تقريرات
الشيخ معتصم سيد أحمد
الشيخ الحسين أحمد السيد
لسلسة محاضرات ألقاها
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
في الحوزة العلمية الزينبية
1431ه_ - 1432ه_
ص: 1
ص: 2
نسبية النصوص والمعرفة الممكن و الممتنع
السيد مرتضى الشيرازي
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 5
ص: 6
الحمد لله ربّ العالمین بارئ الخلائق اجمعین باعث الانبیاء و المرسلین، و الصلاه و السلام علی سیدنا و نبینا محمد و آله الطيبين الطاهرين و اللعنة علي اعدائهم اجمعين الي يوم الدین و لاحول و لاقوة الا بالله العلی العظیم
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على محمد وآل محمد
نسبية المعرفة .. الممكن والممتنع
الظاهرة الفلسفية التي تصنف ضمن النسق الفكري الإنساني , لا تقيّم فقط ضمن الإبداع الفكري, ولا باعتبارها مجرد إرث أوجده العقل البشري بعد طول عناء وتأمل، كما لا يمكن وصفها برؤية إيجابية مطلقة تتجاوز قصور التجربة، ولا سلبية بحيث لا ترى كل الخبرات المتراكمة التي ساهمت في تفعيل العقل الإنساني؛ وإنما لا بد من حصرها وتحديدها ضمن مسارات محددة لا تتجاوز المحظور العقلي ولا تتوهم الحقائق، فلكي يكون العقل البشري مبدعاً يجوب آفاق الحقيقة لا بد أن يتحرك ضمن حدود تفصله عن الوهم والاستغراق في الجهل .
ص: 9
والتميّز الذي يحققه الإنسان ويجعله كائناً متفرداً، إنما لكونه صاحب علقة معرفية تؤسس لعملية الفهم التي تربطه بالآخر، فالمعرفة والإدراك والفهم هي من لوازم الإنسان العاقل، والتخلي أو التشكيك في القدرة المعرفية لدى الإنسان، هو تخلي أو تشكيك في حقيقة الإنسان العاقل، وهي النقطة التي تنعدم فيها المسافة الفاصلة بين الإنسان وبقية الكائنات، وبرغم الوضوح الذي تتمتع به هذه الحقيقة إلا أن الفكر البشري أصطدم بموجات تشكيكية زعزعت الثقة في ما ينتجه العقل من معرفة، فقد ابتلى الفكر بنزعات مثالية حاولت إما التشكّيك في الوجود الخارجي وإما في إمكانية الوصول إليه وإدراكه وفهمه.
فهناك اتجاهات أقرب إلى السفسطائية أنكرت من الأساس الوجود الخارجي، حاولت زعزعة أي قيمة للمعرفة. وقد ظلت آثار تلك النظرة السفسطائية في اتجاهات اعترفت بوجود واقع خلف الشعور، ولكنها شككت في قيمة المعرفة، التي تثبت ذلك كما هو حال المثالية الذاتية عند(باركلي 1685 - 753) (1).
وقد ساهم كانط (2) بمثاليته النقدية في فتح الباب واسعاً أمام النسبية
ص: 10
المعرفية، عندما فرق بين الشيء لذاته والشيء لأجلي، وحدد بذلك نصيب الإنسان من المعرفة، بحيث لا يمكنه الحكم بأن ما يتصوره عن الخارج، هو نفس الموجود بالخارج أو الشيء في ذاته، وكل ما يمكن أن يُّدرك نسبي لا يتعدى رمزاً يشير إلى كلِّي الحقيقة، فلم يكن الشيء في ذاته أو الشيء كما هو ذو قيمة بعيداً عن انطباعات النفس المدرِكة لذلك الشيء، ولولا تلك العلاقة التي تفرضها الذات المدرِكة لما كان يحمل الشيء في ذاته أي تصور معرفي، هذا هو حاصل التفريق الذي قام به كانط بين الشيء لذاته والشيء بالنسبة لنا، حيث جعل المعرفة البشرية نتاج علاقة تفاعلية بين الذات الفاعلة بكل ما تحمله من تجارب والذات المنفعلة، وحاصل النسبة بينهما هي المعرفة الإنسانية، يقول كانط )عن طريق الحاسة الخارجية وهي صفة لذهننا، نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجية عنا، وموجودة في المكان) (1) فكل ما يدركه الإنسان هو ظاهر، أو بمعنى أن ليس للإنسان نصيب من معرفة الأشياء إلا ظواهرها أمام ما يقع خلف الظاهر فليس أمام الإنسان إلا أن يتخذ حياله موقف اللا أدري أو المجهول تمام الجهالة، وبعيداً عن ما يحمله هذا الطرح من تصور يتجاوز حدود المنطق، أو محاولة إدخال اللا منطق في المنطق، إلا أنه تمكن من فتح تساؤلات جديدة أصبحت مدار لكثير من الفلسفات، وأهم ما نحتاجه هنا كشاهد فلسفي أن كانط أسس للنسبية المعرفية التي تتحرك في دائرة اللا مطلق والنهائي، لأن لكل إنسان تجربته الحسيه في إطاره الزماني والمكاني وبالتالي يستحيل افتراض عقل نموذجي في ظل وجود تجارب غير منحصرة.
ص: 11
وقد فتح هذا الطرح الباب أمام خطوات واسعة لفلسفات مختصة في نظرية المعرفة ارتكزت على كون الظاهر هو الأساس الموضوعي للمعرفة لأن الكينونة الحقيقية للشيء هي كينونة الظاهر لا كينونة الشيء في ذاته، فكانت هنا إسهامات هوسرل (1) الواضحة الذي أسس الفمنولوجيا (2) على أسس منهجية تعترف بالظاهر وتقترب منه باعتباره المحصلة الحقيقية للمعرفة الإنسانية، وأنطلق وهوسرل في تأسيسه المنهجي معارضاً المذهب الطبيعي الذي ساد في أوربا في نهاية القرن التاسع عشر والتطرف الذي صاحب أصحاب العلوم الطبيعية الذين اعتبروا العلم الطبيعي قادر على الانطباق على كل المجالات حتى الأدبية ومجالات النفس البشرية، ولكن لم يصل هذا الاعتراض إلى درجة يتنكر فيها على وجود العالم الطبيعي ، مما جعله يؤسس طريقة في الوقت الذي لا ينكر فيه الواقع يتجاهله أو يستبعده، والسبب في ذلك أن كل المشاكل الفلسفية يعتبرها نتاج التوجه الإنساني نحو الطبيعة، حتى مثالية كانط لم تخرج من هذا التصنيف باعتبارها نتاج توجه
ص: 12
نحو الطبيعة، ولذا افترض ضرورة تعطيل الواقع الطبيعي أو جعله بين قوسين لأنها الطريقة التي يعيد الوعي فيها ذاته التي غُيِبت في الطبيعة لأن الموقف الطبيعي جعله يضيع في الأشياء وموضوعات العالم وعلاقاتها، وطالما كان الوعي مرتبط بالواقع الطبيعي فسوف يكون أسيره وفي حالة من السذاجة والاستسلام للطبيعة ولا يمكن أن يعاد للوعي اعتباره إلا إذا تجاهل هذا العالم ووضعه بين قوسين لكي يُعاد فهمه من جديد ، ولذا يفرق أيضاً بين الشيء لذاته والشيء لأجلي ، فهذه النسبة الجديدة التي تفهم الوجود ضمن دائرة الإنسان- لأجلي- تكسب الوجود قيم جديدة تعاد معه الأنا المفقودة ويتحول الوجود الطبيعي إلى علم شعور لا يكون فيه الوجود أكثر من معطى من معطيات الشعور لا بوصفه حقيقة في ذاتها.
وبالتالي التأسيس الفلسفي للنسبية يرتكز على التفريق بين ما هو نسبي وما هو مطلق أي خارج عن حدود التجربة، وليس المقصود التجربة بالمعنى العلمي وإنما التجربة الشعورية التي يعيشها الإنسان ضمن المعطى الحياتي وما يؤثر فيها من بعد اجتماعي وتاريخي وسياسي أو بمعنى عام هي الفعل الشعوري للحياة، وأما المطلق باعتبار أنه خارج حدود التجربة فهو بالتالي خارج حدود المعرفة، وهذا هو المرتكز الذي تنطلق منه الهرمنيوطيقا لإثبات ضرورة تعدد الفهم، وبذلك تدخل الفلسفة النسبية في إطار فهم النصوص مستبعدة أي فهم محدد يتحاكم لديه النص، يقول محمد مجتهد شبستري ( إن للمعنى واقعاً أوسع من المعنى الذي قصده المؤلف، وذلك لأن الآفاق التاريخية للأشخاص متفاوتة ، بمعنى أن لكل شخص تجربته عن ذاته وعن العالم تختلف عن تجارب الآخرين ... وهذا ما يساعد بدوره على تباين المعاني التي ينتزعها الأفراد من النص الواحد ) (1) .
وأهم ما نحتاجه في هذه المرحلة وبهذا المقدمة المقتضبة هو اثبات أن هناك
ص: 13
جذور فلسفية أسست لنسبية المعرفة مما فتح الباب أمام كل أشكال المعرفة وجعلها لا تخرج عن دائرة النسبية حتى تلك المعرفة التي يمكن أن تحصل من دلالات النص وما يهمنا بالتحديد النص الديني، وما يحمله من فهم نسبي باعتبار أن الأفق المعرفي غير محصور ما دامت المعرفة وليدة تجارب حياتية تاريخية لا نهائية، كما تؤسس لذلك الهرمنيوطيقا (1) ومن هنا يجب أن نفهم ان الهرمنيوطيقا ليست باعتبار كونها دعوة لإثبات وجود قراءات متعددة وإنما دعوة لحتمية ذلك التعدد.
هذه النظريات النسبية تمثل حاجزاً حقيقياً أمام أي تأسيس معرفي قائم على إمكان الوصول إلى الحقيقة، كما أنها تقف أمام أي تأسيس لبناء معرفي مستنبط من النص الديني، طالما أن فهم القرآن لا يخرج عن إطار الفهم البشري المحكوم عليه بالتحول، وبالتالي لا يمكن أن نحتكم على أي فهم ثابت أو معلومات قطعية الصدق.
وقد تحول هذا النمط من التفكير إلى عقدة حقيقية عندما أصبح له وجود في الوسط الإسلامي، وتأثر به بعض الكتاب المسلمين الذين حاولوا الترويج
ص: 14
له بشتى الوسائل، وببعض العناوين الجاذبة مثل ((نزعة تجديدية في فهم النص الديني )) و ((قراءة حديثة للكتاب والسنة )) و ((رفض التعصب في تفسيرالمصادر الدينية )) و ((إحياء الإسلام )) وغيرها من العناوين التي تمر تحتها النزعة التشكيكية التي لا تبقي للدين معنى ولا رسماً، مما خلق نوعاً من الاستفزاز للمؤسسة الدينية وبخاصة الحوزة العلمية، ما جعلها ملزمة للوقوف أمام هذا الطرح بوصفها المؤسسة المسئوولة والجهة المقصودة لرفع ما التبس وتوضيح ما أشكل.
ورغم خطورة هذا الطرح الذي يفضي في النهاية إلى تمييع الدين وتفريغ الكتاب والسنة من الهداية المقصد النهائي للكتاب والسنة، إلا أن القليل قد انتبه إلى هذا الخطر وتعرض له بالنقد والتوضيح، وقد كان من بينهم سماحة الأستاذ آية الله السيد مرتضى الشيرازي، الذي عمل على تعرية هذه الأفكار وبيان ما يترب عليها من توالي فاسدة.
وقد عمل سماحته على مناقشة هذه الأفكار بمنهج يوائم النخب العلمية والفكرية في بعض الكتب والتأليفات الخاصة، كما لم يحرم عامة الناس من بعض النقاشات العلمية بعد تبسيط الحقائق وتقريب المفاهيم من خلال محاضرات ودروس لعامة الناس، ورغم أن المستمعين لمحاضراته لم يكن جميعهم من أهل الاختصاص، إلا أن سماحته تمكن من إيصال الحقائق بأسلوب سهل لا يفتقد الدقة والعمق، وقد حاصر فكرة النسبية بكل دلالاتها ومعانيها المفترضة ولم يمنعه نقده الشديد لفكرة النسبية من أن يكون منصفاً في تبيين بعض المعاني المقبولة.
هذا الكتاب (نسبية النصوص والمعرفة .. الممكن والممتنع) هو نتاج تلك المحاضرات التي تفضل بها سماحته في درسه المفتوح أمام كل الناس من جوار السيدة زينب (عليها السلام) ، وقد يستغرب البعض إذا قلنا أن هذه الدروس هي حول تفسير القرآن وبالخصوص تفسير قوله تعالى:
ص: 15
﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وقد انطلق سماحته من هذه الآية لتأسيس بناء منهجي في قبال التأسيس الذي يرتكز على النسبية، ومن هنا شمل تفسير هذه الآية هذا البعد المعرفي، وقد قام بعض الأخوة في مكتبه الشريف كتابتها ونشرها لكي تعم الفائدة، وقد خصني بلطفه الكبير وخلقه النبيل بأن جعلني والشيخ الحسيني أحمد السيد من بعض المشاركين في هذا العمل النبيل.
الشيخ معتصم سيد احمد
ص: 16
قبل الحديث عن مدلولات هذه الآية الشريفة ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (1)
ودلالتها المؤكدة على ضرورة الإيمان بالحق والحقيقة الواحدة المطلقة، الذي يعتبر الخطوة الأولى لتأسيس أي بناء معرفي؛ لبداهة القول بأن المعرفة تأتي تبعاً لأمكانية المعرفة، لا بد أن نشير إلى معاني (النسبية).
الحديث حول (نسبية المعرفة) بشكل عام أو الهرمنيوطيقا كفلسفة تؤدي إلى النسبية بشكل خاص، أصبح من المباحث التي تحظى بحضور واضح في بعض الأوساط الإسلامية، بخاصة عند المتأثرين بالفلسفة الغربية الذين بدأوا يقرعون أسماع الخلق بهذه البحوث متصورين أنهم أتوا بما يحقق فهماً إسلامياً حديثاً، مما يضطرنا للوقوف على هذه البحوث وتقييمها شرعياً، بحيث يشمل خطابنا كلاً من المسلم المتدين وغيره من أصحاب التوجهات الغربية، فنحتج على المتدين ونستدل له بما هو ضروري من الدين مثل قوله تعالى ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ والذي يقطع الطريق كما سنبين على القول بالنسبية، ونستدل لغيره بما هو ضروري من العقل، بحيث نجمع كلا النمطين من الاستدلال، إضافة إلى الوجدان والفطرة اللذين يدلان على ذلك أيضا.
ص: 17
وقبل التفصيل في الأمر لا بد أن نحصر المعاني التي يمكن أن تشملها النسبية، أي متعلقات النسبية، أو المضاف إليه فيها، وبحسب تتبعي يمكن أن تشير النسبية إلى أحدى المعاني التالية:
ألف: أن النسبية يمكن أن يراد بها (نسبية الحقيقة)، بمعنى نسبية المعلوم أي ما هو موجود في عالم العين وبالتالي نسبية الحقائق الخارجية المتمثلة في الحقائق النفس الأمرية
ب - كما يمكن أن يراد بها (نسبية المعرفة)، أي نسبية العلم في مقابل نسبية المعلوم، وهو ما يتحقق في عالم الوجود الذهني الذي يكون في قبال عالم الوجود العيني، ومن هنا يقصد بالنسبية نسبية المفاهيم الذهنية، وهي (ما يعرفه الإنسان) ويطلق عليه (معرفة) أو (علم).
ج - كما يمكن أن يراد بها نسبية الكواشف والجسور والنواقل التي تربط عالم الوجود العيني بعالم الوجود الذهني، ويقصد بالجسور.. الروابط، العبارات، الإشارات، الرموز، العلامات، النصب... وغير ذلك من (الدوالّ) مما يدل على تحقيق صلة بين النفس الإنسانية وبين المفاهيم والمداليل. وحينها تكون النسبية في الألفاظ أو الدوال التي تشكل الرابط بين عالم ما في الذهن وعالم ما في العين والخارج.
د -كما يمكن أن يقصد ب (النسبية) كل تلك الوجوه، أي بمعنى (النسبيةُ مطلقة) في تناقض بين المبتدأ والخبر، بحيث تصبح (الحقيقة) أيضاً نسبية أي إنه ليس في الواقع الخارجي حقيقة واحدة نبحث عنها، كما أن معارفنا أيضاً نسبية بحيث لا يمكن أن يكتسب الإنسان علوماً ومعارف صادقة، وأخرى خاطئة أو كاذبة، بل كلها صحيحة على قول في النسبية ، أو كلها ظنية على قول آخر ، أو كلها مما يخضع لعامل الزمن والظروف، فقد تنقلب معادلة الصحيح والخاطئ، على رأي ثالث.
ص: 18
وكذلك الألفاظ أيضا ذات دلالات ومفاهيم متحركة ليس لها معنى ثابتاً نحتكم لديه، فكل شخصاً له فهمه الذي غالباً ما يختلف عن فهم غيره، بل مدلولات الألفاظ في حالة من التغير والتشكل الدائم.
هذه هي الأقسام التي يمكن أن ترد فيها النسبية، أي يمكن أن تقع متعلقاً للنسبية .
معاني كلمة النسبية
أما معنى النسبية في حد ذاتها، فبحسب تتبّعي الناقص، نجد أن مجموع ما ذكر للنسبية من معان أو ما يمكن أن يذكر لها هو خمسة عشر معنى وقد ذكرتها في كتاب تحت الطبع بعنوان ((نقد الهرمنيوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة)) وأذكر منها هنا معاني ثلاثة ترتبط بالمقام والمعاني الأخرى لها بحث آخر.
المقصود من النسبية هو أحد المعاني التالية أو إثنين منها، أو كلها:
أ - المعنى الأول للنسبية هو التنكر للحقيقة الموضوعية، بحيث تدور المعرفة مدار الفهم الذي يتحقق لدى كل واحد منا، فما أفهمه أنا، وأنت، وهو، من الحقيقة الواحدة وإن كانت الأفهام متغايرة أو متضادة أو متناقضة، فإنها بأجمعها صحيحة (1) مصيبة في الوقت نفسه أي بمعنى مطابقتها للواقع، وهذه الفكرة هي في الواقع (مصيبة) ولكن ليس من باب مطابقة الواقع وإنما من باب كونها مصيبة من المصائب،
ص: 19
ذلك أنها تشكل تبريراً للانحراف الفكري والعقدي بحيث تصبح الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فالذي يعبد البقر معتقداً أنها الله، فهو محق، وكذلك الذي يعبد الصنم، والذي لا يعبد شيئاً، فالكل محق: المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، ولا يمكن ترجيح كفة الحقيقة نحو أي طرف من الأطراف، كذلك الحال في أصحاب التوجهات الفكرية العلمانية واللبرالية والشيوعية وهلم جراً، فإنه لا يمكن تحديد المصيب من المخطئ، ليس في مرحلة الإثبات فقط، بل إنه في مرحلة الثبوت فإن الكل مصيب على هذا الرأي.
إذاً تارة يقصد من (النسبية): أن كل ما يتصور، أو كل ما يصدق به، أو كل ما يعتقد به، فإنه صحيح، وإن كان الاعتقاد بالضدين والنقيضين، فمن يعتقد باجتماع النقيضين فإنه محق، وكذلك من يعتقد باستحالة اجتماعهما، ومن يقول أن الدور والتسلسل محال محق، وكذلك من يقول بالنقيض، وهكذا ليس هناك ثبات في الحقيقة حتى يحتكم لديه وتكون له المرجعية، وذلك مع تعميم ذلك في كل شيء حتى الحقائق المادية: فمن يقول أن الذرة تتكون من الكترون وبروتون والالكترون يدور حول البروتون، فقوله صحيح، والآخر الذي يقول بالجوهر الفرد المصمت الذي لا يتكون من شيء ولا ينقسم إطلاقا كما كان يقول به بعض قدماء الفلاسفة، فهو أيضاً قول صحيح.
وقد يتجلى هذا الخيار المعرفي عند بعض الذين لم يعترفوا بوجود صراط واحد مستقيم وإنما ذهبوا إلى وجود صراطات مستقيمة، وقد تجاوزوا بذلك الحد حيث وقفوا في مواجهة القرآن الكريم، حيث يصرح القرآن بوجود صراط مستقيم ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ أما بزعمهم وخلافاً للقرآن فليس هناك صراط واحد، بل كل الطرق توصل إلى المقصود، فالضالين والمغضوب عليهم أيضاً لهم صراط وكلها طرق إلى الله، شئت - حسب
ص: 20
رأيه - أم أبيت، بل لا يوجد على هذا ﴿الضَّالِّينَ﴾ ولا ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ (1)﴾ بل الكل صراطهم ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ (2) ﴾ وذلك، كما يلاحظ حتى المبتدئ، مناقض صريح للقرآن الكريم، بل ولما أجمعت عليه كافة الأديان.
ومن هنا فإنه لا يوجد سبيل إلى إثبات حقيقة واحدة فقط، من باب السالبة بانتفاء الموضوع (أي ليست الحقيقة واحدة ليوجد سبيل موصل لها) بل إن الذي يؤمن بأن الحق واحد، يُتهم بكونه دوغمائياً أي منغلق التفكير ومتحجر العقل ورجعياً وما أشبه ذلك من التهم غير العلمية، بل إن هذه التهم تنقض نفسها بنفسها، إذ ما دامت كل الأفكار مهما كانت متناقضة، صحيحة وواقعية، فلتكن الدوغمائية أيضاً صحيحة وواقعية.
المعنى الثاني للنسبية هو أن ما يعتقد به الشخص هو ما يمثل (الحقيقة) مع قطع النظر عن الآخرين، بحيث تصبح المعرفة حالة شخصية، وبما أن قناعات الإنسان متبدلة وفي حالة من التغير الدائم، فالمعرفة كذلك نسبية وفي حالة من التشكل الدائم، بحيث لا يمكن أن يحكم على مرحلة من مراحله الفكرية إنها عين الصواب والأفكار الأخرى الطارئة مخطئة، فما يعتقده الآن هو الحق، وإذا حدثت عنده قناعة جديدة مخالفة للقناعة الأولى فهي حق كما أن القناعة السابقة حق ايضاً، فمثلاً لو كان هناك شخص يعتقد بأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الخليفة الأول بنص السماء، فهو على حق، ثم إذا تغير رأي هذا الشخص (أو كان سابقاً يعتقد عكس ذلك ثم تغير رأيه) فهو أيضاً حق، إذن الشخص لو تغير
ص: 21
رأيه وتغير معتقده وتنوعت عقائده وآراؤه ومذاهبه ومشاربه ومسالكه، فإنها جميعاً على حق وصواب وصحيحة.
وفرق هذا عن المعنى الأول: أن المعنى الثاني يتحدث عن المعرفة المتخالفة لدى الشخص الواحد، أما المعنى الأول فيشير إلى المعارف المتخالفة لدى عدة أشخاص.
ويمكن إضافة قيد للمعنى الثاني ليتحول إلى معنى ثالث، هكذا : (إن ما يعتقد به الشخص هو ما يمثل له الحقيقة) أي بإضافة (له) وعلى هذا فالحديث ليس عن كون معتقده حقاً في نفس الأمر، بل إنه (حق عنده) لكن يرد على هذا أنه لا يصح له أيضاً أن يعدّ كلتا معرفتيه المتناقضتين سابقاً ولاحقاً حقاً، فإنه وإن فرض أنه قاطع بصحة رأيه، إلا أنه عندما يحدث له قطع بالخلاف فإنه هو أيضاً ليس بمقدوره أن يرى صحة رأيه السابق أيضاً، والحال أنه مؤمن حالياً بصحة رأيه اللاحق. هذا إضافة إلى ما سيأتي لدى الجواب على ثنائية (كانط).
التعريف الثالث للنسبية والذي ذكره بعض مشاهيرهم هو: أن النسبية تعني أن لا وجود لمقولة مشتركة عامة بين الجميع، فلا وجود لمعرفة تمثل قاسماً مشتركاً بين الخليقة، فالبحث عن حقيقة تمثل حالة من الإجماع المعرفي، بحث عن المحال.
سوف نخص هذه المعاني الثلاثة للنسبية بالبحث إضافة للمعاني الأساسية الثلاثة الأولى:
أن (الحقيقة) ليست مطلقة أو أن (المعرفة) ليست مطلقة أو أن (الدوال والكواشف والجسور إلى الحقائق) ليست مطلقة.
ص: 22
بعد أن اتضح وجود عدد من المعاني للنسبية (1) نعود إلى قوله تعالى:﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ فإن هذه الكلمة النورانية القرآنية المباركة وفي جملة واحدة من ثلاث كلمات، تبطل وتهدم أس بنيان هذه النظريات الثلاثة، وذلك:
أولاً: لأنها تكشف عن أن عالم الحقائق مطلق، أي بمعنى أن الحقائق الخارجية لها تحقق ونحو من الثبات، بحيث يمكن التعرف عليها كما هي عليه في الواقع، ولذا جرى طلب الهداية من الله تعالى إليها، فلا يبقى هناك وجه لنسبية الحقائق، وهي متعلّق ﴿إهدِنَا﴾.
ثانياً: كذلك عالم المفاهيم والمعاني والمعرفة والعلم، أيضا ليست نسبية وإنما هي مطلقة؛ وإلا لم يتحقق معنى أو مفهوم ل ﴿إهدِنَا﴾(2) .
ثالثاً: عالم الجسور والكواشف والدوال
وهي أدوات الهداية والطرق إليها والدوال عليها أيضاً لا يمكن أن تكون نسبية، إذ حينئذ لا يستقيم للفظ معنى ولا يتحقق بذلك طلبٌ ممكنُ التحقق، من الآية الشريفة (3) .
أما كيف تأتي هذه الآية القرآنية الكريمة بنيان هذه القواعد من الأساس فتنسفها، كما قال تعالى: ﴿ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
ص: 23
السَّقْفُ ﴾ (1) المعرفي الذي بنوه في أوهامهم وهذا تفسير بالمصداق كما لا يخفى فتوضيحه:
الله سبحانه وتعالى في هذه الآية القرآنية الكريمة يقول: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ مما يدل على أن هناك صراطاً مستقيماً له نحو من التحقق والثبوت في عالم الواقع وعالم العين والخارج، والاعتراف بوجود صراط مستقيم في عالم الواقع، هو اعتراف بكونها حقيقة مطلقة وليست نسبية؛ لأن الصراط يعني الطريق الواضح المتسع وليس مجرد الطريق؛ إذ تارة يكون هناك طريق ولكنه غير واضح المعالم كما في بعض الصحاري حيث تكون فيها معالم الطريق غير واضحة. أما الصراط المستقيم فالوضوح مأخوذ في مفهومه، كما أنه متسع يسع خلائق الله لو شاءوا أن يمشوا ويهتدوا ليصلوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؛ وذلك لأن الصراط من خصائصه أن يوصل إلى المقصود.
فقد قرر الله سبحانه وتعالى، في مرحلة الثبوت، وجود صراط واضح متسع يوصل للجنة، فاعتبر وجوده أمراً مسلماً مفروغاً عنه، فقال: ﴿ اهدِنَا﴾ فلو لم يكن له وجود لكانت الهداية للمجهول، فالهداية متعلِّقة بالصراط مما يعني أن هناك في عالم العين والوجود الخارجي وفي الواقع، صراطاً ينتهي بالإنسان السالك سبيل الله، إلى رضوانه تعالى ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبر﴾َ (2)فهذا الصراط ينتهي إلى رضا الله وإلى القرب منه سبحانه وتعالى، هناك إذن في مرحلة الثبوت (صراط واحد) أمرنا الله أن نطلب منه
الهداية إليه.
ص: 24
فإذا كان متعلق ﴿اهدِنَا﴾ هو ما له تحقق وثبوت في العين والخارج ونفس الأمر، ثبت أن هناك حقيقة مطلقة لا تحتمل النسبية لا بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني. في المعنى الأول للنسبية يعتقد أن الواقع متعدد بحيث تكون كل الافهام المتباينة مصيبة بمعنى كونها حقاً ومطابقتها للواقع.
(ولا يخفى أنه يوجد هناك حق ويوجد صدق، أما الحق فهو فيما إذا لاحظت الواقع مقيساً لما في ذهنك، ولأي عالم إثباتي آخر، وأما الصد فهو فيما إذا لاحظت ما في الذهن مقيساً للخارج)، وبناءً على ذلك فإن الحق واحد لا يتعدد بتعدد الأنظار والأفكار والاجتهادات ولذا فقد اشتهر عنا أننا (مخطئة) ولسنا (مصوّبة).
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾ (1) هذا في الثبوت، أما في الإثبات: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (2) فالمؤمن مصيب والكافر مخطئ، وتظل الحقيقة واحدة لا تتأثر بأيمان المؤمن وكفر الكافر، فمثلاً النار في الواقع الخارجي تظل ناراً سواء اعترف بها الإنسان أم كفر بها، فلو كان مثلاً هناك من ينكر حقيقة النار فإذا أدخل يده في النار فهل لا تحرقه تلك النار لأنه غير مؤمن بوجود النار؟ (وبذلك ظهر أن القول بأن الواقع يتبدل بتبدل القناعات أو يتعدد بتعددها) (3) ، هو ادعاء سوفسطائي لا يصمد إذا اصطدم بالحقيقة، وقد تفنن بعض العرفاء في إنكار حقائق الموجودات، كما يقول صدر الدين الشيرازي في الأسفار المجلد الأول:
كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في مرايا أو ظلال
وهو كلام موغل في السفسطة وإنكار لحقائق الأشياء، إذ يقولون: كل ما في الكون من حقائق يدركها الإنسان فهي وهم وخيال ولا حقيقة لشيء
ص: 25
إلا شيء واحد هو الله، أي يرون أن كل ما هو موجود فهو الله ولا شيء سواه (ليس في الدار) والعياذ بالله (غيره ديار)، وهذا القول هو وجه آخر للسفسطة فهناك قول ينكر الوجود رأساً، أما هذا الرأي فإنه يؤمن بالموجود ولكنه يقول كله هو الله والعياذ بالله، وذلك سواء قال بوحدة الوجود أم قال بوحدة الموجود، والذي أوصلهم لهذا الأمر هو ذلك المبنى الفلسفي القائل بأن الوجود (سواء وجود الخالق أم المخلوق) حقيقة واحدة وهي مقولة مشككة (1) ، وإنكار الحقائق الواضحة للوجدان، هو نوع من التطرف الفكري؛ لأن الحقائق غير خاضعة للإنكار ولا ينكرها إلا جاهل متطرف.
ويكفينا في الإجابة عن نسبية الحقائق الخارجية، الإشارة إلى بعض الشواهد اللطيفة المعبرة عن ذلك، يقال: إن أبا علي بن سينا كان له تلميذ لعله بهمنيار، درّسه فترة من الزمن، ثم انطلق به إلى النهر، وجلسا عند الشاطئ وبدأ أبو علي يحدث تلميذه مستعرضاً مجموعة من الأدلة حتى أوصلها إلى سبعين دليلاً على أن الماء الذي في النهر ما هو إلا محض خيال (وهذا شبيه بالعارف الذي يستدل على أن هذا الماء وسائر الأشياء هي الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً)، ثم قال له ابن سينا لقد درست عندي فترة من الزمن وأريد منك الآن الجواب عن هذه السبعين دليلاً، ولكن بهمنيار لم يتعرض لمناقشة السبعين دليلاً وإنما جابهه بالحقيقة مباشرة، فقد مد يده تحت الماء ورمى كفاً من الماء في وجه أستاذه وقال: هذا جوابي الأقوى على السبعين دليلاً، وهو بمفرده كفيل بنسفها جميعاً!، ذلك إن الوجدان هو أقرب طريق إلى تنبيه الغافل عن الحقائق أو المتنكر لها.
وقد استخدم الله سبحانه هذه الطريقة في القرآن الكريم لتنبيه الإنسان
ص: 26
للحقائق الواضحة التي قد يغفل عنها مثل قوله تعالى: ﴿أَفي اللهِ شَكٌّ﴾ (1)فالمعرفة حقيقة فطرية، ولا يُستدل على (الضروري) وإنما يُنبّه ويُذكّر بما هو ثابت ومغروس في واقع الفطرة.
إذن كشفت هذه الآية عن أن الحقيقة مطلقة والواقع له تحقق وثبوت، وبالتالي نتجاوز المعنى الأول للنسبية الذي يقول إن (الحقيقة نسبية) والحق متعدد ولا يوجد هناك صراط واحد مستقيم بل هي صراطات مستقيمة، إذ يصرح ربنا جل اسمه ب قوله تعالى ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
أما النسبية بالمعنى الثاني، أي أن المعرفة وما في عالم الذهن هو النسبي، فقد كشفت هذه الآية أيضاً عن بطلان ذلك؛ لأن المعرفة إذا كانت نسبية بمعنى أن كل ما يعتقده الناس صحيح وإن كان متناقضاً، حينها لا يكون هناك معنى لقوله ﴿اهدِنَا﴾ لأن الكل مهديون عندئذ وكلها طرق صحيحة، فالسفسطائي كلامه صحيح، والعارف كلامه صحيح والذي يسير على طريق أهل البيت (عليهم السلام) ويلتزم بتعاليم السماء أيضا كلامه صحيح، ومخالفهم صحيح أي إن كل المسالك صحيحة فالذي يعتقد بأنه عبد لله والذي يعتقد بان الخلق كلهم الله، كلاهما محق!.
يقول تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وهذا يعني أن في مرحلة الثبوت هناك (صراط مستقيم)، وفي مرحلة الإثبات هناك (هداية)، مما يشمل الهداية العلمية والهداية العملية، وهداية العقل النظري والعقل العملي.
والحاصل: أن يتطابق العالمان الذهني والعيني بأن يكون هذا العالم الذهني المعرفي، مصيباً، صائباً مطابقاً للواقع، إضافة إلى مطابقة (العمل المأتي به) ل (المأمور به).
ص: 27
أما إذا قلنا المعرفة نسبية وأن عقيدتي اليوم المناقضة لعقيدتي الأمس والغد، أو عقيدتي المناقضة لعقيدتك، كلها على حق، فلا يكون هناك محصل من قوله تعالى: ﴿اهدِنَا﴾ ولا يتعدى كونه تحصيل حاصل وهو محال، لأن الكل سيكونون كما ذكرنا مهديين إلى صراطات مختلفة ثبوتاً، مليارات من الصراطات المستقيمة ومليارات من الآراء المتناقضة المطابق كل واحد منها لصراط ثبوتي معين. بل حتى ذلك الإنسان الذي يستخدم بعض المخدرات التي تجعله في حالة من الهلوسة، فيسبح في عوالم متخيلة، يصبح ما يتصوره ويتخيله حقيقة، بناءً على نسبية المعرفة بهذا المعنى.
إذن: قول الله تعالى ﴿اهدِنَا﴾ يكشف عن أن في عالم الإثبات (أو في عالم الذهن أو في عالم الوجود المعرفي أو العلمي) توجد هناك هداية ويوجد ضلال، ولا ريب في ذلك ولاشك. هذا هو المعنى الثاني للنسبية أي النسبية في المعرفة.
أما المعنى الثالث للنسبية، أي نسبية الجسور والدوال والكواشف، فقد كشفت الآية الكريمة عن بطلانه أيضاً، ويستفاد ذلك من كلمة ﴿اهدِنَا﴾؛ لأن الجسور الذهنية والدوال وعالم الألفاظ الموصلة للحقيقة لو كانت نسبية (بمعنى أن الكلمة تحمل المتناقضين وأن اللفظ بأي شكل وبأي نحو فسر فإنه صحيح، أو بمعنى نظرية موت المؤلف، وأن الألفاظ تتبع في دلالتها شخصية المفسّر كما تزعم بعض مدارس الهرمنيوطيقا) فحينها لا يوجد هناك نص ثابت يحتفظ بمعنى أو دلالة محددة بل تصبح النصوص في حالة من الحركة الدائمة، وتصبح قراءة النصوص قراءة منفتحة على معاني غير متناهية، وهذا التصور الخاطئ ينسف كل جسور التواصل المعرفي الذي يتحقق عبر النصوص بل الذي يتحقق عبر أي نوع من أنواع الدوالّ واللغة بالمعنى الأعم
ص: 28
الشامل للإشارة والعلامة وغيرها، وبالتالي يعدّ نسفاً لأصل المعرفة وليس إثباتاً لنسبيتها.
ثم إن من الواضح بالضرورة أن الألفاظ تختزن معاني خاصة يفهمها الجميع ويقوم على أساسها التفاهم والتخاطب، أما إذا كان المعنى الذي يترتب على كل الألفاظ، بل حتى على لفظ ﴿اهدِنَا﴾ هو معنى يشكّله المفسر كما يريد بعيداً عن معنى خاص تحتفظ به الكلمة، فحينها تكون الكلمة الواحدة دالة على الشيئي ونقيضه أو أضداده وكافة المتغايرات، وهذا ما لا يستقيم، لأنه:
أولاً: يلغي جسور التواصل المعرفي بين البشر.
وثانياً: يجعل عملية التعليم لغواً وباطلاً.
وثالثا: يلغي أي مفهوم حقيقي لهذا الطلب ﴿اهدِنَا﴾ بل يجعله طلبا بائساً.
إذن: كلمة ﴿اهدِنَا﴾ في الآية كلفظ، لا تحتمل إلا معنى أصلياً واحداً وهو المعنى الذي ينطبق مع الصراط الثبوتي، ومع المعنى الذي تحمله الأذهان الصافية عن الشوائب، أي المعنى الذي يشير إلى حقيقة واحدة في عالم الواقع، وبالتالي ليست الألفاظ نسبية بل هي ألفاظ ذات دلالات حقيقية تطابق الحقيقة، وقد تكون أصلية أو فرعية (1) إلا أنها تبقى متوافقة، وعلى الأصول العقلائية، بخاصة الألفاظ التي استخدمت في القرآن ورواياتالمعصومين؛ لأنها استخدمت بدقة متناهية لتدلل على معاني محددة.
والنتيجة: أن قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ تنسف نظرية نسبية الحقيقة الثبوتية، وتنسف نظرية نسبية الحقيقة الإثباتية بمعنييها؛ لأن العوالم أربعة:
1 .1 عالم الوجود العيني وهو ما يتعلق بنسبية الحقيقة.
2 .2 وعالم الوجود الذهني وهو ما يتعلق بنسبية المعرفة.
3.و 4. وعالم الوجود اللفظي، وعالم الوجود الكتبي، وقد أدرجنا
ص: 29
هذين الأخيرين في سياق واحد ومساق واحد وسميناهما الجسور أو الدوال أو الكواشف أو ما أشبه ذلك.
وهنا نتوقف عند النقطة الأولى وهي: (نسبية الحقيقة).
نقول: هل الحقيقة أو الحقائق الخارجية نسبية؟ الجواب لا، لأن كل شيء هوهو وليس غيره، ولمزيداً التوضيح نقول الحقائق تنقسم إلى أقسام قسم:
التقسيم الأول من الحقائق تسمى (جواهر) مثل (الحائط أو الحجر أو الشجر أو الذئب ...) فعندما أقول (هذا حائط) فأنا أشير إلى حقيقة واقعية واحدة، لا تتأثر بإنكار المنكر؛ ولا تتغير هذه الحقيقة بتغير التصورات عنها وباختلاف المسبقات الفكرية والخلفيات النفسية، لأن للحائط تحققاً في مرحلة الثبوت، وكذلك الذئب فإنه ذئب في مرحلة الثبوت وليس شيئاً آخر، وهكذا النهار نهار، الظلمة ظلمة، الحلو حلو، والحامض حامض، كما هو واضح ، لا يمكن أن يقبل النقيض، إذن: على مستوى الجواهر فالحقيقة واحدة ومطلقة بما هي حق، وكل شيء هو هو ولا يتغير عما هو عليه في الحين الذي هو على حاله.
وهناك نوع آخر من الحقائق تسمى (أعراضاً) مثل الكم والكيف، فالمترمتر وليس غير المتر، والمتر والنصف متر ونصف، ولا يعقل أن يكون المتر مترين في الوقت الذي هو متر واحد، يعني بما هو متر وبشرط لا عن الأكثر والأقل، وكذلك اللون لون فاللون الأحمر أحمر، حتى لو أنكرنا وجود الألوان فإن الحقيقة مطلقة، وبتطور أو بتغير معلوماتي تظل الحقيقة كما كانت وكما هي هي، وهكذا بقية المقولات:
كمٌّ وكيفٌ وضعٌ أينٌ له متى فعلٌ مضافٌ وانفعالٌ ثبتا
إذن الحقيقة لا تخضع للتغير بتغير الأفهام عنها، بل هي هي وليست بغيرها
ص: 30
على الإطلاق في عالم الجواهر وفي عالم الأعراض.
لننتقل الآن إلى تقسيم آخر، وقد يكون هو منشأ الشبهة:
التقسيم الثاني: إن من الحقائق ما هي حقائق قارة أو متواطية بالتعبير المنطقي، وما هي غير قارة، ذلك أنه يوجد عندنا (كم متصل قار) وعندنا (كم متصل غير قار)، وذلك مثل الزمان ومثل الحركة، فربما يتوهم أن الحركة أمر نسبي، الزمان أيضاً أمر نسبي أي أنه أمر غير ثابت بل هو متحرك متغير، الآن الساعة مثلاً ثمانية وربع لكنك بعد دقيقة لا يمكنك القول: الآن ثمانية وربع، بل يلزم أن تقول ثمانية وست عشرة دقيقة مثلاً، فلعل متوهماًيتوهم أن الحقائق فيها ما هو نسبي.
نقول: كلا.. الحركة هي هي وليست غيرها وليست شيئا آخر.
