (المائدة: 32).

عليهما أن يتذكَّرا قول الإمام الباقر (علیه السلام) حينما سأله محمّد بن مسلم عن قول الله (عزوجلّ): ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾، فقال له: «له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلَّا إلىٰ ذلك المقعد»(2).

وأيضاً ليتذكَّرا ما ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، وقال: «لا يُوفَّق قاتل المؤمن متعمِّداً للتوبة»(3).

14- تيسير أم تهاون؟

من المعروف أنَّ دين الإسلام هو دين يُسْر لا دين عُسْر، إنَّه الدين الذي

ص: 45


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (دام ظلُّه) 3: 115 و116/ مسألة 384: (لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان من سفاح إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الضرر علىٰ نفسها من استمرار وجوده، فإنَّه يجوز لها حينئذٍ إسقاطه ما لم تلجه الروح، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط مطلقاً، وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته، وكذا لو أسقطه الأب أو شخص ثالث كالطبيب...).
2- الكافي للكليني 7: 272/ باب القتل/ ح 6.
3- الكافي للكليني 7: 272/ باب القتل/ ح 7.

أعلن صادحاً: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185)، وأعلن: ﴿ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ (المائدة: 6)، ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78).

عن ابن القدّاح، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، فقالت: يا رسول الله، إنَّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) مغضباً يحمل نعليه حتَّىٰ جاء إلىٰ عثمان، فوجده يُصلّي، فانصرف عثمان حين رأىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له: يا عثمان، لم يُرسِلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة، أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبَّ فطرتي فليستنَّ بسُنَّتي، ومن سُنَّتي النكاح»(1).

والذي يُراد أن يُقال هنا هو: إنَّه لا بدَّ من ملاحظة الفرق بين هذا المعنىٰ (التيسير في الدين) وبين الاستخفاف والتهاون بأمر الدين، فإنَّ التيسير في الدين جاء في مفردات معيَّنة وكلِّها جاءت بأمر سماوي، أي أنَّ نفس التيسير هو بأمر من الدين، فمن كان عاجزاً عن الصلاة من قيام فقد أذن له الشارع بأن يُصلّي من جلوس، ومن كان عاجزاً عن الصيام فقد أذن له الشارع بالإفطار، ومن اضطرَّ إلىٰ أكل ميتة غير باغ ولا عاد فقد أذن له الشارع بأكلها، إنَّ هذه التسهيلات كلَّها واردة بدليل من الشارع المقدَّس.

أمَّا المقصود من التهاون والاستخفاف بالدين فهو بمعنىٰ الاستخفاف بأمر إلهي، أي عدم الأخذ به بحدوده المرسومة رغم العلم المسبق بها، أو غضِّ النظر عن واجبات أمر الدين بها، وأين هذا من ذاك!؟

إنَّ كثيراً من الناس مع الأسف قد استخفّوا بالدين، بحجَّة أنَّه من التسهيل، فأخذوا بالتمرُّد علىٰ الحدود الإلهيَّة، وزيَّنوا لأنفسهم هذا الفعل، ومن

ص: 46


1- الكافي للكليني 5: 494/ باب كراهية الرهبانية.../ ح 1.

هذا القبيل ما حكاه القرآن الكريم في قوله عزَّ من قائل: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 47﴾ (يس: 47).

ومنه ما يقوله البعض من أنَّ الغناء إنَّما هو كلام أسمعه، لا يضرُّ بالدين شيئاً.

أو تلك التي تدَّعي أنَّ الحجاب لا علاقة له بالالتزام والعفاف، وأنَّها متديِّنة ومحافظة رغم تهتُّكها وتزيُّنها للرجال.

أو ذاك الذي يسترق النظرات علىٰ أعراض الناس، ويقول: إنَّما هي نظرة أُولىٰ.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فالإنسان علىٰ نفسه بصيرة، والله (عزوجلّ) قد بيَّن نجدي الحقِّ والباطل بما لم يدع عذراً لمعتذر.

وإنَّ غداً لناظره قريبُ.

15- إنكار ومطل الدَّين

لا شكَّ في استحباب أن يُقرِض المؤمن أخاه المحتاج، بل ورد أنَّه أكثر ثواباً من الصدقة(1)، وهذا لا نقاش فيه. ولكن البعض مع الأسف عمل علىٰ إيقاف هذه الحالة الإيجابية، وعلىٰ قطعها بصورة وبأُخرىٰ.

ص: 47


1- عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر». (الكافي للكليني 4: 10/ باب الصدقة علىٰ القرابة/ ح 3). وفي رواية أُخرىٰ عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «مكتوب علىٰ باب الجنَّة: الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر». (الكافي للكليني 4: 33/ باب القرض/ ح 1).

إنَّ إنكار الدَّين أو المطل في أدائه من الحالات التي انتشرت هذه الأيّام مع كلِّ الأسف، فما أكثر الدعاوىٰ التي تُرفَع في هذا المجال.

إنَّ الدِّين يوجب أداء الدَّين إذا لم يكن محدَّداً أو كان محدَّداً وحلَّ أجله، ولا يسمَح بالتأخير في أدائه إلَّا عند الضرورة، كما لو كان المدين معسراً، فأمر القرآن الكريم الدائن بالتيسير عليه: ﴿وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ﴾ (البقرة: 280).

أمَّا إذا كان قادراً علىٰ أدائه ولم يؤدِّه، فهو ظلم ما بعده ظلم(1).

إنَّ هذه الحالة في الوقت الذي تُعتَبر من المحرَّمات، هي داعية إلىٰ قطع سبيل معروف الإقراض، وهي مدعاة للكثير من المشاكل بين الناس، هذا إذا تناسينا قضيَّة مهمَّة، وهي أنَّ الذي يُنكِر أو يمطل بالدَّين سوف يُراق ماء وجهه ويقلُّ احترامه بين الناس ولا تبقىٰ له عند الناس أيَّ ثقة.

إذن، علينا عندما نقترض أن ننويَ من البداية أداءه، فإنَّ ذلك وسيلة للتوفيق إلىٰ أدائه، كما روي ذلك عن الحسن بن عليِّ بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من كان عليه دين فينوي قضاءه كان معه من الله (عزوجلّ) حافظان يعينانه علىٰ الأداء عن أمانته، فإن قصرت نيَّته عن الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر ما قصر من نيَّته»(2).

وأن لا ننوي المطل من البداية، فإنَّ ذلك ظلم للمسلمين، حيث إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «مطل المسلم الموسر ظلم للمسلمين»(3).

ص: 48


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني 2: 281/ مسألة 1001: (مماطلة الدائن مع القدرة علىٰ الأداء حرام، بل يجب نيَّة القضاء مع عدم القدرة عليه أيضاً بأن يكون من قصده الأداء عند التمكُّن منه).
2- الكافي للكليني 5: 95/ باب قضاء الدَّين/ ح 1.
3- تهذيب الأحكام للطوسي 6: 226/ ح (541/1).

وهو نوع من أنواع السرقة، حيث روىٰ أبو خديجة، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أيُّما رجل أتىٰ رجلاً فاستقرض منه مالاً وفي نيَّته ألَّا يؤدّيه، فذلك اللصُّ العادي»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من استدان ديناً فلم ينو قضاه كان بمنزلة السارق»(2).

وأن لا نتهاون في أدائه، فلعلَّ الموت يسبقنا فنكون في خطر، فقد روي عن بشّار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أوَّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلَّا الدَّين، فإنَّ كفّارته قضاؤه»(3).

16- رعاية حرمة المؤمن

في الإسلام، ليس هناك ما يُسمّىٰ بالحرّية المطلقة، بل المرء إذا كان مسلماً فإنَّ حرّيته مقيَّدة بالقيود والحدود التي حدَّها الله تبارك وتعالىٰ له، ومن يتجاوز عن هذه الحدود يكن في مقام مواجهة الله تعالىٰ بالمعصية والجرأة، بل سيكون علىٰ غير خطِّ الإنسانية، حيث نعلم أنَّ الله تعالىٰ إنَّما شرَّع الأحكام من واجبات ومحرَّمات آخذاً بنظر الاعتبار المصلحة الإنسانية الراجعة للبشر لا له جلَّ وعلا، قال عزَّ من قائل: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15﴾ (فاطر: 15).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وتَعَالَىٰ خَلَقَ الْخَلْقَ

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 183/ ح 3689.
2- الكافي للكليني 5: 99/ باب الرجل يأخذ الدَّين وهو لا ينوي قضاءه/ ح 2.
3- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 183/ ح 3688.

حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1).

ومن الحدود التي حدَّها الله تبارك وتعالىٰ هو حدُّ (حرمة المسلم)، فللمسلم حرمته في دمه وماله وعرضه وسمعته وجميع ما يرجع إليه، فلا يجوز التعدّي أبداً علىٰ هذه الحرمة، بل إنَّ الله تعالىٰ أوعد من يفعل بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة، كما سنرىٰ ذلك إن شاء الله تعالىٰ بعد قليل.

ولكن، وأبعد الله (لكن) التي يندر أن يخلو منها كلام، ولكن نجد أنَّ هتك أعراض الناس صار ظاهرة عند كثير من الناس والمجتمعات، وهذه الظاهرة عمَّت وشملت عدَّة حالات، ولا أُريد أن أذكر الحالات التي يستقبحها حتَّىٰ الفاسق، كالزنا والعياذ بالله، وإنَّما أذكر بعض الحالات التي كثيراً ما تُبرَّر وتُصحَّح وقد يعتبرها البعض نجاحاً في عمل أو ظاهرةً إنسانية ربَّما، وهذه بعض تلك الحالات:

الحالة الأُولىٰ: هتك السمعة بالغيبة والاسترسال في الذمِّ وإبراز العيوب من دون مبرِّر، فإنَّ ذلك من هتك العورة المحرَّمة كما نصَّت علىٰ ذلك الروايات الشريفة(2).

نعم، استثني حالة السؤال عن عفَّة امرأة للزواج منها(3).

ص: 50


1- نهج البلاغة: 303/ الخطبة 193.
2- عن أبي عبد الله (علیه السلام) فيما جاء في الحديث: «عورة المؤمن علىٰ المؤمن حرام»، قال: «ما هو أن ينكشف فترىٰ منه شيئاً، إنَّما هو أن تروي عليه أو تعيبه». (الكافي للكليني 2: 359/ باب الرواية علىٰ المؤمنين/ ح 3).
3- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني 1: 17 و18: (وقد تجوز الغيبة في موارد: منها: نصح المؤمن، فتجوز الغيبة بقصد النصح، كما لو استشار شخص في تزويج امرأة فيجوز نصحه ولو استلزم إظهار عيبها، بل لا يبعد جواز ذلك ابتداءً بدون استشارة، إذا علم بترتُّب مفسدة عظيمة علىٰ ترك النصيحة).

الحالة الثانية: التجسُّس علىٰ أعراض الناس ومتابعة النساء في خروجهن أو سرقة صور النساء من الهاتف النقّال وما شابه.

الحالة الثالثة: هتك المرأة بوصف جمالها ومحاسنها من زوجة أمام زوجها، أو من شخص اطَّلع عليها بصورة غير رسمية.

الحالة الرابعة: الاطِّلاع علىٰ بيوت الجيران، أو الجلوس في الطرقات مع عدم غضِّ البصر ومتابعة النساء بالنظر.

الحالة الخامسة: قذف المحصنات، كمن يرمي أُمَّ رجل أو أُخته بالزنا والعياذ بالله، وقد يكون ذلك الرمي مزاحاً، وقد يكون في عراك، وقد يكون بين الأطفال علىٰ مسمع من الكبار، وهي حالات وإن كانت ليست كثيرة إن شاء الله تعالىٰ ولكنَّها علىٰ قلَّتها تُمثِّل حالة مرضية مزرية وخطرة.

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من اطَّلع من مؤمن علىٰ ذنب أو سيِّئة فأفشىٰ ذلك عليه ولم يكتمها ولم يستغفر الله له، كان عند الله كعاملها وعليه وزر ذلك الذي أفشاه عليه، وكان مغفوراً لعاملها، وكان عقابه ما أفشىٰ عليه في الدنيا مستور عليه في الآخرة، ثمّ يجد الله أكرم من أن يثني عليه عقاباً في الآخرة»(1).

وقال (علیه السلام): «من روىٰ علىٰ مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروَّته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلىٰ ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من اطَّلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة

ص: 51


1- الاختصاص للمفيد: 32.
2- الكافي للكليني 2: 358/ باب الرواية علىٰ المؤمنين/ ح 1.

رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها كان حقّاً علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله ويبدي للناس عورته في الآخرة»(1).

وقال أبو بصير للإمام الصادق (علیه السلام): الرجل تمرُّ به المرأة فينظر إلىٰ خلفها؟ قال: «أيسرُّ أحدكم أن يُنظَر إلىٰ أهله وذات قرابته؟»، قلت: لا، قال: «فارض للناس ما ترضاه لنفسك»(2).

17- نساء قوّامات على الرجال!

تحكم الطبيعة الإنسانية المعتدلة بأنَّ المرأة ريحانة، وتلك الريحانة أُنيطت بها مهمَّة رعاية البيت والعشِّ الزوجي وأولاد المستقبل، ومن هنا جاء الشرع المقدَّس ليفرض علىٰ الزوج أن يُوفِّر لها جميع ما تحتاج إليه من ملبس ومسكن ومأكل وأدوات تجمُّل وعلاج مرض وما شابه، فالرجال قوّامون علىٰ النساء، والمرأة ملكة بيتها.

ولكن نجد في الحياة اليوم من قَلَبَ تلك المعادلة، وصار هو كلّاً علىٰ زوجته، فرضي لها أن تعمل وتكدَّ، وهو جالس يقضي وقته بمشاهدة مباريات كرة القدم، أو يقتل وقته في جلسات سَمَر مع أصحاب العمر.

بل نجد البعض يفرض علىٰ زوجته ذلك، فيطالبها بأن تعمل لتُوفِّر لنفسها وله مصروفاً يومياً.

ص: 52


1- ثواب الأعمال للصدوق: 282.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 19/ ح 4972.

والأنكىٰ من ذلك، أنَّ بعض الفتيات قد تساعد الأزواج علىٰ استغلالها، فهي ترفض كلَّ من يتقدَّم إليها ليتزوَّجها بحجَّة أنَّها تريد إكمال دراستها والحصول علىٰ وظيفة تدرُّ عليها مرتَّباً شهرياً، فهي بذلك تُمهِّد الطريق لاستغلالها من قِبَل زوج ضعيف النفس، وتناست أنَّ المفروض شرعاً وعقلاً وعرفاً أن يُوفِّر لها زوجها كلَّ ما تحتاج إليه.

وممَّا يُؤسَف له أيضاً، ما نسمع به عن رجال استغلّوا طيبة نفس أهل الزوجة، فتركوا الزوجة تعاني المرض والحاجة وربَّما حتَّىٰ الجوع، ليضطرَّ أهلها إلىٰ إرسال ما تحتاج إليه، فيصل إليه بالمجّان.

إنَّ الإسلام لا يمنع من عمل المرأة مع حفاظها علىٰ الحدود الشرعية، ولا يُحرِّم عليها إعانة زوجها، لكنَّه في الوقت نفسه أوجب نفقتها كلَّها علىٰ زوجها، حتَّىٰ لو كانت غنيَّة، ونحن نتكلَّم عن زوج قَلَبَ المعادلة، وصارت زوجته قوّامة عليه.

عيبٌ علىٰ رجل يتنازل عن رجولته، ويضطرُّ زوجتَه لتكفّف غيره.

عيبٌ عليه أن يجلس هو علىٰ أريكة في البيت، وزوجته تئنُّ من نصب العمل.

عيبٌ عليه أن يُعرِّضها لعيون ذئابٍ لم ترعو عن اختلاس نظرات خائنة لمحاسن زوجته.

عيبٌ عليه أن لا يكون هو رجل البيت والقوّام عليه.

علينا أن نعلم أنَّ الزوجة ملكة بيتها، وتربيتها لأولادها تربية صالحة تفوق أيَّ غنىٰ مادّي.

أن يرجع الزوج إلىٰ بيته، فتستقبله زوجته بوجه مستبشر بعد

ص: 53

طول التعب من العمل، لهي سعادة لا يحسُّ بها أُولئك الذين تنازلوا عن قوّامتهم علىٰ البيت، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف!

18- تجمّل الزوج لزوجته

إنَّ من أجمل العلاقات الإنسانية وأرقاها وأقدسِها هي علاقة الزوج بزوجته، تلك العلاقة التي تضفي جمالاً على الحياة، وسكناً وطمأنينة للروح.

وهي كغيرها من العلاقات، تحتاج إلىٰ مراعاة ومداراة لتدوم علىٰ أحسن ما يرام.

إنَّ من أهمِّ ما يجعل هذه العلاقة متجدِّدة بلون مخملي، هو أن يهتمَّ كلٌّ من الزوج والزوجة بمظهرهما اتِّجاه الآخر، ليس فقط حين الاقتراب من بعضهما، وإنَّما كلَّما نظر أحدهما إلىٰ الآخر، فأنْ تقع عين الزوج علىٰ ما يسرُّه من زوجته، وأنْ تقع عينها علىٰ ما يسرُّها منه، من أهمّ مغذيات تلك العلاقة.

وعادةً ما تكون المرأة ملتفتة ومهتمَّة بهذا الجانب كثيراً، فهي تعمل قدر الإمكان علىٰ التجمُّل في ملبسها وريحها ومنظرها، وكثرة أسواق موادِّ التجميل النسوية ورواجُها شاهد صدق علىٰ ذلك.

إلَّا أنَّه ومع الأسف، يعتبر بعض الرجال أنَّ التجمُّل مهمَّةُ النساء فقط، وأنَّه لا بأس به وإن أهمل تجمُّله، وإن ظهر لزوجته بمظهر غير لائق.

إنَّك تجد بعض الرجال يرجع من عمله ليدخل غرفة نومه من

ص: 54

دون أن يغتسل ليزيل رائحة التعرُّق من بدنه! أو أنَّه لا يُنظِّف أطراف أصابعه من بقايا وملحقات العمل!

حتَّىٰ إنَّ البعض قد يُهمِل إزالة الشعر الخشن عن مواضعه المعهودة!

البعض يطيل لحيته إلىٰ حدِّ الاشمئزاز، وقد لا يهتمُّ بتصفيف شعره أو بشراء عطر خاصٍّ بغرفة نومه ذي رائحة عطرة فوّاحة!

إنَّ هذه السلوكيات قد تتحمَّلها المرأة رغماً عنها، فإنَّها بالتالي أسيرة الزوج، ولكنَّها بلا شكٍّ تتمنّىٰ في داخلها غير ذلك، وحذارِ، أن تتمنّىٰ زوجتك أن تكون أنت بنفس مظهر زوج صديقتها!

ولقد كان أئمَّتنا (علیهم السلام) رغم زهدهم بكلِّ ملاذِّ الدنيا، لكنَّهم كانوا يعطون لزوجاتهم حقَّهُنَّ من التجمُّل.

عن الحسن الزيّات البصري، قال: دخلت علىٰ أبي جعفر (علیه السلام) أنا وصاحب لي، وإذا هو في بيت منجَّد (أي مزيَّن)، وعليه ملحفة وردية، وقد حفَّ لحيته واكتحل، فسألناه عن مسائل، فلمَّا قمنا قال لي: «يا حسن»، قلت: لبَّيك، قال: «إذا كان غدٌ فائتني أنت وصاحبك»، فقلت: نعم جُعلت فداك، فلمَّا كان من الغد دخلت عليه وإذا هو في بيت ليس فيه إلَّا حصير، وإذا عليه قميص غليظ، ثمّ أقبل علىٰ صاحبي فقال: «يا أخا أهل البصرة، إنَّك دخلت عليَّ أمسِ وأنا في بيت المرأة، وكان أمسِ يومَها، والبيت بيتها، والمتاع متاعها، فتزيَّنَتْ لي علىٰ أن أتزيَّن لها كما تزيَّنَتْ لي، فلا يدخل قلبَك شيء»، فقال له صاحبي: جُعلت فداك، قد كان والله دخل في قلبي شيء، فأمَّا الآن فقد والله أذهب الله ما كان، وعلمت أنَّ الحقَّ فيما قلتَ»(1).

ص: 55


1- الكافي للكليني 6: 448 و449/ باب لبس المعصفر/ ح 13.

وعن الحسن بن جهم، قال: رأيت أبا الحسن (علیه السلام) اختضب، فقلت: جُعلت فداك اختضبت، فقال: «نعم، إنَّ التهيئة ممَّا يزيد في عفَّة النساء، ولقد ترك النساءُ العفَّةَ بترك أزواجهنَّ التهيئة»، ثمّ قال: «أيسرُّك أن تراها علىٰ ما تراك عليه إذا كنتَ علىٰ غير تهيئة؟»، قلت: لا، قال: «فهو ذاك»، ثمّ قال: «من أخلاق الأنبياء التنظُّف والتطيُّب وحلق الشعر...»(1).

وفي رواية أُخرىٰ أنَّ الإمام الرضا (علیه السلام) قال له: «... أمَا علمت أنَّ في ذلك لأجراً؟ إنَّها تُحِبُّ أن ترىٰ منك مثلَ الذي تُحِبُّ أن ترىٰ منها في التهيئة، ولقد خرجْنَ نساءٌ من العفاف إلىٰ الفجور، ما أخرجهنَّ إلَّا قلَّةُ تهيُّئ أزواجهنَّ»(2).

19- نظافة وذوق

أطبق العقلاء بكلِّ أطيافهم وألوانهم علىٰ أنَّ من أهمّ فنون الحياة وأرقاها هي النظافة، تلك الصفة التي يبحث عنها الجميع في ملبسهم ومطعمهم ومسكنهم وفي كلِّ شيء، فأنت تُحِبُّ أن يكون جسمك نظيفاً، وطعامك نظيفاً، وملابسك نظيفةً، وتُحِبُّ أن تجلس في حديقة غنّاء نظيفة، وحتَّىٰ سيّارتك تُحِبُّ أن تكون نظيفة برّاقة.

ولا شكَّ أنَّ نظافة الأشياء عموماً تضفي راحة نفسيةً علىٰ المرء، تجعله يحسُّ بالاسترخاء والهدوء، وهذا أمر لا خلاف فيه.

ص: 56


1- الكافي للكليني 5: 567/ باب نوادر/ ح 50.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي: 81.

إلَّا أنَّه ورغم حاجتنا جميعاً إلىٰ النظافة، ورغم دعوتنا إليها بألسنتنا، إلَّا أنَّنا نجد البعض يتجاوز الأعراف والتقاليد والأحكام العقلائية والإنسانية، ليعمل علىٰ أن يكون شخصاً عديم المسؤولية تجاه النظافة.

أخي العزيز، عندما تأكل أنت وأطفالك طعاماً وأنت في سيّارتك، وترمون العلب الفارغة أو أكياس النفايات أو قشور الفواكه من النافذة، فعليك أن تراجع مستوىٰ ذوقك.

عندما ترمي أعقاب السكائر في سيارة أُجرة، أو في حديقة بيت صديقك، أو حتَّىٰ في حديقة بيتك، أو تضعها تحت سجّادة غرفة الاستقبال، فعليك أن تراجع حساباتك.

عندما تلقي نفايات بيتك أمام باب جارك، وعندما تغسل سيّارتك حيث تؤذي المارَّة، وحينما تفتح مجرىٰ ماء غُسالتك علىٰ الشارع، وحينما لا تُنظِّف الشارع من مخلَّفات موادِّ ترميم بيتك، وعندما تبصق أو تتنخَّم حيث يكون الناس، ففي ذلك كلِّه عليك أن تراجع نفسك، وأن تتَّخذ موقفاً يتناسب مع الذوق العامِّ، ومع حبِّ العاقل للنظافة.

وتذكَّر أن تُحِبَّ لأخيك ما تُحِبُّ لنفسك.

وأخيراً، علينا أن نقف بكلِّ إجلال لذلك العامل الذي يكنس الشوارع ويُنظِّفها، علينا أن ننحي له كلَّما انحنىٰ لرفع نفاية من النفايات.

لا تُسمّوه كنّاساً، ولا زبّالاً، إنَّه في الحقيقة من يُنظِّف الشارع من أوساخ الناس!

ص: 57

20- تتبُّع عيوب الآخرين

أوعد الله تعالىٰ من يتتبّع عيوب الناس ويعمل علىٰ فضحهم بالخزي والعذاب. فإنَّ تتبع عورات المؤمنين يعقبه التالي:

1 - الحرمان من مودّات القلوب: قال الإمام عليٌّ (علیه السلام): «من تتبَّع خفيات العيوب حُرِمَ مودّات القلوب»(1).

2 - إنَّ الله تعالىٰ سيفضحه كما يفضح هو الناس، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتَّىٰ يفضحه بها في بيته»(2).

وعن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلىٰ قلبه، لا تذمّوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنَّه من تتبَّع عوراتهم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله تعالىٰ عورته يفضحه ولو في بيته»(3).

وعن محمّد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنَّ من تتبَّع عثرات أخيه تتبَّع الله عثراته، ومن تتبَّع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته»(4).

وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام)، قال: «من بحث عن أسرار غيره أظهر الله

ص: 58


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 436.
2- سنن ابن ماجة 2: 850/ ح 2546.
3- الكافي للكليني 2: 354/ باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم/ ح 2.
4- الكافي للكليني 2: 355/ باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم/ ح 5.

أسراره»(1)، وعنه (علیه السلام)، قال: «من تتبَّع عورات الناس كشف الله عورته»(2).

3 - أنَّ ذلك ربَّما يرجع علىٰ الفرد نفسه، فإنَّ القاعدة الفيزيائية التي تقول: (لكلِّ فعل ردُّ فعلٍ مساوٍ له بالقوَّة ومعاكس له بالاتِّجاه) ربَّما تجري هنا، فعن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم»(3).

وعن الفضل بن أبي قُرَّة، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لمَّا أقام العالم الجدار أوحىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلىٰ موسىٰ (علیه السلام): إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر، لا تزنوا فتزني نساؤكم، ومن وطئ فراش امرئ مسلم وُطِئَ فراشه، كما تَدين تُدان»(4).

وبدلاً من تتبُّع عيوب الآخرين، علىٰ كلِّ واحد منّا أن يتتبَّع عيوب نفسه، ليعمل علىٰ علاجها، ولا يكن كمن يرىٰ القذىٰ في عين غيره ولا يرىٰ الجذع في عينه، وعلينا أن نتذكَّر قوله تعالىٰ: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ (الإسراء: 36).

21- الكذبة البيضاء أو الكُذيبة

يشتهي البعض أن يُقسِّم الكذب إلىٰ كذب أبيض وآخر أسود،

ص: 59


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 436.
2- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 438.
3- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 19/ ح 4973.
4- الكافي للكليني 5: 553/ باب إنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 1.

وأنَّ الكذبة البيضاء لا ضير فيها، وقد يُقسِّمه إلىٰ كذب وكُذيبة، والكُذيبة لا ضير فيها، مستنداً في ذلك إلىٰ أنَّ بعض الكلمات التي تصدر كذباً ليس وراءها ضرر، أو أنَّه كذب عفواً ومن دون قصد، أو أنَّه تعود الكذب في حالة ما، وما شابه هذه الأعذار. ويدخل ضمن هذا السياق ما يُسمّىٰ بكذبة نيسان، التي يُروِّج لها الإعلام كلَّ عام، ومن دون مبرِّر عقلائي سوىٰ تقليد الغرب في تلك الكذبة!

ولكنَّه تقسيم تبرُّعي لا تشهد له آية ولا رواية، وعموم أدلَّة تحريم الكذب يشمل ما يُسمّىٰ بالكذبة البيضاء أو الكُذيبة.

روي عن أسماء بنت عميس أنَّها قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيَّأتها وأدخلتها علىٰ رسول الله 0 ومعي نسوة، قالت: فوَالله ما وجدنا عنده قرىٰ إلَّا قدحاً من لبن، قالت: فشرب ثمّ ناوله عائشة، فاستحيت الجارية، فقلنا: لا تردّي يدَّ رسول الله 0 خذي منه، فأخذته علىٰ حياء فشربت منه، ثمّ قال: «ناولي صواحبكِ»، فقلنا: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعنَّ جوعاً وكذباً»، قالت: فقلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يُعَدُّ ذلك كذّاباً؟ قال: «إنَّ الكذب ليكتب كذباً حتَّىٰ تُكتَب الكُذيبة كُذيبة»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه أتاه مولىٰ له فسلَّم عليه ومعه ابنه إسماعيل فسلَّم عليه وجلس، فلمَّا انصرف أبو عبد الله (علیه السلام) انصرف معه الرجل، فلمَّا انتهىٰ أبو عبد الله (علیه السلام) إلىٰ باب داره دخل وترك الرجل، وقال له ابنه إسماعيل: يا أبه، ألَا كنت عرضت عليه الدخول؟

ص: 60


1- مسند أحمد بن حنبل 6: 438.

فقال: «لم يكن من شأني إدخاله»، قال: فهو لم يكن يدخل، قال: «يا بنيَّ، إنّي أكره أن يكتبني الله عرّاضاً»(1).

22- خلف الوعد

عادة سيِّئة، يمقتها الجميع, ولكن قد يبتلي بها الكثير مع الأسف.

خذ مثلاً رجلاً يخرج صباحاً إلىٰ عمله، سيتعلَّق به ولده يريده أن يأخذه معه، فيعده بأنَّه إذا بقي سيجلب له كرة قدم أو لعبة يُحِبُّها، ويرجع الولد بخفيِّ حنين! فلا يرىٰ من أبيه إلَّا الكذب وخلف الوعد.

قد يَعد رجل صاحبه بأنَّه سيزوره في بيته إذا وصل إلىٰ المدينة التي يسكنها، ولكنَّه سيمرُّ علىٰ بيته وكأن شيئاً لم يكن.

المرأة وحتَّىٰ تُسكِت ولدها تقول له: دعني أنام قليلاً وعندما أستيقظ سأعطيك حلوىٰ! وتنام وتستيقظ، والولد يغفو علىٰ زيف الوعود المداف في عسل الكلام!

عن عبد الله بن عامر أنَّه قال: أتانا رسول الله 0 في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أُمّي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال رسول الله 0: «وما أردتِ أن تُعطيه؟»، قالت: أُعطيه تمراً، قال: فقال رسول الله 0: «أمَا إنَّك لو لم تفعلي كُتِبَت عليكِ كذبة»(2).

وعن عبد الله بن محمّد البجلي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا

ص: 61


1- المحاسن للبرقي 2: 417/ ح 180.
2- مسند أحمد بن حنبل 3: 447.

لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «المنع الجميل أحسن من الوعد الطويل»(2).

وعنه (علیه السلام): «لا تَعد ما تعجز عن الوفاء به»(3).

23- النظرة الأولى والثانية

لا يغرَّك ما تسمع من أنَّ النظرة الأُولىٰ لك والثانية عليك، فليس هكذا تؤكل الكتف، فإنَّ معنىٰ النظرة الأُولىٰ هي النظرة غير المقصودة، أو التي قُصِدَ منها شيء غير الريبة والتلذُّذ، وإلَّا فهي محرَّمة.

إنَّ الظاهر أنَّ المقصود بالقول المذكور هو التفريق بين النظرتين من حيث الأُولىٰ اتِّفاقية عابرة فتكون بريئة، ولا يُقصَد بها التلذُّذ الشهوي، بخلاف الثانية فإنَّها تكون مقصودة وهادفة طبعاً، فتقترن بنوع من التلذُّذ، وبذلك تكون خسارة، ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفىٰ بها لصاحبها فتنة»(4).

وكيفما كان، فمن الواضح أنَّ القول المذكور ليس في مقام تحديد النظر السائغ علىٰ أساس العدد بحيث يعني تجويز النظرة الأُولىٰ وإن كانت هادفة وغير بريئة في أوَّل حدوثها، أو انقلبت إلىٰ ذلك في حالة

ص: 62


1- الكافي للكليني 6: 49/ باب برِّ الأولاد/ ح 3.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 67.
3- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 517.
4- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 18/ ح 4970.

بقائها واستمرارها، لأنَّ الناظر لا تطاوعه نفسه من غمض النظر عن المنظور إليها، وتحريم النظرة الثانية وإن كانت للحظة واحدة بلا تلذُّذ أصلاً(1).

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «النظر[ة] سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله (عزوجلّ) لا لغيره أعقبه الله إيماناً يجد طعمه»(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «اشتدَّ غضب الله (عزوجلّ) علىٰ امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها»(4).

وينبغي الالتفات إلىٰ عدم جواز نظر المرأة إلىٰ ما لا يتعارف كشفه عند الرجال، فنُنبِّه إلىٰ حرمة مشاهدة المرأة لما يُسمّىٰ بالمصارعة الحرَّة، حيث يظهر كلُّ جسم الرجل إلَّا العورة بالمعنىٰ الأخصّ. وهكذا بعض الألعاب الرياضية التي يكشف فيها اللاعب عن الأعضاء التي يحرم علىٰ المرأة مشاهدتها(5).

ص: 63


1- الفقه للمغتربين للسيِّد السيستاني (دام ظلُّه): 285 و286.
2- الكافي للكليني 5: 559/ باب نوادر/ ح 12.
3- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 18/ ح 4969.
4- أعلام الدين للديلمي: 418.
5- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني 3: 12/ مسألة 15: (يحرم علىٰ المرأة النظر إلىٰ بدن الرجل الأجنبي بتلذُّذ شهوي أو مع الريبة، بل الأحوط لزوماً أن لا تنظر إلىٰ غير ما جرت السيرة علىٰ عدم الالتزام بستره كالرأس واليدين والقدمين ونحوها وإن كان بلا تلذُّذ شهوي ولا ريبة، وأمَّا نظرها إلىٰ هذه المواضع من بدنه من دون ريبة ولا تلذُّذ شهوي فالظاهر جوازه، وإن كان الأحوط تركه أيضاً).

ومن هذا المنطلق ينبغي تنبيه الرجال أن يحترموا مشاعر المرأة وحرمتها، فلا يمش أخو الزوج أمام زوجة أخيه بالسروال الداخلي أو بقميص يُظهِر صدره وكتفيه فضلاً عن كلِّ يديه.

24- اليمين الغموس

وهي القَسَم كاذباً علىٰ شيء مضىٰ أو الإخبار بشيء في الحال، كأن يقول: والله لقد فعلت كذا، مع أنَّه لم يفعله، أو يقول: أُقسم بالله أنَّ المال الفلاني هو لي، مع أنَّه يعلم أنَّه ليس ماله. وقد سُمّي هذا القسم في الروايات ب- (اليمين الغموس)، أي اليمين التي تأخذ صاحبها إلىٰ جهنَّم، وتُسمّىٰ أيضاً: اليمين الكاذبة، واليمين الحالقة، فكما أنَّ الشفرة تقتلع الشعر عن البدن، فهذا القسم يقتلع الدين عن صاحبه(1).

قد يأخذ المرء شيئاً ليس له بيمين كاذبة، وقد يتخلَّص من موقف محرج بها، وقد يُمرِّر خديعة علىٰ مغفَّل بها، وقد يُثبِت قوله من دون دليل بها، ولكنَّه لا يعلم أنَّه بذلك يخسر دينه وإيمانه!

روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من حلف علىٰ يمين وهو يعلم أنَّه كاذب فقد بارز الله بالمحاربة، وإنَّ اليمين الكاذبة تذر الديار بلاقع من أهلها، وتورث الفقر في العقب، وإنَّه لا يعرف عظمة الله من يحلف به كاذباً»(2).

روي أنَّه اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلىٰ رسول

ص: 64


1- الذنوب الكبيرة لدستغيب 1: 261.
2- أعلام الدين للديلمي: 402.

الله (صلی الله علیه و آله) في أرض، فقال: «ألك بيِّنة؟»، قال: لا، قال: «فيمينه؟»، قال: إذن والله يذهب بأرضي، قال: «إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممَّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يُزكّيه، وله عذاب أليم»، قال: ففزع الرجل، وردَّها إليه»(1).

فابتعد عن اليمين، صادقه وكاذبه، فإنَّ الله تعالىٰ يقول: ﴿لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ﴾ (البقرة: 224).

هذا وقد ورد الثواب العظيم علىٰ ترك اليمين رغم أنَّه كان بالإمكان استنقاذ الحقِّ به وهو صادق فيه، فقد روي عن عبد الحميد الطائي، عن أبي الحسن الأوَّل (علیه السلام)، قال: قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «من قدَّم غريماً إلىٰ السلطان يستحلفه وهو يعلم أنَّه يحلف ثمّ تركه تعظيماً لله (عزوجلّ) لم يرضَ الله له بمنزلة يوم القيامة إلَّا منزلة إبراهيم خليل الرحمن»(2).

وعن أبي بصير، قال: حدَّثني أبو جعفر (علیه السلام) «أنَّ أباه كان تحته امرأة من الخوارج أظنُّه قال: من بني حنيفة، فقال له مولىٰ له: يا ابن رسول الله، إنَّ عندك امرأة تبرأ من جدِّك، فقضي لأبي أن طلَّقها، فادَّعت عليه صداقها، فجائت به إلىٰ أمير المدينة تستعديه، فقال له أمير المدينة: يا عليُّ، إمَّا أن تحلف وإمَّا أن تُعطيها [حقَّها]، فقال لي: يا بنيَّ، قم فاعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبه، جُعلت فداك، ألستَ محقّاً؟ قال: بلىٰ يا بنيَّ، ولكنّي أجللت الله أن أحلف به يمين صبر»(3).

