بحوث في الاحتياط

هوية الكتاب

بحوث في الاحتياط

ابحاث سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

بحوث في الاحتياط

ابحاث سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ

الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ

صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ

فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَحَافِظاً

وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ

طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة اللّه في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

جواز الاحتياط وصحته كقسيم للاجتهاد والتقليد

قال السيد الطباطبائي (رحمه اللّه): (الأقوى جواز العمل بالاحتياط، مجتهداً كان أو لا، لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد)(1).

والكلام حول الاحتياط سيدور بإذن اللّه تعالى في ضمن مسائل ومطالب:

ص: 7


1- العروة الوثقى: ج1 ص12.

المطلب الأول: تعريف الاحتياط وموارده ونطاقاته

الاحتياط: هو فعل كل ما شك في وجوبه تحفظاً عليه(1)، وترك ما شك في حرمته تحرزاً عنه(2). والأدق أنه: الإتيان بكل ما احتمل وجوبه أو مقدميته أو شرطيته أو جزئيته أو قيديته لواجب، أو شك في محققيته للغرض الملزم، تحفظاً عليه، وترك كل ما احتملت حرمته أو مانعيته أو قاطعيته لواجب أو مقدميته لمحرم(3)، من غير فرق بين كون الشبهة حكمية أو موضوعية، ومن غير فرق - في أصل حسنه - بين وجود مؤمّن من دليل اجتهادي أو أصل عملي في مورده وعدمه، فعلى ذلك تكون نطاقاته ومصاديقه هي الموارد الآتية:

الشك في أصل التكليف

المورد الأول: الشك في أصل التكليف، وذلك كما في الشبهات البدوية قبل الفحص(4) في موارد الشبهات الوجوبية، والاحتياط هو في الفعل

ص: 8


1- الاحتياط لغة، كما في تاج العروس: (حاطَهُ يَحوطُه حَوْطاً وحيطَةً وحِياطَةً، بكَسْرِهِما: حَفِظَه وصانَهُ وكَلأَه، ورَعاهُ، وذَبَّ عنه، وتَوَفَّر عَلَى مَصالِحِه وتَعَهَّدَهُ... واحْتاطَ الرَّجُلُ لنَفْسه: أَخَذَ في الحَزْمِ وبالثِّقَةِ، وهو مَجازٌ، والاسمُ: الحَوْطَةُ والحَيْطَةُ، بالفَتْحِ فيهما، ويُكْسَرُ، وأَصْلُه الحِوْطَة) (تاج العروس: ج10 ص225)، وفي (المصباح المنير): (واحتاط للشيء افتعال، وهو طلب الأحوط والأخذ بأوثق الوجوه، وبعضهم يجعل الاحتياط من الياء والاسم الحيط) (المصباح المنير: ج1 ص175).
2- وسيأتي أنه تعريف بمقتضى الحمل الشائع الصناعي.
3- أو جزئيته له، فتأمل.
4- بل وبعد الفحص؛ نظراً لتعريف الاحتياط بما يشمل القسمين: الاحتياط الواجب والمستحب، كما سيأتي.

عكس موارد الشبهة التحريمية؛ حيث إن الاحتياط فيها بالترك وإجتناب ما شك في حرمته.ومثال الشبهة الوجوبية: ما لو شك في أن (المهر) فيه الخمس باعتبار أنه فائدة؟ أو لا لأنه لا يصدق عليه الاكتساب؟ فمثل صاحب العروة (رحمه اللّه) ذهب إلى أنه (الأحوط استحباباً)، والبعض - كالسيد الوالد (رحمه اللّه) - احتاط وجوباً(1)، وكذا الحال في الهدية، وكذا لو شك في وجوب صلةِ رحمٍ بعيدةٍ للشك في شمول الإطلاقات لها، فالاحتياط يقتضي صلته.

وفي فقه الدولة: لو شك في وجوب فصل السلطات وتقسيم القدرة وإقرار نظام التداول السلمي للسلطة، خوفاً من طغيان الحكومة واستبداد الحاكم؛ استناداً إلى مثل (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(2) و(وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ...)(3) و(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(4) إذا لم يتضح له الإيجاب أو السلب، فشك - فذلك من مجاري الاحتياط - وجوباً أو استحباباً على تفصيل سيأتي.

ومثال الشبهة التحريمية: ما لو شك في حرمة المرتضعة معه عشراً أو علم بالحرمة وشك في أنها ارتضعت معه الرضاع المحرم أو لا، كشبهة موضوعية؛ أو شك في حكم (التسوق الشَّبَكي) هل هو حلال أم لا، وهل ينطبق عليه عنوان الإضرار بالغير عرفاً أو لا؟ وقد حرّمه بعض الفقهاء وأجازه آخرون، والاحتياط يقتضي التجنب، وهي شبهة تحريمية؛ وكذا لو شك في كون هذه البضاعة مسروقة أو مغصوبة - شبهة موضوعية -، أو شك في حرمة إجراء الحدود في زمن

ص: 9


1- انظر العروة الوثقى المحشى: ج4 ص277.
2- سورة العلق: 6.
3- سورة البقرة: 251، وسورة الحج: 40.
4- سورة المطففين: 26.

الغيبة أو حرمة تسلط الفقيه أو غيره على الناس بدون رضاهم في حكومة أو منظمة أو شركة - شبهة حكمية.

الشك في المكلف به

المورد الثاني: الشك في متعلقي الوجوب أو متعلقاته بعد العلم بأصل وجوبه.

أي في صورة الشك في المكلف به بعد العلم إجمالاً بأصل التكليف، وذلك فيما لو كان الوجوب معلوماً والمصداق مردداً؛ فالاحتياط يقتضي الجمع، كما لو شك في أن وظيفته القصر أو الإتمام؛ فالأحوط أن يجمع بينهما، وكما لو شك في أن هذا هو الذي يريد قتله أو ذاك، فالاحتياط يقتضي الابتعاد عنهما وتجنبهما.

الشك في الجزئية

المورد الثالث: الشك في الجزئية كما لو شك في جلسة الاستراحة هل هي جزء للصلاة أم لا؟ فالاحتياط يقتضي أن يأتي بها، بل مطلق ما لو شك في جزئية أمر أو مادةٍ لمركبٍ وجب شرعاً أو عقلاً، أو لعقد أو عهد وإن عادا إلى أحدهما(1) مآلاً.

الشك في الشرطية والقيدية

المورد الرابع والخامس: الشك في شرطية أمر لأمر أو في قيديته له كجزئية مادةٍ لدواء أو شرطيته أو لإحكام بناء، أو شرطية التنجيز أو العربية أو الماضوية أو الموالاة لصحة البيع، وشبه ذلك.

ص: 10


1- الشرع أو العقل.

والفرق بين الثلاثة(1): إن الجزء داخل في الشيء، والشرط خارج(2)، أما التقيد فهو داخل كالجزء، ولكن الفرق بينه وبين الشرط: أن المقيد به(3) ينتفي بانتفاء القيد، بخلاف الشرط، نعم يكونله خيار تخلف الشرط في المعاملات.

فالاحتياط في هذه الثلاثة هو بأن يأتي بما شك كونه جزءاً أو شرطاً أو قيداً.

مثلاً إذا شك في شرطية دخول الوقت أو كفاية مشارفته لصحة الوضوء للصلاة فالاحتياط يقتضي أن يأتي بالوضوء بعد دخول الوقت إذ الصور ثلاثة:

الأولى: الوضوء قبل الصلاة بوقت طويل بنية الصلاة ولأجلها، فعدم الصحة جزماً، والصورة الثانية: الوضوء بعد دخول الوقت، فالصحة قطعاً، والثالثة: الوضوء قبل الصلاة بوقت قصير للتهيؤ، والفتوى على الصحة إنما الكلام في صورة الشك.

مثال آخر: لو شك في شرطية أن لا يكون جربزياً في صحة تقليده - كما أشار إليه صاحب القوانين - فالاحتياط يقتضي تجنب تقليد الجربزي المتسرع في الفتوى المتهجم على اللوابس، وكذا لو شك في شرطية الشجاعة وحسن الإدارة والتواضع والشورية، في القائد للأمة أو من يتولى أمراً من أمورها فالاحتياط باختيار من اتصف بها وتجنب من فقدها.

ص: 11


1- وهي: الجزء والشرط والقيد.
2- وهذا الأصل تم تطبيقه في كثير من المسائل وفروعها، كما في استصحاب الجزء والشرط، فمثلاً قال المشكيني (رحمه اللّه) في حاشيته على الكفاية: (أمّا الحكم الأوّل فهو يتمّ في الجزء، وأمّا الشرط فلا، إذ الشرط خارج عن دائرة الطلب المتعلَّق بالمشروط، نعم التقيّد داخل، وحينئذ يكون استصحاب بقاء الشرط لإثبات أثر التقيّد مثبتا، اللَّهمّ إلَّا أن يدّعى خفاء الواسطة). (حاشية المشكيني على الكفاية: ج4 ص560).
3- وقد علله بعضهم بقوله: لأن الجنس لا بقاء له بدون الفصل فكأنه اعتبر القيد فصلاً أو بمنزلته.

الشك في محقق الواجب والغرض

المورد السادس: الشك في محقق الواجب المأمور به، أو محقق الغرض، وذلك كما في قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)(1)، فهل الواجب المعنى المصدري(2)، أو الاسم المصدري (3)؟

فإذا كان المراد هو الاسم المصدري، كما استظهره الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) من الآية، وأن المأمور به هو التطهر وهذه الغسلاتوالمسحات مقدمة له(4)، فهو شك في محقق المأمور به؛ كما لو شك في أن غسل بعض باطن الأذن(5) وأجب أم لا، فالاحتياط يقتضي الإتيان به وغسل الباطن المشكوك.

إذن: الاحتياط هو الإتيان بما شك في وجوبه، أو الإتيان بمصاديق الواجب المردد بينها، أو بجزئه أو شرطه أو قيده أو محقِّقه لدى الشك، هذا في الفعل، وعكسه هو الاحتياط بالترك؛ كما في الشك في حرمة بعض أنواع الغراب وعدمها فإنه أربعة أنواع بعضها محرم قطعاً وبعضها فيه خلاف، فالاحتياط بتجنب لحمه؛ فتكون هنالك أيضاً خمس حالات من الاحتياط.

ولا يخفى أن ما سبق تعريف بالحمل الشائع الصناعي وهو تعريف بالمصداق، وأما التعريف بالحمل الأولي الذاتي فقد يتوهم أنه لا مناص إلا من شرح الاسم، لكنه غير تام فإنه في الأمور الحقيقية لا المفاهيم الاعتبارية والمخترعات العرفية أو الشرعية، فيكفي تعريفه بما نقل في الهامش الأسبق عن

ص: 12


1- سورة المائدة: 6.
2- الغسلات والمسحات.
3- نتيجة الغسلات والمسحات وهو التطهر.
4- انظر كتاب الطهارة: ج2 ص133.
5- المراد الباطن المحتمل كونه من الظاهر.

المصباح والتاج، فتأمل.

ولا يخفى أن التعريف ينبغي أن يكون للاحتياط بما هو هو، فيكون أعم مورداً من الاحتياط الواجب والمستحب، ولا داعي لقصر التعريف على الاحتياط الواجب.

فذلك هو المختار في تعريف الاحتياط، أما السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) فقد عرّفه ب: (الإتيان بكل ما يحتمل كونه مأموراً به جمعاً؛ كالجمع بين القصر والتمام في الشك في المكلف به(1)، أو إتيانه وحده(2)؛ كالشبهة البدوية قبل الفحص مثل وجوب صلة الرحم، وإما الإتيان بما يحتمل دخله في صحة المأمور به منضماً إلى غيره جزءاً؛ كجلسة الاستراحة، أو شرطاً كالوضوء بعد دخول الوقت بنية تلك الصلاة، فعلاً كان كما ذكر، أو تركاً كالرياء والعجب المقارنينللعمل)(3).

والفرق الفقهي بين الرياء والعجب هو: ان الرياء مبطل للعبادة إذا كان مقارناً، على كلام في المستحبات(4)، وأما العُجب فرأي جماعة منهم السيد الوالد (رحمه اللّه) وصاحب العروة (رحمه اللّه) (5) إنه غير مبطل، والأحوط استحباباً تركه.

ص: 13


1- وهذه هي الصورة الثانية مما ذكرناه.
2- وهي الصورة الأولى مما ذكرناه.
3- بيان الفقه: ج1 ص100.
4- كما استدركه السيد الحكيم (رحمه اللّه) عن الرياء في الواجب بقوله: (نعم، في بطلانها بالرياء في الأجزاء المستحبة مثل القنوت أو زيادة التسبيح أو نحو ذلك إشكال) منهاج الصالحين: ج1 ص212 / وللمزيد انظر العروة الوثقى - المحشى -: ج1 ص430، المسألة: 567.
5- انظر العروة الوثقى - المحشى -: ج1 ص430.

الاحتياط في محقق البسيط أو المركب الاعتباري أو التكويني

ونضيف إلى ما ذكره السيد العم (دام ظله) مورداً آخر للاحتياط؛ فيكون هذا المورد هو المورد السادس مما ذكرناه مع بعض التفصيل والإضافة:

وهو أن الاحتياط يقتضي الإتيان بما يحتمل دخله ومحصليته لأحد هذه الأمور الأربعة:

1: البسيط الاعتباري.

2: البسيط التكويني.

3: المركب الاعتباري.

4: المركب التكويني.

الاحتياط في محصِّل البسيط الاعتباري

وذلك كما في (الملكية) على المشهور(1)؛ حيث إنها أمر منوط باعتبار المعتبر(2)؛ فلو شك في محققِّها ومحصِّلها، كما لو شك فيتحقق الملكية بالتعامل مع الصغير، فالاحتياط في العدم(3)؛ أو شك في اشتراط العربية فالاحتياط بالإتيان بها، وهنا ليس الشك في الواجب ولا في مصداقه ولا جزئه ولا شرطه ولا قيده، بل الشك في محصِّل الأثر.

والحاصل: ان الاحتياط يقتضي الإتيان بكل ما احتمل كونه محصِّلاً للاعتباري أو التكويني بسيطاً كان أم مركباً.

مثال آخر: (العدالة)؛ فإننا لو قلنا بأن العدالة تعني الملكة (4) فهي أمر بسيط، فلو شك في محققها، كما في تجنب منافيات المروءة للشك في أنها مخلة

ص: 14


1- فصلنا في كتاب (البيع) الكلام حول انها مركبة بتركب متعلّقها أو كونها ذات مراتب، فراجع.
2- بحثنا في (البيع) احتمال كونها تكوينية حقيقية.
3- واما بعد حصول الفعل، فانه يكون من موارد تعارض الاحتياطين.
4- هذا بحسب رأي، وهناك رأي آخر يراها: الاستقامة على جادة الشرع.

بالعدالة أو لا، فالاحتياط يقتضي الاجتناب عنها لإحراز تحقق العدالة المعتبرة في مثل الشاهدين على الطلاق.

وقد أشكل البعض على عدّ العدالة من البسيط الاعتباري استناداً إلى إن العدالة صفة نفسانية؛ لذا فهي بسيط تكويني.

والجواب: إن العدالة يمكن أن تعدّ بسيطاً تكوينياً حتى على القول بكونها صفة نفسانية؛ إذ يمكن أن تعد في خانة البسيط الاعتباري؛ بلحاظ أن منشئيتها للأثر الشرعي إنما هو باعتبار من الشارع؛ وذلك كاعتبار شهادته لدى الشارع.

وبعبارة أخرى: إنها بما هي موضوع لحكم الشارع عن أمر اعتباري إذ له أن يعتبرها موضوعاً لهذا الحكم كما له العدم.

الاحتياط في محصِّل البسيط التكويني

وذلك كما في محصِّل الطهارة أو محقق النجاسة، بناءً على كونهما أمرين تكوينيين كشف عنهما الشارع، كما لو شك في مطهرية الغسلة الواحدة، أو نجاسة ماء الغسلة المزيلة (بعد الخلو عن عين النجاسة).

الاحتياط في محصِّل المركب الاعتباري

وذلك كالصلاة فإنها بلحاظ هذه الهيئة ذات الآثار الخاصة التي اعتبرها الشارع واجبة(1) مركب اعتباري وإن كانت أفعالها أفعالاً حقيقية خارجية من مقولة الفعل والوضع(2)؛ وحينئذ لو شك في تحقق هذه الهيئة الاعتبارية، كما لو شك في أن الرياء في مقدمات الصلاة أو أجزائها المستحبة أو مكانها(3) مثلاً هل هو

ص: 15


1- فإن المركب هو الواجب.
2- الركوع والسجود مثلاً.
3- كما لو كانت صلاته في المسجد رياءً، أي من جهة كونها في المسجد.

مبطل أم لا(1)، فالاحتياط يقتضي ترك الرياء فيها المقدمات.

الاحتياط في محصِّل المركب التكويني

وذلك كرمي الجمار؛ فلو شك في أن المأمور به هو المعنى المصدري للرمي(2)

فيكفي صِرف الرمي وإن لم يصب، أم هو المعنى الاسم المصدري(3) فلا تكفي إلا الإصابة، والمأمور به على كلا التقديرين مركب فإنه على الثاني أيضاً مركب من سبعة؛ لكون آحادها بشرط شيء لا لا بشرط، فالاحتياط يقتضي إحراز حصول المعنى الاسم مصدري والعلم بتحقق الإصابة، فتأمل(4).

ويمكن توجيه عدم شمول تعريف (بيان الفقه) لهذه الموارد الأربعة الأخيرة، بأنه كان في صدد تعريف الاحتياط الواجب أو الاحتياط في موارد الأمر الشرعي، لا الأعم الشامل لموارد الاحتياط في المعاملات وفي مطلق محقق الأثر أو يعمم (كونه مأموراً به) للمقدمة، فتأمل.

موارد أخرى للاحتياط

وقد ذكر البعض موارد أخرى للاحتياط غير الموارد المتقدمة:

منها: الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، كما لو دار أمر صلاة الجمعة زمن الغيبة بين الوجوب والحرمة، أو دار أمر إقامة الحكومة

ص: 16


1- بعد الفراغ عن كون الرياء في أفعال الصلاة مبطلاً.
2- أي الرمي.
3- أي الإصابة، إذ لو لم يصبها فليس رمياً للجمرة بل محاولة لرميها نعم هو مجرد رمي.
4- إذ الرمي أمر تكويني، أما (رمي الجمار) المأمور به فمركب اعتباري نظراً لمدخلية الهيئة الصورية.

الإسلامية زمن الغيبة بين الوجوب والحرمة(1).

وفيه: إن هذا المورد خارج؛ إذ لا يمكن فيه الاحتياط، وقد يجاب بامكانه بالفعل تارة والترك أخرى.

وفيه: إنه خلاف الاحتياط إذ فيه المخالفة القطعية (وإن كانت فيه الموافقة الاحتمالية) عكس الفعل مطلقاً أو الترك مطلقاً فانه مخالفة احتمالية كما هو موافقة احتمالية.

وقد يجاب: بإمكان الاحتياط فيه بان يترك دائماً، إذا رجحنا جانب الترك لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه: إنه لا إطلاق لذلك ما دامت كلتاهما ملزمتين بحيث حرّم الشارع وأوجب.

ويمكن درج هذه الصورة في الشك في التكليف إن أريد به جنسه، فتأمل.

ومنها: الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب.

وفيه: إن هذا المورد داخل في المورد الأول مما ذكرناه(2).

ص: 17


1- الوجوب؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل، والحرمة لأصالة عدم ولاية أحد على أحد ولقوة احتمال أن يكون ما تفسده الحكومة أكثر مما تصلحه، والأدلة من الطرفين ومناقشاتها كثيرة توكل لمظانها.
2- الاحتياط بالإتيان بما شك في أصل التكليف، نعم قد يقسم هذا إلى أقسام أحدها المذكور أعلاه.

المطلب الثاني: النسبة بين الاحتياطين الأصولي والفقهي

مدار الكلام في المسألة التي ذكرها السيد (رحمه اللّه) هو الاحتياط الفقهي، ويقابله الاحتياط الأصولي وهو الذي عدّ من الأصول الأربعة قسيماً للبراءة والتخيير والاستصحاب، وذلك كلما علم بالتكليف وشك في المكلف به، وأما النسبة بين هذا الاحتياط والاحتياط الأصولي فقد يقال إن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق؛ لأن الاحتياط الأصولي خاص بالمورد الثاني فقط(1)

من الموارد الستة التي تقدم ذكرها، وأما الاحتياط الفقهي فيشمل هذا المورد وغيره إذ يشمل الشك في أصل التكليف، وهو مجرى البراءة في الأصول، فيحتاط مثلاً كلما شك في الوجوب، بالإتيان به وإن كانت الفتوى بعدمه أو باستحبابه، كما أنه يشمل سائر الموارد المتقدمة، كالاحتياط لدى الشك في المحصِّل وإن كانت الفتوى على البراءة فيه.

ومنه يظهر أن الاحتياط الأصولي واجب، في حين أن الاحتياط الفقهي قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون محرماً؛ وأما أنه هل يوجد احتياط مباح؟ فسيأتي الكلام عنه.

والجامع: أن الفرق بينهما هو الفرق بين المسألة الفقهية والمسألة الأصولية فإن الاحتياط الأصولي يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي بالمعنى الأعم الشامل للوظيفة العملية أي الأعم من الواقعي والظاهري، أما الاحتياط

ص: 18


1- الشك في المكلف به كمصداقي أو مصاديق الواجب فيجب الاحتياط بالجمع بينها، إن أمكن وإلا سيكون من دوران الأمر بين المتباينين فيخيّر بينهما.

الفقهي، فلا(1) هذا إن لم نقل بأن الاحتياط المطروح ههنا هو من المبادئ التصديقية لعلم الفقه(2)أو هو من القواعد الفقهية، ومصاديقه هي الاحتياط الفقهي، فتأمل كما أشرنا إليه في مبحث آخر مفصلاً(3).

ص: 19


1- والاحتياط المطروح هنا قسيم للاجتهاد، وأما المطروح في الأصول فإنه من مباحث الاجتهاد ومن أدواته وآلياته.
2- يراجع كتاب (المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول).
3- وفصلناه في مباحث الأصول.

المطلب الثالث: الأدلة على جواز الاحتياط ورجحانه أو وجوبه

إشكالان على جواز الاحتياط أو رجحانه

وقد يستشكل على جواز العمل بالاحتياط أو على رجحانه بوجهين:

الأول: إن الاحتياط إعراض عن طريقي الشارع والعقلاء؛ وهما: الاجتهاد والتقليد اللذين أمضاهما الشارع، فهو مرجوح إن لم يكن محرماً إذ هو عمل بلا حجة.

الثاني: إن الاحتياط يعني السير على غير هدى، بخلاف الاجتهاد والتقليد فهما هدى، قال تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ)(1)، أما المحتاط في مقام العلم فهو جاهل.

وعليه: فلا بد من البحث عن المسوّغ لجواز العمل بالاحتياط، ثم عن رجحانه في غير ما ثبت ذمه ومرجوحيته.

أدلة جواز الاحتياط

يمكن أن يستدل على جواز العمل الاحتياط بوجوه؛ يفيد بعضها رجحانه بل قد يدعى إفادة بعضها وجوبه أيضاً:

الوجه الأول: برهان الغرض

والاستدلال به يعتمد على مقدمات:

المقدمة الأولى: إن أفعال الشارع المقدس - ومنها أحكامه - معللة بالأغراض؛

ص: 20


1- سورة البقرة: 38.

وذلك لا للامتناع الذاتي في كونها بلا أغراض، ولا للامتناع الوقوعي الذي يعني استلزامه للمحال، بل بالنظر لحكمته تعالى:

أما عدم الامتناع الذاتي فلوضوح الإمكان بل إن له جل اسمه ذلك لأنه مالك وقادر وله أن يتصرف في ملكه كما يشاء حتى بدون وجود غرض وحكمة ومنفعة؛ والحاصل: إن هذا التصرف لا هو محال ذاتاً ولا يستلزم بذاته محالاً(1)؛ إلاّ أن ذلك يمتنع بإرادته بالنظر للحكمة؛ لأن الشارع حكيم، والحكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه؛ لذا لا يعقل بالنظر لحكمته أن يشرع تشريعاً عبثياً وإن كان قادراً على ذلك، وهذه الحقيقة نعتبرها كأصل موضوعي دلّت الأدلة الكثيرة من العقل والنقل عليه بل الضرورة والفطرة تقتضيه، وتفصيلها هناك، ونكتفي ههنا بالإشارة إلى آيتين كريمتين:

الأولى: قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)(2) فالآية الشريفة نفت اتخاذ اللّه تعالى اللغو بقول مطلق، وهذه كبرى مع وضوح إمكانه ولذا لو أراد لفعله، ودلالة الآية على الإمكان عرفية - فطرية فلا يرد صحة القضية الشرطية حتى مع امتناع المقدم، وأما الصغرى: فإن التشريع بلا غاية نوع من اللّهو واللغو.

الثانية: قوله تعالى: (أفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)(3) فالخلق له هدف وغاية؛ لذا لا يمكن أن تكون التشريعات التي تنظم كافة جوانب حياتهم إلا لغرض وهدف وغاية.

ص: 21


1- نعم قيل بان الفعل بلا غرض مطلقاً، ممتنع من المختار، لأن العلة الغائية هي علة فاعلية الفاعل، فالمراد من الغرض الممتنع بدونه الفعل جنس الغرض الأعم من الغرض العقلائي وغيره، ومورد البحث الغرض العقلائي، فتأمل.
2- سورة الأنبياء: 17.
3- سورة المؤمنون: 115.

المقدمة الثانية: إن الأغراض في تشريعات الشارع - على مسلك العدلية - هي المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات، وأما الأوامر الامتحانية فلا يوجد فيها أغراض ومصالح في المتعلقات، وإنما الغرض هو في نفس الأمر الامتحاني وهذه الأوامر نادرة وعلى خلاف الأصل، بل إن ثبوت كون الغرض في الأمر نفسه لا يخلّ بالمدعى إذ الاحتياط طريق قطعي لإحرازه(1)، فتدبر.

وهذه المقدمة نأخذها أيضاً كأصل موضوعي مقرر في علم الكلام، وبحثها في علم الأصول لكونها من المبادئ التصديقية له؛ لأن المقدمات تمهد في علوم أخرى.

والأدلة النقلية على ذلك(2) كثيرة نشير إلى واحد منها؛ وهو قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(3)؛ حيث إن الطيبات هي متعلق (يحل)، والخبائث هي متعلق (يحرم)؛ فلم يكن التحليل والتحريم عبثاً؛ بل كان لمصلحة ومفسدة في المتعلقات، وهو كونها طيّبة أو خبيثة، والقاعدة هي أن: تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية(4)، فتعليق الحِل على الطيب مشعر بكون الطيب علة للحل، وهو أصل موضوعي، وقد ذكرنا في كتاب (المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول) المائز بين المبدأ التصديقي وبين المسألة، ولا يتوهم أن (مشعر) مضعف؛ إذ الإشعار بالعلية في قبال الدلالة على العلّية، أما الدلالة على (الاقتضاء) فلا ريب فيها.

ص: 22


1- بأن يجتهد في معرفة الأمر الامتحاني أو يقلد أو يحتاط لإحراز حصوله.
2- إن الأغراض في تشريعات الشارع هي المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات، نعم قد تضاف إليها مصالح أو مفاسد أخرى خارجة عن المتعلقات.
3- سورة الأعراف: 157.
4- وهذه القاعدة معروفة بين الفقهاء، وقد استدلوا بها في الكثير من المباحث الفقهية والأصولية.

وقد سبقت الإشارة إلى أن الاستدلال لا يتوقف على هذه المقدمة إذ يكفي مطلق الغرض وإن لم يكن هو إحراز المصلحة في المتعلق.

المقدمة الثالثة: إن الاجتهاد والتقليد طريقان عقلائيان أمضاهما الشارع، ولا موضوعية لهما ولا وجوب نفسياً لهما ولا مصلحة سلوكية بينها(1).

وهذه المقدمة تنقح في (الأصول)(2) وفيها خلاف لكن المشهورشهرة عظيمة أن الاجتهاد والتقليد وجوبهما غيري؛ بينما ارتأى البعض - كالفيض والمقدس الأردبيلي . - وجوبهما نفسياً.

فبناء على المشهور: لا يوجد دليل على كون الاجتهاد والتقليد الممضيان شرعاً بشرط لا عن الطريق الثالث(3) أي أنه لا دليل على تعينهما، نعم هما بشرط لا بالنسبة لسائر الطرق، كالقياس والأحلام وطيران الغراب وجريان الميزاب والرمل والاسطرلاب؛ فلا يصح أن يستند إلى هذه الأمور في الفقه.

والحاصل: إن طريق الاجتهاد والتقليد بشرط لا بالنسبة لهذه الأمور للدليل الخاص على حرمة إتباعها، لكنهما لا بشرط من جهة الاحتياط.

المقدمة الرابعة: إن الاحتياط طريق قطعي لإحراز تلك الأغراض التي تعلل بها أحكام الشارع، فإذا كان الطريقان الظنيان(4) مبرئان للذمة فما بالك بالطريق القطعي؟

ص: 23


1- وإن كانت مصلحة سلوكية في تقليد المجتهد العادل فإنما هي بالقياس للمفسدة السلوكية في تقليد الفاسق لا بالقياس إلى الاحتياط، فتأمل.
2- في خاتمته، كما صنع الآخوند (رحمه اللّه) إذ أدرج مباحث الاجتهاد والتقليد في آخر الكفاية، أو في مبحث التعبدي والتوصلي أو مبحث المقدمة، أو في مبادئه التصديقية أو في القواعد الفقهية. وفي ذلك بحث ونقاش فراجع كتاب (المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد).
3- يراد من الطريق الثالث: الاحتياط.
4- الاجتهاد والتقليد.

نتيجتان لبرهان الغرض

فإذا تمت هذه المقدمات الأربع أنتجت أمرين:

الأمر الأول: إنه لا يعقل أن لا يجيز الشارع العمل بالاحتياط مع تمامية تلك المقدمات الأربعة، اللّهم إلا مع وجود مانع أو مزاحم أهم، كما ذكرناه في موضع آخر، فهذه الثمرة والنتيجة مقيدة؛ ومع تمامية الأدلة على التقييد تخرج تلك الصور الستة عشرة - أو بعضها - من الاحتياط الراجح؛ وبذلك يقيد إطلاق برهان الغرض ويظهر ما في إطلاق كلام الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه): من أن الاحتياط حسن على كل حال.

فهذه نتيجة فقهية وكلامية؛ وهي أن الشارع يحكم بوجوب أو بحسن الاحتياط، ولا يصح أن يحرمه من حيث هو هو.

الأمر الثاني: إنه لا يعقل أن لا يسقط أمر المولى مع تحقق غرضه؛ لأن الأمر معلول للغرض(1)، والأدق: إن الغرض داعٍ للأمر وعلته(2) إرادة الآمر، فإذا أراد المولى رفع العطش وقال لعبده ائتني بالماء، فجاءه العبد بإناء ماء وإناء عصير احتياطاً، فشرب العصير فرضاً وارتفع عطشه، فهل يعقل أن يبقى أمره بإتيان الماء(3)؟

والخلاصة: إن العبد لو عمل بالاحتياط بالإتيان بكافة الأطراف المحتملة فالأمر ساقط لا محالة.

ص: 24


1- أي معلول لإرادة المولى تحقيق أغراضه، فإذا تحقق الغرض فكيف يبقى الأمر؟.
2- علة الأمر.
3- لأنه لا يبقى أمر؛ فبعد تحقق الغرض لِمَ الأمر؟ قال السيد الخوئي (رحمه اللّه) في المحاضرات: (إن الأمر معلول للغرض الداعي له حدوثاً وبقاءً، فمع تحقق الغرض في الخارج لا يعقل بقاء الأمر، وإلا لزم بقاء الأمر بلا غرض، وهو كبقاء المعلول بلا علة محال) المحاضرات: ج3 ص156.

مناقشة مع مهذب الأحكام

ومما تقدم يتضح الإشكال على إطلاق بعض الأعلام القول بأن الاحتياط مسقط للعقاب؛ (لأنه مع صحة العمل ومطابقته للواقع لا وجه للعقاب) إذ قد سقط الأمر(1) فإن مجرد صحة العمل ومطابقته للواقع غير مسقط للعقاب، إلا بضميمة وجهين:

الوجه الأول: نفي المصلحة السلوكية في سلوك طريقالاجتهاد والتقليد، فإنه لو احتاط وأدرك الواقع؛ ولم ننف المصلحة السلوكية فإنه يبقى هناك وجه للعقاب؛ لأنه فوَّت المصلحة السلوكية التي هي إدراك الواقع عن طريق الاجتهاد والتقليد إذ لم يكن المطلوب إدراك الواقع فقط.

الوجه الثاني: نفي الوجوب النفسي للاجتهاد والتقليد كي لا يكون في تركهما العقاب لتركهما بذاتهما وإن وصل إلى الواقع ببركة الاحتياط، وقد يقال بان العقاب على نفس العمل بالاحتياط إذا فوّت الاجتهاد والتقليد بناء على حرمة المقدمة.

والحاصل: إن كلام المهذب يحتاج إلى تتميم؛ وهو أن يقال: إنه مع صحة العمل ومطابقته للواقع، ومع عدم وجود مصلحة سلوكية ولا وجوب نفسي

ص: 25


1- مهذب الأحكام: ج1 ص10 وهذا نص عبارته (رحمه اللّه): (إنّ المراد بجواز الاحتياط وعدمه في نظائر المقام إنّما هو الجواز الوضعي فقط دون التكليفي، لأنّه مع صحة العمل ومطابقته للواقع لا وجه للعقاب)؛ بل قال في ص11: (إنّ كيفية الإطاعة والامتثال من الأمور المتعارفة عند الناس، فكلّ ما حكم العرف بتحقق الامتثال فيه ولم يثبت الردع عنه شرعاً يكفي في الامتثال شرعاً أيضاً، ولا ريب في حكمهم بتحقق الإطاعة والامتثال في موارد الاحتياط كتحققها في موارد العلم التفصيلي، بل ربما يعد الامتثال الإجمالي الاحتياطي أقرب إلى الطاعة من الامتثال التفصيلي، لأنّ الامتثال الاحتياطي نحو انقياد للمولى في مورد احتمال طلبه وأمره، فيكون الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي في كفاية درك الواقع بكلّ منهما).

للاجتهاد والتقليد فإنه لا وجه للعقاب مع سقوط الأمر.

وقد يجاب: بأن مصبّ كلامه هو عدم استحقاق العقاب على مخالفة الأمر بالفعل المعين - كالصوم أو جلسة الاستراحة - لا عدم العقاب على ترك طي طريق الاجتهاد والتقليد وعدمه، فإنه أمر آخر، فتأمل.

وعلى أي فإن مدار هذا البرهان وهو برهان الغرض على أن الاحتياط مبرئ للذمة ولا عقوبة مطلقاً على فعله وترك قسيميه ولكن بشرط نفي الوجوب النفسي، وعدم المصلحة السلوكية للاجتهاد والتقليد.

ص: 26

دليل الاخباري على وجوب الاحتياط

وقد استدل الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، بوجه يكون بعد تعديله والإجابة عنه دليلاً على خلاف مدعاهم وهو الجواز والحسن، وكان الأجدر بالإخباريين أن يتخذوه دليلاً للجواز لا الوجوب.

لا انحلال مع بقاء الاحتمال

والدليل مركب من مقدمات أربع:

1: ثبوت العلم الإجمالي بالمحرمات

المقدمة الأولى: لا ريب في وجود علم إجمالي بمحرمات كثيرة في الشريعة؛ وقد قال تعالى:(وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(1).

2: الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية

المقدمة الثانية: إن العقل يحكم بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية؛ وهذه كبرى للمقدمة الأولى؛ فيجب الاجتناب عن كل أطراف الشبهة وعن كل المحتملات؛ وبموجب هذا العلم الإجمالي يجب علينا الاحتياط.

3: الدليل الاجتهادي لا ينفي ما سواه

المقدمة الثالثة: إن الأدلة الاجتهادية التي قامت على حرمة أشياء معينة(2) لا تنفي حرمة غيرها(3)؛ لأن اللقب لا مفهوم له(4)؛فلو اقتصرنا في التجنب عما

ص: 27


1- سورة الحشر: 7.
2- كالخمر والخنزير والميتة وأمثالها.
3- ولعل هذه المقدمة مأخوذة من القاعدة المعروفة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود).
4- تذكرة: قال المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) في وسيلة الوصول: (اللقب لا مفهوم له، والمراد به غير الشرط والوصف من ملابسات الفعل من المفعول به والحال وغيرهما من الملابسات،> < فإنّ قولنا: أكرم زيداً يوم الجمعة قائماً في المسجد، مثلاً لا يدلّ على عدم وجوب إكرام عمرو، ولا على عدم وجوب إكرام زيد في غير يوم الجمعة، ولا على عدم وجوب إكرامه قاعداً، ولا على عدم وجوب إكرامه في غير المسجد، وهكذا في سائر القيود، فإنّ شخص هذا الحكم الثابت لزيد بتمام هذه الخصوصيات ينتقي بانتفاء إحدى الخصوصيات، إلاّ أنّه ليس مفهوماً، بل المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم، واللقب لا دلالة له على انتفاء سنخ الحكم المعلّق عليه عن غيره). وسيلة الوصول: ص363.

قام دليل على حرمته فقط لما حصل يقين بالبراءة إذا اقتحمنا سائر ما يحتمل حرمته؛ وقد سبق أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

4: لا عقوبة مع الدليل على الحِلّ دون ما إذا فقد الدليل

المقدمة الرابعة: عند قيام دليل اجتهادي على الحلية فلا عقوبة قطعاً، كما لو قام الدليل على حلية ماء الورد مثلاً فهنا البراءة يقينية، ولكن ما لم يقم دليل بخصوصه على حليته فإن الأخباري يقول بوجوب اجتنابه، أما الأصولي فيقول بأن ما لم يقم دليل على حليته فهو مجرى البراءة؛ لأن العلم الإجمالي منحل بعد الفحص والعثور على مقدار معتد به مطلقاً، أو بعد الفحص عن سائر ما بقي من الموارد أيضاً وعدم العثور على دليل على الحرمة في الباقي.

ولكن الأخباري يدعي أن هذه شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي السابق؛ وهذا العلم الإجمالي السابق منجّز؛ ووجود أدلة اجتهادية على موارد التحريم لا تنفي حرمة سائر الموارد ولا تلغي وجود العلم الإجمالي كما لا تسقطه عن التنجيز، فلا مجرى للبراءة أصلاً.

فهذا موجز كلام بعض الأخباريين على وجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية.

وتوضيحه بالمثال: إن التبغ - مثلاً - محرم حسب هذا المبنى؛ لأننا نعلم

ص: 28

بوجود محرمات في الشريعة كثيرة استدعت وجوبالخروج عن عهدة التكليف بها بالاجتناب عنها؛ ولم يدل دليل اجتهادي بخصوصه على حلية التبغ؛ والأدلة على تحريم محرمات خاصة لا تنفي حرمة غيرها؛ ولا تدل على أنها بشرط لا؛ إذن يجب الاجتناب عن التبغ لوجود العلم الإجمالي من غير مؤمِّن.

وبعبارة أخرى: خلاصة كلامهم أن الأدلة على قسمين؛ الأدلة الخاصة المثبتة للحرمة في موارد، والأدلة الخاصة النافية للحرمة في موارد أخرى، وأدلة القسم الأول لا تنفي الحرمة في الموارد الأخرى (التي لم تدل الأدلة الخاصة على حرمتها ولا على حليتها) إلا بأحد وجهين:

الوجه الأول: الالتزام بمفهوم اللقب، ولكننا لا نلتزم به.

الوجه الثاني: الالتزام بالدلالة الإلتزامية لهذه الأدلة الاجتهادية مشفوعة بالعلم الإجمالي السابق؛ بمعنى أنه عند ملاحظة وجود العلم الإجمالي ووجود أدلة تحريم محرمات خاصة نظن بأنه لا محرم آخر، فكأن أدلة المحرمات بيان للعلم الإجمالي وتحديد لموارده ولكن هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً؛ فالعلم الإجمالي منجز.

وأما فيما لو قام دليل على الحلية؛ فإنه وإن كان دليلاً ظاهرياً لكنه يوجب الأمن العقوبة قطعاً؛ فمؤدى الدليل ظني لكن حجية الدليل الاجتهادي قطعية.

الجواب: الاحتمال الباقي ليس ناشئاً من العلم الإجمالي.

ولكن هذا الاستدلال مناقش بوجوه عديدة، ويكفي الآن أن نشير إلى أحدها فقط وهو: إن الانحلال على قسمين: انحلال مع بقاء الاحتمال، وانحلال مع انتفاء الاحتمال مطلقاً، والضار هو بقاء الاحتمال الناشئ من العلم الإجمالي(1) لا بقاء مطلق الاحتمال؛ لأن الاشتغال اليقيني إنما هو في الأول دون الثاني.

ص: 29


1- فإنه لا ينحل مع ذاك، العلم الإجمالي.

ويتضح ذلك بالمثال الآتي: فإذا كان هناك قطيع غنم يحتوي على مائة شاة بيضاء وخمسين سوداء، وحصل علم إجمالي بحرمة عشرة منها، فإنه يقتضي تجنبها جميعاً من باب شبهة الكثير في الكثير(1)، فلو أننا بعد ذلك علمنا بأن تلك العشرة المشخصة محرمةقطعاً، فهل هذا انحلال مع بقاء الاحتمال في بقية الأطراف، أم هو انحلال بدون بقاء الاحتمال؟

فقنول: نعم هناك احتمال بحرمة بعض الشياه الأخرى؛ لكنه ليس ناشئاً من هذا العلم الإجمالي؛ بل هو احتمال بدوي ناشئ من احتمال أن يكون المحرم هو اثنتا عشرة شاة وليس عشرة شياه مثلاً.

وعلى أي حال، فإن هذا الاحتمال غير ناشئ من العلم الإجمالي فهو ليس بمنجز، ووجه الإشكال على الأخباري أنه انطلق من العلم الإجمالي وبقاء الاحتمال حتى بعد العثور على جملة معتد بها من المحرمات فاستدل به على التنجز، ولم يلاحظ أن الاحتمال هنا بدوي.

والحاصل: إن العلم الإجمالي منحل لانتفاء الاحتمال الناشئ من قبله، أما وجود الاحتمال البدوي في سائر أطرافه فإنه كالاحتمال في الشبهة البدوية فإنه لا يضر(2)؛ فإنه غير منجِّز كما لا يخفى، وإن بقي معه الاحتياط حسناً، ولكنه ليس بواجب قطعاً.

ص: 30


1- تذكرة: قال في نهاية الأفكار: (شبهة الكثير في الكثير وهي ما كان المردد بين الأمور غير المحصورة أفراد كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأمور المحصورة، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوئة في ألفي شاة، حيث إن نسبة مجموع المعلوم بالإجمالي إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الأربعة، فحكمها حكم الشبهة المحصورة، بل هي في الحقيقة من أفرادها فتجري فيها قواعد العلم الإجمالي من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية). نهاية الأفكار: ج3 ص335.
2- أي بعد الفحص.

إذن ينبغي أن نفرق بين الاحتمال الناشئ من العلم الإجمالي والذاهب بذهابه، وبين الاحتمال الوجداني الموجود كثيراً ما حتى بعد انحلال العلم الإجمالي.

ثم إن الانحلال يمكن تصويره بنحوين: الأول: الانحلال مع بقاء نفس الاحتمال السابق(1)؛ الثاني: الانحلال مع عدمه.

ويوضحه: إنه لو كان هناك قطيع غنم يحتوي على مائة شاة، خمسون منها سوداء وخمسون بيضاء، وتيقّنا بحرمة عشرة منها(2)،ثم علمنا(3) بأن تلك العشرة هي من البيضاء؛ فعندئذ ينحل العلم الإجمالي الكبير كما ينحل العلم الإجمالي في ضمن السوداء قطعاً؛ لأن العلم الإجمالي الكبير تحول إلى علم إجمالي صغير منحصر في دائرة الخمسين البيضاء فقط، ثم إننا إذا عثرنا على عشرة شياه محرمة في البيضاء انحل هذا العلم الصغير أيضاً، وهنا صورتان: فتارة نعلم بأن ما عثرنا عليه هو نفس ما كنا قد علمنا بحرمته وأخرى لا نعلم، وذلك كما لو علمنا - بعد قطعنا السابق الكبير - بوجود عشرة محرمة معينة في هذه الخمسين البيضاء، لكن لم نقطع أن هذه العشرة هي نفس تلك العشرة؛ فهنا الاحتمال باقٍ وجداناً في البيضاء، ومع ذلك فإن العلم الإجمالي غير منجز بسبب انحلاله بواسطة قيام الدليل الاجتهادي؛ إذ لا علم وجداني الآن بوجود محرم في البين، بل هو مجرد احتمال، وإن كان ناشئاً من وجود علم إجمالي سابق.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنا علمنا إجمالاً بوجود محرمات كثيرة في الشريعة، ثم بتتبع الأدلة عثرنا على محرمات كثيرة، فهل نحن الآن قاطعون بأن ما

ص: 31


1- لكن مع موهونيته بحيث لا يعتني به العقلاء.
2- من غير تخصيص بالغنم البيضاء أو السوداء، بان كان لنا علم إجمالي بوجود المحرمة بينها فقط.
3- لاحظ قولنا (علمنا).

اكتشفناه هو عين ما علمناه إجمالاً؟ الظاهر لا؛ إذ لعل بعض الأدلة خاطئة فحرمت ما هو حلال(1) أو العكس(2) مع علمنا إجمالاً بأن أكثرها صحيح.

نعم، نحن نظن ظناً - وإن كان معتبراً - بأن المكتشف هو نفس ذلك المعلوم، فإذا كان كذلك ففي ما عدا تلك الموارد المكتشف حرمتها بالدليل الاجتهادي، فإن الاحتمال لا يزال باقياً بالوجدان وهو نفس الاحتمال الناشئ من العلم الإجمالي القديم(3)، ولكن لا يكون الاحتياط إلا حسناً وجائزاً لا واجباً؛ لأن بناء العقلاء في مثل هذاالموطن(4) ليس على الإلزام كما يقول الأخباري؛ وإنما هو صرف الحسن والجواز.

تعميم الآخوند (رحمه اللّه) للشبهة الوجوبية

وقد استدل الأخباريون بهذا الدليل - وكما سبق - على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، ولكن الآخوند (رحمه اللّه) عمّم كلامهم ليفيد وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية أيضاً، أي إنه ركب هذا الدليل على الشبهة الوجوبية.

ولكن بعض الأعلام أشكل على الآخوند (رحمه اللّه) بأن كلامه ليس بدقيق؛ وأن كلام الشيخ (رحمه اللّه) في الرسائل أدق؛ لأنه تقيد بحرفية كلام الأخباري ولم يسند إليهم ما لم يقولوه ولم يلتزموا به.

أقول: والظاهر عدم ورود هذا الإشكال على الآخوند (رحمه اللّه)؛ لأن مفاد كلامه هو إن دليل الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية بعينه جارٍ

ص: 32


1- كتحريم المرتضعة عشراً على القول به، أو كتحريم صلاة الجمعة على القول بالحرمة.
2- كعدم تحريم التبغ فرضاً، وعدم تحريم كشف المرأة وجهها فرضاً.
3- لا يخفى أن هذا التصوير لا يتطابق مع مثال مجموعتي الشياه الخمسين، بل مع أصل البيان السابق.
4- وهو الانحلال مع بقاء الاحتمال.

في الشبهة الوجوبية، فالملاك نفس الملاك، فلذا عمم.

والحاصل: إنه لم يسند التعميم للأخباري، وإنما أفاد بأن دليلهم - إن تمّ - فعليهم الالتزام بالتعميم ولا يخرج عنه إلا إذا دل دليل على عدم الوجوب في خصوصها.

ثم إن تطوير استدلال الأخباري وتفسيره في مقدمته الثانية، إلى أن الاشتغال الاحتمالي يستدعي رجحان البراءة اليقينية، يفيد حسن الاحتياط بلا وجوب، وهو المطلوب، ويكون هذا دليلاً على تعميم الآخوند (رحمه اللّه) لدليلهم للشبهة الوجوبية بعد نفي دلالته على الوجوب كما سبق، وذلك من وجوه قوله في الكفاية: (إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي).

هل الدليل أخص من المدعى؟

ثم إنه لا يرد على دليل الأخباري أنه أخص من المدعى؛ لأنه أفاد جواز الاحتياط في خصوص الشبهة الوجوبية والتحريمية أي في أطراف العلم الإجمالي، من دون أن يفيد الوجوب أو الجواز في الشبهات البدوية؛ لأنه انطلق من العلم الإجمالي، مع أن المدعى هو حسن الاحتياط على كل حال حتى في الشبهات البدوية، فالدليل أخص من المدعى؟ وذلك لأن للأخباري الجواب بأن كافة مواطن الشبهات البدوية هي من أطراف ذلك العلم الإجمالي الكبير؛ إذ لا توجد شبهة وجوبية أو تحريمية إلا وهي من أطرافه أو كانت منه، اللّهم إلا في المستجدات، كما سيأتي.

والحاصل: إنه إذا انطلقنا من العلم الإجمالي وقلنا بصحة استدلالهم فإنه

ص: 33

يفيد وجوب التجنب عن كل ما هو محتمل الحرمة على رأي الأخباري؛ ووجوب فعل كل ما هو محتمل الوجوب أيضاً على تعميم الآخوند (رحمه اللّه)؛ لأن كافة الأطراف هي محل الاحتمال المنبعث عن العلم الإجمالي(1).

هل العلم الإجمالي الكبير يشمل المستحدثات؟

نعم، لا يشمل هذا العلم الإجمالي المستجد من الأفعال أو المستجد من الجواهر؛ فإنها لم تكن في زمن الشارع لكي يشملها ذلك العلم الإجمالي الكبير؛ فهي شبهات بدوية محضة.

ومثال الجواهر المستحدثة: الحيوان المتولد من ذئب وشاة؛ فإن كان ذئباً أو شاة فهو، وإن كان بينهما فهو جوهر جديد.

مثال آخر: النباتات المستحدثة بالتركيب، فإذا ركّب التفاح على الخوخ مثلاً فلا شك في حليته(2)، لكن لو ركب العنب على التفاح فالمتولد منهما لو غلا عصيره ولم يذهب ثلثاه فهل يحرم شربه؟ فهذه شبهة بدوية في جوهر مستحدث.مثال ثالث: المعادن المستحدثة بالتصنيع بل الآلات المخترعة الجديدة.

وأما الأفعال المستحدثة فيمكن التمثيل لها بعمليات التجميل وبالألعاب الرياضية المستحدثة(3)؛ إذ إنها لم تكن في زمن التشريع.

ولكن قد يجاب باندراجها في بعض العمومات القرآنية أو الحديثية؛ كقوله تعالى: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)(4)، وكذلك الحال في كثير من الألعاب الرياضية المستحدثة إذا لم تكن لغرض

ص: 34


1- وقد سبق التأمل في هذا الكلام.
2- بل قد يدعى أنه من موارد الشبهة البدوية أيضاً.
3- ككرة الطاولة والسلة ورياضة التزلج.. الخ.
4- سورة النساء: 119.

عقلائي(1) فإنها تندرج في كليات اللّهو والعبث.

والحاصل: إنه قد يناقش ما ذكر: بأنه ما من شيء مستحدث - فعلاً أو جوهراً - إلا وهو مندرج تحت عنوان كلي من عموم أو إطلاق؛ فتدخل الجواهر والأفعال المستحدثة بهذا التخريج في أطراف العلم الإجمالي الكبير سواء في الشبهة الوجوبية أم التحريمية؛ فإنها وإن لم تكن موجودة زمن الشارع إلا أن كلياتها نوعاً أو جنساً كانت موجودة فتشملها العمومات والإطلاقات. وذلك لوضوح أن الأحكام الشرعية هي بنحو القضايا الحقيقية لا الخارجية؛ لذا لا تكون مرتهنة بوجود الموضوع في زمن النص ولا في غيره.

نعم، لا ريب إن هذه الجواهر والأفعال المستحدثة دائر أمرها بين العلم بحكمها وبين المشكوك فيه؛ فأما الأول؛ فلأنها مندرجة في كلي معين، وأما الثاني فللشك في اندراجه في أي كلّي من الكليات مع كونه ثبوتاً مندرج تحت إحداها بالضرورة.

وهذا الجواب على دليل الأخباري، يعد في الوقت نفسه إجابة عما توهمه بعض الأعلام من وجود منطقة فراغ في الشريعة(2)، إذ لا توجد منطقة فراغ في الشريعة على الإطلاق، فما من موضوع إلا وحكمه مبين بشخصه أو بكليّه في الشريعة وذلك إذا أريد ظاهرمعنى (الفراغ) وهو الفراغ الثبوتي فإنه لا يوجد فراغ ثبوتي أبداً إلا إذا أريد الفراغ عن الحكم الأولي، ولكن لا وجه لتخصيصه به؛ لوضوح أن كل شيء فإنه له: أ - حكماً أولياً، ب - أو ثانوياً ثبوتاً (كصورة الاضطرار والعسر والحرج والإكراه وشبههما)، وكلاهما حكم واقعي يدور مدار المصالح والمفاسد الثبوتية الأصلية أو الطارئة، ج - أو أصلاً عملياً إثباتاً

ص: 35


1- فهي لم تكن موجودة في زمن التشريع.
2- وصاحب هذه النظرية هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه اللّه)؛ وقد ذكرها في كتابه: (اقتصادنا).

كصورة الجهل بالحكم، وهو حكم ظاهري روعي فيه حال المكلف ومصلحة التسهيل.

وأما حكم الفقيه، بناء على القول بولايته، فهو مندرج في الثانوي والأولى تسميتها بالمنطقة المرنة أو المتحركة، وهي المقصودة من منطقة الفراغ لا المعنى الذي يفهم عرفاً من اللفظ(1)، والأدلة كثيرة منها:

قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(2).

وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه»(3).

إلى غير ذلك، وتفصيله موكول إلى محله.

لا تلازم بين القطع بعدم العقوبة والحلية الواقعية

إنه قد سبق قول بعض الأخباريين من أنه لو قام دليل شرعي على الحلية خرج هذا المورد من أطراف العلم الإجمالي بالقطع فلا عقوبة قطعاً.

ولكن ذلك وإن صحّ إلا أنه لا ينفي جواز الاحتياط وحسنه؛ لأن انتفاء

ص: 36


1- قال السيد الشهيد في كتاب اقتصادنا: (ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها يمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع اعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف فأحياء الفرد للأرض مثلا عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقاً لمقتضيات الظروف). اقتصادنا: ص689. (المحقق).
2- سورة المائدة: 3.
3- الكافي: ج2 ص74.

العقوبة قطعاً لا يستلزم انتفاء الحرمة قطعاً، بل في الكثير من الموارد فإن الحرمة منتفية ظناً؛ فيبقى حسن الاحتياط توقياً من الوقوع في الحرام الواقعي الموهوم على حاله(1)، ولا تنافي بين الأمرين(2)؛ لأن أحدهما(3) أمر واقعي رتب على الدليل الظاهري، نعم لا ريب أن الدليل الشرعي الاجتهادي ينفي وجوب الاحتياط.

الوجه الثاني: برهان الامتثال القطعي

الوجه الثاني(4): برهان الامتثال القطعي

وهو إن سالك سبيل الاحتياط ممتثل قطعاً؛ فإنه قد أتى بالمأمور به على كل التقادير، أما سالك طريقي الاجتهاد والتقليد فهو ممتثل ظناً، فالاحتياط أولى بالجواز بل هو أرجح.

وبتعبير آخر: إنه ممتثل إجمالاً قطعاً، وإن لم يعلم تفصيلاً ما كان به امتثاله أو لم يعلم وجهه، والحاصل: إنه قاطع بأنه قد أتى بالمأمور به وإن شك في أن المأمور به كان واجباً أو مندوباً(5) أو إن هذا كان واجباً أو ذاك.

أما الأول: فكما في جلسة الاستراحة، أو الدعاء عند رؤية الهلال؛ فإنه لو أتى بجلسة الاستراحة ودعا عند رؤية الهلال فإنه قاطع بأنه قد أتى بمطلوب المولى وامتثل طلبه، وإن لم يعلم أنه كان على نحو الوجوب أو الاستحباب.

وأما الثاني: فكما لو صلى قصراً وتماماً، أو ظهراً وجمعة.

وبعبارة أخرى: إن الاحتياط طريق موصل عملاً للواقع، لوضوح أن

ص: 37


1- إلا في الموارد المذمومة، وقد ذكرناها في موضع آخر.
2- انتفاء العقوبة وحسن الاحتياط.
3- وهو عدم العقوبة؛ إذ رتب على الحلية الظاهرية.
4- الوجه الأول: برهان الغرض.
5- أي شك في وجهه.

الاحتياط يتضمن إدراك الواقع عملاً؛ فهو إدراك عملي قطعي وإن لم يوجب إدراكه علماً إذ لا نعلم بوجه المكلف به أو بشخص المكلف به لدى الدوران بين المتباينين؛ فهو أولى بالإجزاءبالقياس إلى الطريقين.

قال المحقق القزويني (رحمه اللّه) في تعليقة على المعالم(1): (فيكفي في وجود المقتضي كون الاحتياط موصلاً إلى الواقع محصّلاً للمصلحة المطلوبة منه، فكان مجزياً عمّا كان الغرض من جعله طريقاً وهو تحصيل مصلحة الواقع).

وبعبارة أخرى: إنه قد يقال بأولوية الاحتياط؛ لأن المطلوب بالذات هو الواقع فإنه الحامل للغرض، والاحتياط موصل له قطعاً، وأما الاجتهاد والتقليد فهما موصلان ظنيان؛ فالاحتياط أولى؛ لأنه قطعاً مجز، ولكن سيأتي منا نقاش في ذلك بإذن اللّه تعالى.

ثم إن المحقق القزويني (رحمه اللّه) أشكل بأنه إذا كان الاحتياط موجباً للبراءة قطعاً لكونه موصلاً للواقع قطعاً، ولم يكن الاجتهاد والتقليد موصلين إلا ظناً؛ فكيف أوجبهما الشارع بنحو الوجوب التخييري إلى جوار الاحتياط، أي كيف يشرع ما ليس بطريق قطعي كقسيم للطريق القطعي، ثم أجاب اجمالاً: بالمصلحة السلوكية؛ ولكن هذا الجواب غير تام على إطلاقه، وإن كان صحيحاً في الجملة، كما سيأتي بإذنه تعالى.

الوجه الثالث: الأخبار الدالة على رجحان وجوب الاحتياط

الروايات الدالة على وجوب أو رجحان الاحتياط كثيرة(2)، وهي بين

ص: 38


1- تعليقة على معالم الأصول: ج6 ص241.
2- انظر فوائد الأصول: ج3 ص372، وأوسع منه ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) في فرائده، بل قال في أول بحثه عن هذه الروايات في ج2 ص64: (ومن السنة طوائف: إحداها: ما دل على حرمة القول والعمل بغير العلم... والثانية: ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم، وهي لا تحصى كثرة). ولكن فيه: إن التوقف غير الاحتياط.

صحاح وموثقات، ومراسيل معتضدة بالشهرة.

وقد وقع الخلاف في دلالتها؛ فالأخباري يقول بدلالتها على الوجوب في الشبهات التحريمية؛ وأما الأصولي فيرى بدلالة بعضها(1) على الاستحباب والرجحان المطلق، ودلالة بعضها الآخر على التوقفحتى يفحص ويصل للدليل.

الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن على الاحتياط

ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة صحيحة السند، مع جواب عام يعطينا ضابطة كلية، وتنفي دلالة روايات الاحتياط على الوجوب في الشبهات البدوية؛ فتبقى دلالتها على الاستحباب والجواز وهو المقصود.

والرواية هي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء).

وجوهر السؤال يعود إلى السؤال عن جريان قاعدة العدل والإنصاف هنا، فإنها تجري في الأمور المالية، فهل تجري في المقام أو لا؟

فأجاب الإمام (عليه السلام) بقوله: «لا، بل عليهما أن يفدي كلّ منهما الصيد» فقوله (عليه السلام): «لا» نفي، وقوله: «بل عليهما أن يفدي كل منهما الصيد» إثبات للشق الثاني؛ وتتمة الرواية: (قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا»)(2).

ص: 39


1- بنفسها أو بعد الجمع بينها وبين الروايات النافية للوجوب.
2- الكافي: ج4 ص391، وفيه: (عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان الجزاء بينهما، أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال: «لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد»، قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»).

والاستدلال بهذه الرواية - على الوجوب أو الرجحان، مطلقاً أو في الجملة - يتوقف على مقدمات:

المقدمة الأولى

تحديد المراد من قوله (عليه السلام): «إذا أصبتم بمثل هذا» من بين احتمالات أربع هي:إرادة الجنس، أو النوع، أو الصنف، أو الأخص من الصنف، وهذا تفصيلها:

الاحتمال الأول: إن المراد منه(1) جنس المسؤول عنه؛ وجنس المسؤول عنه يشمل الشبهات الحكمية مطلقاً(2)؛ فيكون هذا رداً على الأخباري؛ لأنه خصص الاحتياط بالشبهة التحريمية.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد منه خصوص الشبهة الوجوبية؛ ويكون هذا أيضاً رداً على الأخباري؛ لأن مورد الرواية هو وجوب كفارة واحدة أم كفارتين، فالشبهة وجوبية وقد التزم الأخباري بالبراءة فيها.

فالرواية على هذين الاحتمالين لابد للأخباري أن يجيب عنها كالأصولي؛ لأنها على خلاف كلا المبنيين.

الاحتمال الثالث: المراد منه خصوص الشبهات الوجوبية في الأمور المالية، أي هذا الصنف الخاص.

الاحتمال الرابع: المراد منه خصوص باب الكفارات فقط.

وقد يدعى أن ظاهر الرواية هو الاحتمال الأول(3) بقرينة مناسبة الحكم

ص: 40


1- وهو قوله (عليه السلام): «إذا أصبتم بمثل هذا».
2- الوجوبية والتحريمية.
3- إرادة الجنس.

والموضوع، إذ ظاهرها أن المدار هو الجهل والعلم؛ والجهل والعلم لا فرق فيهما بين مطلق الأمور المالية أو الكفارات ومطلق الشبهات الوجوبية أو التحريمية، كما أن الحكم وهو (الاحتياط حتى السؤال والعلم) عقلائي في مطلق الشبهات، فيفيد العموم بوجوب الاحتياط بقول مطلق.

فهذا وجه الاستدلال بها على وجوب الاحتياط، وأما وجه الاستدلال بها على رجحان الاحتياط فهو أنه قد دل الدليل(1) على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية (بل مطلقاً) بعد الفحص واليأس عن العثور على دليل؛ فلا يمكن أن تفيد هذه الصحيحةونظائرها إلّا استحباب الاحتياط عندئذٍ وذلك بناء على استظهار شمولها لما بعد الفحص واليأس، لتعليقها رفع الاحتياط على (حتى تسألوا فتعلموا)؛ فإذا سأل وعلم فلا احتياط، وإذا سأل ولم يعلم فالاحتياط باقٍ، فلا يكون إلا استحبابياً، لبداهة عدم وجوب الاحتياط بعد الفحص وعدم العثور على الدليل، في الشبهة الوجوبية، فتأمل؛ إضافة إلى أن ذلك مبني على أحد أمرين: أحدهما كون الاستحباب والوجوب مرتبتين، وإن نفي المرتبة العليا يستبطن إثبات المرتبة الدنيا عرفاً.

ثانيهما: تركب الوجوب من إباحة ورجحان ومنع من النقيض، حتى إذا انتفى الأخير بالدليل بقي الأولان. وفي ذلك وما سبقه نقاش كما سيأتي.

المقدمة الثانية

تحديد الاحتمال الأرجح من بين الاحتمالات الثلاث المرادة من قوله (عليه السلام): «عليكم بالاحتياط»:

الاحتمال الأول: الاحتياط في العمل، فلو كانت الشبهة تحريمية فبالتجنب

ص: 41


1- كما سيأتي.

عن الأطراف؛ كما لو ارتضعت معه بنت اثنتا عشرة رضعة وشك أن المحرِّم هو العشرة أو خمسة عشرة رضعة؛ فعليه أن لا يتزوج بها حتى يسأل ويعلم.

وأما لو كانت الشبهة وجوبية فبالجمع بين الأطراف؛ كما لو دار الأمر بين المتباينين: هل يصلي الظهر أم الجمعة مثلاً؟ وكما لو دار أمر الشيء الواحد بين وجهين كالدعاء عند رؤية الهلال إذا دار أمره بين الوجوب أو الاستحباب فيحتاط بالدعاء حتى يسأل.

الاحتمال الثاني(1): الاحتياط في الفتوى(2) لا بالعمل، أي لا تفت فوراً بل احتط حتى تسأل فتعلم؛ فتفتي أو تجيب على طبق ذلك.

الاحتمال الثالث: الأعم مما جاء في الاحتمالين المتقدمين، أيإذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط عملاً وفتوى(3) وذلك لمكان الإطلاق، ففي الفتوى لا يجوز أن تسند لله تعالى ما لم تعلم أنه منه، وفي العمل أيضاً عليك أن تحتاط؛ وذلك بأن تجمع بين الظهر والجمعة مثلاً حتى حين إمكان السؤال والعلم بالواجب منهما؛ نظراً لفوات وقتهما لو لم تفعل حتى تسأل.

فإذا تم ذلك تكون الرواية دليلاً على الوجوب مطلقاً، لكن يرفع اليد عنها نظراً لوجود روايات متقدمة عليها وعلى سائر روايات الاحتياط، إذ تفيد أن روايات الاحتياط خاصة بأطراف العلم الإجمالي، مع حملها فيما عداها على الندب في غيرها.

ص: 42


1- واختاره البعض نافياً الاحتمال الأول.
2- أو في الجواب عن السؤال.
3- أما عملاً، فلأن السؤال كان عن (الجزاء عليهما)؛ وأما فتوى، فلأن السائل قد سأل عن الفتوى فيها (أو عن الجواب) فلم يدر ما يقول؛ فسأل الإمام (عليه السلام).

المقدمة الثالثة

تحديد المراد من قوله (عليه السلام): «مثل هذا» فإنه يحتمل أن يكون المراد مثله من صُوَر دوران الأمر بين الأقل والأكثر؛ لأن مورد الرواية هو ذلك؛ إذ هما شخصان أصابا صيداً وكل واحد منهما يدور أمره بين الأقل والأكثر؛ إذ لا يعلم أن عليه جزاءً أو نصف جزاء.

وعلى أية حال، فإن الاستدلال بهذه الرواية على حسن وجواز الاحتياط بقول مطلق بعد رد كلام الأخباريين الذين اعتبروها دالة على الوجوب، يتوقف على رد تخصيص الرواية بالأقل والأكثر كما هو المورد، فإنه لو خصصت بالأقل والأكثر ستكون دالة على جواز أو وجوب الاحتياط في هذه الصورة فقط، وحينئذ فما هو الدليل على التعميم؟

وقد يدعى أن الدليل هو مناسبة الحكم والموضوع - نظير ما تقدم - أو هو إلغاء الخصوصية(1)؛ لأنه لا نجد خصوصية لحسن وجواز الاحتياط في خصوص الدوران بين الأقل والأكثر، بلالملاك موجود حتى في الدوران بين المتباينين (مما أمكن الجمع بينهما) حتى في الشبهات البدوية.

وقد يدعى أن المراد من (مثل هذا) جنسه الشامل لصورتي الدوران بين المتباينين وبين الأقل والأكثر، كما هو المتفاهم عرفاً، فتأمل.

وجوه الجمع بين روايات الاحتياط والبراءة

ثم إن الروايات الدالة على الاحتياط والدالة على البراءة مبدئياً تبدو متعارضة؛ فإن من روايات البراءة: «إن الناس في سعة ما لم يعلموا»(2) أي ما

ص: 43


1- وقد فصلنا في كتاب (فقه قاعدة الإلزام) التأمل في الاستناد إلى إلغاء الخصوصية ونظائرها.
2- عوالي اللئالي: ج1 ص424.

داموا لا يعلمون فهم في سعة(1) أو هم في سعةٍ مما لا يعلمون، على قراءة الإضافة (وكسر سعة) وقراءة القطع (وتنوين سعةٍ).

ومنها: «رفع ما لا يعلمون»(2).

ومنها: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(3)، أي مرفوع عنهم؛ لأنه قد حجب عنهم علمُه.

وفي المقابل: فإن من روايات الاحتياط: «أخوك دينك فاحتط لدينك»(4)؛ لأن الاحتياط لا سعة فيه.

ومنها: «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط»(5) وهي صحيحة كما سبق.

والحاصل: إن رواية «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا» ظاهرة في وجوب الاحتياط وكذا بعض نظائرها، لكن رواية «ما حجب علمهعنكم فهو موضوع عنكم» تفيد أن الحكم موضوع عنهم، وكذا نظائرها، والرفع والسعة والوضع عنهم ينافي وجوب الاحتياط؛ فإن وجوبه ضيق وتشديد كما أن وجوبه لازم عدم رفع الحكم، لذا وجب ليتحفظ عليه، أما إذا كان الحكم مرفوعاً عنهم فلا يعقل إيجاب الاحتياط للتحفظ عليه.

ص: 44


1- بحسب القراءة الثانية.
2- الكافي: ج2 ص463، وهو قد نقل الحديث مرفوعاً، وأما الصدوق في التوحيد: ص353 فقد نقله بسند متصل ومختلف.
3- الكافي: ج1 ص164.
4- الأمالي للمفيد (رحمه اللّه): ص283، وكذا نقلها الشيخ (رحمه اللّه) في أماليه: ص110 عن شيخه المفيد بنفس السند.
5- وهي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تقدم ذكرها.

والسؤال عن وجوه الجمع العرفي غير التبرعي بين الطائفتين، فإنه إذا لم نصل إلى وجه جمع عرفي واستقر التعارض؛ فلابد من القول بالتساقط أو بالتخيير بحسب اختلاف المباني، إن تكافأت الطائفتان وإلا قدّمنا الأرجح منهما بحسب المرجحات المنصوصة أو مطلقاً - على المبنيين -، فمن المنصوصة ما ورد في المقبولة من: «الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا»(1) بناء على شمولها للرواية وكذا الترجيح بالشهرة وغيرها، ومن غير المنصوصة الترجيح بكثرة الروايات في أحد الطرفين.

وجوه الجمع

حمل روايات الاحتياط على الاستحباب

الوجه الأول(2): إن روايات البراءة نص وروايات الاحتياط ظاهر فلا تعارض مستقراً بين الطائفتين؛ بل هو تعارض بدوي غير مستقر يرتفع بالتأمل والتدبر؛ فإن طائفة روايات البراءة نص، وطائفة روايات الاحتياط - ومنها هاتان الروايتان - ظاهرة في الوجوب؛ فيحمل الظاهر على النص، أي نرفع اليد عن الظاهر بمعونة النص، فيكون مفاد روايات الاحتياط استحبابه.

والحاصل: إن النص لا يتصرف فيه لأنه نص بل يتصرف في الظاهر ببركة النص، إذ يصلح عرفاً قرينة على المراد منه؛ وذلككما يجمع العرف بين العام الظاهر والخاص النص، ففي المقام «أخوك دينك فاحتط لدينك» ظاهر في الوجوب لظهور صيغة الأمر فيه، وأما «رفع ما لا يعلمون» فنص، في رفع الحرمة والوجوب فنحمل الأمر بالاحتياط على الندب أي مطلق الرجحان، فنكون في

ص: 45


1- الكافي: ج1 ص67.
2- وهذا الوجه أفضل الوجوه وأسدها وأوضحها.

سعة من الحكم الواقعي الذي يكون مرفوعاً عنا وموضوعاً عنا مع رجحان الاحتياط عليه، وهو جمع عرفي كما لا يخفى(1).

وكذلك قوله (عليه السلام): «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»، فإنه نص في أنه ليس بواجب عليهم ولا بمحظور عليه (أي محرم) فإذا وجدنا مع ذلك أنه ورد «احتط لدينك» أفاد حسن الاحتياط، ولا مانعة جمع بين الكلامين ولا تنافي بين الدلالتين؛ بل لو وصلنا بين الكلامين لرأينا بعضها يكمل البعض الآخر وأن المحصلة هي: (ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ولكن احتط)؛ فإن المعنى هو أن الأفضل أن تحتاط.

وبتعبير آخر: لو أخذنا بظاهر روايات الاحتياط وهو الوجوب؛ لزم طرح كافة روايات البراءة، في حين أننا لو أخذنا بروايات البراءة لما لزم طرح روايات الاحتياط؛ لأنها تحمل على الاستحباب، ولا شك في أن بناء العقلاء على أنه لو صدر كلامان من المولى يمكن أن يجمع عرفاً بينهما فإنه الأولى من أن طرح أحدهما.

وهذا الوجه يصلح دليلاً على أصل المدعى الذي كان عليه مدار البحث(2)؛ وهو جواز الاحتياط أو حسنه بقول مطلق، فعلى هذا الجمع فإن روايات الاحتياط، ومنها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج مع المقدمات الثلاث(3)،

تكون دليلاً على جواز الاحتياط وحسنه بقول مطلق، بعد رفع اليد عن ظاهرها في الوجوب.

ص: 46


1- وإذا حصل هذا الجمع انتفى التعارض، كما هو واضح.
2- وقد أشار إليه عدد من الأعلام منهم الآخوند (رحمه اللّه) في الكفاية.
3- في الصحيحة.

حمل أوامر الاحتياط على الإرشادية

الوجه الثاني(1): إن روايات الاحتياط إرشادية، وذلك نظير أوامر الإطاعة: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(2) والتوبة: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ)(3) والعدل: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)(4) وغيرها من المستقلات العقلية أو مما امتنع كون الأمر فيها مولوياً للزوم الدور أو تحصيل الحاصل أو لغير ذلك.

فإنها على المشهور بين المتأخرين أوامر إرشادية، والمقام من هذا القبيل؛ فإن الأمر بالاحتياط إرشادي؛ لأنه أمر تعلق بأحد المستقلات العقلية، وعليه: فليس بواجب بل يحسن عقلاً أن يتجنب الإنسان كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، ويفعل كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية، وأن يأتي بالأكثر عند الدوران بينه وبين الأقل، وهكذا.

وفي المقام «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط»(5)؛ فإنه يقال بناءً على ذلك أن الإمام (عليه السلام) يرشد إلى حكم العقل بالاحتياط حتى يسأل الإمام (عليه السلام) أو من يعلم الحكم، فيعلمه؛ فإذا كان كلامه (عليه السلام) في هذه الرواية وفي سائر روايات الاحتياط إرشادياً فإنه يعني أن روايات الاحتياط هي مجرد مرشد إلى ما استقل به العقل فإن كان وجوباً فوجوب، أو ندباً فندب؛ وحيث إن العقل يحكم (أو يدرك) في أطراف العلم الإجمالي بوجوب الاحتياط، وفي أطراف الشبهات البدوية باستحبابه؛ فتكون تلك الروايات مرشدة للعقل وتابعة له في كلا شقيه

ص: 47


1- وهذا الوجه ينفع على مسلك المشهور.
2- سورة النساء: 59.
3- سورة النور: 31.
4- سورة المائدة:9.
5- هذا قوله (عليه السلام) في صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج التي تقدم ذكرها.

وحكميه؛ فيتم بذلك الجمع بين روايات الاحتياط وروايات البراءة، فإن روايات البراءة مثل «ما لا يعلمون» و«ما حجب اللّه علمه» لا تشمل المعلوم بالعلم الإجمالي تخصصاً؛ فيكون مجالها الشبهات البدوية والشبهات البدوية يحسن فيها الاحتياط عقلاً وروايات الاحتياط - كماسبق - مرشدة لذلك فقط.

ولكننا ناقشنا كبرى أن الأمر إذا تعلق بالمستقلات فهو إرشادي في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) وغيره حيث ذكرنا تسع ضوابط بين محتملة ومقولة للأوامر الإرشادية، وناقشنا إطلاق كون الأمر المتعلق بالمستقلات إرشادياً، كما ناقشنا صغرى لزوم الدور في مثل أمر الاطاعة أو اللغوية أو لزوم تحصيل الحاصل أو كونه في الأمر بالمستقلات في مثل الأمر بالعدل أو التوبة، وأوضحنا أن الأمر في كون الأمر إرشادياً يتبع ظاهر لسان الدليل، وفي المقام فإنه وإن أمكن القول بأن «أخوك دينك فاحتط لدينك» إرشادي إلا أن مثل «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا» ظاهر في المولوية، فتأمل.

تخصيص روايات الاحتياط بروايات البراءة

الوجه الثالث: إن روايات البراءة أخص مطلقاً من روايات الاحتياط فتتقدم عليها؛ نظراً إلى أن روايات الاحتياط تشمل صوراً ثلاثة:

الصورة الأولى: الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص.

الصورة الثانية: الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص.

الصورة الثالثة: الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

في حين أن روايات البراءة خاصة بصورة الشبهات البدوية بعد الفحص لخروج موارد العلم الإجمالي موضوعاً عن «ما لا يعلمون»، ولانصرافها عما قبل الفحص بل ظهور مثل «ما حجب اللّه علمه» فيما بعد الفحص.

ص: 48

ولكن هذا الوجه ينتج عدم صحة الاستدلال بروايات الاحتياط على جواز وحسن الاحتياط؛ إذ تدل حينئذ على وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي وفي الشبهات البدوية قبل الفحص، وما عدا ذلك وهو البدوية بعد الفحص، فلا وجوب ولا رجحان إذ كانت من نصيب أدلة البراءة.

اللّهم إلا أن يقال: بأن أدلة البراءة دلت على رفع الأحكام الإلزامية من وجوب وحرمة في الشبهات البدوية بعد الفحص، فيبقى الاستحباب مستفاداً من دليل الاحتياط؛ فإن «السعة» في «الناس في سعة ما لم يعلموا» تتحقق برفع الوجوب وإن بقي الندب والحسن؛ فيقتصر في رفع اليد عن مفاد دليل الاحتياط على مقدار التعارض لا أكثر؛ فإنه لا تعارض بين أصل رجحان الاحتياط وبين أدلة البراءة؛ كي يرتفع أصل رجحان الاحتياط إذا قدمنا أدلة البراءة في الشبهات البدوية بعد الفحص على دليل الاحتياط.

والحاصل: إنه لو ارتفع وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص فأنت في سعة، والامتنان متحقق ب«رفع ما لا يعلمون».

لكن قد يورد عليه: بأنه لا يمكن رفع الوجوب وبقاء الجواز لأن المستفاد من الأمر أو النهي أمر بسيط وأجيب بتركب الوجوب أو بمشككيته، فتأمل وتفصيله في مباحث الأوامر.

كما قد يورد عليه: بأنه يستلزم أن تكون أدلة الاحتياط دالة على الوجوب والاستحباب في وقت واحد؛ لأن الفرض أن أدلة البراءة أخرجت مواردها عن وجوبها (بأدلتها) وعن وجوب الاحتياط فبقي رجحان الاحتياط المدلول عليه(1) بقوله: «أخوك دينك فاحتط لدينك»؛ فتكون النتيجة: احتط وجوباً في أطراف

ص: 49


1- فإنه جنس الوجوب.

العلم الإجمالي وفي الشبهات البدوية قبل الفحص، واحتط استحباباً في الشبهات البدوية بعد الفحص؛ فيلزم دلالة اللفظ الواحد على معنيين متغايرين في وقت واحد، واستعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد محال - كما قالوا - لكننا نرى إمكانه وإن المحال هو استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد على أن يكون كل منهما تمام المراد، خاصة؛ وعلى أي فإنه حتى على الإمكان فإن القول بدلالة «احتط» على الوجوب في موارده وعلى الاستحباب في موارده؛ خلاف الظهور العرفي المنساق من الكلام؛ لأنه (بلسان قومه)(1)؛ والعرف لا يفهممن هذا اللفظ الواحد أنه للوجوب في موارد وللاستحباب في موارد أخرى.

نعم، من يرتأي كون هذا الاستعمال عرفياً؛ فإن هذا الوجه يصلح لديه دليلاً على جواز ورجحان الاحتياط حتى في الشبهة البدوية بعد الفحص واليأس، فتأمل.

ص: 50


1- إشارة إلى قوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ).

دعوى اختصاص الصحيحة بالفتوى

وقد يقال: إن وجوه الجمع السابقة تامة في غير صحيحة عبد الرحمن، أما في صحيحته فلا حاجة لها إلا مع تمامية تلك المقدمات الثلاث؛ وأهمها في المقام كون الصحيحة أعم من الاحتياط في الفتوى والاحتياط في العمل؛ فلو تمت دلالة الرواية على العموم احتجنا إلى إحدى وجوه الجمع السابقة(1)، ولكن قد يقال(2): إن هذه الرواية ظاهرة في الاحتياط في الفتوى فقط، وعلى ذلك تكون نسبتها إلى أدلة البراءة هي التباين؛ فتكون الرواية أجنبية عن المقام؛ وذلك لأن موضوع الصحيحة هو الفتوى، وموضوع أدلة البراءة العمل(3)؛ فهما موضوعان مختلفان؛ فلا تعارض لنحتاج إلى الجمع.

نعم، هذا الوجه خاص بالصحيحة على فرض صحته، وقد مضى استظهار التعميم، فتأمل؛ وأما باقي الروايات فهي التي لا بد فيها من اللجوء إلى إحدى وجوه الجمع الثلاث الماضية.

الوجه الرابع: تعميم أدلة الاحتياطات الخاصة

الوجه الرابع(4): تعميم أدلة الاحتياطات الخاصة

ومما قد يستدل به على جواز الاحتياط أو حسنه مطلقاً: تعميم ما ورد من أدلة الاحتياطات في الموارد الخاصة، فقد يستدل بروايات الاحتياط الواردة في مقامات خاصة على حسن الاحتياط بقول مطلق؛ بتنقيح المناط وكشف الملاك

ص: 51


1- حتى كون دليل الاحتياط أعم مطلقاً من دليل البراءة، لأن نسبة الصحيحة بناء على عمومها للفتوى والعمل، مع أدلة البراءة، تبقى أعم بل أكثر عمومية، فتدبر.
2- كما ذهب إليه البعض.
3- أي في مقام العمل ماذا تفعل، فالإمام (عليه السلام) يقول: «رفع ما لا يعلمون».
4- من وجوه الاستدلال على جواز الاحتياط أو رجحانه أو وجوبه.

بدعوى أن تلك الروايات الخاصة إنما أمرت بالاحتياط في مواردها لا لخصوصية فيها؛ وإنما لعوْدها إلى أصل عقلائي وقاعدة عامة وهي حسن الاحتياط عقلاً وعقلائياً بقول مطلق، وقد طبقت الرواية هذه الكبرى على موردها، فلاحظ مثلاً مرفوعة زرارة، عن الإمام الباقر (عليه السلام) والتي عدد فيهاالإمام (عليه السلام) بعض وجوه الترجيح ثم قال (عليه السلام): «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر»(1).

فإن هذه الرواية وإن كان موردها باب التعارض، ولكن يمكن تعميم الملاك الذي ذكره الإمام (عليه السلام)؛ بدعوى أن اللسان لسان الإرجاع إلى أمر عقلائي وأمر عقلي، وليس اللسان لسان التعبد بالاحتياط؛ خاصة بقرينة قوله (عليه السلام): «لدينك»؛ وبملاحظة مادة الحائطة من (حوط)، والتي تفيد إحاطة الشيء بما لا يسمح بتسرب العلل إليه، فتأمل(2)؛

بل أقول: لا حاجة لذلك لإمكان دعوى أن لفظ الرواية يعم غير المتعارضين والمورد لا يخصص الوارد، فتأمل(3).

الوجه الخامس إلى السابع

بناء العقلاء وسيرة المتشرعة والإجماع

ومن الأدلة على جواز الاحتياط: بناء العقلاء، وسيرة المُتشرعة(4)، والإجماع.

ولكن هذه الأدلة الثلاثة غاية ما تفيده هو الجواز في الجملة لا الجواز بالجملة؛ وذلك لأنها أدلة لبية فيُقتصر فيها على القدر المتيقن، كما أنها لا تفيد

ص: 52


1- عوالي اللئالي: ج4 ص133.
2- للإشكال العام مبنى في (تنقيح المناط) وانه لا يزيد على كونه، في المقام وغالب المقامات الأخرى، ظنياً، فتأمل.
3- لأنها ظاهره عرفاً في اختصاصها بالمتعارضين، فتدبر.
4- كما نشاهد المتشرعة في مثل إجراء عقد النكاح، حيث يحتاطون بإجرائه بصيغ مختلفة.

- إن أفادت - إلا الجواز دون الحسن.

وذلك لأن بناء العقلاء وسيرتهم وسيرة المُتشرعة لا لسان لها كي يُتمسك بإطلاقه أو عمومه، كما لا لسان لها لتدل على الحسن والرجحان.

وأما الإجماع فهو غالباً مما لا معقد له فلا يُتمسك أيضاً بإطلاقه أو عمومه من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ حيث إن وجودمعقد للإجماع - أي اتفاق الفقهاء في مسألة ما على لفظ واحد بعينه - أمر نادر؛ فعندما يُقال: إن الإجماع لا لسان له أو أنه دليل لبي يقصد بذلك ما عدا ما كان له معقد؛ أي ما انعقد فيه إجماع الفقهاء على لفظ خاص وجملة خاصة؛ وهو المعبر عنه بالإجماع اللفظي في مقابل الإجماع اللبي.

والحاصل: إن غاية ما تفيده الأدلة الثلاثة هو جواز الاحتياط في الجملة؛ فلا يتمسك بها إلاّ للقدر المتيقن؛ وعلى ذلك تخرج جميع الموارد الستة عشرة المرجوحة(1)

من دائرة الجواز أو الحسن حتى لو لم تكن لنا الحجة على كونها مرجوحة ومذمومة فإنها على أقل فرض تكون مشكوكة فلا تشملها هذه الأدلة الثلاث؛ إذ لا إطلاق لها كما سبق.

ويؤكد كون الأدلة الثلاثة لبيّة لا إطلاق لها، إن بناء العقلاء في كثير من المواطن ليس على الاحتياط، بل على خلافه وكذلك سيرة المتشرعة فإنها كثيراً ما تكون على خلاف الاحتياط.

إشكالات على القول بجواز الاحتياط

وقد أورد على جواز الاحتياط أو حسنه بأنواع وطوائف ثلاث من الإشكالات:

ص: 53


1- ذكرناها في فصل آخر من الكتاب فراجع.

إشكالات خاصة بالعبادات، وأخرى خاصة بالمعاملات، وثالثة عامة.

الإشكالات الخاصة بالعبادات

أما الإشكالات التي تخص الاحتياط في العبادات:

فمنها: إن العبادة يعتبر فيها قصد الوجه، كما يُعتبر فيها قصد التمييز، أما العمل الاحتياطي المأتي به بعنوان عباديته فإنه لا يتوفر فيه هذان الشرطان، فهو باطل.

وهذه المسألة عامة الابتلاء، وسيالة في كل عبادة من صلاةوصوم وحج وغيرها، وتحقيق ذلك في ضمن أمور:

معنى قصد الوجه والتمييز

الأمر الأول: معنى قصد الوجه وقصد التمييز.

أما قصد الوجه فالمراد منه قصد الوجوب أو قصد الندب، كصوم شهر رمضان لوجوبه، وصوم شهر شعبان لاستحبابه، أو فقل: المراد منه قصد سنخ الطلب ونوعه لا جنسه، كما لو علم بتوجه أمر إليه لكن شك في نوعه هل هو أمر وجوبي أم ندبي، فإنه لا يمكنه قصد الوجه حينئذٍ أي قصد نوع الطلب وسنخه.

وقصد الوجه أعم مما لو دار أمر المجموع ومما لو دار أمر الجزء أو الشرط بين الوجوب أو الاستحباب، كما في جلسة الاستراحة إذا تردد أمرها بين الوجوب والاستحباب، وعلى أي فهو خاص بالدوران بين الوجوب والاستحباب.

وأما قصد التمييز: فالمراد من التمييز تمييز المأمور به عن غيره والمراد من قصد التمييز قصد الإتيان بالفعل لأنه مأمور به(1)، وهذا لا يكون إلاّ بعد الفراغ

ص: 54


1- انظر التنقيح: ج1 ص50.

عن كونه متعلقاً للأمر؛ فينحصر ما يتمصدق فيه قصد التمييز فيما لو دار الأمر بين الوجوب والإباحة(1) أو بين الندب والإباحة.

كما في الصلاة إلى القبلة المشتبهة المرددة بين الجهات الأربعة، فالصلاة إلى إحدى الجهات أمرها دائر بين الوجوب والإباحة؛ إذ إن المكلف عند ما يصلي لهذه الجهة لا يعلم أن هناك أمراً أم لا، لأن الأمر إنما توجه للصلاة إلى جهة الكعبة لا إلى غيرها، وأما في جلسة الاستراحة فيوجد أمر لكن لا يعلم بأنه للوجوب أو الندب، وكما في الدعاء عند رؤية الهلال، إلى غير ذلك من الأمثلة.

لا يقال: الصلاة إلى غير جهة القبلة حرام، فالتردد بينالوجوب والحرمة!

إذ يقال: ذلك في غير صورة الاشتباه والتردد، وأما فيها فالصلاة إلى كل جهة محتملة إما واجبة أو مباحة.

والحاصل: إنه لو قلنا بأن قصد التمييز معتبر ولم نكتفِ بالإتيان بالعبادة برجاء المطلوبية؛ وترددنا في شيء أنه واجب أو مباح، فيجب - مع الإمكان - أن نميّز المأمور به عن غيره، فيكون الإتيان بالصلاة احتياطاً باطلاً إلا لدى العجز عن التمييز كما في مثال القبلة الآنف.

وسيأتي ذكر الأدلة على اعتبار قصد الوجه وقصد التمييز ومناقشتها كما سيأتي الكلام عن معاني ست أخرى لقصد التمييز، فانتظر.

ثم إنه كان من الأفضل أن يؤخر قصد الوجه عن قصد التمييز، إذا أريد به هذا المعنى الآنف الذكر، لأن الترتيب الطبعي لهما هو أن نشترط قصد التمييز أولاً، ثم بعده نشترط قصد الوجه أيضاً، لكن الذي جرى في لسان الفقهاء هو عكس الترتيب الطبعي.

ص: 55


1- أو الكراهة.

معاني أخرى لقصد الوجه

الأمر الثاني: معاني أخرى لقصد الوجه والتمييز.

المراد بالتمييز

وقد يفسر قصد الوجه بمعان أُخرى هامة وكثيرة الابتلاء أيضاً، بل إن بعضها دائم الابتلاء وهي:

الأول: أن يراد به التمييز في العبادة بين كونها أداءً أو قضاءً.

الثاني: أن يراد به التمييز بين كونها قصراً أو تماماً.

الثالث: أن يراد به التمييز بين كونها عن نفسه أو نيابة عن غيره.

الرابع: أن يراد به التمييز بين كونها فريضة أو نافلة، كمنيصلي صلاة الصبح بنافلتها فيجب أن يُميز بين النافلة عن الفريضة.

الخامس: أن يراد به التمييز بين كونها ظهراً أو عصراً.

السادس: أن يراد به التمييز في الأجزاء ومحتملات الُجزئية بين كونها أجزاء أو لا.

فهذه الستة كُلها تندرج في قصد التمييز، ولعل الإنسان إذا استقرأ يعثر على موارد أخرى، وليست العبرة باللفظ أي لفظ (قصد التمييز) إذ لم يرد في آية أو رواية، بل بالدليل؛ فلا بد من ملاحظة الأدلة العامة الآتية وبعض الأدلة الخاصة في بعض تلك الموارد(1).

وعلى أي حال فهل قصد التمييز وقصد الوجه معتبران في كل هذه الموارد الستة أم أنه غير معتبرين؟

ص: 56


1- كأدلة النيابة أو الفريضة والنافلة مثلاً.

هناك تفصيل وخلاف بين الفقهاء، وتكفي ههنا الإشارة إلى بعضها فقط:

فقد ذهب بعض الأعلام إلى التفصيل بين خصوصيات المأمور به وبين خصوصيات الأمر، وقد اختار هذا الرأي السيد البروجردي (رحمه اللّه).

وتوضيحه: إنه (رحمه اللّه) ذهب إلى أنه يجب تعيين ما أُخذ في متعلق الأمر من العناوين القصدية التي لا ينصرف العمل المشترك إلى أحدها إلا بالنية، كالظهر والعصر، وكالقضاء لا الإداء وكالفريضة والنافلة؛ لأن من يصلي الظهر في أول الوقت(1) ينصرف إلى الظهر الأدائية، أما في القضاء فالعمل لا ينصرف إلى شيء ولا يتحدد بذاته، بل يجب أن يحدد كونه قضاءً، وأنه قضاء ماذا، وكذلك الحال في النافلة والفريضة كصلاة الصبح ونافلتها.

وأما ما عدا مثل تلك العناوين القصدية، فلا يجب فيه قصد التمييز والتعيين(2) وقد ذهب السيد البروجردي (رحمه اللّه) إلى أن القصر والتمام ليسا من العناوين القصدية وأنه لا تأثير للقصد في تعينهما.وبناءً على هذا الرأي فإن الاحتياط - بدون تحصيل حجة على ما هي خصوصية المأمور به - حيث كان غير متكفل بإحراز ذلك العنوان القصدي، غير مجزٍ فتقع العبادة حينئذ باطلة.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم اعتبار قصد التمييز في الأجزاء.

وتوضيحه: إنه عندما يأتي المصلي بالركوع فهل ينبغي أن يقصد جزئية الركوع للصلاة أم لا، ولو ركع غير قاصد للجزئية فهل صلاته باطلة أم لا؟ فعلى القول بالاشتراط لا تصح صلاته؛ لأنه قد أُمر بالإتيان بالصلاة التي جزؤها بل ركنها الركوع؛ وهو لم يقصد الجزئية؛ فلم يطابق المأتي به للمأمور به.

ص: 57


1- أو في الوقت مطلقاً مادام لم يصل قبلها.
2- فلا يجب قصد كونه قصراً أو تماماً.

قال الآخوند (رحمه اللّه) في الكفاية: (واحتمال دخل قصدها(1) في حصول الغرض(2) ضعيف للغاية وسخيف إلى النهاية)(3) وذلك لأنه يكفي قصد الانبعاث في الركوع عن الأمر المولوي(4)، ولا يشترط التصور ثم التصديق للحكم الوضعي أو لوجهه؛ فلو أتى بالركوع لأن اللّه أمره به كفى وتحققت الإطاعة، وأما أن يقصد إتيانه به لأنه اعتبره جزءاً ويصدِّق بذلك فهذا مما لا يجب.

إذن قصد التمييز له مصاديق وأنواع عديدة، وهذه الأنواع كل منها قابل للبحث، وفيها تفصيل، ولا يمكن أن نسوقها بعصا واحدة، فلنكتف ههنا بالأدلة العامة:

قصد الوجه في الواجبات النفسية والضمنية

الأمر الثالث: إن مبحث قصد الوجه والتمييز جار في الواجبات النفسية والضمنية.

وذلك خلافاً لبعض الأعلام، حيث خصَّص البحث بالواجباتالنفسية، واعتبر الواجبات الضمنية مفروغاً عنها وأنه لا يعتبر فيها القصد، وذلك لأن سوق الأدلة يفيد الشمول للقسمين.

وتوضيحه بإيجاز أن الواجبات إما نفسية وإما ضمنية:

القسم الأول: الواجبات النفسية، فإذا كان هناك مركب اعتباري(5) فلابد،

ص: 58


1- أي الجزئية.
2- من العبادة.
3- كفاية الأصول: ص274، وقال السيد الحكيم في حقائق الأصول: (ووجه ضعفه) حقائق الأصول: ج2 ص57. أي هذا الرأي (ما سيشير إليه من منافاته للإطلاق المقامي).
4- أي الحكم التكليفي.
5- كالصلاة المركبة من سجود وركوع وقنوت وجلسة استراحة وغيرها.

بناءً على اعتبار قصد الوجه، من الإتيان بمجمل هذا المركب بعنوان وجوبه، مع إخراج تلك الأجزاء المستحبة فيه أو المردد أمرها عن قصده(1)؛ فإن لم يستطع تعيينها فيحتاط فقط عندئذٍ، وعلى هذا لا يكون الاحتياط قسيماً للاجتهاد والتقليد بل هو في طولهما أي أنه يلجأ إليه لدى العجز عن تحصيل الحجة على الواجب تفصيلاً، كما سبق في مثال القبلة أيضاً.

وبذلك يظهر أنه على القول بوجوب قصد الوجه: إن الإنسان لو صلى الظهر ناوياً بأن هذه الصلاة بأجمعها واجبة بما فيها القنوت(2)، فلو كان عامداً بطلت صلاته وكذا لو كان مقصراً، لأنه أخل بشرط مقصراً(3)، بل قد يقال بالبطلان لأنه تشريع، حتى لو لم نقل بوجوب قصد الوجه؛ فإنه قصد خلاف ما أتى به الشارع(4) مع نسبته إليه، فتدبر؛ ولو صلى الظهر وهو جاهل أن القراءة مثلاً واجبة أم لا، فلم ينو الوجوب، أي وجوب المركب الاعتباري المشتمل عليه فيما كان جهله عن تقصير، فإنه باطل بناء على اعتبار قصد الوجه في الكلي بأجزائه إذ لا يشمل المستثنى منه في حديث(لا تعاد) صورة التقصير وإن تأمل في كليّه السيد الوالد (رحمه اللّه) صناعة.

ص: 59


1- أي قصده الوجوب.
2- سواء قصد ذلك تفصيلاً أم اجمالاً.
3- وإنما قيدنا ب- (مقصراً) حتى لا تشمله قاعدة (لا تعاد)، والمشهور أن الإخلال بالركن عامداً أو جاهلاً، قاصراً أو مقصراً مبطل للصلاة، أما الإخلال بغير الركن من الأجزاء أو الشرائط فإنه مبطل لو أخل به عامداً، ويلحق به الجاهل المقصر، على تفصيل في صور الجهل بالحكم أو الموضوع أو الشروط، وهناك كلام حول ذلك وحول حديث (لا تعاد) يوكل لمحله.
4- فإن الصلاة المركبة من أجزاء أحدها القنوت بوصف كونه واجباً، لم يأت به الشارع.

وذلك - كما ترى - يستلزم القول ببطلان الكثير من عبادات الناس(1)؛ كما في الحج، فإن العديد منهم لا يعلمون أن هذا العمل بخصوصه واجب أو مستحب، بل إنه يسير خلف المرشد، ولعل الكثير من الناس يتصور أن بعض المستحبات واجبة، كما قد يعتقد بأن صلاة تحية المسجد واجبة، أو يعتقد وجوب كثير من الأدعية، أو يعتقد وجوب غسل الأحرام، أو غير ذلك فيكون قد أتى بالحج بقصد وجوبه معتقداً أنه هو المشتمل على هذا الجزء (المستحب واقعاً) وبما هو مشتمل عليه، فلو كان جهله عن تقصير وقلنا باشتراط قصد الوجه ولم نصححه بأنه من الخطأ في التطبيق أو بشمول أدلة (لا عليكم) و(لا حرج) الواردة في خصوص الحج حتى للجاهل المقصّر، كان حجة باطلاً، فتأمل.

وكذلك الحال لو أنه عندما دعا عند رؤية الهلال لم يقصد استحبابه فلا يقع عبادة؛ لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به.

القسم الثاني: الواجبات الضمنية(2)، وذلك كما لو أن شخصاً لم يأت

ص: 60


1- ولا يخفى ما فيه من صعوبة وعسر، بالإضافة إلى عدم الدليل عليه، ومن لطيف ما ذكره في (الحدائق الناضرة) ما هذا نصه: (وفي البال أني وقفت منذ مدة على كلام للعلامة رحمه اللّه الظاهر أنه في أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنة، قال رحمه اللّه حكاية عن نفسه: (إني أتصور الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ثم أقصد إليها، فأقارن بها النية)، والكتاب لا يحضرني الآن لأحكي صورة عبارته، ولكن في البال أن حاصله ذلك؛ لا يخفى عليك - بعد تأمل معنى النية ومعرفة حقيقتها - أن جملة هذه الأقوال بعيدة عن جادة الاعتدال). الحدائق الناضرة: ج2 ص174.
2- تذكرة: تقدم عند الكلام في القسم الأول الإشارة لتعريف الواجبات النفسية في المتن، وهنا نشير إلى تعريف الواجبات الضمنية؛ وهي: الواجبات التي لا استقلالية لها بنفسها، أي ليس لها وجود مستقل، كما في أجزاء الواجب وشرائطه؛ فهي كما قال السيد الحكيم (رحمه اللّه) في حقائق الأصول: (لا يتصف واحد منها بالوجوب إلا في حال الانضمام إلى غيره). حقائق الأصول: ج1 ص281. > < ثم إنهم قسموا الوجبات الضمنية إلى ثلاثة أقسام، فقال السيد الخوئي (رحمه اللّه) في المحاضرات: (الأول: ما يكون بنفسه متعلقاً للأمر؛ هو الأجزاء، لفرض أن الأمر متعلق بأنفسها. الثاني: ما يكون التقيد بوجوده متعلقاً له؛ هو الشرائط، فإن الأمر متعلق بتقيد تلك الأجزاء بها لا بنفسها. الثالث: ما يكون التقيد بعدمه متعلقا له؛ هو الموانع، فإن الأمر متعلق بتقيد هذه الأجزاء بعدمها). المحاضرات: ج1 ص121. مع بعض التصرف والإيجاز.

بالقراءة لوجوبها أو لم يأت بجلسة الاستراحة مثلاً لاستحبابها؛ فبناءً على الاشتراط يكون هذا الجزء باطلاً ولا يقع عبادة، وأما بطلان نفس الصلاة وعدمه فهو ما سبق من الصورة الأولى.

رأي المتكلمين

الأمر الرابع: إنه قد ادعى بعض الأعلام أن عمدة القائلين باعتبار قصد الوجه هم المتكلمون وأن منهم قد تسرب هذا البحث إلى الفقه.

أقول: ولكن التأمل في بعض عباراتهم التي نقلوها عنهم لا يدل على التزامهم بما نسب إليهم من رأي.

كلام نصير الدين الطوسي (رحمه اللّه)

ولنذكر عبارة الشيخ نصير الدين الطوسي (رحمه اللّه) في التجريد، والتي ادعي استناداً إليها أنه يعتبر قصد الوجه، قال: (ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والإخلال به، بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه، والمندوب كذلك)(1) فقد يقال: إن ظاهر العبارة(2) كالصريح في ذلك،

ص: 61


1- كشف المراد في تجريد الاعتقاد: ص501، وعبارته الكاملة هي: (ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والاخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك، والضد لأنه ترك القبيح والاخلال به لأنه إخلال لأن المشقة من غير عوض ظلم ولو أمكن الابتداء به كان عبثاً).
2- وهي قوله: (بشرط فعل الواجب لوجوبه، أو لوجه وجوبه).

ويؤكده البرهان الإني، فإنه إذا أردنا أن نعرف حسن فعل فإن مدح العقلاء ممايستشكف منه الحسن العقلي، كما أن عدم مدحهم يستفاد منه عدم حسنه (أي بما هو منسوب للفاعل، وإن كان في نفسه حسناً) فتأمل.

توجيه كلام نصير الدين الطوسي (رحمه اللّه)

لكن التأمل في قوله: (لوجوبه أو لوجه وجوبه) لا يشهد بتلك النسبة بل يفيد عكسها؛ لأن الظاهر أن الحصر هنا إضافي(1) يراد به ما يقع في مقابل أن يفعل الواجب للتشهي أو عبثاً أو تقويةً للبدن، فيصلي الظهر لا لوجوبها، أي ليس بداعي الانبعاث عن أمر المولى؛ أي أنه في مقام نفي استحقاق الثواب والمدح على ما لا يُسند فيه الفعل إلى اللّه بوجه؛ فيكون الحصر إضافياً ولا ربط له بالمقام.

وبتعبير آخر: إن المحقق الطوسي (رحمه اللّه) عندما يقول: (بشرط فعل الواجب لوجوبه) لا يريد منه مقابل ما لو فعل الواجب بقصد مطلق الأمر دون قصد صنف الأمر الذي هو مورد كلامنا ونقاشنا(2) بل يريد أن من فعل الواجب لوجوبه استحق المدح والثواب دون من فعله تشهياً وغير منبعث عن أمر المولى أبداً وعن طلبه وإن كان الأعم من الوجوب والاستحباب.

سلمنا، لكن لا أقل من كون العبارة مرددة بين هذا المعنى وذاك؛ وعليه فلا نستطيع أن ننسب لعلماء الكلام استناداً لمثل هذه الجملة أنهم يقولون بقصد الوجه.

والقرينة على ذلك هي تعليقه استحقاق الثواب والمدح على (الإتيان بالعمل لوجوبه)؛ فإن الثواب في الارتكاز العقلائي يصلح تعليقه على أصل

ص: 62


1- وليس حصراً حقيقياً يدور بين النفي والإثبات، فتذكر.
2- وهو ما لو قصد الأمر مطلقاً، أي أتى بصلاة الظهر قربة لله تعالى لأن الشارع حبذها لكنه لم ينو لوجوبها أو لاستحبابها.

نسبة العمل إلى المولى، ولو النسبة الاحتمالية، ولا يصلح تعليقه وحصره بخصوص قصد نوع الطلب؛ إذ المهم لدى العقل قصد امتثال ما طلبه اللّه منه سواء أكان طلبه بنحو الإيجاب أم الاستحباب، لا أن يأتي به بداعي التشهي أو تقوية البدن، من دون كونه انبعاثاً عن أمر المولى بوجه.

وعلى أي فإن الظاهر أن بناء العقلاء على أن المولى إذا أمرعبده بفعل ما وانبعث العبد عن ذلك الأمر استحق الثواب، وإن لم يلاحظ خصوص كونه واجباً أو مستحباً، وأما إذا انبعث العبد عن غير طلب المولى بل قال مثلاً: إني أقوم بهذا الفعل لا لأنك أمرتني بل لأني اشتهيته؛ فهنا لا يستحق على المولى الثواب.

الأدلة العامة على اعتبار قصد الوجه والتمييز

الأمر الخامس: الدليل على اعتبار قصد الوجه والتمييز:

ثم إنه قد يستدل على اعتبار قصد الوجه والتمييز بوجوه:

1 - بدون قصد التمييز والوجه لا يصدق عنوان (الإطاعة)

الوجه الأول: إن الحاكم في باب الإطاعة هو العقل، وهذا مما لا شك فيه؛ إذ لو كان الحاكم هو الشرع لزم الدور، كما أن العقل هو الحاكم أيضاً أياأفي باب كيفية الإطاعة، إلا إذا تصرف الشارع في الكيفية(1)، هذا كبرىً، وأما صغرى

ص: 63


1- وقال المحقق النائيني (رحمه اللّه) في فوائد الأصول: (ولا بمعنى أنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة، فإن ذلك بمعزل عن الصواب ... فللشارع أن يتصرف في كيفية إطاعة أوامره زائداً عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء، حيث قامت الأدلة الشرعية على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل لا يستقل بذلك، وللشارع أيضاً أن يكتفى في امتثال أوامره بما لا يكتفى به العقل لو خلى ونفسه، كما في الأصول الشرعية الجارية في وادى الفراغ، ولكن كل ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه، فلو لم يقم دليل شرعي على التصرف في بيان كيفية الإطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل، فإن استقل بشئ فهو، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة). فوائد الأصول: ج 3 ص63. (المحقق)

فإن العبد لو أتى بالعبادة دون قصد التمييز، فإنه لا يعد مطيعاً ولا يعدّ هذا العمل طاعةً؛ لأن الإطاعة تعني نسبة الفعل الصادر من العبد للمولى؛ والذي لا يعلم بأن هنالك أمر أم لا، كيف ينسب الفعل إلى المولى؟ بل لو نسبه إليه فإنه يكون متقولاً عليه، كما سيأتي.

وكذلك الأمر في قصد الوجه: فإن العبد إذا أتى بصوم شهر رمضان غير قاصد وجوبه، فإن عمله لا يعد طاعة؛ وكذا لو أتىبجزء الصلاة الواجب غير قاصد وجوبه وقد التزم بهذا الرأي بعض الأساطين(1)، لكن المشهور شهرة عظيمة على خلافه، سواء في قصد الوجه أم في قصد التمييز(2).

ص: 64


1- ولعل من أول من صرح بهذا الرأي هو ابن إدريس والعلامة .، فقال العلامة في نهاية الأحكام: (ويجب إيقاع الأفعال على الوجوه المطلوبة شرعاً، فيوقع الواجب لوجوبه والندب لندبه، فلو لم يعلم الواجب من الندب وأوقع الجميع على وجه الوجوب أو الندب، أو لم يوقعه على وجهه، لم تصح صلاته، ولو أوقع المندوب على وجه الوجوب، فإن كان ذكراً بطلت صلاته، لأنه لم يأت بالمأمور به على وجهه، فليس من الصلاة، وإن كان فعلاً كثيراً فكذلك، وإلا فلا، واعلم أن الأفعال الواجبة في الصلاة سبعة: الأول القيام، الثاني النية، الثالث تكبيرة الإحرام، الرابع القراءة، الخامس الركوع، السادس السجود، السابع التشهد) فوائد الأصول: ج 3 ص63.
2- ولم نر - حسب اطلاعنا - من ذهب إلى اعتبار قصد التمييز، بل هناك شبه أتفاق أن لا دليل عقلي أو نقلي على وجوبه، بل الأدلة على عدم اعتباره، نعم قد نسبوا إلى ابن إدريس (رحمه اللّه) اعتباره، استناداً لما استظهروه وفهموه من بعض كلامه، قال (رحمه اللّه) في السرائر: (إذا حصل معه ثوبان، أحدهما نجس والآخر طاهر، ولم يتميز له الطاهر ولا يتمكن من غسل أحدهما، قال بعض أصحابنا: يصلي في كل واحد منهما على الانفراد وجوباً، وقال بعض منهم: ينزعهما ويصلي عرياناً، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه أفتي، لأن المسألة بين أصحابنا فيها خلاف، ودليل الإجماع منفي، فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه. فإن قال قائل: بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد، لأنه إذا صلى فيهما جميعاً تبين وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معاً أنه قد صلى في ثوب طاهر. > < قلنا: المؤثرات في وجوه الأفعال يجب أن تكون مقارنة لها، لا متأخرة عنها، والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة، وهذا يجوِّز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين أنه نجس ولا يعلم أنه طاهر عند افتتاح كل صلاة، فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه، لأنه لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاك في طهارة ثوبه، ولا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد، وأيضاً كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة، فكيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده، ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال أن يكون مقارناً لها، لا يتأخر عنها، على ما بيناه) السرائر: ج1 ص185، فتأمل.

2 - بدونهما لا تعد العبادة عبادة

استناداً إلى أن العقل يستقل بحسن إتيان العبادة بقصد الوجهوالتمييز(1)، وأما ما كان فاقداً للقصدين أو لأحدهما فإن العقل لا يستقل بحسنه(2)؛

لأن مَن تعبّده اللّه بالطاعة لو أتى بالعبادة بدون هذين القصدين فإنه لا يصح حمل (العبادة) عليه، سلمنا لكنه يشك حينئذٍ في أنه حقق العبودية أم لا، ومع الشك لا يحكم العقل بحسنه؛ فإذا لم يحكم العقل بحسنه فإنه لا يجزي في مقام التقرب إلى اللّه؛ والعبادة قوامها التقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى.

وبتعبير آخر: إن العقل دليل لُبي لا إطلاق له، والقدر المتيقن من العبادة الصحيحة الحسنة هي تلك العبادة الواجدة للقصدين، وأما غير ذلك فمشكوكٌ صدقُ عنوان العبادة موضوعاً أو صدق عنوان العبادة الحسنة، عليه؛ ولا إطلاق للدليل العقلي.

3- 4 - بدونها لا يعلم تحقق المركب الاعتباري ولا غرض المولى

الوجه الثالث والرابع على اعتبار قصد الوجه والتمييز، يستند إلى أحد

ص: 65


1- أي أن يأتي بصلاة الظهر مميزاً إياها عن غير المأمور به من الصلوات، ومميزاً إياها عن المستحبات، أي يأتي بها بما أنها مأمور بها أولاً وبما انها واجبة ثانياً.
2- أو يستقل بعدم حسنه.

وجهين:

الأول: إن العبادات هي عناوين مخترعة، فلابد لإحراز وجود المركب الاعتباري من الإتيان بكل مشكوك الجزئية أو الشرطية، ومنه قصد الوجه والتمييز.

الثاني: غرض المولى؛ إذ يشك بأن الفاقد لقصد الوجه أو التمييز محقق للغرض أم لا، فينبغي الاحتياط بإتيانه كي يحرز تحقق غرض المولى الملزم.

توضيحه: إن الأمر تارة يتعلق بالمركب الخارجي، وأخرى يتعلق بالمركبات الاعتبارية المخترعة، وثالثة يتعلق بالأثر والنتيجة، ورابعة: يتعلق بالمركب مع كون الشبهة من جهة الغرض، فهذه صور أربع:

الصورة الأولى: وهي لو تعلق الأمر بالمركب الخارجي؛ فالمرجع في نفي الجزئية أو الشرطية هو العرف، كما لو قال المولى لعبده: (ابن لي بيتاً) فشك أن غرفة الاستقبال أو الحديقة الخلفية هي جزء أم لا، فالمرجع في نفي الجزئية هو العرف، فلا توجد ههنا ثمة مشكلة.

الصورة الثانية: وهي لو تعلق الأمر بالماهيات المخترعة، مثل الصلاة، فهي مركب اعتباري، فلو شككنا في كون هذا شرطاً، كقصد الوجه وقصد التمييز، أو كون ذاك جزءاً كجلسة الاستراحة، فلا يمكن أن نرجع إلى العرف؛ لأنها ماهية مُخترعة لم يعهدها العرف من قبل؛ والفرض أن الشارع ساكت فيما وصل إلينا؛ ولعل النص قد فقد؛ فنشك إذا لم نأت بذلك الجزء هل تحقق(1) أم لا، والأصل حينئذ العدم.

فعليه: ينبغي الاحتياط بسلوك طريق الاجتهاد أو التقليد لتحصيل الحجة

ص: 66


1- ذلك المركب الاعتباري الذي تعلق به امر الشارع.

على الجزئية أو على نفيها، أما المحتاط فغير قادر على ذلك؛ لأن المحتاط لا يستطيع أن يقصد الأمر أو يقصد وجه الأمر(1)، وكيف يقصده مع أنه لا علم له به؛ فلا يجزي طريق الاحتياط.

الصورة الثالثة: ما لو تعلق الأمر بالأثر أو النتيجة والمعنى الاسم مصدري، كما في قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)(2) فلم يتعلق الأمر بالمركب الاعتباري وهو الغسل في المقام، وإنما تعلق بالنتيجة التي هي التطهر، وهذه هي الصورة المصطلح عليها ب: العنوان والمحصل، والملتزم فيها وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما احتمل دخله في حصول العنوان المأمور به؛ فلو شك المكلف مع عدم غسل المنطقة الوسطى من الإذن المشكوك كونها من الداخل أوالخارج في تحقق ذلك الاثر، أي العنوان المأمور به وهو: (فَاطَّهَّرُوا)، وجب عليه أن يغسل الجزء المشكوك لكي يحرز إفراغ ذمته من المأمور به(3).

ولكن الصورة الثالثة نادرة لذا لا تجدينا إلاّ في الجملة، وذلك لأن تعلق الأوامر بالمعاني الاسم مصدرية والنتائج، هو الأقل تداولاً في العبادات؛ لأن أكثر ما تتعلق الأوامر الشرعية بالمركبات مباشرة.

كما في قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)(4)، وقوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(5) وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(6).

ص: 67


1- كما أشرنا إليه، وكما سيأتي الجواب عن ذلك.
2- سورة المائدة: 6.
3- لأن هذا شك في محصل المأمور به؛ وفي هذا الشك يكون المرجع إلى قاعدة الاشتغال لا إلى قاعدة البراءة.
4- سورة النساء: 43.
5- سورة الإسراء: 78.
6- سورة آل عمران: 97.

وأما تعلق الأوامر بالعناوين الاسم مصدرية كما في قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّر)(1) فقليل.

الصورة الرابعة: وهي ما لو تعلق الأمر بالمركب الحقيقي، لكن كانت الشبهة ناشئة من جهة الغرض.