ان الحركة بما هي حركة وليست شيئاً آخر، ذلك أن الواقع الخارجي أمر محدد واضح، لكن نحوَ وجودِهِ هو سيال، وكون وجوده سيالاً لا يعني النسبية بالتفسير الذي فسرت به النسبية؛ لأن النسبية كما ذكرنا تعني عند بعضهم أن الإنسان المعتقِد بأن هذه حركة، مصيب، والآخر الذي يقول: كلا هذه سكون، فهو مصيب أيضاً. وهذا هو ما نرفضه، لأن حقيقة هذا الشيء في عالم الثبوت واحد من الأمرين إما حركة وإما سكون، والشيء إما هو متحرك أو هو ساكن ولا يعقل اجتماعهما من جهة واحدة، وفي الزمان الأمر كذلك، فإن اليوم إما يوم السبت أو يوم الخميس أما أن يكون اليوم هو يوم السبت ولا يوم السبت من جهة واحدة فهذا مما لا يمكن.
والحاصل: إن الشيء هو هو سواء أكان قاراً أم غير قار مثل الحركة والزمان، أو إن شئت فأطلق عليها التدريجيات، فهناك أمور تدريجية في الحقيقة لكن لا يمكن أن
ص: 31
تكون نسبية؛ إذ : الواقع هو الواقع ولا غير، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (1)﴾ولا غير، وهذا الواقع الخارجي هو الواقع نفسه وذاته، سواء تعددت الأنظار أم لم تتعدد، ولذا نقول: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ والنتيجة أن الصراط صراط واحد مستقيم، وليست صراطات مستقيمة، بل هو صراط واحد في مقابله صراطات ضلال وظلم وما أشبه ذلك.
ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم كما أمرنا بالدعاء والبحث والطلب، ومن الواضح أنه إذا لم يكن هناك صراط واحد محدد في الواقع، أو وجد صراط ولكن يمكن الوصول إليه، فإن طلبنا بالهداية إليه سيكون طلباً محالاً، وإن الوصول إلى معرفة الحق لو كان محالاً نكون قد كلفنا الله عندئذ شططاً، نعوذ بالله من التفوه بذلك.
ص: 32
الحديث حول الحقول التي تثيرها النسبية، يتضمن ابعاد وتفاصيل، لكن ما نأمله هنا هو تسليط الضوء على بعض المفاصل المهمة لعلها تضيء الطريق للباحثين عن الحقيقة، وسوف نستعين في بحثنا هذا بأدلة عقلية، وشواهد عقلائية، إضافة إلى ما استنبطناه من الآية الشريفة: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (1) .
إن التعبير بنسبية المعرفة، أو نسبية العلم، يكشف عن وجود تداخل بين عنى العلم والمعرفة، والاعتراف بوجود تداخل لا يلزمنا بتغيير مسار البحث، فلو كانت النسبة بين العلم والمعرفة هي التساوي، أو كانت النسبة هي لعموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص المطلق، أو حتى التباين، فكل هذه التقادير في النسبة بين العلم والمعرفة، بعيدة عن أصل البحث عن النسبية، ولذا لا يهمنا التحقيق لحسم الجدل القائم حول تلك النسبة، فسواء قلنا بأن العلم يساوي المعرفة، أم قلنا بأن العلم يباين المعرفة، فالحديث عن (النسبية) سيكون بحيث يغطي كلا الحقلين، فالحديث عن أحدهما – حتى مع غير التساوي - هو حديث عن الآخر في الغالب، نعم قد توجد أدلة خاصة بالمعرفة، بناءً على أنها
ص: 33
غير العلم، وسنتطرق لها أيضاً بإذن الله تعالى، وربما في المستقبل نتطرق لما هو الحق في المقام، أما الآن فحديثنا عن نسبية المعرفة ونسبية العلم سواء كانا متساويين أم متباينين لا فرق، وإذا كانا متساويين فالعلاقة هي الترادف بينهما لتطابقهما في المقام (1).
والسؤال المحوري الذي يحدد مسار البحث هو السؤال الذي يبحث عن المقصود من النسبية، وماذا يعني القول بنسبية المعرفة؟
أشرنا في بحث سابق، وبحسب الاستقراء الناقص، إلى وجود معان عدة للنسبية تصل إلى العشرة(2)، وقد ذُكِرَت بشكل مباشر أو غير مباشر في كلمات عدد من فلاسفة الغرب أو الشرق، وهناك معان يمكن أن تستنبط من كلامهم أيضاً، وقد أضفت معنى آخر فصارت المعاني أحد عشر معنى، لكن ما نتطرق له في هذا البحث هو أربعة أو خمسة من المعاني.
1: المعرفة الناقصة
المعنى الأول: المعرفة الناقصة في قبال الكاملة (3) .
يحتمل أن يكون القصد من النسبية هو كون المعرفة الإنسانية ناقصة ولايمكن أن تحيط بكل الحقائق، أي (بحقائق عالم الطبيعة، أو حقائق عالم الغيب، أو حقائق النفس الإنسانية أو حقائق عالم التشريع وحِكَم وملاكات
ص: 34
الأحكام،...) ففي كل هذه الحقول لا ترتقي معرفة الإنسان بها إلى حد الكمال، وبالتالي المعرفة ليست مطلقة ولا يمكن أن تصل إلى حد الكمال والشمول.
وهنا لا بد لنا أن نفكك المعاني ونحدد المراد حتى نميز بين المدّعى الصحيح والخطأ، وأصل هذا المعنى يرجع إلى أن المعرفة قد تكون متعلقة بالطبيعة من إنسان وحيوان وجماد وما أشبه، وقد تكون متعلقة بعالم الغيب أو بأغوار النفس الإنسانية، والحاصل: إن كل المعارف التي لها علاقة بعالم التكوين يمكن تصنيفها ضمن هذا المعنى، كما أن الكلام يشمل عالم التشريع من حِكَم وملاكات الأحكام الشرعية من أحكام تكليفية ووضعية أيضاً، هذه كلها مما لا تحيط المعرفة بها ولا يستطيع بشر أن يحيط بكل جوانب هذا الكون المتلاطم الواسع (اللا متناهي الأبعاد)، بالتعبير العرفي وليس بالتعبير الدقيق الفلسفي، هذا هو المعنى الأول المراد أو المحتمل إرادته.
إن هذا المعنى للنسبية صحيح من جهة وخطأ من جهة أخرى، وبتعبير أدق:
أ - صحيح بالنسبة إلى أشخاص وخطأ بالنسبة إلى أشخاص آخرين.
ب-وصحيح بالنسبة إلى الوقوع (في الجملة) وخطأ بالنسبة إلى الإمكان
(بالجملة).
وتوضيح ذلك باختصار بأن القول بالنسبية ضمن هذا المعنى يمكن أن يشمل (الإمكان) و(الوقوع)، والإمكان بحث عقلي يتعلق بماهية الشيء أو جوهره، أي أن العقل لا يرى أن الإحاطة بحقائق الأشياء أمر مستحيل، لا استحالة ذاتية ولا استحالة وقوعية، أما الوقوع فهو بحث استقرائي راجع إلى الوجود والجانب العملي وحدوث مثل هذا العلم بالفعل للبعض.
ص: 35
وهنا نسأل من يقول بالنسبية ضمن هذا المعنى الذي ينفي (الإطلاق) في المعرفة، هل تعني: الإمكان أم الوقوع؟ فإن كان المراد الإمكان، أي بمعنى أنه يستحيل على البشر أن يحيط بكل الحقائق الكونية، فهو واضح البطلان، فمن أي طريق يمكنك أن تنفي إمكان مثل هذا العلم؟، والعقل لا يحكم بالاستحالة إلا إذا رجع الأمر إلى اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، وهل القول بإمكانية العلم والإحاطة بحقائق الأشياء يلزم منه التسلسل أو الدور أو اجتماع الضدين؟ وهل يستحيل على الخالق أن يجمع العلوم كلها في قلب رجل من أوليائه؟ فالحديث عن الإمكان ضمن دائرة النسبية، حديث يبتعد عن الصواب؛ لأن الإمكان متحقق والاستحالة منتفية دون ريب، فخالق هذا الكون يستطيع أن يجمع حقائق هذا الكون الغريب العجيب المترامي، ويستودع معارفه في مخلوق ما. ذلك أنه إذا كان الإنسان وهو البشر الضعيف قادراً على أن يجمع معلوماته في مكان ما ويخزنها مثلاً في كمبيوتر قادر على إجراء أعقد العمليات ويتسع لحفظ معلومات هائلة (1)، ألا يمكن أن يكون الخالق قادراً أن يودع حقائق الكون في بشر خلقه وكرّمه واصطفاه؟.
أما إذا كانت النسبية بمعنى الوقوع وليس الإمكان، أي بمعنى أن البشر لا يوجد فيهم من يحيط بكل معلومات الكون خُبراً، فإننا سنجد أن هذا المدعى يرتكز على حقيقة لا تثبت إلا بالاستقراء، وهو ما لا يتم لهم، لأن الاستقراء هنا ناقص لا يرتقي إلى مستوى الحجة، فعلى أقل التقدير لا يشمل هذا الاستقراء الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، لإنهم ليسوا في دار الدنيا.
فمن الذي يستطيع أن يقطع بأن الله لم يجمع علوم الكون بأجمعها في شخص
ص: 36
اسمه آدم مثلاً، كما يؤكد القرآن الكريم: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (1)، وحتى لا يقع البعض في إشكال عدم العموم في العلم الذي منحه الله لآدم (عليه السلام) و الوقوع في شبهة أن ﴿ الْأَسْمَاءَ ﴾ جمع محلى بأل وهو ظاهر في العموم و ليس نصاً في العموم، أكد الله تعالى على العموم بقوله: ﴿كُلَّهَا﴾، ويمكن أن نستشف من ﴿ الْأَسْمَاءَ ﴾ العلوم وذلك لأن الأسماء تشكل عالم الإثبات وعالم الوجود لذهني وهو العلم، وفي مقابله عالم الثبوت أي الواقع، كما يقع في مقابل الاسم: المسمى، فمثلاً في الرياضيات هناك اسم ومسمى، فالجبر والمقابلة اسم ولهما مسمى، وفي كل العلوم هناك اسم ومسمى،المسمى هو الواقع الخارجي، والاسم هو هذه العلوم والمعارف، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (2) أي علّمه كل المعارف والعلوم.
والنتيجة: أنه لا يمكن أن يجزم الإنسان بأنه (لم يقع) أن الله سبحانه وتعالى
قد جمع كل المعارف والعلوم التي ترتبط بكل الأفلاك والمجرات وبأغوار لنفس الإنسانية وبأمثال ذلك، في إنسان، إذ لا يمكن أن يحكم الإنسان على الغائب، وعلى أمر لم يجرّبه ولم يردع عنه حكم العقل الوجداني الصريح، وهذا شبيه بالذي ينكر وجود كواكب أخرى خارج المنظومة الشمسية، أو يدعي عدم وجود كواكب صالحة لأن يسكنها كائن حي، لأنه لم ير ذلك أو لم يثبت لديه ذلك، وهذا ما لا يمكن الركون إليه علمياً لأنه لا يعدو الإدعاءمن دون برهان ودليل.
ومن هنا نحن نصدق بالغيب إذا أخبرنا به الله تعالى أو من أوحى إليهم أو ألهمهم، أما غير ذلك فلا سبيل إلى معرفته إثباتا أو نفياً، عادة، وعندما أخبرنا القرآن ببعض الأمور الغيبية صدقنا بها، فهل هناك طريق إلى الإيمان بوجود ملائكة مثلاً أو جن غير إخبار الله تعالى بها؟. نعم قد يفتح الله تعالى
ص: 37
نافذة للحواس الباطنة، نحو عالم الغيب، أو حتى الحواس الظاهرة أحياناً. ومن هنا جاز لنا التصديق بعلوم الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)كما اخبرنا بذلك القرآن، وكما أخبرنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلوم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) كما قال في حق الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) : ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب)) (1) ، وقال علي (عليه صلوات الله وسلامه) : ((علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب)) (2) وفي رواية أخرى: ((يفتح لي من كل باب ألف ألف باب)) (3) ، و(العلم) هنا مطلق يشمل جميع العلوم مثل الهندسة والطب والفلك، فإن الهندسة باب والفلك باب والطب باب والجيولوجيا باب والفسيولوجيا وعلم وظائف الأعضاء باب وكذا الفلسفة والأصول والفقه وما أشبه ذلك، وهذا ما يدل عليه كلام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يقول: ((أنا مدينة العلم)) والعلم هنا مطلق لأن المفرد المحلى بأل يفيد الإطلاق، فينتج أن (علياً) عليه السلام هو باب كل العلوم.
وهذا النوع من الاستدلال، كما لا يخفى، يعدّ مناسباً لمن يؤمن بالله وبالرسول، أما إذا كان المخاطب غير مؤمن ولا يصدق مثل قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ فهو على أقل تقدير ملزم بعدم الرفض، وذلك لعدم إمكانه بأن يقطع بخلاف ذلك، وكل ما يمكن أن يكون باستطاعته هو قوله: لا أعلم، وحينها لا يمكنه تكذيب ما لم يحط به علماً، وعندها ينتقل البحث معه إلى الحقل الكلامي لإثبات التوحيد والنبوة وما يترتب عليهما من التصديق بما جاء في الرسالة، ومن ثم إثبات وقوع المعرفة المطلقة الشاملة لبعض الأنبياء والأولياء.
ص: 38
والخلاصة: إنه إذا كان المقصود من المعنى الأول لنسبية المعرفة: أن المعرفة التي بحوزة الإنسان هي غير كاملة وشاملة، فإنه يقع البحث عندئذ تارة حول الإمكان، وأخرى حول الوقوع، أما الإمكان فهو ثابت مما لا ريب فيه كما بينا، وأما الوقوع فليس له سبيل إلى نكرانه، بالنسبة لأمثال الأنبياء والأوصياء (عليهم صلوات الله وسلامه).
المعنى الثاني: تغير المعرفة بتغير الزمان:
هذا المعنى يرتكز على كون المعرفة الإنسانية محكومة ومتأثرة بعامل الزمن، فليست هناك معرفة يمكنها اختراق حاجز الزمن لتكون مهيمنة عليه، بل هي منفعلة دوماً بحسب الظروف التي تفرض شروطاً جديدةً للمعرفة، ومن هنا كان لا بد من الحكم بنسبية المعرفة، لعدم وجود معرفة تكون صحيحة في كل الأزمنة، فالصحيح والخطأ محكومان بالزمن، يعني أنها ليست صحيحة في كل الأزمنة وإنما هي صحيحة في زمان دون زمان، فالمعرفة الموجودة اليوم والتي نحكم عليها بالصحة، لا يمكن أن تكون صحيحة في كل الأزمان، لأنها في حالة من التغير الدائم، لتعلق المعرفة بإطاري وبشرطي الزمان والمكان (1)، بل يدَّعون: أن التشريع القرآني، كما صرح بعض أصحاب النسبية، محكو م أيضاً بعامل الزمان، ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (2) هو تشريع (بحسب هذه النظرية)
ص: 39
صالح لزمان دون زمان، فمع تغير الأحوال لا يمكن أن يكون ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن﴾ ، بل يكون للذكر مثلاً مثل حظ الأنثى أو للأنثى مثل حظ الذكرين، لأن الحكم محكوم عندهم بالأجواء والظروف الزمنية الخاصة، فما كان في من مكة والأعراب والجاهلية لا يكون صالحاً في زمن المدنية والتقدم والتكنولوجيا كما يزعمون، فتكون الأحكام الشرعية بذلك نسبية أيضاً، وقد يعد هذا شكلاً من أشكال التمرد على واقع الدين والتشريع ولكن بغلاف النسبية، فبدل القول الصريح بخطأ النبي - وقد عصمه الله تعالى - في عدم مساواته المرأة بالرجل في حق الإرث يقول ذلك بطريقة غير مباشرة، بأن حكم النبي في ذلك الزمن صحيح مراعاةً لظرفه الزماني، لكنه في هذا الزمن غير صحيح، مما يعني تخطئة استمرارية الشريعة وتخطئة ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة)) (1).
إذن المعنى الثاني للنسبية هو: أنه قد تكون معلومة أو علم أو حقيقة في عالم الإثبات صحيحة في زمن خاطئة في زمن آخر. وسيأتي الجواب عن ذلك بإذن الله تعالى.
المعنى الثالث:ليست هناك حقيقة واحدة:
النسبية بهذا المعنى تنفي أن تكون الحقيقة مطلقة في حد ذاتها، وأنه قد ينالها إنسان دون آخر، فلا توجد هناك حقيقة موضوعية كي يسعى الإنسان للتعرف عليها فتارة يصيبها وتارة يخطئ، فتكون الحقيقة ا لموضوعية هي مقياس الصحة والخطأ، بل الحقيقة نسبية، أي إن هذا النمط التفكيري يتنكر على تلك الحقيقة العينية الخارجية، ويُرجع المعرفة
ص: 40
بالتالي إلى الإنسان ونظرته الشخصية (1)، فتصبح بذلك علومي ومعارفي كلها صحيحة وعلوم الآخر التي تناقض علومي ومعارفي أيضاً صحيحة، فلو كان الإنسان يعتقد بأن الله ليس بجسم ويستحيل أن يكون جسماً، فضمن هذه النظرية فإن عقيدة هذا الإنسان صحيحة، والذي يقول بأن الله جسم وينزل من السماء راكباً حماراً والعياذ بالله أيضاً عقيدته صحيحة! والذي يقول بالتوحيد صحيح والذي يقول بالتثليث أيضاً صحيح! فالكل صحيح والكل على حق، هذا الطرف وذاك الطرف، حتى وإن اعتقد بأي شيء وآمن بأية خرافة فهو محق، فمن اعتقد بأن البقر هو الإله أو الحجر والمدر والصنم ومن اعتقد بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، سيّان من حيث الإصابة، أي أن الكل مصيب!!.
المعنى الرابع: العلوم والمعارف ظنية، وليست قطعية:
(النسبية) بهذا المعنى تقوم على كون المعرفة الإنسانية مهما تكاملت فهي ظنية لا ترقى إلى مستوى القطع واليقين، فالمعرفة ضمن هذا التصور قائمة على مجرد إدراك ظواهر الأشياء بحيث لا يستطيع الإنسان أن يدرك حقائق الأمور إلا ظناً، بل لعل بعضهم يقول: إن إدراك (الظواهر) أيضاً ظني، ومن هنا لا يستطيع إنسان أن يحكم جازماً بصحة معارفه في قبال معارف الآخرين، والحاصل: إن كافة علومه ومعارفه صحيحة تحتمل الخطأ، كما أن علوم ومعارف الآخرين خاطئة تحتمل الصواب.
ويحتمل في هذا الرأي: إرادة الثبوت، وإن الواقع هو كذلك، وإن تَصَوَّرَ العارف أو العالم أنه على حق مائة بالمائة، وتصور غيره على باطل مائة في
ص: 41
المائة، كما يحتمل إرادة الإثبات وأنه لا يوجد عارف وعالم إلا وهو مذعن بأن علومه ومعارفه لا تتعدى حد الظن، وأن تخطئته للآخرين لا تتجاوز التخطئة الظنية.
وعلى الرأي الأول فإنه توجد ضبابية مطلقة لا يكاد الإنسان أن يرى فيها الحقائق واضحة، والبشر على هذا الفرض لا يعيش إلا على الظنون والظواهر.
وهنالك احتمال آخر،وإن كان مستبعداً أن يكون مقصود النسبيين وهو أنه يقصد بنسبية المعرفة: أن المعرفة ليست مطلقة من حيث درجة اليقين وإنما تختلف درجاتها ولكن لا يمكن أن تصل إلى اليقين الكامل كحق اليقين وعين اليقين.
ذلك الشخص في تلك الحادثة، جاء لذاك المسمي نفسه خليفة المسلمين وسأله: هل أنت من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قال له: لا أعلم، ثم ذهب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسأله نفس السؤال فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما مضمونه بأنه مطمئن بأنه من أهل الجنة، لأنه عالم بأنه على الحق وليس ظاناً، وهذا هو الفرق بين الجاهل والعالم: إن العالم بالحقيقة متيقن تماماً كما يقول الإمام علي (عليه السلام) ((لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً)) (1) .
إذن المعنى الرابع لنسبية المعرفة هو أن المعرفة نسبية من حيث درجة الاطمئنان أو الانكشاف بها فلا توجد معرفة يقينية بل المعارف كلها نسبية أي ظنية، أو شكية أو وهمية، يعني مشكوكة أو موهومة أو مظنونة.
المعنى الخامس: عدم الاتفاق على العلوم والمعارف أو حتى مفردات منها
ص: 42
بين البشر:
النسبية هنا بمعنى عدم وجود معرفة انعقد عليها إجماع جميع العقلاء، بحيث أنها تكون محل اتفاق جميع البشر، فالمعرفة نسبية هنا بمعنى وجود الخلاف والنزاع في كافة العلوم والمعارف وفي جميع المسائل بين البشر (1).
ص: 43
هذه المعاني المختلفة للنسبية لا يمكن سوقها بعصى معرفية واحدة والحكم عليها جميعاً بحكم واحد، فإن البعض منها إطلاقه محكوم عليه بالبطلان، والبعض منها في أصوله تأمل ونظر، ولكي تتضح الصورة نبدأ بالاستشهاد بأدلة وأمثلة من المعارف والعلوم في مختلف الحقول.
المثال الأول من العلوم: المثلث مجموع زواياه تساوي قائمتين، فهل هذه (الحقيقة) و(المعلومة) مطلقة أم نسبية تختلف باختلاف الزمان أو الظرف والحالات؟، وهل يعقل القول: إن في زمن دقيانوس مثلاً كانت زوايا المثلث تساوي ثلاث قوائم، أما في الغرب المتطور فالمثلث زواياه تساوي قائمتين!!،
إن المثلث مثلث سواء صعدت إلى السماء أو نزلت إلى الأرض ومجموع زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، وكذلك مساحة المربع التي تكتشفها بضرب الضلع في نفسه وهكذا وهلم جراً، هذه حقائق لا ريب فيها ولا تخضع للزمان بل هي فوق الزمان، كما أنها لا تخضع للمكان ولا تخضعلمؤثرات الطبيعة والظروف، وليست محكومة باختلاف وجهات النظر،
كما أنها ليست ظنية، بل هي قطعية، كما أنها ليست حقائق مختلفاً فيها،بل هي إجماعية، ومن هنا فإن من أصاب هذه الحقيقة وعلم بها فهو محق وإلاّ فمخطئ، فإذا زعم أحدهم بأن حاصل ضرب أربعة في أربعة يساوي عشرين، نحكم بجهله؛ لأنها حقيقة مطلقة وهي مقولة علمية عالمية لا يختلف فيها اثنان إلاّ الجاهل بقول مطلق، وهي حقيقة مطلقة من حيث الزمان، ومن حيث الأشخاص والأحوال والظروف، والأمر كذلك في كافة مسائل
ص: 44
العلوم والمعارف اليقينية مثل علم الحساب والهندسة وما أشبه ذلك (1)هذا نوع من الأمثلة.
نوع آخر من الأمثلة عندما يقول ديكارت(2) (أنا أفكر إذاً أنا موجود) (3)، فإنه يستدل ببرهان المعلول والأثر وهو الانتقال من الأثر للمؤثر، وقانون العلية قانون عقلي فطري وجداني لاشك فيه، كما لا يختلف باختلاف الأزمنة ولا باختلاف
الأنظار وهو بديهي، ولا يوجد منصف ينكر كون الأثر دالاً على المؤثر، أو كون الأثر معلولاً للمؤثر الحقيقي (4) ، ولا يمكن أن تكون العلة بما هي علة غير علة، والمعلول غير معلول، ويستحيل صدور المعلول بدون علة، كما يستحيل أن يكون هنالك علة تامة العلية دون معلول.
ص: 45
قانون آخر لعله أوضح عند البعض وهو (الكل أعظم من الجزء) فإنه قانون لا يخضع لنسبية الزمن ولا تتحكم فيه الأمكنة، هو مورد اتفاق الجميع، ولايمكن الإتيان بمثال ينقض هذا القانون.
وقد يخطئ البعض في الحكم بذلك في بعض الأمثلة لكنه يكشف عن عدم فهم هذا القانون، كمن يقول جهلاً إذا فرضنا وجود إنسان له يد كبيرة جداً أكبر من بقية الجسم، فيكون حينها الجزء أكبر من الكل، وهذا خطأ واضح في فهم القانون، لأن الكل هنا هو جميع جسم الإنسان بما فيه هذه اليد، وبالتالي هو حتماً أكبر من الجزء، وهكذا في بقية القوانين لو تم فهم المقصود منها، مثلاً القول بأن التسلسل محال وكذلك اجتماع النقيضين، أو الضدين، واستحالة أن يكون الجزء أعظم من الكل، أو يوجد المعلول بدون علة، لو تم (إدراك) و(فهم) كل هذه القوانين فإنه لا يمكن أن يرتاب فيها أحد، وبحسب تعبير العلماء (التصور فيها مساوق للتصديق) فإنك إذا تصورته على حقيقته فإنك تصدق به بدون كلام، وبهذا نكتشف أن هنالك علوماً ومعارف مطلقة بأكملها كالرياضيات، وهنالك مسائل مطلقة، من علوم أخرى كالكلام والفلسفة.
مثال آخر في المستقلات العقلية وهو باب واسع، وقد ذكرت في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) العشرات من نماذج المستقلات العقلية في مختلف الأبواب، من اجتماع وسياسة واقتصاد وحقوق وعقيدة وشريعة، وهذه المستقلات العقلية هي أيضاً أمور مطلقة وليست المعرفة بها نسبية،وذلك مثل العدل حسن بقول مطلق في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، والظلم قبيح مهما تغيرت الظروف، فما صدق عليه أنه عدل فهو حسن
ص: 46
وما صدق عليه أنه ظلم فهو قبيح، وهو أمر يقيني بديهي إلا إذا افترضنا أن هناك من لا يعرف معنى العدل والظلم فلنا معه كلام آخر، وكل من يعرف حقيقة العدل يحكم بحسنه ومن يعرف حقيقة الظلم يحكم بقبحه، ومن لا يعرف المعنى تمكنه المعرفة بالأمثلة، وذلك ك: سحق حقوق الناس وتعذيب الأبرياء وغيرها من الأمثلة الكاشفة عن قبح الظلم، فلا يوجد شخص سليم العقل يحكم بحسن هذه الأفعال، وبالتالي هذه الحقائق مطلقة ولا تقبل النسبية، وإلا فسيصبح ضرب الضعيف ظلماً وعدواناً ومصادرة حقوقه في زمن، حسناً وفي زمن قبيحاً، وضرب المرأة لأنها امرأة في زمن جيداً بل يكون قتلها والعياذ بالله حسناً، كما كانت البنات يُقبرن في الجاهلية ﴿لوَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(1) كل ذلك يمكن أن نجد له تبريراً تحت مظلة النسبية، التي تشمل حتى القيم الأخلاقية، كما يحاول البعض أن يجد فيها تبريراً لعملية الإجهاض وهو شكل آخر لوأد الأطفال.
وهكذا فإن النسبية ضمن هذا العنوان، تضيع معها الحقائق، وتدور عندها الأفكار في حلقات مفرغة، فعلى سبيل المثال يمكن أن نقول للذين ينادون بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجال: إن هذه الفكرة نسبية، وإلزام الآخرين بأمر نسبي لا يصح، فكما تعتقد أنت بذلك يعتقد الآخر بعدم المساواة بناءً على نسبية المعرفة حسب العديد من معانيها، أي سواء كانت بمعنى أن المعرفة ظنية وليست يقينية، أم بمعنى أن كل المعارف صحيحة حتى المتضاد منها والمتناقض، أم بمعنى أن المعرفة تختلف صحةً وبطلاناً باختلاف الأزمان والأماكن والظروف.
ص: 47
وهكذا يكون الحال حتى في (وثيقة حقوق الإنسان) التي يعطيها أولئك المتنورون من المسلمين من الأهمية – ويا للغرابة - أكثر من القرآن الكريم، والدليل على ذلك أن القرآن أصبح عرضة لتفسيراتٍ بالرأي ولتأويلاتٍ من القاصي والداني، وأصبحت معارفه في منطقهم خاضعة لقانون النسبية، أما وثيقة حقوق الإنسان فهي لا يمكن أن تمس أو تناقش وكل ما فيها حق مطلق
لا يقبل المساس!.
نقول: لماذا لا يجري عليها قانون النسبية؟! فتكون الوثيقة مجرد أفكار ظنية غير قطعية، أو أنها صالحة لزمان دون زمان أو مكان دون مكان، أو أن كل الآراء المتناقضة حولها حق، أو أنه لا يوجد منهج علمي أو غير علمي للوصول إلى حقيقة (النص) فيها وهكذا، لماذا توجه سهامهم دائماً إلى القرآن الكريم إلى درجة أن يفتري أحدهم بالقول أن هذا القرآن هو إنتاج إنساني وليس ربانياً، فيقول: إن المعاني من الله والكلام من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صاغه بعباراته وفقاً للطبيعة العربية، وتبعاً لحالاتهم ومستوى أفكارهم وشكل ثقافاتهم، وإن صياغته هذه خاضعة لمسبقاته الفكرية وخلفياته النفسية!، كل ذلك تحت مظلة (أنسنة الكلام الإلهي) حتى يكون خاضعاً لقانون الزمان والمكان، وذلك مما يفتح الباب أمام خلق فوضى فكرية تغيب معها كل الحقائق، ومثالاً على ذلك قوله الله تعالى ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(1) يقول: إن هذه الآية لم تنزل من الله بهذا الشكل أو النص، وإنما نزل المعنى الذي يؤكد العدالة وهي قاعدة عامة يختلف تطبيقها من زمان إلى آخر، وكان من المناسب لمرحلة النبي وزمان الجاهلية أن تتحقق العدالة في موضوع المرأة ضمن هذا السياق ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن﴾ وفقاً للثقافة الحاكمة في ذلك الزمن، أما الآن وقد تغير الزمن وتبدلت الثقافة فلا بد
ص: 48
من إنشاء حكم جديد وفق سياق جديد يتناسب مع المرحلة فتكون النتيجة (للذكر مثل حظ الأنثى) إلى غير ذلك من أنواع التلاعب الذي لا يمكن أن توضع له حدود، والذي يعني الإجهاز على الدين كله، إذ يقال حتى في (الصلاة) أنها بأجزائها وشروطها كانت تطبيقاً لقاعدة (ذكر الله) والارتباط به، ومع تغير الزمن والثقافات يمكن أن يتبلور الارتباط بالله بأشكال أخرى حتى الموسيقى!!
﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾(1) .
ولو طبقت هذه النظرية لما استقر حجر على حجر في كل الدساتير والقوانين العالمية، ولكان لكل أحد أن يتجاوز كافة القوانين بحجة روح القانون، وأنه له أن يطبقه تطبيقاً عصرياً أو تطبيقاً مناسباً لثقافته و نفسيته وخلفياته!. كما يلزم من هذه النظرية فسح المجال للكل (الدولة والشركة والأسرة) بالتحلل من كافة العهود والمواثيق الدولية والعائلية والعملية وغيرها. إذن (المستقلات العقلية) هي تماماً كعلمي الهندسة والحساب، وكالكثير من المسائل العلمية والقطعية في العديد من العلوم، من القضايا المطلقة التي تتبدد معها النسبية المطلقة، وهي أفكار خارجة عن إطار الشك أو الريب، بل هي أمور قطعية بديهية واضحة يتفق عليها كل من تصورها كما هي، والتفت إليها على ما هي عليه.
ملامح الصراط المستقيم:
هنا نتوقف عند قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (2) فإن هذه الآية الشريفة تكشف عن وجود صراط مستقيم لا يتحكم فيه الزمان ولا المكان و لا تغيره الظروف، وكونه ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ الذي طلبنا من الله هدايتنا
ص: 49
إليه يعني تعاليه وسموّه على الزمان والمكان، فلو تلون بالزمان وتعرج مع اختلاف الأذهان لما كان صراطاً مستقيماً.
ثم إنه الطريق الذي يصل العبد بالرب المتعالي على الزمان والمكان، كما أن الاهتداء للصراط المستقيم مطلوب في كل زمان ومكان؛ لأنه دعاء المؤمن المطلوب منه دائماً في كل الأزمنة ﴿اهدِنَا﴾ فلو لم يكن هناك طريق في متن الواقع واحداً ومعروفاً ومشخّصاً لكان طلبنا لغواً، وكان توجيه الله لنا بطلب ذلك في الصلوات الخمس وغيرها، محالاً وقوعياً، بل لو كانت المعرفة نسبية بمعنى أن (الصراطات كلها مستقيمة) وكلها صحيحة، فإن طلب الهداية للصراط المستقيم، يكون طلباً للمحال، لأنه تحصيل حاصل، إذ كل صراط كان الإنسان فيه على هذا الرأي
فهو صراط مستقيم! والطلب متوقف على عدم التحقق الفعلي للمطلوب مع رجاء نيله.
وهذا ﴿الصِّرَاطَ﴾ الذي أشارت إليه الآية القرآنية له شمولية وعرض عريض، فإنه يشمل أولاً المعتقدات، وثانياً الملكات والصفات، وثالثاً الخواطر والأفكار، ورابعاً يشمل أموراً أخرى نوكلها إلى عنوان آخر.
وتوضيح ذلك أن ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ الذي أمرنا الله أن نطلب منه أن يهدينا إليه دائما، لا بد أن يشمل:
أولا: المعتقدات، فإن العقيدة قد تكون مطابقة للصراط المستقيم وقد لا تكون، إذ إن: (الله واحد) عقيدة مطابقة للصراط المستقيم، أما (الله ثلاثة) فهو عقيدة مخالفة للصراط المستقيم، وهكذا الأمر في مرحلة الثبوت، فهل الله مجرد أم جسم؟ هل الله سبحانه وتعالى عادل كما نقول، أم ليس بعادل كما يقول البعض؟ وهكذا..
ص: 50
وهنا مثال آخر أكثر ابتلاءً وتداولاً وهو مورد جدل ونقاش بين المسلمين وهو موضوع عدالة الصحابة، فهناك قسم من المسلمين يعتقدون بأن الصحابة كلهم على حق ومصيرهم جميعاً الجنة كما ينسب إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) (1)
وقد حكم هذا الفريق على مرحلة تاريخية كاملة بالقداسة والعصمة بحيث لا يحتمل فيهم خطأ واحد لا لشيء إلا لكون وجودهم توافق مع وجود الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنهم قد شاهدوه أو صاحبوه فترة من الزمن، متغافلاً عن ما جرى بينهم من خلاف وصل إلى حد الحروب والقتال، وهناك قسم من المسلمين من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يحكمون ببطلان هذه العقيدة؛ لأن الحق لا يمكن أن يتعدد والحق أحق أن يتبع: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ (2) والنظرة الموضوعية تقتضي عدم الحكم على كل الصحابة بحكم واحد، وإنما هو مجتمع فيه الصالح والطالح، ولكلمنهما درجات ومراتب، وذلك كأي مجتمع بشري وإن كانت له بعض مفرداته، وقد أكد القرآن هذه النظرة في آيات كثيرة كما كشف القرآن عن مجموعة من الصحابة الذين كانوا حول النبي ووصفهم بالمنافقين، وقد شكل (النفاق) ظاهرة كبيرة في مجتمع الرسول إلى درجة أن خصهم الله بسورة كاملة في القرآن باسم المنافقون مضافاً إلى آيات أخرى شمل ذ كرهم، فلنلاحظ مثلا قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءكَ الُمَنْافِقِينَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الُمَنْافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *
ص: 51
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ (1) فآمنوا ظاهراً بعد غلبة الإسلام لكي يعصموا ماءهم فاتخذوا إيمانهم جنة فصدوا عن سبيله.
هذا مضافاً لما جاء في الأحاديث التي تثبت ارتداد بعض الصحابة كما في البخاري كتاب تفسير القرآن: أن قسماً من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدوا ويساقون إلى النار.
فعن ابن عباس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ((يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا)) ، ثم قال: ((كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين))، إلى آخر الآية ثم قال: ((ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم إلى ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.(2)
وإذا استطردنا في هذا المثال الذي يكشف عن حجم الخلاف بين المسلمين، وانقسام الأمة إلى مذهبين إلى اليوم، نجد أن سبب الخلاف وقع عندما أعتقد البعض أن كل الصحابة يمكن أن يكونوا وسطاء بيننا وبين حكم الله، ولهذا تغاضى هذا الفريق عن كل الخلافات التي وقعت بينهم
ص: 52
وعن كل خطايا وجرائم وجنايات بعضهم حتى يجد المبرر والمصحح لإتباعهم، بينما يعتقد المذهب الآخر بأن أهل بيت النبي (صلوات الله عليهم) هم الذين أمرنا الله ورسوله بإتباعهم باعتبارهم النخبة التي ميزها الله تعالى واصطفاهم على بقية الصحابة بل وعلى الخلائق كافة، وطهرهم من كل رجس ودنس: ﴿إِنَماَّ يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(1)، والآيات والروايات التي تثبت ذلك كثيرة لا حصر لها في هذا المقام.
وعلى أقل تقدير فإن أئمة أهل البيت هم مورد إجماع هذه الأمة، واتّباع المجمع عليه أولى من اتباع من اختلف فيه، وفي الحديث: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))(2) ، وبخاصة أن الصحابة وقع الاختلاف بينهم إلى درجة أن قتل بعضهم البعض الآخر وكفّر بعضهم بعضاً كما هو ثابت في مصادر الفريقين، وهذا لا يمنع من وجوب وضرورة احترام الصحابة الذين ثبتوا على العهد ولم يكونوا من المرتدين. وإن كل الآيات التي مدحت الصحابة تكشف عن هذا القسم.
ثانياً: الصراط المستقيم يشمل أيضاً (الملكات الفاضلة) فإن ذا الملكة الفاضلة على صراط مستقيم، وذلك مثل ملكة الكرم والبخل والعدل الفسق...فالإنسان الكريم ملكته الكرم، والبخيل ملكته البخل، وكذلك ملكة العدل والفسق، والشجاعة والجبن، فمن منهم على الصراط المستقيم؟
لا يعقل أن يكون الجميع على صراط مستقيم، كما لا يمكن أن يرتاب أحد
ص: 53
في أن ملكة الجود والعدل والشجاعة هي التي تمثل الملكات الفاضلة والقيم الأخلاقية (1)، والعقل والفطرة شاهدة على ذلك بحيث لو سئل الجميع في كل الأزمان وكل الأمكنة لكانت الإجابة واحدة.
وهنا نجري مقارنة بسيطة بين شخصيتين عرفهما الواقع الإسلامي، كمثال يدل على أن الملكات النفسية تنقسم إلى الحسن والسيئ وإن أصحابها يتميزون بين من هو على حق ومن هو على باطل وإن كل ذلك فطري ويشهد به صريح العقل ولا مجال لتوهم النسبية أبداً.
وحتى يكون الشاهد أكثر وضوحاً نتجنب ذكر اسم صاحب القصة الأولى حتى لا تتدخل العصبيات والأهواء وتحرف الحقائق.
والتجربة والاستطلاع أكبر شاهد فلو ذكرت هذه القصة لأي إنسان سَوِيّ في أي زمان وأي مكان فإنه سيرى أن صاحب القصة الأولى على باطل، وأن بطل القضية الثانية على حق.
كان هناك من يدعي خلافة المسلمين وأنه أمير المؤمنين، وقد مر هذا الرجل في آخر الليل على دارٍ فسمع من داخل بيت صوت رجل وامرأة يتحدثان، فتسلق الجدار ودخل إلى داخل البيت، فرأى رجلاً مع امرأة جالسين، فأغلظ عليهما في القول، وهددهما، إلا أن ذاك الرجل أجابه: يا فلان إن أنا أخطأت مرة فأنت أخطأت مرتين: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ وأنت تسلقت سطح البيت، وخالفت بذلك
ص: 54
نص القرآن الكريم، ويقول تعالى: ﴿وَلا تَّجسَسُوا﴾ وأنت تجسست علينا.(1) فإذا عرضت هذه القضية على أي فرد مع قطع النظر عن اسم هذا الشخص، فهل من الممكن أن يصدق عاقل حكيم بأن عمل هذا الرجل صحيح وبأنه يصلح لخلافة المسلمين؟ وبخاصة إذا قورن مع صاحب القصة الثانية والذي كان يتجول في ظلام الليل البهيم في الطرقات والأزقة باحثاً عن محتاج أو فقير لكي يسعفه أو يطعمه حاملاً على كتفه أكياس الطعام، وقد اشتهر لدى الفقراء والأيتام والمساكين من غير أن يعرفوا شخصه إلا بعد أن افتقدوه فترة ثم بان لهم أنه قد استشهد، فكان هذا الرجل مثالاً لملكة الرأفة والرحمة والعطف بالفقراء، وكان ذلك الآخر مثالاً لملكة التهجم على الناس والتجسس عليهم وتسور البيوت وضرب الناس بالعصا (الدرة)!، فأيهما الذي كان على صراط مستقيم؟
﴿أَفَمَن يْمشَي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يْمشَي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (2)
إن هذه قضية فطرية بديهية لا مجال للنسبية فيها، بل هي أمر مقطوع به مُجيع عليها كل عاقل، وقضية مطلقة لا تختلف باختلاف الأزمنة ولا باختلاف
البلاد والأمكنة.
والحاصل: إن الصراط المستقيم الذي نطلب من الله سبحانه وتعالى هدايتنا له،هذا الصراط المستقيم يشمل العقائد والمعتقدات، ويشمل أيضاً الملكات النفسانية.
ص: 55
ثالثاً: يشمل ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ الخواطر أيضاً، بمعنى أنه إذا خطر ببال الإنسان خاطر، وطاف بذهنه طائف، فهو أيضا قد يكون في ذلك على صراط مستقيم، وقد يكون على ضلال.
وإليكم هذا المثال من واقعنا الإعلامي اليوم، الذي أصبحت فيه الفضائيات متاحة لكل من هب ودب، فقد تحدث أحد متعصبي السلف في إحدى الفضائيات المسمومة أخيراً، وكأن المستمع لا يملك عقلاً ولا حكمة، وقد حاول جاهداً إنكار حادثة الهجوم على بيت الزهراء عليها سلام الله، وكسر ضلعها الشريف، مستدلاً على ذلك بقوله: إن الإمام علي (عليه السلام)كان قمة في الغيرة وفي الشجاعة وفي الفتوة فكيف يمكن أن يرى بأن زوجته تضرب أمامه، ولا يحرك ساكناً؟ وكان استدلاله كله يدور حول هذا المحور الذي يتجاوز العقل والنقل، فينكر كل الوقائع التاريخية بأمر استحساني يكشف عن غاية السطحية.