ص: 65


1- أمالي الطوسي: 358 / ح (744/84).
2- ثواب الأعمال للصدوق: 130.
3- الكافي للكليني 7: 435/ باب اليمين الكاذبة/ ح 5.

25- الرفق

إنَّ من أهمّ الصفات الأخلاقية التي ينبغي للمؤمن أن يلتزم بها هي صفة الرفق، تلك الصفة التي تجذب الآخر رغم أنَّك تقرعه علىٰ خطئه لكن برفق، وتلك التي تجعل حتَّىٰ العدوّ يعترف لك بالفضيلة إذا كنت رفيقاً به في ساعة العسرة.

إنَّها من أهمّ الصفات التي علينا التزامها إذا ما أردنا أن نعظ غيرنا بموعظة، أو ننهاه عن خطأ يمارسه، أو عن سلوك سلبي يقوم به.

تخيَّل لو رأيت شخصاً لم يقم للصلاة، وجئت له وقلت له: يا كافر، يا فاجر، أنت من كلاب جهنَّم، أنت أشبه باليهود والنصارىٰ، أنت أنجس من الخنزير...

يا لله، لا أستطيع أن أتصوَّر ردَّة الفعل التي سيواجهك بها، وأعتقد أنَّه سيرحمك كثيراً إذا اكتفىٰ منك بضربة كفٍّ مضمومة الأصابع كوكزة موسىٰ للقبطي!

ولكن تخيَّل معي لو جئت له وقلت: أنت تعلم يا أخي أنَّ الصلاة عمود الدين، إن قُبِلَت قُبِلَ ما سواها، وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها، وهي قربان كلِّ تقي، وأنا أتوسَّم فيك خيراً كثيراً، وأرىٰ ملامح التقىٰ بادية علىٰ وجهك، فهلَّا قمت معي لنُصلّي هذه الركيعات التي ستجيئك نوراً يضيء لك قبرك، والتي ستعبر بك الصراط كالبرق الخاطف...

أنا متأكد أنَّه حتَّىٰ لو لم يقم يُصلّي معك، فإنَّه سيردُّ عليك ردّاً رفيقاً، وستبقىٰ كلماتك ناقوساً يدقُّ في قلبه، وستبقىٰ محترماً وكبيراً في عينه، وسيُظهِر لك الاحترام في أيِّ مكان يراك فيه.

ص: 66

إذن، كما أن من المهم أمر الآخر بالمعروف، كذلك هو مهمّ الأُسلوب المناسب الذي تتَّخذه معه.

عن عبد العزيز القراطيسي، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «يا عبد العزيز، إنَّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُّلَّم يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست علىٰ شيء، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ العاشر، فلا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمناً فعليه جبره»(1).

وفي رواية أُخرىٰ: «... وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبد العزيز، لا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلىٰ درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره، فإنَّه من كسر مؤمناً فعليه جبره، لأنَّك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل(2) فسخته»(3).

نعم، لا ننكر أنَّ الإسلام أمرنا أن نلقىٰ أصحاب المعاصي بوجوه مكفهرَّة، ولكن من الواضح جدّاً أنَّ المقصود هم من لا يأتمرون بمعروف ولا يتناهون عن منكر بالتجربة والشواهد المتكرِّرة، وإلَّا هل يُعقَل أنَّ الإسلام يريد منّا هذا الأُسلوب مع كلِّ أحد رأيناه علىٰ خطأ حتَّىٰ إذا كان يسمع الكلام ويتَّعظ منه!؟

ص: 67


1- الكافي للكليني 2: 45/ باب آخر من درجات الإيمان/ ح 2.
2- الفصيل ولد الناقة أو البقر إذا فُصِلَ عن اللبن، والبازل من الإبل الذي تمَّ ثماني سنين ودخل في التاسعة. (من المصدر).
3- الخصال للصدوق: 448/ ح 49.

ولذلك كان من أهمّ صفات رسولنا الأعظم (صلی الله علیه و آله) هي الرفق، يقول تعالىٰ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 159﴾ (آل عمران: 159).

ولنتذكَّر: نحن نُحِبُّ أن يعاملنا الله تعالىٰ برفق، فلنتعامل بالرفق مع خلق الله (عزوجلّ) .

وأنَّ الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) يقول: «إنَّ الرفق لم يُوضَع علىٰ شيء إلَّا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلَّا شانه»(1).

26- الكناية أبلغ من التصريح

كرامة الإنسان محفوظة في الإسلام في كلِّ الحالات، فلا ينبغي لمؤمن أن يُذِلَّ آخر أبداً، ولذلك فمن المبادئ الأخلاقية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو اتِّخاذ طريق الكناية ما وجدت إليه سبيلاً، فإنَّه في الوقت الذي يحفظ كرامة الآخر، سيكون أكثر وقعاً في قلبه، وسوف لن تخسر مكانتك في قلبه، ممَّا يعني زيادة قوَّة احتمال تأثيرك فيه.

روي أنَّه كان النبيُّ (صلی الله علیه و آله) إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟»(2).

ففي الوقت الذي يخالفون فيه أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنَّه (صلی الله علیه و آله) يُنبِّههم علىٰ خطئهم لكن بأُسلوب كنائي لطيف.

ص: 68


1- الكافي للكليني 2: 119/ باب الرفق/ ح 6.
2- سنن أبي داود 2: 434/ ح 4788.

عن خوات بن جبير، قال: نزلنا مع رسول الله 0 مر الظهران، قال: فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي، فاستخرجت منها حلَّة فلبستها وجئت فجلست معهنَّ، وخرج رسول الله 0 من قبَّته، فقال: «أبا عبد الله، ما يُجلِسك معهنَّ؟»، فلمَّا رأيت رسول الله 0 هبته واختلطت، قلت: يا رسول الله، جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيداً، فمضىٰ...، وتوضَّأ فأقبل والماء يسيل من لحيته علىٰ صدره - أو قال: يقطر من لحيته علىٰ صدره -، فقال: «أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟»، ثمّ ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلَّا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فلمَّا رأيت ذلك تعجَّلت إلىٰ المدينة واجتنبت المسجد والمجالسة إلىٰ النبيِّ 0، فلمَّا طال ذلك تحيَّنت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد، فقمت أُصلّي، وخرج رسول الله 0 من بعض حجره فجأةً، فصلّىٰ ركعتين خفيفتين، وطوَّلت رجاءً أن يذهب ويدعني، فقال: «المريض أبا عبد الله، ما شئت أن تُطوِّل فلست قائماً حتَّىٰ تنصرف»، فقلت في نفسي: والله لأعتذرنَّ إلىٰ رسول الله 0 ولأُبرِّئَنَّ صدره. فلمَّا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فقلت: والذي بعثك بالحقِّ، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم، فقال: «رحمك الله» ثلاثاً، ثمّ لم يعد لشيء ممَّا كان(1).

وعن عبد الله بن أبي بكر، قال: قمت إلىٰ متوضَّأ لي، فسمعت جارية لجارٍ لي تُغنّي وتضرب، فبقيت ساعة أسمع، قال: ثمّ خرجت،

ص: 69


1- المعجم الكبير للطبراني 4: 203 و204.

فلمَّا أن كان الليل دخلت علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، فحين استقبلني قال:

«الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا، اجتنبوا قول الزور»، قال: فما زال يقول: «الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا»، قال: فضاق بي المجلس وعلمت أنَّه يعنيني...(1).

27- وقت ضائع

كثيراً ما كنت أسأل الشباب: ماذا يعني وقت الفراغ؟ فكانوا يذكرون مصاديق لما يعتقدون أنَّه وقت فراغ، ولكن الحقيقة أنَّ ما كانوا يذكرونه من أمثلة لا تُمثِّل وقت فراغ، إذ إنَّه لا فراغ في الحقيقة، نعم، ما ذكروه - وهو الواقع - يُمثِّل أوقاتاً ضائعة، لم يستفد منها المرء لا لدنياه ولا لآخرته.

وأمثلة الأوقات الضائعة كثيرة جدّاً، نذكر منها:

1 - أوقات الانتظار، كانتظار دورك عند طبيب الأسنان، أو في الدوائر الرسمية، أو في المطار، أو عند الحلّاق، أو عند انتظار أن يُكمِل الميكانيكي تصليح سيّارتك، وكانتظار إشارة المرور، وحتَّىٰ انتظار أن يجيئك النادل بالطعام عندما تُقرِّر الأكل في مطعم.

2 - اللعب غير المبرمج، فاللعب مطلوب وضروري خصوصاً للأطفال، ولكن في بعض الأحيان يتحوَّل وقت اللعب إلىٰ وقت ضائع، كالجلوس ساعات طويلة عند ألعاب الكمبيوتر وألعاب ال- (Playstation)، وكقضاء أوقات طويلة في لعب كرة القدم، أو الجلوس في النوادي والمقاهي الرياضية لفترات طويلة، وغيرها كثير.

ص: 70


1- أمالي الطوسي: 720 و721/ ح (1519/3).

3 - الاجتماعات الفارغة، فأنت لا بدَّ أن تجلس مع أصدقائك، ولكن عادةً ما تكون الأحاديث غير مسؤولة، ولاهية، قد يتكلَّم الأصدقاء لساعات طويلة ولكن لا فائدة يرجونها سوىٰ قضاء - والأصحّ هدر وقتل - الوقت.

وهكذا يجلس الرجل مع ضيفه لأوقات طويلة، وربَّما قضوا جُلَّ وقتهم في (الصفنات).

4 - المشي غير المبرَّر، فكثيراً ما تجد بعض الشباب وبحجَّة رياضة المشي يقضون أوقات كثيرة في (قياس مسافات الشوارع) وأنظارهم تتساقط علىٰ أشياء من دون فكر.

5 - أوقات السفر، فمثلاً قد تقود السيارة أنت لمسافات طويلة، أو قد تسافر لمسافات طويلة، وقد يكون السفر لمسافة قليلة تقضي فيه ربع ساعة مثلاً، هناك أُناس يسافرون بواسطة البواخر ليخوضوا غمار البحار لأيّام عديدة، وعادةً ما يقضي المرء السفر من دون فائدة، فتجد عيونه تنظر بلا اعتبار، وسمعه غير مشغول إلَّا بصوت حفيف الهواء وضجيج مكائن وسيلة النقل، أو يقضيها - في أفضل الحالات - نائماً، أو غيرها من الأُمور التي لا ترجع بفائدة للمرء - إذا استثنينا النوم فقد يرجع بالراحة للمرء -.

6 - الاتِّصالات الهاتفية، وهذه الأُخرىٰ قد تأخذ منك وقتاً كثيراً من دون أن تشعر، ولا أقصد كلَّ الاتِّصالات، بل كثير منها يأخذ وقتاً أكثر من الوقت الكافي، وهكذا قد يتَّصل عليك شخص في وقت راحتك، أو في وقت انهماكك بعمل مهمٍّ، والحال أنَّ الاتِّصالات غير المبرَّرة تأخذ وقتك وجهدك، ومالك.

ص: 71

7 - مشاهدة التلفاز، وهذا أيضاً من أكبر مضيعات الوقت في العصر الراهن. لا مانع أن يشاهد أحدهم التلفاز، كأن يشاهد مباراة كرة قدم، أو فيلماً ما، أو برنامجاً ما، لا مانع منه، وقد لا يكون في ذلك مضيعة للوقت، ولكنّي أُلفت النظر إلىٰ حالات يضيع فيها الوقت باعتراف الجميع، فمثلاً قد يكون أحد ما قد شاهد فيلماً عشرين مرَّة! إنَّه حفظ كلَّ أحداثه، ولكنَّه مع ذلك يشاهده للمرَّة الواحدة والعشرين! وقد يجلس بعضهم يشاهد مباراة كرة قدم لساعة متأخِّرة من الليل، رغم أنَّ امتحانات نهاية السنة تبدأ غداً، أو رغم أنَّه سيخرج للعمل باكراً، أو رغم أنَّه مريض ومحتاج إلىٰ النوم ليرتاح، إنَّه يضيع وقته وجهده وراحته من دون مبرِّر.

هناك الكثير من البرامج التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، ولم يُقصَد منها حين إنتاجها إلَّا إشغال الناس عن المهمِّ من عمرهم، عليك أن تنتبه لمثل هذه البرامج، وعليك أن تُميِّز، فكم هناك من أفلام أُنتجت من نسج الخيال، وكم هناك من مسلسلات بُذِلَ فيها ملايين الدولارات، وليس فيها إلَّا العنف، والهمجية باسم الحرّية، وإطلاق العنان للغرائز، وتبرير الجريمة والسلوك المنحرف، وغيرها كثير.

لاحظ، هل بإمكانك أن تغلق التلفاز ليوم كامل!؟ ولو مرَّة واحدة في الشهر!

جرِّب ذلك، وسترىٰ كيف سيعمُّ الهدوء البيت ذلك اليوم، من ضجيج التلفاز الذي صارت أدمغتنا مشوَّشة بسببه!

جرِّب، وسترىٰ الفرق، أعدك بذلك.

8 - في بعض الأحيان، يقوم الإنسان بعمل ما، وكان باستطاعته أن

ص: 72

يستغلَّ نفس وقت العمل بأداء عمل آخر مفيد، ولكنَّه لا يستغلُّ ذلك، فمثلاً قدتقضي المرأة وقتاً طويلاً كلَّ يوم في مطبخها، وهي بذلك تؤدّي عملاً عظيماً عندما يأكل من يدها أفراد عائلتها، ولكن كان لها أن تستغلَّ ساعات الطبخ بعمل آخر مفيد لها، كما لو كانت قد وضعت جهاز راديو قريباً منها لتستمع إلىٰ برامج مفيدة، أو كان بإمكانها أن تجري اتِّصالاً هاتفياً أثناء الطبخ، فلا يأخذ وقتاً آخر من وقتها، أو غيرها من الأُمور.

هل تعلم كم تقضي من وقتك في بيت الأدب (بيت الخلاء)؟ ربَّما تقضي كلَّ يوم خمس دقائق علىٰ أقلّ التقديرات، أنت تقوم بعمل مهمٍّ لجسمك، ولكن هل تعلم أنَّ بإمكانك أن تستغلَّ هذه الدقائق في عمل مفيد! لا تستغرب، فقد نقل بعضهم أنَّهم في اليابان قد وضعوا مكتبة تحوي كتيِّبات صغيرة لمن يجلس في بيت الأدب، فله أن يستغلَّ هذه الدقائق في قراءة صفحتين أو ثلاثة من كتيب! وقد نقل أحدهم ممَّن نجحوا في إدارة وقتهم أنَّه كثيراً ما استطاع أن يقرأ الكتب خلال فترات قضاء الحاجة.

لاحظ، أنَّ هناك أوقاتاً صغيرة في حجمها، نحن نغفلها ولا نلتفت إليها، ولكنَّها لو جُمِعَت لكانت وقتاً كبيراً سيتحسَّر المرء في يوم ما علىٰ هدره من دون مبرِّر.

28- خلافات ساذجة

تعصف بالعالم اليومَ الكثيرُ من المشاكل والخلافات بين الدول والشعوب، تلك الخلافات التي جرَّت الحروب والويلات ونقص الأموال والأنفس وسلب الهدوء والأمن.

ص: 73

وفي نفس الوقت، نجد أنَّ هناك الكثيرَ من الخلافات التي تعصف بالبيوت الصغيرة، لتحوّلها إلىٰ أشبه بقنبلة موقوتة تنفجر لأدنىٰ اهتزاز أو حركة.

إنَّ بيوتنا اليوم مليئة بمشاكل هي في الحقيقة تصرُّفات ساذجة وغير مسؤولة، ولو فكَّر الإنسان بعقله فيها لوجد أنَّها لا تستحقُّ أن يهدر وقته وجهده ويرفع ضغط دمه من أجلها.

هناك أُمٌّ حكمت علىٰ ولدها بأنَّه اتَّخذ من زوجته قبلة يعبدها، وما ذاك إلَّا لأنَّه اشترىٰ لها ثوباً جديداً أو أخذها بنفسه لمراجعة طبيب، أخي العزيز، لا تنسَ والدتك بثوب جديد لها أيضاً.

وهناك زوجة أعلنت عدم رضاها بالحال التي هي عليها، لأنَّ أُمَّ الزوج تحتاج إلىٰ مداراة معيَّنة في الطعام لأنَّها مريضة بالسُّكري أو بارتفاع ضغط الدم.

ولدٌ هجر بيت أبيه وفرَّ هارباً، لأنَّ أباه لم يسمح له بالزواج من إحدىٰ بائعات الهوىٰ ومطيعات الشهوات.

بنت أقامت علاقة مشبوهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأنَّها تحتاج إلىٰ الحنان!

صبيٌّ لم يبلغ الحلم، يشكو لأترابه سوء خُلُق أبيه الذي منعه من الخروج لساعة متأخِّرة من الليل أو لأنَّه لم يشتر له هاتفاً نقّالاً حديثاً.

والدٌ يتبرَّم كثيراً ويحكم علىٰ ولده بالعقوق، لأنَّه اعتذر من حضوره جلسة الأقارب لانشغاله بامتحانات دراسته.

زوجة تلبس وجهها بالمقلوب، لأنَّها رأت زوجها ابتسم وهو يقرأ رسالة في جوّاله، وذهبت إلىٰ أكثر من هذا بكثير، ممَّا تعرفه مثل تلك الزوجة من النساء!

ص: 74

وزوج ضاق صدره واختنق، لأنَّه رأىٰ زوجته تتَّصل بأُمِّها وتضاحكها!

أبٌ يُزوِّج ولده رغماً عنه من فتاة لا يهواها، وفتاة أُرغمت علىٰ الزواج بابن عمِّها الذي لا يتمتَّع بأيِّ صفة تجعل من النساء تهواه زوجاً وأباً لأولادها.

ولدٌ أحبَّ أن يخرج في بيت هو وأطفاله الذين بلغوا الستَّة، لأنَّه أحسَّ بمضايقة أخيه الآخر الذي تجاوز عدد أطفاله الأربعة، فضلاً عن تكلُّف زوجتيهما الحجاب الخانق في حرِّ الصيف. ولكن أباه أو أُمَّه رفضا ذلك أشدَّ الرفض، وحكما عليه وعلىٰ أطفاله وأطفال أخيه وزوجتيهما بالسجن في بيت ضيِّق مدىٰ حياة الوالدين، ليتحوَّل البيت إلىٰ مجموعة فِرَق متناحرة، ليعيشوا مشاكل غير متناهية.

إنَّ العاقل إذا حكَّم عقله قليلاً، لوجد أنَّ هذه الخلافات أهون وأرخص من أن تُشغِل البال، وهي أقرب إلىٰ التسويلات الشيطانية والرغبات اللامسؤولة منها إلىٰ المشاكل الحقيقية.

إنَّ عدم تجاوز هذه الخلافات الساذجة في الوقت المناسب، وبالتصرُّف المناسب، سيجعل الكثير من الناس يعيشون القلق والضجر، وسيحسّون بالندم القاتل في يوم من الأيّام، ولاتَ حين مندمِ.

29- سيطرة الأشياء

عندما خلق الله تبارك وتعالىٰ الكون، جعل الإنسان خليفة له فيه، وسخَّر له الأشياء كلَّها، وكان المفروض والحالة هذه أن يسيطر الإنسان علىٰ الأشياء في الكون، وأن يتحكَّم هو فيها، فيأخذ منها ما يريد ممَّا ينفعه، ويلقي ما لا يريده وما يضرُّه بعيداً عنه.

ص: 75

ولكن الزمان اليوم يشهد علىٰ العكس، فقد أصبحت الأشياء المحكومة متحكِّمةً، والممتلكات مالكةً، أصبح المال اليوم هو المالك للإنسان، فصار الإنسان حارساً عليه لا ينام، وكان المفروض أن يعمل المال علىٰ حراسة المرء، وصار هو الذي يقود الإنسان، وكان المفروض هو العكس.

اليوم، أصبحت الكثير من الأشياء التي كانت كماليات غير ضرورية، أصبحت أساسيات لا غنىٰ عنها، حتَّىٰ إنَّك إذا قست أثاث بيتك اليوم إلىٰ أثاث بيت جدِّك قبل خمسين سنة لوجدت ما يزيد علىٰ (95%) منها أُموراً زائدة، ولم يكن جدُّك ينقصه الراحة والصحَّة والأمن.

اليوم، صار الفرد مجنوناً في الاستهلاك، ولا يُفكِّر في الإنتاج إلَّا بأقلّ من الملح في الطعام، فكلُّ همّ الفرد أن يكون مستهلكاً أكثر من غيره، وعلىٰ مستويات عديدة، فالملابس ما كانت تُرمىٰ إلَّا بعد أن تُبلىٰ، وربَّما استفيد منها في شيء آخر بعد بلائها، واليوم صارت الملابس تُرمىٰ في سلَّة المهملات وهي ما زالت صالحة للاستعمال.

ومرض السيّارة الحديثة وما تحت الموديل أو تحت السنة الفعلية صار يقلق الكثير في مضاجعهم، وكم رأينا أُناساً تفتقر بيوتهم وربَّما نساؤهم إلىٰ ضروريات الحياة، ولكنَّهم أهلكوا أنفسهم بالعمل والديون من أجل أن يشتري سيّارة في عام إنتاجها!

اليوم، صارت مصروفات الرسوم والأصباغ والديكورات تفوق بكثير تكاليف أصل البناء في البيوت.

إنَّ هذه الكماليات أصبحت سبباً رئيسياً من أسباب تعقُّد الحياة

ص: 76

وصعوبتها، ورفع تكاليف العيش فيها، وبالتالي سبَّبت خوفاً من المستقبل، وقلقاً من الحاضر، وأصبح الفرد فيها لا يُفكِّر إلَّا في اللحاق بركب صحبته، وبرَّر من أجل ذلك الكثير من الأخطاء التي صدرت منه.

أمام هذا الواقع، لا بدَّ من وقفة تأمُّل، وعلىٰ الفرد أن يعرف قدر نفسه وأن يمدَّ رجليه علىٰ قدر لحافه كما يقال، وأن لا يجعل همَّه في مواكبة الأغنياء وتملُّك الكماليات وبهارج الدنيا، وتذكَّر: أنَّك ما جمعت من شيء أو أحببت (فإنَّك مفارقه)، ولن يبقَ منك إلَّا الذكر، فانظر كيف تُبقي ذكراك عند الناس.

وأخيراً، عليك أن تعمل علىٰ كبح نفسك عن جماحها، وأن تكفَّها عن بعض مطالبها، فإنَّه كما قيل:

والنفس كالطفل

إن تهمله شبَّ علىٰ

حبِّ الرضاع

وإن تفطمه ينفطمِ(1)

30- غياب الهدف الإلهي

كلُّ فعل يقوم به الإنسان - من قول لساني أو فعل فيزيائي خارجي أو فعل جانحي داخلي كالتفكير مثلاً - لا بدَّ أن يكون له هدف، ذلك الهدف هو المحرِّك الأقوىٰ في دفع الإنسان إليه، ولا مكان للأفعال العشوائية واللا هدفية في حياة الإنسان.

إنَّ قياس قيمة الفعل تعتمد في ما تعتمد عليه علىٰ الهدف الذي كان وراء الفعل، وهذا يعني أنَّ الفعل تزداد قيمته كلَّما كان الهدف منه

ص: 77


1- البيت من قصيدة البردة للبويصري، راجع: الخصائص الفاطمية للكجوري 1: 286.

سامياً، وأنَّ زيادة تسامي الهدف تزيد من قيمة الفعل. ولذلك يقول أميرالمؤمنين (علیه السلام): «النيَّة أساس العمل»(1).

وهذا الأمر يقبله الوجدان، ولا يحتاج إلىٰ برهان.

ومهما تسامت الأهداف، فلا أسمىٰ من الهدف الإلهي، فالفعل إذا كان يُقصَد منه اكتساب رضا الباري جلَّ وعلا سيكون فعلاً سامياً جدّاً، وستكون ثماره منافع مباركة للفرد والمجتمع، وهذا من الوضوح بمكان.

ولكنَّك تجد عصرنا اليوم يفتقر إلىٰ الدافع الإلهي والهدف السماوي، إنَّ كثيراً من الناس وضعت نصب أعينها الفائدة الشخصية، ولو علىٰ حساب المبدأ، ولو علىٰ حساب أرزاق الآخرين أو دمائهم.

(إنَّ النَّفَس العامَّ لواقعنا الحاضر هو نَفَس مادّي مصلحي نفعي، وإنَّ الإحساس بالهدف من هذا الوجود معدوم لدىٰ السواد الأعظم من صُنّاع الحضارة التي تُظلِّل عصرنا...)(2).

إنَّك تجد الكثير من الأغنياء، ممَّن لو أراد أن يأكل ماله لأطعمه بقيَّة حياته وجيلين من بعده، ولكنَّه مع ذلك تجده منهمكاً في العمل إلىٰ الحدِّ الذي يهمل فيه صحَّته، وأطفاله، وزوجته، وقراباته، وربَّما دينه.

إنَّك تجد معلِّماً يحمل صفة تربوية، ولكنَّه يبثُّ السموم في أذهان التلاميذ.

ربَّما تجد خطيباً يعتلي منابر المسلمين، ولكنَّه لا ينقل لهم الحقائق، بل يُزيِّفها عليهم ويُلبِس عليهم دينهم.

ص: 78


1- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 29.
2- العيش في الزمان الصعب لعبد الكريم بكار: 27.

هناك الكثير من الزوجات التي لا ترعىٰ في زوجها إلّاً ولا ذمَّةً، فتصرف وتخرج وتلبس من دون مبرِّر سوىٰ حبَّ الصرف والتبذير.

إنَّ استقراءً بسيطاً لأوضاع كثير من الناس يُنبِئنا بأنَّ الهدف الإلهي غائب في أفعالهم، وربَّما مات عندهم منذ زمن بعيد، وهذا مرض يعيشه الناس في هذا الزمن.

نحن لا نريد أن نذكر أسباب ذلك، بالقدر الذي يهمُّنا أن نُخرِج أنفسنا من هذه الدوّامة، فإنَّ الأسباب ربَّما تمتدُّ جذورها إلىٰ مئات السنين في عمق التاريخ، فربَّما يكون للكنيسة وتصرُّفاتها الطائشة دور في ذلك، ربَّما يكون للفكر المادّي الغربي والشرقي دخل فيه، ربَّما يكون للتربية الخاطئة يد طولىٰ فيه، ربَّما وربَّما، المهمُّ أن نحاول الخروج من أزمتنا هذه

فهل وصلت الرسالة!؟

* * *

ص: 79

ص: 80

القسم الثاني: ربيع القرآن

اشارة

ص: 81

ص: 82

1- ربيع القرآن

عندما تعيش سنة واحدة من عمرك، تمرُّ بك أربعة فصول، تختلف فيما بينها في صفاتها الجوّية، الأمر الذي ينعكس حتَّىٰ علىٰ نفسية الإنسان، ففي فصل الشتاء حيث تحسُّ ببرد قارص، فإنَّك تلبس ما يزيد من حرارة جسمك، ويحافظ عليها من البرد. إلَّا أنَّك تحاول أن تخلع حتَّىٰ جلدك، في أيّام الصيف الحارَّة. وفي فصل الخريف، حيث تتساقط الأوراق، وتذبل الورود، تحسُّ بأنَّ الكون منقبض علىٰ نفسه، وكأنَّه أُمٌّ ثكلىٰ فقدت وحيدها. ولكن، وعندما يُطِلُّ فصل الربيع بطلعته البهيَّة، تحسُّ وكأنَّ الكون في عرس وفرح، حيث تتناثر الورود في كلِّ مكان، وحيث تزغرد الطيور بصنوف الأصوات، وحيث يملأ الكونَ نسيمُ الرياح المعطَّر بريح الورود، فتنبسط النفس كأشدّ ما يكون الانبساط، وتنشرح الروح وترتاح.

وتأتينا الروايات الشريفة، لتقول بأنَّ لكلِّ شيء ساعة يحصل فيها هذا الانبساط، وهذا الانشراح، وهذه البركات، فمثلاً قيل بأنَّ الشتاء ربيع المؤمن، ذلك لأنَّ ليله طال فقام، ولأنَّ نهاره قصر فصام، فثمراته الإيجابية ترجع للمؤمن ولراحته البدنية والروحية، ولذلك كان ربيعاً للمؤمن.

فقد روي عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: سمعت

ص: 83

الصادق (علیه السلام) يقول: «الشتاء ربيع المؤمن، يطول فيه ليله فيستعين به علىٰ قيامه، ويقصر فيه نهاره فيستعين به علىٰ صيامه»(1).

فلكلِّ شيء ربيع، ومن بين تلك الأشياء هو القرآن.

روىٰ الشيخ الصدوق ; في كتابه (ثواب الأعمال) عن جابر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «لكلِّ شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان»(2).

إنَّ شهر رمضان المبارك، قد مُلِئَ من أوَّله إلىٰ آخره، بأنواع الخيرات والبركات، وكان فيما كان فيه، أنَّه صار ربيعاً للقرآن، أي إنَّ الثمرات الإيجابية المترتِّبة علىٰ قراءة القرآن الكريم فيه، هي من الكثرة والطيب والهناء بحيث يكون شهر رمضان له كالربيع من بين فصول السنة.

فهلمَّ بنا، نتلو آيات الكتاب الكريم، في هذا الشهر الفضيل، لنحصل في كلِّ آية نقرؤها فيها علىٰ ثواب من ختمه في غيره من الأشهر، وكما قال الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله): «من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور»(3).

2- من أسماء القرآن

(4)

ذكر العديد من المفسِّرين والباحثين العديد من الأسماء للقرآن الكريم، فالبعض عدَّ له ثلاثة وأربعين اسماً، والبعض خمسة وخمسين اسماً، بل قيل: إنَّ البعض عدَّ له أكثر من تسعين اسماً.

ص: 84


1- فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق: 111/ ح 105.
2- ثواب الأعمال للصدوق: 103.
3- أمالي الصدوق: 155/ ح (149/4).
4- راجع: معرفة القرآن علىٰ ضوء الكتاب والسُّنَّة للريشهري 1: 31 وما بعدها.

وأشهر تلك الأسماء هو (القرآن)، وهو اسمه الأصلي، وقد جاءت هذه الكلمة في القرآن بما يقرب من سبعين مرَّة، منها قوله تعالىٰ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىٰ لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَالْفُرْقانِ﴾ (البقرة: 185).

وقد اعتبر بعض العلماء أنَّ (القرآن) هو الاسم الوحيد لهذا الكتاب السماوي، وبقيَّة الأسماء إنَّما هي صفات له لا أسماء.

وقد اختلفوا في شأن معنىٰ هذه الكلمة هنا، بعد أن اتَّفقوا علىٰ أنَّها كلمة عربية من مادَّة (ق ر أ)، فالبعض قال: إنَّ القرآن من (قرأ) بمعنىٰ التلاوة، والبعض اعتبر أنَّها للدلالة علىٰ جمع القرآن، أي إنَّ الآيات والسور قد جُمِعَت كلُّها في القرآن.

ومن تلك الأسماء أو الصفات للقرآن الكريم هو (الفرقان)، قال تعالىٰ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً 1﴾ (الفرقان: 1). وأمَّا معناه، فقد قيل: إنَّه سُمّي بالفرقان لأنَّ الله تعالىٰ يُفرِّق به بين الحقِّ والباطل. وقيل: لأنَّ آياته وسوره نزلت متفرِّقة، خلافاً للكتب السماوية الأُخرىٰ التي نزلت دفعة واحدة. وقيل: إنَّ معناه خصوص المحكم التي يجب العمل بها من الآيات، في قبال القرآن الذي يشمل المحكم والمتشابه من القرآن.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّه لا منافاة بين هذه الوجوه الثلاثة.

ومن أسماء القرآن الكريم هو (الكتاب)، قال بعض الباحثين القرآنيين في سبب تسمية القرآن بالكتاب: إنَّ القرآن الكريم يجمع بشكل خاصٍّ وبليغ أنواع الآيات والأحكام والقصص والأخبار والعلوم، وما يناسب المعنىٰ اللغوي ل- (الكتاب) هو الجمع، وهذه

ص: 85

الكلمة تلتقي من حيث المعنىٰ مع كلمة القرآن التي تتضمَّن هي أيضاً معنىٰ الجمع، إلَّا أنَّ كلمة القرآن تشير إلىٰ شمولية الوحي المحمّدي بالنسبة لكتب الأنبياء السابقين أو العلوم، وكلمة (الكتاب) إلىٰ شمولية الكتاب الإلهي للآيات والأحكام والقصص والأخبار والعلوم.

ومن أسمائه (الذكر)، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9﴾ (الحجر: 9)، والذكر هنا بمعنىٰ المذكِّر، فالقرآن يُذكِّر المؤمن بكلِّ ما فيه نفع له ليلتزم به، ويُذكِّره ما يضرُّه ليبتعد عنه.

3- خصائص بعض السور

أوَّلاً: سورة الفاتحة

هي أُمُّ الكتاب، وفاتحته، وأكثر سوره بركةً ونفعاً، هي السبع آيات المثاني، أي ما يُقرَأ في الصلاة مثنىٰ مثنىٰ، وهي هي التي لا صلاة إلَّا بها.

وقد روي أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) قال لجابر: «ألَا أُعلِّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟»، قال: بلىٰ بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله علِّمْنيها، قال: فعلَّمه الحمد لله أُمَّ الكتاب، قال: ثمّ قال له: «يا جابر، ألَا أُخبرك عنها؟»، قال: بلىٰ بأبي أنت وأُمّي فأخبرني، قال: «هي شفاء من كلِّ داء إلَّا السام يعني الموت»(1).

ثانياً: سورة التوحيد

هي سورة الإخلاص، والتي تعدل قراءتها أجر قراءة ثلث

ص: 86


1- تفسير العيّاشي 1: 20/ ح 9.

القرآن، وهي التي ركَّزت علىٰ أصل التوحيد من بين أُصول الدين، وذكرت بعض الصفات الإلهيَّة المستأثرة، التي لم تكن إلَّا له جلَّ وعلا.

ولها الكثير من الخصائص، منها أنَّها من أسباب إجابة الدعاء، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ عشية عرفة ألف مرَّة، أعطاه الله (عزوجلّ) ما سأل»(1).

وهي من الأسباب الغيبية التي تدرُّ الرزق وتُسهِّل أُمور المعاش، فعن سهل بن سعد، قال: جاء رجل إلىٰ النبيِّ 0 فشكا إليه الفقر وضيق المعاش، فقال له رسول الله 0: «إذا دخلت بيتك فسلِّم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلِّم (عليَّ) واقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مرَّة واحدة»، ففعل الرجل، فأدرَّ الله عليه رزقاً حتَّىٰ أفاض علىٰ جيرانه»(2).

وهي حرزٌ عظيم من الشيطان الرجيم، ومن مواقعة الذنوب، فعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «من صلّىٰ صلاة الفجر ثمّ قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إحدىٰ عشرة مرَّة لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب وإن رغم أنف الشيطان»(3).

وهي خير حرزٍ أيضاً لمن أراد أن يسافر، فعن عليٍّ (علیه السلام)، عن رسول الله 0، قال: «من أراد سفرا فأخذ بعُضادتي منزله فقرأ إحدىٰ عشرة مرَّة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ كان الله تعالىٰ له حارساً حتَّىٰ يرجع»(4).

ثالثاً: آية الكرسي

هي الآية رقم (255) من سورة البقرة، وهي آية عظيمة، تحوي

ص: 87


1- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 1: 600/ ح 2737.
2- تفسير الثعلبي 10: 330 و331.
3- ثواب الأعمال للصدوق: 45.
4- الدُّرُّ المنثور للسيوطي 6: 412.

في كلماتها الكثير من المعارف والأسرار الإلهيَّة الربّانية، ولها فضل كبير كثير.

فهي سنام القرآن، والدافعة لمكر الشيطان وضرر الجانِّ، والراجعة علىٰ قارئها بالبركة والعافية، وهي التي تجعل من يتلوها عقب الصلاة في ذمَّة الباري جلَّ وعلا، وما خاب عبد كان في ذمَّة المعبود.

عن ابن مسعود، قال: قال رجل: يا رسول الله، علِّمني شيئاً ينفعني الله به، قال: «اقرأ آية الكرسي، فإنَّه يحفظك وذرّيتك، وحفظ دارك حتَّىٰ الدويرات حول دارك»(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «من قرأ آية الكرسي دبر كلِّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنَّة إلَّا الموت»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلىٰ الصلاة الأُخرىٰ»(3).

4- إعجاز القرآن

شاء الله تعالىٰ أن يُؤيِّد أنبياءه ورسله بما يدلُّ علىٰ صدق ارتباطهم بالسماء، وتثبت ذلك بما لا يقبل الشكَّ لجميع من يطلب الحقيقة، وهو ما يُسمّىٰ بالمعجزة، ومعجزة نبيِّنا الأكرم (صلی الله علیه و آله) هو القرآن الكريم.

إنَّ إعجازه الأوَّل والأشهر كان في بلاغته التي عجز عن مجاراتها

ص: 88


1- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2: 436/ ح 6064.
2- المعجم الكبير للطبراني 8: 114.
3- المعجم الكبير للطبراني 3: 83 و84/ ح 2733.

