الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم
بحث في المعاني
والمردودات الاجتماعية والعملية
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
ص: 1
الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم
بحث في المعاني
والمردودات الاجتماعية والعملية
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم
(بحث في المعاني والمردودات الاجتماعية والعملية)
تأليف
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تقديم
معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
الطبعة الأُولىٰ: 1438ﻫ
العدد: 1000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة للمعهد
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حثَّت النصوص من القرآن الكريم والروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) علىٰ طلب العلم وتحصيله، ومن جملة تلك النصوص قوله تعالىٰ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 5﴾ (العلق: 1 - 5).
وهذه السورة علىٰ قول أكثر المفسِّرين أوَّل ما نزل علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وتدلُّ بوضوح علىٰ أنَّ أفضل النعم التي منحها الله للإنسان هي نعمة العلم.
وقال تعالىٰ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9﴾ (الزمر: 9).
وفي هذه الآية استفهام استنكاري، استنكاراً للمساواة بين العالم وغير العالم.
وروي في كتاب المحاسن عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اغْدُ عالماً أو متعلِّماً، وإيّاك أن تكون لاهياً متلذِّذاً»(1).
ص: 3
وفي حديث آخر: «وإيّاك أن تكون من الثلاثة متلذِّذاً»(1).
وفي أمالي الصدوق عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام): «تعلَّموا العلم، فإنَّ تعلّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وهو عند الله لأهله قربة، لأنَّه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنَّة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح علىٰ الأعداء، وزين الأخلّاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمَّة يُقتدىٰ بهم، تُرمَق أعمالهم، وتُقتَبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلَّتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم، لأنَّ العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمىٰ، وقوَّة الأبدان من الضعف، يُنزل الله حامله منازل الأبرار، ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة، بالعلم يُطاع الله ويُعبَد، وبالعلم يُعرَف الله ويُوحَّد، وبالعلم تُوصَل الأرحام، وبه يُعرَف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل، والعقل تابعه، يلهمه الله السعداء، ويُحرمه الأشقياء»(2).
وكلُّنا يعرف صعوبة طلب العلم بكلِّ أصنافه في الأزمنة الماضية وما يتطلَّبه من جهد ومال وتعب، لكن بالعلم ذاته أصبح طلب العلم متيسِّراً لكلِّ إنسان وإن كان حبيساً في بيته، لأيِّ علَّة أو سبب.
إنَّ معهد تراث الأنبياء في النجف الأشرف هو من المشاريع الرائدة في هذا المجال، والتي صيَّرت الدراسة الحوزوية التمهيدية في متناول أيدي جميع الناس بمختلف شرائحهم، لكي يرتقوا بعد ذلك في سُلَّم العلم، وليأخذوا حظّاً وافراً من العلوم التي تُصيِّرهم بعد ذلك أهلاً للانخراط في الحوزات العلمية، أو أن يبقوا في مجتمعاتهم كشريحة
ص: 4
مثقَّفة متديِّنة متفقِّهة، تعرف أُصول دينها وفروعه، كي يُورِّثوها لأجيالهم جيلاً بعد جيل، وليحسنوا تربيتهم وتقويمهم.
ومن الجدير بالذكر أنَّ المعهد أُنشئ قبل عام واحد فقط، وقد تجاوز عدد الطلبة المسجِّلين فيه (1750) طالباً وطالبةً من مختلف دول العالم من الصين وأمريكا وأُوروبا وبلاد المغرب العربي وغيرها.
فالمعهد أُوجِد من أجل تسهيل مهمَّة طلب العلم، لمن لا يستطيع الوصول إلىٰ منهله ومرتعه: النجف الأشرف، ولا يعني هذا الاستغناء به تماماً، بل المعهد وما يبثّه من دروس ومحاضرات إنَّما يُمثِّل الخطوة الأُولىٰ في مجال طلب العلم، وعلىٰ من أراد الاستمرار أن يسعىٰ لأكثر من هذا.
إنَّ من أولويات المعهد - بالإضافة إلىٰ الدراسات الحوزوية الإلكترونية - هو نشر وطباعة البحوث والمؤلَّفات العلمية لطلبة وأساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، لما في ذلك من خدمة عظيمة نُقدِّمها لطالبي المعرفة في كلِّ مكان.
ومن ضمن مهامِّ المعهد، طباعة الكتب التي تهتمُّ بالجوانب المعرفية والقرآنية والاجتماعية المختلفة، لما في ذلك من دعم لمسيرة الكُتّاب، وتنمية لجوانب المعرفة، والكتاب الذي بين يديك هو الإصدار الثالث في سلسلة إصدارات المعهد، وهو كتاب (الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم) لمؤلِّفه (الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي)، حيث تعرَّض فيه لبيان معاني الهدىٰ والضلال الستَّة في القرآن الكريم، وقد قدَّم لها تمهيداً فيه عدَّة مقدّمات، وختمها باستخلاص النتائج، ليخرج القارئ بعد مطالعته لهذا الكتاب بفكرة تصوّرية تفصيلية عن مفهوم الهدىٰ والضلال في القرآن
ص: 5
الكريم، وستنعكس تلك التصوّرات علىٰ عمله وسلوكه الخارجي ليحكي عن إيمان وتسليم مطلقين بأفعال الله تعالىٰ الحكيمة، الذي شاء أن يُبقي علىٰ إرادة الإنسان واختياره، ليظلَّ الإنسان مسؤولاً عن أفعاله وتصرُّفاته.
فنسأل الله تعالىٰ أن يُوفِّقه ويُوفِّقنا لمزيد من العلم والعمل الصالح.
معهد تراث الأنبياء
للدراسات الحوزوية الإلكترونية
ص: 6
إلىٰ الهادي من العمىٰ، والمنقذ من الضلال..
إلىٰ الرحمة المهداة إلىٰ العالمين..
إلىٰ العالِم الذي ينهل من علمه الأوَّلون والآخرون..
إلىٰ الشفيع الذي يتوسَّل بربِّه لينقذ أُمَّته..
إليك أنت يا رسول الله..
أُهدي عملاً بالنقص موصوفاً، وبالخجل مشفوعاً..
فاقبله يا سيِّدي..
فأنت تقبل هدية الفقير..
* * *
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلىٰ السبيل، والمنقذ الإنسان من الضلال والتضليل، بلطفه في إرسال أنبيائه، وعطفه في تعيين أوصيائه. والصلاة والسلام علىٰ أشرف الأنام، رسول الله الأعظم ونبيِّه الأكرم محمّد المصطفىٰ، وآله الطيِّبين الطاهرين المعصومين الهادين المهديّين.
وبعد..
إنَّ من السُّنَن الكونية في هذه الحياة، هي سُنَّة التدافع والتزاحم بين مفردات وموجودات هذا العالم المادّي، ذلك لأنَّ كونه عالماً مادّياً يعني فيما يعنيه أنَّ الفُرَص المتاحة مهما كثرت، فإنَّها لا تُغطّي المساحة المتزايدة من الرغبات والطلبات، إلَّا إذا تمَّ تقنين الاستفادة من تلك الفُرَص، ورسم الطرق المثلىٰ لذلك.
ومن هنا كان واحداً من أهمّ أهداف رسالات السماء هو العمل علىٰ تنظيم العلاقات الفردية والجماعية وفق نظام الحقوق والواجبات، ذلك النظام الذي إذا التزم به الأفراد، وعرف كلُّ واحد ما له من حقوق فأخذها بقدرها، وما عليه من واجبات فأدّاها بصدق وإخلاص، لعاش الناس في هذه الحياة عيشة مطمئنَّة هادئة، لا يكون همٌّ لهم فيها سوىٰ التسابق في الأُمور المعنوية وما يزيد من قربهم من الكمال المطلق. قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ
ص: 9
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13﴾ (الحجرات: 13).
هذا أوَّلاً.
وثانياً: أنَّ الرسالات السماوية عموماً، والرسالة الإسلاميَّة بالخصوص، وإن جاءت فيما جاءت لأجله لتنظيم تلك العلاقات، ولكن سُنَّة التدافع والتزاحم ما زالت تعمل، لذلك لا تجد رسالةً ولا رسولاً إلَّا وقد وقف بالضدِّ منه من يعمل علىٰ تقويض حركته، ومن يسعىٰ جهده إلىٰ الإطاحة بنظريات رسالته.
قال تعالىٰ: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ 112﴾ (الأنعام: 112).
وقال تعالىٰ: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفىٰ بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً 31﴾ (الفرقان: 31).
وهذا الوقوف علىٰ الطرف النقيض، ومحاولة تسقيط الرسالة والرسول، قد أخذ طُرقاً ملتوية متعدِّدة، منها التالي:
1 - اتِّهام الرسول ببعض الصفات التي تُقلِّل من شأنه وتُضعِّف من شخصيته، وبالتالي ليقلَّ تأثيره علىٰ الناس، كاتِّهامه بالكهانة، أو الكذب، أو السحر، أو الشعر، أو التعلُّم من غيره، أو من الكتب الأُسطورية القديمة، وغيرها ممَّا صرَّح به القرآن الكريم في أكثر من مناسبة.
2 - التشكيك بحجّية أقوال النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وتنزيل شخصيته إلىٰ مستوىٰ البشر العاديين من هذه الناحية، الأمر الذي يعني احتمال خطئه أو اشتباهه أو نسيانه أو حتَّىٰ تعمُّده الكذب وإخفاء أو تزوير الحقائق.
ص: 10
عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أُريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول في الغضب والرضا! فأمسكتُّ، حتَّىٰ ذكرت ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: «اكتب فوَالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ»(1).
3 - محاولة العبث بالتراث الديني الذي يحفظ الرسالة الأصيلة، بالدسِّ فيه، والتزوير في حقائقه، والتحريف في مصادره، الأمر الذي يؤدّي إلىٰ اختلاط الحابل بالنابل، وبالتالي فقدان الثقة في كلِّ مصادر الدين، ممَّا يُضعِّف من تبعية الأفراد له.
4 - العمل علىٰ إيجاد ثغرات معرفية أو تناقضات علمية في مصادر معارف الدين، حيث تذكر بعض الوثائق التاريخية أنَّ هناك مجموعة من الرجال ممَّن عندهم نوع من المعرفة والتخصُّص، قد أخذوا في يوم ما بالعمل علىٰ نقض القرآن مثلاً، الأمر الذي يعني نقض الرسالة المحمّدية من أساسها.
وقد تجاوز الإسلام هذه العقبة بفضل إعجاز القرآن البلاغي تارةً، وبفضل وقوف وتصدّي أهل البيت (علیهم السلام) لتلك التيّارات والحركات الفردية والجماعية تارةً أُخرىٰ.
فمن ذلك ما رواه هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفَّع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤون بالحاجِّ ويطعنون بالقرآن.
فقال ابن أبي العوجاء: تعالَوا ننقض كلُّ واحد منّا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه،
ص: 11
فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتَّفقوا علىٰ ذلك وافترقوا.
فلمَّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمَّا أنا فمفكِّر منذ افترقنا في هذه الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]، فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر في ما سواها.
فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73﴾ [الحجّ: 73]، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.
فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: 22]، لم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.
فقال ابن المقفَّع: يا قوم، إنَّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَىٰ الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 44﴾ [هود: 44]، لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.
قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرَّ بهم جعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام)، فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 88﴾ [الإسراء: 88].
ص: 12
فنظر القوم بعضهم إلىٰ بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة محمّد إلَّا إلىٰ جعفر بن محمّد، والله ما رأيناه قطُّ إلَّا هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرَّقوا مقرّين بالعجز(1).
ومنه أيضاً ما روي من أنَّ إسحاق الكندي الذي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرَّد به في منزله، وأنَّ بعض تلامذته دخل يوماً علىٰ الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد (علیه السلام): «أمَا فيكم رجل رشيد يردع أُستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟».
فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟
فقال له أبو محمّد: «أتؤدّي إليه ما أُلقيه إليك؟».
قال: نعم.
قال: «فصر إليه وتلطَّف في مؤانسته ومعونته علىٰ ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقال: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنَّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلِّم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلَّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنَّك ذهبت إليها؟ فإنَّه سيقول لك: إنَّه من الجائز، لأنَّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلَّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».
فصار الرجل إلىٰ الكندي وتلطَّف إلىٰ أن ألقىٰ عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأىٰ ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلَّا أخبرتني من أين لك؟
ص: 13
فقال: إنَّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.
فقال: كلَّا، ما مثلك من اهتدىٰ إلىٰ هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني من أين لك هذا؟
فقال: أمرني به أبو محمّد.
فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلَّا من ذلك البيت، ثمّ إنَّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألَّفه(1).
وثالثاً: عندما نُطالع آيات القرآن الكريم، تواجهنا مجموعة من المفاهيم التي قد يُوحي ظاهرها بما لا تهواه الأنفس، أو بما يتناقض مع الأُصول العامَّة والثابتة للإسلام، أو بما يُوهِم تدخُّل الله تعالىٰ المباشر في إغواء بني آدم، الأمر الذي يعني أنَّ عقاب الفرد ممَّن ينطبق عليه ذلك المفهوم سيكون ظلماً أو عبثاً أو لهواً، وهو ما لا يتوافق مع أُصول الحكمة والعدل والرحمة واللطف الإلهيَّة.
ومن هذه المفاهيم هو مفهوم (الهدىٰ) وما يقابله من مفهوم (الضلال)، حيث تنسب بعض الآيات الكريمة (الهدىٰ) إلىٰ الله تعالىٰ، وهذا أمر قد يفرح به من يهديه الله تبارك وتعالىٰ، ولكن ماذا عن نسبة (الضلال) و(الإضلال) له جلَّ وعلا، إنَّ هذا المفهوم إذا لم تتمّ معالجته بصورة علمية وواضحة، فلربَّما أشكل الأمر علىٰ كثير من الناس، ولربَّما اتَّهم بعضهم ربَّ العزَّة والجلال بأنَّه يُضِلُّ بعضاً رغماً عنهم، فكيف يسوغ له أن يعاقبهم بعد هذا!؟
وسيراً علىٰ منهج أهل البيت (علیهم السلام) في هداية الناس وردِّ الشُّبَه عن الدين القويم، ورغبةً في ثواب تعليم أيتام آل محمّد (علیهم السلام)، فقد شرع الأُستاذ والمربّي الفاضل سماحة السيِّد جعفر بن السيِّد عبد الصاحب بن
ص: 14
مرجع الطائفة السيِّد محسن الحكيم (قدس سره) بإلقاء دروس تخصُّ العقيدة الإسلاميَّة في شرح كتاب (تجريد الاعتقاد) للمحقِّق الطوسي (رحمة الله) في مقاصده المتعلِّقة بأُصول الدين(1)، وفي مباحث العدل الإلهي استطرد سماحته في ذكر معانٍ ستَّة للهدىٰ والضلال في القرآن الكريم(2) نقلاً عن بعض شرّاح التجريد(3)، وقد عاد لبيانها وتوضيحها وإضافة فوائد لها في درسه الخارج في علم الكلام(4)، فكانت هذه المحاضرات هي البذرة الأُولىٰ لكتابة هذه الأوراق.
فشكر الله سعيه، ورزقنا من فيض علمه، وجعله وإيّانا وإيّاكم ممَّن يعرفون الحقَّ ويتَّبعونه، ويُنكِرون الباطل ويُبغِضونه، قولاً وعملاً.
والشكر موصول إلىٰ الأخ العزيز سماحة الشيخ حسين الترابي مدير معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية، التابع للعتبة العبّاسية المقدَّسة، لما أولاه من اهتمام بطباعة هذا الكتاب، ليكون هو الإصدار الثالث في سلسلة إصدارات معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية التابع للعتبة العبّاسية المقدَّسة، فالله تعالىٰ أسأل أن يمدَّ في عمره في طاعته.
ص: 15
وقد رتَّبتُ هذا الكتاب علىٰ تمهيد فيه عدَّة مقدّمات، وفصول ستَّة يعالج كلُّ فصل منها معنىٰ من معاني الهدىٰ وما يقابله من معنىٰ الضلال، وخاتمة.
أسأل الله (عزوجلّ) أن يتقبَّله بقبوله الحسن، وأن يرزقنا حسن العاقبة.
حسين عبد الرضا الأسدي
النجف الأشرف
الجمعة (26/شوّال/1438ﻫ)
(21/تمّوز/2017م)
ص: 16
في هذا التمهيد نذكر عدَّة مقدّمات تُمثِّل مدخلاً مهمّاً للخطوط العامَّة لهذا الكتاب، ولفهم المعاني الستَّة للهدىٰ والضلال، وهي التالي:
كثيرة هي المواضيع العقائدية المرتبطة بمصير الإنسان وحياته النهائية، حيث إنَّها ترتبط بشكل وبآخر بسلوكه العملي، والاعتقاد بها - علىٰ نحو الصواب أو الخطأ - له ذلك الأثر - إيجاباً أو سلباً -.
ومن أهمّ تلك المواضيع هو موضوع الهداية والإضلال.
فمن هو الهادي؟ ومن هو المضلُّ؟
أليس هو الله تعالىٰ بنصِّ القرآن الكريم!؟
ومعه، فكيف يُعذِّبنا الله تعالىٰ علىٰ ضلالنا إذا كان ذلك بسببه؟
وكيف نستحقُّ ثواباً إذا كانت الهداية منه أيضاً؟
إنَّ عدم الفهم الوافي لهذا الموضوع أدّىٰ بالبعض إلىٰ إنكار ما لا يقبل العقل التشكيك به، فأنكروا اختيار الإنسان، وقالوا - ولو بلسان الحال -: إنَّه مجرَّد آلة تُنفِّذ ما يريده الجابر منها، وهو حسب فرضهم الله تعالىٰ، و بالتالي أنكروا ضرورة أن يكون الله تعالىٰ عادلاً أو حكيماً، وأنَّه لا يجب أن يكون فعله تعالىٰ حكيماً حتَّىٰ يصحَّ منه جبر البعض علىٰ أن يكونوا ضالّين مضلّين ومع ذلك يُعاقبهم!
ص: 17
والحقُّ أنَّ هذا الموضوع يحتاج إلىٰ متابعة دقيقة وتأمُّل عميق حتَّىٰ يمكن فهم معنىٰ الهداية والإضلال من الله تعالىٰ، وقد شمَّر علماؤنا عن سواعد الجدِّ لينقبوا عن الحقيقة، ووجدوها فبثّوها دُرَراً مستوحاة من القرآن الكريم وكلام النبيِّ الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، وبيَّنوا أنَّ للهداية والضلال معانٍ عديدة، وسبرها يكشف عن حقيقة الأمر، تلك الحقيقة التي لا تنفي اختيار الإنسان ولا حكمته تعالىٰ ولا عدله، بل تدلُّ علىٰ ذلك بدلالة مؤكَّدة وغير قابلة للتشكيك.
وسيكون البحث هنا حول تلك المعاني للهداية والضلال، علماً أنَّ مصبَّ الكلام هو دراسة تلك المعاني فيما يتعلَّق بالإنسان علىٰ الخصوص، وبما يرجع عليه بمردود عملي يُحدِّد سلوكه ويغيره، وبما يرجع إلىٰ المجتمع بالتطوّر والاستقرار.
والحقيقة، أنَّ تربويات الدين وأدبياته قد أشبعت هذه الجوانب الإنسانية والاجتماعية بمردوداتها العملية، ومطالعة آيات القرآن الكريم وكلمات الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) فيها غنىٰ للباحث في هذا المجال، وهذا طبعاً لا يمنع من مطالعة كلمات العلماء في شتّىٰ المجالات، خصوصاً مجال علم النفس وعلم التنمية البشرية، لما لهذه العلوم من أثر مباشر علىٰ السلوك الفردي والاجتماعي.
هناك خطأ شائع، يتعاطىٰ مع جملة من المفاهيم علىٰ أساس أنَّها مفاهيم متواطئة، أي إنَّ له مرتبة ودرجة واحدة لا تقبل إلَّا النقيض أو الضدَّ في قبالها، أو قل: إنَّ أمرها يدور بين الوجود والعدم، في الوقت التي هي من المفاهيم المشكَّكة، أي إنَّ لها درجات ومراتب، فالعلم مثلاً،
ص: 18
مفهوم لا يدور أمره بين الوجود والعدم، بحيث يقال: فلان إمَّا عالم أو لا، وإنَّما هو مفهوم له مراتب متعدِّدة، أشبه شيء بالسُّلَّم، ولذلك برز فيه مفهوم أفعل التفضيل، فقيل: عالم وأعلم، وهكذا بقيَّة المفاهيم المشكَّكة، كالجود، والنجاح، وما شابه.
إنَّ التعاطي - خصوصاً التعاطي العملي - مع المفاهيم بصورة متواطئة، سوف يؤدّي إلىٰ خلل فكري في الكثير من البحوث العلمية والعملية، ولن نتمكَّن من علاجها إلَّا إذا فتحنا باب التشكيك والمراتب فيها.
وينبغي التنبيه إلىٰ أنَّ المفاهيم الوجودية وإن كانت تُعبِّر عن صفات للوجود، والوجود - كما قالوا في الفلسفة - مفهوم مشكَّك، فتكون تلك الصفات التي تُعبِّر عنه مشكَّكة أيضاً، ولكن في نفس الوقت هناك مفاهيم تُعبِّر عن المراتب العليا للوجود بحيث لا يكون لها مراتب، وذلك مثل مفهوم (اللامتناهي)، فإنَّه مفهوم يُعبِّر عمَّا به الامتياز لا الاشتراك، أي إنَّه يُعبِّر عن امتياز مرتبة اللامتناهي عن جميع ما عداها من مراتب الوجود، فهناك مرتبة واحدة تُوصَف باللاتناهي، وبهذه الصفة امتازت عن جميع مراتب الوجود المتناهية، فتكون صفة اللاتناهي تعبيراً عمَّا يُميِّز تلك المرتبة عن غيرها، من دون أن تشاركها أيُّ رتبة أُخرىٰ في هذه الصفة.
ومن هذا القبيل الصفات التي تُمثِّل الخطوة الأُولىٰ للوجود، فإنَّها متواطئة أيضاً لا مشكَّكة، مثل مفهوم (العدل)، فإنَّ العدل ذو صيغة واحدة ثابتة، فإمَّا أن يوجد العدل وإمَّا لا، ففي أيِّ مستوىٰ تفرضه لا يتحقَّق فيه العدل يكون ظلماً، لا أنَّه عدل بمستوىٰ متدنّي مثلاً.
ص: 19
هذا بلحاظ أصل المفهوم طبعاً، بغضِّ النظر عن التطبيقات، فقد يوجد قاضٍ يحكم بالعدل في مائة قضيَّة ولكنَّه لا يعدل في قضيَّة واحدة، فحينئذٍ يمكن القول بعدالته النسبية أو ذات المراتب، فيقال بأنَّه عادل في تلك المائة وظالم في هذه الواحدة، وهذا مستوىٰ آخر من البحث لا دخل له بأصل المفهوم، وقد يوجد قاضٍ ظالم في جميع قضاياه، أو آخر ثالث في جميعها، فهذا موضوع آخر غير ما نحن فيه.
الهدىٰ لغةً: (الرشاد والدلالة بلطف إلىٰ ما يوصل إلىٰ المطلوب)(1).
والضلال: (ضدُّ الهدىٰ والرشاد. وقال ابن الكمال: الضلال فقد ما يوصل إلىٰ المطلوب، وقيل: سلوك طريق لا يوصل إلىٰ المطلوب. وقال الراغب: هو العدول عن الطريق المستقيم، وتضادُّه الهداية)(2).
أمَّا في القرآن الكريم، فمعنىٰ الهدىٰ والضلال لا يختلف كثيراً عن المعنىٰ اللغوي العامّ لهما، ولكن مع الالتفات إلىٰ التالي:
إنَّ مطالعة آيات القرآن الكريم فيما يتعلَّق بموضوعنا تكشف بصورة جليَّة أنَّ مفهوم (الهدىٰ) و(الضلال) من المفاهيم المشكَّكة لا المتواطئة، وبالتالي فله عدَّة مراتب، كما سنعرف ذلك إن شاء الله تعالىٰ.
فيقول القرآن مثلاً حكايةً عن أهل الكهف: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىٰ 13﴾ (الكهف: 13).
فالقرآن يُصرِّح بأنَّ الله تعالىٰ قد زاد أهل الكهف هدىٰ، ممَّا يعني أنَّ (الهدىٰ) له مراتب يمكن أن تزيد ويمكن أن تنقص.
ص: 20
ومن هنا فقد ذكر بعض العلماء(1) أنَّ للهدىٰ والضلال معانٍ ستَّة، أو قل: مراتب ستَّة، ولكلِّ معنىٰ أو مرتبة منها شاهد قرآني، كما سيأتي في محلِّه إن شاء الله تعالىٰ(2).
وكتوضيح معجَّل لهذه الحقيقة، نذكر نموذجين من الآيات التي تعرَّضت للهدىٰ:
النموذج الأوَّل: قوله تعالىٰ: ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ 50﴾ (طه: 50)، وقوله تعالىٰ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَىٰ 1 الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ 2 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ 3﴾ (الأعلىٰ: 1 - 3).
ص: 21
النموذج الثاني: قوله تعالىٰ: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ 2﴾ (البقرة: 2).
فأنت تلاحظ أنَّ نبرة الكلام في طرح الهدىٰ في هذين النموذجين مختلفة، فبينما تكون النبرة الأُولىٰ عامَّة لجميع المخلوقات بلا استثناء، تكون الثانية مختصَّة بفئة خاصَّة من الموجودات هم البشر، بل وبفئة خاصَّة من البشر هم المتَّقون.
وهذا يكشف عن أنَّ الهدىٰ في النموذج الأوَّل من الآيات ليس بنفس المعنىٰ الذي أخذه النموذج الثاني.
قسَّم علماء الكلام اللطف إلىٰ قسمين: اللطف المحصِّل، واللطف المقرِّب.
ويُعنىٰ من المحصِّل التالي:
1 - بعد أن أوجد الله (عزوجلّ) الإنسان في هذا العالم، فإنَّه خَلَقه من أجل هدف معيَّن، يريد منه تشريعاً وباختياره أن يصل إليه، فهذا هو مقتضىٰ الحكمة الإلهيَّة.
2 - أنَّ هذا العالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها مقتضيات الوصول إلىٰ الهدف من دون أيِّ موانع وعقبات، فإنَّه وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه ولكنَّه خلاف الواقع، ولو كان كذلك لكنّا مجتمعاً ملائكياً لا بشرياً.
وكذلك فالعالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها الموانع والعقبات من دون أيِّ تسهيلات وعلامات توصل إلىٰ الهدف، بحيث إنَّه لا تجد إلَّا المثبِّطات من دون أيِّ حوافز، فهذا الاحتمال وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه أيضاً ولكنه جزاف وعبث وخارج عن قدرة الإنسان، فكيف يمكن
ص: 22
للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دون أن يعرف ما هو أو كيف يصل إليه أو مع تعجيزه وإقعاده رغماً عنه!؟
إنَّ هذا الاحتمال في حقيقته علىٰ غرار:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماءِ(1)
فالعالم إذن نُظِّم بصيغةٍ تتوفَّر فيها الموانع، وإلىٰ جنبها تتوفَّر مقتضيات وشروط الوصول إلىٰ الهدف، بحيث توفَّر لدىٰ الإنسان كلُّ ما يتوقَّف عليه مسيرُهُ نحو الهدف.
3 - وهذا يعني أنَّ الوصول إلىٰ الهدف في الوقت الذي رُسِمَ طريقُهُ بكلِّ وضوح بحيث لم يبقَ عليه أيُّ تشويش أو ضبابية، لكن صاحَبَه العديد من الموانع والعقبات التي لا بدَّ للإنسان فيها من بذل الجهد لتجاوزها بإرادته واختياره.
وهذا التوازن بين الموانع والعقبات من جهة، وبين المقتضيات والشروط للوصول إلىٰ الهدف من جهة أُخرىٰ، هو ما يُسمّىٰ باللطف المحصِّل.
أو قل: إنَّه توفير الشروط التي لا يمكن للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دونها، لأنَّ في الطريق عقبات يحتاج إلىٰ ما يساعده في تجاوزها، وتلك المقتضيات والشروط هي ما تساعده علىٰ ذلك، فتوفيرها إلىٰ جنب الموانع هو اللطف المحصِّل.
4 - ومن هذا يتبيَّن أنَّ اللطف المحصِّل ليس شيئاً خارجاً عن مقتضىٰ (العدل الإلهي)، إذ العدل يقتضي توفير تلك المقتضيات إلىٰ
ص: 23
جنب الموانع، ويبقىٰ علىٰ الإنسان تفعيل اختياره في توفير والاستفادة من أكبر قدر ممكن من المقتضيات والشروط، وليرفع ما يمكنه من الموانع والمثبِّطات.
فاللطف المحصِّل إذن هو ترجمة واقعية للعدل الإلهي في وجود الكون بعيداً عن الظلم والجبر.
وأمَّا اللطف المقرِّب، فبيانه التالي:
إنَّ العدل الإلهي يقتضي إيجاد توازنات بين المقتضيات والموانع كما تقدَّم، أمَّا زيادة التسهيلات للوصول إلىٰ الهدف زائداً علىٰ العدل الإلهي فهذا الأمر ليس واجباً، وعدمه لا يُخِلُّ بالعدل، فلا يجب علىٰ الله تعالىٰ بمقتضىٰ العدل أكثر من تلك التوازنات.
ولكن الله تعالىٰ من حيث جوده وكرمه وتفضُّله ومنُّه ورحمتُه قد يُوفِّر عوامل الخير بعدد أكثر وبنوعية أكبر من عوامل الشر، قد يُقدِّم تسهيلات إضافية بحيث تفتح فرصاً أكثر وتُعبِّد طرقاً أوسع للوصول إلىٰ الهدف، بحيث لو - وهذه ملاحظة مهمَّة - أراد الإنسان أن يُشغِّل ويُفعِّل عقله واختياره، فإنَّه سوف يلمس تلك التسهيلات ويستفيد منها أكثر، رغم وجود الصعوبات والعقبات.
إنَّ توفير تلك التسهيلات وعوامل الخير الإضافية التي تجعل الاختيار الإنساني يتَّجه باتِّجاه فعل الخير من دون أن تُسلَب إرادته، هي ما يُسمّىٰ باللطف المقرِّب.
إذا تبيَّن هذا، نقول معجَّلاً:
إنَّ معاني الهداية ستَّة، فالهداية التكوينية العامَّة وهداية العقل والدعوة والتشريع، هي من نوع اللطف المحصِّل. وأمَّا هداية اللطف،
ص: 24
فهي من نوع اللطف المقرِّب. وأمَّا هداية الفلاح، فهي نتيجة العمل الذي يعمله الإنسان في هذه الحياة، وسنتعرَّف تفاصيل هذه المعاني الستَّة إن شاء الله تعالىٰ.
اللّهمّ إنَّك تقبل اليسير وتُعطي الكثير الجزيل، ولك الحمد علىٰ كلِّ نعمة أنعمت بها علينا تعذَّر علينا إحصاؤها. والصلاة والسلام علىٰ أشرف خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين.
وإنَّ معاني الهداية والضلال ستَّة، تأتي في فصول:
* * *
ص: 25
ص: 26
ص: 27
ص: 28
وهي بمعنىٰ تزويد كلِّ موجود عموماً بما في ذلك الإنسان بإمكانات ذاتية وطبيعية تعينه علىٰ الوصول إلىٰ غايته. وهذه الهداية عامَّة لكلِّ موجود، فإنَّه تعالىٰ جعل كلَّ موجود، سواء كان من الموجودات العلوية (المجرَّدة والمثالية) أو السفلية (المادّية)، جعل فيه ما يهتدي به إلىٰ صلاح حياته وأُموره، كغريزة التكاثر عند الحيوان، والهروب من العدوِّ، وجمع القوت، وفهم بعضهم عن بعض منطقها، وكاهتداء الشمس والقمر والنجوم في مسيرها اليومي...، ولا يشذُّ عن هذه الهداية موجود من الموجودات، فإنَّه تعالىٰ خلق ما خلق ودبَّر أمره.
وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ عالمنا هذا هو عالم الحركة والاستكمال، وواحدة من مبادئ الحركة هي الغاية ووجهة الحركة.
وهداية التكوين تعني أنَّ الله تعالىٰ حينما أوجد العالم متحرِّكاً، فليس من الصحيح أن تكون حركته عشوائية ومن دون هدف، لأنَّه خلاف الحكمة، فلا بدَّ أن يكون له هدف. وبعد أن أوجد الله تعالىٰ العالم، وجعل له (بوصلة) تؤدّي إلىٰ (الهدف)، فلا بدَّ أن يوجد معه آلات ووسائل تساعده في الوصول إلىٰ ذلك الهدف، فخلق فيه الهواء والماء والتراب وغيرها من العناصر الضرورية لاستمرار الحياة، كما وجهَّز الإنسان بالإرادة والقدرة وأدوات المعرفة و...، وإلَّا فمن دون تلك الوسائل والآلات يكون الوصول إلىٰ الهدف ضرباً من المحال، وهو علىٰ غرار:
ص: 29
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماءِ(1)
فالهدف، وإمكانات الوصول إليه، هو معنىٰ هداية التكوين هنا.
إنَّ عدم تحديد (هدف) لمفردات هذا العالم، يساوق أن تنتج (النخلة) ثمرة (الليمون)، وهذا هو معنىٰ العشوائية! أو أن تكتب شعراً باللغة العربية، فيُحوِّله القلم إلىٰ بذور تزرعها في الأرض!
والدليل علىٰ الهداية بهذا المعنىٰ:
من العقل: (هو دليل الحكمة ونفي العبث)، فحيث ثبت أنَّ الله تعالىٰ حكيم ولا مكان للعبث في فعله، فمن المستحيل أن يُوجِد هذا العالم المتحرِّك في كلِّ مفرداته، ثمّ لا يُحدِّد له الهدف، أو يُحدِّده من دون تزويده بالوسائل التي تساعده في الوصول إلىٰ هدفه.
ومن النقل: قوله تعالىٰ: ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ 50﴾ (طه: 50).
وقوله تعالىٰ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَىٰ 1 الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ 2 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ 3﴾ (الأعلىٰ: 1 - 3).
إذا عرفنا معنىٰ الهداية هنا، أمكننا أن نتعرَّف علىٰ ما يقابلها من (الضلال).
والضلال في هذه المرحلة يكون بأحد أمرين:
الأمر الأوَّل: إعدام الإمكانات المشار إليها، أي عدم توفير هذه
ص: 30
الإمكانات والوسائل للوصول إلىٰ الهدف، وقد تقدَّم أنَّ دليل الحكمة ونفي العبث ينفيه، فلا يُتصوَّر وقوع هذا المعنىٰ من الضلال في عالمنا.
الأمر الثاني - وهو المهمُّ -: إيجاد الموانع والعقبات في طريق الوصول إلىٰ الهدف.
وهذا المعنىٰ وجداناً حاصل، فأنت في طريق حركتك نحو الهدف والتكامل، تجد ألف عقبة ومانع، فالأمراض، والآفات، والهرم، وعدم توفُّر الفرص بسهولة، والزلازل، وحتَّىٰ الموت، كلُّها تقف في طريقك نحو التكامل.
وهذا الأمر ينبع من الحقيقة التالية:
إنَّ عالمنا - عالم المادَّة - مبنيٌّ في أصل وجوده علىٰ أساس نظام الأسباب والمسبَّبات، والموانع تدخل ضمن مفردات أسباب هذا العالم، باعتبار أنَّه عالم التزاحمات والتدافع، فظهور ظاهرة (الموانع) طبيعيٌّ جدّاً هنا.
لو فرضنا أنَّنا أردنا عالماً من دون أيِّ تزاحمات، فهذا الفرض ليس محالاً علىٰ الله تعالىٰ، بل هو قادر عليه بلا أدنىٰ شكٍّ، وإنَّما أمره فيه أن يقول له: كن فيكون، ولكنَّه سيتحوَّل حينها إلىٰ عالم آخر غير عالم الإنسان، سيتحوَّل إلىٰ عالم (الملائكة)، وهذا خروج عن حقيقة عالم المادَّة.
فما دمنا نتحدَّث وعالم المادَّة، إذن وجود الموانع سيكون أمراً طبيعياً فيه، وإلَّا لم يكن عالم المادَّة.
إنَّ وجود الموانع في عالم المادَّة لا يُخالف الحكمة أبداً، باعتبار أنَّ الإنسان موجود مختار، فلا بدَّ أن يُفعِّل اختياره وإرادته ليعمل علىٰ إزالة تلك الموانع، هكذا أراد الله تعالىٰ، ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ 6﴾ (الانشقاق: 6).
ص: 31
فهذا هو عالمنا، عالم الكدح والتعب والنصب، عالم الموانع التي صارت شعلة وهّاجة لتفجير طاقات الإنسان وإبداعاته الكامنة في مواجهة تلك الموانع، الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ ظهور شطر كبير جدّاً من التطوّر الذي نعيش مفرداته اليوم، فلولا الزلازل لما بنىٰ العقل البشري عمارات مضادَّة للزلازل، ولولا الأمراض لما تطوَّر علم الطبِّ وتفرَّع إلىٰ هذه الفروع التي يصعب عدُّها، ولولا التقلُّبات الجوّية لما اخترع أجهزة التبريد والتدفئة التي أضفت راحة كبيرة علىٰ الحياة...
وهذا معناه أنَّ فكرة تزويد الإنسان بالإمكانات (الهداية العامَّة المتقدِّمة)، لا تقتضي إيجاد عالم ليس فيه إلَّا مقتضيات وشروط الوصول بلا أيِّ تزاحم، وإلَّا لصار عالمنا عالم ملائكة، وحيث إنَّه لا بدَّ من التزاحم، إذن لا بدَّ من الموانع.
لقد شاء الله تعالىٰ أن يبني هذا العالم وفق هذا النظام، فلا وجود للوصول المجّاني فيه، وإنَّما لا بدَّ من بذل الجهد لاستغلال تلك الإمكانات المتاحة. ورغم إيجاده (عزوجلّ) لتلك الموانع، إلَّا أنَّه جلَّ وعلا أوجد إلىٰ جنبها نظاماً تكوينياً وهدايةً عامَّةً تُمكِّن الإنسان من التغلُّب علىٰ تلك الموانع والمزاحمات، تماماً كنظام (الإشارات المرورية)، فإنَّه في الوقت الذي يُمثِّل (عائقاً) من الانطلاق من دون توقُّف، ولكن لولاه لانقطع الطريق تماماً، فكثرة السيّارات في الشارع تُمثِّل (عائقاً) و(مزاحماً) من الوصول، فكان إيجاد نظام الإشارات المرورية التفافاً علىٰ تلك التزاحمات ليُنظِّمها ويتغلَّب عليها، وبالتالي سيصل كلُّ فرد إلىٰ مقصده بأسرع وقت ممكن. لكن ذلك النظام احتاج عقلاً وفكراً وجهداً حتَّىٰ توصَّل الإنسان إليه.
ص: 32
إنَّه رغم وجود (الموانع) في هذا العالم، لكن (الهداية العامَّة) أوجدت إلىٰ جنبه ما يستطيع الإنسان من خلاله أن يتغلَّب عليها، لكن بشرط أن يُفعِّل الإنسان إرادته ولا يتكاسل ولا يتعاجز، فإذا فعل ذلك أمكنه الاستفادة من كلِّ إمكانات هذا العالم ليعيش في راحة وأمان.
وهذا يعني: أنَّ الضلال في هذه المرحلة غير متصوَّر أيضاً، إذ لو وُجِدَت الموانع من دون إمكانات التغلُّب عليها لأمكن القول بتصوّره، ولكن الله تعالىٰ أبىٰ إلَّا أن يُوجِد إلىٰ جنب تلك الموانع ما يُمكِّن الإنسان من خلاله من التغلُّب عليها.
في هذا العالم، يمكننا أن نتصوَّر فروضاً ثلاثة:
الفرض الأوَّل: أن نوجَدَ في هذا العالم، ويأتي الله تعالىٰ ليأخذ بأيدينا قهراً، ويوصلنا إلىٰ المطلوب، بطريقة التلقين والإملاء الجبري.
وهذا الفرض وإن كان ممكناً علىٰ الله تعالىٰ، ولكنَّه يعني سلب اختيار الإنسان وتحويله إلىٰ آلة عمياء، وهو لم يقع أكيداً، ونحن نرىٰ أنفسنا مختارين بالوجدان.
الفرض الثاني: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويوجِدنا في أجواء مخملية تماماً، بحيث يوجد خيارات متعدِّدة لنا، ولا يوجد أيُّ مانع ولا مزاحم، أي إنَّه يُوفِّر جميع الشروط والمقتضيات من دون أيِّ مانع ولا مزاحم.
وهذا ممكن في حدِّ نفسه أيضاً، ولكنَّه في أفضل أحواله يُحوِّل عالمنا إلىٰ عالم ملائكة، ونحن افترضنا أنَّنا في عالم المادَّة، وإن كان البعض يعتبر هذا الفرض نوعاً من الجبر.
ص: 33
الفرض الثالث: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويُوفِّر كلَّ ما من شأنه أن يساعدنا في الوصول إلىٰ الهدف، لكن هذه الأُمور المساعدة لا تُعطىٰ للإنسان بالمجانِّ، بل إنَّه تعالىٰ يخلق أمامها مجموعة من الموانع، وعلىٰ الإنسان أن يسعىٰ لإزالتها باختياره، ليصل إلىٰ الهدف، أي إنَّه (عزوجلّ) يريد من الإنسان أن يتعامل مع المانع تعاملاً إيجابياً، أي يُحوِّله إلىٰ حالة إيجابية تنفعه في الوصول إلىٰ الهدف.
وهذا الفرض هو المتعيَّن هنا، فتلك الموانع لا تقف حائلاً ضدَّ الهداية التكوينية العامَّة، بل هي جزء من نظام هذا العالم، والجزء الآخر منه أن تُعمِل اختيارك وتُفعِّله لتزيل تلك الموانع، أو لتُغلِّفها بطريقة تجعل منها عاملاً مساعداً للوصول إلىٰ هدفك، فالإمام الكاظم (علیه السلام) جعل من السجن فرصة مناسبة للتعبُّد لله (عزوجلّ)، حيث نُقِلَ عن بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: «اللّهمّ إنَّني كنت أسألك أن تُفرِّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد»(1).
مع الالتفات إلىٰ أنَّ واحداً من أنظمة هذا العالم أيضاً هو التناسب الطردي بين الصعود التكاملي وبين كثرة الموانع، ممَّا يعني أنَّ التكامل يحتاج إلىٰ مزيد من الجهد وإعمال الاختيار، ولذا كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، حيث روي أنَّه سُئِلَ النبيُّ (صلی الله علیه و آله): أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).
ص: 34
هذا إجمالاً، وأمَّا تفصيلاً - وسنُخصِّص الكلام بالإنسان -، فيقال:
لقد خلق الله تعالىٰ الكون عموماً والإنسان خصوصاً لهدف محدَّد وغاية قصوىٰ، فجعله علىٰ نظام هو الأكمل من نوعه، بحيث لا يمكن أن تجد منفذاً لخطأ في تركيب أو عبث في شيء، ذلك لأنَّ الله تعالىٰ حكيم، وكان من حكمته أن يُوفِّر للإنسان جميع مستلزمات الوصول إلىٰ الهدف الذي خُلِقَ من أجله، فوفَّر تعالىٰ الكثير، بل كلَّ ما يحتاجه الإنسان من إمكانات ومستلزمات تساعده في أن يصل - باختياره - إلىٰ هدفه. وهذا يعني أنَّ توفير تلك الإمكانات - الذي هو معنىٰ الهداية هنا - هو بفعل الله تعالىٰ وحده. وهذا لا ينفي اختيار الإنسان ولا حكمته تعالىٰ، بل هو يتلاءم معهما تماماً، ويكون كالمعلِّم الذي يشرح المادَّة العلمية الصعبة لتلميذه ويُوفِّر له جميع مستلزمات النجاح، فهذا الفعل يُعتَبر فعلاً حكيماً من المعلِّم، لأنَّ التلميذ لا يستطيع أن يفهم المادَّة العلمية من دون أن يشرحها له معلِّمه، وفي نفس الوقت هذا لا يعني أنَّ التلميذ قد سُلِبَت منه إرادته في ذلك، بل إنَّ إرادته محفوظة، ولذا سيكون هو الذي يخوض الامتحان باختياره، وهو الذي سيعمل علىٰ الاستفادة ممَّا تعلمه أو عدم استفادته منه.
هذا هو معنىٰ هداية التكوين.
يمكن أن نتوفَّر علىٰ الكثير من تلك الإمكانات التي وفَّرها الباري تعالىٰ للإنسان، نذكر منها:
ابتداءً من رحم الأُمِّ الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بالقرار
ص: 35
المكين(1)، إلىٰ توفير الظروف الملائمة لبقاء الجنين حيّاً في بطن أُمِّه، ثمّ تسهيل عملية خروجه إلىٰ عالم الدنيا، وفي لحظة خروجه إلىٰ عالم الدنيا يأتي التدبير الإلهي ليُفجِّر له ينبوعاً من ثدي أُمِّه يسيل عليه بغذاء متكامل لا مثيل له، ثمّ هدايته لأن يتغذّىٰ من ذلك المنبع من دون معلِّم ولا تدريب.
ثمّ توفير الظروف الملائمة للعيش في الحياة، فالأُوكسجين بنسبة تكفي لتنفُّس الإنسان والحيوان - لا أكثر فتحدث حرائق كبيرة وانفجارات هائلة لأنَّه غاز يساعد علىٰ الاشتعال، ولا أقلّ فيحصل اختناق للإنسان لنقصه -، ثمّ وجود النباتات التي تجود علىٰ الإنسان بغاز الأُوكسجين بعدما تُخلِّصه من غاز سامٍّ له هو غاز ثاني أُوكسيد الكربون.
ثمّ وجود الشمس التي تُرسِل أشعَّتها لتُنعِش الحياة وتُنمّي الوجود. ووجود مظلَّة حول الأرض تحميها من الغازات السامَّة التي تصاحب أشعَّة الشمس، تلك المظلَّة التي هي أشبه بفلتر يُصفّي الأشعَّة الشمسية من الغازات السامَّة وتُخفِّفها ولا تسمح بالمرور إلَّا للنافع للإنسان من أشعَّة الشمس. ليس هذا فحسب، بل ومهمَّة تلك المظلَّة أنَّها تحمي الأرض ممَّا يهجم عليها من الفضاء الخارجي من أجسام غريبة وكويكبات وغيرها، فتحرقها أو تحرق الجزء الأعظم منها حتَّىٰ لا يبقىٰ منها إلَّا من نراه من شُهُب ونيازك تضفي متعة المشاهدة في ظلام الليل الحالك. إلىٰ غير ذلك من الظروف الملائمة التي تُحيِّر العقل عند التدبُّر بها.