والجواب:
أولاً: وكما هو معروف، وقد دل عليه الروايات الصحيحة الثابتة، أن الإمام (صلوات الله عليه) كان مقيداً بأمر الله تعالى، وبوصية من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تمنعه عن قتال القوم، وقد كان في ذلك امتحان عظيم للإمام وقد خرج منه وكما هي عادته وديدنه بأعلى درجات النجاح.
ثانياً: وكجواب نقضي نقول:ماذا تقول عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يرى أصحابه يُعذَّبون في مكة أمام ناظريه وقد عذبوا بسبب إسلامهم، ومع ذلك لم يجرد سيفه ولا أمر أصحابه بالدفاع المسلح عنهم، أو حتى الدفاع اليدوي، وكان من بينهم النساء المؤمنات مثل سمية، بل اكتفى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 56
بقوله: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))(1)وهو بذلك يؤكد على معادلة (الصبر)، وعلى التسلح بسلاح المظلومية، وهل يصح أن يعترض أحد بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان شجاعاً بل أشجع الشجعان وصاحب غيرة وحمية سكت، ولم يفعل شيئاً؟
بل نقول: إنه يصل شعاع إشكال هذا الجاهل إلى الله سبحانه وتعالى، فالله هو خالق الغيرة والحمية والبطولة وكل الكون بيده سبحانه، فلماذا لا يتدخل الله عندما يرى المؤمنات الطاهرات يُعذَّبن وتنتهك أعراضهن في السجون؟
إن الله تعالى خلق الدنيا دار امتحان ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتَركْروا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (2) وهكذا كان امتحان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) امتحاناً في الصبر، وذلك تحفظاً على رسالة النبي الأكرم، إذ لو جرّد الإمام سيفه وحاربهم لتعرض الإسلام كله للخطر، خاصة إذا لاحظنا أن إسلام القوم كان حديثاً، وأن التجربة ما زالت طرية وقد أحاطت بها المخاطر من كل صوب، فخطر المنافقين من جهة، وقبائل الموتورين من جهة أخرى، بالإضافة إلى إمبراطوريتي الفرس والروم التي كانت تتحين الفرصة لكي تنقض على التجربة الإسلامية الوليدة.
صحيح أن الدفاع عن بضعة الرسول ضروري جداً بل من أهم الضروريات، ولكن المعصوم (عليه السلام) يضحي بنفسه لأجل الحفاظ على (الإسلام) بأكمله، الذي هو أشد ضرورة، ويقدم المصلحة العامة في حفظ أصل الدين من أن يُزال أو يمحى، على مصلحة حفظ نفسه، كما أن فيه إيثاراً وتضحيةً في سبيل حفظ القيم والمبادئ.
ص: 57
ولذا كان الأنبياء (عليهم السلام) يضحون بأنفسهم لأجل حفظ رسالاتهم، وقد ضحى الإمام الحسين (عليه السلام) لأجل الحفاظ على الدين كله:
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني
والتضحية قد تكون في (الصبر) كما صبر نوح وموسى والإمام الحسن ((عليهم السلام ))وقد تكون في الجهاد والثورة، كما صنع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فترة المدينة، وكما صنع الإمام الحسين (عليه السلام) بعد عشر سنوات من إمامته.
ثالثاً: إن القضايا التاريخية تثبت حسب بناء العقلاء بالرواية والخبر، وعدم فهم فلسفة بعض الوقائع التي ثبتت في التاريخ لا يصلح مبرراً لإنكارها.
رابعاً: هناك حِكَم معينة قد تفرض نفسها على بعض الأفعال والممارسات، سلباً أو إيجاباً، وعدم معرفة وجه الحكمة هو الذي يخلق نوعاً من الضبابية في تقييم الأفعال، وقد يقود إلى الإنكار.
خامساً: إن عدم تصدي الإمام علي (عليه السلام) للدفاع العسكري وبالقوة، عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كان من أكبر عوامل فضح أولئك الطغاة، ومن أقوى أسباب إظهار مظلومية الزهراء (عليها السلام) وذلك لأنه لو دافع وحصل قتال أو نشب صراع، لأمكن لأبواق أولئك الطغاة الظلمة، أن يصوّروا كسر الضلع وإسقاط الجنين المحسن (عليه السلام) على أنه نتيجة ذلك التدافع والقتال الذي دار داخل البيت، وبذلك كانت تحترق أكبر وثيقة إدانة لأولئك المنقلبين على الأعقاب والسارقين للسلطة.
سادساً: إن عدم تصدي الإمام (عليه السلام) للدفاع العسكري لا يدل على جبن فيه حاشاه، وهو الذي ناوش ذؤبان العرب وقتل أبطالهم وكان المثل الأعلى في الشجاعة، وإنما يدل ذلك على عظيم الابتلاء الذي كان فيه الإمام (عليه السلام) وعلى عظمة صبره وسيطرته على ذاته، فمع قدرته على دفع الأذى عنه وعن زوجته إلا أنه اختار جانب الصبر والتسلح بسلاح المظلومية الخالد.
وقد أوردت هذه القضية في (الخواطر) لأن خطور مثل هذا المعنى في الذهن
ص: 58
دليل نقص في المعرفة، وقد يسقطه عن درجة الحواريين، فكيف بالاستسلام لهذه الخواطر أو الإيمان بها، والظاهر أن بعض من كان حول أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين) قد خطر في بالهم ما يضارع هذا الأمر.
ونفس هذا الخاطر يكشف بَقَدرِهِ عن مجانبة للصراط المستقيم، نتيجة عدم معرفة الحكمة منه، بل إنه لا يتوقف خطور الاعتراض بالبال على الإمام فقط وإنما يمتد إلى النبي كذلك، كما أنه يتموج ليتحول إلى خطورِ اعتراضٍ على الله تعالى حيث أنه يرى ظلماً وهتكاً للأعراض في كثير من الأماكن والبقاع ولا يتدخل. فلو خطر مثل هذا الخاطر على بال إنسان ولو للحظة واحدة فقط فحينها يكون على غير الصراط المستقيم من هذه الجهة، وللتوضيح نمثل: إن ذلك كمن يخطر بباله ولو للحظة أن يشرب الخمر أو يزني والعياذ بالله، أو أن يأكل العذرة والغائط مثلاً، إن نفس خطور هذا الخاطر دليل نقص وأمارة انحراف النفس أو الذهن وعدم طهارتها بنفس القدر، وهو أمارة دناءة النفس بنفس النسبة كذلك.والخلاصة: إن الله تعالى يقول: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ والصراط المستقيم في عالم الثبوت له مصاديق وأقسام عديدة منها: الصراط المستقيم في (المعتقدات) و(الملكات) و(الخواطر) ناهيك عن عالم الأفكار، وعن واقع الأعمال.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وثبتنا بالقول الثابت يا أرحم الراحمين.
ص: 59
ص: 60
قبل الحديث عن نسبية النصوص والجسور الكاشفة عن المفاهيم أو الحقائق، لا بد من التأكيد على قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وصفها تأسيساً لمنهج قرآني يؤكد على وجود صراط مستقيم في عالم الإثبات، وكذلك في عالم الثبوت ونفس الأمر أي كما هو في عالم الواقع، ويتصف ذلك الصراط بكونه لا يُتثنَّى، ولا يتكرر، ولا يتعدد، ولا يتضاد في حدِّ ذاته، كما يك.شف المنهج القرآني عن ضرورة الدعاء الدائم والطلب المتكرر من الله سبحانه وتعالى للهداية لهذا الصراط المستقيم، أي لمعرفة الصراط المستقيم.
ولو كانت المعرفة - بقول مطلق - نسبية، بمعنى صحة الآراء المتخالفة جميعاً، أو بمعنى صحة رأي الفرد مهما تناقض في امتداد الزمن، أو بمعنى عدم إمكان الوصول للحقيقة مطلقاً، نظراً لتلوّن المفاهيم وتشكلها بالخلفيات النفسية والمسبقات الفكرية، لكان هذا الطلب طلباً للمحال.. وذلك لو أن الأمور كانت نسبية فلا يمكن الاعتقاد بوجود حقيقة في الواقع يمكن الهداية إليها، ومن هنا تكشف الآية عن وجود صراط محدد في أرض الواقع وعن أن الطرق والجسور التي توصل إلى ذلك الصراط، ممكنة وموجودة ومطلقة أيضاً.
ذلك أنه لو سلمنا بوجود صراط في الواقع ولكننا شككنا في إمكانية الوصول إليه باعتبار كل الطرق (مفاهيم ولغات) نسبية فحينها يكون وجوده
ص: 61
وعدمه متساوياً، ولا يوجد مبرر للطلب من الله من أجل الوصول إليه بل سيكون ذلك لغواً تماماً، فقد شاء الله أن تكون الهداية عبر سبلها الطبيعية والظاهرية ممكنة، لكنها تحتاج إلى سعي وطلب.
وقد أوضحنا هذه الحقيقة في ما تقدم وسيأتي توضيح أكثر لاحقاً.
أما الآن فلنتوقف عند كلمات بعض الفلاسفة الجُدد من الذين ذهبوا إلى نسبية النصوص، ونسبية المعرفة، ونشير إلى بعض كلماتهم في الهرمونيوطيقا اللغوية، والهرمونيوطيقا النفسية، ونتكلم على ضوء ما قاله بعض مشاهيرهم من أمثال هيدغر (1)، وغادامير(2)، ومَن أشبه..
وأرى من الأنسب جمع كلماتهم وأفكارهم ضمن نقاط أربع تلخص ما ذهبوا إليه، ثم الرد عليها، وليس بالضرورة أن تجد كل هذه النقاط مجتمعة في كلام أحدهم، إذ أنك ستجد قسماً في كلام هيدغير، وقسماً منها في كلام
ص: 62
غادامير، وقسماً آخر في كلام بعض الإسلاميين، ونحن نجمعها بهذه النقاط الأربعة، لكي نرى ما هو وجه الحق في كل واحد واحد منها (1)..
يقولون: لا وجود لنص موضوعي محايد، ولا وجود لشخصية مستقلة للنصوص، أي أن كل نص فإنه متلون، ومتشكل، ومتأطر، بلون وشكل وإطار المفسِّر والمفكر والقارئ والسامع له (2)..
وهذا يعني أنني كمتكلم وأنتم كمستمعين أو ككاتب لبعض النصوص أو قارئ لها، فليس لهذا الكلام أو لتلك النصوص، بحسب دعواهم، شخصية مستقلة وليس لها حقيقة موضوعية أو ذاتية، بل هذه الكلمات، وهذه النصوص الملفوظة أو المكتوبة تتلون على حسب السامع، أو القارئ لها.. وبما أن المستمع أو القاري يختلف من إنسان إلى آخر باختلاف نفسية كل واحد منهما، فكل واحد حينها يفهم أو يفسر أو يترجم النص بحسب بعده الشخصي، فبحسب لونه يلوّنه، ويشكله ويأطره ويعطيه بعداً خاصاً، ويستنتج منه نتيجة خاصة كما يفهم تبعاً لمسبقاته الفكرية وخلفياته المعرفية النفسية.
وبتعبير آخر؛ لا يوجد نص معياري، وإنما النصوص كلها متلونة ومختلفة ومتشكلة بحسب المتلقي لها، والنصوص بهذا الوصف أشبه بالطين الاصطناعي (أو الشمع) الذي يمكن تشكيله بما لا نهاية له من الصور
ص: 63
والأشكال لعدم وجود شكل ذاتي له، وهذا المثال لتقريب الصورة وإلا فحتى الطين الاصطناعي في أية حالة من حالاته له شكل من الأشكال، ووجه المقاربة بين المثال وبين دعواهم هو: كون النصوص ليس لها شكل من الأشكال أو لون من الألوان، بوصفها فاقدة للشخصية الموضوعية والذاتية وإنما يتشكل النص ويتأطر، ويتحدد اتجاهه، على حسب شخصية المتلقي، أو المفسر، أو المعبر، أو المؤول، أو ما أشبه ذلك.. وسيأتي تفصيل الجواب لاحقاً.
وتتضح الصورة بمثال قرآني كقوله تعالى في سورة يوسف (عليه السلام) :
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الُمخْلَصِينَ﴾ (1).
فهذه الآية ضمن التصور النسبي للنصوص ليست لها شخصية مستقلة، فلو كان القارئ والمفسر لهذه الآية من أتباع مدرسة عصمة الأنبياء فإنه سيفسرها بناءً على تصوره الفكري والعَقَدي، ولو كان من الذين يُنكرون عصمة الأنبياء فقد يجعلها دليلاً على عدم العصمة، وبالتالي يفسرها تفسيراً مختلفاً عن التفسير الأول.
فالذي يقول بعصمة الأنبياء، فإنه يفهم المقصود من قوله ﴿وهَمَّ بِها﴾ بعيداً عن كونه هَمَّ بالفاحشة، بل المعنى: ﴿هَمَّتْ بِهِ﴾ وأرادت الفاحشة، ويوسف ﴿هَمَّ بِها﴾ أي همَّ بضربها إذا أرادت بالفعل أن تقترب منه، وتعتدي عليه، ولكنه عَدَلَ عن ذلك، فلو ضربها فلربما أدعت عليه بأنه ضربها لكي يعتدي عليها لا لكي يبعدها عنه، فلذا رجَّح يوسف الفرار، لأنه لا مجال بعد للاتهام، فإن الذي يفر غير الذي يهاجم، ويكون برهان المسألة : أنها هي كانت المهاجمة
ص: 64
وهو الفار منها، وبالتالي يفهم من النص ﴿هَمَّتْ بِهِ﴾ يعني همَّت بالاعتداء عليه أخلاقياً، و﴿هَمَّ بِها﴾ أي بضربها دفاعاً عن نفسه وعن طهارته وقِيَمه ومُثُله.
أما الآية بحسب نسبية النصوص فإنها قابلة للتشكل بهذا الشكل وبغيره من الأشكال، فأولئك الذين لا يقولون بالعصمة؛ يقولون ﴿وَهَمَّ بِها﴾ يعني والعياذ بالله همَّ بالفاحشة، كما أن ﴿هَمَّتْ بِهِ﴾ أي بالفاحشة،فإن ﴿هَمَّ بِها﴾ عند هذا الفرد لها نفس اللون ونفس التفسير، لأن عينه متحجرة على الكلمة وليست على العصمة، ولا على السياق، ولا على سائر الأدلة.
وحتى لا تبقى الشبهة عالقة في الأوهام أشير إشارة وإن كانت هذه الإشارة ليست هي محط الحديث ولكن نستعجل في الجواب هنا لقطع الطريق على المتقولين، نقول: أن من الأجوبة عن هذا السؤال وعلى هذا التوهم ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ إن هناك مرجعية (1) واضحة في الآية تؤكد ما ذهبنا إليه من التفسير، وهي قوله ﴿لَوْ لا﴾ ف ﴿لو﴾ حرف امتناعٍ لامتناع، و﴿لَوْ لا﴾ حرف امتناع لوجود، وهذا هو الفرق بين ﴿لَوْ﴾ و﴿لَوْ لا﴾ ، فتقول: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلَهةِ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(2) ، ف﴿لَوْ﴾ حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ يعني حيث لا فساد فلا آلهة - وهو البرهان الإنّي-(3) ، فإذن لو استخدم ﴿لَوْ﴾ يكون ﴿همَّ﴾ المقدم ممتنعاً، و(لو رأى برهان) (لو فرض أن لو حلت محل لولا) التالي لفظاً والمقدم معنى كذلك ممتنع، وهذا مرجعية نصية فليس النص محايداً كما يدعون، والمثال الأوضح لو قلت: (لو جئتني لأكرمتك) والمعنى لم أكرمك لأنك لم تجئني.
ص: 65
أما ﴿لَوْ لا﴾ فهي حرف امتناع لوجود، وفي هذه الآية الشريفة ﴿لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ هو المقدم معنى و﴿هَمَّ بِها﴾ هو المؤخر معنى والنتيجة: أنه لم يهمَّ بها، أي قد امتنع ذلك لوجود مانع، وهو أنه رأى برهان ربه، فلأنه رأى عظمة ربه، واستحضر هيمنة القادر القيوم المتعال؛ لذا فإنه لم يهم بها، ف﴿لَوْ لا﴾ هي حرف امتناع لوجود، ولتوضيح ذلك لو قلت لمن اعتدى عليك: )لولا حلمي لضربتك( فإنه يعني: ما ضربتك لأن حلمي موجود، وهو المانع، أي ما ضربتك لوجود حلمي..
هذا كله إضافة للأدلة القرآنية والروائية الدالة على مرجعية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) في فهم القرآن الكريم وتفسيره، كقوله تعالى:
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَين لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(1) وقول النبي(( أنا مدينة العلم وعلي بابها))(2).
وبالتالي نقول أن النص له اتجاه، وله شكل، وله لون، وله حدود، وله مرجعية في داخله أو في سياقه او في القرائن المحيطة به، وله ضوابط، وله أسس، وله أسباب، وله نتائج..
يقولون: لا وجود لمنهجية علمية أو غير علمية توصلك للحقيقة أي حقيقة النص، أو توصلك إلى شيء محدد ثبوتي لا ريب فيه، كما يقول أحدهم: (لا يوجد أي منهج علمي أو غير علمي يستطيع أن يضمن الوصول إلى حقيقة النص)(3).
ص: 66
ولنمثل بمثال على رأي هؤلاء الذين يقولون (1) بالهرمنيوطيقا اللغوية، و)الهرمنيوطيقا النفسية( التي هي من الجذور المعرفية لهذا التوهم اللغوي و اللفظي، فإنه حسب رأيهم فإن الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿لا في إِكْراهَ الدِّينِ قَدْ تَبَين الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لهاَ وَاللهُ سميعٌ عَلِيمٌ﴾(2) محايدة تماماً، ولا يوجد منهج علمي أو غير علمي للوصول إلى المراد من قوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ في الدِّينِ﴾ ، لأنه ليس للنص حقيقة معينة يمكن الوصول إليها، وبالتالي يمكن أن تفهم هذه الآية بأشكال وأنواع لا نهاية لها من المعاني المختلفة، بل قد يستند عليها في الدلالة على نسبية النصوص والحقيقة، فيفسر ﴿لا إِكْراهَ في الدِّينِ﴾ بناءً على أنه ليست هناك حقيقة في الواقع تسمى بالدين يلزم الإنسان بإتباعه ومن هنا لا يتحقق الإكراه من الأساس، وعدم الإكراه هنا غير مستند على حرية الإنسان في اختيار دين أو آخر أو العدم مطلقاً، وإنما استند على عدم وجود حقيقة واقعية اسمها )الدين( كي تكون موضوعاً للإكراه، فهي سالبة بانتفاء الموضوع.
كما أنه قد تتحول هذه الآية إلى مستند لصاحب التوجه الديمقراطي، كما قد تكون مستنداً للحاكم الديكتاتوري(3)، ولا نحتاج هنا أن نناقش بعد هذه الأفكار لأن دلالة الآية واضحة بالبديهة والوجدان.
و سيأتي الجواب بالتفصيل عن النسبية بهذا المعنى، وإجماله: وجود مناهج
ص: 67
وقواعد عديدة تضمن الوصول لحقيقة النص، منها: النكرة في سياق النفي تفيد العموم (1)، ومنها الأصل في الألفاظ الحقيقة (2)، ومنها: أن المطلق أو العام قابل للتخصيص (3)، ومنها: أن السالبة بانتفاء الموضوع خلاف الأصل، ومنها: أن نفي الإكراه لا يستلزم صحة ما نفي الإكراه عنه، ومنها: ما ذكرناه في الهامش.
يقولون: بأن الخلفيات الفكرية، والنفسية، والعادات، والتقاليد عند المفسر هي التي تشكل النص، وهي التي تعطيه اتجاهاً، ولوناً، وطعماً، ونكهةً، واستنتاجاً معيناً..
فليس هناك معنى يحمله النص، وإنما المعنى وليد الأفق المعرفي الذي يحمله المفسر أو المؤول للنص، وبما أن الآفاق تتباين بتباين الظروف والحالات والمسبقات المختلفة، فلا يمكن أن يكون هناك معنى واحداً يمثل مرجعاً للنص.
فعندما ينفتح المفسر على النص فإنما ينفتح عليه بذاته المشبعة بطابعه الشخصي، فيتلون النص ويتشكل ويتطبع بالطابع الشخصي للمفسر، وبالتالي تتحول المعرفة إلى نسبية مطلقة ومتغيرة ومتجددة، وعليه فلا تكون هناك حقيقة واحدة وإنما الحق ما تفهمه أنت وما أفهمه أنا وما يفهمه الآخر، لعدم وجود نص معياري أو معيار لفهم محدد لا ثبوتاً ولا إثباتاً.
فهم في الواقع يتعاملون مع النصوص كما يتعامل الرسام مع الألوان أو النحات مع الصخور، باعتبار أنها مواد خام قابلة للبناء والتشكل كما يشاء،
ص: 68
لعدم وجود حقيقة معيارية وراء ذلك، فليس هناك حقائق يستبطنها النص يجب البحث عنها، وليس هناك معنى محدداً يشير إليه النص، وإنما المعن هو ما يوجده المفسر بناءً على ما يحمله من أفق ثقافي ومعرفي.
وهذا يعني إلغاء أية مرجعية لأي نص، كما يعني إغلاق باب الحجة والاحتجاج لأي مولى على عبده، أو رئيس على موظفيه، أو معلم على تلاميذه، أو العكس، بل أو صديق على صديقه.
أ: ونمثل هنا للتوضيح بقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيَ عَنِ الْعالِمينَ﴾ (1).
فلفظة ﴿الْبَيْتِ﴾ في هذه الآية بحسب هذا المذهب ليس فيها دلالة على بيت الله الحرام؛ لأن اللفظ عندهم لا يختزن معنى محدداً، ولا يهمهم إن كانت الآيات الأخرى تفسر المراد (2)، مضافاً إلى أن ال في كلمة ﴿الْبَيْتِ﴾ حسب المنطقيين واللغويين هي العهدية، أي ﴿الْبَيْتِ﴾ المعهود والمعروف لديكم بالعهد الذهني، إلا أنهم ينكرون هذا المعنى المستبطن في اللفظ، ويفتحون الباب بذلك إلى إي مفسر آخر لكي يجد بل لكي يخلق أو يصنع المعنى الذي يناسبه، وليس مستغرباً أن نجد أحدهم يقول: ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ يعني حج بيت الطاعة، فإذن ينبغي علينا أن نحج لبيت الطاعة وليس للمسجد الحرام!!..
ولاحظ أية فوضى صوفية تترتب على هذا الرأي! ولاحظ أن منهج بعض الصوفية والعرفاء في (التأويل) بدون ضابطة أو قاعدة أو مرجعية، هو نفس منهج (النسبيين) الهرمينوطيقيين تماماً.
ص: 69
والنتيجة على هذا الرأي: أنه تتدفق المعاني بلا حدود أمام كل نص، بحسب الأشخاص وما يحملونه من خلفيات فكرية ونفسية وما أشبه مما يعني إفقاد كافة الوثائق واللوائح والقوانين والدساتير والعهود والمواثيق، قيمتها وحجيتها ومرجعيتها.
ب: وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ (1) لا يكون المقصود منها على مذهب النسبية الصلاة المعهودة والمعروفة لدى الجميع، وإنما كل واحد يمكن أن يجد المعنى الذي يناسبه من الصلاة، حتى من غير حاجة إلى التذرع بأنها لغةً تعني الميل أو العطف؛ إذ التذرع والاستناد للغة لا حاجة إليه، بناءً على أن المعنى والمعرفة تتشكل وفقاً للأفق المعرفي والنفسي للمفسر، سواء أكانت اللغة مؤكدة أم مناقضة أم محايدة!.
وهذا هو ما يصنعه التأويليون من العرفاء والصوفية تماماً، إذ يفسرون القرآن الكريم كما يحلو لهم!.
ج: وعندما يقول الله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (2) فإن ﴿يَدُ اللهِ﴾ تعني القدرة أو القوة ، كما عليه العدلية وأهل الحق، إذ صريح الآية الأخرى هو: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (3).. ولكن يفسرها الآخر باليد بمعنى الجارحة والعياذ بالله وتقول هذه المدرسة النسبية: كلا التفسيرين حق، لأن كلاً منهما قد تشكل وفقاً للخلفيات الفكرية والمسبقات النفسية للطرفين.
لكن الحق هو أن الفيصل والحكم بين التفسيرات المختلفة هو كون النص يحمل معنى محدداً، ودليله أنه يمكن الوصول إليه بعدة طرق، من بينها مقارنته مع نصوص أخرى كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
ص: 70
الْبَصِيرُ﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (2)، وآيات أخرى تتضافر في ما بينها لتكشف عن الحق الصراح، وهو أمر بعيد عن الحالة النفسية والمسبقات الفكرية التي يحملها المفسر، وإن اعترفنا بوجود تأثير لهذه النفسيات لكنها: أولاً (3) ليست حتمية، وثانياً: ليست شاملة بل محدودة ببعض النصوص (المتشابهة)، كما أنها ثالثاً لا تشرع وتبرر القبول بكل الآراء المختلفة بوصفها الحق والصواب وإن تباينت، إذ لا ريب في استحالة صحة النقيضين أو الضدين في وقت واحد، وهل يمكن أن يكون الليل ليلاً ونهاراً في نفس الوقت؟ أو أن يكو العدل حسناً وقبيحاً في ذات الوقت؟ وكل ما يمكن القبول به أن كل هذه النفسيات المختلفة هي السبب المباشر لكثير من الأخطاء (4).
ولكن بعض الفلاسفة الجدد وبعض المؤولين من الصوفية والعرفاء يتجاوزون كل ما هو بديهي عندما يصفون النصوص على أنها قوالب فارغة من المعنى، في انتظار المفسر لكي يوجد ذلك المعنى بحسب ما يقتضيه أفقه الفكري والثقافي والنفسي.
والمعضلة التي تواجه (النسبيين) ولا يجدون جواباً عنها هي: أن البحث سيال ولا يتوقف عند حد معين، وإذا تعامل الناس بهذا المنهج وساروا عليه
ص: 71
فإنه لا يستقر حجر على حجر، فليست القضية مجرد نظرية أطلقت في مبحث لغوي معزول، ثم أعطيت بُعداً فلسفياً معرفياً معيناً، كلا وإنما هذه القضية تتدخل في كل آية ورواية، وبكل فهم، وبكل تشريع، وبكل تقنين.. وفي كل عائلة ومدرسة وشركة ودولة، وبتعبير آخر تستلزم الفوضى المعرفية المطلقة.. ويبدو أن هذا ما يريده بعضهم أو يهدف إليه!.
وعلى ضوء ما تقدَّم؛ فإن بعض النسبيين يقولون: لا يمكن الجزم بوجود حقيقة واحدة في الخارج تسمى ب (الدين)، فالفهم المتباين بين البشر يسد الطريق أمام البحث عن حقيقة واحدة تكون عنواناً للدين، وعلى حسب تعبير أحد الإسلاميين (ودين كل واحد هو عين فهمه للشريعة) فما من دين واحد بل هي أديان كثيرة بعدد الأفراد، فأي شيء فهمته من القرآن فهو الدِّين الذي أمرك الله بأن تطيعه، ولا يوجد في الواقع الخارجي شريعة شرعها الله، وشرعها الشارع، وإنما الدِّين هو ما أنتَ تراه وتفهمه من النصوص (قرآن وسنة)..
وهذا المسلك شبيه بمسلك المصوّبة لكن بلغة عصرية، ويقابلهم المخطئة.
فالمخطئة يقولون: هناك في عالم الثبوت شيء حقيقي إن أصبته فأنتَ مصيب، وإن لم يطابق رأيك الواقع فأنت مخطئ، وبمعنى آخر أن لله أحكاماً في الواقع يسعى الفقيه للوصول إليها عبر طرق الاستنباط فأما أن يصيبها وإما أن يخطئ.
وهذا بخلاف المصوبة الذين (1) لا يرون أن لله تعالى حكماً في الواقع، بل إن حكم الله تصنعه فتوى المجتهد، وبناءً على ذلك تكون كل الأحكام والفتاوى صحيحة لعدم وجود حكم خارجي يكون معياراً للصحة والخطأ،
ص: 72
وذلك يعني أنه لا الخمر حرام، ولا الصلاة واجبة في متن الواقع، وإنما يدور الأمر مدار المجتهد، فإذا توصَّل لوجوب الصلاة فتصير الصلاة واجبة، وإلا فمستحبة، أو محرمة، حسب ما توصل إليه، أي أن حكم الله يتبع اجتهاد المجتهدين، وتصبح فتوى المجتهد علة تامة للحكم الشرعي، وإن اختلفت الفتاوى وتباينت، فيصبح حكم الله والعياذ بالله متناقضاً، إذ يكون في وقت واحد حلالاً وحراماً، أو مستحباً ومكروهاً.
ولعل الهرمنيوطيقي لا علم له بهذا الرأي، لكنه يؤسس بلغة عصرية لمثل هذه المقولة ولكن ضمن إطار أوسع يشمل كل الدين، فدين كل شخص عند هذا الهرمنيوطيقي هو عين فهمه للشريعة، بل تجد بعضهم يصرح بذلك بعبارات أخرى، مثل القول ب (ليس هنالك صراط مستقيم واحد بل هناك صراطات مستقيمة)، وذلك لأنه ينكر الواقع، ويقول: ليس هناك تشريع ثبوتي، أو يقول (1)يوجد تشريع ثبوتي ولكن ليس هناك نص له طعم، أو رائحة، أو دلالة، أو معنى، أو يقول: للنص دلالة ومعنى، لكنه ليس ثابتاً راسخاً بل هو خاضع للتغيير، بمعنى أن هذه النصوص تتشكل كما تريد لها أنتَ بخلفياتك الفكرية، والمعرفية، والنفسية..
هذه هي النقاط الأربعة الرئيسية في كلام هؤلاء الهرمنيوطيقيين لغوياً ونفسياً ومعرفياً، وسنتطرق ههنا للإجابة على هذه الإشكالات بطريقة نقضية وحلية (2).
ص: 73
الجواب الأول نقضي، وهو يتضمن الاعتراض التقليدي على مثل هذه الشبهات التي تثير النسبية في الأمور المعرفية على الآخر، وتبري نفسها من هذه النسبية، وهو أن هذه النظرية تنقض نفسها بنفسها، فنفس هذه الكلمات والبحوث التي ينشرها علماء الغرب وأذنابهم وأتباعهم، هي أيضاً تخضع لهذه الضابطة الكلية التي ابتدعوها، فنصوصهم وكتاباتهم، طبقاً لنظريتهم نفسها، لا تملك طعماً ولا رائحة، ولا دلالة، ولا معنى، ولا مضموناً، ولا شخصية مستقلة. بل كلامهم أيضاً كالطين الاصطناعي كلي وضبابي وهيولي، وقد أطلق في الفضاء ولا علاقة لهم به، وبالتالي نشكّله كما نشاء، فأنا أفسِّر كلامك أيضاً بنقيضه، أليس لي شخصيتي وفهمي لكلامك؟
أو نقول: هذه النظرية تنقض نفسها بنفسها، لأن صاحب النظرية أيضاً يمتلك قبليات فكرية، وحالات نفسية، وهناك أعراف وتقاليد تحيط به، فتصبح هذه النظرية ولادة طبيعية لتلك الحالات الخاصة جداً ولم تخرج من رحم الحقيقة، ولا تصلح إذن كضابطة كلية، وكمقياس عام، وكمسطرة لكل المفاهيم لتعتبرها نسبية.
وبعبارة أخرى: نسألهم فنقول: هل هذه الكلمات وهذه العبارات، وهذه الدعاوى، وهذه المتون، وهذه النصوص مطلقة، أم هي نسبية؟
فإن قالوا (مطلقة) تناقضوا مع أنفسهم ونقضوا غزلهم من بعد قوة أنكاثاً، لأنهم يقولون لا وجود لنص مطلق، أو محايد، أو موضوعي، ولا يوجدنص يكشف الحقيقة، فكيف أصبحت نصوصكم كاشفة عن الحقيقة؟ ومطلقة؟ وموضوعية؟
وبعبارة أخرى: إن قالوا بأن هذه الضابطة الكلية لا تنطبق على نصوصهم وكلامهم، فنقول: أولا: إنكم اعترفتم بجزئية واحدة، والموجبة الجزئية
ص: 74
نقيض للسالبة الكلية، وهذا النوع من النقض يواجه جميع عباراتهم.
ثانياً: ما الذي حصّن (نصوصكم) من (النسبية)؟ وما الدليل على ذلك؟
وما هي ميزة وخصوصية نصوصكم لتكون مطلقة دون نصوص الآخرين؟
هذا.
وإن قالوا: إن نصوصهم أيضاً (نسبية) فنقول: إذن لا إطلاق لها ولا شمول ولا تشكل قاعدة أو ضابطة باعترافكم، وهي خاضعة لقبلياتكم وخلفياتكم، فلا حجية مطلقة أو كاملة لها، بل هي حجة عليكم فقط لا على غيركم، بل حجيتها عليكم أيضاً (نسبية) تتغير بتغير ظروفكم وأحوالكم، فكيف يمكن الاعتماد على )النسبية( كقاعدة علمية؟ وهل القواعد العلمية تتغير بتغير الأفهام والأذهان والظروف والأزمان؟
الجواب الثاني: نعيد قولكم (ما من منهجية علمية أو غير علمية تكفل الوصول إلى حقيقة النص) إليكم، وننقض كلامكم بكلامكم، إذا (ما منمنهجية علمية أو غير علمية يمكنها أن توصلنا إلى مرادكم)؟.
ولاحظوا أننا نورد ههنا بعض الردود والنقوض، كلوازم لنظريتهم لا يلتزمون بها:
فإن كان محتوى النظرية هو عدم وجود نص موضوعي في حدِّ ذاته، وكل معنى يمكن استخلاصه من النص فهو صناعة المفسر بحسب قبلياته الفكرية والنفسية، وليس للنص أية حالة موضوعية بالنسبة للمعنى، كما أنه ليستهناك منهجية، وسُبل، وطرق، ومعايير للوصول إلى معاني هذه النصوص في حالة فرض وجود معنى خاص للنص، ومن ثم تكون الخلاصة الطبيعية لهذه النظرية هو القول ب (إن دين كل شخص هو عين فهمه للدين)..
ص: 75
فإننا نقول في الجواب (النقضي الأول) بالنقض عليكم بثلاثة ردود في مجالات ثلاثة:
الأول: ماذا تقول بالنسبة إلى النصوص والمواد التعليمية التي تدرس في كافة المدارس الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والجامعة، والمعاهد التعليمية بشكل عام وغيرها؟
ثانياً: ماذا تقول بالنسبة للوائح الداخلية والأنظمة المكتوبة والقرارات الصادرة في المؤسسات والشركات وما أشبه ذلك.؟
ثالثا: ماذا تقول بالنسبة للوزارات وقيادة الجيش والاتفاقات الدولية وغير ذلك.؟
فهل هذه النظرية مختصة بالقرآن الكريم والنصوص الدينية، وتستثنى منها نصوصكم وسائر النصوص في كل المجالات، أم هي شاملة لكل نص بوصفها ضابطة عامة.؟
ومن الواضح أنهم يتكلمون عن ضابطة عامة، ومنهج عام، وقاعدة عامة، وعباراتهم واضحة جداً ومطلقة في ذلك.
نقول: يلزم من هذه النظرية تعطيل المدارس التعليمية من الابتدائية إلى الجامعة، إذ على أي أساس يتم التعليم والتخاطب والشرح والتوضيح؟،وعلى أي أساس تقوم الامتحانات؟ وعلى أية قاعدة يتم تحديد الخطأوالصواب؟، وإلا يحق للتلميذ حينها القول بعدم وجود نص محايد وأنه كما يحق للأستاذ أن يفهم بحسب شخصيته وخلفياته، يحق لي أن أفهم بحسب شخصيتي وقبلياتي، وحينها لا يمكن أن نميز بين الناجح وغيره، لأن المعرفة نسبية! ولأنه ليست هناك حقيقة موضوعية يمكن التحاكم لديها، وما من منهج علمي أو غير علمي للوصول إلى واقع النص والمراد منه!.
ص: 76
فهل يوجد هناك عاقل يقبل ذلك.؟
والحاصل: إنه لا يمكن تحقيق قاعدة للتفاهم لأي خطاب أو أي نص،حتى أصحاب هذه النظرية، ونسألهم: لأي غرض كتبوا هذه الكتب؟ أليس لأفهام الناس ما يقصدون؟ في حين أن هذه النظرية تؤكد عدم وجود نص في إطار موضوعي لفهمه، إذ إنه قد يقصد شيئاً بحسب ظرفه وخلفياته وقبلياته وبعده الشخصي، وأنا أفهم شيئاً آخر خلاف ما أراد وقصد، وهكذا الثالث والرابع والخامس...، كل يفهم بحسب بُعدِه الخاص، وعندئذ نتساءل: على أي أساس يتحقق التفاهم؟ إذا كان كل واحد يعيش ضمن عالمه الخاص، ولا يوجد جسر رابط بين هذه العوالم، ولا منهجية علمية أو غير علمية للوصول إلى حقيقة النص؟ وكل ما في الأمر أنك تخلق مفاهيم، وأنا أخلق مفاهيم أخرى، والثالث يخلق مفاهيم ثالثة، كجزر منعزلة متباعدة!
والشركات كذلك يصيبها ما أصاب المدارس، فهل يستقر حجر على حجر؟ ذلك أن لكل شركة قراراتها الخاصة وطريقتها في العمل، فلو تمسك كل موظف بهذه النظرية وأصبح كل واحد منهم فيلسوفاً يؤمن بالهرمنيوطيقا، لتوقفت عجلة هذه الشركة، بل انهارت وتحطمت كافة شركات العالم، إذ حينها يحق للموظف أن يقول: إن القرار الصادر من مجلس إدارة الشركة، أو من رئيس الشركة يُعدّ (نصاً من النصوص) لا أكثر، والنص لا شخصية مستقلة له، ولا معنى خاص له، ولا دلالة موضوعية له، ولا منهج للوصول إليه فأنا لا أقدر أن أصل إليه، وإنما يتشكل النص بحسب قراءتي، فأنا أقرأ هذا القرار بشكل آخر، وليس عليّ أن أتبع تعليمات الشركة!..
وبذلك تنهار كل البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل المؤسساتبشتى ألوانها وأشكالها، وذلك لأن (النسبية) نظرية عامة سيالة تسري في كل
ص: 77
مفاصل الدولة وفي كافة شرائح المجتمع وطبقاته ومؤسساته، وأليس ما ريده الهرمنيوطيقيون هو ذلك؟.
وهكذا تتجلى المعضلة التي تواجه الهرمنيوطيقيين في الاتفاقيات الدولية، فلو عقدت دولة اتفاقية مع دولة أخرى كصلح أو معاهدة أو غير ذلك، فإذا كانت النصوص: ليس لها موضوعية، وليس لها محورية، وليس لهاشخصية ذاتية، وكلٌ يشكلها على حسب قبلياته الفكرية والنفسية، فهذه الدولة تستطيع أن تضع تحت أرجلها بنود الصلح، كمعاوية الذي وضع بنود صلح الإمام الحسن (عليه السلام) تحت رجله (1).
بل الهرمنيوطيقيون زادوا على معاوية، فإنه لم ينكر وجود الشروط وتمامية دلالتها، إلا أنه صرح باستهتاره بالحقوق والعهود والمواثيق، لكن النسبيين تجاوزوا الحد، إذ حسب كلامهم فإنه لا توجد في الواقع بنود للصلح محددة، أو ضوابط أو مواثيق، إذ كيف تكون هناك بنود وهي لا تحمل معنى ولا شكلاً ولا دلالة؟ أو: أنه قد خلقت تلك البنود في آفاقٍ معرفية خاصة، وأما في ضمن ظروف أخرى أو حسب مفسر آخر، أو حسب المفسر نفسه لكن في زمن آخر، فإنه سيخلق لها معاني تتناسب مع الظروف الجديدة والأهواء المستجدة!.
ص: 78
ولنمثل بمثال لطيف وهو في نفس الوقت يعد جواباً حلياً، يؤكد على أن النصوص لها دلالاتها الخاصة المحددة، وعلى وجود مرجعية ووجود ضوابط ومناهج علمية للوصول إلى حقيقتها، وليس الأمر عبثاً واعتباطاً أو ضبابياً أو هلامياً أو مجهولاً كما تزعم الهرمنيوطيقا، وهو ذلك الجدل الكبيرالذي يحدث في معظم برلمانات العالم الإسلامي حول الدستور، والضوابط والتعبيرات التي تفرض على صياغة القوانين، فإنه لدليل على أن هناك معاني محددة مقصودة للكلمات، ويفهمها الكل بنفس الوقت، فمثلاً: هل الإسلام (مصدر للتشريع)، أو (المصدر للتشريع)؟ (1)، إن هناك فرقاً بين هاتين الكلمتين!
وهذا النزاع الكبير بين كل عقلاء العالم، متدينين كانوا أم غير متدينين، نزاع موضوعي حقيقي، على اختيار هذا النص أو ذاك أو تركهما معاً، و ما ذلك إلا لوجود فوارق ذاتية بين النصين، وتوضيحه:
إن (مصدر) نكرة فلا يفيد التعميم، وأما (المصدر) فهو مفرد محلى ب (أل) فيفيد التعميم، فالإسلام (مصدر) للتشريع يعني أنه واحد من مصادر التشريع، أما (المصدر) فيعني أنه هو المصدر الوحيد للتشريع ولا غيره..
وذلك مما يكشف عن وجود دلالات محددة للنصوص تكون هي مدار اتفاق أو خلاف العقلاء حول اعتماد أي منها.
ص: 79
وهنا قصة طريفة تكشف عن أن النصوص واضحة الدلالة، وهي عصية عن التلاعب في كثير من الموارد، ولا تقبل المعاني المنفتحة بغير حدود، فقد جاء رجل إلى أحد سلاطين المسلمين مُدعياً النبوة، ومن المعروف أن مُدّعي النبوة يقتل..