بلغاء العرب، بل اعترفوا بعجزهم عن الإتيان بآية واحدة مثله، لأنَّ الناس في ذلك الوقت كانوا يتبارون ويتسابقون بالتعبير البلاغي الأرقىٰ.

فقد ورد عن أبي يعقوب البغدادي، قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن (علیه السلام): لماذا بعث الله موسىٰ بن عمران (علیه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسىٰ بآلة الطبِّ؟ وبعث محمّداً صلّىٰ الله عليه وآله وعلىٰ جميع الأنبياء بالكلام والخُطَب؟

فقال أبو الحسن (علیه السلام): «إنَّ الله لمَّا بعث موسىٰ (علیه السلام) كان الغالب علىٰ أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجَّة عليهم. وإنَّ الله بعث عيسىٰ (علیه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات(1) واحتاج الناس إلىٰ الطبِّ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيىٰ لهم الموتىٰ، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجَّة عليهم. وإنَّ الله بعث محمّداً (صلی الله علیه و آله) في وقت كان الغالب علىٰ أهل عصره الخُطَب والكلام - وأظنُّه قال: الشعر -، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجَّة عليهم».

قال: فقال ابن السكّيت: تالله ما رأيت مثلك قطُّ...(2).

إنَّ أعظم بلغاء العرب، عندما كان يتأمَّل في آيات القرآن الكريم كان يقف عاجزاً، ويعترف بأنَّه فوق المستوىٰ الطبيعي للبشر.

ص: 89


1- الزمانات: الآفات الواردة علىٰ بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة كالفالج واللقوة، ويُطلَق المزمن علىٰ مرض طال زمانه. (من المصدر).
2- الكافي للكليني 1: 24 و25/ كتاب العقل والجهل/ ح 20.

عن هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفَّع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤن بالحاجِّ ويطعنون بالقرآن. فقال ابن أبي العوجاء: تعالَوا ننقض كلُّ واحد منّا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتَّفقوا علىٰ ذلك وافترقوا، فلمَّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمَّا أنا فمفكِّر منذ افترقنا في هذه الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]، فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر في ما سواها. فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73﴾ [الحجّ: 73]، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها. فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: 22]، لم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها. فقال ابن المقفَّع: يا قوم، إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَىٰ الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 44﴾ [هود: 44]، لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرَّ بهم جعفر بن محمّدالصادق (علیه السلام)، فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا

ص: 90

بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 88﴾ [الإسراء: 88]، فنظر القوم بعضهم إلىٰ بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة محمّد إلَّا إلىٰ جعفر بن محمّد، والله ما رأيناه قطُّ إلَّا هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرَّقوا مقرّين بالعجز(1).

5- جمعُ القرآن

تؤكِّد الروايات الشريفة أنَّ الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) كان كلَّما نزل عليه وحي من القرآن الكريم، أمر عليّاً بأن يكتبه، ليحفظه له وللمسلمين عموماً، فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «... وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكتّ عنه وفُنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) آية من القرآن إلَّا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يُعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا...»(2).

وقد كان جمعه للقرآن تنفيذاً لوصيَّة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) بأن يجمع القرآن ولا يدعه متفرِّقاً، فقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي وأوصاني أن إذا واريته في حفرته لا أخرج من بيتي حتَّىٰ أُؤلِّف كتاب الله، فإنَّه في جرايد النخل وفي أكتاف الإبل...»(3).

ص: 91


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 142 و143.
2- الكافي للكليني 1: 64/ باب اختلاف الحديث/ ح 1.
3- تفسير العيّاشي 2: 66/ ح 76.

وتنفيذاً لهذه الوصيَّة قال (علیه السلام): «لمَّا قُبِضَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقسمت - أو حلفت - أن لا أضع ردائي عن ظهري حتَّىٰ أجمع ما بين اللوحين، فما وضعت ردائي عن ظهري حتَّىٰ جمعت القرآن»(1).

لقد جمع أمير المؤمنين (علیه السلام) القرآن كما أنزله الله تعالىٰ علىٰ نبيِّه الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وفسَّره كما فسَّره له الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وكان فيه من العلوم ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ، ومن هنا، قال ابن الجزي في التسهيل: (وكان القرآن علىٰ عهد رسول الله 0 متفرِّقا في الصحف وفي صدور الرجال، فلمَّا توفّي رسول الله 0 قعد عليُّ بن أبي طالب 2 في بيته فجمعه علىٰ ترتيب نزوله، ولو وُجِدَ مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنَّه لم يوجد)(2).

وعن محمّد بن سيرين: (لو أُصيب ذلك الكتاب لوُجِدَ فيه علم كثير)(3).

6- من بركات القرآن

لا تجد كتاباً في هذه الدنيا أكثر بركةً ونفعاً للإنسانية كلِّها من القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي شاء الله تبارك وتعالىٰ أن يجعله خالداً إلىٰ يوم القيامة من دون أن تمسَّه يد التحريف، وهذه من أهمّ الميزات التي تميَّز بها القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية المنزلة.

ص: 92


1- المناقب للخوارزمي: 94/ ح 93.
2- التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي 1: 12.
3- الاستيعاب لابن عبد البرِّ 3: 974.

إنَّ من يجالس هذا الكتاب العظيم، فإنَّه لن يُعدَم الفائدة أبداً، فمُجالِسه في زيادة مستمرَّة.

يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، وَالمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدىٰ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىٰ»(1).

إنَّه يُمثِّل الغنىٰ المطلق، الذي غفل عن غناه الكثير من الناس، فإنَّ الروايات تؤكِّد أنَّ من كان عنده القرآن، فهو من أغنىٰ الناس، ومن ذلك ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... ومن أُوتي القرآن فظنَّ أنَّ أحداً من الناس أُوتي أفضل ممَّا أُوتي فقد عظَّم ما حقَّر الله وحقَّر ما عظَّم الله»(2).

إنَّ قلوبنا لتصدأ كما يصدأ الحديد، لسبب وآخر، فالهموم في الحياة، والذنوب التي نحتطبها بإرادتنا واختيارنا، والتصرُّفات اللا مسؤولة التي تصدر منّا، والألفاظ التي نرمي بها من دون تروٍّ ولا حكمة، وغيرها كثير، أُمور تؤدّي إلىٰ أن يُصاب القلب بالصدأ، والرين، والغفلة، وقد ينتكس!

لذلك، احتجنا أن نعمل علىٰ جلاء قلوبنا بمجلاة باستمرار، وليس هناك كمثل القرآن مجلياً لها.

روي عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إنَّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: «كثرة تلاوة كتاب لله تعالىٰ، وكثرة الذكر لله (عزوجلّ) »(3).

ص: 93


1- نهج البلاغة: 252/ الخطبة: 176.
2- الكافي للكليني 2: 604/ باب فضل حامل القرآن/ ح 5.
3- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 2: 241/ ح 3924.

هناك أسباب كثيرة قد تعمل في قلوبنا أعمالاً تجعل منه كالحجارة، وربَّما أشدّ، وليس هناك ما يمكنه أن يُليِّنها كالقرآن الكريم، إذ هو جلاء الصدور وشفاء لها من كلِّ داء، ومن هنا، ورد عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، والذي نفسي بيده! إنَّ القرآن والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب»(1).

وإذا أردت أن تجعل النور في بيتك، فما عليك إلَّا أن تتلو القرآن فيه، ليُزهِر لأهل السماء كأحلىٰ وأجمل ما يكون النور.

يقول الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله): «نوِّروا بيوتكم بتلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبوراً كما فعلت اليهود والنصارىٰ، صلّوا في الكنائس والبيع وعطَّلوا بيوتهم، فإنَّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره، واتَّسع أهله، وأضاء لأهل السماء كما تضيئ نجوم السماء لأهل الدنيا»(2).

7- متجدِّد مع الزمن

شاء الله تبارك وتعالىٰ أن يجعل هذا القرآن الكريم هو خاتم الكتب السماوية التي أنزلها للناس، فهو الدستور الذي يمكنه أن يأخذ بأيدي الناس عموماً إلىٰ الوصول إلىٰ السعادة الأبدية، وهذا الأمر يقتضي بطبيعته أن تتوفَّر في القرآن خصائص متعدِّدة تجعله بهذا المستوىٰ من الهداية وتوفير سُبُل الحياة الطيِّبة.

ص: 94


1- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 15: 221/ ح 40670.
2- الكافي للكليني 2: 610/ باب البيوت التي يُقرأ فيها القرآن/ ح 1.

وكان من أهمّ خصائصه، هو أنَّه متجدِّد مع الزمن، فرغم أنَّه نزل علىٰ صدر نبيِّنا الأكرم (صلی الله علیه و آله) قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، إلَّا أنَّ آياته ما زالت غضَّة طريَّة كأنَّها وُلِدَت اليوم، وما زالت نظرياته في مختلف المجالات الحياتية ثابتة لم تُنقَض، ولن تُنقَض أبداً.

روي

أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله (علیه السلام): ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلَّا غضاضةً؟ فقال: «لأنَّ الله لم يُنْزِله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٍّ إلىٰ يوم القيامة»(1).

وقيل لجعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام): لِمَ صار الشعر يُمَلُّ ما أُعيد منها، والقرآن لا يُمَلُّ؟ فقال: «لأنَّ القرآن حجَّة علىٰ أهل الدهر الثاني، كما هو حجَّة علىٰ أهل الدهر الأوَّل، فكلُّ طائفة تتلقّاه غضًّا جديداً، ولأنَّ كلَّ امرئ في نفسه متىٰ أعاده وفكَّر فيه تلقّىٰ منه في كلِّ مرَّة علوماً غضَّةً، وليس هذا كلُّه في الشعر والخُطَب»(2).

وهذا يعني أنَّ كلَّ إنسان يمكنه أن يفتح صفحات هذا الكتاب العظيم، ليجد فيها من يروي ظمأه، لكن بشرطين أساسيين هما:

الأوَّل: التأمُّل والتدبُّر فيه، وليس المرور عليه مرَّ الكرام, قال تعالىٰ: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفالُها 24﴾ (محمّد: 24).

الثاني: الاستعانة الحصرية بأهل البيت (علیهم السلام) في فهم آياته وكلماته، لأنَّهم الأعرف بما فيه، فهم أهل البيت، وأهل البيت أدرىٰ بما فيه.

والذي يكشف عن هذا الأمر، هو حقيقة واقعية لا ينكرها إلَّا

ص: 95


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق 1: 93/ ح 32.
2- المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطيَّة الأندلسي 1: 36.

مكابر، وهي أنَّ التاريخ حفظ لنا وثائق مهمَّة، تؤكِّد وبكلِّ وضوح أنَّ أهل البيت (علیهم السلام) لم يكونوا بحاجة إلىٰ أيِّ أحد في تفسير وفهم القرآن الكريم، وفي نفس الوقت، كان الكلُّ محتاجاً إليهم في تفسيره وبيان خفاياه.

روي أنَّه تزوَّج رجل امرأة من جهينة، فولدت له غلاماً لستَّة أشهر، فانطلق زوجها إلىٰ عثمان، فأمر برجمها، فبلغ ذلك عليّاً، فأتاه فقال: «ما تصنع؟»، قال: ولدت غلاماً لستَّة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال عليٌّ: «أمَا سمعت الله تعالىٰ يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: 15]، وقال: ﴿وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]؟ فكم تجد بقي إلَّا ستَّة أشهر؟»، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدوها قد فُرِغَ منها، وكان من قولها لأُختها: يا أُخيَّة، لا تحزني، فوَالله، ما كشف فرجي أحدٌ قطُّ غيرُه. قال: فشبَّ الغلام بعد فاعترف به الرجل، وكان أشبه الناس به...(1).

فقد ذهبت هذه المرأة مظلومة، مغضوباً علىٰ من حكم برجمها جهلاً، ولو رجعوا من بداية الأمر لأمير المؤمنين (علیه السلام) لأعطاهم الحلَّ ناجعاً.

8- الاقتصاد في القرآن الكريم

يُروِّج أعداء الإسلام إلىٰ فكرة ضدِّ القرآن الكريم والإسلام مفادها: أنَّه ليس في الإسلام اقتصاد، وأنَّه لم يتعرَّض القرآن الكريم لبحوث اقتصادية، وهذا يُعتَبر نقصاً فيه.

ص: 96


1- سبل الهدىٰ والرشاد للصالحي الشامي 11: 289.

وهذا كلام ليس واقعياً أبداً، ويكشف عن جهل المتحدِّث به بالقرآن الكريم، فإنَّ التدبُّر في آيات القرآن الكريم وقوانين الإسلام يكشف لنا عن اقتصاد متكامل يحلُّ المشكلة الاقتصادية الإنسانية من أصلها، وسنذكر بعضاً قليلاً من قوانينه في هذا المجال.

ففي مجال أساس المشكلة الاقتصادية لا يعتبر الإسلام أنَّ الأساس فيها هو التناقض المستمرُّ بين زيادة البشر ونقص الموارد الطبيعية - كما تقول الرأسمالية -، ولا يعتبر الأساس فيها هو التعاكس بين قطاعي الإنتاج والتوزيع - كما تقول به الماركسية الاشتراكية -، بل يعتبر أساس المشكلة ومفتاح حلِّها هو الإنسان، قال تعالىٰ: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ 32 وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 33 وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34﴾ (إبراهيم: 32 - 34).

ويُقرِّر الإسلام ثلاثة أنواع للملكية: عامَّة وخاصَّة وملكية الدول، وهذه الأنواع كلُّها تُعبِّر عن حالة طبيعية في الاقتصاد الإسلامي، لا كالرأسمالية التي تعتبر الملكية العامَّة شذوذاً، ولا كالماركسية التي تعتبر الملكية الخاصَّة شذوذاً، ومع هذا فإنَّ القرآن الكريم يعتبر ملكية الإنسان - علىٰ اختلاف أنواعها - ملكية اعتبارية، فالملكية الحقيقية هي لله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ 42﴾ (النور: 42)، وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنىٰ.

ص: 97

وما دام الملك لله تعالىٰ فإنَّه قد كلَّفنا بحقوق معروفة في الشرع الإسلامي، ومن تلك الحقوق: الإنفاق في سبيل الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 254﴾ (البقرة: 254).

وقال تعالىٰ: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ 7﴾ (الحديد: 7).

وقال تعالىٰ: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ...﴾ (النور: 33).

وروي أنَّه قال الإمام الصادق (علیه السلام) لعيسىٰ بن موسىٰ: «يا عيسىٰ، المال مال الله (عزوجلّ)، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويركبوا منه قصداً، ويعودوا بما سوىٰ ذلك علىٰ فقراء المؤمنين...»(1).

إنَّ الإسلام يصبغ اقتصاده بصبغة واقعية تتلاءم مع طبيعة الإنسان، فلا يأمره بترك المادّيات مطلقاً، ولا يأمره بترك الروح مطلقاً، بل ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77﴾ (القصص: 77).

كذلك فإنَّه يُؤطِّر اقتصاده بالأخلاق، وبتقديم المصلحة العامَّة علىٰ المصلحة الخاصَّة، فيما لو تعارضتا، (فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(2).

ثمّ إنَّ لدىٰ الإسلام في مذهبه الاقتصادي موارد ماليةً يروي بها

ص: 98


1- أعلام الدين للديلمي: 269.
2- راجع: الكافي للكليني 5: 294/ باب الضرار/ ح 8.

خزينته، وهي باختصار: الموارد الطبيعية من أراضٍ وأنهار وعيون وآبار وعناصر وغيرها من الموارد الطبيعية، والخمس، والزكاة، والخراج، والجزية.

وبعد هذا جاء الإسلام بقوانين اقتصادية تُنظِّم الحياة الاجتماعية وتُنعِش الحركة الاقتصادية وتحلُّ المشكلة الإنسانية، يقول تعالىٰ: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ...﴾ (البقرة: 275)، ويقول تعالىٰ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1﴾ (المطفِّفين: 1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «المحتكر ملعون»(1)، وقال (صلی الله علیه و آله): «من جمع طعاماً يتربَّص به الغلاء أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ الله منه»(2).

وقال تعالىٰ [ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ...النساء 29 ] .

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «تعرَّضوا للتجارة، فإنَّ فيها غنىٰ لكم عمَّا في أيدي الناس، وإنَّ الله (عزوجلّ) يُحِبُّ العبد المحترف الأمين»(3).

9- تفسير القرآن

جرت عادة الأُمم والحضارات علىٰ الاهتمام بالكتب المصيرية لديهم، والتي تُنظِّم شؤون الناس وسلوكهم وما يتعلَّق بأُمور معاشهم، وهذه حالة صحّية طبعاً. وفي نفس هذا السياق، نجد أنَّ المسلمين

ص: 99


1- عوالي اللئالي للأحسائي 2: 242/ باب المتاجر/ ح 3؛ مستدرك الحاكم 2: 11.
2- بحار الأنوار للمجلسي 59: 292.
3- الخصال للصدوق: 621/ حديث أربعمائة.

اهتمّوا كأشدّ ما يكون الاهتمام بأهمّ كتاب لديهم علىٰ الإطلاق، وهو القرآن الكريم، اهتمّوا به حفظاً عن التحريف، وتفسيراً، وبياناً لمبهماته.

إنَّ من أهمّ الجهات التي أخذت حيِّزاً كبيراً من اهتمام المسلمين هو تفسير القرآن، حيث كُتِبَ في تفسيره مئات التفاسير المختلفة في عناوينها وأهدافها ونظامها وأُسلوبها.

هناك من التفسير ما يُسمّىٰ بالتفسير التجزيئي، ويُقصَد به أن يبدأ المفسِّر بأوَّل آية من القرآن الكريم، أي بسورة الفاتحة، ويمشي مع آياته الكريمة آية آية يُفسِّرها بإعطاء معانيها وشرحها وذكر الروايات الواردة فيها وما شابه، ومن التفاسير المشهورة في هذا المجال تفسير الميزان للسيِّد الطباطبائي، وتفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

وهناك من التفاسير ما يُسمّىٰ بالتفسير الموضوعي، ويُقصَد به أن يأخذ المفسِّر موضوعاً من المواضيع القرآنية، ويجمع الآيات المتعلِّقة به، ويربط فيما بينها ليخرج ببحث متكامل حول ذلك الموضوع، ومن أمثلة ذلك:

أوَّلاً: التفاسير الموضوعية المهتمَّة بأُصول الدين وعقائد الإسلام، مثل مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني، وتفسير نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

ثانياً: التفاسير الموضوعية المهتمَّة بالأخلاق في القرآن الكريم، ومنها كتاب (الأخلاق في القرآن) للشيخ ناصر مكارم الشيرازي. وكتاب (الأخلاق في القرآن) للشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي.

ثالثاً: التفاسير العلمية للقرآن الكريم، بمعنىٰ تسليط الضوء علىٰ

ص: 100

الإشارات والاكتشافات العلمية التي أشارت لها بعض آيات القرآن الكريم، كإشارات القرآن لمراحل خلق الإنسان، ودور الريح في تلقيح النباتات، والإشارة إلىٰ القوتين الدافعة والجاذبة اللتين تحافظان علىٰ سير ثابت للكواكب والأقمار، وما شابه.

وقد كُتِبَت بحوث في هذا المجال، ومنها ما جمعه الدكتور لبيب بيضون في كتابه: (الموسوعية العلمية القرآنية).

وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّه قد أخذ بعض العلماء منحىٰ مختصراً في تفسير القرآن أشبه بالتفسير المزجي، الذي تُكتَب الآية فيه بين قوسين، يعقبها تفسير كلماتها وبيانها بصورة مختصرة، لكنَّها نافعة جدّاً لكلِّ من يتلو الكتاب العزيز، ولا أشهر في هذا المجال من تفسير السيِّد عبد الله شبر قدَّس الله روحه الشريفة.

جدير بالذكر، أنَّ العلوم التي كان القرآن الكريم موضوعَها متعدِّدة، فهناك علوم القرآن، و كتاب (التمهيد في علوم القرآن) للشيخ محمّد هادي معرفة قد عالج الكثير منها، وهناك بحوث في آيات الأحكام في القرآن، مثل ما كتبه سماحة الشيخ باقر الأيرواني في كتابه (دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام).

كما أنَّ هناك دراسات متعدِّدة في ما يتعلَّق بالقصص التي وردت في القرآن الكريم، والتي تناولها العلماء والباحثون من جهات متعدِّدة، مثل ما كتبه الشيخ جعفر سبحاني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في قصص القرآن، وما كتبه الدكتور محمود البستاني في كتابه: قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً.

إنَّ هذا الكتاب الكريم كتاب مبارك فيّاض من جميع جهاته، وما

ص: 101

قصده عالم أو باحث في علم من العلوم، إلَّا ووجد فيه ما يروي ظمأه المعرفي، بشرط التدبُّر والتأمُّل في آياته الكريمة.

10- السياسة في القرآن الكريم

للسياسة مضمارها الخاصّ، الذي رسم القرآن الكريم خطوطه العامَّة، وشرَّع الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) تفريعاته التفصيلية، وقد طرح القرآن الكريم عدَّة قوانين في هذا المجال، نذكر بعضاً قليلاً منها:

فأوَّلاً: يُؤسِّس قاعدة الرئيس الأعلىٰ للدولة الإسلاميَّة ويوجب طاعته، بل ويعتبر طاعته من طاعة الله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...﴾ (النساء: 59).

وثانياً: يُحرِّم الصلح مع الكافرين إذا كان الصلح يؤدّي إلىٰ تسلُّط الكافرين علىٰ المسلمين، يقول تعالىٰ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً 141﴾ (النساء: 141)، وقال تعالىٰ: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ...﴾ (آل عمران: 139).

وثالثاً: نهىٰ المسلمين عن الركون إلىٰ الحكومات الظالمة وعن الخضوع للدول الاستعمارية، قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا...﴾ (هود: 113).

بل ورد الأمر حتَّىٰ بعدم محبَّة بقاء الظالمين، كما ورد عن صفوان بن مهران الجمّال، قال: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً

ص: 102

ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكّة -، ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أنصب غلماني، فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «من أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار»(1).

ورابعاً: يُؤسِّس الجيش الإسلامي، ويأمر ببنائه أشدّ بناء، وبالاستعداد لأيِّ طارئ خارجي، قال تعالىٰ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ...﴾ (الأنفال: 60).

ويُقرِّر مبدأ الدفاع عن الدولة الإسلاميَّة، قال تعالىٰ: ﴿فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ ...﴾ (البقرة: 194).

ولم يكتفِ بالقوَّة العسكرية البريَّة فقط، بل أمر حتَّىٰ بالقوَّة البحرية، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من جلس علىٰ البحر احتساباً ونيَّةً احتياطاً للمسلمين، كتب الله له بكلِّ قطرة في البحر حسنة»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنَّ شهداء البحر أفضل عند الله من شهداء البرِّ»(3).

ص: 103


1- اختار معرفة الرجال للطوسي 2: 740/ ح 828. وتكملة الرواية: قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون فدعاني، فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، [أشار عليك بهذا] موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن صحبتك لقتلتك.
2- مجمع الزوائد للهيثمي 5: 288.
3- المعجم الكبير للطبراني 6: 52 و53.

وطبعاً لقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتكلَّم مع الناس علىٰ قدر عقولهم، ولذا لم يذكر سلاح الجوِّ، وإن كان داخلاً تحت عموم آية الإعداد للقوَّة المتقدِّمة.

ويُقرِّر الإسلام مصير الأسرىٰ بالمنِّ أو الفداء، قال تعالىٰ: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّىٰ إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ...﴾ (محمّد: 4).

ويُقدِّم مبدأ السلام علىٰ الحرب حتَّىٰ لو نشبت المعركة، قال تعالىٰ: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ61﴾ (الأنفال: 61)، وقال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ...﴾ (البقرة: 208).

ولا ينهىٰ الإسلام المسلمين أن يكون لهم مع الكفّار الذين لم يسلّوا سيفاً علىٰ المسلمين علاقات اجتماعية محدودة، يقول تعالىٰ: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلىٰ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9﴾ (الممتحنة: 8 و9).

وهاتان الآيتان تُقرِّران أيضاً مبدأ العلاقات والروابط الدبلوماسية والصداقة مع الدول الكافرة، بالشروط التي ذكرتها الآيتان الكريمتان.

وفي حال نشوب خلاف بين فئتين من المسلمين، فقد قرَّر القرآن الكريم قراره في هذه المسألة، فقال (عزوجلّ): ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 104

اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَىٰ الْأُخْرىٰ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 9﴾ (الحجرات: 9).

11- التشريع في القرآن الكريم

للإسلام طريقته الخاصَّة في التشريع، بما يتلاءم مع طبيعة الإنسان.

فأوَّلاً: يُؤسِّس لابدّية التشريع والشريعة، قال تعالىٰ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً﴾ (المائدة: 48).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «الشريعة صلاح البريَّة»(1).

بل الشريعة هي أساس صلاح البريَّة، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في حديث رائع في هذا المجال: «العالم حديقة سيّاحها الشريعة، والشريعة سلطان تجب له الطاعة، والطاعة سياسة يقوم بها الملك، والملك راع يعضده الجيش، والجيش أعوان يكفلهم المال، والمال رزق يجمعه الرعيَّة، والرعيَّة سواد يستعبدهم العدل، والعدل أساس به قوام العالم»(2).

وثانياً: يؤكِّد الإسلام علىٰ أنَّ الشرائع السماوية مهما اختلفت في بعض التفريعات والتفاصيل، إلَّا أنَّها متَّفقة في الصميم والهدف والغاية، قال تعالىٰ: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ

ص: 105


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 30.
2- بحار الأنوار للمجلسي 75: 83/ ح 87.

وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاتَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَىٰ الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ 13﴾ (الشورىٰ: 13).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَلَا وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ، وَسُبُلَه قَاصِدَةٌ، مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَغَنِمَ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ»(1).

وثالثاً: أكَّد الإسلام علىٰ أنَّ التشريعات مهما كثرت وصعبت فهي لا تصل إلىٰ حدِّ الحرج والخروج عن المقدور، يقول تعالىٰ: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...﴾ (البقرة: 185)، ويقول تعالىٰ: ﴿ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 6﴾ (المائدة: 6).

ورابعاً: يؤكِّد القرآن الكريم علىٰ أنَّ الله تعالىٰ لا يأمر إلَّا بما فيه مصلحة، ولا ينهىٰ إلَّا عمَّا فيه مفسدة، يقول تعالىٰ: ﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَىٰ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ 28﴾ (الأعراف: 28)، ويقول تعالىٰ: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ 17﴾ (الشورىٰ: 17).

وتسهيلاً ورحمةً بالعباد نجد أنَّ الله تعالىٰ ربَّما تدرَّج في إعطاء حكم شرعي ما، كما في مسألة تحريم الخمر في صدر الإسلام، فأوَّلاً قال عنه عزَّ من قال: ﴿وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 67﴾ (النحل: 67).

ص: 106


1- نهج البلاغة: 176/ ح 120.

ثمّ قال: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...﴾ (البقرة: 219).

ثمّ قال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ...﴾ (النساء: 43).

ثمّ قال عزَّ من قال جاهراً بالمنع المطلق: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90﴾ (المائدة: 90).

وقد وصل أخيراً تشريع حرمة الخمر إلىٰ ما روي عن زيد بن عليٍّ، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: «لعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه»(1).

ثمّ خُتِمَ تشريع ذلك بتحريم كلِّ ما يؤدّي إلىٰ عاقبة الخمر - أي حرمة كلِّ مسكر وإن لم يكن خمراً - يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «إنَّ الله (عزوجلّ) لم يُحرِّم الخمر لاسمها، ولكنَّه حرَّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(2).

وأخيراً أثبت الإسلام أنَّ الدين الخاتم قد جاء لكلِّ واقعة بحكم، وأنَّه لا تخلو حادثة من حكم، وأنَّ أحكامه مستمرَّة غير قابلة للنقض، ف- «حلال محمّد حلال إلىٰ يوم القيامة، وحرامه حرام إلىٰ يوم القيامة»(3).

ومن هنا روي عن أبي جعفر (علیه السلام) أنَّه قال: «خطب رسول الله

ص: 107


1- الكافي للكليني 6: 398/ باب شارب الخمر/ ح 10.
2- الكافي للكليني 6: 412/ باب أنَّ الخمر إنَّما حُرِّمت لفعلها.../ ح 2.
3- بصائر الدرجات للصفّار: 168/ الجزء3/ باب 13/ ح 7.

(علیه السلام) في حجَّة الوداع فقال: يا أيُّها الناس، والله ما من شيء يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(1).

12- وفي السماء رزقكم..

إنَّ في آيات الله الكتاب الكريم، وعوداً إلهيَّة عظيمة، لو تدبَّرناها بقلوبنا جيِّداً، لثبت الإيمان فيها، ولرأينا أنَّنا في عين الله تعالىٰ ورعايته وحفظه ورحمته وعنايته، إلَّا أنَّها الغفلة، تلك التي تجعل الحكمة تمرُّ علىٰ القلوب من دون أن ترتوي منها.

قال الأصمعي: أقبلت ذات مرَّة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلفٌ جافٍ علىٰ قعود له متقلِّداً سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلَّم، وقال: ممَّن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يُتلىٰ فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل عليَّ منه شيئا، فقرأت: ﴿وَالذَّارِياتِ ذَرْواً 1 ...﴾ إلىٰ قوله: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾، فقال: يا أصمعي حسبك! ثمّ قام إلىٰ ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي علىٰ توزيعها، ففرَّقناها علىٰ من أقبل وأدبر، ثمّ عمد إلىٰ سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولّىٰ نحو البادية وهو يقول: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 22﴾ [الذاريات: 22]، فمقتُّ نفسي ولمتها، ثمّ حججت مع الرشيد، فبينما

ص: 108


1- الكافي للكليني 2: 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 2.

أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفتُّ فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلَّم عليَّ وأخذ بيدي، وقال: اتل عليَّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام، فقرأت: ﴿وَالذَّارِياتِ﴾ حتَّىٰ وصلت إلىٰ قوله تعالىٰ: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 22﴾، فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقّاً، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ 23﴾ [الذاريات: 23]، قال: فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتَّىٰ حلف!؟ ألم يُصدِّقوه في قوله حتَّىٰ ألجؤوه إلىٰ اليمين؟ فقالها ثلاثاً وخرجت بها نفسه(1).

إنَّ الله تعالىٰ تكفَّل لنا رزقنا، فعلينا أن نسعىٰ إليه بما أذن الله تعالىٰ لنا به من السعي، فلا حرام، ولا شبهات، ولا يأس من رحمة الله تعالىٰ، ولا قنوط، وإنَّما هو سعي واستبشار، والوعد الإلهي كان ولا زال قائماً: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 22﴾.

وليس في هذا دعوة للتواكل أو الكسل أو العجز، كلَّا، بل هي دعوة لأن يُعمِل كلُّ واحد منّا اختياره وإرادته، ويكتسب رزقه بجهده، واضعاً بين عينيه ذلك الوعد الإلهي، طالباً منه جلَّ وعلا أن يُسهِّل له أسباب رزقه.

وعلينا أن نضع بين أيدينا أنَّ التقوىٰ هي أيسر الطرق للحصول علىٰ أسباب يسيرة لتحصيل الرزق، قال تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً 3﴾ (الطلاق: 2 و3).

ص: 109


1- تفسير القرطبي 17: 42.

13- أخبار القرآن الكريم

إنَّ أخبار القرآن الكريم، أي ما أخبر به القرآن الكريم من وقائع وحقائق وأحداث هي على أنواع ثلاثة:

النوع الأوَّل: الإخبار عن الماضي، وهو عبارة عن ذكر قصص الماضين من الصالحين والطالحين، والقرآن يذكر تلك القصص للعبرة، كما يقول تعالىٰ: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176﴾ (الأعراف: 176)، ويقول تعالىٰ: ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ (يوسف: 111).

النوع الثاني: الإخبار عن الغيب (المستقبل) الذي يقع في الدنيا، وهذا يُعتَبر من أدلَّة إعجاز القرآن الكريم، إذ إنَّه لا يُخبِر عن الغيب إلَّا عالم الغيب، فيدلُّ علىٰ أنَّ القرآن الكريم نازل من الله تعالىٰ.

وهذا النوع له شكلان:

الشكل الأوَّل: الإخبار عن حوادث ستقع في المستقبل، قال تعالىٰ: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَىٰ الْأَرضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3﴾ (الروم: 2 و3).

الشكل الثاني: الإشارة إلىٰ اكتشافات علمية مستقبلية، قال تعالىٰ: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ (الحجر: 22).

النوع الثالث: الإخبار عن المستقبل الذي يقع بعد الموت، وهو لا ينفع إلَّا من يؤمن بالحياة بعد الموت. وهذه الإخبار يُراد منها الاستعداد

ص: 110

لتلك المواقف التي تذكرها، كمواقف القبر وسؤاله، قال تعالىٰ: ﴿حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 100﴾ (المؤمنون: 99 و100).

وكمواقف يوم القيامة المهولة، قال تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً 29 وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً 30﴾ (الفرقان: 27 - 20).

وقال تعالىٰ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49﴾ (الكهف: 49).

وقال تعالىٰ: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً 13 اقْرَأْ كِتابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً 14﴾ (الإسراء: 13 و14).

14- آداب التعامل مع القرآن

إنَّ قداسة القرآن الكريم لدىٰ المسلمين تفرض عليهم آداباً خاصَّةً في التعامل معه، تختلف عن التعامل مع غيره من الكتب، وهذا أمر عقلائي، فإنَّ كون القرآن الكريم كلام الله تعالىٰ ودستور الأُمَّة الإسلاميَّة يعني أنَّه من النوع الذي يلزم أن يكون التعامل بما يتناسب مع قداسته وعظمته.

ص: 111

ومن تلك الآداب التي يلزم مراعاتها هي التالي:

أوَّلاً: يلزم علينا أن نُوقِّر القرآن، وأن نتعامل معه بكلِّ أدب واحترام، الأمر الذي جعلته الروايات الشريفة دالّاً علىٰ احترام الله تعالىٰ وتوقيره.

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «القرآن أفضل من كلِّ شيء دون الله، وفضل القرآن علىٰ سائر الكلام كفضل الله علىٰ خلقه، فمن وقَّر القرآن فقد وقَّر الله، ومن لم يُوقِّر القرآن فقد استخفَّ بحقِّ الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد علىٰ ولده...، يا حملة كتاب الله استجيبوا لله بتوقير كتابه يزدكم حبًّا ويُحبِّبكم إلىٰ خلقه...»(1).

ثانياً: أن لا نكتب القرآن إلَّا بما هو طاهر، فلا تجوز كتابته بالدم أو بما هو متنجِّس، ويلزم الاعتناء بالخطِّ عند كتابته، وكتابته بخطٍّ واضح لا لبس فيه.

فقد روي عن أبي حكيمة العبدي، قال: كنّا نكتب المصاحف بالكوفة، فيمرُّ علينا عليٌّ ونحن نكتب، فيقول: «أجل قلمك»، قال: فقططت منه ثمّ كتبت، فقال: «هكذا نوِّروا ما نوَّر الله تعالىٰ»(2).

ثالثاً: أن لا يمسَّ أحد كتابة القرآن الكريم إلَّا مع الطهارة التامَّة، ولا يمسُّه المحدِث بالحَدَث الأصغر فضلاً عن الأكبر. نعم، تجوز قراءة القرآن من دون طهارة(3)، ولكن لا يجوز مسُّ كتابته إلَّا بطهور.

ص: 112


1- كنز العمال للمتَّقي الهندي 1: 527/ ح 2362.
2- المصنَّف لابن أبي شيبة 2: 382/ ح 4.
3- إلَّا آيات السجدة الواجبة من سور العزائم، فإنَّها لا يجوز للحائض والنفساء والمجنب قراءتها، فقد جاء في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني 1: 64 و65/ الفصل الثاني: (فيما يتوقَّف صحَّته أو جوازه علىٰ غسل الجنابة: السادس: قراءة آية السجدة من سور العزائم، وهي: (ألم السجدة، وحم السجدة، والنجم، والعلق)، والأحوط استحباباً إلحاق تمام السورة بها حتَّىٰ بعض البسملة). وقال في 1: 84/ الفصل الثامن في أحكام الحيض/ مسألة 227: (لا يصحُّ من الحائض شيء ممَّا يُشتَرط فيه الطهارة من العبادات...، ويحرم عليها جميع ما يحرم علىٰ الجنب ممَّا تقدَّم). وقال في 1: 94: (جملة من الأفعال التي كانت محرَّمة علىٰ الحائض تشكل حرمتها علىٰ النفساء، وإن كان الأحوط لزوماً أن تجتنب عنها. وهذه الأفعال هي: 1 - قراءة الآيات التي تجب فيها السجدة...).

رابعاً: أن نراعي الأدب في شراء المصحف، فإنَّ الروايات ذكرت أنَّ عليك أن تنوي شراء الورق والغلاف وما شابه، وأمَّا القرآن فهو أعظم من أن يكون له ثمن، ومن اللطيف والجميل ما يصنعه المؤمنون من السؤال عن هدية القرآن لا عن ثمنه.

عن عبد الرحمن بن سليمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنَّ المصاحف لن تُشترىٰ، فإذا اشتريتَ فقل: إنَّما أشتري منك الورق وما فيه من الأَدَم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا»(1).