فهذا المركب وإن كان مركباً حقيقياً لكن لو علم أن المولى قال: ابن لي بيتاً، وشك أنه لو لم يبن غرفة الاستقبال الواسعة فهل يتحقق غرض المولى أم لا؟ فالمجرى هنا الاحتياط، لا لأجل الأمر بل لأجل الغرض؛ لأن الأمر قد تعلق بهذا المركب العرفي الخارجي الحقيقي ولا يعلم كون هذا جزءاً، ولكن المشكلة تنشأ من الغرض(2)، وحيث إنه لا شك في تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، فللشارع من الأمر بكل مركب (وغيره) غرض ملزم ولا يعلم تحققهمع الإتيان به، إذا كان عبادة(3)، بدون قصد الوجه والتمييز، فعليه الاجتهاد أو التقليد في ذلك إذ الاحتياط لا يفيد في معرفة الوجه ولا يميز له المأمور به فكيف يقصدهما؟

5 - دوران الاحتياط بين التشريع وعدم العبادية

الوجه الخامس(4): العمل الاحتياطي دائر أمره بين كونه تشريعاً محرماً، وبين افتقاده لصفة العبادية.

ص: 68


1- سورة المائدة: 6.
2- سيأتي الجواب عن هذا الوجه والوجوه السابقة بإذن اللّه تعالى.
3- بل مطلقاً، مادام الأمر تعلق بمركب حقيقي وشك في حصول الغرض مع عدم قصد الوجه أو التمييز.
4- هذا الأخير من الوجوه الدالة على لزوم قصد الوجه والتمييز.

توضيحه: إن الشخص إذا ترك طريق الاجتهاد والتقليد وأتى بالعمل الاحتياطي(1)، أي أحد الفردين المرددين مثلاً بقصد الأمر الذي لا يعلم توجهه إليه كان عمله تشريعاً محرماً، وذلك كمن لا يعلم أن القبلة إلى هذه الجهة أو تلك، فصلى للجهتين رغم قدرته على تحصيل جهة القبلة، فهذه الجهة التي صلى إليها لا يعلم كونها مأموراً بها، وكذا العكس؛ فلو نسبه إلى الشارع كان تشريعاً محرماً(2)؛ لأنه لا يعلم أن الشارع قد أمر به؛ إذ لعل القبلة لغير هذه الجهة التي صلى إليها، ولو لم يسند الفعل للشارع خوفاً من التشريع المحرم؛ فإنه لا يكون عمله حينئذ عبادة؛ لأن الفعل العبادي قوامه بالإسناد الى المولى؛ وحيث دار أمر العمل الاحتياطي بين هذين المحذورين؛ كان لابد من أن يقصد الأمر والوجه؛ ولا طريق إليه إلا بالاجتهاد أو التقليد، وهو المطلوب.

فهذه هي الوجوه التي يمكن أن يستدل بها على المدعى، مع إمكان دمج ثانيها بل وأولها أيضاً في خامسها.

الأجوبة على الوجوه الخمسة

مناقشة الوجه الأول والثاني

وهو (إن العمل الفاقد لقصد الوجه والتمييز لا يصدق عليه أنه إطاعة) ولا أنه عبادة وليس بحسن.

ولكن هذا الوجه غير تام.

ص: 69


1- فرض البحث في صورة انفتاح باب العلم والعلمي، وأن الاحتياط في عرض الاجتهاد والتقليد، أما في كون الاحتياط في طولهما فلا كلام فيما لو انسد باب العلم والعلمي، وإنما الكلام لو أنه مع الانفتاح احتاط.
2- بل: ولم يكن عبادة أيضاً، فتدبر.

وذلك لأن عنوان الإطاعة والعبادة لا ريب في صدقهما في صورتين:

الصورة الأولى: ما لو أتى بالعمل من باب الحائطة على أغراض المولى الملزمة، كما لو صلى للجهات الأربع، فهذا مما لا شك في أنه يصدق عليه أنه إطاعة لله تعالى وأنه عبادة له، أي أنه أتى بالعمل طاعة للمولى وامتثالاً له؛ لأن الباعث له هو غرض المولى أو أمره الاحتمالي كما أنه لا شك في أنه حَسَنٌ حينئذٍ فتأمل(1).

الصورة الثانية: ما لو أتى به برجاء المطلوبية، وفي هذه الصورة يصدق عليه أنه إطاعة؛ لأنه انبعث عن احتمال كونه محبوباً للمولى ومطلوباً له، كما أنه حَسَنٌ أيضاً بلا شك.

وبتعبير آخر: إن العقل لا يدل على أزيد من لزوم إسناد العمل العبادي للمولى إجمالاً؛ وهو متحقق في المحتاط لأنه أتى بالعمل المحتمل عباديته برجاء مطلوبيته أو للحائطة على أغراضه.

وبتعبير ثالث: إن ما يحكم به العقل هو إتيان المأمور به امتثالاً لأمر المولى، أو إتيان ما يحتمل كونه مأموراً به لاحتمال كونه امتثالاً لأمر المولى، وهذا ما يحكم به العقل، وفي هذا غنى وكفاية.

مناقشة الوجه الخامس

ومنها قد اتضح الجواب على الوجه الخامس(2)؛ إذ ظهر أن الإتيان بالعمل العبادي لاحتمال تعلق أمر الشارع به ليس تشريعاً؛ لأن التشريع هو أن تسند

ص: 70


1- إذ الكلام ليس في صورة العجز عن الاجتهاد والتقليد في معرفة جهة القبلة، بل مع القدرة عليها (وعدم المزاحم الأهم والعسر والحرج الأكثر مما يقع فيه بالصلاة إلى عدة جهات) فلو صلى إلى جميع الجهات مع قدرته على تحصيل القبلة وتيسر ذلك له، فهل يصدق عليها جميعاً أنها عبادة وطاعة؟
2- وهو أن العمل العبادي دائر أمره بين التشريع المحرم أو افتقاده صفة العبادية.

للشارع ما لم يصدر منه، أو لم يعلم صدوره منه، لكن المحتاط يأتي بالأفراد المرددة لاحتمال أمر الشارع بها أو برجاء مطلوبيتها وهذا ليس تشريعاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يصدق عليه أنه إطاعة وعبادة؛ لأنه انبعث عن احتمال أمر الشارع أو برجاء مطلوبيته لديه، فتأمل.

مناقشة الوجه الثالث والرابع

أما الجواب عن الوجه الثالث والرابع فمن وجوه:

الوجه الأول: التمسك بالإطلاق المقامي لنفي جزئية أو شرطية كل ما شك في جزئيته أو شرطيته، وبذلك يجاب عن كلا الإشكالين.

ويتوقف ذلك على بيان المراد من الإطلاق المقامي الذي هو قسيم للإطلاق اللفظي وفوارقه عنه، فإنه بحث هام نافع في عامة البحوث الفقهية والأصولية والروائية؛ لكثرة الحاجة إلى الإطلاق المقامي لنفي قسائم الموضوع، لذا سنشير إلى بيان معناهما وإلى فرق هذا الإطلاق عن الإطلاق اللفظي.

أولاً: معنى الإطلاق اللفظي والمقامي

إن المولى إذا قال لعبده: أكرم العالم، فهنا يتمسك بالإطلاق اللفظي لنفي وجود قيود لموضوع هذا الحكم؛ وأنه لا فرق بين كون العالم متقياً أم لا، شاعراً أم لا، كاتباً أم لا، وهكذا؛ لأنه لم يقيد بأي قيد من القيود، من غير فرق بين القول بأن الإطلاق هو رفض القيود أو هو عدم القيود، فالإطلاق اللفظي يُتمسك به لنفي القيود المحتملة لموضوع الحكم(1)(2).

ص: 71


1- وهو العالم في المثال المتقدم.
2- كما أنه يتمسك به لنفي القيود المحتملة للحكم نفسه ففي قوله: (أكرم العالم) هناك إطلاقان لفظيان: أحدهما في الموضوع وهو العالم، كما سبق، والآخر في الحكم وهو الإكرام، إذ لم يقيد بكونه إكراماً بالقيام له أو بالإطعام أو بحسن الاستماع أو غير ذلك (ككون الإكرام في هذا اليوم أو غيره، وهكذا)، وهل هو إطلاق بدلي أو شمولي؟ فهذا بحث آخر.

لكنه إذا قال: أكرم العالم، فهل ينفي ذلك وجوب الإكرام عن الموضوعات الأخرى، كإكرام الأب، أو البقال(1)، أو الصديق؟

وبعبارة أخرى: هل عندما يقال: أكرم العالم، يعني لا تكرم أباك، ولا تكرم البقال، ولا تكرم صديقك؟ فهنا يأتي موطن قاعدة: (إثبات الشيء لا ينفي ما عداه)(2)؛

وبعبارة أكثر بسطاً: (إثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوته - أي الحكم - لموضوع آخر) كما (لا ينفي ثبوت حكم آخر لهذا الموضوع أيضاً).

فهذه القاعدة الابتدائية، ولكن الإطلاق المقامي لو تم فإنه حاكم على هذه القاعدة؛ إذ ببركة الإطلاق المقامي يمكن أن ننفي ثبوت الحكم لسائر الموضوعات؛ فإذا قال الشارع: الأكل والشرب والجماع مفطرات للصائم، فموطن الإطلاق اللفظي قيود الأكل والشرب والجماع، أي سواء أكان الأكل قليلاً أم كثيراً مضطراً كان أم لا، فإنه مفطر؛ لكن الإطلاق المقامي موطنه نفي مفطرية القسيم الرابع الذي اسمه الارتماس مثلاً.

والحاصل: إنه عندما يقول الشارع: الأكل والشرب والجماع مفطرات للصائم، فإن القاعدة الأولية تقتضي أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، أي أن إثبات المفطرية للأكل مثلاً لا ينفي كون شيء آخر مفطراً أيضاً، كالتدخين أو أي شيء آخر من محتملات المفطرية، إلا ببركة الإطلاق المقامي استناداً إلى أن ذكر الشارع لهذه الثلاثة أو العشرة ينفي كون شيء آخر مفطراً أي ينفي موضوعية القسيم الحادي عشر عن كونه مشمولاً للحكم.

وأما الفروق بين الإطلاقين، فهي ثلاثة إذ إنهما يختلفان في (المصب) وفي (المنشأ) وفي (النتيجة)، وتوضيحه:

ص: 72


1- بما هو بقال، لا بلحاظ جهله.
2- وهذه قاعدة عقلائية مشهورة على الألسن.

ثانياً: فروق الإطلاق اللفظي والمقامي

أولاً: الفرق في المصبّ؛ أو فقل في المتعلق، لأن مصبّالإطلاق اللفظي هو قيود الموضوع، ولكن مصب الإطلاق المقامي ليس الموضوع وقيوده، وإنما هو قسائم الموضوع(1)،

أي الموضوعات الأخرى المباينة لهذا الموضوع، والتي يحتمل أن تكون إلى جوار هذا الموضوع موضوعاً للحكم.

ثانياً: الفرق في نتيجة الإطلاق؛ فنتيجة الإطلاق اللفظي التوسعة في دائرة الموضوع؛ كما في الأكل للصائم قليله وكثيره، محرماً كان هذا الأكل أو محللاً؛ وأما نتيجة الإطلاق المقامي فهي أجنبية عن الموضوع؛ فلا توسّعه ولا تضيقه(2)؛ إذ هي تتعرض لحال الموضوع الآخر.

ثالثاً: الفرق المنشأ؛ فإن منشأ الإطلاق اللفظي هو مقدمات الحكمة، ومنها كون المولى في مقام بيان تمام ما له مدخلية في الموضوع من القيود. وأما منشأ الإطلاق المقامي فليس مقدمات الحكمة؛ لأنه ليس عن هذا الموضوع وقيوده، بل أن منشأ الإطلاق المقامي أحد أمرين:

الأول: تصريح المولى بأنه في مقام الحصر؛ كما لو قال: سوف أعدد لك مفطرات الصوم وهي كذا وكذا، وهكذا؛ فتصريح المولى أنه في مقام حصر علل الحكم - أو موضوعه، بعبارة أخرى - يكون دليلاً على نفي كون القسيم الحادي عشر علة للحكم (وهو المفطرية).

ص: 73


1- أي بدائل الموضوع.
2- نعم توجب التضييق في أمر آخر وهو متعلق المتعلق (وهو الصوم مثلاً) إذ الموضوع هو الأكل والحكم هو مفطر ومتعلق الموضوع هو الصوم فإذا كان الارتماس مفطراً تضيقت دائرة الصوم الصحيح.

الثاني: أن يكون المولى في مقام بيان موضوعات أحكامه وأسبابها(1)، ولو ذكر خمسة موضوعات؛ فإنه ينفي بذلك كون السادس موضوعاً للحكم.

وبذلك ظهر أن الإطلاق المقامي إطلاق عقلائي، وهو على مقتضى القاعدة، وسيرة العقلاء جارية عليه.إذا ظهر ذلك نقول في المقام(2) أنه عندما نشك في جزئية أو شرطية قصد الوجه والتمييز، فهل يصح التمسك بالإطلاق اللفظي لأدلة الأجزاء والشرائط؟ لنفي جزئيتها أو شرطيتها؟

والجواب: كلا؛ لأن أدلة الأجزاء تفيد أن الركوع جزء والسجود جزء، والاستقبال شرط، وهكذا وإطلاقها اللفظي يفيد أن الركوع جزء سواء أكان مثلاً مع الخضوع أم من دونه؛ فالمأمور به هو الأعم؛ فببركة الإطلاق اللفظي ننفي وجود شروط إضافية في الركوع، لكن إطلاق قوله الركوع جزء أو الاستقبال شرط لا ينفي جزئية أو شرطية موضوع آخر أي أنه لا ينتفي بالإطلاق اللفظي، وإنما ينتفي بالإطلاق المقامي؛ أي لأن الشارع كان في مقام(3) بيان كل أجزاء هذا المركب ولم يذكر هذا كجزء؛ فإن مقامه يقتضي نفيه.

وببيان آخر: الصلاة ماهية مخترعة للشارع؛ وقد أمرنا بالإتيان بها صحيحة واجدة للأجزاء والشرائط فمن أين نعرف ونميّز ما له دخل جزءً أو شرطاً في هذا المركب عن غيره؟ والجواب: لا مناص إلا من أن نأخذها من الشارع؛ فعلى الشارع أن يبيّنها، وحيث إنه لم يبن إلاّ عشرة أجزاء مثلاً؛ فإن ذلك يدل على نفي ما عداها وعلى عدم توقف تحقق الغرض على ذلك المشكوك.

ص: 74


1- هذا هو الطريق المسلوك عادة، والفرق بينه وبين الطريق الذي قبله واضح.
2- تطبيق الكبرى الكلية على صغرى المقام.
3- هذا هو الوجه الثاني.

وبعبارة أكثر بسطاً ودقةً: لنفي جزئية أو شرطية قصد الوجه والتمييز أو جزئيتها؛ وكل أمر آخر لم يصلنا من الشارع ما يدل على كونه جزءً أو شرطاً، لابد من تمهيد المقدمات التالية:

المقدمة الأولى: إن قصد الأمر والوجه مما يكثر الابتلاء به، بل إنه دائماً مورد ابتلاء؛ إذ في كل صلاة إما أن يقصد الوجه لوجوبها أو لاستحبابها، وإما أن لا يقصد، وإما أن يميز هذه الصلاة وكونها مأموراً بها أم لا، أو كونها ظهراً أو عصراً أو لا يميز، وهكذا.

المقدمة الثانية: إن قصد الأمر وقصد الوجه مما يغفل عنهعامة الناس عادة، لغفلتهم عن احتمال أنه قد يشترط في عبادية العبادة أن ينوي المكلف: أصلي صلاة الصبح لوجوبها، أو أصلي نافلة الصبح لاستحبابها، وقد يناقش بالتفات الناس إليه إجمالاً عادة، وقد يجاب بأن الالتفات أعم من النية، فتدبر.

المقدمة الثالثة: إن قصد الأمر وقصد الوجه ونظائرهما في المركبات الاعتبارية مما لا يمكن أخذها إلا من الشارع، ولا يمكن أن يحال إلى العرف أو غيره وذلك يعني أنه انسد باب المعرفة إلا من الشارع(1).

المقدمة الرابعة: حيث إن الشارع يريد التحفظ على أغراضه الملزمة، وحيث إن هذا المركب الاعتباري هو المحقق لتلك الأغراض الملزمة؛ كان لزاماً على الشارع بالنظر لحكمته أن يذكر كل ما يعتبره جزءاً في هذا المركب أو شرطاً، وإلا لكان مخلاً بغرضه.

وبعبارة أخرى: أن الشارع إذا لم يذكر الأجزاء الأخرى لكان مخلاً بغرضه، وحيث إنه حكيم فلا يعقل أن يصدر منه هذا الإهمال أو الأغفال. فهذا لردّ

ص: 75


1- أي باب معرفة الأجزاء والشرائط منسد في المركبات الاعتبارية إلا من الشارع.

الوجه الرابع، أما الوجه الثالث فلا يتوقف رده على برهان الغرض بل يكفي مقام المولى وكونه في صدد بيان مخترعاته ومع ذلك لم يذكر أمراً كجزء أو شرط فالإطلاق المقامي كافٍ.

جواب المحقق النائيني عن برهان الغرض

الوجه الثاني: وأجاب المحقق النائيني (رحمه اللّه) بوجه آخر وهو - بتصرف وإضافات توضيحية -: (إن الغرض تارة: تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة؛ بأن يكون المأمور به علة تامة لحصول الغرض، كالقتل بالنسبة إلى قطع الأوداج، وأخرى: تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى العلل الإعدادية كحصول السنبلمن الحبّة بعد الزرع والسقي ونحوهما من الأمور الاختيارية)(1).

والحاصل: إنه توجد صورتان:

الصورة الأولى: ما لو كان نسبة الغرض إلى المأمور به نسبة المعلول إلى العلة التامة، أي أنك لو أتيت بالمأمور به كان لابد قهراً وقسراً من ترتب الغرض(2).

الصورة الثانية: ما كان نسبة الغرض إلى المأمور به نسبة المعلول للعلة المعدة، أي أنك لو أتيت بالمأمور به فلا يتحقق به بمجرده الغرض بل لا بد من تحقق المقدمات غير الاختيارية الأخرى التي بها وبالمأمور به جميعاً يتحقق الغرض.

الفرق بين العلة التامة والعلة المعدة

والعلل المعدة هي تلك العلل التي يلزم من وجودها وعدمها ووجودها وعدمها متكرراً وجود المعلول، كما في المشي للمسجد، فإن كل خطوة لابد أن

ص: 76


1- مصباح الأصول: ج 2 ص436.
2- أي المعلول.

توجد وتعدم لتوجد الخطوة الثانية وهكذا وصولاً إلى المسجد، وأما العلل التامة فهي تلك العلل التي لا بد أن تكون موجودة مع وجود المعلول زمناً، وسابقة عليه رتبة، كحركة اليد وحركة المفتاح؛ فإنهما متزامنان إلا أن التقدم رتبي.

إضافة إلى أن العلة المعدة تقارنها أو تلازمها أو تسبقها أو تتأخر عنها مقدمات غير اختيارية، ويصح الأمر بها من الحكيم رغم ذلك وأما العلة التامة فلا يصح أن يأمر بها الحكيم إلا إذا كانت بأكملها تحت سلطة المكلف، فلو كان بعض أجزاء العلة التامة غير اختياري لما صح الأمر بالمجموع أي بالعلة التامة.

وقد مثّل المحقق النائيني (رحمه اللّه) بمثالين للعلة المعدة وللعلة التامة بالمثالين الآتيين:

الأول: سقي الزرع والأشجار بالنسبة إلى إثمارها فلو أمر المولى عبده: بسقي الأشجار، فإن الأمر قد تعلق بالسقي، ولكنالغرض هو أن تثمر تلك الأشجار، لكن السقي هو علة إعدادية للإثمار وليس علة تامة، لأن السقي سابق والإثمار لاحق، ولأن المقدمات ليست بأجمعها تحت اختياره وسلطته؛ لأن من المقدمات هبوب الرياح وإشراق الشمس ونوعية التربة وغيرها.

الثاني: القتل بالنسبة إلى قطع الأوداج؛ فإن قطعها علة تامة للقتل.

ويمكن التمثيل لكلام الميرزا (رحمه اللّه) من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)(1)؛ فإن الأمر تعلق بالقتل، والعلة التامة لهذا القتل هي ما هو معهود في ذلك.

ثم إنه ينبغي أن يقع البحث في مثل قوله (عليه السلام): «الصلاة قربان كل تقي»(2)، وأنه هل الصلاة بالنسبة للمقربية إلى اللّه سبحانه، علة تامة أم علة

ص: 77


1- سورة البقرة: 191.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص10/ الكافي: ج3 ص265.

معدة؟ وكذا قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(1)، فهل النهي عن الفحشاء الذي هو العلة الغائية من الصلاة، معلول للصلاة بنحو العلة التامة، أم بنحو العلة المعدة؟

وقبل أن نكمل كلام الميرزا (رحمه اللّه) لا بد من الإشارة إلى نقاش مبنوي معه إذ إنه بنى كلامه على وجود علل تامة وعلل إعدادية، ولكن قد يناقش فيه بأنه لا توجد علة تامة في الكون إلا اللّه سبحانه وتعالى، وأما ما عداه فهي علل معدة لا غير، فينتفي على هذا الأساس مبناه وتقسيمهم.

وتوضيحه:

المسالك في حقيقة العِلِّية

إن أصول المسالك في حقيقة علية بعض الممكنات والأفعال لبعض الممكنات والصوادر الأخرى هي العلية التامة، العلية الإعدادية الناقصة، وأجنبية العلل الإمكانية عن معاليلها تماماً، بل هي ظاهرية فقط، قال في المنظومة:

وهل بتوليد أو إعداد ثبت *** أو بالتوافي عادة اللّه جرت

فهنا ثلاثة أقوال:

القول الأول: التوليد(2)، بمعنى كون السبب علة تامة للمسبب وأن المسبب يتولد عنه وإن لم نقصده - أي المسبب - مادمنا قد جئنا بالسبب، كما في النار

ص: 78


1- سورة العنكبوت: 45.
2- وهذا القول ذهب إليه المعتزلة، قال في شرح المواقف: (إعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتباً، ورأوا فيها أيضاً أن الفعل المترتب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه أصلاً فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتب إلى تأثير قدرتهم فيه إبتداء لتوقفه على القصد قالوا بالتوليد، وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلاً آخر نحو حركة اليد وحركة المفتاح فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أم لم يقصدها). شرح المواقف: ج8 ص159.

للإحراق(1)؛ فأصحاب هذا القول يرون وجود علة تامة في الكون غير اللّه سبحانه وتعالى، وأن الإحراق قهري لو توفرت الشروط، وأن لله تعالى أن يمنع تحقق الشروط كالمحاذاة مثلاً كما له أن يمنع اشتعال النار بمانع ما، ولكن لو وجدت النار بشروطها وفقدت الموانع تحقق الإحراق قهراً؛ ولا مجال لأن لا يشاء اللّه ذلك.

القول الثاني: الإعداد(2)؛ بمعنى أن العلة التامة هي اللّه سبحانه فقط، ونحن علل معدة في كل أفعالنا بالنسبة إلى كل ما نتصوره معلولاً لها فحتى لو أشعلنا النار ووفّرنا كافة الشروط وألقينا فيها ورقةً جافة - غير مطلية بمادة عازلة ولا... -، فإن اللّه لو لم يأذن لها بالإحراق لم تُحرق، بل تتحول برداً وسلاماً، وأنه حتى لو فرينا الأوداج الأربعة بل حتى لو فصلنا رأسه عن جسده فإن اللّه لو لم يشأ زهاق روحه سيبقى حياً.

القول الثالث: التوافي(3)، بمعنى أنه لا ربط بين المقدمات والنتائج أصلاً، وإنما هو صورة وشكل، فنسبة النار للإحراق - على هذا الرأي - هي كنسبة الثلج

ص: 79


1- مع توفر الشرائط، كالمحاذاة وفقدان المانع، وغيرهما.
2- وهذا القول ذهب إليه الحكماء، انظر: المواقف: ج1 ص145.
3- وهذا القول ذهب إليه الأشاعرة، وتفصيله موجود في الكتب الكلامية، ومنها شرح المواقف وغيره، قال في نهاية الحكمة: (وذهب جمع آخر من المتكلمين - وهم الأشاعرة ومن تبعهم - إلى أن كل ما هو موجود غير الواجب بالذات من ذات أو صفة أو فعل فهو بإرادة الواجب بالذات من غير واسطة فالكل أفعاله، وهو الفاعل، لا غير؛ ولازم ذلك: أولا: ارتفاع العلية والمعلولية من بين الأشياء وكون استتباع الأسباب للمسببات لمجرد العادة، أي إن عادة اللّه جرت على الإتيان بالمسببات عقيب الأسباب من غير تأثير من الأسباب في المسببات ولا توقف من المسببات على الأسباب. وثانياً: كون الأفعال التي تعد أفعالاً اختيارية أفعالاً جبرية لا تأثير لإرادة فواعلها ولا لاختيارهم فيها). نهاية الحكمة: ص368.

للتبريد، فكلاهما أجنبي عن المعلول بالمرة؛ وإنما شاءت مشيئة اللّه أنه عند حدوث النار يحدث الإحراق، وعند حدوث الثلج يحدث البرد، أي العندية فقط لا العلية التامة ولا العلية الناقصة.

والظاهر هو القول الثاني؛ وإن ما بأيدينا هو العلل المعدة، فلا هي علل تامة بحيث تسلب قدرته تعالى عن الحيلولة دون حدوث المسببات بعد حدوث أسبابها الظاهرية، ولا هي بالموافاة بأن تكون المقدمات أجنبية عن النتائج(1).

نعم يمكن تكييف كلام الميرزا (رحمه اللّه) بحيث يصح تقسيمه الثنائي، مع تصرف فيه، حتى على القول بأن ما بأيدينا هو العلل المعدة فقط، فتدبر جيداً.

الصور الثلاث

ثم إن في المقام ثلاث صور لا بد من تحقيق حالها وأن أياً منها مجرى البراءة وأياً منها مجرى الاحتياط، وبها سيتضح أن قصد الأمر وقصد الوجه لا التمييز هو مجرى البراءة لأنها من القسم الثالث؛ وهي:

1: فيما لو علمنا أن الغرض من قبيل القسم الأول.

2: فيما لو علمنا أن الغرض من قبيل القسم الثاني.

3: فيما لو شككنا أن الغرض من أي القسمين.وسنتوقف عند هذه الصور:

الصورة الأولى:

أن تكون نسبة الغرض إلى المأمور نسبة المعلول إلى العلة التامة، وهذه الصورة هي مجرى الاحتياط؛ فيجب الإتيان بكل مشكوك الجزئية أو مشكوك الشرطية أي الإتيان بالأكثر تحصيلا ًللقطع بغرض المولى، فلو كان الغرض وهو

ص: 80


1- هذا المبحث مبني على ذلك المبحث المطروح في الفلسفة.

«قربان كل تقي»، أو النهي (عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، أو التنزيه عن الكبر كما قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام): «والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر»(1)، معلولاً للمأمور به وهو الصلاة بنحو نسبة المعلول للعلة التامة؛ فإنه لا يكون حينئذٍ فرق بين تعلق الأمر بالغرض وبين تعلقه بعلته التامة(2)؛ لأن جوهر الأمر لُباً هو أن الأمر بالعلة التامة هو أمر بالمعلول، وهو اختياري لكون علته التامة بيد العبد.

وبتعبير آخر: إن الأمر بالغرض مساوق للأمر بالمركب؛ والأمر بالمركب مساوق للأمر بذاك الغرض؛ فلو أمر المولى بالمركب(3)، فقد أمر بالغرض؛ فإذا لم نأت بمشكوك الجزئية أو مشكوك الشرطية فنشك أن الغرض المأمور به لُباً وإن لم يؤمر به لفظاً، متحقق أو لا، فيكون المجرى مجرى الاحتياط.

فجوهر كلام الميرزا (رحمه اللّه) متوقف على مساوقة(4) الأمر بالمركب الذي هو علة تامة للغرض، للأمر بالغرض حقيقة، فكأن الأمر ابتداءً قد تعلق بالغرض فهذه الصورة ملحقة بمبحث العنوان والمحصل.

ومن ذلك ظهر أنه لا فرق - حسب الميرزا (رحمه اللّه) - في مقام الإثبات بين أن يتعلق الأمر بالغرض أو أن يتعلق بالمركب المأموربه.

ولولا هذه التخريجة من الميرزا (رحمه اللّه) لتمسكنا بالإطلاق اللفظي لنفي قيود الموضوع، ومنها اصطحاب الهدية.

ص: 81


1- الاحتجاج: ج1 ص141.
2- المأمور به، وهو الصلاة في المثال.
3- الصلاة.
4- المساوقة في اللغة هي المجيء بالتبع، كمجيء شخص بعد شخص آخر، كما في الحديث: «فتساوقا إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فسألاه»، وكلمة المساوقة أحياناً ما تستخدم في البحوث العلمية بمعنى الملازمة.

الصورة الثانية:

أن تكون نسبة الغرض إلى المأمور به نسبة الشيء إلى العلة المعدة، مثل الإثمار والسقي، فهنا لا يكون الأمر بهذا المركب أو بهذا الفعل أمراً بالغرض، لأن الغرض غير مقدور؛ لأن الفرض أن المركب علة إعدادية وأن هناك مقدمات غير اختيارية؛ فلا يعقل أن يأمرنا الشارع بالغرض حينئذ، لعدم صحة التكليف بغير المقدور.

ويتضح الأمر أكثر بالمثال الآتي: لو حدث بين شخصين نزاع فأمر المولى أو الأب، أحدهما بأن يزور الطرف الآخر، ففيما كانت هذه الزيارة علة تامة للصلح أو كانت هي الجزء الأخير من العلة المعدة، فإنه لا فرق حينئذٍ بين أن يقول: زر الطرف الآخر، أو أن يقول: تصالح معه؛ فإن الأمر بهذا أمر بذاك وبالعكس، وذلك عكس ما لو علم بأن الزيارة جزء من أجزاء كثيرة غير اختيارية هي بمجموعها علة لوقوع الصلح فلو قال له: (زر)، وجبت عليه الزيارة لا غير، وليس الصلح حينئذٍ بنفسه مأموراً به، نعم لو أمره بالصلح نفسه لوجب عليه أن يأتي بكل ما هو اختياري له.

الصورة الثالثة:

أن يكون الغرض مشكوكاً حاله أنه من أي القسمين، فلو شك أن الصلاة(1)

بالنسبة إلى القربان(2) هل نسبتها إليه هي نسبة المعلول إلى علته التامة، أم إلى علته المعدة؟ فهل تلحق هذه الصورة بالصورة الأولى (وأن الغرض مقدور)، أم تلحق بالصورة الثانية (وأن الغرض غير مقدور).

ولتحديد أن المجرى هو مجرى الاحتياط أم البراءة، طرح الميرزا ضابطة عامة

ص: 82


1- وهي المركب الاعتباري.
2- الذي هو أمر غيبي.

وهي:

المرجع لسان الدليل

إن الضابط والمرجع في صورة الشك في أن الغرض مقدور أم لا، وأنه من قبيل ما نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى علته التامة أو من قبيل ما نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى العلل الإعدادية، هو لسان الدليل والأمر؛ وأن الأمر تعلق بالغرض، أم تعلق بالمأمور به؛ فإذا تعلق بالغرض كما في قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)(1) سنستكشف أن نسبة الغرض لذلك المركب هي نسبة المعلول إلى علته التامة؛ وأنه مقدور لنا، وإلا لما أمكن أن يكلفنا الحكيم به؛ إذ يقبح أن يكلفنا الشارع بغير المقدور؛ وإذا كان مقدوراً لنا وكنا مكلفين به فالمجرى هو الاحتياط كلما دار الأمر بين الأقل والأكثر تحصيلاً للعلم بحصول غرض المولى.

ونضيف مثالاً: وهو قوله تعالى: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)(2)؛ فإن فري الأوداج وإن كان علة تامة للموت؛ لكن التذكية هي عنوان وأمر وجودي زائد على صِرف الموت وفري الأوداج، فليس كل ما ذُبح فهو مذكى، بل أن فري الأوداج الأربع بالإضافة إلى الاستقبال والتسمية وغيرها هو سبب التذكية؛ ومع كون المأمور به هو الغرض نفسه وهو التذكية فلو شككنا أن التذكية تتحقق بالاستيل أم لا، نظراً لأن الاستيل حاد لكنه ليس بحديد؛ فهنا المجرى هو الاحتياط؛ فيجب الذبح بالحديد جوهراً وذاتاً لا صفةً فقط.

وأما لو تعلق أمر الشارع بنفس المركب لا بغرضه، كما في الصلاة: (أَقِمِ

ص: 83


1- سورة المائدة: 6.
2- سورة المائدة: 3.

الصَّلَاةَ)(1) إذ لم يقل القربان إلى اللّه تعالى واجب، أو إِنهَ نفسك عن الفحشاء والمنكر؛ فنستكشف من ذلك أن الغرض غير مقدور عليه وليس متعلقاً للتكليف، وأن هذا المركب علة إعدادية له، وأنه توجد مقدمات غير اختيارية؛ فلا يجب إلا الإتيان بما علم تعلق التكليف به وهو الأقل وبكون الأكثر مجرى البراءة.

والدليل الذي ذكره الميرزا (رحمه اللّه) هو: (وإلا كان تعلق الأمر به أولى من تعلقه بالمقدمة).

وتوضيحه: إنه لو كان الغرض مقدوراً للعبد لكان الأولى بالمولى الحكيم أن يأمر به؛ لأن العلة الغائية هي علة فاعلية الفاعل، والغاية هي أول ما ينقدح في الذهن؛ فهي أول الفكر وآخر العمل؛ فإذا كان الغرض مقدوراً وهو الهدف، لكان تعلق الأمر به أولى من تعلقه بذلك القشر أو بتلك المقدمات؛ فحيث إن المولى لم يأمر به اكتشفنا أنه غير مقدور.

وفيما نحن فيه نستكشف من قوله تعالى في الصلاة: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)(2) وقوله تعالى في الصوم: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)(3) وقوله تعالى في الحج: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(4).

حيث تعلق الأمر بنفس المركب، أن الغرض غير مقدور؛ ولذا لم يتعلق به الأمر؛ فالمجرى هو البراءة؛ وبهذه الطريقة ننفي اشتراط قصد الوجه والتمييز(5)

ص: 84


1- سورة الإسراء: 78.
2- سورة البقرة: 43.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة آل عمران: 97.
5- وما ذكره الميرزا النائيني (رحمه اللّه) قد ناقشه السيد الاستاذ (دام ظله) بوجوه عديدة في كتاب: (فقه التعاون على البر والتقوى): ص169، لمناسبة هناك.

في صحة الصلاة، فلا يرد على الاحتياط إشكال من هذه الجهة.

اعتراض السيد الخوئي (رحمه اللّه) على الميرزا النائيني (رحمه اللّه)

واعترض السيد الخوئي (رحمه اللّه) على المحقق النائيني (رحمه اللّه) في التزامه بالبراءة في المسببات الإعدادية بقوله: (وفيه ما تقدم في بحث الصحيح والأعم من أن المترتب على المأمور به غرضان: أحدهما: الغرض الأقصى الذي نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى العلل الإعدادية، فليس مقدوراً للمكلف ولا متعلقاً للتكليف. ثانيهما: الغرض الإعدادي الذي نسبته إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة، وقد يعبر عنه في كلام بعض الأساطين بسدّ باب العدم منناحية هذه المقدمة أي الفعل المأمور به، فعلى القول بوجوب تحصيل الغرض يجب الاتيان بالأكثر تحصيلاً للعلم بهذا الغرض الذي تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة، فكون الغرض الأقصى خارجاً عن قدرة المكلف لا يفيد في دفع الإشكال، بعد الالتزام بوجوب الاحتياط؛ فيما إذا كان الغرض مترتباً على المأمور به ترتب المعلول على العلة التامة، لأن الغرض الإعدادي الذي نشك في حصوله باتيان الأقل يكفي لوجوب الاحتياط والآتيان بالأكثر)(1).

وتوضيحه: إن الفعل المأمور به يترتب عليها غرضان:

الأول: هو الغرض الأقصى، وهو غير مقدور للمكلف حيث تكون بعض مقدماته غير اختيارية، وبعبارة أخرى: الغرض الأقصى هو تلك المسببات الإعدادية التي لا تدخل تحت قدرة الإنسان؛ وعليه فلا يكون هذا الغرض مأموراً به، لأنه غير مقدور؛ وبعبارة ثالثة: (الغرض الأقصى الذي نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى العلل الإعدادية؛ فهو فليس مقدوراً للمكلف ولا

ص: 85


1- مصباح الأصول: ج2 ص437.

متعلقاً للتكليف)(1).

الثاني: هو الغرض الأدنى، وهو (الغرض الإعدادي الذي نسبته إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة).

أقول: وهذا التعبير ليس بصحيح، لأنه اصطلاحاً لا يعبر عنه في الفلسفة بالغرض الإعدادي؛ وقد عبّر عنه الميرزا (رحمه اللّه) بالغرض التوليدي، وهو ما كان الفعل المأمور به علة تامة له، وأما الغرض الإعدادي فهو ما كان علة معدة، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح إذا أراد جعله لا الحكاية عنه.

والحاصل: إن الغرض الأدنى بحسب تعبيرنا، والإعدادي بحسب تعبيره، هو الغرض التوليدي لدى الميرزا (رحمه اللّه).

وعلى أية حال فإن الاعتراض(2) هو: أنه وإن صح أن هناك غرضاً أقصى إعدادياً غير مقدور، ولكنه يوجد أيضاً غرض أدنى(3)مقدور؛ تكون نسبته بالنسبة إلى المركب نسبة المعلول لعلته التامة.

فعلى القول(4) بوجوب تحصيل غرض المولى، فإن الغرض الأقصى وإن كان غير مقدور فالمجرى مبدئياً مجرى البراءة، لكن الغرض الأدنى - أي المسبب التوليدي - مقدور؛ فإذا كان مقدوراً فالمجرى مجرى الاحتياط والاشتغال.

ص: 86


1- مصباح الأصول: ج2 ص437.
2- على ما التزمه مصباح الأصول.
3- حسب تعبيره غرض إعدادي وحسب الواقع هو: أدنى أو توليدي.
4- إذ قد لا نقول بذلك، ولا علاقة لنا بأغراض المولى، بل المهم أوامر المولى، لكن الرأي الآخر يقول: هناك محوران لوجوب الإطاعة والامتثال؛ وهما الأمر والغرض؛ فلو كان هناك أمر: كأقم الصلاة؛ فيجب الطاعة، و لكن لو لم يكن أمر وإنما كانت روح الأمر موجودة، أي كان الغرض موجوداً، كما لو أن المولى لم يعلم بسقوط ابنه في البئر فلم يأمر، فهل على العبد أن ينقذه أم لا؟ هنا لا شك في الوجوب.

والحاصل: إن كلام الميرزا النائيني (رحمه اللّه) لا يمكنه أن يقودنا إلى البراءة، بحجة أن بعض المسببات إعدادية غير مقدورة، إذ إنها وإن كانت غير مقدورة ولكن توجد في طولها أغراض دنيا مقدورة؛ فالمجرى حينئذ الاحتياط.

وأما تطبيق الكبرى على الصغرى فبأن يقال: عن احتمال شرطية مثل قصد الأمر وقصد الوجه؛ إن الغرض للصلاة هو «معراج المؤمن»، لكنه ليس مقدوراً للعبد، بل هو بيد اللّه عزوجل، وكذا «الصلاة قربان كل تقي»(1)، فإنه أيضاً غرض غير مقدور، وكذلك الأمر في كونها: (تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)(2)، إذ تتوسط كل هذه الأغراض مقدمات غير اختيارية لوضوح عدم كون الصلاة بمفردها علة تامة لها.

بل هي علة معدة فقط، فلو أن هذه الأغراض القصوى لوحظت بمفردها لكان المجرى مجرى البراءة، ولكن مع ملاحظة وجود غرض أدنى ملاصق للصلاة، وهو مسبب توليدي مقدور للمكلف؛ فإنه يُلزمه - لأجل ذلك - الإتيان بمشكوك الجزئية ومشكوك الشرطية كقصد الوجه وقصد الأمر، كما سبق في الصورة الأولى من كلام الميرزا (رحمه اللّه).

الإشكال على الاعتراض

أقول: لكن الظاهر أن هذا الإشكال غير وارد؛ لوجهين:

الوجه الأول: إنه وإن كان من الممكن في عالم الثبوت، أن تكون للصلاة أو الصيام وغيرهما من العبادات(3) أغراض طولية، بعضها قصوى غير مقدورة أي

ص: 87


1- الكافي: ج3 ص265.
2- سورة العنكبوت: 45.
3- لأن إشكال قصد الوجه والتمييز عام جارٍ في كل العبادات.

إعدادية، وبعضها دُنيا مقدورة أي توليدية، وكان ذلك محتملاً في عالم الإثبات، لكن ما الدليل على ذلك؟ ولم نجده (رحمه اللّه) فيما نقل عنه، يقيم عليه دليلاً.

ولعلنا في العديد من العبادات لا نجد على ذلك دليلاً، وإن وجدنا دليلاً على ذلك في بعضها فإنه لا يعدو كونه استقراءً ناقصاً، وإثبات الشيء لشيء لا يدل على ثبوته لشيء آخر، فلا ينفع ذلك في إثبات كلية لزوم الاحتياط في العبادات استناداً إلى هذا الوجه.

والحاصل: إنه لابد للمستشكل من أن يثبت أنه حتى لو كانت هناك أغراض إعدادية فإن تحتها حتماً توجد أغراض توليدية ليكون المجرى مجرى البراءة بلحاظها.

الوجه الثاني: لو فرض إن سلمنا الكبرى، بأن كل عبادة فلها حتماً أغراض قصوى إعدادية ولها أيضاً أغراض دنيا، ولكن من أين لنا إثبات أن هذه الأغراض الدنيا هي توليدية؟ إذ لعلها إعدادية أيضاً؛ وكونها ملاصقة ليس دليلاً على كونها توليدية؛ فهو استدلال بالأعم على الأخص، هذا إضافة إلى أنه سبق أن الأقوال في العلة ثلاثة(1)، فعلى مبنى أنها مطلقاً إعدادية وأنه لا علة حقيقية في الكون سوى اللّه سبحانه وتعالى، فإن الأغراض اللصيقة تكون لا محالة أغراضاً إعدادية، غير مقدورة نعم الإشكال الأخير مبنوي.

مناقشة أخرى مع المصباح

ثم إن استشهاده بكلام بعض الأساطين عن سد باب العدم من ناحية هذه المقدمة بقوله: (وثانيهما: الغرض الإعدادي الذي نسبة إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة، وقد يعبر عنه في كلام بعض الأساطين بسد باب العدم

ص: 88


1- وهي الإعداد والتوليد والتوافي.

من ناحية هذه المقدمة أي الفعل المأمور به) بحاجة إلى توضيح فمناقشة:

أما التوضيح فهو: إن المعلول لا يوجد إلاّ إذا انسدت أبواب عدمه(1)، سواء أكانت تلك الأبواب على سبيل البدل، أم كان هناك باب واحد مركب من أجزاء(2)؛ فلو كان هناك ألف باب لعدم الشيء، وأغلقنا تعسة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعين باباً لبقي معدوماً؛ حيث إن الأبواب كلها يجب أن تغلق حتى يتحقق الأمر الوجودي الخاص.

ولعل المستظهر أنه ذكر ذلك بمنزلة الدليل على المدعى(3)؛ وإنه لو شككنا في جزء أو شرط ولم نغلق باب العدم من جهته لما تحقق الغرض أو لما علم تحققه.

ولكن ذلك غير مفيد أيضاً، لوجهين:

الأول: إن قاعدة سد باب العدم وإن كانت في محلها صحيحة؛ لكنها لا تتكفل بإثبات وجود غرضين طوليين للعبادة؛ ولا تتكفل بإثبات وجود غرض توليدي أدنى؛ فالقاعدة صحيحة بحد ذاتها لكنها أجنبية عن المدعى بالمرة.

الثاني: أن يقال: (ثبِّت العرش ثم انقش)، بمعنى أنه يجب أولاًإثبات أن هذا المشكوك الجزئية والمشكوك الشرطية هو باب عدم لهذا الغرض التوليدي ثم

ص: 89


1- وإلى هذه القاعدة أشار العلامة (ره) في نهاية المرام بقوله: (الشيء ما لم يجب لم يوجد، فالوجوب سابق على الوجود، فإنّه لابدّ من تقدّم جهة الاستحقاق على حصول المستحق، وجهة الاستحقاق في الواجب هو كونه مستحقاً للوجود من ذاته، ووجود الشيء سابق على أوصافه السلبية، فإنّ الصفات السلبية لا تعيّن ولا تخصص لها في أنفسها، بل تعيّنها وتخصّصها تبع لتخصص محالها الموجودة الموصوفة بها؛ فحينئذ وجود الشيء سابق على سلب غيره عنه، وإذا كانت السلوب بأسرها متأخرة عن وجود الشيء، وكان الوجوب متقدماً عليه لم يكن سلبياً، وإلاّ لكان متقدّماً متأخراً، هذا خلف). نهاية المرام: ج1 ص93، فتأمل.
2- فهي بالنسبة إلى بعضها الآخر، على سبيل البدل.
3- الذي هو: سد باب العدم لهذه الاغراض اللصيقة أو الدنيا.

القول: ب (أغلق باب العدم) بأن تقصد الأمر ووجهه؛ ولكن هذا المدعى أول الكلام؛ لأنه متفرع على كون هذا الباب باب عدم حتى يجب غلقه.

وبعبارة أخرى: إن هذا الكلام تامٌ في ما لو عُلم أنه جزء أو شرط؛ ففي هذه الحالة يلزم غلق باب العدم لكي يتحقق الغرض، ولكن الفرض أن كونه باب عدم هو مشكوك فيه وهو أول الكلام، فكيف يستند إلى سد باب العدم(1) لإثبات كون هذا المشكوك فيه باب عدم وأنه ينبغي أن يغلق، فهذا مما لا يصح إلا على وجه سيأتي.

مناقشة مع الميرزا النائيني (رحمه اللّه)

وقد يستشكل عليه(2): بأن المجرى مجرى البراءة مطلقاً لو تعلق الأمر بالمركب(3)، ومجرى الاحتياط لو تعلق بالغرض مطلقاً ولا يصح أن يلحق بهذه الصورة(4) ما لو تعلق الأمر بالسبب التوليدي دون المسبب التوليدي (وهو الغرض)(5)؛ وذلك لأن كون الغرض مسبباً توليدياً - كما في الصورة الأولى من صور الميرزا (رحمه اللّه) - لا ينتج بالضرورة لزوم الاحتياط في كل ما شك في جزئيته أو شرطيته إلاّ لو تعلق الأمر بالغرض نفسه، وأما لو تعلق الأمر بالسبب وإن كان توليدياً - أي بالعلة حسب تعبير الميرزا (رحمه اللّه) - فإن الاحتياط بالإتيان بمشكوك الجزئية أو الشرطية لا وجه له، لأن الأمر لو تعلق بالسبب التوليدي فإن الإطلاق المقامي كافٍ لدفع احتمال كون شيء جزءاً أو كونه شرطاً؛ وينتج من ذلك عدم

ص: 90


1- وهي القاعدة المطلقة الذي تقدم ذكرها.
2- على الميرزا النائيني (رحمه اللّه).
3- أي السبب، أي المأمور به.
4- لو تعلق الأمر بالغرض.
5- وهي فيما لو تعلق الأمر بالغرض.

مدخلية الأمر المشكوك في الغرض، أي عدم مدخلية ما شك في جزئيته أو شرطيته في الغرض.

وأما حديث المساوقة - إذ رأى الميرزا (رحمه اللّه) التسوية بين الأمرين واعتبارهما بوزان واحد، إذ قال: (فلو علمنا بأن الغرض من القسم الأول يجب القطع بحصوله، بلا فرق بين أن يكون الأمر في مقام الإثبات متعلقاً بنفس الغرض أو بعلته، ففي مثله لو دار الأمر بين الأقل والأكثر كان مورداً للاحتياط، فيجب الاتيان بالأكثر تحصيلاً للقطع بغرض المولى)(1)، وجوهره أنه لا فرق بين أن يتعلق الأمر بالغرض التوليدي، وبين أن يتعلق بسببه الذي هو علة تامة للغرض، فيرد عليه: إنه لا دليل على هذه المساوقة(2)؛ إذ يختلف وجه الحكمة في الأمر بالسبب التوليدي عن الأمر بالمسبب والغرض التوليدي ولذا قد يأمر الشارع بالمركب وهو السبب التوليدي ولا يأمر بالغرض(3) رغم أنه غرض توليدي.

ومن وجوه الحكمة: أن الشارع لعله لاحظ أنه لو أمر بالغرض(4) لأوقع العبد في كلفة تحصيل كل ما شك في شرطيته أو جزئيته، كما هو شأن العنوان والمحصل من أنه كلما تعلق الأمر بالعنوان وجب تحصيل كافة ما يحتمل دخله في تحقيقه(5) لذلك وجّه الأمر للمركب(6) لكي لا يقع العبد في هذه الكلفة.

وبتعبير آخر: إنه وإن صحّ أن هذا السبب علة تامة لذلك المسبب، وأنه

ص: 91


1- مصباح الأصول: ج2 ص436.
2- لو سلمنا بالمبنى، وأن السبب علة تامة للمسبب.
3- أي المعلول وهو المسبب التوليدي.
4- كما في التذكية (وحسب مثاله: كما في الأمر بالقتل بدل الأمر بفري الأوداج).
5- كما هي القاعدة العقلية والعقلائية.
6- أي للسبب التوليدي.

أمر به لكي يصل إلى ذلك الغرض؛ لكن قد تكون هناك مصلحة أخرى تزاحم مصلحة الغرض وهي مصلحة التسهيل ولذلك فإن الشارع جمع بين المصلحتين فمصلحة التسهيل قد أثمرت إلى هذا الحد؛ حيث رأى المولى أن الأمر بالغرض نفسه سيوقع العبد في مشقة إضافية؛ وهي تحصيل كل ما شك في محققيته للغرض؛ فلذا عدل إلى الأمر بالمركب والمسبب التوليدي تخفيفاً على عباده.

وقد يستشكل على التخريجة السابقة وهي أن المولى لعله أمر بالمركب - وهو سبب توليدي - لا بالغرض؛ لكي تبقى للعبد مندوحة الفرار عن الإتيان بالمشكوكات، أي إن المولى رعاية لمصلحة التسهيل قد أمر بالعلة لا بالغرض كي لا يلزمه الإتيان بمشكوك الشرطية - الذي يلزم لو كان قد أمر بالغرض -.

والإشكال هو: إنه وإن لم ننكر وجود هذا الاحتمال؛ لكن الاحتمال الآخر غير منتف؛ فهو منجز، وهذا الاحتمال الآخر بما أنه عقلائي وأن أغراض المولى ملزمة وأنه يريد التحفظ عليها؛ فيجب حينئذ على العبد أن يغلق باب عدم هذا الغرض - المحتمل كونه هو المأمور به لبّاً وواقعاً - من هذه الجهة، وبعبارة أخرى: إن مجرد احتمال كون الأمر بالمركب (وهو السبب التوليدي) أمراً بالغرض (وهو المسبب التوليدي) منجزّ.

والجواب:

قد اتضح مما مضى أن هذا الاحتمال منجز لولا الإطلاق المقامي؛ فكما أن الاحتمال إنما يكون منجزاً(1) لو لم يكن هناك إطلاق لفظي نافٍ له؛ كذلك لو وجد إطلاق مقامي فإنه ينفي منجزية الاحتمال الناشئ من الغرض أيضاً.

ويتضح ذلك أكثر بمثال عرفي وجداني وهو: إن المولى إذا أراد تدفئة الغرفة

ص: 92


1- لكونه في الشؤون الخطيرة، أو في أطراف العلم الإجمالي، في الشبهة البدوية قبل الفحص أو شبه ذلك.

بإشعال الحطب أو المدفأة فيها وفرضنا أن إشعال الحطب هو علة تامة للدفء، فإن المولى مخير بين أمرين:

الأول: أن يقول له: أدفئ الغرفة، بأن يأمره بالمسبب(1)؛ فتكون النتيجة: أن العبد عليه أن يوفر الحطب وأن يزيل الرطوبة المانعة، وأن يوجد المجاورة الخاصة لذلك، وأنه لو كان هناك شرط مشكوك في شرطيته أو جزء مشكوك في جزئيته(2) فإن عليه أن يحتاطبالإتيان به، حتى إذا كان قد يوقعه في الحرج - فيما ورد مورد الحرج - فتأمل؛ أو لم يكن يوقعه في الحرج لكن كان في عدم أمره بإتيان مشكوك الجزئية أو الشرطية، تسهيلاً عليه خاصة عند ملاحظة مجمل التكاليف الشارعية.

الثاني: أن يقول له: اشعل الحطب؛ ونتيجته: إن كل جزء معلوم الشرطية أو الجزئية عليه أن يأتي به، لكن ما يشك العبد في كونه شرط المأمور به فإنه تجري فيه البراءة.

وبتعبير آخر: إن المولى يريد حينئذٍ من العبد أن يدفئ الغرفة، ولكن لا بأي ثمن كان حتى ولو أوقع العبد في حرج أو حتى لو كان في عدمه التسهيل.

والخلاصة: إن قول الميرزا (رحمه اللّه) - بلا فرق بين أن يكون الأمر في مقام الإثبات متعلقاً بنفس الغرض أو بعلته -، يرد عليه: إن الظاهر وجود الفرق ثبوتاً، وهو عقلائي إثباتاً؛ ومن وجوهه مصلحة التسهيل.

ومن هذا الوجه في الإشكال على الميرزا (رحمه اللّه) ينقدح إشكال آخر على مبنى هام معروف وإن كان يحتاج إلى تأمل؛ وهو أنهم ذهبوا إلى أن الأمر لو تعلق

ص: 93


1- وهو الغرض التوليدي.
2- كإغلاق حتى المنافذ الصغيرة جداً، أو كجلب الحطب الزائد من مكان بعيد لاحتمال عدم كفاية الحطب في المكان القريب.

بالغرض نفسه - فشك في محصله (وهو البحث المعروف بمبحث العنوان والمحصل كقوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)(1)) فالمجرى مجرى الاحتياط.

ولكن قد يقال: بأنه حتى في هذه الصورة فإنه قد يتخلص من كون المجرى مجرى الاحتياط؛ بالتمسك بالإطلاق المقامي؛ فلو أمر المولى بالغرض وشك في جزئية جزء أو شرطية شرط لمحقق ذلك الغرض، فيمكن أن يتمسك بالإطلاق المقامي لنفي الجزئية ونفي الشرطية؛ وبذلك يحرز تحقق الغرض وأنه يترتب على الأقل من غير توقف على الأكثر.

والأمر في المقام كالأمر في الاستصحاب السببي والمسببي؛ حيث إنه كلما كان هناك استصحاب سببي فإنه لا تصل النوبة إلىالاستصحاب المسببي؛ وهنا يجري نظيره؛ وهو أنه كلما شك في تحقق الغرض الذي أمر به المولى من جهة احتمال مدخلية هذا الجزء المشكوك الجزئية، أو الشرط المشكوك الشرطية تحققه، فإن الشك في تحقق الغرض وليد الشك في شرطية أو جزئية أمرٍ لمحققه، فلو كان هنالك أصل عقلائي - وهو في المقام الظهور الناتج من الإطلاق المقامي - يحرز حال هذا الشي المشكوك الشرطية أو الجزئية وأنه ليس بجزء ولا هو بشرط لمحقق الغرض؛ فإنه ينتفي الشك المسببي بالتبع.

وقد سبق في مبحث الإطلاق المقامي: أن المولى لو كان في مقام حصر كافة أجزاء المركب الدخيلة في غرضه، وكانت الأجزاء والشرائط المشكوكة كثيرة الابتلاء وكانت مما يغفل عنها عامة المكلفين، لكان عدم ذكر الشارع لهذا الشرط أو ذاك الجزء خلافاً للحكمة، ولكان المولى مخلًا بغرضه؛ وحيث يعلم أن الشارع حكيم يكتشف من عدم الذكر عدم الاشتراط وعدم الجزئية؛ فهذا أصل عقلائي

ص: 94


1- سورة المائدة: 6.

يحرز به أن مشكوك الجزئية والشرطية لا دخل له في الغرض.

تذكير وخلاصة

إن الميرزا (رحمه اللّه) فصّل بين الصور الثلاث؛ واعتبر أن الأولى مجرى الاحتياط، والثانية مجرى البراءة، والثالثة فصل فيها بحسب لسان الدليل وأن الأمر تعلق بالغرض أو بالمأمور به.

وملخص المناقشة:

إن الصورة الأولى هي أيضاً مجرى للبراءة كما هو حال الصورة الثانية؛ وأما في الصورة الثالثة حيث إنه (رحمه اللّه) فصّل بأن المرجع في صورة الشك لسان الأمر، فلو شككنا أن الغرض توليدي أو إعدادي، فإن المرجع لسان الأمر وإنه هل تعلق بالغرض - فيعلم أنه توليدي - ويكون المجرى الاحتياط أو بالمركب المأمور به - فيعلمأن الغرض إعدادي -، ويكون المجرى البراءة، فإن المجرى في الصورتين هو البراءة أيضاً؛ لما سبق من أن الصورة الأولى بنفسها هي أيضاً مجرى البراءة تمسكاً بالإطلاق المقامي.

والحاصل: إن الصورة الثالثة في شطرها الأول أرجعها إلى الصورة الأولى فالتزم بالاحتياط؛ لكن حيث أوضحنا حال الصورة الأولى وقلنا: إن المجرى فيها أيضاً مجرى البراءة، فإن الصورة الثالثة في شقها الأول ستكون أيضاً كذلك.

وقد تطرقنا في كتاب (فقه التعاون) لإشكالات أخرى على كلامه(1)، ولعل هذا الإشكال هو الأدق، ولذلك أفردناه بالذكر ههنا.

تفريع: البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين

ومما ذكرناه من التمسك بالإطلاق المقامي للالتزام بالبراءة في (العنوان

ص: 95


1- بلغت خمس إشكالات.

والمحصِّل) وفي مطلق ما لو تعلق الأمر بالغرض أو بالسبب التوليدي، يتضح وجه القول بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو الإطلاق المقامي أيضاً، وتوضيحه:

إن الآخوند (رحمه اللّه) اختلف مع الشيخ (رحمه اللّه) في جريان البراءتين العقلية والنقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين، فهنا قولان:

القول الأول: رأي الشيخ (رحمه اللّه)

فقد ذهب الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) إلى أن الأقل والأكثر الارتباطيين هما كالاستقلاليين، مجرى البراءتين العقلية والنقلية.

(والاستقلاليان: كما لو شك أنه مدين بتسعة دراهم أو عشرة دراهم فإن القدر المتيقن هو الأقل، فيجب أن يفرغ ذمته من التسعة، وأما الدرهم العاشر فمشكوك فيه فهو مجرى البراءة.

والارتباطيان كالصلاة حيث إنها حقيقة ارتباطية واحدة) ولذلك لو ترك جزءاً عمداً بطلت بأجمعها، ولو ترك ركناً عمداً أو سهواً بطلت بأجمعها.وقد استدل الشيخ (رحمه اللّه) على ذلك: بأن الأقل - الذي هو الأجزاء التسعة من الصلاة - متيقن الوجوب على كل التقادير، وأما الجزء العاشر فهو مشكوك الوجوب؛ فهو مجرى البراءة عقلاً ونقلاً؛ أما أن الأقل متيقن الوجوب فذلك لأن الأقل(1) واجب على كلا التقديرين، فإنه سواء تعلق الوجوب بالتسعة فقط فإنها واجبة وجوباً نفسياً، أم تعلق بالأكثر فإن التسعة واجبة وجوباً غيرياً، وبتعبير آخر أدق: وجوباً ضمنياً.

وبذلك أرجع الشيخ (رحمه اللّه) الأقل والأكثر الارتباطيين إلى دائرة المتيقن

ص: 96


1- الأجزاء التسعة من دون جلسة الاستراحة مثلاً.

والمشكوك، فصار وزانهما وزان الأقل والأكثر الاستقلاليين.

ولا يخفى أن كلامه مبني على وحدة الوجوبين(1) عرفاً، وكلامه وإن صح لكنه ينبغي تخصيصه بما لو تعلق الأمر بالمركب الارتباطي نفسه، دون الصورتين الأخريين (اللتين هما مورد البحث) وهما:

الصورة الأولى: ما لو تعلق الأمر بالغرض(2)، فإن المجرى حينئذٍ يكون مجرى الاحتياط لا البراءة؛ وكون الأقل قدراً متيقناً لا ينفي التنجز الناشئ من جهة الغرض؛ والشيخ (رحمه اللّه) حل الإشكال من حيث المتيقن واللا متيقن، لا من حيث إشكال الغرض؛ والمشكلة الفعلية تنشأ من الغرض في مبحث العنوان والمحصل كما مضى.

الصورة الثانية: فيما لو تعلق الأمر بالسبب أو العلة التوليدية.

فإنه في هذه الصورة أيضاً لا تجري البراءة العقلية على بعض المباني كمبنى الميرزا (رحمه اللّه) كما سبق، فتأمل.

القول الثاني: رأي الآخوند (رحمه اللّه)

بينما ذهب الآخوند (رحمه اللّه) إلى أن المجرى في الأقل والأكثر الارتباطيين هو الاحتياط عقلاً والبراءة نقلاً، وقد تبعه جمع منهمالميرزا النائيني (رحمه اللّه)، استناداً إلى حديث الرفع.

أقول: ونحن نتفق مع الآخوند (رحمه اللّه) في المدعى ولا نتفق معه في الدليل؛ إذ المستند فيما نرى هو الإطلاق المقامي وهو أسبق رتبة من المستند لديه وهو حديث الرفع؛ وتوضيح كلامه:

ص: 97


1- الوجوب النفسي والغيري أو الضمني.
2- وهذه هي الصورة الأولى من صور الميرزا المتقدمة.

إن الآخوند (رحمه اللّه) ذهب إلى أن «رفع ما لا يعلمون»(1) شامل للمقام وأن البراءة النقلية حاكمة على الاحتياط العقلي؛ إذ أننا وجداناً نشك في الجزء العاشر كجلسة الاستراحة، هل هي واجبة أم لا فهي مصداق ل- «ما لا يعلمون»؛ فيرفع وجوبها حينئذ.

ومما تقدم ظهر وجه الإشكال على هذا الاستدلال؛ فإنه أولاً استدلال بأمر لاحق رتبةً، إذ الإطلاق المقامي ينفي جزئية المشكوك وهو دليل اجتهادي سابق رتبة على حديث الرفع وهو أصل عملي، إضافة إلى أنه لا إطلاق له إذ لا يشمل صورة تعلق الأمر بالغرض فإن الجزء العاشر مما يعلم حينئذٍ وليس مما لا يعلم فيما لو تعلق الأمر بالغرض؛ إذ إن جزءه العاشر ببركة الغرض يكون مما يعلم لزوم تحقيقه؛ لأنه قد انشغلت الذمة بالغرض قطعاً؛ ولو لم يؤت بالجزء العاشر المشكوك يشك في أن الغرض تحقق أم لا؟ فالاشتغال اليقيني بالغرض، يستدعي البراءة اليقينية.

وبتعبير آخر: لو خُلينا نحن والجزء المشكوك بنفسه، لكان الحق مع الشيخ (رحمه اللّه) من جهة، والحق مع الآخوند (رحمه اللّه) من جهة أخرى.

أما كون الحق مع الشيخ (رحمه اللّه) حيث رأى أن الجزء العاشر مشكوك بعد كون التسعة أجزاء متيقنة الوجوب وبعد أن العرف يرى الوجوبين (النفسي والضمني) أمراً واحداً فوجوب التسعة متيقن ووجوب العاشر مشكوك فالمجرى مجرى البراءة عقلاً.

وأما كون الحق مع الآخوند (رحمه اللّه) حيث رأى أنه غير معلوم لنا حكمه وجداناً فهو مصداق لما لا يعلمون؛ فهو مرفوع.

ولكن الفرض أننا لم نُخلَّ والجزء العاشر بما هو هو؛ بل هناكدليل حاكم

ص: 98


1- الكافي: ج2 ص463، حيث نقل الحديث مرفوعاً / والصدوق في التوحيد: ص353 بسند متصل، وتقدمت الإشارة لذلك.

وهو الغرض؛ أي إن وقوع الغرض متعلقاً للأمر أو وقوع سببه التوليدي متعلقاً للأمر؛ هو الذي منع شمول حديث الرفع للجزء العاشر.

ولكننا أجبنا على إشكال الغرض وتفصينا عنه بالإطلاق المقامي، وعليه: فإن قصد الوجه وقصد التمييز لا يضرّ فقدانهما تمسكاً بالإطلاق المقامي، فلا يشكِّل عدم توفر الاحتياط عليها، إشكالاً على صحته(1) في العبادات.

جواب تنزلي عن قصد الوجه والتمييز

وأخيراً: فإنه يمكن الجواب عن شبهة بطلان الاحتياط لعدم توفره على قصد الأمر ونية الوجه والتمييز في العبادات، حتى لو تنزلنا وسلمنا بلزوم قصد الوجه والتمييز، وأنه بدونهما لا يصدق عنوان الإطاعة والعبادة ولا يكون الفعل حسناً ولا يعلم تحقق المركب الاعتباري ولا الغرض، بأنّ(2) ذلك إنما يتمّ إذا أمكن معرفة الأمر والوجه والتمييز؛ وأما إذا لم يمكن معرفتها فليس قصدها معتبراً بلا إشكال؛ لأن القول باعتبارها مطلقاً يستلزم القول بعدم صحة الاحتياط في العبادات مطلقاً(3)؛ وهذا مما لا يلتزم به أحد.

وبعبارة أخرى: لو التزمنا بوجوب قصد الوجه والتمييز والأمر مطلقاً للزم بطلان الاحتياط حتى في صورة التحيّر المستقر، والتالي باطل؛ لبداهة صحة الاحتياط بالصلاة إلى الطرفين المردد كون القبلة أحدهما.

نعم هذا جواب تنزلي ينفي كون الاشتراط مطلقاً، لكنه لا ينفع لإثبات الوجوب التخييري للاحتياط إلى جوار الاجتهاد والتقليد.

ص: 99


1- الاحتياط.
2- خبر (يمكن الجواب...).
3- حتى في مثل المتحير في اتجاه القبلة في الصحراء المنغلق عليه باب الاجتهاد أو التقليد، أي المنغلق عليه باب تحصيل الحجة على القبلة.

تحليل بيان الفقه لكلام ابن إدريس

وللسيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) تحليل لطيف لتوجيه مخالفة ابن إدريس (رحمه اللّه) للاحتياط بالصلاة في الثوبين الذين ثبت أن أحدهما نجس من دون أن يعلم النجس منها بالذات ومع عجزه حتى عن غسل أحدهما، حيث ذهب ابن إدريس (رحمه اللّه) إلى عدم صحة الاحتياط بالصلاة مرتين، تارة بهذا الثوب، وتارة بذاك الثوب(1).

قال في (بيان الفقه): (لعل وجه قول ابن إدريس (رحمه اللّه) بالبطلان ذهابه إلى مبغوضية الصلاة بالثوب النجس؛ وهذه المبغوضية راجحة بنظره ومقدمة على حسن الاحتياط).

إذن هنا عنوان ثانوي في البين؛ فلا يكون الإشكال ناشئاً من فقدان قصد الوجه والتمييز، بل من وجود مزاحم أقوى؛ فعلى هذا فإن مثل ابن إدريس (رحمه اللّه) أيضاً ينبغي أن يقول بجواز الاحتياط لو لم يوجد مزاحم أقوى، كما في الصلاة إلى الجهتين فيما لو ترددت القبلة بينهما أو ترددت الصلاة بين القصر والإتمام.

ونضيف إلى كلامه (دام ظله): إن هذا الإشكال الذي لعله كان منشأ منع ابن إدريس (رحمه اللّه) من الصلاة في الثوبين المشتبهين، ليس خاصاً بهذه الصورة، بل هو عام يشمل جملة من الصور الخمسة عشرة من صور الاحتياط المذموم والتي ذكرناها في موضع آخر، ومنها صلاة الوسواسي.

وبذلك انتهى الكلام عن الإشكال الجوهري والمحوري الذي أورد على القول بصحة وجواز الاحتياط في العبادات من حيث إشكال فقدان قصد الأمر والوجه والتمييز، والذي يلزم منه عدم صحة اعتبار الاحتياط قسيماً للاجتهاد

ص: 100


1- السرائر: ج1 ص185، وقد تقدم كلامه (رحمه اللّه).

والتقليد ومبرءاً للذمة في العبادات.

وهناك إشكالات أخرى طرحها العديد من الأعلام مثل أن الاحتياط موجب للعبث بأحكام المولى وشبه ذلك لكن الجواب عنها ظاهر مما سبق فلا حاجة لإفرادها بالبحث.

ص: 101

الإشكال على الاحتياط في المعاملات

بعد البحث عن القسم الأول وهو الاحتياط في العبادات، يأتي البحث عن الاحتياط في المعاملات، والإشكالات التي أوردت عليه، وهي متعددة؛ ولكن سنقف عند أحد أهم تلك الإشكالات؛ لكونه إشكالاً مفتاحياً في البحوث الفقهية والأصولية.

اشتراط الجزم في المعاملة

من أهم الاشكالات على الاحتياط في المعاملات: أن المعاملات يشترط فيها الجزم ولا جزم في الاحتياط، وتقريره عبر ترتيب قياسين طوليين من الشكل الأول فنقول:

المعاملات متوقفة على الإنشاء.

والانشاء متوقف على الجزم.

فالمعاملات متوقفة على الجزم(1).

ثم نجعل نتيجة هذا القياس صغرى لكبرى قياس ثانٍ من الشكل الأول أيضاً، هكذا: المعاملات متوقفة على الجزم.

والجزم(2) لا يتحقق بالاحتياط.

فالمعاملات لا تتحقق بالاحتياط.

وتفصيل البحث في ضمن مطالب(3):

ص: 102


1- والأدق في القياس هو: المعاملات متوقفة على إنشاء؛ والمتوقف على الإنشاء متوقف على الجزم؛ فالمعاملات متوقفة على الجزم.
2- الأدق: (المتوقف على الجزم لا يتحقق بالاحتياط) كي يتكرر الحد الأوسط.
3- ذكر هذه المقدمات لإثبات النتائج في القياس الأول والثاني، وبعض هذه المقدمات سينفع في دفع إشكالات لاحقة، وهذا أيضاً بحث مفتاحي.

المطلب الأول: تعريف الإنشاء

الإنشاء - فيما نرى - هو: إيجاد حقيقي لمعنى اعتباري فيعالمه(1)، بأمر ظاهر غير مضمر لفظاً كان أم غيره.

وبهذا التعريف ندفع بعض الإشكالات التي ترد على بعض التعاريف الأخرى غير الجامعة أو غير المانعة:

فخرج بقولنا: (إيجاد) الإخبار؛ وذلك هو جوهر الفرق بين الانشاء والإخبار؛ حيث إن الإخبار حكاية وليست إيجاداً (2)؛ ومثالهما من عالم التكوين أن المرآة مثلاً تحكي ولا توجد، وأما الذهن فإنه يخلق الصور والمعاني الجزئية، والأولى صناعة القوة المتخيلة والثانية صناعة القوة المتوهمة وهما من قوى الذهن أو النفس - على بحث -.

ويترتب على ذلك الفرق فرق آخر بين الإخبار والإنشاء؛ وهو معلول للفرق الأول وهو أن الإخبار يحتمل فيه الصدق والكذب(3)، أما الإنشاء فلا يحتمل فيه الصدق والكذب؛ وذلك لأن الإنشاء إيجاد، والإيجاد أمره دائر بين التحقق وعدمه، أي دائر أمره بين النقيضين فإما أن يحصل الإيجاد أو لا.

ويتضح ذلك أكثر هذا بملاحظة أن الإيجاد على ما قالوه(4) هو الوجود منسوباً للفاعل، والوجود هو الوجود منسوباً للقابل، والوجود لا يحتمل فيه

ص: 103


1- أي في عالم الاعتبار.
2- على عكس رأي الآخوند (قدس سره).
3- وهذا تعريف بالخاصة.
4- إذ ناقشنا ذلك مفصلاً في بعض الكتب، فراجع.

الصدق والكذب؛ إذ الوجود هو الثبوت والواقع، وإنما الصدق والكذب يجريان بملاحظة المطابقة وعدمها وهما متحققان في الإخبار؛ فإن طابق القول للمعتقد فهو صدق(1)، أو طابق القول الواقع فهو صدق على رأي ثانٍ، أو طابق القول الواقع والمعتقد على رأي ثالث فهو صدق؛ وإلا فهو كذب.

والحاصل: إن الصدق والكذب قوامهما بوجود عالمين يطابق أحدهما الآخر أو يخالفه، وأما الإيجاد فهو عين الوجود باختلاف النسبة، وذلك - وكما سبق - لأن الوجود لو نسب للقابل سمي وجوداً،ولو نسب للفاعل سمي إيجاداً؛ فوجود الإنسان مثلاً إذا نسب إلى اللّه يكون إيجاداً له، وإذا نسب للإنسان فهو وجود له، لا أن وجوده وجود له تعالى، كما يزعم بعض الصوفية من الذاهبين إلى وحدة الوجود.

إذن في الإيجاد لا معنى لاحتمال الصدق والكذب، إذ لا يوجد عالمان لوحظ تطابق أحدهما مع الآخر؛ وهو دائر أمره بين الوجود والعدم، أما الإخبار فحكاية، فإن طابقت فصادقة وإلا فكاذبة.

وخرج بقولنا: (حقيقي) الإيجاد المتوهم أو المجازي، وبذلك يجاب على من توهم أن عالم الاعتبار عالم وهمي وأن إيجاد الاعتبارات إنما هو إيجاد مجازي أو وهمي(2).

والصحيح: الفرق بين الوهم وعالم الاعتبار؛ حيث إن الوهم قائم بالشخص المتوهم أما الاعتبار فقائم بالعقلاء(3) كما أنهم يرتبون الآثار على الاعتبار دون الوهم، ثم إن الاعتبار إيجاد حقيقي(4) والمعتبر أمر موجود حقيقة لا

ص: 104


1- أي صادق والمطابقة صدق.
2- فهو إيجاد وهمي لأمر وهمي أو إيجاد مجازي لأمر وهمي.
3- أو بالعقل الفعال، أو اللوح المحفوظ، أو بعالم نفس الأمر، على الأقوال وقد بحثناها في موضع آخر.
4- إيجاد حقيقي في مقابل الوهم والمجاز، أي ليس إيجاداً متوهماً ولا إيجاداً مجازياً.

مجازاً، ولكن الرتبة الوجودية له دانية؛ إذ الموجَد على مراتب:

فتارة: يكون الموجَد قوياً، كالجواهر المجردة على القول بها وكالروح: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(1).

وأخرى: يكون الموجَد ضعيفاً، كسائر الجواهر.

وثالثة: يكون الموجَد أضعف، هو الأَعراض كالكيف والكم وما أشبه.

ورابعة: يكون أضعف من الثلاثة المتقدمة، وهو الأمر الانتزاعي.

وخامسة: يكون الموجَد أضعف من جميع ما تقدم، وهو الأمرالاعتباري. فتأمل(2).

والحاصل: إنه لا فرق بين عالم الواقع، وعالم الانتزاع، وعالم الاعتبار من هذا الحيث؛ إذ في جميعها يكون هناك إيجاد حقيقي لموجَد حقيقي(3)؛ ولكن درجة الموجَد أو رتبته تختلف قوةً وضعفاً، وسيتضح ذلك لاحقاً أكثر.

وعلى هذا فالإنشاء هو إيجاد حقيقي للمعنى الاعتباري، ولذلك قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول هو: (إيجاد حقيقي للطلب أو لمعنى اعتباري آخر).

أقول: وهذا التعبير دقيق، حيث أفرد الطلب بالذكر من بين الأمور الاعتبارية الأخرى لوجود فرق دقيق بين الطلب الذي هو قائم بالنفس تكويناً فتوجده طلباً آخر مسانخاً له بالإنشاء في عالم الاعتبار والشامل لمختلف أنواع الطلب كالأمر(4) والاستفهام(5) والدعاء(6)، وبين المعاني الأخرى مثل الزوجية

ص: 105


1- سورة الإسراء: 85.
2- لما سيأتي من أن الاعتبار من الطاقة، وهي أقوى من المادة، فتأمل.
3- والمراد به - كما سبق - ما يقابل المجازي والوهمي، لا الحقيقي المقابل للانتزاعي والاعتباري كما هو المعروف، وكما هو واضح.
4- إذ يوجد طلب هذا الشيء من العبد.
5- إذ وجد الاستعلام أي طلب العلم.
6- إذ يوجد الاستجداء وطلب الخير من اللّه تعالى.

والملكية والقضاوة والولاية وما أشبه التي ليست لها حقائق سابقة على الاعتبار قائمة بالنفس وإنما سنخها سنخ آخر لا وجود له إلا الوجود الاعتباري، وهذه إشارة والتفصيل في محله.

وبذلك يظهر الفرق بين مثل (زوَّج) أو (طَلَّقَ)، و(زوَّجتُ) أو (طالق) إذا كانا إنشاءً، و(زوِّج) أو (طَلِّقْ):

فأما (طَلَّقَ) فهو إخبار، وهو حكاية فيحتمل فيها الصدق والكذب، وهو متوقف على ملاحظة المطابقة بين عالمين.

وأما (طالق) الإنشائية فهو إيجاد لمعنى اعتباري في عالمه، وهو الطلاق؛ فهو إيجاد للطلاق والفرقة لا إخبار عنه.

وأما (طَلِّقْ) فهو إيجاد لطلب الطلاق.فطالق الإنشائية في قوله: هي طالق طلقة، إيجاد للطلاق، وأما (طلّقْ) فهو إيجاد لطلب الطلاق لكن لا الطلب النفسي فإنه قائم بالنفس وأمر تكويني سابق رتبة على الطلب الإنشائي.

ولذلك بحث العلماء الإنشاء والطلب في مبحث الأوامر من الأصول، وأما إنشاء المعاني الاعتبارية كالزوجية والحرية والملكية وغيرها فقد ذكروه في باب العقود والمعاملات من الفقه.

المطلب الثاني: أقسام الوجود

المشهور عند المناطقة والفلاسفة وتبعهم عدد من الأصوليين أن الوجودات أربعة: الوجود العيني، والذهني، واللفظي، والكتبي.

ص: 106

ولكن الظاهر أن التقسيم ناقص والأقسام غير حاصرة، وأن هذا النقص هو الذي أثمر الخطأ الأصولي الذي وقع فيه البعض كما سيأتي.

بيان ذلك: إن الوجودات هي أكثر من أربعة؛ وسوف نشير إليها إشارة، ونوكل تفصيل البحث إلى محله، فنقول:

إن الوجود اللفظي والوجود الكتبي مرتبتان نازلتان من الوجود وليسا وجوداً حقيقياً للشيء، فإن النار اللفظية (أي لفظ النار الذي ننطق به) ليست ناراً حقيقة(1)، وإنما هي مرآة، وفي عالم الإثبات نجد أن النار اللفظية عاكسة وكاشفة ومرآة للنار الحقيقية وليست بنار حقيقية؛ وكذلك الحال في النار الكتبية؛ ولكن توجد مراتب أخرى للوجود هي أقوى درجةً من الوجود اللفظي والكتبي وهي أقوى منهما دلالة في عالم الإثبات وهي الوجود الصوري والوجود الظلي:

الوجود الصوري

العالم الخامس، أو النوع الخامس من أنواع الوجود: عالم الصور(2)، فكما أن كلمة (حديقة) كاشفة عن العالم العيني الخارجي؛كذلك صورة الحديقة المرسومة أو الملتقطة كاشفة عنه أيضاً؛ فكما تحكي الألفاظ والكلمات عن الخارج فكذلك الصور، بل لعل الصور أدق وأوضح، وهي على أقسام: الصور المنعكسة في المرآة أو في المادة والصور التي ترسم بالريشة وما أشبه، والصور الفتوغرافية، ومنها الأفلام وما أشبه، هذا إذا لم نلحق الصور المرآتية بالوجود الظلي وعالم الظلال وقد ظهر من الأمثلة أنه ليس المقصود الصور الذهنية فإنها من الوجود الذهني.

ص: 107


1- بالحمل الشايع الصناعي.
2- وهي التي تلتقط بعضها كجهاز التصوير، فتنطبع على شكل صورة لشخص، أو لشجرة، أو غير ذلك.

الوجود الظلي

العالم السادس، أو النوع السادس من أنواع الوجود: وهو عالم الظلال أو الوجود الظلي المصرح به في القرآن(1): (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)(2).

وحيث كانت مراجعة الفلاسفة للقرآن الكريم والروايات الشريفة، قليلة أو شبه منعدمة لذلك لم يخطر ببالهم حتى تصور وجود هذا العالم.

وأما العلم الحديث فقد أثبت وجود الأمواج الحرارية والكهرومغناطيسية وغيرها، فهذا عالم من نوع آخر وهو عالم واسع جداً، ومنه ننطلق إلى احتمال مبنوي مهم يبين لنا حقيقة عالم الاعتبار بوجه جديد، وهو أنه من عالم الظِّلال بعد الفراغ عن عدم كونه عالماً وهمياً أو مجازياً، على ما سيأتي بعد قليل.والحاصل: إن حصرهم للعوالم في هذه الأربعة إن أُريد به الحصر العقلي فلا دليل عليه بل الدليل على خلافه؛ وإن أريد به الاستقراء فهو ناقص، كما أنه ليس بالمعلل.

لا يقال: لم تكن الصور موجودة في زمن قدامى المناطقة كأرسطو مثلاً.

ص: 108


1- وصرحت به كثير من الروايات أيضاً، منها رواه في الكافي عن عبد اللّه بن محمد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، وعن عقبة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن اللّه خلق، فخلق ما أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق ما أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال»، فقلت: وأي شيء الظلال؟ قال: «ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء، ثم بعث اللّه فيهم النبيين يدعونهم إلى الإقرار باللّه وهو قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه) ثم دعاهم إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم، ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها واللّه من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل)، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: كان التكذيب ثم.
2- سورة الرعد: 15.

إذ يقال: إن لم تكن الصور الفوتوغرافية موجودة فلقد كانت الصور المنعكسة في الماء وفي المرايا موجودة(1)؛ وهذه الصور ليست وجوداً كتبياً ولا لفظياً، بل هي أقوى في الكاشفية من الوجود الكتبي واللفظي؛ بالبداهة ولأن هذين الوجوديين رمزان مبنيان على التواضع والتعاقد، وأما الصورة - في الماء أو المرآة أو الصورة المرسومة - فهي انعكاس عن الصور الفعلية.

وأما الوجود الظلي، فإن الأمواج المغناطيسية والحرارية وشبهها وإن لم تكن معروفة، لكن ظلال الأشياء كانت لهم معهودة، وهي أقوى رتبة من الوجودين الكتبي واللفظي بل حتى من الظلال في المرآة والماء فإنها العلة لها وتلك الانعكاس عنها، فتدبر.

عالم الظلال في النقل ولدى العلم

ويمكن الاستدلال على عالم الظلال بالعلم الحديث وبالآيات الكريمة، كما سبقت الإشارة إليها:

أما القرآن الكريم فقول اللّه تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)(2)، ومنه يستفاد أن الظل ليس أمراً عدمياً، وإلا لم يقع متعلقاً للمدّ ولجعله ساكناً، والتعبير في الآية الكريمة دقيق جداً؛ حيث إن الشمس عندما تشرق على الأجسام يكون الظل في الجانب الآخر، ولعل الكثير منّا يظن أن الشمس هي التي أوجدت الظل، ولكن الآية تصرح بكون الشمس دليلاً عليه، والدلالة هي من عالم الإثبات، وفيه كانت الشمس دليلاً على وجودالظل، فقوله تعالى (دَلِيلًا) أي كاشفاً، فالشمس

ص: 109


1- وكذا الصور المنقوشة والمرسومة.
2- سورة الفرقان: 45.

ليست موجِدة للظل، بل هو موجود قبل الإشراق، إذ قد مدّه اللّه من قبل ثم جعل الشمس دليلاً عليه، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم)(1)، إذ تفيد أن الظلال تخضع وتسجد، فليست على ذلك شيئاً عدمياً، وإلا فكيف تسجد؟ فإن العدم لا يوصف ولا يوصف به!

وأما العلم الحديث فقد أثبت أن الجسم تصدر منه أشعة وأمواج حرارية؛ هذه الأشعة الحرارية مصداق من مصاديق الظل، وإن فارق النور بين الأجسام وما خلفها هو الذي يرينا هذا الظل ويكشف لنا تلك الأمواج الحرارية، وكذلك الأمواج الكهرومغناطيسية، وسائر أنواع الأمواج والأشعة، فهذه من عالم الظلال، وقد يعبّر عنها بالطاقة، والظلال من مصاديق الطاقة، مثل الصوت والنور والأمواج والأشعة.

الثمرة

والثمرة من ذلك في المقام هي: أن عالم الاعتبار لا يبعد كونه من مراتب هذا العالم، أي إنه من مصاديق عالم الظلال.

وليس عالم الاعتبار شيئاً متوهماً ولا قائماً بذهن الشخص أو العقلاء على ما هو المسلّم عند بعض، قال بعضهم: (إنه وإن كان عالماً وهمياً كنفس الاعتبار، لكن رحى الحياة تدور على هذه الأمور الوهمية الطارئة على موضوعات حقيقية كالأعيان والأموال) ولكن يرد عليه أن الفرق كبير بين عالم الوهم وعالم الاعتبار؛ كما سبق بل يشهد الوجدان بأنه عندما يُنشئ الإنسان زوجية هذه المرأة لهذا الرجل، فهذه الزوجية ليست أمراً متوهماً، بل هي

ص: 110


1- سورة الرعد: 15.

حقيقة، أي إن هناك علقة حقيقية بين الزوج والزوجة في الخارج وليس أمراً متوهماً، ويدلك على ذلك أننا نفرق بين توهم الزوجية وبين حقيقة الزوجية؛ فلو أن شخصاً توهم أن هذه زوجته بل لو أن كل العقلاءتوهموا أنها زوجته فهل تكون زوجته بالفعل، وهل تترتب آثار الزوجية؟ كلا قطعاً؛ فأين توهم الزوجية من وجود علقة الزوجية الحقيقية بالإنشاء؟ بل يشهد له أن كلامه يتضمن رداً له؛ إذ كيف تدور رُحى الحياة الحقيقية على أمور وهمية؟ وكيف يكون الأضعف وجوداً علة للأقوى وجوداً؟ وسيأتي في المطلب الثاني بعض الكلام عن هذا الوجوه والأدلة.

والكلام طويل عن عالم الظلال وعن تلك الآيات الكريمة وغيرها، وعن عالم الاعتبار والأدلة عن كونه من عالم الظلال وقد فصلناه في بعض البحوث الأخرى.

المطلب الثالث: عوالم الوجودات

إن الحكماء وتبعهم الأصوليون قسموا الوجودات إلى عوالم، هي:

أولاً: عالم الواقع، وهو عالم العين وعالم الثبوت، أي ما له بإزاء مستقل في الخارج، والمعبر عنه بالوجود الحقيقي، كالجواهر والأعراض.

ثانياً: عالم الانتزاع، وسموه الوجود الانتزاعي، وهو ما ليس له بإزاء مستقل في الخارج، ولكنه منتزع من الخارج؛ والحاصل: إن له وجوداً في الخارج لكن وجوده ليس مستقلاً عن وجود منشأ انتزاعه، وذلك كالإمكان للممكن فإنه معقول ثانٍ فلسفي (حيث الاتصاف في الخارج والعروض في الذهن)، كإمكان زيد؛ فإن زيداً ممكن في الخارج لا في الذهن، وإمكانه خارجي لكن ليس له ما بإزاء في الخارج مستقل؛ إذ لو كان له ما بإزاء في الخارج مستقل للزم أن يكون

ص: 111

معروضه في ذاته غير ممكن، وهو خلف؛ كما يلزم منه التناقض، وكذلك الزوجية للأربعة.

ثالثاً: عالم الاعتبار، وهو الوجود الاعتباري، والمشهور ذهبوا إلى أن الوجود الاعتباري لا حقيقة له في الخارج، ثم اختلفوا على أقوال: إنه قائم بذهن المعتبر أو المعتبرين أو بالعقل الفعال أو باللوحالمحفوظ أو هو أمر وهمي، ولكن قد يقال إن الوجود الاعتباري له رتبة من الوجود في الخارج، وفرقه عن الوجود الانتزاعي أن الوجود الاعتباري له خالق وجاعل بالاستقلال وهو المعتبِر، بينما الوجود الانتزاعي لا جاعل له بالاستقلال، بل هو مجعول بعين جعل منشأ انتزاعه.

من الأدلة على تحقق الوجود الاعتباري في الخارج

وإجمال أدلتنا على المدعى (وهو: إن عالم الاعتبار موجود في الخارج) (الوجدان، والبرهان الإني، والظواهر) وقد سبقت الإشارة إلى بعضها:

أولاً: الوجدان

إذ نجد من أنفسنا بالوجدان أن هذه المرأة هي حقيقة زوجة لزيد، لا أنه لا علقة بينهما في الخارج أصلاً وأنه أجنبي عنها وإنما نتوهم في ذهننا وجود علقة بينهما فقط أو أن زوجيتها قائمة بأذهان المعتبرين وذلك لأننا ندرك بالوجدان زوجيتها له مع قطع النظر عن أذهانهم.

وكذلك ندرك بالوجدان وجود علقة خارجية بين الممتلكات والمالك بالحيازة أو الإحياء وإن افترضنا عدم ذاهن أبداً، إلى غيرها من الأمور الاعتبارية، فتأمل.

ص: 112

ثانياً: البرهان الإني

حيث إن من الثابت في الحكمة أن العلة أقوى وجوداً من المعلول، وإلا لما أمكن أن تكون علة؛ ولأمكن أن يصدر كل شيء من كل شيء، ولو كانت مساوية لمعلولها لما كان صدور المعلول عنها أولى من صدورها منه، هذا كبرى؛ وأما صغرى فإنه لا شك في أن الوجودات الاعتبارية تؤثر تأثيراً حقيقياً في العالم الخارجي،فإذا كانت وجودات ذهنية صرفة، والوجود الذهني لا شك أنه أضعف من الوجود الخارجي، فكيف يؤثر الوجود الذهني الأضعف في الأقوى؟ لا يُعقل ذلك، وقد صرحوا بأن الأمور الواقعية تدور مدار الأمور الاعتبارية وتنفعل عنها وتتأثر بها، فمثلاً علقة الزوجية أمر اعتباري تترتب عليه آثار خارجية حقيقية من مقولة الفعل وغيره(1) كإنفاقه عليها، وعلة الإنفاق هو وجود هذا الاعتبار، وكذلك انقياد الزوجة فإنه معلول وجود هذا الاعتبار أيضاً، وهكذا غيرها من الاعتبارات الأخرى، بل إن العالم مبني على الاعتبارات وهو يسير بها:

فمنها القوة الشرائية للنقد، فإنه أمر اعتباري، لكن هذا الاعتبار يؤثر في عالم الخارج تأثيرات حقيقية.

والحاصل: إن الاعتبار أمر خارجي حقيقي يؤثر في الخارجيات، فلا بد من أن يكون أقوى من الخارجيات التي يؤثر فيها، وقد يفسر ذلك بأن الاعتبار من عالم الطاقة، وعالم الطاقة أقوى من عالم المادة.

لا يقال: ليس الاعتبار بنفسه مؤثراً، بل العلم به، فإن نفس حدوث علقة

ص: 113


1- كمقولة الكيف، فمثلاً يترتب على علقة الزوجة الكيف النفسي من فرح أو حزن، والاين من سفر وحضر، فتأمل.

الزوجية مثلاً أو حدوث اعتبار كونه مالكاً، بالإرث أو الإحياء مثلاً، ليس مؤثراً في أفعاله (كإنفاقه أو طغيانه أو بنائه للدار أو الشركة).

إذ يقال: المؤثر بالواسطة مؤثر كما أن المقدور بالواسطة مقدور.

وفيه: إنه ليس علة أو جزء علة حتى إعداداً بل المؤثر هو العلم (أي القطع) خالف الواقع أو طابقه، فتأمل.

سلمنا، لكن ننقل الكلام إلى العلم فإنه كيفية نفسية أو انفعال أو إضافة مقولية أو إشراقية، وعليها جميعاً فإنه أضعف من مقولة الفعل الذي وقع هو علة له، فتأمل.

هذا، ولكن البحث كله مبني على القول ب(التوليد) دون (التوافي) بل دون (الاعداد) أيضاً، فتدبر.

ثالثاً: ظواهر الآيات والروايات

إن ظاهر: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَوَاتاً فَهِيَ لَهُ»(1) ومثل (من حاز ملك)(2)، (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(3) أنه ملك في الواقع الخارجي (أو له به حق الاختصاص)، لا أنه مجرد توهم أنه ملك، ولا أن من حاز في الواقع الخارجي ملك في الوجود الذهني! ولا أنه: مالك (أو ذو اختصاص) في اعتبار المعتبرين، فتأمل.

ص: 114


1- تهذيب الأحكام: ج7 ص152.
2- هذه جملة مشهورة على لسان الفقهاء وهي ليست رواية، نعم هي مستنبطة من الروايات، وهذا ما أشار إليه أيضاً السيد الخوئي (رحمه اللّه) عندما عقب على كلام السيد اليزدي (رحمه اللّه) في العروة الوثقى: ج5 ص275 بقوله: هذه الجملة لم نعثر عليها في الروايات، بل الوارد فيها قوله (عليه السلام): «لِلْعَيْنِ مَا رَأَتْ وَلِلْيَدِ مَا أَخَذَتْ». الكافي: ج6 ص223.
3- سورة البقرة: 29.

والبحث في هذا الموضوع طويل نكتفي منه بهذا المقدار.

امتناع قصد الإنشاء في الاحتياط

الإشكال الذي قد يورد على الاحتياط في المعاملات هو: أنه غير متوفر على الإنشاء، والمعاملات قوامها بالإنشاء، وبيان ذلك في ضمن أمور:

المعاملات متوقفة على الإنشاء والقصد

الأمر الأول: إن المعاملات يعتبر فيها قصد الإنشاء(1)، وذلك لأن الإنشاء هو الموجد للأثر، فإنه الناقل للملكية أو الموجد لحدوث علقة الزوجية وما أشبه، وقد يعلل بأنه الوجود التنزّلي للمؤثر التكويني الخارجي، أو هو البديل عنه الوجود الخارجي.

وكما يعتبر في المؤثر الخارجي القصد، كذلك يعتبر فيما نزل منزلته القصد أيضاً، وذلك لأن الفعل الخارجي المسبب للملكية كالحيازة أو الإحياء (كما لو اصطاد سمكة فإنه سبب الملكية التكويني الخارجي) متوقف على القصد، أما لو كان لاعباً أو لاهياً أو ساهياً فليس ذلك مملّكاً ولا اعتبار عقلائياً حينئذٍ بملكه، والإنشاء اللفظي يقوم مقام الفعل(2) فلابد فيه من القصد أيضاً.

اعتبار الجزم في الإنشاء

الأمر الثاني: إن الإنشاء يعتبر فيه الجزم؛ لأن الإنشاء إيجاد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد، فإنه إما إيجاد أو ليس بإيجاد، فأمر الإيجاد دائر بين النقيضين ولا شق ثالثاً كالذي أسماه البعض (الحال) حيث اعتبروه واسطة بين الوجود والعدم، ولكن البديهة ترده.

ص: 115


1- الأعم من القولي أو الفعلي.
2- وهو الإحياء أو الحيازة.

والحاصل: إن الأمر في الإنشاء دائر بين الإيجاد وعدمه، ومع عدم الجزم لا يعقل الإيجاد؛ وكيف ينسجم الترديد مع الإيجاد؟

وقد عبر البعض عن ذلك بقوله: (وكيف يوجد المُنشِأ اعتباراً بلفظ وهو لا يعلم أن هذا اللفظ صالح لإيجاد ذلك الاعتبار) ، وظاهر عبارته قريب من تعليلنا، ولكن سيأتي الفرق بينهما، فإن مدار كلامه الإثبات، وهو لا إشكال فيه، ومدار هذا الإشكال الثبوت والإشكال كل الإشكال فيه.

الاحتياط لا جزم فيه

الأمر الثالث: إن الاحتياط لا يتحقق فيه قصد الجزم، أو فقل: إن الاحتياط لا يتضمن قصد الجزم.

وعليه: فإنه لا تقع المعاملات بالاحتياط، عقوداً كانت أم إيقاعات، فإذا قال: متّعتك موكلتي، ثم قال: أنكحتك موكلتي، وهو متردد في أن أيهما هو المؤثر فالنكاح باطل على هذا المبنى.

التعليق مبطل للمعاملات

وقد استشهد بعض الأعلام على ذلك بالتعليق في المعاملات، فكما أن التعليق في المعاملات على شرطٍ لا يعلم حصوله مبطل، كذلك الاحتياط، أي أن وزان الاحتياط في المعاملات هو وزان التعليق فيها؛ فكما أن التعليق مبطل لها فالاحتياط أيضاً مبطل لها، مثلاً لو قال: بعتك الدار إن كان ابني قد جاء من السفر أو إن كان اليوم هو الجمعة(1)، وهو جاهل بكونه قد جاء أو بكونها جمعة فلا جزم في إنشاء البيع؛ فهو باطل، بل التحقيق يقود إلى أن ذلك من التعليق(2)

ص: 116


1- والمثالان من نوعين، وقد فصّل بعض بينهما.
2- لأنه في واقعه يعلق - في الاحتياط - حصول الطلاق مثلاً على كونها زوجته (فيمن طلقها احتياطاً).

لا أنه مثله، فتدبر.

نعم لو كان يعلم بتحقق الشرط فهو صحيح على حسب رأي صاحب العروة (رحمه اللّه) وجمع ممن تبعه، وذلك كما لو قال: بعتك الدار إن كان اليوم جمعة، وهو يعلم أنه جمعة(1).

وكلامه على القاعدة؛ لأنه لا ترديد حينئذٍ في النية؛ حيث إنه يعلم أن اليوم جمعة، فهو في الواقع صورة تعليق وشكله، وأما لو كان الواقع تعليقياً كمن لا يعلم أن اليوم جمعة فقال: بعتك الدار إن كان اليوم جمعة وهو لا يدري؛ فلا جزم له حينئذٍ وحيث لم يكن جازماً فلا يمكن أن يكون مُنشِاً، فلا يصح البيع؛ لأنه يفتقد للتنجيز المشترط في الصحة الذي مرجعه إلى ما ذكرناه، فتدبر.

كلام الشهيد الأول (رحمه اللّه)

وقد ذهب الشهيد الأول (رحمه اللّه) حسبما نقله الشيخ (رحمه اللّه) إلى (الجزم بالبطلان فيما لو زوّجه امرأة يشك في أنها محرّمة عليه أو محللة فظهر حلّها، وعلَّل ذلك بعدم الجزم حال العقد)، كما لو شك أنها أختهفي الرضاعة أم لا، وذلك لأنه لا جزم في النية؛ فقد تكون أخته فلم يتحقق الإيجاد، أو لا تكون أخته فقد تحقق الإيجاد، وهو متردد بينهما فكيف يقع العقد والإنشاء الذي هو إيجاد؟

وكذا لو كانت هي المترددة في ذلك فإنها لا تستطيع حينئذٍ تزويجه نفسها أو التوكيل، بل إن الوكالة باطلة(2)، وكذلك الأمر في كل عقد وجد فيه ترديد من أحد الطرفين وقال الشهيد (رحمه اللّه): (وكذا الإيقاعات، كما لو خالع امرأةً أو طلّقها

ص: 117


1- قال (رحمه اللّه) في العروة الوثقى: (ويشترط فيه التنجيز كما في سائر العقود، فلو علقه على شرط أو مجيء زمان بطل، نعم لو علقه على أمر محقق معلوم كأن يقول: إن كان هذا يوم الجمعة زوجتك فلانة مع علمه بأنه يوم الجمعة صح، وأما مع عدم علمه فمشكل). العروة الوثقى: ج5 ص593.
2- ويمكن تصحيحه بالإذن، رغم بطلان الوكالة.

وهو شاكّ في زوجيّتها، أو ولّى نائب الإمام (عليه السلام) قاضياً لا يعلم أهليّته و إن ظهر أهلًا)(1).

كما لو طلق امرأة يشك في كونها زوجة له، مع كونها زوجة له واقعاً(2)، فإنه باطل حسب رأي الشهيد (رحمه اللّه) لعدم الجزم بالنية؛ إذ لا يعلم كونها زوجة حتى يقع الطلاق أو ليست بزوجة حتى لا يقع الطلاق فكيف ينشأ الطلاق؟

ولكن للشهيد الأول (رحمه اللّه) فتوى أخرى لا تنسجم مع مبناه إذ يقول: (ولو طلق بحضور خنثيين فظهرا رجلين أمكن بالصحة وكذا لو طلق بحضور من يظنه فاسقاً فظهر عادلاً)(3) إذ قد حكم بإمكان القول بالصحة مع كون الظاهر عدم تحقق الجزم؛ لأن شرط الصحة كون الشاهدين رجلين، فإنهما وإن كانا في مرحلة الثبوت والواقع رجلين، لكنه في عالم الإثبات إذ أنهما خنثيين فقد تردد في النية وإن الطلاق صحيح إن كانا رجلين أو باطل إن كانا امرأتين، فكيف يقال: (أمكن بالصحة)؟

ولا يجدي الدفاع عنه بأن حكمه بذلك لأن كونهما رجلين وكذا كونهما عادلين شرط واقعي وليس شرطاً علمياً؛ فلا يضر عدم علمه، فالمهم أنهما في مرحلة الثبوت كانا رجلين؛ فقد قال تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(4)، أي رجلين ذوي عدالة، فقد تحقق الشرط علم أم لم يعلم، فقوله: (أمكن

ص: 118


1- المكاسب: ج3 ص173، وقد نقله عن الشهيد الأول (رحمه اللّه) في القواعد والفوائد.
2- كما لو شك أن وكيله أجرى عقد النكاح عليها أو لا (ومات وكيله قبل أن يخبره) فيطلقها احتياطاً.
3- القواعد والفوائد: ج1ص 367، وتمام عبارته (رحمه اللّه): (ولو طلق بحضور خنثيين فظهرا رجلين، أمكن الصحة، أو بحضور من يظنه فاسقاً فظهر عدلاً، ويشكلان في العالم بالحكم، لعدم قصده إلى طلاق صحيح).
4- سورة الطلاق: 2.

الحكم بالصحة) لأجل هذه الجهة إذ ذلك لا يدفع إشكال تردده في النية وعدم إمكان جزمه مادام لا يعلم حال الخنثيين، اللّهم إلا أن يحمل على كونه غافلاً عن أن الخنثيين قد يكونان مرأتين فجزم بكونهما رجلين فصح طلاقه إذ لم يخلّ بالجزم إثباتاً وقد ظهر أنهما رجلان ثبوتاً، لكنه خلاف ظاهر كلامه، فتدبر.

ثم قال الشهيد (رحمه اللّه): (ويشكلان) أي المثالان، وهما الطلاق بحضور خنثيين أو فاسقين (في العالم بالحكم)، أي العالم بأن الطلاق بحضور خنثيين أو فاسقين طلاق باطل؛ فهنا يشكل القول بالصحة في حال العلم (لعدم قصده إلى طلاق صحيح).

أقول: فكذا لو جهل حالهما، فإنه يشك حينئذٍ في صحة الطلاق وعدمه فلا يمكنه الجزم بالنية.

المناقشة

أولاً: الترديد محال، والتردد ممكن

إن الأمر الثاني: وهو إن الإنشاء موقوف على الجزم، لأن الإنشاء إيجاد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد بين الوجود والعدم، يرد عليه:

إنه قد حدث خلط بين عالم الثبوت وعالم الإثبات، أي بين الترديد والتردّد؛ حيث إن الترديد ثبوتي والتردد إثباتي؛ والترديد الثبوتي في التكوينيات محال؛ لأن الشيء إما موجود ثبوتاً أو معدوم، لكن التردد في عالم الإثبات ممكن بل ما أكثر حصوله إذ ما أكثر من يتردد في النية(1).

والحاصل: إن الإشكال هو: إن هذا المنشِئ موجِد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد؛ والجواب هو: أن كون الإيجاد أمراً لا يعقل فيه الترديد هو أمر ثبوتي،

ص: 119


1- بأن يعمل أو لا يعمل، أو بان عمله هذا مؤثر أو لا.

وليس الكلام عنه بل عن عالم الإثبات وأنالمنشئ متردد غير جازم، فإن المكلف إذا لم يعلم أن هذا هو المحقّق للأثر أو ذاك يتردد في عالم الإثبات، فالقول: بأنه حيث لا يعقل الترديد الثبوتي؛ فالتردد الإثباتي مبطل، لا وجه له. اللّهم إلا مع إقامة الدليل على تلازمهما وأنه كلما تردد في نيته وإنشائه حصل الترديد في الواقع الخارجي، ولا دليل على الملازمة بل الدليل على العدم، وغاية الأمر أنه لا يوجد مع التردد في النية، أمر، لا أنه يوجد مع التردد في النية الأمر المردد أو يحصل الترديد الثبوتي.

وبتعبير ثالث أبلغ: الإيجاد يتوقف على توفير وتحقيق العلة لا على العلم بعليتها؛ وآية ذلك الإيجاد التكويني الخارجي، فإنه لا يشترط في عِليِّة الشيء للمعلول العلم بالعلية ألا ترى أن النار تحرق الخشب، وأنه لو أشعل ناراً ورمى فيها خشباً فإنه يحترق حتى لو تردد في أنها ستحرقه أم لا.

والحاصل: إن العلية الخارجية لا تتوقف على العلم بها، بل تنسجم حتى مع التردد أو مع الجهل أو الغفلة أو السهو، بل تنسجم حتى مع القطع بالعدم(1)، كما لو قطع بأنه لو رمى نفسه في النار فإنه لا يحترق(2)، فإنه سوف يحترق رغم قطعه بالعدم.

وفي المقام الإنشاء علة للمُنشأ، سواء أعلم بها أم لم يعلم، وسواء تردد في عليته له أم لا، فالمدار على أن يقصد إيجاد الملكية مثلاً بهذا البيع، في عالم الاعتبار، وإن تردد في أنها ستوجد بإنشائه أم لا، فتأمل(3).

ص: 120


1- لأن هناك ترابطاً تكوينياً بين العلية وبين المعاليل؛ والاعتقاد لا يغير من هذه الواقع والحقائق.
2- كما لو تصور نفسه من الأولياء، أو طلى بدنه بمادة تصورها عازلة.
3- إذ لا يمكنه قصد النقل جداً مع تردده في أنه يقع بهذا اللفظ أومنه أو للطرف الآخر، أو لا؟ وسيأتي جوابه.

وقد يقال: بالتفصيل في الإنشاء والاعتبار بين الشخصي والنوعي كما سيأتي تفصيله ونشير إليه إجمالاً الآن: فإنه قد يُنشأ معتبراً أنّ به يقع المُنشأ لديه، وإن كان الشرع أو العرف لا يرون وقوعه به، كما في الدول الغاصبة للضرائب وغيرها، بل في مطلق الغاصب إذ يبيععن نفسه وهو يرى وقوع النقل والانتقال (لديه) مع علمه بعدم قبول العرف أو الشرع له، أي إنه يبني على أن تصرفه (وهبته أو بيعه) ناقل وكذلك الفضولي، ففي مثل ذلك لا يفتقد الجزم بالنية، بل وجه البطلان أمر آخر، وأما لو شك حقاً في أنه يمكنه بهذا اللفظ - مثلاً - نقل الملك أو إيجاد علقة الزوجية فكيف يمكنه أن يوجدها به؟ وقد يقال في الاحتياط أنه، حيث استند إلى دليل من الشرع أو العقلاء مع حسنه وصحته، فإنه لا يتردد حينئذٍ في وقوع العقد والإيقاع به لأنهما اعتبار وهو بيد المعتبر، فتأمل.

ثانياً: الإنشاء خفيف المؤونة فيمكن الجزم في الاحتياط

ثانياً(1): الإنشاء خفيف المؤونة فيمكن الجزم في الاحتياط

وقد يجاب عن إشكال عدم توفّر الاحتياط - مطلقاً أو في الجملة - على قصد الجزم، بأن الإنشاء اعتبار والاعتبار خفيف المؤونة؛ لأن الاعتبار نوع نية، والنية أمر سهل ولا تحتاج إلى أكثر من مجرد توجه النفس نحو الشيء الاعتباري وعقد العزم عليه، عكس الفعل الخارجي، فإنه صعب بالقياس لنيته ومجرد العزم عليه، وعليه: فلا مجال للإشكال على المحتاط بأنك غير جازم من حيث التردد في أن هذا محقق للأثر أم لا أو أنه هو المحقق للأثر أم ذاك، أو أن هذا هو الممتثَل به أو ذاك(2)، أو أنه مأمور به أم ليس مأموراً به، كالدعاء عند رؤية الهلال.

والحاصل: إن المحتاط ينوي إتيان هذا العمل امتثالاً لأمر اللّه فأية استحالة فيه؟

ص: 121


1- الجواب ثانياً عن إشكال عدم توفر الاحتياط على قصد الجزم.
2- في مثل القِبلة المرددة.

وهذا الجواب سيال يجري في مختلف أبواب المعاملات، وقد بنى عليه العديد من الأعلام للإجابة عن شبهات عديدة باستحالة أمر أو آخر فأجابوا بأن الاعتباري خفيف المؤونة.

المناقشة إجمالاً

ولكن هذا الجواب لا ينهض لدفع إشكال الاستحالة، وإنما ينفع جواباً عن الاستغراب والاستبعاد،ودعوى عدم الوقوع بعد الفراغ عن الإمكان فرضاً فإنه إذا كان الإشكال هو أن الإنشاء غير ممكن عقلاً، لاستحالة الترديد في الإيجاد؛ فالجواب بأن الإنشاء اعتبار وأن الاعتبار خفيف المؤونة غير تامٍ؛ لأن الأحكام العقلية حاكمة على كافة العوالم؛ والمستحيلات العقلية ليست مستحيلة في عالم الخارج والعين، بل هي مستحيلة في عالم الذهن وعالم الاعتبار أيضاً.

دليلان على إمكان الممتنعات في عالم الاعتبار

ومنشأ الشبهة(1) أولاً: أن بعض المتكلمين والأصوليين وجدوا أن الصور الذهنية لا تمتلك خواص الحقائق الخارجية؛ فمثلاً النار الخارجية محرقة بالضرورة، لكن النار الذهنية ليست محرقة ولا هي حارة، وإن الوجود الذهني يختلف عن الوجود العيني في عدم ترتب الآثار ولوازم الوجود لا لوازم الماهية(2) عليه - أي على الوجود الذهني -، لذلك ذهبوا إلى القول بأنه يمكن في عالم الاعتبار كثير مما لا يمكن في عالم العين، ومنه المقام بأن يقال: إن الإيجاد الخارجي لا يعقل فيه الترديد، أما الإيجاد الذهني فما دام عالمه خفيف المؤونة فلا

ص: 122


1- شبهة إمكان الترديد في الذهن والاعتبار وإن لم يكن في الخارج، ومطلق إجراء أحكام ممتنعة على الاعتباريات.
2- فإنها لازمة مطلقاً.

امتناع في كون أمره دائراً بين الوجود والعدم.

ثانياً: إن المستحيلات العقلية تقع موضوعاً للأحكام الذهنية، هذه صغرىً، وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وهذه كبرىً؛ إذن المستحيلات موجودة في الذهن؛ فليكن المقام منها.

ومثال ذلك قولك: (النقيضان لا يجتمعان)؛ فإن ثبوت شيء وهو المحمول(1) فرع ثبوت المثبت له(2)؛ فينبغي أن يكون النقيضانموجودين في الذهن حتى يحكم عليهما؛ فإذا أمكن وجود النقيضين في الذهن فليكن الإيجاد واللا إيجاد في عالم الإنشاء كذلك أمراً ممكناً.

وهذان الأمران هما هو منشأ الشبهة؛ ولذا كثر على ألسنة البعض تعليل بعض المحالات بكون الاعتبار خفيف المؤونة.

الجواب عن الدليلين

أما الشبهة الثانية ففيها: إن النقيضين في (النقيضان لا يجتمعان)، إنما هما بالحمل الذاتي الأولي نقيضان، وأما بالحمل الشايع الصناعي فليسا بنقيضين، فكلمة (النقيضين) هي مجرد رمز دال على النقيضين وليست بواقع النقيضين.

بعبارة أخرى: إن الوجود الذهني والكتبي للنقيضين ليس مصداقاً للنقيضين - وهو الذي يعبر عنه بالحمل الشايع الصناعي الذي ملاكه المصداق - بل هو مجرد مرآة للنقيضين.

نعم، هما بالحمل الذاتي الأولي الذي هو حمل (هو هو) في مقابل حمل (ذو هو) نقيضان، وهو المصحح لحمل (لا يجتمعان) عليه.

ص: 123


1- وهو: لا يجتمعان.
2- وهو: النقيضان.

وبعبارة أخرى: الحمل الأولي ملاكه النظر إلى المفهوم نفسه، فإنه مفهوم النقيضين لكن ليس مصداقاً للنقيضين.

إذن المحالات العقلية جارية حتى في الذهن وفي علم الاعتبار؛ ومصداقها في الذهن هو أن يكون هناك اعتبار ولا يكون في الوقت نفسه؛ فإنه غير ممكن مع اجتماع الشرائط الثمانية أو التسعة للتناقض(1) والتي منها (وحدة الرتبة).

وأما الشبهة الأولى، فالجواب عنها: إن خواص الوجود الخارجي للنار لا تترتب على الوجود الذهني للنار، أي إن لوازم الوجود الخارجي لا تترتب على النار الذهنية لكن لوازم الماهية مترتبة(2)، كماأن أحكام الوجود المطلق جارية على الوجودين، واستحالة الترديد في متن الوجود أو التناقض هي من أحكام الوجود.

فظهر أن الجواب عن إشكال اأن الإنشاء إيجاد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد، بأن الإنشاء اعتبار والاعتبار خفيف المؤونة لا يصلح جواباً عن هذا الإشكال؛ بل ويصلح جواباً عن توهم آخر سيأتي.

فلا محيص عن الجواب بما أشرنا إليه، من أنه لا ترديد في عالم الثبوت(3)، بل مجرد تردد في عالم الإثبات بمعنى عدم العلم بأن أيهما علة، لا أنه في الواقع هو من الوجود المردد، نعم لو تردد في أن يوجِد بهذا اللفظ الملكية أو لا، فإنها لا توجد، لا ما لو تردد أنها توجَد أو لا مع عزمه على الإيجاد، وسيأتي دفع إشكال عن هذا ومزيد توضيحه عند الكلام عن تعدد عوالم المعتبرين بل سيأتي حل

ص: 124


1- وهي: وحدة الموضوع، والمحمول، والزمان، والمكان، والقوة والفعل، والكل والجزء، والشرط، والإضافة، ووحدة الحمل.
2- وهنا فائدة تنفع في هذا المقام وغيره، وهي قولهم: إن خصوصيات كل عالم من العوالم هي بحسبه.
3- الشامل للوجود الذهني.

للمعضلة حتى مع تردده في أن يوجِد أو لا.

وبذلك اتضح بعض وجه النقاش فيما ذكره السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) قال: ([هنا أمران] ولكن عمدة الّذي قيل أو يقال للخدشة في الاحتياط في الانشائيات أمران:

[الأمر الأوّل]

أحدهما: أنّه مع الشكّ في ترتّب أثر على لفظ، أو على كيفيّة، لا يتحقّق قصد الإنشاء في العقود و الإيقاعات، هذا القصد الذي هو قوام تحقّق الإنشائيات و حصولها في الخارج، لأنّه كيف يقصد بشي ء ما لم يعلم وقوعه به، و هذه الشبهة ذكرها الشيخ (رحمه اللّه) في الرسائل والمكاسب جميعاً.

فمثلاً: مع الشكّ في أنّ اللازم هل هو: (أنكحت) أو (زوّجت) في إيجاد علقة الزواج الدائم لو قال: (أنكحت) و هو لا يعلم حصول الزواج الدائم به؟ كيف يقصد إنشاء الزواج الدائم من هذه اللفظة، و قصد الإنشاء مقوّم لحصول الزواج خارجاً، و هكذا عند تلفّظه ب (زوّجت)؟

وفيه: نقضاً: بالإنشاء الذي دلّ الدليل المعتبر عليه، و لكن المنشئ يشكّ أو يظن - ظنّا شخصيّاً غير معتبر - بعدم صحّته.

و حلّا: بأنّ قصد الإنشاء خفيف المؤونة، و يمكن إتيانه بأدنى لحاظ، وما دام المتكلّم ليس لاغياً أو ساهياً أو نائماً أو نحو ذلك، و كان قاصداً لمضمون كلامه فهو قاصد الانشاء)(1).

فإن المحتمل في قوله: (لا يتحقق قصد الإنشاء في العقود والإيقاعات) و(لأنه كيف يقصد بشيء ما لم يعلم وقوعه به) أحد أمرين:

ص: 125


1- بيان الفقه: ج1 ص122 - 123.