فقال له: أنت نبي؟ قال له: نعم أنا نبي..
قال له: ألم تسمع أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: لا نبي بعدي ؟
قال: نعم سمعت.
قال: إذاً كيف ادعيت النبوة.؟
قال له: أنا اسمي (لا) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نبيٌ بعدي ، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان يُبشِّر بي فيقول: لا نبيٌ أي هناك نبي بعدي اسمه (لا)، وهذا يكفي إثباتاً لنبوتي..
ويستمد هذا المدعي للنبوة سنداً من (الهرمنيوطيقا) ذلك لأن (النص) برأيهم يتلون ويتشكل حسب شخصية المفسِّر، وهكذا نجد هذا المدعي للنبوة ينكر بداهة وضوح أن (لا) هنا نافية للجنس (1)، ليدعي بأن (لا) هنا (اسم) وهي مبتدأ (2).
والحاصل: أن لهذا المدعي أن يحتج بالمنهج الهرمنيوطيقي ليقول أن النصوص لا تحتوي على معاني محددة وليس هناك منهج يمكن أن يوصل إلى حقيقة النص، وإنما المعنى وليد حالة الإنسان الخاصة وخلفياته وقبلياته،وبالتالي ما أفهمه من هذا النص لا نبي بعدي هو أنه دليل على نبوتي!، ألا يرى العقلاء ذلك نوعاً من الاحتيال والتلاعب؟ بل ألا يرونه مهزلة ف
ص: 80
كرية واستخفافاً بالعقل البشري، بل مع انتخاب هذا المنهج هل يستقر حجر على حجر في الحياة؟.
بهذا المعنى الذي لا يؤسس لأية حقيقة أو معرفة حقيقية مطلقاً ستنهار أيضاً الأسس الأولى للمجتمع، ذلك أن تكوين المجتمع يبدأ من العائلة، والعائلة مبنية على جملة من الشروط المحددة في عقد الزواج، أو الشروط الارتكازية أو القانونية، أي أن كل زوج يتزوج امرأة فإنه (وإنها) عادة لا يتزوجان بدون شروط أو قيود ولو ارتكازية.
ذلك أن من الواضح وجود قوانين دينية أو مدنية أو أعراف أو تقاليد تؤسس للحياة الزوجية، وتضع شروطاً وضوابطَ للحياة الزوجية وتفرض أنواعاً من العقوبة بناءً على هذه القوانين، فهناك قانون شرعي لمن يعتقد بالشرع بأنه يتزوجها على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهناك قوانين مدنية في الدول العلمانية، بل حتى الدينية، وهناك أعراف وتقاليد منها ما يعد ملزماً عندهم، كما يمكن أن تكون بينهما شروط معينة فيشترطها أحدهما على الآخر..
وبناءً على: إنه لا شخصية محددة للنصوص، و: القراءات مفتوحة ومتعددة بتعدد البشر، و: ما من منهجية معينة للوصول إلى حقائق النصوص، و: دين كل شخص هو عين فهمه للشريعة، تكون النتيجة أيضاً: فقانون كل شخص هو عين فهمه للقانون!، فكيف يمكن والحال هذه أن تقوم للأسرة قائمة؟
بل إن ذلك سيفتح الأبواب لكل السراق والمدلسين والخارجين على القانون،ولا يستطيع القضاء أو المظلوم أن يدين أحداً بجرم، ولا أن يطالبه بحق..
ص: 81
وذلك يعني أن (النسبية) تلغي القانون.
والقاضي - نسألكم - يحاكم مَنْ؟
لأن المجرم بإمكانه أن يقول في مقابل النص القانوني الذي يقضي بمحاكمة المجرم، أن هذا النص ليست له دلالة خاصة وإنما هو مما يتشكل بمقتضى فهم كل واحد منا، فالقاضي يفهمه بحسب قبلياته الفكرية والمعرفية والنفسية، وأنا أفهمه بطريقة ثانية!
وهل يصح أن يتذرع المجرم بسلاح الهرمنيوطيقا ليقول: أنت تقرأ القانون قراءة جامدة، قراءة متحجرة ودوغمائية، وأنا أقرأها قراءة عصرية! أو يقول: أذهب إلى روح القانون ولا تتجمد عند نص القانون؟، وهكذا يمكن التلاعب بكل الحقائق الواضحة، وينفتح الطريق أمام كل المشعوذين، والدجالين في المجتمع فتصبح كل الحقائق قابلة للتأويل وكل شي قابلاً للجدل
والنقاش، فلا يستقر حجر على حجر؛ لأن من البديهي أن الحياة لا تستقيم إلا على ضوء أُطُرٍ وضوابطَ وجسورٍ كاشفة عنها، ودالة عليها، ووجود حقائق تعارف عليها الناس وتحولت إلى أسس للتعامل، وإذا بدأت هذه الأسس بالانهيار فسينهار معها كل شيء.
وإليكم المثال القرآني الثاني، إذ يقول تعالى: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بماِ فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ (1) يقول البعض إن قوامية الرجل على المرأة كانت ضمن ظرف زمني خاص وتبدلت الآن الظروف واختلفت الثقافة، فتختلف معها إذن دلالة الآية، فلا يكون للرجل أية قوامية على المرأة، فليس هناك معنى ثابتاً للآية، وإنما المعاني متحركة بتحرك الزمن، وهكذا يمكن أن تتطور الدلالة حتى يصبح للمرأة حق القوامية على الرجل! وهذا في طرف التفريط، وأما في جانب الإفراط، فإن البعض قد يفهم من هذه الآية أن من حق الرجل أن يصادر حقوق زوجته، ويفرض عليها حصاراً
ص: 82
ضمن حدود المنزل، لا يسمح لها حتى بزيارة والديها وأرحامها، متغافلاً عن قوله تعالى (عاشرهن بالمعروف) والمعروف معروف (1) بل ومتغافلاً عن أن (القوامية) تعني عقلاً وعرفاً (القوامية بالحق) وفيما من شأنه أن يكون قواماً فيه لا القوامية بالظلم والقوامية بالباطل.
ومن الواضح أن كلا المعنيين، خروج عن (النص) لا يتحمله (النص) ولا يرتضيه صاحب النص، وإذا كان المعترض ممن لا يؤمن بالقرآن الكريم، أو بوجود الباري جل وعلا، فإنه لا يستطيع رغم ذلك أن يحمّل النص غير ما يحمله من مخزون، نعم ربما يقال بأنه حرّ في أن لا يقبل النص والحكم إذ ﴿لا إِكْراهَ الدِّينِ﴾ لكن ليس له أن يتلاعب بالنص.
وبالجملة إذا تركت النصوص بغير معاني منضبطة وواضحة الدلالة، وفتح الباب أمام كل تأويل فإن ذلك يؤسس لمعاني غير متناهية، ولا تستقيم المعرفة عندئذ بل لا تستقيم الحياة بمجملها.
وكثيرة هي النتائج الفاسدة التي تترتب على هذه النظرية، فهل يا ترى التفت أصحاب هذه النظرية إلى هذه التوالي الفاسدة؟
ص: 83
ص: 84
كثيرة هي المعاني التي أثرنا حولها الحوار في ما يتعلق بالمراد من (نسبية المعرفة)، وذلك بسبب ما تختزنه هذه الكلمة من احتمالات ومن تفسيرات، وقد تمكنت من إحصاء اثني عشر تفسيراً (1)مما أريد من النسبية أو ما يمكن أن يراد منها، بالتالي يجب الدقة في تحديد المعنى المراد مناقشته حتى لا يكون البحث ضبابياً أو هلامياً، ولكي ينصب الجواب على موطن الإشكال، ذلك أنه ربما لا ينصب الحوار والخلاف على معنى واحد، بل قد يريد أحدنا معنى غير المعنى الذي يذهب إليه الآخر، وبالتالي قد يكون النزاع لفظياً.
فلنفرز ونميِّز هذه المعاني ثم نحكم عليها.
يمكن أن يراد بنسبية المعرفة هذا المعنى ( إن المعارف بأجمعها لا تفيد قطعاً، بل إنما هي تفيد في أحسن الفروض الظن)(2) ، أي أن المعرفة البشرية تسبح في بحر من الظنون، أو الشكوك، أو الأوهام، لعدم وجود ما هو قطعي أو يقيني كاشف
ص: 85
عن الحقيقة، ذلك أننا نعيش في هذا العالم وهو عالم الظواهر، ولا طريق فيه للوصول إلى حقائقه بضرس قاطع..
هذا المعنى لو أريد من النسبية كما ذكره البعض،بقوله: أنه لا يوجد في عالم الإمكان، أو في عالم البشر، على الأقل معلومة قطعية، بل كافة المعلومات والمعارف هي في أحسن الفروض ظنون، أو في مرتبة نازلة هي شكوك، أو فيمرتبة أدنى هي أوهام.. وهذا المعنى سنتوقف عنده قليلاً لخطورته.
والكلام حول مناقشة هذا المعنى ينقسم إلى حوار حول الكبرى الكلية والصغرى المصداقية، مضافاً إلى ملاحظة لوازم (النسبية) ضمن هذا المعنى.
أولاً: الكبرى الكلية، وهي (كل المعارف والعلوم ظنية، ولا توجد معرفة أو علم قطعي أبداً) غير تامة وغير صحيحة، ذلك أن المدَّعَى يرتكز على عدم وجود معرفة يقينية، أو معلومة يقينية، لكن ثبوت المدّعَى يشكل نقضاً بنفسه لنفس الدعوى؛ لأن هذه القاعدة التي تقول (أنه لا توجد إطلاقاً معلومة يقينية) إما أن تكون يقينية أو ظنية؟
أ: فإن كانت يقينية، فقد ثبت وجود ما هو يقيني، وبالتالي ثبوتها نقض لمضمونها، بعبارة أخرى: الدعوى قائمة على عدم وجود معلومة أو معرفة يقينية، وليس هناك طريق للنفوذ إلى حقائق الأشياء، وكل ما هو متاح لا يعدو كونه ظنوناً وشكوكاً وأوهاماً، فثبوت هذه الدعوى دليل على وجود ولو معرفة واحدة يقينية، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية.
والحاصل: إن الذي يحاول الارتكاز على هذه الدعوى للعبور بها إلى
ص: 86
ما هو دونها من المعارف حتى يثبت نسبية المعرفة بقول مطلق، لا يتحقق له ذلك، فمجرد الارتكاز على هذه الدعوى يمتنع هذا العبور لوجود ما هو يقيني وعلى أقل تقدير: هذه القاعدة نفسها، وإلا تناقض أول الكلام معآخره وآخره مع أوله.
ولب الكلام: إن القاعدة إن شملت نفسها، فقد أبطلت نفسها بنفسها، وإن لم تشمل كان إطلاق القاعدة كاذباً.
ب: وإن كانت ظنية، فهذا الظن لا يكون حجة على الأخر ولا يعدو كونه حالة شخصية لا تغني عن الحق شيئاً، ولا يصلح كقاعدة علمية في العلوم، وبتعبير آخر إن كانت المعرفة ظنية فهي في صقع النفس، وفي واقع الذهن غير متيقن منها، فكيف يمكن أن يحتج بها على الأخر وهي لم تورث يقيناً لصاحبها؟ ومن الواضح أن من غير الممكن إن لم تورث المعرفة يقيناً أن تتعدى للأخر لتولّد له اليقين.
وهذا إشكال جدلي، وسندخل بعده إلى دائرة الإشكالات الحقيقية، وإن كان الإشكال الجدلي صحيحاً، ويمكن تطوير الجواب من جدلي إلى حقيقي عبر هذه الإضافة وهي(حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد)، فإذا أمكن أن تكون قاعدةٌ - أي هذه القاعدة نفسها، وهي ((لا توجد إطلاقاً معلومة يقينية مطلقة))، أمكن أن تكون نظائرها - مطلقة أيضاً، خاصة القواعد التي تبدأ ب (لا) النافية للجنس، ك (لا توجد إطلاقاً قاعدة ظنية وهي في الوقت نفسه مشكوكة أو موهومة) بل والقواعد التي إطارها (في الجملة) ك (الإنسان فهو شاعر في الجملة) أو فقل كل ما صُدِّر ب (بعضِ) ك (بعض الإنسان المعاصر فيلسوف أو طبيب)، فإن هذه القاعدة صحيحة ومطلقة.
ص: 87
ثانياً: ونجيب عن الصغرى (1)، فنقول: كلا، بل توجد معرفة يقينية وعلوم قطعية؛ إذ أن من البديهي أن هنالك معلومات قطعية لا يرقى إليها الشك، تُسمى البديهيات بأقسامها؛ من فطريات، وأوليات، ومشاهدات، ومحسوسات، ومتواترات، وتجريبيات..وهذه النقطة أشرنا لها في بحوثنا السابقة، ولقد أشرنا إلى أمثلة سابقة من علوم شتى فالرياضيات كلها يقينية، من حساب، وهندسة، وغير ذلك..
ولدينا مجموعة من القضايا العقلية؛ مثل استحالة الدور، واستحالة التسلسل، وبداهة كون الجزء أصغر من الكل، وكون الكل أعظم من الجزء، وأن المعلول أو الحادث يحتاج إلى محدث وعلة، والترجح بلا مرجح محال..
ومن القضايا التي أشرنا إليها سابقاً الكثير من مسائل العلوم الطبيعية، ك: إن الذرة تتشكل من النواة ومن الكترونات تدور حولها، والماء يتكون من ذرتين هدروجين وذرة أوكسجين، وإن الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها، والقمر يدور حولها، وأن المد والجزر تابع لحركة القمر، وغير ذلك..
فهناك قضايا كثيرة يقينية لا يرقى إليها الشك وفي شتى أنواع العلوم من طبيعية وغيرها، ونسوق الآن بعض الأمثلة من علم الاجتماع الذي هو ونظائره محط الكلام الأساسي؛ لأن قضايا علم الاجتماع، وقضايا التاريخ، والعلوم الإنسانية بشكل مطلق هي القضايا التي تدور عادة حولها نظرية النسبية، فلا يوجد فيها بنظرهم قضية قطعية، فالبعض (2) لا يشكك في
ص: 88
ما هو يقيني في العلوم الطبيعية التي تخضع للتجربة، ولكنه يشكك في العلوم الإنسانية التي ترتكز على التأمل والتحليل فكل قضاياها لأنها نظرية لا سبيل إلى تجربتها فإنها لا تورث علماً قطعياً.
لكن التعميم القاضي بعدم وجود ما هو يقيني في العلوم الإنسانية، يصطدم بكثير من القضايا اليقينية المسلم بها وهي بمثابة كليات تصل إلى درجة البداهة، وإذا ثبت ذلك لا يمكن التسليم بكون العلوم الإنسانية نسبية، بشكل مطلق، فالسالبة الجزئية تنفي الموجبة الكلية، فكيف إذا كانت سوالب جزئية كثيرة؟ ويمكن بعد ذلك معالجة ما يقع الاختلاف فيه في العلوم الإنسانية، في إطار معرفي آخر يعالج الاختلاف بعناوين بعيدة عن النسبية المطلقة التي تورث التشكيك في المعرفة ولا تدع مجالاً للوثوق بها.
ونحن هنا نبدأ ببعض الأمثلة التي تثبت وجود ما هو يقيني في العلوم الإنسانية وهو بمثابة قواعد كلية، يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَين النَّاسِ﴾ (1).
فالله تعالى يُشير في هذه الآية القرآنية الكريمة إلى قاعدة قطعية يدركها كل عاقل متأمل، من أية ملة أو نحلة كان، وهل هناك من ينكر هذه الحقيقة القطعية بما هي هي ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ ُدَاوِلُهَا بَين النَّاسِ﴾؟
فإن التقلب الذي يشهده المجتمع وتغيره من حال إلى حال، لخير دليل على صدق هذه القاعدة، بل حتى على مستوى الفرد والأسر والأنظمة وكل هياكل المجتمع، فجميعها في حالة من التغير والتبدل، فتارة يكون الشخص حاكماً ثم يموت، فيحكم غيره، أو أن تكون هناك أسرة معروفة بالعلم فيتحول أبناؤها نحو الجهل، أو العكس، إذ قد تكون أسرة انحراف،
ص: 89
ثم يتحولون إلى أسرة صالحة، وهكذا يتحول الفقير (أو أولاده أو أحفاده) إلى غني، والغني إلى فقير، ويتحول الحاكم أو أبناؤه أو أحفاده أو أحفاد أحفاده وهكذا إلى محكوم، والمحكوم بشخصه أو بصنفه أو بنوعه إلى حاكم ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَين النَّاسِ﴾، هذا التداول في العلم، في القدرة، في المال، في الشهرة، في الرياسة، في مختلف هذه العطايا الإلهية؛ لهو قاعدة اجتماعية، وقاعدة تاريخية فهل هي ظنية، أم يقينية.؟
هل يوجد مَنْ يشك فيها وهو ملتفت إليها.؟ إلا أن يكون إنساناً يعاني بعض الخلل في قواه الإدراكية، ونحن لا نخص مثله بالحوار، ولكن أستبعد أن واحداً من العلماء الذي نخاطبهم من الذين يقولون بنسبية المعرفة يشكك في هذه القاعدة التي أشرنا إليها، والتي لخصها القرآن الكريم بأبلغ عبارة ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَين النَّاسِ﴾.
توجد في داخل الإنسان قوتان قوة نزاعة للشر وأخرى باعثة للخير، وهذه قضية قطعية، فكل إنسان يجد في نفسه عاملاً يدفعه للخير، وآخر يدفعه للشر، كما أن بعض الناس في مصداق معين قد يندفعون للخير بدون تردد، والبعض الآخر قد يندفعون للشر دون تردد أيضاً.. فكل إنسان يحس في واقع نفسه أنه مميز على الأقل لبعض أنواع الخير والشر، بل يرى في عمق وجدانه أن هناك من يأمره في داخل نفسه بالخير وهناك من يجره للشر، كما يرى أنه قادر على مخالفة هواه ومتابعة الحق حتى وإن كان مخالفاً لمصلحة آنية بحيث تعجز كل التفسيرات المصلحية فيفهم موقفه، هذا الإحساس الذي يعيشه كل إنسان كاشف عن وجود الخير والشر كما هو كاشف عن إمكانية وصول الإنسان إلى تحديدهما ولو في بعض أنواعهما (كالعدل والظلم) بشكل يقيني قطعي لا يقبل الشك.
ص: 90
والسيد الوالد (رحمه الله) كان يقول: إنه هناك رواية مضمونها: أنه في قلب كل إنسان مركزان للشرطة، مركز للملائكة يعسكرون فيه فيبعثونك للخير ويدفعونك نحوه، ومركز آخر للشياطين، حيث يحاولون اجتذابك للشر، وفي أحد المركزين لعله مركز الملائكة يوجد ثمانية وعشرون ملكاً، وأما مركز الشياطين فيضم سبعة وعشرين شيطاناً، أو بالعكس، والتردد مني..
وآثار تلك القوتين يجدها الإنسان في ثنايا نفسه وبحسب ما يترتب عليهما في الواقع الخارجي فأحياناً يريد الإنسان أن يعمل عملاً صالحاً، كأن يقوم لصلاة الليل في قلب الليل البهيم، أو يبذل مالاً ضخماً لمشروع خيري، فيشعر وكأن واحداً يقول له افعل ويأمره أن يقتلع نفسه من الفراش، وأن ينفق ماله حتماً، وهؤلاء هم الملائكة، كما يشعر في الوقت نفسه بآخر يقول له: لا تفعل، وليس من الضروري أن تصلي صلاة الليل أو تدفع مالاً في سبيل الله، وأولئك هم الشياطين.
والأمثلة تمتد بامتداد فعل الإنسان، والشاهد منها هو احساس الإنسان بدافع الخير والشر في أعماق نفسه وذاته، وهذه القضية هي قضية يقينية ترتبط بمحور من محاور علم النفس..
وغير خفي أننا عندما نستشهد بالقرآن ، فإنه ليس بعنوان الاحتجاج على الفيلسوف الغربي بالقرآن، حتى يعترض بأنه لا يؤمن به، وإنما لأن الآية الكريمة قامت بصياغة هذه القاعدة وهذه القضية الاجتماعية التي تتعلق بحركة التاريخ والتي يدركها الإنسان بالوجدان، أفضل وأدق صياغة، وسنجد ذلك بارزاً أيضاً في المثال التالي:
ففيما يتعلق بطبيعة الإنسان ودراسة أعماقه ومجاهليه، ورصد تقلباته في الظروف
المختلفة نلاحظ عمق وروعة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إلانْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ
ص: 91
اسْتَغْنَى (1).
وهذه القضية إجمالاً يقينية، وهي كاشفة عن حالة نفسية يعيشها الكثير، فإن كثيراً من الناس لو استغنى لطغى، فإذا أصبح صاحب ثروة فقد يطغى على الآخرين، وكذلك لو أصبح صاحب علم أو قوة عسكرية ﴿ إِنَّ اْلإنِسَانَ لَيَطْغَى﴾ وهذه قاعدة قطعية لا شك فيها.
وإذا أردنا أن نعبر بتعبير أدق، فإن الآية الشريفة: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ تكشف عن أن الإنسان بطبعه وحسب مقتضى ذاته الأولية ﴿لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ نعم ذلك بنحو المقتضي وليس العلية التامة، لذا فإن كثيراً من الناس قد يسيطر على مقتضى طبعه، وعبر الاستعانة بعوامل معنوية أو مادية (كالدعاء والإيحاء الذاتي وترويض النفس وغير ذلك).
وهكذا وهلم جراً في الكثير من القواعد والقوانين القطعية المسلّمة في علم النفس، وفي علم الاجتماع، وفي علم التاريخ، وفي سائر العلوم الإنسانية.
ففي حقل الاقتصاد نجد مثلاً أنه يتحكم قانون العرض والطلب بأسواق العالم، فهناك عرض، وهناك طلب، وهناك نسبة تفاعلية بينها وبين الأسعار، فكلما قلّ الطلب وازداد العرض - أي إذا توفرت البضاعة بالسوق بكثرة – فإن الأسعار تنخفض، والعكس صحيح، وهذه قاعدة طبيعية لا يشك فيها إنسان يعرف أوليات الاقتصاد إذ يعرف أن هذه قاعدة قطعية وذلك في إطار تثبيت سائر العوامل وبما لو لم تتدخل عوامل أخرى.. بمعنى أن زيادة العرض وانخفاض القيمة لو لوحظا كعاملين متقابلين، مع عزل كافة العوامل الأخرى الدخيلة، فإنه لا شك أن العلاقة بينهما إيجابية بمعنى أنه كلما ازداد العرض، مع ثبات الطلب أو قلته، فإن القيمة ستنخفض.
ص: 92
والحاصل: إنه في كافة مجالات العلوم الإنسانية كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والحقوق والتاريخ والإدارة وغيرها فإن هناك قضايا يقينية قطعية
لا يرقى إليها الشك، وقد مثلنا في الأبحاث الماضية في الحقل المعرفي بحُسن الإحسان، وحُسن العدل، وحُسن الاستشارة، لا (الشورى) حتى نختلف فيها، أي في أصل أن يستشير الإنسان أهل الخبرة فيما ألمَّ به وفيما أهمه مما لا يحيط بابعاده خبراً، هذا أصلُه حسن بلا كلام، وهكذا وهلمَّ جراً..
إن من يقول ب (نسبية المعرفة) ويُريد بها: أن هذه المعارف بأجمعها ظنية وليست قطعية.. نوجه له سؤالاً دقيقاً وهو: ثم ماذا؟ أي ما الذي يمكن أن يترتب على ذلك؟ فلو آمنا وسلمنا أن كافة القضايا في العلوم الإنسانية، والعقدية، والميتافيزيقية، ليست قطعية، فيحق لنا أن نسأل عن مؤدى ذلك والنتائج التي تنجم عنه؟ فهل يريد النسبيون أن يوصلوا الإنسان إلى التشكيك في هذه العلوم والمعارف وعدم الاعتناء بها يعني (عدم الحجية) التي تؤسس لإلغاء ترتيب الأثر الخارجي على هذه العلوم؟ إذا كان ذلك مقصودهم، فإنه مما يرفضه كافة العقلاء، ومما يوجب اختلال نظام الحياة، بل وهدم أسس المجتمع المدني وغيره، وذلك يتضح مع وقفة قصيرة لنا هنا مع معاني كلمة (الحجة) وهو بحث منطقي أصولي، وقد ذكرنا في كتاب الحجة، معانيها ومصاديقها (1) أن الحجة لها عشرة من المعاني، منها الكاشفية، ومنها الإنكشاف، ومنها المعنى اللغوي وهو ما يحتج به المولى على عبده أو العبد على مولاه، ومنها المنجزية والمعذرية ومنها لزوم الحركة والإتباع،ومنها الأوسط في القياس..ومنها غير ذلك..
ص: 93
المعنى الأول: الحجية تعني الكاشفية:
فإن كان المقصود من أن كافة العلوم الإنسانية ظنية، وهي ليست حجة..
بمعنى: أنها ليست كاشفة كشفاً تاماً مائة بالمائة عن الواقع، وهذا هو المعنى الأقرب لما تحمله كلمة (ظنية)، فإننا نكتشف حينها الاشتباه الذي وقعت فيه هذه النظرية، كونها أهملت الحالة العقلائية التي يقوم عليها التفاهم والإلزام والالتزام، ذلك أن حياة العقلاء كافة تدور مدار (الحجة) بالمعنى اللغوي، أو الأصولي (1)، أو الفقهي (2)، أي تدور مدار (ما يحتج به المولى على عبده) أو المنجزية والمعذرية أو لزوم الإتباع، حيث إن العقلاء لا يشترطون أبداً في ذلك الكشف التام عن الواقع، وإنما تسالموا فيه على درجة من الظهور والظن النوعي الذي يشترطه العقلاء، بل ولو أراد العقلاء ب (الحجة): الكاشف، كما هو مفروض المعنى الأول، فإن العقلاء لا يريدون الكاشف كشفاً تاماً عن الواقع، بل الكاشف الظني العقلائي، وعليه يبنون حياتهم.
وذلك مثل حجية الظواهر فإن المولى إذا ألقى لعبده كلاماً كان كلامه ملزماً له، ولا يجوز للعبد عدم الالتزام مدعياً أن كلام المولى لم يورثه القطع بمراده، وهكذا يتحقق التفاهم والإلزام والالتزام المبني على الظنون النوعية بين الحاكم والرعية، وبين مدير الشركة والموظفين، والوالد والأبناء، وأي ولي، أو قيِّم، أو متولٍ، أو جار أو صديق أو مكافئ.
إن بناء الحياة الاجتماعية والعقلائية في شتى مجالاتها من تعليم وقضاء ودولة وشركات ومدارس وأُسَر وغير ذلك، ليس على كشف الواقع مائة بالمائة، بل لا يشترط فيها ذلك في سيرة العقلاء أبداً، بل إن حياتهم مبنية
ص: 94
على (الحجج) أي يكفي فيها أن تكون (حجة) أي الكاشف النوعي الظني حسب المعنى الأول، أو الحجة اللغوية وهي معنى آخر أي ما يصلح أن يحتج به الحاكم على المحكوم، أو المولى على عبده، أو يحتج بها المحكوم على الحاكم، أو العبد على مولاه، فكما أن الموظف في الشركة ملزم بقرارات
صاحب الشركة كذلك صاحب الشركة، رغم أن (العبارات) و(القرارات) هي ظواهر لا تفيد إلا ظناً، ملزم بالفهم الذي يفهمه الموظف من هذه القرارات إذا كان الفهم على طريقة العقلاء.
المعنى الثاني: الحجية تعني لزوم الإتباع، أو لزوم الحركة على طبق هذه الظواهر أو تلك الأوامر، وهذا أمر عقلائي لاشك فيه، والأمر في المعنى الثاني أوضح من الأمر في المعنى الأول، فإن العقلاء يرون لزوم الإتباع ترتباً على الظواهر النوعية، ولا يشترطون القطع والعلم أبداً، اللهم إلا فيما من شأنه ذلك كبعض الشؤون الاعتقادية فقط.
والمعنى الثالث: استحقاق العقاب وعدمه، والمنجزية والمعذرية بالإتباع لو أصاب، أو أخطأ، وهذا هو المعنى الأصولي (1) للحجة، أي المنجز إنأصاب والمعذر إن أخطأ..
والحاصل: إننا نقول: لو سلمنا بأن الدوالّ المعارف ليست قطعية، لكنها مع ذلك تعد (حجة) أي:
1 . يمكن أن يحتج بها المولى على عبده والعبد على مولاه.
2 . ويجب الحركة على طبقها.
ص: 95
3 . وموجبة لاستحقاق العقاب بالمخالفة.
4 . وتعدُّ كاشفة كشفاً نوعياً عن الواقع (1)
فإن العاقل إذا ظن ظناً معتبراً، بوجود عقاب،أو بوجود سبع ، أو بوجود نار فيجب أن يسير على طبق هذا الظن، وإن لم يكن قاطعاً.
بل وأحياناً على طبق الوهم، أي الاحتمال المرجوح، فإن عليه أن يسير في صورة بروز الخطر المحتمل فيما لو كان الضرر أو الخطر كبيراً، على ضوء ذلك الاحتمال المرجوح حتى لو لم يكن الاحتمال قوياً فإن مع خطورة (المحتمل) يكون الاحتمال الضعيف منجزاً، فعلى الإنسان أن يتجنب المحذور والمحظور والمضر (2).
إن طبيعة العلوم مختلفة، كما أن ما يتوقع من المعارف مختلف، ذلك أن بعض العلوم أو بعض المعارف يشترط فيها القطع واليقين، وبعض المعارفوالعلوم ينبغي أن تَطلُبَ فيها الظن لا أكثر، إذ لو تطلبت فيها الأكثر من الظن، للزم الهرج والمرج واختلال النظام والوقوع في مطبات عظام..
فعلم الرياضيات يتوقع منه اليقين ولا يقبل من عالم الرياضيات غير ذلك، كما أن علم المنطق يتوقع منه أيضاً اليقين، ولكن:
ألف: علم الطب كيف تطلب منه اليقين.؟
ذلك أن علم الطب في معظم حالاته يرتكز على الظن أي بمعنى أنه يتعذر فيه العلم الكاشف عن الواقع والحقيقة مائة بالمائة، سواء أكان من جانب المريض أم الطبيب، فلا يوجد عادة مريض يقطع بأن الطبيب الفلاني يمكن أن يشفيه من كل أمراضه، ولكنه رغم عدم توفر العلم الكاشف القطعي،
ص: 96
يتجه نحو الطبيب طالباً العلاج، ولو انتظر حتى يحصل له العلم لتفاقم مرضه أو مات قبل أن يتحقق لديه هذا العلم.
والحاصل: إنه بناء على هذا الظن يذهب كل مريض إلى الطبيب راجياً الشفاء، وعلى هذا الظن قامت الجامعات وأنشئت المستشفيات وأسست وزارات للصحة، وكذلك الطبيب فإنه عادة لا يصرف للمريض الدواء بناءًعلى علم قطعي بمعنى أنه لا يعلم علماً يقينياً أن هذا الدواء يحقق حتماً الشفاء وإنما يكتفي بالظن الذي يتعامل على أساسه العقلاء. ولو انتظر الطبيب لكي يحصل له العلم لمات المريض بين يديه من غير أن يفعل له أي شيء.
والنتيجة: إن الظن هنا هو الممكن، والعمل بمقتضاه هو الواجب، ولولاه لانهارت الحياة؛ لأن باب العلم في أكثر مسائل الطب مغلق، ولا طريق إلا برصد الحالات، والعلائم، والمؤشرات، التي تورث الظن الراجح عادة.
ب: و(الفقه الإسلامي) كذلك، فإنه مبني على الظنون المعتبرة، بل كل القوانين حتى الوضعية منها كذلك، فإن هذه القوانين وتلك الأحكام الفقهية ليس المتوقع منها القطع، لكي تُتبع ولكي نسير على هديها، وإنما مجرد الظن المعتبر الذي اسمه الظواهر فيها كاف، وإلا لما استقر حجر على حجر في الحياة، وللزم الهرج والمرج واختلال النظام الاجتماعي كله..
ج: ولنمثل أيضاً بمثال اجتماعي، فهل يصح لشخص أن يقول: أنا لا أتزوج امرأة إلا لو قطعت بصلاحها من كل الجهات.. فهل يستطيع أحد أنيقطع بصلاح هذه الزوجة التي يريد أن يتزوجها من جميع الجهات حاضراً ومستقبلاً، من حيث صفاتها النفسية بأن لا تنطوي على حسد، أو حقد، أو عُجب، أو رياء، أو غرور، أو كسل، أو ما أشبه ذلك.؟
أو هل يصح للمرأة أن تقول: لا أتزوج إلا لو حصل لي القطع بأن هذا الزوج هو المثالي من جميع الجهات حاضراً ومستقبلاً..
وهل تزدهر الحياة أو تستمر لو قال الناس: بما أن المعرفة نسبية ولا طريق
ص: 97
للقطع، إذن ينبغي أن لا تتزوج امرأة ولا يتزوج رجل، هل هذا مما يقول به عاقل؟ إنه مما لا يمكن أن يلتزم به عاقل من عقلاء العالم..
د: وفي علم الرجال، لو طلب فيه الإنسان القطع، لما استقر فيه حجر على حجر سواء في ذلك علم الرجال الذي عندنا أو علم الرجال الذي عندهم، وكلّ في حقله؛ إذ بالنتيجة فإن الجميع يستندون في غالب معلوماتهم وعلومهم على مجموعة من الرجالات في السياسة أو الاقتصاد أو ما أشبه ذلك.
إذن مجموعة من العلوم تقتضي وتتطلب اليقين والقطع، ومجموعة من العلوم لا تقتضي ذلك، بل لو تقيدتَ بمعادلة القطع لتجمدت الحياة، وما حصلت إلا على الضرر الأكبر..
إن نسبية المعرفة بمعنى عدم وجود معارف يقينية، قول يشتمل على كثير من المغالطات كما بيّنا سابقاً، مضافاً إلى كونه يرتكز على مقدمة خاطئة تستبطن القول بأن المطلوب في المعرفة أن تكون يقينية، وهو توصيف خاطئ إذا قصد به الإطلاق، حيث إنه لا يراعي تنوع العلوم وظروفها وشرائطها، فلا تقاس كل العلوم بمقاس واحد وهو القطع وكشف الواقع، ولو اعتبرنا أن الكمال أبداً في العلم والقطع والكشف التام، وحاولنا محاكمة كل العلوم طبقاً لهذا الوصف لخرجنا بنتائج تخالف بديهيات المعرفة؛ وذلك لأنه وفي كثير من الأحيان يكون الكمال في (الظن) ويكون (النقص) في (القطع) على عكس ما يتصور.
ص: 98
ونورد هنا بعض الشواهد التكوينية التي تلقي الضوء على موضوع (كمال العلم بين الظن والقطع)، ففي هذا العالم الذي نحن نعيش فيه، فإن الكمال في كثير من القضايا يكون في (الضعف) لا في (القوة):
فإن الطفل مثلاً قوته في ضعفه، فإذا كان يولد وهو أقوى من أبيه فسوف لا يكون بمقدور أبيه تربيته وتهذيبه، بل يمكن أن يتطاول الولد بضرب أبيه إذ ليس له عقل يدرك به الصحيح من الخطأ والخير من الشر.. فلكي يكون الطفل محط الاهتمام والمداراة وقابلاً للتهذيب والتربية لا بد أن يكون ضعيفاً، وهذا هو مصدر قوته وسر حب الناس له.
وضمن هذا التصور يمكن معالجة كثير من القضايا العالقة على مستوى الفكر والثقافة، فالجدل القائم حول المرأة والمطالبة بمساواتها بالرجل، يمكن أن يحسم ضمن هذا الفهم، بوصفه الفهم أو التصور الذي يلاحظ الشيء بما يحتويه من خصوصيات ومن ثم محاولة فهم كل خصوصية ضمن إطارها الطبيعي، فالمرأة بما تحتويه من خصوصيات خاصة هي في واقع الأمر سر كمالها، فالخشونة مثلاً في المرأة نقص وفي الرجل كمال، كما أن النعومة في المرأة كمال وفي الرجل نقص، وهكذا كل خصوصيات المرأة التي تحدد ضمن إطار الأنوثة، فكلما كانت المرأة أكثر أنوثة كلما كان ذلكوصفاً لكمالها، ومن هنا نكتشف الخطأ الذي ارتكبته بعض الثقافات التي تحاول أن تساوي بين الرجل والمرأة؛ لأنها أهملت المرأة وما يميزها من
ص: 99
خصوصيات، ولم تر إلا الجانب الشكلي الذي تضيع معه الحقيقة، فضعف المرأة في واقع الأمر كمال لها كما أن القوة كمال للرجل قال تعالى ﴿الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (1)ومحاولة المساواة مع إهمال نقاط القوة أو الضعف لكل طرف تجاوز على المرأة والرجل في نفس الوقت.
وكثيرة هي الأمثلة في عالم الخلق التي تكشف عن حقائق تكمن قوتها في ضعفها، كالغضروف مثلاً فلو كان الغضروف كالعظم صلباً وقوياً وصلداً، لما تمكن جسم الإنسان من الحركة.
ومن أهم مفاتيح فهم الحياة هو معرفة حقيقة هذا التوازن بين القوة والضعف، وهو سر الكمال لهذه الحياة، وهذا بحث مفصل نتركه لمحله، مكتفين بهذه الإشارة التي تؤكد على أن كثيراً من الحقائق قوتها وكمالها في ضعفها.
ونجد أن الأمر في عالم التشريع، وعالم الاجتماع، كذلك أيضاً.. ولنمثل بأمثلة فطرية يدركها الجميع:
فمنها: معادلة الامتحانات التي يقوم بها الطلبة في المدارس كافة )من الروضة إلى الابتدائية فمتوسطة فثانوية فجامعة ومعاهد وغيرها( فإن كل واحد من هؤلاء عادة غير قاطع بأنه سينجح في الامتحان، ولو قطع الإنسان
بأنه سينجح في الامتحان فإن هذا القطع يعتبر في كثير من الأحيان حالة سلبية، ذلك أنه يجعل الطالب يتكاسل في التحضير والقراءة، والمطلوب هنا هو )الظن( فقط بالنجاح والذي يشكل حالة من الدافع والحافز للجد
ص: 100
والمثابرة لكي يحقق النجاح.
إذا اليقين أو القطع في كثير من القضايا مثبِّط، وهو ضد الكمال، وإنما غيره الذي هو على درجة من درجات الضعف كالظن، فإنه الذي يبعث الإنسان على الحركة الأقوى.
ومنها: مثال آخر هو (الموت) إذ نسأل: لماذا لم يعلمنا الله تعالى بالوقت الذي نموت فيه؟ قد يكون من الحِكم في ذلك أن الإنسان إذا قطع على أثر هذا المرض الذي ابتلي به أنه بعد شهر سيموت مثلا، فإنه سيتحطم أكثر فأكثر، وستختل حياته بالكامل وحياة من يحيط به في غالب الأحيان.
لأن الإنسان ليس بمقدوره العيش والسعي والعمل في هذه الحياة إلا بالأمل، فلو علمتَ - أطال الله عمرك – أنك تموت بعد أيام، أو لو أحد علم أنه بعد شهر تصدمه سيارة بالشارع، فهل سيعيش طبيعياً؟
والحاصل: إن الجهل بوقت الممات كمال للحياة، قال تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ اْلَموتَ وَالحَيْاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (1).
وبالعكس، فإن العلم بتاريخ الاصطدام أو الجلطة أو الموت، كثيراً ما يعد نقصاً وعاملاً سلبياً.
فهذا العلم هو نقص: أن تعلم بمتى وكيف تموت، والامتحان من هذا القبيل، وقضية الحياة والممات والصحة والمرض والدائرة تتسع والفقر والغنى كذلك، فإذا علم ذلك الإنسان الفقير أنه حتى لو عمل خمسين سنة فإنه سيبقى فقيراً، فهل يسعى؟ وإذا ذاك الإنسان الغني علم أنه سيبقى غنياً وبنفس المستوى مهما عمل، فهل سيسعى؟ إن المتاجر كلها والحال هذه
ص: 101
ستتعطل لأنه يدري بأنه غني على أي تقدير..
إن الله سبحانه وتعالى جعل هندسة الكون على هذه الشاكلة، فقد بُني على أن يكون الكمال والحراك الاجتماعي وغيره في ضمن هذا الظن، فهذا الظن إذاً هو كمال، وهو حجة، وهو معتبر، وعلى الإنسان أن يسلك المسالك على ضوئه، وعلى طِبْق هذا الظن المعتبر..
فكثيراً ما يكون الكمال في النقص ككمال المرأة في نقصها، كما أن كمال الغضروف في نقصه، بمعنى مقابل للصلادة والصلابة وما أشبه ذلك..
مثال آخر للمتدينين ويمكن أن يستشهد به على غيرهم أيضا؛ وهو (البداء)، إذ نسأل: ما هي فلسفة البداء؟
إن إحدى الحِكَم في البداء هي هذه القضية، أي إن ذلك هو أحد حِكم لوح المحو والإثبات، فعلى الرغم من أن اللوح المحفوظ موجود، يوجد اللوح الآخر: لوح محو وإثبات، والذي يعني أن الله قدَّر بأن أجل زيد مثلاً سيحل بعد عشرين سنة، حسب ما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات لكن لو وصل رَحمه فإن الله سيمد في عمره خمسين سنة، ولو قطع رحمه فإنه غداً سيموت، إن من فلسفة لوح المحو والإثبات هي هذه..
ومن فوائد (البداء) أن يلجأ الإنسان إلى الدعاء، وإلى تطهير النفس، وأن يلجأ الإنسان إلى صلة الرحم.. ذلك أنه إذا كان كل شيء مفروغاً منه، بدون وجود لوح محو وإثبات، فإن (الحافز) كان سينعدم عند أكثر الناس، إذ سيقول الإنسان: سواء أوصلت رحمي، أم لم أصل فإنني بعد كذا من السنين سأموت، إذ قد انتهى الأمر.