خامساً: لا يجوز إحراق القرآن الكريم، ولا تنجيسه، ولا إهانته بأيِّ نوع من أنواع الإهانة، بل لا يجوز إعطاؤه للكافر إذا كان يؤدّي ذلك إلىٰ تنجيسه أو إحراقه.

إنَّه كتاب الله العظيم، وأقدس كتاب علىٰ وجه الأرض، فيلزم علىٰ المؤمن أن يُراعي الآداب المناسبة له قدر الإمكان، فإنَّه علامة من علامات احترامه، وبالتالي علامة من علامات الإيمان.

15- القرآن ودرجات الجنَّة

من الأُمور التي صرَّحت بها الروايات الشريفة أنَّ الجنَّة ليست

ص: 113


1- الكافي للكليني 5: 121/ باب بيع المصاحف/ ح 1.

علىٰ درجة واحدة يتساوىٰ فيها كلُّ من دخلها، وإنَّما لها درجات عديدة، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، الدرجة في الجنَّة كما بين السماء والأرض، وإنَّ العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره، فيفزع فيقول: ما هذا؟ فيقال: هذا نور أخيك المؤمن، فيقول: هذا أخي فلان، كنّا نعمل جميعا في الدنيا، وقد فُضِّل عليَّ هكذا؟ فيقال: إنَّه كان أفضل منك عملاً، ثمّ يُجعَل في قلبه الرضىٰ حتَّىٰ يرضىٰ»(1).

إنَّ علىٰ المؤمن أن يكون عالي الهمَّة، ولا يكون له طمع في الجنَّة دون أعلاها، وهي جنَّة الفردوس، وحتَّىٰ يحصل عليها، عليه أن يُشمِّر عن ساعديه، ويبذل في سبيلها مهرها، ويلتمس الوسائل التي تأخذه إلىٰ أعاليها.

وإنَّ القرآن الكريم من أهمّ وسائل الحصول علىٰ الدرجات العلىٰ من الجنَّة، فإنَّ درجاتها علىٰ آياته كما ورد في الروايات الشريفة.

عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) أنَّه قال: «عليك بالقرآن، فإنَّ الله خلق الجنَّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضَّة، وجعل مِلاطها(2) المسك، وترابها الزعفران، وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها علىٰ قدر آيات القرآن، فمن قرأ القرآن قال له: اقرأ وارقَ، ومن دخل منهم الجنَّة لم يكن أحد في الجنَّة أعلىٰ درجةً منه ما خلا النبيّين والصدّيقين...»(3).

وفي بشارة لشيعة أمير المؤمنين (علیه السلام)، روي عن حفص، قال:

ص: 114


1- أمالي الطوسي: 529/ ح (1162/1).
2- أي الطين الذي يُجعَل بين سافي البناء، يُملَط به الحائط، أي يُخلَط. (انظر: لسان العرب لابن منظور 7: 406/ مادَّة ملط).
3- تفسير القمّي 2: 259 و260.

سمعت موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) يقول لرجل: أتُحِبُّ البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم، فقال: «ولِمَ؟»، قال: لقراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فسكت عنه، فقال له بعد ساعة: «يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلِّم في قبره ليرفع الله به من درجته، فإنَّ درجات الجنَّة علىٰ قدر آيات القرآن، يُقال له: اقرأ وارقَ، فيقرأ ثمّ يرقىٰ»، قال حفص: فما رأيت أحداً أشدّ خوفاً علىٰ نفسه من موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)، ولا أرجأ الناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنَّه يخاطب إنساناً(1).

فكن من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) حقًّا، واسعَ للجنَّة بوسيلة القرآن صدقاً، والله هو الغني الحميد الرؤوف الرحيم.

16- تعليم القرآن

إنَّ القرآن الكريم هو كلام الله تعالىٰ، وهو علىٰ مستوىٰ عالٍ من البلاغة وسبك العبارة، ممَّا يعني أنَّ فهمه، بل ونفس نطقه بصورة صحيحة يحتاج إلىٰ تعليم وممارسة واستمرار. ومن هنا، جاء التأكيد في الروايات الشريفة علىٰ الفضل الكبير لمعلِّم القرآن، وأنَّ له من الأجر ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ.

إنَّ لمعلِّم القرآن فضلاً كبيراً، يكفي أنَّه سيكون موضعاً لاستغفار كلِّ شيء خلقه الله تعالىٰ، حيث روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «معلِّم القرآن ومتعلِّمه، يستغفر له كلُّ شيء، حتَّىٰ الحوت في البحر»(2).

ص: 115


1- الكافي للكليني 2: 606/ باب فضل حامل القرآن/ ح 10.
2- مستدرك الوسائل للنوري 4: 235/ ح (4580/14).

وإنَّ تعليمه يُعتَبر من الأعمال الجارية التي لا ينقطع أجرها إلىٰ يوم القيامة، فعنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من علَّم آية في كتاب الله تعالىٰ، كان له أجرها ما تليت»(1).

وروي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا عليُّ، تعلَّم القرآن وعلِّمه الناس، فلك بكلِّ حرف عشر حسنات، فإنْ مِتَّ مِتَّ شهيداً. يا عليُّ، تعلَّم القرآن وعلِّمه الناس، فإنْ مِتَّ حجَّت الملائكة إلىٰ قبرك كما تحجُّ الناس إلىٰ بيت الله العتيق»(2).

وقد ورد الحثُّ الشديد علىٰ تعليم الولد القرآن، وأنَّه من حقوق الولد علىٰ والده، فإذا ما قصَّر فيه، كان عاقًّا لولده!

روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من علَّم ابنه القرآن نظراً، غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. ومن علَّمه إيّاه ظاهراً(3)، بعثه الله يوم القيامة علىٰ صورة القمر ليلة البدر، ويقال لابنه: اقرأ، فكلَّما قرأ آية رُفِعَ بها للأب درجة، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ آخر ما معه من القرآن»(4).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من علم ولداً له القرآن قلَّده الله قلادة يعجب منها الأوَّلون والآخرون يوم القيامة»(5).

فضلاً عن هذا الأجر العظيم، فإنَّ التربويات الدينية اعتبرت تعليم الولدِ القرآنَ هو من الحقوق اللازمة علىٰ الأب، كما روي عن أمير

ص: 116


1- مستدرك الوسائل للنوري 4: 235/ ح (4581/15).
2- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 1: 531/ ح 2377.
3- أي بأن يحفظه ويقرأه عن ظهر قلب.
4- المعجم الأوسط للطبراني 2: 264.
5- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 1: 533/ ح 2386.

المؤمنين (علیه السلام):«وَحَقُّ الْوَلَدِ عَلَىٰ الْوَالِدِ أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَه، وَيُحَسِّنَ أَدَبَه، وَيُعَلِّمَه الْقُرْآنَ»(1).

هذا، وإنَّ الروايات الشريفة أعطت حقوقاً عظيمة لمعلِّم القرآن الكريم، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من علَّم عبداً آية من كتاب الله فهو مولاه، لا ينبغي له أن يخذُله ولا يستأثر عليه»(2).

وقد روي أنَّ عبد الرحمن السلمي علَّم ولد الحسين (علیه السلام) (الحمد) فلمَّا قرأها علىٰ أبيه، أعطاه ألف دينار وألف حلَّة، وحشا فاه دُرًّا، فقيل له في ذلك، قال: «وأين يقع هذا من عطائه»، يعني تعليمه(3).

17- تعلُّمُ القرآن

يُولَد الإنسان هو خالِ الوفاض من أيِّ علم، وليس عنده إلَّا أدوات اكتساب المعرفة التي وهبها إيّاه ربُّ العزَّة والجلال، وعندما يكبر الإنسان شيئاً فشيئاً، فإنَّه سيطلب بفطرته التعرُّف علىٰ ما يجهل، وقد أكَّدت الروايات الشريفة علىٰ ضرورة اكتساب المعارف، وأن لا يبقىٰ الإنسان في مستنقع الجهل وظلامه.

إنَّ من أهمّ ما يلزم علىٰ المسلم تعلُّمه، هو كتاب الله المنزل منه (عزوجلّ)، ففيه من العلوم والمعارف ما ينفع الإنسان في جميع مجالات حياته، وتعلُّمه أمر طبيعي لمن يعتقد بالإسلام، لأنَّه دستور المسلم في هذه الحياة، ومن هنا، جاء التأكيد الشديد علىٰ تعلُّمه.

ص: 117


1- نهج البلاغة: 546/ ح 399.
2- المعجم الكبير للطبراني 8: 112.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 222.

روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتَّىٰ يتعلَّم القرآن أو يكون في تعليمه»(1).

وروي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «ما من مؤمن ذكر ولا أُنثىٰ حرٍّ ولا مملوك إلَّا ولله (عزوجلّ) عليه حقٌّ أن يتعلَّم من القرآن ويتفقَّه في دينه»، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 79﴾ [آل عمران: 79](2).

وينبغي للمؤمن أن يُجهِد نفسه في تعلُّم القرآن منذ نعومة أظفاره، ليختلط بلحمه ودمه، وليثبت كأشدّ ما يكون الثبات، وقد روي أنَّ من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فقد أُوتي الحكم صبياً(3).

ويلزم علىٰ متعلِّم القرآن أن يكون مخلصاً في تعلُّمه، ولا يطلبه من أجل حطام الدنيا، أو ليباهي به الناس، وإنَّما ليكن طلبه لوجه الله تعالىٰ، ولا ريب أنَّه (عزوجلّ) سيُعطيه من الثواب ما لا يعلمه إلَّا هو (عزوجلّ) .

وقد روي عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقُّهاً في الدين، كان له من الثواب مثلَ جميع ما يُعطىٰ الملائكة والأنبياء والمرسلون. ومن تعلَّم القرآن يريده رياءً وسمعةً، ليماري به السفهاء، ويباهي به العلماء، ويطلب به الدنيا، بدَّد الله (عزوجلّ) عظامه يوم القيامة، ولم يكن في النار أشدّ عذاباً منه، وليس نوع من أنواع العذاب إلَّا ويُعذَّب به من شدَّة غضب الله عليه وسخطه...»(4).

ص: 118


1- الكافي للكليني 2: 607/ باب من يتعلَّم القرآن بمشقَّة/ ح 3.
2- تفسير القرطبي 4: 122 و123.
3- شعب الإيمان للبيهقي 2: 330/ ح 1949.
4- ثواب الأعمال للصدوق: 293.

وبعد هذا وذاك، فإنَّ تعلُّم القرآن وحفظه، هو من الأسباب التي تجعل حامله وحافظه من أصحاب الشفاعة يوم القيامة، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من قرأ القرآن فاستظهره(1) وحفظه أدخله الله الجنَّة، وشفَّعه في عدَّة من أهل بيته كلُّهم قد وجبت له النار»(2).

18- حفظ القرآن

يتبارىٰ الكثير من الناس في الزمن السالف بحفظ قصيدة شعرية طويلة، ويعتبرون الذي يحفظ أكثر أبيات من الشعر فائزاً رائعاً، والحال أنَّ الفوز الحقيقي هو بحفظ ما ينفع الإنسان في حياته الأبدية، حياة الحيوان، وهي الدار الآخرة.

ومن هنا، جاءت الروايات الشريفة لتلفت أنظارنا إلىٰ هذه الحقيقة، داعيةً المؤمنين أن يهتمّوا بحفظ القرآن، مرتِّبَةً عليه العظيم من الثواب، معطية في الوقت ذاته بعض الأدبيات والتعليمات النافعة في مجال حفظه.

ففي مجال فضل حفظه، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «اقرؤوا القرآن واستظهروه(3)، فإنَّ الله تعالىٰ لا يُعذِّب قلباً وعىٰ القرآن»(4).

ص: 119


1- أي حفظه عن ظهر قلب.
2- المعجم الأوسط للطبراني 5: 217.
3- أي احفظوه عن ظهر قلب.
4- بحار الأنوار للمجلسي 89: 19.

وفي مجال إكرام حفظته، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أكرموا حملة القرآن، فمن أكرمهم فقد أكرم الله. ألَا فلا تنقصوا حملة القرآن حقوقهم، فإنَّهم من الله بمكان. كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلَّا أنَّه لا يُوحىٰ إليهم»(1).

وحاله حال أيِّ علم، فإنَّ آفة حفظ القرآن هو النسيان، الأمر الذي اعتبرته الروايات الشريفة خسارة عظيمة يُصاب بها المؤمن يوم القيامة، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «من نسي سورة من القرآن مُثِّلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنَّة، فإذا رآها قال: من أنتِ؟ ما أحسنكِ! ليتكِ لي، فتقول: أمَا تعرفني؟ أنا سورة كذا وكذا، لو لم تنسني لرفعتك إلىٰ هذا»(2).

ومن هنا، فعلىٰ من يريد حفظه، أن يأخذ بنظر الاعتبار الأُمور التي تساعد علىٰ حفظه وعدم نسيانه، وهي عديدة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: تكرار ما يحفظه من سور وآيات، فإنَّ التكرار يُثبِّت المعلومة في الذهن أكثر، ويجعل الذاكرة تأنس بها أطول. وهذه طريقة عامَّة لجميع العلوم والمحفوظات كما هو واضح.

ثانياً: تجنُّب مجالس اللهو، فإنَّ لها آثاراً تكوينية سلبية علىٰ المؤمن، ومنها أنَّها تؤدّي إلىٰ نسيان القرآن، فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «عباد الله! اعلموا أنَّ... مجالسة أهل اللهو يُنسي القرآن»(3).

ثالثاً: التوسُّل بالله تعالىٰ، بأن يعينه علىٰ حفظ كتابه الكريم، وأن لا

ص: 120


1- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 1: 523/ ح 2343.
2- الكافي للكليني 2: 607 و608/ باب من حفظ القرآن ثمّ نسيه/ ح 2.
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: 151.

يُنسيه إيّاه، فإنَّ الدعاء مفتاح كلِّ خير(1)، ولا شكَّ أنَّ الله تبارك وتعالىٰ عند حسن ظنِّ عبده المؤمن.

19- آداب حملة القرآن

إنَّ العلم في تربويات الدين الإسلامي مسؤولية قبل أن يكون فضيلة، وبالتالي، تفرض تلك المسؤولية علىٰ العالم أُموراً لم تُفتَرض علىٰ غيره، وحامل القرآن والعالم به عليه من المسؤولية ما يلزمه التزامها، حتَّىٰ يكون علىٰ قدر تلك المسؤولية التي وفَّقه الله تعالىٰ لحملها.

وتلك المسؤولية تتلخَّص بالتالي:

أوَّلاً: تلاوة القرآن حقَّ تلاوته:

قال تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 121﴾ (البقرة: 121).

الأمر الذي فسَّرته الروايات الشريفة باحترامه وعدم التعامل معه كأيِّ كتاب آخر، فلا يُتوسَّد عليه كما قد يُفعَل مع غيره من الكتب، كذلك فُسِّر ذلك بلزوم اتِّباعه حقِّ اتِّباعه، والتدبُّر في آياته الشريفة، والوقوف عند ذكر الجنَّة والنار فيه، فيسأل الله تعالىٰ الجنَّة، ويستجير به من النار(2).

ثانياً: التمسُّك بالقرآن الكريم:

قال تعالىٰ: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 43﴾ [الزخرف: 43].

ص: 121


1- راجع: الكافي للكليني 2: 470/ باب أنَّ الدعاء يردُّ البلاء والقضاء/ ح 7.
2- تفسير التبيان للطوسي 1: 441 و442؛ وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي 2: 252.

الأمر الذي يعني تحليل حلاله وتحريم حرامه واتِّباعه في جميع أوامره ونواهيه، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) للحارث الهمداني: «وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ واسْتَنْصِحْه(1)، وَأَحِلَّ حَلَالَه وَحَرِّمْ حَرَامَه...»(2).

ثالثاً: تعليم القرآن:

فإنَّ «زكاة العلم نشره»(3)، والقرآن علمٌ كلُّه، فينبغي لحامله أن ينشره وينشر معارفه بين المؤمنين.

رابعاً: القيام لصلاة الليل:

فهي وإن كانت مستحبَّة علىٰ المؤمنين، ولكن حامل القرآن في مرتبة عظيمة من الكمال، فينبغي له أن يتَّبع القرآن الكريم في دعوته لالتزام صلاة الليل، بل اعتبرت الروايات الشريفة أنَّ صلاة الليل فريضة عليه، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الله وتر يُحِبُّ الوتر، أوتروا يا أهل القرآن»(4).

وقيام الليل فريضة علىٰ حامل القرآن ولو ركعتين(5).

خامساً: أن يكون تعلُّمه وحمله وحفظه مخلصاً لوجه الله تعالىٰ، لا ليتباهىٰ به أمام الناس. وأن يلتزم الأخلاق التي تتناسب مع عظمة القرآن، فقد ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنَّ أحقَّ الناس بالتخشُّع في السرِّ والعلانية لحامل القرآن، وإنَّ أحقَّ الناس في السرِّ والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن. ثمّ نادىٰ بأعلىٰ

ص: 122


1- أي اطلب منه النصيحة.
2- نهج البلاغة: 459/ ح 69.
3- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 276.
4- سنن ابن ماجة 1: 370/ ح 1170.
5- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 7: 782/ ح 21386.

صوته: يا حامل القرآن، تواضع به يرفعك الله، ولا تعزَّز به فيذلُّك الله. يا حامل القرآن، تزيَّن به لله يُزيِّنك الله [به]، ولا تزيَّن به للناس فيشينك الله به...»(1).

20- فضل تلاوة القرآن

يسعىٰ المؤمن في هذه الحياة في مشروع تكاملي مستمرٍّ إلىٰ ما لا نهاية، فطريق التكامل الذي نسير فيه لا يوقفه سوىٰ الموت، قال تعالىٰ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99﴾ [الحجر: 99]. وفي هذا الطريق يجمع المؤمن ما استطاع من أعمال صالحة، علَّه يكون ممَّن يحظون ويفوزون بالجنَّة.

والأعمال في هذا المجال كثيرة، وهي تختلف فيما بينها في مقدار ما يترتَّب عليها من ثواب إلهي، وهي مهما عظمت في هذا المجال، فلا أعظم من تلاوة آيات كتاب الله العزيز.

إنَّ تلاوته تعني أنَّك تتحدَّث مع ربِّ العزَّة والجلال، وهو تشريف عظيم يكشف عن منَّة إلهيَّة لا تُجازىٰ، فأن يأذن لك عظيم من العظماء بأن تتكلَّم معه من دون حاجب، لهو شرف عظيم، فكيف بالله (عزوجلّ)، حيث أذن لنا بأن نحادثه في أيِّ وقت شئنا، من خلال تلاوة هذا القرآن الذي تناساه كثير من الناس!؟

فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إذا أحبَّ أحدُكُم أن يُحدِّث ربَّه فليقرأ القرآن»(2).

ص: 123


1- الكافي للكليني 2: 604/ باب فضل حامل القرآن/ ح 5.
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 58/ ح 360.

هذا فضلاً عن الثواب العظيم الذي يُعطىٰ لقارئ القرآن، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقُّهاً في الدين، كان له من الثواب مثل جميع ما يُعطىٰ الملائكة والأنبياء والمرسلون»(1).

علىٰ أنَّه ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ تعاهد القرآن بالقراءة اليومية لهو من الأُمور التي أُخِذَ علىٰ المسلم أن لا يتركها بحال، كيف، وهو عهد الله (عزوجلّ) إلىٰ خلقه!؟

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية»(2).

وعنه (علیه السلام)، قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلىٰ منزله أن لا ينام حتَّىٰ يقرأ سورة من القرآن، فتُكتَب له مكان كلِّ آية يقرؤها عشر حسنات، ويُمحىٰ عنه عشر سيِّئات»(3).

21- مجالس القرآن

الإنسان اجتماعي بطبعه، لذلك كوَّن علىٰ طول خطِّ وجوده التجمُّعات المختلفة، فصارت الأُسرة والقبيلة والشعب والأُمَّة، وهذه الطبيعة جعلت منه يأنس بالجلوس مع أبناء نوعه، فصارت مجالسة الإخوان من أعذب المجالس، ومجالسة الأهل والأولاد من أحبّها.

ص: 124


1- ثواب الأعمال للصدوق: 293.
2- الكافي للكليني 2: 609/ باب في قراءته/ ح 1.
3- الكافي للكليني 2: 611/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 2.

إنَّ المجالس هي من الأعمال التي يقوم بها المؤمن، وبالتالي فهي تدخل تحت طاولة الحساب، فكلُّ مجلس نجلسه، فإنَّه سيُكتَب علينا في كتاب يُحصي علينا كلَّ صغيرة وكبيرة، وسنرىٰ جزاءنا منها، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، إلَّا أن يعفو الله ويصفح.

ولكي نأمن من مغبَّة المجالس، علينا أن نعمل قدر الإمكان علىٰ أن نَعمُرَها بما هو نافع لنا، وما يمكنه أن يدفع السوء عنّا، وليس من شيء يمكنه ذلك مثلُ قراءة القرآن الكريم، وكلمات أهل البيت (علیهم السلام) .

فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «ما من قوم يجتمعون علىٰ كتاب الله يتعاطونه بينهم، إلَّا كانوا أضيافاً لله، وإلَّا حفَّتهم الملائكة، حتَّىٰ يقوموا أو يخوضوا في حديث غيره»(1).

وعن أبي القمراء، قال: كنّا في مسجد رسول الله 0 حَلَقاً نتحدَّث، إذ خرج علينا رسول الله 0 من بعض حجره، ونظر إلىٰ الحَلَق، ثمّ جلس إلىٰ أصحاب القرآن، وقال: «بهذا المجلس أُمرت»(2).

وحتَّىٰ في بيتك، عليك أن تقيم مجلساً للقرآن، ليضيء بيتك لأهل السماء كأجمل ما يكون ضوء النور.

فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله (عزوجلّ) فيه، تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيئ لأهل السماء كما تضيئ الكواكب لأهل الأرض. وإنَّ البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يُذكر الله (عزوجلّ) فيه، تقلُّ بركتُه وتهجرُه الملائكة وتحضُره الشياطين»(3).

ص: 125


1- المعجم الكبير للطبراني 22: 337.
2- الاستيعاب لابن عبد البرِّ 4: 1734/ ح 3136.
3- الكافي للكليني 2: 610/ باب البيوت التي يُقرأ فيها القرآن/ ح 3.

22- إجمال العقائد في القرآن الكريم

هناك العديد من الآيات التي تعرَّضت لتأسيس العقيدة الصحيحة للمسلم، وهنا عدَّة نقاط:

النقطة الأُولىٰ: يؤسِّس القرآن الكريم أنَّ مسألة الدين والتديُّن (أي الاعتقاد بالدين وبوجود ربٍّ وإلهٍ يرعىٰ مخلوقاته) مسألة فطرية موجودة في فطرة الإنسان وجبلَّته، ولا يستطيع أيُّ إنسان أن يعيش بدون هذا الاعتقاد، إلَّا أنَّه قد يكون حقًّا فيما إذا توافق مع الفطرة، وقد لا يكون كذلك فيما لو لم يتوافق مع الفطرة، يقول تعالىٰ: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 30﴾ (الروم: 30).

النقطة الثانية: يؤسس القرآن الكريم أنَّه لا يجوز للإنسان أن يدين بأيِّ دين غير الإسلام، يقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ﴾ (آل عمران: 19).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ 85﴾ (آل عمران: 85).

النقطة الثالثة: لقد أكَّد القرآن الكريم علىٰ أنَّ المنهج الصحيح لاتِّباع أيِّ عقيدة وأيِّ دين هو منهج اليقين، لا الظنّ، ولا التقليد الأعمىٰ، ولذلك ذمَّ المشركين والكافرين لأنَّهم اتَّبعوا الظنَّ، قال تعالىٰ: ﴿بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلىٰ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ 22﴾ (الزخرف: 22).

ص: 126

النقطة الرابعة: يُقرِّر القرآن الكريم أنَّ الإنسان حرٌّ في أفعاله مخيَّر فيها، لا مكان للجبر في أفعاله الصادرة منه، ولذا، فلكلِّ إنسان عمله الذي سيُجازىٰ به، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فبالعدل، يقول تعالىٰ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39 وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ 40﴾ (النجم: 39 و40).

ويقول تعالىٰ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38﴾ (المدَّثِّر: 38).

ويقول تعالىٰ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾ (الزلزلة: 7 و8).

النقطة الخامسة: يُقرِّر القرآن الكريم أنَّ مسألة الحسن والقبح مسألة عقلية، فالعقل فيها مؤسِّس، والشرع لها مرشد، وقد أشار القرآن الكريم إلىٰ هذه المسألة في آيات عديدة، يقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبىٰ وَيَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90﴾ (النحل: 90).

النقطة السادسة: يُقرِّر القرآن الكريم أنَّ الله تعالىٰ عادل في أفعاله لا يجور في حكمه أبداً، يقول تعالىٰ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفىٰ بِنا حاسِبِينَ 47﴾ (الأنبياء: 47).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49﴾ (الكهف: 49).

النقطة السابعة: ويُقرِّر القرآن الكريم وجوب إرسال الأنبياء، إذ هم يُمثِّلون الواسطة الوحيدة بين السماء والأرض، يقول تعالىٰ: ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً 15﴾ (الإسراء: 15).

النقطة الثامنة: يؤكِّد القرآن الكريم علىٰ أنَّ خلافة الأنبياء مسألة جعلية، لا مكان لاختيار البشر فيها، ولا للانتخاب ولا للشورىٰ ولا غيرها، يقول

ص: 127

تعالىٰ: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ 73﴾ (الأنبياء: 73).

النقطة التاسعة: وأكَّد القرآن الكريم علىٰ وجود يوم يُجازىٰ فيه المحسن والمسيء، قال تعالىٰ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ 115﴾ (المؤمنون: 115).

وقال تعالىٰ: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعىٰ 15﴾ (طه: 15).

وقال تعالىٰ: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ 29﴾ (الأعراف: 29).

23- استماع القرآن

عندما خرج الإنسان إلىٰ هذه الدنيا، كان جاهلاً بأيِّ علم من العلوم، ولم يكن عنده إلَّا إمكانية التعلُّم، وقد جهَّزه الله تبارك وتعالىٰ بأدوات يمكنه من خلالها زيادة معارفه وتطويرها، فوهب له السمع والبصر والعقل، وجعلها تحت موضع المسؤولية، قال تعالىٰ: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 78﴾ (النحل: 78).

فما نسمع إذن هو عمل من أعمالنا، وسوف يسألنا الله تعالىٰ عنه في يوم القيامة، لذا، لزم علينا أن نوقف أسماعنا علىٰ العلم النافع لنا، ولا نتجاوزه إلىٰ سماع الغيبة والنميمة والغناء وكلِّ باطل.

ومن هنا، جاء القرآن الكريم ليدلَّنا علىٰ خير ما يمكن أن نملأ به

ص: 128

أسماعنا، فقال تعالىٰ: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204﴾ (الأعراف: 204).

إنَّه الاستماع الذي يُثمر نزول الرحمة الإلهيَّة علىٰ المؤمن، وأيُّ ربح أعظم من هذا؟

وهي فرصة مناسبة جدًّا لجني الحسنات بمجرَّد الاستماع له، فلا يحزن من لا يعرف قراءة القرآن، فإنَّ باب الرحمة فُتِحَ له من خلال الاستماع، عن عليِّ بن الحسين (علیهما السلام)، قال: «من استمع حرفاً من كتاب الله (عزوجلّ) من غير قراءة، كتب الله له حسنة، ومحا عنه سيِّئة، ورفع له درجة»(1).

جدير بالذكر، أنَّ لاستماع القرآن آداباً يلزم مراعاتها، وهي باختصار:

الأدب الأوَّل: الإنصات وخفض الصوت، الأمر الذي يعني توجُّه النفس نحو كلمات القرآن ليتمكَّن المؤمن من الاستفادة منه، وقد رتَّب القرآن الكريم نزول الرحمة علىٰ الإنصات عند قراءة القرآن، قال تعالىٰ: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204﴾ (الأعراف: 204).

فما يحصل في المجالس من الاشتغال بالكلام خلال قراءة القرآن، ممَّا لا ينبغي بكلِّ تأكيد.

وقد روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إنَّ الله (عزوجلّ) يُحِبُّ الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة»(2).

ص: 129


1- الكافي للكليني 2: 612/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 6.
2- المعجم الكبير للطبراني 5: 213.

الأدب الثاني: الخشوع، والتفكُّر في آياته، ليتأثَّر القلب بمضامينها، الأمر الذي قد يؤدّي إلىٰ نزول دمعة ندم علىٰ ذنب صدر، قال تعالىٰ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ 16﴾ (الحديد: 16).

وقال تعالىٰ: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً 107 وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً 109﴾ (الإسراء: 107 - 109).

24- الآداب الظاهرية لتلاوة القرآن الكريم

من الأُمور الوجدانية عند المؤمنين، هو أنَّ قراءة القرآن الكريم تختلف عن قراءة أيِّ كتاب آخر مهما كان مفيداً وعظيماً، ذلك لأنَّ القرآن هو كلام الله تعالىٰ كما هو واضح، وبالتالي، فقد أعطت التربويات الدينية آداباً لتلاوته، وتلك الآداب منها ظاهرية، ومنها باطنية، وسنتكلَّم الآن عن آدابه الظاهرية.

إنَّ لتلاوة القرآن الكريم آداباً يلزم علىٰ المؤمن أن يتمثلها في ظاهره عند التلاوة، وهي التالي:

الأدب الأوَّل: الطهارة، فإنَّه في الوقت الذي لا يجوز للمحدِث أن يمسَّ كتابة القرآن الكريم، وفي الوقت الذي تجوز قراءته من دون طهارة، لكن المؤمن إذا أراد أن يجعل من قراءته تقترب من الكمال،

ص: 130

وبالتالي الحصول علىٰ الثواب الأعظم، فعليه أن يتطهَّر بأن يتوضَّأ مثلاً قبل البدء بتلاوته.

فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان علىٰ غير طهور حتَّىٰ يتطهَّر»(1).

الأدب الثاني: الدعاء قبل القراءة وبعدها بالمأثور من الأدعية، لأنَّ الدعاء مفتاح الإجابة، فيُرجىٰ لمن ابتدأ بالدعاء وختم به أن يرزقه الله تعالىٰ من فضله ومنِّه وجوده. وهناك العديد من الأدعية الواردة في هذا المجال، يمكن للمؤمن أن يطلبها من مظانِّها(2).

ص: 131


1- الخصال للصدوق: 627/ حديث أربعمائة.
2- لإتمام الفائدة نورد هنا ما رواه السيِّد ابن طاووس في كتابه إقبال الأعمال (ج 1/ ص 231 و232)، قال ;: (فيما نذكره ممَّا يُدعىٰ به عند نشر المصحف لقراءة القرآن: روينا ذلك بإسنادنا إلىٰ يونس بن عبد الرحمن، عن عليِّ بن ميمون الصائغ أبي الأكراد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه: كان من دعائه إذا أخذ مصحف القرآن والجامع قبل أن يقرأ القرآن وقبل أن ينشره، يقول حين يأخذه بيمينه: بسم الله، اللّهمّ إنّي أشهد أنَّ هذا كتابك المنزل من عندك، علىٰ رسولك محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله)، وكتابك الناطق علىٰ لسان رسولك، وفيه حكمك وشرايع دينك، أنزلته علىٰ نبيِّك، وجعلته عهداً منك إلىٰ خلقك، وحبلاً متَّصلاً فيما بينك وبين عبادك. اللّهمّ إنّي نشرت عهدك وكتابك، اللّهمّ فاجعل نظري فيه عبادةً، وقراءتي تفكُّراً، وفكري اعتباراً، واجعلني ممَّن اتَّعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي كتابك علىٰ قلبي ولا علىٰ سمعي، ولا تجعل علىٰ بصري غشاوةً، ولا تجعل قراءتي قراءةً لا تدبُّر فيها، بل اجعلني أتدبَّر آياته وأحكامه، آخذ بشرايع دينك، ولا تجعل نظري فيه غفلةً، ولا قراءتي هذرمة [وهي الإسراع في الكلام]، إنَّك أنت الرؤوف الرحيم). ثمّ قال ; في (ج 1/ 233 و234): (فصل 12: فيما نذكره من دعاء إذا فرغ من تلاوة القرآن رويته بالإسناد المتقدِّم عند ذكر نشر المصحف الكريم، فيقول عند الفراغ من قراءة بعض القرآن العظيم: اللّهمّ إنّي قرأت ما قضيت لي من كتابك، الذي أنزلته علىٰ نبيِّك محمّد صلواتك عليه ورحمتك، فلك الحمد ربَّنا ولك الشكر والمنَّة، علىٰ ما قدَّرت ووفَّقت. اللّهمّ اجعلني ممَّن يحلُّ حلالك، ويُحرِّم حرامك، ويجتنب معاصيك، ويؤمن بمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، واجعله لي شفاءً ورحمةً، وحرزاً وذخراً. اللّهمّ اجعله لي أُنساً في قبري، وأُنساً في حشري، وأُنساً في نشري، واجعل لي بركةً بكلِّ آية قرأتها، وارفع لي بكلِّ حرف درسته درجةً في أعلىٰ علّيين، آمين يا ربَّ العالمين. اللّهمّ صلِّ علىٰ محمّد نبيِّك وصفيِّك ونجيِّك ودليلك، والداعي إلىٰ سبيلك، وعلىٰ أمير المؤمنين وليِّك وخليفتك من بعد رسولك، وعلىٰ أوصيائهما المستحفظين دينك، المستودعين حقَّك، والمسترعين خلقك، وعليهم أجمعين السلام ورحمة الله وبركاته).

الأدب الثالث: الاستعاذة بالله تعالىٰ من حضور الشيطان أثناء القراءة، ومن أن يشغل فكره بغير معاني كلمات القرآن الكريم، قال تعالىٰ: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم (صلی الله علیه و آله) 8﴾ (النحل: 98).

الأدب الرابع: مباشرة النظر إلىٰ الآيات الشريفة عند القراءة، حتَّىٰ إذا كان المؤمن حافظاً للآيات، لأنَّ نفس النظر إليها عبادة يُؤجَر عليها المؤمن، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «من قرأ في المصحف نظراً، مُتِّع ببصره، وخُفِّف علىٰ والديه وإن كانا كافرين. وليس شيء أشدُّ علىٰ الشيطان من قراءة المصحف نظراً»(1).

وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، إنّي أحفظ القرآن علىٰ ظهر قلبي، فأقرأه علىٰ ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: «بل اقرأه وانظر في المصحف، فهو أفضل، أمَا علمت أنَّ النظر في المصحف عبادة؟»(2).

الأدب الخامس: الإعراب، أي القراءة الصحيحة، وهذا يعني أنَّ

ص: 132


1- ثواب الأعمال للصدوق: 102 و103.
2- الكافي للكليني 2: 613 و614/ باب قراءة القرآن في المصحف/ ح 5.

علىٰ المؤمن أن يتعلَّم القراءة الصحيحة منذ نعومة أظفاره، ليشبَّ عليها، فقد روي عن ابن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله 0: «أعرِبوا القرآن، فإنَّه من قرأ القرآن فأعربه فله بكلِّ حرف عشرُ حسنات، وكفّارةُ عشرِ سيِّئات، ورفعُ عشرِ درجات»(1).

الأدب السادس: الترتيل، أي القراءة بهدوء واسترسال وعدم الإسراع بها، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ القرآن لا يُقرأ هَذْرمة(2)، ولكن يُرتَّل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكرُ الجنَّة، فقف عندها وسَلْ الله (عزوجلّ) الجنَّة، وإذا مررت بآية فيها ذكرُ النار، فقف عندها وتعوَّذ بالله من النار»(3).

الأدب السابع: تحسين الصوت، فإنَّه زينة لقراءة القرآن، وقد روي أنَّه قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «لكلِّ شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»(4).

وروي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «كان عليُّ بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرُّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته»(5).

الأدب الثامن: التجنُّب عن ألحان أهل الفسق عند قراءة القرآن، وعدم التغنّي به والترجيع كترجيع أهل الغناء، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون

ص: 133


1- المعجم الأوسط للطبراني 7: 307.
2- الهذرمة: السرعة في القراءة. (من المصدر).
3- الكافي للكليني 2: 617/ باب في كم يُقرأ القرآن ويُختم/ ح 2.
4- الكافي للكليني 2: 615/ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/ ح 9.
5- الكافي للكليني 2: 616/ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/ ح 11.

أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنَّه سيجيء من بعدي أقوامٌ يُرجِّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبُهم مقلوبةٌ وقلوبُ من يعجبُه شأنهم»(1).

25- الآداب الباطنية لتلاوة القرآن الكريم

صحيح أنَّنا في حياتنا اليومية نتعامل في ما بيننا حسب ما يراه كلُّ واحد منّا من ظاهر الآخر، إذ ليس بإمكاننا الاطِّلاع علىٰ غيره، ولكن في تعاملنا مع الله تبارك وتعالىٰ يلزم أن لا نقف عند حدود الظاهر، لأنَّه تعالىٰ يعلم منّا الباطن كما الظاهر، يقول تعالىٰ: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفىٰ 7﴾ (طه: 7).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16﴾ (ق: 16).