الأول: بيان الاستحالة، وأنه لا يمكن تحقق قصد الإنشاء مع الشك في ترتب أثر على لفظ أو كيفيته، وأنه كيف يقصد بشيء وقوع شيء لم يعلم بوقوعه به؛ فهذا مستحيل لأنه من الترديد في الوجود وهو محال.

الثاني: بيان الاستبعاد بعد الفراغ من إمكانه.

وعلى أي فإن كان المقصود هو الاحتمال الأول - أي الاستحالة - فذلك الجواب بأن الاعتبار خفيف المؤونة غير تام، لما سبق؛ وإن كان المقصود هو الاحتمال الثاني - أي عدم الوقوع - ففيه أن الأمر مرتهن بعزمه وبنائه، فتدبر.

ثالثاً: جواب الشيخ (رحمه اللّه): قصد الإنشاء حاصل بقصد تحقق مضمون الصيغة

أما الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) في الرسائل فإنه أجاب عن إشكال الجزم في الإنشاء بقوله: (وفيه: إن قصد الإنشاء إنما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة - وهو الانتقال في البيع والزوجية في النكاح - وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعاً، فضلاً عن الشك فيه، ألا ترى: أن الناس يقصدون التمليك في القمار وبيع المغصوبوغيرهما من البيوع الفاسدة)(1) أي إن المحتاط مثلاً إذا قال: بعتك الدار، وقصد تحقق مضمون الكلام ومضمون الصيغة لا الإخبار؛ فقد تحقق البيع والمضمون، وهو الانتقال في البيع، وكذلك الزوجية في النكاح.

فقد أجاب الشيخ (رحمه اللّه) عن إشكال عدم حصول قصد الإنشاء: بأنه يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة حتى مع القطع بالفساد شرعاً، فكيف بصورة التردد(2)، فإذا كان شخص قاطعاً بأن مضمون الصيغة لا يتحقق عند الشرع،

ص: 126


1- فرائد الأصول: ج2 ص429.
2- الإشكال بعدم تحقق الإنشاء مع التردد بأنه هل يقع البيع بغير العربية مثلاً أم لا.

فإنه لا يضر بإنشائه وقصده؛ فكيف إذا كان متردداً؛ واستدل الشيخ (رحمه اللّه) على ذلك بإنشاء الغاصب والمقامر: (ألا ترى أن الناس يقصدون التمليك في القمار، وبيع المغصوب وغيرهما من البيوع الفاسدة)(1)؛ فإن الغاصب العالم بالحكم قاطع بأن الشارع لا يراه مالكاً ولا يراه ذا صلاحية لنقل هذا الملك، أو فقل لا يراه قادراً على نقل الملك فإنه من السالبة بانتفاء الموضوع، ولكنه عند ما يبيع نرى بالوجدان أنه يقصد نقله، ولا نراه مازحاً ولا ممثّلاً، بل لا شك في أنه يقصد تحقق الأثر، وهو نقل الملكية إلى ذلك الطرف وإن كان عاصياً بفعله.

اذن: برهان الشيخ (رحمه اللّه) هو الوجدان، فهل هو تام؟

مناقشته: الحاصل صورة الإنشاء لا واقعه

وأجاب عنه السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه): (وأما وما ذكره (رحمه اللّه) من أنه قد يتمشى القصد حتى مع العلم بعدم ترتب الأثر، كما في بيع المتاع المغصوب مع العلم بغصبيته، فغير واضح؛ فإنه ليس فيه قصد جدي، بل مجرد عمل خارجي، فتأمل) (2).

وتوضيحه: إنه عندما نتوغل في أعماق نفس الغاصب فإننانجده يعلم بعدم حصول الانتقال؛ فإذن هو ممثِّل في الواقع، وهو متظاهر ولكنه متقن لعملية التمثيل حتى يكاد في بعض الأحيان أن يخدع نفسه وذلك نظير تجاهل العارف.

وبعبارة أخرى: إن الغاصب لا قصد جدي له بالنقل والانتقال؛ إذ كيف يقصد الجدية وهو يعلم قطعاً بعدم تأثير قصده(3) فما يقوم به هو صورة عقل

ص: 127


1- فرائد الأصول: ج2 ص429.
2- بيان الفقه: ج1 ص124.
3- وهذه مسألة ابتلائية، فالدول كثيراً ما تغصب، وأيضاً ما أكثر السراق وما أكثر ما يجرونه من المعاملات على تلك المغصوبات أو المسروقات، فهؤلاء هل عندهم قصد إنشاء أم لا؟

وصورة إنشاء وليس إنشاء حقيقةً.

تأييد كلام الشيخ (رحمه اللّه) بتحقيق حول تعدد العوالم الاعتبارية

ولكن الظاهر أن الحق مع الشيخ (رحمه اللّه)(1) وأن القصد الجدي موجود؛ وذلك مبني على مطلبين:

الأول: ما تقدم تحقيقه حول حقيقة عالم الاعتبار؛ وأنه عالم حقيقي وليس صرف توهم، وأنه بالإنشاء يوجد في عالم الاعتبار أمر له ثبوت وتقرر في عالم الواقع والعين، وليس مجرد أمر ذهني.

الثاني: إن العوالم متعددة، فهناك عالم اعتباري للشارع، وهناك عالم اعتباري للغاصب مثلاً، ولا تنافي بين العالمين؛ فالغاصب قاصد للنقل في عالمه، وإن كان عالماً بعدم تحقق النقل في عالم اعتبار الشارع، وتفصيل المطلب الثاني في ضمن بيان الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: إن عوالم الاعتبار متعددة، وإنها قد تجتمع وقد تفترق، والنسبة بينها من وجه.

الحقيقة الثانية: إن الاعتبار أمر تكويني يوجد بوجود أسبابه التكوينية.

ص: 128


1- وقد يجاب بالتفصيل باعتبارين: ففي الجهل المركب الحق مع الشيخ (رحمه اللّه)؛ لأن الغاصب يعتقد أنه أصبح مالكاً ولو بالغصب المحرم فيقصد الإنشاء، أما إذا لم يكن جهل مركب فالحق مع بيان الفقه؛ لأن الغاصب حينئذ في أعماقه يرى أنه غير مالك فهو يمثل صورة المالك فلا قصد للإنشاء - المقرر. والجواب: مصب كلام الشيخ (رحمه اللّه) بل صريحه هو صورة القطع من الغاصب بالفساد شرعاً، حيث إنه (رحمه اللّه) قال: (وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعاً فضلاً عن الشك فيه) ومورد النزاع هو صورة الشك، وأولى منه صورة القطع بالفساد؛ إذ كيف يتحقق قصد الإنشاء مع الشك في كونه موجداً للأثر.

وفي المقام: فإن الغاصب عند إنشائه البيع لا يقصد - عادة - إيجاد التمليك في نظر الشارع لعلمه بأن عقده في نظر الشارع غير معتبر؛ بل إنه يقصد نقل الملكية في نظره لا نقل الملكية في نظر الشارع، فهذا عالم وذاك عالم، ومزيد تحقيقه في ضمن الحقائق التالية:

الأولى: إن الغاصب ونظائره يرى إنشاءه موجداً للاعتبار في عالمه.

الثانية: إن الغاصب يرى نفسه قادراً على إيجاد هذا الاعتبار في عالمه، ولا يرى ذلك مستحيلاً أو غير ممكن.

الثالثة: إن الغاصب يهمل عدم اعتبار الشارع لقصده وإنشائه، أو يُخطّئ الشارع إذا كان معانداً أو ما شابه.

الرابعة: إن الشارع لم يَحُل تكويناً دون إيجاد ذلك الغاصب للاعتبار في عالمه؛ لأن الشارع بما هو شارع شأنه التشريع لا التكوين.

وهذه الحقائق تتضح أكثر إذا سلمنا بالحقيقة الثانية الآنفة؛ وهي: إن الاعتبار أمر تكويني يوجد بوجود أسبابه التكوينية.

والقاعدة العامة هي: إن الحقائق الخارجية - وإن شئت قلت: المعاليل الخارجية - توجد بوجود عللها وإن ردع الشارع عنها تشريعاً، فإن الظالم مثلاً إذا كسر إناء الغير انكسر، فرغم أن الشارع قد ردع عن ذلك لكن الكسر يتحقق قطعاً؛ لأن الكسر أمر عيني خارجي له علله التكوينية، دون المشيئة التشريعية وهي الأمر والنهي، فسواء جاز الشارع بما هو مشرع أم أبى ومنع؛ فإن الكسر يتحقق خارجاً بتحقق أسبابه، ولا يمنع نهيه التشريعي من تحققالانكسار(1)، والجائر قد يقتل مع أنه محرم شرعاً؛ فإذا كان بإمكانه أن يقتل الغير فكيف لا

ص: 129


1- فقد شاءت حكمته تعالى أن تجري المسببات بأسبابها الطبيعية، وإلا فانه لو شاء المنع لمنع؛ كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام).

يمكنه أن يوجد اعتبار نقل الملكية في عالمه لمجرد منع الشارع أو عدم إمضائه؟

فإذا كان ذلك حال الحقائق الخارجية العينية فما بالك بالحقائق الاعتبارية وهي أسهل مؤونة وأخف؛ (فمثل هذا هو مورد القول بأن الاعتبار سهل المؤونة).

وجوهر الكلام يعود إلى أن الشارع لم يَحُلْ تكويناً دون إيجاد الغاصب اعتباراً في عالمه وإن حال تشريعاً؛ فبناءً على هذا فإن الغاصب عندما يقول: (بعتك الدار) فهو قاصد للنقل حقيقة، لكن النقل في عالم اعتباره لا في عالم اعتبار الشارع، بل لعلنا لا نجد غاصباً يقصد حصول النقل في عالم اعتبار الشارع!

والنتيجة: إن المشكلة، إنما هي من جهة عدم إمضاء الشارع لهذه المعاملة، وليست من جهة أن الغاصب مثلاً غير قادر على قصد الإنشاء.

مزيد إيضاح: عوالم الاعتبار العرضية والطولية

هو أن عوالم الاعتبار قد تكون عرضية، وقد تكون طولية، فالعرضية كما لو كانت هناك حكومتان أو شعبان أو قبيلتان إحداهما تعتبر الحيازة مملكة، والأخرى لا تعتبرها مملكة؛ فتلك الحكومة أو القبيلة ترى الحيازة مملكة في عالم اعتبارها، وهذه تراها غير مملكة في عالم اعتبارها، ولا مانعة جمع ولا تناقض؛ فلا يلزم اجتماع النقيضين(1).

مثال آخر: رئيسان أحدهما اعتبر هذا المال واجداً للقوة الشرائية، والآخر اعتبره فاقداً لها؛ فهنا لا يلزم التناقض؛ لأن هذا يوجد في حدود سلطته ذلك الاعتبار، وذاك ينفي وجود الاعتبار فيحدود سلطته، ولكن المشكلة تنشأ لو

ص: 130


1- بأن يكون مملِّكاً وغير مملِّك في وقت واحد؛ وذلك لعدم توفر شروط التناقض بأجمعها؛ إذ لا وحدة من حيث الجهة أو الإضافة.

تعارضا وتضاربا، بأن اتحدّ المصبّ والمتعلّق، بأن أثبت أحدهما نفس ما نفاه الآخر بعينه بكافة الشرائط، فهل يجتمع النقيضان حينئذٍ؟ الجواب: كلا، بل يحصل ههنا نفس ما يحصل في عالم التكوين من الكسر والانكسار، كما لو أراد هذا كسر الإناء أو هدم الجدار أو رمي الحجر وأراد الآخر العكس؛ فإن الأقوى سلطةً والأقوى نفوذاً سيكون هو النافذ فعله والموجد للمعلول، فكذلك الأمر في عالم الاعتبار حيث يستحيل أن تكون هذه العملة واجدة للاعتبار وفاقدة لها في وقت واحد ومكان واحد وفي نفس العالم الاعتباري، بل إن أيهما كان أقوى اعتباراً فإنه يتقدم على الآخر، وأما إذا تساويا فالأمر كالأمر في عالم التكوين إذا تساوت القوة المحطمة مع القوة الحافظة، وهو الاستصحاب التكويني ومنه ما يعبّر عنه بالقصور الذاتي(1).

وعلى ذلك يظهر وجه الإشكال على ما تقدم؛ فحيث إن الشارع هو الأقوى، والغاصب هو الأضعف؛ فلو توافقت الدائرتان لذهب اعتبار الشارع باعتبار الغاصب ولمنعه وحال دون تحققه، فكيف يقال بتحقق ما اعتبره بإنشائه وإن كان في عالمه، رغم منع الشارع؟

وبهذا الإشكال يرد كلام الشيخ (رحمه اللّه) ويعضد كلام (بيان الفقه) الآنف.

ولكن يرد عليه: ما ظهر مما تقدم أيضاً: وهو: إن الفرض أن الشارع لا يتدخل بما هو مكوّن هنا، وإنما يتدخل بما هو شارع؛ وعليه: فإن الشارع لم يلغِ تكويناً اعتبار الغاصب(2)؛ لأنه لا يقول: إنني بما أنا مكوِّن أمنع الغاصب من أن يوجد هذا الاعتبار؛ بل إنما يقول: إنه لا يمضي الآثار، فهو تصرف في حيطته

ص: 131


1- وأحد القوانين المشهورة في الأمور الكونية والميكانيكية، وهو: إن كل ساكن يبقى ساكناً حتى يحركه محرك أقوى منه، وكل متحرك يبقى متحركاً حتى يسكنه عامل أقوى منه.
2- الحقيقة الثانية التي تقدمت: بأن الاعتبار أمر تكويني، يوجد في عالمه بأسبابه التكوينية.

لا فيحيطته(1).

وبتعبير آخر: إن الشارع لا يحول دون أن يقصد الغاصب الجد(2)؛

إذ لم يمنعه تكويناً من ذلك؛ وإنما يقول له: إذا قصدت الجد فأنا لا أعتني به ولا أمضيه.

والحاصل: إن المشكلة في عقد الغاصب لا تنشأ من قدرته أو عدم قدرته على إيجاد الأمر الاعتباري؛ وإنما تنشأ من أن الشارع لم يمضه.

وبتعبير ثالث: إن المشكلة ليست أن الغاصب يستطيع أن يقصد الجد أو لا يستطيع؛ وإنما المشكلة تنشأ من أن قصد الغاصب الجدي ليس بنافع في نظر الشارع، وعلى هذا فالظاهر أن كلام الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) على حسب القاعدة.

ويتفرع على ما ذكر: إنه لو لم يكن غاصباً في الواقع، ولكنه كان قاطعاً بأنه غاصب(3)؛ فهذا الغاصب ظاهراً المالك ثبوتاً وواقعاً لو أجرى عقداً على ماله (المتوهم أنه ليس له) فإنه صحيح نافذ شرعاً.

ويمضيه الشارع؛ إذ الشارع علق النقل على أن يكون الناقل مالكاً ذا حق في النقل، وهذا موجود ثبوتاً في هذا الغاصب إثباتاً، أما إذا قلنا بأن الغاصب لا يتأتى منه قصد الجد فيجب أن نلتزم بأن كافة معاملات و إيقاعات الشخص إذا كان مالكاً واقعاً وغاصباً في تصوره، باطلة؛ لأنه لا قصد جدي له؛ وفي الإنشاء يعتبر القصد الجدي، وذلك خلاف القاعدة، فتدبر جيداً.

ثم لا يخفى أن الجواب الأول والثالث، يقع كل منهما جواباً على إشكال

ص: 132


1- في حيطة الشارع لا الغاصب.
2- وهذا هو المهم، وهو مدار البحث.
3- كما لو كان غاصباً لمال أبيه ومات والده وهو لا يعلم، وكان الوريث الوحيد لأبيه.

وليسا جوابا عن إشكال واحد(1)، كما ظهر منتقريرهما، فتدبر جيداً.

خلاصة البحث مع إضافة

إن الأقوال في حقيقة الإنشاء ثلاثة:

القول الأول: الإنشاء إيجاد حقيقي لمعنى اعتباري في عالم الأعيان وليس في عالم الأذهان، وهو ما نذهب إليه باعتبار أن الاعتبار من مراتب العين القسيم للذهن لا المقسم له كي يقال بأنه منه.

القول الثاني: الإنشاء إيجاد لمعنى اعتباري في عالم الذهن والمراد: ذهن المعتبر أو ذهن من بيده الاعتبار خاصة فقد يكون فرداً وقد يكون جمعاً.

القول الثالث: الإنشاء ليس إيجاداً، وإنما هو إبراز اعتبار نفساني غير قصد الحكاية، بمبرز(2).

وعلى الرأي الثاني والثالث فإن الأمر سهل جداً؛ لأن الرأي الثاني يرى الإنشاء إيجاداً لمعنى اعتباري في عالم الذهن، ولا شك أن الغاصب يملك ذهنه فيوجد هذا المعنى الاعتباري وهو نقل الملكية مثلاً في عالم ذهنه، ولكن إذا قلنا بتعميم الذهن إلى من ليس بيده الاعتبار، وكذلك على الرأي الثالث؛ إذ لا شك أن الغاصب في نفسه يريد نقل الملكية فيبرز ذلك بهذا اللفظ المعين.

لكن تصوير ذلك على المعنى الأول(3) صعب إذ كيف يوجد الغاصب، وهو غير مالك، نقلاً للمملوك في عالم الواقع؟ وقد يجاب بأن الغاصب كما يستطيع أن يوجد الكسر والقتل في عالم الواقع، يستطيع أن يوجد نقل الملكية في

ص: 133


1- الإشكال الأول: ان الاحتياط يستلزم الترديد وهو محال والإشكال الثاني: ان المحتاط فاقد للجزم في النية.
2- القول للمحقق الإيرواني في نهاية النهاية، وتبعه السيد الخوئي في كتبه.
3- إيجاد اعتباري في عالم الواقع.

عالم الاعتبار أي في عالم اعتباره الذي له واقعية ما، فتأمل.

رابعاً: إما قصد الجزم غير معتبر أو أنه متحقق بنحو ما

وقد يجاب: بأنه لا ريب في حسن الاحتياط عقلاً؛ فإن العقل يحكم بحسن الاحتياط في المعاملات دون ريب ولو في الجملة، كما أن بناء العقلاء على الاحتياط في المعاملات ولو في الجملة، فنستكشف بالبرهان الإني(1) - على سبيل منع الخلو - أحد أمرين: إما أن قصد الجزم غير معتبر في المعاملات، مما يعني نفي الأمر الثاني(2)، وإما أن قصد الجزم متحقق بنحو ما في المعاملات الاحتياطية، مما يعني نفي الأمر الثالث(3)؛ إذ هناك مانعة جمع بين الالتزام بهاتين المقدمتين وبين الالتزام بالحسن العقلي أو بناء العقلاء؛ فإذا قلنا: بأن قصد الجزم معتبر في المعاملات مطلقاً، فكيف يحكم العقل بحسن الاحتياط الفاقد للجزم في المعاملات ولو في الجملة؟

إن قلت: إن حكم العقل وبناء العقلاء دليلان لُبيان، فيقتصر فيهما على القدر المتيقن؛ وعليه فيدلان على حسن الاحتياط في الجملة لا بالجملة.

فنقول: إن الموجبة الجزئية هي نقيض السالبة الكلية، فيكفي لرد القول بأن الاحتياط لا يتحقق فيه قصد الجزم بالجملة؛ وقصد الجزم معتبر مطلقاً، نقضه في الجملة، كما إذا حكم العقل بحسن الاحتياط في المعاملات أو كان بناء العقلاء على ذلك ولو في مورد واحد، فيكشف ذلك عن وجود خلل في إحدى المقدمتين أو كلتيهما؛ لأن حكم العقل لا يخرج عن دائرة الإمكان، بمعنى أن العقل لا

ص: 134


1- من حكم العقل وبناء العقلاء.
2- وهي أن قصد الجزم معتبر في الإنشاء.
3- وهي أن الاحتياط في المعاملات غير متوفر على قصد الجزم.

يحكم بالحسن في مورد الاستحالة ولو في مورد واحد، فمن هنا نكتشف أنه لا استحالة وأن الخلل في المقدمتين موجود.

وبتعبير آخر: إنا لم نتمسك ببناء العقلاء والحسن العقلي لإثبات صحة الاحتياط في المعاملات مطلقاً، ليقال بأنهما دليلان لُبيان؛ وإنما تمسكنا بهما لنفي السالبة الكلية فقط، وبذلك يرتفع المانع عن القولبجواز الاحتياط في المعاملات وعن القول بصحته فيها، فنحتاج إلى دليل على حسنه مطلقاً، وقد يقال بأن العقلاء إذا نظروا إلى الاحتياط بما هو هو وجدوه حسناً مادام حِيطةً على أوامر المولى أو اغراضه.

إشكال آخر

لا يقال: أن بناء العقلاء لا ينهض في مقابل الاستحالة العقلية؛ وكذلك الحسن العقلي المدعى لا يستطيع أن يزحزح الاستحالة العقلية، فإن الإشكال هو:

إن الإنشاء إيجاد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد بين الوجود والعدم، والاحتياط مبني على الترديد، فلا يمكن إيجاد الإنشاء به، فهل يمكن أن يكون هناك حكم عقلي بالحسن على الخلاف رغم الاستحالة العقلية.

إذ يقال: هذا الإشكال غير وارد بالبرهان الإني الذي تقدم؛ إذ إننا نجد بالوجدان حكم العقل بالحسن في الجملة، فنستكشف أنه لا استحالة في ذلك، وإن لم نستطع - فرضاً - بيان وجه دفع شبهة الاستحالة(1).

وأما بناء العقلاء فقد يقال: إن العقلاء قد يخطؤون، فلا يصح الاستناد إلى بنائهم لنفي الاستحالة.

فإنه يقال: إن مرجع بناء العقلاء بما هم عقلاء إلى حكم العقل، وحكم

ص: 135


1- على أننا قد أوضحنا سابقاً وجه دفع الشبهة.

العقل المحض الصريح(1) لا يعقل فيه الخطأ؛ إذ لو قيل باحتمال الخطأ في الأحكام العقلية - كالحسن والقبح العقليين - لجرى مثله في النقيضين وغيرها، وسوف ينهدم عندئذ أساس العلوم، والتالي باطل، فالمقدم مثله؛ لأنه بعد قبول وجود بناء للعقلاء بما هم عقلاء الكاشف عن وجود حكم للعقل، لا يمكن التشكيك في حجيته، وإلا للزم التشكيك في كل الأحكام العقلية بما فيها البديهيات:(النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)؛ وحينئذ لا يستقر حجر على حجر، إذ لو نُسفت العلوم البديهية لما بقي مجال للعلوم النظرية فإنها عليها تبتني.

وقد يناقش الجواب بأنه إنما يفي بتصحيح الاحتياط الطولي (أي للعاجز عن طريق الاجتهاد والتقليد) دون العرضي (ما كان في عرضها مع قدرته عليها).

وفيه: إنه إن صح الجواب في الطولي لبطل إشكال استلزامه للترديد المحال إذ المحال محال مطلقاً، نعم لا يتم به إشكال فقد الجزم إلا لو اثبتنا حكم العقل وبناء العقلاء على حسن الاحتياط العرضي ولو في الجملة.

خامساً: النقض بالظان شخصياً بالخلاف

الجواب الآخر هو جواب نقضي ذكره السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) على هذه الشبهة(2)، وهو: أنه لو قام ظن نوعي أو دليل معتبر على صحة إنشاء العقد بالفارسية مثلاً(3)، ولكن كان هذا الشخص ظاناً بالظن الشخصي(4) على

ص: 136


1- قد أوضحنا في كتاب: (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) وجه اشتراط المحض الصريح؛ إذ قد يكون العقل مشوباً؛ كما ذكرنا شروطا أخرى هناك.
2- الشبهة أن الإنشاء في المعاملات الاحتياطية غير ممكن، لأن المعاملات الانشائية الاحتياطية لا تتضمن الجزم. بيان الفقه: ج1 ص123 مع توضيح وإضافة.
3- العقد بغير العربية فيه خلاف؛ فهناك قول باشتراط العربية مطلقاً، أي مع التمكن منها ولو بالتوكيل على الأحوط، وقول بالصحة لمن لم يقدر على العربية وإن قدر على التوكيل. يراجع (العروة الوثقى) كتاب النكاح العقد وأحكامه.
4- وهو ليس بحجة.

خلافه، فهنا لو عقد بالفارسية اعتماداً على الحجة الشرعية فعقده صحيح بلا كلام؛ لأنه كان بحسب الحجة الشرعية القائمة على صحة هذا العقد، لكن لازم كلام المستشكل حيث اشترط في المقدمة الثانية(1) الجزم، هو بطلان العقد إذ لا جزم فيه؛ فلم يتحقق الإنشاء والتالي(2) باطل؛ فالمقدم(3) مثله.

وكذلك الحال في مختلف الأدلة الشرعية التي تقوم لدى الفقيه،فإنه تارة يحصل له القطع، وتارة يحصل له الاطمئنان، وأخرى يحكم بحسب الظواهر مع كون ظنه الشخصي على الخلاف، أو مع عدم وجود ظن شخصي بالوفاق، فإن عقوده وإيقاعاته الاحتياطية كلها صحيحة لما هو المرتكز في ذهن الفقيه من صحة هذه العقود، رغم عدم إمكان قصد الجزم نظراً لعدم وجود الظن الشخصي بالوفاق أو وجود الظن الشخصي بالخلاف.

وقد يجاب: بأنه حيث كان حكماً ظاهرياً فهو جازم بالصحة وحصول النقل الظاهري ببيعه الاحتياطي؛ عكس الاحتياط في الموارد التي لم يقم دليل اجتهادي على صحته فيها، إذ كيف يجزم بالنقل مع عدم وجود الحجة على صحته؟ فتأمل.

سادساً: النقض بمعاملات الوسواسي لصحتها مع عدم جزمه

وقد يضاف له نقض آخر وهو المعاملات التي يجريها الوسواسي الذي يعيد العقد ويكرره بمختلف الصيغ والاحتمالات احتياطاً، لكي يحرز صحة العقد؛ فعلى ما يقوله المُستشكل من اشتراط الجزم مطلقاً، يلزم بطلان معاملات

ص: 137


1- وهي أن قصد الجزم معتبر في الإنشاء.
2- فساد العقد.
3- إشتراط الجزم.

الوسواسي بالمرة.

إن قلت: إن الشارع ألغى وسوسة الوسواسي بدليل خارجي واعتبرها كالعدم؛ فدل على إمضاء أفعال الوسواسي وعدم اعتبار قصد الجد فيه، وإلا لو خلينا والدليل بما هو دليل لاقتضى بطلان معاملات الوسواسي عقوداً أو إيقاعات، فلا يعمم ذلك للاحتياط إلا لو دل على إمضائه وعدم اعتبار قصد الجدّ في المعاملات، فيه.

قلت: ذلك موقوف على إثبات أن الشارع بالنسبة للوسواسي عند إلغائه لوسوسته كان مصب حديثه كلا طرفي السلب والإيجاب وذلك نظير ما قيل في قاعدة (لا ضرر)؛ وتوضيحه:

إنه اختلف الأعلام في (لا ضرر) وأن الشارع هل نفى به جعل الحكم المضر فقط، أو أنه أثبت به جعل الحكم النافع أيضاً، والفرق بينهما دقيق، وفي ذلك قولان:القول الأول: إن النفي في قاعدة «لا ضرر» قد تعلق بالأحكام الضررية، أي أن كل حكم ينشأ منه الضرر فهو ليس بمجعول من قبل الشارع، كما هو ظاهر اللفظ.

والقول الثاني(1): هو أن مفاد «لا ضرر» ليس نفي جعل الأحكام الضررية فقط، بل نفي العدم الذي ينشأ منه الضرر، أي نفي عدم جعل الحكم الذي كان عدم جعله ضررياً، وبذلك يتخلص عن إشكال الميرزا النائيني (رحمه اللّه): بأن العدم ليس حكماً(2)، إذ لم يرد في الرواية لفظ الحكم بل الوارد «لا ضرر» وهو أعم من كون وجود الحكم ضررياً أو كون عدمه ضررياً فترفعها لا ضرر فتفيد نفي الحكم

ص: 138


1- وهو الذي ذهب إليه القليل من الفقهاء، ومنهم السيد الوالد (رحمه اللّه).
2- الأصول: ج2 ص252.

في الأول وإثباته في الثاني، فتأمل؛ وسيأتي بعد قليل بيان ذلك.

وعلى كل حال فإن مفاد «لا ضرر» حسب القول الثاني هو إثبات الأحكام النفعية(1) أيضاً وقال في (الأصول) في التمثيل للإثبات: كإثبات طلاق الحاكم، وضمان الحابس.

وفي المقام: قد يقال بأن الشارع عندما نفى اعتبار وسوسته أراد أن فعله المضر أنزله منزلة العدم، وقد يقال بأنه أراد تنزيل عدم فعله منزلة الوجود، فعلى الأول فإنه لا يفيد أن فقدانه لقصد الجد في المعاملة منزل منزلة وجدانه، أما على الثاني فيفيد ذلك، ولكنه ليس مما يستفاد من النفي، نعم في الصلاة وشبهها ذهب الفقهاء إلى أن هذا هو الذي ينفعنا، ولكنه خلاف القاعدة.

مثال الوسواسي لو شك في الصلاة أنه ركع أم لا؛ فالحكم هو أن يبني على أنه ركع، رغم أن مقتضى الاستصحاب العدم، ولو شك الوسواسي في أنه ركع ركوعين أو لا، فالحكم أنه يبني على عدم الزيادة، وكذا لو شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع، ولو شك بين الأربع والخمس بنى على الأربع.

لكن ذلك مما لا يمكن استفادته إلا من دليل خاص(2) ولا يصح - بحسب نظير القول الأول في لا ضرر - استفادته من مثل قول(عليه السلام): «لا شيء فيها»(3) أي الوسوسة، إذ تفيد نفي إضرار الزائد الذي يأتي به الوسواس لا إثبات وجود الناقص وهو - في المقام - قصد الجد الذي يفتقده الوسواسي في المعاملات.

وبعبارة أخرى: إن الوسواسي فاقد لقصد الإنشاء، فهل تفيد أدلة إلغاء حكم الوسوسة تنزيل العدم منزلة الوجود، أي تثبت وجوداً تنزيلياً لقصد الجزم

ص: 139


1- إثبات الحكم الذي ينشأ منه النفع.
2- إذ وردت بعض الروايات الخاصة في الصلاة مثلاً.
3- في صحيحة محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) وستأتي.

في الوسواسي الفاقد له؟

والجواب: - بحسب القول الأول - كلا، وأما القول الثاني فيذهب إلى أن إطلاق مثل (لا شيء فيها) يفيد تنزيل الفاقد منزلة الواجد وأن المعاملة الفاقدة لبعض الشروط نتيجة للوسوسة (لا شيء فيها) أي لا خلل فيها ولا نقص وليست فاقدة للأثر، وعلى هذا القول يبتني الجواب السابع وهو:

سابعاً: تنزيل الشارع (لا جِدّ) المحتاط منزلة (الجِدّ)

وهو أن يقال: إن الشارع نزّل (لا جدّ) المحتاط بمنزلة الجد، أي أنه نزل فقدانه لقصد الجد منزلة وجدانه لقصده؛ وبذلك تنحل المشكلة العقلية(1).

والحاصل: إنه لا بد من قصد الجزم، ولكن قصد الجزم تارة يوجده المنشئ بنفسه، وأخرى ينزل من بيده الاعتبار وهو الشارع تردده منزلة جزمه، بمعنى أن الشارع في المعاملات الاحتياطية - وفي معاملات الوسواسي ينزّل قوله (متّعت) و(أنكحت)، و(زوّجت) وهو متردد في أن أية صيغة هي ذات الأثر والمحققة لعلقة الزوجية، منزلة ذكره تلك الصيغ مع جزمه بوقوعها(2).

الإمكان في عالم الثبوت، والحاجة إلى الإثبات

وهذا الوجه مما لا ريب فيه في مرحلة الإمكان لبداهة أنه يمكن أن ينزل من بيده الاعتبار الفاقد منزلة الواجد، بمعنى أن يرتب الآثار التي أمر جعلها ورفعها

ص: 140


1- التي هي: إن الجزم معتبر في الإنشاء؛ لأن الانشاء إيجاد؛ والإيجاد لا يعقل فيه الترديد الثبوتي بين الوجود والعدم، إذ مع تنزيل الشارع لا ترديد.
2- وبحث الوجود التنزيلي كثير الفائدة في (الأصول) وهو متعدد الأغراض، والأصل في البحث فلسفي لكن مواطن الحاجة في الأصول إليه كثيرة وبه تنحل مجموعة من الإشكالات في عدة مواطن، منها مبحث الحكم الظاهري والواقعي، ومنها هذا المقام وغيرها.

بيده على الفاقد لشرط اعتبره هو شرطاً أو أنه نزل أمراً منزلة أمر آخر؛ كما في آية (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)(1) حيث إنه سبحانه لحكمةٍ نزّل هبتها نفسها له (صلی الله عليه وآله وسلم) منزلة النكاح(2).

فمن بيده الاعتبار يستطيع أن ينزل الفاقد منزلة الواجد، بمعنى أن يرتب الآثار التي وضعها ورفعها بيده على الفاقد، فهذا في عالم الثبوت ممكن لا ريب فيه.

ولكن الكلام كل الكلام في عالم الإثبات في المقام وغيره، وإنه هل نزّل الشارع فعل المحتاط الفاقد لقصد الجزم(3) منزلة الواجد أم لا؟ والمرجع هو الأدلة في مقام الإثبات.

ويقع البحث في صورتين:

الأولى: أن نخصص البحث عن الوسواسي(4)؛ وأنه هل نزّل الشارع إنشاءه الفاقد للجزم منزلة الواجد أم لم ينزل، وليس هذا بخصوصه مورد البحث، بل سنبحثه لموضوعيته من جهة ولكون بحثه هو الفيصل في تمامية النقض السابق على من اشترط الجزم في المعاملة وأشكل بأن المحتاط فاقد له فنقضنا بأن الوسواسي فاقد له أيضاً ومع ذلك تصح معاملته - على القول به - فإذا كانت ألسِنة أدلة الوسواس والمحتاط واحدة تمّ النقض وإلا فلا.

الثانية: أن نعمم البحث لكلي المحتاط الفاقد لقصد الجزم، وهذاهو

ص: 141


1- سورة الأحزاب: 50.
2- ولا يخفى أن هذه الهبة من مختصات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) التي خصه اللّه تعالى بها.
3- بناءً على اعتباره.
4- وهو محور نقضنا السابق، حيث استشكلنا بأنه يلزم من اعتبار الجزم مطلقاً أن تكون معاملات الوسواسي بأكملها باطلة؛ حيث لا يمكن أن يصدر منه إنشاء لفقده قصد الجزم؛ والتالي باطل فالمقدم مثله.

مورد البحث.

صحة عمل الوسواسي واجداً كان أو فاقداً

أما الصورة الأولى: فإن البحث عنها حري بأن تكتب حوله رسالة مستقلة، لكثرة ابتلاء الناس بالوسوسة(1)، وقد تطرق الفقهاء لها في مبحث (كثير الشك) وغيره لكن دون بحث مفصل حول ذلك.

وسنشير إلى رواية واحدة فقط، ووجه الاستناد إليها في المقام دون الدخول كثيراً في النقض والإبرام، والرواية معتبرة السند، لا لمجرد رواية الكافي لها وفي روايته الكفاية مع اعتماده عليها دون معارض(2)، بل لاعتبار رجال السند كلهم أيضاً.

والسند هو: الكليني عن (الحسين بن محمد عامر الأشعري)، وهو ثقة ومن مشائخ الكليني.

عن (معلى بن محمد البصري)، وهو ممن روى عنه كامل الزيارات، واستظهر في معجم رجال الحديث أنه ثقة، وهو من المعاريف كما أنه كثير الرواية، ولم يرد فيه قدح يضر بوثاقته.

عن (الحسن بن علي بن زياد الوشاء) الثقة، عن (محمد بن حمران النهدي)، وقد وثّقه النجاشي، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الوسوسة وإن كثرت، فقال: «لا شيء فيها، تقول: لا إله إلا اللّه»(3).

والبحث مبني على عموم (لا شيء فيها) للمعاملات والعبادات وأنه يفيد أن الوسواس إذا فقد مثل قصد الجزم في المعاملة مثلاً فإن وسوسته (لا شيء فيها)

ص: 142


1- كما في الصلاة والطهارة والحج وغيرها من العبادات والمعاملات وما أشبه.
2- فصلنا الكلام عن ذلك وعن القيود في (حجية مراسيل الثقات المعتمدة).
3- الكافي: ج2 ص424.

أي هي غير مخلّة. وتفصيله:

الاحتمالات في قوله (عليه السلام): «لا شيء فيها»

الاحتمال الأول: إن كل وسوسة كان متعلقها الأكثر الذي كانوجوده ضاراً فذلك المتعلَّق منزل منزلة العدم، إذ (لا شيء فيها) أي في الوسوسة؛ كما لو شك الوسواسي في الصلاة بين الركعة الرابعة والخامسة، فوجود الخامسة هنا ضار وهو مشكوك فيه، فينزل منزلة العدم فيبنى على الأربع، وهذا البناء على وفق الاستصحاب.

الاحتمال الثاني: إن كل وسوسة كان متعلّقها الأكثر الذي كان عدمه ضاراً ينزل منزلة الوجود أو الموجود إذ (لا شيء فيها) كما لو شك بين الركعة الثالثة والرابعة، فعدم الرابعة ضار فيبني على الأربع، وهذا البناء هو على خلاف الاستصحاب وهو النافع لنا في المقام، أي إن ما كان عدمه ضاراً كعدم قصد الجزم الضار، فقد نزله الإمام (عليه السلام) منزلة الوجود.

وتوضيحه: إن تعبير الإمام (عليه السلام) ب«لا شيء فيها» يقال فيه ما يقال في «لا ضرر» - كما سبق -، فإن عدداً من الأعلام ذهبوا إلى أن «لا ضرر» تعني نفي جعل الحكم الضرري، أي الحكم الذي ينشأ من وجوده الضرر فهو مرفوع(1)، وهنا المقام مثله؛ فوجود الركعة الخامسة فيه ضرر، فيرفع بقول الإمام (عليه السلام): «لا شيء فيها»، هذا هو الرأي الأول في «لا ضرر».

بينما ذهب آخرون(2)

إلى أن «لا ضرر» يشمل العدم أيضاً، فليس المراد بلا

ص: 143


1- كما ذهب إليه الشيخ (رحمه اللّه)؛ أو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما ذهب إليه الآخوند (رحمه اللّه)، والجامع: كون المتعلق هو الوجود، نظير الاحتمال الأول هنا.
2- وهو الذي ذهب إليه جمع من الأعلام، منهم السيد الوالد (رحمه اللّه) تبعاً لبعض المحققين كالمحقق التوني والمرحوم الأصفهاني ..

ضرر الوجود فقط، بمعنى أنه ليس متعلق «لا ضرر» الوجود الحكمي النابع منه الضرر فقط، بل أيضاً العدم (عدم الحكم) النابع منه الضرر؛ فلا ضرر تعني أن كل عدم حكم لزم منه الضرر فهو مرفوع، ونفي النفي إثبات، أي ذلك الحكم موضوع وثابت، فإذا كان هناك عدم حكم يلزم منه الضرر فلا ضرر ترفعه بوضع ضده وهو الحكم الذي يلزم منه النفع أو لا يلزم منه الضرر. وبتعبير عرفي: لا ضرر تفيد أنه ليس هناك في الإسلام ضرر فإذا كان حكم ما ضرراً فليس في الإسلام - حسب هذا الحديث -، وإذاكان عدم حكم ما ضرراً فليس في الإسلام، إذ لو قرر الإسلام عدم هذا الحكم لكان في الإسلام ضرر.

واستدلوا على ذلك: بالإطلاق في «لا ضرر» وأنه يشمل الضرر المتحقق بالوجود أو العدم، وقد مثّل السيد الوالد (رحمه اللّه) في (الأصول)، ب(ضمان الحابس) فإذا حبس ظالم شخصاً عن العمل والكسب إلى أن فات وقت العمل بسبب الحبس، فهل هو ضامن لما خسره بسبب الحبس؟(1) قولان، ومما يصلح دليلاً على الضمان هو قاعدة «لا ضرر» بناءً على التعميم؛ إذ يلزم من عدم تشريع الضمان على الحابس الضرر، والرواية تقول: «لا ضرر» وعدم الحكم بالضمان ضرر؛ وهذا يعني تشريع الضمان.

والحاصل: إن «لا ضرر» ليست نافية للحكم الضرري فقط، بل مثبتة للحكم النفعي أيضاً بالمعنى المذكور سابقاً.

كما مثّل (رحمه اللّه) بطلاق الحاكم الشرعي بالولاية، فإن المرأة إذا غاب عنها زوجها سنين، وكانت في عسر وحرج، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي وله أن يطلقها ولاية. ويستدل عليه ب«لا ضرر» لكون عدم تشريع صحة الطلاق الولائي ضررياً، والضرر مرفوع.

ص: 144


1- وهذه مسألة خلافية ومهمة وكثيرة الابتلاء، كما في حبس الحكومات الظالمة. (من المتن)

الاحتمال الثالث: إن المراد الأعم منهما، بأن يقال: إن المراد من «لا شيء فيها» أي لا شيء من الضار - بوجوده أو عدمه - في الوسوسة بثابت أو مجعول، ومن الضار بعدمه (الجزم)، فليس بمعتبر شرعاً في الوسواس، فتأمل.

الاحتمال الرابع: أن «لا شيء فيها» يعني أنها ليست مبطلة وليست مضرة سواء تعلقت بالأكثر أم الأقل، بالمضر وجوده أم بالمضر عدمه أي سواء فعل شيئاً مبطلاً - لولا الوسوسة - أم ترك شيئاً كان تركه مبطلاً، لولاها. وهذا الاحتمال يتفق مع الاحتمال الثاني في النتيجة، ولكن يختلف في الاستظهار العرفي؛ إذ إن ذاكالاحتمال قد يستشكل عليه بأنه خلاف المتفاهم العرفي، أما هذا الاحتمال فهو سلس عرفي؛ والنتيجة واحدة ولكن باختلاف المدخل.

الاحتمال الخامس: أن «لا شيء فيها» يعني أن المكلف غير مؤاخذ على تلك الوسوسة فالرواية - على هذا - أجنبية عن التكليف، متمحضة في عدم ثبوت العقوبة.

هذا، وإن بحث الوسوسة واسع وينبغي التفصيل في بحث رواياته - والعديد منها صحاح أو معتبرات - ومسائله بشكل مستوعب؛ فمثلاً: هل الوسوسة في العبادة مبطلة؟ وذلك كأن يكرر (الضالين) أو القراءة ونحوها كثيراً، ارتأى السيد العم (دام ظله) أنها غير مبطلة، وقال السيد الخوئي (رحمه اللّه): إنه لا دليل على أن الوسوسة محرمة، خلافاً للمشهور؛ وهكذا.

صحة عمل المحتاط وإن كان فاقداً لقصد الجزم ونحوه

عدم قصد الجزم في المحتاط

وأما الصورة الثانية(1)؛ فإنه يمكن الاستدلال على تنزيل (عدم قصد

ص: 145


1- وهي المحتاط الفاقد لقصد الجزم.

الجزم) في المحتاط منزلة الجزم بوجه لطيف؛ وهو إن نفس أدلة الاحتياط متكفلة بإثبات التنزيل، من غير حاجة إلى تطويل البحث عن دليل خاص على التنزيل، حيث إن قوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1) و«إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا فَعَلَيْكُمْ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى تَسْأَلُوا عَنْهُ فَتَعْلَمُوا»(2) - وهي صحيحة عبد الرحمن الحجاج كما سبق - وذلك بناء على تعميمها للعبادات والمعاملات وللتوصليات، على حسب ما مضى من الوجوه في تفسير «مثل هذا» وفقه الرواية ونحوهما، فقد يكتفي به في الدلالة على إلغاء اعتبارقصد الجزم في المحتاط، أو على تنزيل عدم قصده منزلة القصد.

مناقشة: الأمر بالاحتياط لا يتكفل حال فاقد الشرط أو الجزء

ولكن قد يناقش: بأن هذه الأدلة غير ناظرة لصورة فقد الشرائط أو وجود الموانع، والمفروض أن قصد الجزم مفقود، وهو مقوم للإنشاء، فمثلاً لو قال الشارع: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(3) فإنه ناظر إلى البيع بما هو هو، لكن البيع إذا كان فاقداً لركن أو قيد أو شرط فكيف تتكفل الآية به؟ فإنه لا يمكن التمسك بعموم الدليل لإثبات موضوعه أو شرائطه.

الجواب: الأمر مع العلم بفقد الشرط مطلقاً، دليل على التنزيل أو عدم الشرطية

ويمكن أن يجاب عن الإشكال الأول بأن كل شرط أو كل محتمل الشرطية عُلم فقدانه مطلقاً وقوعاً وإن كان ممكناً، أو علم عدم إمكانه خارجاً فلا يعقل

ص: 146


1- الأمالي - للمفيد (رحمه اللّه) -: ص283 / وكذا نقلها الشيخ (رحمه اللّه) في أماليه: ص110 عن شيخه المفيد (رحمه اللّه) بنفس السند.
2- الكافي: ج4 ص391.
3- سورة البقرة: 275.

إلاّ الناظرية إليه؛ لأن الأمر بذلك الفعل حينئذ أو إمضاءه واعتباره مع العلم بأن هذا الشرط مفقود مطلقاً، لغو لا يصدر من الحكيم.

وعلى هذا فلو وجدنا أن المولى أمر بشيء مع العلم أن محتمل الشرطية أو ما تصورناه شرطاً مفقود مطلقاً، استكشفنا من أمره بهذا الشيء(1) أحد أمرين: إما أن هذا الشرط المتوهم ليس شرطاً، وإما أنه شرط لكن الشارع نزل أمراً آخر منزلته أو ألغى اعتبار شرطيته في هذا الظرف، وهذه هي الكبرى الكلية.

وأما في المقام فعلى حسب ما ذكر في المعاملات فإن المحتاط لا يمكن أن يقصد الجزم، إذ هو وجداناً متردد في أن المعتبر ومنشأالأثر هو هذا أو ذاك، أو متردد في الممضى شرعاً؛ فكيف يجزم؟ ومع عدم الجزم لا يعقل تحقق الإنشاء؛ إذ قوام الإنشاء الجزم؛ لأن الإنشاء إيجاد، والإيجاد لا يعقل فيه الترديد في عالم الثبوت، فلو وجدنا أن الشارع أمضى المعاملة رغم استحالة تحقق هذا الشرط - قصد الجزم في الاحتياط - كشف ذلك على أن الشارع إما أنه لم يعتبر الجزم في المعاملات، وإلا لما أمكن أن يجوّز الاحتياط فيها ويعتبره منشأ الأثر. وإما أنه نزّل شيئاً منزلته.

النتيجة مما تقدم:

والحاصل: حيث إن الشارع أمر بالاحتياط أمراً وجوبياً أو استحبابياً، وحيث إن الاحتياط غير ممكن في المعاملات لفقدانه قصد الجزم؛ والحكيم لا يأمر بغير الممكن، فأمره بالاحتياط كاشف عن أن المتعلق لم يؤخذ فيه حينئذٍ أو مطلقاً قصد الجزم؛ أو عوّض عنه بأمر آخر.

وجه آخر(2): ومما يؤكد ما مضى: أن كلمة الإنشاء لم ترد في الأدلة من

ص: 147


1- رغم فقد الشرط مطلقاً.
2- وهو وجه عام لردّ أصل اشتراط الجزم في الإنشاء.

آيات أو روايات، إذ لم يُؤمر فيها بالإتيان بالبيع بقصد الإنشاء، فلا ينبغي أن ندور مدار هذه الكلمة(1) ثم نفرع عليها إن الانشاء متوقف على الجزم، لأنه إيجاد ... إلى آخره.

والحاصل: إنه لم يأت أمر بآية ولا برواية متعلق بهذا العنوان لكي نبحث عنه وأن هذا الإنشاء المأمور به كيف يتحقق؛ وإنما المأمور به في الآيات والروايات هو (أنكح) مثلاً كقوله تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ)(2)، ولم تقل الآية اقصدوا الإنشاء في إنكاح الأيامى؛ ومن الوجداني أن المحتاط الذي أجرى كلتا الصيغتين يصدق عليه عرفاً وبالحمل الشائع دون شك بأنه أنكح، ويصدق عليه أنه باع، لو باع بصيغتين احتياطاً، فتأمل.

مناقشة: تخصيص أدلة الاحتياط بالعبادات

وقد يناقش: بأن الاحتياط لو كان وارداً في مورد المعاملات،كما لو قال: (أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت في المعاملات) فهنا يتم ما ذكرتم(3)، ولكن الفرض أن الرواية غاية الأمر أنها مطلقة للعبادات والمعاملات، وحيث وجدنا أن المعاملات لا يمكن للمحتاط قصد الجزم فيها، فإن ذلك يكون قرينة مقامية على اختصاص أدلة الاحتياط بالعبادات، أي إن عدم إمكان بعض أصناف المتعلق(4) يكون دليلاً على أن العام خاص بغيره (وهو العبادات).

وبعبارة أخرى: إن «أخوك دينك» تشمل العبادات والمعاملات بنحو المقتضي، لكن وجود قرينة مقامية عقلية قطعية على عدم إمكان شمول هذه

ص: 148


1- الإنشاء.
2- سورة النور: 32.
3- ما أجبنا به عن إشكال الناظرية.
4- وهو المعاملات.

الرواية للمعاملات دليل على صرفها إلى العبادات فقط.

جوابان:

والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:

الأول: دعوى أن لسان أدلة الاحتياط آبية عن التخصيص، فإن «أخوك دينك» ونحوها من الأدلة عندما تُلقى إلى العرف، يرى أن إخراج المعاملات خلاف لسان الدليل، وخلاف مناسبات الحكم والموضوع، خاصة مع قرينة «أخوك دينك»، حيث إن تمهيد وصف الدين بالأخ، مع شمول الدين للمعاملات كالعبادات يفيد أنه كما أن على الأنسان أن يراعي الأخ ويشمله بالحيطة من كل الجهات، كذلك عليه أن يراعي دينه بالاحتياط، وهذه الجهة موجودة في العبادات والمعاملات جميعاً ومع قرينة قوله «بما شئت» في الرواية، فتأمل.

الثاني(1): إن القول بالتخصيص لم يلتزم به أحد، حتى المستشكل نفسه، فلم نجد فقيهاً التزم بوجوب أو رجحان أو حسن الاحتياط في العبادات فقط، والتزم بأن الاحتياط في المعاملات ليسبواجب ولا راجح ولا حسن، فمع العلم بهذا المبنى الفقهائي المجمع عليه والذي يعضده بناء العقلاء وجريان سيرتهم عليه ولو في الجملة - نستكشف أن أمر الشارع بالاحتياط رغم افتقاد المعاملات للجزم هو لأحد الأمرين السابقين(2).

هذا تمام الكلام في الإشكالات الخاصة على العبادات أو المعاملات.

الإشكالات العامة على الاحتياط

أما الإشكالات العامة على الاحتياط، فإن من أهمها ما ذكره السيد

ص: 149


1- وهذا الوجه موضح للوجه الأول أيضا.
2- أي إما لأنه رفع اليد عن شرط الجزم، أو أنه نزّل أمراً منزلته.

العم (دام ظله) في (بيان الفقه).

مفاد الإرجاع للرواة والروايات نفي طريقية الاحتياط

قال: ([الشبهة الأولى]

الأولى: ما في رواية أبي خديجة المشهورة من قوله (عليه السلام): «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا»(1) وفي مقبولة عمر بن حنظلة: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا»(2) وغيرهما ممّا ورد موردهما، فإنّه يفهم منها لزوم العمل بنفس الأخبار، أو بمن روى الأخبار، وعلم شيئاً منها، وهو: الاجتهاد والتقليد، ويستفاد من ذلك التزاما عدم طريقيّة غيرهما)(3).

وبعبارة أخرى: إن لسان الروايات ناطقة بمرجعية الرواة والروايات دون الاحتياط، فلاحظ قوله (عليه السلام): «خذ من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا»(4)، فإن السائل لما سأل الإمام عمن يأخذمعالم دينه لم يجبه (عليه السلام) باحتط ولم يذكره حتى تخييراً، بل قال له: «خذ من زكريا».

وقوله (عليه السلام): «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا»(5)، إذ لم

ص: 150


1- الوسائل: الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.
2- الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
3- بيان الفقه في شرح العروة الوثقى: ج1 ص126.
4- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص858، وفيه: عن علي بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة، ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني، قال: «من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا»، قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه.
5- تهذيب الأحكام: ج2 ص219، وفيه: عن أبي خديجة، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه».

يقل الإمام: احتط، بل قال: «انظروا إلى رجل منكم».

وكذلك قوله (عليه السلام): «ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا»(1).

ولكن في البدء لا بد من بيان وجه الحاجة لهذا الاستدلال بعد مسلمية القاعدة المشهورة (الشك في الحجية موضوع عدم الحجية).

ووجه الحاجة: إن تلك القاعدة تفيد عدم الحجية عند الشك في الحجّية بنحو المقتضي ولكن هذا الدليل يفيد عدمها بعد الفراغ عن الحجية في مرحلة المقتضي؛ إذ يفيد أن الأمر أو الطريق حتى لو كان بما هو هو حجة عقلائية فإنه لا يصح الاستناد إليه إذا وجد الدليل على خلافه.

وذلك لأن بناء العقلاء على حجية طرق معينة(2) إنما يصلح دليلاً على حجيتها، بشرط إمضاء الشارع لها، أو بشرط عدم الردع عنها(3)، فعلى هذا المبنى فإن العقلاء حتى لو بنوا على أن الاحتياط مما يصح به الاحتجاج على المولى لأنه احتاط على اغراضه أو أوامره بإتيانه بمختلف ما يحتمل كونه محققاً لها أو ممتثلاً إياها، لكن بناءهم بمجرده غير خاص إذ هو مراعى بإمضاء الشارع؛ وحيث إن الشارع أمر بالرجوع إلى الأحاديث الشريفة، أو بالرجوع إلى من يروي تلك الأحاديث، فيستكشف من ذلك أن الشارع لم يمضِ هذا القسيم الثالث؛ وعلى هذا فالاحتياط ليس بحجة؛ لا لعدم وجودالمقتضي بل لوجود المانع.

نعم قد تعمم القاعدة لصورة الشك في وجود المانع، لكنه منتفٍ

ص: 151


1- الكافي: ج1 ص67.
2- كخبر الثقة والبينة والشياع وما أشبه.
3- على هذين القولين، والمنصور عدم الحاجة حتى إلى عدم الردع كما فصلناه في بحث البيع، فراجع.

بالأصل، فتأمل.

ثم إن الوجه المذكور في (بيان الفقه) يمكن أن يتشعب إلى وجهين من الإشكال؛ أحدهما يستند إلى الحكم التكليفي، والآخر يستند إلى الحكم الوضعي.

فالأول: هو الوجوب المستفاد من أمره بشيء تكليفاً(1)، والثاني هو الحجية المستفادة من أدلة جعلها أو إمضائها، وهذا الثاني هو ظاهر كلام بيان الفقه، إلا أن حكم الأول كحكمه.

وذلك لأن مصب كلام الشارع تارة يكون الحجية والحكم الوضعي؛ فإذا كان كذلك لزمه وجوب الإتباع، وأخرى يكون الأمر بالعكس، بأن يأمر بالاتباع فيستكشف منه بالبرهان الإني أن ما أمر باتباعه هو حجة وطريق، أي إنه ملزوم له.

وبعبارة أخرى: إن الشارع تارة يجعل الحجية للملزوم، وأخرى يأمر باتباع اللازم، وأيهما صنع دل على الثاني، وإنما يجب في مقام الإثبات أن نلاحظ لسان الدليل؛ فتارة يقول: «... فإنهم حجتي عليكم» فالمجعول هو الحجية، ويلزمها وجوب الاتباع، وتارة أخرى يعكس، كما في قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(2) فقد أمر باللازم؛ لأن التفقه في الدين كاشف عن مراد الشارع وهذا(3) هو الملزوم؛ فلأنه حجة أمرنا بإتباعه، وكان له أن يقول: جعلت التفقه حجة عليكم ولو فعل كذلك لكان مفاده مفاد ذلك.

وعلى أيّ: فإنه لا فرق بين أن يجعل الحجة، بمعنى الكاشف أو المنجز والمعذر، أو يأمر بلزوم الاتباع(4).

ص: 152


1- كأمره بالتفقه أو التقليد.
2- سورة التوبة: 122.
3- الكاشفية عن مراده.
4- والذي اعتبره البعض معنى من معاني الحجية، على ما فصلناه في كتاب: (الحجة .. معانيها ومصاديقها).

وعليه: فهنا منطلقان، حسب لسان الأدلة، للاستدلال:

المنطلق الأول: إن الادلة جعلت الحجية للروايات والرواة،فيستفاد من ذلك التزاماً نفي حجية الاحتياط، فليس للمكلف أن يحتج على المولى (1) بالاحتياط.

المنطلق الثاني: إن الآيات والروايات أمرت بالتفقه، كقوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أو أمرت بالتقليد كقوله (عليه السلام): «فللعوام أن يقلدوه»(2) فيستفاد من ذلك نفي القسيم الثالث وهو الاحتياط، وحيث لا أمر به فلا دليل على حجيته.

وبتعبير آخر: يستكشف من عدم الأمر بإتباعه عدم حجيته.

وبعبارة أخرى: إننا عند التدبر في الآيات والروايات نجدها على نوعين من حيث لسانها:

النوع الأول: كقوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(3)، وهي التي كان المصب فيها هو الحكم التكليفي إذ ورد الأمر بصيغته بالتفقه؛ ومنه يعلم بالبرهان الإني أن التفقه حجة وكاشف عن مراد المولى.

النوع الثاني: كقوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(4) و(وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ)(5) والمصب هو الحجية أو هو ذات الحجة، فتدبر(6).

ص: 153


1- وهذا هو المعني اللغوي للحجة.
2- الاحتجاج: ج2 ص263.
3- سورة التوبة: 122.
4- سورة الأنعام: 149.
5- سورة البقرة: 282.
6- إذ التفقه أيضاً هو ذات الحجة، فتدبر.

بل قد يقال: إن المستفاد من المصب في مثل قوله تعالى: (لِّيَتَفَقَّهُوا) و(فَتَبَيَّنُوا) من الهيئة أمر، ومن المادة أمر آخر، فإن المستفاد من الهيئة (لِّيَتَفَقَّهُوا) و(فَتَبَيَّنُوا) الحكم التكليفي أي يجب التفقه والتبين، والمستفاد من المادة (التفقه) و(التبين) كون التفقه والتبين العرفيين بنفسه طريقاً للواقع، إذا قلنا إن التبين بنفسه طريق(1).والحاصل ان هاتين الآيتين تدلان بمادتهما على الحجية(2)، وتدلان بهيئتهما على وجوب الاتباع، وذلك مثل «فللعوام أن يقلدوه» إذ تدل الهيئة على وجوبه، أما المادة فلا تدل على حجية الفتوى، اللّهم إلا بالدلالة الالتزامية وبأن وجوب التقليد متفرع على حجية قول المقلّد وفتواه. فليتأمل وتفصيل الأخذ والرد في موضع آخر.

ونظيرهما: ما لو قال المولى: (احتط)، فإن الأمر يدل على الوجوب، وبالقرينة يمكن أن يدل على الاستحباب أي على محبوبية الاحتياط لدى المولى، وأما مادة (حوط) فإنها تدل على طريقيته لأنه حائطة على أغراض المولى فهو محرز لها، فتأمل(3).

وقد يقال: بأن المادة تنطق - عرفاً - بالمحبوبية دون الطريقية.

إذن قد تستفاد المحبوبية من الهيئة فقط(4)،

وقد تستفاد من الهيئة ومن المادة ك(لِّيَتَفَقَّهُوا) و(فَتَبَيَّنُوا) وكذا (احتط) فإن المادة تدل على المحبوبية إما بنفسها

ص: 154


1- فتأمل، وبعض تحقيقه يكون بتحقيق أن المراد من التبين المعنى المصدري أو الاسم مصدري.
2- أي حجية ما عدّ تفقّها أو تبيّنا عرفاً.
3- فصلنا وجهه في بحث آخر.
4- كما في اضرب أو اذهب.

أو بلحاظ متعلقها وهو (احتط على أغراض المولى أو احتط لامتثال أوامر)؛ ثم - بعد ذلك - فإن المادة قد توافق الهيئة في الدلالة، وقد تعاكسها.

والحاصل: إن المادة تدل على ملزوم وجوب الاتباع وهو الحجية، والهيئة تدل على اللازم للحجية.

ولكن الاستدلال بهذا الوجه بكلا شقيه متوقف إما على الاستناد إلى مفهوم اللقب، وإما على الإطلاق المقامي وإلا لما صح الاستدلال لنفي الحكم الوضعي للاحتياط (وهو حجيته) أو الحكم الوضعي له (وهو جواز أو حسن أو وجوب إتباعه).

الأجوبة على الإشكال من جهة طريقية التفقه والتقليد

ويمكن الجواب عن الإشكال بوجوه: يفيد بعضها نفي حجيةمفهوم اللقب أو نفي ثبوت الإطلاق المقامي ويفيد بعضها الآخر ثبوت الحاكم عليه(1) حتى على فرض ثبوته.

عدم ذكر الاحتياط لصعوبته

الجواب الأول: ما ذكره (بيان الفقه): من أن الروايات والآيات لم تذكر طريق الاحتياط لكونه صعباً أو شاذاً؛ لوضوح صعوبة الاحتياط بالصلاة إلى جهتين أو أربع، أو بإجراء المعاملات بعدة صيغ؛ من هنا لم تأمر الآيات والروايات باتباعه(2).

ولكن كيف يكون هذا الوجه رداً فنياً على الإشكال السابق؟

والجواب: إن هذا التوجيه(3) ينفع لنفي الإطلاق المقامي، إذ تفيد أن المولى

ص: 155


1- وهو الجواب الثالث وهو روايات الاحتياط.
2- بيان الفقه: ج1 ص126.
3- لوجه عدم ذكر الآيات والروايات المستفيضة، للاحتياط.

لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة؛ أي لم يكن في مقام بيان كافة طرقه إلى أحكامه، بل أراد أن يبين الطريق السهل دون الصعبة فجواب (بيان الفقه) بهذا التتميم يكون دقيقاً.

والحاصل: إن مجرد ورود «تفقهوا» أو «للعوام أن يقلدوه» لا يدل على نفي الطرق الأخرى إلا مع التتميم بالإطلاق المقامي، كما أن مجرد صعوبة أمر كالاحتياط لا يكون دليلاً على حجيته إلا بعدّه دليلاً على عدم الإطلاق المقامي مع افتراض كونه طريقاً عقلائياً.

ثم شفع (بيان الفقه) الوجه بوجه آخر، فقال: (وكان الاقتصار على طريقية الاجتهاد والتقليد فقط، لأنهما الطريقان المعروفان في تحصيل الحجة)(1) وهذا وجه آخر وإن ذكرهما كوجه واحد(2).

وبعبارة أخرى: خلاصة هذين الوجهين:

الأول: إن الاحتياط صعب فلذا لم يذكر في الروايات الآمرة بالتفقه أو الإرجاع للفقهاء وشبهها، فلا يكون عدم الذكر دليلاً على العدم بالإطلاق المقامي(3).

الثاني: إن الاحتياط والتقليد طريقان معروفان في تحصيل الحجة، أما الاحتياط فليس طريقاً معروفاً في تحصيلها بل هو طريق شاذ، لذا لم يذكر في تلك الروايات، والحاصل: إن كونه صعباً أمراً، وكونه شاذاً أمراً آخر.

ص: 156


1- بيان الفقه: ج1 ص126.
2- وتمام كلامه (دام ظله) في (بيان الفقه): (وفيه أولاً: إنما لم يذكر الاحتياط قسيماً للاجتهاد والتقليد لأنه طريق شاذ وصعب لا يسلكه عامة الناس، وكان الاقتصار على طريقية الاجتهاد والتقليد فقط لأنهما الطريقان المعروفان في تحصيل الحجة). بيان الفقه: ج1 ص126.
3- وهو غير الإطلاق السكوتي أو تقرير المعصوم (عليه السلام).

وهناك وجهان آخران نضيفهما إلى ما ذكره (دام ظله) وهما:

الأولى: إن الشارع أمر بالاجتهاد والتقليد ولم يأمر بالاحتياط، لأنهما طريق المعرفة(1)؛ أما الاحتياط فليس طريقاً للمعرفة، بل هو محرز عملي؛ والمحرز العملي كالأصل العملي متأخر رتبة عن الدليل الاجتهادي؛ فإنه طريق امتثال أحكام المولى فقط وليس كاشفاً عنها.

إنه من غير الممكن في أغلب الموارد بل شبه المستوعب منها امتثال أوامر المولى بالاحتياط، وليس ذلك صعباً فقط بل غير ممكن عادة(2)؛ فبالاجتهاد أولاً نتعرف على أحكام المولى ثم يمكننا امتثالها، لكن لو تركنا الاجتهاد والتقليد ظهرياً فإنه لا يمكن بالاحتياط أن نمتثلها في أكثر الموارد، ويتضح ذلك بالمثال الآتي: فإنه مع ورود قول المولى جل وعلا: (أَقِم الصَلَاةَ)، فلو أراد المكلف أن لا يتفقه ولا يقلد فكيف يحتاط مع أنه لا يعرف ماهية الصلاة، لكونها حقيقة مخترعة شرعاً بل لعله لا يخطر بباله الركوع والسجود.

ولنعتبر ذلك في رجل أجنبي دخل تواً في الإسلام ولم يعرف من الدين شيئاً، فقيل له: صلّ أو صم أو حج، فهل يمكنه الاحتياط؟ والجواب بالعدم لأن البدائل والمحتملات بالملايين.

والحاصل: إن الشارع لم يأمر بالاحتياط لأنه ليس طريقاًللمعرفة ولأنه لا يمكن امتثال أوامر المولى بالاحتياط في أغلبها ولصعوبة الاحتياط فيما إذا أمكن الامتثال بالاحتياط.

إذن: صعوبة الاحتياط تأتي بالدرجة الثالثة بعد الوجهين المضافين.

ص: 157


1- ولعله (دام ظله) أشار إلى ذلك في ضمن كلامه.
2- فالاحتياط على هذا دائرته ضيقة جداً.

لا مفهوم للروايات

الجواب الثاني: إن الروايات المذكورة لا مفهوم لها، لأن المتعلق فيها أو الموضوع من قبيل اللقب أو من قبيل الوصف، وكلاهما لا مفهوم له، وأما ما كان منها في مقام الحصر - لو فرض كونها كذلك - فهو إضافي، فلا ينافي - أيضاً - طريقية الاحتياط، وتوضيحه: إن الروايات تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

ما كان من قبيل مفهوم اللقب أو الوصف أو الحصر:

أما مفهوم اللقب فليس بحجة كما هو المعروف.

ومفهوم اللقب يراد به أحد أمرين:

الأول: الاسم الجامد غير الموصوف بوصف، فلو علق الحكم عليه لما أفاد انتفاء طبيعي الحكم بانتفائه.

الثاني: ما كان وصفاً غير معتمد على موصوف مذكور، فإنه اصطلاحاً يعدّ من دائرة مفهوم اللقب، أما إذا كان الموصوف مذكوراً فحينئذ يكون من قبيل مفهوم الوصف.

وذلك كما إذا ورد: «في الغنم السائمة زكاة»(1) فإنه من مفهوم الوصف؛ لأنه اعتمد على موصوف موجود، لكن لو ورد: (في السائمة زكاة)، فإنه يكون من مفهوم اللقب؛ ومفهوم اللقب أضعف المفاهيم، فهذه هي الكبرى الكلية.

وأما صغرى المقام: فإن الآيات والروايات الدالة على طريقية الاجتهاد والتقليد بعضها من هذا القبيل، كما في قوله (عليه السلام): «خذ منزكريا بن آدم»(2)، فانه من مفهوم اللقب، واللقب لا مفهوم له؛ فلا يدل على أن الاحتياط - القسيم

ص: 158


1- عوالي اللئالي: ج1 ص399.
2- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص858.

للأخذ من زكريا وأشباهه - ليس بحجة، فلا يصح الأخذ به؛ كما لا يدل على أن غير زكريا لا يؤخذ منه.

أما الرواية الأخرى: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا»(1) وقوله (عليه السلام): «ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا»(2) فإنه قد يقال بأن الذي ينفي طريقية الاحتياط هو متعلق (انظروا) بنفسه، إذ المستفاد هو: انظروا إلى رجل منكم فتمسكوا به، لا إلى الاحتياط مثلاً، وعليه فالذي ينفي حجية الاحتياط وطريقيته على فرضه، هو مفهوم اللقب وليس مفهوم الوصف، وإن كان موجوداً(3) لكنه غير ضار بالمقام، لنفيه أمراً آخر وهو الآخذ من غير الإمام، ومنه إذا لم يكن يعلم شيئاً.

وكذلك قوله (عليه السلام): «من كان من الفقهاء... فللعوام أن يقلدوه»(4)، فإن النافي لحجية الاحتياط على فرضه هو كل ما يقابل قوله: «من كان من الفقهاء» الذين أمر العوام بتقليدهم ومنه الاحتياط وإن كان طريقاً عقلائياً فإنه غير ممضى حينئذٍ - حسب هذا المدعى -.

وبذلك ظهر أن (التزاماً) المذكورة في كلام السيد العم (دام ظله) بياناً لقول المستشكل: (إن الأدلة دلت على الرجوع إلى الرواة والروايات مما يفهم منها التزاماً عدم حجية غيرهما) قد تُفسر بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ليس بحجة، فلا يتم الاستدلال.

ص: 159


1- تهذيب الأحكام: ج2 ص219.
2- الكافي: ج1 ص67.
3- في «رجل منكم يعلم شيئاً...».
4- الاحتجاج: ج2 ص263.

ومفهوم الحصر، إضافي

أما مفهوم الحصر فإنه وإن كان حجة ولكن سبق الجواب عنهبعدم وجود حاصر لا بلفظ ولا بإطلاق مقامي؛ إذ ليست الروايات في مقام بيان كافة الطرق العقلائية الممضاة شرعاً، ولا دليل ولا قرينة على ذلك، لوضوح أن (لِيَتَفَقَهُوا) و«انظروا إلى رجل منكم» في مقام إثبات حجية هذا الطريق، ولا توجد قرينة على أن الآية أو الإمام (عليه السلام) في مقام الحصر، فهذا ما تقدم، ونضيف:

أنه لو تنزلنا فرضاً وقلنا بأن ظاهرها الحصر، فإن الحصر إضافي، وليس حقيقياً، فلا ينفي الاحتياط إذ لم يكن في قباله.

والدليل(1) على إضافيته في الروايتين الأخيرتين هو كلمة «منكم» في قوله (عليه السلام): «انظروا إلى رجل منكم»؛ إذ هي في مقابل سلوك طريق العامة، فهي قرينة على الناظرية إلى نفي الرجوع إلى العامة والمخالفين، وكذلك قوله (عليه السلام) «ينظران إلى من كان منكم» فان قوله: «من كان منكم» قرينة على كون الحصر إضافياً في الروايتين، وأن مصب الكلام هو أنه يجب الرجوع إلى رجل منكم، لا من العامة المخالفين؛ فهو غير موجه لنفي الجهات الأخرى كطريقية الاحتياط.

والدليل الآخر على نفي الحصر هو ما التزم به الكل ودلت عليه الروايات والآيات وما أجمع عليه الأصحاب من أن قوله: «ليتفقهوا» ليس نافياً لحجية وطريقية التقليد لأنه غير ناظر إلى هذه الجهة، وكذلك العكس في قوله (عليه السلام): «فللعوام أن يقلدوه»، فهو لا ينفي التفقه وحجية الاجتهاد، وإنما هو مجرد إثبات لصحة هذا الطريق (التقليد).

والحاصل: إن الآيات والروايات لو فرض أنها في مقام الحصر، فإنما هي في

ص: 160


1- وهو واضح في بعض الروايات، وفي البعض الأخر يحتاج إلى إيضاح.

مقام الحصر الإضافي وليست لنفي الطرق الأخرى.

وخلاصة الجواب الثاني، أن المستند في هذه الروايات إما مفهوم لقب أو وصف أو حصر إضافي(1)، وكلها لا تنفي طريقيةالاحتياط، ويبرهن ذلك أيضاً الدليل الثالث الآتي:

روايات الإرجاع للاحتياط

الجواب الثالث: إن هناك روايات عديدة قد أرجعت إلى الاحتياط، فيستفاد منها صحته وحجيته(2)؛ ويستفاد من ضمها إلى روايات التفقه والتقليد، التخيير وهذه الروايات على طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: الروايات التي أرجعت إلى الاحتياط في الخبرين المتعارضين، كقوله (عليه السلام): «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط»(3)، وليس موطن الاستشهاد بهذه الطائفة، ولكن ذكرناها لتقوية الجواب السابق، وأن هذه الروايات الآمرة بالاجتهاد والتقليد ليست في مقام النفي المطلق لما عداها(4) على أنها لو كانت كذلك، فهذه الطائفة أخص منها.

الطائفة الثانية: ما كان خاصاً بصورة انسداد باب العلم والعلمي في موارد خاصة، كقوله (عليه السلام): «فَإِذَا اخْتَلَفَ عَلَى الْإِمَامِ مَنْ خَلْفَهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فِي الِاحْتِيَاطِ»(5) حيث لم يمكن الاجتهاد والتقليد في المقام.

ص: 161


1- «تفقهوا» إذن: لا تحتاطوا!
2- بمعنى صحة إتباعه وجوازه أو رجحانه أو وجوبه، وبمعنى صحة الاحتجاج به (على المولى) لا بمعنى كاشفيته.
3- عوالي اللئالي: ج4 ص133.
4- أي لكل قسيم وبديل.
5- الكافي: ج3 ص359.

فهاتان الطائفتان تفيدان لزوم الاحتياط في الجملة، وهذا المقدار كاف لتقوية الجواب السابق، فتأمل.

الطائفة الثالثة: الروايات التي تحبذ الاحتياط بقول مطلق، أو تأمر به وجوباً أو ندباً أو للدلالة على مطلق الطلب.

فمنها: ما وجد بخط الشهيد الأول (رحمه اللّه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد»(1).

فالرواية واضحة الدلالة متكفلة بدفع الإشكال بأن الروايات والآيات أمرت بالاجتهاد والتقليد ولم تذكر الاحتياط؛ فضمها إلى روايات التقليد والتفقه، يفيد التخيير بينها كما هو المشهور وكما سيأتي.

ومنها: رواية: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2).

ومنها: رواية: «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط»(3) وقد تقدم ذكرها.

إلى غير ذلك من الروايات، والدلالة فيها واضحة وتامة.

الجواب عن ضعف سندِ روايات الاحتياط

ولكن المشكلة في السند، حيث إن روايات هذه الطائفة بحسب التتبع الناقص كلها مراسيل، بينما روايات الطائفة الأولى والثانية فيها الصحيح والمعتبر.

ص: 162


1- بحار الأنوار:ج1 ص 226، وهذه الرواية طويلة ومشتملة على كثير من الآداب، قال العلامة المجلسي في سندها: وجدت بخط شيخنا البهائي (رحمه اللّه) ما هذا لفظه: قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي: نقلت من خط الشيخ أحمد الفراهاني (رحمه اللّه)، عن عنوان البصري.
2- الأمالي - للمفيد (رحمه اللّه) -: ص283، وكذا نقلها الشيخ (رحمه اللّه) في أماليه: ص110.
3- بحار الأنوار: ج105 ص183.

والجواب: هناك وجوه للتفصي:

الوجه الأول: ما فصلناه من حجية مراسيل الثقات(1)، فهذه مراسيل أرسلها الثقات معتمدين عليها؛ وذلك كاف في حجيتها في بناء العقلاء.

الوجه الثاني: التمسك باستفاضتها وشهرتها الروائية والفتوائية، فإن من المشهور شهرة كبيرة، ولعله إجماعي: أن الاحتياط حسن على كل حال.

الوجه الثالث: إن مضمونها مطابق لبناء العقلاء؛ ومطابقة المضمون لبناء العقلاء مما يصحح به السند والإسناد، أو فقل: مما يوجب الظن النوعي بالصدور فيصح الإسناد حينئذٍ.

وتفصيل الكلام عن هذه الوجوه يوكل لمحلها.

والحاصل: إن هذه الروايات من حيث حجيتها لا كلام فيها على إحدى الوجوه الثلاثة المتقدمة، ولو فرض عدم إيراث كل منها بوحده الاطمئنان؛ فإن في مجموعها الكفاية لأنه يورث الاطمئنان النوعي بصحة هذه الروايات واعتبارها.

وبالإضافة إلى هذه الروايات المعتضدة بكونها مطابقة لبناء العقلاء، فإنه لم يصل إلينا من الشارع ما يصلح للرادعية عنه(2)؛ لأن الاحتياط من شدة رسوخ حسنه لدى الناس بدرجة لا تكفي الأدلة الإرجاعية للاجتهاد أو التقليد لنفيه، لخفاء هذه الدلالة الالتزامية على عامة الناس بل والخواص.

وبعبارة أخرى: هنا مطلبان:

الأول: إن جواز الاحتياط بل حسنه أمر راسخ في النفوس.

ص: 163


1- راجع كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة).
2- أي الاحتياط.

الثاني: إن تلك الروايات الإرجاعية للاجتهاد والتقليد لو فرض فيها دلالة التزامية، فهي من الضعف بحيث لا تنهض لنفي بناء العقلاء والردع عنه، لأن العرف لا يفهم من هذه الألفاظ: «للعوام أن يقلدوه» ونحوها أنها في مقام نفي طريق الاحتياط، فتدبر.

الإشكال من جهة الحكم التكليفي بالتفقه والتقليد

الوجه الثاني(1) يستند إلى الحكم التكليفي بوجوب التفقه ووجوب التقليد، حيث كان الوجه الأول معتمداً على الحكم الوضعي والطريقية، وإجمال الإشكال هو: إن الأصل في الواجب - على المشهور(2) - أن يكون عينياً لا كفائياً، وتعيينياً لا تخييرياً، ونفسياً لا غيرياً طريقياً، وموطن الاستدلال هو الأصل الثاني(3)، فهذه هي الكبرى الكلية ومصداقها قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(4) فإنه أمرظاهره الوجوب، والأصل في الوجوب أن يكون تعيينياً لا تخييرياً، وكذلك الرواية: «فللعوام أن يقلدوه».

فلا يصح القول بالتخيير بين الاجتهاد والتقليد وبين الاحتياط لأنه خلاف أصالة التعيينية لا التخييرية، وهذا الأصل متأخر رتبة عن قاعدة (الشك في الحجية موضوع عدم الحجية) فحتى لو فرض عدم القول بالقاعدة لكان اللازم الجواب عن هذا الأصل، فتدبر.

تمهيد الجواب ببيان حقيقة الوجوب التخييري

وتحقيق الجواب عن هذه الشبهة، يتوقف إجمالاً على بيان مطالب: منها

ص: 164


1- من وجوه الإشكال والجواب عنه.
2- وربما يقال به في الجملة.
3- وهو الأصل في الوجوب عند الشك في كونه تعيينياً أو تخييرياً.
4- سورة التوبة: 122.

ذكر الأقوال في تعريف الوجوب التخييري، ومنها بيان وجه الاستناد إليه كأصل(1)؛ وسندرج بيان الثاني في ضمن بيان الأقوال فنقول:

الأقوال في حقيقة الوجوب التخييري

إن الأقوال في الوجوب التخييري متعددة، والأصل على جميع هذه الأقوال هو التعيينية لا التخييرية(2).

الأول: الوجوب التخييري هو التعييني مع فارق

إن الوجوب التخييري(3) هو نفس الوجوب التعييني(4)، ولكن مع فارق: أن الوجوب التخييري يسقط بامتثال غيره، وعليه: فإنه على خلاف القاعدة؛ لأن الفرض أن الأمر بشيء يسقط بامتثاله، أما أن يسقط بامتثال غيره فهو خلاف الأصل.

وفي المقام: إن الأمر ب- (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(5) يسقط بالتفقه والاجتهاد، أما أن يسقط بامتثال غيره - وهو الاحتياط - فهو خلاف القاعدة.

وكذلك الأمر الروائي بالتقليد: «للعوام أن يقلدوه» فإنه يسقط بالتقليد(6)، ولا يسقط بامتثال غيره أي الاحتياط، فالتخيير خلاف الأصل.

الثاني: الوجوب التخييري مآله إلى وجوب الجامع الانتزاعي

إن الوجوب التخييري مآله إلى وجوب أحدهما أو أحدها، أي وجوب الجامع الانتزاعي وذلك لأن (أحدها) أو (أحدهما) ليس جامعاً حقيقياً، إذ ليس

ص: 165


1- أي ما هو منشأ دعوى أن الأصل في الوجوب هو التعيينية.
2- أما مناقشة هذه الأقوال فيترك لمحله.
3- كخصال الكفارة.
4- كصلاة الظهر.
5- سورة التوبة: 122.
6- وهو المأمور به.

له وجود في الخارج؛ فإن ما في الخارج إما هذا بعينه أو ذاك بعينه، أما (أحدها) أو (أحدهما) فغير موجود في الخارج بل يستحيل وجوده(1)؛ إذ كل ما في الخارج هو هو وليس غيره فلا معنى للقول بأن (أحدها) أو (أحدهما) جامع حقيقي.

وعلى هذا الرأي فالأمر أيضاً واضح في كون التخيير خلاف الأصل، لأن متعلق الأمر هو (لِّيَتَفَقَّهُوا)، لا أحد الأمرين من التفقه أو الاحتياط، وبعبارة أخرى: إن الشرع أوجب (لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(2)، وإما أن ينتزع من (لِّيَتَفَقَّهُوا) عنوان أحدها أو أحدهما فهو مما يحتاج إلى مؤنة زائدة؛ وذلك بأن نثبت أولاً أن الاحتياط واجب، ثم ننتزع منه ومن ليتفقهوا جميعاً عنوان أحدهما، كما يلزم الدور منه أيضاً؛ لأن الفرض أننا نريد إثبات الاحتياط(3) بالجامع الانتزاعي، لكن الجامع الانتزاعي يثبت بالاحتياط - أي الوجوب التخييري للاحتياط - فيكون المثبِت هو المثبَت، ويستلزم توقف الشيء على نفسه وهو غير ممكن، فتأمل(4).

الثالث: الوجوب التخييري مآله إلى أحد الأمرين

إن الوجوب التخييري مآله إلى أحد أمرين:

أن يؤول إلى غرضين متباينين أو متدافعين

الأول: أن يؤول إما إلى وجود غرضين متباينين كلاهما مطلوب للمولى، لكن مع عدم إمكان الجمع بينهما(5) فيأمر المولى بهما تخييراً، ولا يأمر بأي منهما

ص: 166


1- فصلنا الكلام عن ذلك والمناقشة فيه في مباحث (التزاحم) فراجع. (يراجع موقع مؤسسة التقى الثقافية: malshirazi.com).
2- سورة التوبة: 122.
3- أي الوجوب التخييري للاحتياط.
4- ووجهه واضح.
5- أي عدم قدرة العبد على الجمع بينهما.

تعييناً؛ لأن الفرض أنه لا يمكن للعبد الجمع بينهما في مقام الامتثال، فلا يأمر المولى بهما معاً لعلمه بعدم القدرة على الامتثال، ولا يأمر بأحدهما بعينه لأنه ترجيح بلا مرجح، إذ الفرض أن كليهما حامل لغرض تام الاقتضاء، فلذا يأمر بهما تخييراً، وذلك كما لو كان في السفر إلى كربلاء المقدسة يوم الجمعة مصلحة ملزمة، وكان في السفر إلى الكاظمية المقدسة في نفس اليوم ونفس الساعة أيضاً مصلحة ملزمة، فيخير المولى عبده بينهما، ومن هذا القبيل التخيير بين صلاة الظهر والجمعة، وكذا الحال في خصال الكفارة.

وإنما لم يوجب المولى في مثل خصال الكفارة الجمع بينها لوجود مانع وهو إيجابه المشقة الشديدة، فاقتضت مصلحة التسهيل على المكلف رفع اليد عن الوجوب التعييني.

أو يؤول إلى وجود غرضيين تامي الاقتضاء، وأن يكون بينهما تدافع، فلذا أمر المولى تخييراً، وذلك كوجود غرض تام ومصلحة ملزمة في الاجتهاد، وغرض تام في الاحتياط ومصلحة ملزمة، وكلا الوجهين خلاف الأصل، حيث إن وجود غرض ثانٍ خلاف الأصل، سواء أكان مبايناً أم كان متدافعاً وكذلك التدافع بين الغرضين خلافه.

أن يكون الأمر بأحدهما بملاك غرض واحد

الثاني: أن يكون الأمر بكل منهما بملاك غرض واحد، من دون أن يكون هناك غرضان، فالأمر بأحدهما هو بنفس الملاك الذي بعث على الأمر بقسيمه مع وفاء كل فرد بالغرض، وحينئذ يكون الجامع في الحقيقة هو الواجب، وهما فردان له ويكون التخيير بينهماعقلياً في مقابل التخيير الشرعي(1)؛ فإذا تعلق

ص: 167


1- الفرق بينهما اصطلاحاً هو أن متعلق الوجوب إن كان جامعاً حقيقياً فالتخيير عقلي، وإن كان جامعاً انتزاعياً فالتخيير شرعي.

الأمر بالتفقه والاحتياط على سبيل البدل؛ فإننا نستكشف من تعلقه بالتفقه والاحتياط أن الجامع هو المأمور به، والتخيير بينهما عقلي(1).

وذلك أيضاً خلاف الظاهر، فيما لو ثبت تعلق الأمر بالاجتهاد وشك في التخيير بينه وبين الاحتياط، للشك حينئذ في تعلق الأمر بالجامع، إذ الأمر تعلق بالتفقة: (لِّيَتَفَقَّهُوا) لا الجامع؛ وتعلق الأمر بالجامع مسبوق بالعدم والأصل عدمه، وأما تعلق الأمر بالتفقه فإنه وكان مسبوقاً بالعدم أيضاً لكنه نقض بيقين لاحق: (لِّيَتَفَقَّهُوا)، بل يرد عليه إشكال الدور السابق(2).

النتيجة:

وعلى هذه المسالك الثلاث في الوجوب التخييري يتضح أن الوجوب التخييري بأي نحو كان فهو خلاف الظاهر وخلاف الأصل، لأن الأصل في قوله تعالى: (لِّيَتَفَقَّهُوا) كونه واجباً بالوجوب التعييني، فلا قسيم ولا عديل له باسم الاحتياط.

إن قلت: هذا كله في الوجوب النفسي، فإذا ثبت أن الواجب نفسي وشك بين وجوبه التعييني والتخييري، فالأصل كونه تعيينياً، والتخييرية خلاف الأصل، ولكن ذلك لا يصح في الواجب إذا كان غيرياً مقدمياً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن المشهور أن وجوب التفقه غيري (وكذلك التقليد) أي إنه واجب طريقي وليس واجباً نفسياً، حيث إن التفقه مقدمة للامتثال، ولو أمكن الامتثال بلا تفقه لكفى، وكذلك الحال في التقليد فإنه واجب غيري على المشهور، خلافاً

ص: 168


1- وهذا القول الثالث ذهب إليه الآخوند، وقد ذكرناه ههنا بتصرف وإضافات.
2- إذ يراد إثبات وجوب الاحتياط بإثبات وجوب الجامع، الذي يراد إثباته بوجوب الاحتياط، وبعبارة أخرى: وجوب الجامع فرع ثبوت وجوب الاحتياط إلى جوار وجوب الاجتهاد، وبالعكس.

للمحقق الأردبيلي (رحمه اللّه)(1) وقليل من الفقهاء، حيث ذهبوا إلى الوجوب النفسي للتعلم اجتهاداً كان أو تقليداً.

فلا مجال للأصل المذكور: أي التعييني إذا دار الأمر بينه وبين التخييري، إلاّ على قول غير المشهور.

قلت: إن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها(2)؛ لأن وجوبها منبعث عن وجوبه وتابع له؛ فإن كان تعيينياً فهو تعييني وإن كان تخييرياً فهو تخييري وإن كان أحدهما أصيلاً نفسياً والآخر تابعاً أو ظلياً غيرياً.

الجواب عن الشبهة

والجواب عن هذه الشبهة ظاهر مما مضى، إذ يقال:

أولاً: ظهر من الجواب الثالث أن هذا القسيم(3) هو أيضاً مأمور به في الروايات، مضافاً إلى أن بناء العقلاء عليه وقد أمضاه الشارع بتلك الروايات، بل إن عدم الردع عنه أيضاً كافٍ على ما تقدم.

والحاصل: إنه لا شك أن الاحتياط حسن ومأمور به بالمعنى الأعم من الوجوب والندب، ومع وجود الدليل فلا مجال للأصل حينئذ؛ فأصالة التعيينية لا مجال لها في مفروض المسألة، نعم إذا شككنا أن هذا الواجب بما هو هو مما يسقط(4) بامتثال غيره أو لا، نقول: الأصل العدم أي التعيين، لكن إذا دل دليل آخر على أن القسيم الآخر حجة ومجزئ، فالأمر يسقط بامتثال غيره مما هو في عرضه، حسب التعريف الأول.

ص: 169


1- تقدم نقل كلامه (رحمه اللّه) في هذا الخصوص.
2- فهو وجوب ظلي.
3- أي الاحتياط.
4- على التعريف الأول.

وأما حسب التعريف الثالث، فلا تجري أيضاً حينئذٍ أصالة العدم والتعيينية؛ لأن الأمر حيث تعلق بكل منهما فإنه يستكشف من ذلك إما وجود غرضين متعاندين أو متباينين، أو وجود غرض جامع بينهما، كان هو المتعلق، وبناءً على كل الوجوه يثبت الوجوب التخييري بين الاجتهاد والتقليد وبين الاحتياط بأدلة الاحتياط الأخرى وبذلك أيضاً يظهر اندفاع إشكال الدور بوضوح.

هذا كله لو قلنا بالنفسية في وجوب التعلم، وأما لو قلنا بالغيرية فيجاب بجوابين:

ما مضى من وجود أدلة نقلية وعقلية على كون الاحتياط قسيماً وبديلاً ومحققاً للغرض إضافة إلى الجواب الآتي وهو:

ثانياً: حيث كان وجوب التعلم طريقياً لا نفسياً كفى كل موصل للغرض أو المأمور به، والاحتياط موصل، وبعبارة أخرى: إن (ظلية وجوب المقدمة لذيها وتبعيته) يستكشف منه أمران:

الأول: أن الجامع بين المقدمات هو الواجب وليس هذه المقدمة الخاصة بخصوصها، فالمقدمة لا موضوعية لها، إنما تمام شأن مطلوبيتها مقدميتها، والكلي الطبيعي للمقدمات هو الجامع، فيكون الوجوب بين أنواع المقدمة من نوع التخييري إلا إذا دل دليل على خلافه.

الثاني: إن الجامع بين أفراد التفقه والجامع بين أفراد التقليد والجامع بين أفراد الاحتياط كلها من مصاديق الواجب التخييري لما ثبت من وجوب التعلم غيرياً لا نفسياً وان الموصل لامتثال أمر المولى أو تحقيق أغراضه هو المطلوب، بل لو أن الشارع أمر بأحدى المقدمات لدل ذلك عرفاً على كونه إرشاداً، أو أنه من باب أنها أفضل المصاديق، ولم يدل على الانحصار، كما في (لِّيَتَفَقَّهُوا)، أي لم

ص: 170

يدل ذلك على انحصار تحقق ذي المقدمة بهذه المقدمة إلاّ على وجه المصلحة السلوكية التي هي خلاف الأصل وخلاف الفرض؛ لأن الفرض هو أن التعلم مقدمي محض؛ وعلى فرض كونه مقدمياً فالوجوب التخييري لا مناص منه.

هل الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد أم العكس؟

وهناك مبحث آخر مهم وهو: هل إن الاحتياط هل هو في طول الاجتهاد والتقليد، أم العكس هو الصحيح، أم أن الثلاثة كلها فيعرض واحد؟

وبعبارة أخرى: هل الأولى أو لابد للمكلف أن يجتهد أو يقلد فإن عجز احتاط، أو يجوز بالمعنى الأعم أن يحتاط وإن اجتهد أو قلد أو أمكنه أن يجتهد أو يقلد.

الرأي الأول: إن الاحتياط هو في طول الاجتهاد والتقليد، وليس في عرضهما.

وقبل الشروع في الاستدلال والنقض والإبرام لا بد من تحقيق الموضوع وتحديد محل البحث والأخذ والرد، فنقول: إن (الطولية) يمكن أن تكون بإحدى الصور الأربع الآتية:

صور الطولية بين (الاحتياط) و(الاجتهاد والتقليد):

الصورة الأولى: إنه مع (إمكان) الاجتهاد أو التقليد لا موضوع للاحتياط.

الصورة الثانية: إنه مع (فعلية) الاجتهاد أو التقليد لا موضوع للاحتياط.

فعلى القولين لا يمكن الاحتياط مع إمكان أو فعلية الاجتهاد أو التقليد فإنه يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الصورة الثالثة: إنه مع إمكان الاجتهاد أو التقليد ينتفي حسن الاحتياط.

الصورة الرابعة: إنه مع فعلية الاجتهاد أو التقليد ينتفي حسن الاحتياط.

ص: 171

فعلى هذين القولين: الاحتياط ممكن (مع إمكان أو فعلية الاجتهاد والتقليد) لكنه ليس بحسن.

فهذه هي الصور الأربع المحتملة.

وعليه فاللازم التدقيق عند عرض أي استدلال أو ردّ، في أن مصبّه أي واحد من هذه الأربعة، فتدبر جيداً.

أدلة كون الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليدوقد استدل على الرأي الأول بعدة أدلة:

أدلة كون الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليدوقد استدل على الرأي الأول(1) بعدة أدلة:

الدليل الأول: تأخّر الاحتياط رتبةً

إن الاحتياط من الأصول العملية، فهو متأخر رتبة عن الأدلة الاجتهادية، وذلك كالبراءة؛ حيث إن موضوع البراءة العقلية والنقلية ينتفي مع وجود الأدلة الاجتهادية، فإن خبر الواحد الثقة علمي نزّله الشارع منزلة العلم، وألغى احتمال الخلاف، وكذلك الظواهر فهي جميعاً واردة(2) على البراءة، وكما أن أصل البراءة موضوعه يتحقق حيث لا دليل، ومع الدليل لا موضوع له، فكذلك الاحتياط بمعنى أن موضوعه منتفٍ مع تحقق الاجتهاد والتقليد أو مع مجرد إمكانهما.

والوجه في ذلك: إن الغاية من الاحتياط هو تحصيل الحجة على الإطاعة(3)؛ حيث إنه به قد امتثل كلا الأمرين، ومع وجود الاجتهاد أو التقليد فالحجة على الإطاعة موجودة؛ فيكون الاحتياط لغواً أو تحصيلاً للحاصل.

ص: 172


1- على أن الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد.
2- أو حاكمة - على القولين - وقد فصلنا الكلام عن ذلك في مباحث الحكومة والورود.
3- إطاعة العبد أوامر المولى.

بعبارة أخرى: كما أن الأمر يسقط بامتثاله ولا يمكن أن يمتثل من جديد؛ كذلك الحال بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد فإنهما حجة، ومعهما لا موضوع للاحتياط لأن الغاية منه تحصيل الحجة فيكون الاحتياط معهما تحصيل ما هو حاصل أو طلبه.

تقرير آخر للدليل الأول:

ثم إن المحقق النائيني (رحمه اللّه) قد عبر عن الطولية بتعبير آخر؛ (الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) من أنّ العقل يحكم بأنّه يعتبر في تحقق الاطاعة أن يكون العبد منبعثاً نحو العمل من بعث المولى لا عن احتمال بعثه، فالامتثال الاحتمالي يكون في طول الامتثال اليقيني بحكم العقل، فلا مجال للاحتياط مع التمكن من العلمبالواقع تفصيلاً على ما هو المفروض. وعلى تقدير عدم استقلال العقل بذلك لا أقل من الشك في اعتباره، لعدم استقلاله بعدمه، فيكون المرجع قاعدة الاشتغال، لأنّ الشك متعلق بمرحلة الامتثال وسقوط التكليف، فكان مورداً للاشتغال لا البراءة. وفيه: أنّ الاطاعة ليست إلاّ عبارة عن الاتيان بما أمر به المولى بجميع قيوده مضافاً إلى المولى)(1).

وبعبارة أخرى(2): إن التحرك والانبعاث يجب أن يكون - بحكم العقل - عن الأمر الجزمي، ويجب الامتثال التفصيلي للأوامر المولوية، وهذان الأمران متقدمان رتبة على التحرك عن الأمر الاحتمالي(3) وعلى الامتثال الإجمالي(4)، وهذا مع العلم بالطولية واستقلال العقل بذلك.

ص: 173


1- مصباح الأصول: ج1 ص81.
2- بتصرف وإضافة وتغيير.
3- أي الاحتياط.
4- في الاحتياط.

أما إذا شك في الطولية، وأن الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد أم في عرضهما ولم نعلم هل أن المولى جعلهما في رتبة واحدة أو جعل أحدهما متقدماً على الآخر، وأيهما هو المتقدم؟ فإنه لا يوجد ههنا أصل، لأن كليهما مسبوق بالعدم، فيتعارض الاستصحابان، إضافة إلى كون الأصل هنا مثبتاً، وحينئذ نرجع إلى الأصل المسببي والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، والاجتهاد والتقليد - على أي تقدير - مبرئان للذمة سواء أكانا في الطول(1) أم في العرض، فإن كانا في الطول تعين الأخذ بأحدهما، وإن كانا في العرض تخير المكلف بينهما وبين الاحتياط، أما الاحتياط فهو مشكوك فيه لأنه إن كان في العرض فهو مبرئ، وأما إن كان في الطول فليس بمبرئ.

إذن تقتضي قاعدة الاشتغال عدم جواز الأخذ بالاحتياط.

الدليل الثاني: الاختلاف في الاحتياط

إن الاحتياط مختلف فيه، والاجتهاد والتقليد لا خلاف فيهما؛ فإن الاحتياط في العبادات فاقد لقصد الوجه والتمييز، ومستلزم للعبث بأوامر المولى، وفي المعاملات فاقد لقصد الجزم؛ فلا إنشاء فلا تأثير(2)، في حين أن الاجتهاد والتقليد ليس مختلفاً فيهما، بل هما طريقان عقلائيان ممضيان شرعاً لإبراء الذمة ولا ترد عليهما الإشكالات السابقة.

الدليل الثالث: الاحتياط قسم وليس قسيماً

إن الاحتياط يعتمد على الاجتهاد والتقليد في أصله(3) وفصله(4)؛ فلا

ص: 174


1- أي سابقين رتبة.
2- وقد تقدم النقاش في هذه الإشكالات.
3- أي في مشروعيته وجوازه.
4- أي في تشخيص موارده.

يكون قسيماً ثالثاً، بل يكون قسماً وتابعاً لهما ومتفرعاً عليهما.

بيان ذلك: إن الاحتياط في أصل مشروعيته منوط بالاجتهاد والتقليد؛ إذ يشك العبد أنه لو أتى بهذا العمل احتياطاً فهل هو مبرئ للذمة أو أن عليه التعرف على أمر المولى تفصيلاً، فيجب عليه عقلاً أن يجتهد أو يقلد في مسألة جواز الاحتياط كي يصل بالحجة (وهي أن الاجتهاد أو التقليد) إلى أن الامتثال الاحتمالي هو بمنزلة الامتثال الجزمي.

كما أن تشخيص موارده بحاجة إلى اجتهاد أو تقليد أيضاً إذ قد يكون الاحتياط مذموماً(1) وقد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، وقد تجهل كيفيته.

بين الاجتهاد الساذج والتفصيلي

نعم يقع البحث في انه هل يكفي الاجتهاد الساذج أم لابد منالاجتهاد التفصيلي، فمثلاً في المستقلات العقلية ومنها الاحتياط، على القول بأنه منها، هل يكتفى بالاجتهاد الساذج الفطري بحسنه(2)، مستنداً إلى استقلال عقله بأن الاحتياط حسن على كل حال؟ أم لابد من الاجتهاد التفصيلي؛ بأن يكون قادراً على استنباط الحكم عن مختلف أدلته التفصيلية بتعارضاتها أو تزاحماتها؛ بل أن يكون قادراً على دفع الشبهات الواردة على المستقل العقلي، كالاحتياط والتي كانت محلاً للنقض والإبرام؟

وهذا البحث في غاية الأهمية مهم خاصة في علم الكلام والعقائد(3)

ص: 175


1- ذكرنا خمسة عشر مورداً مذموماً للاحتياط.
2- أو بقبحه على الرأي الآخر، أو بالتفصيل.
3- مثلاً هل يجوز أن يكتفي المكلف بإثبات وجود اللّه بالأدلة الفطرية، أم لابد أن يعرف الشبهات والإجابة عنها، وعلى أقل تقدير أن يجيب في الشبهات المهمة، أو كثيرة الابتلاء، أو ما كان منهما محلاً الابتلاء.

وتحقيق الاكتفاء بالاجتهاد الساذج البسيط فيها من عدمه، ليس هذا موضع تحقيقه، بل الكلام هو أنه سواء أقلنا: إن الاجتهاد الساذج كافٍ أم لا، فإن الاحتياط يحتاج إلى الاجتهاد، سواء في أصل مشروعيته أم في تشخيص موارده؛ إذ لا يمكن تشخيص المصاديق بلا اجتهاد أو تقليد كما سبق.

جواب القول بطولية الاجتهاد

للجواب على القول بأن الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد وأنهما متقدمان رتبةً عليه، لابد من تحقيق المراد من التقدم الرتبي، والاحتمالات ثلاثة:

1: التقدم بالتخصص.

2: التقدم بالورود.

3: التقدم بالحكومة.

فهذه احتمالات ثبوتية في المراد من التقدم لابد من تحقيق حال كل منها:

1: التقدم بالتخصص

الاحتمال الأول: أن يكون المراد من التقدم(1) هو التخصّص، أي إنه مع إمكان الاجتهاد والتقليد لا موضوع حقيقة للاحتياط، كما لا موضوع حقيقة ل- «رفع ما لا يعلمون»(2) مع وجود العلم فيقال بأنه مع انفتاح باب العلم والعلمي لا موضوع حقيقة للاحتياط.

المناقشة

ويردّ هذا الاحتمال وجهان:

ص: 176


1- بنحو من التوسع فيه.
2- الكافي: ج2 ص463 / التوحيد: ص353.

الوجه الأول: تعريف الاحتياط

إن تعريف الاحتياط هو: اتخاذ الحائطة أو طلبها أو الحيطة والتحوط على أغراض المولى الملزمة، أو على أوامره الملزمة إما بالجمع بين المحتملات أو بالإتيان بمحتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة(1)؛ لأن كلّاً من أغراض المولى وأوامره تام الاقتضاء لوجوب انبعاث العبد عنه بالجمع بين المحتملات أو بإتيان ما احتمل تعلق الأمر به.

وهذا التعريف الجامع بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، لا يختل ولا ينخدش ولا ينتفي محله حتى مع وجود الأدلة الاجتهادية، مثلاً من حصل له إنعراض(2) عن وطنه بأن رُحِّل عنه قسراً مثلاً ولم يعقد العزم على شيء، وشك في أنه هل هو بمنزلة الإعراض في انتفاء صدق عنوان الوطن أو لا فلو قام لديه الدليل اجتهاداً أو تقليداً على أن الانعراض بحكم الإعراض؛ فإنه يبقى لديه محل الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام، ولا شك في أن تعريف الاحتياط منطبق عليه.

مثال آخر: لو شك في أصل الوجوب، كما لو شك في وجوب جلسة الاستراحة في الصلاة، فله أن يطلب الحائطة على أوامرالمولى أو اغراضه؛ بالإتيان بها، فرغم أن الدليل قد دل فرضاً على عدم وجوبها، لكنه يبقى مجال الاحتياط لاحتمال أن يكون الدليل الاجتهادي غير مطابق للواقع.

الوجه الثاني: موضوع الاحتياط

ويرد هذا الاحتمال أيضاً موضوع الاحتياط ولعل عدم وضوح موضوعه كان هو السبب في نشوء هذه الشبهة، لأن موضوع الاحتياط لم ينقح لدى البعض، ولم يبحث كما بحث موضوع سائر الأصول فان موضوع البراءة منقح،

ص: 177


1- وهذا التعريف لعله أكمل من ما ذكر سابقاً.
2- وهو تصريف مسامحي إذ لم يرد في اللغة.

وهو عدم البيان في البراءة العقلية وعدم العلم في البراءة النقلية(1)،

وموضوع التخيير هو الخبران المتعارضان المتكافئان أو مطلق الدليلين المتعارضين المتكافئين، سواء أقلنا بأنه أصل أولي كما هو المختار أو ثانوي في خصوص الروايات المتعارضة(2)، وموضوع الاستصحاب هو المتيقن الملحوظ حالته السابقة المشكوك لاحقاً، فهذه كلها موضوعاتها واضحة.

وأما موضوع الاحتياط فهو: احتمال الأمر، أو احتمال الغرض(3)؛ فكلما احتملت أمراً أو غرضاً ملزماً للمولى فعليك أو يحسن لك أن تحتاط، وكلما احتملت أمراً ندبياً أو غرضاً غير ملزم فيحسن بك أن تحتاط.

وبعبارة أخرى: إن موضوع الاحتياط هو احتمال كون الإتيان بهذا الفعل امتثالاً لأمر المولى أو محققاً لغرضه، فإن كان الاحتمال بدوياً فالاحتياط مستحب، وإن كان مقروناً بالعلم الإجمالي فالاحتياط واجب.

والخلاصة: إن موضوع الاحتياط هو: احتمال الأمر أو الامتثال؛ واحتمال الأمر أو الامتثال موجود وجداناً رغم الدليل الاجتهادي، فلو دل الدليل الاجتهادي على استحباب القنوت أو جلسة الاستراحة وأحتمل وجوبها فإن الإتيان بهما احتياط حسن ولو دل على وجوب الجمعة في زمن الغيبة، واحتمل المكلف أن صلاة الظهر واجبة فله أن يجمع بينهما ما لم يقم الدليل على حرمة الجمع.

ص: 178


1- وهي (رفع ما لا يعلمون).
2- وعلى رأي يكون التخيير بالأخذ بأحدهما.
3- وسيأتي في البحث القادم أن البعض رأى أن موضوع الاحتياط هو: احتمال العقاب، وسيأتي الجواب عنه.

الفرق بين الاحتياط والبراءة

ومزيد تحقيق الكلام في ذلك يتم ببيان الفرق بين الاحتياط والبراءة ليتضح كيف أن الدليل الاجتهادي يرفع موضوع البراءة ولا يرفع موضوع الاحتياط، فنقول: فهناك فروق بينهما:

الفرق الأول:

إن البراءة موضوعها الشك، أما الاحتياط فظرفه الشك، وذلك لأن موضوع البراءة النقلية هو ما لا يعلم حكمه، أو عدم العلم ومجراها الشك في التكليف، وأما موضوع البراءة العقلية فهو اللا بيان، فإن القاعدة هي قبح العقاب بلا بيان.

وأما موضوع الاحتياط فليس الشك وما لا يعلمون، بل ظرفه ما لا يعلمون(1)، وذلك نظير الفرق بين الأمارات والأصول فكلاهما فيه شك؛ ولكن الفرق أن الشك في الأصول يكون موضوعاً، وفي الأمارات ظرفاً، ففي ظرف الشك يلجأ إلى خبر الواحد وإلى الظواهر أي الأمارات، لكن الأصول موضوعها الشك، وهذا الفرق بعينه يجري في المقام؛ فالبراءة موضوعها الشك، أما الاحتياط فظرفه الشك.

وبتعبير آخر: إن موضوع الاحتياط هو الاحتمال الأعم من صورة فقد الدليل مطلقاً ومن قيام العلمي على المؤدى، وإنما ينتفي موضوع الاحتياط بالعلم فقط، ففي صورة قيام علمي على الحكم الشرعي، فإن موضوع الاحتياط موجود وجداناً؛ لوجود احتمال الأمر أو الغرض كما سبق.

ص: 179


1- نعم موضوعه احتمال الأمر أو الغرض - كما سبق -، لكن الاحتمال غير الشك كما فصلناه في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها)، فراجع وتأمل.

وهذا على عكس البراءة؛ فهي خاصة بصورة الشك موضوعاً لا ظرفاً ولذا تبتني البراءة على الشك ولا تنفيه علماً ولا عملاً أما الاحتياط فينفيه عملاً، وفي صورة قيام علمي لا مجال للبراءة، لعدم صدق «ما لا يعلمون»، لأن العلمي نزل منزلة العلم، أو لأن «لا يعلمون» كنّي به عن الأعم من العلمي فيكون وارداً عليهما حينئذٍ، عكس الاحتياط فإنه مع قيام العلمي يصدق عنوانه وموضوعه وتعريفه كما سبق.

الفرق الثاني: إن البراءة تفوّت الحكم على تقدير وجوده واقعاً، أما الاحتياط فيحرزه.

الفرق الثالث: إن الاحتياط لسانه لسان العمل(1)، ولا تعلق له بالحكم نفياً أو إثباتاً، لا في مرتبة الباطن ولا في مرتبة الظاهر، فإن مقتضاه هو الجمع بين المحتملات أو الإتيان بالمحتمل، ولذلك لا ينفيه الدليل الاجتهادي وأما البراءة فلسانها لسان الحكم، بمعنى أنها تنفي الحكم الظاهري؛ حيث إن الحكم له مرتبتان، مرتبة الواقع ومرتبة الظاهر، وأصالة البراءة تنفي الحكم في مرتبة الظاهر، فإن مفاد «رفع ما لا يعلمون»، رفع الحكم في مرتبة الظاهر، أو فقل رفع تنجزه، لا رفعه في مرتبة اقتضائه وإنشائه وفعليته، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا يبقى مجال للحكم الظاهري.

في حين أن الاحتياط لا ينفي شيئاً من تلك المرتبتين، وإنما شأنه العمل(2).

ص: 180


1- أفعل هذا وأفعل ذاك.
2- وإن كان الاحتياط والبراءة أصلان، إلا أنه يوجد فرق بينهما؛ فإن كلمة الأصول العملية تحتاج إلى إيضاح؛ لأن ليس في هذا المصطلح رواية حتى ندور مدارها، بل الأصوليون لتسهيل الأمر نظموا المباحث الأصولية في مجاميع وسلاسل، وهذه السلاسل فيها مراتب، فالمتواتر والموثوق كلاهما من السنة، لكن هناك بون واسع بينهما، وكذلك بين النص والظاهر؛ فإن أحدهما مقدم على الآخر دون ريب، ولكن لتنظيم المباحث جُعلت في عناوين كلية، > < وهذه العناوين تحتاج الى فحص وتدقيق، فلا يتوهم بإطلاق لفظ الأصول العملية على الاثنين أنها بمستوى واحد لنسوقها بعصى واحدة، بل هناك فرق بينهما كما أوضحناه، نعم مآلهما الى العمل؛ لكن مصب الاحتياط هو العمل ولا شأن له بالحكم، وأما البراءة فمصبها الحكم. والحاصل: إن الاحتياط له تعلق بالعمل إيجاباً؛ فحيث كان احتمال الحكم موجوداً فاحتط بالعمل؛ أما البراءة فإن مفادها حيث احتمال الحكم فالحكم الظاهري البراءة فالفرق واضح.

فهذا هو الجواب الثاني عن الاحتمال الثبوتي الأول(1)، وقد أجبنا عنه بتعريف الاحتياط تارة، وببيان موضوع الاحتياط أخرى .

2: التقدم بالورود

الاحتمال الثاني: أن المراد من تقدم الاجتهاد والتقليد على الاحتياط هو التقدم بالورود.

توضيحه: إن أدلة الاجتهاد والتقليد وإن لم تكن نافية تكويناً مطلقاً(2) لموضوع الاحتياط، لكنها نافية له تكويناً تعبداً؛ لأن الورود هو ما يكون فيه الدليل نافياً لموضوع المورود عليه حقيقةً لكنه بعناية التعبد وذلك كما في البراءة «رفع ما لا يعلمون»؛ فإنه لو قام دليل اجتهادي فإن (لا يعلمون) تنتفي(3)؛ فيكون الدليل الوارد هو النافي لموضوع الدليل المورود حقيقة لكن بعناية التعبد.

وفي المقام قد يقال: إن الأدلة الاجتهادية ترفع موضوع الاحتياط حقيقة لكن بعناية التعبد، فحيث إن الشارع تعبدنا بخبر الثقة، فهذا يلغي احتمال العقاب وهو موضوع الاحتياط، فإنه مع ورود الحجة يقطع بعدم العقاب، وأما

ص: 181


1- وهو انتفاء موضوع الاحتياط بوجود الأدلة الاجتهادية.
2- المراد الأعم من النفي التكويني والتعبدي.
3- سيأتي أن «لا يعلمون» كناية عن عدم الحجة، أو لأن المراد الأعم من «لا يعلمون» الحكم و«لا يعلمون» الطريق، وهي منتفية بقيام الحجة، حقيقةً.

الحكومة فهي مبنية على أن موضوع الاحتياط هو احتمال الأمر أو الغرض فإنه لا ينتفي حقيقة بل تنزيلاً، وعلى كلا الوجهين (الورود أو الحكومة) ينتفي حسن الاحتياط مطلقاً كلما قام دليل اجتهادي؛ مع أن بناء العقلاء ليس على ذلك، كما ان بناء الفقهاء على حسن الاحتياط في الجملة حتى لو قام دليل اجتهادي.

وسيأتي نفي الحكومة لاحقاً، وأما ردّ دعوى الورود فنمهد لهبمقدمة وهي:

هل الأمارات واردة على الأصول أم هي حاكمة؟

إن المشهور ذهبوا إلى أن الأمارات واردة على الأصول، بينما ذهب بعض الأعلام إلى أنها حاكمة على الأصول استناداً إلى أن موضوع «رفع ما لا يعلمون» لم يرتفع حقيقة بقيام خبر الثقة، إذ رغم قيام خبر الثقة فانه لا علم وجداناً، وإنما هو ظن معتبر، فموضوع البراءة لم يرتفع حقيقة حتى بعناية التعبد.

وتمامية كلام المشهور موقوفة على إحدى وجوه ثلاثة نذكر أحدها، وهو:

إن «لا يعلمون» كناية عن الحجة(1)، أي رفع ما لا حجة عليه، وإذا صار موضوع حديث الرفع هو (ما لا حجة عليه) وكان خبر الواحد حجة، فإن موضوع حديث الرفع مرتفع بالوجدان حينئذ، ولكن هذا الارتفاع بعناية التعبد لا بالتكوين، وكأن الشارع قال: جعلت خبر الواحد حجة، فإذا جعله حجة فقد نفى اللاحجة تكويناً حقيقة.

وعوداً على دعوى الورود فإنه قد يقال: بأن أدلة الاجتهاد والتقليد واردة على أدلة الاحتياط؛ لأن أدلة الاحتياط موضوعها هو احتمال العقاب(2)؛

ص: 182


1- ويوضحه الحديث الآخر: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» فالنهي هو الرافع للبراءة، وهو الحجة.
2- هذا بحسب قول المستشكل، وأما المختار فهو أعم منه وهو أن الموضوع هو احتمال الأمر أو احتمال الغرض، وسيأتي.

واحتمال العقاب مع قيام اجتهاد معتبر أو تمامية تقليدٍ، مرتفعٌ قطعاً، لأن الشارع إذا أقام حجة واتبعها المكلف قبح منه العقاب قطعاً.

والحاصل: إن احتمال العقاب منتفٍ تكويناً حقيقة لكن بعناية التعبد؛ فقول الشارع مثلاً: (جعلت خبر الواحد حجة أو أمضيت حجيته) هو تشريع يتولد منه أمر تكويني؛ فإنه ينتفي به احتمال العقاب بالوجدان لمن يعلم أن الشارع ليس بظالم؛ إذ بقاء احتمالالعقاب يساوي احتمال كون الشارع ظالماً، ولا يعقل ذلك في حقه عز وجل.

وإذا كانت أدلة الاجتهاد والتقليد واردة على الاحتياط، فلا مجال للاحتياط بالمرة؛ كما لم يكن له مجال مع العلم بالحكم؛ فكيف يقول المشهور أو شبه الإجماع بجواز الاحتياط وحسنه؟ وكيف يكون بناء العقلاء وسيرة المتشرعة على حسن الاحتياط إما مطلقاً أو في الجملة؟

ثم إنه لو تمّ ما ذكر من الشبهة، لانتفت غالب موارد الاحتياط عن غالب المكلفين في غالب الأوقات إذ تنحصر حينئذٍ في صورة العجز عن الاجتهاد والتقليد.