وقد ظهر بذلك أن الله سبحانه وتعالى جرت حكمته في هذا الكون على أن لا تكون القضايا بالنسبة لنا قطعية، بل تكون خاضعة لمعادلة )البداء(،
ص: 102
فإنه إذا كانت هذه القضايا التي ترتبط بمصيرنا في مختلف الأبعاد قطعية، فلن تجد بعدها أغلب الناس يحسن للناس، كما سيفقد كثير من الناس الباعث والحافز على أن يهذب نفسه، وسوف لن يلجأ الأغلب إلى التضرع والدعاء وما أشبه ذلك.
وكما أن فلسفة البداء من ذلك، كذلك فإن فلسفة المحكم والمتشابه أيضاً من ذلك، والبداء عند ما يسند لله تعالى فإنه يعني (الإبداء) وعند نسبته إلينا يعني مسامحة يبدو لنا الأمر على وفق الظواهر أنه كذا، لكنه في واقعه على خلافها، ولكن الأمر عند الله واضح وجلي، وكذلك عند المعصومين (عليهم السلام).
والنتيجة: إن الكمال قد يكون في هذا الظن، وهذه الظنون المعتبرة التي ينبغي يمشي الإنسان على ضوئها، وعلى هديها.. وإن المشكلة قد تحدث من (القطع)، ولنرجع إلى منطلق البحث، فنقول:
كذلك القول في (النسبية) التي تشكك في المعارف لكونها ظنية، فإنها يمكن أن تفهم أيضاً ضمن هذا الإطار، فالظن المعتبر في كثير من المعارف هو الذي يتصف بالحجية والتي يسير الإنسان بحكم عقله على وفقها، ولو كُلّف الإنسان بالعلم الكاشف عن الواقع كما هو، لتعطلت الحياة واضطربت، ما يجعل الكمال في هذه الظنون المعتبرة.
ومن أوضح البراهين على ذلك أن أكثر بل لعله ما يقارب كل النظريات المطروحة في علم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها، تقوم على ظنون معتبرة، ولو انتظر البشر حصول القطع في هذه العلوم، لتوقفت الحياة ولعدنا إلى العهد الحجري، كما أن هذه الظنون بما فيها من اختلاف هي التي تفتح الطريق أمام التنوع والتعدد وتجعل الحياة أمام الإنسان ذات خيارات متسعة. ولذلك كان من مذهب (الشيعة)على مر التاريخ: فتح باب
ص: 103
الاجتهاد، وهذا لعله من وجوه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):(( اختلاف أمتي رحمة )) (1).
بل هو السبيل لفتح الباب أمام الإنسان لكي يتكامل في معارفه أكثر فأكثر، فإذا قطع الإنسان فإنه عادة يتوقف عن السعي وطلب العلم، في حين أن القرآن الكريم يؤكد )لا تناهي درجات وحدود العلم( مما يدعو إلى السعي الأبدي نحو العلم قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (2)وقد تكشف لنا هذه الآية أيضاً (3) عن أن هناك من هم متصفون بالعلم وبالتسديد الإلهي مثل الأنبياء والأئمة، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا (4)﴾ و﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَ ْسماء كُلَّهَا﴾ (5) و﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَا لِحكْمَةَ﴾(6) مما يجعل الإنسان يسعى دوماً لأن يكون سائراً على هداهم.
تنبيه: لا يخفى أن (كمال) الظنون النوعية الذي أشرنا إليه، كان بالقياس إلى (التوقف) و(الجمود) أو السقوط في هاوية الشكوك والأوهام، أما لو كان باب (العلم) منفتحاً بنفسه، ولم يلزم من طلبه عسر وحرج واختلال نظام أو تعطيل حياة، كما نعتقد أنه سيكون في زمان ظهور ولي الله الأعظم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فلا شك أن (العلم) هو الأفضل وأن (الظن) سيكون مرجوحاً.
وأما في زمن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فلعل المستظهر أنهم أجازوا الرجوع إلى الظنون النوعية (كخبر الثقة، والظواهر) حتى مع انفتاح باب العلم بسؤالهم
ص: 104
مباشرة ، حتى مع عدم لزوم عسر وحرج، ولعله لمصلحة التسهيل النوعية وضرباً للقانون، وعلي أي فتحقيق هذه المسألة في علم الأصول.
كما ينبغي التنبيه على أن كمال الطفل والمرأة والغضروف، والذي تجلى في ضعفها، إنما هو لباب التزاحم وأشباهه، كملاحظة الغرض الذي من أجله خلق ضعيفاً.
كما أن في مثل (البداء) قد يكون معرفة ما في اللوح المحفوظ (كمالاً) كما في النفوس القوية الكاملة (نفوس الأنبياء والأوصياءعليهم السلام) وكون الكمال في(الجهل) إنما هو في النفوس الضعيفة، التي لا تتحمل العلم، والتي ستقع في ورطة أشد لو رفع عنها غطاء الجهل، وتمام تحقيق المقام في علم الكلام.
إهدنا الصراط المستقيم:
نستنير بالآية الشريفة ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ كما تعودنا في كل بحوثنا السابقة، ونتساءل هنا عن المراد من الصراط المستقيم.؟ وقبل الإجابة، نجمل ما ذكرناه في البحوث السابقة، مع بعض الإضافة، في الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: إن هناك صراطاً مستقيماً في عالم الثبوت، وصل إليه الإنسان أم لم يصل.
الحقيقة الثانية: إن باب العلم والعلمي إلى تلك الحقائق أيضاً منفتح، إذ لو كان مغلقاً لكان هذا الطلب من الله لغواً، إذ كيف تقول: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ والباب مغلق، والاهتداء مستحيل؟ فالباب - إذن - للاهتداء إلى الصراط المستقيم مفتوح، وإذا كان الصراط المستقيم، في مكتوم علم الله مما لا يستطيع الإنسان معرفته والوصول إليه، فيكون الطلب من الله سبحانه وتعالى بأن يهدينا الصراط المستقيم طلباً لغواً، وغير واقعي، فمن المحال أن يكلفنا الله أن نطلب منه أن يعطينا ما لا يعطيه أبداً لنا، بدون جهة راجحة أخرى.
ص: 105
الحقيقة الثالثة: إنه ليس كل أحد ممن يهتدي إلى الحقيقة وإلى الواقع وإلى الصراط المستقيم، بل البعض فقط، وهم أولئك الذين ﴿هَدَاهُمُ اللهُ﴾(1) تعالى، وهدايته لهم بلحاظ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (2).
الحقيقة الرابعة: إن للاهتداء شروطاً، ومن الشروط تصفية النفس وتهذيبها، والدعاء بإلحاح والتضرع، وبعض هذه الشروط ربما سنأتي عليها بتفصيل أكثر لاحقاً إن شاء الله.
الأقوال في ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾:
كثيرة هي الأقوال أو الروايات في معنى ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ من غير تناقض بينها، وذلك بوصفها مصاديق متعددة تعبر بأجمعها عن ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾. فلنشر الآن لعدد منها..
القول الأول: الصراط المستقيم هو القرآن الكريم كتاب الله..
القول الثاني : الصراط المستقيم هو الإسلام فإن الإسلام صراط مستقيم..
القول الثالث: الصراط المستقيم دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره..
القول الرابع :الصراط المستقيم هو صراط الأنبياء فإن صراط الأنبياء مستقيم..
القول الخامس: الصراط المستقيم هو (الإمام) عليه من الله الصلاة والسلام..
القول السادس: الصراط المستقيم هو معرفة الإمام..
القول السابع: المراد بالصراط المستقيم هو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب فإهدنا الصراط المستقيم يعني إهدنا صراط علي وهو صراط محمد في الوقت نفسه..
القول الثامن: المراد بالصراط المستقيم هو جسر في عالم الآخرة يوصلك
ص: 106
إلى الجنة (1)..
هذه ثمانية أقوال في الصراط، وقد وردت في عدد منها روايات حول معنى الصراط المستقيم، وإليكم الآن بعض الروايات:
﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ في تفسير الإمام عن الصادق (عليه السلام) : ((أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى (رضوانك و) جنتك والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك))(2) .
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): قال(( أدِم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا...)) (3)
وفي المعاني عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة؛ وأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة مَن عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرَّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومَن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردَّى في نار جهنم..)) (4)
ورواية أخرى عنه (عليه السلام) : ((الصراط أمير المؤمنين علي)) (5) وفي رواية أخرى: ومعرفته (6).. وفي رواية أخرى: أنه معرفة الإمام..(7) وفي أخرى: نحن الصراط المستقيم..(8)
ص: 107
وفي تفسير العياشي: إن الصراط المستقيم هو صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم..(1) إلى آخر هذه الأقوال.
وفي بحث تطبيقي لما ذكرناه وعلى ضوء هذا البحث، نقول: إن الظاهر هو أن هذه المعاني بأجمعها صحيحة، وذلك لأنها بأجمعها مصاديق للصراط المستقيم: القرآن الكريم صراط مستقيم، والأنبياء صراط مستقيم، وعلي بن أبي طالب صراط مستقيم، والإسلام صراط مستقيم، والدين الذي يأبى الله ويرفض ولا يقبل أن ندينه إلا به صراط مستقيم، ومعرفة الإمام صراط مستقيم، والدليل على ذلك من القرآن الكريم:
فمن الآيات قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَير وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (2).
إذا إطاعة الله صراط مستقيم، وإطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صراط مستقيم، وإطاعة الإمام (عليه السلام) أي إطاعة ولي الأمر صراط مستقيم.
وقد يشكك البعض في المقصود بأولي الأمر؟ لكن لا شك في أن (أولي الأمر) هم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بالأدلة المذكورة في محالها، وإحداها هذه الآية الشريفة ﴿إِ نمَاَّ يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(3) فهم صراط مستقيم بلا شك حسب هذا الآية القرآنية الكريمة والآيات الأخرى.. إذ قد طهرهم الله تطهيراً من كل زيغ وانحراف أو خطأ أو
ص: 108
خطل، في القول والفعل والتقرير والذات والصفة. (1)
ومن الآيات: قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْمتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾(2)، فهناك تواتر في الراويات على أن هذه الآية نزلت في يوم ((غدير خم)) (3) في بيعة الناس للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وبذلك يظهر بوضوح أن معرفة علي بن أبي طالب مولى الموحدين (عليه السلام) والالتزام بأوامره هو الصراط المستقيم، لأنه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْمتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ﴾ وبدون هذا لا رضا فليس ديناً ﴿لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ وهذا يعني أنه لولا ذلك فهذا الإسلام لا يقبله الله منكم، فهو إذن كالعدم المحض والحاصل: إنه عندما تصرح هذه الروايات في تفسير ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾؛ بأنه هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن دليلها من القرآن الكريم موجود، وفي السنة متواتر..
ومن الآيات: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تُمتْرَّنَ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾(4) إذن ﴿هَذَا﴾ أي إتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾..
ومن الآيات: قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هَدَانِي رَبِّي إِ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ﴾ (5).
هذه الآيات وآيات أخرى عديدة، وروايات كثيرة يعضد بعضها بعضاً.
ص: 109
وهنا نخاطب من يقول بالنسبية إن كان مؤمناً بالقرآن الكريم سنياً كان أم شيعياً، ونقول له: هذه الآية القرآنية الكريمة قد أورثتنا القطع بالمراد من ﴿الصِّرَاطَ الُمستقِيمَ﴾، وعلى أقل تقدير فإنها تورث الظن، وهذا (الظن) حجة يحتج به المولى جل وعلا على عبده، فما عذرك إن لم تلتزم بما يحتج به المولى على عبده؟ كما أن هذا (الظن) حجة بمعنى ما يلزم الحركة على طبقه.
وبناء العقلاء في التفهيم والتفهم، والإلزام والالتزام على (الظواهر)بل إن ما استعرضناه كانت نصوصاً فوق الظاهر، ولو تنزلنا فهي على الأقل ظواهر كاشفة عن حقيقة مراده تعالى من ﴿الصِّرَاطَ الُمستَقِيمَ﴾، لأن الله تعالى يشرح لنا الصراط المستقيم ﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (1)، وفي مكان آخر يقول: ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ وبلا شك فإن إطاعة الله تعالى صراط مستقيم للجنة ولرضوانه، وقد شفع أطيعوا الله ب: ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(2) إذاً إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صراط مستقيم بلا شك، وإطاعة الأئمة (عليه السلام) أيضاً صراط مستقيم كذلك.
والقول بالنسبية لا يعفيك من المسؤولية ولا يخلصك من إلزام الحجة البالغة لك، فلو التزمت بكلمات حجج الله تعالى، وإن كانت ظواهر، فلو طابق عملك الواقع فذاك الفوز الكبير، وإن خالف فأنت معذور (3). ولو لم تلتزم بكلماتهم فما هو المؤمِّن لك من العقاب؟، والحاصل أنه لو التزمت بنسبية المعرفة وظنيتها فإن ذلك لا يعفيك من صحة الاحتجاج عليك بهذه الآية ونظائرها، ولا يعفيك من نتائج بحث التنجز واستحقاق العقاب بالمخالفة، كما لا
ص: 110
يعفيك من مفاد بحث لزوم الحركة على طبق هذه الظواهر.. ولنتدبر الآن ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام)، لذاك الرجل:
((أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإياكم شرعا سواء، لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت، ثم قال أبو الحسن (عليه السلام)وإن كان القول قولنا وهو قولنا ألستم قد هلكتم ونجونا؟)) (1)
وليس غريباً أن نلاحظ في حياة كل من المؤمن والفاسق، فوارق جوهرية، فإن حياة المؤمنين المتقيدين بالطاعات وترك المعاصي بقطع النظر عن الآخرة أسعد وأهنأ من حياة الفاسقين، فهذا الذي لا ينظر إلى النساء الأجنبيات حياته مع زوجته أسعد ويتمتع بحياة مستقرة هادئة هانئة، كما أن نسبة الطلاق في أمثال هذه العوائل أقل بكثير، وأما البُعداء المنفلتون فإن أحدهم عندما ينظر والعياذ بالله في الشارع، أو في الجامعة، أو في السوق أو حتى في التلفاز، للأجنبيات فهذا يحطِّم حياته العائلية، ويسلبه سعادته في المنزل.
إننا لو لاحظنا هذه الآية الشريفة ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ مع تدبر بسيط في سياق سورة الحمد، ومفردات سورة الحمد، نجدها تدل على أن الصراط المستقيم هو كل هذه المعاني وليس واحداً دون آخر: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحِمنْ الرَّحِيمِ * الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالميَنَ﴾إذن الله هو الحقيقة المطلقة وهو رب كل العوالم على الإطلاق، وليس رباً لعالم دون عالم، وهو الرب على الإطلاق لكل العوالم بالاستغراق، ثم لنلاحظ التسلسل:
﴿الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالِميَنَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إذاً أي شيء يُشرعه لنا فهو
ص: 111
من الرحمة، من رحمة الله بك، فإن مصلحة البشرية في إتباع هذا الصراط المستقيم الذي أمرهم به الله سبحانه وتعالى ﴿الَحمْدُ رَبِّ الْعَالِميَنَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ إذاً الآخرة بيده، والجزاء (والدين من معانيه الجزاء) بقول مطلق بيده، فكل ما تقوم به، وكل إنسان يعمل أي شيء فجزاؤه بيد الله، إذاً الله تعالى هو المبدأ والخالق لطلق العوالم كلها فهو الذي خلقها وهو ربها ومربيها ثم المعاد كله بيديه، تأملوا الإطلاقات الشديدة القوية ﴿الَحمْدُ رَبِّ الْعَالمِيَنَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فإذا كان ذلك كذلك ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لا بالسلطان، أو الحاكم، أو الثروة، بل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ في كل ما يرتبط بنا، وبكل شؤوننا وشجوننا في حياتنا الشخصية، والعائلية، والاجتماعية، في شؤون الدنيا والآخرة، وهذه الإطلاقات واضحة ضمن هذا التسلسل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾..
ومن ذلك كله نستنتج أن هذا الصراط المستقيم ينطبق على الإسلام، وينطبق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وينطبق على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وينطبق على صراط الأنبياء (عليهم السلام) وينطبق على القرآن الكريم، وينطبق على سائر ما ذكرنا من تلك المعاني، فهذه كلها هي الصراط المستقيم إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، فلكي يكون ذلك الجزاء جزاءً حسناً، وكي لا تلاحق الفرد عقوبة مؤلمة ونار محرقة عليه أن يتمسك ب ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
والخلاصة: إن هذه الآية القرآنية الكريمة تدلنا على معاني كثيرة، وتفيدنا: أن المعرفة ليست نسبية لا ثبوتاً، ولا إثباتاً، لأن هنالك في عالم الثبوت صراط مستقيم بقول مطلق، وفي عالم الإثبات تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديك له، فالباب ليس منسدّاً وإنما الباب منفتح ولله الحمد لكن بشرطها وشروطها ومن شروطها وطريقها معرفة الإمام ( عليه السلام) ونختم الحديث برواية رائعة وردت في الكافي الشريف، وهي:
ص: 112
عن أحمد بن محسن الميثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق وأومأ بيده إلى موضع الطواف ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فأما الباقون فرعاع وبهائم. فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟!
قال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم.
فقال له ابن أبي العوجاء: لابد من اختبار ما قلت فيه منه.
قال: فقال له ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك.
فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت.
فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه وتحفظ ما استطعت من الزلل ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال وسمه ما لك أو عليك؟
قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين، فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً ويتروح إذا شاء باطناً فهو هذا.
فقال له: وكيف ذلك؟
قال: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم.
فقلت له: يرحمك الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون، ما قولي
ص: 113
وقولهم إلا واحداً؟
فقال: ((وكيف يكون قولك وقولهم واحداً؟! وهم يقولون: إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً ويدينون بأن في السماء إلهاً وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد؟!! )).
قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟
فقال لي: ((ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوءك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك)) ، وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه.(1)
ص: 114
كما بينا في العناوين السابقة فإن بعض الحقائق قطعية أو علمية لا يرتقي إليها الشك، واستندنا في ذلك إلى بعض الشواهد والأمثلة والنماذج، ففي علم الاقتصاد )معادلة العرض والطلب والقيمة(، والتناسب العكسي بينها، فهذه قضية حتمية قطعية لا شك فيها..
ونضيف مثالاً آخر؛ وهو (التفاعل الايجابي أو السلبي) بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وهذه أيضاً حقيقة لا يرقى إليها الشك، فهناك تأثير متبادل بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فالقرارات السياسية للدولة يؤثر الكثير منها على الوضع الاقتصادي سلباً أو إيجاباً.. وهكذا التطورات الاجتماعية تؤثر على الوضع الاقتصادي إما بالسلب أو الإيجاب.. والتطور العلمي والتكنولوجي يؤثر على الوضع الاقتصادي: فيحطم سوق بضائع وينجح سوق بضائع أخرى، فهذه إذاً قاعدة في علم الاقتصاد بلا شك.
إذن هنالك قضايا حقيقية، قضايا يقينية قطعية،وليست كل القضايا قضايا ظنية، بل بعض القضايا قطعية بلا شك، ففي علم الاجتماع مثلاً نجد قاعدة:
ص: 115
أ لف: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ (1)، يعني إن طبيعته بنحو المقتضي وليس العلة التامة إن يطغى أن رآه استغنى، هذه قضية قطعية بنحو المقتضي، أي القدرة تقتضي الطغيان بدون شك، لكن المانع من الطغيان وهو تقوى الله سبحانه وتعالى والسيطرة على هذه الأهواء والشهوات والتفكير في عواقب الطغيان الدنيوية والأخروية، إذا وجد فإنه لا يطغى.
ب: كما نجد قاعدة (الاختلاف) في المجتمعات من الحقائق القطعية، وأما تأثيرات الاختلاف فقد تكون سلبية إن لم يضبط ولم يُؤطَّر بإطار، وقد تكون إيجابية إذا كان في إطار علمي وأخلافي لأن اختلاف أمتي رحمة على أحد التفسيرين (2)، فالاختلاف هو من أسباب الإبداع والابتكار لكن في ضمن الأطر المعقولة، لأن الاختلاف الفوضوي سلبي، لكن الاختلاف الإيجابي يعني فتح باب الاجتهاد بتعبير آخر في أي حقل من الحقول، وهو إيجابي لأنه يثري الحركة العلمية في أي حقل كان، والاختلاف على قسمين؛ (إيجابي) إذا كان في الإطار العقلائي وحسب الضوابط ، و(سلبي) إذا لم يكن في الإطار ولا على حسب الضوابط..
نعم كثيرة هي العلوم الظنية، كعلم الفقه، وعلم الطب، وعلم النفس، والاجتماع، وعلم الاقتصاد، إلا أننا أوضحنا أنه توجد في داخل دائرة هذه
ص: 116
العلوم الظنية، مسائل قطعية لا شك فيها..
ولكن إذا كانت هنالك مسائل كثيرة ظنية في العلوم فهل ذلك يعني أو يستلزم أن نرخي الحبل على غاربه، ونطلق الأمر على عواهنه؟، وهل يستلزم ذلك إعطاء الشرعية لكل ظن، من أي طريق حصل، وبأية كاشفية حصل، وبأية درجة كانت تلك الحالة النفسية المسماة بالظن؟
الجواب: لا، وهذه نقطة مهمة وهي نقطة نقاش مع الذين ادعوا نسبية المعرفة وأرادوا من النسبية: (أن المعارف ظنية ليست قطعية)، نعم؛ بعض المعارف ظنية لكن هل كونها ظنية يعني أنه لا يوجد بشر يستطيع أن يصل فيها إلى درجة القطع واليقين والعلم.؟ وهل كونها ظنية يعني أنه لا منهج، ولا إطار، ولا ضوابط بل فوضى في الظنون المتعبة؟
الجواب: لا؛ كل العقلاء يقبلون أن بعض المعارف ظنية لكن حجيتها تقع ضمن منهج، ويحدها إطار، فعندئذ ستكون حجة عند العقلاء..
فإذا كان هذا الظن ناشئاً من طريق خاص، وبمنهج معين، وبدرجة معينة، يكون حجة، ولذا لا يصح القول: كل الظنون حجة، فهل الأحلام في الطب أو الاقتصاد أو الفيزياء حجة؟
ولكي يكون الإنسان طبيباً عليه أن يدرس الطب سنين طويلة في الجامعات المختصة كي يكون طبيباً، أما أن يأتي قارئ فنجان أو قاري كفّ ويدعي الطب أو الفقه فهل يمكن أن يثق به أحد؟! وهكذا كل العلوم والمعارف فإنها لا بد أن تخضع لمناهج علمية منضبطة فعلم السياسة والاجتماع والاقتصاد وكل العلوم الإنسانية لا يقبل فيها مطلق الظن، وإنما الظن الذي يقوم على أسس علمية فقط.
ص: 117
والحاصل: أن بعض العلوم ظنية، أو أن بعض مسائلها ظنية، لكن ليست القضية منفلتة وبلا ضوابط.
ومن هنا فإن القول: بأن (دين كل شخص هو عين فهمه للشريعة) (1)قول غير صحيح؛ لأنه قول يتعامل مع مطلق الظن بأي طريق كان، وبالتالي فإنه يشكّل تجاوزاً لكل السبل والمناهج العلمية في المعرفة.
فتحقيق فهم منضبط للدين لا بد أن يخضع لمنظومة من الضوابط المنهجية والعلمية، كما يشترط فيه المرور بمجموعة من المراحل التعليمية بإشراف أهل الخبرة والاختصاص، ومن هنا لا يصح عقلاً تكوين فهم للدين ينطلق من الأحلام مثلاً أو الذوق الخاص، والمنهجية الاجتهادية تخضع لمنظومة من الضوابط، ولا يسمح العقلاء فيها لمن يحاول الاجتهاد من غير أن يمتلك مقومات الاجتهاد.
والغريب أننا نجد كثيراً من الناس يأتي ويطالع القرآن الكريم والروايات الشريفة ثم يعلن رأيه واجتهاده!، وهو لم يدرس بعدُ كثيراً من القضايا التي تعتبر أساسية في عملية الفهم وحيوية ومقدمات للاجتهاد مثل المنطق والأصول وعلم الكلام، وعلم النحو والصرف والبلاغة وما أشبه، فكيف يصح له أن يقول: أنا اجتهدت، أو أنا فقيه ومجتهد؟!.
إن ذلك أمر غير مقبول لأنه خلاف شروط الاجتهاد العقلائية، لذلك لا يمكن القول: (دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة)، كلا هذا الدِّين مُدانٌ، وهذا الدِّين محكوم عليه، وهذا الدِّين باطل باعتراف كل العقلاء.
ومن الأمثلة على ذلك: إن الظن الناشئ من القياس، في شؤون
ص: 118
الشريعة غير حجة إطلاقاً، لأن ((أول مَنْ قاس إبليس )) (1)، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) ، لأن ملاكات الأحكام مجهولة لنا، غاية الأمر أننا قد نعرف بعض الحِكَم فقط.
والحاصل: إنه ليس كل ظن حجة وإنما الظن المؤطر بإطار خاص، فالظن الممنهج، أو المنهجي، أو الظن العقلائي، الظن الذي اجتمعت فيه الضوابط الشرعية، والعقلائية يكون حجة، لا مطلق الظن وهذا لنا كلام فيه سيأتي إن شاء الله..
من المهم الإشارة إلى أن بعض الناس، بل الكثير منهم مع الأسف وفي الكثير من الدول، يسلكون طرقاً ذمها العقلاء، فيرجعون إلى المشعوذين في قضايا حياتهم، ففي فرنسا على سبيل المثال هناك عشرة ملايين إنسان يرجعون للعرافين، الذين يقرؤون الفال، وكذلك الحال في بلادنا الإسلامية، وبخاصة في وسط بعض النساء، وهذه الطرق حتى وإن أصابت الواقع اتفاقاً فهي خاطئة لأنها استغراق في الجهل، والعقلاء –كما الشرع الحنيف – لا يقبلون هذا الطريق.
وفي عهد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره كان هناك شيء اسمه (الكهانة)، وكان لبعض الكهنة تعامل مع الجن الذين كانوا يخبرونهم ببعض الأمور التي قد تكون صحيحة حتى تكون طريقاً إلى إضلال الناس بعد ذلك، فيلبسون الحق بالباطل، لذا نجد الأئمة والأنبياء والرسل (عليهم السلام) وقفوا أمام هذا الطريق،
ص: 119
والعاقل بما هو عاقل لا يراجعهم وإن نازعته نفسه من باب الفضول وحب الاستطلاع، لأنه ملزم بالسير وفق هدى الطرق الشرعية والعقلائية، ولأنه يخاف الضرر الأكبر لو سلك هذا الطريق، ولا أقل من أنه سيصبح أداة بيد الجن، يوجهونه حيث شاؤوا.
ووفقاً للبناء المنهجي الحديث فإن المعرفة تتحقق بعد مراحل تمر فيها الفكرة بمجموعة من التحولات:
المرحلة الأولى: تسمى الفرضية..
المرحلة الثانية: تسمى النظرية..
المرحلة الثالثة: ربما نصل إلى القاعدة..
فإذا رُصدت ظاهرة معينة، (بيولوجية، سيكولوجية...) يبدأ البحث عن السبب المحرك لهذه الظاهرة، ومن ثم تقترح فرضية يظن كونها المسبب لهذه الظاهرة، وربما تكون الفرضية لا قيمة لها إطلاقاً، وبعد ذلك يبدأ الباحث بالتتبع والبحث والتنقيب بحثاً عن شواهد تعزز هذه الفرضية، وبعد الحصول على الشواهد البَدوية ترتقي الفرضية إلى مستوى نظرية، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة التجارب المخبرية أو المعملية، أو التجارب الميدانية وذلك بحسب طبيعة النظرية، فإذا اكتملت الأدلة والشواهد واكتشفنا المناط أو العلة أو الجامع المشترك، فالنظرية تتحول إلى القاعدة. وهذه القواعد هي غالباً ظنية في العلوم الإنسانية.
هذا (المنهج) وغيره في العلم الحديث، ومناهج أخرى في العلم القديم وفي الشرائع وفي غير الشرائع، هي الطرق العقلائية للوصول إلى (الظنون النوعية) ومع الوصول لها نكون قد وصلنا إلى (حجة ظاهرية عقلائية) فلا يصح القول إذن: حيث إن المعارف عادة ظنية فكل ظن ( حتى إذا حصل من
ص: 120
طرق غير عقلائية كالرمل والفنجان والأحلام) فهو حجة، ولا يصح القول (فهم كل أحد للشريعة هو عين تلك الشريعة) وذلك لأن (الفهم):
أولاً: قد يكون فهماً ظنياً بالظنون غير المعتبرة لدى العقلاء، وقد يكون فهماً ظنياً بالظن المعتبر كما أشرنا إليه والأول لا قيمة له، لديهم، أبداً بل هو لغو.
وثانياً: إن هذا الظن وإن كان معتبراً بل حتى لو ارتقى إلى درجة القطع، فإنه لا يعني بالضرورة كونه مطابقاً للواقع، فإن الجهل المركب كثير بين البشر، وعالم الثبوت والواقع لا يتغير عما هو عليه لمجرد تعلق ظن أو قطع خاطئ به، ولذا لا يقبل القول ب (فهم كل أحد للشريعة هو عين تلك الشريعة) بل الصحيح القول فقط ب (إن فهم الشخص للشريعة إن كان من الطرق العقلائية وحصل بها الظن النوعي، فإن هذا الظن هو حجة في حق الظان)، أي إنه منجز إن أصاب، ومعذّر إن أخطأ، ولا تعني الحجية هنا:
(الكاشفية) الأكيدة (التامة) عن الواقع (1).
وبعبارة أخرى: هنالك ضوابط للأمور، وضوابط وطرق وقواعد للوصول إلى الحقيقة، والمعرفة التي لا ترتكز على هذه الضوابط معرفة مرفوضة من قبل العقلاء، ومن قبل الوجدان، ومن قبل الضمير، وعلى الإنسان السعي نحو تحصيل (الحجة) حتى لو كان طريق العلم مغلقاً، إذ حينها يبقى طريق الظن مفتوحاً ولكن ليس مطلق الظن حجة، وإنما الظن الممنهج، والظن المؤطر، والظن الخاضع للضوابط، هذه حقيقة لا يمكن غض الطرف عنها أو إهمالها..
ص: 121
يقول (كانط) إن (الشيء لذاته) يختلف عن (الشيء كما يبدو لي) (1) وهذا يعني: أن أي شيء له اعتباران، أو حيثيتان، أو وجودان، وهما الشيء لذاته، والشيء كما يبدو لي، وتوضيحه (2) أنه يوجد أمران:
أ: هناك عالم الحقيقة، وعالم الثبوت، وعالم الواقع، سواء أكان الشيء أمراً غيبياً أم ظاهرياً.
ب: كما أن هناك الإنسان الذي يريد أن يتعرف على هذا العالم، وهنا تتشكل المفارقة كما يزعمون بين أ الإنسان وما يحمله من أفكار سابقة وانطباعات شخصية تكونت بسبب انفعال الإنسان بالظرف الخارجي من تربية وبيئة ومحيط اجتماعي وسياسي واقتصادي وغيرها أثرت في بناء شخصيته، وكل هذه العوامل تشكل وسيطاً بين الإنسان وبين مدركاته، وب وبين ما يريد إدراكه، فتتلون الحقائق الخارجية بلون الإنسان وتتشكل بحسب شخصيته، فلا يرى الحقيقة كما هي في الواقع وإنما كما يريد هو أن يراها.
ص: 122
لكن هذا الكلام لا يمكن القبول به.
إذ أولاً: لو سلمنا بهذا الكلام على إطلاقه لتعددت المعارف والحقائق بعدد نفوس البشر، فلكل إنسان ظرفه الخاص به وشخصيته التي تميزه، ومن البديهي أن الحقيقة تبقى هي الحقيقة ولا تتغير بتغير إدراكات الناس لها، ومن هنا كانت هناك شروط لإدراك الحقيقة بحيث تخرج المعرفة من الذاتية المطلقة إلى الموضوعية، حتى تمنع من تدخل النفس والهوى في التأثير على الواقع.
ثانياً: إن الله سبحانه وتعالى قد فتح أمام الإنسان، طرقاً توصله إلى الحقيقة، ونوافذ تطل على الواقع، رغم كل الخلفيات النفسية والقبليات الفكرية والمعرفية، وتعد هذه الطرق كالنور الذي يقشع سحب الظلام فيوصلك للمجاهيل وينير لك الحقائق.
وهذه النوافذ هي التي تطل بك على الحقيقة مباشرة، متجاوزة كافة الخلفيات والقبليات، أو فقل: خلق الله لنا مصابيح كشافة قوية جداً لا تستطيع الخلفيات والقبليات مهما كانت قوية وراسخة أن تحجب نورها من أن يصل للإنسان، ولذا نجد أن (الأوليات) و(الفطريات) مما يذعن بها كافة العقلاء، وكذلك كافة (المستقلات العقلية)، وإلا أصبح باب العلم مغلقاً دائماً، وقد تعرف العقلاء على هذه المفاتيح والطرق التي جعلت شرطاً في المعرفة، وبالتالي فإن أي معرفة تخرج عن حدود هذه الشروط، فإنها تمثل رؤية خاصة لا تتجاوز صاحبها.
ومن المفيد كمدخل لذلك أن نمثل بالزلزال أو الزلزلة، هذه الظاهرة التكوينية المعينة، فهل هناك نافذة بيننا وبين هذه الحقيقة؟ أي النافذة التي
ص: 123
تصل بين (الزلزلة لذاتها) و(الزلزلة كما تبدو لنا) من حيث التوقيت أو يره؟
إن النافذة موجودة، لكن الكلام في أن العلم قد يتطور فيصل إليها وربما لا يصل، بل إن العلم في حركته التصاعدية قد يصل إلى مرتبة، ثم مرتبة ثانية، ثم ثالثة إلى أن يكتشفها كاملة.
وقبل حوالي أكثر من ألف سنة اخترع في الصين جهاز (1)، يكشف عن بساطة العلم في ذاك الزمن، زمن حدوث الزلزلة واتجاه حركتها. ذلك أن الزلزلة حقيقة كونية لها قانون، متى، وأين، وكيف، وبأية شدة، والعلم الحديث وضع مقاييس جديدة مثل مقياس (الريختر) الذي يحسب شدة الزلزال، وإلى أية درجة سيُدمِّر، وإلى أية مدة يستمر؟ إنه قانون تكويني خارجي، وهو ما يسمى (الحقيقة لذاتها)، وتلك الحقيقة أصبحت متاحة للإنسان عبر منافذ محددة، إذا اتبعها الإنسان يمكن أن يتعرف على (الشيء في حد ذاته).
كما أن العلم الحديث اكتشف نوافذ جديدة للحقيقة إذ هم الآن يكتشفون حركة الزلزال وتفاصيلها من التغيرات التي تحصل في المجال المغناطيسي، وفي المجال الكهربائي للأرض، ويكتشفون حركة الزلزال وقوته وضعفه من التغير الذي يحدث في مجال جاذبية الكرة الأرضية، ويكتشفون الزلزال بتفاصيله عبر دراسة تغيرات (القشرة الأرضية)، كما يكتشفون حركة الزلزال وتفاصيله من المياه الجوفية، فيدرسون تغيرات درجة حرارتها، ووجود بعض المواد فيها، وتكاثرها وضعفها مثل الراديوم هذا العنصر المعين، كل ذلك يكشف لهم أن الزلزال كيف، ومتى، وأين يحدث وسيضرب أية دولة وأي بلد؟
ص: 124
أما في الزمن السابق فكانوا يكتشفون الزلزال من (الحيوانات) فإن الله سبحانه خلق في هذا الحيوان جهازاً يكتشف الزلزال فيضطرب الحيوان، أو يهرب بمجرد استشعار حدوث الزلزال بعد ساعات أو أقل أو أكثر، إذ الغريب أن بعض الحيوانات قبل ثلاثة أيام تكتشف الزلزال، وبعضها قبل ساعات تكتشف، كما أن بعض الحيوانات البحرية لها مؤشر على الزلزال وقد أودع الله تعالى أودع فيها ذاك الجهاز الذي هو أكثر تطوراً من هذه الأجهزة.
والحقيقة أن العلم كلما تطور أكثر ازدادت نوافذه واتسعت أكثر، والحديث طويل لكن كانت هذه كإشارة موجزة للموضوع..
والخلاصة: أنه توجد بيننا وبين الحقائق نوافذ وليس الطريق مغلقاً أمام الحقيقة، وهذه (النوافذ) قد تكشف لنا (جوهر الشيء) كما أنها قد تكشف (مظاهر الشيء) وذلك على حسب نوعية الأدوات والأجهزة أو السبل العلمية المستخدمة، وعلى حسب (نوعية) الظاهرة أو الشيء الذي نريد رصده ومعرفته واكتشافه.
وكما يمكن للأجهزة المتطورة أن تكشف جوانب من الشيء لم تكن مكتشفة أو معروفة من قبل (كتوقيت حدوث الزلزال واتجاه حركته ودرجة قوته وطاقته التدميرية) كذلك فإن مزيداً من تطور العلم والأجهزة (كجهاز الكمبيوتر فائق السرعة) يمكن أن تقربنا إلى (أعماق الشيء) وجوهره، أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى فإن التأمل العميق المنضبط بضوابط قد يكشف أيضاً عن (الشيء في ذاته وجوهره) كما يوجد طريق آخر هو (الشهود المباشر) للشيء، ولكل ذلك تفصيل لعلنا نتطرق له في كتاب قادم بإذن الله تعالى .
ولنلاحظ علم الطب أيضاً إذ هناك نوافذ وقد تكون ظنية إلا أنها معتبرة ولها ضوابط، فمثلاً نلاحظ - وهذه إشارة لطيفة في حدِّ ذاتها لها جانب
ص: 125
موضوعي ولها جانب طريقي – أن الطب الحديث انطلق علمياً وتكنولوجياً انطلاقة جيدة، ولكن ظلّت انطلاقته (الطبيعية) ضعيفة، ولو جمع العلم بين الطب الشعبي والطب الحديث لكان الوضع الصحي أفضل بكثير..
وهنا تحضرني قصة معبرة، أحد أصدقائنا يقول: ذهبت إلى الهند، وهناك سمعت أن هناك طبيباً يكتشف الأمراض بشكل عجيب بمجرد جس النبض، يقول: ذهبتُ إليه وسألته عن السر، فقال: إن هذا النبض عند ما أضع يدي عليه أحس بسبعين نوعاً من ضرباته، إن النبض ليس شيئاً عادياً، (بل إن الله تعالى جعل فيه قوانين، وجعل إليها طرقاً، وهنالك نوافذ، وكلما تعرفت عليها أكثر تطابق (الشيء لذاته) مع (الشيء كما يبدو لي) ).
يقول صاحبنا: وقد جربت ذلك الطبيب إذ كان يضع إصبعه السبابة على موضع النبض وكان يكتشف أمراضي واحداً بعد الآخر، فيقول: أنت عندك الدسك في الظهر، (ما ربط الدسك بالنبض؟ هناك ربط ولكن الجاهل بالنوافذ لا يدري) وعندك في الكلية كذا، وفي الكبد كذا..
يقول: سألته كيف وصلتَ إلى ذلك؟ قال: في البدء أنا درست كثيراً في الطب القديم، ثم قمت بتجارب كثيرة، وإضافة إلى ذلك ولكي يكون أصبعي حساساً جداً وضعته في دهن معين كل ليلة عندما أنام لمدة سنة كاملة، ولذا عندما أضع هذه الإصبع على النبض اكتشف نوع النبض، واكتشف نوع المرض، من الاهتزازات الخفية وأنواعها وغير ذلك.
إن الله سبحانه وتعالى قد جعل للحقيقة في عالم الطبيعة نوافذ، كما جعل كذلك نوافذ لعالم الشريعة، مثل علم الأصول وعلم الدراية والرجال وعلم المنطق وعلم الكلام.
فعلم الأصول مثلاً هو العلم الذي ينظم القواعد العامة التي تمكن الفقيه من استنباط الحكم الشرعي، وبدونها سيفتقد المرء البوصلة، ويكون كطبيب لم يدرس الطب، وسيكون مخطئاً وإن أصاب اتفاقاً.
ص: 126
وبالتالي هناك ضوابط عقلائية وشرعية للاستنباط يجب الالتزام بها مثل حجية الظواهر، وحجية خبر الواحد، ومعرفة قواعد باب التزاحم وباب التعارض، وغيرها من القواعد كما هو مفصل في محله.
ونعود مرة أخرى إلى هذه المقولة فنضيف: بناءً على ما تقدم لا يمكن قبول هذه المقولة (أن دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة) لأن هذه المقولة تؤسس لمطلق الفهم الفوضوي، وتستبعد أي نوع من الفهم المنظم الذي يرتكز على منهجيات خاصة منضبطة وعلمية، فلحظة الاعتراف بالمنهج العلمي في المعرفة هي ذاتها اللحظة التي تحاكم فيها أفكار الآخرين بناءً على تلك المنهجية، بالتالي لا يصح القبول أو السماح بمطلق الفهم طالما هناك سبل علمية وضوابط وقيود موضوعية لعملية الفهم والمعرفة، وإذا حاولنا أن نصحح هذه العبارة بناءً على هذه الملاحظة يمكننا أن نقول (1): (إن دين كل أحد هو عين الفهم المقنّن والمنضبط للشريعة) وذلك يعني أن هناك واقعاً محفوظاً للشريعة وأن هناك طرقاً متاحة شرعية وعقلية للوصول إلى تلك الحقيقة يجب الالتزام بها حتى يعرف الإنسان شريعة الله ومراده، ويكون بذلك قد ابتعد عن رسم دين خاص به لا يصح نسبته لله. ويبقى مع ذلك أن هذا الدين الذي هو حجة عليه، قد يكون مطابقاً للدين الواقعي، فهو منجز، وإلاّ فهو معذر.