ص: 36
وهذا المعنىٰ كان دليل (ابن رشد) علىٰ وجود الباري تعالىٰ وحكمته وأُلوهيته وربوبيته، ذلك لأنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون هو الذي وفَّر لنفسه كلَّ تلك الظروف، كيف وهو الذي يخرج حين يخرج وهو أعجز من أيِّ موجود علىٰ وجه الأرض، فضلاً عن جهله المطبق بنظام الحياة، فلا بدَّ من وجود موجود حكيم قادر عالم مدبِّر هو الذي وفَّر تلك الظروف للإنسان، وليس هو إلَّا الله تعالىٰ.
حيث إنَّ الإنسان يخرج جاهلاً إلىٰ هذه الدنيا، كانت الحكمة تقتضي توفير آلات علمية بها يُطوِّر نفسه و(يتحضَّر)، فكان توفير تلك الآلات من ضمن الهداية التكوينية التي منَّ بها الله تعالىٰ علىٰ البشر، قال تعالىٰ: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 78﴾ (النحل: 78).
لقد جهَّز الله تعالىٰ الإنسان بهذا الأدوات الثلاثة للعلم: السمع، والبصر، والفؤاد. وليس خافياً علىٰ أحد ضرورة هذه الآلات الثلاثة لاستمرار حياة الإنسان، وتصوَّروا لو أنَّ كلَّ البشر (عميان)، هل أمكن أن تستمرَّ حياتهم أو أن تتطوَّر هذا التطوّر الذي نراه اليوم!؟
والقلب، ذلك العضو الذي ظلَّت حقيقته خافيةً علىٰ البشر آلاف السنين، فما هو دوره؟ هل هو مجرَّد مضخَّة للدم أو أنَّ له دوراً في عواطف الإنسان؟
إنَّ العلم الحديث - الذي أُخفي عمداً عن عامَّة الناس - كشف عن أنَّ للقلب ذاكرة تختزن معلومات دقيقة عن صاحبه، بحيث تُؤثِّر في سلوكه وعواطفه، وهو ما كشفت عنه بعض عمليات نقل القلب من
ص: 37
شخص لآخر، حيث اكتشفوا فيما بعد بأنَّ كثيراً من سلوكيات صاحب القلب الأصلي تنتقل للحاضن الجديد لذلك القلب.
عبَّر عنه القرآن الكريم بأحسن التقويم، فليس هو جسماً فقط - فيكون مجرَّد حجر أصمّ لا ينفع ولا يضرُّ -، وليس هو روحاً فقط، وإنَّما هو مركَّب منهما، فهو حقيقة مركَّبة من روح وجسم. ولكلٍّ منهما حقوق وعليه واجبات، وليس خافياً عظمة الروح، يكفي أنَّها من الله تعالىٰ، ولا يعلمها إلَّا هو تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً 85﴾ (الإسراء: 85).
ولكن الجسم أيضاً عظيم في تنظيمه وتكوينه، ولقد كان ولا زال محطَّ أنظار كبار العلماء ليكتشفوا بعض حقائقه وخصائصه، حتَّىٰ إذا ما اكتشف أحد جهازاً من أجهزته أسرع ليُطلِق اسمه علىٰ ذلك الجهاز ليُخلِد ذكره باكتشافه ذلك!
والملفت للنظر أنَّ هناك تأثيراً متبادلاً بين البدن والروح، وعلاقة حميمة وشديدة بينهما، وهي علاقة الاستكمال، أي إنَّ الروح تستكمل بواسطة البدن في بعض أنواع الاستكمال، بل نجد أنَّ العلاقة بين الروح والبدن تتطوَّر حتَّىٰ تصل إلىٰ حدٍّ بحيث يُؤثِّر أحدهما علىٰ الآخر فسيولوجياً. وهذا ما نراه واضحاً عندما يصاب البدن بمرض ما، فإنَّه يُؤثِّر سلباً علىٰ الروح والعكس بالعكس، فصحَّة البدن وقوَّته تنقلب بالفائدة علىٰ الروح حتَّىٰ قيل: إنَّ العقل السليم في الجسم السليم. ولذا تجد أنَّ الروح ترتاح نوع ارتياح إذا ارتاح البدن بالنوم والأكل مثلاً.
وهكذا لمَّا تُصاب الروح ببعض النوبات المرضية فإنَّها تُؤثِّر علىٰ
ص: 38
البدن، فترىٰ الحسود لا يرتاح له جسد لما يتحمَّل من ألم الحسد، وهكذا الحزن والخوف، كلُّها تُؤثِّر علىٰ البدن، وعكسها صحيح، فالفرح يبعث النشاط في الروح، والغبطة تريح البدن، والأمن يعافيه، وهكذا، فالعلاقة متبادلة بينهما هنا في عالم الدنيا والتكامل.
وقد أشار الإمام الصادق (علیه السلام) لجزء من تلك العلاقة بقوله (علیه السلام): «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(1).
فلكي تستمرَّ حياة البشر، لا يكفي توفير الأجواء الملائمة فقط، بل لا بدَّ من توفير دوافع ذاتية للبقاء وللتطوّر، فكانت الغرائز المودعة في أعماق الإنسان، فغريزة حبِّ البقاء أدَّت إلىٰ أن يعمل الإنسان علىٰ توفير الأجواء الملائمة للأمن، ودعته أيضاً إلىٰ الحذر من الحيوانات المفترسة والأكلات الضارَّة.
وغريزة حبِّ الجنس الآخر أدَّت إلىٰ التكاثر واستمرار النسل البشري بالتدفُّق الهائل الذي نشهد اليوم آثاره بالستَّة مليارات نسمة علىٰ وجه الأرض.
وغريزة الهرب من العدوِّ، وغريزة جمع القوت، وغريزة حبِّ الخير والجمال والعلم، وغيرها كثير.
وكشاهد علىٰ ذلك نجد أنَّ الحيوانات يتغذّىٰ بعضها علىٰ بعض، والنباتات تتكاثر، وكلُّها يستهلكها الإنسان، وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالتسخير، قال تعالىٰ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 13﴾ (الجاثية: 13).
ص: 39
إنَّ تسخير كلِّ ما في السماوات والأرض للإنسان لهو من أعظم النعم الإلهيَّة علىٰ الإنسان، التي يقف الإنسان عاجزاً عن شكرها مدىٰ الحياة.
هذه الأُمور الخمسة هي بعض ما منَّ الله تعالىٰ به علىٰ الإنسان من هداية تكوينية.
وإذا عرفنا معنىٰ الهداية التكوينية، نكون قد عرفنا معنىٰ الإضلال التكويني، بمعنىٰ حرمان بعض الموجودات من تلك الإمكانات التي توصله إلىٰ هدفه(1)، كالعمىٰ والصمم والخرس، والأمراض المستعصية التي تُفقِد المرء فرصة التكامل، وكالجنون.
وهذا الحرمان من بعض الإمكانات التكوينية هو من الله تعالىٰ، ولكن حيث إنَّ عالمنا هو عالم الأسباب والمسبَّبات، فلذلك يمكن أن نجد الأسباب التي أدَّت إلىٰ هذا الحرمان، والتي تنتهي إلىٰ أنَّ الحرمان لم يكن من الله تعالىٰ بالمباشرة، وإنَّما لأسباب واقعية أدَّت إليها، ومن تلك الأسباب:
الأوَّل: الوراثة، فكثير من الأحيان يكون الحرمان بسبب وراثي، حيث نعلم أنَّ الجنين يأخذ من جينات والديه الوراثية الكثير من الصفات والخصائص، وفي بعض الأحيان يرث بعض الأمراض من أبويه، فيكون السبب في الحرمان هو الوراثة.
ولذا يُحذِّر الأطبّاء البدنيون والنفسانيون من الحالات البدنية
ص: 40
والنفسية غير الملائمة لإنجاب الأطفال، لأنَّها تُؤثِّر علىٰ الجنين إمَّا بإسقاطه قبل تمامه أو بتشوّهه أو بولادته غير تامِّ الخلقة أو ولادته مريضاً عليلاً.
ولذا يُنصَح بأن تكون حالة الزوجين متعادلة من حيث نوعية الدم، ومتفاهمة نفسياً، ويُنصَح أيضاً بضرورة عدم تدخين الأُمِّ أو سكرها، أو غضب الأب وسكره، أو الكلام أثناء المقاربة، أو مقاربة الزوجة بشهوة امرأة أُخرىٰ، أو المقاربة في أوقات خاصَّة ذكرتها الروايات(1).
الثاني: تعمُّد تناول بعض العقارات التي لها آثار سلبية علىٰ البدن، والمعروف طبّياً أنَّ أغلب العقارات لها آثار جانبية سلبية علىٰ البدن وإن أفادته في جانب آخر، فزرق إبرة في غير موضع الزرق يؤدّي إلىٰ حدوث أورام في المنطقة لا تزول إلَّا بعمليات جراحية، أو تؤدّي إلىٰ الشلل، وهكذا تناول عقار في غير محلِّه، وغيرها كثير، ولذا يُحذِّر الأطبّاء من استعمال أيِّ عقار من دون معرفة أو استشارة طبّية.
ص: 41
الثالث: استخدام الأسلحة الجرثومية والنووية ونفايات مادَّة اليورانيوم في الحروب التي تحصل بين البشر، التي تُسبِّب الكثير من الأمراض المستعصية وعلىٰ رأسها الأمراض العضال، وأظنُّ أنَّ كثيراً من البلدان ممَّن جرَّبت الحروب تعرف هذا المعنىٰ، وأشهرها هيروشيما وناكازاكي في اليابان، والعراق حيث أُلقيت عليه الكثير من نفايات اليورانيوم.
الرابع: مخالفة بعض القوانين الشرعية التي لها آثار تكوينية علىٰ البدن، أو قل: ممارسة الأعمال المحرَّمة التي لها أثر تدميري علىٰ البدن، فالزنا سبب رئيسي للإيدز، وقد قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً 32﴾ (الإسراء: 32).
وهكذا شرب الخمر، وإدمان المخدِّرات، وأكل الحرام، وغيرها كثير.
وهذا المعنىٰ أشارت له الروايات صريحاً، قال الإمام الرضا (علیه السلام): «كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(1).
وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب، ولا خوف أشدُّ من الموت، وكفىٰ بما سلف تفكُّراً، وكفىٰ بالموت واعظاً»(2).
الخامس: الابتلاء، وهذا السبب هو ما يمكن تصوّره من الله تعالىٰ ابتداءً، ولا ظلم فيه، لأنَّه تعالىٰ لا يبتلي اعتباطاً، وقد ذكرت الآيات
ص: 42
والروايات الشريفة علل الابتلاء، التي تحكي عن حكمة في حدوثه، كالتمييز والاختبار وإزالة الذنوب عند الصبر وزيادة الأجر عند الشكر وغيرها، قال تعالىٰ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2﴾ (العنكبوت: 2).
وقال تعالىٰ: ﴿ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...﴾ (آل عمران: 179).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَىٰ وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صلوات الله عليه إِلَىٰ الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَه الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَه لِلنَّاسِ قِيَاماً...!؟
وَلَكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَه بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ المَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ المَكَارِه، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَىٰ فَضْلِه، وَأَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِه»(1).
ومن أهمّ علل البلاء أنَّه في كثير من الأحيان يكون منبِّهاً للإنسان المؤمن علىٰ أنَّه قد خالف ما لا يجوز مخالفته، فيبتليه الله تعالىٰ ليُذكِّره بذلك فيؤوب إلىٰ الباري تعالىٰ.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «ما من مؤمن إلَّا وهو يُذكَّر في كلِّ أربعين يوماً ببلاء يصيبه، إمَّا في ماله أو في ولده أو في نفسه، فيُؤجَر عليه، أو هم لا يدري من أين هو؟»(2).
ص: 43
ملاحظة:
صحيح أنَّ الروايات الشريفة أكَّدت علىٰ الأجر العظيم عند حصول البلاء أو المرض، ولكن هذا لا يعني تمنّي وقوع البلاء أو المرض، كلَّا، بل الأوامر جاءت علىٰ عكس هذا، فالمطلوب هو طلب العافية لا البلاء، وعلىٰ عرض الإنسان نفسه علىٰ الطبيب لو أُصيب ببلاء المرض، بل ورد أنَّ المرض لا أجر فيه بما هو مرض، وإنَّما الأجر علىٰ الصبر عليه وشكر الله تعالىٰ وعدم الشكوىٰ لغير المؤمن.
والغريب أنَّنا نلاحظ الكثير من الناس يتمنّىٰ أن يموت ليهرب من مواجهة البلاء أو الاختبار، وهذا يُمثِّل جانباً من (الجُبْن) الكامن في شخصية هذا الإنسان، ولذا يتمنّىٰ الهرب ولو بالموت!
قال الإمام عليٌّ (علیه السلام): «من كتم الأطبّاء مرضه فقد خان بدنه»(1).
وقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ نبيّاً من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوىٰ حتَّىٰ يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحىٰ الله إليه: لا أُشفيك حتَّىٰ تتداوىٰ، فإنَّ الشفاء منّي...»(2).
وروي أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) دخل علىٰ مريض، قال: «ما شأنك؟»، قال: صلَّيت بنا صلاة المغرب، فقرأت القارعة، فقلتُ: اللّهمّ إن كان لي عندك ذنب تريد (أن) تُعذِّبني به في الآخرة فعجِّل ذلك في الدنيا، فصرتُ كما ترىٰ. فقال (صلی الله علیه و آله): «بئسما قلت، ألَا قلت: ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ 201﴾ [البقرة: 201]؟»، فدعا له حتَّىٰ أفاق(3).
ص: 44
وعن الإمام الرضا (علیه السلام): «شكىٰ يوسف في السجن إلىٰ الله، فقال: يا ربِّ، بماذا استحققت السجن؟ فأوحىٰ الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: 33]، هلَّا قلت: العافية أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه؟»(1).
صحيح أنَّنا لا نستحقُّ علىٰ الله تعالىٰ شيئاً من تلك الإمكانات، فله تعالىٰ أن يُعطي وله أن يمنع، فلا حقَّ لأحد عليه حتَّىٰ يطالبه به، ولكن شاء الله تعالىٰ أن يكون أكرم من كلِّ كريم، وأن يجود بمنِّه علىٰ عباده. ومن هنا جاء في تربويات الإسلام التعويض الهائل والضخم علىٰ الإضلال بهذا المعنىٰ، معنىٰ عدم إعطاء بعض الإمكانات التكوينية، والذي يمكن استنتاجه في هذا المجال هو التالي:
1 - سقوط بعض التكاليف عمَّن فقد بعض تلك الإمكانات، قال تعالىٰ: ﴿لَيْسَ عَلَىٰ الضُّعَفاءِ وَلا عَلَىٰ الْمَرْضىٰ وَلا عَلَىٰ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَىٰ الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 91﴾ (التوبة: 91).
وقال تعالىٰ: ﴿لَيْسَ عَلَىٰ الْأَعْمىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَىٰ الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَىٰ الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً 17﴾ (الفتح: 17).
2 - التعويض بالأجر العظيم، ذلك الأجر الذي يتمنّىٰ معه المبتلىٰ في الدنيا أن لو كان قد قُرِّض بالمقاريض ونُشِّر بالمناشير ابتلاءً!
ص: 45
عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ إذا أحبَّ عبداً غتَّه بالبلاء غتّاً(1)، وثجَّه بالبلاء ثجاً(2)، فإذا دعاه قال: لبّيك عبدي، لئن عجَّلت لك ما سألت إنّي علىٰ ذلك لقادر، ولئن ادَّخرت لك فما ادَّخرت لك فهو خير لك»(3).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الرجل ليكون له الجنَّة عند الله لا يبلغها بعمله حتَّىٰ يُبتلىٰ ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك»(4).
وعنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إنَّ العبد لتكون له المنزلة من الجنَّة فلا يبلغها بشيء من البلاء حتَّىٰ يُدركه الموت ولم يبلغ تلك الدرجة، فيُشدَّد عليه الموت فيبلغها»(5).
ومن هذا القبيل ما ورد في حقِّ الإمام الحسين (علیه السلام) من أنَّ له درجات في الجنَّة لم ينلها إلَّا بالشهادة(6).
* * *
ص: 46
ص: 47
ص: 48
وهي بمعنى تزويد الإنسان بالعقل، أو قل: بآلة الإدراك والتفكُّر، التي بها تميَّز وامتاز علىٰ جميع الموجودات علىٰ هذه الأرض، وبها استطاع أن يبني الحضارة وأن يتجاوز العقبات والأخطار المحيطة به، والتي أوجدها الله تعالىٰ ضمن نظام الأسباب والمسبَّبات في هذا العالم.
وهذه الهداية خاصَّة، إذ هو تعالىٰ كرَّم بالعقل بعض مخلوقاته (العالية والسافلة)، ومعلوم أنَّ الواجد للعقل يملك كمالاً يهتدي به إلىٰ أُمور لا يهتدي إليها من لا عقل له.
قال تعالىٰ: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44﴾ (الفرقان: 44).
وقال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 179﴾ (الأعراف: 179).
إنَّ وجود العقل عند الإنسان - وكلامنا في الإنسان، وإلَّا فالعقل عند الملائكة أيضاً - أعطاه تميُّزاً وامتيازاً علىٰ غيره من موجودات هذه الأرض، ففي الوقت الذي يتميَّز الإنسان عن بقيَّة موجودات الأرض بالعقل، كان العقل أيضاً امتيازاً له، جعل له السلطنة والهيمنة علىٰ كلِّ الموجودات الأُخرىٰ، لذلك سخَّر الله تعالىٰ له كلَّ ما فيها، يقول عزَّ من
ص: 49
قائل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 13﴾ (الجاثية: 13).
ولا يخفىٰ علىٰ عاقل أهمّية العقل في حياة الإنسان، ولولاه لأضحىٰ الإنسان حجراً أصمّاً أو بهيمةً بكماء! وأدواره تكشف عن أهمّيته.
لا يخفىٰ أنَّ هناك العديد من الأُمور التي تُؤثِّر في سلوك الإنسان، وتجعل منه صاحب خُلُق معيَّن، أو تصرُّف معيَّن. وبحث مؤثِّرات السلوك بحث طويل الذيل، وخلاصة تلك المؤثِّرات هي التالي:
الوالدان أهمّ مصادر السلوك للأبناء، فالإنسان أوَّل ما يفتح عينيه في الدنيا لا تجد ذاته غير والديه، وبتطوّر مداركه يخزن في عقله الباطن أغلب - إن لم يكن كلّ - تصرّفات والديه، فتنعكس تلك التصرّفات علىٰ سلوك الطفل لترسم شخصيته في المستقبل. ومن هنا ورد الأمر بعدم الكذب بالوعد للطفل، لأنَّه يرىٰ والديه يرزقانه، فلو رأىٰ الذين يرزقونه يكذبون، فهذا سيُبرِّر له سلوك الكذب في المستقبل.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»(1).
وعن عبد الله بن عامر، قال: جاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيتنا وأنا صبي
ص: 50
صغير، فذهبت ألعب، فقالت لي أُمّي: يا عبد الله، تعالَ أعطيك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أردتِ أن تعطيه؟»، قالت: أردت أن أُعطيه تمراً، قال: «أمَا إنَّك لو لم تفعلي لكُتِبَت عليكِ كذبة»(1).
بل نجد أكثر من هذا، فإنَّنا نرىٰ بالوجدان أنَّه حتَّىٰ اعتقادات الوالدين تُؤثِّر في اعتقاد الأولاد، وقد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»(2).
والخلاصة أنَّ أوَّل وأهمّ السلوكيات هي ما نكتسبه من الوالدين، وقد نُقِلَ عن الملكة إليزابيث الثانية قولها: (لقد تعلَّمت كما يتعلَّم القرد، من مشاهدة الأب والأُمِّ وتقليدهم تماماً!)(3).
ومِنْ أبلغ مَنْ بيَّن هذا المعنىٰ هو أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن المجتبىٰ (علیه السلام) حيث قال له: «إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه»(4).
ولذلك تُؤكِّد الدراسات في علم النفس علىٰ ضرورة أن يهتمَّ الآباء بالفترة الأُولىٰ من عمر الإنسان، فترة أوَّل سبع سنوات، حيث إنَّها الفترة التي سوف يخزن فيها الطفل السلوكيات التي ستحكم تصرُّفاته في المستقبل، يقول الدكتور تاد جيمس وويات وود سمول: (عندما نبلغ السابعة من عمرنا تكون أكثر من (90%) من قيمنا قد تخزَّنت في عقولنا،
ص: 51
وعندما نبلغ سنَّ الواحد والعشرين تكون جميع قيمنا قد اكتملت واستقرَّت في عقولنا»(1).
فإذن أوَّل من يُملي السلوكيات علىٰ العقل هم الآباء، فعلىٰ الآباء أن ينتبَّهوا لخطورة مهمَّتهم في تحديد سلوك الأبناء.
وهنا يكون للعقل الدور الأقوىٰ والأصعب في تعديل السلوك الموروث من الأبوين، وقد أثبت العقل قدرته علىٰ ذلك في كثير من الأحيان، فمحمّد بن أبي بكر رغم أنَّه ابن خليفة، وكان له جاه ومنصب من ذلك، ولكنَّه لم يسر مسيرة أولاد الخلفاء في معارضة أمير المؤمنين (علیه السلام) كما فعل عبد الله بن عمر الذي امتنع عن مبايعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وقبل بأن يبايع عبد الملك بن مروان عندما صفق علىٰ قدم الحجّاج، لأنَّ يده كانت مشغولة بالطعام(2)! ولكن محمّد بن أبي بكر كان كما قال عنه
ص: 52
أمير المؤمنين (علیه السلام): «محمّد ابني من صلب أبي بكر»(1)، وقد ورد أنَّه بايع أمير المؤمنين (علیه السلام) علىٰ البراءة من أبيه(2)!
بعد أن يكبر الطفل يبدأ بالاستقلال شيئاً فشيئاً عن أبويه وعن المحيط العائلي، وسيكون أوَّل إنجاز تاريخي له هو أن يبني علاقة صداقة مع أحد أترابه ربَّما تدوم إلىٰ آخر العمر. ولهذه العلاقة تأثير سحري علىٰ الأطفال، وكلُّنا مرَّ بهذه الفترة، وكلُّنا نتذكَّر أنَّنا كنّا نأتمن أصدقاءنا علىٰ الكثير من الأسرار التي لم نُفكِّر حتَّىٰ في الأحلام بأن نُطلِع عليها آباءنا أو أُمَّهاتنا. فإذا علمنا أنَّ فترة بناء الصداقات من (8 - 15) سنة من العمر، هي فترة يُسمّيها علماء النفس بفترة الاقتداء بالآخرين، سنعلم مدىٰ تأثير الأصدقاء علىٰ السلوك.
إنَّ حياة الإنسان بادئ ذي بدء كلُّها تقليد، فأوَّلاً يبدأ بتقليد الأبوين، ثمّ ينتقل إلىٰ تقليد الأصدقاء، وسيكون ضغط النظير والصديق علىٰ السلوك قويّاً، وأبرز ما نجده في هذا التقليد هو مسألة (التدخين) مثلاً، فقد أُجريت العديد من الدراسات والاستبيانات حول أسباب الوقوع في التدخين، فكانت النتيجة أنَّ (45%) من حالات التدخين هي بسبب الرفقاء، و(5%) فقط من تأثير الأب!
من هنا ربَّما نفهم تأكيد الروايات الشريفة علىٰ ضرورة متابعة الولد في هذه الفترة، واعتباره (كالعبد) علىٰ حدِّ تعبير بعض
ص: 53
الروايات(1)، وعلىٰ نفس المنوال جاءت الروايات التي تُحذِّر من أصدقاء السوء، لأنَّ أخلاقهم ستُعدي المرافق لهم، شاء أو أبىٰ، ولو بعد حين(2).
وهنا أيضاً يكون للعقل اليد الطولىٰ في تعديل سلوك الإنسان مهما كان تأثير الأصدقاء قويّاً، فإنَّه وبلا شكٍّ لن يصل تأثيرهم إلىٰ حدِّ الإلجاء والجبر، بل تبقىٰ الكلمة الأخيرة بيد الإنسان نفسه، فإذا ما حكَّم عقله أمكنه أن يخرج عن بوتقة الأصدقاء، ولأجل أن يُقوّي عزيمته لتمتثل أوامر عقله عليه أن يتأمَّل في موقفه يوم القيامة إذا صار في موقف محرج بسبب تبعيَّته لأصدقائه، الأمر الذي صرَّح به القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً 29﴾ (الفرقان: 27 - 29).
وقال تعالىٰ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 66 الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ 67﴾ (الزخرف: 66 و67).
إنَّ من أهمّ ما يُؤثِّر علىٰ تحديد السلوك الاجتماعي هو الإعلام
ص: 54
بمظاهره المختلفة، وهذا الأمر كان يُستَعمل من القديم، قيل: إنَّ بعض التجّار قَدِمَ مدينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه حمل من الخُمُر(1) السود، فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه، وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها لك إلَّا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده، فوجده قد تزهَّد وانقطع في المسجد، فأتاه وقصَّ عليه القصَّة، فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت علىٰ هذه الحال؟ فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس لي بضاعة سوىٰ هذا الحمل، وتضرَّع إليه، فخرج من المسجد، وأعاد لباسه الأوَّل، وعمل هذين البيتين:
قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا أردتِ بناسكٍ متعبِّدِ
قد كان شمَّر للصلاة ثيابه *** حتَّىٰ قعدتِ له بباب المسجدِ
فشاع بين الناس أنَّ مسكيناً الدارمي قد رجع إلىٰ ما كان عليه، وأحبَّ واحدة ذات خمار أسود، فلم يبقَ بالمدينة ظريفة إلَّا وطلبت خماراً أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه، لكثرة رغباتهم فيه، فلما فرغ منه عاد مسكين إلىٰ تعبُّده وانقطاعه(2).
ونُقِلَ أنَّ قبيلة من قبائل العرب كانت تُسمّىٰ (أنف الناقة) وكانت مستهجنة بين العرب لهذا الاسم، وذات يوم استضاف أحدهم الحطيئة، فأكرمه ثمّ طلب منه حلّاً لهذه المعضلة، فقال الحطيئة فيهم بيتاً واحداً من الشعر قلب فيها سمعة بني أنف الناقة رأساً علىٰ عقب، قال:
ص: 55
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم *** فمن يسوي بأنف الناقة الذنبا(1)
فكان كلُّ واحد من أفراد هذه القبيلة يفرح أنَّه منها ويفتخر بذكر قبيلته عندما يُسئل من أيِّ قبيلة هو، بل قيل: إنَّه كان لأحدهم سبع بنات لم يتقدَّم إليهنَّ أحد، وبعد كلام الحطيئة تسابق العرب علىٰ خطبتهنَّ، فخُطِبْنَ جميعاً في يوم واحد(2).
وليكن معلوماً أنَّ وسائل الإعلام في الوقت الذي تحاول إغراء الشعوب عموماً، هي تستغلُّها لجني أموال خيالية، فقد سمعت من إحدىٰ القنوات أنَّ شركة مبتدئة نسبياً في العمل السينمائي قد أنفقت علىٰ فلم يحكي قصَّة مجموعة من الشباب الذين يرتدون زيِّ الإسلام ويُفجِّرون في مدن كبرىٰ مثل لندن، أنفقت مبلغ (22) مليون دولار، وقد عاد عليها هذا الفلم المتواضع في أوَّل ثلاثة أشهر من عرضه بمبلغ (25) مليون دولار. أمَّا الشركات الكبرىٰ فهي تُنفِق ما يصل إلىٰ مائة مليون دولار علىٰ أفلامها، ففي موسوعة ويكبيديا وهي تتحدَّث عن فيلم (تيتانك): كان الفيلم يُعتَبر أغلا فيلم تمَّت صناعته في ذلك الوقت
ص: 56
بميزانيَّة قُدِّرت بحوالَي (200) مليون دولار. بعدَ صدورِه في (12/ ديسمبر/ 1997م)، حقَّق الفيلم نجاحاً نقديّاً وتجاريّاً مُنقَطع النظير. وقد وصلت إيرادات الفيلم حول العالم لأكثر من (1.84) مليار دولار، وظلَّ يُعتَبر أعلىٰ فيلم إيرادات حتَّىٰ عام (2010م)، حيث تفوَّق عليه فيلم (أفاتار) لجيمس كاميرون أيضاً. وصدرت نُسخة ثلاثية أبعاد للفيلم في (4/ أبريل/ 2012م)، وذلك لإحياء الذكرىٰ المئويَّة لغرق السفينة، وحاز علىٰ إيرادات إضافيَّة وصلت ل- (343.6) مليون دولار، وبذلك يكون مجموع ما حقَّقه الفيلم (2.18) مليار دولار.
ويعلم الله تعالىٰ أنَّ هذه الأموال لو أُنفقت علىٰ فقراء العالم فهل سيبقىٰ هناك من فقير!؟
من هنا ورد عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من أصغىٰ إلىٰ ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله (عزوجلّ) فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(1).
وهذا يكشف عن أنَّ من أهمّ ما يُؤثِّر علىٰ سلوك الإنسان هي الوسائل الإعلامية، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة التي تحدَّثت عن وسائل الشيطان للإغراء ب-- ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ (الإسراء: 64).
وقد أكَّد معهد الأبحاث النفسي والفسيولوجي في نيوزيلاند أنَّ أكثر من (60%) من حالات الاكتئاب يرجع السبب فيها إلىٰ وسائل الإعلام التي تُركِّز علىٰ السلبيات والصعوبات والحروب والجنس وضياع القيم. ونرىٰ الآن موجة الفضائيات والتركيز علىٰ الأخبار
ص: 57
السلبية والأغاني الخليعة - والتي لا تمتُّ إلىٰ قيمنا بأيِّ صلة - منتشرة وتزداد انتشاراً في عالمنا، وتُؤثِّر علىٰ أخلاقيات شبابنا بعمق. وهذا المؤثِّر العميق يضيفه الناس علىٰ برمجتهم، فتصبح أقوىٰ وأعمق عن ذي قبل(1).
مع العلم أنَّ معدِّل مشاهدة الشباب للتلفاز أُسبوعياً قد يصل إلىٰ خمسين ساعة(2)، وهذا يُؤثِّر علىٰ السلوك ولو من طرفٍ خفيٍّ!
وهنا أيضاً يأتي العقل ليقف موقفاً صلباً اتِّجاه هذه المغريات الإعلامية، فيمكنه أيضاً أن يساعد الإنسان في الخروج عن مصيدته، إذا ما فكَّر بأنَّ وقته أغلىٰ بكثير من مشاهدة فيلم كان قد رآه عدَّة مرّات، وأنَّ عمره أكرم من أن يُنفِقه في مشاهدة برامج خيالية لا مردود عملي فيها ولا تأثير إيجابياً في الحياة، وأنَّ عقله يرفض أن يستغلَّه الإعلام المنحرف في تلقينه بعض الأُمور التي هي غاية في الخيالية والسخافة، فمهما كان الإعلام برّاقاً وجذّاباً لكن العقل يمكنه أن يتجاوز تأثيراته إذا ما تحكَّم بصورة جيِّدة بدفَّة سلوك الإنسان.
من منّا لم يُكلِّم نفسه ولم تُكلِّمه نفسه بمناجاة لا يسمعها إلَّا هو!؟ ومن منّا لم ينصت بقلبه إلىٰ ضميره وهو يخاطبه بلهجة التأنيب أو التقريع لو أخطأ في حقِّ صاحب نعمة أو حقٍّ عليه!؟ وبلهجة الرضا والسرور لو أحسن إلىٰ محتاج أو أدخل الفرح علىٰ قلب يتيم!؟
إنَّ مناجاة النفس أمر تكويني، ولكن لا بدَّ أن تصبَّ في صالح
ص: 58
الإنسان، بأن تكون المناجاة لتصحيح المسار، وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالنفس اللوّامة(1).
ولكن في بعض الأحيان توحي النفس للعقل فكرة خاطئة تنمو هذه الفكرة بعد أن تُردِّدها النفس وتُكرِّرها للعقل حتَّىٰ يختزنها العقل لتصبح تلك الفكرة عاطفة يشعر بها العقل، وحينئذٍ يُصدِر العقل أوامره للحواسِّ والأعضاء بالعمل وفق تلك الفكرة، لتُترجَم إلىٰ سلوك عملي للفرد، يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام): «العقول أئمَّة الأفكار، والأفكار أئمَّة القلوب، والقلوب أئمَّة الحواسِّ، والحواسُّ أئمَّة الأعضاء»(2).
وباختصار إنَّ كلَّ فكرة توحيها النفس للعقل فإنَّها ستختزن فيه لتتحوَّل فيما بعد إلىٰ سلوك عملي، ففكرة سعادة تُسبِّب الإحساس بالسعادة، وفكرة ألم تُسبِّب الألم، وقد نُقِلَ أنَّه قال سقراط: (بالفكرة يستطيع الإنسان أن يجعل عالمه من الورود أو من الشوك)(3).
وقال الدكتور هلمستتر: (إنَّ ما تضعه في ذهنك - سواء كان إيجابياً أو سلبياً - ستجنيه في النهاية)(4).
فالإيحاء الذاتي من النفس إلىٰ العقل هو أيضاً من الأُمور التي تُؤثِّر علىٰ سلوك الإنسان.
وهنا يمكن للعقل أن يستفيد من الإيحاء النفسي له، بل ويستطيع أن يتحكَّم فيه بأن يجعله إيحاءً إيجابياً فقط، ذلك عندما يفتح
ص: 59
العقل عينيه ويستعين بالشريعة السماوية. ولذلك نجد أنَّ ديننا الحنيف ليس فقط يُعلِّمنا طريقة الإيحاء الإيجابي للعقل، وإنَّما يجعلنا نمارس هذا المعنىٰ في حياتنا اليومية من خلال الطقوس الدينية، ففي الصلاة أنت تُردِّد: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 ...﴾ (الفاتحة: 6)، أي اجعلنا من الذين هديتهم إلىٰ ذلك الصراط، ثمّ يجعلك تناجي نفسك بأنَّك من عباد الله الصالحين حينما تريد إنهاء صلاتك بقولك: (السلام علينا وعلىٰ عباد الله الصالحين).
وأيضاً ينهانا عن التفكير السلبي المنحرف والإيحاء الخاطئ، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام»(1).
وورد أيضاً: «صوم القلب خير من صيام اللسان، وصوم اللسان خير من صيام البطن»(2).
وروي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ (علیه السلام)، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم: ... إنَّ موسىٰ نبيَّ الله (علیه السلام) أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(3).
هذا، ولقد أثبت الإيحاء الذاتي تأثيره عندما أُجريت في مستشفىٰ (سيماشكو) في مدينة (غوركي) تجارب علىٰ مجموعة من الذين أُصيبوا
ص: 60
بالذبحة الصدرية لنوع الألم منهم عن طريق الإيحاء الذاتي، وخلال ثلاثة أشهر تمرَّنوا علىٰ مقاومة الآلام عن هذا الطريق، وكانت النتيجة أنَّ أحد عشر شخصاً من مجموع عشرين شخصاً تخلَّصوا من آلامهم تماماً، بينما قلَّ الألم لدىٰ ستَّة من الباقين بشكل ملحوظ، وبقي منهم ثلاثة أشخاص فقط لم يُؤثِّر فيهم الإيحاء الذاتي، أي إنَّ أكثر من (86%) تأثَّروا بذلك(1).
ومن الظريف ما نُقِلَ من أنَّ غاندي كان في بداية حياته خجولاً جدّاً، ولأنَّه كان محامياً اضطرَّ أن يقف يوماً في المحكمة، وما إن بدأ الكلام حتَّىٰ أُصيب بانهيار عصبي أدّىٰ به إلىٰ الإغماء! ولكنَّه بعد هذه الحادثة بدأ يوحي لنفسه ب-- (أنا شجاع)، وأخذ يُردِّد هذه الكلمة مع نفسه حتَّىٰ اقتنع بها، وصار فيما بعد محرِّر الهند وقائدها وخطيبها المفوَّه(2)!
ومن لطيف ما يُنقَل من تأثير الإيحاء الذاتي أنَّه كان أحد الملوك القدماء سميناً كثير الشحم واللحم، يُعاني الأمرَّين من زيادة وزنه، فجمع الحكماء لكي يجدوا له حلّاً لمشكلته ويُخفِّفوا عنه قليلاً من شحمه ولحمه، لكن لم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً للملك، فجاء رجل عاقل لبيب متطبِّب، فقال له الملك: عالجني ولك الغنىٰ. فقال: أصلح الله الملك، أنا طبيب منجِّم، دعني حتَّىٰ أنظر الليلة في طالعك لأرىٰ أيَّ دواءٍ يوافقه. فلمَّا أصبح قال: أيُّها الملك الأمان، فلما أمنه قال: رأيت طالعك يدلُّ علىٰ أنَّه لم يبقَ من عمرك غير شهر واحد، فإن اخترت عالجتك، وإن أردت
ص: 61
التأكُّد من صدق كلامي فاحبسني عندك، فإن كان لقولي حقيقة فخلِّ عنّي، وإلَّا فاقتصَّ منّي، فحبسه.
ثمّ احتجب الملك عن الناس وخلا وحده مغتمّاً، فكلَّما انسلخ يوم ازداد همّاً وغمّاً حتَّىٰ هزل وخفَّ لحمه، ومضىٰ لذلك ثمان وعشرون يوماً، فأخرجه، فقال: ما ترىٰ؟
فقال المتطبِّب: أعزَّ الله الملك، أنا أهون علىٰ الله من أن أعلم الغيب، والله إنّي لا أعلم عمري فكيف أعلم عمرك!؟ ولكن لم يكن عندي دواء إلَّا الغمّ، فلم أقدر أن أجلب إليك الغمّ إلَّا بهذه الحيلة، فإنَّ الغمَّ يُذيب الشحم، فأجازه الملك علىٰ ذلك، وأحسن إليه غاية الإحسان، وذاق الملك حلاوة الفرح بعد مرارة الغمِّ.
هكذا هو العقل، له من التأثير ما يفوق تصوّراتنا وحساباتنا.
شاء الله تعالىٰ أن تكون الحياة الدنيا حياة خطر وحذر، ولم يترك الإنسان سدىٰ، بل وهبه ما يُميِّز به المنافع من المضارِّ، وبالتالي سيكون الإنسان في مأمن من الأخطار إذا ما استعمل ما وهبه الله تعالىٰ له، وذلك هو العقل.
ولكن هذا الكلام واضح ومفهوم في الأخطار المادّية، ولكن ماذا عن الأخطار الغيبية والمصيرية؟ تلك التي تتعلَّق بالاعتقادات القلبية التي تُؤثِّر علىٰ السلوك في الحياة! هل من منبِّه من الضرر والخطر!؟
نعم، والمنبِّه نفسه: العقل!
ويتمثَّل دور العقل هنا في عدَّة موارد، أهمّها:
فمن المعلوم أنَّ الاعتقادات ليست علىٰ شاكلة واحدة، وإن كانت
ص: 62
تشترك في أنَّ السماوية منها كثيراً ما تخالف هوىٰ النفس وشهواتها، فلو أُخبِر أحد ما بدخول الجنَّة جزماً، وتُرِكَ له الخيار في التزام الدين أو عدمه، فلا أظنُّ أنَّه سيتردَّد في اختيار عدمه، إلَّا المعصومين من البشر، وقليل ما هم.
ومن هنا، احتاج كثير من الناس إلىٰ إعمال العقل بدقَّة والتجرُّد عن شهوات النفس، لكي يقتنع بضرورة الالتزام بالدين عملياً.
ومن هذا القبيل ما كان يُنبِّه عليه أهل البيت (علیهم السلام) المخالفين والمنحرفين علىٰ ضرورة الدين باستخدام معادلة عقلية بسيطة في ألفاظها عميقة في فكرتها.
في رواية أنَّ الإمام الصادق (علیه السلام) قال لعبد الكريم بن أبي العوجاء: «إن يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت»، فأقبل عبد الكريم علىٰ من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة، فردّوني، فردّوه، فمات لا رحمه الله(1).
وعن محمّد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (علیه السلام)، قال: دخل رجل من الزنادقة علىٰ أبي الحسن (علیه السلام) وعنده جماعة، فقال أبو الحسن (علیه السلام): «أيُّها الرجل، أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون -، ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء، لا يضرُّنا ما صلَّينا وصمنا وزكَّينا وأقررنا؟»، فسكت، ثمّ قال أبو الحسن (علیه السلام): «وإن كان القول قولنا - وهو قولنا -، ألستم قد هلكتم ونجونا؟...»، وبعد نقاش دار بينهما، لم يخرج ذلك الزنديق إلَّا وهو مسلم(2)!
ص: 63
إنَّ قيام العقل بهذه المهمَّة الخطرة هو ما جعله حجَّة باطنة علىٰ الإنسان، ففي وصيَّة الإمام الكاظم (علیه السلام) لهشام بن الحكم: «يا هشام، إنَّ لله علىٰ الناس حجَّتين: حجَّة ظاهرة وحجَّة باطنة، فأمَّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام)، وأمَّا الباطنة فالعقول»(1).
إنَّ من أقوىٰ الغرائز لدىٰ الإنسان هي غريزة حبِّ الطعام، إذ لا يمكنه العيش إلَّا إذا أطعم نفسه، حتَّىٰ ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «لولا الخبز ما صلَّينا ولا صمنا ولا أدَّينا فرائض ربِّنا»(2).
ولكن هذه الغريزة لا بدَّ من تحديدها بالنافع للإنسان، وقد كان للعقل الدور المهمّ في هذا التحديد، وجاء الشرع ليُنبِّه الإنسان إلىٰ مضارِّ بعض المأكولات ممَّا لم يطَّلع عليه العقل آنذاك، ليكتشف العقل والعلم بعد أكثر من ألف سنة المضارّ الكامنة في ما نهىٰ عنه القرآن الكريم من أكلات، كالخنازير والكلاب والدم والخمر وبول البشر وغير مأكول اللحم والكواسر من الطيور والوحوش... الخ.
قال تعالىٰ: ﴿إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 173﴾ (البقرة: 173).
وقال تعالىٰ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَىٰ النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ...﴾ (المائدة: 3).
ص: 64
ولكن الغريب أنَّ البشر يضعون غشاوة علىٰ العقل ليخالفوه في وضح النهار، ولا أقصد تلك المحرَّمات المزبورة، فنحن كمسلمين قد فرغنا عن حرمتها والابتعاد عنها، ولكن أقصد مثل التدخين! فالعلم يصرخ في كلِّ مأذنة بخطره الشديد، ولكن البشر عملياً يخالفون هذا التحذير!
حسب إحصائية عربية أنَّ متوسِّط تدخين الفرد العربي هو (1050) سيكارة سنوياً، والمؤتمرات العالمية لشركات التدخين تبحث في رفع هذا المتوسِّط إلىٰ (4000) سيكارة سنوياً! وأمريكا تُقدِّم بليوني دولار لمساعدة زراعة التبغ في الدول النامية، ودول الاتِّحاد الأُوربي قدَّمت سنة (1991م) مساعدات لزراعة التبغ بقدر(23) ضعفاً بالنسبة لزراعة القمح! فلماذا هذا التأكيد علىٰ الإكثار من هذه المادَّة الضارَّة!؟ وأين منظَّمة الصحَّة العالمية عن هذه الأفعال!؟
يُولَد الإنسان وليس لديه من عقله إلَّا ما يشبه النبتة الجديدة التي تميل حيثما مالت الريح، وهي عرضة للكسر - وبالتالي الموت - في أيِّ لحظة، ولكنَّه ينمو مع بدن الإنسان ويقوىٰ جذره ويتأصَّل في النفس حتَّىٰ يكون هو قائد دفَّة الإنسان في المستقبل. وإنَّما يكون كذلك إذا ما تعاهده المرء بالتربية والتدريب والتقوية حتَّىٰ يتكامل العقل كما تتكامل النبتة بالغذاء، وهذا يعني لابدّية تغذية العقل بما يصب في تكامله.
وعند التأمُّل في الواقع نجد أنَّ هناك العديد من الموارد والمنابع التي تقوّي العقل وتُنمّيه، أو قل: تزيد من ذكاء الإنسان وحِدَّة عقله. وأيضاً هناك عدَّة أُمور تعمل علىٰ نقص العقل وربَّما إماتته، فهناك إذن أُمور تؤدّي إلىٰ تكامل العقل، وأُخرىٰ تميته، فما هي تلك الأُمور؟
ص: 65
يُولَد الإنسان وهو خالٍ من أيِّ معلومة عدا العلوم الفطرية التي أودعها الله تعالىٰ فيه، كهدايته لالتقاط ثدي أُمِّه وبكائه عند الجوع. ولكنَّه زُوِّد بأدوات المعرفة، وواحد من مشاريع الإنسان في هذه الحياة هو مشروع زيادة علمه عبر الاستفادة من أدوات العلم المودَعة في شخصيته، وبزيادة علمه يتكامل عقله وينمو حتَّىٰ يصنع المعجزات!
وبذلك اختلف الإنسان عن الحيوان، فلأنَّ الحيوان لا قدرة له علىٰ التعلُّم - وإن توفَّرت بعض القدرة فهي من القلَّة بمكان -، فقد صارت حياته دائرية، تبدأ من حيث بدأ الآباء وتنتهي حيثما انتهت، ولكن الإنسان حياته تكاملية، تبدأ من حيث انتهىٰ الآباء في بناء هرمي متطوّر ومعقَّد جدّاً. وهذا ما ساعده علىٰ أن يُنمّي قدراته في السيطرة علىٰ الكون ومخلوقاته، فالعلم والتعلُّم هو أهمّ ما يُنمّي العقل ويزيد من قدراته.
روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «أعون الأشياء علىٰ تزكية العقل التعليم»(1).
وقد ورد عن أبي جعفر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلىٰ طَعامِهِ 24﴾ (عبس: 24) أنَّ معناه: «علمه الذي يأخذه عمَّن يأخذه»(2).
إنَّ التعلُّم بحاجة إلىٰ إرادة قويَّة لا تُثنيها الصعاب، ولكي يكون
ص: 66
عندنا تلك الإرادة القويَّة لا بدَّ أن ننظر في أحوال الذين أصرّوا علىٰ طلب العلم رغم الصعاب، وسير علمائنا تنفع كثيراً في هذا المجال.
ولعلَّ شخصاً يقول: إنَّ العلماء كان عندهم من الدافع الذاتي والإلهي ما يجعلهم يتلذَّذون بتعب طلب العلم، ومثل هذا الفرد ينفعه أن يطالع في سيرة أُولئك الذين طلبوا علوماً دنيوية لا علاقة لها بالدين، ولكنَّهم عندما أصرّوا وصلوا إلىٰ ما وصلوا إليه.