المناقشة: موضوع الاحتياط ليس احتمال العقاب

والجواب: أن موضوع الاحتياط هو احتمال الأمر أو احتمال الغرض، وليس احتمال العقاب، واحتمالهما أعم من احتماله؛ فإنه مع المؤمّن الظاهري لا يحتمل العقاب لكن يحتمل وجود أمر واقعي أو غرض لم يصل إلينا ويتضح ذلك بالرجوع إلى أدلة الاحتياط وما دل على حسنه في الجملة:

فأما أولاً: فالعقل فإنه يستقل بحسن الاحتياط مع احتمال أمر المولى أو غرضه الملزم وإن لم يكن العقاب محتملاً بقيام دليل ظاهري، كخبر الظواهر، على حكمه.

ص: 183

وأما ثانياً: فالنقل وذلك لأن الأدلة لسانها إن موضوع الاحتياط هو احتمال الأمر، وليس احتمال العقاب.

فمنها: قوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1)، ولم تقل احتط لنفسك، ومعلوم أن الدين هو الأوامر والنواهي فاحتط لها، أي حاول أن تحرزها قطعاً، فإن كان احتمال أمر فاحتط للدين بإتيانه، ولو دار الأمر بين محتملات فاحتط بإتيان الجميع وهذا الاحتياط للدين متحقق ولو مع الأمن من العقاب.بل لو كان المحور هو العقاب لكان الأولى أن تعبر الرواية ب: «فاحتط لنفسك» أي بأن لا تقع في العقاب.

ومنها: قوله (عليه السلام): «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط»(2)، فالمدار في الحديث ليس على العقاب بل على الصراط، والصراط هو الشريعة والأوامر والنواهي، فيكون مصب الاحتياط موضوعاً وغاية هو الحفاظ على أوامر المولى وأغراضه الملزمة، بأن يكون امتثال المكلف لها امتثالاً قطعياً ولو بالجمع بين المحتملات.

ومنها: أن الاحتياط الوارد في لسان عدد من الأدلة ظاهر في أن موضوعه هو الأوامر والنواهي المحتملة في جميع الأدلة حتى في المتعارضين؛ كما في: «يأتي عنكم الخبران المتعارضان»(3)، فإن الإمام (عليه السلام) ذكر مرجحات ثم قال: «إذن

ص: 184


1- الأمالي - للمفيد (رحمه اللّه): ص283.
2- انظر بحار الأنوار: ج105 ص183؛ ولكن ما جاء في البحار لم ينقله عن المعصوم (عليه السلام) وإنما هو على لسان أحد العلماء؛ نعم ذكره صاحب الحدائق: ج1 ص76، وكذلك الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) مرسلاً في فرائد الأصول: ج2 ص78، وفي العقد الحسيني للشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي (رحمه اللّه): ص35، ونقله السيد البروجردي (رحمه اللّه) في جامع الأحاديث: ج1 ص332 عن الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) في رسائله عن الشهيد (رحمه اللّه) مرسلاً.
3- عوالي اللئالي: ج4 ص133.

بما فيه الحائطة لدينك»؛ فالكلام يدور عن الحائطة للدين لا عن العقاب.

وكذلك الروايات الأخرى الواردة في موارد خاصة؛ حيث إن لسانها ومصبها الحفاظ على الدين أولاً وبالذات.

لا ورود بين الاحتياط وأدلة الاجتهاد

والحاصل: إن أدلة الاجتهاد والتقليد حتى لو نفت احتمال العقاب، فإنه مع ذلك يبقى احتمال الأمر، واحتمال الغرض وجداناً فلا ورود؛ إذ لم ينتفِ موضوع الاحتياط.

وبعبارة أخرى: ان الاحتياط الراجح عقلاً موضوعه الأعم من احتمال الأمر(1)

واحتمال العقاب؛ ويشهد له أن المولى لو أمر عبدهوعلم العبد أنه سوف لا يعاقبه لو عصى(2) فإن عليه الامتثال ولا يسوغ له المعصية رغم أمنه من العقاب فتأمل: إذ المدار على استحقاق العقاب لا على فعليته، فتدبر.

وبتعبير أشمل: إنه حتى لو قلنا: إن موضوع الاحتياط هو احتمال العقاب؛ فإنه لا ينفي أن يكون احتمال الغرض واحتمال الأمر أيضاً موضوعاً للاحتياط على سبيل البدل، فلو انتفى أحد الموضوعات فالحكم موجود؛ لأن الموضوع موجود، فالمحمول مترتب على أحد الثلاثة على سبيل البدل؛ فأيها وجد لزم المحمول وهو الاحتياط. والأدق أن الجامع بينها هو موضوع الاحتياط.

ومن المناسب أن نعيد صياغة دعوى الورود (ورود الدليل الاجتهادي على الاحتياط) بعبارة أخرى والجواب عنها ببيان آخر يتضمن بعض ما سبق مع

ص: 185


1- شكراً للنعمة أو لغيرها.
2- لشفاعة أو غيرها.

إضافات عديدة فنقول:

إن القائل بالورود يرى أن الاحتياط وضع لتحصيل الحجة على الإطاعة والامتثال؛ ومع وجود الدليل الاجتهادي فالحجة موجودة على الإطاعة والامتثال؛ فلا يبقى موضوع الاحتياط.

الاحتياط لتحصيل الواقع لا الحجة

ويرد عليه: بأن الاحتياط قد شرِّع لتحصيل الواقع، لا لتحصيل الحجة على الإطاعة، على أنه لو كان فلطريقيته للأمر كما سيأتي.

والفرق بينهما كبير؛ إذ يبقى عند قيام الدليل الاجتهادي موضوع الاحتياط بالوجدان، فإنه رغم قيام الحجة على الواقع بالاجتهاد، لكن الواقع لا يحرز مائة بالمائة بمجرده والاحتياط محرز للواقع قطعاً؛ فموضوعه موجود.

إن قلت: هذه مجرد دعوى، فما الدليل على كون الاحتياط جعل لتحصيل الواقع؟

قلت: الأدلة متعددة:

فمنها: لسان الأدلة، ومنها: قوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتطلدينك»، والمراد بالدين الواقعي الثبوتي؛ لأن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، ففي «فاحتط لدينك» المراد من متعلق (احتط) هو (الدين)(1) الواقعي لا المتوهم وإن توصل إليه بدليل معتبر ومع قيام الدليل الاجتهادي غير القطعي أو مع التقليد غير المورث للقطع، لا زال الاحتياط للدين غير محقَّق.

والحاصل: أن المطلوب هو الاحتياط للدين، وليس الاحتياط لأجل تحصيل لحجة على الامتثال؛ بل ذلك موقوف على ارتكاب مجاز في التقدير بل أكثر من مجاز؛ إذ يكون معنى كلامه (عليه السلام) حينئذٍ (احتط لتحصيل الحجة على

ص: 186


1- وهو الواقع.

امتثال الدين).

ومنها: ما ثبت بالبرهان والوجدان من أن الاجتهاد والتقليد والاحتياط قد أخذت بنحو الطريقية المحضة للواقع، كما برهن عليه في محله، وكما هو رأي المشهور في مقابل من رأى المصلحة السلوكية في بعضها أو من اعتبر بعضها واجبات نفسية.

إذن: وجوبها طريقي مقدمي للواقع، والاجتهاد لا يحرز به الواقع مائة بالمائة، فيبقى موضوع الاحتياط كطريق موصل للواقع قطعاً.

ومنها: - وهو ترقّاً عما سبق - إنه حتى على القول بأن الغرض من تشريع الاحتياط هو تحصيل الحجة على الواقع أو تحصيل الحجة على الإطاعة؛ فإن مرجعهما إلى (تحصيل الواقع) لا محالة.

وتوضيح ذلك: إن الاحتمالات في الغرض من الاحتياط ثلاثة، وهي: تحصيل الحجة على الإطاعة والامتثال كما أدعى القائل، أو تحصيل الواقع، أو تحصيل الحجة على الواقع، ولكن لو كان الغرض هو تحصيل الحجة على الواقع أو تحصيل الحجة على الإطاعة وامتثال الواقع، فإنه يستبطن تحصيل الواقع(1)؛ ويفيد - عرفاً - مما مدارية الواقع ومحوريته، فلو كانت حجتان أحداهما فتوى الأعلم والثانية فتوى المفضول؛ فإن «أخوك دينك فاحتط لدينك» تعني - علىالاحتمال الثالث - احتط بتحصيل الحجة الأقرب للواقع وهي الأعلم لا غيرها، ومع وجود الحجة على الواقع ولتكن الأعلم، فإنه يبقى ذلك الملاك غير قطعي الوصول إليه؛ وعلى هذا يبقى المجال للاحتياط واسعاً.

إذن: تمام المدار والغاية والهدف والنتيجة هي الواقع، ولو جعلنا الموضوع

ص: 187


1- وهو الاحتمال الثاني.

هو تحصيل الحجة على الإطاعة لكان مستبطناً للاحتمال الثاني أيضاً.

والحاصل: إن القول بالاحتمالين الأخرين يرجع بالنتيجة إلى الاحتمال الثاني(1) ما دامت الطريقية هي المبرهن عليها.

ويرد عليه: إن ما سبق لا يبرهن الطريقية المحضة، وأغراض التشريع حِكَم أو - على الأقل - لا يعلم كونها عللاً فلا تدور الأحكام مدارها بل تدور مدار الموضوعات فالمدار تشخيص موضوع الاحتياط وأنه احتمال العقاب أو احتمال الغرض أو احتمال الأمر، كما سبق بيانه، نعم قد يستند في الغرض إلى مثل الصحيحة الآنفة و«إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا فَعَلَيْكُمْ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى تَسْأَلُوا عَنْهُ فَتَعْلَمُوا»(2) وفيه ما لا يخفى، فتدبر وتأمل.

3: التقدم بالحكومة

الاحتمال الثالث: إن أدلة الاجتهاد والتقليد حاكمة على أدلة الاحتياط، كما تقدمت الإشارة إليه؛ وعليه فإنهما لا ينفيان احتمال الأمر واحتمال الغرض حقيقة وإنما ينفيان الاحتمال تنزيلاً وتعبداً؛ وإذا انتفى الاحتمال تعبداً فهي الحكومة فلا مجال للاحتياط، وتحقيق ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمة عن الحكومة وبعض تعاريفها وفرقها عن الورود، وهي:

الحكومة وتعريفاتها

إن الشيخ (رحمه اللّه) عرّف الحكومة بتعريف، بل بتعريفين، كما سيأتي ولكن من جاء بعده من المحققين وجدوا فيها آفاقاً أوسع مما ذكره (رحمه اللّه)؛ لأن الشيخ (رحمه اللّه) حسب تعريفه للحكومة في كتاب التعادل والترجيح فسر الحكومة بحيث تختص

ص: 188


1- وهو تحصيل الواقع.
2- الكافي: ج4 ص391.

بصورة واحدة، والمحققون بعده ذكروا صوراً أربعة، وسوف نشير إلى عناوين هذه الصور تمهيداً لإثبات أنها لا تنطبق على المقام(1).

وموجز القول: ان الحكومة يختلف تفسيرها على حسب اختلاف المباني فيها، وقد ذكرنا ستة تفسيرات وأقوال فيها، في كتاب (الحكومة والورود) مع تفصيل مناقشاتها، فليراجع، ولا يهمنا الآن استعراضها وتحقيق القول فيها فانه موكول إلى ذلك البحث، لكن نشير ههنا فقط إلى أمرين:

الأول: إن للحكومة أنواعاً كالحكومة المصطلحة والحكومة العرفية، وإن الحاكم تارة يكون بنفسه ناظراً وأخرى يكون دليل اعتباره هو الناظر والحاكم، وإن الحاكم قد يكون بنفسه مفسراً وقد تتحقق به نتيجة التفسير كما صار إليه الميرزا النائيني (رحمه اللّه) في الفوائد(2)، وقد يكون النظر عمدياً مقصوداً وقد يكون قهرياً لازماً للمدلول كما صار إليه المحقق اليزدي (رحمه اللّه) في (التعارض) وكالتقسيم للحاكم الموافق للمحكوم والمخالف له وكالتقسيم إلى حكومة دليل على دليل أو دليل على أصل أو أصل على دليل أو بالاختلاف إلى غير ذلك من التقسيمات.

الثاني: ذكرنا في (الحكومة والورود) تعريفات للحكومة وهي:

تعريفا الشيخ (رحمه اللّه) للحكومة

لقد عرّف الشيخ (رحمه اللّه) الحكومة بتعريفين مختلفين في جهات عديدة وجامعها هو أن التعريف الأول أشمل من الثاني من جهات عديدة والثاني أخص من الحكومة بالتعريف الأول في مناحي مختلفة.

فقد عرّفه في آخر مباحث الاستصحاب ب: (ومعنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح -: أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب

ص: 189


1- المقام هو البحث في أن أدلة الاجتهاد والتقليد هل هي حاكمة على أدلة الاحتياط أم لا.
2- فوائد الأصول: ج4 ص711.

رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكم لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وسيجئ توضيحه)(1).

وعرّفه في أول كتاب التعادل والترجيح ب: (وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الدليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيناً لمقدار مدلوله، مسوقاً لبيان حاله، متفرعا(2) عليه.

وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغواً خالياً عن المورد. نظير الدليل الدال على أنه لا حكم للشك في النافلة، أو مع كثرة الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل، فإنه حاكم على الأدلة المتكفلة لأحكام الشكوك، فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك - لا عموماً ولا خصوصاً - لم يكن مورد للأدلة النافية لحكم الشك في هذه الصور)(3).

وتعريف آخر للحكومة لبعض الأعلام

التعريف الرابع(4): ما حكي عن بعضهم من (ثم إنه قد يحكى عن بعضهم في ميزان الحكومة: أنّ كل دليل كان تعقله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه، سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره، ولم يكن تعقل الآخر مستلزماً لتعقل الأول، فهو حاكم عليه، من غير فرقٍ بين أن تكون المنافاة بينهما بالمباينة أو بالعموم المطلق أو من وجه، قال: فإن تعقل عدم الضرر

ص: 190


1- فرائد الأصول: ج3 ص314.
2- وفي نسخة (متعرّضاً).
3- فرائد الأصول: ج4 ص13 - 14.
4- حسب تسلسل ذلك الكتاب.

والحرج مستلزمٌ لتعقلِ دينٍ مشتمل على التكاليف، وكذا تعقل وجوب البناءعلى الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها، وهكذا...)(1).

والتعريف الخامس: تعرض الدليل لما لا يتعرض له الدليل الآخر

وقد عرّف بعض الأصوليين الحكومة بتعريف آخر يختلف عن سائر التعاريف.

فقال(2):

إن الضابط في الحكومة هو أن يتعرض أحد الدليلين بمدلوله لبعض جهات الدليل الآخر، بنحوٍ من التعرض ولو بالدلالة الالتزامية العقلية أو العرفية، على أن لا تكون تلك الجهة والحيثية مما تعرض لها الدليل الآخر (المحكوم).

وعلى ذلك فالحاكم بلحاظ أنواع تعرضه لحيثيات المحكوم على أقسام.

وتعاريف أخرى تظهر من تطرقنا ل(المباني في سر تقدم الحاكم على المحكوم) وحسب تعريف الشيخ (رحمه اللّه) فإن لسان الحاكم لسان الإشراف على المحكوم وملاحظته وشرحه، ويقرّبه إلى الذهن: الملاحق الموضحة والشارحة للدساتير في الوقت الحاضر.

وأضاف الشيخ (رحمه اللّه) في تعريفه الثاني قيداً أو كاشفاً رأيه عليه؛ هو أنه (لولا دليل المحكوم لما كان للحاكم مورد) بمعنى أن يكون وجود الدليل الحاكم لغواً لولا وجود المحكوم(3)، فهذا هو معنى الحكومة لدى بعض الأعلام.

ص: 191


1- كتاب التعارض - لليزدي (رحمه اللّه) -: ص60 -61.
2- بتصرف وإضافات عديدة.
3- قد ذكره جماعة منهم السيد القزويني قديماً والسيد الخوئي حديثاً .، وجاء في التعليقة على المعالم: (ومن آية ذلك أنّه لولا الدليل المحكوم عليه لزم اللغو في الدليل الحاكم، بخلاف التخصيص فإنّه لولا العامّ المخصّص لم يكن المخصّص لغواً) التعليقة على المعالم: ج5 ص299.

أقسام الحكومة

ذكرنا أن الشيخ (رحمه اللّه) اقتصر في تعريفه الثاني للحكومة (وهو الذي في باب التعادل والترجيح) على قسم واحد من الحكومة، حتى أضاف إليها المحققون من بعده أقساماً أخرى فأصبحت أربعة أقسام.

وجه البحث عن الحكومة

وقبل بيانها بإيجاز نشير إلى أن اصطلاح الحكومة والورود مخترع للفقهاء ولم يرد في لسان الشارع، ولعل أول من ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) ونقحه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه)، ثم فصّله من جاء بعده أكثر.

وإذا كان ذلك كذلك فقد يقال: إذا لم يكونا اصطلاحين شرعيين فلماذا ندور مدارهما في الأصول؟

والجواب هو: أن السبب في ذلك أن هذا التحقيق الدقيق يرجع إلى أمر عقلي عرفي، يتعلق بالظواهر ولسان الأدلة حيث المرجع فيها العرف، كما يرجع إلى تنقيح بناء العقلاء، وبناؤهم حجة من غير حاجة إلى إمضاء ولو بعدم الردع، نعم الردع مانع كما حققناه في بحث آخر(1).

بل إن هذا البحث يجب أن يعدّ من أهم الابتكارات العلمية - الإنسانية - الحقوقية - القانونية لفقهائنا في تحقيق أنواع الاعتبارات والعلائق بين الأدلة، أنواع الحكومة والورود، وسيرة العقلاء جرت عليها وإن لم يعرفوا مفاهيمها وأنواعها وفوارقها بالضبط، فمثلاً في أعراف الدول اللاجئ ليس مواطناً، لكنه إذا بقي في بعض الدول مدة خمس سنين مثلاً والتزم بضوابطهم فإن من بيده الاعتبار يعتبره مواطناً، أي يتصرف من بيده الاعتبار في توسعة دائرة (المواطن) فينزل غيره

ص: 192


1- راجع بحث (حق الخلو - السرقفلية).

منزلته لذا يمنحه الجنسية؛ أما في القانون الإسلامي فإن الاعتبار أوسع، فإن أي شخص يسكن تلك الدولة يصبح مواطناً له كافة الحقوق.

وبعبارة أخرى: إننا عند مراجعة الأعراف العامة والخاصةنجد أن هذه المفاهيم متداولة عندهم، إلاّ أنهم لم يؤطروها بهذه الصورة المتكاملة المتبلورة؛ كما هو الحال في علم المنطق، فإنه فطري؛ لكن من لم يدرسه ولم يؤطره ولم يمنهجه ولم يراع قواعده عند التفكير ربما يقع في الخطأ، فعلى الرغم من أن الناس بالارتكاز - ولو في الجملة - يطبّقون القواعد المنطقية وإن لم يعرفوا كيف يعبّرون عنها، لكنهم كثيراً ما يقعون في الخطأ بدون المعرفة العلمية الشاملة بالمنطق، كذلك القواعد الأصولية تحتاج إلى تأطيرها في قالب صحيح؛ وبذلك يمكن تطوير الكثير من العلوم.

وأما الوجه في كون أقسام الحكومة أربعة، فهو: لأن الناظرية والشارحية هي:

إما إلى عقد الوضع(1).

أو إلى عقد الحمل(2).

وكل منهما إما بالتوسعة أو بالتضييق؛ فهذه أربعة أقسام.

القسم الأول: الحكومة على عقد الوضع، توسعةً

الأول من أقسام الحكومة: هو الناظرية إلى عقد الوضع والتصرف فيه بنحو التوسعة، وتنزيل ما ليس موضوعاً حقيقةً بمنزلة الموضوع تعبداً، وذلك كقوله (عليه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(3)، فإن الطواف ليس بصلاة حقيقة، لكن

ص: 193


1- المبتدأ، أي المسند إليه.
2- المحمول، أي المسند.
3- عوالي اللئالي: ج1 ص215.

الشارع نزّل الطواف - الذي هو حقيقة تكوينية مباينة للصلاة - بمنزلة الصلاة، فوّسع في دائرة موضوع الصلاة، فصار لموضوع الصلاة فردان: حقيقي وتنزيلي.

ويترتب على ذلك ثمرات، منها وجوب الطهارة للطواف، إذ الكبرى هي: الصلاة يجب فيها الطهارة؛ فالموضوع (الصلاة) والمحمول (وجوب الطهارة من الوضوء أو الغسل) والصغرى «الطواف بالبيت صلاة» مما أدخل الطواف في دائرة الموضوع،فيترتب عليه المحمول، مما يدل على اشتراط الطهارة في الطواف، حتى لو لم يكن لدينا دليل خاص على وجوب الطهارة في الطواف، فإن هذا التنزيل يكفي في جوب الطهارة في الطواف، وكذلك حال الأدلة التي تفيد أن ولد الكافر كافر وولد المسلم مسلم.

القسم الثاني: الحكومة على عقد الوضع، تضييقاً

الثاني من أقسام الحكومة: هو الناظرية إلى عقد الوضع والتصرف في الموضوع بنحو التضييق، عكس القسم الأول؛ وذلك كالأمارات والأدلة الاجتهادية بالنسبة للأصول العملية - على قول -، وكما في: (لا شك لكثير الشك)(1)، أي إن الشارع أنزل الشاك منزلة اللاشاك، وإلا فهو وجداناً شاك؛ فأخرجه من دائرة الشاك، وبذلك ضيق الموضوع وأخرج منه بعض الأفراد وهو كثير الشك.

وعليه: فإن من شك أنه ركع أو لا ولم يتجاوز المحل يبني على العدم، أما كثير الشك فيبني على الوجود - خلافاً للأصل - ولو شك كثير الشك أنه ركع ركوعين أو ركوعاً واحداً يبني على أنه لم يركع ركوعين، فكل طرف يكون

ص: 194


1- هذا القول قد لا يكون حديثاً عن المعصوم (عليه السلام)، وإن جاء على لسان كثير من الأعلام على هذا النحو، وإنما هو مستخرج من مضمون بعض الروايات؛ وهو قاعدة فقهية مسلمة بينهم.

صحيحاً - سواء الأقل أم الأكثر - فإنه يبني عليه، عكس الشاك العادي فإن مرجعه الأصول العملية، إلا لو تدخل الشارع فيعمل كما قال، وذلك كما لو شك بين الثلاث والأربع فإنه يبني على الأربع ويأتي بركعة الاحتياط، وأما كثير الشك فيقال له: لا تعتنِ بهذا الشك، وابنِ على الصحة، ولا ترتب الأثر المعهود من البناء على الأربعة والاحتياط بركعة.

ومن الحكومة بالتضييق موضوعاً: «لا شك في النافلة»(1) و«لا شك بعد لفراغ»(2) و«لا شك للإمام مع حفظ المأموم»(3).ففي كل هذه الموارد هو شاك حقيقةً بالوجدان، لكن الشارع اعتبر هذا الشك كلا شك، وأخرج الشاك من دائرة الشاك، بتضييق دائرة الموضوع. وقد ذكر الشيخ (رحمه اللّه) أمثلة لهذا القسم.

القسم الثالث: عقد الحمل توسعةً

الثالث من أقسام الحكومة: الناظرية إلى عقد الحمل بالتوسعة، بأن يوسع دائرة المحمول؛ كما في قوله (عليه السلام): «لا صلاة إلا بطهور»(4) مع قوله «التيمم أحد الطهورين».

ص: 195


1- وهذه قاعدة فقهية مستخرج من الروايات، راجع الكافي: ج3 ص360. عن عبيد اللّه الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «.. ولا سهو في سهو، ولا سهو في نافلة، ولا إعادة في نافلة».
2- إشارة إلى قاعدة الفراغ المروية؛ رواها في التهذيب: ج2 ص344 عن ابن بكير، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو».
3- لقاعدة لا شك للإمام والمأموم مع حفظ الآخر، المستخرجة من الروايات؛ انظر الكافي: ج3 ص359: عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه بإيقان منهم، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام».
4- الكافي: ج3 ص63.

فالموضوع (الصلاة) والمحمول(1) (الطهارة)؛ والشارع كما يتصرف تارة في الموضوع، ويتصرف أخرى في المحمول أي في الطهور ويوسع دائرته، فيقول: «التيمم أحد الطهورين»(2)، فنزّل التيمم منزلة الطهارة، ووسع دائرة المحمول وهو الطهور فجعله يشمل التيمم، وإلا فهو وجداناً - لولا هذه التوسعة - ليس بطهور، وكذلك قاعدة الطهارة فانها توسع من عقد الحمل حتى على كونها أصلاً.

القسم الرابع: عقد الحمل تضييقاً

الرابع من أقسام الحكومة: الناظرية إلى عقد الحمل بالتضييق،وهو التصرف في المحمول بتضييقه عكس القسم الثالث.

وأمثلته: القواعد الفقهية المشهورة، كقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): «لا ضرر ولا ضرار»(3).

وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(4).

ص: 196


1- توسعاً: وإلا فهي قيد الموضوع، أو يقال بإرجاع «لا صلاة إلا بطهور» إلى «الطهور به تصح الصلاة» فيكون من التوسعة في الموضوع، وقد أوضحنا في كتاب (الحكومة والورود) وجه كون هذا المثال من التوسعة في الموضوع أو المحمول كليهما.
2- الكافي: ج3 ص64.
3- الكافي: ج5 ص280.
4- سورة الحج: 87. وهذه الآية الشريفة قد استشهد بها الأئمة (عليهم السلام) في كثير من الأحكام، منها ما رواه في الكافي: عن ابن مسكان قال: حدثني محمد بن الميسر قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان، قال: «يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل، هذا مما قال اللّه عز وجل: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ». الكافي: ج3 ص4.

فالمشهور(1) أن أدلة نفي الضرر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية، أي مضيقة لدائرة عقد الحمل، فإذا ورد (الصوم واجب) مثلاً فالمحمول هو (واجب)، ولكن قاعدة (لا ضرر) تفيد الصوم الضرري ليس بواجب؛ فتتصرف في دائرة المحمول(2) بالتضييق.

وكذا لو كان في غسل الجنابة حرج شديد؛ فإنه يسقط وجوبه بالنسبة لما يشترط فيه الطهارة، فقد ضيّقت (لا حرج) دائرة وجوب الغسل، وأفادت عدم وجوب غسل الجنابة فيما يشترط فيه الطهارة على من يقع في حرج جراء الغسل وينتقل فرضه إلى التيمم.

احتمالان في (لا ضرر)

وهنا لفتة دقيقة، وهي أنه يوجد في (لا ضرر) احتمالان:

الاحتمال الأول: وهو أن (لا ضرر) و(لا حرج) تتصرف في عقد الحمل، كما مضى من أن مفاد القاعدة: بأن الصوم الحرجي لا وجوب له، وإن كان صوماً؛ فهنا قد ضُيقت دائرة الصوم الواجب أي دائرة وجوب الصوم.

الاحتمال الثاني: وهو أن (لا ضرر) و(لا حرج) تتصرف في عقد الوضع بالتضييق، بأن يكون مفاد (لا ضرر) إن الصوم الضرري لا يعتبره الشارع

ص: 197


1- ومن الأعلام الذين ذهبوا إلى هذا القول الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في فرائد الأصول: ج2 ص462، والمحقق النائيني (رحمه اللّه) في فوائد الأصول: ج1 ص257، في حين خالف هذا القول صاحب الكفاية (رحمه اللّه) في كفايته ص382، فقال: إن (الحكم الثابت بعنوان أولي: تارة يكون بنحو الفعلية مطلقاً، أو بالإضافة إلى عارض دون عارض، بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله. وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي، وأن العارض مانع فعلي، هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل).
2- أي الحكم.

صوماً، لا أن الصوم الضرري غير واجب؛ بل إنها تنفي كون الصوم الضرري صوماً تعبّداً، وتفيد تنزيله منزلة العدم.

مثال تطبيقي: نوع الحكومة في قاعدة الإلزام.

إن قاعدة الإلزام تتقدم على الأدلة الأولية بالحكومة، ولكن يقع البحث في نوعها، فمثلاً الأدلة الأولية تفيد أنه لا يقع الطلاق إلاّ بشاهدين عدلين، بينما تفيد قاعدة الإلزام: إن الطلاق يقع من المخالف حتى بدون شاهدين عدلين، وذلك بناء على أن مفاد قاعدة الإلزام هو الحكم الواقعي الثانوي.

فهنا توجد ناظرية وحكومة، لكن هل تصرفت أدلة الإلزام في عقد الوضع، أم في عقد الحمل، وهل هذا التصرف بالتوسعة، أم بالتضييق؟

فنقول: إن قاعدة الإلزام تارة ترفع الموضوع وتكون مضيِّقة لعقد الوضع، وأخرى تضع الموضوع فتكون موسِّعة في عقد الوضع.

ففي طلاق المخالف بلا شاهدين تفيد قاعدة الإلزام تنزيله منزلة الطلاق الصحيح؛ فهذه توسعة في دائرة الطلاق الصحيح، وفي مواضع أخرى تفيد تضيق دائرة الموضوع، فتخرج بعض المصاديق عنه على حسب التزام ذاك الطرف؛ وذلك كما في النكاح بلا إشهاد أو بلا إشهار - فإن لهم في ذلك رأيين(1) -

ص: 198


1- حيث ذهب إلى شرط الأشهاد أبو حنيفة والشافعي، ولم يشترطه مالك، هذا ما ذكره صاحب فيض القدير: ج5 ص469، ولكن في بداية المجتهد: ج2 ص15 لابن رشد الحفيد، الذي هو مالكي المذهب: اشتراط الإشهاد في النكاح لمالك أيضاً؛ حينما قال: (واتفق أبو حنيفة والشافعي ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح، واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول، أو شرط صحة يؤمر به عند العقد، واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر، واختلفوا إذا أشهد شاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أو ليس بسر، قال مالك: هو سر ويفسخ، وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس بسر)، وأما الحنابلة فهم أيضاً شرطوا الإشهاد في النكاح؛ قال ابن قدامة في المغني: (إنه لا ينعقد إلا بشهادة مسلمين سواء أكان الزوجان مسلمين أم الزوج وحده، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا كانت المرأة ذمية صح بشهادة ذميين). المغني: ج7 ص340.

فإنه باطل عند المخالفوصحيح عندنا، وحيث لم يعتبره العاميّ نكاحاً؛ فإن الشارع ينزّل هذا النكاح الصحيح منزلة اللا نكاح مما ضيق دائرة الموضوع.

إذن فقاعدة الإلزام تارة تضيق دائرة الموضوع وأخرى توسّع فيه بحسب المُلزَم به، ولكن هل توسع أو تضيق في عقد الحمل أم لا؟

والتحقيق: إن الأمر تابع لمطلبين: الأول: القول بالحقيقة الشرعية في الطلاق والنكاح أو القول بالعدم، فعلى القول بها يكون التصرف في عقد الوضع في مثل ما لو أجرى المخالف النكاح بلا إشهاد وكان باطلاً عنده، فإنه قد يقال بأنه ليس بنكاح شرعاً لحكومة الإلزام على الأدلة الأولية فهو ليس بنكاح تنزيلاً، وإلا فالتصرف في عقد الحمل، الثاني: لحاظ لسان أدلة القاعدة فقد يقال: إن بعضها يفيد التصرف في الوضع وبعضها يفيد التصرف في عقد الحمل وبعضها مجمل من هذه الجهة.

فمن الأول (قلت له: امرأة طلقت على غير السنة. قال (عليه السلام): «تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير زوج»)(1) فإن ظاهر «بغير زوج» أنها ليست حينئذٍ زوجة حقيقية (على الحقيقة الشرعية) أو تنزيلاً (على العرفية).

ومن الثاني: (قال: سالته عن الأحكام، قال (عليه السلام): «تجوز على أهل كل ذوي دين ما يستحلون»)(2) بناء على إرادة الجواز لا النفوذ بل بناءً عليه أيضاً، وقوله: «خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنتهموقضاياهم»(3).

ومن الثالث قوله (عليه السلام): عن الْمُطَلَّقَةِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ أَيَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: «أَلْزِمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَلْزَمُوهُ أَنْفُسَهُمْ وَتَزَوَّجُوهُنَّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ». قَالَ

ص: 199


1- تهذيب الأحكام: ج8 ص58.
2- وسائل الشيعة: ج26 ص158.
3- الكافي: ج13 ص576.

الْحَسَنُ وَسَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ سَمَاعَةَ وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ طُلِّقَتْ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ أَلِيَ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقُلْتُ لَهُ: أَلَيْسَ تَعْلَمُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حَنْظَلَةَ رَوَى إِيَّاكُمْ وَالْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثاً عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُنَّ ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ؟ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ أَوْسَعُ عَلَى النَّاسِ». قُلْتُ: وَأَيَّ شَيْ ءٍ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ؟ قَالَ: «رَوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: أَلْزِمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَلْزَمُوهُ أَنْفُسَهُمْ وَتَزَوَّجُوهُنَّ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ»(1) فإن لا بأس غير ناطق، وقد يدعى ظهوره في عقد الحمل.

وتحقيق الكلام والمناقشة في بعض ما ذكر والأخذ والرد موكول إلى مبحث قاعدة الإلزام.

وهنا يأتي سؤال تطبيقي في مثال معاصر: ففي بعض الدول القانون على أنه لو أرتكب شخص جرماً، وثبت طبيّاً أنه مصاب بمرض نفسي(2)، فهنا ترتفع عنه بعض أو جميع الأحكام القانونية؛ فهذه ناظرية للأدلة الأولية عندهم، فهل هذا رفع أم وضع، وهل هو في عقد الموضوع أم المحمول؟

النسبة بين الاجتهاد والتقليد وبين الاحتياط

إذا تمهد ذلك فيقع البحث في أن أدلة الاجتهاد والتقليد هل هي حاكمة بأحد الأقسام الأربعة على أدلة الاحتياط أم لا؟

فنقول: أما الحكومة بمعنى التصرف في الموضوع تضييقاً أو توسعةً، فلا مجال للقول بها لأن موضوع الاجتهاد والتقليد(3) هو الدين، وكذلك موضوع الاحتياط هو الدين؛ فموضوع أحدهما هو عينموضوع الآخر فكيف يتصرف به؟

ص: 200


1- تهذيب الأحكام: ج9 ص58 -59.
2- أو حتى لو احتمل أحياناً إصابته بهذا المرض.
3- أو متعلّقه.

والحاصل: إن مرجع أدلة الطرفين إلى (تفقه في دينك) و«احتط لدينك»(1).

فههنا حكمان ثبتا لموضوع واحد، ولا مجال لتوهم ناظرية أحد الموضوعين لموضوع الآخر وتفسيره له بل حتى لو قلنا أن النسبة بين (الدين) في دليل التفقه و(الدين) في دليل الاجتهاد هي من وجه إذ ما يمكن الاحتياط فيه من الدين أو ما يصح منه، هو بعض مسائله كما أن ما يحتاج إلى التفقه هو بعض مسائله، والنسبة بين المجموعتين من وجه أو مطلق، فتدبر؛ فإنه لا مجال لتوهم ناظرية أحد الدليلين للآخر.

ويرد عليه: إن موضوع الاحتياط ليس هو الدين، بل الدين هو متعلقه، وأما موضوعه فهو - كما سبق - احتمال الأمر أو الغرض أو العقاب، والتفقه رافع للاحتمالين الأولين تعبداً فهو الحكومة ورافع للاحتمال الثالث حقيقة فهو الورود، ولو قيل بأن موضوع الاحتياط التحيّر كان الدليل الاجتهادي حاكماً أيضاً، أو قيل بأنه عدم الدراية المشار إليها بقوله (عليه السلام): و«إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا فَعَلَيْكُمْ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى تَسْأَلُوا عَنْهُ فَتَعْلَمُوا»(2)، فإن الدليل الاجتهادي والتقليد رافعان لها تعبداً فالحكومة، إلا إذا قيل بأن «لم تدروا» كناية عن عدم الحجة، فالورود.

نعم قد يفصّل بين أدلة الاحتياط وبين مثل «أخوك دينك فاحتط لدينك» ومثل: «إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا فَعَلَيْكُمْ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى تَسْأَلُوا عَنْهُ فَتَعْلَمُوا» فعلى الأخير التفقه حاكم أو وارد إذ موضوعه كما سبق وأما على الأول (أي كون مدرك الاحتياط مثل أخوك دينك فاحتط لدينك) مع تسليم أن

ص: 201


1- قال تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وورد «أخوك دينك فاحتط لدينك».
2- الكافي: ج4 ص391.

ظاهره أن الدين هو بنفسه موضوع الاحتياط من غير تقدير أمر(1) فيكون البحث كما سلف، وعليه:

تخرج صورتان من أقسام الحكومة الأربعة.

نعم، يبقى الكلام في عقد الحمل، فهل (تفقه) ناظرة إلى (احتط) كما هو رأي القائل بالحكومة، أو هل (احتط) ناظرة إلى (تفقه)، كما أن (لا ضرر) قد تصرفت في (وجوب الصوم)؟

والجواب عن الحكومة: أن التفقه والاحتياط عنوانان مستقلان، كلاهما مطلوب ولا مانعة جمع بينهما؛ ولا يرى العرف مفسرية أحدهما للآخر فإننا إذا ضممنا هذين الدليلين بعضهما إلى بعض(2)، فقلنا: (تفقه في الدين واحتط فيه)، مثلاً لم نر تنافياً بينها عكس (وجوب الصوم) و(لا ضرر) فإنهما متنافيان والعلاقة هي علاقة مانعة جمع؛ لأن وجوب الصوم يعني إلزاميته، في حين أن (لا ضرر) يفيد رفع الصوم الضرري، أي رفع وجوبه وإلزاميته أو رفع أصل جوازه؛ فالقضية مانعة جمع، وكذلك العلاقة بين أحكام الشك، وبين مثل (لا شك لكثير الشك) فإنهما لا يجتمعان لولا حكومة الأخير، وأما هنا فأي منعِ جمعٍ بين الأمرين(3)، فرغم أنك تفقهت فاحتط ما دام هذا التفقه ليس قطعياً.

والنتيجة: أن كليهما مطلوب، ولكن حيث إنا نعلم من الخارج - لا بلحاظ لسان الدليل نفسه(4)، ولو ببناء العقلاء أو سيرتهم - بأن الاجتهاد مجزئ ومبرئ للذمة، ومع ذلك نجد الأمر بالاحتياط في الروايات نظير: «أخوك دينك فاحتط

ص: 202


1- كالحيرة فيه أو احتمال أوامره وأغراضه.. الخ.
2- أي ضممننا المحمولين.
3- وهما: (تفقه في الدين) و(احتط فيه).
4- بل قد يكون الإجزاء مستفاداً من لسان بعض أدلة الاجتهاد والتقليد، بإحدى الدلالات، عرفاً.

لدينك»، فإن مقتضى الجمع بين الدليلين هو القول بأحد الوجوه الآتية فيرفع بها التنافي المتوهم، وهي:

وجوه الجمع بين أدلة الأمر بالتفقه والأمر بالاحتياط

وجوه الجمع بين أدلة الأمر بالتفقه(1) والأمر بالاحتياط

1: الوجوب التخييري

الوجه الأول: أن نذهب إلى الوجوب التخييري بين التفقه والاحتياط، كما هو الأصل في الطرق؛ حيث إن التفقه والتقليد والاحتياط طرق لامتثال أوامر المولى؛ فإذا قال: اجتهد، وقال: قلِّد، وقال: احتط، دل ذلك على الوجوب التخييري بينها، وذلك بعد الفراغ عن أنه لا مجال للقول بالمصلحة السلوكية في الاحتياط.

وبتعبير آخر: إن ضم أحدهما إلى الآخر لا ينفي أصل صحة الاحتياط فيما اجتهد فيه أو قلّد، كما لا ينفي أصل وجوبه (التخييري)؛ كما يدعي ذلك القائل بالحكومة؛ وإنما ينفي تعيينية الطريقية والوجوب؛ فيكون وجوب كل منها وطريقيته على سبيل البدل؛ فإن مقتضى القاعدة أن يلاحظ منشأ التعارض فيرفع لا أكثر؛ فإذا نشأ التعارض من التعيينية في كلا الدليلين فترفع اليد عن التعيينية؛ إذ لا تعارض في غيرها، بل الإطلاق في الدليلين المقتضي للتعيينية هو منشأ التعارض فيرفع اليد عنه؛ فيكون مقتضى القاعدة هو التخيير بينهما.

2: حمل الاحتياط على الاستحباب

الوجه الثاني: أن نرفع اليد عن ظهور(احتط) في الوجوب، فتدل على الاستحباب؛ بدعوى أن الجمع بين قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ

ص: 203


1- وكذا الأمر بالتقليد والأمر بالاحتياط.

طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(1)، وقوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»، هو أنه على الرغم من تفقهك في الدين، يحسن لك أن تحتاط. فمثلاً إذا توصلت من الأدلة الاجتهادية إلى عدم وجوب جلسة الاستراحة واستحبابها فقط فمع ذلك صلِّها حتماً، وكذا لو أدى الدليل الاجتهادي إلى أنك لست متوطناً بعد الإنعراض(2) القهري، فمع ذلك صل تماماً إلى جوار القصر احتياطاً.

وقد يستدل على إفادة بعض أدلة الاحتياط بعد ضمها إلى أدلةالتفقه، استحبابه بقرينة عقلية - عقلائية - عرفية عامة وهي: أن الدليل الاجتهادي يحرز الواقع بنسبة تسعين بالمائة مثلاً، أما الاحتياط العملي فيحرز الواقع كله(3)؛ فهو محرز للأوامر الملزمة كما هو محرز للأغراض الملزمة إضافة إلى كونه محرزاً لدفع العقاب، إذن فالاحتياط يحرز ما لم يحرزه الاجتهاد ويكمل ما أحرزه، وعندما نرى الشارع وهو في مقام البيان اكتفى في كثير من الحالات ولدى كثير من الأسئلة بالأمر بالتفقه أو بالإرجاع للفقيه فقط من دون ضم الأمر بالاحتياط إليه، دلّ ذلك على أن إحراز التتمة أي إحراز الواقع مائة بالمائة ليس بواجب فتفيد أدلة الاحتياط الآتية منفصلةً استحباب الإحراز القطعي به لو لم تفد الوجه السابق(4) أو اللاحق.

وقد يستدل على ذلك أيضاً بقرائن أخرى، نظير ابتناء الشريعة على التسهيل؛ إذ لو أن الشارع أمر بالاحتياط رغم قيام الاجتهاد والطرق العقلائية؛ لأوقعنا في الحرج والمشقة.

ص: 204


1- سورة التوبة: 122.
2- التعبير مسامحي.
3- في غير المتعاندين.
4- على أنه لا مانعة جمع بين الوجهين: التخيير واستحباب الاحتياط.

والحاصل: إن هذه المصلحة المتبقية إما أنها ليست ملزمة بالذات؛ أو إن كانت ملزمة فهي مزاحمة بمصلحة التسهيل؛ ويدل على ذلك بناء العقلاء وفهمهم، فإن بناء العقلاء على حسن الاحتياط لا على وجوبه عند قيام الأدلة الاجتهادية، مما يكشف عن أحد الوجهين السابقين(1) لو لم نقل بالوجه الثالث.

3: صَرْف أوامر الاحتياط لبعض الحصيص

الوجه الرابع: صَرْف أوامر الاحتياط إلى غير ما تفقه فيه(2) بالفعل أو إلى غير ما أمكن فيه التفقه وتُرِك لِعُسرٍ، أي ما كان التفقه حرجياً أو عسرياً أو إلى ما أنسد فيه باب الاجتهاد أو إلى ما دارالأمر فيه بين المتباينين مع إمكان الجمع بينهما، وقد يعدّ مثل قوله (عليه السلام): «إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا فَعَلَيْكُمْ بِالِاحْتِيَاطِ»(3) قرينة على إرادة الوجه الأخير من مثل «أخوك دينك فاحتط لدينك»، فتأمل.

وقد يستدل على أحد هذين الوجهين على سبيل البدل بأن المستظهر هو أن روايات الاحتياط لسانها - عرفاً - لسان المكمل لآيات وروايات الاجتهاد والتقليد ويرشد إلى ذلك ما لو جمعها المولى، فلو قال المولى لعبده: (اتبع قول أهل الخبرة في الصحراء واحتط)؛ فإنه يفهم من (احتط) أنه تابع لذاك الأمر ومكمل، فتفيد أحد أمرين: إما صرف احتط من الوجوب إلى الاستحباب، أو أن موردها غير ما قام عليه خبر الثقة، أي اتبعه فإن لم يوجد الخبير أو جهل الطريق أحياناً أو تعارض الخبراء فاحتط.

وعند ملاحظة الجمعين الأولين لا نرى وجهاً للحكومة، ولا ناظرية

ص: 205


1- إفادة الوجوب التخييري، أو استحباب الاحتياط.
2- أو قلّد.
3- الكافي: ج4 ص391.

أحدهما للآخر، لا تضييقاً ولا توسعةً، لا في عقد الحمل ولا عقد الوضع؛ وإنما هو صَرْف ظهور عقد الحمل عن معناه الموضوع له فقط(1) فهو نوع من الجمع العرفي الذي عدّه بعض قسيماً للحكومة وعده بعض أعم منها(2) نعم الوجه الثالث: ربما يدعى فيه الحكومة بالتضييق.

4: دلالة احتط على الجامع

الوجه الرابع: إن (احتط) تدل على قضايا ثلاث، وإنه عندما نضم هذين الدليلين(3) بعضهما إلى بعض، فإن الأعم من الوجه الأول والوجه الثاني يكون هو المراد.

والقضايا الثلاث هي:

القضية الأولى: الوجوب التعييني للاحتياط، عند عدم القدرة على الاجتهاد أو التقليد.

القضية الثانية: الوجوب التخييري للاحتياط، عند القدرة علىالاجتهاد والتقليد.

القضية الثالثة: استحباب الاحتياط عند فعلية الاجتهاد أو التقليد(4).

فالمدعى هو: أن هذه القضايا الثلاث مشمولة ومدلول عليها بقوله (عليه السلام): «احتط»، أي أن احتط بمعونة أدلة التفقه تدل على الوجوب التعييني والتخييري والاستحباب.

وهناك وجه آخر هو القول بأن (احتط) متعلقة بالجامع بين الشبهات

ص: 206


1- إلا أن يصطلح على تعميم الحكومة لهذا أيضاً.
2- راجع (الحكومة والورود) لتفصيل ذلك.
3- دليل الاحتياط ودليل التفقه.
4- بل عند إمكانهما أيضاً، إذ لا مانعة جمع بين الوجوب التخييري واستحباب أحد الطرفين.

البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي وأنها تفيد استحباب الاحتياط في الأولى ووجوبه في الثانية، لكن الكلام الآن في وجوه الجمع بين دليل الاحتياط ودليل التفقه وليس في سعة أو ضيق متعلق دليل الاحتياط، على أنه في البدوية يقع الكلام في أنه هل يصح الاحتياط فيه قبل التفقه؟ أو بعده؟

وجه الوجه الرابع

والدليل على الوجه الرابع: أن القضية الأولى والثانية مآلهما إلى قضية واحدة، وهي الوجوب التخييري؛ لأن معنى التخييري هو مؤدى القضيتين الأولى والثانية؛ إذ الوجوب التخييري يعني وجوب أحدهما وما يسقط بامتثال غيره وما يصح تركه إلى بدل، ومحصلتهما أنه إن عجزت عن هذا القسيم والبديل تعين عليك القسيم الآخر؛ فيكون وجوبه في ظرف العجز عن القسيم الأول تعيينياً، وفي ظرف عدم العجز تخييرياً، كما في خصال الكفارة، فالوجوب التعييني عند العجز، هو وجه من وجوه الوجوب التخييري، بل هو متضمن فيه ومدلول عليه بالدلالة التضمنية له(1).

وأما القضية الثالثة وهي استحباب الاحتياط وأنه كيف يجمع بينهما؟ فلا مشكلة في الجمع بينها وبينهما؛ وذلك للقرينة الخارجيةوقد تقدمت؛ وهي أن مجموع الأدلة على إجزاء الاجتهاد والتقليد من جهة، وقيام الدليل العقلي على أن في الاحتياط إحرازاً قطعياً للواقع من جهة أخرى؛ ينتج استحباب الاحتياط ووجهه في عالم الإمكان ما سبق من أن الحصة المتبقية من المصلحة التي لا تدرك بالاجتهاد أو التقليد يصار إلى كونها مندوبة لا واجبة؛ إما لمزاحمتها لمصلحة التسهيل أو لكونها ضئيلة بحيث لو انفردت لكانت غير ملزمة، وأما الوجه

ص: 207


1- بأن تتركه إلى بدل.

الإثباتي فهو كما سبق أيضاً فهو:

أن (لِيَتَفَقَّهُوا) و«للعوام أن يقلدوه» مجزئ قطعاً؛ لأن لسان الدليل يفيد ذلك عرفاً كما أن بناء العقلاء وسيرة المتشرعة على ذلك؛ والحاصل: أنه حيث أحرزنا الطريقية النوعية للاجتهاد والتقليد والاحتياط، وأنه لا مصلحة سلوكية(1) في أي منها؛ نفهم أن كل واحد منها يكون مجزياً، ومقتضى الجمع بين إجزاء الاجتهاد والتقليد بالأدلة السابقة، وبين أن الاحتياط محصِّل - بالوجدان - للمصلحة المفوَّتة بسبب الاجتهاد، هو القول باستحباب الاحتياط؛ إذ لو كانت المصلحة المفوتة ملزمة لو انفردت، لما أمكن أن يكون الاجتهاد مجزياً(2).

المناقشة: لا يصح استعمال صيغة الأمر في الوجوب والندب معاً

ولكن قد يعترض على هذا الوجه بأنه لا يمكن الجمع بين دلالة (احتط) على الوجوب ودلالتها على الاستحباب، فإنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فكيف يقال بأن (احتط) تدل على الوجوب في كلتا القضيتين(3)؛ وتدل على الاستحباب في القضية الثالثة؟

وسنجيب على هذا الإشكال على حسب مختلف المباني فيصيغة الأمر فنقول:

هناك ست مبان(4) في صيغة الأمر نشير إلى ما يرتبط منها بالمقام:

ص: 208


1- لا مصلحة سلوكية ملزمة لأي منها بالقياس للآخرين.
2- وهذه الطريقة في الجمع، تنفع في مباحث التعادل والتراجيح أيضاً؛ إذ أن هذا الجمع هو الذي قادنا إلى استحباب الاحتياط.
3- وهما: الوجوب التعييني للاحتياط، والوجوب التخييري له.
4- أشرنا لها في كتاب: (فقه التعاون على البر والتقوى).

صيغة الأمر والمباني في (الموضوع له):

المبنى الأول: إن صيغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب؛ وعلى هذا المبنى فلا إشكال، لوجود جامع معنوي بين الوجوب والاستحباب؛ فاللفظ لم يستعمل في معنيين متضادين حتى يكون من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل استعمل في جنسهما الجامع لهما.

المبنى الثاني: إن صيغة الأمر موضوعة للوجوب، وهذا مبنى المشهور.

المبنى الثالث: إن صيغة الأمر موضوع للندب.

ولا إشكال على هذين المبنيين الأخيرين أيضاً؛ لأن الأمر وإن كان حقيقة في الوجوب أو الندب، لكن يمكن أن ترفع اليد عن المعنى الحقيقي إلى الجامع بالقرينة؛ فقد رجعنا من جديد إلى الجامع؛ إلا أن الجامع على المبنى الأول حقيقي، وأما على الأخيرين فمجازي؛ وليس المجاز بلا قرينة مجوزة لما سبق من القرينة الخارجية وهي الإجزاء من جهة، ومحرزية الاحتياط لفاضل الغرض والمصلحة من جهة أخرى.

إذن ترفع اليد عن ظهور صيغة الأمر إلى المعنى المجازي؛ وهو الجامع بين الوجوب والندب بالقرينة.

وقفة دقيقة

وهنا وقفة دقيقة، وهي أن هذا الجمع، وكذا الجمعان الأولوالثاني(1) ليس من باب الحكومة بل مع باب الجمع العرفي، فإن العرف بعد ملاحظة (لِيَتَفَقَّهُوا) وضمها إلى «احتط» يستفيد الوجوب التخييري و استحباب الاحتياط.

ص: 209


1- لا الثالث.

وبيان ذلك متوقف على تمهيد مقدمة هي:

الطرق الخمس لعلاج الخبرين المتعارضين

هناك خلاف بين الآخوند (رحمه اللّه)، والحق معه ظاهراً، وبين بعض الأعلام المتأخرين؛ إذ ذهب إلى أن علاج الخبرين المتعارضين تعارضاً بدوياً يكون بإحدى طرق خمسة لا بأربعة، وهي: التخصص، والتخصيص، والورود، والحكومة، والجمع العرفي (1) فهو يرى أن الجمع العرفي قسيم لتلك الأربعة، وإن كانت هي أيضاً جمعاً عرفياً؛ ولكن مقصوده أنه جمع عرفي بنحو آخر.

ولكن بعض الأعلام تصور أن مفاد كلام الآخوند (رحمه اللّه) هو أن الجمع العرفي ليس مقسماً للحكومة والورود والتخصص والتخصيص ولذا أشكل بان الأربعة جمع عرفي فكيف يكون الجمع العرفي قسيماً لها؟

والظاهر: أنه (رحمه اللّه) يقصد أن هناك صوراً للجمع العرفي لا تندرج تحت هذه العناوين الأربعة؛ وبعبارة أخرى: للجمع العرفي إطلاقان: أخص هو الخامس وأعم وهو يشمل الأربعة مع الخامس، ولنمثل للجمع العرفي الأخص بمثالين:

الأول: قوله (عليه السلام): «ثمن العذرة من سحت»(2)، وقوله (عليه السلام): «لا بأس ببيع العذرة»(3)، ومن وجوه الجمع إن «لا بأس» نص في الجواز و«سحت» ظاهر في الحرمة؛ فيحمل على الكراهة بقرينة ذاك النص؛ وهذا جمع من نوع آخر، فيكون جمعاً عرفياً خامساً وإن نوقش في صغرى عرفيته.

الثاني: في بحث الكر، فإن طوائف الروايات مختلفة؛ فبعضها يدل على أن الكر سبعة وعشرون شبراً، والبعض الآخر يدل على أنه ستة وثلاثون شبراً،

ص: 210


1- وهذا الأخير هو الذي إضافه الآخوند (رحمه اللّه).
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص372.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص372.

وبعضها يفيد أنه ثلاثة وأربعون شبراً إلا ثمن الشبر؛ ومن وجوه الجمع الذي ذهب إليه بعض الأعلام - ومنهم السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه - أن روايات الأكثر محمولة على الأفضلية(1)، فهل هذا الجمع ينسب للحكومة؟

وبعبارة أخرى: هل إن روايات الطائفة الأقل، نظرت وفسرت روايات الطائفة الأكثر، أم أنه جمع عرفي خامس، ولا ربط له لا بالحكومة ولا الورود.

وهنا نقول: إن هذا الجمع هو جمع عرفي وليس من الحكومة؛ والنكتة في ذلك أن الحكومة هي ما كان أحد الدليلين ناظراً للدليل الثاني بنفسه ولسانه ومفسراً له بذاته؛ وهذه الضابطة لا تنطبق على روايات الكر؛ لأن روايات الطائفة الأولى تدل على حقيقة قائمة بنفسها مستقلة؛ وهي أن الكر سبعة وعشرون شبراً، وهذه الحقيقة لا تفسر ولا تشرح حقيقة الطائفة الثانية، بل لا بد من قرينة خارجية (وهي علمنا بحكمة المتكلم وأنه لا تناقض في أحكامه وعلمنا بأن من الحقائق حقائق تشكيكية) لكي نجمع بينها بدعوى أن مراده هو أن الأقل معتصم والأكثر هو الفرد الأفضل والأكمل؛ ففرق واضح بين ذلك وبين الحكومة.

وبتعبير آخر مبني على ما ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه): إن المقياس في الحكومة أن الدليل المحكوم لو لم يكن موجوداً لكان الدليل الحاكم لغواً؛ إذ لو لم يكن مشروح فالحاكم ماذا يشرح؟ ويتضح ذلك بملاحظة قوله (عليه السلام): (لا شك لكثير الشك)؛ إذ لولا أحكام الشك الأولية لما كان لهذا القول معنى، وكذلك قوله (لا ربا بين الوالد وولده)، إذا عرفت ذلك نقول:

إن هذا الضابط لا ينطبق على المقام: (لِّيَتَفَقَّهُوا) و«احتطلدينك» لأنه ليس لأحدهما لسان الشارحية بالنسبة للآخر بل كل منها مطلب مستقل مفيد

ص: 211


1- أي أن الأقل يجزي ويطهر وهو معتصم لكن الأكثر أفضل وأقرب للتنزيه؛ لان المطهرية حقيقة تشكيكية، وأدلته في محلها.

فائدة تامة، وقد صرنا للجمع بما ذكرناه من الوجوه لقرينة خارجية تقدم ذكرها.

فتحصل: إن الجمع بين أدلة التفقه والتقليد من جهة، وأدلة الاحتياط من جهة أخرى، سواء أصرنا إلى الوجوب التخييري فقط، أم إلى الاستحباب فقط، أم إلى مجموع الإثنين بأن يكون أحدهما واجباً تخييرياً أو مستحباً أيضاً؛ ففي ذلك كله لا حكومة؛ وإنما هو جمع عرفي من نوع آخر ساقتنا إليه قرائنه.

خاتمة في بحث الحكومة

بين (الورود والحكومة) و(التخصص والتخصيص)

خاتمة مختصرة في الحكومة؛ وهي: إن بعض الأعلام من الأصوليين ذهب إلى أن الورود والحكومة مرجعهما إلى التخصص والتخصيص؛ فليست الحكومة والورود إلاّ مزيد اصطلاح.

قالوا: إن الورود يعود إلى التخصص؛ لأن الدليل الوارد يزيل موضوع الدليل المورود عليه حقيقة وإن كان بعناية التعبد؛ فيكون نوعاً من التخصص؛ لأنه خروج موضوعي، وأما الحكومة فمرجعها إلى التخصيص إما في عقد الوضع أو عقد الحمل.

لكن هذا الكلام غير تام، وسوف نقتصر على الحكومة وفرقها عن التخصيص فنقول: هناك فروق أربعة بين الحكومة والتخصيص.

الفروق الأربعة بين الحكومة والتخصيص

الفرق الأول: ما مر من أن الحكومة أربعة أنواع، منها قسمان يضيّقان وآخران يوسّعان؛ فلا يصح إطلاق القول بأن الحكومة مرجعها إلى التخصيص؛ إذ قد تفيد التعميم على ما تقدم. وهذا الفرق فرق جوهري(1)، أما الفروق

ص: 212


1- إذ مآله ان الحاكم قد لا يكون مخصصاً بل يكون موسعاً معمِّماً.

اللاحقة فلا تنفي كون الحاكم مخصصاً، بل تبين الثمرة في كونه حاكماً مخصصاً أو كونه مجرد مخصص غير حاكم فتعود الثلاثة الأخيرة إلى رد الشق الثاني من الدعوى وأن الحكومة مجرد مزيد اصطلاح.

الفرق الثاني: إنه إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم والخصوص من وجه، فلو كان أحد الدليلين ناظراً للآخر كان حاكماً عليه، كما في أدلة (لا ضرر) و(لا حرج) بالنسبة للصوم، إذ بعض الصوم حرجي وبعضه ليس بحرجي، وبعض الحرجي ليس بصوم وبعضه صوم، فرغم ذلك فإن أدلة (لا ضرر) مقدمة لكونها حاكمة وشارحة وناظرة، أما إذا لم يكن أحدهما ناظراً فيتعارضان، وبعبارة أخرى:

يجب أن يكون الخاص أخص مطلقاً من العام ليتقدم عليه، أما الخاص من وجه فلا يقدم على العام، أما الدليل الحاكم فحاكم مطلقاً سواء أكان أخص من وجه أم أخص مطلقاً.

الفرق الثالث: وهذا الفرق ذكره بعض الأعلام، وهو: أن الحكومة لا تدع مجالاً للتخصيص، و كذا الورود، وذلك أنه لو اجتمعت الحكومة والتخصيص في مورد، فالحكومة لأنها سابقة رتبة على التخصيص لا تدع مجالاً له؛ إذ سبق أن الورود يفيد انتفاء الموضوع حقيقة وإن كان بعناية التعبد، أما الحكومة فتفيد - في بعض أنواعها - انتفاء الموضوع تعبداً؛ فإذا انتفى الموضوع تعبداً فلا مجال للتخصيص؛ إذ معنى التخصيص أن الموضوع متحقق ولكن نخرج بعض أفراده من حكمه بالتخصيص، ولكن الحكومة تنفي الموضوع تعبداً فلا يبقى موضوع للتخصيص(1).

ص: 213


1- انظر دراسات في علم الأصول: ج4 ص245.

وقد يناقش بأنه لم تلاحظ النسبة بين الطرفين في موضع واحد، فالحكومة في محلّ وهو عقد الوضع، والتخصيص في محلّ آخر وهو عقد الحمل؛ وكان ينبغي ملاحظة كليهما في عقد الحمل،فتأمل(1).

الفرق الرابع: وهو ما يظهر في بحث انقلاب النسبة(2)؛ فلو كانت هناك أدلة ثلاثة مثلاً وكانت النسبة بين بعضها والبعض الآخر مثلاً العموم من وجه، وبين بعضها والبعض الآخر العموم المطلق، فما هو الحكم عندئذ؟ فقد ذهب البعض إلى أنه لا بد أن تلاحظ الأدلة الثلاثة في عرض واحد، وذهب البعض إلى أنه ينبغي أن تعالج إحدى الروايتين منسوبة إلى الأخرى أولاً، ثم الحاصل والناتج منهما يلاحظ منسوباً للرواية الثالثة، والنتيجة تختلف على المسلكين، كما هو مفصل في بحث انقلاب النسبة، وهو مبحث دقيق وكثير الفائدة والنفع في العديد من أبواب الفقه.

وعلى أي فإنه يظهر الفرق بين الحكومة والتخصيص بناء على القول بعدم انقلاب النسبة إذ يقال بانقلابها إذا كان أحد الأدلة الثلاثة حاكماً على بعضها، فمثلاً إذا كان هناك دليل عام ودليل ثان أخص منه مطلقاً ودليل ثالث حاكم

ص: 214


1- إذ الفرق وإن صح في مثل (لا شك لكثير الشك) مع مثل (كثير الشك حكمه كذا) - الموافق فرضاً مع ما كان لسانه الحكومة في الموضوع - فتأمل، ولم تصح المناقشة فيه، لكنّها صحيحة في مثل لا ضرر مع دليل آخر نافٍ له مع كونه غير ناظر، فتأمل.
2- انظر فرائد الأصول: ج4 ص102، حيث إن الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ذهب إلى هذه النظرية، وتبعه جمع من الأعلام كالميرزا النائيني (رحمه اللّه) وغيره، في حين ذهب جمع آخر كصاحب الكفاية والمحقق العراقي . إلى عدم تمامية هذه النظرية، بل عدها بعضهم من الأوهام؛ وأبرز الاعتراضات على هذه النظرية: إن برهان الترجيح بلا مرجح مانع عن الأخذ بأحد الطرفين تعيناً؛ كما عن المحقق العراقي (رحمه اللّه) في المقالات: ج2 ص483، وأن المبنى المذكور خلاف مبنى العرف؛ كما عن السيد الحكيم (رحمه اللّه) في حقائق الأصول: ج2ص 582.

أخص مطلقاً؛ فإنه لا يصح أن نلاحظ هذا الدليل العام والدليل الحاكم الأخص مطلقاً والدليل الثالث الأخص مطلقاً غير الحاكم في عرض واحد بل تلاحظ طولياً وإن أدى إلى انقلاب النسبة، وذلك لأن الدليل الحاكم يفسر الدليل المحكوم، إذ لسانه لسان الشارح، فهو والدليل المشروح كدليل واحد، فيلاحظان أولاً معاً ثم تنسب المحصلة النهائية إلى الدليل الخاص الآخر غير الحاكم وقد تكون النسبة بينهما - أي العام المحكوم والخاص الثالث -بحيث تنقلب إلى العموم والخصوص من وجه.

بيان الطولية حسب ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه اللّه)

أما الطولية حسب ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه اللّه) ففي مقطعين من كلامه:

المقطع الأول: قوله: إن التحرك عن الأمر الجزمي هو في رتبة سابقة على التحرك عن الأمر الاحتمالي.

المقطع الثاني: قوله: مع الشك في أنهما عرضيان أم أن الثاني في طول الأول يكون المرجع هو أصالة الاشتغال؛ ومقتضاها عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

هذه خلاصة كلامه (رحمه اللّه)(1)، وفي كلا هذين المقطعين كلام.

مناقشة طولية التحرك عن الأمر الاحتمالي للتحرك عن الجزمي

أما المقطع الأول فيرد عليه:

أولاً: أنه لو صح كبرى فإنه لا يصح صغرى، أي إن أريد تطبيقه على

ص: 215


1- حسب ما نقله عنه السيد الخوئي (رحمه اللّه) في التنقيح، قال: (ولأن التحرك عن الأمر الجزمي وامتثال الأمر تفصيلاً في مرتبة سابقة على التحرك عن احتماله، كما يراه شيخنا الأستاذ (رحمه اللّه)) التنقيح: ج1 ص54. وسنذكر لاحقاً تفصيل كلام الميرزا (رحمه اللّه) مع الجواب.

التحرك عن الحجج والأمارات ومنها الاجتهاد والتقليد في مقابل الاحتياط؛ وذلك لأن التحرك والانبعاث عن الاجتهاد والتقليد ليس تحركاً عن الأمر الجزمي(1)؛ بل هو تحرك عن الأمر الظني وإن كان بالظن المعتبر الذي هو حجة، وعليه: فإن الاحتياط والاجتهاد والتقليد من هذه الجهة سيان(2).

نعم، غاية الأمر أن التحرك عن الحجج والأمارات تحرك عن الأمر الظني، أما الاحتياط فإنه في صورة الدوران لا يوجد الاحتمال كل من الطرفين، نعم في غير صور الدوران بل فيهما أيضاً قد يكون ظن شخصي بأحدهما أو بأصل الحكم؛ كما في الظن الشخصي بوجوب جلسة الاستراحة دون قيام علمي عليها فيحتاط بفعلها.

وهنا نقول: إذا أراد الميرزا (رحمه اللّه) من الأمر الجزمي ما يورث العلم بالمأمور به؛ فليس هذا متوفراً عادة في الاجتهاد والتقليد كما ليس متوفراً في الاحتياط، وإن أراد من التحرك عن الأمر الجزمي هو التحرك عن الحجة(3)؛

ففيه: إن ذلك جارٍ في الاحتياط أيضاً(4)، غاية الأمر أنه في صورة الاجتهاد أو التقليد يتحرك عن الحجة في جزئيات المسائل، وفي صورة الاحتياط يتحرك عنها لكلي أمر الاحتياط لا عن أمرٍ به في كل مسألة مسألة، وليس بفارق، فإن قيل بأن فيه خلافاً؛ أجيب: بأن الخلاف في التقليد بل والاجتهاد أيضاً موجود أيضاً.

ص: 216


1- ولا هو تحرك عن البعث نفسه، بل تحرك عن الظن بالبعث.
2- أي مثلان، أي فكلاهما لا يعطي تحركاً عن الأمر الجزمي؛ وإنما يعطيان تحركاً عن الأمر الاحتمالي.
3- لأن الاجتهاد والتقليد حجة نظراً للأدلة العقلية والنقلية عليه، كما هو مبين في محله.
4- للأدلة عليه ومنها بناء العقلاء.

(التقدم) بالورود أو الحكومة

ثانياً: إنه إن أريد من أن التحرك عن الأمر الجزمي في رتبة سابقة على التحرك عن الأمر الاحتمالي؛ التقدم الرتبي وأريد به التقدم بالورود(1) أو بالحكومة(2)، فقد تقدم الجواب عن هذين الاحتمالين مفصلاً(3).

وإن أريد به التقدم الشرفي أو بالإمكان أو التقدم بالوقوع؟ (والعكس صحيح من الجهة الأخرى؛ فهل التأخر شرفي أم بالإمكان أم التأخر بالوقوع؟) ففيه انها جميعاً منتفية:

التقدم الشرفي

فأما إن كان مقصوده (رحمه اللّه) التقدم الشرفي والتأخر الشرفي؛ فالأمر بالعكس، لأن الانبعاث عن الأمر الاحتمالي أدعى للمثوبة، وأقوى في الحسن من الانبعاث عن الأمر الجزمي؛ حيث إن العبد إذا انبعث حتى عن احتمال وجود أمر للمولى فهذا يدل على شدة انقياده لمولاه، إضافة إلى أن التأخر الشرفي ليس دليل البطلان ولا التقدم الشرفي دليل الانحصار.

التقدم الامكاني

وأما إن كان مقصوده (رحمه اللّه) التقدم الإمكاني والتأخر الإمكاني، وأنه لا يمكن الاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد أو مع فعليتهما.

ففيه: - إضافة إلى ما سبق - إن الوجدان على خلاف ذلك؛ إذ إننا نرى بالوجدان إمكان الاحتياط ووقوعه مع إمكان الاجتهاد والتقليد؛ بل مع

ص: 217


1- وأنه مع الاجتهاد مثلاً لا يبقى احتمال العقاب، فلا موضوع للاحتياط.
2- وأنه مع الاجتهاد لا يبقى احتمال الأمر أو الغرض، تنزيلاً.
3- وسيأتي من الميرزا (رحمه اللّه) وجه آخر للتقدم، سنذكره لاحقاً مع الجواب عنه.

فعليتهما؛ كما لو اجتهد ووصل إلى أن الواجب في الركعة الثالثة تسبيحة واحدة ولكنه احتاط وأتى بثلاث، أو كما صلى إلى جهتين فيما لو ترددت القبلة إلى جهتين(1) وأما عدم الإمكان لعدم إمكان قصد الوجه والتمييز في العبادات والجزم في الإنشاء في المعاملات، فقد مضى الجواب عنه، نعم لو أريد أنه في بعض الصور لا يهتدي المكلف لسبيل الاحتياط بدون الاجتهاد والتقليد، فإنه وإن صح لكنه ليس مورد النزاع.

التقدم الوقوعي

وأما إن كان مقصوده (رحمه اللّه) من التقدم الرتبي: التقدم في مرحلة الوقوع(2)، وأنه لا يوجد خارجاً العمل بالاحتياط مع إمكان أو فعلية الاجتهاد أو التقليد.

ففيه: إن أدل شيء على إمكانه وقوعه؛ إذ يشهد الواقع الخارجي على عكس ذلك؛ حيث إن الكثير من الناس يلتزم بالاحتياط رغم انفتاح باب الاجتهاد والتقليد، بل ورغم فعليتهما.

وبهذا الكلام قد تمت المناقشة في المقطع الأول من كلامه (رحمه اللّه)(3).

ص: 218


1- في المثال الثاني نظر؛ لأنه لا اجتهاد سابق، والفرض أن الاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو فعليته، والجواب: أن يفرض ذلك في صورة إمكان تحديده القبلة بالاجتهاد والفحص؛ فرغم إمكان الفحص له أن يتركه ويحتاط بالصلاة إلى جهتين، بل حتى مع تحديده إياها بالفحص؛ فإنه حيث لا يورث اليقين عادة فله أن يحتاط بالجمع.
2- أي الفعلية.
3- لا يخفي أن هذه الاحتمالات الثلاثة وما سبقها مبنية على احتمالات كلامه المجمل - الذي أوردناه في صدر البحث نقلاً عن التنقيح - لكن كلامه في موضع آخر يفيد وجه طوليةٍ آخر، وسيأتي بيانه وجوابه، وعلى أية حال فإن ذكر مختلف المحتملات ومناقشتها سيثري البحث أكثر ويغلق كافة أبواب دعوى الطولية، وإن لم تكن مرادة له قدس سره.

طولية الاحتياط للاجتهاد في صورة الشك

وأما المقطع الثاني من كلام الميرزا (رحمه اللّه)، وهو قوله: (مع الشك في أنهما طوليان أم عرضيان يكون المرجع هو أصالة الاشتغال؛ ومقتضاها عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي). انتهى.

وبعبارة أخرى: إذا شك في أن الاحتياط هل هو في عرض التقليد والاجتهاد فيكون مبرئاً للذمة أيضاً، أم هو في طولهما فلا يكون مبرئاً للذمة مع إمكانهما، فإن المرجع عند هذا الشك لدى الميرزا هو أصالة الاشتغال؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، فبعد أن اشتغلت الذمة بتكاليف شرعية، فإذا اجتهد أو قلد فقد فرغت ذمته؛ لأن الاجتهاد سواء أكان في الطول أم في العرض فهو مبرئ للذمة، أما لو احتاط فإنه يشك في البراءة وفراغ الذمة للترددفي حال الاحتياط وأنه لو كان في عرضهما فهو مبرئ للذمة بخلاف ما إذا كان في طولهما.

ويمكن توضيح كلامه بإضافة منا بالآتي: وهو أنه لا يوجد أصل سببي ينقح الطولية أو العرضية عند الشك؛ فلو كان هناك أصل موضوعي ينقح العرضية لكان الاحتياط مبرئاً للذمة، ولكنه لا أصل في البين.

إن قلت: تجرى أصالة عدم الطولية.

قلت: أولاً: هذا الأصل معارض بأصالة عدم العرضية.

ثانياً: إنه لو فرض عدم التعارض فهو أصل مثبت؛ إذ يراد من إجراء أصالة عدم الطولية إثبات العرضية(1)، لكي تثبت بها براءة الذمة؛ والواسطة عقلية، فهو أصل مثبت.

ص: 219


1- للامتثال الاحتمالي الموجود في الاحتياط.

والحاصل: إنه لا يوجد أصل سببي منقح للطولية أو العرضية؛ فلابد أن نرفع اليد عن عالم الأسباب والأصول الجارية فيه ونرجع إلى المسبب(1)

وهو: إن هناك يقيناً سابقاً بالاشتغال وشكاً لاحقاً بالفراغ، وذلك يستدعي البراءة اليقينية؛ فمع الشك في مبرئية الاحتياط للذمة يكون المرجع أصالة الاشتغال؛ حيث إن الاحتياط انبعاث عن الأمر الاحتمالي فيشك أنه مبرئ؛ والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

إمكان القول بوجود أصل سببي منقح

ويمكن مناقشة الميرزا (رحمه اللّه) بأنه يوجد أصل سببي حاكم على أصالة الاشتغال يفيد البراءة؛ لأن الشك في براءة الذمة بالاحتياط ينتج من الشك في اعتبار قصد الجزم في الامتثال(2)؛ والأصل عدمه.

وبعبارة أخرى: إنه عند العمل بالاحتياط إنما يشك في أنهمبرئ أم لا لوجود عقدة في مرحلة سابقة وهي: أن قصد الجزم معتبر أم لا(3)؟ وحيث إن الأصل عدم اعتباره؛ لأن كل شرط أو جزء يشك في اعتباره فالأصل عدم اعتباره، فهذا أصل سببي حاكم يقتضي البراءة.

بيان آخر للطولية: الواجب التحرك عن بعث المولى لا عن احتمال بعثه

وقال الميرزا النائيني (رحمه اللّه) حسب نقل التنقيح: (ثمّ إن لشيخنا الاستاذ (رحمه اللّه) تفصيلاً في المقام ذكره في دورته الأخيرة وتوضيحه: أن العمل العبادي قد نعلم بتعلق الأمر به ونشك في وجوبه واستحبابه وهذا لا إشكال في جواز الاحتياط فيه

ص: 220


1- إلى هنا تنتهي الإضافة التوضيحية منا لكلام الميرزا (رحمه اللّه).
2- أو في اعتبار كون التحرك عن الأمر الجزمي.
3- أو هل يشترط التحرك عن الأمر الجزمي أو لا.

لإمكان الاتيان فيها بالعمل بداعي أمر المولى للعلم بوجوده وتعلقه بالعمل، وإن لم نعلم أنه وجوبي أو ندبي. نعم، لا يمكننا الاتيان به بقصد الوجه إلاّ أنه غير معتبر في العبادات. وقد نعلم أن العمل عبادي بمعنى أنه على تقدير تعلق الأمر به يعتبر أن يؤتى به بقصد القربة، من غير أن نعلم بكونه متعلقاً للأمر كما في الفرض السابق، بأن نشك في أنه هل تعلق به الأمر الوجوبي أو الندبي أم لم يتعلق، وهذا كما في الوضوء بعد الغسل في غير غسل الجنابة، حيث إن الوضوء فعل عبادي يعتبر فيه قصد القربة قطعاً إلاّ أنا نشك في أنه هل تعلق به أمر في المقام أم لم يتعلق، وأفاد أن في أمثال ذلك لا مجال للاحتياط بأن يؤتى به رجاءً مع التمكن من الامتثال التفصيلي والعلم بالمأمور به.

وهذا لا لاعتبار قصد الوجه والتمييز ، لما تقدم من عدم اعتبارهما في الواجبات بل لما أفاده من أن الامتثال الاجمالي والاحتياط إنما هو في طول الامتثال التفصيلي لاعتبار أن يكون التحرك والانبعاث في الواجبات العبادية مستنداً إلى تحريك المولى وبعثه ، ولا يتحقق هذا مع الاحتياط لأن الداعي للمكلف نحو العملوالاتيان به حينئذ ليس إلاّ احتمال تعلق الأمر به، فالانبعاث مستند إلى احتمال البعث لا إلى البعث نفسه، فمع التمكن من الامتثال التفصيلي والعلم بالواجب لا تصل النوبة إلى الاحتياط)(1).

والحاصل: إن الميرزا النائيني (رحمه اللّه) يرى أن المعتبر في صحة العمل العبادي هو انبعاث المكلف عن بعث المولى وتحريكه، لا انبعاثه عن احتمال البعث؛ فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى الدرجة النازلة من الانبعاث، وهي عن احتمال البعث المولوي(2).

ص: 221


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص50 - 51.
2- أي عن احتمال الأمر المولوي.

وعلى هذا، فإن الطولية بين البعث واحتمال البعث، وأن الانبعاث عن البعث نفسه شرط في صحة العبادات(1)، والاحتياط لا يتضمن هذا الشرط؛ إذ عندما يأتي المكلف في الاحتياط بالصلاة إلى الجهتين مثلاً، لا يستطيع أن ينوي الصلاة لأن اللّه تعالى أمره بالصلاة إلى هذه الجهة، وإنما ينوي أنه يصلي لاحتمال أنه تعالى أمره بها، وهذا مع علمه بوجود أمر وجهله بمحققه فكيف لو جهل أصل وجود الأمر؟ وذلك كما لو شك في أصل تعلق الأمر بالوضوء بعد الأغسال المستحبة بل والواجبة غير غُسل الجنابة، وكما لو شك في فقد الماء وعدم وجدانه فتيمم باحتمال الأمر به إذ قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)(2).

الأجوبة:

أولاً: نقضاً بأن التحرك عن الدليل ليس تحركاً عن نفس البعث

ولكن قد يورد عليه بوجوه:

الوجه الأول: إن بعث المولى وتحركه هو أمر ثبوتي وهو فعل المولى، وأما احتمال البعث فهو كالظن به حالة نفسية قائمة بالمكلف؛ وإذا تمّ كلامه (رحمه اللّه) المتقدم من أن المكلف ينبغي أن يكون انبعاثه عن أمر المولى وبعثه نفسه هو واقع ثبوتي لا عما يدور في نفسه من إحتمال بعث المولى؛ فإذا تمّ ذلك فالإشكال بنفسه يرد على الاجتهاد والتقليد، لأن المجتهد ينبعث عن ظنه ببعث المولى وتحريكه لا عن نفس البعث، أي أنه ينبعث عن الصورة الذهنية له عن بعث المولى لا عن نفسه، غاية الأمر أن هذه الصورة ظنية، وأما في الاحتياط فهي احتمالية.

ص: 222


1- بأن أتى بهذه الصلاة لأن اللّه أمر بها، وليس لأنه يحتمل أن اللّه قد أمر بها.
2- سورة المائدة: 6.

وبتعبير آخر: إن باعثه هو الوجود الذهني وليس الوجود العيني، وكذلك في التقليد، فإن المقلد ينبعث لا عن أمر المولى الثبوتي، لأن الثبوت لا يؤثر في الانبعاث بما هو إلا بوسيلة، وهي انطباع الصورة في الذهن عن الثبوت، أو فقل هي الظن بالواقع أو الحكم الشرعي، أو احتماله والحاصل بالنقض بأن الإتيان بالعمل العبادي عن اجتهاد أو تقليد لا يكون انبعاثاً عن بعث المولى أيضاً، وإنما هو انبعاث عن الظن ببعث المولى، وغاية الأمر أنه انبعاث عن ظن معتبر.

وبتعبير ثالث: إن الوجودات الواقعية بما هي هي لا يمكن أن تكون محركة، والمحرك إنما هو الوجود العلمي أو الظني أو الاحتمالي.

بل الأمر كذلك: حتى في القطع فإنه إذا قطع المكلف بأن هذا هو أمر المولى الواقعي وعلم بذلك، فإنه غير منبعث - دقةً - عن أمر المولى الواقعي، لأن الأشياء بوجوداتها الواقعية غير محركة، بل المحرك هو الأمر بوجوده العلمي أو الظني أو الاحتمالي، فانبعاثه فيما لو قطع أو علم بأمر المولى ليس عن نفس أمر المولى وإنما هو عن قطعه بأمر المولى، فتأمل(1).

وهذا نظير ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في أول الرسائل من أنهلا يصح القول: هذا مقطوع الخمرية، وكل مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام؛ بل لابد أن يقال: هذا خمر، وكل خمر حرام، فهذا حرام؛ وذلك لأن الحرمة رتبت على الخمر الثبوتي لا الخمر الاثباتي(2).

ص: 223


1- إذ قد يجاب بأنه مادام الاجتهاد والتقليد ظناً معتبراً، فقد نزّله الشارع منزلة الواقع، وفيه: أنه نزّله - على مبنى التنزيل - منزلة العلم لا منزلة الواقع، والعلم كالظن والاحتمال هو الباعث، والتحرك عنه لا عن البعث نفسه، فتأمل.
2- فرائد الأصول: ج1 ص30. ونص عبارته (رحمه اللّه): (وكذلك العلم بالموضوعات، فإذا قطع بخمرية شيء، فيقال: هذا خمر، وكل خمر يجب الاجتناب عنه، ولا يقال: إن هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حكمه كذا، لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر، لا لما علم أنه خمر).

فقد فرّق (رحمه اللّه) بين مقطوع الخمرية ومظنون الخمرية، وما سنجيب به هنا ينفع في الجواب عن كلام الشيخ (رحمه اللّه) أيضاً.

والحاصل: أن الميرزا النائيني (رحمه اللّه) رأى أن شرط الصحة في العبادات هو أن تنبعث عن البعث لا عن احتمال البعث، فينقض عليه: بأنه في الأدلة الاجتهادية يكون الانبعاث عن الظن بالبعث، حيث إن خبر الواحد يفيد الظن وكذا الشهرة والظواهر، بل حتى في القطع بالحكم الشرعي؛ فإن الانبعاث هو عن القطع بالحكم الشرعي لا عن البعث نفسه، فليس الملاك إذاً الانبعاث عن البعث نفسه، أو إذا كان هو الملاك فكل العبادات باطلة حتى إذا اتى بها مع العلم بالبعث!

ثانياً: حلاً

الوجه الثاني(1): إن الانبعاث عن الاحتمال كالانبعاث عن الظن المعتبر وكالانبعاث عن العلم والقطع، يصدق عليه عرفاً وبالحمل الشائع الصناعي أنه انبعاث عن بعث المولى، فإنه وإن كان من الصحيح بالتحليل الدقي أن هناك بعثاً ثبوتياً، وأن العلم والظن بالبعث أو احتماله هو غير البعث نفسه، سلمنا وأن شرط الصحة هو الانبعاث عن البعث، ولكن نقول: إن من انبعث عن الظن المعتبر يصدق عليه عرفاً أنه انبعث عن أمر المولى؛ فلو أن شخصاً سمع كلام زرارة مثلاً عن الإمام الصادق (عليه السلام): (حج بيت اللّه) وانبعث عنه؛ فإنه يصح عرفاً أن يقول: انبعثت عن كلام الإمام (عليه السلام)، مع أنهانبعث عن الحاكي عنه بل عن علمه بالحاكي عنه وظنه بالمحكي، وكذلك حال المنبعث عن العلم بكلام الإمام، وكذلك حال من احتمل أمر الإمام (عليه السلام) فانبعث عنه وما ذلك إلا لأن

ص: 224


1- وهذا الجواب مضاد للجواب الأول، فلا يجتمعان على سبيل منع الجمع، ويصح أن يكون هذا الجواب جواباً حلياً عن الشبهة كلها.

هذا القطع أو الظن أو الاحتمال متمحض(1) في المرآتية والطريقية للواقع فإن أصاب أو طابق كان الانبعاث - عرفاً - عن الواقع وإن لم يصب لم يكن الانبعاث - ثبوتاً - في أي منها عنه(2)، فتأمل(3).

والحاصل: إنه هل يفرّق بين البعث الثبوتي وبين البعث الإثباتي أي الصورة الذهنية عنها؟

فإن قيل: بأن ما ينسب إلى الصورة هو في الواقع، وبالحمل الشايع الصناعي منسوب إلى ذي الصورة، أجيب بأن الأمر في القطع والظن والاحتمال كله من هذا الباب، فيكون الانبعاث عن أي منها انبعاثاً عن الثبوت(4) فإن الانبعاث عن الشيء بالواسطة، هو انبعاث عنه.

وإن قيل بالعدم، أجيب بعدم صحة العبادة في الصور الثلاث كلها؛ فإن المكلف حتى في صورة العلم ليس منبعثاً عن البعث الواقعي، بل هو منبعث عن الصورة الذهنية للبعث الواقعي لا غير.

لا يقال: العلم والظن كاشفان عن الواقع فيصح الإسناد فيهما إليه، عكس الاحتمال.

إذ يقال: أما القطع فهو كاشف في تصور القاطع عن الواقع مائة بالمائة، أما

ص: 225


1- المحض: اللبن الخالص بلا رغوة؛ وكل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء فهو محض. كتاب العين: ج3 ص111.
2- عن الواقع.
3- وجهه أن من انبعث عن الظن المعتبر يقال عرفاً أنه انبعث عن أمر المولى وبعثه، أما من انبعث عن الظن الشخصي غير المعتبر أو عن احتمال البعث والأمر يقال أنه انبعث عن ظنه بالحكم أو احتماله للأمر والبعث ولا يقال أنه انبعث عن بعث المولى أو عن أمره، فتأمل.
4- أي عن البعث.

العلم فكاشف عن الواقع ثبوتاً بغير قيد تصور العالم، وأما الظن فهو كاشف عن الواقع بنسبة سبعين بالمئة مثلاً،وأما الاحتمال فهو كاشف عن الواقع بنسبة ذلك الاحتمال، لأنه بحساب الاحتمالات حتى لو كان الاحتمال واحداً بالمليون فإن له كاشفية بمقداره، وتترتب عليه بعض الثمار(1) وليس أنه لا كاشفية له بالمرة.

وبذلك يجاب عن شبهة الشيخ (رحمه اللّه) المتقدمة(2)، فيقال: إن هذا القطع لوحظ بما هو كاشف وهو متمحض في المرآتية.

نعم، إن لوحظ موضوعياً لكان إشكال الشيخ (رحمه اللّه) صحيحاً؛ وقد وقع الشيخ (رحمه اللّه) - فيما يبدو - فيما ظاهره التناقض حين اعتبر أن مقطوع الخمرية لا يكون حداً أوسط، أما مظنون الخمرية فيكون حداً أوسط؛ إذ لو قلنا: إن المعيار هو الثبوت فكل منهما لا يقع حداً أوسط؛ وإذا قلنا: إن المعيار المرآتية فكلاهما مرآة ويمكن أن يقعا حداً أوسط، وتفصيل النقاش مع الشيخ (رحمه اللّه) في الملحق.

ثالثاً: استقلال العقل بصحة الانبعاث عن احتمال الأمر

الأمر الثالث(3): سلّمنا أن الانبعاث عن العلم أو الظن المعتبر بالبعث انبعاث عنه عرفاً وبالحمل الشائع دون الانبعاث عن احتمال البعث وإن كان ثبوتاً مطابقاً، لكن نقول: العقل يستقل بأن الانبعاث عن احتمال أمر المولى أيضاً مقرّب، ولا يشترط في العمل العبادي أكثر من الانبعاث المسند إلى أمر المولى، سواء أكان هذا الاسناد بنحو القطع، أم الظن، أم الاحتمال.

ص: 226


1- وهذا البحث من المباحث المفتاحية وقد فصلنا الكلام فيه في كتاب (الحجة) مبحث حجية الاحتمال.
2- بأنه لا يصح: هذا مقطوع الخمرية، وكل مقطوع الخمرية حرام؛ لأن الحكم رتب على الخمر الثبوتية.
3- وقد سبق تفصيله.

مبنى النائيني (رحمه اللّه) في مرجعية الاشتغال لدى الشك

وقال الميرزا (رحمه اللّه): (ثمّ لو شككنا في ذلك ولم ندر أن الامتثال الاجمالي والاحتياط في عرض الامتثال التفصيلي أو في طوله، بمعنىأن الانبعاث يعتبر أن يكون مستنداً إلى الأمر جزماً أو أن الانبعاث إذا استند إلى احتمال الأمر أيضاً يكفي في الامتثال، فلا مناص من أن يرجع إلى قاعدة الاشتغال لأنه من الشك في كيفية الاطاعة والامتثال، وأنه لا بدّ أن يكون تفصيلياً أو يكفى فيه الاحتياط، فإن العمل عبادي - على تقدير وجوبه - فإذا شكّ في كيفية طاعته لا بدّ من الاحتياط. وقصد القربة والتعبد وإن كان مأخوذاً في المتعلق شرعاً عنده وعندنا، والشك في اعتباره من الشك في الأقل والأكثر إلاّ أن اعتبار قصد القربة إذا كان معلوماً في مورد، وشك في كيفية طاعته فهو يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير وهو مورد لقاعدة الاشتغال. وبذلك منع جواز الاحتياط فيما إذا استلزم التكرار، وزاد أن العلم بالتكليف موجود في مورده فلا بدّ من الخروج عن عهدته بما يراه العقل طاعة)(1).

وحاصله: وجوب الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، لأنه من الشك في كيفية الإطاعة والامتثال بعد العلم بثبوت الوجوب، فإن المكلف عندما يشك هل يجب أن يمتثل تفصيلاً أم أن الامتثال الإجمالي بالاحتياط كافٍ، فهنا شك في كيفية الإطاعة والامتثال والمجرى هو الاحتياط، لأنه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

توضيحه: إذا تعلق الأمر بشيء ولم يعلم المكلف أنه لو أتى بالمأمور به بهذا النحو دون ذاك النحو، فهل امتثله أم لا؟ مع علمه بأنه أتى به بذلك النحو الآخر فهو ممتثل قطعاً، فقد دار الأمر بين تعيين هذا أو التخيير بين هذا وذاك؛ فالمجرى هو الاشتغال حسب كلام الميرزا (رحمه اللّه).

ص: 227


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص51.

والحاصل: إنه حين الشك في أصل وجود الأمر فالمجرى البراءة، لكن الفرض أنه يعلم بوجود الأمر بقصد القربة في العبادة، إلا أنه لا يعلم بكيفية الامتثال: وانه هل يُمتثل قصد القربة بالإسناد الاحتمالي أيضاً أم لا يمتثل إلا بالإسناد التفصيلي فقط؟ وهنا يكون المرجع هو قاعدة الاشتغال.

ونضيف: إن صريح المحقق النائيني (رحمه اللّه) إرجاعه المسألة إلى مبحث الدوران بين التعيين والتخيير، ولكن يمكن أن نطور كلامه (رحمه اللّه)بإرجاع المسألة إلى مبحث العنوان والمحصل، حيث إن الأمر لو تعلق بالعنوان وشك في محصله فالمجرى هو الاحتياط.

وأما إجمال جوابنا عن الشبهتين: (شبهة العنوان والمحصل) وشبهة (الدوران بين التعيين والتخيير) فهو: أن الجامع - وهو الإسناد إلى المولى - معلوم اشتراطه، والخصوصية مشكوك فيها(1)؛ والأصل عدمها، إضافة إلى الجواب السابق من استقلال العقل بكفاية الإتيان بالعمل بداعي احتمال أمره في كونه قربة إلى اللّه تعالى وأنه ليس من الشك في شيء.

وأما إرجاع الشك إلى العنوان والمحصل، ففيه إنه من قبيل الجامع والخصوصيات، فليتدبر.

الاستدلال لكلام الميرزا (رحمه اللّه) ببعض الآيات

ثم إنه يمكن الاستدلال لكلام الميرزا (رحمه اللّه) وهو: (لاعتبار أن يكون التحرك والانبعاث في الواجبات العبادية مستنداً إلى تحريك المولى وبعثه) أي لا إلى احتمال بعثه وتحريكه بالآيات والروايات:

ومنها قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(2).

ص: 228


1- أي اشتراط خصوص الإسناد القطعي.
2- سورة الأعراف: 12.

حيث دلت هذه الآية الشريفة على أن الأمر يجب أن يُنبعث عنه، أي حيث أمرتك كان يجب عليك أن تسجد، إذن الأمر بما هو هو - لا احتمال الأمر(1) - هو محور الإطاعة والانبعاث.

فهذه الآية ونظائرها قد علقت الانبعاث على نفس الأمر، أو على نفس النهي في عكس الانبعاث وهو الانزجار والارتداع.

ويظهر الجواب عن ذلك بالتأمل في الأجوبة السابقة، إضافة إلى وضوح أن اللقب لا مفهوم له وأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وحيث كان المورد هو الأمر لا احتماله، قال تعالى: (إِذْ أَمَرْتُكَ).

إشارة استطرادية في جهات إعجاز القرآن الكريم

وهنا استطراد هام نافع في مواطن كثيرة، وهو أن من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: استخدامه بإبداع غريب مختلف أوجه الفصاحة والبلاغة التي تتموج بمضامين منوعة جديدة وتستبطن معاني متغايرة، وليس ذلك مجرد تفنن في الكلام، بل إنه إيراد الكلام بأوجه يعجز عنها فطاحل الفصحاء والبلغاء.

والآية الشريفة من هذا القبيل حيث استخدمت مفردة: (مَنَعَكَ...) بدل (دعاك) وهو المطابق ل(أَلَّا تَسْجُدَ) وذلك من باب التضمين(2) الذي يعدّ من

ص: 229


1- أي احتمال أني قد أمرتك.
2- التضمين: هو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه؛ كما عن الباقلاني في (إعجاز القرآن): ص272، وأوضح منه ما جاء في حاشية على الكشاف للجرجاني: (التضمين أن يقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى فعل آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شيء من متعلقاته، كقولك: أحمد إليك فلاناً، لاحظت فيه مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته، أعني (إلى)، أي أنهي الحمد إليك، وفائدة التضمين إعطاء مجموع المعنيين، فالفعلان مقصودان معا قصدا وتبعاً) حاشية على الكشاف :ص120. وللمزيد انظر كتب البلاغة والأدب، نعم قد بحثه الأصوليون في مبحث (استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي)، وهناك كلام مفيد لأنواع التضمين في (بدائع الأفكار): ص170 فراجع.

أجمل وجوه البلاغة.

وحيث لم يلاحظ البعض هذا المعنى القرآني اللطيف توهم زيادة (لا)(1) في قوله: (أَلَّا تَسْجُدَ)، حيث تصور لزوم أن يقال: (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك) بدل (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) كما في الآية الشريفة.

لكن الصحيح أن (لا) ليست زائدة، بل هي ضرورية وجوهرية، وفيها مزيد الفائدة، وذلك لأن (منع) تضمنت معنى آخر،وهو معنى (دعا)، أي ما منعك ودعاك أن لا تسجد؛ فأضحت (مَنَعَكَ) تتضمن معنيين، وهما معنى منعك ومعنى دعاك، والتعليل ينبغي أن يكون بعدم المقتضي لا بالمانع وإن كان متحققاً مادام المقتضي مفقوداً.

توضيح ذلك: إنه إذا لم يوجد شيء نظراً لعدم المقتضي لتحققه، فإن عدم المعلول والانتفاء ينسب إليه، فيقال: انتفى لعدم المقتضي، كما في قولك: لم تحترق الخشبة لعدم وجود النار، أما إذا كان المقتضي موجوداً والمانع موجوداً أيضاً، فالانتفاء حينئذ ينسب إلى وجود المانع، كما في قولك: لم تحترق الخشبة لأنها مبتلة بالماء، أما إذا اجتمع عدم المقتضي وعدم المانع فإن الانتفاء ينسب إلى عدم المقتضي، كما في قولك: لم تحترق الخشبة المبتلة لأن النار غير موجودة، وهذا مقتضى القاعدة.

ص: 230


1- ذهب أكثر المفسرين إلى هذا المعنى؛ أي زيادة (لا)، منهم الشيخ في التبيان: ج4 ص357، والطبرسي في مجمع البيان: ج4 ص224، والكاشاني في تفسير الأصفى: ج1 ص362، والزمخشري في الكشاف: ج2 ص62، والإمام الشيرازي في (تقريب القرآن إلى الأذهان): ج2 ص159، وغيرهم الكثير. نعم ليس المقصود بالزيادة: اللغوية كما هو واضح، فمن قال بزيادتها قال بفوائد في زيادتها، كتأكيد معنى الفعل الذي دخلت عليه، والتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود، أو لقطع الكلام عما سبقه والابتداء بالكلام التالي ليتكرر التوبيخ.

وفي المقام فالمنع في (مَا مَنَعَكَ) إشارة إلى المانع؛ و(دعاك) المضمنة فيها إشارة إلى المقتضي؛ فقد جمع القرآن الكريم في هذه الكلمة وفي لفتة اعجازية مبهرة بين الإشارة إلى المانع والإشارة إلى المقتضي معاً.

وتوضيحه: أن السبب الذي منع إبليس من السجود هو استكباره؛ أما الداعي له ومقتضيه(1) فهو سوء سريرته وخبث باطنه، واللّه تعالى المطلع على ذلك استخرجه بالحمية كما في الرواية(2)؛ فقد أشارت هذه الآية الكريمة إلى المانع، لكنها ضمّنته معنى إضافياًهو عدم وجود المقتضي في إبليس؛ إشارة إلى أن خبثه وسوء سريرته كان الداعي لعدم سجوده؛ وليس أنه كان راغباً في السجود لكنه منعه مانع فإن هذا أهون من ذاك، فكانت إضافة كلمة (لا) إشارة إلى هذا المعنى المضمن فيه الإشارة إلى عدم المقتضي وإنما قال (منعك) مضمن فيه (دعاك) لأن المعنى الظاهر للناس في عدم سجوده هو المانع وهو تكبره فذكر لأنه الأظهر لدى الناس وضمّن معنى (دعاك) لأنه الأكثر عمقاً والأبعد غوراً فقد خوطب بالآيات العلماء والجهال جميعاً ليغترف منها كل منهم حسب سعته الوجودية، فهذا من الوجوه التي خطرت بالبال واللّه العالم.

وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخرى: نشير إلى أحسنها:

ص: 231


1- الداعي له ليتكبر.
2- ومنه ما جاء في نهج البلاغة: الخطبة 192 المسماة بالقاصعة: (الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله. فعدو اللّه إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين).

فمنها: إنه من إيجاز الحذف بمعنى أنه قد أريد الفعلان (منع ودعا) فذكر أحدهما وحذف الآخر وأشير إلى المحذوف بمتعلقه المناسب له.

ومنها: إن منعك مستعمل في معنى دعاك مجازاً و(لا) هي قرينة المجاز، كما عن السكاكي في المفتاح.

ومنها: إن في المقام حذفاً رائعاً دل عليه الكلام والمعنى هو ما منعك من السجود فدفعك إلى أن لا تسجد.

وههنا بحث آخر وهو: هل أن التضمين من استعمال اللفظ في أكثر من معنى؟ أو أنه من استعمال اللفظ في غير الموضوع له؟ أو أنه من الانتقال لا الاستعمال؟ أو غير ذلك؟ يترك تحقيقه لمظانه، وقد بيّنا بعض جوانبه في كتاب المعاريض والتورية فليلاحظ.

وكذلك الحال في قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(1)، فإن مجيء (عَنْ) هو لتضمين معنى ثانٍ غير المخالفة وهو الإعراض، أي معرضين عن أمره، فهم مخالفون أمره ومعرضون عنه أيضاً والاعراض أمر آخر غير المخالفة، فتدبر جيداً.

ملحق: الشيخ (رحمه اللّه): القطع لا يقع حداً أوسط

سبق أن الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الرسائل قال: (ومن هنا يعلم: أن إطلاق الحجة عليه ليس كإطلاق الحجة على الأمارات المعتبرة شرعاً، لأن الحجة عبارة عن: الوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغير لإثبات حدوث العالم، فقولنا: الظن حجة، أو البينة حجة، أو فتوى المفتي حجة، يراد به كون هذه الأمور أوساطاً لإثبات أحكام متعلقاتها،

ص: 232


1- سورة النور: 63.

فيقال: هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه. وكذلك قولنا: هذا الفعل مما أفتى المفتي بتحريمه، أو قامت البينة على كونه محرماً، وكل ما كان كذلك فهو حرام.

وهذا بخلاف القطع، لأنه إذا قطع بوجوب شيء، فيقال: هذا واجب، وكل واجب يحرم ضده أو يجب مقدمته)(1) و(وكذلك العلم بالموضوعات، فإذا قطع بخمرية شيء فيقال هذا خمر وكل خمر يجب الاجتناب عنه، ولا يقال: إن معلوم الخمرية كذا لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر لا لما علم أنه خمر).

وبعبارة أخرى: إنه (رحمه اللّه) يرى أن الظن والظنيات المعتبرة(2) يمكن أن تؤخذ أوسط في القياس لتكون حجة لإثبات الأكبر للأصغر، فتقول: هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون الخمرية حرام، فهذا حرام.

ولكن لا يصح أن تقول: هذا مقطوع الخمرية، وكل مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام.

لأن الكبرى غير صحيحة على رأي الشيخ (رحمه اللّه) لدليلين:

الدليل الأول: إن الحكم ثابت للخمر الثبوتي لا الإثباتي، لأن كل خمر حرام، وليس كل مقطوع الخمرية حرام، فالحرمة للخمر لا لما عُلم أنه خمر.

الدليل الثاني: إن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب، فلا تطلقعلى نفس القطع، وحسب ما جاء في نص عبارته حينما قال (رحمه اللّه): (والحاصل: إن كون القطع حجة غير معقول، لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب، فلا يطلق على نفس القطع)(3).

ص: 233


1- فرائد الأصول: ج1 ص29 -30.
2- مثل خبر الواحد والبينة وما أشبه.
3- فرائد الأصول: ج1 ص30.

المناقشات

ولكن كلا دليليه محل تأمل، أما الدليل الأول فيرد عليه:

القطع المرآتي يقع أوسط في القياس

إن الظن والقطع إن لوحظا موضوعيين، أي كانا بما هما هما(1) مدار حكم من الأحكام(2)، لما صح أخذ الظن ولا القطع في الكبرى كأوسط في القياس، لإثبات حكم لموضوع ما (كالحرمة للخمر) ولا كل مقطوع الخمرية حرام؛ لأن القطع وكذلك الظن حينئذٍ أجنبي عن الموضوع؛ والفرض أن تمام الموضوع نفس الخمر، وكذا إذا عدّا جزء الموضوع للحرمة لأن تمام الموضوع لحرمة الخمر هو الخمر نفسه وليس الموضوع مركباً من أمرين: الخمر والقطع أو الظن به.

فالظن والقطع أجنبيان عن موضوع الحرمة، وإذا تم ملاحظة القطع والظن بما هما هما لما صحت كلتا الكبريين.

وأما إذا لوحظ القطع والظن مرآتين لصحت كلتا الكبريين، فنقول: هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية حرام، لأن الظن المعتبر مرآة للخمر أي لإحراز أن هذا خمر كما أنه مرآة لحرمتها أي لإحراز حرمتها، ففي الواقع الحرمة بواسطة هذه المرآة انعكست على الخمر، وكذلك يقال في القطع إذا لوحظ طريقياً، أي بنحو لا مدخلية له بالموضوع بالمرة، وإنما كان بنحو ما به ينظر لا ما إليه ينظر؛ فنقول: هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام، فإذا لاحظنا القطع على أنه مرآة فقط فقد صببنا الحرمة على الخمر،والقطع أجنبي عن الموضوعية للخمر بل إنما هو مرآة صرفة.

ص: 234


1- أي بلحاظ استقلالي.
2- كالإثابة عليهما.

وبتعبير آخر: المرآتية هي المتعين بالنظر العرفي؛ حيث إنهم يجدون نسبة الحرمة إلى مقطوع الخمرية نسبتها إلى الخمر نفسها وليست لشيء آخر؛ فكما إذا قيل: الخمر حرام؛ تكون نسبة الحرمة إلى الخمر حقيقة لا تجوزاً؛ كذلك لو قيل: إن مقطوع الخمرية حرام؛ فهو أيضاً حقيقة لا مجاز.

ثم إن هذا الجواب ينفع جواباً عن كلام الميرزا النائيني (رحمه اللّه)؛ حيث رأى في قصد القربة وفي العبادية اشتراط الانبعاث عن البعث لا عن احتمال البعث. فإن الانبعاث عن احتمال البعث انبعاث عن البعث عرفاً لا أن الاحتمال جزء الموضوع أو تمامه.

والقطع حجة لغةً وعرفاً وعلى أكثر المباني

وأما دليل الشيخ (رحمه اللّه) الثاني - وهو الذي يقع مثاراً للبحث بشدة - وهو قوله: (إن كون القطع حجة غير معقول؛ لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب؛ فلا يطلق على نفس القطع)(1)، أي فلا يكون القطع بنفسه حجة؛ إذ الحجة ما يوجب القطع، فلا تطلق الحجة والحجية على القطع نفسه، لأن الشيء لا يوجب نفسه.

والحاصل: إن الشيخ (رحمه اللّه) عرَّف الحجة بما يوجب القطع بالمطلوب، فالحجة هي علة للقطع، فلا يكون القطع بنفسه حجة، وإلاّ لكان علة لنفسه، فكيف يكون علة ومعلولاً في نفس الوقت، فيكون عبارة أخرى عن قولك: القطع بالمطلوب يوجب القطع بالمطلوب.

ولكن قد يرد عليه كبرى وصغرى

أما الكبرى وهي قوله: (إن الحجة ما أوجبت القطع بالمطلوب)، فهي غير

ص: 235


1- فرائد الأصول: ج1 ص30.

صحيحة، لأن تعريف الحجة ليس ذلك(1)؛ بل تعريفها لغةًهو: (ما يحتج به المولى على عبده، أو ما يحتج به العبد على مولاه)؛ وهو المتبادر عرفاً من الحجة أيضاً.

وهذا المعنى للحجة كما ينطبق على الظن المعتبر، ينطبق على القطع أيضاً، لأن القطع يحتج به العبد على المولى، فيقول: كنتُ قاطعاً بعدم محرّمية عشر رضعات فتزوجت من المرتضعة معي عشراً، ويقول أيضاً: كنتُ قاطعاً بعدم وجوب الصيام عليّ لمرضي فلم أصم، وعلى هذا ليس للمولى أن يعاقبه، وكذا في المقابل يحتج به المولى على عبده، ويقول له: كنتَ قاطعاً بحرمة الغيبة فلِم اغتبت؟ كما أنه يطلق على الدليل القطعي كالمتواتر كما يطلق على الدليل الظني كخبر الثقة فيقال الخبر المتواتر حجة كما يقال خبر الثقة حجة.

إذن التعريف اللغوي للحجة منطبق على القطع، بل هو الحجة بعينها، بل هو حجة الحجج.

أما التعريف الاصطلاحي للحجة فقد عرفت بعدة تعاريف:

منها: ما عن الآخوند (رحمه اللّه) أن الحجة هي المنجز والمعذر(2)؛ ولا شك بأن القطع منجز ومعذر، فهو حجة بحسب هذا التعريف.

ومنها: أن الحجة ما يجب اتباعها؛ والقطع يجب اتباعه عقلاً.

ولكن هذين التعريفين من التعريف باللازم.

ص: 236


1- اللّهم إلا أن يقصد مجرد الاصطلاح، ولا مشاحة فيه، لكنه لا ينبني عليه بحث أو استدلال عقلي كما صنع الشيخ (رحمه اللّه)، فتدبر.
2- كفاية الأصول: ص258، حيث قال (رحمه اللّه): (لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً، وتأثيره في ذلك لازم، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان).

ومنها: إن الحجة هي الكاشف أو المنكشف، والقطع بلا شك كاشف وفيه انكشاف، وصدقها على القطع بالحمل الشايع الصناعي لا شك فيه، فالقطع كاشف، بل كاشفيته ذاتية حسب المشهور.

والمستظهر لدينا أن العلم كاشفيته ذاتية، عكس من يقول: إن القطع كاشفيته ذاتية، إذ يرد عليه أنه أعم من العلم والجهل المركب.

وعلى أي فإن الظاهر أن أقرب التعاريف للمعنى هو هذاالتعريف، نعم صحة الاحتجاج لازمة للكاشفية وليس العكس، أما المنجزية والمعذرية ولزوم الإتباع فهي اللازمة لصحة الاحتجاج، فتأمل.

وتعريف الشيخ (رحمه اللّه) للحجة تعريف بالمصداق

وقد يناقش تعريف الشيخ (رحمه اللّه) للحجة بأنه تعريف بالمصداق، لأن (ما يوجب القطع بالمطلوب) مصداق من مصاديق الحجة، كالتواتر حيث يورث القطع بالصدور؛ والدليل على ذلك - غير التبادر الذي سبق ذكره وكذا تعريف اللغويين - أن الحجة بلا شك حتى عند الشيخ (رحمه اللّه) تصدق على خبر الثقة والظواهر، رغم أن تعريف الشيخ (رحمه اللّه) لا ينطبق عليها، فإن خبر الثقة لا يوجب القطع بالحكم الشرعي بل يورث مجرد الظن، وكذلك الظواهر وغيرها كالبينة والإقرار، فإنها لا تورث القطع بالواقع، بل عادة تورث الظن، والحاصل: إن خبر الثقة ونظائره من الحجج لا يوجب القطع بالحكم الشرعي الثبوتي وإن أوجب القطع بالحكم الظاهري، لكنهم لم يطلقوا عليها الحجة بلحاظ هذا الأخير خاصة، فتدبر.

وملخص القول: إن تعريف الشيخ (رحمه اللّه) للحجة تعريف بالأخص أو تعريف بالمصداق، وليس تعريفاً للمفهوم وما هو بالحمل الذاتي الأولي أو ما

ص: 237

يقرب منه، فقد عرّف (رحمه اللّه) الحجة تعريفاً غير جامع، ثم استشكل بعدم انطباقه على القطع، فتأمل.

ونظيره ما نقله الميرزا النائيني (رحمه اللّه) من تعريف القوم للحجة بقوله: (فإن الحجة باصطلاح الأصولي عبارة عن الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه)(1) وهو تخصيص من غير مخصص خاصة مع تصريحهم بان الأدلة أربعة ومنها العقل.

ومورث القطع حجة بالتبع والقطع حجة بالذات

وهنا جواب آخر، وهو أن الحجة بالذات هي القطع بنفسه، وأما ما أورث القطع فهو حجة بالتبع؛ فمثلاً المصداق الأجلى للحجة هو المتواتر، ولكن التواتر لدى التحليل العلمي الدقيق هو حجة بالتبع لا بالذات فان التواتر علة معدة لوجود الحجة؛ لأن التواتر بوجوده الثبوتي الذي لا يعلم به المكلف لا يستطيع المولى أن يحتج به عليه(2)؛ وإنما التواتر لو وصل وعلم به هو الذي يحتج به فهذا العلم في الواقع هو الحجة، أولاً وبالذات، وتلك هي علل معدة. وكذلك خبر الواحد والظواهر وما أشبه، كلها علل معدة، حتى الكتاب والسنة فإنهما بوجودهما الثبوتي ليسا بحجة على من لم يعلم بهما قصوراً؛ أي لا يحتج المولى بهما عليه حينئذ، إنما يحتج عليه بعلمه بالكتاب والسنة.

فالحجية أولاً وبالذات للصورة الذهنية، وتلك بوجوداتها الثبوتية علل معدة لا غير، فتأمل(3).

ص: 238


1- فوائد الأصول: ج3 ص7.
2- كما أنه بوجوده الثبوتي ليس منجزاً ولا بكاشف عن الواقع ... إلى آخره.
3- فإنه وإن صح دقةً لكنه لا يصح عرفاً، فتأمل.

ولا يراد بالقطع إثبات نفس المقطوع به

الجواب الثالث: سلّمنا أن تعريف الشيخ (رحمه اللّه) للحجة تام، ولكن مع ذلك نقول: إن تطبيقه الكبرى على المقام غير دقيق، لأن الشيخ (رحمه اللّه) يقول: إن الحجة هي ما يورث القطع بالمطلوب، فليس القطع حجة، لأن القطع مسبب عن الحجة ومعلول لها، فلا يمكن أن يكون نفسه الحجة.

فلو سلّمنا ذلك تنزلاً، فلا نسلّم صحة تطبيقه على صغرى المقام، فقوله (رحمه اللّه): (لا يصح أن يقال هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام) يرد عليه: أنه لا يراد في هذا المصداق أن يتمسك بمقطوع الخمرية على ثبوت الخمرية؛ بل يراد أن يرتب عليه أمر آخر؛ وهو أن كل مقطوع الخمرية حرام.

وبعبارة أخرى: إن تعريف الشيخ (رحمه اللّه): (الحجة ما يوجب القطعبالمطلوب) منطبق على الكبرى، لأن القطع بالخمرية أوجب القطع بالمطلوب وهو الحرمة، لا الخمرية كما قال الشيخ (رحمه اللّه)، فقد ثبت بالقطع بالخمرية حرمة الخمر، لا خمرية الخمر.

نعم، لو أريد إثبات الخمرية بالقطع بالخمرية، لصح ما يقوله الشيخ (رحمه اللّه): من أن إطلاق الحجة على القطع بالخمرية حينئذٍ يستلزم كون القطع علة للقطع.

تنبيه: وجوب الاستضاءة بالآيات والروايات في الأصول وغيره

ولا بد من التنبيه أخيراً إلى أنه في مثل هذا البحث الأصولي الدقيق يلزم الرجوع إلى الآيات والروايات، لأن الطرفين في البحوث العقلية قد يكونان قاطعين وقد يكون الرجوع إلى الكتاب العزيز والسنة الشريفة المتمثلة بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) هادياً لها إلى سواء الطريق، كما هو المشاهد وجداناً لكن شرط أن يحسن الإصغاء والاستماع.

ص: 239

قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(1) ولا بأس هنا بنقل الرواية التالية بطولها لما فيها من الفوائد والدلالات في المقام وغيره:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.

ص: 240


1- سورة الزمر: 18.

وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ وَعِلْماً فِي حِلْمٍ وَقَصْداً فِي غِنًى وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ وَطَلَباً فِي حَلَالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِوَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.

يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ

ص: 241

وَلَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.

نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ».

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):

«أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ» ثُمَّ قَالَ: «أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟» فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ»(1).

وهنا نشير إلى رواية واحدة صحيحة السند كمرجع في الخلاف مع الشيخ (رحمه اللّه).

(الحجة) في بعض الروايات بمعنى العلم

إن كلمة (الحجة) قد وردت في العديد من الروايات والآيات، فيسترشد في معناها بها، وأن ندور مدار الحجج الإلهية من الكتاب والعترة.

والرواية الآتية تصلح كدليل على أن القطع أو العلم حجة، ويصح أخذه أوسط في القياس، لا أنه ليس بحجة، لأن الحجة بحسب كلام الشيخ (رحمه اللّه): (ما يورث القطع، فلا يطلق على القطع)، حيث إن الرواية تفيد إطلاق الحجة على العلم.

وهي صحيحة مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمد 3 وقد

ص: 242


1- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من خطبة له (عليه السلام) يصف فيه المتقين، خطبة: 193.

سئل عن قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(1)، فقال: «إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً(2)، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلاً(3)، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه؛ فتلك الحجة البالغة»(4).

فالحجة البالغة بحسب هذه الرواية الشريفة هي قوله تعالى لعبده: (أفلا عملت بما علمت)(5) فتفيد أن علمك هو الحجة الإلهية عليك والمتفرع عليها حجة اللّه البالغة عليك.

إن قلت: إن الاحتجاج وإطلاق (الحجة) هو بلحاظ قوله (عليه السلام): (أفلا عملت بما علمت)؛ فظاهر الرواية هو أن الحجة البالغة هي الجملة المتقدمة، وليس العلم نفسه.