وبذلك نعرف (إن دين كل أحد) يختلف عن (إن دين الله)، والصحيح حقاً أن يقال: (إن دين الله هو ما أنزله الله على رسوله، وهو ما في اللوح المحفوظ، وهو ما بيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه (عليهم السلام) أما (كل أحد) فإن ما يناله من الدين إن كان صحيحاً وواقعاً فدينه هو نفس دين الله، وإن كان مخطئاً
ص: 127
فدينه ليس دين الله الواقعي، نعم هو معذور بشروطه فهو (حكم ظاهري في حقه) وليس ديناً واقعياً، ويمكن التعبير مسامحة ب (إنه دين الله الظاهري في حقه) هذا إذا كان غير مقصر في المقدمات، وكان قد سلك السبل العقلائية التي أمضاها الشارع للوصول إلى الشريعة والدين، وإلا لم يكن حتى (ديناً ظاهرياً) أو حكما ظاهرياً.
ولنوجه سؤالاً لأصحاب هذه النظرية: لماذا خصصتم (الشريعة) بهذه النظرية، وفتحتم الباب فيها لكل فهم، سواء أكان فهماً منهجياً أم لا، وسواء أكان فهم المتخصص أم لا؟ فإذا كان من حق الإنسان أن يفهم كما يشاء ويعتبر هذا الفهم هو عين الواقع والحق، فلماذا لا نفتح هذا الباب في كل العلوم والمعارف، فيكون فهم الإنسان في الطب، وعلم النفس والقانون... هو عين الطب وعين علم النفس وعين القانون، وهكذا؟ وهل يستقر حجر على حجر بذلك؟ وهل يقبل شخص عاقل ذلك؟ كلا، لأن من الواضح أن هناك واقعاً لعلم الطب والقانون وغيرها من العلوم وقد يكون (الفهم) مطابقاً لذلك الواقع وقد يكون مخالفاً، فكما لا يحق لإنسان ليس مختصاً في علم الطب أن يمارس مهنة الطب، كذلك لا يمكن أن يقبل أن يكون الدين وما أراده الله من البشر وما وضعه من مناهج ودساتير وأحكام، هو عين ما يراه الإنسان ويريده وإن كان فهمه غير منهجي ولا على الأصول والقواعد العقلائية، وكما أن هناك ضوابط ومناهج خاصة توصل الإنسان إلى علم الطب، كذلك توجد هناك مناهج في المقابل توصل الإنسان إلى فهم الشريعة فهماً مطابقاً للواقع مائة بالمائة أو في أغلب الأحيان..
كما أن هذه الدعوى (1) تخالف ما اتضح من قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ الكاشفة عن وجود صراط واحد ومحدد يجب على المكلف البحث عنه، وأن هناك (هداية) إليه محددة، لا بد من طلبها من الله تعالى والقول (أن
ص: 128
دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة) يعني وجود صراطات لا حصر لها تتعدد بعدد نفوس الخلائق، فكل صاحب دين مسلم أو يهودي أو مسيحي أو بوذي أوحتى اللاديني، فدينه هو عين فهمه للدين، وهذا يعني أن كل هذه الاختلافات والتناقضات هي حق، ما دام الجميع محقاً في فهمه، وكما يعني مصيرهم جميعاً إلى الجنة في نهاية المطاف، وهذا الأمر مخالف للبديهة العقلية ومخالف للآيات الكثيرة الدالة على وجود جنة ونار، وللآيات الدالة على ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الَّحقْ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ (1) ؟ و﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ (2)، فلا يحق للإنسان أن يصطنع لنفسه ديناً، أو يتخذ من نفسه وهواه إلهاً ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ا تَخَذَّ إِلَهَه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ (3).
وهذا الأمر شبيه بالذي يخالف قوانين الدولة (4) ويحاول التهرب من العقوبة بقوله (القانون هو عين فهمي للقانون) وللقاضي فهمه الخاص ولي فهمي الخاص أيضاً، وبالتالي على أي فهم يمكن محاكمته، ما لم يكن هناك فهم محدد ومنضبط؟
إن من الواضح أن هنالك واقعاً محفوظاً هو دين الله، أو هو القانون، أو هو ما يُصلح الجسد أو يُفسده في علم الطب، أو هو ما يسبب حركة الزلزلة، أو كشف حركة الزلزلة في علم الجيولوجيا، أو ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ (5)في علم الفلك، وهكذا هنالك حقائق في الخارج والوصول إليها متاح في الجملة، وأما ما أغلق فيه طريق العلم فطريق الظن فيه مفتوح، والظن هنا هو الظن المعتبر الذي يعدّ حجة، وهو كل الظنون الممنهجة التي تسير على طبق القواعد.
ص: 129
والحاصل: إن الذي يكوّن لنفسه فهماً للدين بناءً على الأوهام والأحلام والأهواء، فإنه لا يقبل منه لأنه لم يسلك الطرق العقلائية والمناهج العلمية، فلا مؤمّن له من العقاب ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَير الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاْسِرِينَ﴾ (1)وحتى الذي يمارس عملية الاجتهاد ضمن الضوابط المعروفة فإنه يجب عليه أن يبذل الجهد حتى يخرج من دائرة التقصير، ذلك أن المقصر غير معذور إذا أخطأ الطريق ولم يصيب الواقع، أما القاصر الذي تجاوز الأمر إمكاناته فإذا وصل إلى قناعة مخالفة للواقع ولكن بعد أن استفرغ الوسع بينه وبين ربه ومشى على طبق الطرق العقلائية الطبيعية ولكنه مع ذلك لم يصل للحقيقة؛ فإنه معذور، ولكنه لا يذهب للجنة أيضاً، بل يعاد امتحانه يوم القيامة من جديد حسب المستفاد من بعض الروايات الشريفة، فلو اجتهد إنسان وسلك كل الطرق المنهجية وتوصل إلى أن هناك شريكاً للباري فهل يدخل الجنة والحال هذه؟ والله تعالى يقول:﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمنِ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْترَىَ إِ اْثًما عَظِيماً﴾ (2) (3).
لكن الإنسان الجاهل القاصر يمتحنه الله تعالى يوم القيامة من جديد ليريه الحقيقة فإذا آمن بها دخل للجنة، وإذا لم يؤمن بها دخل للنار، فإذا كان الأمر إلى هذا الحد فما بال الذي يقول: (إن ديني هو عين فهمي للشريعة)، سواء كان مقصراً أم قاصراً في المقدمات؟
والخلاصة: إن هناك واقعاً لهذا الدين سواء توصلنا إليه بهذا الفهم أم لم نتوصل، فمن سعى لفهمه كما هو وضمن الشروط وأخطأ فهو معذور إذا لم يكن مقصراً، لكن لا تتغير الحقيقة بذلك ولا تتحول الحقيقة إلى ما تصوره
ص: 130
هو بنفسه، لأن الواقع يبقى كما هو.
ولنمثل هنا بمثال واضح الدلالة، فإننا نرى اليوم كثيراً من الخرافات (والكثير من الناس في الشرق أو الغرب مبتلون بهذه الخرافات)، فهل هذه الخرافات يمكن أن تعد طريقاً للحقيقة.؟ فبعض العرب في القديم كانوا عندما يريد أحدهم أن يخرج للسفر فإذا وجد صدفة على قارعة الطريق أو عند باب المنزل أو غيره تمراً ملقى و مقصاً مفتوحاً بالقرب منه، كان يتشاءم، لأنه يفسره ب (لا تمر) مع عدم وجود أي علاقة بين المقص المفتوح والتمر وبين هذه النتيجة، ولا يمكن معرفة الواقع واكتشاف الأخطار عبر هذه الخرافات.
والآن نجد في الغرب أنهم يتشاءمون من رقم 13 ، لذا فإن بعض العمارات والبنايات عندهم لا يوجد فيها طابق 13 بل الرقم يقفز من الطابق الثاني عشر مباشرة إلى الطابق الرابع عشر، وهكذا يتشاءمون منها، وهي خرافة كما هو واضح، فهل السكن في الطابق 13 يولد الشؤم ويستجلب البلاء لمجرد أن (فهمهم) هو كذلك؟
وبعض الناس في مصر القديمة كانوا يتصورون أن الله سبحانه وتعالى عندما يغضب يأمر النيل بالطغيان فكي يرضوا الله في دينهم (هذا الذي يقول دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة هل يقبل هذا الكلام منهم؟)
فإنهم يقدمون له القربان!، والقربان فتاة بريئة تلقى في نهر النيل فالله عندئذ سيرضى عنهم!. فهل هذا الفهم المنحرف، عن طريقة إرضاء الله تعالى يتحول إلى طريقة إرضائه بالفعل لمجرد أن قوماً (فهموا ذلك) وإن (فهم كل أحد للدين هو عين ذلك الدين)؟!
ص: 131
نقول لهم: إذا كانت النسبية حقيقة ثابتة لا مخرج منها، فلابد أن تكون كل المعارف والحقول العلمية نسبية، ولكننا لا نجد للنسبية أثراً إلا بعد أن يكون الكلام عن القرآن وشريعة الإسلام، حيث يسمح عندئذ للجميع أن(يفهم) بدون ضوابط، وأن يتحدث عن الدين كما يشاء، حتى الجاهل يحق له أن يستنبط من القرآن ما يشاء، وما يفهمه هو الصواب وهو صراط مستقيم.
وهل يقبل هؤلاء (فهم) أولئك الذين فهموا من شريعة الله سبحانه وتعالى أنه يغضب بتلك الطريقة (فيضان النيل) ويرضى بتقديم ذلك القربان البريء؟
وذاك الآخر - أحد الملوك الطغاة - عندما حضرته الوفاة أمر بأن يأتوا بسبعين فتاة مسكينة من أجمل الفتيات ويدفنوهن معه، وأمر بسبعين جواداً وحصاناً بأن تدفن معه، لأنه كان يعتقد (وهذا دينه ودين كل أحد هو عينفهمه للشريعة!) أنه عندما يدفنوه سيحيى في القبر أو المحشر، فإذا أحيي سيكون غريباً هناك ويحتاج إلى الحصان حتى يمتطيه في صحاري المحشر، ويحتاج إلى زوجات، وسبعين زوجة هن الحد الأقل الذي يُرضيه!.
إذا كان هذا الطاغوت يعتقد هكذا، فهذه كانت عقيدته حقيقة، أي بكل وجوده كان مقتنعاً بذلك.. فهل هو معذور لأن (دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة)؟
إذن هذه المقولة وكل دعوات النسبية فإن نتيجتها والمقصود منها عن قصد وعمد أو عن جهل وغفلة تحريف مسار الرسالة المحمدية الخالدة، وفتح الباب أمام كل متلاعب ليفسر القرآن كما يشاء ويهوى، وليمتلك تفسيره (غطاءً شرعياً) أيضاً وهذا الغطاء هو (نسبية اللغة والمعرفة) و(الهرمنيوطيقا)!.
ص: 132
وفي الخاتمة لابد أن نشير إلى أن العلاقة بين (قوة الشيء وضعفه) تتصور على الأنحاء الأربعة التالية:
1. أحياناً تكون قوة الشيء في ضعفه (1).
2. أحياناً تكون قوة الشيء في قوته..
3. أحياناً يكون ضعف الشيء في ضعفه..
4. وأحياناً يكون ضعف الشيء في قوته.. هذه الصور الأربعة كلها
موجودة في العالم الخارجي، كما أن لها فروعاً وتفريعات عديدة، والحديث عنها يستدعي مبحثاً خاصاً، ولعلنا سنفرد له دراسة كاملة، إلا أن المقصود في هذه العجالة أن الذي يقول بنسبية المعرفة تصور صورة واحدة فقط فانطلق في حديثه متصوراً بأنه أدرك الحقيقة كلها، والحال أن الصور أربعة ولكل منها مصاديق وأحكام تختلف عن الأخرى.
ص: 133
ص: 134
أشرنا في معرض البحث السابق إلى نظرية كانط في المعرفة (1)، وكيف يمكن أن تؤسس للنسبية، حيث ترتكز تلك النظرية على التفريق بين (الشيء لذاته) و(الشيء كما يبدو لنا) (2)، فهناك نوع من الصلة بين الإنسان كذات عارفة وبين الموضوع المراد معرفته، وبذلك تتحقق المعرفة وتتشكل الروابط بين الإنسان وبين الموجودات الأخرى، ولكن تلك الصلة لا تمثل وسيطاً أميناً لنقل الموضوع كما هو في الخارج، وإنما تتدخل النفس وما تحمله من تصورات لتقوم بعملية تلوين الخارج بما ينسجم مع هذه النفس، ومنها تنعكس المفارقة بين (الشيء كما يبدو لنا) وبين (الشيء كما هو في الواقع)أي الشيء لذاته وفي نفسه.
تمثل هذه النظرية الجذر الفلسفي لكثير من النظريات النسبية، بوصفها
ص: 135
النظرية التي تعطي للذات الإنسانية الهامش الأكبر من المعرفة (1)، بحيث تتقلص الموضوعية إلى درجة يمكن الحكم عليها بالاستحالة، فالهرمنيوطيقا في بعض مدارسها (2) مثلاً تفتح الباب أمام المؤول وما يحمله من أفق ثقافي لكي يفهم النصوص بعيداً عن أي معنى يمكن أن يكون له وجود سابق في النص، وبالتالي التعامل مع النص بناءً على نظرية موت المؤلف، وهكذا فكل نظرية معرفية تجعل للذات الأهمية في قبال الموضوعية، ترجع بشكل أو بآخر إلى التفريق الذي أسس له كانط بين الشي لذاته والشيء كما يبدوا لنا.
وبتعبير آخر هناك فارق بين عالم العين، وعالم الذهن، و بين عالم الثبوت، وعالم الإثبات..أي أن هناك فارقاً بين الحقيقة، وبين العلم بها، أو الجهل المركب بها..وهكذا ترتكز النظرية على الفارق بين العالمين، إلا أنها تجعل المحورية لعالم الذهن والقبليات الفكرية والخلفيات النفسية.
ونحن الآن لا نريد الدخول في البحث الفلسفي لحقيقة العلم،وأقوال الفلاسفة القدماء والجدد، والحكماء، والكلاميين، والإسلاميين، المتعددة حول حقيقة العلم وأنه من مقولة الكيف؟ أو من مقولة الإضافة؟ أو من مقولة الانفعال؟ أو غير ذلك؟ كما سوف لن ندخل في تفاصيل الآراء حول: ما هي علقة الوجود الذهني بالوجود العيني؟ (3).
فقد تطرقنا لبعضها في بحث الأصول، وفصلنا هنالك الأقوال بين منكرٍ للوجود الذهني، وبين من يقول بالأشباح، أو يقول بالتفريق بين القيام والحلول، أو يقول بالانقلاب الماهوي للأشياء بعد الحصول في الذهن، وغيرها من الأقوال، كما أن للفلاسفة الجدد وجهات نظر مختلفة مع بعضهم
ص: 136
البعض ومع ما هو مطروح من القدم، بحيث يصل الخلاف إلى أن ينقض بعضهم كلام البعض الآخر.
فهناك في مقابل نظرية (كانط)، نظرية (جون لوك) والماديين من جهة، ونظرية (هيجل) والديالكتيك،أو الجدل من جهة ثانية،وهناك نظريات كثيرة فلسفية أخرى في هذا الحقل بالذات،تبحث عن هذه المسألة؛ ما هي علقة الذهن بالخارج؟
فلنترك هذا البحث التخصصي لمحله من الكلام والفلسفة، أو بحث القطع من الأصول، ولكن لنتوقف عند النظرية بنفسها ل (كانط)..
وفي الواقع فإن كلام (كانط) أكثر تفصيلاً من هذا الذي نقلناه عنه )الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا(، ولكننا سنتوقف عند بعض مفاصل كلامه فقط، ونحن عندما نستعرض بعض النقاط لأفكاره سنجد خمسة نقوض من كلامه على نفسه،هذا عدا نقوضنا عليه وإشكالاتنا وأجوبتنا،فالذي وجدته أن نفس كلامه ينقض بعضه بعضاً والذي سجلته عليه عشرة نقوض ولكن سوف نقتصر في هذه العجالة على خمسة فقط..
وأما رؤوس نقاط كلامه فهي:
1.(النومن) و(الفنومن) (1)
النقطة الأولى: هناك حقيقة في الخارج؛ إن شئت فسمها الحقيقة المطلقة كما سماها (جون هيك).
وكما أن الاعتراف بإنكار الحقيقة الخارجية يعدّ مفارقة محدودة للفكر
ص: 137
السفسطائي الذي ينكر وجود أي حقيقة في الخارج من الأساس(1) كذلك الاعتراف بالنسبية فإنه يشكل مفارقة محدودة، للتشكيك الذي تثيره النسبية الذاتية في إمكانية الوصول إلى نفس هذه الحقيقة (2)، فالنتيجة واحدة بشكل أو بأخر.
والحاصل: إن النسبية الذاتية تعترف بوجود حقائق في الخارج، فهناك حقائق عينية موجودة في الخارج، هذه الحقائق في ذاتها، وفي نفسها لها وجود، مثل الحائط له وجود في نفسه، له وجود في حدِّ ذاته، سواء علمتَ به أم لم تعلم به.. وكذلك الأشجار والبحار، وكذلك الأفلاك والمجرات، والله موجود علمتَ به وبعدله وبسائر صفاته الثبوتية الجمالية والجلالية أم لم تعلم به، وهكذا الرسل موجودون علم بهم الإنسان أم لم يعلم؛ الحُسن والقبح العقليان موجودان علمتَ بهما أم لم تعلم، )وهذه توضيحات لأصل كلامه(.
يقول: هنالك للأشياء حقائق في حد نفسها يسميها )النومن( في مقابل )الفنومن(، فإذاً الشيء في حد ذاته له وجود واقعي خارجي.. علماً أنني لا أريد أن أتوقف عند نقطة فلسفية؛ هي أن الحقائق على أقسام..
• فمنها حقائق عينية..
• ومنها حقائق انتزاعية..
• ومنها حقائق اعتبارية لأن الاعتباريات هي حقائق أيضاً..
وهناك فوارق بينها، توضح قصور تفريقه بين (الفنومن) و(النومن) (3).
ص: 138
والنقطة الثانية؛ أنه لنا نحن أيضاً إدراكات معينة عن تلك الحقائق الخارجية، فأنا أفهم هذا الحائط بشكل من الأشكال، وأفهم وجود المجرة، وأفهم وجود الله سبحانه وتعالى، وأفهم أن الظلم قبيح وأن العدل حسن، وأن الإحسان حسن وما أشبه ذلك..فالحقيقة موجودة ولنا نوع من الإدراك لتلك الحقيقة..
النقطة الثالثة؛ تلك الحقيقة الخارجية مستترة خلف سلسلة من الظواهر، ونحن لا نرى إلا الظاهر فقط، فالذي أراه من هذا الحائط ظاهر الحائط وأما عمق الحائط فلا أراه حتى إذا كسَّرت الحائط فإنني لا أرى (عمقه وباطنه) بل نرى الشكل واللون فقط، فما الذي تراه من التفاحة.؟ لا ترى منها إلا لونها وشكلها وطعمها ولكن عمق التفاحة (أي باطنها) ما هو؟ لا ندري.. ومشكلة (كانط) ليست في الرؤية البصرية بل في (الإدراك) أيضاً، إذ هو يرى بأننا (لا ندرك) باطن الأشياء، (تفاحة كانط أم حقيقة ميتافيزيقية) أصلاً.
الحقيقة في حدِّ ذاتها أمر موجود خارجي، وهي مستترة في جوهرها، ولبّها، وعمقها عنا، و لا نعرف منها إلا الظواهر، من شكل، وطعم، ولون وما أشبه ذلك.
النقطة الرابعة؛ يقول (كانط): هذه الحقيقة الكامنة التي هي (النومن) هي العلة (للفنومن)، أي ذلك الواقع الخارجي الثبوتي هو العلة لتلك الظواهر، فالظواهر تعود للبواطن، والبواطن علل للظواهر.. فإن هذا المظهر الخارجي
ص: 139
لا يستطيع أن يكون في الفراغ، بل إنه يستقر في شيء مادي، فهناك مادة قد تشكلت، أو قد تصورت، أو قد تلونت بشكل مع .َّني. وهذه المادة هي علل تلك الظواهر.
النقطة الخامسة: إدراكنا لتلك الحقيقة متلون بقناعاتنا الفكرية المسبقة، وبأفكارنا وبالظروف المحيطة بنا، وبحالاتي النفسية، فإدراكي للحقيقة ليس شفافاً صافياً،وبتعبير آخر ليس كالمرآة التي تكشف الحقيقة مائة بالمائة، وإنما هي مرآة ملطخة بألوان، فالحقيقة تنعكس فيها مشوهة، مغبرّة, متغيّرة ..
فمعرفتنا للأشياء هي مزيج إدراكنا لتلك الحقيقة، ومن التلوينات التي تضفيها النفس على الحقيقة المدرَكة من القناعات الفكرية المسبقة، وما أشبه ذلك..
أي أن ثلاثة أشياء تفاعلت فصنعت المعرفة الإنسانية،هي:
• هناك واقع خارجي قد وصل إلي بطريق ما كطريق الحواس أو غيرها من الطرق.. (علماً بأن بواطن الحقائق لديه، لا تصل للإنسان عن طريق الحواس لذا فإنها ليست مدرَكة لنا).
• وهناك لدينا معرفة وهذه المعرفة، ليست هي عين الوجود الخارجي
• وهناك تلوين نفسي لهذه المعرفة..
فالنتيجة (معرفة) هي وليدة 1. الداخل (النفس) و 2. الخارج (الحقائق)، أي هي معرفة هي حصيلة مجيء الخارج للذهن 3. زائداً التلوينات بالمسبقات الفكرية والخلفيات النفسية.
هذا موجز كلامه مع بعض التوضيح منا، وقد استعرضنا منه خمس نقاط، لكن كلامه ينقض بعضه بعضاً:
ص: 140
إذ توجد هناك قاعدة تقول: (الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية) (1)فالقول (لا أحد في الدار) موجبة كلية والقول (زيد في الدار) سالبة جزئية وهي ناقضة لتلك الموجبة الكلية.
فأولاً: نقول: إن قاعدة (النقائض) تنطبق على نظرية كانط:
يقول:(الشيء في حدِّ نفسه) ولكنه هو ما لا يمكن إدراكه حسب رأيه، إذ الحقيقة المطلقة لا ندركها،لأن الحقيقة المطلقة في (حد ذاتها) شيء و(هي كما تبدو لي) شيء آخر، فإن الشيء كما يبدو لي يعني بتلوين نفسي وقناعاتي المسبقة والضغوط الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية فتتصور لي الحقيقة والشيء بشكل معين غير ما هو عليه في الواقع.
أ: إذن هو بنفسه يذعن بأن الشيء في حدِّ ذاته لا نستطيع أن ندركه، إنما المدرَك لنا هو الشيء كما يبدو لي فقط، والتناقض واضح في هذه المقولة لأنها ترتكز على علمه بالشيء في ذاته ونفسه وحكمه عليه بهذا الحكم، وذلك لأن الحكم على شيء هو فرع إدراك ذلك الشيء، إذ كيف تحكم على شيء بحكم وأنت لا تعرفه بالمرة؟ فقد أدرك أن هنالك (نومنا)، ومن ثم يقول حظ الإنسان من إدراك الخارج ليس هو (النومن) بل هو (الشيء كما يبدو لي) أو الفنومن فقط.
نقول له: فمن أي طريق حصل له العلم بوجود (شيء في حد ذاته) مع أننا (لا نستطيع أن ننال الحقيقة بنفسها)، و(الحقيقة بنفسها مستترة) و(حظ الإنسان من معرفة الخارج هو الحقيقة المتلونة، المتشكلة، بأشكالنا النفسية،أو الفكرية)؟.
ب: ثم ما دام الأمر كذلك فعندما يريد الإنسان التعرف مثلاً على
ص: 141
أصل وجود الله تعالى (1) أو كونه واحداً أحداً، أو كونه مجرداً أو متشكلاً بشكل بشر، أو بقر والعياذ بالله أو سائر صفاته الجمالية كالقدرة والعلم، والجلالية كعدم كونه جسماً (2) فإنه في الواقع لم يتعرف على الحقيقة في ذاتها أبداً وبأي وجه من الوجوه، إذ الحقيقة أي الشيء في ذاته لا يستطيع البشر أن ينالها، وبالتالي لا تصبح هناك حقيقة توحيدية واحدة يرجع الجميع إليها،
بل كل مذهب يصور الله كما يناسبه، فالمسيحي الذي قال: الله ثلاثة، وعابد البقر الذي يقول الله هو البقر والعياذ بالله، كل له سهم من الحقيقة، لأن الحقيقة جاءت هنا فتشكلت في نفس الآخر بشكل البقرة والعياذ بالله وتشكلت في نفسه بشكل ثلاثة، وتشكلت في نفس المسلم بشكل واحد، ولا يستطيع أي واحد منا أن ينسب معارفه بشكل مطلق للحقيقة،كأن يقول:
الحقيقة أدركتها أنا .. وذلك لأن ما يمكن إدراكه شيء ملوث، مشوه، فلا يحق للمسلم أن يقول: الله واحد، وإنما يفترض أن يقول: أنا يبدو لي أن الله
واحد، والآخر يرى شكل بقر، وهذا يرى شكل حجر فيعبده، وذاك يرى ثلاثة، وذاك يرى (اليزدان) و(الأهرمن) آلهة الخير والشر، وهذا يرى الإلهعادلاً، وذاك يرى الإله ظالماً، والعياذ بالله.
والحاصل: إن الحقيقة في الخارج لا يمكن إدراكها بحسب تفريق كانط، وإنما هي تابعة بشكل مطلق لذات الإنسان المتغيرة والمتبدلة والمختلفة، وبالتالي ذلك يستلزم نسبية بلا حدود، يخالفها صريح الوجدان .
قالوا: لا يستطيع أي شخص أن يدعي أن الحقيقة المطلقة ملك له، ولا
ص: 142
يمكن أن توصف جهة بأنها على الحق والأخرى على باطل، فالحقيقة تأبى أن نعرفها بأي شكل من الأشكال، وكل ما يمكن معرفته هو الحقيقة الملونة والمتشكلة بحسب النفوس.
ونقول: إن التفريق الذي أسسه كانط بين الشي في ذاته والشيء كما يبدو لي ولأجلي، يشكل مفارقة جوهرية تؤسس لنقض النظرية، فالقول أن هناك (نومناً) أي حقيقة،أو شيئا في حد ذاته، يؤسس لتساؤل منطقي في كيفية إدراكك أن هناك (نومن) أي (الشيء في حد ذاته)، وهو شيء مطلق، وفي مرحلة معارفنا هناك تلون، وتشكل، وتشتت. فقد لايكون في الواقع (نومن)، بل إن قبليات كانط وخلفياته الفكرية والمعرفية والنفسية هي التي صورت له وجود (النومن) ؟!.
كما أنه في كل قضية أخرى: قد لا يكون الواقع كما تقول، ويمكن أن يكون متعدداً طالما ليس لنا سبيل إلى معرفته، فالله واحد، لأن قوماً تصوروه كذلك، وثلاثة لأن قوماً تصوروه كذلك، والله موجود، وغير موجود، وبالتالي سفسطة بلا حدود.
ومن هنا يمكننا أن نجزم أن هذه النظرية تؤمن بإمكانية معرفة الشيء في ذاته ولو في الجملة، وإن تنكرت له بالألفاظ وفي الكتب، والدليل هو الاعتراف بوجود (النومن) أي شيء في حد ذاته، فإن هذا الوصف راجع إلى العلم بذاك الشيء، وإذا فتح الباب أمام معرفة الشيء في ذاته، وآمنّا بإمكانه ولو في قضية فلا يوجد مانع من معرفته أيضاً في ضمن قضايا أخرى عديدة
ج: يقول كانط: الشيء في حد ذاته (النومن) مستتر وراء (الفنومن) أي وراء الظواهر.
ونقول له: إن هذا حكم على الحقيقة، بل إنه يحكم على الحقائق بشكل مطلق، فعندما يقول كانط (كل نومن) أي كل باطن (فإنه مستتر) وراء ظاهر، فهذا حكم عام ومطلق ولم يقل كما يبدو لي، أو كما أتصور ،أو
ص: 143
يمكن أن يكون رأيي خطأ، كلا بل هو يعتقد أن كلامه صحيح، وأن كلامه مرآة للواقع، والواقع كل واقع
فإنه شيء حقيقي، ولكنه في كافة مصاديقه
مستتر خلف الظواهر، فمن أين لك هذا؟
كما يقول: بأن (النومن) علة ل (الفنومن)، فنقول له: هذا الواقع (أي واقع علية هذا لذاك) كيف أدركته؟ هذا شيء ثبوتي (نفس أمري) من أين لك هذا؟
والحاصل: إنه يعترف بأن الحقيقة المطلقة موجودة،ومن ثم يحكم على هذه الحقيقة بكونها مستترة، كما يحكم عليها بالعلّية أيضاً ولا يرى لتلوينات نفسه مدخلية في هذه الأحكام!.
د: ويقول: بأن الذهن البشري عاجز بنحو لا يمكنه إدراك الواقع كما هو، ولا ينال منه إلا ما كان مشكلاً وملوناً.
ونقول: هذا أيضاً حكم من الأحكام، فكل الأذهان البشرية في كل الظروف، وفي كل الأزمنة وفي أي مكان كنت، يشملها الحكم الذي يصف الذهن بكونه عاجزاً عن درك ونيل )النومن( أي باطن الأمور، وحقائق الأمور.. وهذا حكم على كل الأذهان البشرية، فكيف أستطاع أن يمتلك هذه الحقيقة المطلقة؟
وإن قال: (يبدو لي) أو لعلي أكون مخطئاً، فحينها لا تعتبر نظرية عامة وإنما هي حالة خاصة لا تتجاوز قائلها .
ثانياً: إن الدعاة لهذه النظرية يتصورون أن النسبية تؤسس إلى نزع أسباب
الاختلاف والتناحر بين البشر؛ لأن سبب كل اختلاف يرجع إلى التباين في وجهات النظر، ورؤية كل واحد أنه المحق والآخر هو المخطئ، في حين أن
ص: 144
هذه النظرية تجعل الجميع محقاً، فالمسيحي على حق، والشيعي على حق، والسني على حق، واليهودي على حق، والذي يقبل بوجود الله على حق والجاحد المنكر له على حق..فالكل محق والمعرفة نسبية، والشيء في حدِّ اته لا يمكن أن يدرك، وإنما الشيء كما يبدو لي.. وكل واحد يبدو له بشكل .. ولكن الحق أن هذا تزوير للموضوع وتشويه للحقيقة،إذ الأمر ليس كذلك. بل على العكس تماماً، إذ أن هذه النظرية تحطم السلم الأهلي،وتزعزع استقرار البلاد، وتستلزم الفوضى المطلقة.
توضيح ذلك:
لو أن كل شخص حق له أن يقول: إن المصالح العليا للبلد في حد ذاتها مما لا ندركه كما لا ندرك كل (النومنات) بل المدرَك هو (كما يبدو لنا) فعلى هذا فإن المصالح العليا للبلد هي كما تبدو للحكومة تختلف عما يبدو لي، ف (ما يبدو لي من المصالح) هو الحق بالنسبة لي، فإن الحقيقة تبدو لكم بشكل وتبدو لي المصلحة بشكل آخر، فهل يسمح له بأن يشكل جيشاً في مقابل جيش الدولة مثلاً؟ أو يؤسس وزارة؟ أو يعين قضاة ؟ أو ينصب منفذين؟
أم إن هذا معناه الهرج والمرج واختلال النظام، وفساد الأمور كلها؟
وهل يحق لكل أحد أن يقول: قوانين الدولة تبدو للدولة قوانين
صحيحة، ولكنني يبدو لي العكس تماماً، فلي أن أخرق كل هذه القوانين في السياسة الداخلية والخارجية، والاقتصاد والأسواق والمال، والاجتماع والعائلة وغيرها؟.
ومن المعروف أن دولة إسرائيل غاصبة لحق الآخرين، وهي تمثل تحدياً استعمارياً كبيراً أمام المسلمين، ولكن وبحسب هذه النظرية ليست هناك حقيقة واحدة وإنما الحقيقة متعددة، وبالتالي (يبدو لنا) أن إسرائيل مغتصبة و(يبدو لإسرائيل) إنها صاحبة حق، إذاً معركتنا معها ومع أي غاصب آخرليس لها وجه على هذا الرأي إذ هي على حق! ونحن على حق، فدعهم
ص: 145
يعيشون على أرضنا، ونحن نقبل بفهمهم للحقيقة حسب ما يبدو لهم!. هل يقبل إنسان عاقل هذا الكلام؟
إن هذه النظرية تنسف السلم الأهلي، لأنها تفتح المجال لكل واحد لأن يتلاعب بالحقيقة، فالعدل يبدو لي هكذا، والوفاء يبدو لي هكذا، والغدر أو الكذب يبدو لي هكذا.. وتستمر هذه التداعيات السلبية في كل شون الحياة، حتى على مستوى الأسرة، فهل يصح أن يقول الرجل: أنا أضرب زوجتي، أو ابني، ضرباً جارحاً مبرحاً، بل حتى أقتلهما إن شئت، وهذا يبدو لي أنه هو الحق، وتبدو لي هي المصلحة، فليس من حق المشرع أو المقنن الاعتراض بالقول إن الظلم والضرب والقتل أمر مرفوض وقبيح ويعد جريمة كبرى، كلا لأنني يبدو لي الضرب والقتل حسناً وجيداً.
ولا يخفى: إننا هنا لا ندين النوايا وإنما ندين النظرية، فليس كلامنا حول محاكمة (كانط) بل حول تقييم النظرية، وهذا هو الجانب السلبي في النظرية
فلماذا تغافلوا عنها، وأبرزوا الوجه الإيجابي فقط؟ على ما فيه من المغالطة في حد ذاته!
نقول: هناك حقائق واضحة يتفق عليها الجميع، بحيث لا تستطيع النفس أن تتلاعب فيها، مهما كانت الخلفيات النفسية والمسبقات الفكرية، ذلك أن الله سبحانه وتعالى من حكمته: أن مزج بين الاثنين في عالم الامتحان، فجعل هناك حقائق عصية على التلون، أي أن النفس لا تقدر أن تلونها ولا تشكلها أبداً، بل إنها تخترق الحواجز، وتدخل في ذهن كل بر وفاجر، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (1)، ﴿وَقُلِ اْلَّحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء
ص: 146
فَلْيَكْفُرْ﴾ (1).
فالحق إذن موجود في أعماق النفوس، وإن كفر به أو تهرب منه أو حاول ستره ذلك الجاحد الكافر، ولكنه يبقى موجوداً في نفسه، وتأمل الدقة في التعبير القرآني ﴿وَقُلِ الحَّقْ مِن رَّبِّكُمْ﴾ إذن الواقع والثبوت موجود وحتمي ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ والكفران هو الستر، وما سمي الكافر كافراً إلا لستره للحقيقة.
والحاصل: إن الله تعالى قد فطر البشر على معرفته، كما فطرهم على كثير من الحقائق مثل قبح الظلم وحسن العدل، وبرغم ذلك قد تجد من يحاول ستر تلك الفطرة مع علمه اليقيني بها ﴿جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾ فيحاول أن يبرر لضلاله ولكن ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾(2) أي ولو جاء بالأعذار وتبليس إبليس لكن يبقى الحق في نفسه موجوداً ومعروفاً لديه، شاء أم أبى..
وأؤكد: أن هناك حقائق عصية وأبيّة على التلون بالقناعات أو بالنفسيات أو بما أشبه ذلك،بل الله يغرسها في ذهن كل إنسان شاء أم أبى، لكي تكون عليه الحجة، ولولا ذلك لم تتم الحجة على أحد..
و لعل من أبرز الشواهد على ذلك أنك ترى (المجرم) يصاب بتأنيب الضمير؛
لأن الحقيقة تبدو له واضحة، حتى إذا اختلق لنفسه أعذاراً، وكذلك المحتكر، أو المرابي، أو الذي يتجسس للأجانب أو على الناس الأبرياء، ورغم كل شيء وكل التبريرات والحِجج فإن المجرم في قرارة نفسه يعلم أنه مجرم،ولذا ترى كثيراً من القتلة يأتي برجليه و يسلم نفسه لماذا؟
﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ (3)، أي ولو جاء
ص: 147
بمعاذيره كلها، فإنه مع ذلك يعرف نفسه، وظلمه أو كفره ، أو ما أشبه.
حتى أنك تجد كثيراً من هؤلاء الملحدين ومنكري وجود الله سبحانه وتعالى، في آخر عمره يرجع للحقيقة لماذا؟ لأن (الحقيقة) فطرية مغروسة في نفسه، أبيّة عن أن يغيرها أو يلونها أو يشكلها بأي شكل من الأشكال، نعم تجده آخر الأمر يرجع إلى الحق لأنه مغروس في النفس.
وهناك الكثير من الحقائق الأبية على التلون ولنمثل بأمثلة من معادلاتهم التي يفهمونها.
أ: فمن معادلاتهم في علم الاقتصاد ما أشرنا إليه سابقاً: (قانون العرض والطلب) هل يتلون(1) ؟ إنه قانون حقيقي يؤكد وجود تناسب طردي وعكسي معين بين العرض والطلب والأسعار، إذ كلما زاد العرض وقل الطلب كلما انخفضت الأسعار، والعكس بالعكس، ولا يخفى أن من اللازم أن نُثبّت العاملين: العلة والمعلول (2) كي نكشف التأثير وذلك مع قطع النظر عن مدخلية
العوامل الأخرى، المزاحمة أو المضادة.
والنتيجة: كلما ازداد العرض للبضاعة كالفواكه الكثيرة في الأسواق وزَهِدَ الناس فيها، فإن الأسعار ستنخفض، وهذا أمر بديهي، فهل يستطيع كانط بعبقريته أن يعكس هذه المعادلة على حسب انقلابه المعرفي الكوبرنيكي؟
ب : كما أن هناك قوانين اجتماعية واضحة ممتنعة على التغير أو التلون، مثل: أن الأفراد يمرون بمرحلة طفولة، ثم شباب، فالشيخوخة، هل هذا يتلون بتلون الأفراد وتوزعهم جغرافياً، في أفريقيا، أو آسيا، أو أوروبة؟،
ص: 148
والأمم كذلك والحضارات: تبدأ بمرحلة طفولة، وتمرّ بمراهقة، وشباب ثم ترجع إلى مرحلة شيخوخة.
ج: كما توجد حقائق أخرى كثيرة عصية على التلون، كالإحسان حسن، والظلم قبيح، والعدل حسن، والتعاون على البر حسن، مع قطع النظر عن تحديد المصداق وتشخيصه، وهكذا وهلمَّ جراً، مثلاً: الإساءة إلى الغير بما هي هي سيئة.. والتنازع بما هو تنازع في حد ذاته يُعدّ قيمة سلبية.
إذن هنالك حقائق تعصى على التلون والتشكل وتبقى كما هي هي وتدخل إلى الذهن بلا استئذان.
بل اللطيف أن نفس (كانط) يعترف بهذا حيث يقول: بأن المعلومات الموجود في أذهاننا على قسمين: القسم أول موجود معنا، والقسم الثاني يأتي من الخارج إلينا، ثم المعرفة تتشكل من مجموع هذين (1).
ونحن نتوقف عند الشق الأول من كلامه إذ أنه يقبل بأن هناك سلسلة من العلوم، أو القضايا مودعة في أذهاننا وهي مغروسة فينا وموجودة معنا، فنقول له:هذه الحقائق التي معنا لا شك أنها عصية على التلون والتشكل، فقد اتحد الشيء كما يبدو لنا مع الشيء في حد ذاته .
رابعاً: حتى الحقائق القابلة للتشكل بحسب أهواء النفس أو ظروفها وأطرها أو بحسب المسبقات الفكرية، فإن الله تعالى جعل لها (مرجعية) موثوقة أكيدة، وذلك نظراً لمعرفته بالنفس البشرية ومكامن ضعفها. ونمثل لذلك بمثال تكويني، ثم تشريعي، ثم معرفي..
ص: 149
أ: المثال التكويني؛ المرايا إذا كانت مسطحة مستوية فإنها تعكس الشيء كما هو بحسب حجمه الطبيعي وحسب بُعده، ولكن المرآة إذا كانت مقعرة أو محدبة فإنها تجعل الجسم يبدو أصغر من الواقع أو أكبر، فإن الشيء يكون أصغر أو أكبر بحسب كونها محدبة أو مقعرة أو كونها أبعد أو أقرب، ولذا نجدهم في مرآة السيارة يكتبون: (الأشياء تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع) وذلك يعني وجود مرجعية ومقياس، وصحيح أن هذه المرآة لونت الواقع وغيرته ولكن العقل يرشد إلى أن هذا الواقع الذي تلون بحاجة لتصحيح، كما أنه يعطيك (المعادلة) لتعرف (الحقيقة) بالضبط وأن هذه المرآة مثلاً تصغر الشيء خمسين بالمائة، وعليك نظريا أن تقوم بتكبيره بمقدار خمسين بالمائة لتعرف الحجم الواقعي.
والحاصل: إن الله تعالى يعلم هذه المعادلة وأن القبليات والخلفيات كثيراً ما تلون وتغير الحقائق، فإنه الذي خلق البشر ويعلم ما خلق.. وكما جعل سبحانه لكل داء دواءً، خلق لهذه المشكلة علاجاً أسميناه (المرجعيات) ومشكلة (كانط) أن إطلاق كلامه (أي تعميم كلامه كقاعدة كلية) محل نظر، ونحن لا نقول:أنه ليس هناك شيء اسمه التلون والتشكل أبداً، إذ من الواضح أن الكثير من الناس يتلون تفكيرهم وقد قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لُهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالُهْمَ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ (1).
وبعبارة أخرى: إننا نقبل وجود (التلون) في الجملة، وفي بعض المسائل والمعارف، ولكننا ننكر على النسبيين تعميم النسبية كقاعدة دائمة، ونقول: إن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، والسالبة الجزئية نقيض الموجبة الكلية، وهو يقول: كل شيء يتلون ويتأثر بالقبليات والخلفيات، ونقول: كلا، إذ: أولاً: ليس كل شيء (أي كل معرفة وعلم) متلوناً؛ إذ أن كثيراً من الأشياء
ص: 150
ترد للنفس ولا تتلون أبداً.