ومن هنا، علىٰ الإنسان أن يجعل من باطنه متوجِّهاً نحو الله تعالىٰ بالنيَّة الصالحة، وعليه أن يخشع في قلبه لربِّ العزَّة والجلال، وعليه أن يجعل من ظاهره موافقاً لباطنه المؤمن، لتنعكس حالته الإيمانية الباطنية علىٰ حالته الظاهرية، فيسلكُ سلوكَ المؤمنين.

وحتَّىٰ يصل المؤمن إلىٰ هذه الحالة من التوافق، عليه أن يسعىٰ قدر الإمكان إلىٰ أن يجعل من باطنه مؤمناً خاشعاً لذكر الله تعالىٰ وما نزل من الحقِّ.

وممَّا يُساعد علىٰ هذا الأمر، هو أن يتلو القرآن الكريم مراعياً تلك

ص: 134


1- الكافي للكليني 2: 614/ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/ ح 3.

الآداب الباطنية للتلاوة، والتي تساعده في صقل باطنه وتهذيبه. وتلك الآداب هي التالي:

الأدب الأوَّل: التدبُّر والتفكُّر والتأمُّل في آياته الكريمة، لأنَّ القرآن خزائن، ومفتاحها التأمُّل، يقول الإمام زين العابدين (علیه السلام): «آيات القرآن خزائن، فكلَّما فتحتَ خِزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»(1).

إنَّ المطلوب في التلاوة أن يصاحبها تفكُّر وتأمُّل، حتَّىٰ تُؤثِّر في قلب الإنسان قبل ظاهره، لذلك يقول الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) لابن مسعود: «يا ابن مسعود، إذا تلوت كتاب الله تعالىٰ، فأتيت علىٰ آية فيها أمر ونهي، فردِّدها نظراً واعتباراً فيها، ولا تَسْهَ عن ذلك، فإنَّ نهيه يدلُّ علىٰ ترك المعاصي، وأمره يدلُّ علىٰ عمل البرِّ والصلاح»(2).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ القرآن لا يُقرأ هَذْرمة(3)، ولكن يُرتَّل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكرُ الجنَّة، فقف عندها وسَلْ الله (عزوجلّ) الجنَّة، وإذا مررت بآية فيها ذكرُ النار، فقف عندها وتعوَّذ بالله من النار»(4).

الأدب الثاني: الخشية، بأن تُظهِر الخشية من الله تعالىٰ عندما تتلو آياته، كيف، وأنت تتكلَّم مع ربِّ العزَّة والجلال، تتكلَّم مع قهّار السماوات والأرض!؟ فينبغي للمؤمن أن يتمثَّل نفسه بين يدي ربِّه، فكيف يكون العبد آنذاك!؟

ص: 135


1- الكافي للكليني 2: 609/ باب في قراءته/ ح 2.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي: 452.
3- الهذرمة: السرعة في القراءة. (من المصدر).
4- الكافي للكليني 2: 617/ باب في كم يُقرأ القرآن ويُختم/ ح 2.

قال تعالىٰ: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلىٰ ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَىٰ اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 23﴾ (الزمر: 23).

وروي أنَّه سُئِلَ النبيُّ (صلی الله علیه و آله): أيُّ الناس أحسن صوتاً للقرآن وأحسن قراءةً؟ قال: «من إذا سمعته يقرأ أُريتَ أنَّه يخشىٰ الله»(1).

الأدب الثالث: استشعار الحزن عند القراءة، خوفاً من العقاب، ورجاءً للثواب، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ القرآن نزل بالحزن، فاقرؤوه بالحزن»(2).

وقال حفص: (فما رأيت أحداً أشدَّ خوفاً علىٰ نفسه من موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)، ولا أرجأ الناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنَّه يخاطب إنساناً»(3).

26- قرّاء مذمومون

حاله حال أيِّ كتاب، فإنَّ قرّاء القرآن يختلفون باختلاف مقدار معرفتهم به، ونيَّتهم من تعلُّمه وقراءته، وما ذُكِرَ من اختلاف الثواب المترتِّب علىٰ قراءته أو تعلُّمه يرجع إلىٰ الاختلاف في مقدار معرفته والنيَّة التي كانت وراء ذلك.

ص: 136


1- سنن الدارمي 2: 471 و472.
2- الكافي للكليني 2: 614/ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/ ح 2.
3- الكافي للكليني 2: 606/ باب فضل حامل القرآن/ ح 10.

ومن هنا، ينبغي أن ننتبه إلىٰ حالات تُعتَبر من الخطورة بمكان فيما يتعلَّق بقراءة القرآن، ومنها القراءة مع عدم العمل بمضامين الآيات وأوامر القرآن ونواهيه، فإنَّ القرآن الكريم ليس كتاباً قصصياً يُقرَأ لقضاء الوقت، وإنَّما هو دستور المسلم في حياته، فإذا قرأه البعض من دون تطبيق، كانت قراءته وبالاً عليه.

فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «...ومن تعلَّم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حبَّ الدنيا وزينَتها، استوجب سخط الله تعالىٰ، وكان في الدرجة مع اليهود والنصارىٰ، الذين ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم...»(1).

البعض من القرّاء يحاول أن يلوي عنق الآيات ليجعلها تصبُّ في مصلحته حسبما يخدمه، وهذا من الذين ذمَّتهم الروايات الشريفة، فعن الإمام الباقر (علیه السلام) أنَّه كان يقول: «من دخل علىٰ إمام جائر، فقرأ عليه القرآن، يريد بذلك عرضاً من عرض الدنيا، لُعِنَ القارئُ بكلِّ حرف عشرَ لَعْنات، ولُعِنَ المستمع بكلِّ حرف لعنة»(2).

حذار من أن يقرأ البعض القرآن ليطلب بذلك السمعة والرياء، ولا يقصد القربة إلىٰ الله تعالىٰ، حذار من عدم الإخلاص في تعلُّمه أو قراءته، فإنَّه قد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «... من قرأ القرآن يريد به السمعة والتماس شيء، لقي الله تعالىٰ يوم القيامة ووجهه مظلم، ليس عليه لحم، وزجَّه القرآن في قفاه حتَّىٰ يُدخِله النار، ويهوىٰ فيها مع من يهوىٰ. ومن قرأ القرآن ولم يعمل به، حشره الله يوم القيامة أعمىٰ،

ص: 137


1- ثواب الأعمال للصدوق: 282.
2- الاختصاص للمفيد: 262.

فيقول: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً 125 قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسىٰ 126﴾ [طه: 125 و126]، فيُؤمَر به إلىٰ النار»(1).

27- تفسير القرآن بالقرآن

من المظاهر الملفتة للنظر في القرآن الكريم، والتي تدلُّ علىٰ أنَّه معجزة لا تأتي من بشر عادي، أنَّك لا تجد في آياته أيَّ تناقض ولا تكاذب، بل وتجد أنَّ القرآن يُكمِل بعضه بعضاً، ويُفسِّر بعضه بعضاً، فحتَّىٰ تعرف تفسير آية معيَّنة، تجد أنَّ آية أُخرىٰ في موضع آخر تُفسِّرها، فآية في بداية القرآن قد تُفسِّرها آية أُخرىٰ في منتصفه، وهكذا، لنخرج بكتاب يُفسِّر بعضه بعضاً كأروع ما يكون التفسير.

ولكن معرفة هذا التفسير ليست متاحةً للجميع إلَّا إذا رجعنا إلىٰ أهل البيت (علیهم السلام)، حيث إنَّهم (علیهم السلام) أوضحوا لنا هذه الحقيقة في العديد من الروايات، وهذه بعضها:

روي أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) فسَّر الظالمين في قوله تعالىٰ: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124﴾ (البقرة: 124) بالمشركين، لأنَّ القرآن سمّىٰ الظلم شركاً بقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13﴾ (لقمان: 13)(2).

وروي أنَّه قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 7﴾ (الفاتحة: 7): «أمر الله

ص: 138


1- ثواب الأعمال للصدوق: 286.
2- راجع: الاحتجاج للطبرسي 1: 373.

(عزوجلّ) عباده أن يسألوه طريق المنعم عليهم، وهم: النبيّون والصدّيقون والشهداء والصالحون، وأن يستعيذوا [به]من طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود الذين قال الله تعالىٰ فيهم: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 60]، وأن يستعيذوا به من طريق الضالّين، وهم الذين قال الله تعالىٰ فيهم: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ 77﴾ [المائدة: 77]، وهم النصارىٰ».

ثمّ قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «كلُّ من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضالٌّ عن سبيل الله (عزوجلّ) »(1).

وروي أنَّ رجلاً دخل مسجد رسول الله 0، فإذا رجل يُحدِّث عن رسول الله 0، قال: فقلت: أخبرني عن ﴿شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ 3﴾ [البروج: 3]، قال: نعم، أمَّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمَّا المشهود فيوم عرفة. فجزته إلىٰ آخر يُحدِّث عن رسول الله 0، فقلت: أخبرني عن ﴿شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ 3﴾، فقال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النحر. فجزتهما إلىٰ غلام كأنَّ وجهه الدينار، وهو يُحدِّث عن رسول الله 0، فقلت: أخبرني عن ﴿شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ 3﴾، قال: «نعم، أمَّا الشاهد فمحمّد 0، وأمَّا المشهود فيوم القيامة، أمَا سمعت الله سبحانه يقول: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45﴾ [الأحزاب: 45]، وقال: ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ 103﴾ [هود: 103]؟». فسألت عن الأوَّل، فقالوا: ابن عبّاس، وسألت عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثالث، فقالوا: الحسن بن عليٍّ(2).

ص: 139


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): 50/ ح 23.
2- تفسير الثعلبي 10: 165 و166.

28- وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم

نزل القرآن الكريم باللغة العربية كما هو واضح، ولكنَّه في كثير من الأحيان كان يَقصد معانٍ لا يمكن فهمها من دون الرجوع إلىٰ أهل البيت (علیهم السلام)، فإنَّ أهل البيت أدرىٰ بما فيه، والتاريخ شاهد صدق علىٰ هذه الدعوىٰ، فكم من مرَّة عجز غيرهم عن تفسير بعض آياته.

إنَّنا من خلال تتبُّع الروايات، نجد أنَّ أهل البيت (علیهم السلام) كانوا أعلم الناس بالقرآن، فلم يتوقَّف أحد منهم في معرفة آية أو معناها أو تفسيرها أو تأويلها، الأمر الذي لا تجده عند أحد غيرهم، ولذا يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن، وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوهَّت الكتب ويستبين الإيمان، وقد أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُقتدىٰ بالقرآن وآل محمّد، و ذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأمَّا الأكبر فكتاب ربّي، وأمَّا الأصغر فعترتي أهل بيتي، فاحفظوني فيهما، فلن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما»(1).

وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: «والله ما نزلت آية إلَّا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، أبليل أم بنهار نزلت، في سهل أو جبل، إنَّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولسانا سؤولاً»(2).

والروايات الدالّة علىٰ ذلك أكثر من أن تُحصىٰ، نذكر منها التالي:

ص: 140


1- تفسير العيّاشي 1: 5/ ح 9.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1: 322.

روي أنَّ أبا بكر سُئِلَ عن قوله تعالىٰ: ﴿وَفاكِهَةً وَأَبًّا 31﴾ (عبسك 31)، فلم يعرف معنىٰ الأبِّ في القرآن، وقال: (أيُّ سماء تظلُّني، وأيُّ أرض تقلُّني، أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالىٰ بما لا أعلم؟ أمَّا الفاكهة فنعرفها، وأمَّا الأبّ فالله أعلم به). فبلغ أمير المؤمنين (علیه السلام) مقالُه في ذلك، فقال (علیه السلام): «يا سبحان الله، أمَا عَلِمَ أنَّ الأبّ هو الكلأ والمرعىٰ...»(1).

أي إنَّ القرآن الكريم استخدم طريقة اللفِّ والنشر المرتَّب كما يقولون، فالفاكهة لكم، والأبُّ لأنعامكم.

وروي أنَّ يهودياً سأل عليَّ بن أبي طالب (علیه السلام) عن مدَّة لبث أهل الكهف، فأخبر بما في القرآن(2)، فقال: إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال (علیه السلام): «ذاك بسنيِّ الشمس، وهذا بسنيِّ القمر»(3).

ولذا تجد القرآن الكريم عبَّر ب- ﴿وَازْدَادُوا تِسْعاً 25﴾ (الكهف: 25)، ولم يقل: (ثلاثمائة وتسعة)، للإشارة إلىٰ هذا المعنىٰ.

29- لطائف تفسيرية

إنَّ القرآن الكريم عبارة عن مجموعة من النفائس والجواهر التي لا تُقدَّر بثمن أبداً، إنَّها نفائس للروح والتألُّق والتكامل، لكن تلك النفائس قد وُضِعَت في خزائن، ولا بدَّ من مفتاح يفتحها، ولم نجد من

ص: 141


1- الإرشاد للمفيد 1: 200.
2- أي ثلاثمائة وتسع سنين.
3- تفسير مجمع البيان للطبرسي 6: 334.

فتحها كأهل البيت (علیهم السلام)، وبطون الكتب حبلىٰ بما جادت به قريحة أهل البيت (علیهم السلام) من بيانات وتفاسير رائعة. ونذكر هنا بعض النماذج اللطيفة:

روي عن الإمام الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) أنَّه قال: «الصمد الذي لا جوف له، والصمد الذي قد انتهىٰ سؤدده، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد الذي لا ينام، والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال...»، وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «الصمد السيِّد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه...»، وسُئِلَ

الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن الصمد، فقال: «الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء»(1).

وسُئِلَ الإمام الكاظم (علیه السلام) عن قوله تعالىٰ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 44﴾ (القلم: 44)، فقال: «يُجدِّد لهم النعم مع تجديد المعاصي»(2).

وعن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): ألَا تُخبرني من أين علمت وقلت: إنَّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك، ثمّ قال: «يا زرارة، قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونزل به الكتاب من الله، لأنَّ الله (عزوجلّ) يقول: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، فعرفنا أنَّ الوجه كلَّه ينبغي له أن يُغسَل، ثمّ قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ الْمَرافِقِ﴾، ثمّ فَصَل بين الكلامين فقال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ﴾، فعرفنا حين قال: ﴿بِرُؤُسِكُمْ﴾ أنَّ المسح ببعض الرأس، لمكان الباء(3)، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل

ص: 142


1- راجع: التوحيد للصدوق: 90/ باب في معنىٰ الواحد والتوحيد والموحّد/ ح 3.
2- الأُصول الستة عشر لعدَّة محدِّثين: 341 و342/ ح (568/11).
3- أي إنَّ الباء تدلُّ علىٰ التبعيض.

اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، فعرفنا حين وصلها بالرأس أنَّ المسح علىٰ بعضها. ثمّ فسَّر ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) للناس فضيَّعوه...»(1).

وقد روي في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152)، عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، أنَّه قال: «قال الله: ﴿اذْكُرُونِي﴾ بطاعتي ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بمغفرتي، فمن ذكرني - وهو مطيع - فحقٌّ عليَّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني - وهو لي عاص - فحقٌّ عليَّ أن أذكره بمقت...» الحديث(2).

وعن سليمان بن مهران، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله (عزوجلّ): ﴿وَالْأَرضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾، فقال: «يعني ملكه لا يملكها معه أحد، والقبض من الله تبارك وتعالىٰ في موضع آخر المنع والبسط، منه الإعطاء والتوسيع، كما قال (عزوجلّ): ﴿وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245﴾ [البقرة: 245]، يعني يُعطي ويُوسِّع ويمنع ويُضيِّق، والقبض منه (عزوجلّ) في وجه آخر الأخذ في وجه القبول منه كما قال: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ﴾ [التوبة: 104]، أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها»، قلت: فقوله (عزوجلّ): ﴿وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾؟ قال: «اليمين اليد، واليد القدرة والقوَّة، يقول (عزوجلّ): السماوات مطويّات بقدرته وقوَّته، ﴿سُبْحانَهُ وَتَعالىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ 67﴾ [الزمر: 67]»(3).

ص: 143


1- علل الشرائع للصدوق 1: 279/ باب 190/ ح 1.
2- الدُّرُّ المنثور للسيوطي 1: 148.
3- التوحيد للصدوق: 161 و162/ باب 17/ ح 2.

30- ختم القرآن الكريم

إنَّ من أهمّ القواعد التربوية في الإسلام، هي أن يعمل المؤمن دوماً علىٰ إتمام أعماله، ولا يتركها في منتصف طريقها، فأن تُكمِل عملاً أفضل من أن تقطعه في منتصفه وتبدأ بعمل آخر، وهي مسألة عقلائية قبل أن تكون شرعية.

ومن الأعمال التي دعا إليها الإسلام هو ختم القرآن، فإنَّه في الوقت الذي يُستَحبُّ قراءة ما تيسَّر من القرآن الكريم، ولو من دون ختم، ولكن الأفضل من دون أدنىٰ شكٍّ هو أن يبدأ المؤمن بتلاوة الكتاب العزيز من أوَّله إلىٰ آخره بالترتيب، وهو ما يُسمّىٰ بختم القرآن، وقد رتَّبت الروايات الشريفة العظيم من الثواب علىٰ ختمه، فقد روي عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من ختم القرآن فكأنَّما أُدرجتِ النبوَّة بين جنبيه، ولكنَّه لا يُوحىٰ إليه»(1).

فضلاً عن ذلك، فإنَّ لمن يختم القرآن دعوة مستجابة عند ختمه، فقد روي عن الإمام السجّاد (علیه السلام) أنَّه قال: «ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخَّرة أو معجَّلة»، قال - محمّد بن بشير -: قلت: جُعلت فداك، ختمه كلَّه؟ قال: «ختمه كلَّه»(2).

ومن هنا، فينبغي للمؤمن أن لا ينسىٰ دعاء ختم القرآن الوارد في المأثور، وهناك دعاء للإمام السجّاد (علیه السلام) عند ختم القرآن موجود في الصحيفة السجّادية المباركة(3).

ص: 144


1- الكافي للكليني 2: 604/ باب فضل حامل القرآن/ ح 5.
2- الكافي للكليني 2: 613/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 6.
3- الصحيفة السجّادية: 174/ الدعاء رقم 42؛ وهو: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعَنْتَنِي عَلَىٰ خَتْمِ كِتَابِكَ...».

ثمّ إنَّه ينبغي ختم القرآن في شهر، ولا ينبغي ختمه في أقلّ من ثلاثة أيّام، لئلَّا تُفقِده السرعةُ في القراءة التدبُّرَ في آياته.

فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث»(1).

وعن محمّد بن عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أقرأ القرآن في ليلة؟ قال: «لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهر»(2).

جدير بالذكر، أنَّه يُستَحبُّ للمؤمن إذا ذهب لحجٍّ أو عمرة، أن يختم القرآن الكريم حيث نزلت أولىٰ آياته، في مكّة المكرَّمة، فعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتَّىٰ يرىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويرىٰ منزله من الجنَّة»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من ختم القرآن بمكّة من جمعة إلىٰ جمعة أو أقلّ من ذلك أو أكثر، وختمه في يوم جمعة، كُتِبَ له من الأجر والحسنات من أوَّل جمعة كانت في الدنيا إلىٰ آخر جمعة تكون فيها، وإن ختمه في سائر الأيّام فكذلك»(4).

* * *

ص: 145


1- سنن الترمذي 1: 314/ ح 1394.
2- الكافي للكليني 2: 617/ باب في كم يُقرَأ القرآن ويُختَم/ ح 1.
3- المحاسن للبرقي 1: 69/ ح 134.
4- الكافي للكليني 2: 612/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 4.

ص: 146

القسم الثالث: قبساتٌ من الصحيفة السجّادية

اشارة

ص: 147

ص: 148

1- استهلال

لا شكَّ أنَّنا معاشر الشيعة ورثنا من أئمَّتنا (علیهم السلام) الكثير من المعارف المتنوِّعة، ما أغنانا عن الرجوع إلىٰ غيرهم، أو التمسُّك بالسفاسف والخزعبلات. وما جعلنا نصوغ العلوم بقوالب ذهبية نملؤها من عذب كلامهم ومعين علومهم (علیهم السلام)، وليس نحن فقط، بل كلُّ من أراد ذلك فله أن يدخل إلىٰ روضة علومهم وأن يغترف من بحر علومهم الذي لا ينضبُّ، فكلُّ من اغترف فقد حصل علىٰ أكثر ممَّا كان يطمع، وأوسع ممَّا كان يتوقَّع، وليس هذا الموضع محلَّ إثبات هذا، المهمُّ أن نعرف أنَّنا مأمورون بنشر حديثهم وعلومهم (علیهم السلام) لكافَّة العالمين، وكما روي عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً أحيىٰ أمرنا»، فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: «يتعلَّم علومنا ويُعلِّمها الناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا...»(1).

ومن باب تقديم الأهمّ علىٰ المهمِّ، كان المتعيَّن علينا تعليم أحاديثهم (علیهم السلام) لشيعتهم أوَّلاً، وهذا ما كان يفعله خدمتهم - ولا

ص: 149


1- معاني الأخبار للصدوق: 180/ باب معنىٰ قول الصادق (علیه السلام): من تعلَّم علماً ليماري به السفهاء.../ ح 1.

يزالون - من خلال المنافذ المتنوِّعة من منبر وبرامج صوتية ومرئية وكتب ومجلّات كُتِبَت في هذا المجال.

ومن ضمن أهمّ ما ورثناه عنهم (علیهم السلام) هو مجموعة من الأدعية المباركة المرويَّة عن مولىٰ الساجدين وسيِّد العابدين الإمام عليِّ بن الحسين السجّاد (علیهما السلام)، هذه الأدعية التي حوت في مضامينها الكثير من المعارف البشرية علىٰ كافَّة المستويات، وهذا ما يجده كلُّ من يُطالع الفهارس الموضوعية التي أُلِّفت في الصحيفة السجّادية.

ومن باب تقديم بضاعة مزجاة كان منّا أن نقرأ بعض أدعية هذه الصحيفة السجّادية المباركة، لنستخرج منها بعض الشواهد النافعة لنا في حياتنا، وتضمينها بعض الملاحظات علىٰ نحو الإجمال، تاركاً التفاصيل لخبرة ومتابعة الإخوة، لأنَّ هذا الأمر لا يقف عند شرح معيَّن ولا كلام معيَّن، فعلينا أن نستمرَّ في التأمُّل والمتابعة في أدعية هذه الصحيفة، لننال منها ما يُرضي ربَّنا.

ولنتذكَّر أنَّ الله تعالىٰ يقول: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً 77﴾ (الفرقان: 77).

2- تسخير الخلائق للإنسان

من دعاء للإمام زين العابدين (علیه السلام): «... وَجَعَلَ لَنَا الفَضِيلَةَ بِالمَلَكَةِ عَلَىٰ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ خَلِيقَتِهِ مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِهِ، وَصَائِرَةٌ إلَىٰ طَاعَتِنَا بِعِزَّتِهِ...»(1).

ص: 150


1- الصحيفة السجّادية: 30/ الدعاء رقم 1.

هنا عدَّة ملاحظات:

أوَّلاً: يشير (علیه السلام) إلىٰ تفضيل بني آدم عموماً علىٰ سائر الموجودات، وهو ما قاله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70﴾ (الإسراء: 70).

ثانياً: أنَّ من تفضيل بني آدم أن سُخِّرت له كلَّ المخلوقات، فالرياح تخدمه، والأرض تساعده، والحيوانات تغذيه وتخدمه، وهكذا كلُّ ما في العالم هو في خدمة الإنسان.

ثالثاً: وهذا التسخير إنَّما كان للإنسان لا بذاته، بل بفضل الله تعالىٰ وأمره الخلائق بذلك، وهذا ما يُصرِّح به (علیه السلام) في قوله: «بِقُدْرَتِهِ»، «بِعِزَّتِهِ».

رابعاً: وعليه، فلو رفع الله تعالىٰ هذا التسخير عن الخلائق للإنسان لكان الإنسان أضعف الخلائق أجمعين، فإنَّ (البقَّة تؤذيه)، وأنت ترىٰ بأنَّ الإنسان أضعف بكثير من أخسأ الحيوانات التي نحن نعتبرها أخسأ الحيوانات، كالحمار والحصان والجمل والبقر.

خامساً: وعليه لا بدَّ من التوجُّه إلىٰ الله تعالىٰ وطلب العون منه، في كلِّ شيء، ومن ذلك تسخير الكائنات له.

سادساً: وربَّما في هذه الفقرة إشارة إلىٰ تسخير الكائنات لخصوص الأئمَّة (علیهم السلام)، فإنَّ لهم تسخيراً تكوينياً، يختلف عن تسخير الكائنات لنا

غريزياً، وهذا معناه أنَّنا قد تُسخَّر لنا بعض الحيوانات الأليفة والداجنة، وبعض ما استطعنا السيطرة عليه بالآلات الدقيقة، والأجهزة المتطوِّرة، لكن للأئمَّة (علیهم السلام) تسخيراً إلهيًّا تكوينياً يفوق تصوّراتنا، فهم يُكلِّمون الحيوانات وتُكلِّمهم، ويأمرون الصخر فيتكلَّم، وغيرها كثير.

ص: 151

وقد سمعنا أنَّ الإمام الحسين (علیه السلام) عندما وصل إلىٰ الفرات قال لجواده: «أنت عطشان وأنا عطشان، والله لا أذوق الماء حتَّىٰ تشرب»، فلمَّا سمع الفرس كلام الحسين شال رأسه ولم يشرب، كأنَّه فهم الكلام(1).

وعندما سقط الإمام الحسين (علیه السلام) رجع الجواد يصهل ويصيح: (الظليمة الظليمة لأُمَّة قتلت ابن بنت نبيِّها)(2).

3- مؤونتنا عند الكرام الكاتبين

من الدعاء السادس في الصحيفة السجّادية: «... اللَّهُمَّ يسِّرْ عَلَىٰ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مَؤُونَتَنَا، وَامْلأ لَنَا مِنْ حَسَنَاتِنَا صَحَائِفَنَا، وَلَا تُخْزِنَا عِنْدَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا...»(3).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - الملائكة من مخلوقات الله تعالىٰ، وهي مخلوقات فيها عقل فقط، كما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (علیهما السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام): «إنَّ الله (عزوجلّ) ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(4).

ص: 152


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 215.
2- راجع: بحار الأنوار للمجلسي 22: 266/ ح 23.
3- الصحيفة السجّادية: 50/ الدعاء رقم 6.
4- علل الشرائع للصدوق 1: 4 و5/ باب 6/ ح 1.

2 - أنَّ للملائكة وظائف مهمَّة وكثيرة التنوّع كُلِّفوا بها من قِبَل الباري (عزوجلّ) ومنها التالي:

أ - مجموعة تحمل العرش، قال تعالىٰ: ﴿ وَالْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ 17﴾ (الحاقَّة: 17).

ب - مجموعة تُدبِّر الأمر، قال تعالىٰ: ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً 5﴾ (النازعات: 5).

ج - وأُخرىٰ لقبض الأرواح، قال تعالىٰ: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرىٰ عَلَىٰ اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّىٰ إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 37﴾ (الأعراف: 37).

د - وآخرون يراقبون أعمال البشر، قال تعالىٰ: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ 10 كِراماً كاتِبِينَ 11 يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ 12﴾ (الانفطار: 10 - 12).

ه - مجموعة تحفظ الإنسان من المخاطر، قال تعالىٰ: ﴿وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ 61﴾ (الأنعام: 61).

ح - وأخيراً مجموعة لتبليغ رسالات الوحي وإنزال الكتب السماوية للأنبياء، قال تعالىٰ: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىٰ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ 2﴾ (النحل: 2)(1).

ومن اللطيف أنَّه (تكرَّر ذكر الملائكة في القرآن الكريم، ولم يُذكر منهم بالتسمية إلَّا جبريل وميكال، وما عداهما مذكور بالوصف كملك

ص: 153


1- راجع: تفسير الأمثل للمكارم الشيرازي 14: 16 و17.

الموت والكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة والرقيب والعتيد وغير ذلك)(1).

3 - لقد وُكِّل ملائكة صفتهم أنَّهم ﴿كِراماً كاتِبِينَ 11﴾ يكتبون أعمال بني آدم ويحصون عليهم أنفاسهم. وهؤلاء الملائكة هم كغيرهم من الملائكة ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6﴾ (التحريم: 6).

(قيل: إنَّما سُموا كراماً لأنَّهم إذا كتبوا حسنة يصعدون به إلىٰ السماء ويعرضون علىٰ الله تعالىٰ ويشهدون علىٰ ذلك فيقولون: إنَّ عبدك فلان عمل حسنة كذا وكذا، وإذا كتبوا من العبد سيِّئة يصعدون به إلىٰ السماء مع الغمِّ والحزن، فيقول الله تعالىٰ: ما فعل عبدي؟ فيسكتون حتَّىٰ يسأل الله ثانياً وثالثاً، فيقولون: إلهي أنت ستّار، وأمرت عبادك أن يستروا عيوبهم، استر عيوبهم، وأنت علّام الغيوب. ولهذا يُسمّون كراماً كاتبين)(2).

وبالتالي فهم يؤدّون واجبهم علىٰ أتمّ وجه، ولا يُقصِّرون فيه ولا ينخدعون عنه. وهم كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «اعْلَمُوا عِبَادَ الله أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ(3)، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ»(4).

ص: 154


1- تفسير الميزان 17: 12.
2- التفسير الصافي للفيض الكاشاني 5: 296.
3- أي إحكام.
4- نهج البلاغة: 222/ الخطبة 157.

6 - إنَّهم يعيشون وفق القوانين الإلهيَّة التي تعني باختصار الطاعة المطلقة لله تعالىٰ، وقد اعتادوا علىٰ هذا الشيء، بحيث إنَّ المعصية عندهم غريبة ومستحيلة، فهم يهربون من العاصي هروبك من الأسد الأسود. وبعبارة أُخرىٰ: (إنَّهم لا يعصون الله فيما أمرهم به، فليست لهم نفسية مستقلَّة ذات إرادات مستقلَّة تريد شيئاً غير ما أراد الله سبحانه، فلا يستقلّون بعمل ولا يُغيِّرون أمراً حملهم الله إيّاه بتحريف أو زيادة أو نقصان، قال تعالىٰ: ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6﴾ [التحريم: 6])(1).

وهؤلاء الكرام الكاتبون لهم القدرة علىٰ تمييز الأعمال الصالحة من السيِّئة، كما يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «إنَّ العبد إذا همَّ بالحسنة خرج نَفَسه طيِّب الريح، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنَّه قد همَّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، فأثبتها له. وإذا همَّ بالسيِّئة خرج نَفَسه منتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنَّه قد همَّ بالسيِّئة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، وأثبتها عليه»(2).

4- ضعف الإنسان

من دعاءٍ للإمام زين العابدين (علیه السلام) في الصحيفة السجّادية المباركة: «...اللَّهمَّ وَإنَّكَ مِنَ الضَّعْفِ خَلَقْتَنَا، وَعَلَىٰ الْوَهْنِ بَنَيْتَنَا، وَمِنْ مَهِين ابْتَدَأتَنَا، فَلَا حَوْلَ لَنَا إلَّا بِقُوَّتِكَ، وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِقوَّتِكَ، وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِعَوْنِكَ، فَأيِّدْنَا

ص: 155


1- تفسير الميزان 17: 12.
2- الكافي للكليني 2: 429/ باب من يهمُّ بالحسنة أو السيِّئة/ ح 3.

بِتَوْفِيقِكَ وَسَدِّدْنَا بِتَسْدِيدِكَ، وَأعْمِ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا عَمَّا خَالَفَ مَحَبَّتَكَ، وَلَا تَجْعَلْ لِشَيْء مِنْ جَوَارِحِنَا نُفُوذاً فِي مَعْصِيَتِكَ...»(1).

هنا تأمل:

واضحٌ أنَّ العقيدة الإماميَّة مبنيَّة علىٰ حرّية الإنسان واختياره وفق مبدأ (الأمر بين الأمرين)، وعلىٰ هذا قامت أعمال الإنسان وصحَّ عقاب العاصي، ولكن من باب ضعف نفوسنا «مِنَ الضَّعْفِ خَلَقْتَنَا، وَعَلَىٰ الْوَهْنِ بَنَيْتَنَا، وَمِنْ مَهِين ابْتَدَأتَنَا»، فإنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) يدعو الله تعالىٰ أن يسلب حرّيته في مجال المعصية ويُجبره علىٰ الطاعة، وإن كان هذا التعبير غير دقيق، والأدقّ أن نقول: إنَّه (علیه السلام) يدعو الله تعالىٰ أن يُوفِّر له الفرص المناسبة للطاعة، وأن يبعده عن مستنقعات الرذيلة والمعصية، «فَأيِّدْنَا بِتَوْفِيقِكَ، وَسَدِّدْنَا بِتَسْدِيدِكَ، وَأعْمِ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا عَمَّا خَالَفَ مَحَبَّتَكَ، وَلَا تَجْعَلْ لِشَيْء مِنْ جَوَارِحِنَا نُفُوذاً فِي مَعْصِيَتِكَ...».

وكتأييد لهذا الكلام، نجده (علیه السلام) يقول قبل المقطع أعلاه: «... وَإِذَا هَمَمْنَا بِهَمَّيْنِ يُرْضِيكَ أَحَدُهُمَا عَنَّا، وَيُسْخِطُكَ الآخَرُ عَلَيْنَا، فَمِلْ بِنَا إِلَىٰ مَا يُرْضِيكَ عَنَّا، وَأَوْهِنْ قُوَّتَنَا عَمَّا يُسْخِطُكَ عَلَيْنَا، وَلَا تُخَلِّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَاخْتِيَارِهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَارَةٌ لِلْبَاطِلِ إِلَّا مَا وَفَّقْتَ، أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمْتَ...».

إنَّ الإنسان مهما كان صاحب عقل وذكاء ومال وسلطان وجاه وعشيرة وأولاد، ومهما تكثَّرت أُموره المادّية، ومهما عظم في الحياة، فإنَّه لن يستغني في لحظة من اللحظات، وفي آنٍ من الآنات عن اللطف الإلهي والتوفيق الربّاني، فلا يغترُّ أحدنا بما لديه، ولا ينسَ أنَّه خُلِقَ من

ص: 156


1- الصحيفة السجّادية: 58/ الدعاء رقم (صلی الله علیه و آله) .

الضعف، وأنَّه عندما كان صغيراً، فإنَّه كان معرَّضاً للموت في أيَّ لحظة، بحيث إنَّه لو وقعت عليه وسادته، فيمكنها أن تخنقه وتقتله من دون أن يقدر علىٰ إزاحتها.

فأنا الذي أرىٰ نفسي اليوم كبيراً، قد كنت صغيراً، ضعيفاً، لا حول لي ولا قوَّة، وما كان عندي، فهو من الله تعالىٰ، فحريٌّ بالعاقل أن يتذكَّر هذه الحقيقة ما دام في هذه الحياة.

5- بين دعوة الله ودعوة الشيطان

ومن دعاء لمولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «... وَمَنْ أَبْعَدُ غَوْراً فِي الْبَاطِلِ، وَأَشَدُّ إقْدَاماً عَلَىٰ السُّوءِ مِنّي حِينَ أَقِفُ بَيْنَ دَعْوَتِكَ وَدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَتَّبعُ دَعْوَتَهُ عَلَىٰ غَيْرِ عَمىٰ مِنّي فِي مَعْرِفَة بِهِ، وَلَا نِسْيَان مِنْ حِفْظِي لَهُ، وَأَنَا حِينَئِذٍ مُوقِنٌ بِأَنَّ مُنْتَهَىٰ دَعْوَتِكَ إلَىٰ الْجَنَّةِ، وَمُنْتَهَىٰ دَعْوَتِهِ إلَىٰ النَّارِ...»(1).

إنَّ الذي يُعذِر الإنسان عند الله تعالىٰ لو اتَّبع أمر الشيطان وتسويله هو أحد أمرين:

الأمر الأوَّل: الجهل وعدم المعرفة بالشيطان وأمره، لكن لا مطلقاً، بل مع الالتفات إلىٰ ما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد (علیهما السلام) وقد سُئِلَ عن قوله تعالىٰ: ﴿فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾ (الأنعام: 149)، فقال: «إنَّ الله تعالىٰ يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم،

ص: 157


1- الصحيفة السجّادية: 82/ الدعاء رقم 16.

قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتَّىٰ تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجَّة البالغة(1).

الأمر الثاني: نسيان المعصية، حيث رُفِعَ عنّا ما نسينا - إضافةً إلىٰ ما جهلنا -.

أمَّا مع المعرفة والحفظ، فلا عذر، بل سيكون أمرك بيد الله تعالىٰ، فاسأله أن يعاملك برأفته ورحمته لا بعدله، لأنَّه إن عاملنا بالعدل فإنَّه: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً 45﴾ (فاطر: 45)، ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 61﴾ (النحل: 61).

ولا تكن ممَّن قال عنهم القرآن الكريم: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 14﴾ (النمل: 14).

والتاريخ مليء بمن جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم! فهذا الوليد بن المغيرة (ريحانة العرب) لمَّا سمع الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) يتلو آيات سورة غافر والتي أوَّلها: ﴿حم 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 2 غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3 ...﴾ (غافر: 1 - 3)، فانطلق الوليد حتَّىٰ أتىٰ مجلس قومه بني مخزوم فقال: (والله، لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ

ص: 158


1- أمالي المفيد: 227 و228/ ح 6.

أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو وما يُعلىٰ)(1).