قلنا: المستفاد من الرواية وجود حجتين إحداهما متفرعة على الأخرى إحداهما على العبد والأخرى هذا الاحتجاج من الرب، والحجة الثانية متفرعة على الحجة الأولى، وبعبارة أخرى: فرق بين (الحجة عليّ)، وبين: (الحجة لله عليّ)؛ ف(الحجة عليّ) هي علمي؛ ويتفرع عليها صحة أن يحتج اللّه به عليّ؛ ولذا قال: (أفلا عملت بما علمت)، يعني أن الحجة كانت تامة عليك؛ وهي علمك؛ وأنا احتجعليك بها فاللّه يحتج عليّ يوم القيامة بثبوت الحجة عليّ في الدنيا بوجود العلم، والحجة عليّ في مقام المخاصمة هو في هذه الجملة المتقدمة،

ص: 243


1- سورة الأنعام: 149.
2- أي ومع ذلك تركت الواجبات وفعلت المعاصي.
3- بوجوب الصلاة وحرمة الغيبة مثلاً.
4- الأمالي - للطوسي (رحمه اللّه) -: ص9/ والأمالي - للمفيد (رحمه اللّه) -: ص227.
5- أو (أفلا تعلمت حتى تعمل).

والتي تعتمد على العلم في الدنيا؛ فالحجة الإلهية يوم القيامة متفرعة على ثبوت العلم لي في الدنيا؛ ولو لم يكن العلم حاصلاً لي في الدنيا لما احتج اللّه عليّ في الآخرة ب(أفلا عملت بما علمت)، فتأمل(1). والكلام طويل في هذه الآية الشريفة نتركه لبحث التفسير إن شاء اللّه.

وكان الأولى البدء في الاستدلال بهذه الرواية ونظائرها؛ ولكن جعلناها خاتمة لكي تلفت الأنظار أكثر إلى ضرورة التوجه للآيات والروايات في مقام الاستنباط والاستدلال فانها أولى من مجرد التأمل في كلمات القوم.

ص: 244


1- لأن ما ذكر وإن صح ولكنه أعم من إطلاق لفظ الحجة، في الرواية، على العلم، فتدبر وتأمل.

إشكال طولية الاحتياط لأنه مختلف فيه وغير قطعي

الوجه الآخر للإشكال على الاحتياط، أنه في طول الاجتهاد والتقليد، بوجهين مختلفين:

أولهما: لأنه مسألة خلافية فيحتاج في جوازه إلى اجتهاد أو تقليد، وهو ما استدل به صاحب العروة (رحمه اللّه).

وثانيهما: لأنه ليس من المسائل القطعية فيحتاج في جوازه إلى أحدهما.

تحرير محل النزاع

وقبل الجواب على الإشكالين نمهد مقدمة هامة في تحديد مورد النزاع ومعنى (الطولية) المبحوث عنها، فنقول: هناك مقامات أربع، يتضح بذكرها موضع النزاع والجواب عن الإشكالين أيضاً، وهي:

مقام الذات، ومقام وجه العمل، ومقام الاحتجاج، ومقام منشأ الحجية:

أولاً: أما مقام الذات، فلا شك في أن ذات الاجتهاد والتقليد ومفهومهما وحقيقتهما مغايرة لذات الاحتياط ومفهومه وحقيقته، ويكفي أن الأوليين من دائرة العقل النظري، أما الاحتياط فمن دائرة العقل العملي، كما أن ذات أي منها ليس في طول ذات الآخر، إذ يمكن تحقق كل منها - تكويناً - في عرض الآخر وبدونه، إلا على شبهة لزوم قصد الجزم أو التمييز والوجه، وقد سبق الجواب عنها، فتدبر وتأمل.

ثانياً: أما مقام وجه العمل، فإن الاحتياط قسيم للاجتهاد والتقليد، لأن المكلف إذا أتى بجلسة الاستراحة أو صلى إلى جهتين فقد يكون وجهه الاجتهاد، كما إذا أدى اجتهاده إلى وجوبها أو إلى أن يصلّي إلى جهتين، وقد يكون وجهه التقليد لمن أفتى بذلك، وقد يكون وجهه

ص: 245

الاحتياط إذ احتمل وجوب الجلسة فاحتاط بالإتيان بها أو احتمل القبلة إلى الجهة الثانية أيضاً، فيصلي لجهتين ويأتي بالجلسة تحصيلاًللواقع قطعاً، وقد سبق الجواب عنه، نعم قد يدعى أن كون وجه العمل هو الاحتياط غير مجزٍ مع إمكان أن يكون وجهه العلم(1).

ثالثاً: وأما مقام الاحتجاج فإن الاحتياط أيضاً قسيم للاجتهاد والتقليد؛ لأن الاحتياط مما يصح احتجاج العبد به على المولى، أي كما أن للمكلف أن يحتج بالاجتهاد أو بالتقليد، على المولى - وأنه هذا ما أدى إليه اجتهاده أو قاله مرجع تقليده - كذلك له أن يحتج بأنه احتاط، لكن هذا موقوف على استقلال العقل به وردّ الإشكالين ونظائرهما.

الإشكال بأن منشأ صحة الاحتياط هو الاجتهاد

رابعاً: أما منشأ الحجية فقد يقال: إن منشأ حجية الاحتياط - أي منشأ صحة الاحتجاج به على المولى ومنشأ صحة العمل المأتي به احتياطاً- هو الاجتهاد أو التقليد؛ فهو في طوله إذن.

الجواب: بل العقل حاكم بذلك بالاستقلال

والجواب: إن هذا الوجه للطولية مردود، وذلك لأن حسن الاحتياط من الأمور الفطرية البديهية، وليس منشؤه الاجتهاد أو التقليد.

وبعبارة أشمل: إن حسن الاحتياط أو وجوبه(2) فطري(3)، أو إنه من المستقلات العقلية(4) لاستقلال العقل وإدراك الفطرة، أن أخذ الحائطة على مقاصد

ص: 246


1- من اجتهاد أو تقليد.
2- (أو وجوبه) أي في موارد العلم الإجمالي بشروطه، أو مطلقاً.
3- كما ذهب إليه الشيخ كاشف الغطاء (رحمه اللّه) في كتاب النور الساطع.
4- كما ذهب إليه السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه.

المولى الملزمة حسن ومبرئ للذمة مطلقاً أو في الجملة، أي

في غير ما أخلّ بشرط كقصد الوجه والذي سبق الجواب عنه بأنه غير مشترط، وغير ما لزم منه محذور كدعوى أنه عبث بأمر المولى مع أن العرف بل العقل لا يراه عبثاً إذ احتاط بإتيان محتمل الوجوب ومقطوع الاستحباب بل حتى إذا احتاط بالصلاة للجهتين، بليرى العقل أنه على أي تقدير قد امتثل أمر المولى؛ فإذا كان الأمر بالصلاة إلى هذه الجهة مثلاً فقد امتثل، وإن كان إلى تلك الجهة فقد امتثل أيضاً(1).

وعلى هذا، فليس مرجع جواز الاحتياط إلى الاجتهاد أو التقليد، بل إن الثلاثة هي أمور فطرية في عرض واحد؛ فالفطرة تحكم أو تدرك، والعقل يستقل بالحكم - أو بإدراك - بصحة التقليد والاجتهاد والاحتياط في الجملة؛ فهذه الثلاثة منشأ حجيتها واحد؛ وهو الفطرة والوجدان أو استقلال العقل؛ فلا طولية بينها من حيث منشأ حجيتها وليست حجية بعضها مستندة للبعض الآخر.

والطولية خاصة بصورة الشك

وقد استدرك في (النور الساطع) على ذلك ما لو حدث للمكلف شك في جواز الاحتياط ولو من جهة وجود خلاف فيه، ففي هذه الحالة عليه أن يرجع إلى أحد الطريقين بأن يجتهد في جواز الاحتياط أو يقلد(2) فهو في طولها حينئذٍ فقط، ولا يُنقض عليه بالتقليد، بل بالاجتهاد نفسه؛ فإنه لا يمكن عكس الكلام عليه بما إذا حدث له شك في جواز التقليد أو جواز الاجتهاد ولو من جهة وجود الخلاف(3)؛

فإنه(4) لا يكون المرجع حينئذٍ هو الاجتهاد والتقليد لأنه دوري؛

ص: 247


1- وقد سبق الجواب عن إشكال قصد الوجه والتمييز.
2- انظر النور الساطع: ج1 ص8.
3- حيث إن الأخباريين يحرمون الاجتهاد والتقليد في الجملة، ومنهم فطاحل العلماء.
4- وجه عدم صحة النقض عليه.

وذلك أن صحة التقليد المختلف فيها ككلي طبيعي متوقفة على هذا التقليد(1)، وصحة هذا التقليد متوقفة على صحة الكلي الطبيعي للتقليد، أي إن صحة الكلي الطبيعي للتقليد متوقفة على صحة هذا التقليد؛ وصحة هذا التقليد متوقفة على صحة الكلي الطبيعي للتقليد؛ وهو دور(2).

بل الدور في الاجتهاد أيضاً لازم؛ لأنه لو شككت في صحة الاجتهاد، بعد الاطلاع على نزاع الأخباريين والأصوليين مثلاً، فكيف تصل إلى جواز الاجتهاد أو صحته عبر الاجتهاد، فهذا دور أيضاً؛ حيث إن الشيء لا يثبت نفسه(3).

والحاصل: أن مرجع الشاك في صحة الاحتياط هو إلى الاجتهاد أو التقليد أما مرجع الشاك فيهما فليس إليهما بل إلى العلم(4) خاصة.

كما لا ينقض عليه: بأن الظواهر وخبر الثقة كلاهما حجة؛ وحجية خبر الثقة في عرض حجية الظواهر؛ ولا يضر بالعرضية كون منشأ حجية خبر الثقة هو الظواهر لو استندنا فيها إليها، كما صنع بعض الأصوليين حيث أثبت حجية خبر الثقة بالظواهر، نحو قوله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(5)؛ فبمفهوم الوصف(6) أو مفهوم الشرط، أو نظراً للتعليل(7) استفاد حجية خبر الثقة؛ وكما في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(8)، وهكذا على تفصيل

ص: 248


1- وهو التقليد المصداقي.
2- أو يلزم التسلسل لو توقف صحة هذا التقليد المصداقي على تقليد آخر.
3- وهذه قاعدة حكمية؛ حيث إن الشيء لو كان هو من يثبت نفسه لتقدم عليها.
4- الأعم من الاطمئنان.
5- سورة الحجرات: 6.
6- الذي لا يقال بحجيته.
7- وهو الذي عليه المعوّل.
8- سورة النحل: 43 / وسورة الأنبياء: 7.

فيه وأخذ وردّ، لوضوح(1) أنه لو كان ذلك كذلك لاخل بالعرضية من حيث منشا الحجية، فتأمل.

التنقيح: انحصار طريق الامتثال بالاجتهاد

وبذلك ظهر وجه النقاش مع ما قاله في التنقيح: (وبما ذكرناه يظهر أن طرق الامتثال وإن مرّ أنها ثلاثة، إلا أنها في الحقيقة منحصرة بالتقليد والاجتهاد، بل بخصوص الاجتهاد كما تقدم في محله)(2).

إذ قد يورد عليه:

الجواب: وجه صحة الاحتياط، حكم العقل لا الاجتهاد

أولاً: إن قوله: (بأنها منحصرة في الاجتهاد والتقليد) غير تام إذ يرد عليه: عدم الانحصار، فإن الاحتياط قسيم ثالث، وهذه الثلاثة مختلفة ذاتاً بالبداهة كما أن دليل حجيتها واحد وهو استقلال العقل بجوازها؛ بل لعل استقلال العقل بجواز الاحتياط في الجملة أوضح من استقلاله بجواز الاجتهاد والتقليد(3)

في الجملة، فيطمئن بعدم العقاب ولا يضره حينئذٍ الخلاف(4)

اللّهم إلا أن يعمّم الاجتهاد إلى المستقلات العقلية، وهو باطل كما هو واضح.

نعم لو لم يستقل عقل المكلف بجواز الاحتياط وجب أن يجتهد فيه أو يقلد، وهذا ليس خاصاً به بل إذا لم يستقل عقله بجواز الاجتهاد أو التقليد لم يصح أن يقلد في جوازه أو يجتهد لأن شكه في جوازهما بنحو القضية الحقيقية

ص: 249


1- تعليل لا ينقض.
2- التنقيح: ج1 ص56.
3- لكون الاحتياط مما يوصل للواقع قطعاً، أما الاجتهاد والتقليد فظنيان، وقد سبق ما يورد عليه والجواب عنه.
4- هذان جوابان عن دليليه (رحمه اللّه).

فينطبق عليهما قهراً، فلا بد له من تحصيل العلم حصراً، نعم يبقى فرق المرجع(1) لدى الشك في الثلاثة كما سبق.

ولو سلم فطريق الامتثال منحصر في العلم

ثانياً: إن قوله: (بل بخصوص الاجتهاد كما تقدم في محله)، يرد عليه: إنه لو تنزلنا وسلمنا أن مرجع الاحتياط - بل وكذا التقليد - هو الاجتهاد للوجه الذي ذكره وهو: (لأن جواز الاحتياط ليس من المسائل القطعية التي لا تحتاج إلى الاجتهاد والتقليد، وإنما هو مورد الخلاف فلا مناص في الاستناد إلى الاحتياط من تحصيل العلمبجوازه ومشروعيته اجتهاداً أو تقليداً)(2) فإنه يلزم منه أن يكون الاجتهاد كذلك لأنه ليس جوازه من المسائل القطعية التي لا تحتاج إلى الاجتهاد؛ ولذا اختلف فيه وحرّمه الاخباري، وبعبارة أخرى: لدى الدقة فان حجيته عنده الثلاثة على فرضها (بالعَرَضِ)(3) و(ما هو حجة بالذات) هو العلم فقط، أي إن الحجة بالذات منحصرة بالعلم، أما الثلاثة فحجيتها ليست ذاتية اما الاجتهاد والتقليد فهما طريقان ظنيان للحكم الشرعي.

وكون ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم، سواء فسرنا الحكم بالظاهري أم بالمنجزية والمعذرية أم بلزوم الإتباع؛ فإن الحجج لابد أن تتبع وإن كانت ظاهرية(4)، غير نافع للمقام إذ الكلام أن حجية هذا الطريق الظني ليست ذاتية بل هي بحاجة إلى دليل (ثم إنه بعد قيام الدليل يكون الحكم المؤدى إليه قطعياً فيكون الاجتهاد كالاحتياط مفتقراً إلى الدليل على حجيته (بمعنى جواز إتباعه أو مبرئيته للذمة).

ص: 250


1- لدى الشك في الاحتياط المرجع التقليد أو الاجتهاد اما لدى الشك فيهما فالمرجع العلم.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص56.
3- أي حجيتهما بالعرض، أما العلم فحجيته ذاتية.
4- أي ولو كانت من الظن المعتبر.

والحاصل: إن قوله: (منحصرة بالاجتهاد) غير تام، لأن حجية الاجتهاد أيضاً مكتسبة وهي مما هو بالعرض، والعلم فقط هو الحجة الذاتية، هذا إن أريد من الطريق الطريق الدقي الذي ذاتّيه الطريقية والكاشفية وأما إذا أريد العقلائي أو العرفي والاقتضائي فإن الثلاثة كلها كذلك.

وقال: (فتارك طريق الاجتهاد والتقليد أيضاً لابد أن يكون مجتهداً أو مقلداً في جواز العمل بالاحتياط) (1) وفيه: إنه إذا استقل عقله بجواز الاحتياط فله أن يترك الطريقين.

العروة: لأن المسألة خلافية فيجب الاجتهاد أو التقليد فيها

وبذلك ظهر أيضاً النقاش فيما ذكره صاحب العروة (رحمه اللّه) في المسألة الخامسة بقوله: (في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً، لأن المسألة خلافية)(2) إذ قد يورد عليه إن الدليل والمدعى محل تأمل.

المناقشة

أما على المدعى؛ وهو قوله (رحمه اللّه): (يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً)، فيرد عليه ما سبق من أنه لا يلزم ذلك، لأن العقل يستقل بجواز الاحتياط مطلقاً أو في الجملة وهو من الفطريات أو الوجدانيات، فلا يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً؛ للعلم بجواز الثلاثة باستقلال العقل.

لا يقال: قد يزول العلم(3) بالتشكيكات، لأن العامي وإن كان عالماً بفطرته بجواز الاحتياط وقسيميه، لكنه لو ناقشه عالم فإنه سيشك ويقع في حيرة فيزول

ص: 251


1- التنقيح: ج1 ص56.
2- العروة الوثقى: ج1 ص12.
3- أي علم العامي بجواز الاحتياط نظراً لاستقلال عقله.

علمه؛ وعلى هذا لا يجدي القول: بأن العلم حجيته ذاتية؛ لأن ذلك ما دام موجوداً، وأما إذا زال تكويناً فإن الأمر يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

إذ يجاب: أولاً: بالنقض بأن هذا الأمر جارٍ حتى في أعاظم العلماء والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة وغيرهم، إذ ما أكثر من كان قاطعاً بمسألة ولكنه بعد فترة يحدث له الشك فيها بل قد يقطع بخلافها.

ثانياً: بالحل: بأن زوال العلم بسبب غيبي، أو بسبب اجتهاد معاكس، أو لتجدد برهان، لا يسلب الذاتي عن ذي الذات، مادام موجوداً وفرض الكلام في صورة العلم.

ثم إن هذا الإشكال مشترك بين الطرق الثلاثة و غير خاص بالاحتياط.

قال السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه): (حكم العقل البات بصدقالطاعة والامتثال مع الاحتياط)، حيث إن العقل يجزم بأن الامتثال يتحقق بالاحتياط (وعدم لزوم الجزم بالنية في صدق العبادة)، إذ يكفي صدق الإسناد للمولى في تحقق العبادية، (وعلى هذا لا يكون الجاهل مجتهداً، بل بحكم المجتهد في تنجز الحكم العقلي عليه)(1)؛ فكما أن الاجتهاد موجب لتنجز التكليف كذلك عقل الجاهل عند ما يلاحظ المسألة؛ لأنه لو ترك سلوك طريقي الاجتهاد و التقليد فإن الاحتياط منجز في حقه، فتأمل.

وأما الدليل، وهو قوله (رحمه اللّه): (لأن المسألة خلافية) فنقول: إن هذا الدليل

ص: 252


1- بيان الفقه: ج1 ص148، وتمام عبارته (دام ظله): (فاللازم أن يعتمد الشخص في جواز الاحتياط على أحد ثلاثة أشياء: أحدها: حكم العقل البات بصدق الطاعة والامتثال مع الاحتياط، وعدم لزوم الجزم بالنية في صدق العبادة، وعلى هذا لا يكون الجاهل مجتهداً بل بحكم المجتهد في تنجز هذا الحكم العقلي عليه، وثانيها: أن يثبت له حجية قول المجتهد فيفتي له ذلك المجتهد بجوازه، وثالثها: كون الاحتياط في مورد مقطوعاً به عند المتشرعة).

عليل؛ فإن النسبة بين كون المسألة خلافية وبين لزوم الاجتهاد والتقليد هي العموم والخصوص من وجه؛ فلا يستدل بأحدهما على الآخر، وذلك لأن المسألة قد تكون خلافية ولا يجب فيها الاجتهاد والتقليد لاستقلال عقله بها، وقد تكون بالعكس؛ بأن يجب فيها الاجتهاد والتقليد وإن كانت إجماعية ككثير من المسائل الإجماعية حيث يجتهد الفقهاء فيها إما لأنهم لا يرون الإجماع مطلقاً (أو خصوص المدركي أو محتمل الاستناد منه خاصة) حجة أو أن رأوه حجة فقد اجتهدوا في حجيته، وعلى أي فمن لم يجتهد فهو مقلد للمجمعين، فتأمل. فقوله: (يلزم الاجتهاد والتقليد لأن المسألة خلافية) مدعى نسبته إلى الدليل العموم من وجه.

وبعبارة أخرى: كون المسألة خلافية أعم من لزوم الاجتهاد أو التقليد فيها كما سبق.

ص: 253

(الفقه): المقياس استقلال العقل وعدمه، لا الخلاف والوفاق

أما (الفقه) فقد أجاب عن دليل صاحب العروة (رحمه اللّه) بأن المقياس هو استقلال العقل بجواز الاحتياط وعدمه؛ وليس المقياس الخلاف والوفاق(1) قال: (وبهذا تبين أن قول المصنف: (لأن المسألة خلافية) لا يصلح علة لوجوب الاجتهاد أو التقليد في مسألة جواز الاحتياط، إذ لو فرضنا كون المسألة وفاقية جوازاً أو منعاً، لم ينفع الاتفاق على الجواز في جواز احتياط هذا الشخص، ما لم يستقل عقله بجوازه أو جواز التقليد فيه، وكذلك لم يضر الاتفاق على المنع في جواز الاحتياط، إذ لو استقل عقله بجوازه لم يكن الاتفاق على المنع قادحاً له)(2).

وبعبارة أخرى: إن العقل لو استقل بجواز الاحتياط لم يضره الاتفاق على عدم جوازه بوجه، لأن المستقلات العقلية حجج ذاتية، فما دام العقل مستقلاً بشيء فلا يضره مخالفة من خالف ولو لم يستقل العقل بجواز الاحتياط أو التقليد فليس الوفاق على الجواز نافعاً ما دام العقل غير مستقل بالجواز، فإنه مع عدم استقلال العقل بجواز التقليد أو الاحتياط كيف يصح الرجوع إلى اتفاق الفقهاء في جواز الاحتياط، فإنه نوع تقليد؟

وهنا نقطة دقيقة في كلامه (رحمه اللّه)، وهي: إنه لم يذكر (المنفصلة) دائرة بين الاستقلال بالجواز والاستقلال بعدم الجواز، بل ذكر الاستقلال بالجواز وعدم الاستقلال به، أي إنه ذكر النقيضين وليس الضدين، فلم يذكر: (لو استقل العقل بعدم الجواز) فإن هذا هو غير حجة قطعاً، لكنه ذكر (عدم استقلال العقل بالجواز) فإنه لا يضر مع وجود الاتفاق على الجواز، فما وجه ذلك؟

ص: 254


1- الفقه - الاجتهاد والتقليد -: ج1 ص76.
2- الفقه - الاجتهاد والتقليد -: ج1 ص76 - 77.

والجواب: هنا أمران وصورتان(1):

الأولى: إن الاتفاق على جواز الاحتياط لا يكون نافعاً لمن يستقل عقله بعدم الجواز ليجوز له الاحتياط؛ وذلك لأن عقله استقل بعدم الجواز؛ وهذه حجة ذاتية وتلك حجة عرضية.

الثانية: إن الاتفاق على جواز الاحتياط لا يكون نافعاً لمن لم يستقل عقله بالجواز فلا ينفعه الاتفاق على الجواز، وهذه هي الصورة التي أشار إليها (رحمه اللّه) دون الأولى.

ولكن قد يتساءل إنه كيف ذلك؟ أي أنه عند ما لا يستقل العقل بالجواز فإن العقل ساكت والاتفاق ناطق؛ فَلِمَ لا يصح الرجوع لاتفاق العلماء والحكم بالجواز؟

والجواب: إن العقل إذا لم يستقل بجواز الاحتياط والتقليد؛ فإنه يعني أن العقل لم يحكم بأن هذا (الاتفاق) مؤمّن من العقاب فكيف يستند إليه؟

نعم لو حكم العقل: (إن الإجماع مؤمن لك من العقاب)، فإنه يصح تقليد المجمعين أي الأخذ بقولهم بلا دليل، ولكنه يرجع إلى حكم العقل بالجواز ولو بالواسطة، وأما عند سكوت العقل عن جواز الاحتياط من دون أن تكن هناك حجة ذاتية أخرى ترشد إلى أن (الاتفاق) يصح اتباعه، فلا مؤمّن من العقاب في إتباع الاحتياط.

مناقشة مع التنقيح: (لا يطمئن المحتاط بعدم العقاب)

مناقشة مع التنقيح: (لا يطمئن المحتاط بعدم العقاب(2))

وقال في (التنقيح):

(وسرّه أنه لو لم يقلد من يجوّز الاحتياط ولم يجتهد في جوازه، بل احتاط

ص: 255


1- والصور أربعة لدى الدقة.
2- أي مع احتماله عدم جواز الاحتياط.

مع احتماله عدم الجواز، لم يطمئن بعدم العقاب، لفرض احتمال الحرمة وكونه مستحقاً للعقاب بارتكابه)(1).

وفيه، بعد جريانه في الاجتهاد والتقليد، فإن الكلام بعينه جارٍ فيهما، فلو اجتهد من يحتمل عدم جوازه فإنه لا يطمئن بعدم العقاب،وكذا لو قلد من يحتمل عدم جوازه فلا مؤمن له من العقاب، فلا فرق إذن بين الاحتياط وقسيميه من هذه الجهة، فتأمل(2) الحل(3) بما مضى من أنه لا مجال لاحتمال العقاب مع وجود المؤمن، وهو استقلال العقل بجواز الاحتياط، بل بحسنه؛ إذن المكلف مطمئن بعدم العقاب حينئذ.

إن قلت: الوجدان يشهد بوجود شك بعدم جواز الاحتياط في بعض الأفراد، ولذا قال: (بل احتاط مع احتماله عدم الجواز)، فهذا مفروض الكلام ولا مناقشة في الفرض.

قلنا: إن هذا الاحتمال ملغي مع وجود الدليل؛ وهو استقلال عقله بالجواز فلا يضره شكه الناشئ عن الوسوسة أو عن احتمال وجود دليل أقوى معارض لم يلتفت له، وذلك كما في الظواهر فإنا نحتمل فيها الخلاف لكن هذا الاحتمال الشخصي ملغى مع وجود الظن النوعي، وكذلك الحال في خبر الثقة، بل الأمر أولى فيما لو استقل العقل بشيء وكانت نفسه شكاكة(4)؛ فإن شكه هذا ملغى ولا اعتبار به؛ إذ المؤمّن النوعي كاف.

ص: 256


1- التنقيح: ج1 ص56.
2- فإنه وإن صح لكنه لا يرد عليه (رحمه اللّه) إذ ليس مساق كلامه ذلك (أي التفريق بين الاحتياط والاجتهاد، بذلك) ليردّ بما ذكر.
3- متعلق ب(فيه).
4- أي إنه رغم استقلال عقله بجواز الاحتياط إلا أنه ما زال يشك في الجواز.

وقد يجاب: بأن ما فرض كونه من المستقلات العقلية فإنه لا مجال للشك فيه فإذا شك فيه عُلِم أنه ليس من المستقلات العقلية؟

وفيه: إن ذلك وإن صح من حيث المستقل العقلي بما هو هو وفي مَن كَمُل عقله، لكنه لا يصح في الكثير من الناس بالنسبة للعديد من المستقلات، والسرّ: عدم خلوص عقل آحاد الناس من شوائب الشبهات ودفائن العقول والأهواء والموانع، وقد فصلنا في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) ذلك، لكنّ ما سبق وإن صح في الوسواس أو من احتمل وجود دليل معارض ولم يحصل عليه بعد الفحص لكنه ظل محتملاً له، إلا أنّه لا يصح فيمن لم يجد من نفسه استقلال عقله بحسن الاحتياط أو جوازه، فتدبر؛وصفوة القول التفصيل بين أنواع الاحتمال، فتأمل.

ثم إن صاحب العروة (رحمه اللّه) كان ينبغي أن يعلل الحكم في عبارته(1)

المتقدمة بتعليل آخر نظير (لأن العبد بحاجة إلى مؤمن من العقاب، والمؤمن إما الاجتهاد أو التقليد) وهذا تعليل مناسب لولا الجواب عنه: بأن الاحتياط أيضاً مؤمن، والحاصل إنه كما أن الاجتهاد والتقليد مؤمّنان من العقاب فكذلك الاحتياط مؤمن على ما سبق، نعم ذلك صحيح - وكما سبق أيضاً - فيمن لم يستقل عقله بجوازه فلا بد إما أن يجتهد أو يقلّد.

وجه آخر لتوقف صحة الاحتياط على الاجتهاد: حاجته للإمضاء

ويمكن أن يعلل بوجه آخر وهو: (لأن جواز الاحتياط مما يحتمل فيه أن يكون غير ممضى شرعاً، فلابد لإحراز الإمضاء من الاجتهاد أو التقليد)، وهذا الوجه يبدو قوياً بدواً، وذلك لأن الطرق العقلائية تحتاج إلى الإمضاء ولو بعدم

ص: 257


1- حيث قال (رحمه اللّه): (في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهدا أو مقلداً، لأن المسألة خلافية)؛ وقد سبق أن هذا التعليل غير تام.

الردع، فهذا هو ما يتوقف على الاجتهاد أو التقليد وهو مما لا يستقل به العقل. ولا يدفعه ما سبق من أن الاحتياط مما يستقل العقل بكونه طريقاً للحفاظ على أغراض المولى الملزمة كالاجتهاد والتقليد وفي عرض واحد، فإنه(1) وإن استقل بأن الاحتياط طريق لأغراض المولى، لكن استقلاله بذلك غير كافٍ، لأن استقلال العقل بطريقيته إنما هو بنحو المقتضي وليس بنحو العلة التامة، إذ لا يمتنع في حكم العقل أن يقيّد الشارع هذا الطريق بقيود، كالعقود العقلائية التي تحتاج لإمضاء الشارع ولو بعدم الردع، بل لا يمتنع في حكم العقل أن لا يعتبره الشارع طريقاً أو محرزاً لأوامره أو أغراضه خاصة، نظير القياس.

والحاصل: إن العقل عند ما يحكم بأن: (الاحتياط طريقعقلائي) فإنه لا يزيد على أن طريقيته بنحو الاقتضاء، ولا يحكم بأن طريقيته ذاتية له، وعليه فانه لا يمتنع أن يأخذ الشارع في مؤداه أو فيه(2) قيوداً؛ كأن يشترط فيه قصد القربة أو قصد الوجه أو قصد الأمر أو قصد الجزم، نعم، اشتراطها مما نفيناه في عالم الاثبات بالأدلة، وأما في عالم الثبوت فتبقى ممكنة، وكذلك للمولى أن يشترط بان يطيع المكلف أوامره جازماً بنسبة الممتثَل به إليه وانه لا يكفيه الاحتمال، ولو لأجل مصلحة سلوكية يراها في هذا الشرط.

إذن صرف استقلال العقل بطريقية الاحتياط لا يكفي، بل يحتاج إلى الإمضاء أو عدم الردع أو يعتبر عدم الردع طريقاً للإمضاء، وذلك كما هو الحال في القياس فإنه طريق عقلائي لكن العقل لا يحكم بأن القياس حجيته ذاتية؛ بل غاية الأمر أنه يحكم أو يدرك أنه طريق ظني؛ فللشارع أن لا يمضيه كطريق إلى

ص: 258


1- هذا وجه (لا يدفعه).
2- (مؤدى الاحتياط) أي الفعل المحتمل كونه مأموراً به والذي يريد الاحتياط لإحرازه (أو فيه) أي في الاحتياط.

أحكامه إذ يرى أنه طريق غير موصل للواقع غالباً أو كثيراً ما، إذ يخطِّئ العقلاء في تصورهم أنه موصل للواقع غالباً حتى في أحكامه، وذلك لأن ملاكات الشارع ليست بيدهم وهم لا يعرفونها، إذن للشارع أن يرفض طرق العقلاء ويردع عنها.

فإذا تم ذلك، احتاج الاحتياط إلى الاجتهاد أو التقليد لإثبات إمضاء الشارع(1) أو لنفي رادعية الشارع له(2) وإن لم يحتج إليها لإثبات اقتضاء الحجية(3) فيه.

والحاصل: إن جواز الاحتياط متوقف على إثبات وجود المقتضي ونفي المانع، أي أنه معلول لاستقلال العقل بجواز الاحتياطمع عدم ردع الشارع عنه؛ فهذا المجموع ينتج جواز الاحتياط، والأخير لا يحصل إلا بالاجتهاد أو التقليد فلو رجعنا إليهما لإثبات إمضائه أو عدم ردعه على الأقل لكان الاحتياط بالتالي في طول الاجتهاد والتقليد، غاية الأمر أنا أثبتنا المقتضي بالعقل، أما نفي المانع فرجعنا فيه للاجتهاد أو التقليد.

الأجوبة

فإن هذا الإشكال مشترك الورود على الاحتياط وقسيميه، حيث إن الشبهة بعينها جارية في الاجتهاد والتقليد، فإنه في الاجتهاد الذي هو أقوى القسيمين يمكن أن يقال بأن استقلال العقل بجواز الاجتهاد أو بطريقيته لا يكفي

ص: 259


1- إن قلت: إن الاحتياط قد أمضاه الشارع، وقد تقدم ذكر الآيات والروايات، فلماذا بيان الحاجة إلى الإمضاء. قلتُ: هذا الإمضاء من الآيات أو الروايات لا يتم ولا يحرز إلا بالاجتهاد أو التقليد وهذا تثبيت للإشكال.
2- أي لابد أن يجتهد المكلف أو يقلد لإثبات إمضاء الشارع أو نفي رادعية الشارع له.
3- بمعنى المعذرية في سلوكه أو صحة إتباعه.

للحكم فعلاً بجوازه، إذ غاية الأمر أن العقل مستقل باقتضاء الاجتهاد للإجزاء وكون المأتي به على ضوء الاجتهاد ممتَثلاً به وأنه حجة وجائز اقتضاءً، فالعقل لا يقضي بأكثر من ذلك، لأن حجية الاجتهاد ظنية وليست ذاتية أي إن العقل يستقل بجواز التقليد والاجتهاد ولكن بنحو المقتضي لا العلة التامة(1)، فيمكن للشارع أن يردع عنهما كما ردع عن التقليد في أصول الدين على رأي المشهور، وللشارع أن يردع عن الاجتهاد فيحكم بعدم جواز التمسك إلا بالمتواتر مثلاً.

والحاصل: إن الحجية ليست ذاتية للاجتهاد ولا للتقليد وإنماالحجية ذاتية للقطع فقط(2)؛ فإذا استقل العقل بجواز الاجتهاد أو التقليد يأتي السؤال: من أين أن الشارع لم يردع عنهما؟

إذن يتوقف الحكم بإجزاء الاجتهاد وصحته وجوازه على عدم المانع أيضاً، والمانع هو ردع الشارع عنه، فلابد لترتب المعلول من إحراز عدم المانع، ولا يتم الكشف عن عدم المانع إلا بالاجتهاد، فيجب أن يجتهد في معرفة أن لا ردع للشارع، فقد توقفت حجية الاجتهاد وصحته على حجية الاجتهاد

ص: 260


1- فائدة: المستقلات العقلية قسمان، فإن العقل يستقل بحسن العدل وكذلك يستقل بحسن الصدق ولكن هناك فرقاً بينهما، إذ يستقل بحسن العدل بنحو اللزوم الذاتي فلا يمكن للشرع أن يردع عن العدل، كما أنه يستقل بقبح الظلم بنحو العلية التامة وبنحو اللزوم الذاتي فلا يمكن للشرع أن يجوّز الظلم، أما الصدق فيستقل العقل بحسنه ولكن بنحو المقتضي لا بنحو العلة التامة؛ ولذا للشرع أن يقول: هذا الصدق لأن ضرره أكبر فهو مذموم، وذاك الكذب في الإصلاح جائز بل مستحب بل قد يكون واجباً. ومثال آخر: العقود أمور عقلائية لكن الشارع قد يمنع من بعض العقود مثل بيع الكالئ بالكالئ، حيث البيوع أربعة: البيع بالنقد والنسيئة والسَّلَم والكالئ بالكالئ، مع أنه عقلائي وعليه معاملات الكثير من الناس لكن الشارع لا يجيزه، وفيه كلام طويل نتركه لمحله، وما نحن فيه من هذا القبيل.
2- هذا على رأي المشهور، أما رأي السيد الأستاذ (دام ظله) فهو أن الحجية ذاتية للعلم فقط.

وصحته، وهو دور.

وبعبارة ألطف: إنه مع الشك في جوازه(1) كيف يستند إليه في جوازه بجوازه(2)، وقد مضى تقرير الدور بأنه: الاستناد في صحة الكلي الطبيعي للاجتهاد مثلاً، على صحة هذا المصداق من الاجتهاد(3)، المتوقف صحته على إحراز صحة الكلي الطبيعي للاجتهاد، فالإشكال مشترك الورود.

الجواب عن الدور وعن أصل الإشكال

ويمكن أن يجاب عن إشكال الدور بوجوه:

الأول: سلّمنا طولية صحة كلي الاجتهاد مع صحة خصوص هذا الاجتهاد بعدم تحقق الرادع أو بتحقق الإمضاء، لكنه مما لا يضر ولا يدفع طولية صحة الاحتياط وتوقفه على الاجتهاد بعدم الرادع عنه بل يؤكدها، والفرق أن الاحتياط توقف على غير سنخه(4) أما الاجتهاد فقد توقف على سنخه، والحل هو أن يقال:

صحة الاجتهاد والاحتياط متوقفة على الإمضاء وهو قطعي

إن كلي الاجتهاد الحدسي، جوازُه أو إجزاؤُه أو صحته، متوقف على الإحراز القطعي لإمضائه والاطمئنان منه(5)، ولا يكفي الإحراز الاجتهادي لذلك وإلا لدار، ولا دور مع إحراز عدم الردع بالقطع الحاصل من الاستقراء التام لكل الأدلة، وتراكم القرائن والظنون.

ص: 261


1- الاجتهاد.
2- مرجع الضمائر: الاجتهاد.
3- وهو الاجتهاد في إحراز عدم الردع.
4- وهو الاجتهاد.
5- أي من القطع.

الثاني: إن صحة كلي الاجتهاد - وهو حدس - متوقف على صحة خصوص هذا الاجتهاد - بأنه لا يوجد ردع من الشارع بل يوجد الإمضاء -، لكن خصوص هذا الاجتهاد وإن كان حدسياً لكنه حدس قريب من الحس وهو حجة، فلا دور ولا توقف للشيء على ما يتوقف عليه، وإنما يلزم الدور إذا توقف الكلي الطبيعي للاجتهاد الحدسي على مصداق اجتهاد حدسي، دون ما إذا توقف الكلي الطبيعي الحدسي على المصداق الحدسي القريب من الحس.

توضيحه: إن الذي يراد إثباته هو أن الاجتهاد الحدسي(1) حجة بالفعل، والمقتضي لذلك موجود وهو استقلال العقل بحجيته الاقتضائية، نعم تمام حجيته موقوفة على إحراز عدم الردع الشرعي، وهذا يحتاج إلى الاجتهاد، ولكن إحراز عدم الردع الشرعي ليس بالاجتهاد الحدسي الصِرف، بل هو بالمعرفة الحسية أي الاجتهاد الحدسي القريب من الحس(2) بعدم ردع الشارع، وهذا محرز لأننا نرى عند تتبع أحوال أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الذين اعتمدوا على فتاوى أمثال زرارة عدم الردع من الشارع بوضوح.

والحاصل: إنه إذا كان هناك ردع شرعي حسي عن الاجتهاد لما كان حجة، وإن لم يكن - وهو مما يحرز بالحس(3)

- فعدم الردع هو طريق للإمضاء.

بل المسموع هو الإمضاء، نظير «اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِوَأَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ»(4) ونظائره، فتأمل.

ص: 262


1- وهو الاجتهاد المتعارف.
2- استخدمنا كلمة (الاجتهاد) هنا بمعناها اللغوي لا الاصطلاحي، وسيأتي في هامش لاحق بيان المقصود من الحسي.
3- أي الحدس القريب من الحس لعدم سماع نص بالمنع والردع، وعدم وصوله.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص315.

أما القياس فإنه وإن كان طريقاً عقلائياً في الجملة لكن الردع الشرعي عنه كان حسياً واضحاً، بل إن الروايات في الردع عن القياس كثيرة وصريحة في التحريم، وذلك كقوله (عليه السلام): «إن السنة إذا قيست محق الدين»(1) وقوله (عليه السلام): «أول من قاس إبليس»(2) إلى غيرهما مما هي بالعشرات(3).

فإذا كان الأمر كذلك فالدور مرتفع، والحجية الاقتضائية للاجتهاد والتقليد والاحتياط تحولت إلى حجية فعلية ببركة متمّم حسي لا حدسي، إذ لا نرى ردعاً حسياً لهذه الثلاثة ولم يبلغنا ردع حسي ظاهر.

هل إحراز عدم الردع حدسي؟

وبذلك يظهر الجواب عن الإشكال أن إحراز عدم الردع في الثلاثة حدسي وليس حسياً، إذ لم يرد نص بأنها غير مردوع عنها مثلاً بل من عدم الظفر برادع استفيد عدم الردع مع أن عدم الظفر به أعم منه فانتقل منه إليه بالاستنباط والاستظهار، ويوضحه أن الردع في القياس حسي(4)، ولذا كان واضحاً ولا خلاف فيه.

ومما يدل على حدسيته أن الأخباريين حرّموا الاجتهاد والتقليد، واستندوا إلى آيات وروايات وأدلة عقلية، من قبيل: «من دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس»(5)، والجواب عن مثل هذه الرواية متوقف على (فقه الحديث) والتوجيه

ص: 263


1- الكافي: ج1 ص57.
2- الكافي: ج1 ص58.
3- وهناك أبواب في كتب الحديث قد عنونت بهذا الخصوص.
4- المقصود بكونه حسياً: إن النهي عنه لشدة وضوحه لا يحتاج إلى إعمال فكر وإجالة رأي واستنباط، و يمكن الاستعاضة عنه بالتعبير: بالقريب من الحس.
5- الكافي: ج1 ص58.

الاجتهادي أو التقليدي، بأن يقالمثلاً إنها موجهة لأهل العامة والمراد بها تحريم الاجتهاد في قبال النص لا الاجتهاد في إطار النص، وهذا متوقف على إجالة الفكر والتدبر وهو حدسي.

وبتعبير آخر: حجية الظواهر وخبر الثقة مثلاً متوقفة على إعمال حدسين حدس لإثبات المقتضي، وحدس آخر لإثبات عدم المانع، فالمانع الحدسي هو الآيات المانعة من إتباع الظن: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(1)، وبما أن خبر الثقة ظني احتاج الفقيه في الجواب إلى الاجتهاد وإعمال الفكر والاستنباط لمعرفة ما هو المقصود من هذه الآية، فهل هي خاصة بأصول الدين؟ أو إنها عامة ولكن خرج منها الظن المعتبر والظن النوعي خروجاً موضوعياً؟ أو بالتخصيص؟ فهذه الاحتمالات والأجوبة ونظائرها فيها نقاش وأخذ وردّ، ويحتاج كل ذلك إلى إعمال النظر والفكر، إذن: إحراز عدم المانع هنا حدسي.

وكذلك الأمر في الاحتياط حيث إن نفي المانعية(2) بحاجة إلى إعمال فكر ورأي.

وعليه: فالجواب النقضي وسّع دائرة الإشكال فلابد من جواب حلي.

وقد ظهر مما مضى جوابان عن هذا الإشكال:

الأول: إن نفي المانع عن حجية الاجتهاد والاحتياط، كان بالعلم أو الاطمئنان المتاخم له لا بالاجتهاد ليلزم الدور في حجية (الاجتهاد) وتلزم الطولية في صحة (الاحتياط).

الثاني: إن نفي المانع وإن كان حدسياً، لكنه من الحدس القريب من الحس

ص: 264


1- سورة يونس: 36.
2- لمثل اعتبار قصد الجزم في المعاملات أو الوجه أو التمييز في العبادات وغيرها مما يستفاد منه ردع الشارع عن الاحتياط فيها.

فهو غير الحدس الصِرف المعهود المعبر عنه بالاجتهاد، فتأمل.

ويؤكد الجواب الأول والثاني أيضاً إن نفي الرادع وإن كان حدسياً، لكن ذلك لا يخل بحجية هذه الثلاثة، لأن حجيتها تتوقف فيركنٍ على استقلال العقل وهو المقتضي. والركن الآخر يتوقف على الاطمئنان المتاخم للعلم بعدم المانع؛ ومرجع ذلك كله إلى (العلم) بحسب القاعدة المعروفة: كل ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات.

ويكفي برهاناً على ذلك: أننا نجد كافة المجتهدين قاطعين بعدم وجود الردع عن الاجتهاد والاحتياط(1)، كما أننا بالوجدان نجد أن الاجتهاد ومطلق قول أهل الخبرة حجة على العبد لا ريب فيها، وأن الاحتياط في أغراض المولى الملزمة مبرئ للذمة، وأن سيرة المتدينين على هذه الثلاثة.

والحاصل: إنه وإن سلمنا إن الحجج خاصة المفتاحية منها - مثل الاجتهاد والتقليد والاحتياط - لابد من أن تنتهي إلى العلم، لكن ذلك حاصل بالنسبة للثلاثة، وذلك لثبوت المقتضي بالاستقلال العقلي ونفي المانع بالاطمئنان العقلائي، وإلا فإن المجتهد لو لم يطمئن بإمضاء الشرع (ولو بعدم الردع) للاجتهاد لما كان اجتهاده عليه حجة(2) وإذا كان حجة كان التقليد والاحتياط حجتين أيضاً، حتى لو فرض عدم استقلال العقل بهما، نظراً لقيام الحجة وهي قول المجتهد بل مشهور المجتهدين بل شبه إجماعهم على حجية التقليد ومبرئية الاحتياط إلا فيما كان فيه محذور كالموارد الخمس عشرة.

ويمكن أن نضيف ما يورث القطع حتى للمشكك، وهو: إن الشارع لو

ص: 265


1- إلا ما خرج.
2- إلا من باب آخر كمنجزية الاحتمال بناءً على مسلك حق الطاعة أو غير ذلك.

ردع عن هذه الثلاثة(1) أوعن الأوليين(2) فقط، للزم أحد محذورين على سبيل البدل؛ وهما:

1: أن يكون الشارع قد أهمل أحكامه.

2: أو أن يكون الشارع قد أراد أن يوقعنا في أشد أنواع العسر والحرج والعنت.وكلاهما مقطوع بعدمه.

أما المحذور الأول: فلوضوح أن الشارع لو أغلق باب الاجتهاد والتقليد والاحتياط جميعاً، وقال: إنها ليست بحجة ولا جائزة الاتباع، ومع ما نراه بالوجدان من أن مرجع كافة الأحكام الشرعية في هذه الأزمنة - بل مطلقاً - إلى هذه الثلاثة، فإنه يلزم منه إهمال أحكامه؛ إذ لا طريق إلى أحكامه عادة غيرها فكيف نمتثلها؟ وهذا مقطوع بعدمه، لأن اللّه تعالى لم يتركنا سدى قطعاً(3)

كما أنه يلزم منه نقض الغرض من بعث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم).

وأما المحذور الثاني: فلأن الشارع لو منع خصوص الاجتهاد والتقليد، فذلك يعني أنه ألجأنا إلى الاحتياط، وسلوك الاحتياط في كافة المسائل يلزم منه أشد أنواع العسر والحرج، والتأمل في هذا الدليل لا يُبقي شكاً في أن (الاجتهاد والتقليد) هما حجج، وأن الاحتياط قسيمهما عملاً.

ولنختم بأن ما أُستدل به في ثالث الوجوه التي ذكرت للطولية بين الاحتياط وبين الاجتهاد والتقليد، من وجود الاختلاف في الاحتياط دونهما.

يرد عليه: إن الاختلاف في جواز الاجتهاد والتقليد أكثر من الاختلاف في

ص: 266


1- الاجتهاد والتقليد والاحتياط.
2- الاجتهاد والتقليد.
3- كما قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)، سورة القيامة: 36.

الاحتياط، إضافة إلى أن الاختلاف ليس ملاك للطولية.

لزوم أن يكون الردع حسياً ظاهراً

لزوم أن يكون الردع حسياً ظاهراً(1)

لا بد أن يكون الردع حسياً صريحاً أو حدسياً قطعياً عن تلك الطرق، لأن تلك الطرق كان على اتباعها بناء العقلاء وقد جرت سيرة العقلاء عليها، فلا يكتفى في الردع عنها إلا بردع حسي صريح واضح فإنه بعد أن أشتد رسوخ تلك الطرق في النفوس أضحت كالطبيعة الأولية للناس، فلابد أن يكون الردع عنها حسياً أو حدسياً قطعياً ولا يكفي الحدسي الاجتهادي العادي، وحيث لم نجد ردعاً حسياً ولا حدسياً قطعياً، نجزم بعدمه.

والدليل على الرسوخ ما هو المشاهد من أن الإنسان يسير وراء خبر الثقة والظواهر، ويتبع رأي الخبراء، ويجتهد ويبني عليه، ويحتاط في الجملة، ويرى حسنه مطلقاً إلا إذا ابتلي بمحذور - كالموارد الخمس عشرة -، وهذا مشاهد لدى مختلف الأعراف والأديان وكافة العقلاء، فما جرت عليه سيرة العقلاء بهذه الصورة سيكون من الإغراء بالجهل إذا لم يردع الشارع عنها بردع حسي واضح لو كان لا يراها طرقاً إلى أحكامه، فلو اكتفى الشارع بالردع الحدسي عنها مع أنه قابل للأخذ والرد وليس بتلك الدرجة من الوضوح، لكان إغراءً بالجهل.

وبتعبير آخر: ينبغي أن يكون هناك تكافؤ بين ما جرت عليه سيرة العقلاء من القوة والرسوخ وبين قوة الرادع عنه حتى يتم البلاغ والإبلاغ والإنذار؛ كما وجدنا ذلك في القياس، فلكونه متمكناً في النفوس كانت الروايات الرادعة عنه واضحة وصريحة، وكانت من الكثرة بحيث تكفي رادعية، أما بالنسبة للاجتهاد والتقليد والاحتياط المتمكنة في النفوس، وعليهما سيرة العقلاء، فإننا لا نجد

ص: 267


1- هذا الجواب الحلي الأول بعد ما تقدم النقضي في الجواب الأول.

ردعاً حسياً ولا حدسياً قطعياً أو متاخماً له بحيث يكون بمستوى جريان السيرة أو انعقاد البناء المراد الردع عنه، وما هكذا حاله ليس من الصحيح بالنظر للحكمة أن يعتمد عليه الشارع في إزالة ما استمكن في النفوس.

وبعبارة أخرى: إن الشارع - أو أي حكيم آخر - إذا رأى عبيده يسيرون على طريق خاطئ، فنصب لهم شيئاً مشكوكاً في حجيته لديهم أو كان مما لا يقطع الشك باليقين ومما تختلف فيه الاجتهادات، فإن لهم حينئذٍ أن يعتذروا بأن بقاءهم على طريقتهم كان لعدم رادع حسي واضح على تلك الحجة والطريقة التي هم عليها.

ومما يؤكد ما ذكر أنه في الطرفين المتقابلين كان الشارع صريحاً وواضحاً جداً في القياس نهياً، وفي العقود إمضاءً؛ حيث إن العقود جرت عليها سيرة العقلاء كالقياس، لكن الشارع حيث أراد إمضاء العقود أمضاها بعبارات صريحة، كما في قوله تعالى: (أَوْفُوابِالْعُقُودِ)(1)، وقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(2)، وحيث أراد الردع فردع عنه كما في القياس بعبارات واضحة وبصريح الكلام أيضاً، ولا نجد في المقام صريح ردع عن الاجتهاد والتقليد والاحتياط في الآيات والروايات، ولو وردت بعض الروايات القابلة للنقاش فنقول: إن هذه الروايات غير كافية لاقتلاع سيرة العقلاء وبنائهم، ولذلك وجدنا مشهور الفقهاء يذهبون إلى صحة الاجتهاد والتقليد والاحتياط، بل يرونها الطرق اللازمة الاتباع على سبيل البدل.

وبذلك ظهر وجه الرد على بعض الاخباريين أيضاً: فإن الروايات والآيات التي استندوا إليها في بيان منع الاجتهاد والتقليد لم تكن بمستوى الرادعية عنها، ولذا نجد أن جمهور الفقهاء اعتبروهما جائزة بل واجبة وسرت عليهما سيرة المتشرعة، وكذا الحال في الردع عن الاحتياط، حيث إنه لم يتضح ردع عنه فإنه

ص: 268


1- سورة المائدة: 1.
2- سورة البقرة: 275.

من الإغراء بالجهل أن يكتفي الشارع بما لا يكفي للرادعية الواضحة.

إشكال عدم اطراد قاعدة (لزوم الردع الواضح)

ولكن قد يعترض: بأن ذلك ليس قاعدة مطردة وليس من الواجب أن يكون الردع واضحاً بيّناً قطعياً نظير الردع عن القياس، وذلك لوضوح أن الرمل والاسطرلاب والتنجيم والكهانة والطيرة وما أشبه لم يرد من الشارع ردع واضح صريح عليها بحيث يقطع الشك باليقين، مع أن عليها سيرة العقلاء وبناؤهم.

والحاصل: الإشكال على الكبرى الكلية، بأنه ليس بالضرورة لو استقرت سيرة العقلاء على شيء أن يكون الردع عنها بمستوى وضوحها وقوتها بل يكفي مطلق (الحجة).

أجوبة ثلاثة

والجواب من وجوه:الأول: إن تلك الأمور ليست طرقاً عقلائية جرت عليها سيرتهم:

أما الكهانة فهي خاصة بأفراد معدودين، ومن يتبعهم من الشذاذ أو جهلة الناس، وليس بناء العقلاء عليها.

وأما الطيرة فإن العاقل لا يتطير، وإنما الطيرة مرض نفسي أو جهل، والإنسان السوي القوي الأعصاب لا يتطير ولا يتشاءم، بل يرى أن الأسباب ومسبباتها كلها بيد اللّه تعالى، ثم إنها تتبع الأسباب الطبيعية(1).

الثاني: وهي إضافة إلى عدم كونها عقلائية فإنها ليست من الشيوع بمنزلة شيوع الاعتماد على الظواهر وخبر الثقة وقول أهل الخبرة والتقليد والاجتهاد والاحتياط.

ص: 269


1- هذا في المسلم أو مطلق المعترف باللّه، أما غيره فيراها بالأسباب الطبيعية فقط.

الثالث(1): إن ملاحظة سيرة الشارع تدلنا على أن الشارع التزم بالردع الحسي أو الحدسي القريب منه في المحرمات من تلك الأمور، وبالتصريح حساً أو بالحدس القريب من الحس بجواز ما لم يحرمه أو العفو عنه.

وهذا جواب مفتاحي ينفع في كثير من البحوث، وسنبسط الكلام في الملحق أكثر عن كيفية تعامل الشارع مع هذه العناوين(2).

والحاصل: إن ملاحظة حال الشارع في هذه العناوين وأمثالها يكشف عكس المدعى، لأن الشارع في أي طريق عقلائي أو متوهم العقلائية، إذا كان مبغوضاً لديه فإنه قد ردع عنه بالردع الحسي أو الحدسي القريب من الحس الواضح(3) الذي يقطع العذر على المتخلف والمخالف.

ص: 270


1- وهو العمدة.
2- وهذه العناوين بالإضافة إلى كونها في صلب الموضوع فهي كذلك محالها مسائل حيوية وجوهرية.
3- أو بمنزلة الحسي الصريح.

الملحق

ردع الشارع عن الكهانة والتنجيم والقيافة، والعفو عن الطيرة

ومزيد التوضيح في الجواب عن النقض على تلك الكبرى بأمثال تلك العناوين هو:

1) الطيرة

الطيرة (1)، وهي من الأمور الشائعة عند بعض الناس، والملاحظ أن الشارع قد صرح بواضح العبارة بعدم حرمتها بما هي، وبأنه قد عفا عنها في حديث الرفع المشهور: «رفع عن أمتي تسع ... الحسد والطيرة»(2) وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا تطيرت فامضِ»(3).

فعنوان الطيرة حيث لم يكن محرماً لدى الشارع لذلك أوضح ذلك بصريح العبارة وبعدم الردع رغم كثرة الابتلاء بها وبغير ذلك، ويكفيك انعقاد الإجماع

ص: 271


1- الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء - وقد تسكن - هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطير، وكان العرب يتشاءمون كثيراً بالطير، لذا سموا التشاؤم تطيراً، لأنهم كان من شأنها عيافة الطير وزجرها والتطير ببارحها ونعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرةً لتشاؤمهم بها، فنفى الشرع ذلك، وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. انظر مجمع البحرين: ج3 ص384، والنهاية في غريب الحديث: ج3 ص152.
2- وهو كما رواه الصدوق في التوحيد: ص353. عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم): رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».
3- تحف العقول: ص50.

على عدم حرمته، لأن الأدلة التي أقامها الشارع كانت حسية متظافرة أو حدسية قريبة من الحس.

2) الكهانة

والكهانة قام الإجماع على تحريمها، لذا قال في الرياض: (الكهانة حرام بلا خلاف)(1)، وما ذلك إلا لصراحة ووضوح الردع الشرعي عنها بالروايات الصريحة نظير قوله (عليه السلام): «المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنية ملعونة، ومن آواها ملعون، وآكل كسبها ملعون»(2).

3) التنجيم

والتنجيم(3) فيه تفصيل، وقد أورد العلامة المجلسي (رحمه اللّه) نصوصاً كثيرة دالة على حرمته(4)؛ ولذا ذهب المشهور إلى حرمته(5).

ص: 272


1- رياض الأحكام: ج8 ص72، وعرفها بقوله: (الكهانة بكسر الكاف، قالوا: هي عمل يوجب طاعة بعض الجان له فيما يأمره به، وهو قريب من السحر أو أخص منه. والأصل في تحريمه بعد الإجماع المصرح به في كلام جماعة من الأصحاب النصوص المستفيضة).
2- الخصال: ص297.
3- وعرفه في جامع المقاصد: ج4 ص31 بقوله: (التنجيم: وهو الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية التي مرجعها إلى القياس والتخمين، فإن كون الحركة معينة والاتصال المعين سبباً لوجود ذلك، إنما يرجع المنجمون فيه إلى مشاهدتهم وجود مثله عند وجود مثلهما، وذلك لا يوجب العلم بسببيتهما له، لجواز وجود أمور أخرى لها مدخل في سببيته لم تحصل الإحاطة بها، فإن القوة البشرية لا سبيل لها إلى ضبطها، ولهذا كان كذب المنجمين وخطؤهم أكثرياً. وقد ورد من صاحب الشرع النهي عن تعلم النجوم بأبلغ وجوهه).
4- انظر بحار الأنوار: ج55 ص219 وما بعدها.
5- وقد توسع السيد المؤلف (دام ظله) في بحث صور مسألة التنجيم في كتاب: (حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد) ص298، فقال: (إن التنجيم من حيث التحليل والتحريم له إحدى عشرة صورة، بل أكثر)، فذكر هذه الصور ثم أضاف إليها. > < وكذلك توسع صاحب مفتاح الكرامة : ج12 ص242، في بحث عن هذه المسألة وقال (رحمه اللّه) في مقدمتها: (اختلف العلماء على قديم الدهر في هذه المسألة اختلافاً شديداً وهي عامّة البلوى فوجب تحريرها وتنقيحها، فنقول...)؛ ثم نقل أقوال الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة ممن ذهب إلى جواز التنجيم وفوائده وأقوال من ذهب إلى عدم جوازه، ثم قال رأيه في تلك المسألة.

نعم، في المراد بالتنجيم احتمالات وله صور:

الصورة الأولى: أن يعتقد بتأثير النجوم في أوضاع البشر والعالم السفلي بنحو مستقل، وهذا كفر، ولا كلام في حرمته.

الصورة الثانية: أن يعتقد بتأثير النجوم في أوضاع العالم السفلي بالاشتراك مع اللّه، وهذا شرك، ولا كلام في حرمته أيضاً.

الصورة الثالثة: ما لعله عليه مشهور الناس والمشهور على حرمتهما أيضاً خاصة الثانية(1)، وهو صورتان:

الأولى: أن لا يعتقد بتأثير النجوم لا بالاستقلال ولا بالاشتراك مع اللّه جل وعلا، بل يعتبرها مجرد علامة على حسن أو سوء الطالع.

الثانية: أن يعتقد بأن لها تأثيراً لكن لا بنحو الاستقلال ولا بنحو الاشتراك، بل بنحو الآليّة، كسائر الأمور الآليّة في هذا العالم.

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) في موسوعة الفقه ما ملخصه: (التنجيم قد يكون كفراً كما لو اعتقد باستقلال النجوم بالتأثير أو بمشاركتها(2) لله تعالى، وقد يكون حراماً كما لو لم يعتقد بالأمرين السابقين، بل يخبر عن النجوم بصلاح الطالع وسوئه مثلاً)(3).

ص: 273


1- وقد خالف فيه النادر أو القليل من الفقهاء.
2- للكفر إطلاقات؛ منها: إطلاقه على الشرك، فإنه كفر بالوحدانية لله تعالى. قال تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، سورة المائدة: 73.
3- موسوعة الفقه: ج93 ص362.

وقد تقدم أن القسم الأخير يتصور على نحوين: بنحو العلاميّة أو بنحو الآلية.

وقد دلت روايات عديدة على حرمته بقول مطلق إلا ما أخرجه بعضها نظير ما جاء في نهج البلاغة: «إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم اللّه»(1).

والحاصل: إن الصورتين الأوليين للتنجيم لا خلاف فيحرمتهما، أما الصورتان الثالثة والرابعة(2)

فالمشهور على الحرمة(3)، والروايات واضحة وصريحة حسب المتفاهم العرفي منها.

4) القيافة

والقيافة: وهي إلحاق الناس بعضهم ببعض(4) على خلاف الموازين الشرعية في الإلحاق من أن الولد للفراش، فإنهم يعتمدون على بعض الخصائص والعلامات الخارجية، فإن أريد بها ترتيب الآثار الشرعية خارجاً فهي حرام بلا كلام، لأنه يستلزم التوريث لمن لا يستحق والحرمان لمن يستحق والزواج من المحارم ثبوتاً وغيرها، مع أن هذا الإلحاق خلاف موازين الشارع.

ص: 274


1- نهج البلاغة: الخطبة 77 من كلام له (عليه السلام) في بطلان التنجيم.
2- العلامة والآلية.
3- وممن ذهب إلى خلاف المشهور السيد ابن طاووس (رحمه اللّه) في كتابه: (فرج المهموم في تاريخ علم النجوم)؛ حيث جمع فيه كثيراً من الروايات والأقوال وبعض القصص والأخبار في تعلم التنجيم وجواز العمل به إجمالاً.
4- والقيافة على قسمين: قيافة البشر الذي جاء تعريفها في المتن وهي مورد الكلام، وقيافة الأثر، وهي: تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر، حتى قيل إن بعضهم كان يفرق بين أثر قدم الشاب والشيخ وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب، والقريب من المستوطن.

وإن أريد مجرد عقد القلب على ذلك، وأن هذا ابن فلان بدون ترتيب الآثار ففيه بحث.

قال في (فقه الصادق (عليه السلام)): (القيافة حرام على المشهور، ونسبه صاحب الحدائق إلى الأصحاب(1)، وعن المنتهى دعوى الإجماع عليه)(2) والروايات عديدة في هذا العنوان(3).

والضابط العام: إن القيافة من الظنون غير المنضبطة، لأنالظنون قسمان، ظن معتبر وظن غير معتبر، والفرق بينهما: إن الظنون المعتبرة منضبطة نوعياً، كخبر الثقة والظواهر، وأما غير المعتبرة فغير منضبطة نوعاً كالقيافة، فهي من الظن غير المعتبر، إضافة إلى أن ملاكات الشارع ليست بأيدينا، فلابد من إمضائها أو عدم الردع عنها.

الردع المتناسب مع شدة رسوخ الطريقة العرفية

وعوداً إلى أصل البحث: إن الشارع في ما كان طريقاً عقلائياً أو توهم أنه عقلائي، يتدخل بوضوح وصراحة في المنع إذا كان محرماً لديه، وذلك مما لا نجده في الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، بل نجد عكسه كما سبق - وسيأتي أيضاً - فضم ذلك إلى استقلال العقل بحسنها أو بناء العقلاء وسيرتهم وسيرة المتشرعة

ص: 275


1- وعبارة الحدائق هكذا: (إلا أن الحديث المذكور لا ظهور له في التحريم كما علله الأصحاب)، فتأمل في النسبة، وهذه النسبة نقلها أيضاً الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب: فقال: (نسبه في الحدائق إلى الأصحاب) المكاسب: ج2 ص7.
2- فقه الصادق (عليه السلام): ج21 ص272.
3- وقد سلك في مصباح الفقاهة: ج1 ص588، دليلاً آخر لإثبات حرمة القيافة، فقال (رحمه اللّه): (تدل على حرمة العمل بقول القافة الآيات الدالة على حرمة العمل بغير علم، وعلى حرمة إتباع الظنون وأنها لا تغني من الحق شيئاً).

عليها، يفيد القطع بحجيتها وصحتها شرعاً.

ولذلك نجد - وكما سبق - بأن الإجماع أو الشهرة العظيمة انعقدت على حرمة ما ذكر من العناوين وأشباهها كالقياس، وذلك مما يكشف عن أن الرادعية كانت كافية ووافية بحيث أذعن لها المعظم، وإلا لما انعقد الإجماع أو الشهرة العظيمة على حرمتها.

ومخالفة البعض لا تقدح في تمامية الحجة، ولا تضر بما كان مقتضى القاعدة على الحكيم أن يقوم به من الردع الواضح الصريح.

والمراد بتمامية الحجة عقلاً إتمام الحجة النوعي، ولا يلزم في الحجج أن تكون تامة على كل شخص شخص، وآية ذلك أن المستقلات العقلية حجج بلا شك، بل وفوق ذلك: إن من أوضح البديهيات أحكام العقل الفطرية كوحدانية اللّه وعدله، ومع ذلك نجد في كافة أقسام البديهيات الستة مخالفاً، فطائفة لا ترى اللّه واحداً، وطائفة لا تراه عادلاً كالأشعري، وهكذا.

والحاصل: إن الحجة لا يشترط في تماميتها أن تكون فعلية في حق كل شخص شخص، بحيث لو خالف البعض لقدح في حجيتهاوصحة اكتفاء الشارع بها؛ بل يكفي أن تكون الحجة تامة نوعاً، متناسبة مع المردوع عنه عرفاً بحيث لو أن الشخص خلي وطبعه وتلك الحجة، ولم يكن هناك مانع من هوى أو عصبية أو تربية معينة أو غير ذلك، لرأى البرهان تاماً، وآية ذلك ان يراها المشهور في مختلف الاعصار كذلك، فتدبر.

فائدة: بل إن الإمضاء في الاجتهاد والتقليد والاحتياط كان من الوضوح بدرجة أنه لم تنعقد الشهرة العظيمة على جوازها وإجزائها بل وجوبها التخييري، من الأصوليين فقط بل انعقد الإجماع عليها حتى من الأخباري، حيث إنه يقول

ص: 276

أيضاً بحجية الاجتهاد والتقليد إلا أن الاختلاف في الاصطلاح لا غير.

خلاف الأخباري في جواز الاجتهاد أشبه بالنزاع اللفظي

فإن المتأمل في الخلاف مع الأخباري يرى أنه خلاف لفظي، لأن الأخباري يحرم العمل بالرأي والأصولي كذلك، والأخباري لم يخالف - لدى التدبر في كلامه - في الاجتهاد المصطلح بل خالف في الاجتهاد المساوق للعمل بالرأي المنهي عنه في زمن الأئمة (عليهم السلام)، لأنه غير منضبط وغير ممضي شرعاً ولا سيرة للعقلاء على إتباعه بل هو كالقياس والاستحسان ونحوها، والأصولي كذلك.

أما الاجتهاد المنضبط فلا يحرّمه الأخباري، وآية ذلك أن المجتهد لأخباري يكتب الفتاوى لمقلديه، ولكنه لا يسميه اجتهاداً بل يسميه نقلاً لكلام المعصوم (عليه السلام)؛ مع أنه في الواقع قد نظر في مختلف روايات الباب وجمع بينها جمعاً دلالياً، أو حمل بعضها على التقية، أو طرح ما خالف كتاب اللّه منها، فأخذ بكل ما له الحجية بنظره، وقام بما يقوم به المجتهد الأصولي، والتسمية غير مهمة(1)، وكتب المجتهدين من الأخباريين موجودة، والمقلدين لهم يرجعون إليهم وإليها.

إذن الإجماع منعقد من الأخباري والأصولي على حجيةالاجتهاد(2) وصحة التقليد بل وجوبهما التخييري، وذلك آية على إمضاء الشارع لهما بهذه الصورة الواضحة حتى انعقد الإجماع.

والحاصل: إن الأخباري يعارض الإفتاء بالرأي، والأصولي كذلك، أما الأصولي فيثبت الاجتهاد الممضى شرعاً، ولا يعارضه الأخباري في ذلك إلا لفظاً.

وبعبارة أخرى: إن الرأي الشخصي غير المضبط وغير الخاضع لقواعد

ص: 277


1- حيث إن الخلاف بينهما لفظي كما تقدم وكما سيأتي.
2- ولو في درجته الأولية المبدئية.

عقلائية ممضاة شرعاً هو مرفوض من الطرفين، أما الاجتهاد الخاضع للضوابط الكلية الشرعية الذي يدور في إطار الطرق التي أمضاها الشارع فكلا الفريقين لا ينكرها.

ويوضحه أكثر: أن الاخباري حيث رأى أن بعض الأصوليين عرّف الاجتهاد: (بأنه استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي)(1)، أنكر حجيته وجوازه، نظراً لقوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(2) وسائر الآيات والروايات الناهية عن اتباع الظن، ولكن مقصود بعض الأصوليين من (الظن) ليس معناه الظاهر؛ ولذا غيّر بعض أعاظم الأصوليين التعبير حتى لا يوجب اللبس، فقالوا: (الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي)(3) و(الحجة على الحكم الشرعي) تشمل الأدلة الاجتهادية والأصول العملية، فإن الحكم الشرعي يعم الواقعي والظاهري، فلا حاجة لما ألحقه صاحب الكفاية من: (تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أو الوظيفة التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل)(4).

والحاصل: إن النقاش بينهما - الأخباري والأصولي - لفظي، لأن الأصولي لا يقول بحجية مطلق الظن، بل بحجية الظن المعتبرشرعاً، ولكي لا يستوحش الطرف من لفظة الظن، استبدلها بالحجة، والأخباري أيضاً يتبع الحجج، وهي مورثة للظن النوعي عادة، وآية ذلك إنك تجد استدلالات الأخباريين في كتبهم الفقهية كاستدلالات الأصوليين مما لا تورث عادة إلا الظن النوعي.

ص: 278


1- ذكره في الكفاية ص: 462، ونسبه إلى العلامة والحاجبي.
2- سورة يونس: 36.
3- انظر نهاية الأفكار: ج4 ص215.
4- كفاية الأصول: ص462.

إذن لا نقاش ولا خلاف حتى صغروياً بين الأخباري والأصولي في وجوب إتباع الحجج، وإن أقام بعض الأخباريين أكثر من عشرين دليلاً على حرمة الاجتهاد والتقليد، ولكن عمدتها: إنه إفتاء بالرأي، أو إنه حكم بالظن، والباقي يرجع إليهما بوجه أو بآخر ويظهر ذلك كله بالتأمل، فلاحظ.

شمولية الجواب لردّ الشبهات العقدية

وبذلك يجاب على شبهة طرحها البعض حول تمامية الحجة على الأمة بنصب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي: أنه ألم يكن بمقدور الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقيم من الحجج الجلية الظاهرة ما يزيل الخلاف عن هذا الأمر؟

والجواب: إنه لا يشترط في (الحجية) امتناع المخالفة وإلا لزم الجبر، كما لا يشترط فيها عدم وجود المخالف بالفعل، وإلا لنقض عليهم برسالة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأنبياء السابقين (عليهم السلام)؛ وأنه ألم يكن بمقدور اللّه جل وعلا أن يقيم من الحجج ما يمنع الخلاف والاختلاف؟ ولكن معادلة الامتحان تقتضي إمكان المخالفة بإرادتهم وعدم الجبر عليهم؛ وقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(1) ينتج إمكان المخالفة أيضاً، وقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)(2) ينتج فعليتها.

وبعبارة أخرى: إنه يكفي في الحجية أن نوع المكلفين لو التفتوا إليها من غير هوى أو تعصب أو سبق شبهة لأذعنوا، وذلك في مورد الاجتهاد والتقليد والاحتياط متحقق؛ فلا يستشكل بأن الشارع كيف لميبلغ إمضاؤه(3) للاجتهاد والتقليد والاحتياط بحيث يحول دون وجود مخالف كالأخباري على فرض مخالفته؟

ص: 279


1- سورة البلد: 10.
2- سورة النمل: 14.
3- ولو بعدم الردع.

عود على بدء

والحاصل: إن ما أحرز من عدم الردع هو حسي أو حدس قريب من الحس يكفي - لدى العقلاء - ممضياً، والفقيه عند التتبع لا يجد رادعاً أو ما يصلح للرادعية عن الاحتياط وقسيميه.

بل إن الأمر في الاحتياط أسهل منه في الاجتهاد والتقليد، إذ لا نجد في الاحتياط حتى دليلاً واحداً موهماً لحرمته، بخلافه في الاجتهاد والتقليد، فقد أقيمت بعض الأدلة من الروايات والآيات مما قد يتشبث بها للحرمة في النظرة الابتدائية كقوله تعالى في ذم الكفار: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)(1) المستفاد منه كما قالوا ذم التقليد(2) وكذلك روايات الذم عن إتباع الرأي - كما سبق - المتوهَّم منها حرمة الاجتهاد.

ص: 280


1- سورة البقرة: 170.
2- والجواب: إن الآية في مقام ذم التقليد في أصول الدين، وأن التقليد فيها غير مبرئ وهو باطل أو انه ذم لتقليد من اجتهد في مقابل النص، وتوجد أجوبة أخرى عن الاستدلال بالآية تترك لمحلها.

الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره

قال المحقق اليزدي (رحمه اللّه): (في احتياطات الأعلم إذا لم تكن له فتوى، يتخير المقلد بين العمل بها وبين الرجوع إلى غيره، الأعلم فالأعلم)(1).

احتياطات الأعلم حجة أم لا؟

قد يستشكل: بأن ما احتاط به الأعلم(2) هل هو حجة أم لا، فإن كان حجة حرم الرجوع إلى غيره(3)،

وإن لم يكن حجة حرم العمل بفتواه الاحتياطية.

ولنا ان نجيب أولاً إجمالاً، ثم تفصيلاً:

الجواب الإجمالي

أما إجمالاً فنقول: إن فتوى الأعلم بالاحتياط حجة تخييرية، وبهذا يندفع الإشكال من الأساس، فتلك المنفصلة الحقيقية (إن كان حجة حرم الرجوع إلى غيره من المفضولين، وإن لم يكن حجة حرم العمل بفتواه الاحتياطية) لا تجري في الحجة التخييرية.

الجواب التفصيلي

أما الجواب التفصيلي، فوجوه عديدة:

أولاً: الواقع منجز فالاحتياط واجب، والأعلم لم يُفْتِ فالمفضول حجة

أولاً: الواقع منجز فالاحتياط واجب(4)، والأعلم لم يُفْتِ فالمفضول حجة

الجواب الأول: وهو للميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) وهو يتكون من شقين: أولهما لتوجيه وجوب العمل على طبق احتياط الأعلم والثاني لتوجيه صحة

ص: 281


1- العروة الوثقى: ج1 ص54.
2- أي فتواه الاحتياطية.
3- بناءً على وجوب تقليد الأعلم.
4- أي وجوباً تخييرياً.

العمل بفتوى المفضول رغم انه مفضول.الشق الأول: تعليله لهذا الحكم(1) بما نصوغه(2) في مقدمات أربع(3):

المقدمة الأولى: إن العامي - الذي دار أمره بين العمل بالاحتياط وبين تقليد المفضول - يحتمل وجود تكليف واقعي، وهذا أمر وجداني، وذلك كما لو أن الأعلم احتاط بمحرّمية عشر رضعات، وأفتى المفضول بأن المحرم هو خمسة عشر رضعة، فإن المقلد وجداناً يحتمل التكليف الواقعي بالأشد وأن من ارتضع معها عشر رضعات أن تكون محرمة عليه، وكما لو أن الأعلم احتاط بأن الكر هو ستة وثلاثون شبراً، وأفتى المفضول بأنه سبعة وعشرون شبراً، فالمكلف يحتمل أنه لو توضأ بالكر الذي أصابته نجاسة ومقداره سبعة وعشرون شبراً، فوضوؤه باطل، إذن فهو يحتمل أن التكليف الواقعي هو التطهير بالأكثر.

المقدمة الثانية: إن هذا العامي بالنسبة إلى هذه المسألة حالته هي حالة ما قبل الفحص، لفرض أنه ليس بمجتهد ولم يفحص عن الأدلة على الرضعات المحرمة وعددها، أو عن الكر ومقداره، أو غيرهما من أدلة.

المقدمة الثالثة: إن التكليف الواقعي على تقدير تحققه في مرحلة الثبوت منجّز؛ لأن فرض كلامنا في صورة ما قبل الفحص، حتى لا يقال: إنه في الشبهات البدوية المجرى البراءة، فيقال: ذلك بعد الفحص، أما الشك في التكليف قبل الفحص فمنجز بلا كلام.

وبعبارة أخرى: إن التكاليف الإلزامية المحتملة منجزة، أي يستحق العقاب

ص: 282


1- وهو كلام صاحب العروة (رحمه اللّه) المتقدم: بأن المكلف يتخير بين العمل بالاحتياط وبين العمل بفتوى المفضول مراعياً الأعلم فالأعلم، والمقصود تعليله لجواز العمل باحتياط الأعلم.
2- مع بعض الإضافات والتوضيحات.
3- انظر تنقيح مباني العروة الوثقى: ج1 ص145 ودروس في مسائل علم الأصول ج6 ص414.

بمخالفتها على تقدير كون الحكم واقعاً كذلك.

المقدمة الرابعة: إنه بالاحتياط يحرز إبراء الذمة من ذلكالتكليف الملزم، فبالاحتياط إحراز تحقق أغراض المولى الملزمة، وأن أوامره الإلزامية قد امتثلها، فيستطيع أن يحتج المكلف به على المولى.

والحاصل: إنه حيث احتمل التكليف الواقعي ولم يفحص ولم يكن ممن توصل إلى الحجة بنفسه، فله أن يخرج عن عهدة التكليف بالاحتياط، بأن يتجنب الزواج ممن ارتضعت معه عشر رضعات، ويغتسل بالكر الأكثر الذي لامسته النجاسة، وكذلك يقال في الصلاة قصراً وتماماً وهكذا.

الشق الثاني: تعليله لجواز تقليد المفضول رغم وجود احتياط وجوبي من الأعلم.

والجواب: لأن الفرض أن الأعلم لم يفتِ، فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أوضح: إنه لا يجوز تقليد المفضول مع وجود فتوى للأعلم(1)؛ والفرض أنه لا فتوى للأعلم بل مجرد احتياط، فالموجب لسقوط فتوى المفضول عن الحجية والاعتبار - بناءً على السقوط - هو فتوى الأعلم لكنها غير متحققة في المقام.

والمستفاد من كلامه: (لأن الموجب لسقوط فتواه - أي المفضول - عن الاعتبار...)(2)؛ أن المقتضي لحجية رأي المفضول موجود، إلا أن المشكلة ابتلاؤه بالمعارض، وهو فتوى الأعلم فهو المسقط للحجية، وعندما يزول أو لا يوجد

ص: 283


1- بناءً على وجوب تقليد الأعلم.
2- تنقيح مباني العروة الوثقى: ج1 ص 145، وتمام كلامه (رحمه اللّه): (حيث إنّ الأعلم لم يفت في المسألة فتكون فتوى غيره معتبرة في المسألة بالإضافة إلى العاميّ؛ لأنّ الموجب لسقوط فتواه عن الاعتبار فتوى الأعلم، والمفروض أنّ الأعلم لم يفت في المسألة).

المسقط عن الحجية، فالمقتضي تام والمانع غير موجود، فالعلة تامة.

والخلاصة: إن الأعلم لم يفتِ فوصلت النوبة لتقليد المفضول تخييراً لا تعييناً، لفرض أن الاحتياط مبرئ للذمة أيضاً.

ولكن قد يورد على المقدمة الثانية من كلامه أن حالة العاميعند مواجهة فتوى المفضول واحتياط الأعلم ليست حالة ما قبل الفحص بل هي حالة مَن تعارضت عنده الحجتان إذ الحجة على العامي قول الفقيه (أهل الخبرة) كما أن الحجة على الفقيه خبر زرارة ونحوه، فمقتضى القاعدة العمل بأحكام التعارض من تساقطٍ، على الأصل الأولي المشهور غير المنصور، أو تخيير كأصل أولي على المنصور، أو احتياط أو توقف على رأي آخر، فتأمل؛ وستأتي مناقشة أخرى لكلامه (رحمه اللّه).

ثانياً: احتياط الأعلم كاشف عن عدم علمه بالحكم

وأما السيد الوالد (رحمه اللّه) فقد علل في (الفقه) هذا الحكم بشكل آخر، فقال: (إن احتياط الأعلم كاشف عن أنه لا يعلم حكم المسألة)(1) بينما علّله الميرزا التبريزي (رحمه اللّه): (بأن الأعلم لم يفتِ)؛ وقد يتوهم أن مرجع هذا إليه، وليسا وجهين، لأن عدم فتواه يرجع إلى عدم علمه بحكم المسألة، إذ لو كان عالماً بها لأفتى، ولكن حيث لم تتضح عنده الرؤية احتاط بتجنب الزواج ممن ارتضع معها عشر رضعات، وسيأتي من (الفقه) المناقشة لهذا التعليل، ولأصل المسألة(2).

ثالثاً: يصح الامتثال الإجمالي مع الامتثال التفصيلي

وهناك جواب ثالث، للسيد الخوئي (رحمه اللّه) في التنقيح، والسيد السبزواري (رحمه اللّه)

ص: 284


1- موسوعة الفقه: ج1 ص431.
2- سيأتي أن عدم الفتوى أعم من عدم العلم؛ إذ قد يعلم ولا يفتي.

في المهذب قد عللاه بالقول: (لأنه لا شك في جواز (1)

الامتثال الإجمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي)(2) فإن العمل باحتياط الأعلم امتثال إجمالي، بأن يصلي إلى جهتين ترددت القبلة بينهما، أما العمل برأي المفضول فهو امتثال تفصيلي؛ لأن العلمي قد قام لديه، فرأيه حجة اقتضاءً، والمانع مفقود وهو فتوى الأعلم.

لازم كلام الأعلام

ولكن قد يورد على تعليل السيدين ,: بأن مقتضاه هو صحة عكس المسألة، وهي ما لو افتى الأعلم واحتاط المفضول وأنه يجوز الرجوع للمفضول حينئذٍ وإن كان الأعلم مفتياً، أي جواز وصحة التمسك والعمل باحتياطات المفضول، رغم فتوى الأفضل وذلك لأن الاحتياط مبرئ للذمة قطعاً، لأن فيه رعاية قطعية للتكليف ولأنه لا شك في جواز الامتثال الإجمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي، ولا يرد هذا اللازم على تعليل الميرزا والوالد إلا ببعض التطوير، فتدبر.

إلا أن يقال: إن التمسك باحتياط المفضول ليس تقليداً له، بل هو من باب العمل بكلي الاحتياط الذي هو قسيم للاجتهاد والتقليد؛ وكلها في عرض واحد؛ وبكل منها يمكن للعبد أن يحتج على المولى في مقام الامتثال.

وبعبارة أخرى: إن العامي عند ما تمسك باحتياط المفضول لم يكن مقلداً إياه حتى يقال بحسب تعليلهما: إن تقليد المفضول في المسألة الاحتياطية أصبح في عرض تقليد الأعلم، وإن هذا لازم تعليلهما، إذ إن الاحتياط في عرضه.

ويمكن أن يجاب: بأن الأمر في الأعلم أيضاً كذلك؛ لأنه عند ما نتمسك

ص: 285


1- بلفظ التنقيح، وأما بلفظ المهذب: (وصحة).
2- التنقيح: ج1 ص341، ومهذب الأحكام: ج1 ص111.

باحتياط الأعلم، فإن ذلك هو صغرى كبرى كلي الاحتياط وليس من باب التقليد.

والحاصل: إن احتياط الأعلم كاحتياط المفضول لا فرق بينهما، فهما في عرض واحد، واحتياط المفضول مع فتوى الأعلم في عرض واحد.

وعلى أي فإن الفرق أن العمل باحتياط الأعلم هو على القاعدة على كل تقدير أما العمل باحتياط المفضول فلا بد من توجيهه بأن عمل بالاحتياط لا بقول المفضول حتى يلزم العمل بقول المفضول مع وجود الأعلم، فتأمل(1).

ثم إنه على أي تقدير وبأي توجيه كان الأمر فإن هذا اللازم مما لا يصلح رداً للمدعى بذلك الدليل، فتدبر.

وسيأتي تنقيح البحث كله في ضمن البحث الآتي وهو تحقيق حال أقسام الاحتياط فنقول:

ص: 286


1- لأن الاحتياط المفتى به من قبل المفضول واسطة في الثبوت لحجية قوله لا واسطة في العروض، فتأمل أو لأنهما بالحمل الشائع، عرفاً، واحد، فتأمل.

أقسام الاحتياط

ثم إن الاحتياط - على ما ذكره الأعلام - على ثلاثة أقسام.

قال السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه): ([المطلب الأوّل: احتياطات الفقهاء و أقسامها]

هنا في هذه المسألة مطالب ينبغي البحث عنها:

الأوّل: أنّ احتياطات الفقهاء على ثلاثة أقسام:

1- من جهة عدم إحراز الحجّة الشرعية لتردّده في ذلك كالتسبيحات الأربع عند بعضهم فإنّه لا فتوى للمرجع، و مورد التقليد فتوى المرجع، فلا موضوع، فيجوز الرجوع إلى الغير، و ليس من العدول عن الحي إلى الحي، و لذا قال الماتن (رحمه اللّه): «إذا لم يكن له فتوى».

2- من جهة الفتوى بالاحتياط، كالجمع بين القصر و التمام في بعض الموارد، حيث يرى المرجع عدم حجّية القولين - القصر و التمام - و مقتضى العلم الإجمالي وجوب الاحتياط فالاحتياط فتوى، و ليس مصداقَ لم يكن له فتوى، ففي مثله لا يجوز العدول إلى من يقول بالقصر وحده، أو التمام وحده.

3 - من جهة الاحتياط في الفتوى، كبعض الورعين حيث يتجنّب الفتوى غالبا، فإنّه يرى حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات، لكنّه يحتاط و لا يفتي بها، فإنّه لا يجوز بنظره العدول إلى من يرى الحجّية، أو يرى عدم الحجّية)(1).

وتفصيله(2): إن احتياطات الأعلم على ثلاث أنواع(3)، وليست بنوع

ص: 287


1- بيان الفقه: ج4 ص401 - 402.
2- بتغيير وإضافة واستدلال.
3- فان الاحتياطات في الرسائل العملية كثيرة، ومعرفة أنواعها نافع لتحديد الموقف الشرعي منها.

واحد، ويختلف الحال باختلافها، ففي بعض الصور لا يجوز الرجوع إلى فتوى المفضول، وبحسب هذه الصورة سيكون الفرقبين احتياط الأعلم واحتياط المفضول واضحاً ولا يرد الإشكال السابق، في بعض هذه الصور.

القسم الأول: الفتوى بالاحتياط

القسم الأول(1): الفتوى بالاحتياط

وذلك بأن يفتي الأعلم بالاحتياط، وفي هذه الصورة لا يجوز الرجوع إلى المفضول، كما لو أفتى الأعلم بالجمع بين القصر والإتمام، لأن هذا الاحتياط فتوى متعلَّقها الاحتياط ولا يختلف حال الفتوى باختلاف حال المتعلَّق.

فمثلاً في بعض موارد العلم الإجمالي الخلافية لو كانت فتوى المجتهد هي الاحتياط، فإنه ملزِم لا يجوز العدول عنه، لأن وجوب الاحتياط هنا ليس بسبب عدم العلم(2)، أو عدم الفتوى(3)، وإنما هو فتوى؛ لذا لا يجوز الرجوع إلى فتوى المفضول في هذه الحالة.

وذلك كما لو كانت فتوى الأعلم على منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات كالزمان والزمانيات(4) فرأى وجوب الاحتياط بالجمع بين الفردين، تبعاً لذلك، وكما لو كان رأي الأعلم منجزية العلم الإجمالي في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين(5) كما لو ترددت الصلاة بين عشرة أجزاء بلا جلسة الاستراحة، وبين أحد عشر جزءاً معها، فإذا رأى الأعلم منجزية العلم

ص: 288


1- وهذا القسم حسب ترتيب (بيان الفقه) هو ثاني الأقسام.
2- حسب تعبير (الفقه) الذي تقدم ذكره.
3- حسب تعبير الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) الذي تقدم ذكره.
4- وهذه مسألة خلافية.
5- كما في الصلاة، وهذه مسألة خلافية أيضاً.

الإجمالي وإن المجرى مجرى الاحتياط لا البراءة، فإنه يفتي بلزوم الإتيان بجلسة الاستراحة احتياطاً، أو يفتي بلزوم إتيان التسبيحات الثلاث احتياطاً وكما لو خرج أحد الطرفين عن الابتلاء وكانت فتواه وجوب الاحتياط نظراً لبقاء منجزية العلم الإجمالي وكانت فتوى المفضول زوالها.

ووجه عدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم في هذه الصورة هولأنه يخطّئ غيره، ومع تخطئته لغيره(1) فلا مجال للرجوع إلى الغير.

وببيان آخر: لأن حكم الواقعة لديه معلوم وليس مجهولاً؛ فإنه وإن احتاط ولكن هذا الاحتياط مرجعه إلى الفتوى؛ فلأنه رأى أن العلم الإجمالي منجز في التدريجيات أو في الارتباطيين، أفتى بالاحتياط.

والحاصل: إن حكم الواقعة معلوم عنده، وله فتوى بالاحتياط لا عدم فتوى.

وبذلك يجاب عن شبهة يرددها البعض، وهي أن الاحتياطات الكثيرة التي في كتب الاستدلال والرسائل العملية، أمر لا وجه له، بل هي لغو، إذ نسأل الفقيه: هل قامت لديك الحجة الشرعية على الحكم أم لا؟ فإن قامت، سواء أكانت علماً أم علمياً فأفتِ ولا معنى للاحتياط، وإن لم تقم عندك الحجة على الحكم الشرعي، فلماذا تقول: احتط؛ بل قل: لا أعلم؛ فلا مجال للاحتياط كبرزخ بين الفتوى وبين الجهل بالحكم.

وبما ذكر يظهر وجه الجواب عن هذه الشبهة؛ فإن الجواب عنها بحسب القسم الأول واضح؛ لأنه أفتى بالاحتياط، فهو ليس برزخاً؛ بل هو فتوى والحجة لديه تامة؛ مثلاً فتواه هي منجزية العلم الإجمالي لو دار الأمر بين الأقل

ص: 289


1- المفضول.

والأكثر الارتباطيين، فلا تحيّر له، وإذا أفتى بمنجزية العلم الإجمالي في الأمثلة المتقدمة نتج من ذلك القول: بالاحتياط في التدريجيات.

والحاصل: إن القسم الأول في الواقع ليس من مواطن البرزخ، وإنما هو من صغريات الفتوى، إلا أن متعلق الفتوى يختلف، فتارة: يكون الاحتياط، وأخرى يكون الصلاة أو الزكاة أو غيرهما من الأحكام ومتعلقاتها.

وبعبارة أخرى: إن (وجوب الاحتياط) متعلّقاً غير (الوجوب الاحتياطي) صفةً أو (الوجوب احتياطاً) حالاً، أي إن وجوبالاحتياط هو كوجوب الصلاة؛ بمعنى أن الاحتياط مثل الحقائق الأخرى كالصلاة والصيام قد يكون متعلقاً للوجوب؛ ففي موارد العلم الإجمالي يفتي بالاحتياط، أي يقول: يجب الاحتياط، كما يقول: تجب الصلاة، وقد يكون صفة، وفرق بين كون الاحتياط صفة(1) أو مضافاً إليه(2)، وهذا القسم الثاني هو البرزخ، وسيأتي الجواب عنه أيضاً لاحقاً بإذن اللّه تعالى.

وبهذا فإن قسماً كبيراً من الاحتياطات سوف يخرج من دائرة الشبهة السابقة، لأن الفقيه في هذا القسم يعلم الحكم الشرعي ويفتي به: بأن عليك أن تحتاط، مثلما يفتي بان عليك أن تصلي أو تزكي.

القسم الثاني: عدم الفتوى لعدم إحراز الحجة

القسم الثاني(3): عدم الفتوى لعدم إحراز الحجة

وذلك فيما لو لم يفت الأعلم لعدم إحرازه الحجة الشرعية، فاحتاط نظراً لعدم تمامية الحجج لديه؛ فهنا يجوز للعامي تقليد المفضول، لفرض أن الموضوع

ص: 290


1- الوجوب الاحتياطي.
2- وجوب الاحتياط.
3- وهذا القسم الأول حسب ما جاء في (بيان الفقه).

منتف، إذ الأعلم ليست لديه فتوى عندئذ حتى يقلده العامي فيكون مبعّضاً أو عادلاً عنه.

قال في (بيان الفقه): (إنه ليس من مصاديق العدول من الحي إلى الحي)(1)، ونضيف: إنه ليس من مصاديق التبعيض في التقليد(2) وإنما هو من مصاديق تقليد الحي المفضول في مسألة ليس للأعلم فتوى فيها، فالعدول لم يتحقق موضوعاً.

واستدل السيد القمي (رحمه اللّه) في (مباني منهاج الصالحين) بدليل آخر(3)، وحاصله بتصرف: (إن حجية رأي الفقيه على المقلد هي في رتبة لاحقة عن حجية رأي الفقيه لنفسه)(4).

وبتعبير آخر: إن حجية رأي الفقيه للمقلد متوقفة على حجية رأي الفقيه في حد ذاتها، أي لنفسه في رتبة سابقة، إذ لو لم تكن فتوى الفقيه حجة لنفسه فكيف تكون حجة على غيره، فإذا كان الأمر كذلك، فمع تحير الفقيه وتردده - والفرض أنه في القسم الثاني متردد - لم تتم الحجة عليه، فكيف يقلده غيره في ذلك؟ فإنه لم يفتِ لعدم تمامية الحجة لديه، وإذا لم تتم الحجة عليه فهو بنفسه لا يستطيع أن يعمل بالفتوى، لأنها سالبة بانتفاء الموضوع، فكيف يعمل غيره بما ليس حجة في حد ذاته؟

ولكن قد يقال: بأنه مادام لم تثبت له الحجة الشرعية ولم يحرزها فله الفتوى بالعدم(5) لا الاحتياط الوجوبي؟

ص: 291


1- انظر بيان الفقه: ج4 ص401.
2- والفرق أن العدول بعد التقليد للغير، والتبعيض ابتداء.
3- على عدم عمل العامي بفتوى الأعلم إذا احتاط.
4- مباني منهاج الصالحين: ج1 ص49.
5- عدم الوجوب أو عدم الحرمة مثلاً.

والجواب: إنه لا بد له من الاحتياط في صور ثلاث:

الأولى: أن يكون سبب احتياطه عدم تيسر الفحص الكامل له، إما لمرض أو لضيق وقت أو لتغيّر في المبنى، إذ قد يتغير مبنى الفقيه، ولعله يتغيّر بتغيّره حكم كثير من المسائل بالتبع، فيحتاج مراجعة كل ما ترتب على المبنى من أحكام وقد يستغرق ذلك شهوراً، وفي هذه الفترة يحتاط الفقيه في الأطراف المحتملة(1)، كما تغير مبنى السيد الخوئي (رحمه اللّه) في توثيق جميع سلسلة رجال كامل الزيارات.

وهذا هو ما قد يحدث للكثير من الفقهاء مما قد يوجب تغير الفتوى، فمثلاً المشهور أن بلوغ الفتاة بإكمالها تسع سنين، لكن القليل من الفقهاء - تبعاً لبعض الروايات - يرى بلوغها يتحقق بإكمال السنة الثانية عشرة؛ فلو تغير مبنى هذا البعض رجالياً في مثل أسناد (كامل الزيارات) وغيرها واحتمل كونه معتمداً على رواية انحصر توثيقها بهذا الطريق مما أحوجه إلى إعادة البحث في سند الروايات التي اعتمد عليها في فتواه؛ فيحتاط وجوباً في مدة البحث بأن على الفتاةالالتزام بكافة التكاليف بإكمالها تسع سنين، احتياطاً.

الثانية: أن يكون سبب الاحتياط عدم تمامية الحجة لدى الفقيه، لا للعلم بالعدم بل لعدم وضوح الرؤية لديه وهذا الأمر عام البلوى، وذلك كما لو تحير في روايات الكر؛ حيث إن الأقوال في مقدار الكر أربعة، ولكل قول طائفة من الروايات(2)، وعلى هذا فلو لم تتضح الرؤية لدى الفقيه لتعدد طوائف الروايات

ص: 292


1- وهذه مسألة واقعية تنبع من أن الفقيه مهما كانت كفاءته العلمية فإنه كثيراً ما لا يستطيع في ليلة وضحاها أن يدرس القضية بكافة أبعادها ويخرج بنتيجة تطمئن لها النفس، ولعله يحتاج إلى عدة أيام أو أسابيع، وخلال هذه الفترة يحتاط ويفتي لمقلديه بالاحتياط، وهذه ليست فتوى بالاحتياط، بل هي احتياط في الفتوى.
2- عدا القول بأن الكر مقداره ثلاثة وثلاثون شبراً، فالظاهر أن مستنده رواية واحدة، وقد استنبط منها المحقق العراقي (رحمه اللّه) بأن الكر ما كان مكعبه ثلاثة وثلاثة وثلاثون شبراً.

فإنه يحتاط بالأكثر لأنه هو المعتصم قطعاً.

ثم إن عدم اتضاح الرؤية إما أن يكون في المبنى أو في البناء.

وتفصيله:

عدم الوضوح للتردد في المبنى

إنه قد لا يفتي الفقيه لتردده في المبنى أو البناء، لأنه تارة تكون بعض القواعد أو الأصول غير واضحة أو غير منقحة لدى الفقيه، وأخرى تكون واضحة معلومة لكن يكون تطبيق الكبريات على الصغريات غير واضح لديه فيحتاط.

ومثال التردد في المبنى: ما لو تردد الفقيه في تعارض العام والمطلق وأن أيهما مقدم، فالمشهور: إن العام أقوى دلالة من المطلق فيتقدم عليه بل إنه يتقدم عليه بالورود(1)، لأن العام دلالته بالوضع، والمطلق دلالته بمقدمات الحكمة، ومنها أن لا تكون قرينة على الخلاف، والعام قرينة وهذا هو أول رأيي الآخوند (رحمه اللّه) في مباحث الألفاظ من الكفاية.

لكن هناك رأياً آخر صار إليه في آخر الكفاية في مبحث التعادل والترجيح: حيث إنه لم يرجح العام على المطلق بقول مطلق؛ بل أرجع الأمر إلى الاستظهار العرفي، فقد يقدم العام وقد يقدم المطلق فيما لو تعارضا، وعلى هذا فلا توجد ضابطة نوعية أوقاعدة قانونية اسمها تقديم العام على المطلق، بل الأمر موكول للاستظهار العرفي فقد لا يتضح للفقيه أحد الطرفين فيحتاط.

المثال الآخر للتردد: مطلق مباحث تعارض الأصول، مثل دوران الأمر بين الاشتراك والنقل ما لو شك الفقيه في أن القدر المتيقن في مقام الخطاب هل هو مضر

ص: 293


1- انظر مصباح الأصول: ج3 ص377.

بالإطلاق أم لا، حيث ذهب الآخوند (رحمه اللّه) إلى أنه مضر، في حين ذهب مشهور من تأخر عنه بأنه غير مضر(1) بينما قال البعض بأن القدر المتيقن مطلقاً - وإن لم يكن في مقام التخاطب - هو من مقدمات الحكمة، فهو مخل بالإطلاق، لديهم.

فإذا اتضح للفقيه أنه غير مضر تمسك بالإطلاق، وإذا اتضح أنه مضر لم يتمسك بالإطلاق، أما إذا شك حقيقة فإنه يحتاط حينئذٍ وذلك كله فيما لم تكن هناك أصول يرجع إليها لدى الشك، أو كانت متعارضة في نظره ومتساقطة عنده، أو غير ذلك، فتأمل.

أو للتردد في البناء

وقد يكون المبنى واضحاً عند الفقيه، ولكنه يشك صغروياً في تحققه، كما لو تردد في كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة كما في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(2)؛ فإن الفقيه قد يحرز أن المولى في مقام البيان من جهة طهارة موضع العظة، فيفتي بوجوب التطهير، وقد يحرز العدم، وقد لا يحرز مع فرض عدم وجود أصل آخر يرجع إليه حينئذٍ.

وكما في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(3)، فلو لم يحرز الفقيه أن الآية في مقام البيان من ناحية التعليق والتنجيز وغيرها منالشروط وإطلاقها من هذه الجهات، فيتحير ويحتاط بالتنجيز أو باشتراط الماضوية، وكذلك لو لم يتضح

ص: 294


1- ونسبه السيد الخوئي (رحمه اللّه) في المصباح: ج3 ص281 إلى تسالم الفقهاء؛ فقال (رحمه اللّه): (إن وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب غير مانع من التمسك بالإطلاق، فإن المانع هو القرينة على التعيين، ومجرد وجود القدر المتيقن لا يوجب التعيين مع إطلاق الحكم عند التخاطب، ولذا تسالم الفقهاء على التمسك بالإطلاق مع وجود القدر المتيقن في موارد كثيرة).
2- سورة المائدة: 4.
3- سورة البقرة: 275.

لدى الفقيه الإطلاق في الآية للشك في أنها في مقام البيان من جهة ركني المعاملة(1) وأنه هل يصح كونهما نسيئة ومؤجلين أم لا؟

فإذا أحرز الإطلاق حق له الإفتاء بجواز كافة أقسام البيع الأربعة ومنها بيع الكالئ بالكالئ(2)، وأما اذا لم يحرز ذلك ولم يكن دليل لفظي آخر أو بناء للعقلاء وشبه ذلك وتحير فإنه يحتاط بعدم صحة القسم الرابع، فتأمل(3).

الثالثة(4): عدم الوضوح لوجود المانع، وذلك كما لو عارضت الشهرة استظهار الفقيه(5)، كما لو كان هذا الفقيه يرى أن الشهرة كاسرة وجابرة، حتى الشهرة الفتوائية للمتن والدلالة، فإنه حتى لو كانت الأدلة عنده ظاهرة لكنه يتوقف ويحتاط(6)، لما يلاحظه من أن مشهور أعاظم الفقهاء لم يستظهروا ذلك،

ص: 295


1- الثمن والمثمن.
2- مع قطع النظر عن ورود دليل خاص.
3- إذ لا يخلو مورد من العام الفوقاني أو الأصول الأخرى.
4- وهو أوضحها.
5- فإن مباني الفقهاء بالنسبة إلى الشهرة مختلفة: المبنى الأول: إن الشهرة كاسرة وجابرة: كاسرة أي مضعفة للرواية المعتبرة كما لو أعرض المشهور عن الرواية المعتبرة فإن الفقيه لا يستدل بها، ولعله لا يعتبرها مؤيداً، وجابرة أي أن الرواية الضعيفة التي عمل بها المشهور تكون الشهرة مقوية لها وجابرة لضعفها وموجبة للعمل والاستدلال بها. المبنى الثاني: إن الشهرة لا كاسرة ولا جابرة، حسب المعنى المتقدم. المبنى الثالث: إن الشهرة كاسرة غير جابرة. المبنى الرابع: إن الشهرة جابرة غير كاسرة. وكل ذلك بالنسبة للسند مرة وللمتن مرة أخرى.
6- كالسيد الوالد (رحمه اللّه) لبنائه على أن الشهرة في بناء العقلاء معتد بها، إما كدليل أو مؤيد، حيث رأى أن الشهرة لو كانت عظيمة فإنها توجب التحير النوعي حتى لمن كانت فتواه - لولاها - على أمر مغاير لها.

أو استظهروا خلافه، وهذا مما قد يوجب لديه الوهن في استظهاره، فإذا رأى فتوى المشهورموافقة للاحتياط احتاط(1) وإن كان رأيه الجواز مثلاً.

والفرق بين الأقسام الثلاثة المذكورة: أن (السبب الثالث)(2) المقتضي فيه موجود لكن الفقيه تردد لوجود مانع كالشهرة، أما فيهما(3) فإن تردده هو لعدم وجود المقتضي إما مبنىً أو بناءً كما سبق.

القسم الثالث: عدم الفتوى إثباتاً

القسم الثالث(4): عدم الفتوى إثباتاً

وذلك إذا كانت للأعلم(5) فتوى ثبوتاً ولكنه لم يفت إثباتاً بل احتاط لبعض العلل الآتية.

هذا، ولو علم المكلف بالفتوى الواقعية للأعلم الذي احتاط؛ فهل يجوز له أن يرجع إلى المفضول؟ الظاهر العدم(6).

والوجه في عدم تصريح الفقيه بفتواه واللجوء إلى الاحتياط أمور

ص: 296


1- كما حصل ذلك للسيد الحكيم (رحمه اللّه) حيث إنه أفتى في الطبعة السابعة عشرة من رسالته بطهارة أهل الكتاب، ولكنه في الطبعة الثامنة عشرة عدل واحتاط بنجاسة الكتابي موافقة للمشهور، وكما أن السيد الوالد (رحمه اللّه) كان يرى صناعياً طهارة أهل الكتاب، كما حرره في (الفقه) قبل عقود، إلا أنه لم يفتِ بذلك حينذاك، نظراً لكونه مخالفاً للمشهور.
2- وهو وجود المانع.
3- وهما: المبنى والبناء.
4- من الاحتياط حسب ما ذكره في (بيان الفقه).
5- أو لغيره.
6- قد يقال: هذا إذا علم بوجود فتوى ولكن من أين للمكلف أن يعلم ذلك، نعم في موارد التقية قد يعلم اعتباراً بواقع الحال. والجواب: لا يتعذر العلم بذلك، بل ولا يتعسر، إذا علم أن من شأن ذلك الفقيه أنه يتورع كثيراً، أو إذا علم وجود عناوين ثانوية، أو شبه ذلك، مع لحاظه تغير الفتوى إلى الاحتياط.

ووجوه عديدة(1):

من وجوه عدم الفتوى

الوجه الأول: الورع والخوف من احتمال الخلاف وإن كان معذوراً إذا افتى على حسب الظواهر التي توصل إليها.قال السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه): (3 - من جهة الاحتياط في الفتوى، كبعض الورعين حيث يتجنّب الفتوى غالباً، فإنّه يرى حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات، لكنّه يحتاط ولا يفتي بها، فإنّه لا يجوز بنظره العدول إلى من يرى الحجّية، أو يرى عدم الحجّية)(2)، وبعبارة أخرى: إن بعض الفقهاء الورعين يحتاط بالفتوى لا لعدم اتضاح الرؤية لديه؛ بل لشدة ورعه لكي لا يجعل رقبته جسراً للناس، وذلك كما لو كان يرى حجية قول العدل الواحد في الموضوعات، وهي مسألة خلافية فإن بعض الفقهاء لا يرى حجية قول العدل الواحد؛ لأنها - لديه - من باب الشهادة فينبغي أن يشهد شاهدان عدلان.

فهنا لو علم المكلف أن الأعلم فتواه: حجية قول العدل الواحد في الموضوعات؛ لكن الأعلم احتاط وقال: (الأحوط استشهاد شاهدين في الموضوعات)؛ فللمقلد أن يرجع إلى المفضول الذي يقول بحجية العدل الواحد باعتبار أن الأعلم احتاط(3).

ومثاله: ما لو قامت عند المكلف شهادة عدل واحد بأنه ارتضع مع هذه المرأة خمس عشرة رضعة، وكان الأعلم والمفضول كلاهما يريان الخمس عشرة

ص: 297


1- لا ترتبط بجهة استظهاره.
2- بيان الفقه: ج4 ص402.
3- بل له أن يتبع الفتوى الثبوتية للأعلم مادام قد علم بها.

رضعة هي المحرّمة وكانت فتوى المفضول بكفاية شهادة العدل الواحد، وأما الأعلم فقد احتاط، ولكن المكلف يعلم أن فتواه صاغها بقالب الاحتياط لسبب أو لآخر فإنه لا يجوز له الزواج بها، فتأمل(1).والفقيه قد لا يفتي لا لأن الصورة غير واضحة لديه بل ورعاً.

الوجه الثاني: التقية، وليس ذلك بالقليل في فتاوى الأئمة (عليهم السلام) والعلماء.

ص: 298


1- قد يقال: فلماذا يحتاط الفقيه، فإنه يقال: الفقيه له أن يحتاط كي لا يتحمل المسؤولية أمام اللّه، ولذا نجد أن البعض من كبار الفقهاء لم يتصد للفتيا لأنه واجب كفائي وقد قام به من فيه الكفاية، نعم إذا أصبح وجوباً عينياً فلا مناص له من التصدي. وعلى أية حال، على المرء قدر المستطاع أن لا يجعل رقبته جسراً للناس، فإذا كان قادراً على تحمل المسؤولية وقادراً على الوقوف أمام إغراءات الشيطان فليتصدّ، وأما لو علم أو حتى شك بأنه غير قادر فعليه أن يبتعد وأن لا يتحمل المسؤولية، هذا إذا كان واجباً كفائياً، وأما إذا أصبح واجباً عينياً فهو ابتلاء رباني فليتحمله وليستعن باللّه تعالى. وهكذا الحال في الأمور الأخرى كالقضاء، فإن القاضي على شفير جهنم، فليحتط الإنسان بعدم التصدي للقضاء إلا إذا لم يقم به من فيه الكفاية، وكذلك الحال في المسؤوليات الأخرى، سياسية كانت أم اقتصادية أم غيرها، فإن الإنسان الورع يحاول إحراز رضى اللّه تعالى حتماً، فإذا كان الأمر موسعاً فينبغي له أن لا يقتحم الطريق الصعب الذي تكثر فيه مزالّ الأقدام والذي يخشى منه على دينه، وليمارس تكليفه الديني أو الاجتماعي في مجال بعيد عن شبهة السقوط في نار جهنم. إذن فبعض الفقهاء يحتاط واحتياطه حسن، مثلاً الجد (رحمه اللّه) لما رأى أن المرجعية تكاد تؤول إليه بعد السيد البروجردي (رحمه اللّه) توسل عند ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) أن يموت قبله، وتوفاه اللّه قبل السيد البروجردي (رحمه اللّه) بخمسة وأربعين يوماً، فقد توفي السيد الجد (رحمه اللّه) في 28 شعبان من سنة 1380هجري، والسيد البروجردي (رحمه اللّه) توفي في 13 شوال من سنة 1380 هجرية، فبعض الفقهاء يرى المسؤولية كبيرة فلا يتحملها، وهو مستعد للموت بدل أن يتحملها.

فلو علم المكلف أنه احتاط ولم يفت تقية من الجائر أو ورعاً، فإن تلك الفتوى الواقعية لا يجوز العدول عنها للمفضول(1).

الوجه الثالث: الخوف من عدم تحمّل الناس أو من كلامهم إذ ورد: (رحم اللّه من جب الغيبة عن نفسه)(2)، وذلك كما لو رأى رأياً مخالفاً للمشهور وكان رأي المشهور موافقاً للاحتياط، ولم يكن يرى الشهرة كاسرة أو جابرة، ولكنه رأى أنه لو أفتى بما يخالف المشهور فسيكون معرضاً لقدح أكثر الناس أو الكثير منهم فيحتاط(3) حينئذٍ.

الوجه الرابع: الخوف من حصول البلبلة والفتنة والفوضى في المجتمع(4)، أو لوجود توال فاسدة أخرى بنحو القضية الخارجية.

وذلك كما لو كان الفقيه يرى جواز أن تتزوج البكر الرشيدة بلا إذن الولي دواماً أو انقطاعاً حتى مع الدخول، وهذا الرأي لعله خلاف رأي المشهور، لكنه رغم أن رأيه هو الجواز إلا أنه حيث يرى أنه لو أفتى به لحصلت بلبلة وهرج

ص: 299


1- بناءً على تعيّن تقليد الأعلم.
2- هذا قول مشهور وهو مستفاد من النصوص ومستنبط منها.
3- أي فيما لو كان احتياطه موافقاً للاحتياط إضافة لموافقته للمشهور - كما مضى في المتن -، لا فيما كان احتياطه مخالفاً للاحتياط، وإلا لما حق له ذلك وإن وافق المشهور، اللّهم إلا على القول بجواز الإرجاع للغير، بل والرجوع له رغم وجود فتوى لديه، كما حررناه في كتاب: (شورى الفقهاء) وغيره، ولكن هذا القول نادر.
4- ومن هذه الأمور أيضاً أنه لا يفتي لعدم بسط يده، كما عبر عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أما واللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه في»، التوحيد: ص305.

ومرج في المجتمع وتفكك في العوائل، لأن البعض قد يسيء تطبيق هذه الفتوى، وقد يحصل بسببها نوع اختلال في النظام العام فإنه لا يفتي حينئذٍ برأيه ولا بخلاف رأيه، بل يقول: (الأحوط وجوباً أن تستأذن البكر من الولي) طبقاً لفتوى المشهور أو الكثيرين.

وقيل: إن السيد الكلبايكاني (رحمه اللّه) كان يفتي بالجواز أولاً(1)، ثم عدل إلى الاحتياط بالعدم، وفتواه وعدوله كلاهما على حسب القاعدة، إذ قد أفتى لأن ما استظهره كان هو الجواز، ثم إنه عدل إلى الاحتياط لعله كان لأجل العناوين الثانوية التي مضى ذكرها.

والحاصل: إن الفقيه قد لا يفتي رغم وجود فتوى لديه، ويحتاط لوجود محاذير خارجية عديدة، كالورع أو التقية أو وجود عنوان ثانوي ما أشبه، فتأمل(2).نعم، (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(3)، فلا بد أن تكون الفتوى أو عدمها أو الاحتياط، بحيث يمتلك الإجابة عن وجهها الشرعي أمام اللّه تعالى(4).

القسم الرابع: عدم الفتوى لضعف الدليل

القسم الرابع: عدم الفتوى لضعف الدليل(5)

ويمكن أن نضيف قسماً رابعاً وهو حريّ بالتدبر، لأن الأعلام فيما نعلم لم يطرحوه على بساط البحث، وإن كان يمكن درجه في القسم الثاني بجعله من

ص: 300


1- أفتى (رحمه اللّه) بالجواز في رسالته العملية (هداية العباد: ج2 ص317)، وأيضاً أكد هذه الفتوى في أجوبته الاستفتائية في كتابه: (إرشاد السائل: ص109)، نعم إنه (رحمه اللّه) في الكتابين قد أحتاط استحباباً بأن تستأذن البكر من وليها، ولعله احتاط أخيراً شفوياً أو في بعض كتبه الأخرى.
2- إذ عدم الفتوى بما طابق رأيه الأولي، نظراً لوجود عنوان ثانوي، خارج عما نحن فيه، فلا ينبغي خلط المبحث، فتدبر.
3- سورة القيامة: 14.
4- وهذا الاستدراك منه (دام ظله) دقيق ولطيف، ويصلح أن يكون قاعدة أو ضابطة لهذا المطلب.
5- أو لعوامل أخرى كما سيأتي في المتن في الأمر الثالث.

أقسامه، نعم بعض صغريات هذه المسألة(1) مطروحة ولكن الكبرى واستثمارها في المقام غير مذكورة ظاهراً.

وهو أن الفقيه قد لا يفتي لا لعدم قيام الحجة لديه(2)، ولا لوجود أعذار خارجية كالورع وغيره وإنما لا يفتي لكون الحجة لديه في مرتبة نازلة من مراتبها.

وذلك مما يتضح في ضمن بيان الأمور التالية:

الأمر الأول: إن الحجج ذات مراتب، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى، فإن علم الأصول - وكذا الفقه - مليء بذلك، وذلك كالنص والظاهر فإن كليهما حجة ولكن أين النص من الظاهر؟ وكالظاهر والأظهر فإن كليهما حجة، ولكن الأظهر يتقدم على الظاهر لدى التعارض، وكما في العام والمطلق إذ كلاهما ظاهر(3)، ولكن العام يتقدم على المطلق(4) بالورود أو الحكومة، فتأمل.

ومن المراتب أيضاً أنه يوجد ما يورث القطع كالتواتر وهوحجة، ويوجد ما لا يورثه كخبر الثقة وهو حجة أيضاً.

ثم إن نفس خبر الثقة على مراتب، فمنه ما يكون صحيحاً، ومنه ما يكون موثقاً، ومنه ما يكون حسناً، وقد يورث ظناً قوياً، وقد يورث ظناً ضعيفاً؛ فدرجات الوثاقة مختلفة؛ لأن الوثاقة مشكِّكة وعليه: فلو تعارض خبر ثقة مع خبر ثقة آخر، فالقاعدة العقلائية أن يلاحظ أيهما أشدّ وثاقة وأيهما أصدق لهجة

ص: 301


1- ضعف الدليل.
2- كما في القسم الثاني.
3- لم ندرجهما في الظاهر والأظهر.
4- لكون ظهوره بالوضع، وظهور المطلق بمقدمات الحكمة.