ثانياً: إن بعضها وإن كان يتلون ﴿طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ (1)و(ختم) أو ما أشبه ذلك، إلا أن في مواطن التلون نجد أن الله تعالى قد جعل مقاييس ومرجعيات، فإنه كما جعل في عالم الطبيعة مرجعيات، كذلك جعل في عالم المعرفة.
ب: الرؤيا البصرية ترى الخطين المتوازيين يلتقيان على البعد، لكن العقل يقول كلا، لا التقاء أبداً ما دام الخطان متوازيين حقاً، وهذا يعني أن المعرفة
البصرية تلونت والعلم البصري قد تلون بخطأ الباصرة، لكن العقل باعتباره المرجعية قاد عملية التصحيح وأرشدنا قطعاً إلى قاعدة (المتوازيان لا يلتقيان).
ج: كما أن الباصرة ترى البعيد صغيراً كالسفينة في البحر والنجم في السماء، ولذا نرى الشمس صغيرة وهي أكبر من الكرة الأرضية بمليون وثلاثمائة ألف مرة تقريباً .
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى لأنه يعلم مدى محدودية البشر في حواسه الظاهرة، وفي حواسه الباطنة، وفي قدراته العقلية، ويعلم أنه يتلون أو يخطئ فجعل هناك (مرجعية) .
•مرجعيات باطنية في الداخل وهي العقل، والفطرة ، وملائكة القلوب
•ومرجعيات ظاهرية هم الأنبياء والرسل والأوصياء (عليهم السلام) وفي هذا العصر هو
ص: 151
سيد الكائنات الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
فبما أن الإنسان معرّض للهوى الذي يغير ويلون له الحقائق كذلك، وبما أن غالب الناس أسرى الخلفيات الفكرية والمعرفية، فقد جعل الله له مرجعية داخلية وهي العقل والفطرة، والملائكة، وأحياناً الإلهام وجعل مرجعية خارجية فلابد إذن من رسول أو وصي له، إذ أن نفس البرهان الذي يدلعلى وجوب وجود الرسول،يدل على وجوب وجود الإمام. وهو البرهان المسمى ببرهان (اللطف) (1).
وهذه الخمسة (2) هي المرجع والمحك الذي يصفّي المعرفة الخاطئة من الصحيحة، تارةً من حيث يشعر المرء وأخرى من حيث لا يشعر ظلمنا أنفسنا فحُرمنا مرجعية ولي الله (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وإذا عرفنا ذلك سنعرف كم ظلم البشر أنفسهم بحرمانهم أنفسهم من هذا الفيض الإلهي العظيم، إذ غاب عنهم الإمام والمرجع الإلهي الأعظم، وذلك لأن المشكلة أننا لا توجد لدينا قابلية.. هذا البشر بهذا الوضع من الظلم والانحراف والجهل والابتعاد ليست له قابلية للاستفادة من ولي الله الأعظم أو الاستضاءة بنور الله سبحانه وتعالى كي يتجلى لهم.. وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لُهُمَ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ (3).
إن مشكلة البشر (الظلم) للنفس، وللأهل، وللجار، وللشريك، وللبعيد، وللقريب، وللعدو، وللصديق.. ثم إنه بعد ذلك لا يستغفر الله حقاً ولا يتوب إليه صدقاً.
ص: 152
ولكي نعرف حقا أننا لسنا بمستوى عهد الظهور وأننا لا قابلية لنا لاحتضان ذلك النور الإلهي، لنراقب حركة فكرنا اليومية، ليل نهار، كم نفكر بالأئمة الأطهار عليهم سلام الله، وبصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبعظيم حقوقهم علينا، وخطير نعمهم إلينا؟
وكم فكرنا في تطبيق تعاليمهم ومناهجهم في شتى مناحي الحياة؟ وكم فكرنا في ظلاماتهم وحقوقهم المضيعة، وكم عملنا على استرجاعها؟ أننا لا نفكر في البقيع، ولا نفكر في سامراء، ولا نفكر في مختلف حرمات ومناهج وشعائر وأوامر أهل البيت (عليهم سلام الله) ولا نفكر في القرآن الكريم الذي تنتهك حرماته، وحرمات كثير من قوانينه في السياسية والاقتصاد والاجتماع والحقوق كل يوم، ومن تلك القوانين: قانون: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾ (1)وقانون ﴿أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (2)﴾ وقانون ﴿يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّ كَانَتْ عَلَيْهِمْ (3)﴾ والتي تؤسس للحريات الإسلامية الواسعة النطاق، وقانون ﴿إِنَماَّ الُمْؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (4)﴾ وقانون ﴿وَ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ اْلُمتَنَافِسُونَ (5)﴾ التي تؤسس للتعددية السياسية وغيرها، وقانون ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (6)﴾ التي تؤسس لإطاعة الإمام المعصوم(عليه السلام) في عهد الحضور والغيبة في كافة مناحي الحياة (7).
ص: 153
إن المشكلة هي أن كل ما نفكر به في غالب الأوقات أو كلها: هو المأكل والمشرب والمطعم والملبس، والمسكن والمنكح والمال والرئاسة والشهرة والمنصب و... ليلنا ونهارنا، ولعل أحدنا باليوم الواحد لا يفكر في المنقذ الأعظم عليه السلام حتى مرة واحدة، وإذا فكرنا فهو بمرور عابر..
ولنرجع إلى محور البحث، فنقول: إذاً باب المعرفة بالحقائق منفتح إما بالمباشرة عن طريق مقياس عقلي داخلي، وإما عن طريق مرجع خارجي لكننا نحن الذين حرمنا أنفسنا من الفيض ومن الاستضاءة، وذلك مثل تلميذ لديه أستاذ عظيم لكنه يتكبر عن الذهاب إليه وسؤاله والاهتداء بهداه.. فيبقى في جهله ويرتطم في ضلالاته، فهذه مشكلته هو وليست مشكلة المعرفة (1)..
ونتوقف هنا للتدبر في كلمة من كلمات الآية القرآنية الكريمة ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وهي كلمة ﴿اهدِنَا﴾، ونسأل ما هو السِّر الكامن وراء هذا الطلب الذي نُلحُّ به على الله سبحانه وتعالى يومياً في صلواتنا وغيرها، كفريضة إلهية؟
أن من الأسباب الأساسية في ذلك أن الإنسان يحتاج إلى هداية الله سبحانه وتعالى، بنحو العلة المحدثة أولاً، كما أنه يحتاج إلى هداية الله سبحانه وتعالى بنحو العلة المبقية ثانياً، وبما أن للهداية درجات ومراتب ولها عرض عريض ومصاديق كثيرة فنحتاجها للزيادة والازدياد ثالثاً..
فهناك ثلاثة وجوه للحاجة إلى طلب الهداية، وهي:
ص: 154
• العلة المحدثة..
• العلة المُبقية..
• الزيادة الكمّية أو الكيفية ..
فالهداية حدوثها وبدؤها من الله تعالى (الخالق)، ثم إن استمرارها وديمومتها منه سبحانه، كما أن الهداية (مُشككة) لها درجات، ولها مراتب ومصاديق كثيرة فنحتاج إلى الزيادة منها زيادة كمية أو كيفية أو حتى جِهَوية و في كل حين..
وبذلك نكتشف الجواب عن السؤال التالي، وهو أن الإنسان عندما يقول:﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وهو يصلي، كيف يطلب تحصيل الحاصل؟ إذ قد تحققت الهداية فيه؛ لأن الذي يُصلي الفرض ويُؤدي أعظم الواجبات يكون قد هداه الله سبحانه وتعالى إلى الصراط المستقيم، فهل يكون طلبه لغواً،أو تحصيلاً للحاصل؟
والجواب: كلا، لا لغوية ولا تحصيل للحاصل، إذ صحيح أن هذا الإنسان قد حصل على الهداية بنحو العلة المحدثة فهو مهتدٍ بالفعل، لكن من يضمن له الدوام والاستمرار؟ وهل إيمانه مستقر أو مستودع؟
ذلك أن الإيمان على قسمين ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾(1)،فبعض الناس تراهم صلحاء لكنهم فجأة وبامتحان في هذه الحياة ينقلب وتزلُّ به قدمه – والعياذ بالله - إلى أسفل جهنم..
والإنسان عندما يقول: ﴿اهدِنَا﴾يُريد الهداية بنحو العلة المبقية أي ديمومة الهداية أيضاً.. وكأن الإنسان ليستشعر الخطر دوماً وأنه وإن كان حتى الآن مهتدياً -ولله الحمد -إلى الإسلام، إلى الدين المبين، إلى ولاية أهل البيت(عليهم الصلاة وأزكى السلام)، ولكنه لا يعرف هل سيتعرض لامتحان
ص: 155
عسير اقتصادي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو غير ذلك يقلب كيانه ويزلزل عقيدته أم لا؟
وما أكثر أولئك الناس الذين تغيروا وتنكروا لدينهم أو لوطنهم ؟
إذن عندما يطلب المرء من الله (الهداية) لو كان مهتدياً كما أن المؤمن مهتد بالفعل فإنه يطلب الديمومة عليها، هذا أولاً.
وكما أنه يطلب الزيادة منها ثانياً، إذ قد يكون الإنسان مهتدياً بنحو العلة المحدثة، ثم إنه استمرت هدايته، واستمر سيره على الصراط المستقيم حتى لحظات الاحتضار والموت، ولكن في كل تلك المراحل هناك درجات فقد يكون الإنسان إيمانه إيماناً عادياً، وقد يكون إيمانه إيماناً قوياً كزبر الحديد؛ وقد تكون هدايته في حقل معين، وقد تكون دائرة هدايته أوسع.
ولنمثل لإيضاح الصورة أكثر بمثال لطيف من الفقه؛ فكتاب َ((جواهر الكلام)) (1) يحتوي ما ربما يزيد على -وهذا تخمين طبعاً -ثمانين ألف مسألة، من كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والخمس والحج إلى المعاملات إلى النكاح إلى الإرث والقضاء وما أشبه ذلك..
وأما ((الفقه)) (2)، موسوعة الفقه للسيد الوالد رحمة الله على صاحب الجواهر وعلى الوالد وعلى علماء المؤمنين جميعاً فإنه ربما تزيد مسائله على 320 ألف مسألة..
وإذا لاحظنا الجانب الكمي، فإننا سنجد الاختلاف الكبير بين الناس، إذ تارة الإنسان يكون مهتدياً إلى معرفة عشرة آلاف مسألة وحكم تكليفي أو وضعي، ولعل بعض الناس لا يعرف حتى مائة مسألة، كما أنه تارةتكون دائرة اهتداء بعض العلماء مترامية الأطراف تستوعب مائة ومائتي ألف مسألة.
ص: 156
كما أن البعض قد يكون مهدياً في حقل الصلاة والصوم لكنه في حقل المعاملات البنكية أو المصرفية يكون غير مهتد أصلاً،أي لا في عقله النظري ولا في عقله العملي..
ولذلك فإننا نطلب من الله سبحانه وتعالى يومياً عشر مرات على الأقل)الهداية( بمعنى توسعة دائرتها ونطاقها وحدودها أيضاً كمّياً، كما نطلب الشدة والعمق والازدياد كيفيَّاً أيضاً، فأمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة وأزكى السلام) يقول: ((لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا)) (1).
وهذه درجة من الإيمان ليس فوقها درجة، وأما سائر الناس فإنهم عادة في درجات مختلفة، كما هو واضح.
ولذا نجد بعض الناس عندما يذهب إلى الغرب ليدرس مثلاً في جامعة (السوربون) أو غيرها، أو حتى إلى دول الحضارة الشرقية؛ أو عند ما يتصفح الانترنت، أو يقرأ بعض الكتب أو يسمع بضع الشبهات، وإذا به يتزلزل إيمانه وتزلُّ قدمه فجأة ليسقط في الهاوية: هاوية التشكيك أولاً، ثم هاوية الانحراف والضلالة، إن مثل هذا الشخص يحتاج إلى التمسك بالدعاء بوعي أعمق، ب ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾..
والمفارقة أننا نجد شخصين يذهبان إلى الغرب ويدرسان في جامعة واحدة، ويختلف موقفهما تجاه ما يتعلمانه من علوم، أو نظريات شتى كنظرية (نسبية المعرفة)
التي نحن بصدد بحثها فأحدهما يستمع إلى هذه النظرية أو إلى مختلف مدارس (الهرمنيوطيقا) والقراءات المفتوحة للنصوص بعدد الأذهان البشرية، فيزداد إيماناً على إيمانه بحقانية القرآن الكريم والرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت الكرام (عليهم السلام) ، وأما الإنسان الآخر، فعند مواجهة نفس هذه النظرية تجده يسقط في شراكها، ويقع في شباكها، ويتخبط في متاهاتها.
إن التعامل بحذر شديد مع أمثال هذه النظريات، باعتبارها مكامن
ص: 157
خطر ومزالّ الأقدام، بل باعتبارها أخطر من مختلف المجاهيل التي يواجهها الإنسان في الصحاري والغابات من جهة، والاستعانة بالله تعالى للهداية والاهتداء، والتدبر في الآيات والروايات، وفي نهج البلاغة والصحيفة السجادية، والاحتجاج وتحف العقول، وكتاب العشرة من البحار وغيره، كل ذلك يجعل الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّا ِلحاَتُ خَير عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَير مَّرَدّاً﴾(1) .
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾(2) .
ومن النافع أن نذكر شاهدين من مجال آخر لكي يكون البحث أعم فائدة:
الإنسان المؤمن إذا حضر في مجلس غيبة، أو تهمة، أو نميمة، أو مجلس ظلم ، أو مجلس دفاع عن حاكم جائر فإن موقفه قد يكون على أحد نمطين هما؛
*الانسياق مع الأجواء؛ بل إن البعض يعتبر: الغيبة فاكهة مجالسهم والعياذ بالله والحال أن الغيبة كما في الرواية ((إدام كلاب أهل النار)) (3) أعاذنا الله وإياكم منها..
*واعتزال المجلس وتركه؛ فبمجرد ما يسمع بعض المقدمات التي تنم عن انجرار الحديث للغيبة أو تأييد الظالم، وإذا بإرادته الإيمانية تتجلى وروح التحدي تتصاعد فيترك ذلك المجلس فوراً مع أنه ربما كان يرغب بشدة؛ لأن النفس الأمارة ترغب في المعصية والنفس بما هي
ص: 158
نفس راغبة وسبحانه وتعالى يقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَ لَهَمْها فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (1). إن هذا المؤمن يجد نفسه في امتحان، بل في معركة كبرى مهما بدت المعصية صغيرة أو مشوّقة فيتحفز لها بشدة، ويشهر أسلحته كلها في مواجهة الشيطان، وذلك كالجندي في الجبهة الذي يطّلِع فجأة على هجوم معادٍ، فإنه ينتفض لمواجهة العدو المهاجم و لا يفكر في الاستكانة أو الخضوع للعدو أبداً، وكذلك المؤمن فإنه في مقابل هذا الامتحان يشهر أسلحته فورا فيقف لهذه الغيبة بالمرصاد فيوقفها أو يمنعها إن كان بمقدوره ذلك، وإلا فسيخرج من المجلس فوراً ولا يشاركهم معصيتهم.
والامتحان الإلهي يتجلى أيضاً في السوق حيث قد تأتي معاملة ربوية مربحة جداً بالمنطق المادي.. أو قد يرى الفرصة سانحة للغش والتدليس، وبأرباح كبيرة جداً، وإذا بإيمانه يتجلى ويتألق، فإن المؤمن كالذهب كلما صهرته بالنار كلما ازداد بريقاً وتألقاً، فبمجرد ما يرى مجالات الربا أو مساحات الغش متوفرة، تتحفز قواه الإيمانية فتمنعه من الاقتراب للحرام، ويبتعد ويفر بإيمانه؛ وفي المقابل تجد شخصاً آخر ينهار ويستسلم لهذا الإغراء الدنيوي المؤقت الذي من ورائه عذاب غليظ.
كان هناك ولي من الأولياء ولعل القضية حدثت في مشهد المقدسة كثير التفكر في ولي النعم، ووسيط الفيض الإلهي على الخلائق كافة، الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكان يبحث باستمرار عن السبل التي تيسر له التشرف بخدمة سيد الكائنات، لأن نظرة واحدة من أو إلى سيدالكائنات للإنسان، قد تحدث فيه تحولاً جوهرياً، وتغييراً كبيراً، ذلك أنه إذا
ص: 159
كان ((النظر إلى وجه العالم عبادة)) (1) كما في الرواية، فكيف بالنظر إلى وجه حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام الثاني عشر، وخاتم الأوصياء، والذي يصلي خلفه عيسى المسيح (عليه السلام) والذي كل الخلائق بإذن الله مرهونة به ومنوطةبإشارته؟ (بيمنه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء).
لهذا كان هدفه الذي يسعى إليه وهو هدف سام ومقدس، كما أنه طريق وبوابة واسعة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى هو الوصول والتشرف بخدمة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف). ولعل المستظهر أنه سلك طرقاً عديدة للتشرف بمشاهدة الإمام عجل الله فرجه الشريف، إلا أنه لم يصل إلى مبتغاه، حتى خطر بباله أنه قد يستطيع أن يصل إلى ذلك عن طريق علم الرمل والإسطرلاب، حيث إن المعروف أن المرء عن طريق هذا العلم ربما يستطيع أن يكتشف بعض المجهولات، كمكان الغائب وموضع الشيء الضائع.
المهم إنه استعان بهذا العلم إلى أن عرف (بعد سماحهم له أي سماح عالم الغيب لهذا الإنسان وإذنهم له) موقع ومكان الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ وأنه في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية، في المكان الفلاني سوف يتواجد الإمام الحجة المنتظر(عليه السلام) .
ويبدو أن هذا الإذن كان لكي تصل الرسالة التالية لنا جميعاً، كما أنها الآن تصل للملايين من الناس، فهذا الرجل الصالح عن طريق الرمل والإسطرلاب ظاهراً، وبعد إذن الله سبحانه وتعالى واقعاً، عرف أن الإمام سيكون في اليوم الفلاني ولعله كان التاسع من المحرم في الساعة الفلانية، في الشارع الفلاني، في المحلة الفلانية، عند المحل والدكان الفلاني، في مشهدالمقدسة..
انطلق الرجل بكل شوق ولهفة نحو ذلك المكان، وإذا به يرى في ذلك
ص: 160
الدكان المتواضع، رجلاً بسيطاً تظهر عليه أمارات الصلاح والورع والتقوى..
في هذه الأثناء شاهد هذا الرجل الباحث عن الإمام (عليه السلام) ، شاهد امرأة عجوزاً كبيرة السن فقيرة مستضعفة، وبيدها قفل قد فقدت مفتاحه، (والقفل بلا مفتاح ليست له قيمة تقريباً)، جاءت إلى هذا صاحب المحل، وقالت له: اشتر مني هذا القفل.. (والقفل وحده قيمته مثلاً فلس واحد أو ريال واحد بالعملة الإيرانية، والمفتاح وحده قيمته فلس واحد، ولكنهما لو كانا معاً فإن قيمتهما ستكون عشر ريالات.. لأن القفل وحده لا ينفع، والمفتاح وحده لا ينفع،ولكنهما لو اجتمعا لكوّنا شيئاً مفيداً ثمنه عشرة.. وهذا امتحان يتكرر باستمرار في الأسواق التي هي محال الشياطين إذ هنالك تزل أقدام الكثيرين)، وكان بمقدور صاحب المحل بكل بساطة أن يشتري القفل بفلس أو ريال واحد ويأخذه منها .. من غير أن يكون ظالماً لها، لأنها القيمة السوقية، لكن الغريب أنه قال لها: هذا القفل قيمته فلس وأنا عندي مفتاحه فما هو رأيك أن أبيع لك المفتاح بفلس واحد؟
قالت: لا أمتلك شيئاً.
قال لها: سوف أبيع لك المفتاح قرضاً، فيكون بحوزتك عندئذ قفل مع مفتاح فتكون قيمته عشرة فلوس، ثم إنني سأشتري منك المجموع بعشرة فلوس، أدفعها لك نقداً، ثم تعيدين لي الفلس الذي أقرضتك إياه ثمناً للمفتاح، فتبقى لديك تسعة..
قالت: نعم؛ فباعها المفتاح بفلس قرضاً في ذمتها وسلمه لها، ثم قال: الآن مادام المفتاح عندك والقفل عندك فقيمتهما معاً عشرة فلوس فتفضلي خذي هذه العشرة فلوس وأعطني المفتاح والقفل وفلسي!!
إن هذا الموقف على بساطته يكشف عن مدى سمو النفس الذي كان يتحلى به صاحب الدكان، وأن الكثير يسقط في المحرمات في دائرة الامتحان، حيث يُبتلى بربا، أو تزوير، أو تدليس، أو ما أشبه ذلك من هذه المعاملات،
ص: 161
أو يتورط ببيع الكالي بالكالي الذي ملأ أسواق البلاد الإسلامية الآن وهو بيع باطل، وهو يعني بيع النسيئة بالنسيئة، بأن يكون كل من الثمن والمثمن مؤجلاً، فإن البيع على أربعة صور، والصورة الرابعة أن يكون كلاهما مؤجلاً وهذا باطل، والمشكلة أن الأسواق في العالم تتعامل كلها به الآن، وهو من أسرار انهيار الاقتصاد العالمي الأخير، وإن مخاطر بيع الكالي بالكالي لم يكونوا يفهمونها إلا بعد الانهيار الكبير في السنتين الأخيرتين، ولكن الله سبحانه وتعالى خالق البشر منع ذلك عبر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أفتى بذلك فقهاؤنا العظام، كما تجد الفتوى في كتاب ((شرائع الإسلام)) (1) أن بيع الكالي بالكالي باطل (2).
المهم أن هذه المعاملة كشفت لصاحبنا عن جوهر هذا الإنسان صاحب المحل ومدى صفاء روحه وتألق نفسه.
وحيث استوقفه هذا المنظر، وإذا به في تلك اللحظات يرى الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، إلى جوار صاحب المحل، وحينئذٍ التفت له الإمام (عليه السلام) وقال له ما مضمونه: إذا أصبحت مثل هذا الرجل فإننا نحن الذين سنأتيك ولا تعود بعدها بحاجة لنظائر هذه السبل والطرق (الرمل والإسطرلاب) للوصول إلىّ، ثم قد لا تجدني..
إن الدنيا ساحة صراع وامتحان دائم، وعلى الإنسان أن يجدّ لكي ينجح في
ص: 162
الامتحان دائماً، فبمجرد أن رأى امرأة أجنبية، عليه أن يستجمع قواه الإيمانية وعليه أن يخاطب نفسه: بأية مناسبة انظر إلى امرأة أجنبية؟ بل ما أعظم خطر المرأة الأجنبية؟، فهذه النظرة ((سهم من سهام إبليس مسموم)) (1) وفي مضمون الرواية: ((إن الإنسان لو غض طرفه لخلق الله له حورية تنتظره في الجنة)) (2) .
وكذلك عندما يكون هناك مجلس غيبة عليه أن يبتعد ويفر بإيمانه، وكذلك لو تعرض لإغراء التهمة، أو النميمة، أو الحديث السلبي عن إنسان مؤمن، أو رأى أن في قلبه قليلاً من الحسد - لا سمح الله - أو ما أشبه ذلك من هذه السيئات، ومن ذلك ما لو أثيرت قوته الغضبية في منزله ووسوس له الشيطان كي يصرخ على أولاده وزوجته، وقد أخذته العزة بالإثم، فهنا يجب أن يتواضع لله سبحانه وتعالى، فإذا نجح الإنسان في أمثال هذه الامتحانات فإنه ستتوفر لديه القابلية للتشرف بلقاء الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، والإمام (عليه الصلاة والسلام) سيفيض عليه من بركاته، إضافة إلى الآثار الوضعية الأخرى، أكثر فأكثر فأكثر.. وعندئذ سينفتح له باب إلى (المرجعية الكبرى: مرجعية وسيط السماء) وسيفتح له باب العلم وباب المعرفة النقية الصافية، أكثر فأكثر فأكثر.
إذن الإنسان بحاجة إلى هداية الله سبحانه وتعالى بنحو العلة المحدثة كما هو بحاجة إلى هدايته جل اسمه بنحو العلة المبقية، في كلا جانبي الزيادة الكمية أو الكيفية.. فعندما نقول ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ نقصد في ما نقصد في ارتكازنا هذه المعاني الثلاثة: حدوثاً، وبقاء، وزيادة كمية وكيفية..
ص: 163
ص: 164
في هذا الفصل نتناول–بتفصيل–ما ذكرناه سابقاً من أن هناك حقائق عصيّة على التلوين، منيعة عن التأثر بالقبليات النفسية، أو الفكرية، وهذه الحقائق تخترق الحواجز لتصل إلى عمق وجدان الإنسان وعقله، وينفعل عنها لأنها هي الحاكمة عليه، ولا تكون محكومة بأية عوامل سابقة نفسية، أو فكرية، أو اجتماعية، أو محيطية، أو غير ذلك..
وقد أقمنا على ذلك العديد من الشواهد والأمثلة في حقول (الفطريات) و(الأوليات)، وفي مجالات (العلوم الاجتماعية) أيضاً، من قبيل (العدل حسن) بوصفه حقيقة لا تتلون بما هي حقيقة مهما كانت قبليات الإنسان ونفسياته، وبالتالي يتطابق (الشيء في حد ذاته)، و(الشيء كما يبدو لي).
إن من الصحيح أنه يوجد هناك عالمَان: عالم الشيء في حد ذاته، والشيء كما يبدو لي، أو بالتعبير الأدق: عالم الأعيان وعالم الأذهان، لكن هذا العالم كثيراً ما يطابق ذاك العالم..صحيح أن هذه الحقيقة الخارجية لا تنتقل بنفسها وبإنيتها إلى الذهن، وإنما تنتقل صورة منها على رأي، أو شبح، أو أي شيء آخر على الأقوال المختلفة (1)في نظرية العلم وحقيقة العلم، لكن هذه الصورة أو الشبح مطابقة للواقع وقد
ص: 165
عصت عن أن تتلون وتتشكل، وهذا هو ما ذكرنا له أمثلة كثيرة في البحث السابق، وسنضيف هنا شواهد وقواعد أخرى من علم الاجتماع، وعلم الإدارة، وعلم الاقتصاد، وهي جميعاً من العلوم الإنسانية التي هي بالأساس محط هذا البحث.
من الشواهد على ذلك القاعدة المعروفة: (الإنسان اجتماعي بالطبع) فهذه قاعدة في علم الاجتماع حقيقية، بمعنى أنها تطابق الخارج، وتعكس الخارج، فالشيء (في حد ذاته) وهو كون الناس في الخارج اجتماعيين بالطبع، يركن بعضهم إلى بعض، ويألف بعضهم بعضاً، ويحتاج بعضهم إلى بعض سيكولوجياً، وسوسيولوجياً وفي سائر الأبعاد، هي حقيقية أيضاً لأنها في الخارج موجودة وقد انعكست في أذهاننا، وكل القبْليات المختلفة لم تؤثر في هذه الحقيقة، أي مَنْ يعيش في الهند، أو في أمريكا، والشرقي أو الغربي، والمسلم أو الملحد، والمتحضر أو غير المتحضر، والبدوي أو القروي، ومنكر أصل وجود الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله أو المؤمن.. كلهم يقبل هذه الحقيقة، فهذه الحقيقة عصت عن أن تتلون (بما هي هي) وسنوضِّح في بحث لاحق ما نقصد ب (ما هي هي) عندما نجيب على شبهة لاحقة بإذن الله سبحانه وتعالى، فالإنسان إذن اجتماعي بالطبع في حد ذاته وكما يبدو لنا أيضاً.
القاعدة الثانية ((قِيمَةُ كُلِّ امْرِىء مَا يحسْنُهُ)) (1) هذه الكلمة لأمير المؤمنين(عليه صلوات المصلين)، وهي قاعدة لا شك فيها إذ (قيمة كل امرئ ما
ص: 166
يحسنُ من علم اقتصادٍ، أو علم سياسة، أو علم فقه، أو علم أصول،أو إدارة، أو ما أشبه). فإن أَحسَنَ علمَ الإدارة فقيمته بمقدار ما أحسنه من علم الإدارة، وإن أحسن علم السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو الحقوق، أو الطب فكذلك، فإن الطبيب مثلاً قيمته على قدر ما يحسنه من معرفته بالطب، والمحامي كذلك، ف قيمة كل امرئ ما يحسنه هذه قاعدة بما هي هي قاعدة بديهية وتعصى على أن تؤثر فيها القبليات بما هي قاعدة، فمع أنه يمكن أن يكون هناك نقاش في الحدود أو المصاديق (وهذه نقطة لاحقة) إلا أن كلامنا هو أن بعض الحقائق (كما تبدو لنا( هي مطابقة للواقع (كما هو هو)، فهذه المرآة إذن مرآة صادقة..
ج: الْبُخْلُ عَارٌ وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ (1)
القاعدة الثالثة: هي قول أمير الفكر والكلمة (عليه السلام) ((البخل عار والجبن منقصة)) .
ونحن لا نستشهد بكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) استشهاداً نقلياً بل استشهادنا هو استشهاد عقلي، إذ أننا نستشهد بكلامه لأنه لخَّص قاعدة عقلية، أو اجتماعية، في عبارة موجزة جداً، وبليغة جداً ورفيعة حقاً، لذا فإنه ليس الاستشهاد لغير المتدين بكلام الأمير (عليه السلام) لأنه أمير المؤمنين، بل لأنه أعقل العقلاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأن هذه الكلمات متفق عليها عند ذوي الحجى..
يقول (عليه السلام) ((الْبُخْلُ عَارٌ)) ألا تجدون أن هذه مسألة بديهية بما هي هي؟
أيُّ إنسان تعطيه هذه الكلمة يرى أن الكلام صحيح، فالبخل بما هو هو عار..
ويقول (عليه السلام) ((وَالجبن مَنْقَصَةٌ)) وهذه قاعدة واضحة أيضاً، فالجبن بما
ص: 167
هو هو، نقيصة، وهذا لا يتناقض مع إمكان أن يأتي مزاحم آخر فيغير الحكم
لابتلائه بالمزاحم الأهم، إذ أن الجبن بما هو هو منقصة دون شك، وهذه قاعدة، كما أن البخل عار قاعدة أخرى مسلّمة.
وقاعدة رابعة هي: ((الفَقْرُ يْخرُسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِه))(1)
فإذا كان هناك فقير من حيث الإعلام، فإنه لا يقدر على أن يوصل صوته إعلامياً للناس، وإذا كان فقيراً مالياً فإنه غير قادر على ترجمة قناعاته إلى عمل خارجي، وذلك مثل أن يبني حسينية، أو مسجداً، أو جامعة، أو ميتماً أو مستشفى أو صندوقاً للإقراض الخيري، إذن: الفقر يخرس الفطن عن حجته هذه قاعدة واضحة، ولا نريد الآن أن ندخل في تفاصيل هذه القواعد، إذ تكفينا هذه الإشارات الإجمالية..
كما نجد في علم الاقتصاد والاجتماع قاعدة خامسة هي: (وَاُلْمقلُ - الفقير - غَرِيبٌ بَلْدَتِهِ) وهذه أيضاً قاعدة واضحة، فإذا كان أحدهم فقيراً علمياً، أو إذا كان فقيراً مالياً فإنه يصبح غريباً من تلك الجهة وإن كان في بلده، أماإذا كان متمكناً علمياً فإن كل من يُقدرِّ العلم أو يحتاجه يتهافت عليه، بل إن كل الحضارات تخطب وُدَّه، (والقضية ملاحظة بما هي هي، مع قطع النظر عن موانع أو حواجز أخرى) وكذلك إذا كان غنياً إدارياً، إذ المدراء الناجحون تتهافت عليهم الشركات الناجحة .
ولا يخفى أن هذه القضايا ( في الجملة) لا (بالجملة) وسيأتي توضيح هذه الكلمة، لأنه جواب عن إشكال قد يورد..
ص: 168
كما توجد لدينا قاعدة أخرى واضحة:( الكرامة الاقتصادية تستوجب الكرامة الاجتماعية) وهذه قاعدة مسلّمة بما هي هي، والقبليات لا تؤثر فيها، والشيء كما يبدو لي متطابق مع الشيء في حد ذاته، ولقد حدث الآن في كل أذهاننا انطباع عن هذه الكلمة (الكرامة الاقتصادية) وسنجد أنها بما هي هي، مع قطع النظر عن التفاصيل وكعامل محدد مع فرز وعزل سائر العوامل، (توجب الكرامة الاجتماعية).
نعم هناك عامل آخر مزاحِم له ك (المهانة الأخلاقية) فلو وجد من يمتلك الكرامة الاقتصادية (مال)، ولكن لم تكن عنده (أخلاقيات المال) فهذا عامل مزاحِم (أي المهانة أو الرذيلة الأخلاقية توجب المهانة الاجتماعية)، هذه قاعدة أخرى صحيحة.
ويبقى أنه: لو تطاحنت هاتان القاعدتان فالمحصلة النهائية ما هي؟
إن المحصلة النهائية من (كرامته الاجتماعية) تتبع الكسر والانكسار بين هذين العاملين، وهذه قاعدة أخرى في (علم الإدارة).
ولدينا قاعدة تقول: (في كل حدث اجتماعي وفي كل مشروع، هناك نقاط قوة وضعف وفرص ومخاطر) هذه القاعدة أبِيَّةٌ وعَصِيّة على التلوين بما هي هي، فهي حقيقة واضحة، ونجد بوضوح أن (الشيء في حد ذاته)، و(الشيء كما يبدو لي) قد تطابقا، إذ هناك في كل حدث اجتماعي، وفي كل مشروع، أو مؤسسة، أو عمل نقاط قوة، ونقاط ضعف، وفرص، ومخاطر، هذه التي يرمز لها بهذه الحروف الأربعة (سوات)..(SWOT)
فأي مجلس عام أو خاص، أو مكان صغير أو كبير، نجد فيه نقاط قوة، ونقاط ضعف، وفيه فرص ومخاطر، ومن نقاط القوة: الإضاءة الجيدة،
ص: 169
والميكرفون: تغطيته ووضوحه و...، والتهوية، فإذا كانت مناسبة فهي نقاط قوة، وإلا فهي نقاط ضعف، (وهذه المحارو الأربعة يمكن أن تتحول إلى كتب، ودراسات مستقلة في دراسة أوضاع مدارسنا وحسينياتنا ومكتباتناوجامعاتنا وعوائلنا وغيرها، ومن المحبذ أن تتولى مثل هذا جماعات متخصصة، لكل نوع من المؤسسات أو لكل شريحة اجتماعية، إضافة إلى مَنْ تَبنَّاه من قبل لكي تتطور باستمرار).
كما أنه يوجد في (الطفل) نقاط قوة، ونقاط ضعف، وفرص، ومخاطر..
وفي (المرأة) نقاط قوة وضعف وفرص ومخاطر..
وفي (التاجر) نقاط قوة وضعف، كما توجد أمامه فرص ومخاطر..
وفي (العالم) توجد نقاط قوة وضعف وفرص ومخاطر: المفكر، والتاجر، والعالم، و... سواء كانت قبلياته قبليات بربرية، أو قبليات حضارية، أوأي شيء آخر، فإن (الحقيقة في نفسها)، و(الحقيقة كما تبدو لي) هاتان قد تطابقتا في أصل هذه القاعدة، وهكذا وهلمَّ جراً..
وما أكثر هذه القواعد حقيقة، في البداية كنت أخمّن هذه القوا عد بالعشرات، أو بالمئات، وأما الآن فأراها بالألوف.. أي تلك القواعد التي يقرّ كل العقلاء بها، أي بأصولها وإن اختلفوا فرضاً في حدودها ومصاديقها..
أي تلك الحقائق الأبيَّة والعصيَّة على أن تخالِف إدراكاتها الواقع، وأن تتشكل
على خلاف الواقع، بل هي مطابقة للواقع شاء الإنسان أم أبى.
هذه هي النقطة الأولى، والجواب الأول على هذه النظرية التي تذهب إلى نسبية المعرفة، وهي جذر فلسفي لمعادلة تعدد القراءات، ونظرية الهرمنيوطيقا.
ص: 170
والبرهان الإني يكذب هذه الدعوى على إطلاقها، هذه الدعوى (في الجملة) صحيحة، لا (بالجملة) إذ كان إشكالنا على تعميم هذه النظرية، ونقول: إن (البرهان الإني) أي (الانتقال من المعلول إلى العلة) هو الدليل الآخر على إبطالها، فإذا أردنا أن نعرف أن هذا الشيء، أو هذه النظرية، صحيحة أو لا، فعلينا أن نعمد للآثار لنرى الآثار ماذا تقول؟ (إن آثارنا تدلُّ علينا)، و(الأثر دليل على الصدق أو الكذب) فلنبحث عن آثار هذه النظرية التي تدعي بأن (الشيء في حدِّ ذاته وفي نفسه)، و(الشيء كما يبدو لي)، هما أمران متغايران، قالوا:
لأن الشيء في حدِّ ذاته هو حقيقة مطلقة، أما الشيء كما يبدو لي فهو مزيج من تفاعل تلك الحقيقة مع أفقي المعرفي، وقبلياتي النفسية، فالأفق المعرفي، والقبليات النفسية، أو الضغوط النفسية، والضغوط الاجتماعية تتفاعل مع الصورة الحاصلة من الشيء لدى الذهن فتنتج معرفة، فهذه المعرفة نسبية وليست مطلقة..
والجواب: إن العلم يكذب ذلك، والبرهان الإني يكذب ذلك، و سنستشهد بشاهدين فقط، أحدهما: من عالم الطبيعة والفيزياء (1)، والآخر من علم النفس..
ص: 171
في عالم الطبيعة والقوانين التي تتحكم فيها كأصل وجود الجاذبية ومجموعة من معادلات (1) الطاقة والمادة وغير ذلك، أليست أفكارنا وتصوراتنا عنها مطابقة لواقعها كما هي؟
إن خير دليل على ذلك هي الآثار والبناءات التي تبنى على تلك القوانين، فكلما كانت الآثار متطابقة دوماً والبناءات متوافقة، كلما اكتشفنا أن المؤثرواحد، وأن ما عرفناه عنه يتطابق مع ما هو عليه.
فمثلا: الطائرة التي صنعت، وصانعوها (والذين لا يزالون يصنعونها) بشرولهم قبليات نفسية، وقبليات فكرية، وآفاق معرفية مختلفة؛ فشخص قد يصنع الطائرة وهو في الهند بطريقة التفكير المعهودة من ذاك البلد، وشخص آخر في الصين، وشخص آخر في أمريكا، وشخص آخر في البلاد العربية وهكذا وهلمَّ جرا..
فهؤلاء لهم آفاق معرفية وخلفيات نفسية مختلفة جداً، بل حتى الناس الذين يسكنون في بلد واحد فإن خلفياتهم المعرفية وأفقهم المعرفي وحالاتهم النفسية، والضغوط الأسرية، والاجتماعية، والحكومية، والقانونية، عليهم مختلفة، لكن مع ذلك نجد أن النتيجة واحدة، وهي: تسيير الطائرة وإقلاعها وهبوطها، طبق قوانين محددة: في الجاذبية، وطريقة التغلب عليها، ومقاومة الرياح، وقوانين الاصطكاك والضغط الجوي وتوازن الضغط، وأنهار الهواء أو تيارات الرياح في السماء، ونوعية الطاقة الدافعة وكيفية هندسة الأجنحة وحتى ذيل الطائرة لتوفير الانسيابية في الهواء وتقليل الضغوط..
إن هؤلاء قد يكون لديهم تصور مختلف عن (الطاقة)، وما هي حقيقتها؟ وقد يكون عندهم تصور مختلف عن الجاذبية، وما هو جوهرها، وقد يكون عندهم تصور مختلف عن (الأثير)، وقد يكون لهم تصور مختلف عن (المقاومة)، وقد تكون هناك قبليات معرفية، ونفسية، وتجارب سابقة تؤثر
ص: 172
في ما أفهمه من مفهوم المقاومة، أو من مفهوم الأثير، أو غير ذلك.. وهذه كلها قد تكون صحيحة لكن النتيجة أن الطائرة هُندِست بطريقة تتفاعل بإيجابية مع كل تلك القوانين وصار بمقدورها أن تطير في الفضاء، والنتيجة أن الملايين من الناس يركبون في هذه الطائرة ويصلون إلى بر الأمان بسلام..
هذا هو البرهان الإني؛ فلتكن في ((كثير من الأحيان)) - والعبارة دقيقة إذ لا نقول (كل) بل نقول ((في كثير من الأحيان)) القبليات النفسية، والأفق المعرفي، وغير ذلك مختلفة، ولكن النتيجة هي أن الطائرة التي أفرزتها وأنتجتها وصنعتها هذه القبليات المختلفة والآفاق المعرفية المختلفة، لُحتق في الفضاء وتتحدى قوانين الجاذبية، وبدقة أكبر: تدخل في إطار قانون آخر، وبعبارة قرآنية دخلت في قانون ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ الإِ بِسُلطَانٍ﴾ (1).
إن السلطان هو قانون آخر إلهي يحكم القانون الأول طبيعياً، فهذه الطائرة طارت وأوصلتك إلى المقصد بسلام، وهنا نسأل من يتبنى النظرية النسبية بشكل مطلق ويقول: بأن هذه القبليات مؤثرة، نسأله: ما الذي يريد أن يقوله لنا؟، أي ما الذي يريد أن يستنتج من أننا لا نستطيع أن نصل إلى كبد الحقيقة أبداً؟ وان (الشيء كما يبدو لي) يختلف عن (الشيء في نفسه)؟
ونقول: إذا كان (الاختلاف، على فرضه مؤثراً) فكيف أن الجميع رغم اختلاف خلفياتهم الفكرية وقبلياتهم النفسية وصلوا إلى نتيجة واحدة؟
وانتجوا وصنعوا منتجاً يتعاطى مع عشرات بل المئات من قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء والفلك وغيرها، بدقة فائقة ونجاح كبير؟ إن ذلك يعني أن تأثير الخلفيات والقبليات كان صفراً، وإن (المعادلات) كما بدت لمختلف الناس (طابقت) المعادلات في ذاتها، وإلا لكانت النتائج مختلفة.