خذ مثالاً علىٰ ذلك: روبرت موريسون، كان أبوه بقّالاً، وبالكاد كان يستطيع أن يتدبَّر أمر عائلته، ولذلك لم يسمح لولده بمواصلة الدراسة بعد الانتهاء من المدرسة الابتدائية، فأخرجه منها وأدخله سوق العمل، لعلَّه يُوفِّر بعض المال لعائلته. ولكن الولد كان شديد التحمُّس للتعلُّم، ودفعه ذلك للاستعاضة بالقراءة والمطالعة عن المعاهد والجامعات، وكان رائده التحمُّس. يقول روبرت:
(لقد استولت الرغبة في التعلُّم علىٰ مشاعري، فتحمَّست للمطالعة، وكانت من أعظم المتع التي عرفتها في حياتي، فكافحت لأُدبِّر الوقت والمكان الصالحين للقراءة، كنت أستيقظ في الصباح أبكر من موعدي المعتاد بساعة، فأرتدي ثيابي في غرفتي الخالية من الدفء التي تقع فوق المتجر، ثمّ ألفُّ نفسي ببطّانية، وأظلُّ أقرأ أكبر قدر مستطاع قبل أن أبدأ العمل، وكانت غرفتي شديدة البرودة لا تصلح للمطالعة ليلاً، فكنت أذهب إلىٰ مقهىٰ قريب وأختار فيه مائدة في ركن بعيد، وفي يدي كتاب، وأظلُّ أقرأ حتَّىٰ ساعة متأخِّرة من الليل، وهكذا أصبحت أقرأ وأقرأ، وازدحمت الأفكار في رأسي، وأُتيحت لي فرص عديدة لاختبارها، إذ أخذت أتحدَّث في الاجتماعات وفي قاعات النقابات، كما
ص: 67
اشتركت في المناقشة التي كانت تجري في أركان الطرقات، وأصبحت عندي نظريات عمَّا يمكن عمله في مائة مشروع مختلف في البلاد، ولذلك انتخبوني وزيراً للخارجية...)(1).
إنَّ حياة الإنسان أقصر بكثير من أن يحيط بكلِّ ما حوله، ولكن مع ذلك يمكن له أن يختصر من ذلك الطول إذا ما أخذ النتائج جاهزة عن غيره، ويتمُّ ذلك عبر الاستفادة من تجارب الآخرين، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن المجتبىٰ (علیه السلام): «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّىٰ عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَىٰ إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَه مِنْ ضَرَرِه...»(2).
وفي خطبة الإمام السجّاد (علیه السلام): «... وأشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكَّروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوَّفكم من شديد العقاب، فإنَّه من خاف شيئاً حَذَره، ومن حَذَر شيئاً تركه، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلىٰ زهرة الدنيا، الذين مكروا السيِّئات، فإنَّ الله يقول في محكم كتابه: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 45 أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ 46 أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلىٰ تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: 45 - 47]، فاحذروا ما حذَّركم الله بما فعل بالظلمة
ص: 68
في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب، والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم، فإنَّ السعيد من وُعِظَ بغيره، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرىٰ قبلكم حيث قال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً﴾، وإنَّما عنىٰ بالقرية أهلها حيث يقول: ﴿ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ 11﴾ [الأنبياء: 11]...»(1).
بزر جمهر، اسم لامع في تاريخ إيران، ولقد عُرِفَ الرجل بحكمته وقلَّة أخطائه ووفرة معارفه، حتَّىٰ سمّوه بزر جمهر الحكيم، سُئِلَ: ممَّن تعلَّمت الأدب والحكمة والأخلاق؟ فقال: تعلَّمته ممَّن لا أدب ولا حكمة ولا أخلاق! فقيل: وكيف ذاك؟ فقال: نظرت إلىٰ الأحمق فكلَّما تصرَّف بشكل خاطئ تجنَّبت الوقوع في أخطائه، ونظرت إلىٰ من لا أخلاق له فكلَّما قام بعمل اشمأزَّ منه الناس لم أفعل مثله، ونظرت إلىٰ من لا أدب له فلم أعمل عمله...(2).
ولذلك كان من تعاليم أمير المؤمنين (علیه السلام) لأتباعه أن أمرهم بالاعتبار بما جرىٰ علىٰ إبليس (لعنه الله) حيث يقول: «فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وَجَهْدَه الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَىٰ أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَىٰ اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ...»(3).
إنَّ التأمُّل هو الذي جعل نيوتن يكتشف قانون الجاذبية عندما سقطت التفّاحة بين يديه ولم تصعد إلىٰ السماء، وهو الذي أعطىٰ أرخميدس قانون الكثافة النوعية - علىٰ ما سنسمع بعد قليل -، وهو الذي جعل الحرّ الرياحي يترك الجاه والسلطة ليلتحق بركب الحسين (علیه السلام) .
وينبغي الانتباه إلىٰ مسألة مهمَّة، وهي: صحيح أنَّ التأمُّل يُنمّي العقل ويزيد من نضجه، ولكن التأمُّل بدوره محتاج إلىٰ راحة بدنية واطمئنان نفسي حتَّىٰ يُؤتي التأمُّل ثمرته.
نسمع من البعض عبارات لا تلتقي مع مقتضيات الدين والعقل والتجارب البشرية، فالبعض يظنُّ بأنَّ النجاح هو أن تتعب وتتعب وتتعب حتَّىٰ تسقط علىٰ الأرض، والحال أنَّ الدين والعقل والتجارب علىٰ عكس هذا، فالنبيُّ موسىٰ (علیه السلام) بعد أن عانىٰ تعباً شديداً من سفره من مصر إلىٰ مدين، ثمّ سقيه لأغنام ابنتي شعيب (علیه السلام)، بعد هذا كلِّه يُعطي نفسه فرصة للاستراحة من التعب ويستظلُّ بظلِّ شجرة ثمّ يتوجَّه بالدعاء إلىٰ الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿فَسَقىٰ لَهُما ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَىٰ الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24﴾ (القصص: 24).
وأرخميدس، الذي عاش في سيراكيوز حوالي عام (250) قبل الميلاد قفز من حمّامه الذي كان يسترخي فيه ودار الشوارع وهو يصيح بأعلىٰ صوته: وجدتها وجدتها.
وإليك ما حدث:
أعطىٰ الملك (هيرد) أحد الصاغة قدراً كبيراً من الذهب ليصنع منه تاجاً له، وفعل الصائغ ذلك، ولكن الملك المتشكِّك قال في نفسه: ماذا لو خلط الصائغ مقداراً من الفضَّة مع الذهب وأخذ ما يقابله من
ص: 70
ذهب؟ وأحال المسألة إلىٰ أرخميدس ليعرف حقيقة الأمر، ولكن أرخميدس لم يكن له علم التحليل الكيميائي، فأصبح وحيداً في العالم، وأرَّقته الفكرة، وتعب ونصب، فما كان منه بعد طول تعب إلَّا أن استلقىٰ في حمّامه، فأزاح بدنه بعض الماء، وهنا لمعت فكرة الكثافة النوعية في ذهنه. وكانت كالتالي: أسقط التاج في إناء ممتلئ إلىٰ حافته بالماء، وأجمع الماء المزاح، وبعد ذلك أسقط قطعة من الذهب الخالص يعادل وزنها وزن التاج في إناء كالأوَّل، وأجمع الماء المزاح، فإذا كان حجم الماء واحداً في الحالتين فالتاج من الذهب الخالص، ذلك لأنَّ مقدار الماء المزاح من أوقية من الفضَّة يختلف عن الماء الذي تزيحه أوقية من الذهب(1).
شاء الباري تعالىٰ أن يجعل للإنسان عاطفة إلىٰ جانب عقله، لها حقوقها وعليها واجباتها كما كان العقل كذلك، والتفريط بها أو الإفراط بها له أثر سيِّئ كما هو الأمر في العقل، والمطلوب هو إحداث توازن بين متطلِّبات العاطفة والمشاعر وبين متطلِّبات العقل.
إنَّ هذا التوازن من شأنه أن يدفع بالعقل نحو النموِّ والتطوّر، وهذا التوازن يُولِّد ما يُسمّىٰ علمياً بالذكاء العاطفي، وقد لاحظ العلماء بأنَّ نجاح الإنسان لا يقتصر علىٰ الذكاء العقلي، فكم من ذكي قد فشل في حياته الأُسرية والاجتماعية، وإنَّما يحتاج إلىٰ الذكاء العاطفي الذي يساهم في البناء القلبي والعاطفي...(2).
ص: 71
إنَّ العقل يعتمد علىٰ المحاسبة الدقيقة، وتعامله جدّي جدّاً بحيث لا يقبل الخطأ، فهو كالآلة القاسية الجامدة التي لا تقبل إلَّا ما بنيت عليه، ولأجل تحقيق هدفه لا يُعطي مجالاً لصفات الرحمة أو الرأفة أو التسامح، إنَّما عنده (لا يصحُّ إلَّا الصحّ)!
وهذا الأمر وإن كان مطلوباً في بعض جوانب الحياة كالاعتقادات والتزام الدين، ولكنَّه لا يسري علىٰ جميع مستويات الحياة، إذ في كثير من الأحيان نحتاج إلىٰ تحكيم الرحمة والرأفة والتسامح والحبِّ، وعدمها في موردها يؤدّي إلىٰ خلل ملحوظ في الحياة، ولذا كان واحداً من مشاريع الإنسان الناجح هو إحداث التوازن بين متطلِّبات العقل ومتطلِّبات العاطفة.
ومن هنا يذكر علماء التنمية البشرية أنَّه لا بدَّ للرجل أن لا يُعطي كلَّ كيانه لعمله، بل عليه أن يجعل جزءاً مهمّاً منه خاصّاً بعائلته، فيُحدِّد وقتاً خاصّاً للجلوس معهم والتكلُّم معهم، يجب أن يكون هناك وقت تلعب فيه مع أولادك الصغار حتَّىٰ تزرع في قلوبهم إحساساً بأنَّك إلىٰ جنبهم وأنَّهم أهمّ من العمل، يجب أن تُعطي بعض وقتك لزوجتك حتَّىٰ تُكلِّمك بمشاعرها، يجب أن تكون مستمعاً جيِّداً كما تُحِبُّ أن تكون متكلِّماً جيِّداً، يجب أن تلاحظ أنَّ أولادك وبناتك يكبرون، وكلُّ مرحلة عمرية يمرّون بها يحتاجون فيها إلىٰ تعامل خاصٍّ بها، فابنتك تحتاج إلىٰ العاطفة أكثر من التعامل العقلي، وليس معنىٰ هذا أنَّ الولد يحتاج إلىٰ التعامل العقلي فحسب، كلَّا، بل هو أيضاً يحتاج إلىٰ العاطفة، ولكن علىٰ مستوىٰ أقلّ قليلاً من البنت.
يقال: إنَّ رجلاً كان منهمكاً بعمله الذي يدر عليه أرباحاً كثيرة ومستمرَّة، فجاءه ولده يوماً وطلب منه أن يجلس معه ساعة واحدة، فردَّ
ص: 72
عليه: يجب أن أذهب إلىٰ العمل، لأنَّني في هذه الساعة أحصل علىٰ مبلغ خمسين ألفاً، ولكن سأُعطيك ألف دينار كمصروف يومي لك، فسكت الطفل وأخذ الألف، وبعد مدَّة من الزمن طلب من والده ألفاً آخر غير الألف المعهود، فتعجَّب الوالد الحنون، وقال: ألم أعطك مصروفك اليومي!؟ فردَّ عليه: سأُعلمك بالسبب بعد أن تعطيني، فأعطاه الألف، ففرح الولد ولم تكد الدنيا تحويه، وأمسك بيد والده وجرَّه معه إلىٰ غرفته، وهناك، رفع وسادته وأخرج من تحتها مبلغاً وعدَّده فإذا هو خمسون ألفاً، فأعطاها لوالده، وقال له: هذه هي الخمسون ألفاً التي تحصل عليها خلال ساعة، خذها واجلس معي هذه الساعة!
وعندما نلاحظ تربويات الدين، نجد أنَّ التوازن مطلب مهمّ في كثير من مستويات الحياة، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا»(1).
وهكذا الأمر في العلاقة مع الأولاد والأطفال عموماً وبالزوجة والأبوين والجيران والزملاء والأصدقاء ومن تلاقيهم في الشارع ومن يجلس إلىٰ جنب مقعدك في السيّارة.
النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) كان يُعلِّمنا هذا التوازن، فقد كان (صلی الله علیه و آله) يُؤتىٰ بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو يُسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربَّما بال الصبي عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول (صلی الله علیه و آله): «لا تزرموا(2) بالصبي»، فيدعه حتَّىٰ يقضي بوله، ثمّ يفرغ
ص: 73
له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنَّه يتأذّىٰ ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده(1).
فالنبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) هنا قدَّم التعامل العاطفي علىٰ العقلي.
ومن هنا نجد أنَّ من المحتمل أنَّ أحد أسباب ما فعله إخوة يوسف معه هو أنَّ أباهم كان يتعامل معهم تعاملاً عقلياً، بينما كان يتعامل مع يوسف بعاطفة أقوىٰ، وحيث وجد الأبناء خللاً في التوازن العقلي والعاطفي، ثاروا وفعلوا ما فعلوا.
الإمام الحسين (علیه السلام) في اللحظة التي حكَّم التعامل العقلي ليُقدِّم ولده الأكبر للحرب، ولكنَّه لم يغفل التعامل العاطفي المتوازن، فلا يدعه يتقدَّم حتَّىٰ تلاحقه عيناه بدموع حنان الأب الذي ودَّع ولده إلىٰ حيث الموت(2).
دَقّاتُ قَلبِ المرءِ قائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
ص: 74
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها *** فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني(1)
ما أن يولد الإنسان علىٰ هذه الأرض حتَّىٰ يبدأ عداد أيّامه بالعدِّ التنازلي، فكلَّما مرَّ يوم انسلخ من روزنامة عمره، تتساقط أيّامه بين يديه كما يتساقط ورق الشجرة في الخريف، حتَّىٰ يأتي اليوم الذي تتعرّىٰ فيه الشجرة من أيِّ ورقة، وهناك ينتهي العمر.
من هنا ورد عن الإمام السجّاد (علیه السلام): «أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يلد من أُمِّه»، قالت الحكماء: ما سبقه إلىٰ هذا أحد(2).
ويقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّما أنت عدد أيّام، فكلُّ يوم يمضي عليك يمضي ببعضك، فخفِّض في الطلب و أجمل في المكتسب»(3).
إنَّ التاجر الناجح هو من يصرف من أرباحه مع حفاظه علىٰ رأس ماله، ولكن الإنسان دائماً يصرف من رأس ماله - وهو عمره -، فهو من هذه الناحية في خسران دائم، وفعلاً ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ 2﴾ (العصر: 2)، ولا يمكن تعويض هذه الخسارة إلَّا إذا ملأ الإنسان إناء عمره بما ينفعه.
وهنا تكمن المصيبة، فكثير من الناس - خصوصاً في عالم الدول النامية - يعيش حالة ممَّا يُسمّىٰ بوقت الفراغ، وكأنَّه وقت زائد وغير محتسب من العمر، فتجد هكذا إنساناً يحاول أن يسدَّ وقت فراغه بشيء، فلا يجد إلَّا الجلوس أمام التلفاز ليشاهد عرضاً قد حفظه عن ظهر قلب، أو ليدور الشوارع وكأنَّه يقيسها بالأمتار، أو يجلس مع
ص: 75
رفقائه ليخوضوا حديثاً في التوافه والغيبة والنميمة، وهم في ذلك يلهون ويُطلِقون الضحكات العالية والقهقهات غير المسؤولة، أو يلعب كرة القدم لوقت غير محدود، أو يقف منتظراً في عيادة الطبيب أو في سيّارة النقل ولا حركة له سوىٰ إطلاق النظرات البلهاء هنا وهناك، أو يقضي الليل سهراناً يجلس أمام التلفاز أو الإنترنيت من دون إلتفات إلىٰ وقته المهدور.
وهذا الوقت المسمّىٰ بوقت الفراغ هو أكثر ما يقتل قدرات العقل ويوقفه عن التفكير والإبداع، لأنَّه يجعل صاحبه يحسُّ بالملل والضجر وعدم الراحة والشعور بالضياع وعدم الهدفية وعدم وضوح الرؤية، وهذه الأُمور كلُّها تهدم قدرات العقل وتحجمها.
وعندما التفت الإنسان إلىٰ هذه الحالة عمل بجد ليُؤسِّس علماً ضخماً يعتني بإدارة الوقت وكيفية استغلاله، وأقام الكثير من الدورات التدريبية، وألَّف مئات الكتب، وأسَّس عشرات المعاهد، كلُّ ذلك ليجد طريقة يستغلُّ فيها ذلك الوقت المهدور فيما ينفع البشرية عموماً والحياة الخاصَّة أيضاً.
والإنسان في ذلك كان محقّاً، ولكنَّه غفل عن أنَّه أضاع الكثير من الوقت والجهود والخبرات في تحصيل تلك الطرق، لأنَّ تلك الطرق كانت بين يديه، وكان من السهل جدّاً عليه تحصيلها، ليختصر بدوره وقتاً هائلاً كان قد ضاع في تحصيلها.
وقد تسأل: وأين تلك الطرق؟
فأقول لك: إنَّها موجودة في تربويات الدين! فعلم إدارة الوقت كان محطّاً لنظر كثير من الأحاديث الدينية، التي عالجت هذا الموضوع علاجاً شافياً، وسنذكر بعضها في الخطوة الأُولىٰ التالية.
ص: 76
وهنا أُريد التنبيه إلىٰ أنَّ من أهمّ ما يُوقِف قدرات العقل هو ما يُسمّىٰ بوقت الفراغ، وحتَّىٰ نتخلَّص من الملل والضجر في هذا الوقت، وحتَّىٰ نُعطي للعقل فرصته في التكامل والإبداع، وحتَّىٰ لا يضيع علينا عمرنا سدىٰ، لا بدَّ من اتِّباع خطوات عملية من شأنها أن تجعل أوقاتنا مريحة ومفيدة ومساعِدة علىٰ تنمية العقل، وإذا كان البعض يتصوَّر صعوبة بعضها، فعليه أن يتذكَّر: إنَّ التقدُّم البطيء خير من التوقُّف التامّ، هذه الخطوات هي:
الخطوة الأُولىٰ: مطالعة الكلمات التي تُحذِّر من ضياع الوقت، والتي تُعطي الحلول المناسبة لتنظيمه.
فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «يفتح للعبد يوم القيامة علىٰ كلِّ يوم من أيّام عمره أربع وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وُزِّع علىٰ أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربَّه. ثمّ يُفتَح له خزانة أُخرىٰ فيراها مظلمة منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسِّم علىٰ أهل الجنَّة لنغَّص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصىٰ فيها ربَّه. ثمّ يُفتَح له خزانة أُخرىٰ فيراها فارغة ليس فيها ما يسرُّه ولا يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف علىٰ فواتها - حيث كان متمكِّنا من أن يملأها حسنات - ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالىٰ: ﴿ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ [التغابن: 9]»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتَّىٰ يُسئل
ص: 77
عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت»(1).
وعن الإمام الكاظم (علیه السلام): «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون علىٰ الثلاث ساعات»(2).
الخطوة الثانية: القراءة، كان الناس فيما سبق يعتمدون علىٰ القراءة في علومهم، ولكن بعد أن تقدَّمت العلوم وتطوَّرت جاءت الكثير من البدائل عن القراءة كالمذياع والتلفاز والشبكة المعلوماتية وغيرها، ولكن رغم ذلك يبقىٰ للكتاب النصيب الأوفر في حفظ العلم ونشره، والشاهد علىٰ ذلك أنَّ جميع البدائل عنه تعتمد عليه، فإنَّها إنَّما تستمدُّ معلوماتها من خلال الكتاب.
وشعب لا يقرأ مصيره الجهل.
وأُمَّة لا تُحِبُّ الكتاب مصيرها الظلام.
وفرد لا يقرأ هو والأعمىٰ سواء!
ومن هنا نجد أنَّ العقل وتربويات الدين في دعوة مستمرَّة للقراءة، يكفي أنَّها من أهمّ الوسائل لتنمية وزيادة الذكاء، وقد سمعنا كيف أنَّ (روبرت موريسون) استطاع أن يصل إلىٰ منصب وزير الخارجية من القراءة فقط. وقد نُقِلَ أنَّ اليابان تضع مكتبة لكتب صغيرة
ص: 78
في بيت الخلاء، فيمكن لمن يقضي حاجته أن يقرأ معلومة أو اثنتين فيزيد من دخله العلمي. ومهما كان نوع الكتاب الذي تقرؤه فإنَّه سيساهم في ملئ بعض أوقات الفراغ.
وثَمَّة ملاحظات مهمَّة بالنسبة للقراءة التي نريد أن نملأ بها ما يُسمّىٰ بوقت الفراغ:
أ - لا تُكرِه نفسك علىٰ قراءة ما لا تُحِبُّ، فالقراءة كالطعام ما لم تشتهه لن تتلذَّذ به. علماً أنَّك في بعض الأحيان سوف تضطرُّ لأكل بعض أنواع الطعام لأنَّها تُمثِّل شفاءً لك مثلاً، وهكذا الكتب فبعضها ستضطرُّ لقراءته، فينبغي أن تُكيِّف نفسك معه. وكان أحد العلماء يقول: (إنَّني إذا تعبت من القراءة فأستريح بالقراءة)، بمعنىٰ أنَّه إذا كان يقرأ الكتب العلمية مثلاً، فإذا تعب منها قرأ الكتب الأدبية والتاريخية والقصصية.
ب - احمل قلماً معك أثناء القراءة، حتَّىٰ تُلخِّص الأفكار المهمَّة في دفتر مستقلٍّ، أو يمكنك أن تضع خطّاً تحتها في نفس الكتاب.
ج - عندما تقرأ سيبدأ عقلك بالإبداع، فإذا أبدع فكرة فلا تهملها، بل حاول أن تُدوِّنها بسرعة قبل أن تطير!
د - إذا فقدت التركيز علىٰ القراءة فاقرأ بصوتٍ عالٍ، فسماعك لصوتك يزيد من إمكانية التركيز والحفظ.
الخطوة الثالثة: حضور المؤتمرات والندوات والمحاضرات الجديدة، فإنَّ لذلك أثراً مهمّاً في ملئ أوقات الفراغ، وإن لم يمكن ذلك لقلَّة الإمكانيات، فيمكن سماعها بواسطة الأقراص الليزرية وما شابه، وبالتجربة قد استفدت كثيراً من الدورات التدريبية والندوات التي لم
ص: 79
أكن أستطيع حضورها، ولكنّي استعضت عن الحضور بالكمبيوتر. علماً أنَّه يلزم كتابة تلك الندوات والدورات، وإلَّا فإنَّ المعلومة ستفرُّ كما يفرُّ طائر سجين من قفصه!
وصدق الصادق الأمين (صلی الله علیه و آله) حينما قال: «قيدوا العلم بالكتاب»(1).
وقد قيل: ما كُتِبَ قرَّ، وما حُفِظَ فرَّ.
الخطوة الرابعة: الاستفادة من أجهزة الإعلام الحديثة كالتلفاز والمذياع والإنترنيت، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة عدم الانخداع بكلِّ ما يُطرَح فيها، بمعنىٰ أن ينتبه الشخص إلىٰ النافع منها ويهرب من الضارِّ، فإنَّها من نوع السلاح ذي الحدَّين. أي إنَّه لا بدَّ من القيام بعملية انتقاء مدروس لوسائل الإعلام.
ولا يحقُّ لأحد أن يقول: ما دمت أُريد أن أملأ وقت فراغي فلا تُقيِّدْني بشيء.
لأنّا نقول له: وهل إذا أردت أن تملأ معدتك من الطعام تملؤها بدون محاسبة سابقة وانتقاء مسبق لنوعية الطعام!؟
فعجباً لمن يعتني بطعام بطنه كيف لا يعتني بطعام عقله!؟
الخطوة الخامسة: تعلُّم المهارات الجديدة، التي من شأنها أن تقضي علىٰ وقت الفراغ من جانب، وتزيد من إبداع الشخص ومدخوله المادّي من جانب آخر. فيمكن للفرد أن يتعلَّم قراءة القرآن الكريم وأحكامه، أو علوم الحاسوب المتنوِّعة، أو فنَّ التصوير، أو السياقة أو الحدادة أو النجارة. ويمكن للمرأة أن تتعلَّم الحياكة
ص: 80
والخياطة، يمكنها أن تأخذ كتاباً لتتعلَّم طبخ أنواع جديدة من الأكل، يمكن لنا أن نتعلَّم أُسلوب الإسعافات الأوَّلية، أو أن نتعلَّم لغة جديدة، أو ندرس في معهد ما، يمكن للمرء أن يُطوِّر نفسه في ألف فرع وفرع من فروع الحياة، وبذا يمكنه أن يملأ وقته بالنافع المفيد. وليتذكَّر أنَّ: «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُه »(1)، وليضع نصب عينيه أنَّ: التمرين يؤدّي إلىٰ الكمال.
الخطوة السادسة: تخصيص جزء من وقت الفراغ لقضائه مع الأُسرة، فالأُسرة مؤسَّسة تربوية، فيها تتمُّ تنمية طرق التفكير والتعبير، وفيها يُكتَسب الدين، واللغة، والتقاليد، والعادات، وطريقة الكلام. فلا بدَّ أن يشعر الجميع بروح التعاون والتآلف، ويساعد علىٰ ذلك أن يقضوا معاً أوقات فراغهم بشكل منظَّم، وأن يشمل ذلك مختلف الأنشطة التي يُحِبُّها الأبناء ويُفضِّلونها من أنشطة رياضية وفنّية وألعاب ومسابقات ثقافية، ويكون ذلك كالتالي:
- استغلال فترة الغذاء وتجمُّع الأُسرة وتبادل الأحاديث والمواقف التي تعرَّض لها الأب والأُمُّ، وشرح طريقة تصرُّف كلٍّ منهما تجاه كلِّ موقف.
- الاستفادة من المسافات الطويلة التي يقطعها أفراد الأُسرة معاً في السيّارة بسرد قصص شيِّقة من الواقع تشرح تجارب الآخرين، وكذلك بالاستماع للأشرطة المفيدة.
- اصطحاب الأُسرة لزيارة المعالم الأثرية والثقافية.
ص: 81
- اقتناء مكتبة تضمُّ المراجع المختلفة وبعض الكتب النافعة.
- اقتناء أُسطوانات الكمبيوتر التي تضمُّ القيم والمعلومات المفيدة.
- قراءة القرآن بالمنزل وتعليمه أهل بيتك، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من علَّم ولداً له القرآن، قلَّده الله قلادة يعجب منها الأوَّلون والآخرون يوم القيامة»(1).
الخطوة السابعة: قضاء بعض الوقت في الترفيه والترويح، بشرط خلوّه من المفاسد والمحرَّمات، ومن الإسراف والتبذير، والحذر من أن يأخذ الترفيه كلَّ الوقت، بل لا بدَّ أن يُحدَّد له وقتٌ لا يزيد ولا ينقص إلَّا بمقدار الضرورة. ويمكن إعطاء قائمة متنوِّعة من أساليب الترويح عن النفس، منها التالي:
أ - الترويح الرياضي، ككرة القدم، وألعاب القوىٰ، وفنِّ الاسترخاء، والتنفُّس الصحيح للأُوكسجين، والسباحة، والرماية، والسياقة، وركوب الخيل، وغيرها. يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علِّموا أولادكم السباحة والرماية»(2).
ب – الترويح الفنّي، كممارسة هواية الرسم، والخطِّ، والنقش، والتخريم، والأشغال اليدوية من حياكة، وتطريز، وصناعة الورد، وتزيين البيوت...
ج - الترويح الاجتماعي، كالتزاور الذي حثَّ الإسلام عليه كثيراً، ومنه المراسلة والمهاتفة وإحياء مناسبات عيد الميلاد والزواج، وغيرها ممَّا له أثر في تقوية أواصر المحبَّة، وفي نفس الوقت يملأ بعضاً من وقت الفراغ.
ص: 82
د - الترويح السياحي، كزيارة المراقد المقدَّسة والمناطق الأثرية والتاريخية والسياحية، ممَّا له فوائد نفسية وثقافية وبدنية.
وفي كلِّ أنواع الترويح ينبغي اصطحاب الأهل من زوجة وأطفال ووالدين مهما أمكن، ليكون الترويح شاملاً لأفراد العائلة عموماً، ممَّا يرجع بالفائدة للعائلة عموماً.
الخطوة الثامنة: مطالعة حياة المثابرين وكيف أنَّهم كانوا يستغلّون كلَّ لحظة من حياتهم، وأثمر ذلك لهم النجاح والخلود.
غالباً هناك تعارض بين متطلِّبات العقل وبين متطلِّبات الشهوات، فمن طبيعة الإنسان أنَّه يُحِبُّ أن يكون متموِّلاً، والشهوات تقول له: كن كذلك بأيِّ أُسلوب، سواءً كان بالربا أو بالسلب أو بقتل النفس المحرَّمة وما شابه، ولكن العقل يُحدِّد تلك الرغبة، ويقول: لا تكن كذلك إلَّا من الطريق الصحيح. ولأجل تحقيق الطريق الصحيح تجد العقل يحاول أن يُبدِع ويخترع من باب (الحاجة أُمُّ الاختراع)، فلو أطاع أحد هواه لكبَّل عقله ومنعه من التطوّر والنموِّ، وهو ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (علیه السلام): «ذهاب العقل بين الهوىٰ والشهوة»(1).
وهكذا في جميع مجالات الحياة، هناك تعارض بين العقل والهوىٰ، فالهوىٰ والشهوات تريد إشباع الغرائز بأيِّ وسيلة والعقل يُقيِّدها، وحتَّىٰ يملأ الفراغ تجده يُبدِع ويخترع ويتقدَّم وينمو.
فإذا ما اتَّبع المرء شهواته، فقد قيَّد، بل وقتل عقله.
ص: 83
إنَّ العقل يصدأ في بعض الأحيان، لتراكم الهموم والأحزان، ولكثرة المشاغل والأعمال، وتعدُّد المسؤوليات والمهامِّ، فيصل إلىٰ حالة ربَّما يتوقَّف عن العمل، ولا يجد أيَّ حلٍّ بين يديه، وهنا يحتاج إلىٰ استماع من ذوي العقول الثاقبة، وهو ما دعت إليه الأديان والعقول، فموضوع الاستشارة وجمع عقول الآخرين إلىٰ عقلك أمر مهمٌّ في تنمية العقل، أمَّا إذا أبىٰ المرء إلَّا أن لا يسمع كلام غيره، عندها سيواجه مصيره المحتوم: عقلاً جافّاً، وقلَّة خبرة، وأحداثاً متوالية، تؤدّي إلىٰ الفشل الذريع.
يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام): «من ترك الاستماع من ذوي العقول مات عقله»(1).
هناك ما يُسمّىٰ بالعقل الجمعي، ومعناه أنَّ الإنسان يتأثَّر بالكثرة من حوله، فلو كنت ماشياً في طريق ورأيت كلَّ من هم أمامك عبروا الشارع، فإنَّ العقل الجمعي يدعوك لأن تسلك مسلكهم. ولو كنت جالساً مع جماعة، وتثاءب أحدكم، فتلقائياً ستجد نفسك تتثاءب معه، وربَّما تسري هذه الحالة إلىٰ جميع الجالسين!
وفي غالب الأحيان يُعطي العقل الجمعي أوامره من دون رويَّة ولا تفكُّر، بل من باب (حشرٌ مع الناس عيدٌ).
ومن هنا جاءت التعاليم علىٰ ضرورة اختيار الجماعة الصالحة، بما في ذلك الأصدقاء، إذ قد أثبتت الأبحاث العلمية أنَّ للأصدقاء تأثيراً، ربَّما بل هو يفوق تأثير الأبوين والمدرسة وحتَّىٰ الأعراف والتقاليد
ص: 84
الرسمية. وبصورة عامَّة فإنَّ للأصدقاء تأثيراً خفيّاً وتدريجياً علىٰ الشخص، خصوصاً في الأخلاق والعادات السيِّئة، إذ في بعض الأحيان يكون تأثير الأخلاق السيِّئة علىٰ الشخص أقوىٰ من تأثير الأخلاق الحسنة، تماماً كما أنَّ بعض الأمراض تُعدي، بعكس الصحَّة فإنَّها لا تُعدي. ومن هنا أمكن لأخلاق الصاحب أن تنتقل إلىٰ صاحبه، ولذا وردت التأكيدات علىٰ اختيار الصاحب الجيِّد.
فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قالت الحواريون لعيسىٰ: يا روح الله، من نجالس؟ قال: من يُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويُرغِّبكم في الآخرة عمله»(1).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «جالس الحكماء يكمل عقلك، وتشرف نفسك، وينتفِ عنك جهلك»(2).
ومن هنا كانت مجالسة الجاهل تُعدي، ممَّا يعني تأثيرها علىٰ العقل سلباً، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من صحب جاهلاً نقص من عقله»(3).
ويقول (علیه السلام): «ليس من جالس الجاهل بذي معقول، من جالس الجاهل فليستعدَّ لقيل وقال»(4).
إذا عرفنا معنىٰ هداية العقل، فالضلالة حينئذٍ هي بأحد معاني:
المعنىٰ الأوَّل: عدم إعطاء العقل، كما في النبات والحيوان، أو
ص: 85
بزوال العقل من الإنسان. وهو وإن كان من الله تعالىٰ، ولكنَّه ليس بقبيح في النباتات والحيوانات كما هو واضح.
وأمَّا في الإنسان، فهو ليس قبيحاً أيضاً، لعدَّة أسباب، منها التالي:
أوَّلاً: أنَّ الإنسان باعتبار أنَّه عبد مملوك لله تعالىٰ فلا يستحقُّ شيئاً علىٰ الله (عزوجلّ) لا عقلاً ولا أيَّ شيء، وإعطاؤه العقل إنَّما هو من باب التفضُّل، فإذا لم يرد أن يتفضَّل فلا قبح فيه.
ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّ عدم إعطاء العقل للإنسان يعني الجنون، والجنون قد تكون له أسباب طبيعية تدخل ضمن نظام العلَّة والمعلول، إذ لعلَّه لمرض وراثي أو صدمة نفسية أو عقار معيَّن فَقَدَ الإنسان عقله، وهذا هو نظام هذا العالم.
ثالثاً: أنَّ الله تعالىٰ عندما أعطىٰ العقل للإنسان فإنَّه جعله في موضع المسؤولية، فكلَّفه وأوجب عليه التزام التكليف، وأمَّا إذا فَقَدَ الإنسان عقله فتلك التكاليف تُرفَع عنه، فلا يلزم من ذهاب العقل تكليف المجنون بما لا يُطاق، فلا قبح من هذه الجهة(1).
المعنىٰ الثاني: التفاوت في درجات العقل، وهذا أمر واقع بالوجدان، ولكنَّه أمر تقتضيه طبيعة الحياة، فتصوَّر لو أنَّ كلَّ الناس علماء أذكياء، فهل سيرضىٰ أحدهم أن يكون خادماً لآخر أو عاملاً عنده!؟
مع أنَّ هذا التفاوت قد يكون بسبب نفس الإنسان، كقلَّة التعليم أو عدمه، وكالوراثة. فضلاً عن أنَّه تعالىٰ لا يغبن قليل العقل، فإنَّ الروايات تؤكِّد علىٰ أنَّ الحساب هو علىٰ درجة عقل الإنسان، فعن أبي
ص: 86
جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(1).
وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ هذا المعنىٰ (المداقَّة علىٰ قدر العقول) يجري في جانب الثواب والعقاب كليهما، ولذا كان بعض الناس قليل العمل لكنَّه عظيم الثواب، والبعض عظيم العمل لكنَّه قليل الثواب، كلُّ ذلك تبعاً لمقدار المعرفة والعقل.
عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: «كيف عقله؟»، قلت: لا أدري، فقال: «إنَّ الثواب علىٰ قدر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإنَّ ملكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربِّ، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله [تعالىٰ] ذلك، فاستقلَّه الملك، فأوحىٰ الله [تعالىٰ] إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلمَّا أصبح قال له الملك: إنَّ مكانك لنزه، وما يصلح إلَّا للعبادة، فقال له العابد: إنَّ لمكاننا هذا عيباً! فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربِّك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يُضيِّع مثل هذا الحشيش، فأوحىٰ الله إلىٰ الملك: إنَّما أُثيبه علىٰ قدر عقله»(2).
ص: 87
المعنىٰ الثالث: عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل وما يستدعيه، أي توظيف العقل توظيفاً خاطئاً. وهذا من الإنسان باختياره لا من الله تعالىٰ، فلا ظلم فيه ولا جبر.
والعجيب أنَّ بإمكان الإنسان أن يستعمل عقله في ضدِّ ما يمليه عليه عقله، وهذا من عجائب العقل، وعندئذٍ ينسلخ العقل عن حقيقته الملكوتية ليصبح أداة قاتلة وفتّاكة، وبدلاً من أن يدلَّ علىٰ الله تعالىٰ يصبح أداة للإبعاد عن الله تعالىٰ. وهذا المعنىٰ يدعونا إلىٰ أن نتعرَّف حقيقة العقل، فليس كلُّ ذكاء أو دهاء يُسمّىٰ عقلاً، بل العقل هو ما دعا صاحبه لطاعة الله تعالىٰ وألزمه بالعمل والجري علىٰ مقتضىٰ هذه الدلالة، فقد قيل لأبي عبد الله (علیه السلام): ما العقل؟ قال: «ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان»، فقيل: فالذي كان في معاوية؟ فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(1).
قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة علىٰ معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدَّث معه ثمّ ينصرف إليَّ، فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب ممَّا يرىٰ منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً، فانتظرته ساعة، وظننت أنَّه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بنيَّ، إنّي جئت من عند أخبث الناس!
قلت: وما ذاك؟
قال: قلت له وخلوت به: إنَّك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنَّك قد كبرت، ولو نظرت إلىٰ إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوَالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
ص: 88
فقال: هيهاتَ هيهاتَ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: أبو بكر. ثمّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمَّر عشر سنين، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: عمر. ثمّ ملك أخونا عثمان، فهلك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به. وإنَّ أخا بني هاشم يُصرَخ به في كلِّ يوم خمس مرّات: (أشهد أنَّ محمّداً رسول الله)، فأيُّ عمل يبقىٰ بعد هذا لا أُمَّ لك؟ لا والله إلَّا دفناً دفناً(1).
ومن هذا القبيل - أي عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل - ما يُبتلىٰ به البعض من الوسوسة وكثرة الشكِّ في وضوئه أو صلاته، فعن عبد الله بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجلاً مبتلىٰ بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله: «وأيُّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟»، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سَلْه، هذا الذي يأتيه من أيِّ شيء هو؟ فإنَّه يقول لك: من عمل الشيطان»(2).
* * *
ص: 89
ص: 90
ص: 91
ص: 92
وهي بمعنىٰ إرسال الله (عزوجلّ) مجموعة من البشر بعنوان كونهم رسلاً منه جلَّ وعلا إلىٰ الناس، ليدلّوهم علىٰ ما فيه صلاحهم، وليبعدوهم عمَّا فيه هلاكهم، سواء كان ذلك فيما يتعلَّق بالأُمور الدنيوية أو ما يتعلَّق بالأُمور الأُخروية، لطفاً منه بعباده، وتحنُّناً عليهم.
وهي هداية منفصلة - في قبال الهداية المتَّصلة التي هي هداية العقل - بواسطة الأنبياء والرسل والأوصياء والكتب، وهي هداية عامَّة لكلِّ عاقل، فيكون العقل الذي ميَّز الإنسان عن غيره من الموجودات الأرضية قد عُزِّز بعقل منفصل يعينه ويدلُّه علىٰ الطريق المستقيم لكي لا يخفق أو يتعثَّر.
فكلُّ عاقل كان له ما يدفعه نحو ما يخالف مقتضىٰ العقل - من الجنِّ والإنس وغيرهما - فإنَّ الله تعالىٰ يُرسِل له الدعاة، سواء قبل العاقل منهم أو لم يقبل.
وهذه الهداية هي واجبة علىٰ الله تعالىٰ من باب اللطف، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ قد أوجب علىٰ نفسه أن يساعد بني آدم في الوصول إلىٰ الهدف، حيث علم جلَّ وعلا بأنَّهم يحتاجون إلىٰ تدخُّل غيبي، فمن باب اللطف بعث لهم الأنبياء والرُّسُل وأنزل الكتب ونصَّب الأوصياء.
وهذه الهداية تامَّة من قِبَل الله تعالىٰ، ولا خلل فيها، وهناك آيات عديدة تدلُّ علىٰ أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل هذ المشروع علىٰ أتمّ وجه.
وتشير إلىٰ هذا النوع من الهداية عدَّة آيات، منها التالي:
ص: 93
﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 164﴾ (آل عمران: 164).
فقبل إرسال الأنبياء كان الناس في ضلال من هذه الجهة، جهة عدم توفُّر الداعي إلىٰ الله تعالىٰ، فأزال الله جلَّ وعلا عنهم هذا الضلال بإرساله الأنبياء والرُّسُل، فهي هداية منه جلَّ وعلا.
وفي نفس السياق جاء قوله تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 2﴾ (الجمعة: 2).
وأيضاً قوله تعالىٰ: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 16﴾ (المائدة: 15 و16).
الضلال في هذه المرتبة يُتصوَّر بأحد شكلين:
الشكل الأوَّل: عدم إرسال الله (عزوجلّ) الأنبياء والرسل، وعدم إنزال الكتب.
وهذا الأمر غير متحقَّق قطعاً، لأنَّ الله تعالىٰ لم يدع أُمَّة من غير نذير، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ 24﴾ (فاطر: 24).
وهنا قد يتبادر إلىٰ الذهن التالي:
إنَّ القرآن الكريم وفي مقام حديثه عن إرسال النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) يُصرِّح
ص: 94
بأنَّ إرساله كان علىٰ فترة من الرسل، قال تعالىٰ: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 19﴾ (المائدة: 19).
ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.
والجواب:
أوَّلاً: الآية قالت: إنَّه (صلی الله علیه و آله) جاء علىٰ فترة من الرُّسُل لا الأنبياء، ومعلوم أنَّ الأنبياء أكثر بكثير من الرُّسُل، فلا ملازمة بين عدم وجود رسول وبين عدم وجود نبيٍّ، فقد يكون في زمن لا يوجد رسول ولكنَّه يوجد نبيٌّ. وهذا هو المروي، حيث ذكرت بعض الروايات وجود بعض الأنبياء بين النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وبين النبيِّ عيسىٰ (علیه السلام)، كخالد بن سنان العبسي كما سيأتي بعد قليل.
ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّه وبوجود الكتاب السماوي (الإنجيل) وبوجود العلماء والأوصياء في تلك الفترة فإنَّ الحجَّة قائمة علىٰ الناس، وإنَّما يرسل الله تعالىٰ الرُّسُل لإتمام الحجَّة عليهم، فإذا كانت الحجَّة تامَّة لم يكن عدم الإرسال منافياً لهداية الدعوة، إذ الهداية موجودة حسب الفرض.
ثالثاً: أنَّ المقصود من الفترة هو خلوّها من حجَّة ظاهر، وأمَّا الحجَّة غير الظاهر فقد كان موجوداً في تلك الفترة.
وهذا المعنىٰ - أي عدم خلوِّ الأرض من حجَّة ولو غير ظاهر - هو ما صرَّح به أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).
ص: 95
وهذا ما ذهب إليه الشيخ الصدوق (رحمة الله) في إكماله، حيث قال ما نصُّه:
(وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله (عزوجلّ) بعث محمّداً (صلی الله علیه و آله) علىٰ حين فترة من الرُّسُل، لا من الأنبياء و الأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسىٰ (علیهما السلام) أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، نبيٌّ لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاصِّ والعامِّ، وشهرته عندهم، وأنَّ ابنته أدركت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ودخلت عليه، فقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «هذه ابنة نبيٍّ ضيَّعه قومُه، خالد بن سنان العبسي»(1)، وكان بين مبعثه ومبعث نبيِّنا محمّد (صلی الله علیه و آله) خمسون سنة...»(2).
ص: 96
ذكرت بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام) يظهر بعد فترة من الأئمَّة، بمعنىٰ أنَّه يظهر بعد وجود فاصل زمني بينه وبينه آخر ظهور وحضور للمعصوم.
فقد روي عن أبي حمزة، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: «لا»، فقلت: فولدك؟ فقال: «لا»، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: «لا»، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: «لا»، قلت: من هو؟ قال: «الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، علىٰ فترة من الأئمَّة، كما أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بُعِثَ علىٰ فترة من الرُّسُل»(1).
وهذا يتناسب مع المعنىٰ الأخير الذي ذُكِرَ عن الشيخ الصدوق (رحمة الله) .
الشكل الثاني: الإضلال بمعنىٰ عدم اتِّباع الإنسان للنبيِّ، وهذا الأمر وإن كان واقعاً ولكنَّه ليس قبيحاً علىٰ الله تعالىٰ، لأنَّه من فعل الإنسان وباختياره.
فما هو من جانب الله تعالىٰ - وهو توفير الدعاة والحجج - قد كمل علىٰ أتمّ وجه.
ويبقىٰ ما هو علىٰ الإنسان، فهو عليه أن يُعمِل ويُفعِّل اختياره في اتِّباع الحجج، والله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً ولا يسلب اختياره في هذا المجال.
وربَّما هذا واحد من معاني: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً علىٰ التزام الدين تكويناً، وإنَّما عليه بيان الحقِّ من الباطل: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ
ص: 97
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256﴾ (البقرة: 256).
وقال تعالىٰ مبيِّناً أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل البيان، وترك الاختيار للإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً 3﴾ (الإنسان: 3).
فالله تعالىٰ قد هدىٰ الإنسان نحو السبيل بأن بيَّن له الطريق، ولكن ترك اختيار سلوك أحد الطريقين للإنسان نفسه.
وعلىٰ نفس المنوال جاء قوله تعالىٰ: ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 10﴾ (البلد: 10)، أي: بيَّنا له طريق الخير والشرِّ(1).
ويُبيِّن القرآن الكريم أنَّ السبب الرئيسي وراء عدم اتِّباع الناس للأنبياء وللهدىٰ، هو اتِّباعهم لأهوائهم الضالَّة، يقول تعالىٰ: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىٰ مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 50﴾ (القصص: 50).
وفيما يتعلَّق بالدعوة هنا عدَّة نقاط:
جميع دعوات الأنبياء كانت متَّحدة في كونها تأخذ أوامرها من الله تعالىٰ وتدعو إلىٰ دينه لا غير، قال تعالىٰ: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَىٰ الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ 13﴾ (الشورىٰ: 13).
ص: 98
وتتلخَّص دعواتهم بعد هذا بثلاث قضايا:
إنَّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسبَّبات، ولا حقيقة واقعية للصدفة واللاهدفية والعبث فيه، وإنَّ هذا القانون يبتني علىٰ أساس أنَّ هناك تسانخاً بين السبب والنتيجة، فالنتيجة دائماً تأتي من لون السبب ومن قماشته.
جرِّب أن تعصر بصلاً، هل يمكن أن تحصل منه علىٰ عصير الليمون!؟
وجرِّب أن تزرع شوكةً، هل يمكن أن تحصل منها علىٰ شجرة التفّاح!؟
فلا يتصوَّر أحد أنَّه سيحصد غير ما زرع، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: «يا أبا ذرٍّ، إنَّكم في ممرِّ الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن يزرع شرّاً يوشك أن يحصد ندامة، ولكلِّ زارع ما زرع»(1).