وهكذا فيقدم في باب المرجحات(1)، نعم قد يختلف في درجة ظهور كل دليل مما يبحث في باب التعارض.

والأمثلة عليها كثيرة، فمثلاً البينة والإقرار كلاهما حجة لكن أيهما أقوى؟ اختلف الأعلام ولكل دليله، وفي بعض موارد التعارض(2) توجد رواية صحيحة.

الأمر الثاني: إنه تبعاً لاختلاف درجات الحجج تختلف درجات الاستظهار؛ فإن رأي الفقيه معلول للحجج بنحو معلولية الشيء للعلةالمعدة، والاستظهار على درجات، فتارة يظهر الأمر بوضوح للفقيه كما لو استظهر من النص، وأخرى يظهر له الأمر لا بتلك الدرجة من الوضوح؛ كما لو استظهر من

ص: 302


1- وفي مقبولة عمر بن حنظلة: «الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا وَ لَا يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ». قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا يُفَضَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ: فَقَالَ (عليه السلام): «يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا وَ يُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ إِنَّمَا الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ وَ أَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ وَ أَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَ إِلَى رَسُولِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم): حَلَالٌ بَيِّنٌ وَ حَرَامٌ بَيِّنٌ وَ شُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ». قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمَا مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ. قَالَ: «يُنْظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ وَالْآخَرَ مُخَالِفاً لَهُمْ بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ؟ قَالَ: «مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ فَفِيهِ الرَّشَادُ». فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً. قَالَ: «يُنْظَرُ إِلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وَ قُضَاتُهُمْ فَيُتْرَكُ وَ يُؤْخَذُ بِالْآخَرِ». قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعاً. قَالَ: «إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ» (الكافي: ج1 ص68).
2- وهو الإقرار بالقتل وقيام شاهدين على أن القاتل شخص آخر.

المطلق تمسكاً بمقدمات الحكمة.

الأمر الثالث: إنه تارة يختلف استظهار الفقيه لاختلاف الأدلة والحجج(1)، وأخرى يختلف استظهاره لعوامل لا ترتبط بلسان الدليل نفسه، بل لوجود عوامل نفسية أو فكرية أو بيئية تؤثر في استظهار الفقيه أو اطمئنانه أو انصراف الدليل بنظره عن جهة خاصة أو إلى جهة خاصة(2).

ولعل ذلك لكونه غير منضبط لم يبحث ولم يصنف أصولياً(3) إذ كيف تنضبط الحالات النفسية والخلفيات الفكرية؟

أما القسم الأول كتفاوت درجات الحجية في أنواع خبر الواحد ودرجات الظهور وغيرها فلما كانت منضبطة لقيامها بالألفاظ وشبه ذلك(4) فقد لوحظ تأثيرها في الاستظهار، وهذا البحث بحث هام يجب ان تعقد له مسألة مستقلة.

الصور الثلاث للاستظهار في الفتوى

الأمر الرابع: إن هنالك ثمرتين تترتبان على ذلك، في جملة ثمار أخرى: وذلك حسب صور ثلاث وهي:

الصورة الأولى: أن يكون استظهار الأعلم ضعيفاً لضعف الحجة لديه - أي كونها ضعيفة لديه كقرينة السياق مع فرض أنه يراها حجة ضعيفة - أو لضعف

ص: 303


1- وعليه المعول في بناء العقلاء.
2- مثلاً إن الأخباري قد يقطع بصحة الرواية لمجرد كونها في كتاب الكافي، وذلك تبعاً لمبانيه المعروفة، ولكن نفس الرواية عند بعض الفقهاء المدققين أو المشككين ساقطة عن الحجية بينما قد يوجد فقيه آخر هو وسط بينهما، هذا سنداً، وكذا الحال في الدلالة والاستظهار.
3- وقد تطرق السيد الأستاذ (دام ظله) لجوانب من البحث في كتاب: (نقد الهرمنيوطيقا ونسبية اللغة والمعرفة والحقيقة) وكتاب: (نسبية الحقيقة والمعرفة واللغة بين الممكن والممتنع).
4- كالعدالة والوثاقة وغيرها في درجات الخبر الصحيح والموثق والحسن.

استظهاره منها لإحدى الوجوه المذكورة في الأمر الثالث(1)، فإنه يحتاط حينئذٍ فهذه ثمرة، ثم إنه لو أفتى فرضاً وكان استظهار المفضول فيها قوياً مستنداً إلى حجج قوية بنظره، فإن بناء العقلاء - الذي كان عمدة الأدلة على وجوب تقليد الأعلم - لا يعلم شموله لهذه الصورة(2)، ولا إطلاق له لكونه دليلاً لبياً، فهذه ثمرة ثانية.

بل نترقى ونقول: إن بناء العقلاء لا يشمل هذه الصورة، ويظهر ذلك في رجوعهم إلى أهل الخبرة كالطبيب والمهندس، فلو أن الطبيب الأعلم كان استظهاره وتشخيصه للمرض ضعيفاً وعلمنا ذلك بتصريحه مثلاً، في حين أن الطبيب المفضول كان استظهاره قوياً، فإن العقلاء عادة يرجعون حينئذ إلى المفضول، لأن قوله هو الذي يورث الاطمئنان أو الظن النوعي لا قول الأعلم، بل إنهم يرون المفضول هو الأعلم في خصوص هذه المسألة وإن كان غيره هو الأعلم بشكل عام، وهذا ممكن بل واقع بل كثير الوقوع، وإن أبيت عن ذلك فإن العقلاء يرون التخيير حينئذٍ أو التساقط أو التحير والتوقف.

الصورة الثانية: أن يكون استظهار الأعلم متوسطاً فلا يحتاط حينئذٍ، ثم إن استظهار المفضول لو كان متوسطاً لما جاز العدول إليه، على مبنى تعيّن تقليد الأعلم، ولو كان قوياً فقول الأعلم هو الراجح، على المنصور، والمتعين على المشهور(3).

الصورة الثالثة: أن يكون استظهار الأعلم قوياً واستظهار المفضول ضعيفاً

ص: 304


1- ومن مصاديقه ما لو تمت الظنون النوعية لديه، لكن لم يظن بها ظناً شخصياً أو لو ظن ظناً شخصياً على الخلاف.
2- إذ لا يعلم أن بناءهم على تعيّن تقليد الأعلم حتى في صورة كون استظهاره أضعف من استظهار المفضول.
3- لدى المتأخرين فتوى أو احتياطاً.

أو متوسطاً أو حتى قوياً، فهذه هي القدر المتيقن منصور تعين تقليد الأعلم، على القول به(1).

ويتضح الحال في هذه الصور الثلاثة أكثر، إذا قمنا بصياغة الصور الثلاثة بطريقة كمية(2)، فليتدبر.

ص: 305


1- سؤال من بعض الطلبة الأفاضل: كيف يعلم المكلف نوع الاحتياط حتى يرتب عليه العمل؟ وإذا لم يعلم فأين الثمرة من البحث؟ فأجاب سماحة السيد الاستاذ (دام ظله): أولاً: إن الكلام في مقام الاستظهار والفتوى والتقسيمات الثبوتية، وليس في مقام علم المكلف أولاً؛ فهو مبحث اجتهادي في مرحلة الثبوت. وثانياً: إن الثمرة متحققة للفقيه نفسه وللفضلاء وللمكلف، أما للفقيه نفسه، فهو إذا لاحظ أن الاحتياط من أي قسم فسوف يصوغ العبارة المناسبة لذلك، بحيث يفسح المجال للعدول إلى غيره أو لا؛ وأما بالنسبة للفضلاء ووكلاء الفقيه، فإن لهم بل عليهم في الجملة أن يطلعوا على هذه الأقسام في مقام عملهم وعند نقل الفتوى لمقلدي مراجعهم؛ وأما بالنسبة للمكلف، فبعد ما تُبيّن له الأقسام ولكن ليس بهذه الصورة، بل بأن نوضح له النتيجة النهائية، فإن الفقيه أو الوكيل المطلع على المعادلات والتقسيمات إذا شخّص أن احتياط الفقيه هو من القسم الأول وأنه فتوى بالاحتياط، فيقول للعامي: لا يجوز لك الرجوع لغير الأعلم في هذا الاحتياط، وإذا شخّص أن هذا احتياط في الفتوى لعدم إحرازه الحجية؛ فيقول للعامي: يجوز لك الرجوع للمفضول، وهكذا. والحاصل: إن الاحتياطات يجب أن لا تساق بعصى واحدة كما هو متوهم عند العامة، إذن الثمرة تظهر للفقيه وكيف يصوغ العبارة، وتظهر للوكيل وكيف يبين الفتوى للمكلف، وتظهر للمكلف بأن يسأل ليعرف أن هذا الاحتياط من أي قسم، وعلى ذلك فإنه لابد أن تضاف هذه المسألة إلى الرسائل العملية وأن يحدد كل احتياط عند ذكره، أو أن يرشد المقلد إلى الوكيل مثلاً. نعم، ذكر الفقهاء في رسائلهم تقسيماً للاحتياط من ناحية العمل، وأن الاحتياط إما أن يقتضي العمل أو يقتضي الترك أو يقتضي الجمع مع التكرار أو بدونه، لكن ذلك غير ما أشرنا إليه، فتدبر.
2- فإن ظن الأعلم قد يكون بدرجة 60(عليهم السلام) وظن المفضول بدرجة 90(عليهم السلام) مثلاً، وقد يكونان معاً بدرجة 80(عليهم السلام) وحواليها، وقد يكون ظن الأعلم بدرجة 70(عليهم السلام) والمفضول 80(عليهم السلام) مثلاً، وهذا التسلسل الكمي يتطابق مع تسلسل الصور الثلاثة المذكورة في المتن.

الصور الثلاث للاستظهار في الاحتياط

ومن صور اختلاف درجات الاستظهار في الفتوى يظهر حالدرجات الاحتياط فإنه أيضاً على صور:

الصورة الأولى: إذا كان احتياط الأعلم مبنياً على استظهار ضعيف(1)، وقد عورض باستظهار أقوى جداً من المفضول، فهنا لا يصح العمل بهذا الاحتياط(2)، بل يتعين الرجوع إلى المفضول.

الصورة الثانية: إذا كانت استظهار احتياط الأعلم متقارباً مع استظهار فتوى المفضول؛ ففي هذه الحالة يتخير المكلف إلا إذا كان فتوى بالاحتياط.

الصورة الثالثة: إذا كان احتياط الأعلم مستنداً إلى استظهار أقوى من فتوى المفضول، لاستنادها إلى استظهار أضعف، فهنا احتياط الأعلم يقدم إذا كان من الفتوى بالاحتياط.

وهذا البحث يحتاج إلى مزيد تنقيح وتأمل، وقد أشرنا فيه إلى وظيفة المجتهد صناعياً، وإلى أقسام الاحتياط، والنتيجة المترتبة على كل قسم.

التفصيل بين الاحتياط المطلق أو الأصولي والاحتياط المفتى به أو الفقهي

وأما السيد الوالد (رحمه اللّه) في (الفقه) فقد فصَّل بوجهٍ جديد، وهو: التفرقة بين الاحتياط المطلق - الذي هو قسيم للاجتهاد والتقليد - وبين الاحتياطات المبثوثة في الرسائل العملية والكتب الفقهية من أولها إلى آخرها(3)، أي إنه (رحمه اللّه) فصل بين

ص: 306


1- في صورة الفتوى بالاحتياط، أو الاحتياط لعدم وضوح الرؤية، فتأمل.
2- إلا إذا كان مطابقاً للاحتياط من غير معارض.
3- موسوعة الفقه: ج1 ص432.

الكلي والمصاديق، فاعتبر الكلي(1) قسيماً، وأما مصاديق الاحتياط المنتشرة في الكتب الفقهية فاعتبر العمل بها قسماً من التقليد وليست قسيماً.

فالاحتياط في رأيه على قسمين:

القسم الأول: ما أسماه بالاحتياط المطلق.

القسم الثاني: ما أسميناه بالاحتياط المفتى به.

قال (رحمه اللّه) في الفقه: (أقول: الظاهر أن الاحتياط الذي هو محل الكلام بين الفقهاء والأصوليين في أنه هل يجوز مع التمكن من الامتثال التفصيلي أم لا؟ هو الاحتياط المطلق لا مثل هذه الاحتياطات، فإنها في الحقيقة تقليد، ولذا من لم يجوّز الاحتياط مع التمكن يثبت في رسالته احتياطاته، وليس ذلك إلا أنه من جهة عمل المقلدين ولا يرى العرف أنه من العمل بالاحتياط القسيم للاجتهاد والتقليد. نعم بعض أدلة حرمة الاحتياط كإخلاله بقصد الوجه ونحوه آت هنا.

والحاصل إن أدلة التقليد تشمل مثل احتياطات الفقهاء بلا مانع، فكونها من التقليد دون الاحتياط القسيم له أظهر)(2).

وهذا التقسيم له ثمرة عملية كبيرة، تمتد على مساحة الاحتياطات كلها، سلباً وإيجاباً، لذا يحتاج البحث إلى بعض التوضيح:

فنقول: إن الاحتياط الذي هو مورد الأخذ والرد والنقض والإبرام في كلام الأصوليين والفقهاء، وهو ما يكون في عرض الاجتهاد والتقليد(3)، هو المسمى بالاحتياط المطلق، الذي يبحث فيه عن أنه هل للمكلف أن يحتاط بدل أن يسلك طريقي الاجتهاد والتقليد أو لا؟

ص: 307


1- كلي الاحتياط.
2- موسوعة الفقه: ج1 ص432 - 433.
3- باعتبار أنه امتثال إجمالي وأنه هل يكون في عرض الامتثال التفصيلي أم لا؟

وقد تقدم أنه ربما يقال بالعدم، لأنه نوع عبث بأحكام المولى، أو لأنه لا يتحقق فيه قصد الإنشاء في المعاملات، أو لأنه لا يوجد فيه قصد الوجه والتمييز في العبادات.

وقد يقال: نعم، عبر التفصي عن تلك الإشكالات بما سبق الكلام عنه.

وهذا البحث الطويل الذي تقدم تفصيله يدور حول الكبرى الكلية للاحتياط، ولا يدور حول صغريات الاحتياط المبثوثة فيالرسائل العملية، لأنها صحيحة وجائزة حتى وإن رفضنا كبرى كون الاحتياط قسيماً للاجتهاد والتقليد وأن للمكلف أن يحتاط بدل أن يقلد أو يجتهد.

والخلاصة: إن الاحتياطات الصغروية المبثوثة في الرسائل العملية يجوز العمل بها، وإن كان رأي الفقيه أصولياً: إن الاحتياط ليس قسيماً للاجتهاد والتقليد، وأنه لا يصح العمل به مطلقاً أو في الجملة، وقد استدل في (الفقه) على ذلك بثلاثة أدلة(1).

وجوه صحة العمل بالاحتياطات في الكتب الفقهية

وجوه صحة العمل بالاحتياطات في الكتب الفقهية(2):

الأول: إن العمل بالاحتياطات في الكتب الفقهية هو تقليد حقيقة، وليس احتياطاً بالحمل الشايع الصناعي، فإن المقلد عندما يأخذ الرسالة العملية ويجد فيها هذه المسألة مثلاً: (الأحوط أن يجمع بين القصر والإتمام في صورة حصول الانعراض القهري عن الوطن)، فإن عمله بهذا الاحتياط هو تقليد حقيقة.

وبتعبير آخر: هو مقلد بالحمل الشايع الصناعي، والصدق حقيقي في مرحلة الثبوت.

ص: 308


1- بتوضيح وإضافة بيان.
2- أي حتى بناء على مبنى من رأى عدم صحة كلي الاحتياط بديلاً عن الاجتهاد والتقليد.

الثاني: إن العمل بتلك الاحتياطات هو تقليد عرفاً، للصدق كذلك، فإن العامل بالاحتياطات في الرسائل العملية مقلد عرفاً، فإذا سئل عن عمله قال: إنه يقلد في هذه المسألة المرجع الفلاني.

الثالث: إنا نجد الفقهاء الذين استشكلوا على الكلي - كلي جواز الاحتياط - قد أدرجوا الصغريات - صغريات المسائل الاحتياطية - في رسائلهم العملية.

وبعبارة أخرى: على الرغم من أن بعض الفقهاء لا يقبلالكبرى الكلية، لكنه يدرج الصغريات في رسالته العملية، وما ذلك إلاّ لكي يعمل بها المكلف لا لمجرد البحث الصناعي، لأن الفرض أنها في الرسالة العملية، فكيف جمع الفقيه(1) بين عدم صحة الكبرى الكلية وبين إدراج الصغريات في الرسالة العملية؟

لا وجه لذلك إلا بالقول: إن عمل المقلد باحتياطات الرسائل العملية إنما هو تقليد(2) وليس احتياطاً؛ إذن فلا تهافت بين نفي الكبرى الكلية وإدراج الصغريات والبناء عليها.

ولكن السيد الوالد (رحمه اللّه) استدرك بقوله: (نعم، بعض أدلة حرمة الاحتياط كإخلاله بقصد الوجه ونحوه آت هنا) أي إن بعض الأدلة التي علل بها بطلان التمسك بكلي الاحتياط جارية في الصغريات، فهذه العبارة بظاهرها تكشف عن مشكلة تحتاج إلى حل، ويمكن الجواب: بأن الاحتياطات الصغروية هي مجمع عنوانين، فهي احتياط وهي تقليد، فهي احتياط بالحمل الأولي الذاتي، وتقليد بالحمل الشايع الصناعي؛ وقد أدرجت في الرسائل العملية لا بلحاظ حملها الذاتي الأولي، بل بلحاظ حملها الشايع الصناعي، أي ليعمل بها المقلد مستنداً

ص: 309


1- كالميرزا النائيني (رحمه اللّه) مثلاً في العبادة لو استلزمت التكرار، كما سيأتي.
2- ويمكن التعبير مجازاً بالانقلاب الماهوي، والدقيق أنه: احتياط جرى التقليد فيه، فزالت بالتقليد بعض العُقد والإشكالات، كإشكال عدم الجزم وقصد التمييز، كما سيأتي في المتن.

إلى قول مرجعه فيها لا لأنها احتياط في حد ذاتها، فوجه عمله تقليده وإن كان تقليده يسوق للاحتياط، وبذلك يندفع الإشكال الأخير لأن هذا المقلد لم يستند للاحتياط في جمعه بين القصر والإتمام حتى يقال إن احتياطه باطل؛ بل إنه استند إلى التقليد.

وهذا التفريق دقيق ومفتاحي، فإذا قبلناه أو لم نقبله سوف يختلف الحال في كافة الصغريات.

إشكال (بيان الفقه): لا فرق بين الاحتياط الأصولي والفقهي

إشكال (بيان الفقه): لا فرق بين الاحتياط الأصولي والفقهي(1)

وقد أشكل السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) على تفصيل الفقه بين الاحتياط المطلق (الكلي) والاحتياط المفتى به (الجزئي) بما يلي:

1: لماذا التفريق

الإشكال الأول: قوله (وفيه: أي فرق بعد شمول عمدة أدلتهم لكليهما؟) وهو ما سبق من أنه كيف يمكن التفريق في الحكم بين الاحتياط الكبروي الذي يعد قسيماً للاجتهاد والتقليد، وبين الاحتياط المصداقي، أي الاحتياطات الصغروية الموجودة في كتب الفقه، مع أن عمدة أدلتهم لمنع الاحتياط المطلق أو بطلانه تجري في كافة الصغريات(2)؟

الجواب: لأن الاحتياط الجزئي، تقليد بالحمل الشائع

وهذا الإشكال هو ما عبّر عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) بقوله المتقدم: (نعم، بعض أدلة حرمة الاحتياط كإخلاله بقصد الوجه ونحوه آت هنا) وقد مضى الجواب عنه.

ص: 310


1- أي إما كلاهما صحيح أو كلاهما باطل.
2- أي في الاحتياطات المفتى بها.

ولمزيد التوضيح نقول: الظاهر أنها لا تجري في المقلد في عمله باحتياطات الرسالة العملية، إذ يمكنه بالتقليد ما لا يمكنه فعله بالاحتياط، فمثلاً: إن الإشكال الأساسي في الاحتياط في المعاملات هو: أن المحتاط لا يمكنه قصد الإنشاء لأنه لا يمكنه الجزم، لأنه لا يدري مثلاً هل أن لفظة (أنكحت) يقع بها الزواج، أم لفظة (زوجت)، فإذا قال: (أنكحت) لا يمكنه قصد الإنشاء وكذا إذا قال (زوجت) إذ لا يمكنه قصد الجزم عند نطقه بأي واحد منهما، والإنشاء إيجاد والإيجاد لا يعقل فيه الترديد - على حسب إشكال المستشكل(1).

والجواب عنه - أنه حتى على فرض صحته وتماميته فانه غير جارٍ في المقلد فإن المقلد عند ما يقلد في هذه المسألة ويرى فيها عبارة: يجب الجمع بين لفظي (أنكحت) و (زوجت) احتياطاً فإنهسيقصد بكلا الصيغتين الإنشاء ويجزم بالنية عند كل منهما لأنه غير ملتفت لخلفيات هذا المبحث، فإن العالم بالخلفيات لا يمكنه الجزم ولا يتأتى منه الإنشاء، فكيف ينشئ؟ في حين المقلد الذي يعمل بالرسالة العملية غافل عن هذه الشبهة؛ ولذلك يقصد وقوع العقد بكلا اللفظين وينشئ ذلك جزماً.

وكذلك الحال بالنسبة لقصد الوجه والتمييز، فإن المكلف عندما يصلي احتياطاً إلى جهتين أوجبهما المرجع في الرسالة العملية عند اشتباه القبلة، فإنه لا يلتفت إلى أنه لا يمكنه - حسب الشبهة - أن يقصد الأمر إذ لا يقين له به، بل حيث إنه يتبع قول المجتهد بالجمع فإنه يرى أن الصلاة إلى هذه الجهة مأمور بها وكذا إلى تلك الجهة، ولا يلتفت إلى فلسفة أمر الفقيه بالجمع وإلى أن الصلاة إلى كلتا الجهتين لا أمر قطعياً فيهما بل مجرد احتمال الأمر.

والحاصل: إن المقلد يتعامل مع الفتوى الاحتياطية معاملة الفتوى القطعية

ص: 311


1- وقد سبق بيان ذلك مع الجواب.

ولا تردد عنده في قصد الوجه ولا في التمييز ولا في قصد الإنشاء، فإنه يرى كلام المرجع دليلاً على ثبوت الأمر من اللّه تعالى، فحيث يقول: احتط أو يجب عليك الجمع، فإن عليه أن يجمع ويأتي بكل منها امتثالاً لأمر اللّه تعالى وليس امتثالاً لاحتمال أمره.

ومقتضى التحقيق: ما ظهر من مطاوي ما سبق من التفصيل؛ وذلك لأن المقلد عندما يتصفح الرسالة العملية ويجد فيها العشرات من الاحتياطات، فإن أمره دائر بين حالتين:

الأولى: أن يكون المقلد حين الاحتياط ملتفتاً لوجه الاحتياط والدليل عليه، وذلك كبعض الأفاضل، فإنه عندما يعمل بالاحتياط يعمل به كاحتياط لا كتقليد، لأنه إذا قرأ في الرسالة مثلاً: (الأحوط الجمع بين القصر والإتمام) وعلم أن المجتهد متردد(1)، وأنه يسوغ له بذلك إما العمل به كاحتياط، أو الرجوع إلى المفضول، فهو ملتفت لوجه الاحتياط، لذا تجري الإشكالات الواردة على الكبرى الكلية للاحتياط، عليه هنا في الصغريات، لأنه لا يستطيع أن يقصد الوجه، ولا التمييز في العبادات، وهو غير قادر حينئذٍ على قصد الإنشاءعلى ما قيل في المعاملات، فتأمل.

الثانية: أن يكون المقلد مستنداً فقط إلى ما هو مذكور في الرسالة العملية(2)؛

فمثله لا يعمل بهذه الاحتياطات باعتبار أنها صغرى لكبرى الاحتياط، بل يعمل بها لأنها صغرى لكبرى التقليد، فيمكنه أن يقصد الوجه والتمييز(3)، ويكون منشئاً في المعاملات.

ص: 312


1- وهو أحد وجوه ذهاب المجتهد للاحتياط كما سبق تفصيلها.
2- وهذا العامي المحض.
3- يقصد الإتيان بهذه الصلاة إلى هذه الجهة للأمر بها ولوجوبها...

فالتفريق بين كلي الاحتياط والاحتياط المصداقي(1) في هذه الصورة خاصة هو في محله، دون الصورة الأولى، ولذا للفقيه أن يستشكل على الكبرى الكلية، وفي نفس الوقت يدرج الاحتياطات في رسالته العملية لكي يعمل بها المقلد من باب التقليد، لا من باب الاحتياط.

وإذا اتضح هذا الوجه سيتضح الجواب أيضاً على إشكال (بيان الفقه) على الميرزا النائيني (رحمه اللّه)، وأنه لماذا في تعليقته على المسألة الرابعة في العروة قيّد، في حين أنه في تعليقته على المسألة الثالثة والستين أطلق، وهو تهافت.

ولكن بما تقدم يتضح الفرق، وأنه لا تهافت، وسيأتي توضيحه.

2: لزوم تقييد صحة الاحتياط بما إذا لم يكن عبادة

وأما الإشكال الثاني لبيان الفقه على (الفقه)، ثم على الميرزا النائيني (رحمه اللّه) فهو بتوضيح وإضافة: إنه كما أن الأدلة مطلقة، فكذلك كلمات الفقهاء مطلقة، ولا فرق بين الاحتياط المطلق وبين الاحتياطات المبثوثة في الرسائل العملية.

بعبارة أخرى: إن الأدلة وفتاوى الفقهاء مطلقة ولا تفرق بين الاحتياط المطلق وبين الاحتياط المفتى به أي بين الاحتياط الأصولي والاحتياط الفقهي، بل تسوقها بعصى واحدة فأما منعه مطلقاً أي من جهة ورود إشكال فقد الجزم أو قصد الوجه أو التمييز وشبهها أوتجويزه مطلقاً، وعلى ذلك يرد الإشكال على الميرزا النائيني (رحمه اللّه)، قال في بيان الفقه: (قال المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في حاشيته على المسألة الرابعة من التقليد، القائلة:

(الأقوى جواز الاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار و أمكن الاجتهاد أو التقليد) قال معلّقاً: (إلّا إذا كانت عبادة، فإنّ الأحوط بل الأقوى حينئذ تعيّن

ص: 313


1- في القسم الثاني منه.

الاجتهاد أو التقليد، نعم لو أتى بالمحتمل الآخر رجاءً للمحبوبية و إدراك الواقع بعد الإتيان بما أدّى إليه تقليده أو اجتهاده كان حسناً).

لكن النائيني (رحمه اللّه) لم يعلّق هنا على ما نحن فيه من المسألة الثالثة والستين، وكان ينبغي له أن يعلّق عليها ب: (أنّه إذا كان عبادة و كان موجباً للتكرار فالأحوط بل الأقوى العدول إلى من له فتوى).

وما أكثر الاحتياطات بالجمع بين العبادات في العروة لم يعلّق عليها النائيني)(1).

بل نضيف على ما استشهد به (بيان الفقه) فنقول: إن عبارة العروة أيضاً مطلقة، لأنه يقول: في المسألة الرابعة: (الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد أو التقليد)(2)؛ فهو لم يفرق بين الاحتياط الكلي الذي هو قسيم الاجتهاد والتقليد، وبين مصاديق الاحتياط.

لكن صاحب العروة أطلق في المسألتين (الرابعة والثالثة والستين) وذلك على القاعدة عكس الميرزا النائيني (رحمه اللّه) وغيره(3) الذي علق على المسألة الرابعة وقيدها ب(إلا إذا كانت عبادة) ولم يعلق على المسألة 63 ولم يقيدها بهذا القيد.

وبعبارة أخرى: إن تعليق النائيني (رحمه اللّه) على المسألة الرابعة وتقييدها ينافي إطلاقه وعدم تعليقه على المسألة الثالثة والستين من العروة(4).

فكان على الميرزا (رحمه اللّه) أن يعلق على المسألة 63 أيضاً بالقول: (إلا إذا كان

ص: 314


1- بيان الفقه في شرح العروة الوثقى: ج4 ص403.
2- العروة الوثقى: ج1 ص12.
3- وغيره كالسيد جمال الدين الكلبايكاني (رحمه اللّه).
4- المسألة الثالثة والستون من العروة، وهي: (في احتياطات الأعلم إذا لم يكن للأعلم فتوى؛ يتخير المقلد بين العمل بها، وبين الرجوع إلى غيره الأعلم فالأعلم).

عبادة واستلزم التكرار فلا يتخير، بل يجب عليه العدول إلى من له الفتوى)، لأنه قيد بذلك في المسألة الرابعة، فالتقييد هناك يستلزم أن يجريه هنا.

ولكن سوف يتضح أنه لا تهافت ولا تناقض ظاهراً في تعليقه على تلك المسألة وعدمه على المسألة الأخرى.

الجواب عن الإشكال بالفرق السابق

ولكن الظاهر أن هذا الإشكال أيضاً يمكن الجواب عنه، وأن تقييد الميرزا (رحمه اللّه) للمسألة الرابعة دون الثالثة والستين، له وجه وجيه، للفرق الجوهري بينهما، وإجماله أن المسألة الرابعة هي عن الاحتياط بما هو هو وأما المسألة ال(63) فعن التقليد في الاحتياط.

وتفصيل الجواب تارة على مسلك (الفقه)، وأخرى على ما سلكناه وفصلناه:

أما بحسب كلام الفقه، فحاصله: (إن العمل بالاحتياطات المبثوثة في أنحاء الرسائل العملية هي الحقيقة التقليد)، فليس ذلك العمل استناداً للاحتياط، بل هو مستند للتقليد، أي لأن الفقيه قال: (احتط بالجمع) يعمل المكلف بينها تقليداً لا من باب الاحتياط.

بل نضيف: إنه يؤكده أنه يعمل بها حتى لو كانت خلاف الاحتياط؛ أي أن ما في الرسالة العملية وإن كان خلاف الاحتياط إلا أن المقلد يعمل به - بالرأي المخالف للاحتياط - لأنه مقلد ومستنده التقليد، لا الاحتياط كما هو بيّن، والحاصل: أنه بحسب كلام (الفقه): فإن صغريات الاحتياط ومسائله المنتشرة في الرسائل العملية تندرج في دائرة التقليد لا الاحتياط.

وبعبارة أخرى: إن الميرزا (رحمه اللّه) يقول: (إلاّ إذا كانت عبادة فالأقوى تعين

ص: 315

الاجتهاد أو التقليد)، و(الفقه) يقول: لقد عملنا بهذا التَعيُّن،لأن كل الاحتياطات المبثوثة في الرسائل العملية هي مصداق للتقليد الذي هو الشق الثاني من كلام الميرزا (رحمه اللّه)، وكلامه ليس نافياً لصغريات الاحتياط في العبادة ما دامت مصداقاً للتقليد، بل هو نافٍ للاحتياط الكلي في العبادة الذي هو قسيم للاجتهاد والتقليد لأنه مستلزم للتكرار، هكذا يمكن أن نصوغ جواب (الفقه) دفاعاً عن الميرزا (رحمه اللّه).

وأما الجواب حسب ما فصلناه، فهو أوضح في الصورة الأولى من الصورتين السابقتين، إذ سبقت صورتان:

الأولى: أن يكون المقلد متمحضاً في التقليد والاستناد، بدون أن يعلم فلسفة الاحتياط والغرض منه والمشكلة فيه، وهذا لا يعتبر عمله بالاحتياط حينئذ قسيماً للاجتهاد والتقليد، بل هو عمل بقول الغير عن استناد له فهو تقليد.

وهذا القسم من المقلدين وهم الأكثر ولا يتصور في حقهم ورود الإشكالات المعهودة على صحة الاحتياط؛ لكون عملهم استناداً للتقليد وليس استناداً للاحتياط، وهو داخل في أحد شقي كلام الميرزا النائيني (رحمه اللّه) في المسألة (63) من العروة ولا يسري تفصيله في المسألة (4) إلى هذه المسألة (63).

الثانية: أن يكون المقلد ملتفتاً إلى وجه الاحتياط كبعض الأفاضل، فإن الفاضل إذا فتح الرسالة العملية ورأى احتياط المرجع لم يعتبره(1) مستنداً لعمله بل يعتبره طريقاً لمعرفة وجه الاحتياط(2)، وكلام الميرزا (رحمه اللّه) ينفي أمثال هذا (إن الاحتياط في العبادة لو استلزم التكرار فهو غير صحيح)، فهو ناظر إلى ما هو بالفعل بالحمل الشايع الصناعي مصداق للاحتياط، وليس ناظراً إلى التقليد في المسألة الاحتياطية، فتأمل إذ قد تستبعد ناظرية الميرزا (رحمه اللّه) لهذا التفصيل، نعم

ص: 316


1- أو على الأقل، في هذه الصورة يكون من القسم الثاني.
2- إذ قد يخفى عليه وجه الاحتياط، أي كيفيته. فيحتاج للرجوع إلى الرسالة العملية.

حيث إن (الفقه) صرح: (بأن العمل بالاحتياط من المقلدين هو تقليد)، كان الدفاع عنه واضحاً.

وعلى أي حال سواء أقصد الميرزا (رحمه اللّه) ذلك التفصيل أم لا،فإن التفصيل حيث كان صحيحاً كما أوضحنا، أمكن للفقيه أن يعلق على المسألة الرابعة من العروة بالتقييد، وأن لا يعلق على المسألة الثالثة والستين بذلك التقييد، وصح له أن يكتب احتياطاته في الرسالة وإن كانت في العبادات ومستلزمة للتكرار.

توسعة دائرة الإشكال على الميرزا والجواب الجواب

ثم إن السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) وسّع دائرة الإشكال على الميرزا (رحمه اللّه) بقوله: (و ما أكثر الاحتياطات بالجمع بين العبادات في العروة لم يعلّق عليها النائيني) أي إن الميرزا (رحمه اللّه) غفل عن قيده هذا في كل ما جاء في العروة من المسائل الاحتياطية، وليس في هذه المسألة فقط، لأن الاحتياطات في العبادة التي تستلزم التكرار متعددة في العروة، والمفروض بالميرزا (رحمه اللّه): أن يطبق مبناه الكلي في كل مسألة مسألة ويعلق عليها بتقييدها بإلا إذا كان الاحتياط مستلزماً للتكرار في العبادة فلا تحتط حينئذٍ بل اجتهد أو قلد، مثلاً.

ولكن ظهر مما سبق أن هذا الإشكال غير وارد ظاهراً على الميرزا (رحمه اللّه)؛ وأن تعليقه على المسألة الرابعة وتقييده لها صحيح حسب مبناه، وعدم تعليقه على باقي المسائل صحيح أيضاً، ولا تهافت للفرق بين الكلي والجزئيات، لأن الفرض أن الميرزا (رحمه اللّه) يقول في من اختار سلوك طريق الاحتياط بدل التقليد أو الاجتهاد (إن الاحتياط في العبادة المستلزم للتكرار غير صحيح، لأنه مثلاً يفتقد لقصد الوجه والتمييز، ولأنه ينبعث عن احتمال الأمر لا عن الأمر)، أما المقلد الذي يراجع الرسالة العملية فيرى احتياط المرجع في العبادة وجوباً بالتكرار، فإنه

ص: 317

يستند في جمعه إلى الفقيه فيجمع(1) لأنه مقلد، ولأن الفقيه أوجب احتياطاً الصلاة إلى الجهتين، فهو يصلي إلى الجهتين، لا لأنه مصداق للاحتياط ليكون فاقداً لقصد الوجه والتمييز الخ بل لأنه مصداق للتقليد فيتأتى منه القصدان لأن المقلديرى أن الفقيه قال له: يجب عليك أن تجمع بين القصر والإتمام، فينوي: أصلي أربع ركعات تماماً لوجوبها قربة إلى اللّه تعالى، كما ينوي: أصلي ركعتين قصراً لوجوبها قربة إلى اللّه تعالى، لأنه يرى أن رأي الفقيه مرآة لأمر اللّه تعالى، فيقصد الوجه والتمييز، وينبعث عن الأمر لا عن احتمال الأمر.

خمسة قيود لتخيير المقلد بين احتياط الأعلم وفتوى المفضول

مسألة أخرى: جاء في متن العروة: (في احتياطات الأعلم إذا لم تكن له فتوى يتخير المقلد بين العمل بها وبين الرجوع إلى غيره الأعلم فالأعلم)(2)، والمقصود أنه إذا لم تكن للأعلم فتوى سابقة أو لاحقة على الاحتياط، فهذا الاحتياط وجوبيّ، فيخرج بذلك الاحتياط الاستحبابي، وذلك كما لو ابتدأ بالأحوط بأن قال مثلاً: (الأحوط أن يصلي الجمعة)، فههنا يكون مخيراً بين العمل بالاحتياط وبين الرجوع إلى المفضول، دون ما لو سبقت الاحتياط فتوى أو لحقته فإنه لا يصح للمقلد الرجوع للمفضول حينئذٍ.

ولكن اللازم التقييد بقيود أخرى أيضاً، فتكون القيود أربعة(3) ومع تحققها جميعاً يصار إلى التخيير:

القيد الأول: وهو ما ذكره صاحب العروة (رحمه اللّه) في المتن بقوله: (إذا لم يكن

ص: 318


1- بين الحكمين.
2- العروة الوثقى: ج1 ص12.
3- بل خمسة كما سيأتي.

له فتوى).

القيد الثاني: (إذا لم يكن مفتياً بوجوب الاحتياط)(1) فإنه لا تخيير حينئذٍ، بل عليه الالتزام بأحوط الأعلم.

القيد الثالث: (إذا كان عدم فتواه لوجهٍ آخر خارج عن المدارك والأدلة، كالورع والتقى فاحتاط لأجل ذلك)(2)، فلا تخيير بل عليه العمل بفتواه الواقعية أو بالاحتياط، فتأمل.

القيد الرابع: إذا لم يكن احتياطه نابعاً من كون إحرازه للمؤدى ضعيفاً فاحتاط؛ فإن عليه حينئذٍ أن يعدل للمفضول إذا كان إحرازه إحرازاً قوياً جداً(3) إلا إذا كان احتياطه الأحوط من قول المفضول فإنه مخير حينئذٍ حسب قاعدة التخيير الكلي، فتدبر.

التقييد بعدم مخالفة الأعلم من جهة أخرى

القيد الخامس: أن لا يخالف الأعلم من جهة أخرى، وهو ما ذكره السيد عبد الهادي الشيرازي (رحمه اللّه) ولم يذكره غيره ظاهراً، وخلاصته مع إضافة، وهو: إنه يشترط في التخيير بينهما(4) (أن لا يؤدي التمسك بفتوى المفضول إلى مخالفة فتوى

ص: 319


1- وهو القسم الأول من الأقسام الأربعة المتقدمة، أي: (إذا لم يكن احتياطه فتوى بالاحتياط، بل كان احتياطاً في الفتوى)، ويحتمل شمول إطلاق عبارة العروة لهذا القيد، لكن الظاهر العدم؛ لقرينة المقابلة، لما سيذكره في المسألة اللاحقة رقم 64، فتدبر.
2- وهو القسم الثالث من الأقسام الأربعة المتقدمة، والتي منها ثلاثة لصاحب بيان الفقه (دام ظله)، وقسم رابع أضافه السيد المؤلف (دام ظله).
3- كما تقدم في القسم الرابع الذي أضفناه لأقسام (بيان الفقه) الثلاث.
4- بين احتياط الأعلم وفتوى المفضول.

الأعلم من جهة أخرى)(1)، ومثّل له بما إذا أفتى الأعلم بعدم حرمة شيء كصلاة الجمعة، لكن تردد في أنها مستحبة أو واجبة، فاحتاط وجوباً(2)؛ فانه لا يجوز حينئذٍ الرجوع للمفضول الذي أفتى بحرمة صلاة الجمعة؛ لأن فتوى المفضول بالحرمة تناقض فتوى الأعلم بعدمها؛ فالمشكلة لا تنشأ من احتياط الأعلم؛ وإلا لصح الرجوع إلى المفضول، بل من مخالفته لفتواه، لأن الفرض أن الأعلم رأيه مركب من أمرين: فتوى بعدمالحرمة، واحتياط بالوجوب؛ وعلى هذا لا يصح الرجوع إلى المفضول في فتواه بالحرمة؛ لمناقضتها لفتوى الأعلم بعدم الحرمة.

المناقشة: لكن ما ذكره (رحمه اللّه) قد يستشكل عليه من جهة المثال لا من جهة القيد؛ حيث إن مثاله للقيد بالحرمة والندب والوجوب هو محل تأمل؛ لأن المقلد لو التزم بفتوى المفضول بحرمة الجمعة فتركها فانه لا يترتب محذور على ذلك؛ لأن المحذور المتوهم هو أحد أمرين:

1: إما المخالفة العملية لقول الأعلم.

2: وإما عقد القلب على خلاف قوله.

فنقول: أما الثاني(3)

فلا إشكال فيه؛ إذ لا يشترط في امتثال النواهي عقد القلب بل يكفي الترك، ولا يشترط في المردد أمره بين حرمته وإباحته، فتركه ان يكون تركه عن إسناد للفقيه؛ وإنما يشترط فيها الجري العملي بل ليس عقد القلب واجباً إلا في الاعتقاديات والعبادات، إلا ان يقال ان التقليد هو العمل عن

ص: 320


1- قال (رحمه اللّه): هذا إذا لم ينته إلى مخالفة الأعلم في الفتوى من جهة أخرى، كما إذا أفتى بعدم حرمة شيء وتردد بين وجوبه واستحبابه فاحتاط، وأفتى غيره بالحرمة، العروة الوثقى المحشى: ج1 ص54.
2- بأن يصلي المقلد صلاة الجمعة كما في المثال زمن الغيبة مع توفر باقي الشروط.
3- وهو عقد القلب على خلاف قوله.

استناد، أو الاستناد في العمل، أو الالتزام بالعمل بقول الغير(1)، فلا يجوز له تقليد المفضول والالتزام بالحرمة مادام الأعلم أفتى بعدمها.

وقد يجاب بأنه لا دليل على أكثر من مطابقة فعله للحجة(2) نعم لا يجوز له الإسناد للشارع فإنه تشريع، فتأمل.

ويدل عليه أنه لو أفتى بالحرمة بل لو أجمع العلماء على الحرمة فلم يفعل المكلف ذلك لكن لا استناداً إليهم فإنه لا يعد عاصياً، فكيف بمثل المقام؟

ويوضحه: إن البيع صحيح، والكالي بالكالي باطل؛ فجريه العملي إذا كان على البيع بشروطه فإنه صحيح؛ وعدم عقد القلب على صحته ليس بمحرم، والحاصل: إنه ليس من الواجبات عقد القلب على فتاوى الأعلم (ولا المشهور أو الإجماع) مطلقاً(3).

أما الأول(4): فلا مشكلة فيما نحن فيه أيضاً، لأن الذي ترك صلاة الجمعة التزاماً بفتوى المفضول لم يخالف الأعلم مخالفة عملية، لأن الفرض أن الأعلم أفتى بعدم الحرمة، وللمكلف أن يترك، وقد ترك فلا مخالفة عملاً لفتواه.

والنتيجة: إن المقلد لو التزم بفتوى المفضول فلا مشكلة من كلتا الجهتين؛ وعلى هذا فالظاهر أن المثال غير تام.

ويمكن أن نمثل له بمثال آخر لا يرد عليه الإشكال: وهو ما لو أن الأعلم تردد في أن الكر ما كان مكعبه ستة وثلاثين شبراً، أو ثلاثةً وأربعين شبراً إلا ثمن شبر(5)؛ فاحتاط بالأكثر، وأفتى أن ما كان مكعبه سبعة وعشرين

ص: 321


1- حسب الأقوال المختلفة في تعريف التقليد.
2- وهو أحد المباني والتعاريف للتقليد.
3- عقوداً وإيقاعات.
4- وهو عقد القلب على خلاف قوله.
5- وربما يكون هذا الأخير هو الأشهر، كما في مستمسك العروة الوثقى: ج1 ص152.

شبراً ليس بكر، لكن فتوى المفضول كانت على أن الكر هو ما كان مكعبه سبعة وعشرين شبراً.

فلو أن المقلد عدل إلى المفضول لزمت المخالفة لفتوى الأعلم؛ لأن سبعة وعشرين شبراً ليست كراً عنده كفتوى؛ فلو لاقى نجاسة تنجس بالملاقاة، فلا يصح الغسل والوضوء فيه، فكيف يتطهر هذا المقلد بماء هو نجس حسب فتوى الأعلم؟

ص: 322

التخيير الاستمراري بين العمل باحتياط الأعلم وفتوى المفضول

فرع على المسألة 63

وهنا مسألة أخرى لم يذكرها صاحب العروة (رحمه اللّه)، وهي ما ذكره في بيان الفقه تفريعاً على المسألة السابقة(1)؛ قال (دام ظله): ([تتمّات]

[التتمّة الأولى]

الأولى: إذا عمل باحتياطات الأعلم مدّة، ثمّ بعد ذلك هل يجوز له الرجوع إلى غيره، احتمالان:

من أنّه حقيقة ليس تقليداً للأعلم، بل عملا بالاحتياط والأعلم إنّما أمره في هذه المسألة إراءة طريق الاحتياط، فليس عدولاً من الحي حتّى لا يجوز.

ومن أنّه - على ما تقدّم من موسوعة الفقه آنفاً - تقليد حقيقة، فلا يجوز العدول عنه، والأوّل أقوى)(2).

وبعبارة أخرى: هل التخيير ابتدائي أو استمراري أيضاً: فلو المقلد عمل باحتياطات الأعلم فترة من الزمن - لكونه مخيراً بينه وبين العدول إلى فتوى المفضول - فهل له بعد ذلك العدول إلى المفضول والعمل بفتواه.

والجواب: احتمالان مبنيان على رأيين:

الرأي الأول: إن العمل بالاحتياطات في الرسائل العملية هو احتياط وليس تقليداً، أي إنه من مصاديق الاحتياط لا من مصاديق التقليد فليس عدولاً من الحي الأعلم كي لا يجوز، وهذا ما التزمه(بيان الفقه).

ص: 323


1- المسألة الثالثة والستون.
2- بيان الفقه: ج4 ص404.

والحاصل: إنه يجوز للمقلد بعد أن عمل فترة باحتياط الأعلم أن يعمل بفتوى المفضول، لأن هذا ليس عدولاً في التقليد من الحي الأعلم إلى الحي المفضول المنهي عنه فرضاً، إذ لم يكن في هذه المسألة مقلداً للأعلم بل كان محتاطاً، والمحتاط حكمه التخيير ابتداءً واستمراراً، بين التمسك بالاحتياط وبين تقليد المفضول في فتواه، وإنما رجع إلى الرسالة العملية ليعرف طريق الاحتياط من الأعلم لا غير.

الرأي الثاني: إن التمسك باحتياطات الأعلم هو تقليد في الحقيقة، على ما التزمه (الفقه) كما تقدم بيانه، وعليه لا يجوز العدول، لأنه عدول من الأعلم إلى المفضول في الفتوى، وهذه من صغريات تلك الكبرى، والحاصل: إنه يستند إلى الأعلم في الجمع بين القصر والإتمام مثلاً، أي إنه يجمع لكون الأعلم قال ذلك لا لأنه احتياط).

ولكن الظاهر أن هذا التفصيل غير تام، بل في كلتا الصورتين وعلى كلا المبنيين يكون التخيير استمرارياً وله العدول، وذلك في غير الصور الأولى من الصور السابقة(1) لأنها فتوى في الحقيقة وفي غير آخر الصور(2) لو اطلع على الفتوى الثبوتية.

أما على الرأي الأول: فلأن العامل باحتياطات الأعلم محتاط وليس مقلداً؛ فلو عمل بفتوى المفضول لاحقاً فليس ذلك عدولاً في التقليد؛ إذ لم يكن قد قلّد من قبل؛ فهي سالبة بانتفاء الموضوع، وفيه انه ليس كل عامي مقلد كذلك فلا إطلاق له، بل بعضهم مقلد حقيقة وليس يرى كلام الأعلم في المسألة

ص: 324


1- وهي الفتوى بالاحتياط، لا الاحتياط في الفتوى لعدم وضوح الرؤية أو لضعف الحجة أو شبه ذلك، والفتوى بالاحتياط نظير فتواه بالجمع في موارد العلم الإجمالي المنجز.
2- ما لو لم يفتِ إثباتاً، وكانت له فتوى ثبوتاً، وفرض إطلاع المقلد عليها.

إراءة لطريق الاحتياط، فالأولى التعليل بما سيأتي.

وأما على الرأي الثاني: فلأن الدليل الدال على التخيير غيرخاص بالابتداء والحدوث، بل هو عام للاستمرار والبقاء أي أن التخيير بين العمل باحتياط الأعلم وفتوى المفضول استمراري، وليس ابتدائياً، وما لم تلزم مخالفة إجمالية - على اختلاف فيه -.

وذلك لأن الذي يسوِّغ للمقلد ترك احتياط الأعلم والعمل بفتوى المفضول هو عدم وجود فتوى للأعلم في المسألة(1)؛ وهذا المسوّغ موجود حتى في اللاحق فالتخيير الاستمراري، لأن الفرض أن الأعلم لا زال على احتياطه، ففي الأمس واليوم وفي الغد يجوز كل من العمل باحتياطه ومن الرجوع لفتوى المفضول، لأنه لا دليل على حرمة العدول بهذا العنوان (2). هذا وسيأتي بعد قليل التطرق تفصيلاً للأدلة على كون التخيير استمرارياً.

نعم، الدليل قائم على حرمة العدول من فتوى الأعلم إلى المفضول، فلو قلد الأعلم فلا يجوز العدول إلى المفضول(3)، دون ما لو احتاط الأعلم، ولا فرق في الاستثناء بين الحدوث والبقاء.

وبتعبير آخر: إن الأعلم وغيره له سنخان من الرأي، سنخ يعبّر عنه بالفتوى، وسنخ يعبّر عنه بالاحتياط، أما الأول فهو يضاد ويمنع الرجوع إلى المفضول؛ لأن سنخ الفتوى قوي جداً، وأما الثاني فهو سنخ ضعيف(4) فهو غير ممانع؛ فإذا كان سنخ الاحتياط غير ممانع، فلا فرق في ذلك بين أن يكون المكلف

ص: 325


1- في غير تينك الصورتين، كما ظهر في أعلى المتن.
2- أي بعنوان العدول؛ إذ لا موضوعية للعدول ليحرم.
3- كما أنه لم يكن يجوز له الإعراض عن الأعلم وتقليد غيره، على مبنى.
4- في غير صورة الفتوى بالاحتياط، الفتوى ثبوتاً، كما سبق.

قد عمل بالاحتياط سابقاً أم لم يعمل، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قلد الأعلم بالاحتياط أم لا، لأن أن الفرض أن السنخ ضعيف، فحتى لو قلده فيه فإن ذلك لا يمنع من تركه إلى غيره.

الرجوع إلى احتياط المفضول

ويمكن أن نضيف فرعاً آخر وهو أنه كما يجوز الرجوع في احتياطات الأعلم إلى فتوى المفضول، كذلك يجوز الرجوع فياحتياطات الأعلم إلى احتياط المفضول، سواء أكان مُسنداً له أم لا، وسواء أكان المفضول محتاطاً باحتياط آخر غير احتياط الأعلم(1) أم لا.

وذلك لما سبق من أن الفرض أن سنخ الاحتياط لا يمنع من تركه والرجوع إلى الغير؛ ولا فرق في هذا الغير بين أن يكون رأيه فتوى أو احتياطاً.

مثلاً: إذا احتاط الأعلم بأن الكر ما كان مكعبه ثلاثة وأربعين شبراً إلا ثمن شبر، والمفضول احتاط بأن الكر ما كان مكعبه ستة وثلاثين شبراً، فكلاهما يقولان: إن ما كان مكعبه سبعة وعشرين شبراً ليس بكر، فللمكلف أن يعدل من احتياط الأعلم إلى احتياط المفضول، وذلك كله فيما إذا كان الاحتياط في الجانبين، بحيث يتوازن الاستظهاران في ضعفهما عن الفتوى المؤدي ذلك إلى القول بالاحتياط، فهذا السنخ لا يمنع من ذاك السنخ، وأما مع فرض اختلاف درجات الاستظهار قوة وضعفاً وبمراتبه الثلاثة، فإن التفصيل المتقدم آتٍ هنا، ويختلف الحكم تبعاً لذلك، فتأمل.

فتويا المفضولين مقابل احتياط الأعلم

فرع: لو كان هناك مفضولان لكل منها فتوى، وقد احتاط الأعلم، فهل

ص: 326


1- فيما لو تعارض احتياطان مختلفان كالإنفاق على زوجة الصغير من ماله إذا فسخ أو طلق بما يحتمل صحته وعدمها، من دون وجود أصل ولو للتعارض بين الأصول.

له الرجوع لايهما شاء تخييراً ابتدائياً أو استمرارياً؟

الظاهر أنه إذا كان المفضولان متساويين تخير ابتداءً بالرجوع إلى أيهما شاء، لأن التخيير بين المتساويين يشمل الأعلم فالأعلم في كل الطبقات، وهذا واضح وإنما الكلام في التخيير الاستمراري بعد أن عمل برأي أحد المفضولين المتساويين المختلفين في الفتوى، فهل يجوز للمقلد الذي ترك احتياط الأعلم أن يعمل بفتوى هذا المفضول فترة من الزمن، ثم يعمل بفتوى ذاك المفضول فترة أخرى؟

ومرجع البحث في ذلك إلى البحث في أصل المسألة، لأنه منمصاديقها أو - على الأقل - لوحدة الأدلة فيهما، وأصل المسألة هو أنه هل يجوز للمكلف أن يعمل بأحد الدليلين المتعارضين - ومنهما فتويا الأعلمين المتساويين أو المفضولين المتساويين مع توقف الأعلم أو احتياطه أو كون العمل برأيه عسراً وحرجاً في غير ما ورد موردهما؟ ونمثل لذلك بمسألتين:

المسألة الأولى: المسافر إذا قطع ذهاباً ثلاثة فراسخ وعاد من طريق آخر ملتو أو منحن مثلاً فقطع خمسة فراسخ، فما حكم صلاته، أقصر أم تمام(1)؟ اختلف الأعلام، فصاحب العروة (رحمه اللّه) وجمع غفير حكموا بوجوب القصر؛ للصدق عرفاً عليه بأنه مسافر، ولقطعه المسافة، واختار جمع آخر: وجوب الإتمام، لأنه لا يصدق عليه أنه مسافر شرعاً(2) فلو احتاط الأعلم بالجمع بين القصر والإتمام، فإنه يجوز للمقلد أن يترك العمل باحتياطه، لكن هل يجوز له أن يقصر تارة اتباعاً لفتوى هذا المفضول القائل بوجوب القصر، وأن يتم تارة أخرى اتباعاً لذاك المفضول القائل بوجوب الإتمام؟

ص: 327


1- نظراً لأن شرط القصر قطع ثمانية فراسخ ذهاباً وإياباً، وهو قد قطعها من جهة، ومن جهة أخرى فإن القدر المتيقن أن يكون ذهابه أربعة فراسخ ورجوعه أربعة فراسخ.
2- انظر العروة الوثقى المحشى: ج3 ص414.

المسألة الثانية: الانعراض(1) عن الوطن وحكمه، فيما لو احتاط الأعلم بالجمع، ورأى المفضول وجوب القصر، ورأى ثالث وجوب الإتمام فهل يجوز أن يقصر المكلف تارة ويتم أخرى؟

مرجعية المبنى الأصولي في تعارض الحجتين

والجواب: لابد أولاً من الرجوع إلى المبنى الأصولي في تعارض الحجتين(2):

المبنى الأول: إن الأصل الأولي في المتعارضين التساقط وذلك بدعوى أن أدلة الحجية لا تشمل الطريقين المتعارضين، كالخبرين أو البينتين أو خبري الثقتين أو الفتويين: أما بناء العقلاء فلأنه دليل لبي لا إطلاق فيه فيقتصر فيه على القدر المتيقن(3)؛ وأما الروايات أو الأدلة اللفظية فغير ناظرة لصورة التعارض، وعلى هذا المبنى فالأمر واضح، فإن الفتويين المتعارضتين للمفضولين المتساويين تتساقطان، فلا يجوز العمل بأي منهما، فيتعين عليه العمل باحتياط الأعلم.

ولا يشكل بأن احتياط الأعلم أيضاً ساقط لأنه طرف التعارض أيضاً؟ إذ يجاب:

أولاً: إنه - على رأي - مجرد احتياط وهو مبرئ على أي تقدير وإن لم تشمله أدلة حجية الفتوى، نعم على العامي أن يعمل به كاحتياط لا استناداً ومن باب التقليد، فتأمل.

ثانياً: إن مبنى التساقط خاص بالحجتين المتساويتين دون المتفاضلتين، فلا

ص: 328


1- لم يرد باب الانفعال من هذه المادة، وإنما استخدمناه هنا لإيصال المقصود للذهن بسلاسة.
2- ومنها الفتويان.
3- وهي غير صورة التعارض.

تعم فتوى الأعلم ولا احتياطاته، وقد فصلناه في بعض المباحث، فراجع(1).

المبنى الثاني: إن الأصل في الطريقين المتعارضين التخيير، بدعوى أن بناء العقلاء على التخيير لا التساقط والرجوع إلى الأصل، وذلك كما لو كان في الصحراء وتعارض رأيا خبيرين أحدهما يقول: هذا طريق النجاة، والآخر يقول: ذاك طريق النجاة؛ والمنصور هو التخيير كأصل أولي مطلقاً، وقيل بالتخيير كأصل ثانوي، في خصوص الخبرين المتعارضين بدعوى أن الأصل الأولي هو التساقط مطلقاً، لكن خرجنا عن هذا الأصل في خصوص الروايات المتعارضة، ببركة الروايات الدالة على التخيير إذا فقدت المرجحات (المنصوصة فقط، أو مطلق المرجحات حسب رأي الشيخ (رحمه اللّه)) كما في قوله (عليه السلام): (يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَأَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ». فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ. فَقَالَ (عليه السلام): «خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ». فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ. فَقَالَ (عليه السلام): «انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ». قُلْتُ: رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ». فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ»)(2)، فالإمام (عليه السلام) حكم بالتخيير بعد فقد المرجحات المذكورة.

وعلى هذا الرأي(3) فقد يدعى أن التخيير هو أصل ثانوي مطلقاً حتى في

ص: 329


1- كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).
2- غوالي اللئالي: ج4 ص133.
3- إن الأصل الأولي التساقط وإن الأصل الثانوي في الأخبار المتعارضة هو التخيير.

البينتين أو الفتويين المتعارضتين لتنقيح المناط القطعي، أو لغير ذلك.

وعلى أي فإن محل الكلام هو أنه بناء على أن حكم المتعارضين - خبرين كانا أم فتويين أم غيرهما - هو التخيير سواء كأصل أولي أم ثانوي، فهل التخيير ابتدائي أم استمراري؟ فهل يجوز له أن يعمل بفتوى هذا المجتهد فترة وبفتوى ذاك أخرى، وسنطبق البحث على الفتويين المتعارضين لأنهما مورد الكلام، لكن الأدلة أعم فالبحث نافع في مطلق الأدلة المتعارضة.

الاحتمالات الثلاث في كون التخيير ابتدائياً أو استمرارياً

الاحتمالات بناءً على القول بالتخيير ثلاثة:

الاحتمال الأول: التخيير ابتدائي، وأدلته

إن التخيير ابتدائي ولا يجوز العدول من هذا المفضول إلى ذاكالمفضول، وأن التبعيض الأزماني لا يجوز؛ وذلك لوجوه عديدة:

الأول: لزوم المخالفة القطعية، حيث إن المقطوع به أن هذا النوع من السفر إما أن يكون الشارع قد اعتبره سفراً شرعياً فيجب أن يقصّر، أو لا فيجب الإتمام، فمع الصلاة فترة قصراً وفترة تماماً تحصل المخالفة القطعية في طول الأزمان.

الثاني: تفويت الأغراض الملزمة للمولى، مع استقلال العقل بعدم جواز تفويتها، لأن الفرض أن المولى حكيم، فإذا أمر بالقصر فإنما يأمر به لغرض ملزم، وإذا أمر بالإتمام فإنما يأمر به لغرض ملزم أيضاً، فإذا صلى المكلف تارة قصراً وأخرى تماماً، فقد فوّت في أحد اليومين غرض المولى قطعاً، وهذا مما لا يجوز بحكم العقل، أما إذا التزم بأحد القولين فقط فإن غاية الأمر التفويت الاحتمالي لغرض المولى.

ص: 330

الثالث: إن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وهذا الدليل كسابقه منقح في محله كأصل موضوعي، فإذا صلى تارة قصراً وأخرى تماماً فقد ضيع المصلحة الملزمة في أحد اليومين، وهذا لا يجوز قطعاً بحكم العقل وبناء العقلاء.

ولا يتوهم وحدة الدليلين، لأن أغراض المولى الملزمة قد لا تكون هي في المصالح الكامنة في المتعلقات، وذلك كما في الأوامر الامتحانية حيث يوجد فيها غرض ملزم ولكنه ليس هو المصلحة في المتعلق(1)، والحاصل: إنها أعم منها، فتدبر.

الاحتمال الثاني: التخيير استمراري، ودليله

إن التخيير استمراري، ويجوز التنقل بين الفتويين حتى مراراً عديدة، وذلك لوجود المقتضي وانتفاء المانع:

أما الأول: فلعموم أدلة الحجية وشمولها للفتويين(2)، فيجوزالتنقل بينهما، فما دام أن الشارع اعتبر كلا الرأيين حجة تخييرية(3) فكل منها إما منجز أو معذر، فإن عمل المكلف بأحدهما وكان مطابقاً فهو منجز، أما إذا كان مخالفاً فهو معذر.

والحاصل: إن الشارع هو الذي أقام الحجتين(4)، وهو الذي حكم بالتخيير أو أمضى بناء العقلاء عليه؛ فالمكلف مخير ابتداءً واستمراراً.

لا يقال: إن المكلف يخالف بذلك المولى قطعاً.

فإنه يقال: إن المخالفة حيث كانت بحجة من الشارع، فلا إشكال على

ص: 331


1- إذ لم تكن مصلحة في ذبح إسماعيل (عليه السلام) بل هي في الأمر به، بل كانت المفسدة في ذبحه.
2- وسائر الحجج المتعارضة.
3- لفرض القول بأن أدلة الحجية تشملهما وحيث تعارضا يرفع اليد عن التعيينية إلى التخييرية.
4- أي بشمول عموماته لهما.

المكلف وله العذر، وذلك نظير مطلق التمسك بالأصول العملية ك(رفع ما لا يعلمون)، حيث يقطع بأن التمسك بالبراءة العقلية ثم البراءة الشرعية كثيراً ما يوقع المكلف في خلاف الحكم الإلهي الواقعي الأولي، لكنه لا بأس به حيث كان له العذر، وهو قوله: (رفع ما لا يعلمون).

والحاصل: إن المخالفة القطعية الإجمالية للمولى ليست محرمة دائماً، وإنما هي محرمة إذا لم يأذن الشارع بالمخالفة ولو في الجملة، وذلك أيضاً نظير قاعدة اليد وسوق المسلمين، إذ قطعاً توجد ذبائح محرمة أو أجبان نجسة في السوق أومغصوبات في الأيدي، ولكن حيث كان هناك ترخيص ظاهري لمصلحة التيسير وما أشه، جاز للمكلف وإن كان هناك قطع إجمالي بالخلاف عند عدم الاحتياط.

لا يقال: موضوع أدلة التخيير هو المتحير كما ذهب إليه الشيخ (رحمه اللّه) وبعد الأخذ بأحدهما لا تحير؟

إذ يقال: قد أجبنا عن ذلك في بحث التعارض بأجوبة عديدة منها: إن تحيره في الحكم الواقعي باقٍ حتى بعد الأخذ، وأجبنا عما يورد عليه ولواحقه، ومنها إن الموضوع ليس هو المتحير بل (الخبران المختلفان) أو المتعارضان، وشبه ذلك، إضافة لأجوبة أخرى عديدة فراجع، على أن هذا الإشكال خاص بالخبرين إذ وردتفيهما الروايات لا في سائر الأدلة المتعارضة، فتأمل.

وأما الثاني: فلأنه لا يلزم من التبعيض تفويت قطعي لأغراض المولى الملزمة أو تفويت قطعي للمصالح الثبوتية الملزمة، بل مجرد تفويت احتمالي، بل لا تفويت أصلاً (بناء على تخيير الشارع).

لا يقال: إن المكلف إذا قصر تارة وأتم أخرى، فقد فوّت قطعاً المصلحة وغرض المولى في أحدهما، والإشكال ثبوتي، إذ لسنا مصوبة، ولا نقول بأن

ص: 332

المفسدة تنقلب مصلحة لمجرد قيام دليل ظاهري على التخيير كما أن أغراض المولى الثبوتية لا تتغير بالتخيير الظاهري.

إذ يقال: إن وجه تخيير الشارع هو مزاحمة مصلحة أخرى، كمصلحة التسهيل أو المصلحة السلوكية، لغرض المولى الثبوتي أو للمصلحة الثبوتية وحيث يتدارك بها تفويتهما، كان التخيير واقعياً.

وبهذا الجواب يجاب عن عامة الحجج التي يقطع بمخالفتها للواقع إجمالاً، فرغم القطع بالمخالفة الإجمالية للقطع بوجود ميتة أومغصوب في سوق المسلمين أو شبه ذلك ورغم أن في أكل الميتة ضرراً حقيقياً لا اعتبارياً، مع ذلك فإن الشارع حيث لاحظ وجود مصلحة أخرى مزاحمة للمصلحة الواقعية المفوتة، جعل سوق المسلمين أمارة التذكية مطلقاً وجوّز الاقتحام للجميع مطلقاً بل كَرِه الفحص والتحقيق وقد ورد عن بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) قال: (سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي السُّوقَ فَيَشْتَرِي جُبَّةَ فِرَاءٍ لَا يَدْرِي أَ ذَكِيَّةٌ هِيَ أَمْ غَيْرُ ذَكِيَّةٍ، أَ يُصَلِّي فِيهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ لَيْسَ عَلَيْكُمُ الْمَسْأَلَةُ إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِجَهَالَتِهِمْ إِنَّ الدِّينَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ»)(1).

وفي ما نحن فيه: لا شك في أن هناك - ثبوتاً - مصلحة ملزمة وغرض ملزم للمولى، لكن من الممكن للشارع، نظراً لوجود مصلحة أخرى كالتسهيل على المكلفين، الترخيص باتباع أية حجةشاء من البينتين أو الفتويين المتعارضتين أو غيرهما حدوثاً وبقاءً، فإذا كان كذلك ففي مرحلة الثبوت لا مشكلة.

لكن الكلام كله في مرحلة الإثبات، فمن أين نحرز وجود مصلحة مزاحمة اقتضت حكم الشارع بالتخيير الاستمراري؟

ص: 333


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص258.

والجواب: يكتشف ذلك من لسان الدليل وإطلاقه، حيث إن لسان الدليل وهو (إذاً فتخير) في الخبرين المتعارضين مطلق، وهو يكشف عن أن الشارع لاحظ في مرحلة سابقة على التخيير باتباع أحد الخبرين المتعارضين وجود مصلحة ما كمصلحة التسهيل، فحكم بالتخيير، وإلا لما صح حتى التخيير الابتدائي.

وبنفس هذا الوجه الذي نحلّ به عقدة التخيير في الخبرين المتعارضين تحل عقدة التخيير في تعارض غيرهما، إما لملاك الخبرين المتعارضين المتقدم، أو لبناء العقلاء، أو لغير ذلك.

والحاصل: إنه كلما قامت حجة على التخيير كشف قيامها عن وجود مصلحة مزاحمة لمصلحة الواقع، يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، وهذا في عالم الإثبات(1).

إذن فالطريق هو أن نحلل أنه هل تشمل - في عالم الإثبات - أدلة الحجية المتعارضين مطلقاً أم لا، فإذا صححنا ذلك واعتبرناه ممكناً بالأدلة المذكورة في محلها، فمشكلة الثبوت محلولة بالبرهان الإني، إذ نستكشف من التخيير أن الشارع لاحظ وجود مصلحة متداركة لما يفوت من المصالح.

ولكن الملاك قد يورد عليه بأنه غير قطعي، وبناء العقلاء دليل لبّي فلا يصح الانتقال من التخيير الابتدائي، وإن ثبت إلى الاستمراري، فتأمل.

والخلاصة: إن من يذهب للتخيير الاستمراري، له أن يجيب عن إشكال لزوم المخالفة القطعية الإجمالية بأنها لا مانع منها معوجود الحجة على ذلك،

ص: 334


1- وقد ناقش السيد الأستاذ (دام ظله) في كتاب: (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) رأي السيد الخوئي (رحمه اللّه) حيث إنه يرى: (إن أدلة الحجية لا تشمل الخبرين المتعارضين، للزوم التناقض؛ وغير ذلك)؛ وأجاب هناك بسبع أو ثمان أدلة يمكن مراجعتها.

والحجة هي شمول أدلة الحجية للمتعارضين(1)، وإنه لا إشكال من جهة تفويت الأغراض والمصالح الملزمة الواقعية من الناحية الثبوتية لأن تلك المصلحة تتدارك بمصلحة مزاحمة أخرى، فهذا في مقام الثبوت، الكاشف - إثباتاً - عن وجود المصلحة المزاحمة أو مصلحة التسهيل هو إطلاق الخطاب، أو الملاك في غير الخبرين المتعارضين.

ونضيف هنا: إن القائل بالتخيير الاستمراري قد يعترض عليه بمنجزية العلم الإجمالي في التدريجيات(2)؛ والجواب: إنه حتى مبنى منجزيته، فإن المخلص في المقام هو قيام الدليل على حجية كلا الفتويين، وبه يكون الخروج عن عهدة منجزية العلم الإجمالي.

بل إن العلم الإجمالي لا شك في تنجيزه في غير التدريجيات مع كون أطرافه مورداً للابتلاء(3)، ولكن مع ذلك يخرج عن منجزيته بقيام الحجة على أحد الطرفين؛ فينحل العلم الإجمالي حقيقةً أو تعبداً، فكيف بغير التدريجيات فإنها أولى من ذلك المقام، لأن منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات مورد كلام، أما في غيرها فلا كلام في منجزيته، فلو خرجنا في غير التدريجيات عن عهدة منجزية العلم الإجمالي بالحجة فكيف بما هو مورد خلاف؟

الاحتمال الثالث: التفصيل بين القاصد وغيره

التفصيل بين من كان قاصداً التبعيض من أول الأمر، وبين من بدا له ذلك، فإذا كان المقلد عازماً على التبعيض من أول الأمر فلا يجوز له ذلك، وإلا جاز، فلو كان يعلم من البداية مثلاً أن المتساويين بعد الأعلم مختلفان أحدهما

ص: 335


1- كما تقدم عن قريب بتفصيل.
2- حيث إنه مورد خلاف، فهل إن العلم الإجمالي منجز أم لا؟
3- مع سائر الشرائط، ككون الشبهة محصورة مثلاً.

يحرِّم الجمعة والآخر يوجبها مثلاً، وكان ملتفتاً من البداية إلى ذلك التناقض، فعزم مع ذلك على أن يبعض أزمانياً فلا يجوز له ذلك، لأنه مُقدِم على المخالفة القطعية الإجمالية عالماً عامداً.وأما لو لم يكن عازماً على ذلك من البداية، بأن قلد هذا فترة من الزمن، ثم بدا له أن يقلد ذاك فترة أخرى من الزمن، فلا إشكال في ذلك، وذلك لأنه في الفترة الأولى التزم بفتوى أحد المفضولين، وعمل على ضوء حجة، فذمته بريئة حينذاك، ثم بعد ذلك لما قصد تقليد الآخر فإن حينئذٍ عزمه على العدول، للآخر الحجة أيضاً تامة عنده، فلا إشكال عليه أيضاً.

والظاهر أن هذا التفصيل بهذا التوجيه غير تام لأمرين:

الوجه الأول: إن العزم لا يغير من الأحكام الواقعية الثبوتية شيئاً، فإن كانت حراماً فحرام وإلا فلا عزم أم لا، والعزم على المعصية ليس بمعصية فحال من عزم كحال من لم يعزم.

الوجه الثاني: إن المفصِّل إما أن يقول بمنجزية العلم الإجمالي في التدريجيات أم لا، فإن قال بمنجزيته، فإنه لا يجوز له التبعيض سواء أعزم من الأول على العدول أم بدا له بعد ذلك؛ أما إذا عزم فواضح، وأما إذا بدا له ذلك فهو يقطع بحصول المخالفة وتفويت مصلحة ملزمة وغرض ملزم بتنقله بين الفتويين، وذلك مما لا يجوز في حكم العقل.

والحاصل: إنه إذا قلنا بمنجزية العلم الإجمالي فلا فرق بين العزم من الأول وعدمه، فلا يجوز العدول والتبعيض في كلتا الصورتين.

وأما إذا لم يقل المفصل بمنجزية العلم الإجمالي، فلا فرق بين الابتداء والاستمرار، فله على هذا أن يبعض ابتداءً واستمراراً، لأن الفرض أن العلم

ص: 336

الإجمالي غير منجز في التدريجيات، فليعزم من البداية على التبعيض، فلا محذور يترتب على اتباع كلتا الفتويين.

والحاصل: إن التفصيل لا وجه له حسب الظاهر على الوجهين الذين ذكرناهما.

وعلى هذا يبقى الوجهان الأولان، فإما أن يقال: بجواز التبعيض مطلقاً أو يقال: بالعدم على ضوء الأدلة المتقدمة.

تتمة موجزة

تقدم أن أنواع الاحتياط أربعة، وأن الاحتياطات في الرسائل العملية ليست بنسق واحد، فبعضها لا يجوز العدول فيها إلى المفضول وهو القسم الأول(1) والثالث(2)، وبعضها الآخر يجوز فيها العدول إلى المفضول، وهو القسم الثاني(3) وبعض صور القسم الرابع(4).

ولكن أشكل البعض بأن قسماً من الفقهاء لا يجوّز الرجوع في احتياطاته مطلقاً إلى الغير!

وفيه: إنه لا وجه له - على فرض صحة النسبة - ولعله يقصد الصورة الأولى وشبهها، وعلى أي فإنه لا وجه لإطلاق المنع، ويظهر ذلك مما ذكرناه من وجه التفصيل بين الأقسام الأربعة، فليراجع.

التبريزي (رحمه اللّه): احتياط الأعلم حكم عقلي إرشادي فللعامي مخالفته

ثم إن للشيخ ميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) كلاماً في المقام، فقد استشكل على كلام السيد الخوئي (رحمه اللّه) - كما هو المستظهر،- وقال الميرزا (رحمه اللّه) ما مضمونه:

ص: 337


1- وهو الفتوى بالاحتياط.
2- وهو الاحتياط ورعاً أو تقيةً مع العلم بفتواه الواقعية.
3- وهو عدم إحرازه الحجة الشرعية لعدم وضوح الرؤية لديه أو لشبه ذلك.
4- وهو كون الحجة في مرتبة نازلة لديه، وقد تقدم تفصيل هذه الأقسام الأربعة.

(ربما يقال: إن احتياطات الأعلم على نوعين(1):

النوع الأول: أن لا يخطِّأ الأعلم غيره في فتواه، وذلك نظراً لعدم فحصه في مدارك المسألة فحصاً كافياً ومعتبراً فيحتاط، وفي هذه الصورة يجوز للمقلد أن يرجع إلى الغير، لفرض أن الأعلم غير عالم بهذه المسألة ولو لعدم الفحص.النوع الثاني: أن يخطِّأ الأعلم غيره في فتواه، ويرفض فتوى الغير المخالفة لاحتياطه، وبحسب مضمون تعبير السيد الخوئي (رحمه اللّه): (أن يكون قاطعاً بخطأ غيره، وقاطعاً بانسداد باب العلم والعلمي فيه)(2)؛ وإذا كان كذلك فكيف يرجع المقلد إلى المفضول وقد خطّأه الأعلم؛ فإن فتوى غيره ساقطة عن الاعتبار لإحراز خطئه بقول الأعلم عندئذ).

ونص عبارة الميرزا (رحمه اللّه) هي: (وربّما يقال إنّ جواز الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره ممّن يفتي بعدم التكليف يجوز فيما لم يتضمّن احتياطه تخطئة غيره، كما إذا لم يفحص الأعلم عن مدارك الحكم في المسألة بالفحص المعتبر فاحتاط فيها، وأمّا إذا تضمّن تخطئة غيره كما ذكر في المسألة أنّ رعاية الوجوب أو رعاية الحرمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه أحوط، فإنّه في هذه الصورة لا يجوز لمقلّد الأعلم أن يستريح في المسألة بالرجوع إلى فتوى غيره بفتواه بعدم الوجوب أو بعدم الحرمة لسقوط فتوى غيره عن الاعتبار لإحراز خطئه بقول الأعلم)(3).

أقول: لكن نص كلام السيد الخوئي (رحمه اللّه) في التنقيح لعله يختلف بعض الشيء عما نقله الميرزا (رحمه اللّه) عنه، قال في التنقيح - في شرح العروة الوثقى تعليقاً

ص: 338


1- وهما قسمان مما ذكرناه من الأقسام الأربعة.
2- جاء في التنقيح: (وأما لو كان احتياطه مستنداً إلى جزمه بانسداد الطريق إلى الحكم الواقعي؛ بحيث يخطئ غيره فيما أفتى به فلا مسوغ معه للرجوع إلى غيره أبداً). التنقيح: ج1 ص346.
3- دروس في مسائل علم الأصول: ج6 ص415.

على المسألة 63 من العروة -: (وأما جواز الرجوع إلى غيره فلأن الأعلم غير عالم بالحكم في مورد الاحتياط فلا بدّ معه من أن يرجع فيه إلى العالم بالمسألة. هذا إذا كان احتياط الأعلم مستنداً إلى عدم علمه بالحكم الواقعي وكون الشبهة قبل الفحص بحيث لا يخطّأ غير الأعلم فيما أفتى به. وأما لو كان احتياطه مستنداً إلى جزمه بانسداد الطريق إلى الحكم الواقعي بحيث يخطّأ غيره فيما أفتى به فلا مسوّغ معه للرجوع إلى غيره أبداً بل لا بدّ من الاحتياط، لوجود فتوى الأعلم في الحكم الظاهري أعنيوجوب الاحتياط، إذ لا يشترط في وجوب الرجوع إليه أن يكون للأعلم فتوى في الحكم الواقعي)(1).

وعلى أي فقد أجاب الميرزا (رحمه اللّه) بقوله: (اللّهم إلّا أن يقال: ذكر الأعلم الاحتياط في هذه الصورة كالصورة السابقة حكم إرشاديّ عقليّ منوط باحتمال الضرر، أي العقاب المحتمل، وإذا أحرز العاميّ عدم احتمال الضرر بفتوى غير الأعلم بعدم التكليف وعدم معارضته بقول الأعلم وفتواه - كما هو الفرض - فلا بأس بتركه الاحتياط)(2).

وتوضيح كلامه إضافةً:

إن العامي عندما يرجع في هذه المسألة إلى الرسالة العملية، ويجد أن الأعلم قد احتاط، فله بنحو الوجوب التخييري أن يلتزم به ولا يتعين عليه، وذلك لأن منشأ التزامه باحتياط الأعلم احتمال الضرر بالمخالفة، (والمراد بالضرر هو العقوبة الأخروية(3)، وحرمة اقتحام الضرر والعقوبة الأخروية مما يستقل به

ص: 339


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص346.
2- دروس في مسائل علم الأصول: ج6 ص415.
3- حيث إن الاحتمال القليل فيها منجز، إذ ليس كل ضرر يحرم ارتكابه، لأنه على درجات؛ فلذا فسره الميرزا (رحمه اللّه) بالضرر الأخروي، فتأمل.

العقل) إذن فهذا حكم عقلي، واحتياط الأعلم إرشاد لهذا الحكم العقلي.

وعلى هذا فلو استقل عقل المكلف بأن مخالفة هذا الاحتياط لا توقعه في العقاب الأخروي، وبعدم احتمال الضرر، لأن عقله استقل ببراءة ذمته بالعمل برأي المفضول، فإنه يجوز له العدول إليه.

والحاصل: صحيح أن في مخالفة الاحتياط مظنة للعقوبة وهي منجزة، إلا أن عقل المكلف يستقل بالوجوب التخييري، إذ الفرض أن المفضول أيضاً أفتى، وقد استقل عقل المقلد بأنه لا احتمال للضرر في العمل بفتوى غير الأعلم، وأن فتوى المفضول حجة من الباري، فالنتيجة هي التخيير.

وعليه: فحتى لو قال الأعلم بعدم جواز الرجوع للمفضول في احتياطاته، فإنه يجوز الرجوع للمفضول إليه رغم ذلك، لأن الفرض أن أصل مسألة (الاجتهاد والتقليد والاحتياط) مما لا يثبت جوازهابأحدها(1)، وإلا لزم الدور(2)، وإنما ترجع إلى استقلال العقل بإجزاء أحد هذه الثلاثة.

مناقشات مع الميرزا التبريزي (رحمه اللّه)

لكن الظاهر عدم تمامية كلام الميرزا (رحمه اللّه) ؛ لإشكالات عديدة ترد عليه:

1- منشأ المنع، فتوى الأعلم لا احتياطه

1- منشأ المنع(3)، فتوى الأعلم لا احتياطه

ومنها: إن منشأ الإشكال في عدم صحة الرجوع للمفضول لم يكن احتياط الأعلم بما هو، حتى يجيب الميرزا (رحمه اللّه) بما تقدم من أن وجوب اتباع احتياط الأعلم حكم عقلي، فإذا استقل العقل ببراءة الذمة باتباع المفضول كفى، أي إن

المشكلة ليست ناشئة من احتياط الأعلم، بل كان ناظراً لفتوى الأعلم ببطلان قول المفضول (وأما إذا تضمن تخطئة غيره) و(لإحراز خطئه بقول الأعلم)، كما قال الميرزا (رحمه اللّه) واصرح منه التنقيح (وأما لو كان احتياطه مستنداً إلى جزمه بانسداد الطريق إلى الحكم الواقعي بحيث يخطأ غيره فيما افتى به).

وبتعبير آخر: إن رأي الأعلم في هذه المسألة مركب من أمرين، وهما: تخطئته المفضول في فتواه، واحتياطه في ما توصل إليه، ومثاله ما تقدم من أن الأعلم إذا تردد بين الوجوب والاستحباب، فاحتاط بوجوب الجمعة، لكنه كان يخطأ من يذهب للحرمة(4)، فمشكلة عدم جواز رجوع المقلد إلى المفضول لم تنجم من وجود احتياط الأعلم حتى يعالج بما ذكره؛ بل المشكلة نشأت من فتواه ببطلان رأي المفضول.

فإذا كان الأمر كذلك: فعلى مبنى وجوب تقليد الأعلم الذي يقبله الطرفان، المستشكل والمستشكل عليه، فإنه لا يجوز أن يترك احتياطالأعلم ويعدل إلى فتوى المفضول، لفرض أن رأي المفضول مخالف لفتوى الأعلم لا لاحتياطه فقط.

وبعبارة أشمل: إن جوهر كلام الميرزا جواد (رحمه اللّه) يعود إلى أربع جمل: (المبتدأ، والخبر، والعلة، والاستنتاج) وقد يورد عليها:

التأمل الأول: على المبتدأ، وهو ما جاء في مطلع كلامه (رحمه اللّه)، حيث قال: (ذكر الأعلم الاحتياط)، وهذا المبتدأ خبره قوله: (حكم إرشادي عقلي)، قد أشرنا إلى أن ذكر الأعلم للاحتياط لم يكن منشأ الإشكال في كلام السيد الخوئي (رحمه اللّه) وغيره حتى يبني الميرزا (رحمه اللّه) جوابه عليه في دفع

ص: 340


1- أي لا يثبت جواز هذه الثلاثة بأي واحد منها.
2- حسب ما بيناه سابقاً.
3- من رجوع العامي للمفضول.
4- فالجمعة ليست بحرام عند الأعلم فتوىً، وهو يخطِّأ من يفتي بالحرمة.

الإشكال، إنما الإشكال ناشئ من الفتوى المنضمة إلى الاحتياط، حيث إن رأي الأعلم مكوّن من أمرين، على ما تقدم.

2 - لا إطلاق لكون احتياط الأعلم حكماً إرشادياً

على الخبر وهو ما جاء في قوله (رحمه اللّه): (وهو حكم إرشادي عقلي) وفيه: إن ذكر الأعلم للاحتياط ليس بالضرورة أن يكون حكماً إرشادياً عقلياً منوطاً باحتمال الضرر لأن القضية تارة تلاحظ من جانب الأعلم، وأخرى تلاحظ من جانب المقلد، وعلى كلا التقديرين لا يصح الإطلاق:

أما إذا لوحظت القضية من جانب الأعلم الذي احتاط، فلأن الفرض في المقام أنه أفتى(1) بالاحتياط؛ لا أنه لم يفحص فاحتاط(2)، إذ الفرض أن الأعلم قد خطّأ غيره؛ فلا تجوز مخالفته لكون هذه الفتوى(3) مستندة إلى المولى بما هو مولى، وليست حكماً عقلياًإرشادياً، بل هي كسائر فتاواه، هذا من جانب الأعلم، فتأمل.

وأما إذا لوحظت القضية من جانب المقلد، فقد سبق أن له حالتين؛ فتارة يستند إلى احتياط الأعلم بما هو احتياط، وأخرى يستند إليه لا بما هو احتياط، بل بما هو قول صادر من الأعلم، أي يستند إليه بما هو تقليد؛ فإذا استند إليه بما هو تقليد لم يكن معتمده الحكم العقلي الإرشادي؛ وإنما كان مستنده نفس فتوى الفقيه بالاحتياط.

ص: 341


1- لصريح قول التنقيح السابق ذكره: (وأما لو كان احتياطه مستنداً...) نعم ربما لا يرد على حسب ما أضافه الميرزا جواد (رحمه اللّه) من (كما لو قال: إن الوجوب أو الحرمة لو لم يكن أقوى، فهو أحوط)؛ وإن كان قد يتأمل في تمثيله بهذا؛ بانه لا يطابق كلام التنقيح، فليراجع.
2- أو أنه أفتى بتخطئة غيره.
3- الفتوى بالاحتياط أو بالتخطئة.

3 - النسبة بين الحكم الإرشادي واحتمال الضرر، من وجه

التأمل الثالث: على العلة وهو ما جاء في قوله (رحمه اللّه): (حكم إرشادي عقلي منوط باحتمال الضرر، أي العقوبة المحتملة).

وقد يناقش الميرزا (رحمه اللّه): بالسؤال عن مقصوده وأنه هل يريد أن كل حكم إرشادي عقلي فهو منوط باحتمال الضرر، أو يريد عكس ذلك(1)؟

فإن أراد من الكبرى الجانب الأول(2)، ورد عليه عدم انحصار الحكم الإرشادي العقلي بدفع الضرر المحتمل، إذ الإرشادي العقلي منوط بأربعة أشياء على سبيل البدل، أحدها: دفع الضرر المحتمل(3).

وأما لو أراد من الكبرى الجانب الثاني(4)، ورد عليه أنه قد يكون لزوم دفع الضرر حكماً مولوياً، وليس بالضرورة أن يكونحكماً إرشادياً عقلياً. (وذلك سواء أكان الضرر اللازم دفعه أخروياً أم دنيوياً).

وتحقيق ذلك يعود إلى بيان الكبرى الكلية في ملاك المولوية والإرشادية، وقد فصّلنا في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) أن هناك تسع ملاكات، مقولة أو محتملة في ضابط المولوي والإرشادي، وليس ههنا محل بحثها، وإنما الذي صرنا إليه هو:

ص: 342


1- أي إنه كلما كان احتمال ضرر فالحكم في مورده إرشادي عقلي.
2- وهو: كل حكم إرشادي عقلي فهو منوط باحتمال الضرر البالغ.
3- وثانيها: شكر النعمة الجسيمة، فإن شكر النعمة بحد ذاته ملاك لحكم العقل بالإطاعة ولزوم الإتباع، وثالثها: هو الاستحقاق، ورابعها: جلب المنفعة البالغة، كما فصلناه في أول بحث الوجوب، فراجع (بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد).
4- وهو عكس الجانب الأول: كلما كان دفع ضرر محتمل فهو حكم إرشادي عقلي، والظاهر أنه أراد هذا الجانب، أي أن الأعلم يذكر الاحتياط والمقلد يعمل به ليدفع عن نفسه الضرر الأخروي المحتمل؛ فإذا كان كذلك فهو حكم إرشادي عقلي.

مختارنا في ضابط المولوي والإرشادي

إن كل ما صدر من المولى بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته، وإن كان في موطن المستقلات العقلية فهو مولوي، والإرشادي خلافه، أي ما لم يصدر من المولى معملاً مقام مولويته، بل صدر من المولى وهو في مقام النصح، وإن لم يكن في موطن المستقلات العقلية، ف(وجوب العدل) مثلاً من المستقلات العقلية وكذلك وجوب دفع الضرر البالغ المحتمل أخروياً كان أم دنيوياً، ولكن لا ينافي ذلك أن يأمر المولى ابنه أو عبده أو مخلوقه أمراً مولوياً بالعدل أو بدفع الضرر عن نفسه.

والحاصل: إن الحكم في مثل قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)(1) و(غَيْرَ مُضَارٍّ) و(لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ)(2) يحتمل فيه أمران:

الأول: أن المولى لاحظ حكم العقل بحسن العدل وقبح الإضرار بالنفس والغير وأراد الإرشاد إلى هذا الحكم والمصلحة الواقعية الكامنة فيه، ومفسدة مخالفته ثبوتاً، فلا يكون أمر المولى حينئذٍ أمراً صادراً عن مقام المولوية، بل أمراً إرشادياً، ولا عقوبة على مخالفته.

الثاني: أن المولى رغم اطلاعه على حكم العقل، لكنه مع ذلك يحكم عليه - بما هو مولى - أن يعدل وأن يتجنب الإضرار، كأن يقول مثلاً لعبده: إنني بما أنا مولى آمرك بأن تعدل، ولو لم تعدلفسوف تعاقب، فهذا أمر مولوي لا إرشادي وإن كان في موطن المستقلات العقلية.

تطبيق ضابط المولوي والإرشادي في المقام

وفي المقام: إن كان قوله (رحمه اللّه): (ذكر الأعلم للاحتياط في هذه الصورة(3)

ص: 343


1- سورة المائدة: 8.
2- سورة البقرة: 233.
3- ما لو خطا الأعلم غيره.

حكم إرشادي عقلي منوط باحتمال الضرر، أي العقاب الأخروي) إن أراد به أنه ليس إلا كذلك(1) لأنه: (كلما كان احتمال الضرر فالحكم عقلي إرشادي) ففيه: إنه قد يكون احتمال الضرر مع أن الحكم مولوي، بأن يستظهر ذلك من قوله (عليه السلام): «لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»(2) وقوله تعالى: (غَيْرَ مُضَارٍّ)(3) و(وَلَا تُضَارُّوهُنَّ)(4) هذا كبرى، وأما صغرى فباستظهار أنه (عليه السلام) في مثل قوله: «أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ»(5)، يأمر بالاحتياط بما هو مولى لا من جهة مجرد كونه ناصحاً ومرشداً بل غاية الأمر أن مقام المولوية تارة يعمله للإيجاب وأخرى للاستحباب.

والفارق بين إعمال المولوية وغيره، هو ترتب الثواب وعدمه، فلو قال الطبيب: اشرب هذا الدواء حتماً أو قال: إن الأفضل أن تشربه لأن مرضك خفيف، فلا يستحق المريض شيئاً من الثواب في الصورتين لو امتثل، وذلك عكس الأب لو أمر ابنه بما هو أب ومولى بشرب هذا الدواء معملاً مقام مولويته سواء أعمله وجوباً أم استحباباً؛ فإن الابن في كلتا الصورتين يحصل على الثواب لو امتثل، ويستحق العقاب على المخالفة في خصوص الأمر الإلزامي.

ص: 344


1- إن احتمال الضرر المسلم في المقام منتج للحكم العقلي الإرشادي بتجنبه عبر الاحتياط.
2- غوالي اللئالي: ج1 ص220.
3- سورة النساء: 12.
4- سورة الطلاق: 6.
5- الأمالي - للطوسي -: ص110.

4 - مرجع إشكال إلى المبنى والتفصيل فيه

4 - مرجع إشكال إلى المبنى(1) والتفصيل فيه

التأمل الرابع(2)- على الاستنتاج -: وهو ما جاء في قوله (رحمه اللّه): (فإذا أحرز

ص: 345


1- مبنى وجوب تقليد الأعلم.
2- على كلام الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه)،

العامي عدم احتمال الضرر بفتوى غير الأعلم فلا بأس بترك الاحتياط).

والتأمل أنه (رحمه اللّه) كان المفروض أن يستشكل بنائياً، لأن إشكاله يرجع إلى إشكال مبنائي، فإن المبنى هو وجوب تقليد الأعلم، فبعد التسليم بهذا المبنى من الطرفين المستشكل والمستشكل عليه، يأتي الكلام في احتياطات الأعلم، فيقال: هل على المكلف أن يلتزم باحتياطاته مع كونها نابعة من تخطئة رأي المفضول أم أنه مخيّر بينها وبين رأي المفضول، ولا يصح أن يشكل عليه بما يرجع إلى أصل المبنى.

والحاصل: إن قوله (رحمه اللّه): (إذا أحرز العامي عدم احتمال الضرر بفتوى غير الأعلم) يناقش بأنه من أين هذا الإحراز؟ فهل إحرازه باستقلال عقله، أو هو بالعلم بمعنى العامي لجهة من الجهات قطع بأن فتوى المفضول مبرئة للذمة وإن احتاط الأعلم.

فنقول: إن إحراز العامي لبراءة ذمته بأي من الوجهين كان، خارج عن البحث ويجري حتى في تعارض فتوى الأعلم مع فتوى المفضول، بل إنه يرجع الإشكال مبنائياً، لورود هذا الكلام بعينه على أصل دعوى تعيّن تقليد الأعلم، إذ يقال: إنه يجب تقليد الأعلم، دفعاً للضرر، لأن تقليد الأعلم مبرئ قطعي للذمة، وأما تقليد المفضول فلا يعلم ببراءة ذمته به؛ وإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فالمرجع هو التعيين(1)؛ ولكن العامي لو أحرز باستقلال عقله أو بقطع حصل له

ص: 346


1- وقد علل المحقق النائيني (رحمه اللّه) في أجود التقريرات: ج2 ص215 هذا الأصل أو هذه القاعدة بقوله: (إذ الواجب التعييني غير محتاج في عالم الثبوت إلاّ إلى قيد عدمي بأن لا يكون له عدل في مرحلة الطلب، كما أنه في عالم الإثبات كذلك، بل إثبات التعيينية في عالم الإثبات بعدم التقييد بمثل العطف بكلمة أو إنما هو لكشفه عن العدم في عالم الثبوت، فإذا كان أصل الوجوب معلوماً وشك في تخييريته من جهة احتمال تقيده بوجود العِدل له فلا محالة يحكم بالتعيينية بمقتضى ضم الوجدان إلى الأصل لعدم ثبوت التقييد مع حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الثابت يقينا، وأما توهم إثبات التعيينية بإجراء البراءة عن وجوب ما يحتمل بدليته للواجب المعلوم فغير صحيح؛ إذ البراءة العقلية إنما تجري فيما إذا كان مخالفة التكليف المحتمل موجبة للعقاب على تقدير تنجزه، ولا ريب أن ترك الطرف المحتمل وجوبه في المقام لا يترتب عليه عقاب أصلاً، وأما البراءة الشرعية فلا مورد لجريانها).

بوجه ما، أن تقليد المفضول مبرئ للذمة أيضاً، وإن أفتى الأعلم بخلافه، فلا شيء عليه، إذ لا يحتمل الضرر والعقوبة أبداً حيث استقل عقله بالإجزاء.

والحاصل: إن هذا التخريج لتصحيح عمل العامي بفتوى المفضول غير خاص باحتياطات الأعلم، بل يعم فتواه المعارضة لفتوى المفضول، وإشكاله وإن كان ظاهره بنائياً، ولكنه في الواقع وفي جوهره يعود إلى المبنى والتفصيل فيه، فتأمل.

احتياط الأعلم والمفضول والرجوع إلى الثالث

فرع: سبق أنه لو احتاط الأعلم جاز الرجوع إلى احتياط المفضول، لكن لو أن المفضول أيضاً احتاط باحتياط مخالف لاحتياط الأعلم، فهل يجوز الرجوع إلى مفضول المفضول أم لا، ولو فرض أنه أيضاً احتاط باحتياط مخالف للاحتياطين السابقين فهل يمكن الرجوع لرابع مفضول؟

لا يقال: إنه وإن أمكن تصوير الاحتياط متخالفاً في الطرفين، لكن كيف يمكن تصوير ثلاثة احتياطات متخالفة؟

إذ يقال: يمكن تصوير ذلك في الاحتياطات النسبية، بل يمكن تصويره في الاحتياطات غير النسبية أيضاً:

الاحتياطات النسبية

أما في الاحتياطات النسبية، فكما لو احتاط الأعلم بكون الكر هو ما كان مكعبه ثلاثة وأربعين شبراً إلا ثمن شبر، واحتاط المفضول بكون الكر هو ستة وثلاثين شبراً، واحتاط مفضول المفضول بكونه ثلاثة وثلاثين شبراً، كما هو رأي الشيخ العراقي (رحمه اللّه)، فهذه ثلاث احتياطات مع القول بأن الكر ما كان مكعبه سبعةوعشرون شبراً.

ص: 347

فهنا احتياطات ثلاثة لكن بعضها إضافي أو نسبي، لأن احتياط الأعلم هو المطلق(1) وأما احتياط المفضول فهو بالنسبة لما هو أقل منه وهو ثلاثة وثلاثون شبراً، دون ما هو الأكثر منه.

الاحتياطات غير النسبية

وأما في غير الاحتياطات النسبية، فالظاهر أنه يمكن تصوير ذلك أيضاً، وذلك كما لو تعارض الإقرار بالجرم مع البينة على الخلاف، فإذا أقّر بأنه سرق بشرائط السرقة المستحق بها إقامة الحد(2)، ثم قامت بينة على أن السارق غيره، فاحتاط الأعلم بتقديم الإقرار على البينة، لأرجحيتها، لقوله تعالى: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)(3)، حيث إنه الأعرف بنفسه وما فَعَلَت، وأما الشهود فاحتمال خطأهم أو رشوتهم وارد.

وأما المفضول فاحتاط بتقديم البينة على الإقرار، لأنه المطابق للضابطة القانونية العامة التي شرعها النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(4) فاعتبرها الأصل وما عداها كالإقرار اعتبره استثناء في رتبةً لاحقة، ولأن البينة العادلة أبعد عن احتمال الكذب والخطأ، لأن المقر قد يكذب لتبرئة السارق الحقيقي - كما لو كان ابنه أو أباه مثلاً - أما البينة فتقوم على وجود شاهدين عدلين، فهي أبعد عن احتمال الكذب والخطأ.

وأما مفضول المفضول فرأى تلك المرجحات غير منصوصة بل هي أشبه

ص: 348


1- وإن كان أشد احتياطاً بالنسبة لما هو دون الأقل منه.
2- وهي شرائط صعبة التحقيق جداً، وقد أنهاها السيد الوالد (رحمه اللّه) في (الفقه - الحدود) و(الصياغة الجديدة) و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) إلى أربعة وأربعين شرطاً.
3- سورة القيامة: 14- 15.
4- الكافي: ج7 ص414.

بالاستحسان ولم يتضح له وجه الرجحان ولا التساقط فاحتاط بالرجوع إلى الأحكام اللاحقة وأسقط الحد؛ لأن (الحدود تدرأبالشبهات)(1).

وكذا لو أقر بأنه قاتل، وقامت البينة على أن غيره هو القاتل؛ واحتاط مفضول المفضول بسقوط القصاص والرجوع إلى الدية، وذلك مع قطع النظر عن وجود رواية صحيحة خاصة بمورد القتل مفادها إجمالاً التخيير؛ إذن يمكن تصوير ذلك على كلا النحوين.

وعلى أية حال فقد يقال بان الرجوع إلى مفضول المفضول على القاعدة، وأنه يجوز العدول من احتياط الأعلم لا إلى المفضول فحسب؛ بل إلى احتياط مفضول المفضول وهكذا، ويؤكده انه لو لم يكن قائل بالاحتياط الوسيط(2) فانه مخير بين احتياط الأعلم واحتياط مفضول المفضول.

وقد يناقش بان احتياط مفضول المفضول يضعف بتعاضد احتياطين، كلاهما فوقه، مخالفين له.

وفيه: إنه إذا كان منشأ احتياط الأولين، ضعف الحجة لديهما وعدم وضوح الرؤية فلا وجه لضعف احتياط مفضول المفضول، وقد يفصل بين الصور والحالات، لكن الظاهر أن بناء العقلاء على صحة الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره شامل لمطلق صور احتياط الأعلم (وغيره) الناشئ من عدم وضوح الأدلة لديه، فتأمل.

هذا كله في الاحتياطات المتخالفة وأما لو اعتضد احتياط الأعلم بموافقة احتياط المفضول له فقد يقال: بأن الظن الحاصل من احتياط الأعلم المعتضد

ص: 349


1- وقد روي الصدوق في (من لا يحضره الفقيه): مرسلاً عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): «ادرؤوا الحدود بالشبهات». من لا يحضره الفقيه: ج4 ص74.
2- كما لو توقف المفضول في المسألة أو لم تتسنّ له فرصة الفحص عن مداركها.

باحتياط المفضول أقوى من الظن الحاصل من احتياط المفضول المخالف لاحتياط المفضول الآخر، وعليه فلا يصح الرجوع إليه.

بل يسري هذا الإشكال يسري إلى المبحث السابق(1) إذا طابق احتياط الأعلم فتوى أحد المفضولين المتعارضين فلا تخيير حينئذٍ،بل يتعين الرجوع إلى احتياط الأعلم أو فتوى المفضول المعتضدة فتواه باحتياط الأعلم المطابق له، وذلك بدعوى أنه عندما توكل هذه القضية إلى العرف، بل إلى بناء العقلاء، فإنهم يرون أن فتوى هذا المساوي يطابقها احتياط الأعلم فتركن أنفسهم إليه؛ ويكون الظن النوعي الحاصل من قول هذا المفضول أقوى من الحاصل من قول المساوي المخالف له بالفتوى.

وقد يناقش ما ذكر من وجهين:

الوجه الأول: مبنىً؛ فإن ذلك مبنيٌّ على التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) في مبحث تعارض الخبرين إذ ارتأى التعدي من المرجحات المنصوصة في الروايات إلى مطلق ذي المزية، ولكن العديد من الأعلام رفضوا التعدية، نظراً إلى أن الملاكات الواقعية للأحكام الشرعية والحجج الشارعية ليست بأيدينا فلا تصح التعدية بل هي قياس، فإذا لم نقل بالتعدية من المرجحات المنصوصة إلى غيرها هناك، فلا مجال لتعديتها هنا؛ لأن مورد النص هو الروايتان المتعارضتان؛ والمقام تعارض الفتويين المعتضدة إحداهما باحتياط الأعلم.

وقد يجاب بأن الاستدلال ليس بترجيح هذا على ذاك بما ذكر بل بأن مدرك التخيير بين احتياط الأعلم وفتوى المفضول هو بناء العقلاء وهو دليل لبّي لا يعلم

ص: 350


1- وهو: أن الأعلم لو احتاط ووجد مفضولان متساويان وتخالفا في الفتوى؛ فقد ذكرنا سابقاً بأنه يجوز الرجوع إلى أي منهما، على القول بالتخيير لا التساقط.

شموله لمثل المقام، فتأمل(1).

الوجه الثاني: بناءً، فإنه قد يقال بل قد قيل: إنه عند الرجوع إلى العرف وبناء العقلاء، فإننا نجد أن ذا المزية أرجح، لكن لا إلى حد المنع من النقيض، كما نقول ذلك في كل مبحث تخالفت فيه فتويان للأعلم وغيره، إذ لا شك بأن رأي الأعلم أرجح لكنه ليس بدرجة المنع من النقيض؛ فإن بناء العقلاء في مختلف العلوم على الرجوع إلى غير الأعلم كالرجوع إليه، إلا لو فقدت الثقة بالكامل بالمفضول، لكنهم في الحالات العادية يرجِّحون الذهاب للأعلم من دون منع من الرجوع إلى غيره.

والمقام كذلك؛ فلو تعاضدت فتوى أحد المتساويين باحتياط الأعلم فهو مرجح، لكنه مرجح تفضيلي وليس مانعاً من النقيض، وخلاف ذلك عهدته على مدعيه.

وهذا البحث بحاجة إلى مزيد من التأمل وقد فصّلنا في كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول) الكلام عن أن ذا المزية لا يلزم عقلاً أو شرعاً - على نحو الإطلاق - الرجوع إليه، وإن ذلك غير موجب لتعين الأعلم فراجع وتأمل واللّه العالم.

ص: 351


1- لما سيأتي وغيره.

الاحتياط الاستحبابي

قال في العروة الوثقى (رحمه اللّه): (الاحتياط المذكور في الرسالة إمّا استحبابيّ، وهو ما إذا كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى، وإمّا وجوبيّ وهو ما لم يكن معه فتوى، ويسمّى بالاحتياط المطلق، وفيه يتخيّر المقلّد بين العمل به والرجوع إلى مجتهد آخر)(1).

بيانه: إن الأعلم أو غيره إذا أفتى فاحتاط، أو احتاط فأفتى، أي إذا كان احتياطه مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى فهو استحبابي، والمسألة واضحة معروفة، ولكن ينبغي التوقف عند المراد بالاستحباب والوجوب ههنا، فلو أن الفقيه أفتى بأن خمس عشرة رضعة محرمة، واحتاط بمحرمية عشر رضعات، فهذا الاحتياط استحبابي، ولكن ما معنى استحباب هذا الاحتياط، فهل هو استحباب عقلي(2)، أم هو استحباب شرعي(3)، وما هو الفارق بينهما؟ ووجهه؟ والثمرة؟

المطلب الأول: معنى الاستحباب العقلي

فإن معنى الاستحباب الشرعي أو الاستحبابي شرعاً معروف، وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة، وهو المنصرف لأذهان المتشرعة عند القول بأن كذا

ص: 352


1- العروة الوثقى: ج1 ص54.
2- أي العقلي المحض بالمعنى اللغوي، أي الترجيح؛ لرجحان العمل به؛ لاحتمال درك الواقع به المطلوب عقلاً، خروجاً عن مورد من أفتى بالإلزام، كما في (بيان الفقه): ج4 ص407 مع بعض التغيير والاختصار.
3- وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة؛ كأن يكون عندنا دليل ضعيف سنداً أو دلالةً، فيكون مشمولاً لأدلة قاعدة التسامح في أدلة السنن؛، كما في (بيان الفقه): ج4 ص407، مع التغيير.

مستحب، وأما الاستحباب العقلي، وهو أحد المحتملين في قولهم (الأحوط استحباباً)، فان معناه مما يتضح بمراجعة معنى الاستحباب اللغوي؛ وهو مقارب للمعنى المأنوس للناس وهو المعنى الاصطلاحي للاستحباب ولكنه ليس هو هو، وأماالمعنى اللغوي للاستحباب فلعله غير معروف(1)، وهو يأتي على معان:

معاني الاستحباب اللغوي

المعنى الأول: المراد به الاستحسان(2) فاستحب السفر أي استحسنه فالاستحباب العقلي يرادف(3) الاستحسان، والمستحب يعني المستحسَن (عقلاً).

المعنى الثاني: المراد به استحبه(4)، أي أحبه، تقول: استحب الإيمان أو الدراسة أي أحبها، فالمراد به المجرد فالمستحب يعني المحبوب.

المعنى الثالث: المراد به هو التفضيل مع تعديته بعلى، كما في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)(5)، أي فضّلوا الحياة الدنيا على الآخرة(6) فالمستحب يعني المفضّل.

وهذه المعاني اللغوية كلها يمكن أن تكون مرادة عندما يقال إن كذا مستحب عقلاً وكلها وافية بالغرض، فمثلاً عند ما يفتي الفقيه بعدم جزئية جلسة الاستراحة لعدم تمامية الدليل عليها، أو عندما يفتي بعدم وجوب الدعاء

ص: 353


1- وهو المراد هنا.
2- كما في المصباح المنير: ج1 ص117، وتاج العروس: ج1 ص392.
3- الترادف لا المساوقة؛ فالمساوقة الفلسفية تعني المساواة المنطقية في النسب الأربعة، وهي في مقابل الترادف.
4- انظر المصباح المنير: ج1 ص117.
5- سورة النحل: 107.
6- كما في تبيين القرآن للإمام الشيرازي (رحمه اللّه).

عند رؤية الهلال، ثم يقول: الأحوط استحباباً الإتيان بها أو به، فإذا قلنا: إن هذا الاستحباب عقلي، فإنه يعني أنه مستحسن عقلاً(1) أو مفضل أو محبوب فلا إلزام فيه.

وبتعبير أدق: إن العقل يحكم بحسنه - أو يدركه - وهو أعم منالوجوب والاستحباب بالمعنى المعهود أي إنه أعم من المنع من النقيض وعدمه، وذلك لأن للعقل نوعين من الأحكام:

العقل له نوعان من الحكم

النوع الأول: الحكم بالحسن مع المنع من النقيض، كحكمه بحسن العدل فانه يحكم بحسنه ويوجبه ويمنع نقيضه جزماً.

النوع الثاني: الحكم بالحسن بدون المنع من النقيض، كحكمه بحسن الصدق والإحسان؛ فإن العقل يحكم بحسنه، لكن لا يوجبه على كل حال.

وفي المقام عندما يقول الفقيه: (الأحوط استحباباً)؛ فإنه قد يعني: إن العقل يستحسن ذلك(2) لكن من دون المنع من النقيض.

الاحتياط العقلي إرشاد

ثم إن الوجهين الأولين من الوجوه الآتية لمدارك وعلل الاحتياط الاستحبابي يفيدان الاستحباب الشرعي، وأما الثلاثة الأخيرة فتفيد الاستحباب العقلي، فتدبر وتأمل(3).

ص: 354


1- أي يستحسنه العقل بمعنى الاستحسان اللغوي، وليس الاستحسان الأصولي الذي هو كالقياس في البطلان.
2- كما يحتمل: أن العقل يفضّل ذلك أو يحبه، لكن المعنى المذكور في المتن أقرب أو أسلس.
3- خاصة في الوجه الثالث الآتي وهو (مخالفة فتواه لبعض الروايات) فتأمل.

وحينئذ يكون رأي الفقيه في الرسالة العملية صرف مرشد، أي إنه يكون قد خرج فيه عن كونه مفتياً، وإنما يرشدنا إلى حكم عقلي، وتخرج المسألة عن كونها شرعية فرعية إلى الإرشاد العقلي للمسألة.

وبالتدبر في الوجوه الخمسة الآتية يمكن تشخيص أن الفقيه احتاط بما هو مرجع، أو بما هو مرشد بعد العلم بوجه احتياطه(1)، نعم القائل بأنه عقلي يمكن أن يرد أدلة القائل أنه شرعي: أما أنها مشمولة ل- «أخوك دينك»؛ فبالقول أنه ليس أمراً مولوياً، بل هو إرشادلحكم العقل فهو بحث مبنائي، وأما «خذ بما اشتهر بين أصحابك» فهو خاص بمورده، والتعدي قياس؛ كما أن التعدي عن ذي المزية لا يجوز، لأنه خاص بمورد الرواية، وأما (قاعدة التسامح) فيرى أنها لا تدل على الاستحباب، بل على مجرد حصول الثواب، أو غير ذلك، فإن البعض يرى أنها تدل على إسقاط شرائط حجية الخبر في المندوبات والمكروهات، لأن حجية الخبر موقوفة على شرائط، أما في السنن فلا تعتبر تلك الشرائط، وهكذا. وقد ظهر وجه النظر في بعض ما ذُكر مما سبق فلا حاجة للإعادة.

الفرق بين الاستحباب العقلي والشرعي

المطلب الثاني: الفرق بين الاستحباب العقلي والشرعي أمران:

1: الحاكم بالاحتياط

الفرق الأول: إنه إذا كان الحاكم بالاحتياط هو الشارع فالاستحباب شرعي، وإلاّ فهو عقلي؛ نظير البراءة العقلية والشرعية؛ فإن كان مدرك البراءة (قبح العقاب بلا بيان) فهي عقلية، وإن كان مستندها ومدركها (رفع ما لا يعلمون) فالبراءة شرعية.

ص: 355


1- وإنه من أي الوجوه الخمسة الآتية.

فالفرق الأول في المَنشأ والمدرَك أو فقل: الحاكم.

وعليه: ينبغي البحث عن مدرك الاحتياط الاستحبابي وهو ما سيأتي في المطلب الثاني.

2: ترتب الثواب وعدمه

الفرق الثاني: هو ترتب الثواب على امتثال الاستحباب الشرعي، وعدم ترتب الثواب على امتثال الاستحباب العقلي؛ وذلك لأن العقل يلزم أو يحبذ الاحتياط؛ لما فيه من إدراك المصلحة الملزمة أو الراجحة وتجنب المفسدة كذلك لكنه لا يثيب ولا يعاقب، أما المولى بما هو مولى فإنه إذا ألزم فإنه سيثيب على الإطاعة ويعاقب على المخالفة استحقاقاً أو تفضلاً؛ على الوجهين حسبمافصل في علم الكلام.

وسيأتي في الثمرات ما يوضح هذين ويزيد عليهما أيضاً.

المطلب الثالث: ثم إن الوجه في عدم وجوب العمل بالاحتياط المسبوق بالفتوى أو الملحوق به، واعتباره احتياطاً استحبابياً، مما لا ينبغي أن يخفى على مختلف المسالك في الحجية:

المسلك الأول: الحجية هي المنجزية والمعذرية، وعلى هذا المسلك فالأمر واضح، لأن فتوى الأعلم المسبوقة أو الملحوقة بالاحتياط إن طابقت الواقع فمنجزة فلا يجب العمل بالاحتياط، وإن خالفت الواقع فهي معذرة ولا يجب العمل بالاحتياط أيضاً.

المسلك الثاني: الحجية تعني الكاشفية أو الانكشاف، وفتوى الأعلم وإن لم تكن كاشفاً تاماً عن الواقع بل هي عادة كاشف ناقص عن الواقع(1)؛ لأنها

ص: 356


1- نعم، نادراً قد تكون كاشفة كشفاً تاماً؛ بأن تستند فتواه للأدلة القطيعة سنداً ودلالةً؛ فيحصل العلم من الفتوى.

دليل ظني بالظن المعتبر، إلاّ أن الشارع تمم هذا الكشف ونزّله منزلة الكاشف التام، واعتبر الاحتمال المخالف ملغى؛ وإذا كان الأمر كذلك فيكون الاحتياط المسبوق بالفتوى أو الملحوق بها استحبابياً.

لأن الكشف لو كان حقيقياً تاماً لما بقي مجال للاحتياط لا وجوباً ولا ندباً، وقد تقدم ذلك في الصورة الأولى من الصور الستة عشر المتقدمة من الاحتياط المذموم، عكس ما لو كان الكشف ناقصاً والتتميم تنزيلياً.

المسلك الثالث: الحجية تعني لزوم الاتباع؛ فما يلزم اتباعه هو الحجة؛ وحيث إن فتوى الأعلم حجة فيلزم اتباعها تعييناً، إلاّ إلى حجة أخرى فيلزم إتباعها تخييراً؛ والحجة الأخرى هي الاحتياط؛ لأنه الأقرب للإصابة، بل هو المحرز للواقع.

مدارك وعلل الاحتياط الاستحبابي

المطلب الرابع: وجوه وعلل احتياط الفقيه استحباباً رغم ان لهفتوى في المسألة، وبها يظهر وجه كون الاستحباب شرعياً(1) أو عقلياً(2).

الوجه الأول: عمومات دليل الاحتياط

فقد يقال: إن المدرك هو عمومات الشرع؛ بدعوى أن عمومات أدلة الاحتياط تشمل كل هذه الصغريات، كقوله (عليه السلام) في الرواية المعروفة: «أخوك دينك فأحتط لدينك بما شئت»(3) بل وقوله (عليه السلام): «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(4)، على تفصيل ونقاش في الاستدلال بهذه

ص: 357


1- على الوجهين الأولين.
2- على الوجهين الأخيرين.
3- الأمالي - للطوسي -: ص110.
4- تهذيب الأحكام: ج2 ص259.