وذاك عتبة بن ربيعة، لمَّا سمع الآيات الأوائل من سورة فُصِّلت(2)، رجع إلىٰ قومه فقال لهم لمَّا سألوه: ما وراءك؟ فقال: (ورائي أنّي سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوَالله، ليكوننَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر علىٰ العرب فملكه ملككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به)(3).

6- التوبة والإنابة والحطَّة

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه بالتوبة: «اللَّهُمَّ إنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ اْلنَّادِمِينَ، وَإنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ المُنِيبينَ، وَإنْ يَكُنِ الاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإنّي لَكَ مِنَ المُسْتَغْفِرِينَ...»(4).

هنا عدَّة ملاحظات:

ص: 159


1- راجع: تفسير جوامع الجامع للطبرسي 3: 673.
2- وهي قوله تعالىٰ: ﴿حم 1 تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 2 كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 4 وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ 5﴾ (فُصِّلت: 1 - 5).
3- تفسير ابن كثير 4: 99.
4- الصحيفة السجّادية: 146/ الدعاء رقم 31.

1 - الإمام (علیه السلام) يجعل معنىٰ التوبة هو الندم، والحقيقة هي كذلك، إذ إنَّ أهمّ وأوَّل شروط التوبة هو الندم، إذ هو الكاشف عنها، وهو بداية الخير، إذ وجوده يدلُّ علىٰ وجود النفس اللوّامة التي هي شعلة الخير والنور في روح الإنسان، ويبقىٰ الطريق للمرء مفتوحاً حتَّىٰ يُكمِله بإرادته إلىٰ آخره، حتَّىٰ يصل إلىٰ مقام ﴿إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً 70﴾ (الفرقان: 70).

2 - ومعنىٰ الإنابة هو ترك المعصية، إذ الإنابة هي الرجوع والأوبة، ولا شكَّ أنَّ المذنب يبتعد عن الله تعالىٰ بقدر ذنبه، لذا احتاج إلىٰ أن يرجع إلىٰ حظيرة القدس ليُعوِّض ما فاته أيّام الذنب، فكان عليه الرجوع إلىٰ الله تعالىٰ، ولا طريق لذلك أسرع من ترك الذنب والمعصية.

3 - ومعنىٰ حطَّة الذنوب هو الاستغفار، إذ المراد من الحطَّة هو الإسقاط، من حَطَّه إذا وضعه وأسقطه عنه، وهذا يشير إلىٰ أنَّ الذنوب في حقيقتها ما هي إلَّا عبءٌ ثقيل يحمله المذنب علىٰ ظهره فيبطئ به السير نحو الله تعالىٰ، ويتخلَّف عن ركب الناجين، لذا احتاج - لكي يصل إلىٰ الركب ويسير معهم - إلىٰ ما يُسقِط ويُزيل عنه هذا الحمل الثقيل، وليس شيء يُسقِط الذنوب كالاستغفار، إذ هو الأمان الذي لم يُرفَع عن الأرض، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «كَانَ فِي الأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ الله وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِه. أَمَّا الأَمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله) . وَأَمَّا الأَمَانُ الْبَاقِي فَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33﴾ [الأنفال: 33]»(1).

ص: 160


1- نهج البلاغة: 483/ ح 88.

4 - وباجتماع هذه الأُمور الثلاثة، ينجو المذنب، وهي مراتب طولية، فأوَّلاً: لا بدَّ من الندم، الذي يقارنه ترك المعصية، فيترتَّب عليه الاستغفار. وعسىٰ الله تعالىٰ أن يتوب علىٰ المذنبين أو يقبل توبتهم.

7- أفردتني الخطايا

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه إذا أحزنه أمر: «اللَّهُمَّ... أَفْرَدَتْنِي الْخَطَايَا، فَلَا صَاحِبَ مَعِي، وَضَعُفْتُ عَنْ غَضَبِكَ، فَلَا مُؤَيِّدَ لِي، وَأَشْرَفْتُ عَلَىٰ خَوْفِ لِقَائِكَ، فَلَا مُسَكِّنَ لِرَوْعَتِي، وَمَنْ يُؤْمِنُنِي مِنْكَ وَأَنْتَ أَخَفْتَنِي؟ وَمَن يساعِدُنِي وَأَنْتَ أَفْرَدْتَنِي؟ وَمَنْ يُقَوِّيْنِي وَأَنْتَ أَضْعَفْتَنِي؟...»(1).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - أنَّ الخطايا تترك صاحبها فرداً يوم القيامة، فلا عشيرة تنفعه، ولا أهل تُنجيه! وهذا ما ورد في واحدة من مناجيات أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول: «... إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليتي». ثمّ قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيِّئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذِنَ فيه بالنداء». ثمّ قال: «آه من نار تنضج الأكباد والكلىٰ، آه من نار نزّاعة للشوىٰ، آه من غمرة من ملهبات لظىٰ...»(2).

ص: 161


1- الصحيفة السجّادية: 102/ الدعاء رقم 21.
2- أمالي الصدوق: 138/ ح (136/9).

2 - أنَّ الإنسان ضعيف جدًّا عن مواجهة الغضب الإلهي، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «... وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ، وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه...»(1).

3 - أنَّ الإنسان مشرف علىٰ الموت، والموت يطارده، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن المجتبىٰ (علیه السلام) عندما رجع من صفّين: «... وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...

رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الأَظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ.

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَإِنَّه يُسَارُ بِه وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ المَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً.

وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ...»(2).

ص: 162


1- نهج البلاغة: 267/ الخطبة: 183.
2- نهج البلاغة: 400 و401/ ح 31.

8- عدم استحقاق الإنسان للغفران

من دعاء مولنا الإمام السجّاد (علیه السلام) في الاستقالة: «... يَا إلهِي لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتَّىٰ تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّىٰ يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّىٰ تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّىٰ يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّىٰ تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكَلْتُ تُرَابَ الأَرْضِ طُولَ عُمْرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وَذَكَرْتُكَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّىٰ يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إلَىٰ آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ، مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَة وَاحِدَة مِنْ سَيِّئاتِي...»(1).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - أنَّ من علَّة عدم استحقاق المغفرة - حتَّىٰ فيما لو فعل الإنسان ما ذكره الإمام السجّاد (علیه السلام) - هي أنَّ الإنسان إنَّما يفعل الطاعة بواسطة ما أعطاه الله تعالىٰ من قوَّة وآلات وجوارح، وبواسطتها يمكنك أن تحمد أو تستغفر أو تركع أو تتعبَّد. فلا فضل ذاتي لك، إنَّما الفضل كله لله تعالىٰ.

2 - وكذلك من علَّة ذلك ما قاله الإمام السجّاد (علیه السلام) في نفس الدعاء بعد الفقرات المتقدِّمة: «وَإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، وَلَا أَنَا أَهْلٌ لَه بِاسْتِيجَابٍ»، والعلَّة في ذلك هي: «إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي...».

ص: 163


1- الصحيفة السجّادية: 82/ الدعاء رقم 16.

3 - من هنا كان لزاماً علينا أن ندعو الله تعالىٰ أن يعاملنا ويحاسبنا برحمته ورأفته لا بعدله، فإنّا لا نقوم مع عدله تعالىٰ، ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً 45﴾ (فاطر: 45).

4 - ومن رحمة الله تعالىٰ أنَّه لا يحاسبنا علىٰ ما أعطانا من آلات وقوَّة نحمده بها ونستغفره بواسطتها، وأمَّا لو حاسبنا عليها - وهو العدل والحقُّ - لكان مصيرنا يُرثىٰ له!

يقول مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه الْقِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَجُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَىٰ كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(1).

5 - فضلاً عن ذلك، فإنَّ لله تعالىٰ الفضل والمنَّة في تعليمنا أصل الشكر والحمد، كما يقول الإمام السجّاد (علیه السلام): «تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَه شُكْرَكَ، وَتُكَافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَه حَمْدَكَ»(2).

6 - وهذا المعنىٰ نجده واضحاً حينما يقول (علیه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: «... وَلَيْسَ عِنْدِي مَا يُوجِبُ لِي مَغْفِرَتَكَ، وَلَا فِي عَمَلِي مَا أَسْتَحِقُّ بِهِ عَفْوَكَ، وَمَا لِي بَعْدَ أَنْ حَكَمْتُ عَلَىٰ نَفْسِي إلَّا فَضْلُكَ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّد وَآلِهِ وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ...»(3).

ص: 164


1- الصحيفة السجّادية: 164/ الدعاء رقم 37.
2- الصحيفة السجّادية: 192/ الدعاء رقم 45.
3- الصحيفة السجّادية: 98/ الدعاء رقم 20.

9- طلب الكمال

من دعاء مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في مكارم الأخلاق: «اَللَّهمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّد وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَىٰ أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إلىٰ أَحْسَنِ الأَعْمَالِ...»(1).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - الإسلام يدعو الإنسان إلىٰ التكامل والكمال، وهذا من واضحات الإسلام، قال تعالىٰ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 114﴾ (طه: 114).

وروي أنَّه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا أتىٰ عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً، فلا بورك في طلوع الشمس ذلك اليوم»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همَّته اشتدَّت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شرُّ يوميه فمحروم، ومن لم يبالِ بما زري من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوىٰ، ومن كان في نقص فالموت خير له...»(3).

2 - لقد ذكرت الروايات الشريفة صفات الإيمان الكامل، وهذه بعضها:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ثلاثة من كُنَّ فيه يستكمل إيمانه: رجل لا

ص: 165


1- الصحيفة السجّادية: 92/ الدعاء رقم 20.
2- مسند ابن راهويه 2: 553/ ح (585/1128).
3- أمالي الصدوق: 477 و478/ ح (644/4).

يخاف في الله لومة لائم، ولا يُرائي بشيء من عمله، ومن إذا عُرِضَ عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، اختار أمر الآخرة علىٰ الدنيا»(1).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام): «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتَّىٰ يكون فيه خصال ثلاث: التفقُّه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر علىٰ الرزايا»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يستكمل عبد الإيمان حتَّىٰ يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه، وحتَّىٰ يخاف الله في مزاحه وجدِّه»(3).

3 - وأمَّا عن اليقين، فقد روي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) سأل جبرائيل فقال: «فما تفسير اليقين؟»، قال: «الموقن يعمل لله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يرىٰ الله فإنَّ الله يراه، وأن يعلم يقيناً أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كلُّه أغصان التوكُّل، ومدرجة الزهد»(4).

4 - وأمَّا عن النيَّة، فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَىٰ فِرَاشِه وَهُوَ عَلَىٰ مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّه وَحَقِّ رَسُولِه وَأَهْلِ بَيْتِه مَاتَ شَهِيداً، وَوَقَعَ أَجْرُه عَلَىٰ الله، وَاسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَىٰ مِنْ صَالِحِ عَمَلِه، وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِه لِسَيْفِه»(5).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أن يقوم يُصلّي

ص: 166


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 38: 13/ ح 7576.
2- المحاسن للبرقي 1: 5/ ح 11.
3- أُسد الغابة لابن الأثير 5: 305.
4- معاني الأخبار للصدوق: 261/ باب معنىٰ التوكُّل والصبر.../ ح 1.
5- نهج البلاغة: 283/ الخطبة 190.

من الليل فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه (عزوجلّ) »(1).

5 - وأمَّا عن العمل الصالح، فيقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أفضل العمل أدومه وإن قلَّ»(2).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أفضل الأعمال لزوم الحقِّ»(3).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ عن أفضل الأعمال -: «الصلاة لوقتها، وبرُّ الوالدين، والجهاد في سبيل الله (عزوجلّ) »(4).

10- مفاهيم وطرق إصلاحها

من دعاء مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في مكارم الأخلاق: «... اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّد وَآلِةِ، وَارْزُقْنِي صِحَّةً فِيْ عِبَادَةٍ، وَفَراغاً فِي زَهَادَةٍ، وَعِلْماً فِي اسْتِعمَالٍ، وَوَرَعاً فِي إجْمَالٍ...»(5).

هنا عدَّة ملاحظات:

يُعطي الإمام (علیه السلام) العلاج المناسب للنعم الإلهيَّة علىٰ الإنسان، التي لو لم يستعمل معها ذلك العلاج لانقلبت وبالاً عليه:

1 - أنَّ الصحَّة مدعاة للنشاط، والنشاط مدعاة للعمل، فلو لم يُقيِّد الإنسان عمله بالأُمور المحلَّلة والعبادية - التي ليس فيها معصية -

ص: 167


1- سنن النسائي 3: 258.
2- عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري 1: 447.
3- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 125.
4- الكافي للكليني 2: 158/ باب البرِّ بالوالدين/ ح 4.
5- الصحيفة السجّادية: 100/ الدعاء رقم 20.

فستكون صحَّته عليه وبالاً! ولذا كان من أهمّ ما يُحاسَب عليه المرء يوم القيامة هي أيّام نشاطه وشبابه(1)، وكان من التوصيات الإلهيَّة والمعصومية أن يستغلَّ الإنسان أيّام شبابه وصحَّته ليأخذ منها ما يحتاجه في أيّام مرضه.

2 - أنَّ الفراغ يؤدّي في غالب الأحيان إلىٰ الضجر، والضجر يخالف هوىٰ الإنسان، ولتفادي الضجر يقوم الإنسان بصرف نفسه إلىٰ أُمور تُلهيه وتُنفِّس عن كربه، فلو لم يُقيِّد الإنسان إحساسه هذا بالزهادة، لكان الفراغ وبالاً عليه، ولا تظنَّنَّ أنَّ الزهد هو ترك الدنيا ولبس المسوح والعيش في المستنقعات! كلَّا، بل هو ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام): «الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كلِّ نعمة، والورع عن كلِّ ما حرَّم الله (عزوجلّ) »(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الزهد ليس بتحريم الحلال أو إضاعة المال، ولكن تكون بما عند الله أوثق [منك] بما عندك»(3).

وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ ساعات الفراغ هي من عمر الإنسان، فلا بدَّ أن لا يُضيِّعها الإنسان في التُرَّهات والخزعبلات.

فدقّات قلب المرء قائلة له *** إنَّ الحياة دقائق وثواني

والملاحَظ أنَّ الروايات الشريفة قد أولَت اهتمامها بمسألة

ص: 168


1- عن موسىٰ بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتَّىٰ يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت». (الخصال للصدوق: 253/ ح 125).
2- الكافي للكليني 5: 71/ باب معنىٰ الزهد/ ح 3.
3- نزهة الناظر للحلواني: 29/ ح 85.

الفراغ، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الله يبغض الصحيح الفارغ، لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة»(1).

وعن مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في بعض أدعيته: «وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ، فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْه فَرَاغَ سَلَامَةٍ، لَا تُدْرِكُنَا فِيه تَبِعَةٌ، وَلَا تَلْحَقُنَا فِيه سَأْمَةٌ، حَتَّىٰ يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّىٰ كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ...»(2).

ومن دعائه (علیه السلام) في يوم عرفة: «وَأَذِقْنِي طَعْمَ الْفَرَاغِ لِمَا تُحِبُّ بِسَعَةٍ مِنْ سَعَتِكَ، وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا يُزْلِفُ لَدَيْكَ وَعِنْدَكَ، وَأَتْحِفْنِي بِتُحْفَةٍ مِنْ تُحَفَاتِكَ، وَاجْعَلْ تِجَارَتِي رَابِحَةً، وَكَرَّتِي غَيْرَ خَاسِرَةٍ، وَأَخِفْنِي مَقَامَكَ، وَشَوِّقْنِي لِقَاءَكَ»(3).

3 - أنَّ العلم مسؤولية قبل أن يكون مدعاة للفخر والتفاخر، ولذا لا بدَّ من تزكية العلم، وتزكيته إنفاقه علىٰ الجاهل والمتعلِّم، لكن لا بدَّ من الالتفات إلىٰ أنَّ إنفاقه ليس إلَّا أثراً من آثار العمل به، فلولا العمل به لكان العلم وبالاً علىٰ الإنسان، ولذا تجد الروايات الكثيرة تُحذِّر من خطر ترك العمل بالعلم، وأنَّ أهل جهنَّم يتأذون من نار العالم التارك للعمل بعلمه(4).

ص: 169


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 17: 146.
2- الصحيفة السجّادية: 62/ الدعاء رقم 11.
3- الصحيفة السجّادية: 230/ الدعاء رقم 47.
4- عن سُليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السلام) يُحدِّث عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنَّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنَّ أشدَّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلىٰ الله، فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنَّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتِّباعه الهوىٰ وطول الأمل. أمَّا اتِّباع الهوىٰ فيصدُّ عن الحقِّ، وطول الأمل يُنسي الآخرة». (الكافي للكليني 1: 44/ باب استعمال العلم/ ح 1).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه، وَمُعَلِّمُ نَفْسِه وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(1).

4 - أنَّ طلب الرزق فرض علىٰ الإنسان، ولكن لا بدَّ أن يكون في طلبه ورع يمنعه من المحارم، لكي لا يقع في المهلكات، والورع هو الذي يؤدّي إلىٰ الإجمال في الطلب، الذي معناه الموازنة بين وجوب طلب الرزق وما قدَّره الله تعالىٰ للإنسان من الرزق الذي هو في قوله تعالىٰ: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 22﴾ (الذاريات: 22)، فيكون طلبه من الحلال فقط، فإنَّ الإنسان لا يموت حتَّىٰ يكون قد أكل رزقه كلَّه.

11- طلب التواضع

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «... اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزًّا ظَاهِرَاً إلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا...»(2).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - من الملاحَظ كثيراً في أدعية الإمام زين العابدين (علیه السلام) أنَّه في أغلبها يجعل الصلاة علىٰ محمّد وآله واسطة في طلب ما يريده من خلال دعائه.

ص: 170


1- نهج البلاغة: 480/ ح 73.
2- الصحيفة السجّادية: 92/ الدعاء رقم 20.

وهذا ما تؤكِّده الروايات الشريفة، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «لا يزال الدعاء محجوباً حتَّىٰ يُصلّي علىٰ محمّد وآل محمّد»(1).

وعنه (علیه السلام): «من كانت له إلىٰ الله (عزوجلّ) حاجة فليبدأ بالصلاة علىٰ محمّد وآله، ثمّ يسأل حاجته، ثمّ يختم بالصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد، فإنَّ الله (عزوجلّ) أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ[ا] كانت الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد لا تحجب عنه»(2).

وعن الإمام عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام): «كلُّ دعاء محجوب عن السماء حتَّىٰ تُصلّي علىٰ محمّد وآله»(3).

2 - الملاحَظ أنَّ الإمام (علیه السلام) يطلب التواضع مع النفس، ولا عجب، إذ إنَّه أساس التواضع مع الغير.

3 - ولا بدَّ أن يكون التواضع بقدر متوسِّط، يتناسب مع الآداب الإسلاميَّة العامَّة، لأنَّ زيادة التواضع - إلىٰ حدٍّ يصير أقلّ من المطلوب - يؤدّي إلىٰ الذلَّة، وهو مرفوض إسلاميًّا، وهكذا الحال في زيادة العزَّة إلىٰ حدٍّ يخرج عن حدِّ التواضع إلىٰ الكبر، ولذا تجد الإمام (علیه السلام) يُؤكِّد علىٰ هذه النقطة بقوله: «مِثْلَهَا، بِقَدَرِهَا».

إنَّ التواضع نعمة عظيمة علىٰ الإنسان أن يسعىٰ إلىٰ الحصول عليها، وهي النعمة لا يُحسَد صاحبها عليها، وهي صفة طالما كان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) متَّصفاً بها، ولطالما دعا المسلمين إلىٰ التزامها، ولقد كان (صلی الله علیه و آله) متواضعاً في نفسه ومع غيره، حتَّىٰ إنَّه كان يُسلِّم حتَّىٰ علىٰ

ص: 171


1- الكافي للكليني 2: 491/ باب الصلاة علىٰ النبيِّ محمّد وأهل بيته.../ ح 1.
2- الكافي للكليني 2: 494/ باب الصلاة علىٰ النبيِّ محمّد وأهل بيته.../ ح 16.
3- ثواب الأعمال للصدوق: 155.

الصبيان، رغم عظمته، وذلك حتَّىٰ لا يتكبَّر من يأتي بعده عن أن يبدأ غيره بالسلام ولو كان صبياً.

والتواضع كغيره من صفات الإنسان، التي يحتاج فيها المؤمن أن يدعو الله تعالىٰ ويتوسَّل به حتَّىٰ يُوفِّقه لنيلها والحفاظ عليها.

12- لا نوافل مع الإضرار بالفرائض

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «وَلَسْتُ أَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِفَضْلِ نَافِلَة مَعَ كَثِيرِ مَا أَغْفَلْتُ مِنْ وَظَائِفِ فُرُوضِكَ، وَتَعَدَّيْتُ عَنْ مَقَامَاتِ حُدُودِكَ إلَىٰ حُرُمَاتٍ انْتَهَكْتُهَا، وَكَبَائِرِ ذُنُوبٍ اجْتَرَحْتُهَا، كَانَتْ عَافِيَتُكَ لِي مِنْ فَضَائِحِهَا سِتْراً...»(1).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ»(2).

2 - من الواقع المأسوف عليه أنَّ الكثير من الناس يعتني أشدّ الاعتناء بالمستحبّات، ولكنَّه يترك الواجبات، فكم من دافع للصدقات الكثيرة وهو لا يدفع ما عليه من النفقات والحقوق الواجبة! وكم من كافل لليتيم وهو تارك للصلاة! وكم من متعبٍ نفسَه بالمشي إلىٰ زيارة العتبات المقدَّسة وهو عاقٌّ لوالديه! وكم من قارئ للقرآن وهو غير ملتزم بمضامينه!

ص: 172


1- الصحيفة السجّادية: 150/ الدعاء رقم 32.
2- نهج البلاغة: 475/ ح 39.

3 - ورغم عظمة القاهر فوق عباده، وسعة قدرته المطلقة، ورغم تجاوزنا الحدود الإلهيَّة، إلَّا أنَّ الباري تعالىٰ قد مدَّ جناح عافيته علينا، فأبىٰ أن يفضحنا بذنوبنا، وأرخىٰ ستره علينا! وهذا ما يحكيه دعاء السحر في شهر رمضان حيث يقول مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «... تَتَحَبَّبُ إِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ إِلَيْنا نازِلٌ وَشَرُّنا إِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلايزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ يَأْتِيكَ عَنّا بِعَمَلٍ قَبِيحٍ فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ أَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً، تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ، أَنْتَ إِلهِي أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْماً مِنْ أَنْ تُقايِسَنِي بِفِعْلِي وَخَطِيئَتِي، فَالعَفْوَ العَفْوَ العَفْوَ سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي...»(1).

4 - وهذا من النعم العظيمة علينا، والتي ينبغي أن تكون مدعاة للاستحياء من الباري تعالىٰ، ولا تكون ملهاة عن الغضب الإلهي أو مدعاة للغفلة والاستهزاء بالأوامر الإلهيَّة والعياذ بالله. وإلَّا فلعلَّ هذه النعمة هي نعمة استدراج، والعاقبة حينذاك تكون وخيمة - نستجير بالله تعالىٰ -.

عن الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 182﴾ (الأعراف: 182)، قال: «هو العبد يذنب الذنب، فتُجدَّد له النعمة معه، تُلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب»(2).

ص: 173


1- الصحيفة السجّادية (أبطحي): 220.
2- الكافي للكليني 2: 452/ باب الاستدراج/ ح 3.

وعنه (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ عن الاستدراج - قال: «هو العبد يذنب الذنب، فيُملي له ويُجدَّد له عندها النعم، فتُلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم»(1).

13- التعوّذ من النار

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «اَللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مَنْ نَار تَغَلَّظْتَ(2) بِهَا عَلَىٰ مَنْ عَصَاكَ، وَتَوَعَّدْتَ بِهَا مَنْ صَدَفَ(3) عَنْ رِضَاكَ، وَمِنْ نَار نورُهَا ظُلْمَة، وَهَيِّنُهَا أَلِيمٌ، وَبَعِيدُهَا قَرِيبٌ. وَمِنْ نَار يَأْكُلُ بَعْضَهَا بَعْضٌ، وَيَصُولُ بَعْضُهَا عَلَىٰ بَعْض. وَمِنْ نَار تَذَرُ الْعِظَامَ رَمِيماً، وَتَسْقِي أَهْلَهَا حَمِيماً. وَمِنْ نَار لَا تُبْقِي عَلَىٰ مَنْ تَضَرَّعَ إلَيْهَا، وَلَا تَرْحَمُ مَنِ اسْتَعْطَفَهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَىٰ التَّخْفِيفِ عَمَّنْ خَشَعَ لَهَا وَاسْتَسْلَمَ إلَيْهَا، تَلْقَىٰ سُكَّانَهَا بِأَحَرِّ مَا لَدَيْهَا مِنْ أَلِيْمِ النَّكَالِ وَشَدِيدِ الْوَبَالِ. وَأَعُوذُ بكَ مِنْ عَقَارِبِهَا الْفَاغِرَةِ(4) أَفْوَاهَهَا، وَحَيّاتِهَا الصَّالِقَةِ(5) بِأَنْيَابِهَا، وَشَرَابِهَا الَّذِي يُقَطِّعُ أَمْعَاءَ وَأَفْئِدَةَ سُكَّانِهَا، وَيَنْزِعُ قُلُوبَهُمْ، وَأَسْتَهْدِيْكَ لِمَا باعَدَ مِنْهَا وَأَخَّرَ عَنْهَا...»(6).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - لا يستطيع الإنسان بكلِّ تأكيد أن يتحمَّل نار الدنيا، فكيف

ص: 174


1- الكافي للكليني 2: 452/ باب الاستدراج/ ح 2.
2- أي تشدَّدت.
3- أي أعرض.
4- أي الفاتحة.
5- أي المصوِّتة.
6- الصحيفة السجّادية: 153 و154/ الدعاء رقم 32.

بنار الآخرة، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «... وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ، وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه...»(1).

2 - أنَّ نار جهنَّم هي مثلما وصفها الإمام السجّاد (علیه السلام) في هذا المقطع من الدعاء، بل وأكثر، وهي كانت ولا زالت موعظة لمن يقسو قلبه ويريد أن يرجع إلىٰ حظيرة القدس، وقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: يا بن رسول الله، خوِّفني فإنَّ قلبي قد قسا، فقال: «يا أبا محمّد، استعدَّ للحياة الطويلة، فإنَّ جبرئيل جاء إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وهو قاطب، وقد كان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل، جئتني اليوم قاطباً!؟ فقال: يا محمّد، قد وُضِعَت منافخ النار! فقال: وما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمّد، إنَّ الله (عزوجلّ) أمر بالنار فنُفِخَ عليها ألف عام حتَّىٰ ابيضَّت، ونُفِخَ عليها ألف عام حتَّىٰ احمرَّت، ثمّ نُفِخَ عليها ألف عام حتَّىٰ اسودَّت، فهي سوداء مظلمة، لو أنَّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو أنَّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وُضِعَت علىٰ الدنيا لذابت الدنيا من حرِّها، ولو أنَّ سربالاً من سرابيل أهل النار عُلِقَ بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه».

قال: «فبكىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكىٰ جبرئيل، فبعث الله إليهما

ص: 175


1- نهج البلاغة: 267/ الخطبة: 183.

ملكاً، فقال لهما: إنَّ ربَّكما يُقرؤكما السلام ويقول: قد آمنتكما أن تذنبا ذنباً أُعذِّبكما عليه(1)».

فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «فما رأىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) جبرئيل مبتسماً بعد ذلك».

ثمّ قال: «إنَّ أهل النار يُعظِّمون النار، وإنَّ أهل الجنَّة يُعظِّمون الجنَّة والنعيم، وإنَّ أهل جهنَّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً، فإذا بلغوا أعلاها قُمعوا بمقامع الحديد وأُعيدوا في دركها، هذه حالهم، وهو قول الله (عزوجلّ): ﴿كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ 22﴾ [الحجّ: 22]. ثمّ تُبدَّل جلودهم جلوداً غير الجلود التي كانت عليهم».

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «حسبك يا أبا محمّد؟».

قلت: حسبي حسبي(2).

14- مطالب الروح والجسد

من دعاء الإمام زين العابدين (علیه السلام) عند الصباح والمساء: «فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيه مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ وَنَهَضَاتِ النَّصَبِ، وَجَعَلَه لِبَاساً لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِه وَمَنَامِه، فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ جَمَاماً وَقُوَّةً، وَلِيَنَالُوا بِه لَذَّةً وَشَهْوَةً. وَخَلَقَ لَهُمُ النَّهارَ مُبْصِراً لِيَبْتَغُوا فِيه مِنْ فَضْلِه، وَلِيَتَسَبَّبُوا إِلَىٰ رِزْقِه، وَيَسْرَحُوا فِي أَرْضِه، طَلَباً لِمَا فِيه نَيْلُ الْعَاجِلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ،

ص: 176


1- فحقٌّ علىٰ من لم يأتِه ملك كهذا الملك يُبشِّره بالعصمة من النار أن لا يأمنها.
2- راجع: تفسير القمّي 2: 81.

وَدَرَكُ الآجِلِ فِي أُخْرَاهُمْ، بِكُلِّ ذَلِكَ يُصْلِحُ شَأْنَهُمْ، وَيَبْلُو أَخْبَارَهُمْ»(1).

إنَّ الله تعالىٰ خلق الدنيا بمواصفات تخدم الإنسان في حياته، وتجعله يعيش عيشة راضية هنيئة، فما هو من الله تعالىٰ ليس إلَّا الخير، وما يحدث من الشرور والعقبات فإنَّما هو بسبب سوء اختيار الإنسان.

ومما خَلَقَ لنا جل وعلا: الليلَ والنهارَ، وفي كلٍّ منهما فوائد للإنسان في جسمه وروحه ما لا يمكن أن نؤدّي شكر واحدة منها، والملاحَظ أنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) في هذا المقطع يشير إلىٰ أنَّ هذه النعم إنَّما أعطاها الله تعالىٰ للإنسان ليتقوّىٰ بها وليحرز مطالب كلٍّ من الروح والبدن، فهناك راحة للبدن تتمثَّل بالنوم والهدوء والصحَّة، وهناك مطالب للروح تتمثَّل بالطمأنينة والسكون والإيمان، والإنسان في حياته عليه أن يسعىٰ لإشباع حاجة كلٍّ من الروح والبدن، لا أحدهما دون الآخر. الأمر الذي أشار له الإمام السجّاد (علیه السلام) بقوله: «طَلَباً لِمَا فِيه نَيْلُ الْعَاجِلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَدَرَكُ الآجِلِ فِي أُخْرَاهُمْ».

وتشير العديد من الأحاديث إلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله (عزوجلّ): ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، قال: «رضوان الله والجنَّة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعايش وحسن الخُلُق في الدنيا»(2).

وقال (علیه السلام): «نعم العون الدنيا علىٰ الآخرة»(3).

وقال (علیه السلام): «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(4).

ص: 177


1- الصحيفة السجّادية: 48/ الدعاء رقم 6.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 156/ ح 3566.
3- الكافي للكليني 5: 72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 8.
4- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 156/ ح 3568.

وروي عن العالم (علیه السلام) أنَّه قال: «اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نعم العون علىٰ تقوىٰ الله الغنىٰ»(2).

وبهذا التوازن بين العمل من أجل الروح، ومن أجل الجسد، امتاز الإسلام عن غيره من الأديان. علىٰ أنَّه لم يأتِ بجديد سوىٰ تقرير الواقع، والكشف عنه، لأنَّ الإنسان ليس ملاكاً، ولا حيواناً، بل بين بين، وقد أولىٰ الإسلام اهتمامه بهما، والعمل لهما تبعاً للنظام الإنساني الطبيعي، وكلُّ دين، أو مذهب، أو نظام لا يراعي التوازن بين الروح والجسد فهو مناقض لطبيعة الحياة وقوانينها. الأمر الذي أشار له الإمام السجّاد (علیه السلام) بقوله: «بِكُلِّ ذَلِكَ يُصْلِحُ شَأْنَهُمْ، وَيَبْلُو أَخْبَارَهُمْ».

15- منهاج الآخرة

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه عند ختم القرآن: «اللَّهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ، وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ»(3).

كلُّ سفر من أسفار بني آدم، لا بدَّ فيه من ثلاثة أُمور ضرورية، لأجل الوصول بسلامة إلىٰ الغاية والهدف، فحتَّىٰ تكون الرحلة ناجحة، مربحة، مريحة، فلا بدَّ من توفير الوسائل المهمَّة لهذه الأُمور.

ص: 178


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق 3: 156/ ح 3569.
2- الكافي للكليني 5: 71/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 1.
3- الصحيفة السجّادية: 178/ الدعاء رقم 42.

وخلاصتها ثلاثة أُمور:

1 - الدليل، وكان الدليلُ سابقاً شخصاً له معرفة بطرق الصحراء ومداخلها ومخارجها، يستعمل النجوم والعلامات الطبيعية من تضاريس أرضية وغيرها للتوصُّل إلىٰ الغاية، وكان نادراً ما يخطأ.

وأمَّا في العصر الحديث، فتحوَّل الدليل إلىٰ علامات تُنصَب علىٰ الطرق، وإلىٰ خرائط ترسم الطرق ومخارجها، وإلىٰ اتِّصالات عبر الأقمار الصناعية، وغيرها من الأُمور. وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا بدَّ من دليل يدلُّك علىٰ هدفك الذي تريد أن تصل إليه.

2 - السبيل، بمعنىٰ طريق تمشي عليه، ومن المعلوم أنَّه كلَّما كان الطريق جيِّداً من حيث المسالك ووضوح الخطَّة، وكلَّما كان أكثر اختصاراً بالنسبة إلىٰ الهدف، كلَّما كان النجاح بسلوكه أوفق، والنجاة في سبيله أوثق.

3 - الوسيلة، وقد اختلفت وسيلة التنقُّل عبر العصور، فلقد كانت هي ما ذكرته الآية الكريمة: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 8﴾ (النحل: 8)، ثمّ تطوَّرت إلىٰ ما وصلت إليه اليوم من سيّارات وطائرات وغير ذلك.

إذن، هذا ما يحتاجه الإنسان في سفره الدنيوي.

أمَّا عن السفر الأُخروي، فيُحدِّد الإمام السجّاد (علیه السلام) هذه الأُمور الثلاثة فيه بالتالي:

1 - الدليل والعلم:

وذكر الإمام السجّاد (علیه السلام) أنَّه هو رسول الله الأعظم محمّد (صلی الله علیه و آله)، حيث قال: «اللَّهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ».

ص: 179

فهو (صلی الله علیه و آله) النور الذي أخرج الناس من ظلمات الجاهلية، إلىٰ نور التوحيد، وأخرج الناس من ظلام الظلم والجهل وقتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات وضياع القيم وغياب الفضيلة...، فهو معلِّم الناس الأوَّل، وقد روي أنَّه (صلی الله علیه و آله) مرَّ بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما علىٰ خير، وأحدهما أفضل من صاحبه. أمَّا هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأمَّا هؤلاء فيتعلَّمون الفقه والعلم ويُعلِّمون الجاهل, فهم أفضل. وإنَّما بُعِثْتُ معلِّما»، قال: ثمّ جلس فيهم(1).

2 - سبيل الآخرة وطريقها:

وقد ذكر الإمام السجّاد (علیه السلام) أنَّ طريق الآخرة المستقيم هم أهل البيت (علیهم السلام): «وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ»، فهم الصراط المستقيم الذي ندعو الله تعالىٰ أن يهدينا إليه كلَّ يوم في صلواتنا: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6﴾ (الفاتحة: 6).

عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، فإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطأ منهم والصواب من قِبَل عليٍّ (علیه السلام) »(2).

3 - الوسيلة:

ويذكر الإمام السجّاد (علیه السلام) أنَّ أفضل وسيلة لطريق الآخرة هو القرآن الكريم، حيث يقول (علیه السلام): «وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ».

ص: 180


1- سنن الدارمي 1: 99 و100.
2- بصائر الدرجات للصفّار: 539/ الجزء 10/ باب 19/ ح 4.

وهذا ما ذكره صريحاً رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله) في ما روي عن أبي عبد الله، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيُّها الناس، إنَّكم في دار هدنة، وأنتم علىٰ ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلَّ جديد ويُقرِّبان كلَّ بعيد ويأتيان بكلِّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن لأسود الكندي فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأُمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلىٰ الجنَّة، ومن جعله خلفه ساقه إلىٰ النار»(1).

16- أثر الجار الصالح (شهر رمضان نموذجاً)

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه في وداع شهر رمضان المبارك:

«السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِر رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ»(2).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - من آثار شهر رمضان المبارك هو رقَّة القلب الدالِّ علىٰ قلَّة الذنوب، إذ إنَّه «ما جفت الدموع إلَّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلَّا لكثرة الذنوب»، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (3).

ص: 181


1- الكافي للكليني 2: 598 و599/ باب في تمثُّل القرآن وشفاعته لأهله/ ح 2.
2- الصحيفة السجّادية: 198/ الدعاء رقم 45.
3- علل الشرائع للصدوق 1: 81/ باب 74/ ح 1.