ومن أمثلة هذا القانون قرآنياً، هو ما حكاه الله تعالىٰ عن الذين لا يؤدّون الحقوق الشرعية للأموال التي تحت أيديهم، فيقول تعالىٰ: ﴿...وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ 34 يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 35﴾ (التوبة: 34 و35).
وهذه القضيَّة قطعت الطريق علىٰ من يُسوِّل لنفسه بالتجاوز علىٰ
ص: 99
الأوامر الإلهيَّة بحجَّة أنَّ الله تعالىٰ غفور رحيم، وهو يُحِبُّ عباده، فلا يُعقَل أنَّه سيعاقب عباده لأجل معصية لا تضرُّه ولا تُنقِص من ملكه شيئاً.
إنَّ هذه الحجَّة هي من تسويلات الشيطان ليُزيِّن لأتباعه المعصية، والحال أنَّ أهمّ قضيَّة جاء الأنبياء لبيانها هي أنَّ الجزاء من قماشة السبب، ومن نفس صنفه ونوعه ولونه، بل إنَّ ما يراه الإنسان من جزاء عمله ليس هو إلَّا نفس عمله لا شيئاً آخر، وهو ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: ﴿هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 35﴾.
يُروىٰ أنَّه دخل ابن عبّاس علىٰ عمرو بن العاص في مرضه، فسلَّم عليه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلاً، وأفسدت من ديني كثيراً، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت، لفزت. ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فقد صرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا أرقىٰ بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظة أنتفع بها يا ابن أخي. فقال له ابن عبّاس: هيهاتَ يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا نشاء أن أبكي إلَّا بكيت، كيف يؤمن برحيل من هو مقيم؟ فقال عمرو علىٰ حينها: من حين ابن بضع وثمانين سنة تُقنِطني من رحمة ربّي. اللّهمّ إنَّ ابن عبّاس يُقنِطني من رحمتك، فخذ مني حتَّىٰ ترضىٰ. فقال ابن عبّاس: هيهاتَ أبا عبد الله! أخذت جديداً وتُعطي خَلِقاً، قال عمرو: ما لي ولك يا بن عبّاس! ما أُرسل كلمة إلَّا أرسلت نقيضها(1).
صحيح أنَّ الله تعالىٰ غفور رحيم، ولكن لا يمكن لأحد أن
ص: 100
يخدعه، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَىٰ الصَّلاةِ قامُوا كُسالىٰ يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً142﴾ (النساء: 142).
فمن يعمل الذنوب ويتجرَّأ علىٰ الله تعالىٰ مع سبق الإصرار والترصُّد، ثمّ يُرِدْ منه تعالىٰ أن يغفر له، هذا شخص يخدع نفسه، تماماً كمن يستغفر وهو مقيم علىٰ الذنب، يقول الإمام الرضا (علیه السلام): «مثل الاستغفار مثل ورق علىٰ شجرة تحرَّك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربِّه»(1).
ويقول (علیه السلام): «من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه»(2).
إنَّ رجوع العمل إلىٰ صاحبه سُنَّة إلهيَّة لا يمكن أن تتخلَّف، ففي الدنيا ربَّما يُسرَق منك حقُّك، ربَّما يُسرَق فكرك أو مالك أو غيرهما، ولكن يوم القيامة كلُّ شيء يرجع إلىٰ صاحبه، ربَّما يرمي شخص بجرمه علىٰ غيره، ولكنَّه في يوم القيامة يرجع إليه، وهذا ما أكَّدته الآيات الكريمة.
- ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 51﴾ (الأنفال: 51).
- ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ 5﴾ (الانفطار: 5).
ص: 101
- ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾ (الزلزلة: 7 و8).
- ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ...﴾ (الإسراء: 7).
- ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 12﴾ (العنكبوت: 12).
- ﴿قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104﴾ (الأنعام: 104).
وغيرها من الآيات الواضحة في هذا المعنىٰ.
روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّك إن أحسنت فلنفسك تكرم وإليها تحسن، إنَّك إن أسأت فلنفسك تمتهن وإيّاها تغبن»(1).
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «جاء رجل إلىٰ أبي ذرٍّ، فقال: يا أبا ذرٍّ، ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنَّكم عَمَرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقَلوا من عمران إلىٰ خراب، فقال له: فكيف ترىٰ قدومنا علىٰ الله؟ فقال: أمَّا المحسن منكم فكالغائب يقدم علىٰ أهله، وأمَّا المسيء منكم فكالآبق يرد علىٰ مولاه، قال: فكيف ترىٰ حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم علىٰ الكتاب، إنَّ الله يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 14﴾ [الانفطار: 13 و14]»، قال: «فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56﴾، [الأعراف: 56]».
ص: 102
قال أبو عبد الله (علیه السلام): «وكتب رجل إلىٰ أبي ذرٍّ (رضی الله عنه): يا أبا ذرٍّ، أطرفني بشيء من العلم، فكتب إليه: العلم كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلىٰ من تُحِبُّه فافعل»، قال: «فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يُسيء إلىٰ من يُحِبُّه؟ فقال له: نعم نفسك أحبّ الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها»(1).
قال وكيع: ما أحسنت قطُّ إلىٰ أحد، ولا أسأت إليه، قيل: كيف؟ قال: لأنَّ الله تعالىٰ قال: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسراء: 7](2).
تعجيل الجزاء في الدنيا:
وكما سنَّ الله تعالىٰ رجوع الأعمال إلىٰ صاحبها في الآخرة، سنَّ أيضاً رجوع بعض الأعمال إلىٰ صاحبها في الدنيا قبل الآخرة، وتلك الأعمال المعجَّل جزاؤها بعضها صالحة وبعضها طالحة.
أمَّا الأعمال الصالحة، فهي تطبيق لكبرىٰ ذكرها القرآن الكريم فيما يتعلَّق بالنبيِّ إبراهيم (علیه السلام)، حيث يذكر القرآن الكريم بأنَّ الله تعالىٰ أعطاه أجراً في الدنيا بالإضافة إلىٰ الاحتفاظ بأجره الأُخروي، قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130﴾ (البقرة: 130).
وقال تعالىٰ: ﴿وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 122﴾ (النحل: 122).
ص: 103
وقال تعالىٰ: ﴿وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 27﴾ (العنكبوت: 27).
ومن تلك الأعمال الصالحة هي صلة الرحم، فإنَّها تنسئ الأجل وتزيد الرزق، وهو ما أكَّدته الروايات الكثيرة(1).
ومنها: الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب، فإنَّ من دعا لمؤمن بظهر الغيب ناداه الله تعالىٰ: (ولك أضعافها)(2)، فهو عمل صالح يُعجِّل الله تعالىٰ ثوابه، وهو تعالىٰ أكرم وأجود، فجزاء الآخرة محفوظ وعلىٰ أتمّ وجه.
وأمَّا الأعمال الطالحة، فمنها: عقوق الوالدين، والشواهد علىٰ ذلك من الواقع أكثر من أن تُحصىٰ.
ومنها: البغي علىٰ الناس وظلمهم، وسيرة الظالمين شاهدة علىٰ ذلك، فهذا القاهر بالله العبّاسي، كان قد فعل ما فعل، وسلب ما سلب،
ص: 104
وبنىٰ ما بنىٰ، ولكن أمره آل إلىٰ أن يُخلَع، وتُسمَل عيناه، ويُشرَّد، حتَّىٰ يصل به الأمر إلىٰ أن يتكفَّف الناس(1)!
ص: 105
ومنها: كفر الإحسان، فقد جعل الله تعالىٰ جزاء الإحسان إحساناً مثله أو أفضل، فمن يُسلِّم عليك يكن محسناً إليك، فيتوجَّب عليك ردُّ هذا الإحسان، يقول تعالىٰ: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً 86﴾ (النساء: 86).
هذا، ولكن الذي يكفر الإحسان فإنَّ الله تعالىٰ يُعجِّل له العقوبة، ويدَّخر له خزياً في الآخرة.
عن عليِّ بن جعفر بن محمّد، قال: جاءني محمّد بن إسماعيل بن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسىٰ (علیه السلام) أن يأذن له في الخروج إلىٰ العراق، وأن يرضىٰ عنه، ويوصيه بوصية. قال: فتجنَّب حتَّىٰ دخل المتوضَّأ، وخرج - وهو وقت كان يتهيَّأ لي أن أخلو به وأُكلِّمه -. قال: فلمَّا خرج قلت له: إنَّ ابن أخيك محمّد بن إسماعيل يسألك أن تأذن له في الخروج إلىٰ العراق، وأن توصيه. فأذن له (علیه السلام) . فلمَّا رجع إلىٰ مجلسه قام محمّد بن إسماعيل وقال: يا عمُّ، أُحِبُّ أن توصيني. فقال: «أُوصيك أن تتَّقي الله في دمي»، فقال: لعن الله من يسعىٰ في دمك، ثمّ قال: يا عمُّ، أوصني. فقال: «أُوصيك أن تتَّقي الله في دمي»، قال: ثمّ ناوله أبو الحسن (علیه السلام) صرَّة فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها محمّد، ثمّ ناوله أُخرىٰ فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها، ثمّ أعطاه صرُّة أُخرىٰ فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها، ثمّ أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده، فقلت له في ذلك واستكثرته، فقال: «هذا ليكون أوكد لحجَّتي إذا قطعني ووصلته». قال: فخرج إلىٰ العراق، فلمَّا ورد حضرة هارون أتىٰ باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل، واستأذن علىٰ هارون، وقال للحاجب: قل لأمير المؤمنين: إنَّ محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد
ص: 106
بالباب، فقال الحاجب: انزل أوَّلاً وغيِّر ثياب طريقك وعد لأُدخِلك إليه بغير إذن، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال: أُعلِم أمير المؤمنين أنّي حضرت ولم تأذن لي، فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمّد بن إسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل، قال: يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض: موسىٰ بن جعفر بالمدينة يُجبىٰ له الخراج، وأنت بالعراق يُجبىٰ لك الخراج. فقال: والله!؟ فقال: والله، قال: فأمر له بمائة ألف درهم، فلمَّا قبضها وحمل إلىٰ منزله أخذته الذبحة(1) في جوف ليلته، فمات وحوِّل من الغد المال الذي حُمِلَ إليه(2).
لا كما يقول اليهود ومن علىٰ شاكلتهم من المفوِّضة من أنَّ الله تعالىٰ بعد أن خلق العالم وفرغ منه رفع يده عنه، فهو لا يتدخَّل في مجرياته أبداً، بل بعضهم ذهب إلىٰ عدم قدرته جلَّ وعلا علىٰ التدخُّل أصلاً، تماماً كما حكىٰ القرآن الكريم ذلك عنهم، فقال عزَّ من قائل: ﴿وَقالَتِ
ص: 107
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾ (المائدة: 64).
وقد تحدَّثت الكثير من الآيات الشريفة عن أنَّ الله تعالىٰ يتدخَّل بالحساب بالعدل إن في عاجل الدنيا أو آجلها.
يقول تعالىٰ: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً 13﴾ (الإسراء: 13).
ويقول تعالىٰ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49﴾ (الكهف: 49).
وفي الروايات أنَّ علىٰ الصراط عقبة تُسمّىٰ المرصاد، لا يجوزها عبد بمظلمة(1)، ويكون الحاكم المباشر فيها هو الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ 14﴾ (الفجر: 14).
نعم، اقتضت الحكمة الإلهيَّة إمهال المذنبين لبعض الوقت.
ولكن أصلاً، لماذا يُمهِل الله الظالمين؟ أوَليس الأفضل أن ينتقم مباشرةً من الظالم!؟
هناك عدَّة أسباب تُبرِّر هذا الإمهال، وهي:
1 - لأنَّه تعالىٰ لا يخاف الفوت، وإنَّما يعجل من يخاف الفوت، فإنَّ الذي يستعجل بالعقوبة أو بالأخذ هو من يخاف أن تفوته الفرصة
ص: 108
لو لم يستعجل، أمَّا الله (عزوجلّ) فإنَّه محيط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء، ولا يهرب منه شيء، فحتَّىٰ لو لم يعاجل المذنب بالعقوبة فإنَّه لن يهرب منه. وهل يستطيع أحد أن يهرب من الموت!؟ والموت خلقٌ من خلق الله تعالىٰ، قال (عزوجلّ): ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ 2﴾ (الملك: 2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه...»(1).
2 - لأنَّ رحمته تعالىٰ سبقت غضبه، وهذا الأمر شمل حتَّىٰ المجرمين!
قيل للإمام السجّاد (علیه السلام) يوماً: قال الحسن البصري: ليس العجب ممَّن هلك كيف هلك، وإنَّما العجب ممَّن نجا كيف نجا، فقال (علیه السلام): «أنا أقول: ليس العجب ممَّن نجا كيف نجا، إنَّما العجب ممَّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله»(2).
وروي أنَّه قَدِمَ علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيّاً من السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قلنا: لا وهي تقدر علىٰ أن لا تطرحه، فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(3).
ص: 109
كلُّ ذلك لأنَّ رحمة الله تعالىٰ سبقت غضبه(1)، قال تعالىٰ: ﴿قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156).
3 - ويمكن أن يكون إمهال الله تعالىٰ لبعض المجرمين لعلمه بأنَّهم سيتوبون ويُصلِحون ما أفسدوا، كما حصل للفضيل بن عياض، قاطع الطريق المعروف، حيث تاب وأصلح وصار من عبّاد وزهّاد أهل زمانه.
حيث روي أنَّ سبب توبته أنَّه عشق جارية، فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ [الحديد: 16]، فرجع القهقرىٰ وهو يقول: بلىٰ والله قد آن. فآواه الليل إلىٰ خربة، وفيها جماعه من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إنَّ فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعىٰ في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللّهمّ إنّي قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام»(2).
ص: 110
4 - لأنَّه تعالىٰ يُمهِل المجرمين في بعض الأحيان لا لكرامة لهم عليه، بل من أجل استدراجهم بالنعم، فلعلَّ المجرم عنده بعض الحسنات فيريد تعالىٰ أن يجازيه بها في الدنيا، فيستدرجه إلىٰ أن تصل لحظة القصم، قال تعالىٰ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ 178﴾ (آل عمران: 178).
5 - وقد يكون إمهالهم لا لكرامتهم هم، بل لأنَّ الله تعالىٰ يعلم أنَّه سيخرج من ذرّيتهم مؤمنون مخلصون، لذلك يُمهِلهم حتَّىٰ تتاح الفرصة للمؤمنين بالوصول إلىٰ عالم الدنيا.
ومن هنا ورد أنَّ من بعض علل غيبة الإمام المهدي (علیه السلام) هو أن لا تضيع ودائع الله (عزوجلّ)، أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له - يعني أبا عبد الله (علیه السلام) -: ما بال أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالىٰ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً 25﴾ [الفتح: 25]»، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (علیه السلام) لم يظهر أبداً حتَّىٰ تخرج ودائع الله (عزوجلّ)، فإذا خرجت ظهر علىٰ من ظهر من أعداء الله (عزوجلّ) فقتلهم»(1).
من خلال تتبُّع حركات الأنبياء وطريقة تعاملهم مع مجتمعاتهم وأساليبهم في هداية الناس، يمكن أن نجد عدَّة خطوط رئيسية مثَّلت منهجاً متكاملاً في الدعوة الإلهيَّة.
ص: 111
إنَّ اطِّلاعنا علىٰ هذه الخطوط العامَّة يُحدِّد لنا طريقة دعوتنا إلىٰ دين الله تعالىٰ، علىٰ ما سنعرفه في النقطة الثالثة.
إنَّ خلاصة تلك الخطوط العامَّة هي أنَّ الدعوة جاءت لهداية الناس، والهداية تتمركز علىٰ ركائز عديدة، هي:
الركيزة الأُولىٰ: مخاطبة الناس بلغتهم، فإنَّ الهدف من الدعوة هي الهداية، وهذا يستلزم ضرورة أن يفهم المخاطَب لغة الدعوة، وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالبيان، قال تعالىٰ: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4)(1).
الركيزة الثانية: مخاطبة الناس بما يفهمونه من معاني وكلمات، وهو ما عبَّرت عنه الروايات بالمخاطبة علىٰ قدر العقول.
فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «ما كلَّم رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) العبادَ بكنه عقله قطُّ»، وقال: قال رسول الله: «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(2).
ويقول الإمام السجّاد (علیه السلام): «وأمَّا حقُّ المستنصح فإنَّ حقَّه أن... تُكلِّمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإنَّ لكلِّ عقلٍ طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه، وليكن مذهبك الرحمة ولا قوَّة إلَّا بالله»(3).
وعن مدرك بن الهزهاز، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا مدرك، رحم الله عبداً اجترَّ مودَّة الناس إلىٰ نفسه، فحدَّثهم بما يعرفون، وترك ما يُنكِرون»(4).
ص: 112
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أتُحِبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟ حدِّثوا الناس بما يعرفون وأمسكوا عمَّا يُنكِرون»(1).
الركيزة الثالثة: مواجهة الناس بأشهر علم عندهم وبأهمّ ما يحترمونه، وهذا قانون من قوانين المعجزات، حيث كانت معجزة النبيِّ - أيّ نبيٍّ - تواجه ما اشتهر عند قومه وما يحترمونه ويُقدِّسونه، وما يُمثِّل عصب الحياة لديهم، فالنبيُّ موسىٰ (علیه السلام) واجه قومه بإبطال سحر السحرة، وبتدمير جيش فرعون، وهم كانوا يُقدِّسون السحر والقوَّة. والنبيُّ عيسىٰ (علیه السلام) واجه قومه بالإخبار عن الغيبيات، وبطبٍّ لا مثيل له كان يتمثَّل بإحياء من مرَّت علىٰ موته عشرات السنين، وبشفاء أمراض مستعصية بلمسة يد، وهم الذين كانوا يُقدِّسون المخبرين عن الغيب والأطبّاء. والنبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) واجه قومه بلغة البيان التي أعجزتهم عن مجاراتها، بحيث ورد أنَّه عندما نزلت بعض سور القرآن الكريم فإنَّ قريشاً استحيوا من القصائد المعلَّقات التي كانت علىٰ جدار الكعبة، والتي كانوا يعتبرونها القمَّة في البلاغة والفصاحة وأداء المعنىٰ وجزالة الأُسلوب، فأنزلوها لما رأوا من بلاغة تلك السور، وخوفاً من الفضيحة(2).
وهكذا واجههم بقوَّة السيف الرحيمة، فرغم أنَّ النبيَّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) خاض ما يقرب من (82) معركة وغزوة، إلَّا أنَّه لم يقتل إلَّا أقلّ من (700)، ولم يُقتَل من أتباعه إلَّا أقلّ من (700) فقط، ومع ذلك فقد
ص: 113
انتصر انتصاراً نلمس آثاره إلىٰ يوم الناس هذا(1). وهذا ما صرَّحت به بعض الروايات الشريفة، حيث روي عن أبي يعقوب البغدادي، قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن (علیه السلام): لماذا بعث الله موسىٰ بن عمران (علیه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسىٰ بآلة الطبِّ؟ وبعث محمّداً صلّىٰ الله عليه وآله وعلىٰ جميع الأنبياء بالكلام والخُطَب؟
فقال أبو الحسن (علیه السلام): «إنَّ الله لمَّا بعث موسىٰ (علیه السلام) كان الغالب علىٰ أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجَّة عليهم. وإنَّ الله بعث عيسىٰ (علیه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات(2) واحتاج الناس إلىٰ الطبِّ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيىٰ لهم الموتىٰ، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجَّة عليهم. وإنَّ الله بعث محمّداً (صلی الله علیه و آله) في وقت كان الغالب علىٰ أهل عصره الخُطَب والكلام - وأظنُّه قال: الشعر -، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجَّة عليهم».
قال: فقال ابن السكّيت: تالله ما رأيت مثلك قطُّ، فما الحجَّة علىٰ الخلق اليوم؟
قال: فقال (علیه السلام): «العقل، يعرف به الصادق علىٰ الله فيُصدِّقه والكاذب علىٰ الله فيُكذِّبه.
قال: فقال ابن السكّيت: هذا والله هو الجواب(3).
ص: 114
إنَّ هذه الركائز الثلاثة تُمثِّل عمق الدعوة وجوهرها، وهي تُمثِّل أخصر الطرق للوصول إلىٰ (البيان) الذي هو هدف الدعوة، والمأمول أن يترتَّب علىٰ البيان امتثال الناس للدعوة. وهذا الجزء من الدعوة (الامتثال) ليس مهمَّة الأنبياء، إنَّما هي مهمَّة الناس أنفسهم، ومهمَّة عقولهم، قال تعالىٰ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ (البقرة: 272).
صحيح أنَّ مهمَّة الدعوة أُلقيت علىٰ عاتق الأنبياء والمرسلين بأمر الله تعالىٰ، وهم (علیهم السلام) أدّوا ما عليهم علىٰ أحسن وجه، ولكن ليكن معلوماً أنَّ هذه المهمَّة لا تنتهي في حدود ما عمله الأنبياء، وإنَّما هي مشروع الصالحين علىٰ هذه الأرض، فدين الله تعالىٰ لا بدَّ أن يستمرَّ، ولا بدَّ له من داعٍ يدعو إليه، والداعي إليه ليس هو فقط الأنبياء، وإنَّما هم (علیهم السلام) أسَّسوا المراحل الأُولىٰ للدعوة، وبقي علىٰ الصالحين أن يُكمِلوا المسيرة.
وحتَّىٰ يستمرَّ الصالحون بمهمَّة الأنبياء لا بدَّ أن يلتفتوا إلىٰ النقاط التالية:
1 - اتِّباع الأُسلوب ذاته الذي استعمله الأنبياء في الدعوة، مع مراعاة مقتضيات المرحلة، فاللغة لا بدَّ أن لا تقف عند اللغة العربية، وإنَّما يجب أن تتعدّاها إلىٰ بقيَّة اللغات، أي لا بدَّ من تفعيل عنصر الترجمة في هداية من لا يعرف اللغة العربية، أي إنَّ علينا أن نتواصل في طريق الهداية مع ما فعله الأنبياء، خصوصاً وأنَّ من أهمّ صفات الرسالة الإسلاميَّة هي الشمولية لكلِّ الناس، قال تعالىٰ: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ (سبأ: 28).
ص: 115
وهكذا يجب أن يكون الخطاب متوافقاً مع ما يُدركه الناس، وأن يكون مبتنياً علىٰ الركائز العلمية المتوافقة مع تقدُّم العلوم، فاستعمال الأجهزة والطرق الحديثة وهكذا الأساليب الدعائية المتطوّرة في الدعوة، هو الطريق الصحيح لهداية الناس وبيان الإسلام لهم، ومن هذا القبيل ما يقوم به العديد من العلماء الذين كشفوا عن الإعجاز العلمي الموجود في القرآن، والموضوع أطول من أن يُبحَث في هذه العجالة.
إنَّ هذا يدعونا إلىٰ التماسك وإقامة الهيئات والمؤسَّسات المتطوّرة المبتنية علىٰ الأُسس العلمية، والتي يجب أن تضمَّ كفاءات علمية وسواعد عملية تسعىٰ للدعوة إلىٰ الدين الحنيف.
2 - وممَّا يدفع إلىٰ ذلك ويدعو إليه، بل ويوجبه، هو ما نراه من حملات دعائية وإعلامية وبشتّىٰ الوسائل للتقليل من تأثير الإسلام في نفوس الناس، ومن عمل دؤوب لنشر برامج الشيطان، فقادة الغرب اليوم يدعون إلىٰ تدمير الإسلام وإبادة أهله، وعلىٰ هذا شواهد كثيرة(1):
أ - عندما دخلت إسرائيل القدس عام (1967م)، تجمهر الجنود حول حائط المبكىٰ، وأخذوا يهتفون مع موشي دايان: (هذا يوم بيوم خيبر، يا لثارات خيبر، حطّوا المشمش عالتفاح، دين محمّد ولّىٰ وراح، محمّد مات، خلَّف بنات).
ب - ويقول غلادستون - رئيس وزراء بريطانيا سابقاً -: (ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أُوروبا السيطرة علىٰ الشرق).
ص: 116
ج - ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرىٰ مرور مائة سنة علىٰ استعمار الجزائر: (إنَّنا لن ننتصر علىٰ الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلَّمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم).
وعقيب هذه التصريحات حدثت حادثة لطيفة:
فمن أجل القضاء علىٰ القرآن في نفوس شباب الجزائر قامت فرنسا بتجربة عملية، وقامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية وألبستهن الثياب الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود، هيَّأت لهنَّ حفلة تخرُّج رائعة، دُعي إليها الوزراء والمفكِّرون والصحفيون...، ولمَّا بدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهنَّ الإسلامي الجزائري...، فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟ فأجاب لاكسوت - وزير المستعمرات الفرنسي -: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوىٰ من فرنسا!؟
د - يقول بن غوريون - رئيس وزراء إسرائيل سابقاً -: (إنَّ أخشىٰ ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمّد جديد).
ﻫ - يقول غاردنر: (إنَّ الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنَّها كانت لتدمير الإسلام).
و - يقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): (إنَّ الديانة المحمّدية جذام تفشّىٰ بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هو مرض مريع وشلل عامٌّ، وجنون ذهولي...، وما قبر
ص: 117
محمّد إلَّا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، فيأتون بمظاهر الصرع والذهول العقلي إلىٰ ما لا نهاية، ويعتادون علىٰ عادات تنقلب إلىٰ طباع أصيلة، ككراهة لحم الخنزير والخمر والموسيقىٰ، إذ الإسلام كلُّه قائم علىٰ القسوة والفجور في اللذّات...، وأعتقد أنَّ من الواجب إبادة خمس المسلمين، والحكم علىٰ الباقين بالأشغال الشاقَّة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر محمّد وجثَّته في متحف اللوفر...).
3 - وممَّا يُشجِّع علىٰ ضرورة الدعوة وإحياء مهمَّة الأنبياء، هو الجزاء العظيم الذي ادَّخره الله تعالىٰ لمن يهدي الناس إلىٰ دينه القويم.
سُئِلَ الإمام الصادق (علیه السلام) عن قوله تعالىٰ: ﴿... وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ...﴾ [المائدة: 32]، فقال: «من أخرجها من ضلال إلىٰ هدىٰ فكأنَّما أحياها، ومن أخرجها من هدىٰ إلىٰ ضلال فقد قتلها»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله) لرجل سأله أن يوصيه: «وادعُ الناس إلىٰ الإسلام، واعلم أنَّ لك بكلِّ من أجابك عتق رقبة من ولد يعقوب»(2).
في يوم من الأيّام بعث الرسولُ الأكرم (صلی الله علیه و آله) أميرَ المؤمنين (علیه السلام) إلىٰ اليمن، فقال له آنذاك: «يا عليُّ، لا تقاتلن أحداً حتَّىٰ تدعوه، وأيم الله، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا عليُّ»(3).
ص: 118
لا يحتاج أحد بعد سماع هذا الحديث والأحاديث السابقة أن يتساءل عن عظمة ثواب هداية الناس، ولكن المشكلة تكمن في دعوىٰ، يُطبِّل لها البعض بأفعالهم وأقوالهم، إذ يقولون: إنَّ الأخلاق والطباع والعقائد غير قابلة للتغيير، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولاً علىٰ الشرِّ، فهو يُولَد شرّيراً ويبقىٰ شرّيراً، ولسان حاله يقول:
إذا كان الطباع طباع سوءٍ *** فلا أدب يفيد ولا أديبُ(1)
وأنت إذا تأمَّلت في هذه المقولة لوجدتها تدعو بصراحة إلىٰ توقيف وإلغاء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلىٰ إلغاء مبدأ التناصح بين المؤمنين، وتدعو إلىٰ مبدأ (عيسىٰ بدينه وموسىٰ بدينه) كما يُعبِّر العرف العامّ!
وهذه الدعوة تلغي أهمّ هدف من أهداف البعثات السماوية للأنبياء والمرسلين، وهي هداية الناس المنحرفين وإرجاعهم إلىٰ طريق القويم.
وعلىٰ كلِّ حالٍ فهذه الشبهة باطلة، وهناك الكثير من الأدلَّة علىٰ إمكانية التغيير، نذكر منها:
1 - لقد بات واضحاً أنَّ الإنسان استطاع بطريقة وبأُخرىٰ ترويض الحيوانات الوحشية لتطيع أوامره ولتؤدّي أعمالاً هي غاية في الأُلفة والسلام، بحيث إنَّها بعيدة جدّاً عن التصرّفات التي جُبِلَت عليها تلك الحيوانات.
ص: 119
أفهل الحيوان عديم العقل أفضل حالاً من الإنسان صاحب جوهرة العقل الملكوتية!؟
وأكثر من ذلك، نجد الإنسان قد عالج بعض النباتات المثمرة بعملية تُسمّىٰ علمياً بالتطعيم، لينتج شجرة من نوع جديد تُعطي ثمراً يختلف عن ثمرة الشجرة الأصل! أفلا يكون قادراً علىٰ تغيير الإنسان من الأسوأ إلىٰ الأحسن!؟
2 - إنَّ التاريخ والواقع شاهدان علىٰ أنَّ كثيراً من الأفراد الذين كانوا لا يرعون إلّاً ولا ذمَّةً، عتاة مردة، لا يعيرون للأخلاق أيَّ أهمّية، وإذا بهم وعلىٰ إثر حادث ما تنقلب أحوالهم ليكونوا من الزهّاد والعبّاد، وليس بعيداً عنك قصَّة بشر الحافي(1)، ولا توبة الفضيل بن عياض(2)، ولا أوبة مالك بن دينار(3).
ص: 120
ص: 121
وقصص التوّابين أكثر من أن يُذكر لها شاهد واحد.
وهذا إن دلَّ علىٰ شيء، فإنَّما يدلُّ علىٰ إمكانية تغيير الأخلاق، إذ الوقوع أدلُّ دليل علىٰ الإمكان.
3 - إنَّ من أهمّ أهداف الأنبياء هي تزكية أخلاق الناس وهدايتهم، ولو كانت الأخلاق لا تتغيَّر، فهل تتوقَّع من الله تعالىٰ - وهو الحكيم - أن يُرسِل الأنبياء عبثاً لتغيير أخلاق الناس!؟ حاشا وكلَّا.
وما حال العرب قبل مجيء النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وتغيُّره إلىٰ ما بعد مجيئه (صلی الله علیه و آله) إلَّا دليل علىٰ ذلك. وما ألطف ما تكلَّم به جعفر بن أبي طالب (رضوان الله تعالىٰ عليه) مع ملك الحبشة في ذلك، حيث قال له:
(أيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويُّ منّا الضعيفَ، فكنّا علىٰ ذلك حتَّىٰ بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلىٰ الله لنُوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنّا
ص: 122
نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...، فصدَّقناه، وآمنا به، واتَّبعناه علىٰ ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نُشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا)(1).
وهذا ما بيَّنته الزهراء (علیها السلام) في خطبتها حيث قالت: «... وكنتم علىٰ شفا حفرة من النار، مذقة(2) الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق(3)، وتقتاتون القدَّ(4)، أذلَّة خاسئين، تخافون أن يتخطَّفكم الناس من حولكم...»(5).
4 - هناك الكثير من الآيات القرآنية الدالَّة علىٰ أنَّ الإنسان قادر علىٰ تغيير خصاله واختيار الأخلاق الحسنة، يقول تعالىٰ: ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 7 فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9 وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 10﴾ (الشمس: 7 - 10).
(... فالتعبير بكلمة ﴿دَسَّاها﴾ والتي هي في الأصل بمعنىٰ خلط الشيء بشيء آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه، مثل دسِّ الحنطة بالتراب، يُبيِّن لنا أنَّ الطبيعة الإنسانية مجبولة علىٰ الصفاء والنقاوة
ص: 123
والتقوىٰ، والتلويث والرذائل تعرض عليها من الخارج وتنفذ إليها، والاثنان قابلان للتغيير والتبدُّل...)(1).
5 - الروايات الكثيرة الدالَّة علىٰ إمكانية تغيير الأخلاق، كقول النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله): «إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق»(2)، وقوله لجرير بن عبد الله: «إنَّك امرؤٌ قد أحسن الله خَلْقك فأحسن خُلُقك»(3).
أوَّلاً: أنَّ التغيير ضرورة لكلِّ إنسان وفي كلِّ مجالات الحياة، والتغيير يُمثِّل رغبة كاملة في نفس كلِّ إنسان. هذا كلُّه بالاتِّفاق من الناحية النظرية.
ولكن التغيير عملية صعبة، وأصعب ما فيها ليس هو الإمكانيات والفرص والمواهب، بل أصعب ما فيها هو التوفُّر علىٰ الإرادة للتغيير، فلو أراد الإنسان فعل شيء صعب جدّاً، فإنَّ إرادته تزيح الجبال. وقد أشار الإمام الصادق (علیه السلام) إلىٰ قوَّة الإرادة بقوله (علیه السلام): «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(4).
إلَّا أنَّنا ربَّما نجد أنَّ كثيراً من عمليات التغيير تحصل كردَّة فعل لحادثة أو مشكلة أو فقدان عزيز. وفرق بين التغيير الحاصل من ردَّة فعل والحاصل من إرادة قويَّة، فالأوَّل قد يتراجع عنه الإنسان إذا خفَّت ردَّة الفعل، حتَّىٰ في مسألة الإيمان والإسلام.
ص: 124
ومعه، فيكون من أهمّ ما يجب أن يدعو إليه الداعي هو توفير القرار الحازم والمحاولة المستمرَّة الجادَّة في من يُراد تغييره، إذ هذان العنصران هما طريق التغيير.
في لقاء تلفزيوني مع فقير أمريكي صار مليونيراً، سُئِلَ عن سبب غناه، فقال: أنا عملت أمرين، وأيُّ واحد يفعلهما سيصير مليونيراً، وهما: أنّي قررت أن أصبح مليونيراً، ثمّ حاولت ذلك بجدٍّ واستمرار.
ثانياً: التغيير المادّي أسهل من التغيير الفكري، وهذا يعني توجيه الجهود إلىٰ تغيير الفكر. أمَّا التغيير المادّي فإنَّه سهل، فالبناية تُهدَم وتُبنىٰ من جديد، وسيّارة جديدة تشتريها، وهكذا لمَّا تُربّي ابنك وفق مبدأ الضرب والصياح، تجده يخاف منك ويحترمك مادّياً، أي فقط إذا أحسَّ بوجودك قربه، ولكنَّه في اللحظة التي تغيب فيها فإنَّه سيخالفك بالقول والفعل.
ولذا فالنبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) غيَّر الفكر، وصبَّ جهوده علىٰ هذا الجانب أكثر من أيِّ جانب آخر.
ومن هنا ذكر العلماء أنَّ من الحِكَم المرجوَّة من طول غيبة الإمام المهدي (علیه السلام) هو أنَّ الغيبة فرصة مهمَّة جدّاً لتغيير الفكر والعقيدة، حتَّىٰ إذا ما وصل الناس عموماً إلىٰ مستوىٰ فكري متكامل نوعاً ما، بحيث يمكنه تقبُّل الأُطروحة المهدوية، آنذاك نحصل علىٰ مؤشِّر مهمٍّ من مؤشِّرات قرب الظهور. وفي هذا دافع لمحبِّ المهدي (علیه السلام) نحو ممارسة التغيير الفكري، بما يعمل علىٰ تسهيل وتعجيل عملية الظهور.
ثالثاً: أنَّ الطموحين والمثقَّفين لديهم استعداد للتغيير أكثر من غيرهم(1)، أمَّا غير الطموح وغير المثقَّف فإنَّه يرزح تحت وطأة الواقع
ص: 125
ويرضىٰ به. والأُمم تأخذ وقتاً كبيراً وطويلاً إلىٰ أن تصل إلىٰ القمَّة، ولكنَّها لا تحتاج إلَّا إلىٰ وقت قصير لكي تنهار، إلَّا ما حدث في الإسلام، فإنَّه في فترة قصيرة وصل إلىٰ القمَّة، وعندما انهار أخذ وقتاً طويلاً حوالي (800) سنة حتَّىٰ انهار، لأنَّ الحضارة الإسلاميَّة قوَّتها ليس في رجالها بقدر قوَّتها بنفس منهجها المتوافق مع العقل وطبيعة البشر والتكنولوجيا والتقدُّم والحضارة والمدنية. أمَّا الغرب فعندما أراد أن ينهض فإنَّه تصادم مع الكنيسة! فالإسلام يحمل في ذاته التوافق بين الدين والدنيا.
فإذا تواجد أصحاب الفكر بكثرة، فهذا يرسم صورة للاطمئنان بالتقدُّم والحضارة.
واليوم بدأ الإسلام بالصعود، وليس معنىٰ الصعود هو الحصول علىٰ الحكم والتكنولوجيا، كلَّا، بل إنَّ تقدُّم الفكر والسياسة هي آخر ما ينضج. اليوم بدأ الفكر الإسلامي يغزو العالم.
والفكر يزداد بالحوار، فكلَّما حاورت إنساناً تعلَّمت شيئاً زائداً، خصوصاً إذا كان المحاور مخالفاً لفكري.
وهكذا الاحتكاك بالمتميِّزين، يزيد من قوَّة الفكر.
رابعاً: أعظم التغيير هو ما ينبع من داخل النفس البشرية، من التأمُّل والنظر والتفكُّر، فحاول تحريك النفس للتأمُّل، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ 191﴾ (آل عمران: 191).
ولذا فإنَّ التغيير الحقيقي إنَّما يبدأ من النفس، وما مهمَّة الداعي
ص: 126
إلَّا تمهيد الأرضية المناسبة للتغيير، يقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
فمهمَّة الداعي شبيهة بمهمَّة الزارع، فهو يلقي البذور بعد أن يُهيِّئ الأرض الصالحة للزراعة، ويسقيها بالماء، ولكن الذي يُنبِت الزرع هو الله تعالىٰ، فمقدّمات الزرع عليك، والباقي علىٰ الله تعالىٰ. وهكذا مهمَّة التغيير، مقدّماتها عليك، والباقي يبقىٰ لإرادة الإنسان وتوفيق الباري تعالىٰ.
ولا يعني هذا تخلّي الداعي عن مهمَّته، بل تبقىٰ مهمَّة توفير الأرضية المناسبة للتغيير من أعظم الطرق للتغيير، ولذا تجد الأنبياء والأئمَّة ما تخلّوا عن مهمَّتهم حتَّىٰ مع قلَّة المتغيِّرين.
خامساً: ليس مهمّاً الكمُّ الكبير الذي يُرجىٰ هدايته، بل المهمُّ أن يعمل الداعي وفق ما يُمليه عليه تكليفه الشرعي، فإن وافق هذا هداية أكبر عدد ممكن فبها ونعمت، وإلَّا، ففي دعوات الأنبياء لنا أُسوة، فهذا النبيُّ نوح (علیه السلام) رغم طول مهمَّته التبليغية، ولكن ﴿ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ 40﴾ (هود: 40)، وهم ثمانية(1)، وروي أنَّهم ثمانون في أكثر الاحتمالات(2).
وهذا النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) اكتفىٰ بهداية رجل واحد في سفرة كادت تؤدّي بحياته! فقد روي أنَّه لمَّا مات أبو طالب خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحده إلىٰ الطائف يلتمس ثقيف النصرة والمنعة له من قومه، فروىٰ
ص: 127
محمّد بن أحمد، عن يزيد بن زياد، عن محمّد بن كعب القرظي، قال: لمَّا انتهىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحده إلىٰ الطائف عمد إلىٰ نفر من ثقيف هم يومئذٍ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبدياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلىٰ الله تعالىٰ، وكلَّمهم بما جاءهم له من نصرته علىٰ الإسلام، والقيام معه علىٰ من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالىٰ أرسلك، وقال الآخر: أمَا وجد الله أحد يُرسِله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أُكلِّمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب علىٰ الله ما ينبغي لي أن أُكلِّمك... وأغرّوا به سفهاءهم وعبيدهم يُسبّونه ويصيحون به، حتَّىٰ اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلىٰ حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف.
... فلمَّا اطمئنَّ رسول الله، قال: «اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني علىٰ الناس، أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلىٰ من تكلني، إلىٰ بعيد يتجهَّمني أو إلىٰ عدوٍّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلَّ عليَّ سخطك، لك العتبىٰ حتَّىٰ ترضىٰ، لا حول ولا قوَّة إلَّا بك».
فلمَّا رأىٰ أبناء ربيعة ما لقي تحرَّكت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له: عداس. فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثمّ اذهب به إلىٰ ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل
ص: 128
عداس، ثمّ أقبل به حتَّىٰ وضعه بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلمَّا وضع رسول الله يده قال: «بسم الله»، ثمّ أكل، فنظر عداس إلىٰ وجهه، ثمّ قال: والله، إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله: «ومن أيِّ أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟»، قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوىٰ. فقال له رسول الله: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّىٰ»، قال له: وما يُدريك ما يونس بن متّىٰ؟ قال له رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيّاً وأنا نبيٌّ»، فأكبَّ عداس علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقبَّل رأسه ويديه ورجليه.
قال: فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه: أمَّا غلامك فقد أفسده عليك. فلمَّا جاءهم عداس، قالا له: ويلك يا عداس ما لكَ تُقبِّل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه؟ قال: يا سيِّدي، ما في الأرض خيرٌ من هذا...(1).
ليس من الحكمة أن نتَّخذ طريقة واحدة في الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ، ذلك لأنَّ أذواق الناس مختلفة، فالناس تختلف في نوع الأكل الذي يُفضِّلونه، وفي اللون الذي يُعجِبهم، وفي نوع القماش الذي يلبسونه، في كلِّ شيء هناك اختلاف وتفاوت. ومن ذلك أيضاً هناك تفاوت في ما يتعلَّق بأُسلوب القناعة الفكرية والعقائدية، فالبعض يقتنع بالدليل العقلي الفلسفي، والبعض يقتنع بالدليل الفطري، البعض يقتنع بالدليل الساذج، البعض يقتنع بعقيدة ما لأنَّ شخصاً محبوباً له قد اعتنق تلك العقيدة، أو لأنَّ شعار تلك العقيدة يتناسب مع مصالحه.
ص: 129
ولذلك فمن الحكمة أن تكون للدعاة إلىٰ الله تعالىٰ طرق متعدِّدة يستعملونها في نقل العقيدة للناس وهدايتهم إلىٰ الصراط المستقيم، ويمكن أن نستلخص عدَّة طرق لهداية الناس من تربويات الإسلام، وهي:
فمن الناس من لا يقتنع بأدلَّة فطرية تحاكي فطرة الإنسان التي فطر الله تعالىٰ الناس عليها، وإنَّما يكون منغمساً بالأدلَّة العقلية و(الأكاديمية)، فهذا يحتاج إلىٰ أدلَّة هو يقتنع بها حتَّىٰ نجعله يُصدِّق بمقولات الدين، فمثلاً كان الكندي غير معترف بعصمة القرآن الكريم، ولكن استطاع الإمام العسكري (علیه السلام) بكلمة بسيطة أن يجعله يقرُّ بذلك، إذ روي أنَّ إسحاق الكندي الذي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرَّد به في منزله، وأنَّ بعض تلامذته دخل يوماً علىٰ الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد (علیه السلام): «أمَا فيكم رجل رشيد يردع أُستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟»، فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد: «أتؤدّي إليه ما أُلقيه إليك؟»، قال: نعم، قال: «فصر إليه وتلطَّف في مؤانسته ومعونته علىٰ ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقال: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنَّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلِّم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلَّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنَّك ذهبت إليها؟ فإنَّه سيقول لك: إنَّه من الجائز، لأنَّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلَّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».
ص: 130
فصار الرجل إلىٰ الكندي وتلطَّف إلىٰ أن ألقىٰ عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأىٰ ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلَّا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنَّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلَّا، ما مثلك من اهتدىٰ إلىٰ هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمّد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلَّا من ذلك البيت، ثمّ إنَّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألَّفه(1).
وقد كان هذا الدليل ملاذاً للكثير من أهل الشكِّ، فقد يؤمن أحدنا ولكن يبقىٰ قلبه يُشكِّك في الحقائق، فيحتاج إلىٰ ما يثير فيه فطرته ليوقظ عقله إلىٰ الحقيقة.
قال رجل للإمام الصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله، دلَّني علىٰ الله ما هو!؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني، فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطُّ؟»، قال: نعم، قال: «فهل كُسِرَ بك حيث لا سفينة تُنجيك ولا سباحة تُغنيك؟»، قال: نعم، قال: «فهل تعلَّق قلبك هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر علىٰ أن يُخلِّصك من ورطتك؟»، فقال: نعم، قال الصادق (علیه السلام): «فذلك الشيء هو الله القادر علىٰ الإنجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الإغاثة حيث لا مغيث»(2).
وعن عبد الله بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجلاً مبتلىٰ بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله
ص: 131
(علیه السلام): «وأيُّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟»، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سَلْه هذا الذي يأتيه من أيِّ شيء هو؟ فإنَّه يقول لك: من عمل الشيطان»(1).
من المعلوم أنَّ الله تعالىٰ سمح للمسلمين بأن يعطوا قسماً من زكاتهم إلىٰ الكفّار الذين يُرجىٰ من إعطائهم المال تقريبهم للإسلام، إذ البعض منهم يميل إلىٰ الدين الذي يغدق عليه الأموال، ولأنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّ أن يهتدي جميع عبيده، سمح للمسلمين بذلك.
ومن هذا القبيل روايات كثيرة وردت عن أهل البيت (علیهم السلام)، ومنها: ما روي أنَّ رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسىٰ (علیه السلام) ويسبُّه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشدّ الزجر، وسأل عن العمري، فذكر أنَّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب، فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطَّأه أبو الحسن (علیه السلام) بالحمار، حتَّىٰ وصل إليه، فنزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟»، قال: مائة دينار، قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟»، قال: لست أعلم الغيب، قال: «إنَّما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟»، قال: أرجو فيه مائتي دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن (علیه السلام) صرَّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك علىٰ حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو»، قال: فقام العمري، فقبَّل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسَّم إليه أبو الحسن وانصرف.
ص: 132
قال: وراح إلىٰ المسجد، فوجد العمري جالساً، فلمَّا نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، قال: فوثب أصحابه إليه، فقالوا له: ما قصَّتك؟ قد كنت تقول غير هذا، قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن (علیه السلام)، فخاصموه وخاصمهم، فلمَّا رجع أبو الحسن إلىٰ داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيُّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت؟ إنَّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شرَّه»(1).