الرواية يترك لمحله، بل وحتى مثل (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِه ) بناء على إفادتها الاستحباب.

وذلك موقوف على إثبات الصغرى والكبرى:

أما الصغرى فبدعوى: بأن الأوامر الواردة في شأن الاحتياط مولوية وليست صرف إرشاد.

وأما الكبرى، فلما تقدم من أن مطلق ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته فهو مولوي، سواء أكان ندباً أو وجوباً، وسواء أكان في مورد المستقلات العقلية أم لا، وسواء أكان معللاً بمصلحة دنيوية أم لا، إلى غير ذلك.

فإذا سلّمنا هذه الكبرى واستظهرنا أن «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1) صادر من الإمام (عليه السلام) بما هو مولى لا بما هو ناصح، فسيتم الوجه الأول وإلا فلا.

وعليه(2) فإن احتياطات الأعلم وغيره يستحب العمل بها شرعاً، لصدور الأمر بها - أي بكلّيها - من الشارع، فتكون مثل استحباب صلاة الليل، وهي مستحب شرعي لا عقلي.

الوجه الثاني: شمولية قاعدة التسامح للمورد

الوجه الثاني(3): شمولية قاعدة التسامح للمورد

شمول قاعدة التسامح في أدلة السنن للمورد، فقد ورد: «من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أُوتِيَهُ، وإن لم يكن

ص: 358


1- الأمالي - للطوسي -: ص110.
2- أي على القول بتمام هذا الوجه؛ وهو صدور الأمر من المولى بما هو مولى، لا بما هو ناصح.
3- هذا الوجه الثاني يتعلق بمدرك الاحتياط الاستحبابي ودليله، فيما كان دليلاً شرعياً، حيث تقدم أن منشأ الاحتياط الاستحبابي إما أن يكون عقلياً فيسمى احتياطاً عقلياً، وإما أن يكون شرعياً فيسمى احتياطاً شرعياً.

الحديث كما بلغه»(1)، والروايات الدالة على هذا القاعدة عديدة(2) وقد جرى فيها كلام طويل يترك لمحله(3).

وفي ما نحن فيه: لو استظهر الفقيه عدم تمامية دليل على استحباب الدعاء عند رؤية الهلال بعنوانه، لكنه مع ذلك ذهب إلى أن (الأحوط استحباباً الدعاء عند رؤية الهلال)، أو أفتى بكفاية إحدى التسبيحات في الركعة الثالثة والرابعة ثم قال: (الأحوط استحباباً الإتيان بثلاث تسبيحات)، فإن منشأ هذا الاحتياط أحد أمرين(4):

الأول: وجود رواية تأمر بالدعاء مثلاً، ولكنها ضعيفة لديه سنداً أو دلالة، فتشملها قاعدة التسامح في أدلة السنن(5)، ولأجلها يقول الفقيه بالاحتياط الاستحبابي.

الثاني: وجود رواية قوية سنداً ودلالةً بالاستحباب، ولكن عارضتها روايات أخرى صراح صحاح دلت على الإباحة بالمعنى الأخص، فيقول الفقيه بالاحتياط الاستحبابي رعاية لتلك الروايةالأولى، فتأمل.

ص: 359


1- الكافي: ج2 ص87.
2- منها ما جاء في الصحيح عن الكافي: علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه» الكافي: ج2 ص87.
3- وفيها أقوال، فمنها: أنها تفيد مجرد حصول الثواب وكونها إرشاداً من العقل لحسن الانقياد لمجرد الاحتمال أو للبلوغ الاحتمالي. ومنها: أنها تفيد الاستحباب إلى جانب الثواب وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة، أي تفيد استحباب العمل ببركة العنوان الثانوي الطارئ وهو البلوغ. ومنها: أنها تفيد إسقاط شرائط حجية الخبر في باب المستحبات. ومنها غير ذلك.
4- أو غيرهما مما سبق ويأتي.
5- بناءً على دلالة القاعدة على الاستحباب.

هذا هو الوجه الثاني للاستحباب الشرعي ولقول الفقيه بالاحتياط الاستحبابي، لكنه أخص من موارد الاحتياط الاستحبابي لاختصاصه بكونه من مصاديق قاعدة التسامح، كما أنه خاص باللاإقتضائيات، لوضوح أن فتواه إذا كانت على الحرمة فلا يعقل احتياطه بالاستحباب لورود خبر ضعيف لديه به.

الوجه الثالث: مخالفة فتواه لبعض الروايات

وقد يمثل له بمسألة بلوغ الفتاة، فإن المشهور هو بلوغها بإتمام تسع سنين والدخول في العاشرة، ولكن لو أن فقيهاً رأى أن البلوغ إنما يكون بإتمامها السنة الثانية عشرة والدخول في الثالثة عشرة لوجود رواية أو روايتين تامتي السند والدلالة عنده، فأفتى بذلك، لكنه مع ذلك يحتاط استحباباً، بأن تراعي الفتاة التكاليف الشرعية في ما بين العاشرة والثالثة عشرة، وذلك لوجود تلك الروايات التي استند إليها المشهور، (وقد تربو على عشرين رواية، وسندها أتم، وقد يقال: إنها متواترة، ودلالتها أقوى على أن البلوغ في سن العاشرة) لكن الفقيه فرضاً استظهر خلاف ذلك، فيحتاط رعاية لتلك الروايات التي يحملها على الأفضلية مثلاً.

الوجه الرابع: مخالفة فتواه للمشهور

ومن الوجوه الداعية للاحتياط الاستحبابي، مخالفة فتوى الفقيه لفتوى المشهور؛ فيفتي بحسب ما توصل إليه، إلا أنه مع ذلك يقول: (الأحوط استحباباً العمل كذا) وهو المطابق لرأي المشهور والمخالف لرأيه.

والوجه في ذلك أخذه بالمشهور لقوله (عليه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر»(1) وقوله (عليه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(2) فيأخذ برأي

ص: 360


1- غوالي اللئالي: ج4 ص133.
2- الكافي: ج1 ص67، قال (عليه السلام) في مقبولة ابن حنظلة: «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».

المشهور من باب الاحتياط استحباباً(1) أو قديكون الوجه لديه أن مشهور الفقهاء هو (سبيل المؤمنين) فلا تصح مخالفته لقوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)(2) ولكن في هذا الأخير ما لا يخفى فإن سبيل المؤمنين هو سبيل محمد وآله أو المؤمنين الذين هم بضمنهم(3).

إن قلت: تلك الروايات ظاهرة في وجوب الأخذ بقول المشهور، فإذا قامت عنده الحجة الشرعية على الخلاف(4) فلا يشمله الأمر الوجوبي بالأخذ(5)، فكيف يستدل بها على الاستحباب؟!

قلنا: إن الأقوال في حقيقة الوجوب والندب ثلاثة؛ وعلى قولين منها يتم

ص: 361


1- وقد سمي هذا في كلماتهم: (خروجاً عن مخالفة المشهور)، بل إن بعضهم يذهب لهذا القول وإن لم يوجد للمشهور دليل واضح، أو كان دليلهم ضعيفاً، وفي قبالهم هناك من يقول: (إن مخالفة المشهور وإن كانت مشكلة ولكن مخالفة الدليل أشكل)، وفي قبال هذا وذاك من يقول: (إن التحقيق أحق أن يتبع).
2- سورة النساء: 115، وتمام الآية: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
3- والاستدلال بهذه الآية ذكره سيدنا الأستاذ (دام ظله) كاحتمال لأن تكون مستنداً لذلك الفقيه، لا للتبني لهذا الاستدلال كما هو واضح، وإلا فهناك بحث في الاستدلال بهذه الآية الشريفة، وقد ذكر الشيخ (رحمه اللّه) في عدة الأصول: ج2 ص605 ثمانية وجوه للرد على الاستدلال بهذه الآية، قال (رحمه اللّه) في مقدمة كلامه: (وقد قالوا: فتوعّد اللّه تعالى على اتباع غير سبيل المؤمنين، كما توعّد على مشاققة الرّسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلولا أنّهم حجّة يجب اتباعهم فيما أجمعوا عليه وإلَّا لم يجز ذلك؛ والكلام على هذه الآية من وجوه)، ثم ذكر الوجوه الثمانية.
4- أي عدم الوجوب، لا الحرمة.
5- والحاصل: إن الرواية مخصصة بغير من قامت لديه الحجة على خلاف رأي المشهور، أو منصرفة عنه، بل هي لمن لا يعلم أو لمن تعارضت لديه الحجتان من غير مرجح.

الاستدلال دون الثالث.

أقوال ثلاثة في حقيقة الوجوب والندب

القول الأول: إن الوجوب والندب مرتبتان

فقد ذهب بعض الأصوليين إلى: إن الوجوب والندب مرتبتان من مراتب الطلب، حيث إن الطلب من الحقائق التشكيكية، فإذا كان كذلك وقامت الحجة على عدم الوجوب انتفت هذه المرتبة وتبقى المرتبة الثانية وهي الندب، وحيث كانت فتواه على عدم الوجوب فلا ينبغي رفع اليد عن الرواية(1) القائلة: «خذ بما اشتهر بين اصحابك» مطلقاً، بل تطرح بمقدار التعارض، إذ لا داعي لطرح الأكثر، أي إنها تطرح بمقدار قيام الحجة على خلافها، والحجة قامت على خلاف مرتبة من مراتب مدلول (خذ بما اشتهر) وهو الوجوب، فتبقى المرتبة اللاحقة.

وذلك كله بناء على أن الأمر موضوع لمطلق الطلب، دون القول بأنه موضوع للوجوب، فإنه على هذا إذا انتفى انتفى(2).

القول الثاني: إن الوجوب مركب من أمرين

وذهب بعضهم إلى: أن الوجوب مركب من أمرين: (الأمر بالفعل) مع (المنع من الترك).

ومع قيام الحجة لدى الفقيه بعدم المنع من الترك(3) يرفع اليد عن هذا الجزء من المركب، وتبقى دلالة الأمر «خذ بما اشتهر» على مطلق الرجحان.

وذلك كله بناء على أن الأمر موضوع للوجوب.

ص: 362


1- أي تخصيصها بغير هذا المورد.
2- إذا انتفى الوجوب انتفى الدليل نفسه أي انتفت صحة الأخذ به.
3- أي الوجوب حيث لا دليل عليه.

القول الثالث: إنهما حقيقتان متباينتان

وقال البعض بأن الوجوب والندب حقيقتان متباينتان، وعلى هذا لا يتم الاستدلال، لأنه لا يكون وجه للاحتياط الاستحبابي حينئذٍ، حيث إن «خذ بما اشتهر» تدل على الوجوب، فإذا قامت الحجة لدى الفقيه على عدم الوجوب فلا يمكنه العمل بالرواية، وأما الندبفحقيقة أخرى لا دال عليها، اللّهم إلا على القول بأن الأمر موضوع للندب، فتدبر.

والخلاصة: إن الفقيه إذا لاحظ أن فتواه مخالفة لفتوى المشهور، فإنه ربما يحتاط استحباباً على طبق رأي المشهور، لقوله (عليه السلام): «خذ بما اشتهر» وما أشبه.

وحيث إن «خذ بما اشتهر» بعد رفع اليد عن دلالتها على الوجوب تدل - على حسب بعض الوجوه السابقة - على الندب، فالاستحباب شرعي، لأنه مقتضى الأمر المولوي بالأخذ بالمشهور.

لا يقال: يمكن تصحيح الاحتياط الاستحبابي استناداً لرواية: «خذ بما اشتهر» بالقول بأن الأخذ بقوله (عليه السلام): «خذ بما اشتهر» يتبع المتعلق، فإن كان المتعلق الوجوب وجب الأخذ برأي المشهور، وإن كان المتعلق الندب استحب الأخذ بالمندوب، فإنه تارة تنعقد الشهرة على وجوب شيء، وأخرى تنعقد على استحباب شيء، فإذا كان متعلق «خذ بما اشتهر» الوجوب، وجب الأخذ به، وإذا كان متعلقها الندب، استحب الأخذ به، هذه هي الكبرى.

وأما الصغرى، فحيث إن رأي المشهور كان مخالفاً لرأي هذا الفقيه لذا يحتاط استحباباً، فتشمله «خذ بما اشتهر» استحباباً لا وجوباً.

ص: 363

الخلط بين المؤدى والحكم

إذ يقال: كلا، لحدوث خلط بين المؤدى والحكم، حيث إن الكلام في الحكم(1) وليس في المؤدى(2).

وتوضيحه: إنه تارة يكون الكلام في مؤدى «خذ بما اشتهر»، فما أدت إليه الشهرة إن كان هو الوجوب فخذ به وجوباً، وإن كان هو الاستحباب فخذ به ندباً، ولكن الكلام هنا ليس في المؤدى، بل فينفس الحكم (خذ) مع كون المتعلق الوجوب وإن الفقيه الذي ذهب إلى خلاف رأي المشهور فتوىً(3)، كيف احتاط استحباباً رعاية للمشهور مع أن فتواهم كانت الوجوب.

والحاصل: إن الاستحباب ليس مؤدى رأي المشهور حتى تشمله «خذ بما اشتهر» ولو استحباباً، بل إنه رعاية لفتوى المشهور بالوجوب احتاط استحباباً، فكيف تشمله (خذ بما اشتهر)؟

وصفوة القول: إنه عند التدقيق في الرسائل العملية، وبمراجعة أدلة الفقهاء، ووجه قولهم بالاحتياط الاستحبابي هو أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة وهي:

إما لرعاية إحراز الواقع(4)، أو شمول قاعدة التسامح في أدلة السنن للمقام(5)، أو لأن المشهور أفتوا على خلاف رأيه(6).

ص: 364


1- وهو الاحتياط الاستحبابي، أي استحباب العمل بقول المشهور، لا أن قول المشهور كان بالاستحباب.
2- أي ما انعقدت عليه الشهرة وهو المتعلَّق.
3- أي كانت فتواه عدم الوجوب، وفتوى المشهور هو الوجوب.
4- وهو الوجه الأول.
5- وهو الوجه الثاني.
6- وهو الوجه الثالث.

الوجه الخامس: رعاية فتوى الأفقه

ومن الوجوه التي تدعو الفقيه للاحتياط الاستحبابي، ملاحظة الفقيه بأن فتوى الأفقه - حتى بنظره - على خلاف ما أفتى به، كما لو أفتى هو بمحرِّمية الخمس عشرة رضعة، وأفتى الأفقه بمحرمية العشرة، أو أفتى بالإباحة، وأفتى الأفقه بالوجوب أو الاستحباب، فيفتي هو بحسب ما استظهره من الأدلة(1) ولكن يحتاط باستحباب الإتيان به مراعاة لذلك الخلاف، لأن الأفقه إلى جوار الأورع أو الأصدق لهجة أو الأعدل، هو من المرجحات المنصوصة في مقبولة ابن حنظلة، فمراعاةً لقول ذي المزية يحتاط استحباباً.

ولكن هذا الوجه متوقف على أمور في بحث مبنائي:

الأول: القول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة في القاضيوالحَكَم إلى المفتي والفقيه، أو حتى مجرد احتمال ذلك(2) فقد ورد في الرواية «الحُكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما»(3)، وقد ألغى الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه)(4) الخصوصية للقاضي وتعدى منه إذ اعتبر تلك المرجحات مرجحات في الروايتين المتعارضتين أيضاً، لكن في المقام تلزم تعديةٍ أخرى أيضاً وهي التعدية إلى الفتويين إذ استظهر أن الملاك كل الملاك هو الطريقية في الأفقه،

ص: 365


1- كما لو لم يتم دليل على استحباب الدعاء عند رؤية الهلال بعنوانه.
2- فإنه يكفي للاحتياط استحباباً.
3- الكافي: ج1 ص68.
4- انظر فرائد الأصول: ج4 ص75، حيث نسب التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غير المنصوصة لجمهور المجتهدين، بل قال (قدس سره): (بل ادعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين، بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة).

وإنه لا فرق فيها بين القاضي والراوي والمفتي.

لكن العديد من الأعاظم، كالسيد الوالد والسيد الخوئي .، لم يقبلوا هذا التعدي لأنه قياس، وأن ملاكات الأحكام والترجيح الشارعية ليست محرزة لدينا والمحرز كونها حِكمة لا عِلّة.

الثاني: التعدي عن مورد الرواية، وهو الطرف الثالث المخاطَب بالترجيح بين القاضيين - حيث إن مورد الرواية هو وجود ثلاثة أطراف، أحدها سائل يستفتي في مسألة قضائية، يسأل عن تعارض حكمين وحاكمين - إلى الفقيه نفسه الذي يلاحظ بأن هناك فتوى للأفقه منه على خلاف ما أفتى به.

الثالث: إن الترجيح بهذه المرجحات مولوي للوجوب، وليس صِرف إرشاد، بل حتى لو قيل بأنه مولوي للاستحباب (كما قال به الآخوند) فإنه يكفي ليحتاط غير الأفقه احتياطاً نظراً لقول الأفقه، بل حتى لو قيل بأنه إرشاد على وجه، فتدبر.

ثم إن بعض الأعلام(1) قد جعل من وجوه احتياط الفقيه استحبابياً، الخروج عن خلاف من خالفه، ولكن الظاهر أن هذا الكلامغير تام وإن استند إلى كلام الجواهر؛ لأن الفقيه لو استظهر بحسب الأدلة أن جلسة الاستراحة مثلاً ليست واجبة ولا مستحبة فرضاً، لكنه رأى أن غيره قد خالفه، فهذا بمجرده لا يسوغ الاحتياط الاستحبابي إلا ببعض المزايا المتقدمة في الرواية، وبناءً على التعدي(2)، لأن صرف وجود مخالف من غير أن يكون ذا مزية لا يصحح له الاحتياط الاستحبابي.

ص: 366


1- ربما يكون المقصود هو صاحب (بيان الفقه) (دام ظله) بناء على إطلاق كلامه: (بل لمجرد الخروج عن خلاف من أفتى بالإلزام)، انظر بيان الفقه: ج4 ص408.
2- وإن قال بعضهم: نعم يسوغ له.

وليس الاستشهاد بكلام صاحب الجواهر (رحمه اللّه) تاماً أيضاً، لأن كلام الجواهر في الخروج عن مخالفة المشهور بل ما لعله الإجماع لا أنه احتاط مطلقاً لمجرد وجود رأي مخالف لرأيه.

وقال في الجواهر: (أجمع الأصحاب إلا نادراً على عدم وجوب غسله(1)، وظاهرهم أنه لا تناله الإصبعان، وفي الدروس وجامع المقاصد وعن الذكرى: إن غسله أحوط، ولعله خروجاً عن شبهة الخلاف، فيكون لذلك مستحباً)(2) والظاهر أن المراد (الخلاف للمجمع عليه بين الأصحاب إلا النادر منهم).

والحاصل: إن صرف الخروج عن خلاف أحد الفقهاء بلا مرجح خاص فيه، لا وجه له.

الثمرة من كون الاستحباب شرعياً أو عقلياً

المطلب الخامس: وأما الثمرة في كون الاحتياط الاستحبابي عقلياً أو شرعياً فربما يقال بأنها ثمرات عديدة:

الثمرة الأولى: إن الاحتياط لو كان شرعياً فإنه سيرجع فيه إلى الفقيه بما هو فقيه ويستند إليه ويقلده دينه، وأما لو كان عقلياً فلا يقلده في هذه المسألة، ولا يكون ذلك الفقيه مسؤولاً عنه شرعاً، بل هو مجرد مرشد إلى حكم العقل، فإن استقل عقل المقلد بهذه المسألة(3) احتاط، وإلا فلا، نعم له أن يرجع إليه بما هو أهل خبرة، لكنالاستثناء والتفصيل مبني على كونهما عنوانين(4) لا كبرى وصغرى، فتأمل.

ص: 367


1- أي الصدغ.
2- جواهر الكلام: ج2 ص145.
3- ولو باستقلاله بصحة الرجوع إلى أهل الخبرة.
4- الرجوع للمجتهد والرجوع إلى أهل الخبرة.

الثمرة الثانية: استحقاق الثواب وعدمه(1).

الثمرة الثالثة: صحة الإتيان بالمشكوك كونه عبادة أو كونه جزءاً للصلاة بعنوان العبادية وكونه جزءاً لها وعدمها(2)، فإذا قلنا بأن الاحتياط الاستحبابي شرعي جاز أن يأتي مثلاً بالشهادة الثالثة في التشهد، وأن يقول: (وأن علياً نعم الولي)(3) بعد الشهادتين؛ لمجرد الاستناد إلى رواية يراها ضعيفة بنظره اما المشهور ارتأوا عدم الجواز وارتأى السيد العم الجواز استناداً إلى رواية جامع أحاديث الشيعة عن مصباح الشيخ بسند معتبر، طريقةً للتشهد مفصلة تتضمن (وأن علياً نعم الولي)، وإلا فلا.

توضيحه: إننا لو قلنا: بأن الاحتياط الاستحبابي شرعي، لأن الفقيه رأى أن قاعدة التسامح في أدلة السنن تشمل الرواية الضعيفة، وإن قاعدة التسامح تفيد الاستحباب الواقعي ببركة عنوان طارئ وهو البلوغ لا مجرد الثواب، فيجوز للفقيه أن يفتي بصحة وجواز واستحباب الشهادة الثالثة في التشهد ونظائرها حتى لو لم يجد إلا رواية ضعيفة فرضاً ولم يكن له دليل آخر(4).

لكن لو قلنا: إن الاستحباب عقلي فلا يصح ذلك، لأن الاحتياط العقلي يستند إلى احتمال أن يكون هذا جزءاً من الصلاة، فيأتي به لإحراز ذلك الواقع، لكن حيث إن العبادات توقيفية فلا تجوز إضافة أي جزء بدون دليل شرعي، ولا

ص: 368


1- أي استحقاق الثواب على امتثال الاحتياط الشرعي وعدم استحقاقه على امتثال الاحتياط العقلي.
2- أي عدم صحة الإتيان به بعنوان العبادية، لأنه مشكوك، فيكون الإتيان به والحالة هذه تشريعاً محرماً.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج5 ص331.
4- على مناقشة في ذلك، والرد والأخذ توكل لمظانها، ويراجع كتاب (الشهادة الثالثة في التشهد).

دليل شرعي في المقام، اللّهم إلا أنيأتي بها برجاء المطلوبية المطلقة لا بعنوان الجزئية أو بعنوان الذكر(1) أو الدعاء، فتأمل.

والحاصل: إن الفرق هو أنه يصح أن تسند للشارع وتقول: إن هذا المحتمل عباديته بعنوانه أو بوجه عام(2) - على القول بأن الاحتياط الاستحبابي هو شرعي - عبادة لقاعدة التسامح وغيرها، وأما على القول بأنه عقلي فلا يجوز الإسناد، وإذا أسند فهو تشريع محرم(3).

فروع ومسائل

وعلى ضوء ما تقدم تتفرع بعض المسائل أو يتضح وجهها.

حرمة العدول في الاحتياط الاستحبابي

المسألة الأولى: لا يجوز العدول في الاحتياط الاستحبابي إلى المفضول مع مخالفة فتواه لفتوى الأعلم المحتاط (إلا إذا طابقه الاحتياط)(4).

بعبارة أخرى: الاحتياط المذكور في الرسائل العملية وغيرها إذا كان

ص: 369


1- لأن ذكرهم ذكر اللّه، وأن ذكرهم عبادة، لأنهم كما ورد: «السَّلَامُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ وَالْأَدِلَّاءِ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ» (من لا يحضره الفقيه: ج2 ص609) و«أَنَّكَ وَجْهُ اللَّهِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ» (من لا يحضره الفقيه: ج2ص589) و«مَنْ أَرَادَ اللَّهَ بَدَأَ بِكُمْ وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ» (من لا يحضره الفقيه ج2 ص615).
2- كالدعاء عند رؤية الهلال، أو الشهادة الثالثة في التشهد.
3- وقد ذكر الشيخ (رحمه اللّه) في بيان ثمرة دلالة أخبار (من بلغ) على الاستحباب الشرعي وعدمه ثمرتين، إحداهما: جواز المسح ببلة المسترسل من اللحية، لو دل على استحباب غسله في الوضوء خبر ضعيف بناء على ثبوت الاستحباب الشرعي بالخبر الضعيف، وعدم جواز المسح بها بناء على عدم ثبوته، لعدم إحراز كونه من أجزاء الوضوء حينئذ.
4- سياتي الكلام عن هذا الاستثناء.

استحبابياً(1) لا يجوز للمكلف أن يرجع فيه إلى المفضول، لفرض وجود حجة لدى المكلف على الخلاف وهي فتوى الأعلم.ثم لأن الفرض أن فتوى الأعلم مانعة عن الرجوع والعدول للغير، وليست المانعية نظراً لقول الأعلم بعدم جواز الرجوع للمفضول، وإلا لزم الدور(2)، بل لاستقلال عقل المكلف (على فرضه) أو بناء العقلاء (على فرضه) على أنه مع وجود الأعلم وفتواه لا يصح الرجوع للمفضول.

وعلى هذا، فإذا قال الأعلم بحرمة الرجوع، لكن المكلف استقل عقله أو اعتمد على بناء العقلاء بجواز الرجوع للمفضول، وأن الرجوع للأعلم راجح لكن لا إلى حد المنع من النقيض، فإذا عمل برأي المفضول كان معذوراً، لأن أصل مسألة جواز العمل بالاجتهاد والتقليد والاحتياط مسألة عقلية كما سبق.

خلاصة المسالة: إن سبب عدم جواز الرجوع للغير، هو وجود الفتوى من الأعلم، وفتواه مانعة عن الرجوع لغيره لبناء العقلاء لو تم، ولكن مختارنا أنه لا يتم، بل نرى أن بناء العقلاء على التخيير بين الرجوع للأعلم أو غيره، وإن كان قول الأعلم ذا مزية، لكنها بحد الرجحان الندبي لا أكثر، وتفصيله في بابه إن شاء اللّه تعالى(3).

وعلى المختار فإنه يجوز الرجوع حتى إذا كان الاحتياط من الأعلم استحبابياً.

ص: 370


1- وهو المسبوق أو الملحوق بالفتوى.
2- اللّهم إلاّ إذا حصل للمكلف القطع من كلام الأعلم، فإن القطع حجيته ذاتية، حتى لو حصل من طيران الغراب وجريان الميزاب أو من كلام طفل صغير فرضاً، وكذا لو لم يستقل عقله بشيء ولكن رأى أن قول الأعلم هو القدر المتيقن من الحجة، بل لا يلزم الدور مطلقاً، فتدبر.
3- راجع كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول).

إذا تطابق فتوى المفضول مع احتياط الأعلم

ثم إن الأعلم إذا أفتى واحتاط، لكن المفضول أفتى بفتوى مطابقة لاحتياط الأعلم، فهل يجوز الرجوع لفتوى المفضول؟ فإنه قد سبق أن الأعلم حيث قد أفتى لا يجوز الرجوع للغير وإن كان قد احتاط استحبابياً، لكن الفرض هنا هو أن فتوى الغير في المسألة مطابقة لاحتياط الأعلم الاستحبابي، فهل يجوز الرجوع لهذه الفتوى؟ قد يقال: إنه سبق جواز الرجوع لاحتياط المفضول، لأنه محرز للواقع على أي تقدير، وأن المكلف مخير بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، والمقام صغرى تلك الكبرى، فإن المفضول أفتى بما يطابق احتياط الأعلم، كما لو أفتى الأعلم بكفاية تسبيحة واحدة في الركعتين الثالثة والرابعة، واحتاط استحباباً بالإتيان بالثلاث، وأفتى المفضول بوجوبها ثلاثاً، فلم لا يجوز الرجوع لهذه الفتوى؟

ولكن البعض ذهب إلى عدم جواز العمل بفتوى المفضول المخالفة لفتوى الأعلم(1)؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأول: حرمة العدول إلى غير الأعلم(2).

لا يقال: إنكم التزمتم بأن المكلف مخير بينهما في صورتين:

الأولى: فيما احتاط الأعلم وجوبياً، فإنه يجوز للمكلف العمل بفتوى المفضول.

الثانية: وفيما أفتى الأعلم، فإنه يجوز العمل باحتياط المفضول.

وكلاهما صغرى لكبرى يجري فيها التخيير، وهي دوران الأمر بين العمل

ص: 371


1- أي على رغم مطابقتها لاحتياط الأعلم.
2- بناءً على وجوب تقليد الأعلم.

بالفتوى والعمل بالاحتياط.

والملاك نفسه موجود في المقام، إذ إن الأعلم أفتى واحتاط استحبابياً، والمفضول أفتى بفتوى مطابقة للاحتياط.

إذ يقال: إن التمسك بالاحتياط جائز للتخيير العقلي، لكن التمسك بالفتوى والاستناد إليها لا يجوز، لأن التمسك بها عدول عنفتوى الأعلم، والفرق بين الأمرين جليّ.

الوجه الثاني: استلزام ذلك للتشريع المحرم، فإن المكلف لو أتى بالتسبيحات الأربع ثلاث مرات مستنداً لفتوى المفضول فهو تشريع محرم، لأن فتوى الأعلم في حقه حجة دون فتوى المفضول، وحيث إن الأعلم قال بتسبيحة واحدة لا الثلاث، كيف يعمل المقلد بفتوى المفضول الذي لا يجوز له العمل بفتواه، وكيف يتأتى منه قصد القربة وينوى الوجوب فيما لا حجة على وجوبه؟

والحاصل: إنه ينبغي التفريق بين أمرين وإن بديا متلازمين، وهما فتوى المفضول ومطابقة احتياط الأعلم فإنه لا يجوز التمسك بالفتوى وإن جاز التمسك بالاحتياط المطابق لها، وذلك نظير ما لو تطابق مضمون خبرين، أحدهما لثقة والأخرى لفاسق، فإنه لا يصح التمسك بخبر الفاسق والاستناد إليه وإن كان مطابقاً لخبر الثقة.

الجواب عن الإشكال الأول

والجواب: إن العدول ليس محرماً بعنوانه، بل لوجود ملاك غير موجود في المقام، ولعل الذي أوجب اللبس هو تصور أن حرمة العدول إنما هو لعنوانه، مع أنه بعنوانه لم يرد في آية أو رواية، وإنما ملاك العدول المحرم هو أن تعدل إلى غير

ص: 372

الأعلم(1) بلا حجة، وأما لو كانت هناك حجة فلا إشكال بلا إشكال(2).

والحاصل: إن عدم جواز العدول إلى المفضول إنما هو: لأنه لا يجوز العدول من الحجة إلى اللا حجة، فإذا كان قول المفضول حجة جاز العدول، ووجه حجيته مطابقته لاحتياط الأعلم، حيث إن المفضول وإن لم تكن فتواه حجة فرضاً لمخالفتها لفتوى الأعلم لكنها اعتضدت بالمطابقة لاحتياط الأعلم فهي حجة ومبرئة للذمة عقلاً،فتأمل(3).

وببيان آخر: إن دليل تعيّن تقليد الأعلم لدى المعارضة هو بناء العقلاء، وهو دليل لبي لا إطلاق له، لذا يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو تعين تقليد الأعلم لو لم تطابق فتوى المفضول احتياط الأعلم، وأما لو طابقت فتوى المفضول احتياط الأعلم فحيث إن بناء العقلاء لبيّ فلا يكون له إطلاق ليشمله، فليتأمل(4).

الجواب عن الإشكال الثاني

وأما الجواب عن شبهة حرمة التشريع، فهو بما ذهب إليه بعض الأعلام من التفصيل: بأنه لو كان رأي المفضول في العبادات فالاستناد إليه(5)

يكون تشريعاً محرماً، وأما لو كان في المعاملات بالمعنى الأعم فلا يكون تشريعاً محرماً، والحاصل إن هذا الإشكال خاص بالعبادات(6)، وأما في غيرها فإن الاستناد

ص: 373


1- بناءً على وجوب تقليد الأعلم.
2- وذلك كما أرجع الأئمة (عليهم السلام) إلى الرواة في زمان حياتهم (عليهم السلام) مطلقاً، رغم عدم العسر على السائل في الوصول إليهم (عليهم السلام) في الكثير من الأحايين.
3- إذ قد يجاب: بعود ذلك للاستناد للاحتياط، لا لقول المفضول، فتأمل.
4- إذ يمكن قلب الإشكال على هذه الدعوى، فتدبر.
5- أي إلى فتوى المفضول.
6- ولكن ليس على إطلاقه، وسيأتي: إن ذلك خاص بما لو أسنده للمولى بعنوان الصدور.

لفتوى المفضول ليس تشريعاً كما في محرمية الرضعات الخمسة عشر، فلو أن الأعلم رأى محرمية خمسة عشر رضعة واحتاط بالعشرة، والمفضول رأى محرمية العشرة؛ فهنا لو تمسك المكلف بفتوى المفضول واستند إليه، فلا يلزم التشريع المحرم، لأنه ليس بعبادة، فتأمل(1).

بل ينبغي التفصيل في العبادات أيضاً بأن حرمة التشريع خاص بما لو أسنده للمولى بعنوان الصدور، كما لو أتى بجلسة الاستراحة لوجوبها استناداً لقول المفضول وهو غير حجة شرعاً، فهذا هو التشريع المحرم، لعدم الاستناد فيه إلى الحجة، وأما لو نوى الإتيان بجلسة الاستراحة لاحتمال وجوبها بقول المفضول أو برجاء المطلوبية لما كان فيه إشكال.

التفريق بين عدم قصد القربة والتشريع

ولكن الظاهر عدم صحة التفصيل بين العبادات والمعاملات، وذلك لحصول الخلط بين حرمة التشريع وبين وجوب قصد القربة؛ فالتفصيل يجري في الثاني دون الأول.

وتوضيحه: إن قصد القربة إنما يجب في العبادات ولا يجب في المعاملات، ولم يكن الإشكال من حيث افتقاد (قصد القربة) إذا استند إلى فتوى المفضول ليقال باختصاصه بالعبادات، وإنما كان من جهة (حرمة التشريع) بلحاظ عدم كون فتوى المفضول حجة، فكيف يُستند إليه؟ وكيف يسند إلى الشارع ما أفتى به المفضول مع عدم حجية فتواه بالمعارضة للأعلم، فهذا تشريع محرم، سواء أكان في العبادات أم في المعاملات.

والحاصل: إن التشريع محرم مطلقاً، سواء أكان في العبادات أم في المعاملات،

ص: 374


1- سيأتي وجهه وان حرمة التشريع غير خاصة بالعبادات.

وتوضيح ذلك يتوقف على تعريف التشريع بإيجاز، ووجه حرمته، وبعد ذلك يتبين أن التعريف ينطبق على كلا الأمرين، وأن الأدلة عامة للعبادات والمعاملات.

التشريع المحرم

التشريع هو إسناد ما لم يعلم أنه من الشارع إلى الشارع(1)، سواء أشك هذا المسند، أم ظن بالخلاف، أم ظن بالوفاق ظناً غير معتبر، فضلاً فيما لو علم بالخلاف.وبعبارة أخرى: إن صور التشريع المحرم أربعة، وهي:

1: أن يسند إلى الشارع أمراً مع علمه بعدم صدوره منه.

2: أن يسند إليه مع شكه بالصدور.

3: أن يسند إليه مع ظنه ظناً غير معتبر بالصدور.

4: أن يسند إليه مع ظنه ظناً شخصياً بعدم الصدور.

وكلها تشريع محرم.

ولا فرق بين أن يكون ما أسنده للشارع في علم اللّه وعالم الثبوت ومتن الواقع مخالفاً أو لا، وذلك لأن حرمة التشريع إثباتية وليست ثبوتية، أي إنه لو أسند للشارع حكماً وهو لا يعلم كونه منه، وكان كما أسنده ثبوتاً من غير أن

ص: 375


1- وقريب من هذا التعريف ذكره جماعة من الأعلام، منهم صاحب الفصول (رحمه اللّه) في فصوله، قال: (التشريع عبارة عن إدخال ما علم خروجه من الدين فيه) (الفصول: ص227)، لكن هذا أخص من التشريع المحرم، والسيد الخوئي (رحمه اللّه) في التنقيح، قال: (فإن التشريع عبارة عن إسناد شيء لا يعلم به إلى الشارع) (التنقيح: ج17 ص63)، وعرفه المحقق الرشتي (رحمه اللّه) في بدائع الأفكار، بقوله: (التشريع عبارة عن الالتزام بما لم يقم عليه طريق شرعي أو عرفي فالذي قام عليه طريق عقلائي لا يعدّ الالتزام به تشريعاً لا في العرف ولا في الشرع) (بدائع الأفكار: ص110).

يعلم صحة الإسناد فهو تشريع محرم أيضاً، وذلك هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (رحمه اللّه) وهو القول المختار أيضاً.

وهناك قول آخر ارتأى أن التشريع: هو إسناد ما لم يعلم أنه من الشارع إليه ولم يكن كذلك واقعاً، فإن طابق الواقع فليس تشريعاً، نعم هو تجرّ، وإن خالف فهو تشريع محرم.

لكن هذا الرأي غير تام، ويظهر ذلك بملاحظة أدلة حرمة التشريع على ما سيأتي.

وعليه: فإن التشريع المحرم وهو: (إسناد ما لم يعلم أنه من الشارع إلى الشارع)؛ كما ينطبق على العبادات فهو ينطبق على المعاملات أيضاً، فإذا كانت فتوى المفضول محرمية العشر رضعات وهي مسألة غير عبادية، وقلنا بأن فتوى المفضول ليست بحجة، ومع ذلك اسندناها إلى الشارع اعتماداً على قوله فهو تشريع محرم.

الفرق بين التشريع والبدعة

ولا بد قبل ذكر أدلة حرمة التشريع من الإشارة إلى الفرق بينه وبين البدعة:

فالبدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين، وأما التشريع فقد تقدم تعريفه، والفرق بينهما هو الفرق بين الإثبات والثبوت، لأنالمراد بحرمة التشريع هو حرمة الإسناد، فالحديث يدور في عالم الإثبات، وأن الإسناد حينئذ إلى الشارع محل إشكال، كما أن التشريع أعم لأنه (إسناد ما لم يعلم...)، أما البدعة فأخص لأنها (إدخال ما ليس...).

والحاصل: إن البدعة هي إدخال ما ليس في الدين في الدين، سواء أسندت

ص: 376

أم لم تسند، وهذا هو الفرق المفهومي بينهما، وأما الفرق من حيث النسب الأربعة، فهناك كلام، فهل هو عموم مطلق كما سبق، أو من وجه، أو التساوي؟ فليتدبر.

الدليل على حرمة التشريع بقول مطلق

وأما الدليل على حرمة التشريع بقول مطلق فهو بإيجاز شديد(1):

أما نقلاً: فقوله تعالى: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)(2)، فظاهر الآية منفصلة حقيقية، فإذا لم يكن إذن من اللّه بالإسناد إليه فهو افتراء على اللّه، فالاستدلال بالآية واضح.

وهناك آيات أخرى يمكن الإستناد إليها ليس هنا محل تفصيلها.

وأما عقلاً: فيدل عليه أمور:

الأول: إن التشريع ظلم بحق المولى(3).

الثاني: إنه ظلم بحق العباد(4).

الثالث: إنه يستلزم الهرج والمرج التشريعي والقانوني، إذ يسند كل أحد ما شاء إلى الشارع، لكن هذا اخص من المدعى.

ص: 377


1- ولا يخفى أن ما ذكره (دام ظله) من الأدلة ليس للحصر بل للإيجاز، وإلا فقد دل على حرمة التشريع الأدلة الأربعة، وقد فصلها الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في فرائد الأصول: ج1 ص125، على أنه (دام ظله) قد أشار إلى هذه الأدلة الأربعة ضمن كلامه، فلاحظ.
2- سورة يونس: 59.
3- لأن الظلم عدم إعطاء ذي الحق حقه ولا تشترط فيه حاجته إليه، أو وضع الشيء في غير موضعه، عكس العدل؛ وإسناد الحكم للشارع من غير إذنه تعدّ على حقه، فهو كالشرك باللّه (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
4- لأن اسناد ما لم يعلم أنه من الشارع إلى الشارع يستلزم الكثير من وجوه الفساد، ومنها أنه يفتح الباب لكل من هب ودب ليشِّرع كما يشاء.

إضافة إلى إنه كذب، بل هو أقبح أنواعه، لكونه كذباً على اللّه تعالى.

بالإضافة إلى وجود وجوه فساد أخرى تترك لمحالها.

والحاصل: إن ذلك التفصيل لا وجه له، بل إن التشريع محرم مطلقاً، وعلى ذلك فتوى أعاظم الفقهاء، بل المسألة إجماعية مع قطع النظر عن الخلاف في المطابقة واللا مطابقة والذي لا يرتبط بهذا التفصيل.

هذا وقد يستند إلى وجه آخر لعدم صحة الاستناد إلى فتوى المفضول وإن طابقت احتياط الأعلم وهو:

إنه لو كانت هناك (حجة) طابقتها (لاحجة)، فإن استناد المكلف للاحجة لو عاد لُباً لاستناده للحجة لكان معذوراً بحكم العقل، لكون ذلك اتباعاً للحجة حقيقةً، وأما لو لم يعد إليه لما كان معذوراً لو خالف ذلك الرأي الواقع(1)، وذلك كما لو أن الثقة أخبره بخبر وطابق خبره خبر الفاسق ولم يطابق الواقع، فان الاستناد لخبر الفاسق ليس مبرئاً للذمة، ولا استنادَ لخبر العادل، ولا مطابقة للواقع فما وجه الاجزاء؟

والأولى: أن يقال: إنه إذا كان هذا المكلف أو السامع للخبر ملتفتاً إلى المطابقة، وكان بحيث عاد تقليده لبّاً إلى الأعلم أو عاد اعتماده لبّا إلى خبر الثقة لكان ذلك خروجاً عن موضوع البحث، ولم يكن ذلك عدولاً إلى ذاك الفاسق؛ بل هو عمل بقول الثقة وتقليد للأعلم.

ولكنه لو لم يعد لبّاً إلى ذلك، ومنه ما لو لاحظ المقلد أو السامع خبر هذا الفاسق أو المفضول بشرط لا مثلاً واتبعه بعنوانه لا غير، فلو لم يطابق حكمه الواقع، فلا وجه لكونه معذوراً.

ص: 378


1- وإلا كان متجرياً.

لذا تختص المعذروية بالحجج التي أمضاها الشارع إذا لمتطابق الواقع.

وفي المقام: إن التمسك بالاحتياط مبرئ للذمة، لأن الاحتياط قسيم للاجتهاد والتقليد عقلاً، ولكن فتوى المفضول المطابقة للاحتياط لو استند إليها بما هي هي لكان غير معذور لو خالفت هذه الفتوى الواقع، فتأمل.

ص: 379

الاحتياط الوجوبي

مر البحث عن الشق الأول في المسألة الرابعة والستين من العروة الوثقى وهو الاحتياط الاستحبابي، وأما الشق الثاني فهو الاحتياط الوجوبي.

قال (رحمه اللّه): (الاحتياط المذكور في الرسالة إما استحبابي وهو ما إذا كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى، وإما وجوبي، وهو ما لم يكن معه فتوى، ويسمى بالاحتياط المطلق، وفيه يتخير المقلد بين العمل به والرجوع إلى مجتهد آخر)(1).

الاحتياط الوجوبي هو الاحتياط المجرد غير المسبوق أو الملحوق بالفتوى، فإذا احتاط الأعلم بهذا الاحتياط تخير المكلف بين العمل به وبين الرجوع لفتوى المفضول(2).

وههنا مباحث:

المبحث الأول: هل الوجوب شرعي أم عقلي؟

هل الوجوب في (الاحتياط الوجوبي) شرعي، الذي هو أحد الأحكام التكليفية الخمسة المجعولة والمعتبرة من قبل الشارع، بحيث لو لم يجعله الشارع لم

ص: 380


1- العروة الوثقى: ج1ص54، وتمام المسألة: وإما وجوبي وهو ما لم يكن معه فتوى، ويسمى بالاحتياط المطلق، وفيه يتخير المقلد بين العمل به والرجوع إلى مجتهد آخر.
2- والوجه في ذلك ما ذكره الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) بقوله: (والوجه في ذلك أنّ الاحتياط المذكور حكم لعمل العاميّ في المسألة التي يحتمل فيها التكليف الواقعي، وحيث إنّ المسألة قبل الفحص بالإضافة إلى العامي فيكون التكليف الواقعي على تقديره منجّزاً بالإضافة إليه، فيكون الاحتياط لرعاية تنجّز التكليف على تقديره، وحيث إنّ الأعلم لم يفت في المسألة فتكون فتوى غيره معتبرة في المسألة بالإضافة إلى العاميّ؛ لأنّ الموجب لسقوط فتواه عن الاعتبار فتوى الأعلم، والمفروض أنّ الأعلم لم يفت في المسألة)، دروس في مسائل علم الأصول: ج6 ص415، وقد سبق من السيد الأستاذ (دام ظله) نقل كلامه مع مناقشته.

يتحقق، أم هو وجوب عقلي(1)؟قال السيد الوالد (رحمه اللّه) (والمراد بالوجوبي هو اللازم فعله، لا أحد الأحكام الخمسة أيضاً، فإذا قال الفقيه: يجب الاجتنباب عن الإنائين المشتبهين لا يريد بذلك أنه واجب كوجوب الصلاة مثلاً، بل يريد الإلزام الأعم من الشرعي، وإن كان منشأ الإلزام شرعياً لوجوب أحد الأمرين واقعاً، أو لوجوب ذي المقدمة الذي هذا مقدمته أو ما أشبه ذلك)(2).

ولكنه لم يذكر له دليلاً، فينبغي أولاً ملاحظة ما يمكن أن يكون دليلاً له، ثم ملاحظ هل أنه تام أم لا.

وجوه الاستدلال لكون الوجوب عقلياً

ويمكن أن يستدل لكون وجوب الاحتياط عقلياً بعدة وجوه، وبعض تلك الوجوه تنفع لا لمجرد إثبات الوجوب عقلي أو شرعي، بل تنفع كذلك في بيان الوجوه التي تلجئ الفقيه إلى الاحتياط الوجوبي، إضافة إلى ما سبق لأن الفقيه قد يفتي بالاحتياط الوجوبي لبعض تلك الوجوه فإن لم يتم شيء منها فإنه سيذهب إلى الاحتياط الاستحبابي، فكون هذا الاحتياط وجوبياً أو ندبياً يتبع مبناه في تلك المسائل الأصولية التي نشير إلى عناوينها في هذا البحث وقد مضى الكلام عن ذلك وههنا مزيد فلاحظ.

الوجه الأول: أمر الاحتياط في رتبة المعاليل، فالوجوب عقلي

الوجه الأول: أمر الاحتياط في رتبة المعاليل(3)، فالوجوب عقلي

الوجه الأول: أن يكون المستند هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (رحمه اللّه) في

ص: 381


1- غير مجعول من الشارع، ويراد به اللزوم، سواء جعله الشارع أم لم يجعله.
2- موسوعة الفقه - الاجتهاد والتقليد -: ج1 ص434 -435.
3- أي معاليل الأحكام الشرعية.

مقياس الأوامر المولوية والإرشادية من أن الأمر الصادر من الشارع إذا تعلق بما هو في رتبة علل الأحكام وملاكاتها فهو أمر مولوي، وأما إذا تعلق بما هو في مرتبة معاليلها كأمرالإطاعة فهو حكم إرشادي.

وبعبارة أخرى: (توضيحه: إن الحكم العقلي إن كان في مرتبة علل الأحكام وملاكاتها، فيستتبع الحكم المولوي، وإن كان في مرحلة الامتثال المترتب على ثبوت الحكم الشرعي كحكمه بلزوم الإطاعة فلا يستتبع الحكم المولوي بل يكون الأمر في هذا المقام إرشادياً، والأمر بالاحتياط من هذا القبيل)(1).

وفي المقام نقول: إن الاحتياط الوجوبي هو من القبيل الأول(2)؛ لأن الأمر به أمر بحكم عقلي واقع في سلسلة معاليل الحكم الشرعي، فهو أمر إرشادي، واللزوم لزوم عقلي وليس وجوباً شرعياً.

توضيح ذلك: إن الشارع عندما يأمر بالصلاة بقوله: (أقم الصلاة) فإنه يتفرع على هذا الأمر حكم بل أحكام، كوجوب الإطاعة، إذ لو لم يكن الأمر بإقامة الصلاة في رتبة سابقة لكان الأمر بالإطاعة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي لم يكن له موضوع؛ فهو متأخر عنه رتبة وفي طوله، إذ الأمر الشرعي محقق لموضوعه(3).

وأمر الاحتياط من هذا القبيل، حيث إن الاحتياط شُرّع لأجل التحفظ على أوامر المولى الصادرة من قبل، فهو متأخر رتبة عنها ومعلول لها(4)، إذ لو لم يكن أمر من المولى بالصلاة إلى القبلة لما كان موضوعٌ للأمر بالاحتياط بالصلاة إلى

ص: 382


1- مصباح الأصول: ج2 ص316 - 317.
2- وهو الواقع في سلسلة المعلولات.
3- أي لموضوع (اطع) إذ هو (اطع أمر الشارع بالصلاة) أي أمر الشارع بالصلاة تجب إطاعته.
4- أي في رتبة المعلول.

جهتين أو إلى أربع جهات، فالأمر بالصلاة محقق لموضوع الاحتياط وبدونه لا يعقل الأمر بالاحتياط، إذ يحتاط على ماذا ولا يوجد أمر؟ وكما أن أمر الشارع بالاحتياط هو في رتبة معاليل الأحكام الشرعية فكذلك احتياط الفقيه وجوباً.

وفي المقابل فإن الأمر الشرعي يتعلق بما هو في رتبة العلل، فلو تعلق الأمر الشرعي بما هو في رتبة علل أحكامه لأمكن أن يكون مولوياً، وليس بالضرورة أن يكون مولوياً، إذ لعل الشارع كان في مقام النصح مرشداً لحكم العقل.

وفي المثال السابق في الصلاة لو تعلق الأمر بالانتهاء عن الفحشاء ك(انتهِ عن الفحشاء) و(تقرب إلى اللّه) أو بالموضوع نفسه كالصلاة قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)(1)، (وَأَقِمْ الصَّلاةَ)(2) «الصلاة قربان كل تقي»(3)، فالأمر يمكن أن يكون إرشادياً للمصالح الواقعية الثبوتية الملزمة هي في رتبة علل الأحكام. وكذلك المفاسد الثبوتية الملزمة فهي في رتبة علل التحريم الشرعي، كما يمكن أن يكون مولوياً، لكن الأصل في الصادر من الشارع بما هو شارع إذا أمكن فيه الأمران هو المولوية على ما فصلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).

والحاصل: إن هذا الكلام للميرزا النائيني (رحمه اللّه) يصلح أن يكون وجهاً يستند إليه لتعليل ما التزم به السيد الوالد (رحمه اللّه) وإن كان (رحمه اللّه) لا يقبل هذا المبنى.

بل إن بعض الأعلام ذهب إلى أنه لا يعقل أن يراد به الوجوب الشرعي في ما لو تعلق الأمر الصادر من الشارع بما كان في رتبة معاليل أحكامه، وذلك لمحاذير عديدة فصّل البحث عنها في محلها(4)، لكن نشير إليها بإيجاز، وهي لزوم

ص: 383


1- سورة العنكبوت: 45.
2- سورة هود: 114.
3- الكافي: ج3 ص265.
4- راجع كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).

اللغوية أو تحصيل الحاصل، على البدل، إذا أريد بالأمر الشرعي التحريك نحو ما أمر بعلته في مرتبة سابقة، كأمر الإطاعة وأمر الاحتياط، بل لزوم الدور أو التسلسل في مثل أمر الإطاعة بل والأمر بالتوبة.

كما ذهب إليه السيد الحكيم (رحمه اللّه) في المستمسك عند كلامه عنالأمر بالتوبة(1).

والمحاذير الثلاثة الأخيرة يمكن أن تذكر كوجه للامتناع الذاتي(2)، أما الأول فهو وجه للامتناع الوقوعي، لأن اللغو خلاف الحكمة، وهو ليس بممتنع ذاتاً لكنه ممتنع وقوعاً.

وعلى أي فإن الأمر بالاحتياط من هذا القبيل، فإذا أمر الشارع به أو احتاط الفقيه وجوباً فإن الباعث والمحرك للمكلف كي يمتثل ويطبق عمله على ذلك الاحتياط هو العقل، ولا يمكن أن يكون الشرع(3) أو الفقيه(4) هو الباعث والمحرك. لأنه طلب للحاصل أو لغو، لأن العقل إن كان محركاً كان أمر الشارع أو الفقيه لغواً وطلب للحاصل، وإن لم يكن محركاً كان لغواً إذ ما لا يحركه العقل لا يحركه الفقيه.

المناقشة: الأمر بالمعلول قد يكون مولوياً

المناقشة: الأمر بالمعلول(5) قد يكون مولوياً

ولكن هذا الوجه مناقش فيه، بما أشرنا إليه سابقاً(6) من ملاك المولوية،

ص: 384


1- قال (رحمه اللّه) في مستمسك العروة الوثقى: (أما الآيات الشريفة المذكورة: فالظاهر منها الوجوب الإرشادي... وأما النصوص وبعضها وإن تضمن الأمر بها، إلا أنه يتعين حمله على الإرشادي أيضاً إلى حكم العقل، إذ لو بني على الوجوب المولوي يلزم أن يكون تركها معصية أخرى، فتجب التوبة عنها، فيكون تركها معصية ثالثة، وهكذا) مستمسك العروة الوثقى: ج4 ص3.
2- وهي التسلسل والدور وتحصيل الحاصل.
3- إذ أمر بالاحتياط.
4- إذا احتاط وجوباً.
5- أي بما هو في رتبة معاليل الأحكام الشرعية.
6- وكما جرى تفصيله في كتاب: (الأوامر المولوية والإرشادية).

فملاك الأمر المولوي والنهي المولوي هو ما صدر من المولى بما هو مولى مُعملاً مقام مولويته، ولا فرق في ذلك بين ما كان المتعلق واقعاً في سلسلة المعاليل للحكم الشرعي، أم كان واقعاً في سلسلة العلل.

وقد فصلنا هناك الوجه في ذلك، وأن هذه المحاذير الأربعة لا تلزم حتى في مثل أمر الإطاعة فراجع.

والحاصل: إنه لو كان المستند هذا الوجه فإنه مناقش فيه مبنائياً، فعلى هذا فإن الأمر بالاحتياط يمكن أن يكون أمراً مولوياً،فقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)(1) بناءً على إفادته الوجوب وقوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)، يمكن أن يلتزم بأنه أمر مولوي رغم كون الفتوى والاحتياط في رتبة معاليل الأحكام الشرعية، وذلك لكونه صادراً من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته، وكذا الحال في احتياط الفقيه الوجوبي بناء على كونه منشأ لا مخبراً فقط. فتأمل.

ثم إنه قد أجبنا عن إشكال اللغوية وطلب الحاصل في كتابي (فقه التعاون) و(الأوامر المولوية والإرشادية) بأجوبة عديدة، منها: أن التحريك والتحرك حقائق تشكيكية ذات مراتب، كما قد تكون علتها مركبة، وأمر الشارع أو الفقيه بما حكم به العقل أو أدركه كثيراً ما يكون الجزء الأخير من العلة لتحرك العبد وإنقياده، فلا يكون أمر الشارع بما هو في رتبة المعلول (كالاحتياط والإطاعة) لغواً ولا تحصيلاً للحاصل بل مكملاً لباعثية العقل ومحركيته، وذاك مشهود بالوجدان إضافة إلى قائم البرهان.

وبعض الأعلام كالسيد الخوئي (رحمه اللّه) فصل في المقام بين مثل أوامر الإطاعة

ص: 385


1- سورة آل عمران: 102.
2- الأمالي - للطوسي -: ص110.

فاعتبرها إرشادية(1)، وبين مثل أمر الاحتياط فاعتبره مولوياً.

وذلك لأنه (رحمه اللّه) ذهب تبعاً لجمع من الأعلام، إلى أن الضابط في المولوي هو ما كان بداعي البعث والتحريك، كما أن النهي المولوي هو ما كان بداعي الزجر والحيلولة، وأمر الاحتياط تحرِّك فهو مولوي. قال (رحمه اللّه) في مصباح الأصول تعقيباً على كلام الميرزا النائيني (رحمه اللّه): (أقول أما ما ذكره ثانياً من إمكان أن يكون الأمر بالاحتياط مولوياً بملاكحصول التقوى وحصول القوة النفسانية فمتين جداً. وأما ما أفاده أولاً من كون الأمر بالاحتياط إرشادياً لكونه واقعاً في سلسلة معلول الحكم، ففيه إن مجرد ورود الأمر في مرحلة معلولات الأحكام لا يستلزم الإرشادية، فلا يجوز رفع اليد عن ظهور اللفظ في المولوية، ولا يقاس المقام بالأمر بالطاعة؛ لأن الأمر بالطاعة يستحيل فيه المولوية، ولو لم نقل باستحالة التسلسل، لأن مجرد الأمر المولوي ولو لم يكن متناهياً لا يكون محركاً للعبد ما لم يكن له إلزام من ناحية العقل فلابد من أن ينتهي الأمر المولوي في مقام المحركية نحو العمل إلى الالزام العقلي، فلا مناص من أن يكون الأمر الوارد في مورده إرشاداً إلى ذلك وهذا بخلاف الأمر بالاحتياط، فإن حسن الاحتياط وإن كان من المستقلات العقلية الواقعية في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية الواقعية، إلا أن العقل بما أنه لا يستقل بلزوم الاحتياط في كل مورد فلا مانع من أن يأمر به المولى مولوياً، حرصاً على إدراك الواقع لزوماً - كما يراه الأخباري - أو استحباباً كما نراه)(2).

ص: 386


1- قال (رحمه اللّه) في التنقيح: (إثبات أن الأمر بالإطاعة أمر مولوي وليس إرشاداً إلى ما استقل به العقل من وجوب طاعة المولى سبحانه، لأنه إذا كان إرشادياً لم يترتب عليه إلَّا ما كان يترتب على نفس الإتيان بالواجبات الشرعية في نفسها، فلابدّ من لحاظ أن الأمر بها هل يقتضي التعبدية حتى يكون طاعته بالإتيان بها متقرباً إلى اللّه سبحانه، أو أنه لا يقتضي التعبدية فلا يعتبر في إطاعته سوى الإتيان بها بذاتها) التنقيح: ج5 ص407.
2- مصباح الأصول: ج2 ص317 - 318.

وكلامه متين، لكن يرد على أخره، إن التزامه أمر الاحتياط المولوي على الاستحباب، ينقضه صدر كلامه إذ قال: (فإن حسن الاحتياط وإن كان من المستقلات العقلية الواقعية في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية الواقعية، إلا أن العقل بما أنه لا يستقل بلزوم الاحتياط في كل مورد فلا مانع من أن يأمر به المولى مولوياً، حرصاً على إدراك الواقع لزوماً - كما يراه الأخباري - أو استحباباً كما نراه) إذ علل صحة أمر المولى مولوياً بأن العقل لا يحكم بأكثر من الحسن فيحتاج إلى أمر المولى المولوي ليفيد الإلزام والوجوب، لكنه إذا التزم بأن أمر الاحتياط الشرعي هو مستحب فيكون لغواً لأن العقل حبّذه واستحسنه من قبل! اللّهم إلا أن يجاب بما سبق هنا من ثمرات الاستحباب الشرعي بعد الاستحسان العقلي، فتدبر جيداً.

الوجه الثاني: الاحتياط الوجوبي إما قبل الفحص أو بعده

الوجه الثاني: الاحتياط الوجوبي إما قبل الفحص أو بعده(1)

ويمكن أن يستدل بأن يقال: إن هذا الاحتياط الوجوبي الصادر من الفقيه إما أن يكون قد صدر منه قبل الفحص، وإما أن يكون قد صدر بعد الفحص، أي إنه احتاط لأنه لم يفحص، أو إنه فحص ولكنه احتاط لكون المورد مثلاً من موارد أطراف العلم الإجمالي، فهنا صورتان من الصور الأربعة المتقدمة:

الصورة الأولى: أن يكون احتياط الفقيه قبل الفحص؛ وهذا مما يستقل العقل بوجوبه، (أي وجوب الاحتياط فيه) لوضوح استقلال العقل بوجوب الاحتياط قبل الفحص في الشبهات الحكمية كما هو مسلم، ومجرى البراءة هو فحصه أو فحص من يقلده ممن جمع الشرائط، والفرض عدم تحققهما، وعليه: فهذا الاحتياط عقلي وليس شرعياً.

ص: 387


1- والاحتياط في كليهما واجب بحكم العقل.

الصورة الثانية: أن يكون الاحتياط بعد الفحص والعلم بأصل التكليف مع الشك في المتعلَّق، كما في موارد العلم الإجمالي، كالجمع بين القصر والإتمام؛ فهنا يستقل العقل بوجوبه، لأنه من موارد العلم الإجمالي، والعقل مستقل بمنجزية العلم الإجمالي، ويتفرع عليه لزوم الاحتياط.

إذن الأمر عاد إلى استقلال العقل بلزوم الاحتياط، وعليه فهذا الاحتياط سواء أكان من قبيل الأول أم من قبيل الثاني فإنه من المستقلات العقلية، والحكم به حكم عقلي بنحو اللزوم وليس وجوباً شرعياً مولوياً يثاب عليه إن التزم ويعاقب عليه إن عصى.

وستأتي مناقشة هذا الوجه وإن كان قد ظهر مما مضى لدى التدبر(1)؟

ثم إن النتيجة لهذا الوجه - إن تم - أن كل الاحتياطات الوجوبية سوف تخرج عن كونها أحكاماً شرعية فرعية، فيكون ذكر الفقهاء لها في الرسائل العملية إرشاداً لحكم العقل لا غير، وليست مسائلفرعية مرتبطة بالفقه بالمعنى الأخص. إضافة إلى أنه لا يترتب ثواب أو عقاب على اتباعها أو مخالفتها.

مضافاً إلى ثمرات أخرى تترتب على كون هذا الاحتياط عقلياً وليس شرعياً، وذلك ككون إحدى الصلاتين لدى العلم الإجمالي، عبادة وهي المطابقة ثبوتاً للواقع (للقبلة مثلاً) دون الأخرى، وأما بناءً على كون الاحتياط شرعياً (لشمول أوامر الاحتياط ك«احتط لدينك» - مثلاً - فكلتاهما عبادة مع قصد امتثال الأمر الواقعي(2) أو الأمر الاحتياطي. وأيضاً ك- (كون الصلاة التي شك في صحتها أمراً مستحباً شرعاً وإن كانت محكومة بالصحة لقاعدة الفراغ ونحوها) بناء على أن الاحتياط شرعي عكس العقلي.

ص: 388


1- وسيأتي إشكالان على هذا الوجه أحدهما مبنائي والآخر بنائي.
2- إذ انبعث عن احتمال الأمر، مع القول بكفايته في صدق عنوان العبادية.

المناقشة مبنىً وبناءً

ولكن الوجه الثاني يرد عليه أيضاً إشكالان: مبنىً وبناءً، بل هذا الوجه في الحقيقة من صغريات الوجه السابق:

أما الإشكال المبنائي: فهو ما ظهر من الكلمات السابقة من ضابط المولوي والإرشادي، فإذا قلنا: إن ضابط الأمر المولوي هو ما صدر بداع البعث والتحريك أو الزجر والحيلولة، أو ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته، فهذا الضابط يشمل المستقلات العقلية إذا تعلق بها الأمر الشارعي أيضاً، فكون الأمر مما استقل به العقل لا يمنع الشارع من أن يصدر أمره إلى عبده بداعي البعث والتحريك وبما هو مولى فيقول مثلاً: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)(1) بما هو مولى، فمع أن العقل مستقل بذلك لكن الشارع إذا رأى أن العبد لا يتحرك إلاّ إذا أمره أو لا ينزجر إلاّ إذا زجره فإنه يأمره مولوياً بقوله: (اعْدِلُوا) بل حتى إذا رأى مصلحة أخرى في أمره مولوياً، فتأمل.

إذن لا منافاة بين كون الأمر حكماً عقلياً، وبين الأمر به منالمولى بما هو مولى بداعي التحريك أو الزجر معملاً مولويته.

وأما الإشكال البنائي: فهو إنه إن سلم أن المستقلات العقلية - كحسن الإحسان والعدل ورد الوديعة وحفظ الأمانة وغير ذلك - يكون أمر الشارع فيها إرشادياً، وإن الاحتياط منها، لأن العقل يستقل بحسن الاحتياط ووجوبه قبل الفحص مطلقاً، وحسنه بعد الفحص في الجملة، كما في أطراف العلم الإجمالي؛ فلو سلم هذا المبنى فإن هذا القول مع ذلك لا يتم على إطلاقه(2)

ص: 389


1- سورة المائدة: 8.
2- من كون الاحتياط الوجوبي عقلياً لا غير.

وذلك لأنه يوجد عند الفتوى بالاحتياط أمران: متعلِّق هو الفتوى، ومتعلَّق هو الاحتياط، وكما أن للعبد أن يستند في عمله للمتعلَّق، يمكنه أن يستند في عمله للمتعلِّق، فلو فرض كون انبعاثه عن المتعلَّق(1) عقلياً؛ إلا أن انبعاثه عن المتعلِّق(2) يمكن أن يكون شرعياً، فإذا استند المكلف في احتياطه للفتوى بالاحتياط - لا لكونه احتياطاً بما هو هو - شملته الأدلة الشرعية الدالة على حجية الفتوى، ولزوم اتباعها، فيكون لزوم العمل بهذا الاحتياط شرعياً.

لكن هذا خاص بالصورة الثانية السابقة.

ويوضحه: أن الأعلم أو غيره إذا أفتى بصحة اتباع المشهور وإن خالف رأي الأعلم، فهنا يوجد متعلِّق هو الفتوى، ومتعلَّق هو رأي المشهور، فالذي يتبع رأي المشهور قد يتبعه بما أن الأعلم قد أفتى بالعمل بالمشهور فتشمله أدلة التقليد، وقد يكون متبعاً للمشهور بما هو مشهور مع قطع النظر عن فتوى الأعلم ولو لاستقلال عقله بذلك، فهنا اتباعه لرأي المشهور لا يكون مستنداً إلى فتوى الأعلم.

كذلك الأمر في الفتوى بالاحتياط بعد الفحص في اطراف العلم الإجمالي، فليتدبر.

وفيه: إن الكلام عن كون وجوب الاحتياط عقلياً أو شرعياً، لا عن الفتوى به.

والحاصل: إن العمل بهذا الاحتياط إما أن يكون عن وجوبهالعقلي لأنه احتياط وإما أن يكون عن وجوبه الشرعي لأنه فتوى مرجعه.

وقد يجاب بأنهما عرفاً - بالحمل الشائع - أمر واحد أو أن الواسطة واسطة في الثبوت لا العروض، فتأمل.

ص: 390


1- أي الاحتياط.
2- أي الفتوى.

الوجه الثالث: الحاكم في الشك في العنوان والمحصل، العقل

الوجه الثالث(1): الحاكم في الشك في العنوان والمحصل، العقل(2)

وذلك فيما لو فرضت المسألة في موارد الشك في العنوان والمحصل، وحينئذ فالمجرى في المحصل هو الاحتياط، فيقال: إن هذا الاحتياط عقلي، لأن العقل هو الحاكم بأن الأمر لو تعلق بعنوان فشك في محقِّقه ومحصِّله لزم الاحتياط،فاشتغال الذمة اليقيني يستلزم الفراغ اليقيني؛ ولا يتحقق إلا بالاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله في المحصل، فمثلاً إن الأمر بالغسل على رأي الشيخ (رحمه اللّه) من مصاديق العنوان والمحصل، لأن الأمر تعلق بالتطهر في قوله تعالى: (فَاطَّهَّرُوا)(3)، والغسل محصل للتطهر، فلو اغتسل أو توضأ لكن بقي مقدار رأس إبرة من مواضع الغسل لم يصبه الماء، فهل غسله أو ضوؤه صحيح أم لا، المشهور شهرة عظيمة بل لعله إجماعي على أنه غير صحيح، ولكن السيد الوالد (رحمه اللّه) له تأمل (صناعي) في ذلك(4).

استدل المشهور بوجوه عديدة(5)، منها: مسألة العنوان والمحصل؛ لأن الأمر عند ما تعلق بالتطهر فلو توضأ ولم يصل الماء إلى ذلك المقدار فهنا يشك في أن ذلك العنوان تحصل أم لا، فالمجرى مجرى الاحتياط والحاكم هو العقل؛ إذن الاحتياط الوجوبيعقلي، لأنه انبعث في مثل هذه الموارد عن الحكم العقلي في موارد العنوان والمحصل بالاحتياط.

ص: 391


1- من وجوه الاستدلال على كون وجوب الاحتياط عقلياً.
2- فالوجوب عقلي.
3- سورة المائدة: 6.
4- وإن أفتي على طبق المشهور، أي احتياطاً وجوبياً على طبقه.
5- ومنها: فوات المركب بفوات جزئه، أو لأن الواجب ارتباطي، أو لإطلاق الأدلة في وجوب غسل الوجه واليدين بجميع أجزائهما، وقد يجاب بالانصراف. فتأمل.

المناقشة

هذا الوجه كالوجوه السابقة لا تخلو عن المناقشة المبنوية، لأن الضابطة العامة للأمر المولوي والإرشادي تشمل المقام أيضاً، فإن حكم العقل بالاحتياط في ما لو تعلق الأمر بالعنوان والمحصل، أي بالاحتياط في محصله، هذا الحكم تعلق به أمر من الشارع أيضاً في قوله تعالى ب(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)(1) بناءً على الاستناد لهذه الآية في لزوم الاحتياط؛ فتشمل الآية موارد العلم الإجمالي وموارد العنوان والمحصل وجوباً، وفي موارد أخرى استحباباً، بناء على إمكان ذلك باستعمال الأمر في الجامع(2) أو غير ذلك مما فصلناه في محله.

وكذلك في قوله (عليه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(3) وقول الإمام الصادق (عليه السلام): «وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً»(4).

سواء أدلت على الاستحباب أم الوجوب؛ فإن كلّا منهما يكون حينئذ شرعياً.

الوجه الرابع: الحاكم في الدوران بين التعيين والتخيير، العقل

الوجه الرابع(5): الحاكم في الدوران بين التعيين والتخيير، العقل(6)

وقد استند إلى هذه القاعدة الكثير من الفقهاء والأصوليين في كثير من

ص: 392


1- سورة آل عمران: 102.
2- وهو الطلب.
3- الأمالي - للطوسي -: ص110.
4- مشكاة الأنوار: ص564.
5- من وجوه الاستدلال على كون وجوب الاحتياط عقلياً.
6- فوجوب الاحتياط عقلي.

الأبواب والبحوث، وقد اختلف الأصوليون في هذه القاعدة(1) والذي يتفرع عليه الخلاف في مختلف أبواب الفقه، فعلى الفقيه أن ينقح مبناه في هذه القاعدة، وللقاعدة صور:

المناقشة: صور قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير

إن الصور في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ثلاثة، ويختلف الحكم باختلافها.

الأولى: الدوران في الحجج

الأولى: الدوران في الحجج(2) الدوران في التعيين والتخيير بين حجتين أو طريقين ثبت كون أحدهما حجة قطعاً إما تعييناً أو تخييراً، وكون العدل الثاني(3) حجة على فرض كون الأول حجة تخييراً لا تعييناً أي إنه احتمل كونه حجة تخييرية مع الأول.

كما إذا لو دار الأمر بين تقليد الميت ابتداءً وبين تقليد الحي(4)، أو فقل: دار الأمر بين حجية رأي المجتهد الحي تعييناً وبين حجيته وحجية رأي الميت

ص: 393


1- وهذا الخلاف أشار إليه الميرزا النائيني (رحمه اللّه) في فوائد الأصول بقوله: (فيقع الكلام حينئذ في ما يقتضيه الأصل العملي وأن الأصل عند الشك في التعيين والتخيير في جميع أقسام الواجب التخييري هل البراءة مطلقا، أو الاشتغال مطلقا، أو التفصيل بالنسبة إلى بعض وجوه الشك في التعيين والتخيير، أو بعض أقسام الواجب التخييري، ففي بعض وجوه الشك تجري البراءة، وفي بعضها لا تجري، أو إذا كان طرف الشك بعض أقسام الواجب التخييري تجري البراءة، وإذا كان طرف الشك بعض آخر لا تجري؛ والأقوى: أن الأصل في جميع الأقسام على جميع وجوه الشك - ما عدا الوجه الأول - هو الاشتغال). فوائد الأصول: ج3ص 423.
2- وهي ما عبّر عنها البعض بالدوران بين التعيين والتخيير في مرحلة جعل الحكم الظاهري.
3- أي القسيم.
4- مع فرض تساويهما في الأعلمية.

تخييراً، ولم تكن هناك أدلة خاصة ولا عمومات أو إطلاقات يحرز بها صحة تقليد الميت ابتداءً أو عدمه، فحينئذ يرجع إلى هذه القاعدة ويقال: إن رأي الحي حجة على كل تقدير وإن تقليده صحيح مبرئ للذمة على كل تقدير، لأنه مقطوع به سواء أكان تقليد الميت ابتداءً حجة ومبرئاً للذمة أيضاً أم لا؛ وأما تقليد الميت ابتداءً فمبرئ للذمة على أحد الاحتمالين؛ فمقتضى الحكم العقلي هو وجوب الاحتياط(1) إذ لا يوجد في المقام إلا احتمال حجية رأي الميت، فكيف يكون مبرءاً للذمة؟

وأما النسبة بين هذه القاعدة وقاعدة أن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية وهل الأخيرة متقدمة عليها رتبة، فهو بحث آخر.

الثانية: الدوران في مرحلة جعل الحكم الواقعي

الدوران بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعية(2).

والمثال المعهود له هو دوران الأمر بين وجوب صلاة الجمعة تعييناً زمن الغيبة عند بسط اليد أو وجوبها تخييراً، وكذا لو دار الأمر في بعض خصال الكفارة بين وجوبه تعييناً أو تخييراً.

مثال آخر: إذا دار الأمر في أصول الدين بين كون الاجتهاد فيها واجباً تعييناً أو كونه واجباً تخييراً بينه وبين التقليد، وذلك لأن الاجتهاد في أصول الدين مبرئ للذمة قطعاً، ومجزئ وصحيح، سواء أجاز التقليد في أصول الدين أم

ص: 394


1- على رأي، وهو المنصور، هذا إن لم تكن لنا أدلة خاصة أو إطلاقات كما ذكرنا؛ وإلا فهي الحاكمة.
2- هذا ما عبّر به البعض، ويمكن التعبير ب(الدوران بين التعيين والتخيير في مرحلة الحكم الواقعي المجعول).

لم يجز، وأما التقليد فيحتمل كونه العدل الثاني في الحجية وصحة الاحتجاج، فلو دار الأمر بين الاجتهاد كواجب تعييني وبين التقليد كواجب تخييري، فهو من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الأحكام الواقعية، في قبال مرحلة الامتثال.

وإن كان هذا المثال يرجع في وجهٍ إلى الصورة الأولى، فليتدبر(1).

الثالثة: الدوران في مرحلة الامتثال

دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال لا مرحلة الجعل، ويجري ذلك في باب التزاحم(2) وغيره(3).

والمثال المعهود لذلك من باب التزاحم: هو ما لو وجد غريقان، يحتمل أن يكون أحدهما نبياً، وكان المكلف عاجزاً عن الجمع بين إنقاذهما، فأما مرحلة الجعل فإن إنقاذ النبي هو المتعين لأن ملاكه هو الغالب على إنقاذ غيره كما أن كليهما واجب لولا ضيق القدرة عن الجمع بينهما، لكن في مرحلة الامتثال إذا لم يعلمه بل احتمل أن هذا هو النبي وعلم أن ذاك ليس بنبي، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير امتثالاً.

وبما أن المثال المتقدم ليس مورداً للابتلاء الآن، فيمكن التمثيل بما لو دار الأمر بين إنقاذ من هو من الأهل - كالأب والأم والولد والعم وابنه وهكذا - من الضلالة وبين إنقاذ غيره، ففي مرحلة الجعل قد يقال: بأن إنقاذ من هو من الأهل مقدم على

ص: 395


1- فانه إذا لوحظ وجوب (الاجتهاد) وكذا التقليد طريقياً غيرياً لكان من الصورة الأولى، ولو قيل بكونه واجباً نفسياً لكان من الصورة الثانية.
2- التزاحم: أن يكون لكلا الأمرين ملاك وأمر ولكن المكلف لم يكن قادراً على امتثالهما معاً.
3- كموارد الشك في العنوان والمحصّل.

غيره؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ)(1)، وقوله عزوجل: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللّه)(2)، وكذا لو دار الأمر بين إنقاذ عالم أو مفكر أو فيلسوف أو طبيب ومحام ومهندس وأمثالهم من الضلالة وبين إنقاذ عامي لا تأثير له في المجتمع، وحينئذٍ لو دار الأمر بينإنقاذ شخصين أحدهما يحتمل كونه من الأهل أو كونه هو العالم، فيكون ذلك من مصاديق الدوران بين التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال بعد الفراغ من التعيين في مرحلة الجعل.

والكلام في هذه الصور الثلاث طويل، والمقصود هنا أنه لو ذهبنا في بعض هذه الصور إلى البراءة، فالأمر خارج موضوعاً عما نحن فيه وإن ذهبنا في كل هذه الصور أو بعضها إلى الاحتياط فهنا يقال: إن الاحتياط وجوبه عقلي، وليس شرعياً إذ الاحتياط في موارد الدوران يحكم العقل بوجوبه.

فهذا من الوجوه التي تلجئ الفقيه للقول بالاحتياط الوجوبي، إضافة إلى إفادته أن الوجوب عقلي.

والجواب ما سلف في المبحث المبنائي: فما حكم به العقل يمكن أن يحكم الشارع في مورده بالأمر المولوي، وليس بالضرورة أن يكون إرشادياً.

فهذا كله ثبوتاً، ولكن الكلام في الدليل إثباتاً وأنه هل يوجد دليل من الشارع على التعيين في بعض تلك الصور ليكون الوجوب شرعياً إن كان الوارد مولوياً؟ فقد يستدل بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، وفيه ما لا يخفى، وقد يستدل بإطلاقات أدلة الحجية (كون قول الحي أو الأعلم حجة) وإطلاقات

ص: 396


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة الأنفال: 75.

أدلة الوجوب (كون صلاة الجمعة واجبة) إذ الأصل فيها أن الوجوب تعييني لا تخييري (وعيني لا كفائي ونفسي لا غيري) وفيه ما لا يخفى أيضاً، فتأمل.

وقد يستدل بمثل «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ»(1) فإن الحجة أو الواجب على كل تقدير وكذا الممتثل به على كل تقدير مما لا يريب والقسيم مما يريب، بل وإطلاقات أدلة الاحتياط. فتأمل أيضاً.

الوجه الخامس: القول بأصالة الحظر عقلاً

الوجه الخامس: القول بأصالة الحظر عقلاً(2)

وهو مبني على القول بأصالة الحظر عقلاً(3)، فكلما احتاطالفقيه استناداً إلى حكم العقل بالحظر، فالاحتياط في مورده حكم عقلي، فمثلاً:

الزواج بالبكر البالغة الرشيدة بلا إذن أبيها قد يقول فيه الفقيه: إن الأحوط وجوباً تجنبه، وهذا الاحتياط قد يكون من وجوهه استناداً إلى أصالة الحظر، لأن التصرف في ملك المولى جل وعلا (4) بلا إذنه محرم(5).

والحاصل: إن الفقيه قد يذهب إلى المنع، استناداً إلى أصالة الحظر، وقد خرج عن الأصل فيما إذا رضي الأب بالروايات غير المعارضة، وما عدا ذلك يبقى على

ص: 397


1- عوالي اللئالي: ج1 ص394.
2- فوجوب الاحتياط عقلي.
3- تذكرة: ولا يخفى أن أصالة الحظر هي في مقابل أصالة الإباحة؛ وأكثر الفقهاء يبنون على أن الأصل في الأشياء هو الإباحة حتى يرد فيها نهي، لا أن الأصل في الأشياء هو الحظر أو التوقف؛ ونتيجة القولين: أن من قال بقول الأكثر يبني على الاشتغال فيحتاط، ومن قال بالآخرتين يبني على البراءة.
4- فإن ما في الكون ملك لله سبحانه؛ فلا يجوز أي تصرف في أي شيء أو أي شخص إلا بإذنه جل وعلا ورضاه.
5- هذه هي القاعدة الأولية بناءً على القول بأصالة الحظر.

الأصل، ففي ما خرجنا فيه فالإباحة شرعية، وفيما لم نخرج فيه فالحظر عقلي.

وموارد هذا الوجه ليس بالقليلة.

إشارة: المختار هو أصالة الحظر في الأشياء، كأصل أولي، استناداً إلى وجوه خمسة هي: حق المملوكية الذاتية، وحق المملكة، وحق الطاعة (وهو المسلك المعروف) وحق الانقياد، والاستحقاق الذاتي، وقد فصلنا الكلام عنها في بعض المباحث فراجع.

وبهذا الوجه نصل إلى نهاية مبحث الوجوه التي يمكن أن يستند إليها للقول بأن وجوب الاحتياط في موارد هو وجوب عقلي وبالتدبر والتفكر يمكن أن تظهر وجوه أخرى(1) تلجئ الفقيه إلى الاحتياط الوجوبي أو تفيد أن الوجوب عقلي.

ص: 398


1- ومنها ما سبق في بحث أسبق فراجع.

هل الاحتياط في طول الأصول العملية؟

بقي كلام لأحد الأعلام في خصوص المسألة التي قال فيها صاحب العروة (رحمه اللّه): (في احتياطات الأعلم فيما إذا لم يكن فتوى له يتخير المكلف بين العمل بها وبين الرجوع إلى غيره الأعلم فالأعلم) فقد ذهب إلى أن هذا التخيير بين الطرفين (وصحة الرجوع للمفضول) متفرع على وجهين:

الوجه الأول: أن يفقد الأعلم الأدلة الاجتهادية فيصير إلى الاحتياط.

الوجه الثاني: أن يفقد الأعلم الأصول العملية، وكلامه يعني أن الفقيه لا يصير إلى الاحتياط إلا بعد أن يفقد الأدلة الاجتهادية أولاً، ويفقد الأصول العملية ثانياً، فيلجأ إلى الاحتياط، وحينئذ يتخير المكلف بين العمل بالاحتياط وبين الرجوع للمفضول.

أقول: أما الوجه الأول فلا نقاش لنا فيه، وهو أحد الأقسام الأربعة المتقدمة.

وأما الوجه الثاني ففيه: إن الاحتياط هو أحد الأصول العملية، وليس متأخراً عنها، وعليه فتعبيره يعاني من خلل فني بالإضافة إلى خلل حقيقي.

أما الخلل الفني: فإن الاحتياط والأصول العملية في رتبة واحدة فلا يصح أن يقال: إن الأعلم لو فقد الأدلة الاجتهادية أولاً ثم فقد الأصول العملية ثانياً يلجأ إلى الاحتياط ثالثاً، وإنما الاحتياط في عرض الأصول العملية.

والصحيح فنّياً أن يقال: لو فقد الأعلم الأدلة الاجتهادية(1)؛ فإنه يلجأ إلى ما يحدد له الوظيفة العملية، فإن كان هو الاحتياط - حسب المقرر من مجاري

ص: 399


1- أي ما يستنبط منه الحكم.

الأصول الأربعة -، فيتخير حينئذ بين الاحتياط وبين فتوى المفضول.ولكن التحقيق: هو التفصيل، فإن الأصول العملية الأربعة ليست كلها في عرض واحد، بل هي على قسمين، فبعضها في طول الآخر، والبعض في عرض الآخر(1).

مثلاً الاستصحاب - الذي يعد من الأصول المحرزة - هو سابق رتبة على تلك الأصول(2)؛ فالاستصحاب مقدم على الاحتياط حتى في موارد العلم الإجمالي فإنه في موارد العلم الإجمالي لو جرى الاستصحاب في أحد الطرفين ولم يبتلَ بالاستصحاب المعارض فرضاً(3) انحل العلم الإجمالي، كما لو كان أحد الإناءين مستصحب الطهارة والآخر مستصحب النجاسة(4) وذلك قبل وقوع قطرة الدم(5)، ثم وقعت قطرة بول في أحدهما غير المعين؛ فإن استصحاب طهارة هذا الإناء غير معارض باستصحاب طهارة لذاك الإناء، لفرض أنه مستصحب النجاسة، وإذا كان هذا الاستصحاب جارياً فإن العلم الإجمالي لا يكون منجزاً حينئذٍ.

هذا لو جرى الاستصحاب في أحد الطرفين، وأما لو جرى في كلا الطرفين فهل الاستصحاب أيضاً مقدم رتبة على الاحتياط؟

قد يقال: إن مشكلة الاستصحاب حينئذ هي المعارضة، وليس عدم تقدمه رتبة على الاحتياط، فالاستصحاب مقدم على الاحتياط إلا أن المعارضة أسقطته

ص: 400


1- وذلك إن اجتمعت.
2- أي ان باقي الأصول هي في طول الاستصحاب.
3- الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي عادة مبتلى بالمعارض، كما لو وقعت قطرة نجاسة في أحد الإناءين الطاهرين، فإن استصحاب الطهارة في هذا الإناء معارض باستصحاب الطهارة بذاك الإناء، فلا يجري أي من الاستصحابين.
4- وهذه إحدى الصور.
5- وكذا لو كان أحدهما معلوم الطهارة والآخر معلوم النجاسة.

عن الاعتبار، فوصلت النوبة للاحتياط، وفيه: إن الاستصحابين معاً معارضان للعلم الإجمالي فهما في عرض واحد وهو متقدم عليها لذا لا يجريان معاً، فتدبر.

هذا في الاستصحاب الموضوعي وهو شأن المكلف، وأما الاستصحاب الحكمي - وهو شأن الفقيه والأعلم في المقام - فلو فقده الأعلم وصلت النوبة للاحتياط.

وأما الاحتياط بالنسبة للتخيير والبراءة فهو في عرضهما، بمعنى أنه لو شك في التكليف فالمجرى البراءة وذلك في مقابل من يرى أنه مجرى الاحتياط في الشبهات التحريمية أو مطلقاً ولو كأصل أولي، ولا تقدم رتبياً لأحدهما على الآخر، بل إما هذا المبنى أو ذاك ولو شك في المكلف به مع إمكان الجمع فهو مجرى الاحتياط ومع عدم الإمكان هو مجرى التخيير.

نعم يمكن توجيه كلامه بأن مراده: أن يفقد الأعلم الأصول العملية الحاكمة على الاحتياط، كالاستصحاب مثلاً.

وهنا فرع آخر لم يبحث وهو بحاجة إلى التأمل:

فرع تمريني: لو قال الأعلم بالتخيير أو بالبراءة ولم يحتط

سبق أنه إذا احتاط الأعلم ولم يفت، أي إنه وصل به الأمر إلى هذا الأصل العملي(1)، فالمكلف مخير بين احتياطه الوجوبي وبين الرجوع للمفضول.

لكن ماذا لو وصل الأعلم إلى التخيير من الأصول الأربعة، لتعارض الخبرين لديه وكون الأصل الثانوي (أو الأولي) لديه هو التخيير، فهل المقلد مخير بين العمل برأيه في التخيير وبين الرجوع إلى المفضول الذي يرى تعيّن أحد الطرفين مثلاً؟

ص: 401


1- الاحتياط.

وكذلك لو وصل الأعلم إلى البراءة، فهل المكلف مخير بين مقتضى الوظيفة العملية التي وصل إليها الأعلم، وبين الرجوع للمفضول الذي رأى المنع والحرمة؟ مثلاً إذا رأى الفقيه البراءة لكون الشك لديه في التكليف من جهة فقد النص أو إجماله، لكن المفضول كان يرى المنع أو الوجوب لأدلة رأها تامة، فهل التخيير جار للمكلف أم لا؟

وبعبارة أخرى: إن الصورة التي ذكرها الفقهاء هي: أن الأعلملو وصل إلى الاحتياط فهنا يتخير المكلف، ولكن ما هو الحكم عند وصول الأعلم إلى البراءة أو التخيير، فهل يتخير المكلف أيضاً بين رأيه و رأي المفضول؟

ص: 402

صعوبة تشخيص موارد الاحتياط على العامي

المسألة السادسة والستون من العروة الوثقى، قال السيد (رحمه اللّه): (لا يخفى أن تشخيص موارد الاحتياط عسر على العامي، إذ لابد فيه من الاطلاع التام، ومع ذلك قد يتعارض الاحتياطان فلا بد من الترجيح، وقد لا يلتفت إلى إشكال المسألة حتى يحتاط، وقد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، مثلاً الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، لكن إذا فرض انحصار الماء فيه فالأحوط التوضؤ به، بل يجب ذلك، بناءً على كون احتياط الترك استحبابياً، والأحوط الجمع بين التوضؤ به والتيمم، وأيضاً الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع، لكن إذا كان في ضيق الوقت ويلزم من التثليث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فالأحوط ترك هذا الاحتياط، أو يلزم تركه، كذا التيمم بالجص خلاف الاحتياط، لكن إذا لم يكن معه إلاّ هذا فالأحوط التيمم به، وإن كان عنده الطين مثلاً فالأحوط الجمع، وهكذا)(1).

وقال السيد العم (دام ظله):

[موارد الاحتياط و عسر تشخيصها]

(المسألة (66): لا يخفى أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر على العامي، والظاهر أنّ مراده بالعسر: اللغوي، لا العسر المسقط للتكليف شرعاً، لأنّه ليس في مقام سقوط التكليف بالاحتياط للعسر، بل في مقام صعوبته على العامي في مقابل الاجتهاد و التقليد، إذ بين العسرين عموم مطلق)(2).

ص: 403


1- العروة الوثقى: ج1 ص57.
2- بيان الفقه: ج4 ص415.

صور مسألة عسر تشخيص موارد الاحتياط

ذكر السيد (رحمه اللّه) في هذه المسألة ثلاث صور لعسر تشخيص موارد الاحتياط(1)،

وسنعيد صياغتها لتكون أربع صور، ثم نضيف إليها صورتين فتصبح صورها ستة:

الصورة الأولى: العسر في الإحاطة بالأقوال

من صور عسر الاحتياط على العامي: عسر الإحاطة بالأقوال المختلفة في المسألة ليعرف موطن الاحتياط ومورده، وذلك في بعض المسائل المتشابكة أو المعقدة التي اختلفت فيها الأقوال واضطربت(2).

مع كون المسألة مما لا يتيسر للعامي أن يصل إلى معرفة وجه الاحتياط بالتفكير، لأنها ليست مسألة عقلية حتى يصل إليها الإنسان بعقله، بل لابد له من معرفة أقوال العلماء في هذه المسألة(3).

بل قد لا يخطر بالبال هذا التفصيل حتى يقوم بالاحتياط به.

الصورة الثانية: لو تعارض الاحتياطان

ومن صور عسر تشخيص مورد الاحتياط على العامي: فيما لو تعارض

ص: 404


1- لا عسر الاحتياط نفسه.
2- أو لعدم توفر المصادر لديه ليعرف الأقوال.
3- وقد قيد معرفة تلك الأقوال في (بيان الفقه) بقوله: (على الأقوال التي يحتمل وجوب العمل بها، لا كل الأقوال) (بيان الفقه: ج4 ص415)، وقيدها الشيخ الميرزا جواد التبريزي (رحمه اللّه) في تنقيح مباني العروة الوثقى، بقوله: (لا يخفى أنّه يكفي في الاحتياط المبرئ للذمّة الاحتياط في فتاوى العلماء الذين يحتمل وجود الأعلم بينهم في عصره أو أحرز ذلك، وأمّا فتاوى الآخرين الذين أُحرز أنّهم لا يبلغون في الفضل العلماء المذكورين فلا موجب للاحتياط برعاية فتاويهم) (تنقيح مباني العروة الوثقى: ج1 ص148).

الاحتياطان، فلا يدري المكلف العامي كيف يكون الاحتياط حينئذٍ، ويمكن التمثيل لها بأمثلة:

منها: ما لو تزوج البكر الرشيدة بلا إذن أبيها، فهنا يوجداحتياطان متعارضان، فمن جهة: الأحوط أن لا يباشرها، لاحتمال أن يكون إذن الأب مقوماً(1) للعقد، فالعقد باطل من دون رضاه السابق أو إذنه اللاحق أو لاحتمال كونه شرطاً لجواز المباشرة.

ومن جهة أخرى: الأحوط مع تطلّبها أن يباشرها، لأنه حق للزوجة على الزوج إما كل أربعة أشهر مرة على المشهور(2)، أو على القول الآخر حسب المعاشرة بالمعروف كما يراه السيد الوالد (رحمه اللّه) وآخرون، لقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3) - فيدور الأمر بين محذورين، فإن باشرها فقد فوّت حق الأب، وإن لم يباشرها فقد فوّت حقها، فيتعارض الاحتياطان، فلا يعرف العامي الذي يريد العمل بالاحتياط، كيف يصنع؟

وهنا يحتاط بعض الفقهاء بطلاقها لو لم يأذن الأب، ولكن نفس هذا الطلاق هو مورد كلام، لأنه لا يعلم هل أنها زوجة أو لا؛ فيكون فاقداً للجزم الذي هو شرط في الإنشاء(4)، فتأمل.

كما أنه يتعارض احتياطان في المسألة هذه من جهة أخرى؛ حيث إن

ص: 405


1- وذهب بعض الفقهاء كالسيد العم إلى أن اشتراط إذن الولي حكم تكليفي لا وضعي فالعقد صحيح لكنه فعل محرماً.
2- وقال في مسالك الأفهام: ج7 ص66: (هذا الحكم موضع وفاق)، وقال في نهاية المرام: ج1 ص61: (هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب)، ثم إن بعضهم قيّد هذا الحكم بالزوجة الشابة كما في الحدائق: ج23 ص90، وبعضهم أطلق الحكم كما في رياض الأحكام: ج10 ص83.
3- سورة النساء: 19.
4- وقد تقدم منا كيفية التفصي عن هذا الإشكال.

الأحوط على الزوج النفقة إن كانت زوجة؛ والأحوط لها عدم أخذ النفقة إلاّ بطيب نفس منه إن لم تكن زوجة.

ومنها: لو أجرى عقد البيع بلا ماضوية أو موالاة عرفية أو تنجيز(1)؛ فهنا يتعارض احتياطان، فإن كان العقد صحيحاً فعليه أن يسلِّم البضاعة إلى المشتري، وإن كان باطلاً فعليه أن يرجع الثمن إلى المشتري، فهنا دوران بين محذورين واحتياطين متقابلين، ولو كان وكيلاً تعارض احتياط تسليم المثمن للوكيل أو إرجاعه للبائع.وتقدم أيضاً تعارض الاحتياطين في الكر الذي اغتسل فيه المجنب إذا انحصر به الماء وأراد الوضوء؛ وبحسب الأقوال يتعارض الاحتياطان.

وهناك مصاديق كثيرة تظهر بالتأمل.

وهذه كلها من مصاديق عسر تشخيص مورد الاحتياط على المكلف العامي.

الصورة الثالثة: خفاء احتمال وجود الإشكال

من صور عسر تشخيص مورد الاحتياط على العامي: هو أن يخفى عليه وجه الإشكال في المسألة، فلا يخطر بباله أن ههنا موضع احتياط، بل قد يخفى على بعض الأفاضل، فإن معرفة ذلك بحاجة إلى نوع إحاطة بالفقه، وهذا قد لا يحصل حتى لبعض الأفاضل.

ولعله يمثل له بما ذكره العلامة (رحمه اللّه) في المختلف: في مبحث جواز بيع الغنم بالغنم، فهذه مسألة، ومبحث جواز بيع الغنم بلحم الغنم وزناً أو جزافاً، فالعامي لا يلتفت لوجه الإشكال في المسألة حتى يحتاط، وأما مثل العلامة

ص: 406


1- لكن شرط التنجيز إجماعي وإن كان قد يناقش فيه صناعياً.

فيقول: الأحوط تجنب بيع الغنم الحي باللحم لشبهة الربا(1)، (أي كونه من البيع متفاضلاً في الموزون) أو لشبهة كونه مصداقاً للنهي الوارد عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن بيع اللحم بالغنم(2)؛ فلذا يحتاط وجوباً بعدم الجواز، وأما العامي فعندما يلاحظ المسألةفقد لا يخطر في باله وجه حرمة حتى يشخّص بأن هذا من موارد الاحتياط.

مثال آخر: وهو ما ذكره (بيان الفقه) في مسالة الكر: لو اختلفت سطوح الكر فهل هو عاصم أم لا؟ فإن العامي قد لا يلتفت لاحتمال مدخلية اختلاف السطوح، لكن الفقيه الملتفت يقول: الأحوط وجوباً أو استحباباً في الكر أن لا تكون سطوحه مختلفة.

والحاصل: إنه في كثير من الموارد يكون وجه الاحتياط أو مورده غير واضح على العامي، فيعسر عليه تشخيص مورد الاحتياط، بل حتى على بعض الأفاضل الذين لم يسبق لهم تناول تلك المسألة، والبحث حولها.

الصورة الرابعة: كون الاحتياط في ترك الاحتياط

من صور عسر تشخيص مورد الاحتياط على العامي، والتي أكثر صاحب العروة (رحمه اللّه) من ذكر أمثلتها، هي: ما إذا كان الاحتياط في ترك الاحتياط.

ص: 407


1- مختلف الشيعة: ج5 ص93، وهذا بعض كلامه (رحمه اللّه): (مسألة: قال الشيخ (رحمه اللّه) في النهاية: لا يجوز بيع الغنم باللحم لا وزناً ولاجزافاً، وكذا قال المفيد، وسلار، وابن البراج... وقال ابن إدريس: يجوز ذلك إذا كان اللحم موزوناً، سواء اتفق الجنس أو لا، يداً بيد، وسلفاً أيضاً إن كان اللحم معجلاً دون العكس، ولا يجوز السلف في اللحم ويجوز في الحيوان. والأقرب الأول؛ لنا: إنه أحوط وأسلم من الربا... وبما رواه غياث بن إبراهيم في الموثق، عن الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام: كره اللحم بالحيوان).
2- راجع الكافي: ج5 ص191، وفيه: عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): (أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كره اللحم بالحيوان)، والفقيه: ج3 ص278 وفيه: (أن علياً (عليه السلام) كره بيع اللحم بالحيوان).

والفرق بينها وبين الصورة الثانية، أنه في الثانية الاحتياطان متكافئان، وأما هذه الصورة فأحد الاحتياطين مقدّم على الآخر.

والأمثلة التي ذكرها صاحب العروة (رحمه اللّه) لذلك كلها على القاعدة، وهي مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: هل يصح الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر(1)؟ الأحوط وجوباً أو استحباباً تجنب الوضوء به. ولكن قد يكون الاحتياط في ترك هذا الاحتياط، كما لو انحصر الماء بهذه الغسالة، فالأحوط هنا أن يتوضأ بها، وإن كان احتياط الترك استحبابياً فيجب عليه الوضوء والأحوط الجمع بين الوضوء به والتيمم.

المسألة الثانية: لو قلنا: إن الأحوط الإتيان بالتسبيحات الأربع في الركعة الثالثة والرابعة ثلاث مرات، فإنه قد يكون الاحتياط فيترك هذا الاحتياط فيما لو كان في ضيق الوقت، فدار الأمر بين أن يقع بعض الصلاة خارج الوقت وبين الإتيان بالتسبيحات الأربع مرة واحدة، فهنا الاحتياط بترك الاحتياط بالثلاث أو يلزم تركه، والاقتصار على الإتيان بواحدة.

المسألة الثالثة: الأحوط عدم التيمم بالجص للشك في صدق أسم الأرض عليه، لكن لو انحصر ما يتيمم به بالجص، كما لو كان محبوساً وفقد الماء وكان السجن مطلياً بالجص، فالاحتياط هنا بأن يترك الاحتياط الأول ويتيمم بالجص، ولو وجد لديه طين مع الجص فإن التيمم بالطين أيضاً مورد كلام، فعليه هنا احتياطاً أن يتيمم بالجص وبالطين معاً.

وأمثال هذه المسألة مما قد لا يلتفت العامي إلى وجود وجه احتياطٍ فيها، كثيرة.

ص: 408


1- مع فرض عدم تنجسه به.

الصورة الخامسة: إذا كان للاحتياط وجهان

الصورة الخامسة(1): إذا كان للاحتياط وجهان

إذا تخالف احتياطان من جهتين أو بعدين(2)، ومن مصاديق ذلك وجه العلم ووجه العمل، كما لو كان الاحتياط النظري يقتضي العدم، والاحتياط العملي يقتضي الوجود، أو العكس.

ومثاله: لو أن الخبر الضعيف دل على وجوب غسل الجمعة(3)، وإن كان سبب ضعفه كسر الشهرة له، فمقتضى الاحتياط الفقهي العملي أن يلتزم بالغسل، أما مقتضى الاحتياط الفقهي النظري هو أن لا يسند وجوب الغسل أو استحبابه للشارع، لأنه لم يدل عليه دليل معتبر، بل ما دل عليه هو خبر ضعيف، أو خبر صحيح منكسربإعراض المشهور عنه(4)، وربما تدرج هذه الصورة في لاحقتها، فلاحظ.

ص: 409


1- من الوجوه التي توجب عسر الاحتياط على العامي.
2- بأن كان مصباهما أمرين، لكن تخالفت الدلالة المطابقية لأحدهما مع الالتزامية للآخر.
3- وهذه مسألة تحتاج للتحقيق، فإن المشهور شهرة عظيمة بل كاد أن يكون إجماعاً، هو استحباب غسل الجمعة، لكن توجد روايات عديدة تفيد أن: (غسل الجمعة واجب)، وقد افتى على طبقها النادر من الفقهاء (ولعل منهم والد العلامة المجلسي .) وقد فسر البعض الوجوب هنا بالثبوت، وجدير بالإنسان أن يلتزم بغسل الجمعة، لأنه احتياط استحبابي مؤكد إن لم يكن احتياطاً وجوبياً.
4- هنا لفتة: بعض الفقهاء يقولون: كلما ازداد الخبر صحة وصراحة، ازداد ضعفاً بإعراض المشهور عنه، وهذه قاعدة عقلائية، إذن لا يشكل على المشهور بعدم إفتائهم على طبق تلك الروايات، لأن الخبر إذا كان ضعيفاً وأعرض عنه المشهور فهو على القاعدة، وأما إذا كان خبراً صحيحاً وصريحاً وأعرض عنه المشهور وكان بمرأى منهم ومسمع فذلك يدل على وجود خلل حقيقي في الخبر وإن كنا لا نعلمه، وبناء العقلاء على ذلك، فلو كانت هناك قاعدة واضحة وصريحة لكن العلماء أو المختصين على خلافها تماماً، فهذا يدل على وجود خلل في هذه القاعدة لا نعلمه وهم قد اطلعوا عليه.

الصورة السادسة: تعارض الاحتياط الأصولي وشبهه مع الاحتياط الفقهي

الصورة السادسة: تعارض الاحتياط الأصولي وشبهه(1) مع الاحتياط الفقهي

وهذه صورة أخرى نضيفها لما تقدم من صور، وهي: فيما لو تعارض الاحتياط الأصولي مع الاحتياط الفقهي.

وفرق هذه الصورة عن الصورة الثانية، أنه في الثانية كان التعارض بين احتياطين فقهيين، وأما هنا فالتعارض بين احتياط أصولي واحتياط فقهي؛ نعم سيتضمن الكلام بعض أمثلة صورة تعارض الاحتياطين الفقهيين، فانتبه.

وهنا أيضاً قد يكون عسراً على العامي(2)

تشخيص الموضوع(3)، فكيف بتحديد الحكم والأحوط في المقام(4).

وتحقيق ذلك في ضمن أمور:

ست أمور لتوضيح المعادلة وأبعادها

الأول: إن التخالف أعم من التعارض؛ فقد يكون الدليلانمتخالفين ولا يكونان متعارضين، كما في الخاص والعام، فهما متخالفان في مورد الخاص لكنهما غير متعارضين، لتقدم الخاص على العام بالأظهرية(5)، اللّهم إلا إذا عممنا التعارض للتعارض البدوي، كما في موارد الحكومة والورود والخاص والعام، حيث يوجد تعارض بدوي لكنه غير مستقر، كما في: (لا ضرر ولا حرج) بالنسبة إلى أدلة الأحكام الأولية، فهناك تعارض في بادئ النظر لكنه يزول

ص: 410


1- الاحتياط على ضوء القاعدة الفقهية.
2- بل قد يخفى على بعض الأفاضل.
3- أي تشخيص وجود احتياطين أصولي وفقهي وأنهما متخالفان.
4- أي ما هو المرجع عند هذا التخالف.
5- وهو المختار، وهناك أقوال أخرى فراجع مباحث التعارض.

بالتأمل، فلو عمّمنا التعارض لهذه الموارد لكان مساوياً للتخالف، علما بأن عنوان (المختلفان) هو الوارد في الروايات: «يأتي عنكم الخبران المختلفان»(1) نعم ورد غيره أيضاً.

الثاني: إن الصور الآتية مختلفة، فقد يرد النفي والإثبات على مورد واحد، وقد يردان على موردين، كما في الاستصحاب الفقهي المتخالف مع الاستصحاب الأصولي حيث يردان على مورد واحد وربما على موردين، وقد يكون ذلك منشأ الخلط والعسر على العامي.

الثالث: الاحتياط الأصولي يتقدم على الاحتياط الفقهي بالحكومة، لكن في الجملة لا بالجملة، أي ليس كل احتياط أصولي تخالف مع احتياط فقهي فإنه يتقدم عليه كما قد يتوهم، نظراً لأن هذه مسألة أصولية وتلك فرعية، بل أن بعض الصور كذلك وليس جميعها كما سيأتي.

الرابع: المراد بالمبحث في هذا الصورة(2) أعم من تقدم الدليل الأصولي على الاحتياط الفقهي، أو تقدم خصوص الاحتياط الأصولي على الاحتياط الفقهي، لأن الأدلة الأصولية أعم من الاحتياط الأصولي.

وبتعبير آخر: تارة يكون مقتضى الاحتياط الأصولي متخالفاً مع مقتضى الاحتياط الفقهي، وأخرى يكون مقتضى الدليل الأصوليمتخالفاً مع الاحتياط الفقهي.

وستتضح ذلك كله عبر أمثلته التطبيقية بإذن اللّه تعالى.

الخامس: إن الاحتياط الأصولي أو الدليل الأصولي، قد يتخالف مع

ص: 411


1- انظر وسائل الشيعة: ج27 ص118 وفيه: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردوه).
2- وهي السادسة.

الاحتياط الفقهي، وقد تتخالف القاعدة الفقهية مع الاحتياط الفقهي، وقد يكون التخالف بين الاثنين(1) مرجعه إلى دليلين أصوليين، أي إن تخالف هذا الاحتياط الأصولي مع الاحتياط الفقهي إنما هو لكون هذا الاحتياط الفقهي يرجع إلى مسألة أصولية أخرى، ففي الواقع يحدث التخالف بين المسألتين الأصوليتين.

السادس: إن المقصود من الاحتياط الفقهي قد يكون ما مرجعه إحراز الواقع، أي التحفظ على الواقع وإحرازه بأية صورة، وقد لا يكون كذلك، بل يكون لمرجعية قاعدة أصولية أو فقهية، وأما الاحتياط الأصولي فالمراد به ما سبق من كونه ناشئاً من ذلك الدليل الأصولي.

ثم إن هذا البحث ليس - فيما نعلم - مطروقاً، فيحتاج إلى التدقيق في كل هذه النقاط لنرى مدى تماميّتها في التطبيقات الآتية:

ص: 412


1- الأصولية والفقهية.

تطبيقات لتخالف الاحتياطين

تخالف المبنى الأصولي في الاستصحاب مع الاحتياط الفقهي

التطبيق الأول: ما لو تخالف الاحتياط الناشئ من مقتضى الاستصحاب عند الشك في المقتضي مع الاحتياط في المسألة الفقهية، ومن أمثلة ذلك:

المثال الأول: لو أن شخصاً أوقف مالاً على تطهير هذا المسجد، ثم إن المسجد هدمه الظالم وجعله حديقة مثلاً، فما هو تكليف من بيده ذلك المال لو تنجست هذه الحديقة، فهل يجب عليه تطهيرها بأموال الوقف أم لا.

وهذه المسألة قد تبتني على المبنى في الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي، وقد ارتأى الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) فيه عدم الجريان(1)، وذلك إذا شك الفقيه(2) أن (الوقف) له اقتضاء الاستمرار حتى مع زوال عنوان المسجدية عرفاً أم لا، والآراء فيه مختلفة، فهنا يتعارض عند من بيده الأموال احتياطان:

1) الاحتياط الفقهي(3) إذ يفيد لزوم صرف الأموال في تطهير الحديقة، لأنه قد اشتغلت ذمته بتطهيره، ولا يعلم أنه لو لم يطهر ذلك المكان هل يخرج عن عهدة التكليف أم لا، ومقتضاه كما تقدم هو إحراز الواقع على كل تقدير، وأن يصرف المال في تطهير الحديقةالتي كانت مسجداً وتنجست الآن.

ص: 413


1- انظر فرائد الأصول: ج3 ص51، والحاشية على استصحاب القوانين: ص142، وهذا ما أكده (رحمه اللّه) في كتبه الفقهية؛ فقال في كتاب الصلاة: (أقول: أما الاستصحاب ففيه بعد الإغماض عما حققنا في الأصول من عدم اعتباره في الأحكام الكلية عند الشك في المقتضي لعدم إحراز الموضوع فيه) كتاب الصلاة: ص417
2- لا فيما إذا أحرز أحد الطرفين.
3- لاحظ النقطة السادسة.

لا يقال: لا يعلم اشتغال ذمته بتطهيره لما سيأتي من الشك في كونه مسجداً للشك في المقتضي؟

إذ يقال: أولاً: يكفي الاحتمال، لتحقق موضوع الاحتياط الفقهي، ثانياً: يفرض ذلك فيما لو تنجس حال كونه مسجداً فاشتغلت ذمته بتطهيره فهدم قبل ذلك فهل يلزم عليه تطهيره الآن استصحاباً لاشتغال ذمته؟ فيتعارضان استصحابان طوليان(1) لكن السببي حاكم، فتأمل(2).

2) الاحتياط الأصولي، حيث مقتضى عدم جريان الاستصحاب في المقتضي عدم كونها(3) مسجداً؛ كما عليه الشيخ (رحمه اللّه)؛ فالاحتياط هنا يقتضي أن لا يصرف المال الموقوف للمسجد في تطهير غير المسجد، بل أن يصرفه إلى أقرب شيء إليه، كمسجد آخر.

وهذا المثال يحتاج إلى التدقيق في أنه هل يندرج في مقدمة أخرى غير المقدمة الخامسة(4)؟ وهل توجد هنا حكومة للاحتياط الأصولي على الاحتياط الفقهي أم لا(5)؟ وهل مرجع هذا البحث إلى المقدمة الرابعة أو السادسة؟

فمثلاً هل مرجع ذلك إلى وجود احتياطين يرجعان إلى مسألتين أصوليتين؟ وهما استصحابان في المقام، فالاستصحاب الأول ما ذكرناه: بأن تستصحب المسجدية، وعلى رأي الشيخ (رحمه اللّه) لا يجري، وإذا لم يجر الاستصحاب الأول هل يرجع إلى استصحاب ثانٍ، وهو أنه كان مكلفاً بالإنفاق على هذا المسجد

ص: 414


1- ثانيهما هو ما سيأتي.
2- سيأتي وجهه.
3- أي الحديقة الحالية.
4- وهي رجوع التخالف لمسألتين أصوليتين.
5- حسب المقدمة الثالثة.

فيلزم استصحابه، فإذا لم يجر الأول جرى الثاني، لأن الاستصحاب الأول لا يفيد عدم كونه مسجداً، أي ليس محرزاً للعدم حتى يكون حاكماً على الاستصحابالثاني، وإنما هو عدم الإحراز، أما الاستصحاب الثاني فيفيد أنه كان مكلفاً بالإنفاق على هذا المكان والآن يشك في وجوب الإنفاق وعدمه، فيستصحب الحالة السابقة.

والحاصل: إنه لو كان الاستصحاب الأول محرزاً للعدم، لكان الاستصحاب الثاني محكوماً؛ لكن مفاد الاستصحاب الأول عدم الإحراز لا غير فالاستصحاب الثاني سليم عن الحاكم عليه، فليتدبر.

المثال الثاني: وهذا المثال لعله أفضل مثال لتوضيح رأي الشيخ (رحمه اللّه) في الشك في المقتضي في قبال الشك في المانع(1)، وهو: الفرق بين الزواج الدائم و المنقطع، فإنه

ص: 415


1- تذكرة: وهنا لا بأس بذكر إشارة توضح كلام السيد الأستاذ (دام ظله)، وأيضاً توضح وجه قوله فلتدبر في المثال السابق، ووجه أفضلية هذا المثال على سابقه، فنقول: إن السبب في ذلك هو اختلافهم في مراد الشيخ (رحمه اللّه) من المقتضي، فبعضهم قال: إن المراد منه هو المقتضي التكويني، وآخر قال: إن المراد منه الموضوع للحكم، وثالث قال: إن المراد منه الملاك؛ في حين أن السيد الخوئي (رحمه اللّه) قال في المصباح: ج3 ص23: (والظاهر أن مراد الشيخ (رحمه اللّه) ليس المقتضي للمتيقن، بل مراده من المقتضي هو المقتضي للجري العملي على طبق المتيقن، فالمراد من المقتضي نفس المتيقن الذي يقتضي الجري العملي على طبقه، فحق التعبير أن يقال: الشك من جهة المقتضي لا الشك في المقتضي، وملخص الكلام - في بيان الميزان الفارق بين موارد الشك في المقتضي والشك في الرافع - أن الأشياء (تارة) تكون لها قابلية البقاء في عمود الزمان إلى الأبد لو لم يطرأ رافع لها كالملكية والزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة، فإنها باقية ببقاء الدهر ما لم يطرأ رافع لها كالبيع والهبة وموت المالك في الملكية والطلاق في الزوجية، وكذا الطهارة والنجاسة، فلو كان المتيقن من هذا القبيل، فهو مقتض للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ طارئ، فإذا شك في بقاء هذا المتيقن، فلا محالة يكون الشك مستنداً إلى احتمال وجود الرافع له، وإلا كان باقياً دائماً، فهذا من موارد الشك في الرافع، فيكون الاستصحاب فيه حجة.> < و(أخرى) لا تكون لها قابلية البقاء بنفسها، كالزوجية المنقطعة مثلا، فإنها منقضية بنفسها بلا استناد إلى الرافع، فلو كان المتيقن من هذا القبيل وشك في بقائه، فلا يستند الشك فيه إلى احتمال وجود الرافع، بل الشك في استعداده للبقاء بنفسه، فيكون الشك في أن هذا المتيقن هل له استعداد البقاء بحيث يقتضي الجري العملي على طبقه أم لا، فهذا من موارد الشك في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجة فيه؛ وهذا المعنى هو مراد الشيخ (رحمه اللّه) من الشك في المقتضي والشك في الرافع.

لو شك في النكاح الدائم، في أنهحصل الطلاق(1) أو الخلع أو الموت فالشك هنا في بقاء العلقة الزوجية مع أن المقتضي موجود، لأن هذا الزواج مما لو ثبت لدام، ومع الشك في حصول الطلاق يستصحب البقاء، أما في الزواج المنقطع فالمقتضي محدود فلو شك بعد انتهاء السنة الأولى في أنها لا تزال زوجته أم لا لشكّه في أنه تمتع بها سنة أو سنتين فعلى رأي الشيخ (رحمه اللّه) فالاستصحاب لا يجري هنا، وعلى المنصور يجري(2)؛ فيستصحب كونها زوجة ويجب الإنفاق عليها.

فعلى رأي الشيخ (رحمه اللّه) حيث لم يجرِ الاستصحاب في المقتضي، لا يحق له مباشرتها، فمقتضى الاحتياط تجنبها، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن مقتضى الاحتياط في المسألة الفقهية هو أن ينفق عليها، لأنه لو لم يدفع لها النفقة يشك في براءة ذمته(3)؛ فالاحتياط يقتضي الإنفاق عليها.

فيتعارض الاحتياطان: الأصولي بعدم مباشرتها، والفقهي بالإنفاق عليها، والعامي عادة لا يستطيع فهم ما ذكر أو هضمه أو هو عسِر عليه فهمه، بل حتى بعض الفضلاء قد يتوقف ويتأمل.

وما ذكر هو مما ينطبق عليه الأمر الأول، وهو تخالف مورد النفي

ص: 416


1- للشك في عدالة الشاهدين مثلاً، أو للشك في ان وكيله في الطلاق طلّق أم لا.
2- استناداً إلى شمول إطلاقات صحاح زرارة وغيرها، لا إلى بناء العقلاء فانه لبّي.
3- لاحتمال كونها زوجته؛ لاحتمال كون العقد لمدة سنتين.