فالعلاقة طردية بين كثرة الذنوب وقسوة القلوب، وبالتالي يكون القلب الرقيق دالّاً علىٰ قلَّة الذنوب.

2 - وعليه، فيمكن معرفة القلب الرقيق بواسطة الدموع الجارية في سبيل الله تعالىٰ، وفي هذا من الفضل ما تنعم به النفوس نعيماً لم ترَه عين ولم تسمع به أُذُن ولم يخطر علىٰ قلب بشر، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «كلُّ عين باكية يوم القيامة إلَّا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله»(1).

3 - للجار معنىٰ متعارف، وهو ما أوصت به الروايات الشريفة إلىٰ الحدِّ الذي قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «... وَاللهِ اللهِ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّىٰ ظَنَنَّا أَنَّه سَيُوَرِّثُهُمْ...»(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع، قال: وما من أهل قرية يبيت [و] فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة»(3).

وعن الإمام زين العابدين (علیه السلام)، قال: «وأمَّا حقُّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتَّبع له عورة، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، وإن علمت أنَّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تُسلِّمه عند شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا قوَّة إلَّا بالله»(4).

ص: 182


1- الخصال للصدوق: 98/ ح 46.
2- نهج البلاغة: 422/ ح 47.
3- الكافي للكليني 2: 668/ باب حقِّ الجوار/ ح 14.
4- أمالي الصدوق: 455/ ح (610/1).

وروي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «أتدرون ما حقُّ الجار؟ إن استغاثك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن وإن مرض عدته، وإن مات اتَّبعت جنازته، وإن أصابه خير هنَّأته، وإن أصابته مصيبة عزَّيته، ولا تستطيل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلَّا بإذنه، وإذا شريت فاكهة فاهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقيثار قدرك إلَّا أن تعرف له منها»(1).

هذا، ولكن الإمام السجّاد (علیه السلام) يُعطي معنىٰ آخر للجار، وهو الزمان عموماً، وزمان الطاعة - شهر رمضان مثالاً - خصوصاً، وعليه فينبغي مراعاة هذا الجار استجابةً لأوامر الروايات التي عرفنا بعضها قبل قليل.

4 - أنَّ الجار الصالح إنَّما هو من يترتَّب علىٰ مجاورته أثر الجار الصالح، وأثره هو ما ذكره الإمام السجّاد (علیه السلام) هنا من:

أ - تقليل الذنوب.

ب - رقَّة القلوب.

وقد عرفنا أنَّ رقَّة القلب مترتِّبة علىٰ قلَّة الذنوب.

وهذا يعطيك قاعدة إسلاميَّة مهمَّة جدًّا في الحياة الاجتماعية للمسلم، وهي قاعدة معرفة الجار الصالح من الطالح، فما ترتَّب علىٰ وجوده بجنبك قلَّة الذنوب ورقَّة القلوب فهو، وإلَّا فاهرب منه هروبك من الأسد!

هذا، ويمكن تعميم هذه القاعدة لكلِّ صاحب ورفيق، فتعرف الصالح من الطالح بنفس ما تعرف به الجار.

ص: 183


1- مسند الشاميين للطبراني 3: 339/ ح 2430.

17- إنَّما يعجل من يخاف الفوت

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «وَإنْ عَذَّبْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْحَمُنِي، وَإنْ أَهْلَكْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْرِضُ لَكَ فِي عَبْدِكَ أَوْ يَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلَا فِي نِقْمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإنَّمَا يَعْجَلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَإنَّمَا يَحْتَاجُ إلَىٰ الظُّلْمِ الضَّعِيفُ، وَقَدْ تَعَالَيْتَ يَا إلهِي عَنْ ذلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً...»(1).

هنا عدَّة ملاحظات:

1 - لو أراد الله تعالىٰ أن يُعذِّب الإنسان، فلا يستطيع أحد أن يتدخَّل أو يعترض، لأنَّ الله تعالىٰ هو المالك، والإنسان هو العبد الرقُّ.

وفي مثل هذه الحالة لا يحقُّ لأحد أن يعترض علىٰ المالك المطلق، فإنَّه تعالىٰ: ﴿... وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ41﴾ (الرعد: 41)، وهو تعالىٰ ﴿الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ18﴾ (الأنعام: 18).

2 - إنَّما يصحُّ الاعتراض علىٰ حكم الحاكم في فروض، وكلُّها منتفية في حقِّ الله تعالىٰ، فلا يجوز الاعتراض علىٰ حكم الله تعالىٰ أبداً.

وتلك الفروض المنتفية هي:

أ - أن يكون الحكم الصادر من الحاكم ظلماً، وهو منتفٍ في حقِّ الله تعالىٰ، لأنَّه ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا

ص: 184


1- الصحيفة السجّادية: 238 و239/ الدعاء رقم 48.

أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49﴾ (الكهف: 49).

وهذا ما يُعبِّر عنه الإمام السجّاد (علیه السلام) بقوله: «وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ».

بالإضافة إلىٰ أنَّ ملاك الظلم هو الاحتياج إليه للوصول إلىٰ المآرب، الناجم عن الضعف، والضعف منتفٍ عن الساحة الربوبية، لأنَّه تعالىٰ غنيٌّ مطلق، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15﴾ (فاطر: 15).

وهذا ما يُعبِّر عنه الإمام السجّاد (علیه السلام) بقوله: «وَإنَّمَا يَحْتَاجُ إلَىٰ الظُّلْمِ الضَّعِيفُ».

ب - أن يكون الحكم الصادر من المالك مشتملاً علىٰ الاستعجال وعدم التروّي وعدم إعطاء الفرصة الكافية للعبد ليُصحِّح خطأه.

وهذا كلُّه منتفٍ عن الساحة الإلهيَّة المقدَّسة، لأنَّه تعالىٰ أعطىٰ العبد الفرصة الكافية ليُصحِّح خطأه، وهذا ما يحكيه القرآن الكريم في آياته الكريمات.

يقول تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ 36 وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ 37﴾ (فاطر: 36 و37).

عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إذا أتت علىٰ الرجل أربعون سنة قيل له: خذ حذرك فإنك غير معذور، وليس ابن الأربعين بأحقّ بالحذر من

ص: 185

ابن العشرين، فإنَّ الذي يطلبهما واحد وليس براقد، فاعمل لما أمامك من الهول، ودع عنك فضول القول»(1).

علاوة علىٰ ذلك، فإنَّ ملاك الاستعجال هو الخوف من فوت الفرصة، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِضَاعَةُ الْفُرْصَةِ غُصَّةٌ»(2).

ولكن هذا خاصٌّ بالإنسان، أمَّا الله تعالىٰ فإنَّه لا يخاف الفوت، لأنَّه قادر علىٰ كلِّ شيء.

فما أمره إلَّا أن يقول للشيء: كن فيكون.

18- معكِّرات صفو الحياة

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاكْفِنَا حَدَّ نَوَائِبِ الزَّمَانِ، وَشَرَّ مَصَائِدِ الشَّيْطَانِ، وَمَرَارَةَ صَوْلَةِ السُّلْطَانِ»(3).

في هذه الحياة، يطلب الإنسان الدعة وراحة البال، وينفق في سبيل تحصيلها الراحة والمال، ويسعىٰ بما أُوتي من قوَّة أن يكون بعيداً عن المشاكل وما يشغل البال، ولكنَّها هي الحياة الدنيا، بُنيت علىٰ التغيُّر من حال إلىٰ حال، وهكذا تبقىٰ إلىٰ آخر المآل.

الحياة في الحقيقة جميلة، لكن هناك أُموراً تُعكِّر صفوها، وتُكدِّر هدوءها، والإمام السجّاد (علیه السلام) يُشير في هذا المقطع من الدعاء إلىٰ ثلاثة

ص: 186


1- الكافي للكليني 2: 455/ باب محاسبة العمل/ ح 10.
2- نهج البلاغة: 489/ ح 118.
3- الصحيفة السجّادية: 46/ الدعاء رقم 5.

من تلك الأُمور، ويستعيذ بالله تعالىٰ منها، ويطلب منه أن يكفيه إيّاها، تلك أُمور لها أثر سلبي علىٰ حياة الإنسان، والإنسان لا بدَّ أن يطلب العافية من الله تعالىٰ.

وتلك المعكِّرات الثلاثة هي:

أوَّلاً: نوائب الزمان، فمن يأتمن الزمان فلا عقل له، كيف، وهو هو الذي لم يصدق بصحبته مع أحد من البشر قبلنا، فكيف نأتمنه!؟ إنَّه لا يرضىٰ لأحد بالسكون والطمأنينة، فتراه يهجم علىٰ الإنسان بأنواع أسلحته ونوائبه، فمن مرضٍ إلىٰ همٍّ إلىٰ فقدان عزيز إلىٰ ابتعاد صديق، إلىٰ خسارة مال أو جرح مشاعر، إلىٰ انكسار قلب، وما عشت أراك الدهر من نوائبه ما لا تتوقَّع.

ف- «مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَه، وَمَنْ أَعْظَمَه أَهَانَه»(1).

ثانياً: مصائد الشيطان، ففي أوَّل يوم عصىٰ الشيطان فيه ربَّ العزَّة والجلال، أعلن عداوته للإنسان، وتوعَّده بأنَّه سيقعد له بكلِّ مرصد، ليغويه، وليوقعه في مصائده التي تنوَّعت، فمن مصيدة المال، إلىٰ مصيدة الميل إلىٰ الجنس الآخر، إلىٰ مصيدة الجاه والمنصب، بل إنَّه ينصب لنا فخاخاً حتَّىٰ بالعبادة، فيجعلنا في بعض الأحيان نُتعِب أنفسنا بعبادة نحسبها خالصة لله تعالىٰ، وإذا بنا نقوم بها من أجل السمعة والرياء، فلا يبقىٰ لنا من قيامنا إلَّا التعب، ولا من صيامنا إلّا الجوع، وقد ينفق بعضنا ماله فيكون حسرةً عليه يوم القيامة!

وكما يقول الإمام الصادق (علیه السلام) لعبد الله بن جندب: «يا عبد الله، لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلَّا أولياءنا»(2).

ص: 187


1- نهج البلاغة: 405/ وصايا شتّىٰ.
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: 301.

ثالثاً: مرارة صولة السلطان، تلك المرارة التي تحرمنا من تذوّق حلاوة الأمن والطمأنينة، فإنَّ الذي يخاف السلطان لا يهنأ بطعام ولا بنوم، ولا يفرح بمال ولا جاه، سواء كان من أصحاب السلطان، فإنَّ صاحبه «كَرَاكِبِ الأَسَدِ، يُغْبَطُ بِمَوْقِعِه، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِه»(1).

أو كان من أعداء السلطان ومناوئيه، كما هو واضح.

والنتيجة: أنَّ حياة كلِّ واحد منّا لا تخلو من إحدىٰ هذه الثلاث، ولا يمكن لنا أن نُبعِدها عن أنفسنا بمفردنا، فنحن أضعف من ذلك بكثير، فما علينا إذن، إلَّا أن نستجير بالله تعالىٰ منها ومن كلِّ بلية ممَّا لا نعلم، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: 3).

19- الاعتراف بالتقصير بين يدي الله (عزوجلّ)

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام) عند الصباح والمساء: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُصْبِحُ وَأُمْسِي مُسْتَقِلًّا لِعَمَلِي، مُعْتَرِفاً بِذَنْبِي، مُقِرًّا بِخَطَايَايَ، أَنَا بِإِسْرَافِي عَلَىٰ نَفْسِي ذَلِيلٌ، عَمَلِي أَهْلَكَنِي، وَهَوَايَ أَرْدَانِي، وَشَهَوَاتِي حَرَمَتْنِي»(2).

لو نظر كلُّ واحد منّا بنظرة واقعية، بعيدة عن المثاليات..

لو كتبنا كلَّ ذنب نذنبه في كتاب خاصٍّ..

لو رأينا تصرُّفاتنا من غيرنا..

ص: 188


1- نهج البلاغة: 521/ ح 263.
2- الصحيفة السجّادية: 256/ الدعاء رقم 52.

لو أحصينا نظراتنا، وكلماتنا..

لوجدنا فيه الكثير الكثير من الذنوب والمعاصي.

وفوق هذا، لو اعترفنا بأنَّ ما عندنا من آلات ووسائل وصفات وأموال، كلُّها هبات من الله تعالىٰ من دون استحقاق.

لو نظرنا إلىٰ عظمة الباري جلَّ وعلا، وحقارة أنفسنا بالقياس إلىٰ مخلوق من مخلوقاته لا إليه جلَّ وعلا.

لو أخذنا هذه الأُمور بعين الاعتبار، لوجدنا أنفسنا غارقين في التقصير اتِّجاهه جلَّ وعلا، فنحن ندور بين ذنب مضىٰ لم نستغفر منه، وبين مستقبل مجهول لعلَّنا نواقع فيه ألف معصية ومعصية، ونحن لا نضمن من أنفسنا العصمة في الوقت الراهن، فماذا بقي لدينا!؟

لو اعترفنا بقلوبنا بأنَّ الله تعالىٰ قد جعل علينا رقباء من كلِّ الجهات، فالملكان عن اليمين وعن الشمال، وجوارحنا، وجلودنا، والزمان الذي نعيش فيه، والمكان الذي نأوي إليه، كلُّها شهود صدق علينا، وفوق هذا كلِّه، فإنَّ هناك كتاباً يستنسخ كلَّ عمل وكلَّ قول وكلَّ نَفَس نقوم به، فهو كتاب ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها﴾ (الكهف: 49).

ثمّ إنَّ الله تعالىٰ من وراء ذلك كلِّه شاهد علينا، فالحاكم هو الشاهد، والشاهد هو الحاكم، فأين المفرُّ!؟

في الحقيقة، لا مفرَّ لنا إلَّا إلىٰ الله تعالىٰ، ولا فرصة لدينا بالنجاة إلَّا بأن نُقدِّم الاعتراف بين يدي الله تعالىٰ، وأن نحسن الظنَّ به جلَّ وعلا، فهو عند حسن ظنٍّ عبده المؤمن(1).

لنتذكَّر، بقلوبنا، ما ورد عن سليمان بن خالد، قال: كنت في محمل أقرأ إذ

ص: 189


1- راجع: الكافي للكليني 2: 72/ باب حسن الظنِّ بالله (عزوجلّ) / ح 2.

ناداني أبو عبد الله (علیه السلام): «اقرأ يا سليمان...»، فقرأت حتَّىٰ انتهيت إلىٰ قوله تعالىٰ: ﴿إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً 70﴾ [الفرقان: 70]، قال: «قف، هذه فيكم، إنَّه يُؤتىٰ بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتَّىٰ يوقَف بين يدي الله (عزوجلّ)، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيُوقفه علىٰ سيِّئاته شيئاً فشيئاً، فيقول: عملتَ كذا وكذا، في يوم كذا، في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا ربِّ»، قال: «حتَّىٰ يوقفه علىٰ سيِّئاته كلِّها، كلُّ ذلك يقول: أعرف، فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات»، قال: «فتُرفَع صحيفته للناس، فيقولون: سبحان الله، أمَا كانت لهذا العبد ولا سيِّئة واحدة؟ فهو قول الله (عزوجلّ): ﴿فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾»(1).

20- دعاة إلى الله

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاجْعَلْنَا مِنْ دُعَاتِكَ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ، وَهُدَاتِكَ الدَّالِّينَ عَلَيْكَ، وَمِنْ خَاصَّتِكَ الْخَاصِّينَ لَدَيْكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(2).

لم يُتِح لعامَّة الناس أن يكون لهم اتِّصال مباشر بالغيب، بل إنَّ ذلك أُتيح لفئة خاصَّة من البشر وصلوا إلىٰ مراتب عالية من التكامل الوجودي، وهم الأنبياء والرُّسُل، الذين قاموا بالتبليغ عن الله تعالىٰ ما أمرهم وعلىٰ أحسن وأتمّ وجه، فجزاهم الله تعالىٰ عن البشرية خيراً.

ص: 190


1- المحاسن للبرقي 1: 170/ ح 136.
2- الصحيفة السجّادية: 48/ الدعاء رقم 5.

ولكن مهمَّة التبليغ لم تنتِه بهم، فهم صلوات الله عليهم أجمعين قضوا ما عليهم من الحقِّ، وذهبوا إلىٰ دار حقِّهم، وهنا، لا بدَّ أن يقوم بعض البشر، ممَّن يتَّبعون الأنبياء في طريق الحقِّ، أن يقوموا بمهمَّة إكمال رسالتهم وتبليغهم، إذ لولا الاستمرار بالتبليغ لماتت الشريعة بموت النبيِّ، فكان لزاماً أن ينذر مجموعة من المؤمنين أنفسهم للقيام بهذه المهمَّة، وقد كان ولا زال علماؤنا الأعلام يؤدّون هذه المهمَّة علىٰ أحسن وجه.

ولكن الإمام السجّاد (علیه السلام) يريد أن يُعلِّمنا مسألة هي غاية في الأهمّية، وهي:

إنَّ علىٰ كلِّ واحد منّا، أن يمارس عملية التبليغ والتغيير من موقعه وحسب قدرته، فالتبليغ للدين الإلهي ليس مهمَّة فرد دون آخر، بل هي مهمَّة الجميع، وعلىٰ كلِّ واحدٍ منّا أن يقوم بدوره بما لا تقصير فيه.

ومن هنا، يُعلِّمنا الإمام (علیه السلام) أن ندعو الله تعالىٰ بأن يجعلنا من الدعاة إلىٰ دينه الحقِّ، وممَّن يهدون الآخرين علىٰ الله تعالىٰ بإقامة الحجج ودفع الشبه من المغرضين، الأمر الذي يعني أنَّك تقوم بمهمَّة الأنبياء.

وفي ذلك من الثواب ما لا يعمله إلَّا الله تعالىٰ.

ومن هنا، كان للمبلِّغين عن الله تعالىٰ، وللعلماء الدالّين علىٰ الدين الحنيف، فضلٌ لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ.

وقد روي أنَّ الإمام عليَّ بن محمّد الهادي (علیه السلام) قال: «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله،

ص: 191

ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عزوجلّ) »(1).

وقد سُئِلَ الإمام الصادق (علیه السلام) عن قوله تعالىٰ: ﴿... وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ...﴾ (المائدة: 32)، فقال: «من أخرجها من ضلال إلىٰ هدىٰ فكأنَّما أحياها، ومن أخرجها من هدىٰ إلىٰ ضلال فقد قتلها»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله) لرجل سأله أن يوصيه: «وادعُ الناس إلىٰ الإسلام، وأيقن أنَّ لك بكلِّ من أجابك عتقَ رقبة من ولد يعقوب»(3).

21- ملاك طلب زيادة العمر

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه في مكارم الأخلاق: «... وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِيْ بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعَاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ...»(4).

إنَّ نزعة حبِّ البقاء، بل والخلود، هي نزعة موجودة في داخل كلِّ واحد من البشر، بل هي فطرة موجودة حتَّىٰ عند الحيوانات، ولذلك تجدها تطلب الطعام وتتكاثر وتهرب من الأخطار، كلُّ ذلك من أجل أن تستمرَّ حياتها.

ص: 192


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
2- الكافي للكليني 2: 210/ باب في إحياء المؤمن/ ح 1.
3- كتاب الزهد لحسين بن سعيد الكوفي: 20/ ح 44.
4- الصحيفة السجّادية: 94/ الدعاء رقم 20.

ولا مشكلة في هذه النزعة ولا في طلب البقاء، وهو أمر مشروع بحكم العقل، ولكن علينا أن نلتفت إلىٰ أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ (الخلود) في هذه الدنيا ضربٌ من الخيال، وهو أمر أدركه الجميع منذ القدم، والقرآن يُؤكِّد هذه الحقيقة صادحاً فينا: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران: 185)، ولو كُتِبَ فيها البقاء لكان أنبياء الله ورسله أحقّ بالبقاء فيها منّا.

الأمر الثاني: لا يعني هذا أن نطلب الموت بأيدينا، كلَّا، بل العقل يحكم بلزوم دفع أيَّ ضرر من شأنه أن يُنهي الحياة، بل ورد في رواياتنا الشريفة أنَّ علىٰ المؤمن أن يطلب العافية من الله تعالىٰ لا البلاء(1)، ولكن، عندما يطلب طول العمر فعليه أن ينتبه إلىٰ هذه الحقيقة، وهي أنَّ العمر يُمثِّل رأس مال الإنسان، وهو سلاح ذو حدَّين، فقد يستعمله المرء في ما تُحمَد عقباه، وقد يستعمله في ما تُذَم عاقبته.

وإنَّ علىٰ المؤمن في الوقت الذي يسأل من الله تعالىٰ أن يطيل عمره، أن يُقيِّد هذا الطلب بأن يكون عمره في طاعة الله تعالىٰ، ونفع عباده، والدلالة علىٰ الخير، وأمَّا إذا كان العمر في معصية الله، الأمر الذي يعني تسافل الإنسان نحو الخطيئة والانحراف، وبالتالي سيكون الإنسان

ص: 193


1- روي عن معاذ، قال: مرَّ رسول الله 0 علىٰ رجل وهو يقول: اللّهمّ إنّي أسألك الصبر، فقال رسول الله 0: «سألت الله البلاء، فاسأله المعافاة». (المصنَّف لابن أبي شيبة 7: 56/ ح 7). وعن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): «شكىٰ يوسف في السجن إلىٰ الله، فقال: يا ربِّ، بماذا استحققت السجن؟ فأوحىٰ الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: 33]، هلَّا قلت: العافية أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه؟». (تفسير القمّي 1: 354).

مخرِّباً للعالم من الطراز الأوَّل، لأنَّه يملك من الآلات والوسائل ما يمكنه بها أن يبني حضارات، وفي نفس الوقت أن يهدمها، فمن الأفضل حينها أن يطلب الإنسان من الله تعالىٰ أن يعجّل له بالوفاة قبل أن يحلَّ عليه الغضب الإلهي.

إذن، الملاك والأساس في طلب طول العمر هو أن يكون في خير وعافية علىٰ مستوىٰ الفرد والمجتمع، وهو الأمر الذي تُؤكِّده الزهراء البتول (علیها السلام) في مناجاتها حيث تقول: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَِقُدْرَتِكَ عَلىٰ الخَلْقِ، أَحْيني مَا عَلِمْتَ الحَياةَ خَيْراً لي، وَتَوَفَّني إذا كانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لي...»(1).

22- هو المفزع في الملمّات

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام) إذا عرضت له مهمَّة أو نزلت به ملمَّة وعند الكرب: «يَا مَنْ تُحَلُّ بِه عُقَدُ المَكَارِه، وَيَا مَنْ يَفْثَأُ بِه حَدُّ الشَّدَائِدِ، وَيَا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْه المَخْرَجُ إِلَىٰ رَوْحِ الْفَرَجِ، ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعَابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأَسْبَابُ، وَجَرَىٰ بِقُدرَتِكَ الْقَضَاءُ، وَمَضَتْ عَلَىٰ إِرَادَتِكَ الأَشْيَاء...»(2).

يواجه الإنسان في حياته الكثير من المتاعب والمصائب والنوائب، وطريقه فيها لم يكن مزروعاً بالورود من كلِّ جوانبه، فمهما تجمَّلت الحياة بوجه الإنسان، ومهما ابتهجت، فإنَّها لا بدَّ وأن تكشر في يوم من

ص: 194


1- بحار الأنوار للمجلسي 91: 225/ ح 1.
2- الصحيفة السجّادية: 52 و53/ الدعاء رقم 7.

الأيّام عن أنيابها له، وتكشف عن وجهها الآخر، وتسفر عن حقيقة ما تضمره لكلِّ فرد من بني البشر.

فإذا ما واجه أحدنا صعاب الحياة، وإذا ما وقع في مصيبة أو صعوبة، فما هو الحلُّ؟ هل الحلُّ: أن يهرب منها هروبه من الأسد! ولكن إلىٰ أين يهرب، وهي هي التي مدَّت يديها لكلِّ جوانب وجود الإنسان، إذن ما هو الحلُّ؟ هل يدسُّ الواحد منّا رأسه في التراب كنعامة رأت أسداً!؟ ولكن، لا بدَّ وأن تضطرَّ لإخراج رأسك ومواجهة الواقع!

إذن، ما هو الحلُّ؟

هنا، يأتي الإمام السجّاد (علیه السلام) ليُبيِّن لنا المخرج، وليُوضِّح لنا المقصد، فيقول: تعالَوا إلىٰ القادر القاهر، تعالَوا إلىٰ من خلق الحياة، تعالَوا إلىٰ من أمره بين الكاف والنون، ارجعوا إلىٰ بارئكم، فهو وحده من يستطيع أن يحلَّ لكم المكاره مهما تعقَّدت، وهو وحده من يستطيع أن يَفثأ أي يكسر ويفلَّ حدود الشدائد التي تحيط باللهفان وتفرض عليه طوقاً لا يمكنه كسره لوحده.

إنَّ العقل يحكم بأنَّ الضعيف ولكي يتخلَّص من ضعفه، عليه أن يلجأ إلىٰ من هو أقوىٰ منه، وهذا ينتج أنَّ الإنسان إذا وقع في ضعف أو شدَّة، فمن الخطأ بمكان أن يهرع إلىٰ مخلوق مثله، لأنَّه ضعيف مثله، بل الصحيح أن يهرع مسرعاً إلىٰ القوي العزيز جلَّ وعلا، حتَّىٰ يُخلِّصه ممَّا هو فيه.

فمهما اجتمعت أسباب الشدَّة عليك، فما عليك إلَّا أن تلجأ لخالق الأسباب، ليحلَّها بأسرع من لمح البصر.

إنَّ الله تعالىٰ هو اللطيف بعباده، أي أنَّه جلَّ وعلا دائماً ما يُوفِّر الظروف

ص: 195

الملائمة للإنسان ممَّا يساعده في سيره نحو الكمال، ويُبعِد عنه كلَّ ما من شأنه أن يُهلِكه أو يُوقِفه عن التكامل، ولكن هذا المعنىٰ لا يعني أنَّ كلَّ شيء يُعطىٰ للإنسان بالمجّان، وإنَّما لا بدَّ علىٰ الإنسان أن يسعىٰ بكلِّ ما أُوتي من قوَّة، ليأتيه اللطف الإلهي في ساعة العسرة، بل وفي ساعة اليسر، ومن هنا، يُعلِّمنا الإمام السجّاد (علیه السلام) في هذا الدعاء بأن نرفع أيدي الضراعة والتوسُّل للطيف الخبير في أن يساعدنا علىٰ تخطّي المكاره والصعاب بلطفه، وأن يُسبِّب لنا ما نصل معه إلىٰ الهدف من وجودنا في هذه الحياة، ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56﴾ (الذاريات: 56).

وقد روي أنَّه قال رجل للإمام الصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله، دُلَّني علىٰ الله ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني، فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطُّ؟»، قال: نعم، قال: «فهل كُسِرَ بك حيث لاسفينة تُنجيك ولا سباحة تُغنيك؟»، قال: نعم، قال: «فهل تعلَّق قلبك هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر علىٰ أن يُخلِّصك من ورطتك؟»، فقال: نعم، قال الصادق (علیه السلام): «فذلك الشيء هو الله القادر علىٰ الإنجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الإغاثة حيث لا مغيث»(1).

23- تعاهد الفروض والسنن

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام): «... وَلَا تَشْغَلْنِي بِالاهْتِمَامِ عَنْ تَعَاهُدِ فُرُوضِكَ، وَاسْتِعْمَالِ سُنَّتِكَ...»(2).

ص: 196


1- التوحيد للصدوق: 231/ ح 5.
2- الصحيفة السجّادية: 54/ الدعاء رقم 7.

في حياته، يسير الإنسان حثيثاً نحو التكامل، وقد أعطاه الله تعالىٰ منهاجاً متكاملاً يساعده علىٰ طيِّ المسافة، فهناك فروض واجبة، وهناك سنن مستحبَّة، تُعطي للسائر في طريق التكامل شحنات معنوية ودوافع وحوافز للوصول.

ولكنَّها هي الحياة، حياة الصعاب والنصب، لا تدع الطريق معبَّداً من دون عقبات، بل إنَّها لا تفتأ تُلقي بالهموم والغموم ما يجعل الإنسان منشغلاً عمَّا يُراد به ومنه. ومن هنا، فإنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) يستعيذ بالله تعالىٰ ويتوسَّل إليه في أن يُبعِد عنه ما يُشغِله الاهتمامُ به عن التزام الفرائض والسنن.

إنَّ النفس تعيش حالات متضادَّة مختلفة، وفي بعض تلك الحالات يتولَّد عندها الدافع القويُّ لالتزام السنن والمستحبّات فضلاً عن الفرائض، ولكنَّها في بعض الأحيان تواجه بعض الموانع التي تجعلها تنقبض، الأمر الذي يؤدّي إلىٰ عدم استساغتها للفرائض إلَّا رغماً عنها، حيث قد تصل الهموم والأحزان إلىٰ حدٍّ لو لم يوجب الله تعالىٰ الفرائض وأوعد علىٰ تركها بالعقاب لتركها الإنسان وابتعد عنها.

لأجل ذلك يدعو الإمام زين العابدين (علیه السلام) ربَّ العزَّة والجلال بهذه الكلمة، وكأنَّه يقول لربِّه: يا إلهي، (لا تشغلني بالهمِّ والحزن عن المحافظة علىٰ وظائف الفرائض، والإتيان بها علىٰ الوجه الأكمل، وعن القيام بالنوافل والإتيان بالسنن والآداب)(1).

وينبغي الالتفات، إلىٰ أنَّ النفس عندما تعيش حالة من النفور عن العبادة، فإنَّه يلزم الاقتصار حينها علىٰ الفرائض، وليبقَ الإنسان منتظراً

ص: 197


1- رياض السالكين للمدني الشيرازي 2: شرح ص 319.

لحظة إقبالها علىٰ السنن ليرفدها بها، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَاراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَىٰ النَّوَافِلِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَىٰ الْفَرَائِضِ»(1).

هذا، وقد شاء الله تعالىٰ أن يهب للإنسان ثواباً علىٰ قدر نيَّته، فينبغي للمؤمن أن يجعل من نيَّته دوماً أنَّه يعمل بالسنن والمستحبّات، فلو وفَّقه الله تعالىٰ لأدائها فبها ونعمت، وإلَّا، فإنَّ له من الثواب الشيء الكثير علىٰ نيَّته تلك.

وقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أن يقوم يُصلّي من الليل فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه (عزوجلّ) »(2).

24- حمداً في الصحَّة والمرض

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىٰ مَا لَمْ أَزَلْ أَتَصَرَّفُ فِيه مِنْ سَلَامَةِ بَدَنِي، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَىٰ مَا أَحْدَثْتَ بِي مِنْ عِلَّةٍ فِي جَسَدِي»(3).

يحكم العقل السليم بأنَّ علىٰ العبد أن يكون متَّصفاً بصفة التسليم المطلق لمولاه، فما شأن العبد فيما يريد هو وما لا يريد، فما دام هو عبداً، فليس عليه إلَّا أن يرضىٰ بما يفعله به مولاه.

ص: 198


1- نهج البلاغة: 530/ ح 312.
2- سنن النسائي 3: 258.
3- الصحيفة السجّادية: 76/ الدعاء رقم 15.

وهذا الحكم نرضاه بيننا نحن المربوبين، فكيف إذا قسنا العبودية لله تعالىٰ، فمن كان عبداً لله تعالىٰ فعليه أن يتمثَّل هذا التسليم في كلِّ ما يجري عليه من أُمور الدنيا، بل إنَّ حقيقة العبودية إنَّما تظهر إذا أظهر العبد صفة التسليم المطلق لمولاه، قال تعالىٰ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65﴾ (النساء: 65).

الأمر الذي يستلزم من العبد أن يكون شاكراً لمولاه في كلِّ ما يجري عليه، سواء كان في صحَّة أو مرض، في غنىٰ أو فقر، في شدَّة أو رخاء، في عافية أو بلاء.

خصوصاً إذا كان العبد يعلم بأنَّ مولاه ليس من الموالي العاديين، الذين يحاولون جرَّ النار لقرصهم، ويعملون علىٰ دفع الضرر عن أنفسهم، بل هو مولىٰ لا تضرُّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فما يفعله بعبده إنَّما هو لصالح العبد نفسه لا له جلَّ وعلا، وبالتالي، فهذا الإحساس سيُولِّد عند العبد إحساساً بأنَّ مولاه الرؤوف الرحيم، إنَّما أجرىٰ عليه حالة معيَّنة، لأنَّه تعالىٰ علم بعلمه اللامتناهي أنَّ هذه الحالة تصبُّ في مصلحة العبد، إنْ في عاجل الدنيا أو آجلها، وبالتالي، يحكم العقل بأن يتوجَّه العبد ليشكر ربَّه علىٰ كلِّ حالٍ تمرُّ به.

وهنا إشارتان:

الأُولىٰ: أنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) ركَّز هنا علىٰ شكر الصحَّة والمرض علىٰ حدٍّ سواء، فأمَّا شكر الصحَّة فالاشتغال بطاعة الله تعالىٰ، فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «زكاة الصحَّة السعي في طاعة الله»(1).

ص: 199


1- عيون الحكم والمواعظ للليثي الواسطي: 275.

وأمَّا الشكر علىٰ المرض، فيكون بالصبر عليه، الأمر الذي يُشجِّع عليه أنَّ المرض يُعتَبر معملاً لصهر الذنوب وزيادة الحسنات، كما أشارت الروايات لذلك، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «حمىٰ ليلة كفّارة لما قبلها ولما بعدها»(1).

الثانية: لاحظوا أنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) يشكر مرضه الذي يصيبه في جسده، وفي هذا إشارة إلىٰ أنَّ المؤمن لا بدَّ أن يطلب من الله تعالىٰ أن يعافيه في دينه. وليس معنىٰ هذا أن يطلب البلاء في بدنه، كلَّا، وإنَّما أن يكون علىٰ دينه أحوط منه علىٰ بدنه. وأن يصبر لو أصابه مرض.

ومن هنا روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنَّه «شكىٰ يوسف (علیه السلام) في السجن إلىٰ الله فقال: يا ربِّ، بماذا استحققت السجن؟ فأوحىٰ الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: 33]، هلَّا قلت: العافية أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه؟»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أفضل الدعاء ان تسأل ربَّك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، فإنَّك إذا أُعطِيتَهما في الدنيا، ثمّ أُعطِيتَهما في الآخرة فقد أفلحت»(3).

25- بين نقص الدين ونقص الدنيا

من دعاء للإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ وَمَتَىٰ وَقَفْنَا بَيْنَ نَقْصَيْنِ فِي

ص: 200


1- الكافي للكليني 3: 115/ باب ثواب المرض/ ح 10.
2- تفسير القمّي 1: 354.
3- الجامع الصغير للسيوطي 1: 188/ ح 1251.

دِينٍ أَوْ دُنْيَا، فَأَوْقِعِ النَّقْصَ بِأَسْرَعِهِمَا فَنَاءً، وَاجْعَلِ التَّوْبَةَ فِي أَطْوَلِهِمَا بَقَاءً...»(1).

لم يُكتَب للإنسان أن يكون في ربح مستمرٍّ في هذه الحياة، ففي كلِّ مفردة من مفرداتها، يمكن أن يكون رابحاً، ويمكن أن يكون خاسراً.

ومقاييس الإنسان في الربح والخسارة تختلف من ظرف إلىٰ ظرف، وهي نسبية في أكثر إن لم يكن في كلِّ مفرداتها، فخسارة المال الكثير هيِّنةٌ أمام خسارة النفس، والتضحية بشيء من الجهد رخيصة أمام الحصول علىٰ نسبة عالية في الامتحانات.

ولكن علىٰ الإنسان أن ينتبه إلىٰ حقيقة خطيرة، وهي: أنَّه كما يوازن بين الأضرار في الأُمور الحياتية، ويُقدِّم الأقلّ ضرراً بحكم العقل، كذلك عليه أن يوازن جيِّداً في الأُمور التي تدور بين الخسران المؤقَّت وبين الخسران الدائمي.

ولا شكَّ أنَّ العقل إذا أراد أن يختار إحدىٰ الخسارتين، فإنَّه يُقدِّم الخسارة المؤقَّتة ليربح شيئاً دائمياً، تماماً كما لو أُصيب أحد الناس بمرض معيَّن - أجارنا وأجاركم الله تعالىٰ - وخيَّره الأطبّاء بين قطع عضو من أعضائه وبين البقاء بتمام أعضائه لكنَّه سيموت بعد عدَّة أيّام، فلا شكَّ أنَّ أيَّ عاقل سيختار قطع عضو ليبقىٰ فترة أطول ممَّا لو لم يُقطَع منه ذلك العضو.

كذلك، لو دار أمر الإنسان في حالة من الحالات، وما أكثرها، بين أن يخسر شيئاً في الدنيا، ليحصل علىٰ ربح أُخروي مستمرٍّ، وبين أن يربحه في الدنيا ليخسره أبداً في الآخرة، لا شكَّ أنَّ العقل القويم سيُقدِّم الأقلّ خسارةً، وهو الأوَّل.

ص: 201


1- الصحيفة السجّادية: 58/ الدعاء رقم (صلی الله علیه و آله) .