فبعض الناس يمرُّ عليه موقف مقدَّس، فيعاهد الله تعالىٰ علىٰ أن يفي بحقِّ هذا الموقف، فإذا ما تذكَّره أو ذكَّرته به فإنَّه سيؤوب إلىٰ ربِّه، كما إذا ذكَّرْتَ أحد العصاة بأنَّه مسلم، والمسلم من سلم الناس من يده ولسانه، وأنَّ عمله يعرض علىٰ إمامه، أفهل يرضىٰ أحد بأن يفتضح بالمعاصي أمام إمامه!؟
حدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة، قالوا: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة، فكنّا نساير الحسين (علیه السلام)، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل، فإذا سار الحسين (علیه السلام) ونزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذّىٰ من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (علیه السلام) حتَّىٰ سلَّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنَّ أبا عبد الله الحسين بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلُّ إنسان منّا ما في يده حتَّىٰ كأنَّ علىٰ رؤوسنا الطير، فقالت له امرأته: سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لو
ص: 133
أتيته فسمعت من كلامه، ثمّ انصرفت. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر فسطاطه وثقله ورحله ومتاعه، فقُوِّض وحمل إلىٰ الحسين (علیه السلام)، ثمّ قال لامرأته: «أنتِ طالق، الحقي بأهلكِ، فإنّي لا أُحِبُّ أن يصيبكِ بسببي إلَّا خير، ثمّ قال لأصحابه: من أحبَّ منكم أن يتبعني، وإلَّا فهو آخر العهد، إنّي سأُحدِّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم. فقال لنا سلمان الفارسي (رضی الله عنه): أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممَّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمَّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثمّ والله ما زال في القوم مع الحسين (علیه السلام) حتَّىٰ قُتِلَ رحمة الله عليه(1).
هذا، ولكن التذكير بالمواقف المقدَّسة ربَّما لا ينفع في بعض الأحيان، إذا كانت النفس قد توغَّلت في المعصية ونست طريق التوبة، فالزبير بن العوّام قد ذكَّره أمير المؤمنين (علیه السلام) بحادثة له مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يتب(2)، إذ إنَّ مجرَّد ابتعاده عن ساحة المعركة لا يعدُّ توبةً منه،
ص: 134
لأنَّ توبة كلِّ شخص بحسبه، وتوبته كانت تقتضي منه أن يُعلِن علىٰ رؤوس الملأ خطأه وانحراف طلحة وعائشة ومن قاتل أمير المؤمنين (علیه السلام) حتَّىٰ يهتدي بقوله بعض أتباعه، وكان المفترض عليه أن ينتقل إلىٰ صفِّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كما فعل الحرُّ بن يزيد الرياحي عندما انتقل إلىٰ صفِّ الحسين (علیه السلام) . أمَّا أن يترك الحرب فقط، فهذا ليس بتوبة.
وهذا الطريق في الحقيقة من أنجع الطرق وأكثرها استعمالاً في حياة الأنبياء عموماً والرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً.
عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: «إنَّ يهودياً كان له علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي ما عندي ما أُعطيك، فقال: فإنّي لا أُفارقك يا محمّد حتَّىٰ تقضيني، فقال (صلی الله علیه و آله): إذن أجلس معك، فجلس (صلی الله علیه و آله) معه حتَّىٰ صلّىٰ في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتهدَّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهودي يحبسك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): لم يبعثني ربّي (عزوجلّ) بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلمَّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله. أمَا والله
ص: 135
ما فعلت بك الذي فعلت إلَّا لأنظر إلىٰ نعتك في التوراة، فإنّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبد الله، مولده بمكّة ومهاجره بطيبة، وليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخاب، ولا متزيَّن بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّك رسول الله، وهذا مالي، فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان اليهودي كثير المال»(1).
وقال نصراني للإمام الباقر (علیه السلام): أنت بقر؟ قال: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطبّاخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيَّة؟ قال: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك»، قال: فأسلم النصراني(2).
صحيح أنَّ الرياء بالعمل العبادي مبطل له، ولكن إذا كان إظهار العبادة من أجل هداية الآخرين وتعليمهم دينهم فهذا أمر غير مبطل للعبادة. ومن هذا القبيل ما اشتهر في قضيَّة الإمامين الحسنين (علیهما السلام) وكيفية تعليمهما الشيخ الكبير الوضوء الصحيح.
فقد روي أنَّ الحسن والحسين (علیهما السلام) مرّا علىٰ شيخ يتوضَّأ ولا يُحسِن، فأخذا بالتنازع، يقول كلُّ واحد منهما: «أنت لا تُحسِن الوضوء»، فقالا: «أيُّها الشيخ، كن حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحد منّا سويةً»، ثم قالا: «أيُّنا يُحسِن؟»، قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يُحسِن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب علىٰ يديكما، ببركتكما وشفقتكما علىٰ أُمَّة جدِّكما(3).
ص: 136
وعن عمّار بن أبان، قال: حُبِسَ أبو الحسن موسىٰ بن جعفر [علیه السلام] عند السندي بن شاهك، فسألته أُخته أن تتولّىٰ حبسه - وكانت تتديَّن -، ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكىٰ لنا أنَّها قالت: كان إذا صلّىٰ العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتَّىٰ يزول الليل، فإذا زال الليل قام يُصلّي حتَّىٰ يُصلّي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتَّىٰ تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلىٰ ارتفاع الضحىٰ، ثمّ يتهيَّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلىٰ قبل الزوال، ثمّ يتوضَّأ ويُصلّي حتَّىٰ يُصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتَّىٰ يُصلّي المغرب، ثمّ يُصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه. فكانت أُخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرَّضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحاً(1).
فانظر كيف أنَّ عبادة الإمام الكاظم (علیه السلام) جعلت أُخت سجّانه تعترف بفضله، بل قال الشيخ عبّاس القمّي (رحمة الله) عنها: (كانت... أُخت السندي من المحبّين لأهل البيت (علیهم السلام)، وكانت تلي خدمة موسىٰ بن جعفر (علیه السلام) لمَّا كان في محبس السندي)(2).
* * *
ص: 137
ص: 138
ص: 139
ص: 140
بعد أن هيَّأ الله (عزوجلّ) في الكون كلَّ ما من شأنه أن يخدم الإنسان في وصوله إلىٰ هدفه، وبعد أن ركَّب فيه عقلاً يُفكِّر به ويُدرك ويُحلِّل المعلومات ويعرف النافع من الضارِّ، وأيضاً به استطاع بناء حضارته، وأتمَّ ذلك له بإرسال الأنبياء الذين ما قصَّروا في أداء ما عليهم من مهمَّة هداية الناس، أكمل الله تعالىٰ لطفه ورحمته بالناس بأن أنزل لهم شريعةً ودستوراً يساعدهم في المسير نحو الهدف بكلِّ وضوح، فالشريعة هي أشبه بالعلامات التي تُوضَع علىٰ الطريق لتدلَّ المسافر علىٰ وجهته وهدفه، وهذا هو معنىٰ هداية التشريع.
إنَّها باختصار بمعنىٰ سنِّ القانون وجعل الأحكام والآداب والسنن، ليتمكَّن الذي جروا علىٰ مقتضىٰ العقل وقبلوا دعوة الدعاة الربّانيين من سلوك ما أمر به النبيُّ.
والدليل علىٰ هذا المعنىٰ قوله تعالىٰ: ﴿الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ 2﴾ (البقرة: 1 و2).
وقوله تعالىٰ: ﴿وَإِذْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 53﴾ (البقرة: 53).
والآيات كثيرة في هذا الجانب.
وحتَّىٰ تتَّضح الهداية هنا أكثر نذكر عدَّة نقاط:
النقطة الأُولىٰ: تقدَّم أنَّ المعنىٰ الثالث للهداية هي هداية الدعوة، والتي تعني أنَّ هناك عقلاً منفصلاً يفتح طريق التكامل للإنسان ويُحذِّره
ص: 141
من عقبات الطريق، وهذا المعنىٰ الرابع (هداية التشريع) هو في الحقيقة معنىٰ مكمِّل لهداية الدعوة، وبعبارة واضحة: إنَّ التشريع هو جزء من مهامِّ الداعي والدعوة الإلهيَّة.
فالسماء تدخَّلت وضخَّت لنا شريعة متكاملة لتنظيم علاقات الفرد المختلفة (الأُفقية والعمودية)، ولم تترك الأمر إلىٰ تجربة الإنسان وقدراته الذهنية، أي إنَّها اختصرت الطريق كثيراً علىٰ الإنسان في إصدار وثيقة دستورية لتنظيم كلِّ مفردات الحياة، وهنا تكمن الهداية واللطف الذي يُقرِّب الإنسان من الطاعة ويُبعِّده عن المعصية.
النقطة الثانية: وقد يسأل البعض: لماذا لم تترك السماء أمر التشريع لتجربة الإنسان وعقله؟ فإنَّه وبالتجربة استطاع أن يخترع ويكتشف الكثير من الأُمور علىٰ طول خطِّ وجوده، خصوصاً وأنَّ نظام الحياة قائم علىٰ أساس (الاختيار الإنساني) الذي أسَّس للمسؤولية علىٰ الفعل؟
والجواب:
1 - بغضِّ النظر عن هذا الكلام، فإنَّه بالتالي عندما أنزلت السماء شريعة متكاملة، فإنَّها قد اختصرت الطريق علىٰ الإنسان، فلم تتركه يتجشَّم عناء البحث والتجربة والوقوع في الأخطاء المتكثِّرة والمتتالية، والتي لا يُعلَم متىٰ سيصل من خلال تلك التجربة إلىٰ تشريع يضمن حقوق الجميع ولا يعتدي علىٰ أحد(1).
ص: 142
2 - إنَّ هذا الكلام يستبطن القول بأنَّه لا ضرورة للتشريع السماوي، ولو سلَّمناه، فإنَّه لا ينفي حُسْنَ الشريعة علىٰ كلِّ حالٍ، فسواء كان التشريع ضرورياً أو لا، فإنَّه وبلا شكٍّ حَسَنٌ علىٰ كلِّ حالٍ، كيف، ونحن نرىٰ أنَّ التجربة الإنسانية قد تأخذ مئات السنين حتَّىٰ تصل إلىٰ قضيَّة تخدم المجتمع، فقد تأخذ آلاف السنين لتنتج شريعة تعالج جميع مشاكل الحياة وتُعطي الحلول الناجعة من دون محاباة ولا تأثير الظرف المعاش ولا الأمزجة المختلفة، فعندما تبرَّعت السماء ومنَّت بشريعة متكاملة، لا شكَّ أنَّ هذا أمر حسن ومحبوب بحكم العقل، حتَّىٰ لو قلنا جدلاً بأنَّه ليس ضرورياً.
3 - وقد يكون في ذلك السؤال إثارة تستهدف القول بأنَّ الشريعة تسلب اختيار الإنسان، فإن كان كذلك فالجواب هو: أنَّ الشريعة ألزمت الأفراد باتِّباعها تشريعاً لا تكويناً، ممَّا يعني أنَّها لم تسلب اختيار الإنسان. وما زال نظام الحياة قائماً علىٰ الاختيار الإنساني، ولذلك ما زال الإنسان مسؤولاً عن فعله، بل إنَّ الشريعة أكَّدت مسؤولية الإنسان أكثر وأكثر، عندما صرَّحت النصوص الكثيرة بذلك.
قال تعالىٰ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38﴾ (المدَّثِّر: 38).
وقال تعالىٰ: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعىٰ 35﴾ (النازعات: 35).
وقال تعالىٰ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39 وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ 40 ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفىٰ 41﴾ (النجم: 39 - 41).
ص: 143
4 - وهذا جواب دقيق يحتاج إلىٰ تأمُّل، وهو:
قالوا: إنَّ المرجعيات العلمية والأدلَّة والحجج هي: العلم - أي القطع والجزم واليقين -، والأمارة - مثل خبر الواحد -، والأصل العملي - وهو الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير -.
وهذه الحجج ليست علىٰ مستوىٰ واحد من الحجّية، فالقطع يأتي في الدرجة الأُولىٰ، لأنَّ حجّيته ذاتية لا جعلية، ثمّ الأمارة، ثمّ الأصل العملي الذي موضوعه الشكّ، وحجّيتهما جعلية لا ذاتية.
الملاحظة المهمَّة هنا هي: أنَّه لا بدَّ في الحجج وفي أيِّ وسيلة إثبات أُخرىٰ أن تنتهي صعوداً إلىٰ وسيلة إثبات لا تقبل الشكَّ ولا النقيض، بأن تكون مضمونة الحقّانية والتطابق مع الواقع، فتكون هي المرجع لغيرها من الحجج، فينقطع التسلسل.
لذلك قالوا بأنَّ النظري لا بدَّ أن يرجع إلىٰ البديهي الذي لا يحتاج إلىٰ استدلال، بل لا بدَّ أن نصل إلىٰ مستوىٰ من البداهة بحيث لا يقبل الإثبات، لأنَّه لا يوجد شيء أوضح وأعرف وأبين منه ليُثبِته، فلا بدَّ من الوصول إلىٰ الضمان الذاتي بالمطابقة للواقع، بحيث لا يمكن النهي عنه أو نقضه، وإلَّا لانتهينا إلىٰ السفسطة، فإنَّ القول بأنَّ كلَّ ما في الوجود هو مشكوك الوجود، هو السفسطة بعينها.
إذن، لا بدَّ من الوصول إلىٰ بديهي أوَّل، وحجَّة أرقىٰ بتمام معنىٰ الكلمة، بحيث لا يقبل النقاش ولا الرأي الآخر، لأنَّه مطابق للواقع والحقِّ (100%)، فيكون مرجعاً لكلِّ النظريات الأُخرىٰ.
إذا تبيَّن هذا نقول: إنَّ النبيَّ عندما يأتي بشريعة معيَّنة من السماء، فهذا يُمثِّل البديهة الأُولىٰ التي لا تقبل النقاش، فلا معنىٰ لتخطئته أو
ص: 144
حتَّىٰ تصويبه آنذاك، لأنَّ التخطئة والتصويب مساحتها النظريات، أمَّا البديهة الأُولىٰ فهي مطابقة للواقع تماماً. أو قل: إنَّ التخطئة والتصويب محلُّها عالم الإثبات والحجج، والنبوَّة تُمثِّل عالم الثبوت والواقع.
ومعه، فلا معنىٰ للنقاش في ضرورة النبوَّة والشريعة أو عدم ضرورتها، فإنَّ ضرورتها مفروغ عنها، لأنَّها تُمثِّل البديهة الأُولىٰ. وهذا معناه أنَّنا نعتقد أنَّ المعصوم عموماً ليس مجرَّد طريق للواقع، بل هو الواقع بعينه.
النقطة الثالثة: وقد اتَّضح من الجواب الرابع أمر فكري، وهو: أنَّه ليس مهمّاً في التنمية الفكرية وغيرها أن يكون باب السؤال والتخطئة مفتوحاً باستمرار، بل يمكن أن تكون التنمية مأخوذة من (معصوم) لا يخطئ، فوجود المعصوم لا يُغلِق باب التنمية أبداً، وفي نفس الوقت لا يسلب الاختيار، ولا يُحوِّلنا إلىٰ متلقّين فقط، بل ما زال الاختيار الإنساني موجوداً، وما زال باب التفكير والإنتاج الجديد مفتوحاً، ولكن المعصوم يُمثِّل البديهة التي يُرجَع إليها عند إرادة الاستدلال علىٰ حقّانية أو عدم حقّانية فكرة معيَّنة.
وهذا واحد من المعاني التي أشارت إليها الروايات التي ذكرت بأنَّ أيَّ حقٍّ عند الناس فإنَّه مأخوذ من أهل بيت العصمة.
فعن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، وإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطاء منهم والصواب من عليٍّ (علیه السلام) »(1).
وعن زرارة، قال: كنت عند أبي جعفر (علیه السلام) فقال له رجل من
ص: 145
أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «سلوني عمَّا شئتم، فلا تسألوني عن شيء إلَّا أنبأتكم به»، قال: «إنَّه ليس أحد عنده علم شيء إلَّا خرج من عند أمير المؤمنين (علیه السلام)، فليذهب الناس حيث شاؤوا، فوَالله ليس الأمر إلَّا من هاهنا - وأشار بيده إلىٰ بيته -»(1).
وعن أبي مريم، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام) لسَلَمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرِّقا وغرِّبا، فلا تجدان علماً صحيحاً إلَّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(2).
والضلال في هذه المرحلة من العبد أيضاً، لأنَّه تعالىٰ لم يترك أُمَّة من دون قانون وميزان وتكليف.
نعم، شاء الله تعالىٰ أن لا يجبر عبده علىٰ التزام القانون إذا أراد ذلك العبد - باختياره - عدم الالتزام، وهذه ضلالة غير قبيحة علىٰ الله تعالىٰ، بل الهداية بالجبر فيها نقض للغرض الإلهي من خلقة الإنسان، إذ الحكمة هي اختبار العبد بالاختيار.
وهذا هو معنىٰ ما تقدَّم من أنَّ السماء تُلزم العبد تشريعاً لا تكويناً، فالله تعالىٰ لا يجبر عبداً علىٰ أن يلتزم الشريعة بحيث يسلب اختياره، كلَّا، بل هو إلزام تشريعي، تبقىٰ إرادة الإنسان محفوظة فيه بتمام معنىٰ الكلمة(3).
ص: 146
لا شكَّ أنَّ تشريع الأحكام وسنَّ القوانين لهو من الضرورة بمكان، وفي نفس الوقت يُمثِّل عنصراً مهمّاً من عناصر تكوين أيِّ دولة يُراد لها النجاح. وبالتالي، يُمثِّل القانون - أو قل: الدستور - ضرورة ملحَّة، وفي نفس الوقت مهمَّة خطرة، علىٰ أحدٍ ما القيام بها.
والإسلام واضح المنهج في هذا الجانب، فالمقنِّن والواضع للدستور هو الله تعالىٰ بلا منازع، وقد أنزل القرآن الكريم الذي يُمثِّل القانون الأهمّ في الدولة الإسلاميَّة، وفيه يذكر تعالىٰ أنَّ من له حقُّ التشريع هو الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ﴿... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 40﴾ (يوسف: 40).
وهذا من الوضوح بمكان، ولكن السؤال هنا: هل يحقُّ لأحد غير الله تعالىٰ أن يقوم بعملية التشريع، فيأمر بشيء أو ينهىٰ عن آخر؟
هذا السؤال كان مدار البحث بين العلماء، وخلاصة ما يمكن أن يقال هنا:
إنَّه لا بدَّ أن نبحث مسألة مهمَّة في هذا المجال، إذا فهمناها أمكننا أن نجيب عن ذلك السؤال بكلِّ صراحة، تلك المسألة هي:
ما هو الملاك في تشريع الأحكام؟ أي ما هو الأساس الذي يعتمده الباري جلَّ وعلا في تشريعه للأحكام؟
والجواب: حيث إنَّه تعالىٰ حكيم لا يعبث، وهو غير محتاج إلىٰ عبادة أحد ولا تضرُّه معصية آخر، وحيث عَلِمَ تعالىٰ بما يصلح العباد
ص: 147
ويوصلهم إلىٰ هدفهم النهائي الأسمىٰ، كان أساس التشريع عنده تعالىٰ هو أنَّه تعالىٰ يأمر بما فيه مصلحة للعباد، وينهىٰ عما فيه مفسدة لهم، بغضِّ النظر عن أنَّ هذه المصلحة وتلك المفسدة بُيِّنت للعباد أو لا. المهمُّ أنَّنا نعرف أنَّه تعالىٰ حكيم وعادل، ولذا فمن الأكيد والمتيقَّن أنَّه تعالىٰ لا يأمر إلَّا بما فيه مصلحة، ولا ينهىٰ إلَّا عمَّا فيه مفسدة.
ومعه، فلو أمكن لأحد أن يطَّلع علىٰ المصالح والمفاسد الواقعية للأحكام، ولو كان ذلك لفرط علمه، ولو كان ذلك بسبب أنَّ الله تعالىٰ أطلعه علىٰ عالم الواقع، حينئذٍ أمكن لذلك الشخص أن يأتي بتشريع ويأمر به، أو ينهىٰ عن آخر، تماماً كما لو اطَّلع شخص علىٰ قانون سنَّه البرلمان مثلاً، ولكن البرلمان لم يُعلِنه علىٰ العامَّة بعد، فيمكن لذلك الشخص أن يأتي بذلك التشريع ويأمر به الناس، ولا ضير في ذلك، نعم، للناس أن لا يطيعوه، إلَّا إذا كان ممَّن تجب طاعته، كما هو الحال في النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) .
ولا يعني هذا أنَّ اكتشاف ملاكات الأحكام مسألة متاحة للجميع، كلَّا، بل في الحقيقة إنَّ هذا الأمر اختصَّ به الله تعالىٰ أنبياءه وأولياءه فقط، فلا يطمع أحدنا بما ليس في متناول يده، بل وفكره.
وعليه، فيمكن للنبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) أن يُشرِّع أحكاماً، إذا ما علم المصالح الواقعية للأحكام، ونفس الكلام يجري في المعصوم (علیه السلام)، ولذا وردت العديد من التشريعات عن النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، وتلك التشريعات وإن كانت جزئية لا كلّية، وإن كانت في مقام بيان الأحكام التنفيذية، ولكنَّها علىٰ كلِّ حالٍ، تكشف عن علم النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) الذي يسمح لهم
ص: 148
باكتشاف الملاكات الواقعية للأحكام(1)، وبالتالي يمكنهم إصدار الأوامر والنواهي الشرعية. وسنذكر قائمة بتلك التشريعات بعد قليل.
وهناك العديد من النصوص التي تدلُّ بوضوح علىٰ أنَّ حقَّ التشريع قد ثبت للنبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فعن الباقرين (علیهما السلام)، قالا: «إنَّ الله فوَّض إلىٰ نبيِّه أمر خلقه، لينظر كيف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]»(2).
وعن أبي إسحاق النحوي، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام) فسمعته يقول: «إنَّ الله (عزوجلّ) أدَّب نبيَّه علىٰ محبَّته، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4﴾ [القلم: 4]، ثمّ فوَّض إليه(3) فقال (عزوجلّ): ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 7﴾ [الحشر: 7]، وقال (عزوجلّ): ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]».
ص: 149
قال: ثمّ قال: «وإنَّ نبيَّ الله فوَّض إلىٰ عليٍّ وائتمنه، فسلَّمتم وجحد الناس، فوَالله لنُحِبَّكم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله (عزوجلّ)، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(1).
ومن هنا فلو شرَّع أحدهم تشريعاً وصادف أنَّه وافق المصلحة، لأمكن أن يأتي التشريع الإلهي ويُمضي ذلك التشريع ولا يلغيه، أو يُعدِّل بعض فقراته، وهذا ما يروىٰ عن عبد المطَّلب جدِّ النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، حيث نقل التاريخ عنه عدَّة تشريعات شرَّعها، وجاء الإسلام وأمضاها.
وخلاصة القول: إنَّه وإن اختصَّ حقُّ التشريع بالله تعالىٰ، ولكنَّه تعالىٰ أوكل مهمَّة التشريع في بعض الأحيان إلىٰ بعض عباده العارفين بملاكات الأحكام، فيكون تشريعهم للأحكام بالوكالة، ولا مانع من هذا.
أمَّا ما يُنقَل من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فهذه بعضها:
1 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فأضاف النبيُّ (صلی الله علیه و آله) للظهرين والعشاء ركعتين ركعتين.
ومن هنا نجد أنَّ الشكَّ في أوَّل ركعتين من كلِّ صلاة وفي صلاة المغرب مبطل لها، وأمَّا في الثالثة والرابعة من الرباعية فيمكن علاجه، وقد وضَّح هذه المسألة الإمام الباقر (علیه السلام) حين بيَّن أنَّ أوَّل ركعتين فرض من الله تعالىٰ، وهو لا يصحُّ الشكُّ فيه، وأمَّا الثالثة والرابعة فهما سُنَّة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيمكن علاجه.
ص: 150
وهكذا في السفر، تسقط الركعتان اللتان سنَّهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا يسقط الفرض الإلهي.
عن عليِّ بن مهزيار، قال: قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله (علیه السلام): ما بال صلاة المغرب لم يُقصِّر فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في السفر والحضر مع نافلتها؟ قال: «لأنَّ الصلاة كانت ركعتين ركعتين، فأضاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ كلِّ ركعتين ركعتين، ووضعها عن المسافر، وأقرَّ المغرب علىٰ وجهها في السفر والحضر، ولم يُقصِّر في ركعتي الفجر أن يكون تمام الصلاة سبع عشرة ركعة في السفر والحضر»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لمَّا عُرِجَ برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بالصلاة عشر ركعات، ركعتين ركعتين، فلمَّا وُلِدَ الحسن والحسين زاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبع ركعات شكراً لله، فأجاز الله له ذلك، وترك الفجر لم يزد فيها لضيق وقتها، لأنَّه تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، فلمَّا أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن أُمَّته ستُّ ركعات، وترك المغرب لم يُنقِص منها شيئاً، وإنَّما يجب السهو فيما زاد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فمن شكَّ في أصل الفرض في الركعتين الأُوَّلتين استقبل صلاته»(2).
2 - إنَّ الله تعالىٰ فرض في السنة صوم شهر رمضان، وسنَّ النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) صوم شهر شعبان، وثلاثة أيّام من كلِّ شهر، (والأفضل صيام أوَّل خميس منه وآخر خميس منه، وأوَّل أربعاء من العشرة الثانية منه)(3).
ص: 151
3 - إنَّ الله تعالىٰ حرَّم الخمر، وحرَّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسكر من كلِّ شراب.
4 - إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) سنَّ النوافل اليومية، فأمضاها الله تعالىٰ له.
وقد وردت رواية جامعة لهذه التشريعات النبوية، عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنَّ الله (عزوجلّ) أدَّب نبيَّه فأحسن أدبه، فلمَّا أكمل له الأدب قال: ﴿إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4﴾ [القلم: 4]، ثمّ فوَّض إليه أمر الدين والأُمَّة ليسوس عباده، فقال (عزوجلّ): ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وإنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء ممَّا يسوس به الخلق، فتأدَّب بآداب الله.
ثمّ إنَّ الله (عزوجلّ) فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ الركعتين ركعتين، وإلىٰ المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنَّ إلَّا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة.
ثمّ سنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك، والفريضة والنافلة إحدىٰ وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تُعَدُّ بركعة مكان الوتر.
وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) صوم شعبان وثلاثة أيّام في كلِّ شهر مثلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك.
ص: 152
وحرَّم الله (عزوجلّ) الخمر بعينها، وحرَّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسكر من كلِّ شراب، فأجاز الله له ذلك كلَّه.
وعاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشياءً وكرهها ولم ينَه عنها نهي حرام، إنَّما نهىٰ عنها نهي إعافة وكراهة، ثمّ رخَّص فيها، فصار الأخذ برُخَصه واجباً علىٰ العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يُرخِّص لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما نهاهم عنه نهي حرام، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم.
فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يُرخِّص فيه لأحد.
ولم يُرخِّص رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمَّهما إلىٰ ما فرض الله (عزوجلّ)، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً، لم يُرخِّص لأحد في شيء من ذلك إلَّا للمسافر.
وليس لأحد أن يُرخِّص [شيئاً] ما لم يُرخِّصه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فوافق أمرُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرَ الله (عزوجلّ)، ونهيُه (صلی الله علیه و آله) نهيَ الله (عزوجلّ) (1)، ووجب علىٰ العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالىٰ»(2).
5 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الفرائض في الإرث، ولم يَقسِم للجدِّ شيئاً، ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعمه السُّدُس.
فعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «... وإنَّ الله
ص: 153
(عزوجلّ) فرض الفرائض ولم يَقسِم للجدِّ شيئاً، وإنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعمه السُّدُس فأجاز الله جلَّ ذكره له ذلك، وذلك قول الله (عزوجلّ): ﴿هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ 39﴾ [ص: 39]»(1).
وأمَّا عن تشريعات الأئمَّة (علیهم السلام)، فلا بدَّ أن نعلم أوَّلاً أنَّه وردت روايات عديدة عنهم (علیهم السلام) ظاهرها أنَّهم لا يُشرِّعون أبداً، وأنَّه لا حقَّ لهم في ذلك.
فعن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «يا جابر، إنّا لو كنّا نُحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(2).
وفي رواية ثانية: «لو أنّا حدَّثنا برأينا ضللنا كما ضلَّ من كان قبلنا، ولكنّا حدَّثنا ببيِّنة من ربِّنا، بيَّنها لنبيِّه فبيَّنها لنا»(3).
وفي رواية ثالثة: «مهما أجبتك فيه من بشيء فهو عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لسنا نقول برأينا من شيء»(4).
ولكن في نفس الوقت وردت روايات أُخرىٰ تدلُّ علىٰ أنَّهم قاموا بعملية التشريع، فكيف الجمع بينهما؟
ويمكن الجمع بأنَّهم (علیهم السلام) لا يُشرِّعون تشريعاً من عند أنفسهم، وهو ما
ص: 154
عبَّر عنه الإمام الباقر (علیه السلام) بأنَّهم لو كانوا يفتون وفق أهوائهم لهلكوا، وإنَّما هم يُشرِّعون لمكان عصمتهم التي تعني فيما تعنيه علماً لدنّياً موافقاً للواقع، بمعنىٰ أنَّهم لعلمهم وعصمتهم يمكنهم أن يُحدِّدوا ويُشخِّصوا المصالح من المفاسد، ويعطوا أحكاماً موافقة للواقع، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق (علیه السلام): «فوَالله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلَّا ما قال ربُّنا»(1).
هذا بالإضافة إلىٰ أنَّه يمكن القول بأنَّ تلك الأحاديث وردت في مقام الردِّ علىٰ مدرسة الرأي(2)، تلك المدرسة التي كانت تفتي وفق الأهواء والاستحسانات الشخصية غير القائمة علىٰ أساس علمي متين، لا في مقام نفي إمكانية التشريع عنهم (علیهم السلام) .
وعلىٰ كلِّ حالٍ، فيمكن استفادة أنَّهم (علیهم السلام) كانوا يُشرِّعون وفق المصالح والمفاسد من الروايات التي يُعبِّرون (علیهم السلام) فيها بأنَّهم يكرهون كذا وأنَّهم يرون كذا.
والروايات الدالّة علىٰ ذلك كثيرة، منها:
1 - ورد أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) فرض زكاة علىٰ الخيل، فعن الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) أنَّهما قالا: «وضع أمير المؤمنين صلوات الله عليه علىٰ الخيل العتاق الراعية في كلِّ فرس في كلِّ عام دينارين، وعلىٰ البراذين ديناراً»(3).
ص: 155
2 - وعن عليِّ بن مهزيار أنَّ الإمام الجواد (علیه السلام) عندما جاء إلىٰ بغداد في عام (220ﻫ) فرض خمساً آخر غير الخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرَّة واحدة فقط(1)، ولعلَّ ذلك (أنَّه لمَّا جاء الإمام الجواد (علیه السلام) إلىٰ بغداد، كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، ولذا فرض الإمام (علیه السلام) الخمس تلك السنة لحلِّ هذه المشكلة الخاصَّة)(2).
وهذا وإن أمكن حمله علىٰ عنوان الحكم الثانوي، ولكنَّه علىٰ أيِّ حالٍ تشريع واضح.
3 - عن عليِّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) ... عن تبعيض السورة، فقال: «أكره، ولا بأس به في النافلة»(3).
4 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لا بأس بأن يحتجم الصائم إلَّا في رمضان، فإنّي أكره أن يُغرِّر بنفسه إلَّا أن لا يخاف علىٰ نفسه، وإنّا إذا أردنا الحجامة في رمضان احتجمنا ليلاً»(4).
5 - عن عبد الله بن هلال، قال: سُئِلَ أبو عبد الله (علیه السلام) عن الثوب يكون مصبوغاً بالعصفر(5) ثمّ يُغسَل، ألبسه وأنا محرم؟ قال: «نعم، ليس العصفر من الطيب، ولكن أكره أن تلبس ما يشهرك بين الناس»(6).
ص: 156
6 - عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال في الرجل يجرُّ ثوبه، قال: «إنّي لأكره أن يتشبَّه بالنساء»(1).
7 - عن الإمام عليٍّ (علیه السلام)، قال: «نهىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُسلَّم علىٰ أربعة: علىٰ السكران في سكره، وعلىٰ من يعمل التماثيل، وعلىٰ من يلعب بالنرد، وعلىٰ من يلعب بالأربعة عشر، وأنا أزيدكم الخامسة: أنهاكم أن تُسلِّموا علىٰ أصحاب الشطرنج»(2).
وأمَّا ما يُنقَل من سنن عبد المطَّلب جدِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) ممَّا أقرَّه القرآن، فبيانه بالتالي:
كان عبد المطَّلب يأمر بصلة الأرحام وإطعام الطعام، وترك الظلم والبغي، ويقول: إنَّه لن يخرج من هذه الدنيا ظلوم حتَّىٰ يُنتَقم منه، ويقول: والله إنَّ وراء هذه الدار دار جزاء الأعمال.
وسنَّ عبد المطَّلب الوفاء بالنذر، وقطع يد السارق، ومنع من نكاح المحارم، ونهىٰ عن قتل الموءودة، وحرَّم الخمر والزنىٰ وألَّا يطوف بالبيت عريان. وجاء كلُّ ذلك في شريعة خاتم الأنبياء، واستجاب الله دعاءه في طلب المطر لأهل مكّة، وكان يتعبَّد بغار حراء في شهر رمضان، وأوصىٰ قريشاً عامَّة برسول الله، وأوصىٰ به (أبا طالب) خاصَّة(3).
وروي عن النبيِّ الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنَّ عبد المطَّلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله تعالىٰ له في الإسلام:
ص: 157
1 - حرَّم زوجات الآباء علىٰ الأبناء، فأنزل الله (عزوجلّ): ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾ (النساء: 22).
2 - وجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدَّق به، فأنزل الله (عزوجلّ): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ ...﴾ (الأنفال: 41).
3 - لمَّا حفر بئر زمزم جعلها لسقاية الحاجِّ، فأنزل الله (عزوجلّ): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 19﴾ (التوبة: 19).
4 - سنَّ في القتل مائة من الإبل، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.
5 - إنَّه لم يكن للطواف عدد عند قريش، فسنَّ فيهم عبد المطَّلب سبعة أشواط، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.
وكان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذُبِحَ علىٰ النصب، ويقول: أنا علىٰ دين أبي إبراهيم(1).
الأمر الثاني: مصادر التشريع الإسلامي(2):
كلُّ تشريع يحتاج إلىٰ مصادر يستقي منها موادَّه وفقراته، والتشريع الإسلامي له مصادره الخاصَّة التي لا يمكن تجاوزها إلىٰ غيرها، وتلك المصادر مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً جدّاً، لتُكوِّن مجموعاً واحداً تمخض عن التشريع الإسلامي الأكمل، والذي سنعرف بعض سماته فيما يأتي إن شاء الله تعالىٰ.
ص: 158
ومصادر التشريع هي:
ففيه كلُّ ما يحتاجه الناس إلىٰ يوم القيامة، وهذا هو مقتضىٰ كونه الكتاب السماوي لآخر الأديان وخاتمها.
وللقرآن الكريم سمات متعلِّقة بالتشريع، أهمُّها شموليته ومرونته، أي قابليته للاستمرار والانطباق علىٰ الموارد المختلفة، فعن الشمولية يقول تعالىٰ: ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38﴾ (الأنعام: 38).
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عزوجلّ)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(1).
ولذا يمكن أن تستخرج من القرآن الكريم كلَّ ما تحتاجه من قوانين تخصُّ الفرد والمجتمع والأُمَّة والبشرية جمعاء، لكن هذا يحتاج إلىٰ متخصِّص في القرآن، ولذا ورد المنع من تفسير القرآن بالرأي، بمعنىٰ التفسير من دون الاعتماد علىٰ الأُصول الصحيحة للتفسير المتمثِّلة بالرجوع إلىٰ المتخصِّص به، وليِّ عنق الآيات حسب المشتهيات والاستحسانات، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قال الله (جل جلاله): ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبَّهني بخلقي، وما علىٰ ديني من استعمل القياس في ديني»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «أكثر ما أتخوَّف علىٰ أُمَّتي من بعدي رجل يتأوَّل
ص: 159
القرآن يضعه علىٰ غير مواضعه، ورجل يرىٰ أنَّه أحقّ بهذا الأمر من غيره»(1).
وعن مرونته يقول الصادق (علیه السلام) لمَّا سُئِلَ: ما بال القرآن لا يزداد علىٰ النشر والدراسة(2) إلَّا غضاضةً؟ فقال (علیه السلام): «لأنَّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلىٰ يوم القيامة»(3).
وستتَّضح هاتان السمتان أكثر في الأمر الثالث إن شاء الله تعالىٰ.
المتمثِّلة بأقواله وأفعاله وتقريراته (صلی الله علیه و آله)، فإذا قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله) قولاً فيه تشريع، فيجب علىٰ جميع المسلمين امتثال أمره، لأنَّه (صلی الله علیه و آله) ﴿ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ 4﴾ (النجم: 3 و4).
وإذا فعل النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) فعلاً، فهذا يدلُّ علىٰ أنَّ هذا الفعل جائز وليس بمحرَّم، لأنَّ النبيَّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) معصوم في جميع أحواله، فلا يُعقَل أنَّه يفعل فعلاً مخالفاً للقانون الإلهي.
وهكذا تقرير النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فإذا فعل أحدهم فعلاً أمام النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) أو أجاب عن مسألة شرعية، ولم يعترض عليه النبيُّ (صلی الله علیه و آله)، فهذا يدلُّ علىٰ قبول النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) بفعل ذلك الشخص وقوله، وبالتالي يدلُّ علىٰ شرعية الفعل والقول المذكورين بحضرته (صلی الله علیه و آله)، وإلَّا لبيَّن النبيُّ (صلی الله علیه و آله) موضع الخطأ في الفعل أو القول، لأنَّه (صلی الله علیه و آله)
ص: 160
مكلَّف بالبيان المطابق للواقع، ولو ترك الخطأ من دون بيان لأوقع الناس في مخالفة الشارع.
والدليل علىٰ لزوم المتابعة التامَّة المطلقة للنبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) كثير من الآيات والروايات، يقول تعالىٰ: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 7﴾ (الحشر: 7).
ويقول تعالىٰ: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ 4﴾ (النجم: 3 و4).
ومن السُّنَّة النبويَّة أحاديثُ أهل البيت (علیهم السلام)، لما سنعرف بعد قليل من رجوعها إلىٰ سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) .
بمعنىٰ أنَّنا قد لا نجد دليلاً ما علىٰ حكم شرعي، ولكنَّنا عندما نبحث في أقوال علمائنا نجدهم أطبقوا علىٰ فتوىٰ معيَّنة، وإطباقهم وإجماعهم عليها يكشف لنا عن أنَّهم ربَّما استندوا إلىٰ دليل شرعي تامٍّ، ولكن ذلك الدليل لم يصل إلينا لسبب وآخر، فيمكن حينذاك الاعتماد علىٰ الإجماع في إصدار حكم شرعي، لكن مع الالتفات إلىٰ ما سنذكره بعد قليل عن علاقة الإجماع بالسُّنَّة النبويَّة.
فللعقل قدرة علىٰ اكتشاف بعض الأحكام التي تكون موضوعاً لحكم شرعي، فمثلاً إذا كان واجبٌ ما لا يتحقَّق إلَّا إذا تحقَّقت مقدّمته، فحتَّىٰ لو لم يحكم الشرع بوجوب مقدّماته، فيمكن للعقل أن يحكم بوجوبها، لتوقُّف الواجب المأمور به عليها.
ص: 161
في الحقيقة إنَّ الأصل في كلِّ تلك المصادر هو القرآن الكريم، ولكن المعتمد الأكثر في أخذ الأحكام هو السُّنَّة النبويَّة.
أمَّا الإجماع، فيُشتَرط فيه أن يكون كاشفاً عن قول المعصوم، فيرجع بالتالي إلىٰ السُّنَّة، وليس للعقل أحكام إلَّا في موارد قليلة نسبياً.
أمَّا أنَّ الأصل في أخذ الأحكام هو القرآن الكريم، فهو من الوضوح بمكان، إذ إنَّ المشرِّع هو الله تعالىٰ، وقد نقل إلينا تشريعاته أوَّلاً وبالذات بواسطة القرآن الكريم.
ولكن - وكما قلنا قبل قليل - علينا أن نلتفت إلىٰ أنَّ القرآن الكريم لا يمكن لأيِّ أحد أن يستخرج منه الأحكام وبقيَّة ما يحتاجه، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله المتقدِّم قبل قليل: «ولكن لا تبلغه عقول الرجال».
وإنَّما ذلك موكول إلىٰ المتخصِّصين بالقرآن الكريم، والمتخصِّصون هم النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرون (علیهم السلام)، يقول تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 7﴾ (آل عمران: 7).
وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّه قال: «نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله»(1).
وعن بريد بن معاوية، عن أحد الباقرين (علیهما السلام) في قوله الله (عزوجلّ): ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾: «فرسول الله (صلی الله علیه و آله) أفضل الراسخين في
ص: 162
العلم، قد علَّمه الله (عزوجلّ) جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلَّه، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا﴾، والقرآن خاصٌّ وعامٌّ، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه»(1).
ومن هنا كانت أحاديث النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) هي الأساس في التشريع، بمعنىٰ أنَّها الأساس في تفصيل مجملات القرآن الكريم وتوضيح التشريعات التي لم تُذكر بالصراحة فيه.
والذي يدلُّك علىٰ أنَّ القرآن الكريم هو الأساس في تلك الأحاديث هو ما ورد من أنَّه إذا أردت أن تعرف الحديث الصادق من الكاذب فما عليك إلَّا أن تعرضه علىٰ القرآن الكريم، فما وافقه فهو صحيح، وإلَّا فاضرب به عرض الحائط.
فقد قال النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) في حجَّة الوداع: «قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسُنَّتي، فما وافق كتاب الله وسُنَّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسُنَّتي فلا تأخذوا به»(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «خطب النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بمنىٰ فقال: أيُّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(3).
ص: 163
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «كلُّ شيء مردود إلىٰ الكتاب والسُّنَّة، وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(1).
ولذا نجد أنَّ الإمام الجواد (علیه السلام) قد أبطل الكثير من الأحاديث التي عرضها عليه يحيىٰ بن أكثم، وذلك بإرجاعها إلىٰ كتاب الله تعالىٰ والكشف عن مخالفتها له(2).
ص: 164
وقد تسأل عن موقع أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) من مصادر التشريع الإسلامي؟
والجواب: أنَّ أحاديثهم (علیهم السلام) هي بمستوىٰ أحاديث النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، لأنَّهم إنَّما يستقون أحاديثهم منه (صلی الله علیه و آله)، وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة، فقد روىٰ جابر، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ
ص: 165
الباقر (علیهما السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، عن جبرئيل (علیه السلام)، عن الله (عزوجلّ)، وكلُّ ما أُحدِّثك بهذا الإسناد»، وقال: «يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها»(1).
وروىٰ حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أم من أبيك؟ فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) »(2).
ومن هنا كانت واحدة من طرق معرفة صحَّة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) هي نفس الطريقة التي نكشف بها صحَّة أحاديث النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وهي طريقة العرض علىٰ القرآن الكريم.
عن عبد الله بن يعفور...، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإلَّا فالذي جاءكم به أولىٰ به»(3).
قد يسأل البعض عن الاجتهاد عند الشيعة وعن موقعه من مصادر التشريع الإسلامي، وما إذا كان يُمثِّل أحد مصادر التشريع عند الشيعة، وإذا كان كذلك فلماذا نجدهم يحملون علىٰ أهل السُّنَّة لأنَّهم (يجتهدون) في مقام التشريع!
ص: 166
وهو سؤال مهمٌّ، ولا بدَّ من بيانه بكلِّ صراحة ووضوح، فنقول:
إنَّ اصطلاح الاجتهاد يُطلَق علىٰ معنيين:
المعنىٰ الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ، أو الاجتهاد بالرأي، وهذا هو الذي يرفضه الشيعة، إذ معناه أنَّ الفقيه إذا لم يجد نصّاً علىٰ الحكم الشرعي، فإنَّه يُعمِل فكرَه ورأيَه، فيحكم حسب ما يراه هو ويستحسنه، بل قد يحكم علىٰ خلاف ما ثبت شرعاً، لأنَّ رأيه يرىٰ ذلك! ممَّا يعني سلب الحجّية عن أحاديث النبيِّ (صلی الله علیه و آله) ولو بطريق غير مباشر.
وقد أُطلق علىٰ أتباع هذا الاجتهاد بأتباع مدرسة الرأي في قبال أتباع أهل البيت (علیهم السلام) الذين يرون وجوب اتِّباع النصِّ والتعبُّد المطلق به وعدم جواز مخالفته، كالنصِّ علىٰ خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وجواز الزواج المنقطع، وعمرة التمتُّع، وعدم تحريف القرآن، وغيرها من المسائل.
والحقيقة أنَّنا نجد النزعة لسلب الحجّية من أحاديث النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وبالتالي عدم لزوم اتِّباعها قد ظهرت بوادرها في حياته (صلی الله علیه و آله)، فقد روي عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أُريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول في الغضب والرضا! فأمسكتُّ، حتَّىٰ ذكرت ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: «اكتب فوَالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ»(1).
وفي صلح الحديبية، اعترض عمر علىٰ تخطيط النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)
ص: 167
للصلح مع قريش، وظهر منه التشكيك في ما فعله النبيُّ (صلی الله علیه و آله) من الصلح مع قريش(1).
وفي حجَّة الوداع يعترض رجل علىٰ تشريع النبيِّ (صلی الله علیه و آله) حجَّ التمتُّع، الذي يعني تقديم عمرته والإحلال بعدها حتَّىٰ من النساء(2)!
وصدقت نبوءة النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، حيث إنَّ عمر لمَّا تولّىٰ السلطة حرَّم متعة الحجِّ ومتعة النساء، رغم تصريحه هو بأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) جوَّزهما، وكان المسلمون يفعلونهما في زمنه (صلی الله علیه و آله) (3).
وهكذا الكلمة التي قيلت في حضرة النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي توفّي فيه، عندما طلب من المسلمين أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب
ص: 168
لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، فقال قائلهم: (إنَّ الرجل ليهجر)(1)، أو (حسبنا كتاب الله)(2)، قاصدين بذلك عدم الحاجة لأحاديث النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) .
والحقيقة أنَّ استقصاء الاجتهادات المخالفة للنصوص أمر يطول، وفي ما ذكرنا كفاية.
ويكفي في الردِّ عليه ما روي عن يونس، عن حمّاد، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلَّا وله حدٌّ كحدِّ الدور، وإنَّ حلال محمّد حلال إلىٰ يوم القيامة، وحرامه حرام إلىٰ يوم القيامة...»(3).
ص: 169
فما بيَّنه الرسول (صلی الله علیه و آله) حجَّة مطلقاً وإلىٰ يوم القيامة، ولا يُسمَع كلام بعض الهمج ممَّن يحاول سلب الحجّية عن أقواله (صلی الله علیه و آله) .
المعنىٰ الثاني: الاجتهاد وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعية الأصيلة - القرآن والسُّنَّة -، وهذا المعنىٰ هو الذي يقصده الشيعة، ويجعلونه واجباً كفائياً، وليس هو مصدراً للتشريع في عرض المصادر الأُخرىٰ، وإنَّما هو عملية استخراج للحكم من نفس النصِّ، فهو ابن للنصِّ ولا يعارضه أبداً.
والشيعة في ذلك يستندون إلىٰ أدلَّة خاصَّة، مثل ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا»(1).