والحاصل: إن القبليات المعرفية ولو كانت موجودة لكنها لا تؤثر في كثير من
ص: 173
الأوقات في إصابتك لكبد الحقيقة، وفي معرفتك الصحيحة مائة بالمائة للقانون أو للجوهر الذي تحتاج إليه أو إلى آثاره، وإن كانت مؤثرة في الهامش أو في بعض الحدود.
في علم النفس هناك قضية الاستجابة والانعكاس الشرطي، ونظرية بافلوف المعروفة، وهي تتناقض مع نظرية (كانط) وتُكذبها (حسب ما هو ظاهر كلامه، وبحسب ما هو منقول في الموسوعات والترجمات، والمهم: إننا لا نحاكم الشخص، بل نحاكم الفكرة ونقيِّمها(، فظاهر كلامه أن (الشيء في حد ذاته) سواء في شؤون الميتافيزيقيا والغيبيات، أم في العلوم الإنسانية (1)، هذه كلها (الشيء في حد ذاته) أمر و(الشيء كما يبدو لنا) أمر آخر.. إن هذه العبارات ليست صحيحة.
توضيح ذلك:
في علم النفس، معادلة (الاستجابة الشرطية) معروفة، فسواء كانت خلفيات البشر متساوية أم مختلفة، فإن (الاستجابة الشرطية) قاعدة حقيقية لا يرقى إليها الشك، ومن الأمثلة الواضحة: ما لو كان لديك طفل صغير وكلما جاع وأردت أن تطعمه تدق جرساً، وهكذا يتحول (الجرس) إلى مثير لسيلان اللعاب، تماماً كما يقوم به استشمام رائحته أو رؤيته، كما أن الجرس سيحفز الطفل على المجيء إليك فوراً، كما كانت رائحة الطعام أو رؤيته من بعيد محفزاً.
وحاصل النظرية: إنه إذا اقترن العامل الطبيعي أو الحقيقي المؤثر في شيء بعامل آخر لفترة طويلة من الزمن، فإنه حتى وإن كان هذا العامل الجديد أجنبياً في ذاته عن الأثر، إلا أنه بمجرد تكرر المصاحبة كثيراً سيكون له نفس
ص: 174
المفعول، وذلك نتيجة لكثرة تكرار هذا العامل ومصاحبته للعلة المؤثرة، وتسمى هذه العملية ب (الاستجابة الشرطية)، والحاصل: إن أصل هذه القضية في علم النفس مما لاشك فيه. ذلك أن الإنسان من أي أفق معرفي كان أو أية قبليات نفسية كان يحملها، فإنه يذعن لهذه الحقائق كما هي.
إذن: خلصنا إلى أن ما أسميناه (البرهان الإني) أي (الانتقال من المعلول الى العلة) يصلح دليلاً قوياً لرفض تعميم التفريق بين (الشيء في ذاته) و(الشيء كما يبدو لنا)، وفي مثالنا فإننا ننتقل من قاعدة الانعكاس الشرطي إلى المعلول، مهما كانت الخلفيات والقبليات.. والدليل هو (البرهان الإني) وبذلك يظهر أنه كثيراً ما تكون الحقيقة (كما تبدو لي) مطابقة للحقيقة كما هي في الخارج وإن لم تشعرني بكافة تفاصيلها الأخرى..
ص: 175
وإليكم أيضاً بعض التفصيل كما أشرنا في البحث السابق إليه أعني قضية (المرجعية المعرفية الداخلية والخارجية)، فإن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وهو يعلم بأنه سيُبتلى في كشفه للحقائق بتأثره بقبلياته وبأفقه لمعرفي، ولذا فإنه من لطفه وجوده وكرمه جعل له (مرجعيات) و(مصافي) تقوم بتجريد الفكرة عن الشوائب وتطهيرها من الملوثات، وهذه المرجعيات أو (المرشحات) التي خلقها الله تعالى للإنسان هي ما يسمى بالفطرة حسب التعبير القرآني، وكما أن لكثير من الأشياء (فلاتر ) للتنقية مثل فلاتر تنقية المياه من الشوائب، أو عزل الذهب عمّا لحق به من معادن، كذلك في العقل أيضا فإن الله قد خلق فيه (مرشحات) و(فلاتر) وجعل كثيراً من المعارف الجوهرية والأساسية (سواء في العلوم الإنسانية، أم العلوم الغيبية) تعمل كمرشحات ومصافي فكرية.. وعندما تقتحم الذهن أية فكرة غريبة لا نعلم فيها السليم من السقيم، تقوم هذه المرشحات بالفرز بين ما هو حقيقة وباطل، وتكشف لك درجة انحراف (الشيء كما يبدو لي) عن (الشيء كما هو في الواقع)، فتحدد لك نسبة الخطأ وموقعه، وتكشف (التلوينات) التي تطرأ على الحقيقة.
وفي شاهد تكويني؛ نجد النور أو الضوء الذي له نسبة انكسار معينة عند ما يمر عبر الماء، فإن هنالك مرجعية علمية تحدد نسبة الانكسار وتصحح خطأ الباصرة.
ص: 176
ومن الضروري الإشارة إلى أن الله تعالى أوجد مرجعيات عديدة، ولذا فإننا نمتلك المرجعيات المختلفة، ولذلك أيضا لا يمكن الاعتماد على مرجعية العقل فقط في كل شيء، ولا بد من مرجعيات خارجية مساعدة، لأن العقل وحده لا يكفي في بعض القضايا (كملاكات أحكام الشارع، وكالقضايا العلمية التي لا تنال إلا بالتجربة أو الفحص والاستقراء)، ولا بد من هادٍ ومسدد له..
ومن هنا نكتشف حدود صلاحيات العقل وأن الإنسان إذا أراد أن يكتفي بالعقل وحده، فإنه قد يصاب في غير المستقلات العقلية ونظائرها
بهذه الملونات، أو القبليات، لأن العقل أيضاً يحتاج إلى مرجعية في الجملة.. أي في الكثير من القضايا ولذا خلق الله تعالى إلى جوار العقل مرجعيات أخرى مثل (الفطرة) فإنها من المرجعيات، و(الإلهام) أيضاً من المرجعيات، و(تهذيب النفس) يعد من سبل الاتصال ببعض المرجعيات.. وهناك مرجعيات عديدة تحتاج إلى بحث مستقل وقد اكتفينا ههنا بالإشارة فقط.
فعندما نقول: (الله موجود) فالكثير قد يتصور الله بشكل معَّني ولذا نجد أن هناك من يعبد الله والعياذ بالله على صورة صنم أو شاب أمرد أو أنه يعتقد أن الله على صورة شمس أو قمر أو بقر، وهكذا تختلف اعتقادات الناس، والكثير قد يتأثر بشكل من الأشكال، بالقبليات المعرفية والنفسية، وانخفاض الأفق المعرفي للإنسان، أو ارتفاعه، كل ذلك له تأثير في أغلب الناس ولكن: هنا لنا كلمتان..
الكلمة الأولى: أن أصل وجود الله، الخالق، أمر فطري مغروس في فطرة
ص: 177
الإنسان، وهذه حقيقة لا تستطيع التلوينات والقبليات أن تؤثر عليها، نعم يمكن أن تبهت تأثيرها في الإنسان لكن لا تستطيع أن تزيلها..
وهذا هو ما يشكل محور الجواب الرابع، والذي سيأتي، وهو الفرق الجوهري بين الأصل أي أصول الحقائق والمعارف وبين تفاصيلها وحدودها.
الكلمة الثانية: فيما إذا أثَّرت هذه القبليات في الاعتقاد بهذا المفهوم (إن الله سبحانه وتعالى جسم مثلاً)، فإن الله خلق مرجعيات أخرى لهذه القضية بما هي، فعندما تأتي إلى الذهن القبليات المعرفية والنفسية، تؤثر أثرها، ولكن هناك مرجعيات أخرى، منها مرجعيات ومعادلات علمية، أرشد الله الإنسان إليها لو التفت، فإنه يستطيع أن يعزل الغث من السمين، ويعرف ما هو الحق..
ولنذكر شاهداً على (مرجعية العقل) في تمحيص الاعتقادات أو الأفكار وتشذيبها من الشوائب، فإن الله سبحانه وتعالى لو كان جسماً أو شاباً أمرد، لكان في حَيِّزٍ، وفي مكان، واحتاج إلى ذلك المكان، ولأحاط به الزمان..
فكان محدوداً محتاجاً إلى غيره، وكيف يكون خالق كل شيء وواجب الوجود بالذات، محتاجاً لغيره أو محدوداً؟
إن هذا البرهان (برهان استحالة حاجة الواجب للممكن أو لغيره) يعد (مرجعية) من مرجعيات العقل، وبه يثبت أو ينفى صفات كثيرة جمالية وجلالية، وكذلك سائر الأدلة التي يستدل بها على تجرد الله سبحانه وتعالى وأنه ليس مكانياً، ولا زمانياً، ولا محدوداً، إذ هذا الذي يحتاج إلى المكان كيف يكون خالقاً لكل شيء بما فيه المكان والزمان؟، وإذا كان الله بهيئة شاب فكيف يستطيع أن يكون هو الخالق للمكان، والخالق للزمان، والحال
ص: 178
أن مَنْ هو في حيِّز فإنه محتاج إلى ذلك الحيِّز، ومَنْ هو في مكان فإنه محتاج إلى ذلك المكان، والحيز، ثم كيف يكون خالقاً لما يحتاج هو إليه؟ كما أن مَنْ هو في حيز أو جهة فإنه قد خلت منه سائر الأماكن؟ إلى آخر البراهين التي تبحث في محلها من علم العقائد والكلام.. وليس كلامنا هنا في كل مفردة مفردة حتى نشبعها بالبحث والتحليل والدليل.
برهان آخر: (حوار العلماء) من أين ينشأ؟ ومن أين يكتسب عقلانيته وشرعيته؟ فإن العلماء والخبراء على امتداد الأزمان وفي كل المجالات وفي شتى الأماكن يتحاورون فيما بينهم.؟ ولكن إذا قلنا بأن القبليات والخلفيات هي الحاكمة فذلك يعني حتمية إلغاء الحوار، إذ أن أفقي المعرفي هو بشكل معين ، وأنت أفقك المعرفي بشكل متميز آخر، فعلى أي شيء نتحاور؟، وكيف نتحاور إذا كانت القبليات والخلفيات قسرية ولم تكن توجد مرجعيات لنا لنحتكم إليها ونتحاور على أساسها؟ إن التحاور يكشف عن الإيمان الفطري بوجود (المرجعيات) والنقاش يدور على أساسها، فحوار العلماء بل وحتى الأطفال مبني في ارتكازهم، على وجود مرجعيات معينة، تلك المرجعيات تستطيع أن تقضي على الشوائب، ولو في الجملة(1)، وهذا يكفينا..
إذن هناك مرجعيات معينة قد تكون المرجعية، هي (العلم)، وقد تكون المرجعية هي (الإلهام) فالله يتدخل مباشرة، وقد تكون المرجعية (تهذيب النفس) .. فإن كثيراً من الحقائق تتلون، فإذا هذَّب الإنسان نفسه فإنه يكون بذلك قادراً على إزالة ذاك التلوين، ولنمثل بغسيل الملابس عندما تتسخ، فإن أفكار الإنسان أيضاً قد تتلوث فيكون تهذيب أفكار الإنسان عن طريق
ص: 179
تهذيب النفس، وهذا له بحث مفصل ولعلنا نوفق لكتابة كتاب خاص عنه..
ولننطلق إلى شاهد آخر:
ففي مثال من (علم الاقتصاد والإدارة) نجد قانون (باريتو) وهو قانون معروف، ولقد كان قاعدة أساسية في علم الاقتصاد ثم سرى وجرى وعُمِّم إلى مختلف الحقول الإنسانية، قانون (باريتو) يقول: في الاقتصاد نجد أن ثمانين بالمائة من الناتج الاقتصادي للإنسان ينشأ من عشرين بالمائة من جهده (الفكري والعملي) الاقتصادي الذي يبذله، وعشرين بالمائة من ناتجه الاقتصادي ينشأ من ثمانين بالمائة من جهده.. وهذا قانون واضح في علم الاقتصاد بعد أدنى تأمل.
وفي علم الاجتماع نجد الأمر كذلك، فثمانون بالمائة من الوقت تنتج عشرين بالمائة من المعارف، وعشرون بالمائة من أوقاتك تنتج ثمانين بالمائة منمعارفك.. وتوضيحه بمثال مبسط واضح؛ أن الإنسان يختلف استحضاره الذهني، وشدة حضور ذهنه، أو قدرته على الإبداع على امتداد اليوم، كما لك أن تلاحظ ذلك في الذين يدرسون والذين يؤلفون، فأحياناً يجد المرء المعلومات تتدفق عليه كالسيل المنهمر، وأحياناً أخرى يشعر أن ذهنه أصبح
بليداً وأغلقت عليه الآفاق، وأحيانا يجد إنتاجه كثيراً جداً، وأحياناً يجده ضعيفاً، والقانون يجري عليه..
وفي حقل التربية نجد أن ذلك الذي ينشغل بتربية التلاميذ، فإن ثمانين بالمائة من وقته ينتج عشرين بالمائة من الكفاءة، والعكس بالعكس، عشرون
بالمائة ينتج ثمانين بالمائة.. حسب هذا القانون..
ص: 180
وحيث إن كلامنا عن (المرجعية) لهذه الفكرة وأشباهها، فلنبحث عنها وسنجد أن الله قد جعل مرجعية (منطقية) لها، وعلماء الأصول والمنطق قد ذكروا إحدى المرجعيات، وهي: أن تحذف سور الموجبة الكلية، وسور السالبة الكلية، فتحولها إلى موجبة جزئية، أو سالبة جزئية، إذ هذا القانون قد لا يكون تاماً على إطلاقه إذ قد يقول قائل: لا ينتج ثمانون بالمائة العشرين بالمائة دوماً، بل قد تكون تسعة وسبعون بالمائة تنتج واحداً وعشرين بالمائة أو أقل أو أكثر.
ولكن لكي تكون القضية صادقة دوماً وشاملة فإن علينا أن نحذف سور الموجبة الكلية، وسور السالبة الكلية، وأن نحول القضية من الموجبة الكلية إلى موجبة جزئية.
والحاصل: إن كثيراً من المعلومات والمعارف تكون مطابقة للواقع (في الجملة) لا (بالجملة) وبتحويل القضية من الثانية للأولى، فإن (الشيء كما يبدو لي) يتطابق مع (الشيء في حد ذاته) أي لا تكون بينه وبين الواقع عندئذ مخالفة من هذه الجهة..
فهذه القاعدة (تحويل الكلية الموجبة إلى قضية جزئية موجبة) إذن هي (مرجعية) وهي صحيحة، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(1) وليس (كل الظن إثم) وعند دراسة هذه القضية نجد الأمر كذلك مائة في المائة، فإن القول في علم الاجتماع وعلم النفس: (كل الظن إثم)، معرفة لا تطابق الخارج لكننا لو قلنا ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ فهل هناك شخص في العالم يستطيع أن ينكر هذه القضية؟ كلا.. وإن كافة القبليات النفسية، و الآفاق المعرفية لا تزحزح هذه الحقيقة، فإن ﴿بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾
ص: 181
(كما يبدو لي) مطابق للواقع في حد ذاته قطعاً، وبدون شك، كما هو كذلك عند كل العقلاء..
والنتيجة: إنه توجد هناك مرجعيات معرفية فكرية علمية قد وضعها الله سبحانه وتعالى تعد بمنزلة المرشحات في عالم الطبيعة، وهي (مصافي) عالم التفكير، وعالم الوجود الذهني، وهي تعادل وتناظر مصافي عالم الوجود العيني.
ومن الضروري أن ننبه على أنه: كما أن المصافي والمرشحات في عالم الطبيعة أحياناً تكون ناقصة، كذلك الأمر في عالم الذهن أيضاً، وأسباب نقصها كثيرة، وقد فصلنا الحديث عنها في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) في مبحث (مناشئ خطأ العقل) كما أن هناك سبلاً وطرقاً لمعالجة نواقص المصافي أو تلوثها، وقد تطرقنا لأكثر من أربعة عشر عاملاً في ذلك الكتاب، وبذلك نكون قد خلصنا إلى بعض مكامن الخلل في كلمات كانط سواء في أصولها أم في تعميماتها (1).
ص: 182
حدث في نظرية (كانط) خطأ جوهري ناشئ من الخلط بين (أصول القواعد) في الميتافيزيقيا، وعلوم ما وراء الطبيعة، وفي العلوم الإنسانية، وبين (التطبيقات)..وهذه نقطة مهمة جداً..
ولذا نجده يعترف بأن (أصل الحقيقة) في سلسلة من القضايا (1) لم تتلون، والشيء في حد ذاته، قد طابقه الشيء كما يبدو لنا.
نعم كثيراً ما تكون الأصول سليمة ولكن في التطبيق قد يحدث هناك تلويث، وتشوش، كما قد يحصل في الإرسال الإذاعي مثلاً..
فينبغي أن يفرز بين المطلبين، وحتى لا نبقى في دائرة الفكرة المجردة سنمثل بمثال حيوي وهو أن العلم (كمال في حد ذاته)، وهذه القاعدة بديهية: العلم كمال بما هو هو، لكن عند ما نأتي للمصاديق قد تحدث بلبلة واضطراب وعدم وضوح في الرؤية، فهل السحر كمال أو لا؟، والسحر محرَّم في الشريعة كما هو واضح، فهل السحر كمال؟
هنا الناس قد يختلفون حسب اختلاف أديانهم أو مشاربهم، فهم بين من يعتبره منقصة وبين من يعتبره كمالاً، فالمشكلة نشأت عند النزول إلى مستوى (المصداق) والتطبيق، وفي المصاديق كثيرا ما تكون الآفاق المعرفية المختلفة والقبليات النفسية مؤثرة، فهي تتدخل في المصداق، وإن هذا المصداق كمال أو نقص، لكنها لم تكن مؤثِّرة على مستوى أصل القاعدة..
ولكن (كانط) ومن تبعه، حيث لم يلاحظ التفريق الدقيق والواضح في
ص: 183
الوقت نفسه بين (الكلي الطبيعي) وبين (المصاديق)، ابتلي بالخلط بين الكلي الطبيعي، وبين مصاديق الكلي الطبيعي، فالكلي الطبيعي قد يكون مطابقاً للواقع مئة بالمائة، ولكن المصداق قد يكون فيه تلوّن واختلاف، وقد يحدث فيه تغاير في القبليات، والآفاق المعرفية، والنفسية..
ولنمثل بمثال آخر في علم الطبيعة؛ فعند ما نقول بأن (التكاثر كثيراً ما يكون بالتوالد)، وهذا الشيء واضح لكن في المصاديق يختلف التشخيص بين العالم والجاهل، في أنواع الحيوانات، والإنسان الأكثر علماً يعرف بأن التكاثر لا ينحصر بالتوالد وأن القضية الصحيحة ليست مسوّرة بسور الموجبة الكلية، وإنما قد يكون التكاثر بالانشطار كما في بعض المخلوقات، أو بالبيض وإلى غير ذلك من أنواع التكاثر..
ص: 184
حسب نظرية كانط: فإن المعرفة هي حصيلة وجود حقيقة في الخارج، انتقلت إلى ذهن الإنسان عبر الحواس، (أو بأي طريقة أخرى)، ثم إن القبليات النفسية والأفق المعرفي قد عجنت بهذه الحقيقة، وامتزجت بها، فتولدت معرفة معينة، هذه المعرفة صار اسمها (الشيء كما يبدو لي)، فليست إذن مطابقةً للخارج، أي (الشيء في حد ذاته).
ولقد أجبنا عن ذلك بأجوبة عديدة، ومنها: قلنا إن كثيراً من القضايا لا تتأثر بهذه الخلفيات والقبليات، وهي عصية على التلوين، (ومثاله من عالم التكوين: بعض السوائل التي تأبى الامتزاج مع غيرها).
ومنها: قلنا: إن هناك مرجعيات ومرشحات تستطيع أن تفرز الحق عن الباطل، وتفصل الغث عن السمين، والأصل عن التلوين، مثل العلم، والفطرة، والإلهام، وتهذيب النفس..
والجواب الآخر الذي نضيفه هنا هو: هذه الحقيقة عندما تأتي إلى الذهن، تتأثر بهذه القبليات على حسب الفرض، ولكن المفارقة الهامة هي أن هذه القبليات على قسمين: إذ قد تكون هذه القبليات مما يعضد الحقيقة ويؤكدها، وقد تكون معاكسة للحقيقة ومعاندة ومغايرة، فليست كل القبليات الفكرية والخلفيات النفسية مضرة بالحقيقة، بل كثيرا ما تكون هذه القبليات عاملاً مساعداً لاكتشافك الحقيقة بشكل أفضل..
و الأفق المعرفي أحيانا يؤكد التطابق ثبوتاً ويوصل إليه بشكل أسرع أو أعمق، وأحيانا يكون سبباً في الاختلاف والانحراف، فليس هناك جانب واحد سلبي وإنما يوجد جانبان: إيجابي وسلبي.
ص: 185
ولنوضح ذلك بالمثال؛ فلنلاحظ طفلاً تربي في جوِّ احتيال، وجوِّ سرقات والعياذ بالله وكان المحيط الذي نشأ فيه محيطاً قاسياً جافاً مُرّاً وكانت حياته سلسلة من قصص الفقر والتشريد، وكان يراقب ويشهد دوماً كيف يتمتع الأغنياء في دنياهم بالبذخ والإسراف والترف؛ إن هذه التجربة تؤثر على شخصية الطفل سلبياً وبعمق، مما تجعله ينحرف نحو السرقة ولا يرى فيها قبحاً شديداً أو عيباً كبيراً بحسب تلك النفسية، وهذا يعني أن الأفق المعرفي والتجارب السابقة والقبليات كان لها الدور والتأثير في عدم مطابقة (الشيء كما يبدو له) للحقيقة كما هي عليه في نفسها، ف (كما يبدو له) فإن السرقة حسنة أو قليلة القبح، لكن الحقيقة في حد ذاتها هي أن السرقة قبيحة، إذن توجد هناك آفاق معرفية من هذا القبيل تُلوِّن المعرفة بلون مضاد للحقيقة، أو مغاير.
ولكن وفي الاتجاه المقابل نجد أن هناك قبليات معرفية بالعكس تماما حيث تسهم في جلاء الحقيقة وتوضيحها أكثر، وذلك مثل شخص تربي في بيئة سليمة نقية نزيهة، فإنه عندما يكبر تجده يعد السرقة منقصة وعيباً ونقصاً، أو تجده يحترم الأبوين، واحترام الأبوين قيمة في حد ذاتها، هذه القيمة الفطرية، تعضدها تربيته المنزلية السليمة، وكذلك الحال في احترام الأم، وإكرام الزوجة، وفي الرواية، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((ما أكرم النساء إلاّ كريم، وماأهانهن إلاّ لئيم)) .
فالقبليات المعرفية والخلفيات النفسية ليست سلبية دائماً، بل إنها قد تسوق باتجاه المعرفة الصحيحة، وتكشف عن وجه الحقيقة كما هي هي، فتسهم في تكريس معادلة تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت.
والحاصل: إن القبليات المعرفية والأفق الثقافي والتجارب التي مر بها الإنسان، قد تكون تجارب سلبية تشوش على الإنسان فهمه للحقيقة، وقد
ص: 186
تكون بالعكس تضيء له الدرب أكثر فأكثر وتكشف له وجه الحقيقة بشكل أوضح وأجلى.
حيث تقدم (البرهان الإني) الذي يعني الانتقال من المعلول للعلة، فلننتقل إلى (البرهان اللمي) الذي يعني الانتقال من العلة إلى المعلول:
إن الله سبحانه وتعالى هو المكوِّن والخالق لعوالم الذهن، والوجود اللفظي، والوجود الكتبي.. كما هو الخالق أيضاً لعالم العين، وبناءً على ذلك فإنه جل اسمه عند ما شرع الشرائع للإنسان (وكذلك أي مشرع حكيم آخر) كان ملتفتاً بالضرورة إلى أن كثيراً من القبليات والانفعالات النفسية، والآفاق المعرفية تؤثر في الذين سيصدر القانون في حقهم، ومن هنا كان عليه، بالنظر لحكمته ولأنه يريد إيصال عباده للمصالح الواقعية ولشاطئ الأمان، أن يضع مؤشرات تدل هذا الإنسان إلى أي عامل فساد وانحراف وتلوين يشوّه مراده من المنهج أو الرؤية الكونية التي أراد للبشر أن يصل إليها، فلا بد إذن من أن يضع علامات ودلالات توصل إلى كبد الحقيقة، كتلك التي توضع في الطرقات للتوجيه والإرشاد ..
والحاصل: إن الله المكون القادر العليم الحكيم الذي نحن نعتقد به، أو حتى ذلك المدير الناجح، والذي يسعى لأن يكون مديراً كفؤاً، أو الأب الذي يريد أن يدير أسرته بشكل جيد، أو المقنن في البلاد - البرلمان أو غيره عليه أن يضع القوانين وأن يصوغ رسالاته ومناهجه بشكل يفسح الطريق لكي تناله أفهام كافة الناس، رغم ما قد يتحكم في الناس من قبليات في
ص: 187
عملية الفهم، فلا بد إذن من أن يضع خرائط وموجّهات تقود عملية الفهم في متاهات القبليات والخلفيات.
وهذا هو ما عبرنا عنه ب (البرهان اللمي)؛ إن الحكمة تستدعي من الخالق، أو من المشرع، أو من المدير أن يضع الخرائط أو البوصلة، وأيضاً تلك الضوابط التي تفرز لك الحقيقة عن غيرها، لكي يكون الشيء كما يبدو لك مطابقاً للواقع كما هو في حد ذاته وهذا البحث يتميز بكثرة وعمق مباحثه وتفريعاته، وله مصاديق كثيرة جداً، فلنذكر الآن مثالاً واحداً في ما يرتبط بالغيبيات: فإن من الضوابط، ومن المنبهات التي وضعها الله سبحانه وتعالى: (المفاجأة) أو (الصدمة) والتي تعد طريقاً معبداً لإزاحة الأتربة عن العقول المغبرّة ، كما ورد في الحديث:
((ويثيروا لهم دفائن العقول)) (1).
يسجل لنا التاريخ هذه الوثيقة العلمية في ثنايا القصة التالية، فإن بهلول الذي كان من كبار العلماء في زمان الإمام الصادق؛ رأى أبا حنيفة على المنبر ذات يوم وهو يتحدث للناس مؤكداً النقاط التالية:
النقطة الأولى: إن الله تمكن رؤيته، لأنه إذا لم يكن يُرى فكيف نحن نصدق بشيء لا يرى؟
النقطة الثانية: إننا مجبورون على أفعالنا، لأن الله يعلمها من قبل أن نفعلها!.
والنقطة الثالثة: إن إبليس لا يعقل أن يُعذَّب بالنار وقد خُلق من نار! ولقد كان بهلول متكلماً قديراً وعالم نفس أيضاً، فاستخدم أسلوب
ص: 188
(الصدمة) لإزاحة الأتربة والتلوينات عن عقل أبي حنيفة والسامعين، وهكذا شاهده الناس يأخذ فجأة قرميدة أو حجراً ويرمي به أبا حنيفة الذي كان يخطب على الناس فشج رأسه، وسال الدم على لحيته وثيابه..
فامسك به بعض جماعة أبي حنيفة وجاؤوا به إلى الحاكم، وشكاه أبو حنيفة والدماء تسيل منه، وهنا قال له الحاكم: فعلت ذلك بأبي حنيفة؟
أجاب بهلول برباطة جأش: لا يحق لأبي حنيفة أبداً أن يشكوني إليك بشيء، إذ أنني أحاكمه بكلماته هو وبمعتقداته هو.
قال الحاكم: وكيف ذاك؟
قال بهلول: إن أبا حنيفة كان يقول: بأنه الله يُرى إذ لو لم يكن يرى لما كان موجوداً، والآن يا أبا حنيفة أسألك هل يؤلمك رأسك أو لا يؤلمك؟ قال: نعم رأسي يؤلمني.
فقال بهلول: كلا هذا كلام غير صحيح! أين الألم، إننا لا نراه!، وأنت تقول الذي لا يُرى غير موجود، فكيف تشكوني من ألم لا يرى؟، وبالتالي فالألم غير موجود حسب نظريتك!.
ثم إنك قلت: إن الله قد أجبرنا على الأفعال، إذن أنا كنت مجبوراً ولقد أجبرني الله حسب نظريتك على أن أمسك الحجر وأرميك بها فكيف تحاكمني؟ اذهب وناقش الله لمَ أجبرني على ضربك!.
وأيضاً أنت تقول: إبليس خلق من نار فكيف يُعذب بالنار، وأقول: أنت خلقت من تراب وهذا الحجر هو من التراب، فكيف آلمتك هذه القرميدة أو هذا الحجر، وهي من نفس جنسك وسنخك، إذن كيف تشتكي عليّ؟
فدعواك باطلة ولا حق لك عندي.. فسكت أبو حنيفة وانقطع.
إن هذا هو ما نعنيه بمنطق الصدمة، إذ حينها تتجلى الحقائق، وتتساقط الأقنعة وتنزاح الخلفيات النفسية والقبليات الفكرية لتظهر الحقيقة كما هي في
ص: 189
نفسها، للأذهان، فيتطابق (الشيء كما يبدو لي) مع (الشيء في حد نفسه).
والحاصل: إن الله سبحانه وتعالى وهو الخالق يعلم واقع عبيده، ويعلم أن هناك (في الجملة) - ودقق في كلمة في الجملة - ملوّنات وهناك مشكّلات لفكر الإنسان، وهناك عوامل تحول دون أن يتلون الحق أو أن يكون الشيء
كما هو هو، وفي نفسه، مما ينعكس في ذهني بشكل آخر.
نعم لقد خلق الله أدوات ووسائل عديدة وكان منها (الصدمة) كما خلق الله للإنسان (مرجعيات) كما خلق له مصافي ومرشحات، وهذه كلها وغيرها أيضا تعيد الإنسان إلى أحضان الحقيقة، وتقضي على تلك الملونات بالقوة، وذلك مثل (الأنتي بيوتيك) الذي يقضي على الجراثيم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نعم نستعين به على أن تكون الحقائق مكشوفة لنا كما هي، وفي الدعاء ((رب أرني الأشياء كما هي)) (1).
اللهم اهدنا الصراط المستقيم واجعلنا من المهديين المهتديين إنك سميع مجيب (2).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ص: 190
ص: 191
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ص: 192
خير ما نبتدئ به:
القرآن الكريم
نهج البلاغة
الكافي الشريف للشيخ الكليني (قدس سره)
بحار الأنوار للعلامة المجلسي(قدس سره)
وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي(قدس سره)
.....................................
1 . الأوامر المولوية والإرشادية - للمؤلف
2 . الإمام علي ( عليه السلام) في القرآن للمرجع الكبير السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)
3 . الأسفار لصدر الدين الشيرازي
4 . الهرمنيوطيقيا في الواقع الإسلامي بين حقائق النص ونسبية المعرفة - معتصم السيد
أحمد - دار الهادي الطبعة الأولى
5 . الحجة معانيها ومصاديقها - للمؤلف
6 . الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي - الدكتور كميل الحاج - مكتبة
لبنان – ناشرون
7 . المعجم الفلسفي - الدكتور جميل صليبا
8 . الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام للسيد محمد الحسيني
الشيرازي(قدس سره)
9 . الفقه: كتاب الأطعمة والأشربة للسيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره)
10 . بصائر الدرجات محمد بن الحسن بن الصفار(قدس سره)
11 . مباحث الأصول - القطع - للمؤلف
12 . معاني الأخبار للشيخ الصدوق(قدس سره)
13 . مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي(قدس سره)
14 . من فلسفات التأويل الى آليات القراءة عبد الكريم شرفي الدار العربية للعلوم- ناشرون
ص: 193
15 . معجم العلوم الإنسانية - إشراف جان فرنسوا دورتيه ترجمة: د جورج كتورة
16 . فقه التعاون على البر والتقوى - للمؤلف
17 . تأويل الآيات الظاهرة للسيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي النجفي(قدس سره)
18 . تبيين القرآن للسيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره)
19 . تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني(قدس سره)
20 . تفسير الصافي للشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني(قدس سره)
21 . تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي(قدس سره)
22 . تفسير القمي للشيخ علي بن إبراهيم القمي(قدس سره)
23 . تفسير العياشي(قدس سره)
24 . تنزيه المعبود في الرد على وحدة الوجود - السيد قاسم على الأحمدي
25 . شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام مع تعليقات المرجع السيد صادق الحسيني
الشيرازي (دام ظله)
26 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
27 . غوالي اللآلئ لإبن أبي جمهور الأحسائي(قدس سره)
28 . غرر الحكم ودرر الكلم للشيخ عبد الواحد الآمدي التميمي(قدس سره)
29 . سير حكمت در أروبا - د محمد علي فروغي
ص: 194
تقديم.................................................................. 9
الفصل الأول
المعرفة بين إدراك الواقع والنسبية المطلقة.............................. 17
اهدنا الصراط المستقيم ............................................... 17
(النسبية) ..دلالة الكلمة ومواردها:....................................... 17
نسبية الحقيقة أو المعرفة أو اللغة .......................................... 18
معاني كلمة النسبية .................................................... 19
1: صوابية معتقدات الجميع: ............................................ 19
2. صوابية معتقدات الفرد المتناقضة ...................................... 21
3. لا مقولة مشتركة عالمية .............................................. 22
الصراط المستقيم .. ونسبية المعرفة ........................................ 23
ص: 195
1- الصراط المستقيم في عالم الواقع ...................................... 24
2. الصراط المستقيم في عالم المعرفة....................................... 27
3. الصراط المستقيم في عالم اللغة والكواشف.............................. 28
هل الحقيقة نسبية؟ .................................................... 30
هل الحركة أمر نسبي.................................................... 31
الفصل الثاني
معاني النسبية وإجابات عامة........................................... 33
العلم والمعرفة.......................................................... 33
معاني النسبية ......................................................... 32
1: المعرفة الناقصة ..................................................... 34
المعرفة الكاملة بين الإمكان والوقوع....................................... 35
هل الاستقراء يثبت عدم الوقوع؟......................................... 36
2. تغير المعرفة بتغير الزمن والظروف...................................... 49
3. لا توجد حقيقة واحدة معرفية ........................................ 40
4. ظنية العلوم والمعارف................................................ 41
5. لا معرفة مجمع عليها................................................ 42
أجابات.............................................................. 44
أ: الاستدلال بعلمي الحساب والهندسة ................................... 44
ب: الاستدلال على المؤثر بآثاره ........................................ 45
ج: الأوليات والفطريات................ ............................... 46
د: المستقلات العقلية .................................................. 46
ه - بين القرآن ووثيقة حقوق الإنسان.................................... 48
1. الصراط المستقيم يشمل (المعتقدات) .................................. 50
ص: 196
هل يعقل صدور حديث أصحابي كالنجوم؟! .............................. 51
2. ويشمل (الملكات الفاضلة) .......................................... 53
هل الخليفة يتجسس؟ .................................................. 54
القصة الأولى ......................................................... 54
3. ويشمل خطرات القلوب ............................................ 56
دليل ضعيف لمنكري كسر الضلع وأجوبة ستة.............................. 56
الفصل الثالث
النصوص والمناهج والأديان ........................................... 61
نسبية النصوص :...................................................... 61
ماذا يقول فلاسفة الهرمنيوطيقا؟ .......................................... 62
1. لا يوجد نص موضوعي محايد ........................................ 63
لولا أن رأى برهان ربه.................................................. 64
2. لا توجد منهجية توصلك للحقيقة: ................................... 66
لا إكراه في الدين ومنهج كشف المراد..................................... 67
3: الخلفيات الفكرية والنفسية والعادات هي التي تشكل النص ............... 68
أمثلة من الواقع ....................................................... 69
4. دين كل أحد هو فهمه للدين ........................................ 72
مناقشة وردود: ........................................................ 73
1: النظرية تنقض نفسها بنفسها......................................... 73
2. النظرية تحطم البنى الاجتماعية........................................ 75
1: إلغاء المداس والامتحانات ........................................... 76
2. إغلاق الشركات والمؤسسات......................................... 77
3. عبثية كل الاتفاقيات الدولية.......................................... 78
ص: 197
الإسلام هو (المصدر) أو (مصدر) التشريع ............................... 78
لا نبيّ بعدي! ........................................................ 80
4. هدم المجتمع ونسف القوانين.......................................... 81
الفصل الرابع
المعرفة بين اليقين والظن............................................... 85
المعارف بأجمعها لا تفيد قطعاً: .......................................... 85
2-1 : الجواب الصغروي والكبروي....................................... 86
القاعدة تنقض نفسها بنفسها ........................................... 86
الأنواع الستة للقطعيات ................................................ 88
اليقينيات في العلوم الاجتماعية .......................................... 88
أ: وتلك الأيام نداولها بين الناس ......................................... 89
ب: الخير والشر في الإنسان............................................. 90
ج: إن الإنسان ليطغى ................................................. 91
د: قانون العرض والطلب ............................................... 92
3. الجواب بدراسة لوازم الكبرى ......................................... 93
1 الحجية بمعنى الكاشفية ............................................... 94
2 الحجية بمعنى لزوم الإتباع ............................................. 95
3 الحجية بمعنى استحقاق العقاب........................................ 95
4. اختلاف طبائع العلوم .............................................. 96
5. الكمال بين الظن واليقين:........................................... 98
شواهد من عالم التكوين................................................ 99
أ: الطفل............................................................. 99
ب: المرأة ............................................................ 99
ص: 198
ج: الغضروف ...................................................... 100
د: الامتحانات...................................................... 100
ه : الموت.......................................................... 101
و: البداء........................................................... 102
ز: المحكم والمتشابه................................................... 103
(الثمانية) بأجمعها صراط مستقيم ...................................... 108
طريق نجاة النسبيين: الصراط المستقيم .................................. 110
الاستدلال بسياق سورة الحمد......................................... 111
الفصل الخامس
حجية الظنون النوعية ونسبية الأديان................................... 115
ضوابط عامة للمعرفة الظنية: .......................................... 115
قضايا قطعية في العلوم الإنسانية........................................ 115
هل كل الظنون حجة؟ ............................................... 117
هل فهم كل أحد للشريعة هو دينه؟ .................................... 118
الظن من الشعوذة! .................................................. 119
الظن المنهجي في العلم الحديث........................................ 120
(الشيء لذاته) و(الشيء كما يبدو لي).................................. 122
مقولة (الشيء لذاته) في الميزان......................................... 123
الزلزال ونوافذ الحقيقة ................................................. 123
الطب ومنافذ الحقيقة................................................. 125
مقولة: دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة!............................. 127
هل الاقتناع بالخرافات يحولها إلى حقيقة؟ ................................ 131
وهل هي حرب على القرآن؟ .......................................... 132
ص: 199
معادلة القوة والضعف................................................ 133
الفصل السادس
تقييم نظرية (كانط) في النسبية المعرفية .............................. 135
كانط والنسبية الذاتية: ............................................... 135
1. (النومن) و(الفنومن).............................................. 137
2. لكل شخص إدراك معين ......................................... 139
3. لا ندرك إلا الظاهر............................................... 139
4. الباطن علة الظاهر ............................................... 139
5. إدراكنا للحقيقة متلون ............................................ 140
تقييم كلمات كانط .................................................. 140
1. الأجوبة النقضية ................................................. 141
يخالفها صريح الوجدان .............................................. 142
2. نظرية كانط تحطم السلم الأهلي: .................................. 144
3: هنالك حقائق عصية على التلون.. ................................. 146
شواهد وأمثلة ....................................................... 148
4. وجود وتوفر )المرجعيات المعرفية( .................................... 149
أ. المرايا المحدبة والمقعرة:................................................ 149
ب. الخطان المتوازيان:................................................ 151
أنواع المرجعيات ..................................................... 151
والمرجعيات على قسمين: ............................................. 151
ظلمنا أنفسنا فحُرمنا مرجعية ولي الله(عجل الله تعالى فرجه الشريف)........ 152
وقفة تدبر قرآنية: .................................................... 154
الهداية بنحو العلة المحدثة والمبقية ....................................... 154
ص: 200
موقف المؤمن في مواجهة الامتحان ..................................... 158
هل (الإسطرلاب) طريق؟ أم تهذيب النفس؟ ............................. 159
الفصل السابع
(الشيء في ذاته) و (الشيء كما يبدو لي) ............................. 165
(1) حقائق من العلوم الإنسانية عصِيَّة على التلوين ....................... 165
أ: الإنسان اجتماعي بالطبع............................................ 166
ب: قيمة كل امرئ ما يحسنه .......................................... 166
ج: الْبُخْلُ عَارٌ وَالجبنُ مَنْقَصَةٌ ......................................... 167
د: الفقر يخرس الفطن ............................................... 168
ه: والمقل غريب في بلدته............................................. 168
و: الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة الاجتماعية......................... 169
ز: نقاط القوة والضعف والفرص والمخاطر............................... 169
(2) البرهان الإني يكذب الدعوى...................................... 171
أ: قوانين عالم الطبيعة والفيزياء ........................................ 172
ب: قوانين علم النفس ............................................... 174
(3) المرشحات والمصافي والمرجعيات في الكون والإنسان ................... 176
مرجعيات أخرى...................................................... 177
الفرق الجوهري بين الأصل والتفاصيل ................................... 177
مرجعية برهان (الحاجة) كدليل على تجرد الله تعالى ........................ 178
حوار العلماء يكشف عن وجود مرجعيات .............................. 179
قانون باريتو في الاقتصاد.............................................. 180
مرجعية قواعد المنطق ................................................. 181
(4) الخلط بين القواعد والحدود والأصول والفروع......................... 183
ص: 201
(5) الذهن إما يؤكِّد أو يزيِّف ........................................ 185
بين الطفل والمعرفة .................................................. 186
(6) البرهان اللمِّي................................................... 187
قصة بهلول الحكيم .................................................. 188
أهم المصادر........................................................ 193
المحتويات........................................................... 195
ص: 202