ولكن في بعض الأحيان، قد يُصاب العقل بخلل معيَّن، وقد يمرُّ الإنسان ببعض الظروف التي تشلُّ اختياره، قد يتوتَّر، وقد يقلق، وقد يُخدَع، وقد يخادع نفسه، فلا يتوفَّق لاختيار أقلّ الخسارتين، وعندها لا شكَّ أنَّه سيكون في خسران ونقص.

لذا، فإنَّ الإمام السجّاد (علیه السلام) يُعلِّمنا طريقة التوسُّل بالله تعالىٰ في مثل هذه الحالات، وأنَّه لا بدَّ من التوسُّل بالله تعالىٰ ليعيننا علىٰ أن نختار أقلّ الأشياء نقصاً، وهي التي يكون خسرانها مؤقَّتاً، في قبال الربح الأُخروي، وإن جاء متأخِّراً، فيقول (علیه السلام): «اللَّهُمَّ وَمَتَىٰ وَقَفْنَا بَيْنَ نَقْصَيْنِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، فَأَوْقِعِ النَّقْصَ بِأَسْرَعِهِمَا فَنَاءً، وَاجْعَلِ التَّوْبَةَ فِي أَطْوَلِهِمَا بَقَاءً».

وقال تعالىٰ مبيِّناً الخسارة الحقيقية التي سيكون مذاقها أمرَّ من الحنظل: ﴿قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15﴾ (الزمر: 15).

وروي عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «المنفق عمرَه في طلب الدنيا خاسرُ الصفقة عادمُ التوفيق»(1).

26- مواقف إنسانية

من دعاء مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ

ص: 202


1- تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام) 2: 438.

اغْتَابَنِي إِلَىٰ حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ»(1).

تشرأبُّ أعناق الناس وتمتدُّ أبصارهم باحثين عن امرئ تتمثَّل الإنسانية في سلوكه بأبهىٰ صورها، ليرفعوا له قُبّعات الاحترام، وليقفوا له إجلالاً أينما حلَّ، هكذا هم البشر، يستعبدهم الإحسان، ويتولَّهون بحسن الخُلُق.

ومن الواضح أنَّ مُنْية كلِّ عاقل، أن يحظىٰ بالاحترام والتقدير من أبناء جلدته، إذ لولا الإحساس بالتقدير الذاتي، لما أمكن للمرء أن يعيش بهناء، ولولا الاحترام المتبادل، لتحوَّلت الحياة إلىٰ غابة موحشة، تحكمها القوَّة، وتنهكها النزاعات.

والإمام السجّاد (علیه السلام) يُعطي منهجاً مختصراً للوصول بالفرد وبالمجتمع إلىٰ ذروة التعامل الإنساني، الأمر الذي سيُترجمه الآخرون إلىٰ احترام وتقدير لا مثيل له، وذلك يكون عبر تمثُّل المرء بالأخلاق الحسنة، من دون المطالبة بمقابل، علىٰ غرار: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9﴾ (الإنسان: 9).

عليك أخي المؤمن أن تعمل بما تمليه عليك أخلاقك، فحتَّىٰ لو غشَّك أحدهم ولم يُبْدِ لك النصيحة كما ينبغي، عليك أنت أن تُقدِّم النصيحة لكلِّ إنسان طلبها منك أو رأيته محتاجاً إليها.

حتَّىٰ لو هجرك صديقك، كن بارًّا به، وانسَ هجره، فأنت تعمل لوجه الله تعالىٰ، لأنَّك مؤمن. وابذل ما استطعت البذل، لأنَّك لن تخسر شيئاً في الحقيقة، فالبذل يرجع لصاحبه في عاجل الدنيا أو آجل الآخرة, فصِلْ من قطعك. وإذا وصلك خبر بأنَّ فلاناً اغتابك وعابك، فلا تكن

ص: 203


1- الصحيفة السجّادية: 94/ الدعاء رقم 20.

مثله، بل خالفه إلىٰ أن تذكره بالذكر الحسن، فإنَّه لو كان حليماً وسمع بك وأنت تذكره بالحسنىٰ، فلا شكَّ أنَّ ضميره سيُؤنِّبه كثيراً، وسيندم علىٰ ما بدر منه اتِّجاهك. وهكذا لو أساء لك أحدهم، وكان بالإمكان التغاضي عن إساءته واحتمالها، فهو أفضل بكلِّ تأكيد من أن تُسيء له، فتقوم حرب لا نهاية لها.

إنَّ الروايات الشريفة تُؤكِّد هذا المعنىٰ، فتدعو إلىٰ التزام مكارم الأخلاق، ليهنأ كلُّ واحد منّا بحياة ملؤها الحبُّ والوئام.

عن حمّاد بن عثمان، قال: جاء رجل إلىٰ الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، أخبرني بمكارم الأخلاق. فقال: «العفو عمَّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك، وقول الحقِّ ولوعلىٰ نفسك»(1).

وعن جرّاح المدائني، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): ألَا أُحدِّثك بمكارم الأخلاق؟»، [قلت: بلىٰ، قال]: «الصفح عن الناس، ومواساة الرجل أخاه في ماله، وذكر الله كثيراً»(2).

27- حسن الظنِّ بالله تعالى

من دعاء الإمام زين العابدين (علیه السلام) في الاعتراف وطلب التوبة إلىٰ الله تعالىٰ: «اللَّهُمَّ إِنَّه يَحْجُبُنِي عَنْ مَسْأَلَتِكَ خِلَالٌ ثَلَاثٌ، وَتَحْدُونِي عَلَيْهَا خَلَّةٌ وَاحِدَةٌ: يَحْجُبُنِي أَمْرٌ أَمَرْتَ بِه فَأَبْطَأْتُ عَنْه، وَنَهْيٌ نَهَيْتَنِي عَنْه

ص: 204


1- أمالي الصدوق: 355/ ح (433/10).
2- معاني الأخبار للصدوق: 191/ باب معنىٰ مكارم الأخلاق/ ح 2.

فَأَسْرَعْتُ إِلَيْه، وَنِعْمَةٌ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ فَقَصَّرْتُ فِي شُكْرِهَا. وَيَحْدُونِي عَلَىٰ مَسْأَلَتِكَ تَفَضُّلُكَ عَلَىٰ مَنْ أَقْبَلَ بِوَجْهِه إِلَيْكَ، وَوَفَدَ بِحُسْنِ ظَنِّه إِلَيْكَ...»(1).

عندما يُنعِم أحدٌ ما علينا، فإنَّ العقل يحكم علينا بلزوم مجازاته بالإحسان، بل نجد أنَّنا سنكون مدينين لهذا المحسن، وكلَّما كان الإحسان أعظم، وكلَّما كان من دون مقابل، وكلَّما كان من دون انتظار ردِّه، كلَّما كان الحقُّ علينا أشدّ وأعظم.

وهذه حقيقة لا يُنكِرها إلَّا مكابر.

وفي نفس الوقت، يحكم الإنسان علىٰ أيِّ أحد لا يعترف بهذا الإحسان، ولا يجري وفق ردِّه بالأحسن، بأنَّه خارج عن الطبيعة الإنسانية، مخالف للباقة والذوق العامِّ، مذموم بذلك.

وإذا نظرنا إلىٰ ما أنعم الله (عزوجلّ) به علينا، نجد أنَّنا محاطون من جميع جهاتنا بنعم لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ، فأصل وجودنا، واستمرارنا في الحياة، وصفاتنا، وما عندنا، كلُّه من الله (عزوجلّ)، وكلُّه أعطاه الله لنا من دون أيِّ مقابل.

ولكن الإنسان يتناسىٰ هذه النعم، ويخرق قانون العقل بلزوم شكر المنعم، فيخالف الباري جلَّ وعلا، والإمام السجّاد (علیه السلام) يشير إلىٰ حالات ثلاث من هذا الخرق:

الحالة الأُولىٰ: مخالفة الأمر الإلهي مع العلم وعدم الجهل.

الحالة الثانية: ارتكاب النواهي والمحرَّمات مع سبق الإصرار.

الحالة الثالثة: كفر النعمة وعدم شكرها رغم تتابعها وسبوغها.

ص: 205


1- الصحيفة السجّادية: 64/ الدعاء رقم 12.

فإذا نظر الإنسان إلىٰ هذه المخالفات، فلا يبقىٰ له أيُّ عذر، ولا يبقىٰ له أيُّ وجه يواجه به ربَّ العزَّة والجلال، ولا سبيل له لأن يقف مرَّة أُخرىٰ ويطلب من الله تعالىٰ شيئاً ما، ولكن، يبقىٰ هناك أمل وحيد يشير له الإمام (علیه السلام)، وهو: حسن الظنِّ بالله تعالىٰ، فنحن رغم جرأتنا، وتجاوزنا، وارتكابنا للأخطاء المتكرِّرة معه جلَّ وعلا، لكنَّه (عزوجلّ) أعظم من أن يقايسنا بأعمالنا. إنَّ حسن ظنِّنا بالله تعالىٰ هو ما يمكن أن نتوسَّل به إليه جلَّ وعلا، ذلك الإحساس بأنَّ الله تعالىٰ متفضِّل علينا رحيم بنا، وأنَّ جوده وكرمه لا ينقطع وإن كان الإنسان غير مستحقٍّ، إنَّه الاعتقاد بأنَّ رحمته جلَّ وعلا سبقت غضبه، هذا فقط ما يتبقّىٰ لنا معه جلَّ وعلا.

عن عليِّ بن رئاب، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «يُؤتىٰ بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه، فيقول الله تعالىٰ له: ألم آمرك بطاعتي؟ ألم أنهك عن معصيتي؟ فيقول: بلىٰ يا ربِّ، ولكن غلبت عليَّ شهوتي، فإن تُعذِّبني فبذنبي، لم تظلمني، فيأمر الله به إلىٰ النار، فيقول: ما كان هذا ظنّي بك، فيقول: ما كان ظنُّك بي؟ قال: كان ظنّي بك أحسن الظنِّ، فيأمر الله به إلىٰ الجنَّة، فيقول الله تبارك وتعالىٰ: لقد نفعك حسن ظنِّك بي الساعة»(1).

28- لا ظالماً ولا مظلوماً

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ»(2).

ص: 206


1- المحاسن للبرقي 1: 25 و26/ ح 4.
2- الصحيفة السجّادية: 74/ الدعاء رقم 14.

شاء الله تعالىٰ أن يختلف بنو آدم في جهات متكثِّرة، فقَدَرُ الإنسان في هذه الحياة أنَّه لا يجد أحداً يُشبِهه، فالاختلاف عنصر ثابت في هذه الحياة، وهذا الاختلاف قد يؤدّي في كثير من الأحيان إلىٰ التزاحم وربَّما التضادّ، الأمر الذي يحتاج إلىٰ قانون يحكم هذا الاختلاف، ليجعله يصبُّ في طريق التكامل الوجودي للإنسان، فكان الأمر الإلهي بتبادل الاحترام فيما بين أفراد البشر، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾ (الحجرات: 13).

إنَّ الله تعالىٰ لا يرضىٰ لعباده أن يتعدّوا الحدود المرسومة لهم، ولا أن يحرموا غيرهم من الاستمرار في طلب التكامل، فلا يجوز لأحد أن يقف في طريق الآخر معتدياً عليه، فإنَّه تعالىٰ لا يرضىٰ بأن يعتدي أحد ما علىٰ عباده، لذلك ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38﴾ (الحجّ: 38).

ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَىٰ، وَلَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّه مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَه»(1).

والإمام السجّاد (علیه السلام) في هذا المقطع من الدعاء، يُنبِّهنا إلىٰ أمر مهمٍّ جدًّا، وهو أنَّه يدعو الله تعالىٰ، ويقول: إلهي، كما لم تُحِبّ لي أن يظلمني أحد، فلا تتركني ولا تكلني إلىٰ نفسي بحيث أظلم عبداً من عبيدك، فأستحقّ العقاب الذي يستحقُّه من يظلم عبادك. وهذا المعنىٰ هو ما يشير إليه الدعاء الذي يُقرَأ في شهر رمضان والمسمّىٰ بدعاء الحجِّ،

ص: 207


1- نهج البلاغة: 255/ الخطبة 176.

حيث جاء فيه: «... وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُكْرِمَنِي بِهَوَانِ مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا تُهِنِّي بِكَرَامَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ...»(1).

أي: يا ربِّ، أسألك أن تكرمني بأن لا أظلم أحداً حتَّىٰ لو ظلمني أحد من خلقك، ولا تُهنّي بأن أظلم أحداً من كرام عبادك، فأن أكون مظلوماً بسبب أحد خلقك، أحبُّ إليَّ من أن أكون ظالماً لعبد من عبيدك الكرام عليك.

29- شماتة الشيطان

من دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام): «اللَّهُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ شَمِتَ بِنَا إِذْ شَايَعْنَاه عَلَىٰ مَعْصِيَتِكَ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَلَا تُشْمِتْه بِنَا بَعْدَ تَرْكِنَا إِيَّاه لَكَ، وَرَغْبَتِنَا عَنْه إِلَيْكَ...»(2).

إنَّ من أبشع الصفات التي قد يتَّصف بها الفرد، وفي نفس الوقت هي من أكثر الصفات التي تؤلم الإنسان، هي صفة الشماتة، تلك الحالة التي يُظهِر فيها الآخر استهزاءه وسروره وفرحه إذا ما رآك قد وقعت في صعوبة أو مصيبة أو مرض أو فقر أو ما شابه.

إنَّها صفة تجعل في القلب حرارة لا تُطفَأ، إنَّها تجعل الإنسان يمرُّ بحالة يتمنّىٰ معها الموت علىٰ أن لا يَشمَتَ به عدوّه، إنَّها ما لا يصبر عليه حتَّىٰ الأنبياء، فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ ابتلىٰ أيّوب (علیه السلام) بلا ذنب، فصبر حتَّىٰ عُيِّر، وإنَّ الأنبياء لا يصبرون علىٰ التعيير»(3).

ص: 208


1- الكافي للكليني 4: 74 و75/ باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان/ ح 6.
2- الصحيفة السجّادية: 62/ الدعاء رقم 10.
3- علل الشرائع للصدوق 1: 75 و76/ باب 65/ ح 4.

وهذا الأمر واضح جدًّا في الدنيا.

ولكن القرآن الكريم، يذكر لنا موقفاً لشماتة في الآخرة، من عدوٍّ لطالما سعىٰ أن يوقعنا في البلايا، ولطالما شجَّعنا علىٰ الخطأ، وحسَّنه في أعيننا، ولطالما كان يعدنا بأنَّه سوف يقف معنا في ساعة العسرة، وأنَّه لن يخذلنا، ولن يتركنا، وإذا به أوَّل الشامتين بنا يوم القيامة، وإذا به يُلقي باللوم علينا، وأنَّه لم يجبرنا علىٰ اتِّباعه، وإذا به يتلبَّس لباس الصالحين، ويقول بأنَّه يخاف من الله تعالىٰ ربِّ العالمين، حينها، سيحسُّ الإنسان بندامة لا مخلص منها، وبخسارة كبيرة لا مخرج منها، وسيتألَّم كثيراً إلىٰ الحدِّ الذي سيعضُّ أصابعه ندماً، خصوصاً حينما يرىٰ شماتة صاحبه به..، تلك هي شماتة الشيطان.

يقول تعالىٰ حاكياً لنا تلك الصورة: ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 22﴾ (إبراهيم: 22).

ومن هنا، يتوسَّل الإمام السجّاد (علیه السلام) بالله تعالىٰ شأنه، في أنَّه وبعد أن شمت بنا الشيطان، فإنَّنا سنعمل علىٰ أن نترك ما اتَّبعناه به هنا في الدنيا قبل الآخرة، ليُخلِّصنا الله تبارك وتعالىٰ من شماتته بنا في الآخرة.

ولنتذكَّر أنَّ الشيطان قد أعلن عداوته لنا منذ بداية الخليقة، فهل يُعقَل من عاقل أن يوالي عدوَّه ويتَّبع آثاره ويسمع كلامه!؟

حكِّم عقلك، واخرج بنتيجة..

ص: 209

30- اللّهمّ عاملنا بلطفك وتفضُّلك

من دعاء للإمام زين العابدين (علیه السلام): «اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاحْمِلْنِي بِكَرَمِكَ عَلَىٰ التَّفَضُّلِ، وَلَا تَحْمِلْنِي بِعَدْلِكَ عَلَىٰ الِاسْتِحْقَاقِ»(1).

بين التفضُّل والاستحقاق، يعيش البشر فيما بينهم، فقد يتفضَّل أحدنا علىٰ صاحبه بعطاء من دون مقابل، وقد يستحقُّ أحدنا علىٰ الآخر شيئاً علىٰ خلفية مديونيته له في أمر من الأُمور.

ولكن بيننا وبين الله تعالىٰ، هل يدور أمرنا كذلك؟

والجواب: في الحقيقة إنَّنا لا نستحقُّ علىٰ الله تعالىٰ أيَّ شيء، فليس لنا عليه- إذا صحَّ التعبير - حقٌّ لنطالبه به، نحن لم نُقدِّم له شيئاً حتَّىٰ يكون مديوناً له، بل بالعكس تماماً، هو تعالىٰ له كلُّ الحقِّ علينا في كلِّ وجودنا، وهذا أمر واضح.

وبالتالي، حيث إنَّنا لا نستحقُّ علىٰ الله تعالىٰ أيَّ شيء، فما هو الوجه الذي يمكننا أن نطلب به شيئاً من الله تعالىٰ؟

إنَّه ليس إلَّا أن نمدَّ أيدينا له جلَّ وعلا، ونتوسَّل إليه أن يعاملنا بلطفه ومنِّه وجوده وكرمه وتفضُّله، فهذا هو سبيلنا معه جلَّ وعلا.

يقول تعالىٰ: ﴿فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ 64﴾ (البقرة: 164).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ 10﴾ (النور: 10).

ص: 210


1- الصحيفة السجّادية: 70/ الدعاء رقم 13.

ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ 14﴾ (النور: 14).

فهو التفضُّل لا غير، هو ما يُبقينا رغم جرأتنا وذنوبنا، فلنمدَّ أيدينا دوماً وأبداً أن يعاملنا ربُّنا بالرحمة والتفضُّل، لا بالعدل والاستحقاق، وإلَّا فإنَّ حالنا يُرثىٰ لها، يقول تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً 45﴾ (فاطر: 45).

ويقول تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 61﴾ (النحل: 61).

* * *

ص: 211

ص: 212

ختامه مسك: ماذا يعني العيد؟

أودُّ أن أُذكِّر إخوتي وأخواتي في الإيمان وولاية أهل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين بالتالي:

أوَّلاً: يظهر من نظرة سريعة للأعياد الإسلاميَّة أنَّ الله تعالىٰ جعلها بعد عناء وتعب، فالجمعة هي نهاية أُسبوع العمل والجهد، وعيد الفطر هو بعد عناء الصوم، وعيد الأضحىٰ هو بعد عناء الحجِّ.

فكأنَّه جلَّ وعلا أراد للأعياد أن تكون محطَّة استراحة بعد نَصَب، وهذه قاعدة حياتية مهمَّة، فأن تأخذ راحة بعد عمل مجهد، أمر مهمٌّ جداً، لتعطيك تلك الراحة دافعية للقيام بأعمال أُخرىٰ في مجالات الحياة المختلفة.

ولذلك اعتبرت الروايات أنَّ عيد الفطر مثلاً هو عيد الجوائز، فقد ورد عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): إذا كان أوَّل يوم من شوّال نادىٰ منادٍ: أيُّها المؤمنون، اغدوا إلىٰ جوائزكم، ثمّ قال: يا جابر، جوائز الله ليست بجوائز هؤلاء الملوك، ثمّ قال: هو يوم الجوائز»(1).

لاحظوا: أنَّ الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) عبَّر عن ذلك بالجوائز، وكلُّنا نعلم أنَّ الجوائز لا تُعطىٰ إلَّا الفائزين.. هل وصلت الفكرة!؟

ص: 213


1- الكافي للكليني 4: 168/ باب يوم الفطر/ ح 3.

ثانياً: علينا أن نتذكَّر أنَّه يمكن لنا أن نجعل كلَّ أيّامنا أعياداً بشرط واحد، وهو ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض الأعياد: «كُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَىٰ اللهَ فِيه فَهُوَ عِيدٌ»(1).

إنَّ كلَّ يوم يمضي علينا إنَّما يُقرِّبنا خطوة أُخرىٰ نحو القبر، فعلينا أن ننتبه إلىٰ هذه الحقيقة الواضحة المغفول عنها، فأن تقضي يومك بلا معصية لله تعالىٰ تُقرِّبك من نار جهنَّم، أن تقضي يومك بطاعة الله تعالىٰ لتقترب خطوة أُخرىٰ إلىٰ الجنَّة، لهو أعظم عيد يمرُّ عليك.

فعلينا أن نعمل جاهدين علىٰ أن نجعل من أيّامنا أعياداً بطاعة الرحمن ومعصية الشيطان.

ثالثاً: وهذا معناه، أنَّ علينا أن نحاسب أنفسنا بدقَّة، لنعرف هل نحن ممَّن يستحقّون الفرح بالعيد؟ وهل نحن ممَّن قبل الله تعالىٰ صيامه وقيامه لنكون من أهل العيد؟

فلقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض الأعياد: «إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَه وَشَكَرَ قِيَامَه»(2).

ما فائدةٌ في عيد يمرُّ عليَّ إذا لم أكن ممَّن غفر الله تعالىٰ له في هذا الشهر العظيم!

ما فائدةٌ فيه إذا لم أنجح في أن أكون ممَّن أعتقهم الله من نار جهنَّم!

ما فائدةٌ فيه إذا لم أصل إلىٰ مرحلة القبول التي بها ينال المرء ما وعده الله تعالىٰ من الثواب العظيم!

ص: 214


1- نهج البلاغة: 551/ ح 428.
2- المصدر السابق.

في الحقيقة، إذا لم يقبل الله تعالىٰ عمل الواحد منّا، فمن الأفضل له أن ينصب العزاء ويُعلِن الحداد علىٰ خسارته في يوم العيد، لا أن يُعلِن الفرح!

رابعاً: علينا أن نتذكَّر أنَّ الحلال والحرام أبداً لا يتصاحبان في أيّام العيد، فالتنافر والتباعد بينهما ليس مختصًّا بشهر رمضان، فعلينا أن نحافظ علىٰ مكتسباتنا الرمضانية، ولا نُضيِّعها بالتفاهات.

فالمرأة التي تُصبِّغ وجهها كلوحة فنّان، وتضع عطراً فوّاحاً كأنَّها في واحةٍ لوحدها أو بستان، وتخرج تتمايل بمشيتها كأنَّها ناعسٌ وَسْنان، بحجَّة أنَّه يوم عيدٍ وفرحٍ وحنانٍ، لهي أقرب إلىٰ الشيطان منها إلىٰ طاعة الرحمن.

وذلك الرجل الذي يصاحبها، ويده بيدها، أو سمح لها بالخروج إلىٰ الأسواق أو الشارع رغم تزيُّنها، لهو عبدٌ آبق عن مولاه، يستحقُّ أن يُوضَع في مصحَّة عقلية، إذ لا عاقل يرضىٰ بأن يعرض زوجته لعيون تختلس النظر إلىٰ محاسنها! والحرُّ تكفيه إشارة.

روي عن رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «زيِّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس»(1).

خامساً: صحيح أنَّ الفرح مباح لنا في العيد، وصحيح أنَّه ينبغي أن نُفرِّح أولادنا وأهالينا وأصدقاءنا ومن نُحِبُّ من إخواننا في هذا اليوم، ولكن علينا أن نتذكَّر أنَّ العيد الذي نفرح به، هو يُجدِّد لإمام زماننا حزناً وألماً، فليس من الذوق ولا من الوفاء لإمام زماننا أن لا نتذكَّره في هذا اليوم، ولا ندعو له بالفرج، فنحن نجلس مع أولادنا وهو لا يجلس، نحن نزور أصدقاءنا وأرحامنا وهو لا

ص: 215


1- الجامع الصغير للسيوطي 2: 32/ ح 4579.

يزور، فأين يقضي يومه (علیه السلام) !؟ ومن يُلقي عليه تحيَّة العيد!؟ ومن يُصبِّح عليه في يوم العيد!؟

أفهل تذكَّرنا غربته، ووحدته، ووحشته؟ ألَا ساعده الله، ألَا عجَّل الله تعالىٰ فرجه، ألَا جعلنا الله تعالىٰ ممَّن يُؤنِسون وحشته بطاعتنا لربِّ العزَّة والجلال.

ورد عن عبد الله بن دينار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «يا عبد الله، ما من عيد للمسلمين أضحىٰ ولا فطر إلَّا وهو يُجدِّد لآل محمّد فيه حزناً»، قلت: ولِمَ ذاك؟ قال: «لأنَّهم يرون حقَّهم في يد غيرهم»(1).

فليبحث كلُّ واحد منّا عمَّا يُرضي الله (عزوجلّ)، وعمَّا يُرضي إمام زمانه.

سادساً: لا تنسوا الأيتام الذين لم يهنؤوا بعيدهم أن تبرّوهم وتُقسِطوا إليهم وتُفرِّحوا قلوبهم.

فقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من عال يتيماً حتَّىٰ يستغني أوجب الله (عزوجلّ) له بذلك الجنَّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار»(2).

وعنه (علیه السلام) أنَّه قال: «وما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده علىٰ رأس يتيم ترحُّماً له إلَّا كتب الله له بكلِّ شعرة مرَّت يده عليها حسنة»(3).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إنَّ في الجنَّة داراً يُقال لها: دار الفرح، لا يدخلها إلَّا من فرَّح يتامىٰ المؤمنين»(4).

ص: 216


1- الكافي للكليني 4: 169 و170/ باب النوادر/ ح 2.
2- الكافي للكليني 7: 51/ باب صدقات النبيِّ (صلی الله علیه و آله) .../ ح 6.
3- ثواب الأعمال للصدوق: 199.
4- الجامع الصغير للسيوطي 1: 354/ ح 2322.

وأخيراً أقول لكم إخوتي وأخواتي: جعل الله أيّامنا وأيّامكم أعياداً بطاعة الرحمن واجتناب الشيطان..

وأسعد الله أيّامكم، وجعلها من خير وإلىٰ خير، وأقرَّ أعينكم برؤية صاحب الطلعة البهيَّة، والجمال الإلهي، والنور الساطع، ومنتظَرِ القلوب، ومهدي الأُمَّة، عجَّل الله تعالىٰ فرجه الشريف. وأدركنا وإيّاكم بعصر ظهوره، علىٰ سلامة من ديننا، ويقين من اعتقادنا.

وأرجو دعواتكم جميعاً.

* * *

ص: 217

ص: 218

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الإتقان في علوم القرآن: السيوطي/ ت سعيد المندوب/ ط 1/ 1416ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

3 - الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ﻫ.

4 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.

5 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ مؤسَّسة آل البيت/ 1404ﻫ/ قم.

6 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسَّسة آل البيت/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.

7 - الاستيعاب: ابن عبد البرِّ/ ت البجاوي/ ط 1/ 1412ﻫ/ دار الجيل/ بيروت.

8 - أُسد الغابة: ابن الأثير/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

9 - الأُصول الستَّة عشر: ت ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ﻫ/ دار الحديث.

10 - أعلام الدين: الحسن بن محمّد الديلمي/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.

11 - إقبال الأعمال: ابن طاووس/ ت جواد القيّومي/ ط 1/ 1414ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.

ص: 219

12 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ﻫ/ مؤسَّسة البعثة.

13 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ﻫ/ دار الثقافة/ قم.

14 - الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأُستادولي، عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.

15 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ﻫ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

16 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ﻫ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

17 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت عليّ شيري/ 1415ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

18 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

19 - التسهيل لعلوم التنزيل: الغرناطي الكلبي/ ت الدكتور عبد الله الخالدي/ الناشر شركة دار الأرقم.

20 - تفسير ابن كثير: ابن كثير/ ت يوسف المرعشلي/ 1412ﻫ/ دار المعرفة/ بيروت.

21 - تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): المنسوب إلىٰ الإمام العسكري/ ط 1 محقَّقة/ 1409ﻫ/ مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.

22 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

23 - تفسير التبيان: الشيخ الطوسي/ ت أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.

ص: 220

24 - تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ت أبي محمّد بن عاشور/ ط 1/ 1422ﻫ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

25 - التفسير الصافي: الفيض الكاشاني/ ط 2/ 1416ﻫ/ مط مؤسَّسة الهادي/ مكتبة الصدر/ طهران.

26 - تفسير العيّاشي: العيّاشي/ ت هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.

27 - تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

28 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ ت طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

29 - تفسير الميزان: السيِّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية/ قم.

30 - تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط 1/ 1418ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

31 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

32 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

33 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

34 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.

ص: 221

35 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

36 - الجامع الصغير: السيوطي/ ط 1/ 1401ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

37 - الخصال: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ﻫ/ جماعة المدرِّسين/ قم.

38 - الخصائص الفاطمية: الشيخ محمّد باقر الكجوري/ ترجمة السيِّد عليّ جمال أشرف/ ط 1/ 1380ش/ مط شريعت/ انتشارات الشريف الرضي.

39 - الدُّرُّ المنثور: السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.

40 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ﻫ/ دار المعارف/ القاهرة.

41 - الذنوب الكبيرة: السيِّد عبد الحسين دستغيب.

42 - رياض السالكين: السيِّد عليّ خان المدني الشيرازي/ ت السيِّد محسن الحسيني الأميني/ ط 4/ 1415ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

43 - سبل الهدىٰ والرشاد: الصالحي الشامي/ ط 1/ 1414ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

44 - سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.

45 - سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط 1/ 1410ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

46 - سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

ص: 222

47 - سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349ﻫ/ مط الاعتدال/ دمشق.

48 - سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

49 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ﻫ/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

50 - شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط 1/ 1423ﻫ/ مكتبة الرشد.

51 - الصحيفة السجّادية: الإمام زين العابدين (علیه السلام) / ط 1/ 1418ﻫ/ دفتر نشر الهادي/ قم.

52 - الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط1/ 1997م/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

53 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ﻫ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

54 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط 1/ 1403ﻫ/ مط سيِّد الشهداء/ قم.

55 - العيش في الزمان الصعب: عبد الكريم بكار/ ط 5/ 1431ﻫ/ دار القلم/ دمشق.

56 - عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

57 - عيون الأخبار: ابن قتيبة الدينوري/ ط 3/ 1424ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

58 - عيون الحكم والمواعظ: عليّ الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.

ص: 223

59 - الفتاوىٰ الميسَّرة: السيِّد السيستاني/ ط 3/ 1417ﻫ/ مط الفائق.

60 - فضائل الأشهر الثلاثة: الشيخ الصدوق/ ت عرفانيان/ ط 2/ 1412ﻫ/ دار المحجَّة البيضاء/ بيروت.

61 - الفقه المغتربين: السيِّد السيستاني.

62 - الكافي: الشيخ الكليني/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

63 - كامل الزيارات: ابن قولويه/ ت جواد القيّومي/ ط 1/ 1417ﻫ/ مط مؤسَّسة النشر الإسلامي/ مؤسَّسة نشر الثقافة.

64 - كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ ت بكري حيّاني/ 1409ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

65 - لسان العرب: ابن منظور/ 1405ﻫ/ نشر أدب الحوزة/ قم.

66 - مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

67 - المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدِّث/ 1370ﻫ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

68 - المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطيَّة الأندلسي/ ت عبد السلام عبد الشافي محمّد/ ط 1/ 1413ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

69 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط 1 المحقَّقة/ 1408ﻫ/ مؤسَّسة آل البيت/بيروت.

70 - المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

71 - مسند ابن راهويه: إسحاق بن راهويه/ ت الدكتور عبد الغفور عبد الحقِّ حسين برد البلوسي/ ط 1/ 1412ﻫ/ مكتبة الإيمان/ المدينة المنوَّرة.

ص: 224

72 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

73 - مسند الشاميين: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2/ 1417ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

74 - مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ﻫ/ دار الحديث.

75 - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ ت سعيد اللحّام/ ط1/ 1409ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.

76 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

77 - المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ﻫ/ دار الحرمين.

78 - المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

79 - معرفة القرآن علىٰ ضوء الكتاب والسُّنَّة: الريشهري/ ط 1/ دار الحديث للطباعة والنشر.

80 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ﻫ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

81 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

82 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ﻫ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

83 - المناقب: الموفَّق الخوارزمي/ ت مالك المحمودي/ ط 2/ 1414ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

ص: 225

84 - منهاج الصالحين: السيِّد السيستاني/ ط 1/ 1414ﻫ/ مط مهر/ قم.

85 - نزهة الناظر: الحلواني/ ت مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / ط 1/ 1408ﻫ/ مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.

86 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ﻫ/ بيروت.

* * *

ص: 226

الفهرست

مقدّمة المركز. 3

الإهداء. 5

مقدّمة المؤلِّف.. 7

القسم الأوَّل: سهلٌ.. ممتنعٌ. 13

1- اختيار مناسب.. 15

2- العفاف.. 16

3- ترك الغناء. 18

4- قوِّ نفسك.. 19

5- وليمة. 22

6- العناد. 24

من مفردات العناد غير المبرَّر. 25

خارج عن العناد. 27

7- التخلّي عن المسؤولية. 28

موقف الإسلام. 32

8- الذنب شؤم مطلق. 32

9- الغيرة. 35

10- عدم كتابة الحقوق.. 38

11- التهاون بصغار الذنوب.. 39

ص: 227

12- التهاون بالفتوىٰ.. 41

13- قتل النفس بغير حقٍّ!. 43

14- تيسير أم تهاون؟. 45

15- إنكار ومطل الدَّين. 47

16- رعاية حرمة المؤمن. 49

17- نساء قوّامات على الرجال!. 52

18- تجمُّل الزوج لزوجته. 54

19- نظافة وذوق.. 56

20- تتبُّع عيوب الآخرين. 58

21- الكذبة البيضاء أو الكُذيبة. 59

22- خلف الوعد. 61

23- النظرة الأُولىٰ والثانية. 62

24- اليمين الغموس... 64

25- الرفق. 66

26- الكناية أبلغ من التصريح.. 68

27- وقت ضائع. 70

28- خلافات ساذجة. 73

29- سيطرة الأشياء. 75

30- غياب الهدف الإلهي. 77

القسم الثاني: ربيع القرآن. 81

1- ربيع القرآن. 83

2- من أسماء القرآن. 84

ص: 228

3- خصائص بعض السور. 86

أوَّلاً: سورة الفاتحة. 86

ثانياً: سورة التوحيد. 86

ثالثاً: آية الكرسي... 87

4- إعجاز القرآن. 88

5- جمعُ القرآن. 91

6- من بركات القرآن. 92

7- متجدِّد مع الزمن. 94

8- الاقتصاد في القرآن الكريم. 96

9- تفسير القرآن. 99

10- السياسة في القرآن الكريم. 102

11- التشريع في القرآن الكريم. 105

12- وفي السماء رزقكم... 108

13- أخبار القرآن الكريم. 110

14- آداب التعامل مع القرآن. 111

15- القرآن ودرجات الجنَّة. 113

16- تعليم القرآن. 115

17- تعلُّمُ القرآن. 117

18- حفظ القرآن. 119

19- آداب حملة القرآن. 121

20- فضل تلاوة القرآن. 123

21- مجالس القرآن. 124

ص: 229

22- إجمال العقائد في القرآن الكريم. 126

23- استماع القرآن. 128

24- الآداب الظاهرية لتلاوة القرآن الكريم. 130

25- الآداب الباطنية لتلاوة القرآن الكريم. 134

26- قرُّاء مذمومون. 136

27- تفسير القرآن بالقرآن. 138

28- وما يعلم تأويله إلَّا الله والراسخون في العلم. 140

29- لطائف تفسيرية. 141

30- ختم القرآن الكريم. 144

القسم الثالث: قبساتٌ من الصحيفة السجّادية. 147

1- استهلال. 149

2- تسخير الخلائق للإنسان. 150

3- مؤونتنا عند الكرام الكاتبين.. 152

4- ضعف الإنسان. 155

5- بين دعوة الله ودعوة الشيطان. 157

6- التوبة والإنابة والحطَّة. 159

7- أفردتني الخطايا 161

8- عدم استحقاق الإنسان للغفران. 163

9- طلب الكمال. 165

10- مفاهيم وطرق إصلاحها 167

11- طلب التواضع. 170

12- لا نوافل مع الإضرار بالفرائض... 172

ص: 230

13- التعوّذ من النار. 174

14- مطالب الروح والجسد. 176

15- منهاج الآخرة. 178

16- أثر الجار الصالح (شهر رمضان نموذجاً). 181

17- إنَّما يعجل من يخاف الفوت.. 184

18- معكِّرات صفو الحياة. 186

19- الاعتراف بالتقصير بين يدي الله (عزوجلّ) ... 188

20- دعاة إلى الله.. 190

21- ملاك طلب زيادة العمر. 192

22- هو المفزع في الملمّات.. 194

23- تعاهد الفروض والسنن. 196

24- حمداً في الصحَّة والمرض... 198

25- بين نقص الدين ونقص الدنيا 200

26- مواقف إنسانية. 202

27- حسن الظنِّ بالله تعالى. 204

28- لا ظالماً ولا مظلوماً 206

29- شماتة الشيطان. 208

30- اللّهمّ عاملنا بلطفك وتفضُّلك.. 210

ختامه مسك: ماذا يعني العيد؟. 213

المصادر والمراجع. 219

الفهرست.. 227

ص: 231

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.