وللمجتهد شروط لا يمكن حصولها إلَّا بعد بذل جهد مضني ووقت طويل، والتزام بالورع والتقوىٰ، ومعايشة القرآن الكريم وأحاديث السُّنَّة الشريفة لسنوات طوال، وفوقه التوفيق الإلهي.
هناك قاعدة تُذكر في علم الأُصول، وهي أنَّه ما من واقعة إلَّا ولها حكم، فليس هناك من فعل أو قول أو عمل إلَّا وللإسلام فيه حكم، لأنَّ الله تعالىٰ العالم الحكيم، شاء أن لا يترك عباده في حيرة من واقعة ما، فشرَّع لهم تشريعاً كاملاً من جميع الجوانب، وعلىٰ جميع المستويات التي تحتاجها البشرية وتمارسها في حياتها اليومية.
ولذلك يمكن للباحث اقتناص كلِّ أنواع العلوم بأُصولها العامَّة
ص: 170
من أُصول التشريعات الإسلاميَّة - من القرآن والسُّنَّة -، فالعقائد والسياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والاجتماع والعلوم العسكرية وأساليب الحروب والأخلاق وغيرها كثير، كلُّها يمكنك أن تجدها في تشريعات الإسلام.
واليوم هناك توجُّه من قِبَل المسلمين علىٰ إيجاد إشارات علمية في القرآن الكريم لم تُكتَشف إلَّا في القرون المتأخِّرة، وقد كُتِبَت في ذلك الكثير من المقالات والأبحاث التي نُشِرَت في الكتب وشبكة الإنترنت وغيرها(1).
ثمّ سمح الإسلام لمن لا يستطيع الوصول إلىٰ الحكم الواقعي - طبعاً هذا في زمن غياب الشارع المقدَّس بغياب خليفته الشرعي وعدم ظهوره -، سمح له بالاكتفاء بالحكم الظاهري، بشرط الاعتماد علىٰ أُصولٍ أسَّسها الشارع نفسه، كالاستصحاب والبراءة والاحتياط وقواعد (كلُّ شيء لك حلال حتَّىٰ تعلم أنَّه حرام بعينه)(2)، و(كلُّ شيء لك طاهر حتَّىٰ تعلم أنَّه نجس بعينه)(3)، وغيرها من القواعد المفصَّلة في محلِّها من كتب القواعد الأُصولية والفقهية.
ص: 171
وبذلك ملأ التشريع الإسلامي الفراغ في كثير من الحالات الجزئية التي لا يمكن أن نجد لها نصّاً أو رواية خاصَّة بها.
إنَّ التشريع الإسلامي في أغلب مفرداته عبارة عن قواعد عامَّة، وتلك القواعد لها قابلية الانطباق علىٰ الكثير من الموارد، وهذا يُغطّي أوسع مساحة ممكنة من الوقائع التي تواجه الإنسان، ولذا تجد الفقهاء يعطونك القواعد العامَّة التي استنبطوها من كلمات أهل البيت (علیهم السلام) لتطبقها أنت علىٰ الجزئيات بسهولة، فمثلاً الفقه الشيعي يقول لك: (كلُّ شيء لك طاهر حتَّىٰ تعلم أنَّه نجس بعينه)، فهذه قاعدة فقهية تستطيع أن تُطبِّقها علىٰ كلِّ شيء تشكُّ في طهارته، ولم يكن عندك علم بنجاسته يقيناً، أن تحكم عليه بالطهارة، وتستعمله بكلِّ ما يُشتَرط فيه الطهارة. وعليه فلو رأيت كلباً قريباً من الماء وشككت في أنَّه هل شرب منه فتنجَّس أو لم يشرب فبقي طاهراً، فحيث إنَّه لا يوجد عندك علم يقيني بالنجاسة، فإنَّك تستطيع أن تحكم عليه بالطهارة وتستعمله في الشرب أو الوضوء.
ومن هذا الباب النصوص التي جاءت لتعالج قضيَّة شخصية، ولكنَّها في نفس الوقت تُعطي قاعدة عامَّة لها قابلية الانطباق علىٰ كلِّ من يتَّصف بالحالات التي صدر لأجلها النصُّ.
فمثلاً يقول تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَىٰ الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 54﴾ (المائدة: 54)، قد نزلت هذه
ص: 172
الآية في إحدىٰ معارك النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وكان المقصود فيها هو أمير المؤمنين (علیه السلام)، ولكن الروايات تُعطيها معنىٰ انطباق أوسع، لتشمل كلَّ من تنطبق عليهم تلك الصفات المذكورة فيها، ولذا فسَّرها الإمام الصادق (علیه السلام) بالمهدي وأصحابه(1).
إنَّ مرونة التشريع الإسلامي وقابليته للانطباق الواسع هو ما عبَّر عنه الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث يُروىٰ عنه، حيث سُئِلَ: ما بال القرآن لا يزداد علىٰ النشر والدراسة(2) إلَّا غضاضةً؟ فقال (علیه السلام): «لأنَّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلىٰ يوم القيامة»(3).
هناك من التشريعات ما لا يمكن التنازل عنه ولا التضحية به ولا المساومة عليه، إنَّها تُمثِّل عنصراً ثابتاً في التشريع، كوجوب الواجبات وحرمة المحرَّمات، فالصلاة واجبة علىٰ كلِّ حالٍ، والقتل حرام علىٰ كلِّ حالٍ...، هكذا بقيَّة الواجبات والمحرَّمات.
ص: 173
ولكن هناك مساحات تركها الشارع ليملأها العارف بالدين حسب مقتضيات الحياة ومتطلِّبات المرحلة، فقد يوجب أو يحرم بعض المباحات لعارض خاصٍّ.
وترك له مساحة أيضاً ليُحدِّد هو المصلحة من المفسدة، ومنه ما يُسمّىٰ بالرجوع إلىٰ العرف، والمقصود منه الرجوع إلىٰ أصحاب الاختصاص في تحديد مواضيع الأحكام الشرعية، وهذا يعني أنَّ الرجوع إلىٰ العرف ليس فيه تشريع، وإنَّما العرف يُحدِّد لك موضوع الحكم الشرعي الثابت، فمثلاً المريض يراجع الطبيب - وهو يُمثِّل عرفاً خاصّاً -، فإذا قال له الطبيب بأنَّ الصوم يضرُّه، واطمأنَّ المريض بقوله، جاز له أن يفطر، لأنَّ الحكم الشرعي يقول بأنَّ المريض يجوز له، بل قد يجب عليه الإفطار إذا كان الصوم يضرُّه. فالثابت هنا هو وجوب الصوم، ولكن المتغيّر هو أنَّ هذا الوجوب يمكن للشخص أن لا يمتثله لعارض المرض.
وطبعاً ما ذكرناه هو أوضح مصاديق الثابت والمتغيّر في التشريع الإسلامي، وإلَّا فله موارد أُخرىٰ نعرض عنها اختصاراً.
ربَّما يتصوَّر البعض أنَّ التشريع الإسلامي صعب وفيه حرج، لأنَّه يفرض علىٰ الإنسان أن يلتزم بواجبات صعبة ويبتعد عن أُمور يصعب اجتنابها، ونرىٰ الكثير من المستشرقين والعلمانيين وأتباعهم يُطبِّلون لهذا المعنىٰ، ولكن الحقيقة تأبىٰ هذا، وتُصرِّح بأنَّ التشريع الإسلامي جاء وفيه من الليونة والسهولة الشيء الكثير، ويكفي لإثبات ذلك قوله تعالىٰ: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185).
وحتَّىٰ تتَّضح الصورة، نذكر التالي:
ص: 174
1 - التدرُّج في إعطاء الأحكام، فتسهيلاً ورحمةً بالعباد نجد أنَّ الله تعالىٰ ربَّما تدرَّج في إعطاء حكم شرعي ما، كما في مسألة تحريم الخمر في صدر الإسلام، فأوَّلاً قال عنه عزَّ من قال: ﴿وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 67﴾ (النحل: 67).
ثمّ قال تعالىٰ: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...﴾ (البقرة: 219).
ثمّ قال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ...﴾ (النساء: 43).
ثمّ قال عزَّ من قائل جاهراً بالمنع المطلق: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90﴾ (المائدة: 90).
وقد وصل أخيراً تشريع حرمة الخمر إلىٰ ما روي عن زيد بن عليٍّ، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: «لعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه»(1).
ثمّ خُتِمَ تشريع ذلك بتحريم كلِّ ما يؤدّي إلىٰ عاقبة الخمر - أي حرمة كلِّ مسكر وإن لم يكن خمراً -، يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «إنَّ الله (عزوجلّ) لم يُحرِّم الخمر لاسمها، ولكنَّه حرَّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(2).
ص: 175
إنَّ مسألة التدرُّج مفيدة في كثير من الموارد، ومنها ما يذكره علماء الأخلاق في مسألة الإقلاع عن الذنوب، حيث يُنصَح بأن يعمل الإنسان علىٰ اقتلاعها من أعماق نفسه بالتدريج، حتَّىٰ يسهل عليه مواجهتها واحداً تلو الآخر حتَّىٰ يقضي عليها جميعاً...، ونفس الكلام في مسألة التحلّي بالصفات الحسنة، حيث يُنصَح بأن يعمل المرء كلَّ يوم علىٰ التزام صفة محدَّدة، ثمّ ينتقل منها إلىٰ الأُخرىٰ، وهكذا.
2 - ومن ليونة التشريع أنَّ الله تعالىٰ فرض تشريعاً وتكويناً علىٰ الذنب العقوبة، فكلُّ ذنب تتبعه عقوبة، وكان المفروض أن تكون العقوبة عاجلة، ولكن الرحمة الإلهيَّة هنا تمثَّلت ليس فقط في تأخير العقوبة، بل في عدَّة أُمور، نذكر منها التالي:
أ - جعل عالم الدنيا عالم عمل، وأمَّا الحساب فمؤجَّل إلىٰ يوم القيامة. نعم، في بعض الأحيان تستدعي الحكمة الإلهيَّة تعجيل بعض عقوبة بعض الذنوب، كما تقدَّم، كعقوق الوالدين والظلم ونكران الإحسان.
ب - إمهال المذنب بضع ساعات ليُعلِن توبته، وبذلك يُمحىٰ عنه ذنبه، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «يهمُّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيَّته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً. ويهمُّ بالسيِّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يُكتَب عليه شيء، وإن عملها أُجِّل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسىٰ أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإنَّ الله (عزوجلّ) يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ [هود: 114]، أو الاستغفار، فإن هو قال: أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو، عالم
ص: 176
الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يُكتَب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات: اكتب علىٰ الشقي المحروم»(1).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «صاحب اليمين أمير علىٰ صاحب الشمال، فإذا عمل العبد السيِّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: لا تعجل وأنظره سبع ساعات، فإن مضىٰ سبع ساعات ولم يستغفر قال: اكتب، فما أقلّ حياء هذا العبد»(2).
ولكن ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ خاصّية التأجيل خاصَّة بالعبد المؤمن لا كلّ عبد، فعن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجَّله الله سبع ساعات، فان استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كُتِبَت عليه سيِّئة. وإنَّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتَّىٰ يستغفر ربَّه فيغفر له، وإنَّ الكافر لينساه من ساعته»(3).
وعن عبد الله بن سنان، عن حفص، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ما من مؤمن يذنب ذنباً إلَّا أجَّله الله (عزوجلّ) سبع ساعات من النهار، فإن هو تاب لم يكتب عليه شيء، وإن هو لم يفعل كتب [الله] عليه سيِّئة».
فأتاه عبّاد البصري، فقال له: بلغنا أنَّك قلت: ما من عبد يذنب
ص: 177
ذنباً إلَّا أجَّله الله (عزوجلّ) سبع ساعات من النهار؟ فقال: «ليس هكذا قلت، ولكنّي قلت: ما من مؤمن، وكذلك كان قولي»(1).
وقد تبيَّن هنا أيضاً أنَّ من التسهيل هو أنَّ الله تعالىٰ لا يحاسب العبد علىٰ النيَّة السيِّئة، ولكن تذكَّر أنَّ التفكير والإيحاء الذاتي السلبي يؤثِّر علىٰ صفاء النفس، وقد روي عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ (علیه السلام)، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم: ... إنَّ موسىٰ نبيَّ الله (علیه السلام) أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(2).
3 - ومن التعامل السمح من الله تعالىٰ لعبده، هو أنَّنا نجد الباري تعالىٰ لا يحاسب العبد علىٰ عدَّة أُمور:
أ - أنَّه تعالىٰ لا يحاسبنا علىٰ ما أعطانا من آلات وقوَّة نحمده بها ونستغفره بواسطتها، وأمَّا لو حاسبنا عليها - وهو العدل والحقُّ - لكان مصيرنا يُرثىٰ له!
يقول مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه الْقِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَجُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَىٰ كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(3).
ص: 178
ب - أنَّه تعالىٰ لا يحاسب العبد علىٰ ما اضطرَّه إليه، بل وفوق ذلك يُثيبه عليه، كالطعام والملبس والمسكن والزوجة، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «ثلاث لا يُسئل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، وكسرة يسدُّ بها جوعته، أو بيت يكنُّه من الحرِّ والبرد»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب عليهنَّ المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه، ويحصن بها فرجه»(2).
4 - أنَّه تعالىٰ جعل ثواب العبد ليس فقط علىٰ عمله، بل حتَّىٰ علىٰ نيَّته الصالحة وإن لم يُوفَّق للعمل، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أن يقوم يُصلّي من الليل فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه (عزوجلّ) »(3).
ومن هنا، ورد التأكيد علىٰ ضرورة دوام نيَّة الخير في كلِّ فعل وحركة وسكون، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، ليكن لك في كلِّ شيء نيَّة صالحة، حتَّىٰ في النوم والأكل»(4).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «... فلا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن بهذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ، فقال: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44﴾ [الفرقان: 44]، وقال: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 179﴾ [الأعراف: 179]»(5).
بل اعتُبِرَت النيَّة في الأحاديث أفضل من العمل وخير منه، لأنَّ
ص: 179
النيَّة لا رياء فيها والعمل قد يخالطه الرياء، فقد روي عن زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنّي سمعتك تقول: «نيَّة المؤمن خير من عمله»، فكيف تكون النيَّة خيراً من العمل؟ قال: «لأنَّ العمل ربَّما كان رياء للمخلوقين، والنيَّة خالصة لربِّ العالمين، فيُعطي تعالىٰ علىٰ النيَّة ما لا يُعطي علىٰ العمل»(1).
5 - ومن رحمته تعالىٰ أيضاً أنَّه جعل لبعض الأعمال إمكانية سيّالة لرصد الحسنات لعاملها، قال تعالىٰ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ3﴾ (القدر: 3).
وقد روي أنَّه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاث: علم يُنتَفع به، أو صدقة تُجرىٰ له، أو ولد صالح يدعو له»(2).
وعن ميمون القدّاح، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيُّما عبد من عباد الله سنَّ سُنَّة هدىٰ كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيُّما عبد من عباد الله سنَّ سُنَّة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(3).
وورد: «من تعلَّم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه أو ويُعلِّمهما غيره وينتفع به كان خيراً له من عبادة ستّين سنة»(4).
وعن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «من اشتكىٰ ليلة فقبلها بقبولها وأدّىٰ إلىٰ الله شكرها كانت له كفّارة
ص: 180
ستّين سنة»، قال: قلت: وما معنىٰ قبلها بقبولها؟ قال: «صبر علىٰ ما كان فيها»(1).
وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «من سعىٰ في حاجة أخيه المسلم فكأنَّما عبد الله (عزوجلّ) تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره قائماً ليله»(2).
وعن داود الرقّي، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) إذا استسقىٰ الماء، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داود، لعن الله قاتل الحسين (علیه السلام)، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (علیه السلام) و أهل بيته ولعن قاتله، إلَّا كتب الله (عزوجلّ) له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيِّئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنَّما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله تعالىٰ يوم القيامة ثلج الفؤاد»(3).
* * *
ص: 181
ص: 182
ص: 183
ص: 184
المقصود من اللطف هنا هو ما يُسمّىٰ في علم الكلام باللطف المقرِّب، وأمَّا المعاني المتقدِّمة فهي من اللطف المحصِّل(1)، فهي هنا من نوع تقديم التسهيلات الإضافية التي تساعد الإنسان أكثر علىٰ الوصول إلىٰ الهدف، وهي عطايا مجّانية من الله تعالىٰ من فضل جوده وكرمه ورحمته.
وهذه الهداية خاصَّة بمن اعتنىٰ والتزم بأحكام الدين وتشريعاته وسُننه، وراعىٰ طريقة التقوىٰ حقَّ رعايتها، وجزاءً لذلك يحمي الله تعالىٰ عبده الصالح من مكاره الدنيا وعن مضلّات الفتن، ويلطف به ألطافاً معنوية خفيَّة وظاهرة، وهي ما يُسمّىٰ بالتوفيق والعناية، كلُّ ذلك إذا أصبح العبد مُمهَّداً لتلقّي الفيوضات والهبات الربّانية.
وبعبارة أُخرىٰ أوضح:
بعد أن يقطع المؤمن أشواطاً في طريق تطهير الروح وتحصيل الكمال، يأتي اللطف الإلهي الخاصّ أو المقرِّب، ليُعطيَه نوعاً من التسهيلات، ليقطع طُرُقاً أصعب للصعود في مراتب الكمال، تماماً كما إذا لاحظ مدير شركة معيَّنة أنَّ أحد موظَّفيه تفانىٰ في عمله ولسنوات عديدة، فإنَّه قد يُعطيه (سرَّ المهنة)، ليتحصَّل بجهده علىٰ أرباح أكثر، أو كما إذا ارتأت مديرية التربية أن تُعطي فرصة للطلّاب الموهوبين، بعد أن أثبتوا جدارتهم، تُعطيهم فرصة لطيِّ مرحلة دراسية بوقت أسرع، حسب نظام تسريع المراحل أو ما يُسمّىٰ بنظام (العبور).
ص: 185
إنَّ هذه التسهيلات لم تأتِ من فراغ، وإنَّما جاءت بعد مراحل من العمل والإخلاص والتفاني، بحيث أثبت الفرد جدارته ليحصل علىٰ تسهيلات ليصل إلىٰ مبتغاه وهدفه بوقت أسرع، ولا يعني هذا إلَّا زيادة في تفعيل الإرادة وتوجيه الاختيار نحو الهدف بكلِّ جهد وإخلاص.
وعند مراجعة النصوص الدينية نجد أنَّنا لا نُعدَم الإشارات الواضحة لهذا المعنىٰ من الهداية، نذكر منها النصوص التالية:
النصُّ الأوَّل: قوله تعالىٰ في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6﴾ (الفاتحة: 6).
فهذه الآية من سورة الفاتحة جاءت بصيغة طلب الهداية، ولكن الهداية التي تقع بعد العبادة لله تعالىٰ والاستعانة به، ممَّا يعني أنَّها هداية ما بعد طيِّ مراحل العبودية والتوكُّل علىٰ الله تعالىٰ، وهو معنىٰ هداية اللطف.
وفي إشارة إلىٰ هذا المعنىٰ روي عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6﴾ أنَّه قال (علیه السلام): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتَّىٰ نُطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. والصراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. وأمَّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوِّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلىٰ شيء من الباطل. وأمَّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلىٰ الجنَّة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنَّة إلىٰ النار ولا إلىٰ غير النار سوىٰ الجنَّة»(1).
النصُّ الثاني: قوله تعالىٰ من بداية سورة البقرة: ﴿الم 1 ذلِكَ
ص: 186
الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ 3 وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4 أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5﴾ (البقرة: 1 - 5).
فنلاحظ أنَّ الهدىٰ هنا جاء مرَّتين، فمرَّة كان للمتَّقين، وهو هدىٰ التشريع. وأُخرىٰ جاء بعد الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بما أنزل الله تعالىٰ، فوصفتهم الآية بأنَّهم علىٰ هدىٰ من ربِّهم، فهذا الهدىٰ غير الهدىٰ المتقدِّم، فهو هدىٰ اللطف الإلهي والتقريب والتسهيل الإلهي الذي يكون كهدية ومكافأة علىٰ ما قدَّمه الإنسان بإرادته من التزام بالتشريع.
فهذه الآية في الحقيقة (تشير إلىٰ النتيجة التي يتلقّاها المؤمنون المتَّصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: ﴿أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5﴾، وقد ضمن ربُّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة من ربِّهم إشارة إلىٰ هذه الحقيقة. واستعمال حرف (علىٰ) في عبارة ﴿عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يوحي بأنَّ الهداية الإلهيَّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتَّقون لتوصلهم إلىٰ السعادة والفلاح، لأنَّ حرف (علىٰ) يوحي غالباً معنىٰ الاستعلاء. واستعمال كلمة (هدىٰ) في حالة نكرة يشير إلىٰ عظمة الهداية التي شملهم الله بها. وتعبير ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5﴾ يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنَّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين)(1).
النصُّ الثالث: قوله تعالىٰ في سورة العنكبوت: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ 69﴾ (العنكبوت: 69).
ص: 187
فالهداية هنا ترتَّبت علىٰ الجهاد في الله تعالىٰ، فهي فرع الجهاد، أي إنَّها تأتي بعد بذل الجهد الجهيد من المؤمن، فالخطوة الأُولىٰ من المؤمن، وتكملتها وتسهيل بلوغ الهدف بها من الله تعالىٰ.
وعلىٰ هذا السياق قال الإمام السجّاد (علیه السلام) لإبراهيم بن أدهم لمَّا قال له وقد كان متأخِّراً عن القافلة: ارفع رجلك حتَّىٰ تُدرك، فقال الإمام (علیه السلام): «عليَّ الجهاد، وعليه الإبلاغ، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ 69﴾؟»(1).
وقال القمّي في ما يُنسَب له من التفسير: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا﴾ أي صبروا وجاهدوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ أي لنُثبتنَّهم، ﴿وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ 69﴾. وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «هذه الآية لآل محمّد (صلی الله علیه و آله) ولأشياعهم»(2).
النصُّ الرابع: قوله تعالىٰ: ﴿وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾ (هود: 88).
روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾، وقوله تعالىٰ: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 160﴾ (آل عمران: 160)، أنَّه قال (علیه السلام): «إذا فعل العبد ما أمره الله (عزوجلّ) به من الطاعة، كان فعله وفقاً لأمر الله (عزوجلّ)، وسُمّي العبد به موفَّقاً. وإذا أراد العبد(3) أن يدخل في شيء من معاصي الله، فحال الله تبارك وتعالىٰ بينه وبين تلك المعصية فتركها، كان تركه لها بتوفيق من الله
ص: 188
تعالىٰ ذكره، ومتىٰ خلّىٰ بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتَّىٰ يرتكبها، فقد خذله ولم ينصره ولم يُوفِّقه»(1).
وعلَّق الشيخ الصدوق (رحمة الله) علىٰ هذه الرواية بقوله: (التوفيق هو تهيئة الأسباب نحو الفعل، والأسباب بعضها بيد العبد وبعضها ليس كذلك. وما بيد العبد ينتهي أيضاً إليه تعالىٰ منعاً وإعطاءً، فلذلك: ﴿ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾، والتوفيق للطاعة هو اجتماع أسباب الفعل كلّها، والتوفيق لترك المعصية هو فقدان بعض الأسباب، فإن كان بيد العبد فهو الانقياد فيهما، وإلَّا فهو اللطف من الله تعالىٰ، وعدم التوفيق والخذلان في الطاعة وترك المعصية علىٰ عكس ذلك)(2).
النصُّ الخامس: من دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة: «إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّىٰ أَصِلَ إِلَيْكَ، وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّىٰ أُقْبِلَ عَلَيْكَ»(3).
فالإمام الحسين (علیه السلام) وهو في الحجِّ وفي عرفات يرفع يديه بالدعاء، ليطلب تسهيلاً إلهيّاً من باب رحمته ومنِّه جلَّ وعلا، ليصل إلىٰ هدفه الأسمىٰ، فهو طلب للُّطف الخاصِّ.
النصُّ السادس: في مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين (علیه السلام): «إِلهِي فَزَهِّدْنا فِيها، وَسَلِّمْنا مِنْها بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلابِيبَ مُخالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنا بِحُسْنِ كِفايَتِكَ، وَأَوْفِرْ مَزِيدَنا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأَجْمِلْ صِلاتِنا مِنْ فَيْضِ مَواهِبِكَ»(4).
ص: 189
فطلب الإمام (علیه السلام) واضح في أنَّه من باب التوفيق، وكفاية الله تعالىٰ، وسعة رحمته، وفيض مواهبه وعطاياه.
النصُّ السابع: من دعاء للإمام الصادق (علیه السلام): «وأعنّي علىٰ نفسي بما أعنت به الصالحين علىٰ أنفسهم»(1).
فهذه الفقرة من الدعاء تشير إلىٰ وجود إعانة خاصَّة للصالحين من العباد، غير الإعانة العامَّة من الله تعالىٰ للجميع، تلك الإعانة العامَّة التي يقول جلَّ وعلا عنها: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً 18 وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعىٰ لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19 كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً20﴾ (الإسراء: 18 - 20).
وغيرها من النصوص التي يمكن أن نجدها بالمتابعة ممَّا يشير إلىٰ الهداية الخاصَّة من هذا النوع.
وباختصار: إنَّ هذا المعنىٰ من الهداية هو من العبد باعتبار، ومن الله تعالىٰ باعتبار، فالتزام العبد بما يريده منه الله تعالىٰ وعلىٰ أتمّ وجه، يستتبع هذا المعنىٰ من الهداية.
والإضلال في هذه المرحلة وإن كان من الله تعالىٰ، لكنَّه ليس بقبيح، فإنَّه لا يجب أن يلطف الله تعالىٰ هذا اللطف بمن خالفه وعانده باختياره، إذ المخالف ليس أهلاً لذلك اللطف.
وبعبارة أوضح: إنَّ أساس منع هذا اللطف هو من العبد باختياره، فالله تعالىٰ جعل هذه التسهيلات وفق شروط خاصَّة، فمن لا
ص: 190
يُتعِب نفسه في تحصيلها فإنَّه لا يستحقُّ تلك التسهيلات، أي إنَّ السبب في الحرمان هو العبد نفسه لا الله جلَّ وعلا.
فقد يكون الفرد مؤمناً ولكنَّه لا يسعىٰ أكثر لتحصيل تلك التسهيلات، أي إنَّ عدم هذه التسهيلات لا يعني الكفر أو الفسق أو ما شابه، بل يعني أنَّ الفرد يعيش الكسل والتعاجز عن تحصيل حوافز إضافية، كالموظَّف الذي يحضر إلىٰ دائرته من باب إسقاط الفرض من دون أن يُقدِّم أي أعمال إضافية، ومن دون أن يُظهِر أيَّ رغبة في التطوير، فإنَّه بلا شكٍّ وبحكم العقل لا يستحقُّ أيَّ حوافز وأيَّ مشجِّعات إلَّا بالمستوىٰ العامّ الذي يشمل جميع الموظَّفين.
هل نظرت يوماً إلىٰ رياضي يحاول تسلُّق قمَّة جبل شاهق؟
هل رأيت كم يعاني ويعاني من أجل أن يصعد خطوة واحدة إلىٰ الأعلىٰ؟
وهل رأيت أنَّ صعوده صعب جدّاً؟ ولكن من السهل جدّاً أن يقع أو أن يتلكَّأ في صعوده أو أن يهبط عشر خطوات دفعةً واحدةً!
لا شكَّ أنَّ كلَّ من يحاول تسلُّق الجبل فعليه أن يستعدَّ للصعاب المتوقَّعة، ولكن فرحته ستكون عظيمة جدّاً حينما يصل إلىٰ قمَّة الجبل، ليُسجِّل اسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية!
كذلك من يريد أن يحصل علىٰ لطف الله تعالىٰ وتوفيقه، فإنَّ عليه أن يستعدَّ لصعود الجبل: جبل النفس، عليه أن يلتزم القانون الخاصّ بتحصيل اللطف، حتَّىٰ يتمكَّن من الصعود بسلام وبلا تعثُّر.
هذا، ويمكن أن نجد من خلال تربويات الدين عدَّة أُمور تُمثِّل السلالم المثلىٰ للوصول إلىٰ مرتبة تحصيل اللطف الإلهي، نذكر منها:
ص: 191
ما هو الشيء الذي يدفع الإنسان إلىٰ التزام مبدئه والسلوك المستقيم؟
ربَّما يقال: هو القانون.
ولكن هذا غير صحيح في كلِّ الحالات، لأنَّ القانون يتعامل مع الظاهر لا مع الباطن، ولأنَّ القانون يعاقب المسيء ولكنَّه لا يكافئ المحسن، ولأنَّ القانون يمكن التحايل عليه، بل والتمرُّد عليه حتَّىٰ ولو كان قد سُنِّ لفائدة المجتمع.
وربَّما يقال: هو العلم، فكلَّما كان الإنسان متعلِّماً أكثر كلَّما التزم أكثر.
ولكن الواقع خلاف هذا، فهل هناك أعلم من إبليس!؟ ومع ذلك أبلس من رحمة الله تعالىٰ.
وكم هم الذين يعلمون ضرر معاقرة الخمور والمخدَّرات والفواحش، ولكن علمهم لم يمنعهم من ارتكابها.
وكم هم الذين يعلمون حرمة الغيبة والنميمة والظلم والتعدّي علىٰ حقوق الآخرين، ومع ذلك لم يمنعهم علمهم من مواقعة الحرام!
هذا فضلاً عن الكوارث التي أودت بحياة الملايين من البشر بسبب العلم، والقنبلة النووية شاهدة علىٰ هذا القول.
وربَّما يقال: هو العبادات، فكلَّما التزم الإنسان بالعبادات أكثر، كلَّما التزم مبدأه.
ولكن العبادات لوحدها لا تكفي، فكم من عابد ضلَّ، وكم من زاهد زلَّ، والروايات كثيرة في هذا الجانب، كما في قصَّة العابد برصيصا، التي رواها الباري تعالىٰ بقوله عزَّ من قائل: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ
ص: 192
لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ 16﴾ (الحشر: 16)(1).
فلا القانون وحده، ولا العلم وحده، ولا العبادات وحدها، هو الدافع نحو السلوك المستقيم.
والحقيقة أنَّ هناك شيئاً آخر فوق هذه الأُمور الثلاثة، هو الذي يجعل الإنسان مستقيماً في سلوكه، ذاك الأمر هو ما ذكره هابيل لأخيه قابيل فيما ينقله القرآن الكريم عنهما، فإنَّه لمَّا هدَّد قابيل بقتل هابيل قال له هابيل: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ 28﴾ (المائدة: 28).
وهو ما عبَّر القرآن الكريم في موضع آخر بالنظر إلىٰ غد، قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ 18﴾ (الحشر: 18).
ص: 193
فالخوف من ربِّ العالمين أو قل: الوازع الديني، هو الذي منع هابيل من القتل. وأرضية هذا الوازع وأساسه هي التقوىٰ. فالأساس هي التقوىٰ، وأمَّا القانون، فهو يُمثِّل الحماية الخارجية للتقوىٰ. وأمَّا العلم، فهو دافع نحو التقوىٰ ومحفِّز لها. وأمَّا العبادات، فهي عمليات تدريبية من شأنها أن تقود إلىٰ التقوىٰ. والأساس في كلِّ ذلك هي التقوىٰ.
والتقوىٰ تعني باختصار: الاجتهاد في التزام الواجبات والورع عن المحرَّمات، لتتمخَّض عن تمثُّل وتعايش مع مبدأ معيَّة الله تعالىٰ الدائمة، يقول تعالىٰ: ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4﴾ (الحديد: 4).
وليست التقوىٰ رداءً يُلبَس ويُخلَع، وليست هي سلعة تُشترىٰ وتُباع، وليست هي حالة متزلزلة لتروح وتجيء، إنَّما هي مبدأ نفسي مستقرٌّ، دائم المصاحبة للنفس، يقودها نحو السلوك المستقيم باستمرار.
ولكن أكثر ما يظهر أثر التقوىٰ في السلوك في حالات:
1 - الغيب، أو الخفاء، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ 12﴾ (الملك: 12).
إنَّ الإنسان عادةً لا يجاهر بالمعصية، لأنَّه يخاف لوم الناس، واحتقارهم له، وحكمهم عليه بالانحراف، وبالتالي الابتعاد عن معاشرته. وهو بالتالي يريد أن يحافظ علىٰ سمعة جيِّدة بين الناس، حتَّىٰ يحصل علىٰ التقدير منهم، إذ لولا التقدير لما بقي الإنسان في محلٍّ معيَّن. فلا يكشف عدم المعصية بحضور الناس عن أكثر من التزام اللباقة العامَّة.
ص: 194
وإلىٰ هذا المعنىٰ يشير الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه: «فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلىٰ ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ»(1).
إنَّما تظهر التقوىٰ الحقيقية إذا غاب الفرد عن أعين الناس، كما إذا سافر إلىٰ بلاد لا يعرفه فيها أحد، أو تستَّر عن الناس في بيته، فإنَّه آنذاك تظهر التقوىٰ الحقيقية.
2 - عند الشهوة، قال تعالىٰ: ﴿وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23﴾ (يوسف: 23).
قيل: إنَّ ابنة ملك خرجت للتنزُّه، فثارت عاصفة جعلتها تبتعد عن حمايتها وقصرها، فدخلت غابة، وهناك رأت كوخاً، فاضطرَّت لدخوله خوفاً من وحوش الغابة، وما إن دخلت، حتَّىٰ رأت شابّاً منكبّاً علىٰ قراءة كتبه، فخافت منه أكثر من وحوش الغابة، فنظر إليها ولم يُكلِّمها ورجع إلىٰ كتبه، فجلست في زاوية الكوخ، ولم تنم خوفاً، وكان ذلك الشابُّ بين الحين والآخر ينظر إليها ثمّ يُحرق واحداً من أصابعه، حتَّىٰ أحرق أصابعه العشرة! فكان ذلك المنظر يُرعِبها، وهكذا إلىٰ الصباح، وآنذاك هربت ورجعت إلىٰ قصرها.
واشتكت أمر ذلك المرعب إلىٰ أبيها، فحكم عليه بالإعدام، ولم يعلم الشاب المسكين لِمَ حُكِمَ عليه بالإعدام إلَّا من الجلّاد، فطلب منه أن يشرح سبب ما فعله للملك، ولمَّا أبان الحقيقة للملك زوَّجه الملك من تلك الفتاة! إذ إنَّ الحقيقة كانت: أنَّ نفسه كانت تُحدِّثه بالفاحشة مع تلك الفتاة، فينظر إليها، ولكنَّه يتذكَّر نار الآخرة، فيختبر نفسه بنار
ص: 195
الدنيا، فإنَّه إن تحمَّلها لأمكن أن يخدع نفسه بأنَّه يتحمَّل نار الآخرة، وإن كان الفارق بين النارين شاسعاً، وآنذاك، عرف من نفسه عدم تحمُّل نار الدنيا، فتركها، ولكنَّ نفسه كانت تعاوده، فيعاود الكرَّة عليها بحرق إصبع آخر، وهكذا إلىٰ أن لَطَف الله تعالىٰ به وأبعده عن تلك الفاحشة.
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه؟...»(1).
3 - عند القوَّة والتسلُّط، فإنَّ القوَّة تخلق عند الإنسان الغرور، خصوصاً إذا رأىٰ غيره محتاجاً إليه، والشيطان هنا يعمل، وهنا يبين الوازع الديني، فمثلاً الأب في موقع قوَّة بالنسبة إلىٰ الأبناء والزوجة، فلا بدَّ أن يتصرَّف بحكمة وتديُّن، فالرسول (صلی الله علیه و آله) عندما دفن معاذاً وقالت أُمُّه: هنيئاً لك الجنَّة يا معاذ! قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): لا تحكمي علىٰ الله، فإنَّه ستصيبه ضغطة في قبره، لأنَّه كان سيِّئ الخُلُق مع أهله(2).
ص: 196
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَلَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَىٰ الْخَلْقِ بِكَ»(1).
وكذا مثلاً الموظَّف لا بدَّ أن يتعامل مع المراجعين بما يظهر معه أثر الدين، فإنَّ الدين المعاملة كما يقال، وخير وثيقةٍ للموظَّف هي وثيقة الإمام أمير المؤمنين إلىٰ صاحبه مالك الأشتر عندما أرسله والياً علىٰ مصر، حيث يقول فيما يقول له: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ»(2).
وليُتذكَّر أنَّ القوَّة لله جميعاً، وهو وحده تعالىٰ القويُّ المطلق والقادر المطلق، ففي حِكَم لقمان الحكيم: (وإذا دعتك القدرة إلىٰ ظلم من هو دونك، فاذكر قدرة الله عليك)(3).
وقد روي عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لمَّا حضر عليَّ بن الحسين (علیهما السلام) الوفاة ضمَّني إلىٰ صدره، ثمّ قال: يا بنيَّ،
ص: 197
أُوصيك بما أوصاني به أبي (علیه السلام) حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنَّ أباه أوصاه به، قال: يا بنيَّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلَّا الله»(1).
ونجد الإمام عليّاً (علیه السلام) يقول لأهل الكوفة: «أتريدون أن أضربكم بسيفي!؟ أمَا إنّي أعلم الذي تريدون ويقيم أودكم، ولكن لا أشتري صلاحكم بفساد نفسي»(2).
وهذا مثال الحاكم المتَّقي، فلا بدَّ أن يحسب القويُّ حساب الخوف من الله تعالىٰ.
مرَّةً كان الإمام عليٌّ (علیه السلام) جالساً مع أصحابه ومعهم أحد الخوارج، فمرَّت بهم امرأة، فرمقها بعضهم بطرفه، فقال الإمام: «إِنَّ أَبْصَارَ هَذِه الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَىٰ امْرَأَةٍ تُعْجِبُه فَلْيُلَامِسْ أَهْلَه، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِه»، فقال الخارجي: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فانظر إلىٰ الحاكم العادل، عندما قام أصحابه ليقتلوا ذلك الخارجي، فقال الإمام (علیه السلام): «رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ»(3)، ولم ينقل التاريخ أنَّه (علیه السلام) سبَّه، فهذا يعني أنَّه عفىٰ عنه.
فلا بدَّ أن يكون الوازع الديني هو الذي يقود المجتمع، فالإمام عليٌّ (علیه السلام) لم يكن ليقول ذلك فقط، بل إنَّ سيرته كانت مطابقة لأفعاله، وهكذا كان الإمام الحسين (علیه السلام) حيث يقول: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جدّي
ص: 198
(صلی الله علیه و آله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهىٰ عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) »(1).
كان الناس ينظرون إلىٰ ظلم آل أُميَّة - معاوية ويزيد (لعنهما الله) -، ولكن أبا عبد الله الذي أبىٰ الضيم كان يقول: «ألَا ترون أنَّ الحقِّ لا يُعمَل به، وأنَّ الباطل لا يُتناهىٰ عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرىٰ الموت إلَّا سعادةً، والحياة مع الظالمين إلَّا بَرَماً...»(2).
يوماً ما سألت أُمُّ المؤمنين أُمُّ سَلَمة رسولَ الله (صلی الله علیه و آله)، فقالت: بأبي أنت وأُمّي، المرأة يكون لها زوجان فيموتان فيدخلان الجنَّة لأيِّهما تكون؟ فقال: «يا أُمَّ سَلَمة، تَخيَّر أحسنهما خُلُقاً وخيرهما لأهله. يا أُمَّ سَلَمة، إنَّ حَسَنَ الخُلُق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(3).
لا نجد أمراً أمر به الإسلام وحثَّ عليه أكثر من حسن الخُلُق، فاعتبر أنَّ الخُلُق وعاء الدين(4)، وأنَّ الإسلام ليس هو إلَّا حسن الخُلُق(5)، وجُعِلَ هو مدار القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الجنَّة(6)، وهو أكثر ما تلج به الأُمَّة الجنَّة(7)، وغيرها من الأحاديث الكثيرة. ولذا كثرت دعوة أهل البيت (علیهم السلام) لاكتساب مكارم الأخلاق، يقول أمير
ص: 199
المؤمنين (علیه السلام): «ثابروا علىٰ اقتناء المكارم، وتحمَّلوا أعباء المغارم، تحرزوا قصبات المغانم»(1).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنَّها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحرِّ»، قيل: وما هنَّ؟ قال: «صدق البأس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل، والمكافأة علىٰ الصنائع، والتذمُّم للجار، والتذمُّم للصاحب، ورأسهنَّ الحياء»(2).
وعلىٰ كلِّ حالٍ، فالأحاديث في حسن الخُلُق أكثر من أن تُحصىٰ، ولكن الملاحَظ أنَّه ترتَّبت علىٰ حسن الخُلُق آثار دنيوية وأُخروية، وهذا ما يدعو إلىٰ التأمُّل قليلاً في تأكيد الروايات الكثيرة علىٰ هذا المعنىٰ، فلماذا كان لحسن الخُلُق تلك الآثار الإيجابية، ولسوئه تلك الآثار السلبية!؟ هذا ما أجابت عنه الروايات الشريفة. والتفصيل هو التالي:
يمكن أن نلاحظ في هذا المجال أربعة أحاديث مرويَّة عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثلاثة منها تُمثِّل مقدّمات لحصول الرابع، وهي:
الحديث الأوَّل: «من ضاق خُلُقه ملَّه أهله»(3).
وذلك لأنَّ الأهل ينتظرون من أبيهم مثلاً الذي يقضي معظم وقته خارج البيت، أن يكون لهم أباً رؤوفاً، وبهم رحيماً، يُدفِئهم بحنانه،
ص: 200
ويُدخِل السرور علىٰ الحزين منهم، فإذا كان دخوله علىٰ عكس ذلك، وكان عليهم نقمة، ومن يُحِبُّ النقمة!؟ وإذا كان عليهم جبّاراً، فإنَّ سجناءه سيفرون منه، وإن لم يستطيعوا فسيُملّون وجوده الثقيل!
يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ الرجل ليُدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنَّه ليُكتَب جبّاراً وما يملك إلَّا أهل بيته»(1).
ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): «قال لقمان لابنه: ... وحسِّنْ مع جميع الناس خُلُقك. يا بنيَّ، إن عدمك ما تصل به قرابتك وتتفضَّل به علىٰ إخوانك، فلا يعدمنَّك حسن الخُلُق، وبسط البشر، فإنَّه مَنْ أحسن خُلُقه أحبَّه الأخيار وجانبه الفجّار»(2).
الحديث الثاني: «من ساء خُلُقه ضاق رزقه»(3).
ولا شكَّ في ذلك، فلو كان صاحب الدكّان لطيفاً مع زبائنه، متسامحاً معهم، فإنَّ الناس ستتكالب علىٰ بابه، تجذبهم قوَّةُ أخلاقه، علىٰ العكس تماماً من البائع سيِّئ الخُلُق.
سُئِلَ أحد الناجحين في بيع الحاجات عن سرِّ نجاحه، فقال: كنت أستقبل من يأتيني بابتسامة عريضة، وأعرض له ما يريد من بضائع، وحتَّىٰ إذا لم يشترِ أشكره جدّاً علىٰ زيارته، وأطلب منه أن يتفضَّل بنقل ما رآه من بضائع وأُسلوب من صاحب المحلِّ إلىٰ ثلاثة من أصحابه، وهكذا يدفعهم الفضول لزيارة دكّاني.
ومن هنا ورد في الشريعة السمحاء استحباب إقالة النادم،
ص: 201
والتساهل والتسامح في البيع والشراء، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «أيُّما مسلم أقال مسلماً ندامة في البيع، أقاله الله عثرته يوم القيامة»(1).
وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترىٰ، سمحاً إذا اقتضىٰ، سمحاً إذا قضىٰ»(2).
ومن هنا قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «حسن الأخلاق يدرُّ الأرزاق، ويؤنس الرفاق»(3).
الحديث الثالث: «من ساء خُلُقه قلاه مصاحبه ورفيقه»(4).
إنَّ الواقع والوجدان شاهدان علىٰ أنَّ صاحب اللسان البذيء أو الجلوس الثقيل أو الحاجة الملحَّة المحرجة وما شابه، فإنَّ الناس تهرب منه، وإذا وقع في مشكلة تمنَّوا أن لا يخرج منها حتَّىٰ يدوم أو علىٰ الأقلّ يطول وقت راحتهم منه، علىٰ عكس صاحب الأخلاق الحسنة الذي لا يملُّ الناس مجالسته، ولذا قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ لَانَ عُودُه كَثُفَتْ أَغْصَانُه»(5).
عن ضرار بن ضمرة، قال: أوصىٰ أمير المؤمنين (علیه السلام) بنيه، فقال: «يا بَنِيَّ، عاشروا الناس بالمعروف، معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم»، ثمّ قال:
ص: 202
أُريد بذاكم أن تهشوا لطلقتي *** وأن تكثروا بعدي الدعاء علىٰ قبري
وأن يمنحوني في المجالس ودَّهم *** وإن كنت عنهم غائباً أحسنوا ذكري(1)
الحديث الرابع: سُئِلَ أمير المؤمنين (علیه السلام) عن أدوم الناس غمّاً، فقال: «أسوأهم خلقاً»(2).
وهذا واضح جدّاً بعد أن كان سيِّئ الخُلُق مملولاً من قِبَل أهله، وضائقاً عليه رزقه، ومتروكاً من أصحابه وأترابه، فأيُّ سعادة تبقىٰ بعد هذا!؟ وأيُّ غمٍّ أشدّ من هذا!؟
إنَّه العذاب الذي سيجنيه صاحب الخُلُق السيِّئ، وفعلاً، وكما قال الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): «من ساء خُلُقه عذَّب نفسه»(3).
ملاحظة:
هذه الأحاديث إنَّما تصدق ويتحقَّق مضمونها في مجتمع تتحكَّم فيه القيم والمبادئ، أمَّا إذا تُركت القيم وراء الستار، وتحكَّمت المصالح والأهواء، فلربَّما تجد من يصاحب صاحب الأخلاق السيِّئة ويجلس معه ويسامره. ولكن ليكن معلوماً أنَّ هذه المصاحبة هي من نوع مصاحبة المصالح، التي تنتهي بانتهاء المصلحة، وبعدها تتجهَّم الوجوه، وتظهر الحقائق وتبين.
وللخُلُق تأثير مهمٌّ وخطر جدّاً في الآخرة، وذلك ما كشفت عنه
ص: 203
الروايات الشريفة، فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): أبىٰ الله (عزوجلّ) لصاحب الخُلُق السيِّئ بالتوبة، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنَّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»(1).
وعن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد (علیه السلام)، قال: «أُتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقيل: إنَّ سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقام أصحابه، فحمل فأمر فغُسِّل...» إلىٰ أن دفنه، وقال (صلی الله علیه و آله): «إنَّ سعداً قد أصابته ضمَّة...، إنَّه كان في خُلُقِه مع أهله سوءٌ»(2).
ومن هنا ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(3).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «حسِّن خُلُقك يُخفِّف الله حسابك»(4).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ العبد ليبلغ بحسن خُلُقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنَّه لضعيف العبادة، وإنَّه ليبلغ بسوء خُلُقه أسفل درك من جهنَّم وهو عابد»(5).
ولذا كانت سيرة الصالحين عموماً هي حسن الخُلُق، ونذكر هنا بعضاً من الروايات لتزيين هذه السطور:
عن أبان الأحمر، عن الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، قال: «جاء رجل إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) - وقد بُلي ثوبه -، فحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال (علیه السلام): يا عليُّ، خذ هذه الدراهم فاشتر لي بها ثوباً ألبسه، قال عليٌّ (علیه السلام): فجئت إلىٰ السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر
ص: 204
درهماً، وجئت به إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فنظر إليه فقال: يا عليُّ، غير هذا أحبُّ إليَّ، أترىٰ صاحبه يقيلنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر، فجئت إلىٰ صاحبه فقلت: إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد كره هذا يريد غيره فأقلنا فيه، فردَّ عليَّ الدراهم، وجئت بها إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فمشىٰ معه إلىٰ السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلىٰ جارية قاعدة علىٰ الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما شأنكِ؟ قالت: يا رسول الله، إنَّ أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم حاجة فضاعت، فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلىٰ أهلكِ، ومضىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ السوق فاشترىٰ قميصاً بأربعة دراهم، ولبسه وحمد الله (عزوجلّ)، فرأىٰ رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنَّة، فخلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثمّ رجع (علیه السلام) إلىٰ السوق فاشترىٰ بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر، فلبسه وحمد الله (عزوجلّ)، ورجع إلىٰ منزله فإذا الجارية قاعدة علىٰ الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لكِ لا تأتين أهلكِ؟ قالت: يا رسول الله، إنّي قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مرّي بين يدي ودلّيني علىٰ أهلكِ، وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتَّىٰ وقف علىٰ باب دارهم، ثمّ قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فقالوا: وعليكم السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لكم تركتم إجابتي في أوَّل السلام والثاني؟ فقالوا: يا رسول الله، سمعنا كلامك فأحببنا أن نستكثر منه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنَّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول الله، هي حرَّة لممشاك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):
ص: 205
الحمد لله، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركةً من هذه، كسا الله بها عاريين، وأعتق نسمة»(1).
وقال نصراني للإمام الباقر (علیه السلام): أنت بقر؟ قال: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطبّاخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيَّة؟ قال: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك»، قال: فأسلم النصراني(2).
ومن الشواهد علىٰ ذلك أيضاً هو شعر حيص بيص، في قصَّة ذكرها ابن خلِّكان بترجمته، وهذا نصُّ ما حكاه:
قال الشيخ نصر الله بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن - وكان من ثقات أهل السُّنَّة -: رأيت في المنام عليَّ بن أبي طالب (رضی الله عنه)، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكّة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمُّ علىٰ ولدك الحسين يوم الطفِّ ما تمَّ؟
فقال: أمَا سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه.
ثمّ استيقظت فبادرت إلىٰ دار حيص بيص، فخرج إليَّ، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطّي إلىٰ أحد، وإن كنت نظمتها إلَّا في ليلتي هذه، ثمّ أنشدني:
ملكنا فكان العفو منّا سجيَّة *** فلمَّا ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحللتم قتل الأُسارىٰ وطالما *** غدونا علىٰ الأسرىٰ نعفو ونصفحُ
ص: 206
فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ(1)
لا يشكُّ أحد في أهمّية الصبر في الحياة، هذه الحياة التي بُنيت علىٰ الصعاب والمتاعب، وهل من مرتاح في الدنيا!؟ وهل هناك من ادَّعىٰ ذلك!؟
اجتماعياً حيث يعيش المرء بين أفراد تتفاوت درجات إدراكهم وبالتالي تصرُّفاتهم، الأمر الذي يعني حدوث أُمور علىٰ غير ما تشتهيه النفس - وربَّما العقل -، وهذا ما يحتاج إلىٰ حسن تصرُّف في موقف حرج، وهنا احتاج الإنسان إلىٰ الصبر، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «الصبر في الأُمور بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد، وإذا فارق الصبر الأُمور فسدت الأُمور»(2).
إنَّ الصبر هو الملاك في السيطرة علىٰ مقتضيات الحياة، ومن يصبر عليها ينل منها ما أحبَّ، وعلىٰ الأقلّ يتخلَّص ممَّا لا يُحِبُّ منها، هذا فضلاً عن الثواب العظيم الذي أثبتته الروايات الشريفة لمن اتَّصف عملياً بالصبر.
عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنَّة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم: علىٰ ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر علىٰ طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله (عزوجلّ): صدقوا، أدخلوهم الجنَّة، وهو قول الله (عزوجلّ): ﴿إِنَّما يُوَفَّىٰ الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ 10﴾ [الزمر: 10]»(3).
ص: 207
و(بغير حساب) يُحتَمل فيه أن يكون بمعنىٰ عدم المحاسبة أصلاً، ويُحتَمل أن يكون بمعنىٰ كثرة الجزاء بحيث لا يستطيع أحد حسابه(1).
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ داود (علیه السلام) أنَّ خلادة بنت أوس بشِّرها بالجنَّة، وأعلمها أنَّها قرينتك في الجنَّة، فانطلق إليها، فقرع الباب عليها، فخرجت وقالت: هل نزل فيَّ شيء؟ قال: نعم، قالت: وما هو؟ قال: إنَّ الله تعالىٰ أوحىٰ إليَّ وأخبرني أنَّكِ قرينتي في الجنَّة، وأن أُبشِّركِ بالجنَّة، قالت: أوَيكون اسم وافق اسمي؟ قال: إنَّكِ لأنتِ هي، قالت: يا نبيَّ الله ما أكذبك، ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به، قال داود: أخبريني عن ضميركِ وسريرتكِ ما هو؟ قالت: أمَّا هذا فسأُخبرك به، أُخبرك أنَّه لم يصبني وجع قطُّ نزل بي كائناً ما كان، ولا نزل بي ضرٌّ وحاجة وجوع كائناً ما كان إلَّا صبرت عليه، ولم أسأل الله كشفه عنّي حتَّىٰ يُحوِّله الله عنّي إلىٰ العافية والسعة، ولم أطلب بدلاً، وشكرت الله عليها وحمدته، فقال داود (علیه السلام): فبهذا بلغتِ ما بلغتِ»، ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «وهذا دين الله الذي ارتضاه للصالحين»(2).
وعلىٰ كل حال، ينبغي أن نتعرف علىٰ الصبر من وجهة عملية لا نظرية، حتىٰ نعمل علىٰ الاتصاف به، حتىٰ ننال هداية اللطف الإلهية.
يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر علىٰ الطاعة، وصبر عن المعصية»(3).
ص: 208
من الواضح أنَّ كثيراً من الطاعات تتعارض مع مشتهيات النفس، فالنفس تميل إلىٰ الراحة والدعة، وتكره التزام نظام خاصٍّ يُملي عليها تصرُّفاتها، ولذا احتاج الإنسان إلىٰ الصبر حتَّىٰ يحبس نفسه علىٰ الطاعة، يقول تعالىٰ: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ 5﴾ (القيامة: 5).
فالنفس تهوىٰ الأكل والنوم عندما تهبُّ ريح الصبا وقت الفجر، والطاعة تقتضي ترك الأكل في شهر رمضان، وقلع النوم من العين ليقوم العبد يُصلّي فجراً، ولا معين علىٰ ذلك إلَّا الصبر. وهكذا في كثير من التصرُّفات الفردية والاجتماعية، الطاعة تقتضي شيئاً، والشهوات وربَّما الأعراف والتقاليد تقتضي أمراً آخر.
عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ رجلاً من الأنصار علىٰ عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج في بعض حوائجه، فعهد إلىٰ امرأته عهداً ألَّا تخرج من بيتها حتَّىٰ يقدم»، قال: «وإنَّ أباها مرض، فبعثت المرأة إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، فقالت: إنَّ زوجي خرج وعهد إليَّ أن لا أخرج من بيتي حتَّىٰ يقدم، وإنَّ أبي قد مرض، فتأمرني أن أعوده؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا، اجلسي في بيتكِ وأطيعي زوجكِ»، قال: «فثقل فأرسلت إليه ثانياً بذلك، فقالت: فتأمرني أن أعوده؟ فقال: اجلسي في بيتكِ وأطيعي زوجكِ»، قال: «فمات أبوها، فبعثت إليه أنَّ أبي قد مات، فتأمرني أن أُصلّي عليه؟ فقال: لا، اجلسي في بيتكِ وأطيعي زوجكِ، قال: فدُفِنَ الرجل، فبعث إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنَّ الله قد غفر لكِ ولأبيكِ بطاعتكِ لزوجكِ»(1).
وحتَّىٰ يكون عند المؤمن دافع مهمٌّ وحافز قويٌّ لالتزام الصبر علىٰ
ص: 209
الطاعة، عليه أن يعلم أنَّه ما من شيء فرضه الله تعالىٰ إلَّا وهو راجع إلىٰ مصلحته، فإنَّ الله تعالىٰ لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرُّه معصية من عصاه.
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله (عزوجلّ) له قضاءً إلَّا كان خيراً له، وإن قُرِّض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له»(1).
وعن أبي حمزة الثمالي، عن عليِّ بن الحسين (علیه السلام)، قال: «الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضىٰ عليه فيما أحبَّ أو كره، لم يقض الله (عزوجلّ) له فيما أحبَّ أو كره إلَّا ما هو خير له»(2).
وعن الأصبغ بن نباته، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أوحىٰ الله (عزوجلّ) إلىٰ داود (علیه السلام): يا داود، تريد وأُريد ولا يكون إلَّا ما أُريد، فإن أسلمت لما أُريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّم لما أُريد أتعبتك فيما تريد، ثمّ لا يكون إلَّا ما أُريد»(3).
كما أنَّ التزام الطاعات مخالف لهوىٰ النفس، فإنَّ ارتكاب كثير من المعاصي موافق لهواها، ومخالفة الموافق أصعب من موافقة المخالف، وترك المعاصي أصعب من فعل الطاعات، خصوصاً مع زيادة عرض المعاصي وتنويع أساليب الإغراء، الأمر الذي يحتاج إلىٰ تمسُّك شديد بالصبر، وتوسُّل دائم بالله تعالىٰ، حتَّىٰ يتمكَّن العبد من مخالفة الأهواء.
ص: 210
إنَّ النفس - وحتَّىٰ تصل إلىٰ مشتهاها - مستعدَّة لعمل أيِّ شيء، فشعار النفس في الحقيقة هو أنَّ الغاية تُبرِّر الوسيلة، فلكي تكون غنيّاً استعمل أيَّ وسيلة، قتلٍ أو سلبٍ أو ربا أو بخسٍ في الميزان أو سرقة أو تحايلٍ.
وبين نزوات النفس، وتسويلات إبليس، وتعدُّد وسائل الحرام، احتاج المرء إلىٰ الصبر ملجأً منها.
عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنَّ الحُرَّ حُرٌّ علىٰ جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسِرَ وقُهِرَ واستُبدِلَ باليسر عسراً، كما كان يوسف الصدّيق الأمين صلوات الله عليه لم يضرر حرّيته أن استُعبِدَ وقُهِرَ وأُسِرَ، ولم تضرره ظلمة الجُبِّ ووحشته، وما ناله أن منَّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان [له] مالكاً، فأرسله ورحم به أُمَّة، وكذلك الصبر يُعقِّب خيراً، فاصبروا ووطِّنوا أنفسكم علىٰ الصبر توجروا»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «سيأتي علىٰ الناس زمان لا يُنال المُلك فيه إلَّا بالقتل والتجبُّر، ولا الغنىٰ إلَّا بالغصب والبخل، ولا المحبَّة إلَّا باستخراج الدِّين واتِّباع الهوىٰ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر علىٰ الفقر وهو يقدر علىٰ الغنىٰ، وصبر علىٰ البغضة وهو يقدر علىٰ المحبَّة، وصبر علىٰ الذلِّ وهو يقدر علىٰ العزِّ، آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممَّن صدَّق بي»(2).
ص: 211
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلىٰ الدرجة كما بين تخوم الأرض إلىٰ منتهىٰ العرش»(1).
لم يكن للإنسان بُدٌّ من مواجهة ما يمرُّ عليه في الدنيا، وليس كلُّ ما يمرُّ عليه يسرُّه، ولم يكن له علمُ الغيب حتَّىٰ يعلم مصلحته من مفسدته، فتراه يعتبر كثيراً من الأُمور التي تمرُّ عليه مصائب، وقد تكون في حقيقتها نِعَماً. وعلىٰ كلِّ حالٍ، عَلِمَ الإنسان أو لم يعلم، فإنَّه لا بدَّ له من المواجهة.
ولكن كيف يواجه؟ لا بدَّ له من وسيلة يحفظ بها نفسه وأجره ودينه، وما ذاك إلَّا الصبر.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «الصبر يُظهِر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يُظهِر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة، والصبر يدَّعيه كلُّ أحد، ولا يبين عنده إلَّا المخبتون، والجزع ينكره كلُّ أحد، وهو أبين علىٰ المنافقين، لأنَّ نزول المحنة والمصيبة، يُخبِر عن الصادق والكاذب»(2).
والحقيقة أنَّ تلمُّسَ حقيقة الصبر عند المصيبة صعب المنال، ولكن أقرب ما يُقرِّبه هو أن نطالع حياة الصابرين عند المصائب، لنتعلَّم منهم ذلك.
عن عبد الرحمن بن عثمان، قال: دخلنا علىٰ معاذ وهو قاعد عند
ص: 212
رأس ابن له، وهو يجود بنفسه، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال: مَهْ، فوَالله ليعلم الله برضاي، لهذا أحبّ إليَّ من كلِّ غزوة غزوتها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنّي سمعته يقول: «من كان له ابن وكان عليه عزيزاً، وبه ضنيناً، ومات فصبر علىٰ مصيبته واحتسبه، أبدل الله الميِّت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان»، فما برحنا حتَّىٰ قضىٰ - والله - الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر، فرحنا نريد الصلاة، فما جئنا إلَّا وقد غسَّله وحنَّطه وكفَّنه. وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الإخوان، ولا لجمع الجيران، فلمَّا بلغنا ذلك تلاحقنا، وقلنا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن، هلَّا انتظرتنا حتَّىٰ نفرغ من صلاتنا، ونشهد ابن أخينا؟ فقال: أُمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا بليل أو نهار، قال: فنزل في القبر، ونزل معه آخر، فلمَّا أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه من القبر، فأبىٰ وقال: ما أدع ذلك لفضل قوَّتي، ولكن أكره أن يرىٰ الجاهل أنَّ ذلك منّي جزع، أو استرخاء عند المصيبة. ثمّ أتىٰ مجلسه، ودعا بدهن فأدهن، وبكحل فاكتحل، وببردة فلبسها، وأكثر في يومه ذلك من التبسُّم، ينوي به ما ينوي، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، في الله خلف عن كلِّ هالك، وعزاء من كلِّ مصيبة، ودرك لكلِّ ما فات(1).
وقال أبان بن تغلب: دخلت علىٰ امرأة وقد نزل بابنها الموت، فقامت إليه، فغمَّضته وسجَّته، ثمّ قالت: يا بنيَّ، ما الجزع فيما لا يزول، وما البكاء فيما ينزل بك غداً. يا بنيَّ، تذوق ما ذاق أبوك، وستذوقه من
ص: 213
بعدك أُمُّك، وإنَّ أعظم الراحة لهذا الجسد النوم والنوم أخو الموت، فما عليك إن كنت نائماً علىٰ فراشك أو علىٰ غيره، وإنَّ غداً السؤال والجنَّة أو النار، فإن كنت من أهل الجنَّة فما ضرَّك الموت، وإن كنت من أهل النار فما ينفعك الحياة ولو كنت أطول الناس عمراً. يا بنيَّ، لولا أنَّ الموت أشرف الأشياء لابن آدم لما أمات الله نبيَّه (صلی الله علیه و آله) وأبقىٰ عدوَّه إبليس(1).
وعن بعضهم، قال: خرجت أنا وصديق لي إلىٰ البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلَّمنا، فإذا بامرأة تردُّ علينا السلام، وقالت: من أنتم؟
قلنا: ضالّون، فأتيناكم، فاستأنسنا بكم.
فقالت: يا هؤلاء، ولّوا وجوهكم عنّي، حتَّىٰ أقضي من حقِّكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحاً، وقالت: اجلسوا عليه إلىٰ أن يأتي ابني.
ثمّ جعلت ترفع طرف الخيمة وتردُّها إلىٰ أن رفعته مرَّة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أمَّا البعير فبعير ابني، وأمَّا الراكب فليس هو به.
قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا أُمَّ عقيل عظَّم الله أجركِ في عقيل ولدكِ، فقالت له: ويحك مات!؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل واقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً، فذبحه وأصلحه وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجَّب من صبرها، فلمَّا فرغنا خرجت إلينا وقالت: يا قوم، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ فقلت: نعم، قالت: فاقرأ عليَّ آيات أتعزّىٰ بها عن ولدي.
ص: 214
فقلت: يقول الله (عزوجلّ): ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157﴾ [البقرة: 155 - 157].
قالت: بالله إنَّها في كتاب الله هكذا؟ قلت: والله إنَّها لفي كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم، ثمّ صفَّت قدميها وصلَّت ركعات، ثمّ قالت: اللّهمّ إنّي قد فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به، ولو بقي أحد لأحد - قال: فقلت في نفسي تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت: - لبقي محمّد (صلی الله علیه و آله) لأُمَّته. فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها ولا أجزل(1).
ولا تنسَ أنَّك توالي من صبروا علىٰ البلاء فوفّاهم الله أُجور الصابرين، وبصبرهم حصلوا علىٰ مقام الرضا الإلهي، يقول الإمام الحسين (علیه السلام): «رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علىٰ بلائه، ويوفّينا أُجور الصابرين»(2).
يُولَد الإنسان فيجد نفسه محاطاً بعائلة، قد فُرِضَت عليه، لمصلحة رآها الله تعالىٰ، فليس لك الخيار في اختيار أب معيَّن أو أُمٍّ محدَّدة، ولا أن تستبدل أباً بآخر.
والآباء عموماً يُحِبُّون الخير لأولادهم، فحتَّىٰ لو كان الأب حمّالاً - مع احترامنا للحمّال في جهاده من أجل لقمة عيشه - لتمنّىٰ أن يكون أبناؤه أطبّاء ومهندسين. وحتَّىٰ لو كان منحرفاً، لرجا أن يكون أبناؤه صالحين. ولذا تجده يحرص علىٰ توفير أفضل حياة يمكنه توفيرها لهم.
ص: 215
وفوق هذا قد أودع الله تعالىٰ غريزة في نفوس الناس تقضي باستعدادهم للتضحية من أجل الأولاد، ليس فقط بالمال، بل بالراحة والعلاقات، وحتَّىٰ بالنفس لو استلزم الأمر، وليس هناك من عاطفة أقوىٰ من عاطفة الآباء والأُمَّهات علىٰ الأبناء.
وقد اطَّلع الله تعالىٰ علىٰ ذلك، وكان قد أجرىٰ قانوناً تشريعياً يستلزمه قانون تكويني يقول: ﴿هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ 60﴾ (الرحمن: 60)، فهذا فرض تشريعي من الله تعالىٰ، ومن التزم به يتبعه توفيق من الله تعالىٰ ولطف يتمنّاه الجميع، ففَرَضَ كتطبيق لهذا التشريع برَّ الوالدين.
يمكننا استكشاف موقع البرِّ من خلال بعض الآيات والروايات.
يقول تعالىٰ: ﴿وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً 23﴾ (الإسراء: 23).
وسُئِلَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن حقِّ الوالدين، فقال: «هما جنَّتك ونارك»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «رضا الربِّ في رضا الوالد، وسخط الربِّ في سخط الوالد»(2).
ويقول الإمام الرضا (علیه السلام): «برُّ الوالدين واجب، ولا طاعة لهما في معصية الله (عزوجلّ) »(3).
وعن أبي الحسن موسىٰ (علیه السلام)، قال: «سأل رجل رسول الله (صلی الله علیه و آله):
ص: 216
ما حقُّ الوالد علىٰ ولده؟ قال: لا يُسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب(1) له»(2).
ولا يشكُّ أحد بعد هذا بأهمّية برِّ الوالدين إلَّا من سفه نفسه، فليس هناك من أحد يجب طاعته مثل الوالدين، ولكن هذا ليس علىٰ إطلاقه، بل هناك بعض الاستثناءات وبعض الأحكام التي يجب الالتفات إليها:
أوَّلاً: إنَّما تجب طاعة الوالدين فيما إذا لم يتعارض أمرهما مع أمر الله تعالىٰ والرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ففي خبر الأعمش، عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، قال: «برُّ الوالدين واجب، فإن كانا مشركين فلا تطعهما ولا غيرهما في المعصية، فإنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(3).
فالولد البالغ يجب عليه الصوم وإن نهاه أبواه، ويجب عليه أن يُخمِّس أمواله الخاصَّة به وإن نهاه أبواه، وهكذا في جميع الواجبات.
نعم، إذا كان الواجب كفائياً ووجد من يقوم به غيره، فلعلَّ إطاعة الوالدين ستكون أهمّ، (وهذه المسألة يرجع فيها كلُّ فرد إلىٰ المرجع الذي يُقلِّده في الفقه).
ورد عن جابر، قال: أتىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجل، فقال: إنّي رجل شاب نشيط وأُحِبُّ الجهاد، ولي والدة تكره ذلك، فقال له النبيُّ (صلی الله علیه و آله):
ص: 217
«ارجع فكن مع والدتك، فوَالذي بعثني بالحقِّ نبيّاً لأُنسها بك ليلة خير من جهادك في سبيل الله سنة»(1).
وفي رواية أُخرىٰ عن جابر، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أتىٰ رجل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: يا رسول الله، إنّي راغب في الجهاد نشيط، قال: فقال له النبيُّ (صلی الله علیه و آله): فجاهد في سبيل الله، فإنَّك إن تُقتَل تكن حيّاً عند الله تُرزَق، وإن تَمُتْ فقد وقع أجرك علىٰ الله، وإن رجعت رجعت من الذنوب كما وُلِدْتَ، قال: يا رسول الله، إنَّ لي والدين كبيرين يزعمان أنَّهما يأنسان بي ويكرهان خروجي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فَقِرّ مع والديك، فوَالذي نفسي بيده لأُنسهما بك يوماً وليلةً خيرٌ من جهاد سنة»(2).
أمَّا إذا كان الأمر مستحبّاً، وكان فعله يؤذي الأبوين من جهة الشفقة منهما علىٰ ولدهما، فحينئذٍ يجب علىٰ الولد أن يطيعهما ويترك المستحبَّ، ولذا حكم الفقهاء بأنَّه لو أراد الولد أن يسافر، وكان الوالد يشفق علىٰ ولده من سفره، بأن كان يتأذّىٰ عليه، وجب علىٰ الولد إطاعة والده حتَّىٰ وإن حرم الولد من تحقيق رغبته إذا لم يتضرَّر بترك السفر(3).
يقول الإمام السجّاد (علیه السلام) في رسالة الحقوق: «وأمَّا حقُّ أبيك، فأن تعلم أنَّه أصلك، وأنَّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممَّا يُعجِبك فاعلم أنَّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره علىٰ قدر ذلك، ولا قوَّة إلَّا بالله» (4).
ص: 218
ثانياً: وبعد هذا يجب البرُّ بهما والإحسان إليهما وإن كانا ظالمين للولد، بل وإن كانا مشركين.
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «من نظر إلىٰ أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة»(1).
وعن جابر، قال: سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله (علیه السلام): إنَّ لي أبوين مخالفين، فقال: «برَّهما كما تبرُّ المسلمين ممَّن يتولّانا»(2).
ولعلَّ برَّ الكافرين يتسبَّب بإيمانهما، كما حصل لزكريا بن إبراهيم، فقد روي عنه أنَّه قال: كنت نصرانياً، فأسلمت وحججت، فدخلت علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، فقلت: إنّي كنت علىٰ النصرانية، وإنّي أسلمت فقال: «وأيَّ شيء رأيت في الإسلام؟»، قلت: قول الله (عزوجلّ): ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا﴾ [الشورىٰ: 52].
فقال: «لقد هداك الله»، ثمّ قال: «اللّهمّ اهده - ثلاثاً -، سَلْ عمَّا شئت يا بنيَّ»، فقلت: إنَّ أبي وأُمّي علىٰ النصرانية وأهل بيتي، وأُمّي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: «يأكلون لحم الخنزير؟»، فقلت: لا، ولا يمسّونه.
فقال: «لا بأس، فانظر أُمَّك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها إلىٰ غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرنَّ أحداً أنَّك أتيتني حتَّىٰ تأتيني بمنىٰ إن شاء الله».
قال: فأتيته بمنىٰ والناس حوله كأنَّه معلِّم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله. فلمَّا قدمت الكوفة ألطفت لأُمّي وكنت أطعمها وأفلي ثوبها
ص: 219
ورأسها وأخدمها. فقالت لي: يا بنيَّ، ما كنت تصنع بي هذا وأنت علىٰ ديني، فما الذي أرىٰ منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبيِّنا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبيٌّ؟ فقلت: لا، ولكنَّه ابن نبيٍّ. فقالت: يا بنيَّ، إنَّ هذا نبيٌّ، إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أُمَّه، إنَّه ليس يكون بعد نبيِّنا نبيٌّ، ولكنَّه ابنه.
فقالت: يا بنيَّ، دينك خير دين، اعرضه عليَّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلَّمتها، فصلَّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بنيَّ، أعد عليَّ ما علَّمتني! فأعدته عليها، فأقرَّت به وماتت.
فلمَّا أصبحت كان المسلمون الذين غسَّلوها، وكنت أنا الذي صلَّيت عليها ونزلت في قبرها(1).
ثالثاً: للولد استقلاله المالي، فيجوز له التصرُّف بأمواله كيفما يحلو له، ولكن ينبغي أن لا يتسبَّب في إيذاء والديه. نعم، يجب عليه أن يُنفِق علىٰ أبويه من أمواله إذا كانا فقيرين وهو غنيٌّ، وأمَّا إذا كان هو فقيراً أيضاً أو كانا غنيَّين، فلا تجب عليه نفقتهما(2).
ص: 220
ولكن هذا لا يعني أن يقطع يده عنهما، فلا شكَّ أنَّ الإحسان إليهما هو من مقتضيات البرِّ كما اتَّضح.
رابعاً: الروايات تؤكِّد علىٰ أنَّ حقَّ الأُمِّ في البرِّ أقوىٰ وأشدّ من حقِّ الأب، ولعلَّ ذلك كان من أجل أنَّ الأُمَّ مظهر للرحمة الإلهيَّة، فالنبيُّ (صلی الله علیه و آله) رأىٰ يوماً أُمّاً قد فقدت ابنها، وهي تبحث عنه بلهفة وبكاء، وما أن وجدته حتَّىٰ ضمَّته إلىٰ صدرها باكية وانهالت عليه بالقُبَل، فسأل أصحابه عن عظم رحمة الأُمِّ بولدها، ثمّ أخبرهم بأنَّ الله تعالىٰ لأرحم بعباده من هذه الأُمِّ بولدها(1)، فرحمة الله تعالىٰ لا يمكن تصويرها إلَّا برحمة الأُمِّ بولدها.
ولا يعني هذا أنَّ مقدار الرحمة الإلهيَّة هو هذا، ولكنَّه أقرب ما يُوضِّح الصورة.
- وهي أحوج إلىٰ ولدها من أبيه، فالأب عنده من قوَّة القلب ما يمكنه أن يستغني عن ولده، ولكن الأُمّ إنَّما تُربّي ولدها، وكُلُّها أملٌ بأن تراه يبرّها في آخر حياتها.
- ولأنَّ حقَّها أعظم، لأنَّ مهمَّتها في حضانة وتربية الولد أصعب من الوالد، فالأب تنتهي مهمَّته بإلقاء نطفته في رحم الأُمِّ، ولكن الأُمّ تبقىٰ تعالج روحها تسعة أشهر ترىٰ فيها الموت بالأقساط! ثمّ تبدأ عندها مهمَّة جديدة في حضانة الولد التي لا يمكن للأب أن يتحمَّل بعض مفرداتها، وهل رأيت أباً يُنظِّف ولده ممَّا يخرج من بطنه!؟ وهل رأيت أباً يسهر حتَّىٰ الصباح من أجل إسكات ولده!؟
يقول الإمام السجّاد (علیه السلام) في رسالة الحقوق: «وأمَّا حقُّ أُمِّك،
ص: 221
فأن تعلم أنَّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتُطعِمك، وتعطش وتسقيك، وتعرىٰ وتكسوك، وتضحىٰ وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرَّ والبرد، لتكون لها، وإنَّك لا تطيق شكرها إلَّا بعون الله وتوفيقه»(1).
عن إبراهيم بن مهزم، قال: خرجت من عند أبي عبد الله (علیه السلام) ليلة ممسياً، فأتيت منزلي بالمدينة، وكانت أُمّي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها، فلمَّا أن كان من الغد صلَّيت الغداة، وأتيت أبا عبد الله (علیه السلام)، فلمَّا دخلت عليه فقال لي مبتدئاً: «يا أبا مهزم، ما لك وللوالدة أغلظت في كلامها البارحة؟ أمَا علمت أنَّ بطنها منزل قد سكنته، وأنَّ حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته؟»، قال: قلت: بلىٰ، قال: «فلا تغلظ لها»(2).
خامساً: في قضيَّة الزواج، البنت الباكر ليس لها أن تتزوَّج إلَّا بإذن أبيها أو جدِّها لأبيها، وإذا كان أبوها وجدُّها لأبيها ميِّتين فهي مالكة أمرها(3).
ص: 222
نعم، ينبغي لها أن لا تترك الأعراف والتقاليد التي تحكم المجتمعات المسلمة، فتستأذن أخاها مثلاً(1).
وأمَّا الولد، فلا شكَّ أنَّ من أهمّ ما يضفي التوافق والتفاهم تربوياً بينه وبين أبيه وأُمِّه هو أن يستأذن أباه وأُمَّه في مسألة اختياره لزوجته، وعلىٰ الأبوين أن يتفهَّما اختيار ولده، وأن يُرشداه نحو الاختيار الصحيح.
سادساً: لا يتصوَّرَنَّ أحدٌ أنَّه يستطيع أن يؤدّي حقَّ أبويه مهما فعل، وقد روي أنَّه سأل رجل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن هل أعطىٰ أُمَّه حقَّها وبرَّها وقد حملها علىٰ ظهره من بيته وأكمل حجَّها علىٰ ظهره، فأخبره النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بأنَّه لم يعادل حقَّ طلقة واحدة من أُمِّه(2)!
ومن هنا أمرتنا الروايات الشريفة بمزيد من التعظيم للوالدين، إلىٰ الحدِّ الذي يُروىٰ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ أبي نظر إلىٰ رجل ومعه ابنه يمشي والابن متَّكئ علىٰ ذراع الأب»، قال: «فما كلَّمه أبي (علیه السلام) مقتاً له حتَّىٰ فارق الدنيا»(3).
ص: 223
سابعاً: وعلىٰ ما لم يتمكَّن من برِّ والديه في حياتهما لصغر سنِّه أو لعقوقه، أن يعمل علىٰ تدارك هذا الأمر ويعمل علىٰ برِّهما بعد مماتهما.
فعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله (عزوجلّ) عاقّاً. وإنَّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضىٰ دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله (عزوجلّ) بارّاً»(1).
وقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مرَّ عيسىٰ بن مريم (علیه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو لا يُعذَّب، فقال: يا ربِّ، مررت بهذا القبر عام أوَّل فكان يُعذَّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟ فأوحىٰ الله إليه أنَّه أُدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوىٰ يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه...»(2).
أمَّا الأثر التشريعي، فهو قبول الأعمال، فإنَّ من يبرُّ والديه يصبح عنده ضمانة مهمَّة من ضمانات قبول الأعمال، وهو ما عبَّرت عنه الروايات بأنَّ رضي الله في رضا الوالدين(3)، وأنَّ الجنَّة تحت أقدام الأُمَّهات(4).
عن سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد (علیهما السلام) يقول: «إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) حضر شابّاً عند وفاته، فقال له: قل لا إله إلَّا الله، قال: فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأة عند رأسه: هل لهذا أُمٌّ؟
ص: 224
قالت: نعم، أنا أُمُّه، قال: أفساخطة أنتِ عليه؟ قالت: نعم، ما كلَّمته منذ ستّ حجج، قال لها: ارضي عنه، قالت: رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه. فقال له رسول الله: قل لا إله إلَّا الله»، قال: «فقالها، فقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): ما ترىٰ؟ قال: أرىٰ رجلاً أسود الوجه، قبيح المنظر، وسخ الثياب، نتن الريح، قد وليني الساعة وأخذ بكظمي، فقال له النبيُّ (صلی الله علیه و آله): قل: يا من يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير، واعف عنّي الكثير، إنَّك أنت الغفور الرحيم»، فقالها الشابُّ، فقال له النبيُّ (صلی الله علیه و آله): انظر ما ترىٰ؟ قال: أرىٰ رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيِّب الريح، حسن الثياب، قد وليني، وأرىٰ الأسود قد تولّىٰ عنّي. فقال له: أعد، فأعاد، فقال له: ما ترىٰ؟ قال: لست أرىٰ الأسود، وأرىٰ الأبيض قد وليني، ثمّ طُفي علىٰ تلك الحال»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «كان في بني إسرائيل عابد يقال له: جريح، وكان يعبد الله في صومعة، فجاءته أُمُّه وهو يُصلّي، فدعته، فلم يجبها ولم يُكلِّمها، فانصرفت وهي تقول: أسأل إله بني إسرائيل أن يخذلك. فلمَّا كان من الغد جاءت فاجرة وقعدت عند صومعته، قد أخذها الطلق، فادَّعت أنَّ الولد من جريح، ففشا في بني إسرائيل أنَّ من كان يلوم الناس علىٰ الزنا زنىٰ، وأمر الملك بصلبه، فأقبلت أُمُّه إليه تلطم وجهها، فقال لها: اسكتي، إنَّما هذا لدعوتكِ، فقال الناس لمَّا سمعوا ذلك منه: وكيف لنا بذلك؟ قال: هاتوا الصبي، فجاؤوا به، فأخذه، فقال: من أبوك؟ فقال: فلان الراعي لبني فلان، فأكذب الله الذين قالوا ما قالوا في جريح، فحلف جريح ألا يفارق أُمَّه يخدمها»(2).
ص: 225
وأمَّا الأثر التكويني، فهو كثير، نذكر منه التالي:
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم»(1).
ومن هنا ورد أنَّ عقوق الوالدين من الذنوب التي تُعجَّل عقوبتها، ومن عقوبته عقوق الأولاد.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان»(2).
عن البزنطي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) يقول: «إنَّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له، ثمّ أخذه وطرحه علىٰ طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثمّ جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسىٰ (علیه السلام): إنَّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً، فأخبرنا من قتله؟ قال: ائتوني ببقرة، ﴿قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ 67﴾، ولو أنَّهم عمدوا إلىٰ بقرة أجزأتهم، ولكن شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ﴾ يعني لا صغيرة ولا كبيرة ﴿عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ﴾، ولو أنَّهم عمدوا إلىٰ أيِّ بقرة أجزأتهم، ولكن شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ 69﴾، ولو أنَّهم عمدوا إلىٰ أيِّ بقرة لأجزأتهم، ولكن شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا
ص: 226
إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ 70 قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: 67 - 71]، فطلبوها فوجدوها عند فتىٰ من بني إسرائيل، فقال: لا أبيعها إلَّا بملء مسكها ذهباً، فجاؤوا إلىٰ موسىٰ (علیه السلام)، فقالوا له ذلك فقال: اشتروها، فاشتروها وجاؤوا بها، فأمر بذبحها، ثمّ أمر أن يضربوا الميِّت بذنبها، فلمَّا فعلوا ذلك حيي المقتول، وقال: يا رسول الله، إنَّ ابن عمّي قتلني دون من يدَّعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله. فقال رسول الله موسىٰ بن عمران (علیه السلام) لبعض أصحابه: إنَّ هذه البقرة لها نبأ، فقال: وما هو؟ قال: إنَّ فتىٰ من بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه، وإنَّه اشترىٰ تبيعاً فجاء إلىٰ أبيه فرأىٰ أنَّ المقاليد تحت رأسه، فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع، فاستيقظ أبوه فأخبره، فقال له: أحسنت، خذ هذه البقرة فهي لك عوضاً لما فاتك»، قال: «فقال له رسول الله موسىٰ بن عمران (علیه السلام): انظروا إلىٰ البرِّ ما بلغ بأهله»(1).
ظهر ممَّا تقدَّم كلُّه أنَّ هداية اللطف هداية استحقاقية، لا بمعنىٰ أنَّ أحداً يستحقُّ أمراً علىٰ الله تعالىٰ، إذ لا حقَّ لأحد علىٰ الله تعالىٰ بأيِّ صورة من صور الاستحقاق، ولكن من باب اللطف والرحمة، فإنَّ الله تعالىٰ يجازي بعض عباده بأن يهب لهم ألطافاً ظاهرة وخفيَّة عقيب التزامهم بأحد سلالم هداية اللطف.
ولكن في بعض الأحيان، ولأنَّ الله تعالىٰ يعلم بعلمه السابق أنَّ
ص: 227
عبداً من عبيده سيلتزم بما يوجب اللطف، ويعلم ذلك من نيَّته الحقيقية وإرادته الواعية، فإنَّ الله تعالىٰ يُعجِّل له اللطف قبل العمل، ذلك أنَّ الله تعالىٰ يُعطي حسب كرمه لا علىٰ حسب الاستحقاق.
وأوضح مصاديق هذا المعنىٰ هي عصمة الأنبياء والأولياء، إذ إنَّ من عقيدة أتباع أهل البيت (علیهم السلام) أنَّ الأنبياء والأوصياء عموماً معصومون منذ الطفولة إلىٰ الممات، وليست العصمة أمراً خاصّاً بتبليغ الأحكام الشرعية للناس أو بزمن ما بعد البعثة كما ادَّعته بعض الفِرَق.
وإذا قيل بأنَّ العصمة إنَّما هي لطف مستحقٌّ، فكيف يكسبها المعصوم قبل أن يبدر منه أيُّ عمل صالح؟
فيُجاب بأنَّ الله تعالىٰ علم بأنَّ الإرادة الواقعية والجادَّة والمستمرَّة من المعصومين كانت علىٰ عمل الطاعات والابتعاد عن كلِّ ما لا يرضىٰ به الباري جلَّ وعلا، فلطف بهم ووهبهم العصمة حين أطلّوا علىٰ الدنيا.
ومن لطائف ما نقله القرآن الكريم عن اللطف الابتدائي هو قضيَّة النبيِّ موسىٰ (علیه السلام) .
قال تعالىٰ عن موسىٰ النبيِّ (علیه السلام): ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ (طه: 39).
يقال: إنَّ قابلة موسىٰ كانت من الفراعنة، وكانت مصمَّمة علىٰ رفع خبر ولادته إلىٰ فرعون، إلَّا أنَّه لمَّا وقعت عينها علىٰ عين المولود الجديد، فكأنَّ ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوَّقت محبَّته رقبتها، وابتعدت عن رأسها كلُّ الأفكار السيِّئة(1).
ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) في هذا الباب: «فلمَّا
ص: 228
وضعت أُمُّ موسىٰ بموسىٰ (علیه السلام) نظرت إليه وحزنت عليه واغتمَّت وبكت، وقالت: يُذبَح الساعة، فعطف الله بقلب الموكَّلة بها عليه، فقالت لأُمِّ موسىٰ: ما لكِ قد أصفرَّ لونكِ؟ فقالت: أخاف أن يُذبَح ولدي، فقالت: لا تخافي، وكان موسىٰ لا يراه أحد إلَّا أحبَّه».
وكان درع المحبَّة هذا هو الذي حفظه تماماً في بلاط فرعون.
«... وكان لفرعون قصر علىٰ شطِّ النيل منتزهاً، فنظر من قصره ومعه آسية امرأته، فنظر إلىٰ سواد في النيل ترفعه الأمواج والرياح تضربه حتَّىٰ جاءت به إلىٰ باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فأُخِذَ التابوت ورُفِعَ إليه، فلمَّا فتحه وجد فيه صبياً، فقال: هذا إسرائيلي، وألقىٰ الله في قلب فرعون لموسىٰ محبَّة شديدة، وكذلك في قلب آسية، وأراد فرعون أن يقتله، فقالت آسية: لا تقتله ﴿عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 9﴾ [القصص: 9]، إنَّه موسىٰ، ولم يكن لفرعون ولد»(1).
* * *
ص: 229
ص: 230
ص: 231
ص: 232
شاء الباري جلَّ وعلا أن يجعل لهذه الحياة أمداً محدوداً لا يعلمه إلَّا هو تبارك وتعالىٰ، فعُمُرُ الحياة متناهٍ محدودٍ، مهما طالت، فليس في هذه الحياة خلود.
وقد شاء الله (عزوجلّ) أن يختبر عباده بتكاليف بيَّنها لهم من خلال رُسُله وأنبيائه، وبما شرَّعه في الكتب التي أنزلها إلىٰ الناس، وكَتَبَ علىٰ نفسه أن يجعل الدنيا وما فيها من تكاليف ملاكاً ومقياساً للحياة الأبدية في عالم الآخرة، وهناك، سيَجزي الباري جلَّ وعلا من التزموا بما افترضه عليهم جنّاتٍ لم ترَ عينٌ ولم تَسمعْ أُذُنٌ بمثلها، ولم يخطر علىٰ قلب بشر أو فِكْرِه بشبهها، وهناك، سيفلح المؤمنون، وسينجو المخلصون.
وهذا الجزاء بالإثابة، هو خلاصة معنىٰ (هداية الفلاح).
وفي نفس الوقت، سيكون عقاب الضالّين والمنحرفين، ممَّن اختاروا طريق الانحراف بإرادتهم، هو تعبيراً آخر عن الضلال المقابل لهداية الفلاح.
وباختصار: إنَّ هداية الفلاح هي بمعنىٰ الإثابة والجزاء في الآخرة، ويقابلها الإضلال بمعنىٰ الإهلاك والتعذيب.
وإليه الإشارة بقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9﴾ (يونس: 9).
ص: 233
وقوله تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ 1 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ 2 ... سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ 5 وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ 6 ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ 8﴾ (محمّد: 1 - 8).
وهذا المعنىٰ من الهداية أيضاً من العبد باعتبار ومن الله تعالىٰ باعتبار، فمن العبد بمعنىٰ أنَّه إذا التزم بما يريده الباري تعالىٰ منه فإنَّه سيحصل علىٰ الثواب وإلَّا فعلىٰ العقاب، ومن الله تعالىٰ بمعنىٰ أنَّه يجازي كلَّ عامل بما عمل.
ففي الحقيقة هذا النوع من الهداية يُمثِّل نتيجة الأعمال التي يقوم بها الفرد في الدنيا، وليست شيئاً خارجاً عن أعماله وآثارها. والإضلال كذلك يكون نتيجة أعمال الفرد في الدنيا، وليس شيئاً خارجاً عنها.
وهذا المعنىٰ من الهداية يتَّضح من خلال بيان بعض الأُمور، منها:
إنَّ الأصل في هذا المعنىٰ من الهداية هو ما تقدَّم في الخطوط العامَّة لرسالات الأنبياء من أنَّ الله تعالىٰ عادل في مملكته غير محايد، وهذا يُمثِّل واحداً من الأدلَّة علىٰ ضرورة المعاد، فكثير من الناس في الدنيا يُظلَم، ويُسلَب حقُّه، وتُزهَق روحه، كلُّ هذا بلا حقٍّ. وفي المقابل هناك من الناس من يأخذ حقَّ غيره ومن دون مقابل، وربَّما يقتله. وربَّما تمرُّ هذه الأُمور في الدنيا من دون حساب، إذ بالإمكان إخفاء الجريمة، أو نسبتها إلىٰ غير الفاعل خطأً أو حتَّىٰ عمداً. وبالتالي، لا صاحب الحقِّ يرجع إليه حقُّه، ولا الظالم يُؤخَذ منه الحقَّ.
ص: 234
فلو كانت الدنيا هي نهاية العالم، فهذا يعني أنَّ خالق هذا العالم الذي فرضنا أنَّه عادل وغير محايد قد ترك الظلم بلا حساب، وهذا يعني أنَّه صار محايداً، بل وإلىٰ جانب الظالم! وحاشاه، ولكن حيث إنَّه تعالىٰ عادل، فهذا يكشف يقيناً عن أنَّه تعالىٰ لا بدَّ وأن يُرجِع الحقَّ إلىٰ أصحابه ويحاسب المقصِّرين، وحيث إنَّ هذا الأمر لا يحصل في الدنيا، فلا بدَّ من وجود موعد آخر للحساب، ذلك هو يوم القيامة(1).
قال تعالىٰ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 10﴾ (التغابن: 9 و10).
الآيات والروايات تُصرِّح بأنَّ كلَّ الناس سيُحاسَبون يوم القيامة، ولكن الحساب لا بدَّ أن يكون عادلاً. ومعه، فإنَّ هناك العديد من الأصناف يقبح حسابهم، كالمجانين والصبيان والمستضعَفين وغيرهم، فكيف سيُحاسَب هؤلاء؟
إنَّ الروايات الشريفة لم تغفل هذا الجانب، بل بيَّنته وكيَّفته مع العدل الإلهي، فوضَّحت أوَّلاً معنىٰ المستضعَفين.
ص: 235
والمعنىٰ الجامع للمستضعَف هو من لم تبلغه الحجَّة أو لم يمكنه معرفتها.
عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سألته عن المستضعَفين؟ فقال: «البَلْهاء في خدرها، والخادم تقول لها: صلّي فتُصلّي لا تدري إلَّا ما قلت لها، والجليب(1) الذي لا يدري إلَّا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي الصغير. هؤلاء المستضعَفون. وأمَّا رجل شديد العنق، جدل خصم، يتولّىٰ الشرىٰ والبيع لا تستطيع أن تغبنه في شيء، تقول: هذا مستضعَف؟ لا ولا كرامة»(2).
وعن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن المستضعَف، فقال: «هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، ولا يهتدي بها إلىٰ سبيل الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر»، قال: «والصبيان، ومن كان من الرجال والنساء علىٰ مثل عقول الصبيان»(3).
ويمكن معرفة مصاديق المستضعَفين من خلال بعض الآيات والروايات، وهم(4):
ص: 236
أوَّلاً: النساء والأطفال، قال تعالىٰ: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً 98﴾ (النساء: 98).
ثانياً: من لم تبلغه الحجَّة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَلَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَىٰ مَنْ بَلَغَتْه الْحُجَّةُ، فَسَمِعَتْهَا أُذُنُه، وَوَعَاهَا قَلْبُه»(1).
ثالثاً: من اعتقد بعقيدة، وظنَّ أنَّها الحقُّ المطلق، ولم يسمع بخلاف ذلك ليبحث عنه ويعرف الحقَّ من الباطل، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من عرف الاختلاف فليس بمستضعَف»(2).
رابعاً: من لم يكن مكلَّفاً لعدم عقله أو لعدم تمامه.
وأمَّا عن مصيرهم(3)، ففيه تفصيل:
أمَّا أولاد وأطفال المؤمنين ممَّن لم يبلغوا مرحلة وسنَّ التكليف، أو كان مجنوناً، فيظهر من بعض الروايات أنَّهم سيُلحَقون بآبائهم المؤمنين في الجنَّة، لتتمَّ فرحة وسرور آبائهم، بل ورد أنَّ أسقاط المؤمنين يعملون علىٰ إدخال آبائهم معهم الجنَّة، وسيستجيب الله تعالىٰ لطلبهم.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله (عزوجلّ): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: 21]، قال: «قصرت الأبناء عن عمل الآباء، فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرَّ بذلك أعينهم»(4).
ص: 237
وعن عبد الأعلىٰ مولىٰ آل سام، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... أمَا علمتم أنّي أُباهي بكم الأُمم يوم القيامة حتَّىٰ بالسقط يظلُّ محبنطئاً علىٰ باب الجنَّة، فيقول الله (عزوجلّ) له: ادخل الجنَّة، فيقول: لا حتَّىٰ يدخل أبواي قبلي، فيقول الله (عزوجلّ) لملك من الملائكة: ايتني بأبويه، فيأمر بهما إلىٰ الجنَّة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك»(1).
هذا من جهة.
ولكن من جهة أُخرىٰ يمكن أن يقال التالي:
إنَّ مصيرهم ومصير غيرهم يتحدَّد وفق التالي:
- إمَّا أن يُكلَّفوا في الآخرة، ليترتَّب الثواب والعقاب علىٰ نوع عملهم واستجابتهم، كما يظهر هذا من بعض الروايات الشريفة، فعن زرارة بن أعين، قال: رأيت أبا جعفر (علیه السلام) صلىٰ علىٰ ابن لجعفر (علیه السلام) صغير، فكبَّر عليه، ثمّ قال: «يا زرارة، إنَّ هذا وشبهه لا يُصلّىٰ عليه، ولولا أن يقول الناس: إنَّ بني هاشم لا يُصلّون علىٰ الصغار ما صلَّيت عليه»، قال زرارة: فقلت: فهل سُئِلَ عنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: «نعم، قد سُئِلَ عنهم»، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، ثمّ قال: «يا زرارة، أتدري ما قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين؟»، قال: فقلت: لا والله، فقال: «لله (عزوجلّ) فيهم المشيَّة، أنَّه إذا كان يوم القيامة احتجَّ الله تبارك وتعالىٰ علىٰ سبعة: علىٰ الطفل، وعلىٰ الذي مات بين النبيِّ والنبيِّ(2)، وعلىٰ الشيخ الكبير الذي يُدرك النبيَّ وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصمّ، والأبكم، فكلُّ هؤلاء يحتجُّ الله (عزوجلّ) عليهم يوم
ص: 238
القيامة، فيبعث الله إليهم رسولاً ويُخرج إليهم ناراً، فيقول لهم: إنَّ ربَّكم يأمركم أن تثبوا في هذه النار، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصاه سيق إلىٰ النار»(1).
- أو أن يوضعوا في الأعراف، وهو محلٌّ بين الجنَّة والنار.
- أو أن يُذهَب بهم إلىٰ جنَّة، فيكونوا في منزلة أقلّ من منزلة الآخرين فيها.
- أو أن يكون بعضهم خدمة لأهل الجنَّة، بشكل لا يكون فيه مشقَّة عليهم، بل يتمُّ ذلك علىٰ نحو السرور والتلذُّذ بما يؤدّونه من خدمة لأهل الجنَّة، تماماً كما في حال الملائكة التي تقوم بخدمة المؤمنين، والتي تسرُّ وتتلذَّذ بما تقوم به.
- أو أن يكون بعضهم في الأعراف وبعضهم في الجنَّة.
وعلىٰ كلِّ حالٍ، نحن نجزم بأنَّه لن يلحقهم أيُّ حيف أو ظلم، فإنَّ الله تعالىٰ لا يظلم أحداً.
ماذا عن حساب الشخص كامل العقل، ولكنَّه لم يكن قد سمع بالدين، ككثير من الطوائف البشرية التي تعيش في المناطق النائية، إذ من الممكن أن يوجد أُناس في قارّات أفريقيا أو غابات الأمازون وغيرها لم يسمعوا بالإسلام أصلاً، أو سمعوا به ولكن لم تتوفَّر لهم الوسائل لمعرفته عن كثب، أو لم يمكنهم الاستجابة لظرف قاهر، فما مصير هؤلاء؟
في الجواب لا بدَّ أن نعرف الفرق بين القاصر والمقصِّر، والفرق
ص: 239
بين الأحكام التي لا يمكن أن يعرفها الإنسان من دون بيان من الشرع وبين الأحكام التي يمكن للإنسان أن يعرفها بمحض عقله وإن لم يُبيِّنها الشرع.
أمَّا الفرق بين القاصر والمقصِّر، فنضرب لبيانه مثالاً: لنفترض شخصين في مكان ما، طول أحدهما متر واحد فقط، وطول الآخر مترين، وطُلِبَ منهما أن يلتقطا شيئاً معلَّقاً علىٰ بعد متر ونصف، فالشخص الأوَّل لا يمكنه ذلك، لا لتقصير منه، بل لأنَّ طوله لا يساعده، فهذا قاصر عن تنفيذ الأمر، وهو غير مؤاخَذ، لأنَّه قاصر. وأمَّا الشخص الثاني، فإنَّه إذا لم يقم ويأخذ ذلك الشيء فهو مقصِّر، ويُعتَبر مخالفاً للأمر، لأنَّه كان بإمكانه تنفيذ الأمر من دون حرج ولا مشقَّة.
وهكذا في قضيَّة الأحكام الشرعية، فهناك من الناس من لا يمكنه أن يصل إلىٰ البلاد الإسلاميَّة، أو لا يمكنه الاطِّلاع علىٰ العقائد والأحكام الصحيحة، لا لتقصير منه، بل لظرف قاهر لا يمكنه تجاوزه، كما قد يقال ذلك في سكّان البلاد النائية، وربَّما يكون منهم النساء المستضعَفات ممَّن هنَّ علىٰ غير خطِّ أهل البيت (علیهم السلام) حيث لا يمكنهنَّ الخروج من بيوتهنَّ والاطِّلاع علىٰ العقائد الحقَّة، (ولو من باب الفرض لا التحقيق)، وهكذا الأطفال الذين لا إدراك كامل عندهم ليُميِّزوا بين الحقِّ والباطل. وقد تقدَّمت رواية سليمان بن خالد في الأمر الثاني وأشارت إلىٰ بعض مصاديق المستضعَفين.
ولكن هناك منهم من له اطِّلاع علىٰ العقائد، ويسمع بها ويسمع بالدعاة إليها، ولكنَّه لا يستجيب لهم ولا يُكلِّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة، فمثل هذا الشخص يُعتَبر مقصِّراً.
ص: 240
ثمّ إنَّ الأحكام منها ما لا يمكن للإنسان الاطِّلاع عليه إلَّا إذا بيَّنه الشارع ووصل ذلك البيان له، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، (وهو المسمىٰ بالأحكام التعبّدية أو الشرعية المحضة).
ومنها ما لا يحتاج فيه الإنسان إلىٰ بيان من الشرع، بل العقل لوحده عنده القدرة علىٰ إدراك حسنه أو قبحه، كإدراكه لحسن الإحسان إلىٰ المحسن، والعدل، وكإدراكه لقبح القتل والزنا والسرقة وغيرها.
إذا تبيَّن هذا نقول:
المستفاد من كلمات العلماء هو أنَّ الجاهل المقصِّر محاسب علىٰ كلا نوعي الأحكام، لأنَّ عدم التزامه كان بإرادته بعد الاطِّلاع أو إمكان الاطِّلاع. وأمَّا القاصر فهو غير محاسب عن الأحكام التي لا يمكن الاطِّلاع عليها إلَّا إذا بيَّنها الشارع، لأنَّ الحجَّة لم تكتمل في حقِّه، وشرط الوجوب عليه هو بيان الشارع له ووصوله إليه، والفرض أنَّه لم يصل إليه البيان. قال تعالىٰ: ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً 15﴾ (الإسراء: 15).
وأمَّا الأحكام التي يستطيع العقل معرفتها، فإنَّه سيُحاسَب عليها جزماً، لأنَّ العقل حجَّة علىٰ الإنسان، وهو الحجَّة الباطنية - كما عبَّر الإمام الكاظم (علیه السلام) - علىٰ الإنسان، حيث روي عنه (علیه السلام) أنَّه قال لهشام بن الحكم: «يا هشام، إنَّ لله علىٰ الناس حجَّتين: حجَّة ظاهرة وحجَّة باطنة، فأمَّا الظاهرة فالرُّسُل والأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام)، وأمَّا الباطنة فالعقول»(1).
فسيُحاسَب الإنسان علىٰ ظلمه لغيره أو سرقته حقَّه أو ضربه من
ص: 241
دون حقٍّ، لأنَّ العقل لوحده يُدرك قبح هذه التصرُّفات ولو لم يأتِ الأمر الشرعي بها.
المستفاد من الروايات الشريفة أنَّ الحساب له نوعان:
النوع الأوَّل: حساب الحقوق الخاصَّة بالله تعالىٰ، كحقِّ الصلاة والصوم والحجِّ وبقيَّة الواجبات، وحقِّ شكر النعمة، والخشية منه تعالىٰ وعدم مبارزته بالذنوب، وغيرها من الحقوق العامَّة.
وهذه الحقوق مرجوَّة إلىٰ الله تعالىٰ، فيمكن أن يغفرها الله تعالىٰ للعبد لسبب من الأسباب، والتي منها:
1 - الشفاعة:
وليكن معلوماً أنَّ الشفاعة لها شروط، لا بدَّ من توفُّرها في الشخص حتَّىٰ تناله، وخلاصتها(1):
- منها عدم الإشراك بالله تعالىٰ.
- الإخلاص في الشهادة بالتوحيد، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً، يُصدِّق لسانه قلبه»(2).
- عدم كونه ناصبياً، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ المؤمن ليشفع لحميمه إلَّا أن يكون ناصباً، ولو أنَّ ناصباً شفع له كلُّ نبيٍّ مرسل وملك مقرَّب ما شُفِّعوا»(3).
- عدم الاستخفاف بالصلاة، فعن أبي بصير، قال: قال أبو الحسن
ص: 242
الأوَّل (علیه السلام): «إنَّه لمَّا حضر أبي الوفاة قال لي: يا بنيَّ، إنَّه لا ينال شفاعتنا من استخفَّ بالصلاة»(1).
- عدم التكذيب بشفاعة النبيِّ (صلی الله علیه و آله): قال الإمام عليُّ بن موسىٰ الرضا (علیه السلام): قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله»(2).
2 - حسن الظنِّ بالله تعالىٰ:
عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ آخر عبد يُؤمَر به إلىٰ النار فيلتفت، فيقول الله (عزوجلّ): أعجلوه، فإذا أُتي به قال له: يا عبدي، لِمَ التفتَّ؟ فيقول: يا ربِّ، ما كان ظنّي بك هذا، فيقول الله (جل جلاله): عبدي وما كان ظنُّك بي؟ فيقول: يا ربِّ، كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني وتدخلني جنَّتك، فيقول الله: ملائكتي، وعزَّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنَّ بي هذا ساعةً من حياته خيراً قطُّ، ولو ظنَّ بي ساعةً من حياته خيراً ما روَّعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنَّة»، ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما ظنَّ عبد بالله خيراً إلَّا كان الله عند ظنِّه به، [ولا ظنَّ به سوءاً إلَّا كان الله عند ظنِّه به](3)، وذلك قوله (عزوجلّ): ﴿وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ 23﴾ [فُصِّلت: 23]»(4).
وعن ابن رئاب، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «يؤتىٰ بعبد يوم
ص: 243
القيامة ظالم لنفسه، فيقول الله تعالىٰ له: ألم آمرك بطاعتي؟ ألم أنهك عن معصيتي؟ فيقول: بلىٰ يا ربِّ، ولكن غلبت عليَّ شهوتي، فإن تُعذِّبني فبذنبي لم تظلمني، فيأمر الله به إلىٰ النار، فيقول: ما كان هذا ظنّي بك، فيقول: ما كان ظنُّك بي؟ قال: كان ظني بك أحسن الظنِّ، فيأمر الله به إلىٰ الجنَّة، فيقول الله تبارك و تعالىٰ: لقد نفعك حسن ظنِّك بي الساعة»(1).
ولا بدَّ من الانتباه إلىٰ أنَّ حسن الظنِّ بالله تعالىٰ لا يدعو إلىٰ الجرأة عليه والتطاول علىٰ حدوده بحجَّة حسن الظنِّ به تعالىٰ، كلَّا، فإنَّ القاعدة هي ما قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي ذرٍّ (رحمة الله) : «يا أبا ذرٍّ، إنَّكم في ممرِّ الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن يزرع شرّاً يوشك أن يحصد ندامة، ولكلِّ زارع ما زرع»(2).
ولو تنزَّلنا، فإنَّ المستفاد من الروايات هو أنَّ الجنَّة لها درجات متعدِّدة، ودرجاتها تُنال حسب قوَّة العمل ونوعيته، ولا شكَّ أنَّ من يتجاوز علىٰ حرمات الله تعالىٰ ويدخل الجنَّة لسبب من الأسباب سوف يكون بمرتبة أقلّ من مرتبة من كان يطيع الله تعالىٰ علىٰ طول الخطِّ، وليس هذا بالأمر الهيِّن، فإنَّ الغبن الذي يحسُّ به المرء من دنوِّ درجته في الجنَّة ربَّما لا يعادله حتَّىٰ ألم جهنَّم!
وعلىٰ كلِّ حال، فالروايات الشريفة تُحذِّر من الاغترار بالله تعالىٰ وحلمه وغفرانه، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تغترّوا بالله، فإنَّ الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذرَّة والخردلة والبعوضة»(3).
ص: 244
وعن معنىٰ الاغترار بالله تعالىٰ يقول الإمام عليٌّ (علیه السلام): «من الغرَّة بالله أن يصرَّ العبد علىٰ المعصية ويتمنّىٰ المغفرة»(1).
هذا فضلاً عن الآيات الصريحة بإحضار جميع الأعمال حتَّىٰ الصغير جدّاً، حتَّىٰ يتعجَّب الإنسان من دقَّة الحساب، قال تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 47 وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً 48 وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49﴾ (الكهف: 47 - 49).
3 - الاعتراف بالذنوب بين يديه تعالىٰ مع كونه من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) .
فعن سليمان بن خالد، كنت في محمل أقرأ إذ ناداني أبو عبد الله (علیه السلام): «اقرأ يا سليمان...»، فقرأت حتَّىٰ انتهيت إلىٰ قوله تعالىٰ: ﴿إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً 70﴾ [الفرقان: 70]، قال: «قف، هذه فيكم، إنَّه يُؤتىٰ بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتَّىٰ يوقَف بين يدي الله (عزوجلّ)، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيُوقفه علىٰ سيِّئاته شيئاً فشيئاً، فيقول: عملتَ كذا وكذا، في يوم كذا، في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا ربِّ»، قال: «حتَّىٰ يوقفه علىٰ سيِّئاته كلِّها، كلُّ ذلك يقول: أعرف، فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات»، قال: «فتُرفَع
ص: 245
صحيفته للناس، فيقولون: سبحان الله، أمَا كانت لهذا العبد ولا سيِّئة واحدة؟ فهو قول الله (عزوجلّ): ﴿فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾»(1).
4 - وأصل كلِّ ذلك الرحمة الإلهيَّة الواسعة التي يطمع فيها حتَّىٰ إبليس.
فعن إبراهيم بن زياد الكرخي، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام): «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالىٰ رحمته حتَّىٰ يطمع إبليس في رحمته»(2).
وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة تجلىٰ الله (عزوجلّ) لعبده المؤمن فيوقفه علىٰ ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ يغفر الله له لا يُطلِع الله علىٰ ذلك ملكاً مقرَّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيِّئاته: كوني حسنات»(3).
النوع الثاني: حساب حقوق الناس، كالأموال والسمعة والدماء وغيرها من الحقوق.
وهذه الحقوق لا بدَّ فيها من العدل، فالله تعالىٰ عادل، ومن عدله أن يُرجِع الحقوق إلىٰ أصحابها، فمن اغتاب شخصاً فأفقده سُمعَته أو أثَّر فيها سلباً، ومن سلب مال غيره أو روحه، ومن اعتدىٰ علىٰ غيره، لا بدَّ أن يُؤخَذ منه الحقُّ ويُرجَع إلىٰ أصحابه.
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ
ص: 246
بَعْضِهِمْ بَعْضاً، الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَىٰ، وَلَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّه مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَه، فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللهِ»(1).
* * *
ص: 247
ص: 248
وأذكر هنا النتائج التي يمكن استخلاصها من البحث بفصوله الستَّة، وهي التالي:
أوَّلاً: أنَّ الله (عزوجلّ) أجرىٰ في عالمنا - عالم المادَّة - سُنناً تكوينيةً ثابتةً، كان من أهمّها التزاحم والتدافع، إذ لولا ذلك لكان عالمنا عالم ملائكة، وهو خلف المفروض.
ولم يكن المقصود من هذا القانون وهذه السُّنَّة مجرَّد إيقاع الإنسان في الضيق والشدَّة، وإنَّما هو قانون ونظام قائم علىٰ أساس إرادة تفعيل الإرادة والاختيار، الذي أسَّس للمسؤولية اتِّجاه ما يصدر من الإنسان من أفعال، الأمر الذي جعل من الإنسان يتخطّىٰ حدود الموجودات الأُخرىٰ في هذا العالم، ليكون سيِّدها، فلولا التحدّيات العظيمة التي يواجهها الإنسان جرّاء ذلك القانون، ولولا تفعيل اختياره بالصورة التي تخدمه وتتجاوز العقبات، لما وصل التطوّر الإنساني إلىٰ ما وصل إليه اليوم.
ثانياً: أنَّ الهدىٰ والضلال مفهومان قرآنيان، كما لاحظنا ذلك، حيث وجدنا القرآن يستعملهما في مواضع عديدة وفي أكثر من مستوىٰ، وبالتالي، ففهمهما حقُّ فهمهما يحتاج إلىٰ مراجعة دقيقة لما ورد في تفسير تلك الآيات عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام)، بالإضافة إلىٰ ضرورة الرجوع فيها إلىٰ المتخصِّصين في علوم القرآن، الأمر الذي إذا لم يتمّ بالمستوىٰ المطلوب، فإنَّه يؤدّي إلىٰ:
ص: 249
1 - فهم مغلوط لآيات الهدىٰ والضلال، وبالتالي إيقاع الأفراد في شبهة الجبر أو العبث أو المحاباة أو اللهو وما شابه. علىٰ المستوىٰ الفردي والجماعي.
2 - تقديم هدية مجّانية للحكّام الظالمين ممَّن يريدون إقناع الناس بشبهة الجبر، حتَّىٰ لا يعملوا علىٰ مقاومتهم، بل وسيُوفِّر تبريراً لأفعالهم الظالمة بأنَّها صادرة رغماً عنهم بأمر الجبّار القهّار! وأنَّه لا يجوز الاعتراض علىٰ إرادة الله (عزوجلّ) (1).
3 - بالإضافة إلىٰ تقديم عذر لمن يعيش الضلال بأنَّه لم يكن له أيُّ دور في حالته السيِّئة، وأنَّه إنَّما يُنفِّذ إرادة الله (عزوجلّ) الذي منه الهدىٰ والضلال. وبالتالي سينطبق عليهم قوله (عزوجلّ): ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 148).
وقوله تعالىٰ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 35﴾ (النحل: 35).
ثالثاً: أنَّ مفهومَي (الهدىٰ والضلال) يخضعان لعملية التزايد والتناقص، أو التكثيف والتخفيف، وقد أُشير إلىٰ أنَّهما من نوع المفاهيم المشكَّكة، أي التي لها مراتب متعدِّدة، وأنَّ القرآن الكريم أشار إلىٰ هذه الحقيقة في عدَّة موارد من الآيات الكريمة، ومنها قوله تعالىٰ فيما حكاه
ص: 250
عن قصَّة أهل الكهف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىٰ 13﴾ (الكهف: 13).
فتعبيره جلَّ وعلا ب- ﴿وَزِدْناهُمْ هُدىٰ﴾ يُصرِّح بأنَّ مفهوم الهدىٰ ليس له مرتبة واحدة، وإنَّما له مراتب متعدِّدة يمكن أن تزيد ويمكن أن تنقص.
وهكذا مفهوم (الضلال) حسب ما تقتضيه المقابلة بينهما.
ثمّ إنَّ العلاقة بين المراتب الستَّة للهدىٰ والضلال هي علاقة تراتبية، بمعنىٰ أنَّ الهداية الأُولىٰ هي التكوينية العامَّة، ثمّ هداية العقل المتَّصلة، ثمّ هداية الدعوة المنفصلة، ثمّ هداية التشريع المكمِّلة لهداية الدعوة، ثمّ هداية اللطف المترتِّبة علىٰ التزام هداية العقل والدعوة والتشريع، لتنتج في الأخير هداية الفلاح.
فالعلاقة بين هذه المراتب هي تراتبية تشكيكية، أي إنَّ الإنسان يتدرَّج صعوداً في مراتب الهداية، فضلاً عن وجود مراتب داخلية في كلِّ مرتبة من تلك المراتب الستَّة، فالعقل ليس له مستوىٰ واحد، والرسالة والبلاغ منها عامٌّ ومنها خاصٌّ، ولذلك ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام):
«ما كلَّم رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) العبادَ بكنه عقله قطُّ»، وقال: قال رسول الله: «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(1).
وهكذا اللطف الخاصّ، بل وهكذا الفلاح في الجنَّة حيث تقدَّم أنَّ الجنَّة علىٰ مراتب متعدِّدة.
فنظام هذه الحياة هو نظام (الصعود والنزول) أو (الارتقاء
ص: 251
والهبوط)، ولا شكَّ أنَّ صعود الجبل أكثر مشقَّةً من نزوله، ولذلك ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات»(1).
بالإضافة إلىٰ أنَّ التشكيك والتفاوت في هذه المراتب ليس له سقف محدَّد، بل هو مفتوح من أقصىٰ اليمين إلىٰ أقصىٰ الشمال، أو قل: هو مفتوح بين ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99﴾ (الحجر: 99) إلىٰ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ 5﴾ (التين: 5).
والتحدّيات التي تقف في الطريق تتناسب مع كلِّ مرتبة من تلك المراتب، ولذلك كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، فقد ورد أنَّه سُئِلَ النبيُّ (صلی الله علیه و آله): أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).
وروي أنَّه قال (صلی الله علیه و آله): «إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه، فإذا أحبَّه (الله) الحبَّ البالغ اقتناه»، قالوا: وما اقتناؤه؟ قال: «ألَّا يترك له مالاً ولا ولداً»(3).
وبالتالي، فالخطورة تزداد كلَّما تصاعد الفرد في مراتب الكمال، والسقوط سيكون مؤلماً جدّاً كلَّما ازداد ارتفاع الفرد، لذلك ورد تحذير العلماء أكثر من الجهلة، لأنَّ سقطة العالم ليست كسقطة الجاهل.
فعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال لحفص: «يا حفص، يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً، قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد»(4).
ص: 252
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «قال عيسىٰ بن مريم علىٰ نبيِّنا وآله وعليه السلام: ويلٌ للعلماء السوء كيف تلظّىٰ عليهم النار!؟»(1).
بل ورد: «الزبانية أسرع إلىٰ فسقة القرّاء منهم إلىٰ عبدة الأوثان، فيقولون: يُبدَأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيُقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم»(2).
ومن هنا، كان علىٰ نساء النبيِّ (صلی الله علیه و آله) من التكاليف ما ليس علىٰ غيرهنَّ، لموقعهنَّ من رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله)، قال تعالىٰ: ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ...﴾ (الأحزاب: 32).
رابعاً: أنَّ البحث في مسألة الهدىٰ والضلال يرتبط بعدَّة جوانب:
الجانب الأوَّل: تكييف ظاهرة الهدىٰ مع اختيار الإنسان، إذ قد وُظِّفت بعض الآيات في دعم مقولة الجبر، كما قد صُنِعَ هذا الأمر في مقولات أُخرىٰ كالقضاء والقدر...، وهذه المسألة تعالج هذه الظاهرة وتُكيِّفها مع اختيار الإنسان.
إذ قد ثبت في كلِّ معاني الهدىٰ والضلال، أنَّ تلك المفاهيم لا تسلب اختيار الإنسان، بل هي ترجمة عملية لاختياره، ولم يكن من الله تعالىٰ أيُّ سلب للإرادة، ولم يكن منه (عزوجلّ) أيُّ جبر علىٰ فعل معيَّن.
الجانب الثاني: جانب حكمته وعنايته تعالىٰ بهذا العالم، فحيث ثبتت حكمته تعالىٰ، فنبحث في تجلّيات تلك الحكمة، التي منها الهدىٰ، خصوصاً المعنىٰ الأوَّل من معاني الهداية (أي الهداية التكوينية) الذي يقابله الإضلال بمعنىٰ العبث والجزاف، حيث ثبت أنَّه جلَّ وعلا لم
ص: 253
يكن منه أيُّ جزاف في هذا المعنىٰ، بل إنَّه (عزوجلّ) قد جهَّز كلَّ موجود بما يساعده في الوصول إلىٰ هدفه الكمالي المرسوم.
الجانب الثالث: العقل الإنساني لوحده لا يمكنه إدارة الحياة الفردية والاجتماعية، وإنَّما هو بحاجة إلىٰ عقل منفصل متمثِّل بالأنبياء والأوصياء والكتب والعلماء...، وقد عُنوِن هذا الجانب من البحث بحاجة الإنسان إلىٰ الدين، الأمر الذي غطَّته معاني الهدىٰ في: العقل والدعوة والتشريع.
علماً أنَّه توجد توجُّهات معاصرة تُروِّج إلىٰ فكرة كفاية العقل واستغنائه عن الدين، فيبحث في جدلية العقل والنصِّ أو جدلية العقل المتَّصل والمنفصل، وقد تقدَّم شيء من بيان ضرورة العقل المنفصل المتمثِّل بالأنبياء في محلِّه من (هداية الدعوة)، وقد عرفنا هناك حسن الدعوة، بل وضرورتها علىٰ نحو الإجمال.
الجانب الرابع: اختيار الإنسان، حيث أُشير إلىٰ أنَّ الإنسان وإن كان فاعلاً حقيقةً لفعله وباختياره، وفعله يُسنَد إليه حقيقةً، ولأجل ذلك صُحِّح الثواب والعقاب وإرسال الرُّسُل و...
إلَّا أنَّه مع ذلك لا يمكنه صنع كلِّ شيء لوحده، بل هناك جملة كبيرة من مقدّمات فعله وأوَّلياته وشرائطه هي غير اختيارية، بمعنىٰ أنَّها من فعل الله تعالىٰ، ولا إرادة للإنسان فيها، وفي مسألة الهدىٰ والضلال نسأل: هل توفير تلك المقدّمات والشروط للإنسان هو أمر غير مشروط بشيء ولا ضابط له وعشوائي؟ أو أنَّه وفق قانون خاصٍّ ونظام محدَّد؟
الجواب: قد عرفنا في معاني الهدىٰ أنَّه تعالىٰ يُوفِّر في بعض الأحيان منحاً إلهيَّة وهبات ربّانية من دون مقابل، وإنَّما هي من باب اللطف
ص: 254
بالمعنىٰ الأخصّ. وذلك يكون إذا علم الله تعالىٰ من عبده أنَّه يريد الوصول إلىٰ بعض المراتب الكمالية العالية، ولكنَّه لا يمكنه بلوغها لوحده، فيأتي دور هداية اللطف والعناية والتوفيق لتسهل له بلوغ ذلك. وهذه التسديدات وإن لم تكن اختيارية، ولكنَّها بلحاظ إرادة الإنسان الجادَّة هي اختيارية. نعم، مقدّمة الوصول إلىٰ مرتبة استحقاق تلك الألطاف هي من الإنسان باختياره.
وبعبارة مختصرة: إنَّ الخطوة الأُولىٰ من الإنسان، وإتمامها هو من الله تعالىٰ.
وتلك الخطوة الأُولىٰ، قد تكون عملاً يقوم به الإنسان، كما هي العادة فينا، وقد تكون هي النيَّة الواقعية الجزمية التي علمها الله تعالىٰ بعلمه الأزلي، فيُعجِّل الله تعالىٰ ألطافاً لهذا الإنسان، وبهذا يمكن تقديم جواب سريع لإشكال عصمة الأنبياء منذ صغرهم.
الجانب الخامس: تفريعاً علىٰ اختيار الإنسان وإرادته، وعلىٰ عدم كونه مجبوراً علىٰ أفعاله، وتفريعاً علىٰ حكمة الله تعالىٰ ولطفه ورحمته وعدله، فإنَّ من الضرورة بمكان أن يلاقي كلُّ فرد من بني البشر نتائج أعماله، سلبية كانت أو إيجابية، الأمر الذي يعني دليلاً قطعياً علىٰ ضرورة (اليوم الآخر) و(عالم الحساب).
وقد غطَّت (هداية الفلاح) هذا الجانب، وقد كان معنىٰ الهداية فيها هي إثابة المحسن علىٰ عمله، ومعنىٰ الضلال هي عقوبة المسيء.
وهذه النتيجة لم تخرج عن إرادة الإنسان واختياره، لأنَّها كانت ترجمة عملية لفعله في هذه الحياة.
خامساً: هناك فرق بين (القانون) وبين (فهم القانون)، فالقانون الذي
ص: 255
ذكره القرآن الكريم مركَّب من: إرادة الإنسان واختياره، وتدخُّل الله تعالىٰ وفق الحكمة والعدل، والذي عبَّرت عنه الروايات الشريفة بالأمر بين الأمرين(1).
هذا القانون قد يمكن للفرد أن يفهم انسجامه تماماً، بحيث لا يخرج عن الأُصول العامَّة للحكمة والرحمة والعدل، مع الحفاظ علىٰ إرادة الإنسان وبالتالي مسؤوليته عن فعله، الأمر الذي ينتج بطبيعته عدم إمكان الفرد أن يتملَّص من نتيجة فعله.
وقد يشتبه الأمر علىٰ البعض، باعتبار أنَّ فهم هذه المفاهيم يحتاج إلىٰ بحث وعناء وتخصُّص، فلا مناص آنذاك من الاعتقاد بها تعبُّداً، حتَّىٰ لا يخرج الفرد عن ربقة الإيمان، وحتَّىٰ لا يقع في مصيدة الجبر أو حتَّىٰ الشرك من حيث لا يشعر.
وهذا الأمر يتَّضح أكثر إذا أخذنا بنظر الاعتبار محدودية الإنسان من جميع جوانبه، يقابلها لا تناهي الذات المقدَّسة من كلِّ جوانبها وما يرتبط بها من مفاهيم وصفات، فإنَّ الله تبارك وتعالىٰ وصفاته هي من النوع الذي لا يمكننا إدراك غوره، الأمر الذي عبَّر فيه الإنسان عن عجزه ذاك بالتعبير عن الذات المقدَّسة بتعبيرات سلبية، فقلنا: إنَّه (عزوجلّ) لا متناهي، وغير محدود، وما شابه هذه التعبيرات التي تكشف عن عجزنا عن الإحاطة بالذات المقدَّسة.
ومع هذا العجز عن إدراك الحقيقة، لكن يبقىٰ عندنا أنَّنا نفهم وبالدليل القطعي أنَّه (عزوجلّ) - ولفرض لا تناهيه في كماله - لا يفعل إلَّا ما فيه حكمة ورحمة للإنسان، وهذا العلم سيكفينا المؤونة لو لم نستطع فهم القانون.
* * *
ص: 256
1 - القرآن الكريم.
2 - (8) طرق لهندسة الحياة وصناعة التأثير: د. عليّ الحمادي/ ط 1/ 2005م/ دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع.
3 - الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ﻫ.
4 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.
5 - الأخلاق في القرآن: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ط 2/ 1426ﻫ/ مط أمير المؤمنين (علیه السلام) / الناشر مدرسة الإمام عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) / قم.
6 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415ﻫ/ مط أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
7 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسَّسة آل البيت/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.
8 - أساليب النجاح: سلسلة تعلَّم كيف تنجح (3)/ هادي المدرِّسي/ ط 3/ 2007م/ الدار العربية للعلوم/مؤسَّسة أحمد للمطبوعات.
9 - الاستيعاب: ابن عبد البرِّ/ ت البجاوي/ ط 1/ 1412ﻫ/ دار الجيل/ بيروت.
ص: 257
10 - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/ ت ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ﻫ/ دار الحديث.
11 - الأمالي: السيِّد المرتضىٰ/ ت النعساني الحلبي/ ط 1/ 1325ﻫ/ مكتبة المرعشي/ قم.
12 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ﻫ/ مؤسَّسة البعثة.
13 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ﻫ/ دار الثقافة/ قم.
14 - الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.
15 - الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة: مقدِّمة كتاب كلمة الإمام المهدي (علیه السلام) / السيِّد حسن الشيرازي/ ط 1/ 1386ﻫ/مط شريعت/الناشر رشيد.
16 - الأنساب: السمعاني/ ت البارودي/ ط 1/ 1408ﻫ/ دار الجنان/ بيروت.
17 - الإيضاح: الفضل بن شاذان الأزدي/ ت جلال الدين الحسيني الأرموي/ 1363ش/ دانشگاه تهران.
18 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ﻫ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
19 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ﻫ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
20 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
ص: 258
21 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
22 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
23 - الترغيب والترهيب: عبد العظيم المنذري/ ت مصطفىٰ محمد عماره/ 1408ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
24 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
25 - تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ت أبي محمّد بن عاشور/ ط 1/ 1422ﻫ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
26 - تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
27 - تفسير القمّي: عليّ بن إبراهيم القمّي/ ت طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
28 - تفسير الكشّاف: الزمخشري/ 1385ﻫ/ شركة مكتبة ومطبعة مصطفىٰ البابي الحلبي وأولاده/ مصر.
29 - تفسير شبَّر: عبد الله شبَّر/ راجعه الدكتور حامد حفني داود/ ط 3/ 1385ﻫ/ الناشر السيِّد مرتضىٰ الرضوي.
30 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ ط 1/ 1410ﻫ/ مؤسَّسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.
31 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
32 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
ص: 259
33 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
34 - التواضع والخمول: ابن أبي الدنيا/ ت محمّد عبد القادر أحمد عطا/ ط 1/ 1409ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
35 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.
36 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
37 - جامع أحاديث الشيعة: البروجردي/ 1399ﻫ/ المطبعة العلمية/ قم.
38 - الجامع الصغير: السيوطي/ ط 1/ 1401ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
39 - الخصال: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ﻫ/ جماعة المدرِّسين/ قم.
40 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ﻫ/ دار المعارف/ القاهرة.
41 - الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط 1/ 1407ﻫ/ مط أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي/ قم.
42 - رسائل الشريف المرتضىٰ: الشريف المرتضىٰ/ تقديم السيِّد أحمد الحسيني/ إعداد السيِّد مهدي الرجائي/ 1405ﻫ/ مط سيِّد الشهداء/ دار القرآن الكريم/ قم.
43 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
ص: 260
44 - سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
45 - سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
46 - السنن الكبرىٰ: البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
47 - سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
48 - سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط 9/ 1413ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
49 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ﻫ/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.
50 - صحيح ابن حبّان: ابن حبّان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة.
51 - صحيح البخاري: البخاري/ 1401ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
52 - الصحيفة السجّادية: الإمام زين العابدين (علیه السلام) / ت محمّد باقر الأبطحي/ ط 1/ 1411ﻫ/ مط نمونه/ مؤسَّسة الإمام المهدي، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.
53 - الصحيفة السجّادية: الإمام زين العابدين (علیه السلام) / ط 1/ 1418ﻫ/ دفتر نشر الهادي/ قم.
54 - الطبقات الكبرىٰ: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.
55 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.
56 - عقائد الإسلام من القرآن الكريم: السيِّد مرتضىٰ العسكري/ ط 2/ 1997م/ الناشر كلّية أُصول الدين/ مط باقري/ قم.
ص: 261
57 - علل الدارقطني: الدارقطني/ ت محفوظ الرحمن زين الله السلفي/ ط 1/ 1405ﻫ/ دار طيبة/ الرياض.
58 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ﻫ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
59 - عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
60 - عيون الحكم والمواعظ: عليّ الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.
61 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، عليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ﻫ/ مط بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
62 - الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط 1/ 1422ﻫ/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ.
63 - الفتاوىٰ الميسَّرة: السيِّد السيستاني/ ط 3/ 1417ﻫ/ مط الفائق.
64 - فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام): ابن عقدة الكوفي/ تجميع عبد الرزّاق محمّد حسين فيض الدين.
65 - فنون النجاح: سلسلة تعلَّم كيف تنجح (4)/ هادي المدرِّسي/ ط 3/ 2007م/ الدار العربية للعلوم/مؤسَّسة أحمد للمطبوعات.
66 - قادة الغرب يقولون: دمِّروا الإسلام أبيدوا أهله: جلال العالم/ ط 2/ 1395ﻫ.
67 - قاموس الرجال: التستري/ ط 1/ 1419ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.
68 - قرب الإسناد: الحميري القمّي/ ط 1/ 1413ﻫ/ مط مهر/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
ص: 262
69 - قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي/ ت غلام رضا عرفانيان/ ط 1/ 1418ﻫ/ الهادي.
70 - قوَّة التحكُّم بالذات: الدكتور إبراهيم الفقي/الناشر المركز الكندي للتنمية البشرية/ 2000م.
71 - قوَّة التفكير: الدكتور إبراهيم الفقي/ شركات الدكتور إبراهيم الفقي العالمية للتنمية البشرية/ المركز الكندي للتنمية البشرية.
72 - الكافي: الشيخ الكليني/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 5/ 1363 ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
73 - كامل الزيارات: ابن قولويه/ ت جواد القيّومي/ ط 1/ 1417ﻫ/ مط مؤسَّسة النشر الإسلامي/ مؤسَّسة نشر الثقافة.
74 - كتاب التوابين: عبد الله بن قدامة/ ت عبد القادر الأرناؤوط/ مكتبة الشرق الجديد/ بغداد.
75 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ﻫ/ مط العلمية/ قم.
76 - كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ 1405ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
77 - كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
78 - كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي/ ط 2/ 1369ش/ مط غدير/ مكتبة المصطفوي/ قم.
79 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمّي/ مكتبة الصدر/ طهران.
80 - كيف تتغلَّب علىٰ الفشل: سلسلة تعلَّم كيف تنجح (7)/
ص: 263
هادي المدرِّسي/ ط 3/ 2007م/ الدار العربية للعلوم/مؤسَّسة أحمد للمطبوعات.
81 - مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ﻫ/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
82 - المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدِّث/ 1370ﻫ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
83 - المحاضرات الأخلاقية: السيِّد حسين نجيب محمّد/ ط 1/ 2007م/ دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع.
84 - محاضرات في الإلهيّات: الشيخ جعفر السبحاني/ مؤسَّسة الإمام الصادق (علیه السلام) / قم.
85 - المحلّىٰ: ابن حزم/ دار الفكر.
86 - مروج الذهب: المسعودي/ ط 2/ 1404ﻫ/ منشورات دار الهجرة/ قم.
87 - مسائل عليِّ بن جعفر: عليّ بن الإمام الصادق (علیه السلام) / ت مؤسَّسة آل البيت/ ط 1/ 1409ﻫ/ مط مهر/ قم.
88 - المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف: الأبشيهي/ دار ومكتبة الهلال.
89 - مستطرفات السرائر: ابن إدريس/ ط 2/ 1411ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.
90 - مسكن الفؤاد: الشهيد الثاني/ ط 1/ 1407ﻫ/ مؤسَّسة آل البيت/ مط مهر/ قم.
91 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
92 - مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ﻫ/ دار الحديث.
ص: 264
93 - مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق (علیه السلام) / ط 1/ 1400ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
94 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
95 - المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ﻫ/ دار الحرمين.
96 - مفاتيح النجاح: سلسلة تعلَّم كيف تنجح (1)/ هادي المدرِّسي/ ط 3/ 2007م/ الدار العربية للعلوم/مؤسَّسة أحمد للمطبوعات.
97 - مفردات ألفاظ القرآن: راغب الأصفهاني/ ت صفوان عدنان داوودي/ ط 2/ 1427ﻫ/ مط سليمانزاده/ الناشر طليعة النور.
98 - مقاتل الطالبين: أبو الفرج الأصفهاني/ ت كاظم المظفَّر/ ط 2/ 1385ﻫ/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
99 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ﻫ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
100 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
101 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ﻫ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
102 - منهاج الصالحين: السيِّد السيستاني/ ط 1/ 1414ﻫ/ مط مهر/ قم.
103 - منهاج الكرامة: العلَّامة الحلّي/ ت عبد الرحيم مبارك/ ط 1/ 1379ش/ مط الهادي/ انتشارات تاسوعاء/ مشهد.
ص: 265
104 - ميزان الحكمة: محمّد الريشهري/ ط 1/ دار الحديث.
105 - نفحات القرآن: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ط 1/ 1426ﻫ/ مط سليمانزاده/ الناشر مدرسة الإمام عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) / قم.
106 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصَّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ﻫ/ بيروت.
107 - وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414ﻫ/ مط مهر/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
108 - وفيات الأعيان: ابن خلِّكان/ ت إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.
* * *
ص: 266
مقدِّمة المعهد3
الإهداء7
مقدِّمة المؤلِّف9
تمهيد17
المقدّمة الأُولىٰ17
المقدّمة الثانية18
المقدّمة الثالثة20
المقدّمة الرابعة: اللطف المحصِّل والمقرِّب22
الفصل الأوَّل: الهداية التكوينية العامَّة27
الهداية التكوينية العامَّة29
الضلال التكويني30
صياغة أُخرىٰ للأمر الثاني33
مفرداتٌ من هداية التكوين35
أوَّلاً: توفير الحاضن الأمثل لتكوّن ونشوء ونموِّ الإنسان35
ثانياً: توفير منابع العلم لدىٰ الإنسان37
ثالثاً: بناء الإنسان بناءً دقيقاً ومنظَّماً38
رابعاً: توفير غرائز البقاء39
خامساً: دورة الحياة الملائمة التي تصبُّ في مصلحة الإنسان39
ص: 267
الإضلال التكويني40
منَّة الله تعالى في تعويض هذا الإضلال45
الفصل الثاني: هداية العقل47
هداية العقل49
أدوار العقل في حياة الإنسان50
الدور الأوَّل والأهمّ: تحديد سلوك الإنسان50
1 - الوالدان50
2 - الأصدقاء53
3 - وسائل الإعلام54
4 - الإيحاء الذاتي للنفس58
الدور الثاني للعقل: الدعوة إلىٰ دفع الضرر62
1 - تحديد المعتَقد62
2 - تحديد النافع من الضارِّ من طعام الإنسان64
تكامل العقل65
أوَّلاً: كيف يتكامل العقل؟66
1 - التعلُّم66
2 - الاستفادة من التجارب68
3 - التأمُّل69
4 - التوازن بين العقل والعاطفة71
ثانياً: ما هي الأُمور التي تُنقِص العقل؟74
الأمر الأوَّل: عدم استغلال أوقات الفراغ74
الأمر الثاني: اتِّباع الهوىٰ والشهوات83
ص: 268
الأمر الثالث: عدم الاستماع إلىٰ ذوي العقول84
الأمر الرابع: مصاحبة الجاهل84
الإضلال في العقل85
الفصل الثالث: هداية الدعوة91
هداية الدعوة93
ضلال الدعوة94
نكتة مهدوية97
نقاط مهمَّة98
النقطة الأُولىٰ: الخطوط التربوية العامَّة لرسالات الأنبياء98
القضيَّة الأُولىٰ: قانون السنخية والتماثل بين النتيجة والسبب99
القضيَّة الثانية: أنَّ كلَّ عمل - سواء أكان خيراً أو شرّاً - يعود إلىٰ صاحبه لا إلىٰ غيره101
تعجيل الجزاء في الدنيا103
القضيَّة الثالثة: ما زال الله تعالىٰ قادراً علىٰ التدخُّل في أُمور مملكته، وهو يتدخَّل دوماً بالعدل، فهو ليس محايداً في هذا المجال107
النقطة الثانية: الركائز العامَّة لأُسلوب الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ111
النقطة الثالثة: الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ مشروع الصالحين115
النقطة الرابعة: ممارسة التغيير118
أدلَّة إمكان التغيير119
أُمور ينبغي تذكُّرها عند ممارسة التغيير124
النقطة الخامسة: تنويع طرق الهداية129
1 - الهداية بالدليل العقلي130
ص: 269
2 - الهداية بالدليل الفطري131
3 - الهداية بالمال132
4 - الهداية بالتذكير بالمواقف الخالدة والمقدَّسة133
5 - الهداية بالأخلاق الحسنة135
6 - الهداية بإظهار عبادة الله تعالىٰ136
الفصل الرابع: هداية التشريع139
هداية التشريع141
الضلال التشريعي146
أُمور مهمَّة في المقام147
الأمر الأوَّل: من له حقُّ التشريع؟147
تشريعات النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 150
تشريعات الأئمَّة (علیهم السلام) 154
سنن عبد المطَّلب (علیه السلام) 157
الأمر الثاني: مصادر التشريع الإسلامي158
1 - القرآن الكريم159
2 - سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 160
3 - الإجماع161
4 - العقل161
العلاقة بين هذه المصادر162
الاجتهاد وموقعه من مصادر التشريع166
الأمر الثالث: سمات التشريع الإسلامي170
السمة الأُولىٰ: الشمولية170
ص: 270
السمة الثانية: المرونة وقابلية الانطباق المتعدِّد172
السمة الثالثة: الثابت والمتغيّر في التشريع الإسلامي173
السمة الرابعة: الرحمة في التشريع174
صور من سهولة التشريع175
الفصل الخامس: هداية اللطف183
سلالم تحصيل اللطف191
أوَّلاً: تنمية الوازع الديني192
ثانياً: حسن الخُلُق199
التأثير الدنيوي للخُلُق200
التأثير الأخروي للخُلُق203
ثالثاً: الصبر207
أقسام الصبر208
1 - الصبر علىٰ الطاعة209
2 - الصبر عن المعصية210
3 - الصبر عند المصيبة212
رابعاً: برُّ الوالدين215
موقع البرِّ بالوالدين في الإسلام216
الأثر التشريعي والتكويني لبرِّ الوالدين224
1 - ضمان برِّ الأولاد226
2 - ضمان الغنىٰ المادّي226
ملاحظة: في اللطف الابتدائي227
الفصل السادس: هداية الفلاح231
ص: 271
هداية الفلاح233
الأمر الأوَّل234
الأمر الثاني235
الأمر الثالث239
الأمر الرابع242
الخاتمة249
المصادر والمراجع257
الفهرست267
* * *
ص: 272