والإثبات، لأن أحد الموردين كان عن المباشرة، والمورد الآخر عن النفقة، مع لحاظ إمكان التفكيك بين الأحكام الظاهرية، لولا الحكومة.

ويمكن تطبيق القاعدتين على مورد واحد، وهو المباشرة نفسها، إذا طلبت منه في حدود المعاشرة بالمعروف أو كل أربعة أشهر مرة(1)، فلو كانت زوجة له فهو حق لها عليه، وأما لو لم تكنزوجة فلا حق لها عليه، وهنا يتعارض إحتياطان: فقهيان بأن يستجيب لها، أو لا يستجيب لها، فتدبر.

المثال الثالث: لو أن الزوج سافر بعد ما أودع مالاً في البنك وأوكل شخصاً بالإنفاق على زوجته، وبعد مرور عشرين سنة شك الوكيل هل أن الزوج ما زال حياً حتى يستمر بالإنفاق على زوجته، أم أنه مات لفرض انتهاء مدة العمر الطبيعي، فلا يجب عليه أن ينفق بل أن يعطي الأموال للورثة؟

فهنا يتخالف الاحتياطان، حيث إن الأمر يدور بين محذورين: إما أن ينفق عليها أو لا، فمقتضى عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي(2) أنها ليست زوجته(3) فلا يجب - بل لا يجوز - أن ينفق عليها بعد هذه المدة والأثر شرعي فليس الأصل بمثبت، ومقتضى استصحاب وجوب الإنفاق أن ينفق عليها، فما هو الحكم في هذه الحالة، وهل هنا حكومة أم لا، فليتدبر ويتأمل.

تخالف المبنى الأصولي في الاحتياط مع الاحتياط الفقهي

التطبيق الثاني: أن يتخالف المبنى الأصولي في الاحتياط مع الاحتياط

ص: 417


1- فإن الأحوط وجوباً أن لا يترك مقاربة زوجته المتمتع بها كل أربعة أشهر، بل على رأي بعض الأعلام كالسيد الوالد (رحمه اللّه) حسب العشرة بالمعروفة، وأما لو اشترطت في متن العقد المباشرة وعددها وجب عليه الالتزام حسب رأي آخرين أيضاً.
2- لدى الشك في مقتضي بقاء الحياة.
3- أو عدم ثبوت أنها زوجته.

الفقهي، وذلك كما لو شك في أنه وطنه أو أنه متوطن فيه، أو أن هذه الجهة هي القبلة أو تلك، أو أن صيغة انكحت كافية أو زوّجت، فقد يكون مقتضى الاحتياط الفقهي الجمع، لأن بالجمع إحراز للواقع قطعاً، وأما لو قلد أو اتبع رأي فقيه أو خبير وصلى إلى هذه الجهة أو بهذه الكيفية فإنه لا يعلم أنه صلى واقعاً إلى جهة القبلة أو امتثل المأمور به واقعاً(1)، فهذا هو الاحتياط الفقهي لكنه قد يتخالف مع الاحتياط الأصولي وذلك كما لو ذهب الفقيه فيالأصول(2) إلى أن الاحتياط هو في ترك الاحتياط مطلقاً أو في العبادات وأما في المعاملات أو مطلقاً، لكن احتياطه هذا كان استحبابياً ولم يكن احتياطاً وجوبياً، نظراً لوجود شبهة ضعيفة لديه بعدم تحقق قصد الإنشاء في المعاملات، في المحتاط بالجمع، أو شبهة عدم قصد الوجه أو قصد التمييز في العبادات واحتمال اعتبارها، أو لاحظ احتمال كونه عبثاً بأحكام المولى، وذلك كما لو صلى الظهر يوم الجمعة جهراً وإخفاتاً، فإنه حتى لو تفصّى عن هذه الشبهات وأجاب عنها كما سبق، لكن مع ذلك يبقى مجال للاحتياط الاستحبابي، لأن الإجابة كانت لديه بنحو العلمي لا بنحو العلم،فيبقى احتمال البطلان وارداً، فبناءً على ذلك يحتاط استحباباً فيقول: الأحوط استحباباً ترك الاحتياط، واللجوء إلى الاجتهاد أو التقليد(3) وبذلك ترتفع تلك الإشكالات ويستطيع حينئذٍ أن يقصد الوجه أو التمييز، كما يمكنه إذا عرف بالاجتهاد أو التقليد أن الصيغة في عقد الزواج هي: (زوجت) لا (متعت) مثلاً، الجزم فيتحقق منه قصد الإنشاء.

ص: 418


1- وهو القصر مثلاً أو التمام.
2- أو في بحث القواعد الفقهية، فإن قصد الوجه والتمييز منها، أو في المبادئ التصديقية للأصول، فإن اعتبار الجزم في الإنشاء منها.
3- أو إلى أهل الخبرة، كما لو ترددت القبلة بين جهتين.

إذن الاحتياطان هنا متخالفان وقد اجتمعا، ولكن الفقيه لو ارتأى الاحتياط وجوبياً في ترك الاحتياط وليس استحبابياً، لأن الشبهات المتقدمة كانت تامة في رأيه، فهنا لا مجال للاحتياط الفقهي كما كان الحال مع الاحتياط الاستحبابي، بعد أن تخالف الاحتياطان، لأن الأصولي حاكم عليه.

تخالف مقتضى العلم الإجمالي مع الاحتياط الفقهي

التطبيق الثالث: تخالف مقتضى العلم الإجمالي مع الاحتياط الفقهي، وذلك عندما لا يرى الفقيه تنجز العلم الإجمالي في حالات:منها: عند ما يرى عدم تنجز العلم الإجمالي في التدريجيات.

ومنها: عند ما يرى عدم تنجز العلم الإجمالي في أطراف الشبهة غير المحصورة.

ومنها: عند ما يرى عدم تنجز العلم الإجمالي لدى الدوران - حدوثاً - بين ما هو مورد الابتلاء وما ليس مورداً للابتلاء، كما لو كان هناك إناءان أحدهما تحت تصرفه والآخر خارج عن مورد ابتلائه، وعلم بأنه قد سقطت قطرة دم في أحدهما، فإن العلم الإجمالي هنا غير منجز، وعلى هذا فيجوز له التطهر بهذا الإناء أو الشرب منه، لكن مع ذلك يبقى الاحتياط الاستحبابي وجيهاً بتجنب هذا الإناء.

والحاصل: إن مقتضى العلم الإجمالي غير المنجز في الصور الثلاث هو الاحتياط الاستحبابي بتجنبهما، لكن مقتضى الاحتياط الفقهي الوجوبي لو انحصر الماء بهذا الإناء هو أن يتوضأ به ولا ينتقل إلى التيمم، بينما لو كان العلم الإجمالي منجزاً لكان الاحتياط اللزومي حاكماً على الاحتياط الفقهي وللزم التيمم.

ص: 419

تعارض القاعدة الفقهية مع الاحتياط

التطبيق الرابع: تعارض القاعدة الفقهية مع الاحتياط، والمراد منه الأعم من غير المستقر.

ومثاله أنه لو توضأ الإنسان وجفّت أعضاء وضوئه قبل المسح بسبب حرارة الجو، فإذا كان في مسترسل لحيته بلل فهل يأخذ البلل منه؟، فقد يقال: أنه لا يكفي ذلك؛ لأن المسترسل من اللحية ليس من أجزاء الوضوء التي يجوز أخذ البلل منها، ولكن لو غسل المسترسل من باب الاحتياط، وقلنا بأنه يفيد الاستحباب الشرعي لا العقلي فقط أو دل خبر ضعيف على استحباب غسل المسترسل وقلنا بأن قاعدة التسامح تفيد الاستحباب لا مجرد حصول الثواب، فيترتب عليه أن المسترسل من أجزاء الوضوء،فيجوز أخذ البله منه، فتأمل.

قال الشيخ (رحمه اللّه): (إن الثمرة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعي تظهر في ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبات الشرعية، مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعاً، فإن مجرد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلا استحقاق الثواب عليه، ولا يترتب عليه رفع الحدث، فتأمل. وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرد الاحتياط، لا يسوغ جواز المسح ببلله، بل يحتمل قوياً أن يمنع من المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحباً شرعياً، فافهم)(1) ولعله لانصراف الأدلة عنه.

وأما تطبيق مثال الشيخ (رحمه اللّه) في المقام فهكذا:

إذا كان الفقيه يرى أن القاعدة لا تفيد الاستحباب، بل تفيد مجرد حصول

ص: 420


1- فرائد الأصول: ج2 ص158.

الثواب، أي لا تفيد حكماً وضعياً، لأن روايات: «من بلغه»)(1) تفيد حصول الأجر والثواب، ولا تتحدث عن الاستحباب(2)، فمقتضى الاحتياط الناتج من القاعدة هو عدم صحة المسح ببلل المسترسل، ويجب عليه حينئذ الانتقال إلى التيمم(3) إذا لم يكن هناك ماء آخر.

في حين أن مقتضى الاحتياط الفقهي أن يمسح بتلك البلة، لاحتمال جزئية المسترسل، لاحتمال إفادة قاعدة التسامح الحكم الوضعي والجزئية أيضاً، وعليه فقد يكون المسترسل في عالم الثبوت جزءً، وفي هذه الحالة الأحوط أن يمسح ببلته ثم يتيمم، فذلك من تعارض الاحتياطين، فتأمل.

فهنا تخالف الاحتياطان، فمقتضى عدم تمامية قاعدة التسامح أنهذا لغو ولا وجه للاحتياط بالمرة وينتقل الأمر للتيمم، وأما مقتضى الاحتياط الفقهي فهو أن يمسح بتلك البلة ثم يتيمم، فتأمل.

مثال آخر: لو أن شخصاً أجنب ولم يستطيع الاغتسال، لفقد ماء أو لخوف ضرر أو غير ذلك، وكان درسه في المسجد، فهل يكفيه أن يتيمم ويدخل المسجد، المسألة خلافية فالبعض يقول: بالجواز، والبعض الآخر بالمنع(4) مبنياً ذلك على أن التيمم مبيح أو رافع للحدث ومطهّر.

ص: 421


1- الكافي: ج2 ص87. وتمام الرواية: عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب، أوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه».
2- وهناك نقاش في ذلك يترك لمحله.
3- أو الجمع بين الوضوء كذلك، والتيمم.
4- ونترك للقارئ الفاضل التأمل في وجه وجود احتياطين متخالفين في هذا المثال.

اقسام الاحتياط المذموم

الاحتياط ينقسم إلى مذموم وممدوح وغيرهما(1) والمراد بالمذموم المرجوح الأعم من المحرم والمكروه.

وموارد المذموم تبلغ خمسة عشر مورداً حسب استقرائنا(2) وربما تكون أكثر، ووجه المذمومية قد يكون مرجوحية الاحتياط فيه ذاتاً وقد يكون لابتلائه بمزاحم أهم وقد يكون لوقوعه مقدمة للحرام أو للأكثر مذموميةً:

1: الاحتياط فيما كان بشرط لا

الأول: الاحتياط فيما علم من الشارع أنه بشرط لا عن الزيادة، فإنه مذموم وقد يكون مبطلاً للعمل، وله أمثله كثيرة:

منها: الاحتياط في صوم الوصال، حيث إننا علمنا من الشارع عدم جواز هذا الصوم وبطلانه.

ومنها: الاحتياط في المدّ الزائد في القراءة بما يخرج الكلمة عن كونها تلك الكلمة عرفاً، فهو مذموم ومبطل للقراءة فإنه من الزيادة العمدية(3).

ومنها: الاحتياط بإقامة الحد بالزيادة كماً أو كيفاً، فإنه مذموم وفيه القصاص.

ومنها: الاحتياط في الطواف بالزيادة على السبعة، فإنه مذموم ومبطل.

ووجه الذم في غير الثالث تحريم الشارع وكونه تشريعاً وفي الثالث كونه تعدياً

ص: 422


1- كالمشكوك فيه.
2- وقد ذكر السيد العم (دام ظله) في (بيان الفقه) موردين منها.
3- أما لو كانت القراءة كذلك سهواً فذلك مبطل لقراءة تلك الكلمة، فيعيدها إن التفت حينها، حسب رأي البعض كالسيد الوالد (رحمه اللّه).

على الغير.

وقد يكون الاحتياط مبطلاً للعمل وإن لم يكن مردوعاً عنه، كمالو طلق زوجته ثلاثاً ولاءً احتياطاً فهو باطل على قول(1)، ويقع طلقة واحدة على قول آخر(2).

2: الاحتياط على خلاف الأمارة

الثاني: الاحتياط في موارد وجود أمارة شرعية على الخلاف، كما في البينة أو اليد أو سوق المسلمين، فالاحتياط هنا على رأي جماعة مذموم مطلقاً، ولكن السيد الوالد (رحمه اللّه) قيّده بها لو كان العمل بالأمارة في نظر الشارع أهم من الاحتياط.

وقد يفصّل: بأن الاحتياط في موارد وجود الأمارة مذموم دون الاحتياط في مقابل الأصل فلا يكون مذموماً، وقد يظهر من بعض كلمات السيد الوالد (رحمه اللّه) ذلك أي التفريق بين وجود الأمارة ووجود الأصل، وأن الاحتياط المخالف للأمارة مذموم، أما الاحتياط المخالف للأصل فممدوح.

وقد يفصل في الاحتياط في مورد وجود الأمارة، بين ما علم(3) كراهة مخالفته(4) أو كراهة عدم موافقته وبين ما لم يعلم كراهة مخالفته، وما لم يعلم كراهته على قسمين:

ص: 423


1- ونسبه في رياض الأحكام: ج11 ص65، لجماعة من علمائنا كالسيد المرتضى، وسلار، والعماني، وابن حمزة ,.
2- ونسبه في الحدائق الناضرة: ج25 ص234، للشيخ (رحمه اللّه) في النهاية، والمرتضى (رحمه اللّه) في القول الآخر، وابن إدريس والمحقق والعلامة , في المختلف وجماعة، ثم قال: (والظاهر أنه هو المشهور سيما بين المتأخرين). وبعضهم صرح بالإجماع أو أشار إليه، انظر: مفاتيح الشرائع: ج2 ص366.
3- الأعم من العلمي وقيام الدليل عليه.
4- كما في مورد سوق المسلمين.

الأول: أن يكون قد علم عدم كراهة المخالفة أو ترك الموافقة، كما في بعض موارد خبر الثقة، فإن الأدلة على حجية خبر الثقة تامة كالآيات والروايات وغيرها، لكن الاحتياط في بعض الموارد بعدم الموافقة فوراً - مثلاً - حسن ممدوح أيضاً، فلو أن فقيهاً عثر على خبر ثقة وأحرز، ببحث متعارف، عدم المعارض فله أن يكتفي به، إلا أنالاحتياط بالبحث عن روايات أخرى تعضدها أو أدلة معارضة تنقضها، على احتمال بعيد خارج عن المتعارف اللازم لدى العقلاء، حسن.

الثاني: أن يكون مما تعارضت فيه الأدلة، كما في أمر النكاح، فإن الروايات فيه متضاربة ظاهراً، فبعضها ينهى عن الفحص(1)، وبعضها يشدد كقوله (عليه السلام): «أمر الفرج شديد»(2)، وإن كان لها وجه جمع(3).

أما الشيخ (رحمه اللّه) فقد ارتأى أن الاحتياط ممدوح في كلا الموردين (صورة قيام الأمارة أو وجود الأصل)، لأنه يرى أن الاحتياط حسن على كل حال(4).

أقول: لا دليل على حسن الاحتياط مطلقاً، بل دل الدليل على مذموميته في الجملة.

ص: 424


1- كما تقدم ذكر بعضها.
2- الكافي: ج5 ص424، وتمام الرواية: (عن شعيب الحداد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): رجل من مواليك يقرؤك السلام وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلقها ثلاثاً على غير السنة وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «هو الفرج وأمر الفرج شديد ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها» والمستند هو عموم «وَأَمْرُ الْفَرْجِ شَدِيدٌ» لا المورد فإن الطلاق ثلاثاً على غير السنة باطل (على أحد الرأيين وحسب إحدى الطائفتين من الروايات) والاحتياط هنا فتوى وليس المقابل لها، فتأمل؛ وتفصيله في محله.
3- ككون رواية ميسرة: «أَلْقَى الْمَرْأَةَ بِالْفَلَاةِ...» أخص من رواية شعيب «وَأَمْرُ الْفَرْجِ شَدِيدٌ...».
4- انظر رسائل فقهية للشيخ الأنصاري (رحمه اللّه): ص165، رسالة في التسامح في أدلة السنن.

من أدلة ذم الاحتياط مع وجود الأمارة

وقد استدل الوالد (رحمه اللّه)(1) على مذمومية الاحتياط مع وجود الأمارةبوجهين، فذكرهما مع تصرف وإضافة:

الوجه الأول: بناء العقلاء على قبحه في بعض الصور وارتكاز المتشرعة على القبح أيضاً في الجملة، فإن العقلاء لا يرون من الحسن الاستفسار من البائع عن إباحة بضاعته وعدم كونها غصباً، مثلاً أو أن يسأل البائع من المشتري عن إباحة الثمن، إلا في مورد الشبهة عرفاً، بل لو سأل شخص من غير شبهة عرفاً ذمّوه وعدوه نوعاً من الوسوسة إضافة إلى أنه يشعر بالتهمة كما أنه نوع من سوء الظن بالآخرين وهو مذموم مطلقاً، ولكن القدر المسلّم من ذم العقلاء والمتشرعة له ما لو أكثر من ذلك بحيث عدّ وسوسة أو اشعر بالتهمة أو دلّ عليها أو كان منشؤه سوء الظن بالفاعل (ذي اليد) دون الفعل.

ويدل على الذم أيضاً قطعية مذمومية مطالبة أبي بكر من الصديقة الزهراء (عليها السلام) البينةَ مع أنها صاحبة يد على فدك، وذلك مع قطع النظر عن قطعية ملكها لفدك، فإن صِرف كلامها (عليها السلام) دليل، بل وأقوى دليل؛ إذ لا يعقل في حقها الكذب وهي التي «يرضى اللّه لرضاها ويغضب لغضبها» وهي المشمولة بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).

وقد يقرب ذلك بعبارة أخرى وهي: إن الإسلام جاء بمنهج متكامل يبتني على أمور منها ما أسسه ومنها ما أمضاه، منها الأمارات، لذلك فإن الاحتياط في صورة وجود الأمارة يعدّ - لدى الإكثار منه أو مطلقاً - إخلالاً بالمنهج الشرعي العام وبالنظام الذي أسسه الشارع أو أمضاه، كما أنه يوجب في الجملة اختلال

ص: 425


1- الوصائل إلى الرسائل: ج7 ص236 - بتصرف وإضافة.

النظام أو الهرج والمرج أو زعزعة استقرار المجتمع وتماسكه وتحابّ المؤمنين وتوادّهم؛ لأن المجتمع ينبغي أن يبنى على حسن الظن والثقة المتبادلة وعلى التعاون، والاحتياط بعدم الاعتماد على الحجج، كالبينة والاقرار وخبر الثقة وشبهها، يهدم - ولو في الجملة - هذا البناء، كما أن سيرة المتشرعة جارية على عدم السؤال، بل وعلى ذم السائل ورميه بالوسوسة، فتأمل.

الوجه الثاني: الروايات:كقوله (عليه السلام): «ليس عليكم المسألة» و«إن الخوارج ضيقوا» وتمام الحديث: (وسأل سليمان بن جعفر الجعفري، العبد الصالح موسى بن جعفر 3 عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها، فقال: «نعم ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إن الدين أوسع من ذلك») (1) و«ليس عليكم المسألة» وإن لم يكن ظاهراً في كراهتها لأنه في مقام رفع توهم الوجوب، إلا أن «ان الخوارج ضيقوا» ظاهر فيها.

وكالروايات النهي أو الذم عن سؤال المرأة عند إرادة التزويج بها هل هي خلية أم لا، إذ قال له (عليه السلام): «لم سألت»(2) وتمام الرواية: (عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: «وأنت لم سألت أيضاً ليس عليكم التفتيش»). والاستدلال بإطلاق «ليس عليكم التفتيش» فلا يضر به كون سؤاله بعد زواجه منها لا قبله.

وكذا ما جاء في الكافي(3) في الصحيح، (عن ميسرة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام):

ص: 426


1- من لا يحضره الفقيه: ج1، ص257.
2- انظر الكافي: ج5 ص569.
3- الكافي: ج5 ص392.

ألقي المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها: لك زوج، فتقول: لا، فأتزوجها، قال: «نعم، هي المصدقة على نفسها»)، وغيرهما من الروايات، ولو كانت في الاحتياط شائبة حسن لرجّح له الإمام الترك إلا أنه يقال بأنه من باب التزاحم، فتدبر وتأمل.

والروايات الناهية عن السؤال عن اللحم الذي في أسواق المسلمين هل هو حلال أم لا(1)، للبناء على أصالة الحلية في سوق المسلمين.

وبذلك يتنظر في قول الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه): (لا شك في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقاً حتى في ما كان هناك أمارة على الحل)(2)، فتأمل.

وقال صاحب الحدائق (قدس سره): إنه قد استفاضت الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين أو الفحص والتفتيش(3).

وتفصيل البحث في حسن أو مذمومية الاحتياط على خلاف الأمارة يترك لمحله.

3: الاحتياط مع العلم بالحكم الشرعي

الثالث(4): الاحتياط في موارد العلم الوجداني بوجود حكم شرعي، قال السيد العم (دام ظله): (الاحتياط مع العلم الوجداني بالحكم الشرعي، كمن حصل له العلم القطعي بطريق التشرف أو بغير ذلك، بوجوب صلاة الظهر لا الجمعة،

ص: 427


1- وفي ذلك روايات كثيرة، منها ما جاء في تهذيب الأحكام: ج9 ص72، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحم من السوق ولا يدرى ما يصنع القصابون، قال فقال: «إذا كان في سوق المسلمين فكل ولا تسأل عنه».
2- فرائد الأصول: ج2 ص137.
3- الحدائق الناظرة: ج1ص68.
4- من موارد الاحتياط المذموم.

فأراد الجمع بينهما احتياطاً، أو كمن أراد الجمع بين الإتيان بصلاة الظهر أربع ركعات وبين الاتيان بها خمس ركعات مع علمه بأنها أربع ركعات لا خمس.

وهذا القسم لا إشكال في أنه لغو، ولا يسمى الاحتياط فيه طاعة ولا رجاء طاعة ولا الانبعاث عنه انبعاثاً عن أمر المولى ولا عن احتمال أمره، ولعله لا يتمشى فيه قصد الطاعة أصلاً، اللّهم إلا لغير الملتزم بالموازين العقلية والعرفية، كالوسواسي الذي شكك في وجدانياته، وهو خارج عن مسير البحث ومصيره)(1).

أقول: إن هذا الاحتياط لغو بل مذموم، سواء أعلم بالحرمة، أم علم بالإباحة أم لم يعلم بتشريع الجواز فإنه مساوق للعلم بالحرمةفيما احتاج إلى تشريع جوازه، فلو قطع الفقيه بأن صلاة الجمعة محرمة زمن الغيبة، فلا مجال هنا للاحتياط بالجمع بين الجمعة والظهر فهو لغو - بل هو حرام -، لأنه تضمن فعل حرام، وكذا لو قطع بإباحة شيء كشرب الماء؛ فإن الاحتياط فيه لغو ومذموم.

ويوضح ذلك(2) أو يتفرع عليه(3) كراهة الاحتياط في كثير من المسائل:

فمنها: إن لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) مقطوع بجوازه، بل بأنه حسن راجح، فالاحتياط بتركه مذموم.

ومنها: الاحتياط بالإمساك قبل طلوع الفجر وبعد غروب الشمس بوقت طويل كساعتين مثلاً، مذموم - إذا كان بعنوان الاحتياط -.

ومنها: الاحتياط بترك المجاز في نهار شهر رمضان احتياطاً لصحة الصوم، باعتبار أن تعمد الكذب على اللّه ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) مفطر مع علمه بأنه ليس بكذب قطعاً، فإنه مذموم بل الاحتياط بتركه مطلقاً مذموم لكن المسلّم كونه

ص: 428


1- بيان الفقه في شرح العروة الوثقى: ج1 ص102.
2- في المثال الأول الآتي.
3- في المثالين الآتيين.

مذموماً في الجملة(1).

مناقشة دعوى عدم حسن الاحتياط مع العلم بالحكم

هذا ولكن قد يتأمل في ما ذكره (دام ظله) موضوعاً وحكماً:

أما موضوعاً: فلعدم صحة التعبير ب(الاحتياط في موارد العلم بالحكم الشرعي)، حيث إن موارد العلم بالحكم الشرعي خارجة موضوعاً عن عنوان الاحتياط(2)، لأن معنى الاحتياط هو التحفظ على الواقع المحتمل بغية إدراكه، ولو كان قاطعاً بالحكم الشرعي فإنه سالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا واقع محتمل لكي يتحفظ عليهبالفعل، ولا واقع محتمل لكي يتحرز عنه بالترك.

نعم يمكن الجواب بأحد وجهين:

الأول: إنه يصح إطلاق عنوان الاحتياط عليه بلحاظ الغرض، لا الأمر أو النهي لفرض العلم بعدمهما، كما سيتضح وجهه في ضمن الإشكال حكماً.

الثاني: إنه يصح تسميته بالاحتياط من باب التوسع.

وأما حكماً: فهو أنه لا إطلاق لعدم حسن الاحتياط في موارد العلم بالحكم الشرعي لوجود ترخيص صريح مثلاً وذلك لأن الاحتياط قد يكون حسناً، لأجل التحفظ على أغراض المولى المحتملة وان قطع بعدم أمره.

وذلك لما حققناه في الأصول: وصرح به بعض الأعاظم من أن العبد كما يجب عليه التحفظ على أوامر المولى، يجب عليه التحفظ على أغراض المولى الملزمة المحتملة فكيف بالمقطوعة وإن لم يكن هناك أمر بها، كما لو علم أو احتمل وجود غرض ملزم لم يأمر به، إما لغفلة أو لعجز أو لتزاحم أو غير ذلك

ص: 429


1- في موارد الوسوسة أو الإخلال بالحكمة في التبليغ أو غير ذلك.
2- وليس أنه احتياط، لكنه لا يسمى طاعة ولا رجاء طاعة، ولعل مقصوده هو هذا فعبر بذاك.

وذلك ما نراه في الموالي العرفية، كما لو سقط ابنه في البئر والمولى لا يعلم فإن علم العبد وجب عليه ان ينبعث لإنقاذه نظراً للغرض الملزم.

نعم لا تتصور الغفلة ولا العجز في المولى الحقيقي، لكن عدم أمره رغم ثبوت غرضه ممكن في صور عديدة:

منها: في باب الترتب، كإنقاذ الغريق والصلاة إذا تزاحما في وقت واحد، حيث إن القائل بالترتب يقول بوجود أمر طولي(1) لكليهما، فإذا لم ينبعث لإنقاذ الغريق (الأهم)، فإن الأمر بالصلاة (المهم) آخذ بعنقه.

ولكن القائل بعدم الترتب يرى أنه لا أمر بالصلاة(2) مع وجود الأهم(3)، حتى لو عصى ولم ينبعث لإنقاذ الغريق، فمنها يمكن القولبحسن الاحتياط بالإتيان بالصلاة تحفظاً على غرض المولى الذي لم يأمر بحامله، لوجود مانع وهو مزاحمته بالأهم وعدم إمكان ان يأمر بالمهم حينئذٍ، لامتناعه على مسلك من يرى استحالة الأمر الترتبي.

وذلك لأن هذه الصلاة في حد ذاتها ذات مصلحة، وقد حال مانع من الأمر بها، فالعبد ينبعث حينئذٍ عن الغرض لا عن الأمر، فتأمل.

ومنها: صورة عدم تشريع الأحكام رغم ثبوت ملاكاتها في صدر الشريعة وفي مطلق أزمان تدرجية نزول الأحكام؛ فإنه وإن لم(4) نقل بوجوب الإتيان بما فيه المصلحة الثبوتية وترك ما فيه المفسدة الثبوتية لدى علم العبد بها، كما في

ص: 430


1- وقد صورنا في بحث (الترتب) وجود الأمر العرضي بهما، فراجع.
2- أي بكافة أجزائها وشرائطها، بل مطلقاً.
3- الذي هو إنقاذ الغريق.
4- ووجه القول بالوجوب أو الحرمة هو استقلال العقل ببعضها فتكون هي الواجبة أو المحرمة، خاصة، فتدبر.

تحريم الخمر والميسر النازل تشريعهما بعد البعثة بزمنٍ، فإنه لا شك في حسن الاحتياط بالترك نظراً للغرض الملزم المحتمل.

ومنها: صورة عدم تشريع الحكم لمزاحمته لمصلحة التسهيل وشبهها، ومن ذلك قوله (صلی الله عليه وآله وسلم): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1)، فإنه يحسن على العبد الاحتياط بالاستياك، تحفظاً على الغرض الواقعي المحتمل بل الموجود، ولكن الشارع لأجل مصلحة التسهيل لم يأمر به، فههنا يحسن الاحتياط بالاستياك لكل صلاة، رغم القطع بعدم وجوبه؛ وما ذلك إلا لأجل مراعاة الغرض الملزم، فتأمل.

4: الاحتياط في حدود سلطنة الغير

الرابع: الاحتياط في حدود سلطنة الغير، حيث إن احتياط الإنسان بما يتضمن التنازل عن حقه المالي مثلاً، كلاً أو بعضاً ممدوح، وأما أن يحتاط بالتنازل عن حق الغير فهو مذموم.

ويمكن التمثيل لذلك بما إذا كان عليه خمس أو حق آخر، فله أن يقتصر على المقدار الأقل إذا شك في مقداره، إذا كان غير مقصرفي حفظه دون ما لو أهمل في حفظ مقداره فتردد بين الأقل والأكثر (في دين أو زكاة أو خمس) فإن فيه كلاماً والأحوط استحباباً دفع الأكثر، وهذا احتياط ممدوح.

وأما إذا كان وكيلاً للغير في إدارة أمواله وإخراج حقوقها، فإن علم شمول وكالته وعمومها للتصرف والبذل حتى في حالة الاحتياط فالاحتياط غير مذموم، وأما إن علم بعدم الشمول فالاحتياط محرم(2)؛ وإن شك في عموم وكالته لدفع

ص: 431


1- الكافي: ج3 ص22.
2- فيما كان الحكم شرعاً البراءة.

الأكثر، فاحتياطه مذموم؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم دون أموال غيرهم، والوكيل مسلط على أموال الموكل بمقدار ما أذن له، فكل ما شك فيه يبقى على الأصل فلا يجوز له التصرف إلا بالقدر المتيقن.

وكذلك الحال في نظائر ما ذكرنا، كما في تصرف الوصي على الثلث، فليس له أن يحتاط بدفع الأكثر حين الشك، لأنه احتياط في حق الغير(1) ونظائر ذلك كثيرة في الفقه.

وأما في فقه الدولة: فإن الاحتياط، بإقرار ضريبة أكثر على الناس (حتى مع قطع النظر عن حرمة الضرائب شرعاً) تحفظاً على احتمال الحاجة، مرجوح بلا شك فإنه تصرف في مال الغير بدون رضاه، وأما مع إحراز الحاجة والضرورة وإذن أكثرية الفقهاء وجامعي الشرائط، فجوازه نابع من كونه حكماً ثانوياً حينئذٍ.

5: الاحتياط الضرري

الخامس: الاحتياط المضر بالنفس، وذلك كالصوم إذا كان يضر به لمرض أو غيره، فالاحتياط بالصوم مذموم إن كان الضرر غير بالغ، وإلا فهو حرام ومبطل للصوم، وقد يقسم الصوم إلى الأحكام الخمسة بلحاظ الضرر وعدمه، فتأمل.

وكوضوء المريض إذا كان مضراً به فإنه غير جائز، فالاحتياط بترك التيمم والإتيان بالوضوء مذموم.

ولكن هل يبطل الوضوء حينئذ؟ أطلق بعضهم كصاحب العروة القول بالبطلان، وأطلق البعض كالسيد الشيرازي (رحمه اللّه)(2) القول بالصحة(3) بل احتمل

ص: 432


1- وهم الورثة.
2- الميرزا عبد الهادي (رحمه اللّه).
3- انظر العروة الوثقى المحشى: ج1 ص485.

البعض، كالسيد الحكيم (رحمه اللّه)، الصحة حتى إذا كان العطش مهلكاً (فتوضأ به) وفصّل البعض، كالاصفهاني(1) والسيد القمي .، بين الوضوء الضرري فباطل والوضوء العسري أو الحرجي فصحيح.

المباني والوجوه في صحة الوضوء الضرري

ولا بأس بإشارة موجزة لمناشئ هذا الاختلاف؛ فإن هذه المسألة مبتنية على تنقيح عدة مباحث:

الأول: هل النهي في العبادة يقتضي الفساد؟ فإن قلنا بذلك، فلا فرق بين الضرر والحرج والعسر في البطلان إن كان كل منها منهياً عنه، فتأمل(2).

الثاني: هل أن أدلة الطهارة المائية مطلقة أم لا، ذهب السيد الخوانساري (رحمه اللّه) إلى ذلك، فقال: بصحة الوضوء مطلقاً حتى الضرري(3).

الثالث: هل الملاك مصحح للعبادية؟ وهل في الوضوء الضرري ملاك؟

الرابع: هل الترتب ممكن؟ وهل للوضوء الضرري على فرض عصيان النهي بارتكاب الضرر، أمر ترتبي(4)؟

الخامس: في مفاد (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) وفيهأقوال(5):

منها: إنها تفيد النهي، ولا شيء منهياً عنه يمكن التقرب به، فهو باطل ولا يمكن تصحيحه بالملاك.

ومنها: إنها تفيد النفي لا النهي، وعلى هذا فإن الوضوء الضرري لم يجعل،

ص: 433


1- السيد أبو الحسن (رحمه اللّه).
2- سيأتي وجهه.
3- العروة الوثقى: ج2 ص172.
4- فتأمل.
5- انظر زبدة الأصول: ج3 ص446 للسيد الروحاني.

ولكن يمكن تصحيحه بالملاك، إلا أن يجاب بعدم إحرازه لعدم الكاشف عنه.

وفيه: إنه محرز ضرورة عدم الفرق بين الوضوء الضرري وغيره إذ الضرر في مرتبة المانع لا المقتضي، فتأمل.

السادس: في مفاد قوله تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1) ونظائره مما دل على قاعدة (لا حرج) فأما المفصلون فقد استفادوا منه نفي الإلزام دون نفي الأصل، وأما المطلقون فقد استفادوا منه نفي الأصل أيضاً.

فالمفصل يقول: إذا كان الوضوء ملزماً به فهو حرجي، وأما إذا خير المكلف بين الوضوء والتيمم فليس الحرج ناشئاً من قبل الشارع ليكون منفياً بالآية، بل إذا اختار المكلف الوضوء فإنه سيقع في الحرج الناشئ من قبل نفسه ولا ترفعه أدلة الحرج.

والحاصل: إن الآية المباركة لو استفيد منها أن الإلزام مرفوع فالوضوء يكون صحيحاً، لأن الوضوء قد شرّع ولكن لا إلزام فيه، أما لو استفيد منها أنه لم يجعل الحكم الحرجي أصلاً، كما لم يجعل الوضوء الضرري، فيكون الوضوء باطلاً(2).

ص: 434


1- سورة الحج: 78.
2- ولا بأس بنقل كلام الميرزا النائيني (رحمه اللّه) في منية الطالب: ج3 ص312 لما فيه من الفوائد، قال (رحمه اللّه): (ثم إنه فيما إذا انقلب التكليف بالطهارة المائية إلى الترابية كما إذا كان الوضوء مضراً وكان عالماً به لو توضأ حينئذ بطل وضوؤه، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك ولا بالترتب ولا بما يقال: إن التيمم رخصة لا عزيمة، ولا بما يرجع إلى ذلك مثل ما يقال: إن الضرر يرفع اللزوم لا الجواز، وذلك لأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة الوضوء والغسل، وعدم ثبوت الملاك له، لعدم وجود كاشف له. ولا معنى لاحتمال الرخصة في المقام، فإن التخصيص بلسان الحكومة كاشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج، ولا معنى لرفع اللزوم دون الجواز، فإن الحكم بسيط لا تركيب فيه حتى يرتفع أحد جزئيه ويبقى الآخر. ولا يقاس باب التكليف على الخيار، فإن العقد يشتمل > < على الصحة واللزوم معا، كل منهما بخطاب يخصه وملاك يختص به. فالجزء الأخير من العلة للضرر إذا كان لزوم العقد لا وجه لرفع صحته، وهذا بخلاف الوجوب، فإنه إذا ارتفع بكلا جزئي تحليله العقلي، ولولا توهم بعض الأعاظم أنه لو تحمل المشقة وتوضأ أو اغتسل حرجياً لصح وضوؤه وغسله، لورود نفي الحرج في مقام الامتنان فلا يكون الانتقال إلى التيمم عزيمة، لما كان البحث عن صحة الوضوء في مورد الضرر مجال، ولكنا تعرضنا لذلك لرفع هذا التوهم، وأنه لا فرق بين نفي الحرج ونفي الضرر فإن كلاً منهما حاكمان على أدلة الأحكام، ولا فرق بين الحكومة والتخصيص).

والشاهد: إنه على رأي المطلقين بأن كلّاً من الضرر والحرج يستلزم بطلان الوضوء، فإن الاحتياط بالوضوء مذموم، وأما على رأي المفصلين الذين يرون الوضوء الحرجي صحيحاً، فقد يقال: إن هذا الاحتياط فيه حزازة من دون مذمة، والمذموم خاصة هو الذي لا يتقرب به إلى اللّه تعالى، فهذا الوضوء صحيح على هذا المبنى، لأنه مما يتقرب به ولا ذم فيه، فهو كالصلاة في الحمام فهي ذات حزازة وبها فسرت الكراهة، كما ذهب إليه في الكفاية(1)، والكلام جارٍ في المقام، فالوضوء الحرجي ليس فيه مذمة، بل مجرد حزازة فهو صحيح فتأمل(2).

6: الاحتياط المضر بالغير

السادس(3): الاحتياط المضر بالغير، وذلك كاحتياط الزوجة بعباداتها بما يضر أو يخل بحق الزوج، أو احتياط المرضعة بالابتعاد عن كثير من الأطعمة المحللة شرعاً تجنباً للشبهة بما يضر بالرضيع، فهذا احتياط مذموم.

وفي فقه الدولة: احتياط الحكومة بمنع الاستيراد والتصديرلجملة من البضائع أو منع التجول في المدن في الليالي أو مطلقاً، إلا إذا دعت الضرورة وكان

ص: 435


1- انظر كفاية الأصول: ص34.
2- إذ لا دليل على الحزازة حينئذٍ.
3- من موارد الاحتياط المذموم.

ذلك بإذن أكثرية الفقهاء أو برضى أكثرية الناس - على الرأيين -.

7: الاحتياط الموجب للتنفر من الدين

السابع: الاحتياط الموجب للتنفر من الدين، أو لإيقاع البغضاء والكراهية بين المؤمنين، ولنضرب له أمثلة:

منها: الاحتياط بعدم مصافحة الآخرين مظنة النجاسة.

ومنها: التجنب عن الأكل والجلوس مطلقاً في دار من لا يخمس وذلك فيما لو لم يعلم أن الخمس قد تعلق بعين هذه الدار وعين هذا الطعام وإن احتمله، فالاحتياط هنا مذموم.

وأما لو علم بتعلقه به بعينه (والمشهور قالوا بتعلق الخمس بالعين لا بالذمة ولعل المخالف نادر(1)) فلا يجوز الدخول والأكل إلا بإجازة الحاكم الشرعي، ويجب عليه تخميس مقدار الطعام ومقدار البقاء في الدار، فلو أراد رغم إذن الحاكم الشرعي الاحتياط بعدم الذهاب وكان الاحتياط منفراً عن الدين أو موجداً للبغضاء بين المؤمنين فهو مذموم للعنوان الثانوي.

ومنها: الاحتياط بإغلاق بعض الدول المسماة بالإسلامية المحلات التجارية أوقات الصلاة، فهذا احتياط مذموم، لأن الصلاة أول الوقت أمر مستحب،

ص: 436


1- وهذا ما أكده الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من خلال استقرائه وتتبعه لكلماتهم، مع غض النظر عن رأيه في بعض هذه التفاصيل التي تكلم بها، فقال في كتاب الخمس ص278: (الظاهر تعلق الخمس بالعين في الغنيمة والمعدن والكنز والغوص والأرض المبتاعة من المسلم، والحلال المختلط بالحرام، والمظنون عدم الخلاف في ذلك، وأما أرباح المكاسب، فالظاهر أنها كذلك، لأنه الظاهر من أدلتها سيما الآية التي استدل بها كثير من الأصحاب، عدم وجوب الإخراج من كل عين، لكن الظاهر عدم وجوب أن يخرج من كل عين خمسه، لصدق إخراج خمس الفائدة، بل الظاهر أن الحكم كذلك في الكنز والغوص والمعدن إذا اشتملت على أجناس مختلفة).

وإجبار الغير على إغلاق محله أو شركته أمر محرم، والحكم اللا اقتضائي لا يزاحم الاقتضائي.ومنها: الاحتياط بعدم معاشرة الكتابي مطلقاً إذا كان يوجب التنفر من الدين أو الكراهية للمسلمين(1).

ومنها: الاحتياط بمنع الزوجة من إسفار وجهها رغم تقليدها من يجوّزه.

8: الاحتياط الموجب للعسر أو الحرج

الثامن: الاحتياط الموجب للعسر والحرج، وذلك إذا كان العسر والحرج شديدين، أما إذا كانا ضعيفين فقد يناقش في مذموميته.

ومن أمثلته: المشي في الطرق المفتوحة في ملك الغير بلا إذن، كما في بعض الطرق أو الساحات أو الجسور والأنفاق المستحدثة بالقرب من الأماكن المقدسة والروضات المشرفة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، أو سائر البلاد، فإن الاحتياط بعدم المشي فيها أوجب العسر أو الحرج الشديدين فإنه مذموم مع ثبوت فتوى مرجعه بالجواز إما للقول بأن أدلة الملكية قاصرة عن الشمول لما بعد تحوّلها عرفاً إلى طريق، أو لغير ذلك، وكما إذا أوجب الغسل عليه الحرج الشديد، كالضيف إذا احتاج إلى الغسل.

وكذا الاحتياط بشراء الحاجات اليسيرة بنفسه بدون توكيل ابنه، نظراً لقول البعض ببطلان معاملة الصغير مع كونه يرى الصحة أو يراها مرجعُه، فلو أوقعه ذلك الاحتياط في العسر أو الحرج الشديدين كان مذموماً.

والفرق بين الحرج والعسر(2): أن الأول نفسي، والثاني بدني.

ص: 437


1- كما في الأقليات المسلمة التي تعيش في الدول الغربية للدراسة في جامعاتها وغير ذلك.
2- وهنا بحكم المناسبة في ذكر الحرج والعسر، تم التطرق لهذا البحث بإيجاز.

وبعبارة أخرى: ما أوجب مشقة نفسية فهو حرج، وما أوجب مشقة بدنية فهو عسر.

والدليل على مذمومية الاحتياط إذا استلزم العسر والحرجالشديدين يتوقف على تحقيق أمرين:

الأول: نسبة أدلة الحرج مع أدلة الاحتياط

والمقصود من الاحتياط هنا هو الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي(1)

ومورد البحث هو ما إذا كان مستلزماً للعسر والحرج.

والنسبة المصداقية بين مورد الاحتياط والعسر والحرج هي العموم والخصوص من وجه، لأنه قد يكون عسر وحرج ولا علم إجمالياً، وقد يكون علم إجمالي ولا عسر ولا حرج(2)، وقد يجتمعان.

ومورد الكلام في أنهما إذا اجتمعا فهل تتقدم أدلة العسر والحرج، أم أدلة الاحتياط؟ خلاف بين الأعلام، وقد ارتأى الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه)(3): أن أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على أدلة الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة(4)؛ وذلك لأن أدلة نفي العسر والحرج تنفي وجود حكم واقعي عسري أو حرجي في مرحلة الثبوت أي تنفي ثبوت الحكم الواقعي في صورة العسر والحرج، وإذا كان كذلك فقد انتفى موضوع الاحتياط من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ الشارع

ص: 438


1- كما لو كان في الصحراء وأضاع القبلة، وأراد الاحتياط بالصلاة إلى الجهات الأربع.
2- أي في العمل بكل المحتملات.
3- انظر: كتاب الطهارة: ج2 167، وكتاب المكاسب: ج2 ص175، وفرائد الأصول: ج1 ص410، هذا وقد تبعه السيد الخوئي (رحمه اللّه) في ذلك، فقال في مصباح الأصول: ج2 ص230: (والصحيح ما ذكره الشيخ من حكومة قاعدة نفي الحرج على قاعدة الاحتياط).
4- بل قد يقال: بورودها.

يقول حينئذٍ لا حكم لي في الواقع إذا كان هناك عسر وحرج، ومع عدم الواقع أصلاً فالاحتياط(1) لأجل ماذا؟ أو يقال: إن الاحتياط، كسائر العناوين تشمله عمومات رفع العسر والحرج أي رفع كل تكليف كان عسراً أو حرجاً.والتحقيق: إن أدلة نفي العسر والحرج متقدمة على أدلة وجوب الاحتياط بالحكومة تارة وبالورود أخرى.

والأول فيما لو كان نفس الاحتياط عسراً أو حرجاً، والثاني فيما لو كان الحكم (الذي يراد الاحتياط ليقطع بحصوله) عسراً وحرجاً(2).

الثاني: رافعية أدلة العسر للحسن؟

بعد الفراغ عن أن أدلة العسر والحرج ترفع الوجوب، يقع الكلام في أنها هل ترفع الحسن أيضاً أو تكشف عن رفعه ليكون الاحتياط مذموماً؟ إذا كان حرجياً أو متعسراً؟

قد يقال: برافعية(3) أدلة نفي العسر والحرج للحسن أيضاً، إما استناداً لقوله تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(4)، بناءً على إرادة المعنى الكنائي منها، وهو عدم حسن الحرج ومذموميته بقرينة السياق وغيره.

وفيه: إنه الظاهر، حيث إن الظاهر أن الامتنان برفعه(5) لا غير، فقد يكون وجهه مذموميته وقد يكون وجهه عدم رجحانه وقد يكون وجهه مزاحمته بالأهم، كمصلحة التسهيل، فأين الدلالة على رافعية الآية لحسن ما فيه الحرج.

ص: 439


1- إذ الاحتياط هو التحفظ على الواقع والوصول إليه بإتيان كل الأطراف، أو تجنب كل الأطراف.
2- راجع تفصل الوجه في ذلك في (الحكومة والورود).
3- أو كاشفية.
4- سورة الحج: 78.
5- أي بعدم جعله.

والحاصل: إن المعنى المطابقي للآية لا يفيد أكثر من أنه لم يجعل عليكم حكم حرجي، أما كون هذا الحكم الحرجي غير المجعول أو المرفوع حسناً أو قبيحاً أو لا هذا ولا ذاك فالآية ساكتة عنه.

والأولى الاستناد إلى قوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(1) فتدبر.أو استناداً إلى بعض الروايات، نحو قوله (عليه السلام): «إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم»(2).

وقوله (عليه السلام): «إن هذا الدين متين فأوغلوا(3) فيه برفق ولا تكرِّهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه، فتكونوا كالراكب المنبتَّ(4) الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(5).

فإن ظاهر الروايتين الإرشاد إلى مرجوحية التضييق واللارفق، ومذمتهما لظهور وصف الخوارج بالتضييق على أنفسهم في ذلك، ولظهور قوله: «وَلَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ اللَّهِ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ» في كون التعسير والخرق - المقابل للرفق - موجباً لذلك، وعليه: فالاحتياط الموجب للعسر والحرج مذموم، وتحقيق ذلك يترك لمحله.

9: الاحتياط في الحدود

التاسع: الاحتياط في إجراء الحدود، فإن الاحتياط بإقامة الحدِّ في مورد الشبهة مذموم، بل هو محرم، استناداً للنبوي المشهور: «ادرأوا الحدود

ص: 440


1- سورة البقرة: 185
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص257، وقد تقدم ذكر تمام الرواية.
3- الإيغال: السير الشديد. يقال: أوغل القوم وتوغلوا، إذا أمعنوا في سيرهم.
4- يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته: قد انبت، من البت، القطع، وهو مطاوع بت يقال بته وأبته، يريد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقض وطره. وقد أعطب ظهره. النهاية في غريب الحديث: ج1 ص92.
5- الكافي: ج2 ص86.

بالشبهات»(1) وهي مرسلة(2)

ورغم إرسالها فقد أطبق الفقهاء على العمل بها، بل ادعى الجواهر الضرورة في ذلك، أي ضرورة درأ الحدود في الشبهات(3)، فهي قاعدة مسلمة.

وعلى هذا فإن القاضي لو أمر احتياطاً بإقامة الحد مع وجود الشبهة، فهو احتياط مذموم.

أنواع الشبهة التي تدرأ بها الحدود

المذكور في بعض الكتب الفقهية أن شبهة المتهم تدرأ بها الحدود عنه(4)، ولكن السيد الوالد (رحمه اللّه) عمم الشبهة التي تدرأ بها الحدود إلى خمسة عناوين، استناداً إلى عموم الشبهات وأن دعوى الانصراف إلى شبهة المتهم أو القاضي، غير تامة لكونها بدوية:

شبهة الفقيه

العنوان الأول: شبهة مرجع التقليد بنحو الشبهة الحكمية، كما لو حصلت له شبهة في أن المرتد الفطري(5) هل يقتل أم لا، فإن المشهور هو أن

ص: 441


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص74، وتمام الرواية: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم): «ادرؤوا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حد».
2- نعم، هناك روايات أخرى يمكن الاستفادة منها في قاعدة الدرء، كرواية الصدوق في الفقيه: ج4 ص50، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إذا كان في الحد لعل أو عسى فالحد معطل»، ولكن هذه الرواية وغيرها أيضاً بين مرسلة أو غير معتبرة، من هنا قال السيد الخوئي (رحمه اللّه) في تكملة المنهاج: ج1 ص154: (إن درء الحدود بالشبهات لم يثبت برواية معتبرة).
3- وقال في مستند الشيعة: ج18 ص264: بوجوب درء الحدود بالشبهات.
4- كما لو أن شخصاً سرق بشبهة التقاص من المسروق منه وأنه جائز فلا يجرى عليه الحد.
5- ارتداداً أجوائياً.

المرتد الفطري يقتل(1)، أما المرتد الأجوائي(2) فقد ناقش فيه السيد الوالد (رحمه اللّه) وارتأى عدم القتل، وذلك كما لو أخذ موج الشيوعية الآلاف من الناس، فإنه يرى أن المرتد الأجوائي غير مشمول لعموم تلك المسألة وإن الروايات ناضرة للارتدادات الشخصية المخالفة للمنهج والجو العام، لا لصورة الارتدادات العامة أو الكبيرة.

والحاصل: إنه لم يحرز كونها في مقام البيان من هذه الجهة، إضافة إلى أن الارتداد الفردي هو القدر المتيقن في مقام التخاطب.

والنتيجة: لو شك الفقيه في شمول عموم أدلة قتل المرتد للمرتد الأجوائي أو انصرافها عنه، فهذه الشبهة تكفي لدرء الحدِّ عنه، وذلك فيما إذا كان هو القاضي أو كان القاضي مقلداً له، بناء على صحة كونه غير مجتهد، أو مطلقاً، بناء على أن للقاضي العمل برأيٍ غير رأيه(3).

شبهة القاضي

العنوان الثاني: شبهة القاضي بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو حدثت له الشبهة في أن المدين معسر، فلا يسجنه حينئذٍ فيما لو امتنع عن أداء الدين.

ص: 442


1- بل في الجواهر: (بلا خلاف معتد به أجده في شيء من الأحكام المزبورة، بل الإجماع بقسميه). الجواهر: ج41 ص605.
2- الأجوائي: أول من استخدم هذا المصطلح في الكتب الفقهية هو الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) في موسوعة الفقه، والظاهر أن المراد به: هو ذلك الشخص الذي يأخذه التيار الاجتماعي المحيط به على أن يسلك سلوكه وينتهج نهجه، من غير علم ودراية بعاقبة هذا السلوك في كافة جوانبه، وشبيه ما نقول عليه بالعامية: أخذته الموجة.
3- فصّلنا الكلام عن صحة عمل المجتهد برأي مجتهد آخر، فيما لم يكن مجتهداً فيه بالفعل، بل حتى فيما اجتهد فيه إذا لم يكن قاطعاً، في (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وغيره.

شبهة المدعى عليه (المتهم)

والعنوان الثالث: شبهة المدعى عليه، أي المتهم(1).

وذلك في الجاهل القاصر واضح، ولكن هل يجري في الجاهل المقصر أيضاً؟

وبعبارة أخرى: هل الجاهل المقصر تشمله قاعدة (تدرأ الحدود بالشبهات)، كما لو كان قادراً على التعلم فقصّر عن التعلم، فحصلت له شبهة حكمية أو موضوعية فشك في حرمة محرم كالخمرة وأجرى البراءة أو شك في أن هذه خمر فلم يهتم وشرب، فقد يتمسكبعموم (الشبهات) وقد يفصل بين الجاهل المقصر الذي كان غافلاً حين العمل عن الحكم(2)، فإنه يكون مشمولاً للقاعدة، وبين المقصر الملتفت حين العمل إلى احتمال وجود حكم شرعي بالتحريم، فيهمل الفحص عنه عامداً فلا تشمله القاعدة.

وقد يدعى انصراف الشبهات عن المقصر مطلقاً، وتفصيل البحث عن ذلك يطلب من كتاب الحدود وفي مبحث الجاهل القاصر والمقصر في حديث الرفع وغيره.

العنوان الرابع: شبهة الشاهد.

والعنوان الخامس: شبهة المدعي.

وقد يضاف لها شبهة الحاكم الشرعي العام أي المتولي للأمر، على القول به، كما قد يضاف لها شبهة مجري الحد فإن عليه أن يتريث ويعود للقاضي ليتثبت.

ص: 443


1- وهذا النوع هو المتداول في الكتب الفقهية، والمتهم: هو المقول فيه التهمة والمظنون به ذلك، والتُهمة: هي الظنّ، يقال اتهمته أي ظننت فيه ما نسب إليه. انظر: لسان العرب: ج9 ص17، ومجمع البحرين: ج6 ص185، والفروق اللغوية: ص263.
2- حرمة الخمر مثلاً.

10: الاحتياط المستلزم للإسراف

العاشر(1): الاحتياط المتضمن للإسراف أو التبذير، كما لو كانت الفتوى على أن الشاة أو غيرها يكفي في ذكاتها كونها باتجاه الكعبة ولا يشترط التوجه بها لعين الكعبة، فلو ذبح حيواناً بالتوجه إلى سمت الكعبة لا إلى عينها فالاحتياط هنا برمي الذبيحة مذموم، لأنه تبذير وهو حرام.

مثال آخر: الاحتياط بصب الماء الكثير في الوضوء أو الغسل، فإذا كانت الكثرة خارجة عن دائرة إسباغ الوضوء فهو إسراف، وهو احتياط مذموم.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلة حرمة الإسراف والتبذير بإيجاز شديد؛ لشدة الابتلاء بها:

ص: 444


1- من موارد الاحتياط المذموم.

من أدلة حرمة الإسراف والتبذير

ويدل على حرمة الإسراف والتبذير مطلقاً: الكتاب والسنة والإجماع، ولنكتفِ ههنا بالإشارة إلى بعض الآيات الكريمة بدون الخوض في وجوه الأخذ والرد فيها.

قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِين)(1) وقال: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)(2) بناءً على عمومه وعدم اختصاصه بالإسراف في شؤون العقيدة كما هو ظاهر سياق الآية.

وقوله سبحانه: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(3) بناءً على دلالة (لا يحب) على المبغوضية البالغة وإرادة عدم وقوع المبغوض مطلقاً عرفاً، وقد يعترض بأن (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) متعلقة بالأكل والشرب فقط، فيشكل شمولها لغيرهما، كما أن في بعض الروايات تصريحاً بأنه لا إسراف في الطيب، أو لا إسراف في الضياء، أو لا إسراف في الحج والعمرة ونحوها!

والجواب عن الأول: إن المورد لا يخصص الوارد، والسياق ليس بحجة والظهور العرفي لو تمّ ففي (لا تسرفوا)، أما (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فظاهر عرفاً في التعميم نظراً لمقام التعليل إضافة إلى سلامة الآية الأخرى: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(4) عن ذلك، فتأمل.

والجواب عن الثاني:

ص: 445


1- سورة الإسراء: 27.
2- سورة غافر: 43.
3- سورة الأعراف: 31.
4- سورة الأنعام: 141.

أولاً: قد يستظهر من الروايات أنها بنحو القضية الخارجية، أي إنها كانت في مقام تنقيح الموضوع الخارجي، لأن الناس كانوا يقتصدون في الطيب أو الضياء أو الحج والعمرة، فأشار الإمام (عليه السلام) إلى الواقع الخارجي وأرشد إلى أن الأكثر من المتعارف لديهم ليسبإسراف، فهو دعوة للتوسع، للوصول للحد المتعارف.

ثانياً: سلمنا إنها بنحو القضية الحقيقية لكن هذه الروايات محمولة على الزيادة عن الحد المتوسط بالقدر المتعارف في الزيادة عنه لا الزيادة مطلقاً، وهذا ما ذهب إليه النراقي (رحمه اللّه)(1).

ثالثاً: الالتزام بتخصيص هذه الروايات للآيات، ولكنه مشكل، لأن لسان الآيات - بناء على عمومها - يأبى التخصيص، إذ كيف يخصص مثل: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، ومثل:(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين)؟ وقد يجاب بالحكومة إذ تنفي روايات (لا إسراف) الحكم بلسان نفي الموضوع فكأنها أخرجت موضوعه عن الإسراف فلا يشمله (إنه لا يحب ...) قهراً، وقد فصلنا في كتاب (الحكومة والورود) البحث عن الفرق بين التخصيص والحكومة، من هذه الجهة وغيرها.

ثم إن الفرق بين الإسراف والتبذير، فهو أن الإسراف هو الصرف أكثر مما ينبغي، والتبذير هو صرف ما لا ينبغي، فما كان أصله مستغنى عنه فهو تبذير، وما كانت زيادته مستغنى عنها فهو إسراف.

النسبة بين أدلة الاحتياط وأدلة الإسراف

وقد يتوهم أن الأدلة الدالة على حسن الاحتياط ك«أخوك دينك فاحتط لدينك» أو الدالة على وجوبه كما في أطراف العلم الإجمالي حاكمة على الأدلة الدالة على حرمة الإسراف والتبذير.

ص: 446


1- انظر عوائد الأيام: ص637.

وفيه: إن الصحيح هو التفصيل بين أدلة رجحان الاحتياط وحسنه بقول مطلق في غير موارد العلم الإجمالي وبين أدلة وجوبه كما في موارده:

أما القسم الأول: فإن أدلة الإسراف والتبذير حاكمة عليه أي على أدلة الاحتياط في غير أطراف العلم الإجمالي المنجز(1)، فإذا شك في التكليف أو في المكلف به مع كون العلم الإجمالي غير منجزلكون الشبهة غير محصورة أو لخروج بعض الأطراف عن الابتلاء أو شبه ذلك، كان المجرى البراءة، ولكن مع ذلك يستحب أن يحتاط، أما أدلة الإسراف فتفيد حرمة الإسراف مطلقاً ومنه الاحتياط إذا كان إسرافاً، بل نقول إن دليل حرمة الإسراف اقتضائي ودليل حسن الاحتياط (في غير موارد العلم الإجمالي) لا اقتضائي واللااقتضائي لا يزاحم الاقتضائي.

وأما القسم الثاني: فالعكس هو الصحيح أي إن أدلة الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي هي الحاكمة على أدلة الإسراف، فمثلاً: لو علم إجمالاً بأن إحدى الذبيحتين ميتة، فإن العلم الإجمالي يقتضي التجنب عنهما ولا مجال معه لأدلة الإسراف والتبذير كي تفيد الحرمة، والوجه في ذلك أحد أمرين:

فقد يقال: إن أدلة الإسراف والتبذير منصرفة عن موارد العلم الإجمالي، كإنصرافها عن طرح الميتة وشبهها مما علم حرمته، فما علمت حرمته إجمالاً أو تفصيلاً لا تشمله أدلة حرمة الإسراف.

وقد يقال: بأن أدلة العلم الإجمالي حاكمة على أدلة الإسراف والتبذير فيما كان منجزاً، هذا إن لم نقل بخروج المعلوم حرمته إجمالاً عن كونه إسرافاً موضوعاً، لتكون أدلة الاحتياط واردة لا حاكمة، فتأمل.

ص: 447


1- كالشبهات البدوية.

11: الاحتياط والفتوى في غير مورده

الحادي عشر(1): الفتوى بالاحتياط في غير مورده.

ويجب التفريق بين عناوين ثلاثة:

العنوان الأول: حسن العمل بالاحتياط.

العنوان الثاني: الفتوى بالاحتياط في الشبهات مطلقاً أو في الشبهات التحريمية خاصة وهو من المباحث الخلافية بين الأصولي والأخباري.

العنوان الثالث: الاحتياط في الفتوى وجوباً أو استحباباً.

ومورد البحث هو العنوان الثاني وإنه مذموم إذا كان في غير موارده، وقد يحرم.

أما العنوان الأول فهو حسن في الجملة، وأما العنوان الثالث فحسن.

وتوضيحه: إن الفقيه لو شك في مقتضى القاعدة في الشبهات التحريمية وأنها البراءة - كما يقول به الأصولي - أو الاحتياط - كما يقول به الأخباري -، فالاحتياط فيما إذا لم يحصل على دليل أو أصل يعتمد عليه، هو بترك الفتوى والتوقف، وتحرم عليه حينئذٍ الفتوى بالاحتياط، إذ تحتاج الفتوى به - أو بغيره - إلى دليل، فذلك أمر؛ وحسن الاحتياط عملاً بترك محتمل الحرمة وفعل محتمل الوجوب أمر آخر.

وأما الاحتياط في الفتوى فبأن لا يفتي إلا بعد مزيد من التثبت الأكثر مما يلزم عرفاً في مثله.

وقد استظهر الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) من عبارة المحدث الجزائري (رحمه اللّه) أنه

ص: 448


1- من موارد الاحتياط المذموم.

يقول بلزوم الفتوى بالاحتياط في موارد الشك في الشبهة التحريمية(1)، واستغرب من كلامه(2)، ولكن لعله لا وجه لهذاالاستظهار، إذ ظاهر المحدث أن العمل بالاحتياط حسن راجح لا وجوب الفتوى بالاحتياط أو وجوب العمل به، اللّهم إلا إذا استظهر الشيخ (رحمه اللّه) ذلك من مكان آخر(3)، فراجع تمام كلامهما رحمهما اللّه.

والحاصل: إن وظيفة المجتهد عند الشك هو التوقف، ووظيفة المقلد في ذلك المورد(4) الرجوع إلى مجتهد آخر أو الرجوع إلى ما استقل به عقله من الاحتياط - لو استقل عقله بأن دفع الضرر الأخروي وإن كان الاحتمال فيه ضعيفاً فإنه نظراً لخطورة المحتمل - لازم عقلاً، أو البراءة إن استقل عقله بقبح العقاب بلا بيان ولم

ص: 449


1- قال (رحمه اللّه) في فرائد الأصول: (حكي عن بعض الأخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة، وهو: أنه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد اللّه تعالى، فيقال له: بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية، فيقول: كنت أعمل بقول المعصوم (عليه السلام) وأقتفي أثره وما يثبت من المعلوم، فإن اشتبه عليَّ شيء عملت بالاحتياط، أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط، ويقابل بالإهانة والإحباط، فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار، هيهات هيهات، أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنة خالدين، وأهل الاحتياط في النار معذبين) انتهى كلامه، فرائد الأصول: ج2 ص112. أقول: وقد نقل نص هذا الكلام أيضاً المحقق النراقي (رحمه اللّه) في كتابه جامع الأصول: ص113، فقال: (وقد قال بعض علمائنا الأخباريين)، ومن هنا قد يقال إن الشيخ (رحمه اللّه) لعله أخذ هذا الكلام من النراقي (رحمه اللّه) بقرينة قوله: (حكي...) وقرينة قول النراقي: (قال...).
2- فقال (رحمه اللّه) في فرائد الأصول: (أقول: لا يخفى على العوام فضلاً عن غيرهم: أن أحداً لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنه سبيل النجاة، وأما الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنه غير مطابق للاحتياط، لاحتمال حرمته، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة، وإلا فالاحتياط في ترك الفتوى) فرائد الأصول: ج2 ص113.
3- ككون كلام المحدث (المنقول في الرسائل، ونقلناه في الهامش) مما اعتبره المحدث دليلاً على وجوب الفتوى بالاحتياط.
4- من البراءة والاحتياط.

يلتفت إلى أن ما ذكر من وجه الاحتياط، بيان أو رأى عدم صحته، وأما إن لم يستقل عقله بشيء فإنه يحسن أن يحتاط في العمل دون أن يلزم به أو أن يفتي بالاحتياط.

الفتوى بالاحتياط قد لا تطابق الاحتياط

وهل الفتوى بالاحتياط مطابقة للاحتياط أم لا؟ استدل البعض على ذلك منتصراً للأخباريين بقوله: إنها مطابقة للاحتياط في الشبهة البدوية والتحريمية، لأن حكم اللّه إن كان في الواقع هو حرمة التدخين فقد أصابه، وإن كان التحليل فإن التجنب العملي لا ينافي الحلية، وعلى كل حال فإنه يضمن آخرته بفتواه بالاحتياط بالترك سواء أكان في عالم الثبوت حراماً أم مكروهاً أم مباحاً، وبفتواه بالاحتياط بالفعل سواء أكان الشيء في الواقع حراماً أم مباحاً أم مستحباً.

ولكن يرد عليه: أولاً: إن الفتوى بالاحتياط وهو لا يعلم أن حكم اللّه تعالى البراءة أو الاحتياط، هو قول بغير علم، وافتراء علىاللّه تعالى وتشريع، وكلها محرم، نعم غاية الأمر أن ما ذكره يصلح دليلاً على حسن الاحتياط العملي، دون الفتوى بالاحتياط مادام لا يوجد دليل خاص على حرمة هذا العمل ولا على وجوب الاحتياط في محتمل الحرمة.

وثانياً: ما أجاب به الشيخ (رحمه اللّه) أنه وإن كانت هذه الفائدة حاصلة، ولكن للفتوى بالاحتياط مفاسد أخرى(1) وذلك كتنفير كثير من الناس من الدين وكضياع مصلحة التسهيل التي أرادها اللّه تعالى بقوله: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(2)، وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): «بعثت بالحنفية السمحة»(3).

ص: 450


1- قال (رحمه اللّه) في فرائد الأصول: (ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه، كما لا يخفى) فرائد الأصول: ج2 ص113.
2- سورة البقرة: 185
3- عوالي اللئالي: ج1 ص381.

ولكن: ولعل الجواب الأول أولى لتقدمه رتبة، إذ لا تصل النوبة معه للتزاحم الذي ذكره الشيخ (رحمه اللّه).

12: الاحتياط المتضمن للمفسدة السلوكية

الثاني عشر: الاحتياط إذا كانت فيه مفسدة سلوكية.

والمفسدة السلوكية هي التي تقع في مقابل المصلحة السلوكية التي ذكرها الشيخ (رحمه اللّه)، توجيهاً منه لحجية الأمارات مطلقاً رغم أن الأمارات قد تفوّت مصلحة الواقع، فأجاب (رحمه اللّه) بأن مصلحة الواقع المفوَّتة تُتَدارك بمصلحة سلوك طريق الأمارة.

أقول: عكس ما ذكره جارٍ ههنا: بأن يقال بأن في الاحتياط مفسدة سلوكية وإن كان موصلاً(1) للواقع وطريقاً للتحفظ عليه، ولكن قد تكون المفسدة السلوكية فيه راجحة على مصلحة إيصاله إلى المؤدى، والمدعى أن ذلك في الجملة كذلك لا بالجملة، ويمكن الاستشهاد على ذلك بالكثير من الأمثلة كثيرة الابتلاء:

ومنها: الاحتياط بالأخذ بقول المجتهد الفاسق، كما أن منها: الاحتياط بالأخذ بقول المجتهد غير الإمامي، فكلاهما ذو مفسدة سلوكية، نظير المفسدة السلوكية في الأخذ بالقياس، فلو فرض أن فتوى الإمامية جميعاً كانت على محرِّمية الخمس عشرة رضعة فقط، ولكن كان المخالف مفتياً بالتحريم بعشر رضعات، فإن احتياط الإمامي بتحريم من أرضعت معه عشر رضعات استناداً لقول المخالف بالتحريم، محرَّم مع نسبته ذلك إلى الشارع لأنه افتراء عليه بغير علم؛ بل حتى إذا تجنبها عملياً استناداً إلى ذلك القول فإنه مذموم؛ بل قد يقال بحرمته؛ لقوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(2)؛ حيث

ص: 451


1- أي محرزاً.
2- سورة هود: 113.

إن المخالف لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) ظالم، ورجوع الإمامي إلى المجتهد المخالف أو الفاسق نوع من الركون إلى الظالم، لأن الركون في اللغة هو الاعتماد، وكما أنه إذا اعتمد على رأيه كفتوى كان ركوناً، فكذلك لو احتاط عملياً استناداً لرأيه فإنه ركون، لأن الركون بمعنى الميل والاحتياط استناداً لرأيه يعدّ ميلاً.

وقد يعترض، بأن الركون فسِّر بالمودة والنصيحة والطاعة، والأخذ برأيه ليس بمودة ولا نصيحة ولا طاعة.

وفيه: إن تفسير الركون بأحد هذه الثلاثة هو تفسير بالمصداق، والركون لغةً وعرفاً أعم، وقد فسر أهل اللغة الركون بالميل، وكذا فسروا (تركن) في الآية الشريفة: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(1) بتميل(2).

وقد يستدل على ذلك برواية عن علي بن سويد، قال: (كتب إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) وهو في السجن: «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم،إنهم ائتمنوا على كتاب اللّه جل وعلا فحرفوه وبدلوه، فعليهم لعنة اللّه ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة الشيعة إلى يوم القيامة»)(3).

فهل يجوز الاحتياط بالقول برأي من لُعن، أو بالأخذ عملاً برأيه، بل إن النهي صريح ب- «لا تأخذن معالم دينك ...» والتعليل ب- «فإنك إن تعديتهم ...» دالّ أيضاً، فتأمل.

ص: 452


1- سورة الإسراء: 74.
2- انظر تفسير مجمع البيان: ج6 ص278.
3- رجال الكشي: ج1 ص8.

13: الاحتياط الموجب لإسقاط حق الغير

الثالث عشر(1): الاحتياط المسبب لأسقاط حق الغير، كعدم اكتفاء القاضي من المدعي بشاهدين، فيطلب منه شهوداً أكثر لمجرد الاحتياط(2)، فإنه مذموم وقد يحرم، إذ قد يسبب إسقاط حقه وضياعه أو صعوبة الوصول إليه، وهو إيقاع للغير في كُلفة لم يجوزها الشارع له، مع أن الشارع قد شرّع طلب شاهدين وجعلها الحجة.

قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(3) وقال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(4) وقال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)(5).

فإن المتفاهم العرفي من (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أنه لو شهد شاهدان على حق من الحقوق لوجب القبول، بل قد يقال بأن تشريع حجيتهما مع عدم الأمر إلزاماً بالقبول لغو، نظير الاستدلال بقوله تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(6)، على أن إيجاب الإنذار بدون إيجابعنده لغو، فكذلك قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(7)، فإن الأمر بالإشهاد دون الأمر بالقبول، لغو.

ولكن قد يورد عليه: بأن الأمر بالإنذار من دون إيجاب الحذر، وكذا الأمر

ص: 453


1- من موارد الاحتياط المذموم.
2- لا لوجود ظِنة أو تهمة مثلاً.
3- سورة البقرة: 282
4- سورة الطلاق: 2.
5- سورة البقرة: 282.
6- سورة التوبة: 122.
7- سورة الطلاق: 2.

بالإشهاد من دون الأمر بالقبول، ليس بلغو لوجهين، مرجعهما إلى تحقق الفائدة ولو في الجملة، وذلك كافٍ في تشريع الأحكام الفقهية والأصولية ومنها الحجية، ضرباً للقانون.

الأول: لأن الإنذار كثيراً ما يحصل بسببه للمنذَرين العلم أو الاطمئنان، فتشريع الإنذار ليس لغواً، وإن لم يشرَّع معه وجوب الأخذ به بما هو هو، فكذلك الشاهدان.

الثاني: لتراكم الاحتمالات حتى فيمن لا يحصل له العلم أو الاطمئنان بمجرد الإنذار، من خلال السماع من هذا المنذِر وذاك، فإنه لو سمع الإنذار وجب عليه الفحص دون شك، بل يكفي القول بحسنه ومعه يحصل له كثيراً ما الاطمئنان.

وكذا الحال في الشاهدين إذ يكفي لإيجاب الشهادة والاستشهاد أن توجب على القاضي الفحص الأكثر، فكثيراً ما يصل إلى الحق كما يكفي أنه كثيراً ما يحصل له من نفس شهادة الشاهدين العلم أو الاطمئنان.

هذا ولكن الاستدلال بالظهور العرفي، ولا يرد عليه ما ذكر، لأن المتفاهم عرفاً: أن الشارع قد شرّع الإشهاد وجعله واجب القبول.

وبعبارة أخرى: إنه شرع حجية الإنذار والإشهاد بمعنى لزوم الإتباع، وعلى ذلك بناء العقلاء في الموردين بل وفي مطلق الحجج على المتعلقات الإلزامية.

14: الاحتياط مع الوسوسة

الرابع عشر(1): الاحتياط الناتج عن الوسوسة(2) أو المنتج لها، أيالمعلول لها

ص: 454


1- من الموارد المذموم فيها الاحتياط.
2- الوسوسة لغة: (حديث النفس، والوسواس: الصوت الخفي من ريح تهز قصباً ونحوه، وبه يشبه صوت الحلي، قال الأعشى: تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل). انظر العين: ج7 ص335.

أو العلة، فهذا الاحتياط مذموم(1)، إلا أن مذمة ما كان علةً، هي مذمة طريقية، فمن يقول: بحرمة مقدمة الحرام شرعاً يحرِّمها - بناء على حرمة الوسوسة شرعاً -، ومن لا يقول بحرمتها الشرعية، فإنه يقول بالقبح العقلي أو بالحرمة عقلاً.

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه: (العمل على طبق الوسواس لا إشكال في حرمته، وقد قال (عليه السلام): «وأي عقل له وهو يطيع الشيطان»)(2).

تنبيه: ذهب المشهور إلى أن الوسوسة حكمها التكليفي الحرمة(3) في العبادة،

ص: 455


1- وقد جاء في كتب الحديث كالكافي وغيره باب سُمّي باب الوسوسة وحديث النفس، فيه عدة أحاديث منها: (عن جميل بن دراج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: قلت له: إنه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: «قل: لا إله إلا اللّه»، قال جميل: فكلما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلا اللّه، فيذهب عني).
2- موسوعة الفقه: ج93 ص263.
3- هذا الحكم هو المشهور بينهم، قال السيد الحكيم (رحمه اللّه) في مستمسك العروة الوثقى: (الظاهر أنه لا إشكال في حرمة الوسواس، وقد يستفاد من صحيح ابن سنان: ذكرت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «وأي عقل له وهو يطيع الشيطان»، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان، فقال (عليه السلام): «سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك: من عمل الشيطان») مستمسك العروة الوثقى: ج7 ص167. وفي مقابل هذا الرأي يقول السيد الخوئي (رحمه اللّه) في التنقيح: (إلَّا أن شيئاً من ذلك لا يقتضي حرمة الوسواس، وذلك فإن النهي عن التعويد إرشاد إلى عدم ارتكاب نقض الصلاة لأنه مرجوح، وقد ذهب المشهور إلى حرمته والتزم بعضهم بكراهته وليس تحريماً مولوياً) التنقيح: ج3 ص163، وقال السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) في مصباح المنهاج: (ومن هنا كان إثبات حرمة الوسواس في غاية الإشكال، بل هو لا يناسب مرتكزات المتشرعة، لنظرهم إلى الوسواسي نظر العطف والرحمة كنظرهم للمريض المبتلى، لا نظر المقت والاستنكار كنظرهم للعصاة بجوارحهم أو جوانحهم) مصباح المنهاج: ج2 ص413.

أما حكمها الوضعي وأنها كونها مبطلة للعبادة أم لا، فإن الكثير من الأعلام التزم بأنها مبطلة لها، لكن السيد العم (دام ظله) كبعضالأعلام(1)، تأمل في ذلك، ولم يرَ صناعياً تمامية الأدلة على ذلك، بل افتى في حاشية العروة بعدم بطلان تكرار القراءة أو الأذكار في الصلاة إذا كان من باب الوسوسة، وتفصيله في محله.

15: الاحتياط في ترك الاحتياط

الخامس عشر: ما لو كان الاحتياط في ترك الاحتياط.

ولنذكر بعض الأمثلة على ذلك:

فمنها: لو أن فقيهاً ارتأى عدم حجية مراسيل الثقاة، ثم وجد مرسلة تدل على استحباب أو جزئية جلسة الاستراحة في الصلاة(2)، فهنا يوجد احتياطان متقابلان، فمن حيث الإسناد للمعصوم (عليه السلام) فالاحتياط بعدم الإسناد، ومن حيث العمل فالاحتياط بالإتيان بجلسة الاستراحة؛ فعدم حجية المرسلة، يمنع عن إسنادها إليه.

نعم، له أن يقول: روي عن المعصوم (عليه السلام) هذا القول.

وأما من حيث العمل فله أن يحتاط بالإتيان بجلسة الاستراحة برجاء المطلوبية لا بقصد الجزئية.

وعلى أي تقدير، فإن الاحتياط بترك الإسناد حسن بل لازم لأنه تشريع وتقوّل على الشارع بغير علم - على هذا المبنى -، أما الاحتياط العملي فيقتضي العمل بالمرسلة أي على طبقها ولكن برجاء المطلوبية من دون إسناد، فتأمل(3).

ص: 456


1- السيد الخوئي (رحمه اللّه) مثلاً.
2- ولم يَرَ شمول قاعدة التسامح لمثل ذلك، فتأمل.
3- إذ المثال ليس من مصاديق الاحتياط في ترك الاحتياط لأنهما احتياطان لهما مصبان: الاحتياط في العمل بالإتيان وفي الإسناد بالعدم.

ومنها: لو أن فقيهاً ارتأى أن الكر هو ما مكعبه سبعة وعشرون شبراً، فأصاب هذا الماء شيء من النجاسة من دون أن تتغير الأوصاف، فقد يقال بأن الاحتياط الاستحبابي هو ترك الوضوء بهذا الماء والوضوء من كرٍّ مكعبه اثنان وأربعون شبراً وسبعة أثمان الشبر؛ لأنه قطعاً طاهر، وأما ماء الكر الأول فطهارته ظاهرية، فتأمل.وأما لو انحصر الكر في الأول (27 شبراً) وأصابته نجاسة، فالاحتياط في ترك ذلك الاحتياط(1)، فيجب الوضوء من هذا الكر ولا ينتقل الحكم إلى التيمم، لأنه قد قامت الحجة الظاهرية على طهارته، فهذا تصوير المسألة في المجتهد أو المقلد نفسه، وأما المحتاط فعليه التقليد أو الاجتهاد لدوران الأمر بين المحذورين(2).

ومنها: إن الاحتياط يقتضي ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، لاختلاف الفقهاء فيه، فإن من يعمل بالاحتياط عليه الترك، ولكن إذا انحصر الماء فيه فإن الاحتياط يقتضي الغسل أو الوضوء به والتيمم أيضاً إذا أمكنه، فإذا لم يمكنه التيمم وجب الوضوء أو الغسل به احتياطاً.

ومنها: إنه قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط رأساً واللجوء إلى الاجتهاد أو التقليد حصراً، وذلك كما لو تردد أمر التسبيحة الواجبة في الصلاة بين الواحدة والثلاثة فالاحتياط يقتضي الإتيان بالثلاثة، ولكن إذا ضاق الوقت واستلزم الاحتياط بإتيان الثلاث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت وهو - بدوره -

ص: 457


1- أي الاحتياط في ترك الترك أي انه في الفعل.
2- إذ لو لم يكن ال-27 شبراً كراً فهذا الماء (الملاقي للنجس من دون ان تتغير أوصافه) نجس، فلو توضأ به أو اغتسل تنجس جسده، ولو كان كراً فهذا الماء طاهر يجب الوضوء أو الغسل به، فهنا تعارض الاحتياطان، ولا يمكنه الجمع ولا الترجيح إلا باجتهاد أو تقليد.

خلاف الاحتياط، فيجب عليه حينئذٍ ترك الاحتياطين جميعاً والتقليد في المسألة أو الاجتهاد.

ونكتفي ههنا بما ذكر من أقسام الاحتياط المذموم ولعله بمزيد من التتبع يمكن العثور على موارد أخرى.

ولا يخفى أن بعض الموارد السابقة متداخل مع البعض الآخر، إلا أن اختلاف العناوين أو أهمية بعضها أوجب تعددها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

النجف الأشرف

مرتضى الشيرازي

ص: 458

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اللّهمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللّهمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

وَصِلِ اللّهمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(4) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 459


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).
4- (وَيَمْكُثُ).

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

* الكافي الشريف.

1. أجود التقريرات، السيد أبو القاسم الخوئي، تقرير بحث الميرزا محمد حسين النائيني، الناشر: منشورات مصطفوي، قم، سنة الطبع: 1368 ه- ش.

2. الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف.

3. الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تعليق: عبد الرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1387ه الرياض.

4. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1414ه.

5. الإشارات والتنبيهات، الشيخ الحسين بن عبد اللّه (ابن سينا) مع شرح محمد بن الحسن الطوسي، وشرح الشرح لمحمد بن محمد أبي جعفر الرازي الناشر: نشر البلاغة - قم.

6. الأصول، تأليف السيد محمد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار المهدي (عليه السلام) والقرآن الحكيم، 1422ه.

ص: 460

7. إعجاز القرآن الكريم، الشيخ محمد بن الطيب الباقلاني، الناشر: دار المعارف - مصر.

8. الأمالي، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: دار الثقافة1. للطباعة والنشر والتوزيع، قم، الطبعة الأولى 1414 ه.

9. الأمالي، الشيخ محمد بن النعمان المفيد، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الثانية: 1414 ه.

10. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، الناشر: مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة: 1403ه.

11. بداية المجتهد، محمد بن أحمد (ابن رشد الحفيد)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان، 1415 ه.

12. بيان الفقه في شرح العروة الوثقى، السيد صادق الحسيني الشيرازي، الناشر: دار الأنصار، 1426ه.

13. تاج العروس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1414ه- - 1994م

14. تحف العقول، الحسن بن علي بن شعبة الحراني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1404 ه.

15. تعليقة على معالم الأصول، السيد علي الموسوي القزويني، تحقيق: السيد على العلوي القزويني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الثانية: 1430ه.

16. تفسير مجمع البيان، الفضل بن الحسن الطبرسي، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت لبنان، 1415ه.

ص: 461

17. تنقيح الأصول، السيد محمد رضا الطباطبائي، تقرير بحث الشيخ ضياء الدين العراقي، المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، 1952م.

18. التنقيح في شرح العروة الوثقى، الميرزا علي الغروي التبريزي، تقرير بحث السيد الخوئي، الناشر: دار الهادي للمطبوعات، الطبعة الثالثة 1410 ه.

19. تنقيح مباني العروة الوثقى، الميرزا جواد التبريزي، الناشر: دار الصديقة الشهيدة (عليها السلام)، 1429 ه.1.

20. تهذيب الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران إيران، الطبعة الثالثة، 1390ه.

21. التوحيد، الشيخ محمد بن علي الصدوق، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

22. جامع المقاصد في شرح القواعد، علي بن الحسين الكركي، الناشر، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المشرفة، 1408 ه.

23. جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران إيران، الطبعة الثالثة، 1367ه- ش

24. الحاشية على استصحاب القوانين، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، سنة الطبع ربيع الأول 1415ه.

25. الحاشية على كفاية الأصول، الشيخ بهاء الدين الحجتي (تقرير بحث السيد البروجردي)، الناشر: مؤسسة أنصاريان قم المقدسة، الطبعة الأولى، رمضان 1412ه.

26. الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم إيران، الطبعة الأولى،

ص: 462

1409ه-

27. حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، الناشر راية الهدى، الطبعة الأولى 1473 ه.

28. حقائق الأصول، السيد محسن بن مهدي الحكيم، الناشر: مكتبة بصيرتي قم، الطبعة الخامسة، 1408 ه.

29. الخصال، الشيخ محمد بن علي الصدوق، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1403ه.

30. الخلاف، محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم إيران، 1407ه.

31. دراسات في علم الأصول، السيد علي الهاشمي، تقرير بحث1. السيد الخوئي، الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى 1419ه.

32. درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الخامسة.

33. دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر، الناشر: دار الكتاب اللبناني بيروت، الطبعة الثانية، 1406ه.

34. دروس في مسائل علم الأصول، الميرزا جواد التبريزي، الناشر: دار الصديقة الشهيدة (عليها السلام) قم، 1429 ه.

35. رجال النجاشي، أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1416 ه.

ص: 463

36. رياض الأحكام، السيد علي الطباطبائي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى 1412ه.

37. زبدة الأصول، السيد محمد صادق الروحاني، الناشر: مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، الطبعة الأول 1412ه.

38. السرائر، محمد بن منصور بن ادريس الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران، 1410ه.

39. العدة في أصول الفقه، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، الطبعة الأولى 1417ه.

40. العروة الوثقى مع تعليقات عدد من الفقهاء، السيد محمد كاظم الطباطبائي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم إيران، الطبعة الأولى، 1407ه.

41. علل الشرائع، الشيخ محمد بن علي الصدوق، الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف، 1966م.

42. عوائد الأيام، أحمد بن محمد النراقي، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1417 43. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق الدكتور محمد المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، قم إيران، الطبعة الثانية، 1409ه.

44. عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، الشيخ محمد بن علي الصدوق، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت لبنان.

45. غوالي اللئالي، الشيخ محمد بن إبراهيم الأحسائي، تحقيق مجتبى

ص: 464

العراقي، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1403ه.

46. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الأولى، 1419 ه.

47. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الحائري، الناشر: دار إحياء العلوم الاسلامية، قم، 1404 ه.

48. الفقه، السيد محمد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار العلوم بيروت، الطبعة الثانية 1407 ه.

49. فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، تقرير بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1404 ه.

50. الفوائد الرجالية، الشيخ محمد باقر بن محمد البهبهاني.

51. القواعد والفوائد، الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي، الناشر: منشورات مكتبة المفيد، قم ايران.

52. قوانين الأصول، الميرزا أبو القاسم القمي، الطبعة الحجرية.

53. القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، السيد عادل العلوي، تقرير بحث السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، الناشر: مكتبة آية اللّه العظمى السيد المرعشي، قم، 1422ه.

54. الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران إيران، الطبعة الأولى، 1388ه.

55. كتاب الطهارة، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري،1. الناشر: مجمع

ص: 465

الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة 1428ه.

56. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلي، الناشر: مؤسسة نشر الإسلامي، قم، الطبعة السابعة، 1417ه.

57. كفاية الأصول، الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث قم المشرفة، الطبعة الأولى، 1409ه.

58. لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، ، الناشر: أدب الحوزة، قم، إيران، 1405ه.

59. مباحث الأصول، السيد كاظم الحسيني الحائري، تقرير بحث السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الناشر: دار البشير، قم، 1430ه.

60. مجمع البحرين، فخر الدين بن محمد الطريحي، الناشر: مرتضوي، طهران، 1362 ه ش.

61. المحاسن، أحمد بن محمد البرقي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، 1370 ه.

62. محاضرات في أصول الفقه، الشيخ محمد إسحاق الفياض، تقريرات بحث السيد الخوئي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى: 1419 ه.

63. مختلف الشيعة، العلامة الحسن بن يوسف الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1413ه.

64. مسالك الإفهام، الشيخ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني) الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، قم إيران، الطبعة الأولى، 1413ه.

ص: 466

65. مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري (رحمه اللّه)، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1408ه.

66. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن بن مهدي الحكيم، الناشر: منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي، قم1. إيران، الطبعة الثالثة، 1404ه.

67. مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الناشر: دار الحديث، سنة الطبع: 1418ه.

68. مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي، تأليف: السيد علي الشاهرودي، الناشر: مكتبة الداوري، الطبعة الأولى 1422ه.

69. مصباح الفقاهة، محمد علي التوحيدي، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، الناشر: مكتبة الداوري، قم.

70. مصباح الفقيه، الشيخ رضا بن محمد هادي الهمداني، الناشر: المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث قم المقدسة، 1417 ه.

71. المصباح المنير، أحمد بن محمد الفيومي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر.

72. مطارح الأنظار، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، الطبع الحجري، الطبعة الأولى.

73. المغني، عبداللّه بن أحمد ابن قدامة، الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت لبنان.

74. مفاتيح الأصول، السيد محمد الطباطبائي، الطبعة الحجرية.

75. مفتاح الكرامة، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم إيران، الطبعة الأولى، 1419ه.

ص: 467

76. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، الناشر: طليعة النور، سنة الطبع: 1427 ه.

77. المكاسب، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، الناشر: لجنة تحقيق ونشر تراث الشيخ الأعظم، قم إيران.

78. من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمد بن علي الصدوق، الناشر: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم إيران، الطبعة الثانية، 1404ه.

79. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، الناشر: إسماعليان، قم.

80. المواقف، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، الناشر: دار الجيل، بيروت، 1417 ه.1.

81. نهاية الأحكام، العلامة الحسن بن يوسف الحلي، الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم إيران، 1410 ه.

82. نهاية الأفكار، السيد محمد تقي البروجردي، تقرير بحث الشيخ ضياء الدين العراقي، الناشر: مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، سنة الطبع: 1405 ه.

83. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، تحقيق: مهدي أحدي أمير كلائي، الناشر: انتشارات سيد الشهداء (عليه السلام) قم، الطبعة الأولى 1374 ه ش.

84. نهاية المرام، العلامة الحسن بن يوسف الحلي، الناشر: مؤسسة الامام الصادق (عليه السلام) قم، 1419 ه.

85. النور الساطع في الفقه النافع، الشيخ علي كاشف الغطاء، مطبعة الآداب النجف الأشرف، 1961م.

ص: 468

86. وسائل الشيعة، المحدث محمد بن الحسن العاملي، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، 1414ه

87. وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقريرات السيد أبي الحسن الأصفهاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى 1419 ه.

88. الوصايا والمواريث، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، الناشر: لجنة تحقيق ونشر تراث الشيخ الأعظم، قم إيران، الطبعة الأولى، 1415ه.

89. الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار الحكمة، قم المشرفة، الطبعة الثالثة، 1426.

ص: 469

فهرس البحوث العلمية

الموارد الستة للاحتياط...8:13

اضافات على موارد الاحتياط...14:17

النسبة بين الاحتياط الأصولي والفقهي...18:19

برهان الغرض: من أدلة جواز الاحتياط...20:26

مناقشة ما استدل به على وجوب الاحتياط...27:37

برهان الامتثال القطعي: من أدلة جواز الاحتياط...37:38

دلالة الأخبار على رجحان مطلق الاحتياط...38:50

تعميم أدلة الاحتياطات الخاصة...51:52

الاستناد إلى بناء العقلاء والسيرة والإجماع في تجويز الاحتياط...52:53

إشكالات على القول بجواز الاحتياط في العبادات...53:102

الأدلة العامة على اعتبار قصد الوجه والتمييز ومناقشتها...63:76

جواب النائيني عن برهان الغرض وتفصيله بين صور ثلاث...76:95

إشكالات على الاحتياط في المعاملات...102:149

الإشكالات العامة على الاحتياط...149:171

حقيقة الوجوب التخييري...165:171

النسبة بين الاحتياط وقسيميه...171:280

ص: 470

الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره...281:286

أقسام الاحتياط...287:306

التفصيل بين الاحتياط الأصولي الكلي وبين الفقهي المفتى به...306:322

التخيير الاستمراري بين العمل باحتياط الأعلم وفتوى المفضول...323:347

التخيير الاستمراري بين العمل باحتياط الأعلم وفتوى المفضول...323:347

ترك العمل باحتياط الأعلم والمفضول والرجوع الى ثالث...347:351

الاحتياط الاستحبابي...352:370

إذا تطابق فتوى المفضول مع احتياط الأعلم...371:379

الاحتياط الوجوبي...380:389

الطولية بين الاحتياط و الأصول العملية...398:402

تشخيص العامي لموارد الاحتياط...403:412

موارد تخالف الاحتياط الاصولي مع الاحتياط الفقهي...413:421

الاحتياط المذموم واقسامه...422:458

فهرس الفوائد العلمية

تعريف الاحتياط8 و 177

الفرق بين الجزء والشرط والقيد 11

بين الرياء والعجب 13

الاحتياط في محقق البسيط أو المركب الاعتباري أو التكويني 14:16

الاحتياط عند الدوران بين الوجوب والحرمة 16:17

تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد 20:21

ص: 471

صور لانحلال العلم الاجمالي 29:32

تعميم الآخوند دليل الاخباري على وجوب الاحتياط للشبهة الوجوبية 32:33

عدم شمولية العلم الإجمالي بوجود تكاليف للمستحدثات 34:36

منطقة الفراغ في الشريعة 35:36

عدم الملازمة بين القطع بعدم العقوبة والحلية الواقعية 36:37

احتمالات أربع في قوله (عليه السلام) : "إذا اصبتم بمثل هذا..." 40:41

وجوه الجمع بين روايات الاحتياط والبراءة 45:50

معنى قصد الوجه والتمييز 54:58

اشتراط قصد الوجه في الواجبات النفسية والضمنية 58:61

نسبة اشتراط قصد الوجه إلى المتكلمين 61:63

الإطلاق اللفظي والمقامي 71:74

الفرق بين العلة التامة والعلة المعدة 76:78

المسالك في حقيقة العلية 78:80

الأمر بالمركب بين العلة التامة والإعدادية 80:85

مرجعية الدليل ولسانه في بعض صور الشك 83:58

التمسك بالإطلاق المقامي عند الشك بالمحصل 94:95

البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين 95:99

تعريف الإنشاء 103:106

أقسام الوجود الستة 106:111

عوالم الوجودات الثلاث 111:112

ص: 472

أدلة التحقق الخارجي للوجود الاعتباري 112:115

توقف المعاملات على الإنشاء والقصد 115

اعتبار الجزم في الإنشاء 115:116

إمكانية الجزم مع الاحتياط 116 و 117

بطلان المعاملة بالتعليق 116:117

محالية الترديد و إمكان التردد 119:121

تحقيق في تعدد العوالم الاعتبارية 128:133

الأقوال في حقيقة الإنشاء 133:134

صحة معاملات الوسواسي مع عدم جزمه 137:140

قاعدة لاضرر بين كونها نافية أو مثبتة 138:139

الاحتمالات في قوله (عليه السلام) : (لا شيء فيها...) 143:145

مفهوم اللقب يراد به أحد أمرين 158

مسالك ثلاثة في حقيقة الوجوب التخييري 165:171

موضوع الاحتياط 177:178 و183:185

فروق ثلاثة بين الاحتياط والبراءة 179:181

دعوى ورود أدلة الاجتهاد على الاحتياط 185:188

الغرض من الاحتياط هو تحصيل الواقع 186:188

حكومة أدلة الاجتهاد على الاحتياط 188

المسالك في تعريف الحكومة 188:191

ص: 473

الأقسام الأربع للحكومة 192:197

تصرفان محتملان في (لا ضرر) 197:198

استعمال صيغة الأمر في الوجوب والندب معاً 208

مبان ست في صيغة الأمر 209

طرق خمس لعلاج التعارض 210:212

الفروق الأربعة بين الحكومة والتخصيص 212:215

مبنى النائيني في مرجعية الاشتغال عند الشك 227:228

وجوه الإعجاز في القرآن الكريم 229:232

وقوع القطع حداً أوسط 232:236

حجية القطع 235

تعريف الحجة 236:244

المراد من (الحجة) في بعض الروايات 242:244

(الطيرة) في نظر الشارع 271

نهي الشارع عن (الكهانة) 272

صور (التنجيم) وأحكامها 272:274

(القيافة) في نظر الشارع 274

تناسب الردع مع شدة رسوخ المردوع عند العرف 275:276

وضوح امضاء الشارع للاجتهاد والتقليد والاحتياط 276

لفظية النزاع مع الأخباري 277:279

جواب عن شبهة عقدية حول عدم اتمام الحجة على الأمة في الولاية 279

ص: 474

كاشفية احتياط الأعلم عن عدم علمه بالحكم 284

صحة الامتثال الإجمالي مع امكان التفصيلي 284:285

وجوهٌ لعدم الفتوى 279:300

صور ثلاث للاستظهار في الفتوى 303:305

صور ثلاث للاستظهار في الاحتياط 306

قيود خمسة للتخيير بين احتياط الأعلم وفتوى المفضول 318:322

تعارض الحجتين بين التساقط والتخيير 328:330

دعوى جواز مخالفة احتياط الاعلم لكونه حكماً إرشادياً 337:347

النسبة بين الحكم الإرشادي واحتمال الضرر 343

المختار في ضابطة المولوي والإرشادي 344

الاحتياطات المتخالفة النسبية وغير النسبية 347:351

معنى الاستحباب العقلي 352:353

معاني الاستحباب اللغوي 353:354

نوعان لحكم العقل 354

الاحتياط العقلي إرشاد 354:355

الفرق بين الاستحباب العقلي والشرعي 355:356

المسالك الثلاثة في الحجية 356:357

مدارك الاحتياط الاستحبابي 357:367

الأقوال في حقيقة الوجوب والندب 362:363

الخلط بين المؤدى والحكم 364

ص: 475

التعدي عن المرجحات المنصوصة 365:366

ثمرات ثلاث للتفريق بين الاستحباب الشرعي والعقلي 367:369

العدول في الاحتياط الاستحبابي 369:370

فرق بين عدم قصد القربة وبين التشريع 374:375

التشريع المحرم 375:379

حكومة العقل عند الشك في العنوان والمحصل 391:392

حكومة العقل عند الدوران بين التعيين والتخيير 392

صور الدوران بين التعيين والتخيير 393:397

أصالة الحظر 397:398

جواز العدول إلى المفضول عن حكم الاعلم بالتخيير والبراءة 401:402

الاحتياط في مسألة زواج الرشيدة بلا إذن وليها 405

إجراء البيع دون ماضوية أو موالاة 406

الاحتياط في ترك الاحتياط 407:408 و450 و456

الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر 408

الاحتياط في التيمم بالجص 408

تعارض الاحتياط الأصولي مع الفقهي 410:412

النسبة بين التعارض والتخالف 410:411

حكومة الاحتياط الأصولي على الفقهي 411

التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع في الاستصحاب 413:414

ص: 476

مذموية الاحتياط فيما كان بشرط لا عن الزيادة 422:423

قبح الاحتياط فيما خالف الأمارة 423:427

قبح مطالبة البينة من الصديقة الطاهرة! 425

الاحتياط مع العلم بالحكم 427:431

الاحتياط بالتنازل عن حقوق الغير 431:432

الاحتياط الضرري 432

الأقوال في صحة الوضوء الضرري 433:435

الاحتياط المضر بالغير 435

الاحتياط الموجب للتنفر من الدين 436:437

الاحتياط العسري و الحرجي 437

نسبة أدلة الحرج مع أدلة الاحتياط 438:439

رافعية العسر للحسن كرفعه للوجوب 439:440

الاحتياط في إجراء الحدود 440:441

أنواع الشبهات المانعة من الحدود 441:443

الاحتياط المستلزم للإسراف 444

أدلة على حرمة الإسراف والتبذير 445:446

النسبة بين أدلة الاحتياط وأدلة الإسراف 446:447

الاحتياط المتضمن للمفسدة السلوكية 451:452

الاحتياط المسقط لحق الغير 453:454

الاحتياط مع الوسوسة 454:456

ص: 477

حكم الوسوسة 455:456

فهرس الاشارات العلمية

المعنى المصدري و الاسم المصدري 12 و16 و67

الحمل الشائع الصناعي 12 و123 و148 و224 و237 و308 و309 و316

الحمل الأولي الذاتي 12 و123 و237 و309

حمل الاشتقاق 133

الامتناع الذاتي والوقوعي 21 و384

المبادئ التصديقية 22

التعليق على الوصف مشعر بالعلية 22

المصلحة السلوكية 23 و25 و38 و171 و187 و203 و208 و258 و333 و451

المصلحة السلوكية 23 و25 و38 و171 و187 و203 و208 و258 و333 و451

تبعية الأمر للغرض 20 و22 و24

ص: 478

مفهوم اللقب 27 و155 و159 و229

الجواهر والأفعال المستحدثة 34

حقيقية الأحكام 35

مناسبة الحكم للموضوع 40 و43

تركب الوجوب 41 و49

الغاء الخصوصية 43

العمل عند استقرار التعارض 45 و284 و329

اولوية الجمع من الطرح 46

ارشادية الأوامر الموافقة للمستقلات العقلية 47

استعمال اللفظ في معنيين 50 و209 و232

تنقيح المناط 52

الدليل اللبي 52 و53 و350

السيرة وبناء العقلاء ادلة بلا لسان 54 و134 و304 و328 و350 و373

الغالب في الإجماع أنه بلا معقد 53

الإجماع اللفظي 53

قصد الوجه عند الدوران بين الوجوب والندب 54

قصد التمييز عند الدوران بين الإباحة وبين الوجوب أو الندب 55

ضعف احتمال اشتراط قصد الجزئية 58

ص: 479

عدم شمول (لا تعاد) لصورة التقصير 60

تبعية الحسن للمدح 62

بناء العقلاء على كفاية قصد الامتثال في استحقاق الثواب 63

الحاكم في الإطاعة وكيفيتها هو العقل 63

لا إطلاق للدليل العقلي 65

مرجعية العرف في الأمور الخارجية الحقيقية 66

مرجعية الشرع في الأمور الاعتبارية المخترعة 66

التشريع المحرم 70 و369 و372 و374

منشا الإطلاق المقامي 73

التذكية أمر وجودي 83

العلة الغائية علة فاعلية للفاعل 84

الغرض الأقصى والأدنى 85

توقف وجود الممكن على غلق ابواب عدمه 89

الشك في المحصل 91 و228 و391

مصلحة التسهيل 92 و167 و205 و207 و333 و431 و439 و450

الاستصحاب السببي والمسببي 94 و174 و220

الإطلاق المقامي 92 و94 و98

ص: 480

و155 و156 و160

حكومة البراءة النقلية على الاحتياط العقلي 98

الوحدة بين الوجوب النفسي والضمني 98

الفرق بين الانشاء والإخبار 102 و311

حقيقة الإيجاد والوجود 103

وحدة الوجود 104

لا احتمال للصدق والكذب في الإيجاد 104

الفرق بين الوهم وعالم الاعتبار 104 و111

وجه الاشتراك بين عالم الواقع والانتزاع والاعتبار 105

الوجودان اللفظي والكتبي مرتبتان نازلتان من الوجود الحقيقي 107

أقوائية الوجود الصوري من الوجود اللفظي والكتبي 107

حقيقة عالم الاعتبار 108 و110 و112 و113 و128 و134

لا وجه لحصر العوالم في الأربعة 108

الدلالة من عالم الإثبات لا الثبوت 109

وجه افتراق عالم الاعتبار عن عالم الانتزاع 112

أقوائية العلة من المعلول وجوداً 113

حقيقة العلم 114

دوران الإنشاء بين الوجود والعدم 115 و124 و135

الاحتياط في المعاملة كالتعليق فيها 116

ص: 481

تعليق المعاملة على شرط معلوم التحقق 117

اعتبارية الإنشاء 122 و124 و133

جريان الأحكام العقلية في جميع العوالم 122 و124

تعدد عوالم الاعتبار 128 و130

حكم العقل لا يخرج عن دائرة الإمكان 134

المرجع في بناء العقلاء 135

الأحكام العقلية غير محتملة للخطأ 136

إلغاء الشارع وسوسة الوسواسي 138

حال (الحسين بن محمد عامر الأشعري) 142

حال (معلى بن محمد البصري) 142

حال (الحسن بن علي بن زياد الوشاء) 142

حال (محمد بن حمران النهدي) 142

بطلان عبادة الوسواسي 145

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية 146

القرينة المقامية 149

مناسبة الحكم والموضوع 149

الشك في الحجية موضوع عدم الحجية 151

المادة قد توافق الهيئة في الدلالة وقد تعاكسها 155

الاجتهاد والتقليد طريقا المعرفة، بخلاف الاحتياط 157

تأخر رتبة المحرز العملي عن الدليل الاجتهادي 157 و172

ص: 482

فرق مفهوم الوصف عن اللقب 159

مفهوم الحصر 160

انسداد باب العلم والعلمي 161 و177

حجية مراسيل الثقات 163

إجبار السند بمطابقة المضمون لبناء العقلاء 163

الدوران بين التعيين والتخيير 164 و169 و392 و396

التفقه واجب غيري 168

وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها 169

موضوع البراءة 178 و179

موضوع التخيير 178

موضوع الاستصحاب 178

موضوع الاحتياط 178 و179 و183 و185 و201 و438

فرق الأمارات عن الأصول 179

الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية الواقعية 186

طريقية الاجتهاد والتقليد

والاحتياط للواقع 187

دوران الأحكام مدار موضوعاتها مع الجهل بعللها 188

بناء العقلاء حجة بلا حاجة إلى إمضاء الشارع 192

مفهوم المواطن بين القانون الإسلامي والوضعي 192

ص: 483

كثير الشك 194

أدلة نفي الضرر حاكمة على أدلة الأحكام الأولية 197 و202 و213

حكومة قاعدة الإلزام على الأدلة الأولية 198

الحقيقة الشرعية 199

الأصل في الطرق هو الوجوب التخييري 203

الجمع العرفي قسيم للحكومة أو أعم منها 206

أسبقية الحكومة على التخصيص 213

انقلاب النسبة 214

الأصل المثبت 219

الأشياء بوجوداتها الواقعية غير محركة بل العلمية 223

حساب الاحتمالات 226 و454

التضمين اللغوي 229

عدم الشيء يعلل بانتفاء المقتضي مع انتفائه ووجود المانع 230

تعريف القطع 236

التعريف بالمصداق 237

ضرورة التوجه للدليل النقلي عند الاستنباط والاستدلال 244

ضرورة التوجه للدليل النقلي عند الاستنباط والاستدلال 245

حسن الاحتياط فطري بديهي 246 و251

ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم 250

تحقق العبادية بصدق الإسناد للمولى 252

ص: 484

حجية المستقلات العقلية ذاتية 254 و276

احتياج الطرق العقلائية للإمضاء 257

ردع الشارع عن القياس 263

توجيه أدلة المانع عن الاجتهاد والتقليد 263

كل ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات 265

الوجدان شاهد على حجية قول أهل الخبرة 265

لزوم نقض الغرض من بعث النبي صلی اللّه عليه و آله وسلم 266

لزوم العسر والحرج من اجراء الاحتياط بالجملة 266

لزوم توافق قوة الردع مع شدة رسوخ السيرة 267 و275

إمضاء الشارع للسيرة القائمة في العقود 268

ادعاء عقلائية الكهانة والطيرة 269

الظنون على قسمين 275

مقصود الأصولي من (الظن) في تعريف الاجتهاد 278

لا جبر في اتباع الحجة 279

انواع ثلاثة لاحتياطات الأعلم 287

منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات 288 و335 و419

وجه الاحتياطات الكثيرة في الرسائل العملية 289

عدم تحقق العدول في الرجوع الى المفضول عند احتياط الأعلم 291

تحديد مقدار الكر 292 و321 و374 و407 و457

الخلاف في سن بلوغ الفتاة 292 و360

المقدم عند تعارض العام والمطلق 293 و301

ص: 485

دلالة العام بالوضع 293

دلالة المطلق بمقدمات الحكمة 293

اضرار وجود القدر المتيقن بالإطلاق 294

الشهرة الكاسرة والجابرة 295

معارضة استظهار الفقيه مع الشهرة الكاسرة 295 و299

حجية قول العدل الواحد في الموضوعات 297

زواج البكر الرشيدة من غير إذن الولي 300و397 و405

زواج البكر الرشيدة من غير إذن الولي 300و397 و405

بين البينة والإقرار 302 و348

الحجج علة معدة لرأي الفقيه 302

الاعراض عن الوطن وحكمه 328

تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات 331

حرمة المخالفة القطعية الإجمالية في الجملة 332

منع البعض عن الرجوع إلى الغير في الاحتياطات 337

الملاكات التسع للمولوية والإرشادية 343 و382 و385 و 389

التعدي من المرجحات المنصوصة 350 و365

فرق البراءة العقلية عن الشرعية 355

قاعدة التسامح في أدلة السنن 359 و368 و420

الشهادة الثالثة في الصلاة 368

حرمة العدول 372

الفرق بين الشريع والبدعة 376

الأصل في الأوامر الصادرة من الشارع كونها مولوية 386

ص: 486

استقلال العقل بوجوب الاحتياط قبل الفحص 387

استقلال العقل بمنجزية العلم الإجمالي 388

وجوه خمسة لأصالة الحظر 398

تقدم الاستصحاب على الاحتياط 400

عند تعارض الاحتياطين 405 و419

بيع الغنم الحي باللحم 407

بين التعارض والتخالف 410

تقدم الخاص على العام بالأظهرية 410

جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي 413 و415

العلم الإجمالي في أطراف الشبهة غير المحصورة 419

الاحتياط في صوم الوصال 422

الاحتياط في المد الزائد 422

الاحتياط في إقامة الحد 422 و440

احتجاج الصديقة الزهراء (عليها السلام) مع أبي بكر 425

الترتب 430 و430

اقتضاء النهي عن العبادة للفساد 433

توقف العبادة على وجود الأمر 433

مفاد (لا ضرر ولا ضرار) 433

تعلق الخمس بالعين أم بالذمة 436

مزاحمة الحكم اللا اقتضائي مع الاقتضائي 437 و447

بطلان معاملة الصغير 437

النسبة بين موارد الاحتياط والعسر والحرج 438

ص: 487

النسبة بين أدلة العسر والحرج وأدلة وجوب الاحتياط 438

حكم المرتد الفطري 441

الحدود تدرأ بالشبهات 441

دلالة (لا يحب) على المبغوضية البالغة 445

تخصيص المورد بالوارد 445

حجية السياق 445

الفرق بين الإسراف والتبذير 446

المفسدة السلوكية 451

ص: 488

الفهرس

جواز الاحتياط وصحته كقسيم للاجتهاد والتقليد... 7

المطلب الأول:8تعريف الاحتياط وموارده ونطاقاته... 8

الشك في أصل التكليف... 8

الشك في المكلف به / الشك في الجزئية / الشك في الشرطية والقيدية... 10

الشك في محقق الواجب والغرض... 12

الاحتياط في محقق البسيط أو المركب الاعتباري أو التكويني... 14

الاحتياط في محصِّل البسيط الاعتباري... 14

الاحتياط في محصِّل البسيط التكويني... 15

الاحتياط في محصِّل المركب الاعتباري... 15

الاحتياط في محصِّل المركب التكويني... 16

موارد أخرى للاحتياط... 16

المطلب الثاني: النسبة بين الاحتياطين الأصولي والفقهي... 18

المطلب الثالث: الأدلة على جواز الاحتياط ورجحانه أو وجوبه... 20

إشكالان على جواز الاحتياط أو رجحانه... 20

ص: 489

أدلة جواز الاحتياط / الوجه الأول: برهان الغرض... 20

دليل الاخباري على وجوب الاحتياط... 27

1: ثبوت العلم الإجمالي بالمحرمات... 27

2: الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية... 27

3: الدليل الاجتهادي لا ينفي ما سواه... 27

4: لا عقوبة مع الدليل على الحِلّ دون ما إذا فقد الدليل... 28

تعميم الآخوند (رحمه اللّه) للشبهة الوجوبية... 32

هل العلم الإجمالي الكبير يشمل المستحدثات؟... 34

لا تلازم بين القطع بعدم العقوبة والحلية الواقعية... 36

الوجه الثاني: برهان الامتثال القطعي... 37

الوجه الثالث: الأخبار الدالة على رجحان وجوب الاحتياط... 38

الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن على الاحتياط... 39

وجوه الجمع بين روايات الاحتياط والبراءة... 43

حمل روايات الاحتياط على الاستحباب... 45

حمل أوامر الاحتياط على الإرشادية... 47

تخصيص روايات الاحتياط بروايات البراءة... 48

دعوى اختصاص الصحيحة بالفتوى... 51

الوجه الرابع: تعميم أدلة الاحتياطات الخاصة... 51

الوجه الخامس إلى السابع... 52

بناء العقلاء وسيرة المتشرعة والإجماع... 52

ص: 490

إشكالات على القول بجواز الاحتياط... 53

الإشكالات الخاصة بالعبادات... 54

معنى قصد الوجه والتمييز... 54

قصد الوجه في الواجبات النفسية والضمنية... 58

الأدلة العامة على اعتبار قصد الوجه والتمييز... 63

1 - بدون قصد التمييز والوجه لا يصدق عنوان (الإطاعة)... 63

2 - بدونهما لا تعد العبادة عبادة... 65

3- 4 - بدونها لا يعلم تحقق المركب الاعتباري ولا غرض المولى... 65

5 - دوران الاحتياط بين التشريع وعدم العبادية... 68

الأجوبة على الوجوه الخمسة... 69

مناقشة الوجه الأول والثاني... 69

مناقشة الوجه الخامس... 70

مناقشة الوجه الثالث والرابع... 71

أولاً: معنى الإطلاق اللفظي والمقامي... 71

ثانياً: فروق الإطلاق اللفظي والمقامي... 73

جواب المحقق النائيني عن برهان الغرض... 76

الفرق بين العلة التامة والعلة المعدة... 76

المسالك في حقيقة العِلِّية... 78

اعتراض السيد الخوئي (رحمه اللّه) على الميرزا النائيني (رحمه اللّه)... 85

الإشكال على الاعتراض... 87

ص: 491

مناقشة مع الميرزا النائيني (رحمه اللّه)... 90

تفريع: البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين... 95

القول الأول: رأي الشيخ (رحمه اللّه)... 96

القول الثاني: رأي الآخوند (رحمه اللّه)... 97

جواب تنزلي عن قصد الوجه والتمييز... 99

تحليل بيان الفقه لكلام ابن إدريس... 100

الإشكال على الاحتياط في المعاملات... 102

اشتراط الجزم في المعاملة... 102

المطلب الأول: تعريف الإنشاء... 103

المطلب الثاني: أقسام الوجود... 106

الوجود الصوري... 107

الوجود الظلي... 108

عالم الظلال في النقل ولدى العلم... 109

المطلب الثالث: عوالم الوجودات... 111

من الأدلة على تحقق الوجود الاعتباري في الخارج... 112

أولاً: الوجدان... 112

ثانياً: البرهان الإني... 113

ثالثاً: ظواهر الآيات والروايات... 114

امتناع قصد الإنشاء في الاحتياط... 115

المعاملات متوقفة على الإنشاء والقصد... 115

ص: 492

اعتبار الجزم في الإنشاء... 115

الاحتياط لا جزم فيه... 116

التعليق مبطل للمعاملات... 116

كلام الشهيد الأول (رحمه اللّه)... 117

المناقشة... 119

أولاً: الترديد محال، والتردد ممكن... 119

ثانياً: الإنشاء خفيف المؤونة فيمكن الجزم في الاحتياط... 121

المناقشة إجمالاً... 122

دليلان على إمكان الممتنعات في عالم الاعتبار... 122

الجواب عن الدليلين... 123

ثالثاً: جواب الشيخ (رحمه اللّه): قصد الإنشاء حاصل بقصد تحقق مضمون الصيغة... 126

مناقشته: الحاصل صورة الإنشاء لا واقعه... 127

تأييد كلام الشيخ (رحمه اللّه) بتحقيق حول تعدد العوالم الاعتبارية... 128

مزيد إيضاح: عوالم الاعتبار العرضية والطولية... 130

خلاصة البحث مع إضافة... 133

رابعاً: إما قصد الجزم غير معتبر أو أنه متحقق بنحو ما... 134

إشكال آخر... 135

خامساً: النقض بالظان شخصياً بالخلاف... 136

سادساً: النقض بمعاملات الوسواسي لصحتها مع عدم جزمه... 137

سابعاً: تنزيل الشارع (لا جِدّ) المحتاط منزلة (الجِدّ)... 140

ص: 493

الإمكان في عالم الثبوت، والحاجة إلى الإثبات... 140

صحة عمل الوسواسي واجداً كان أو فاقداً... 142

الاحتمالات في قوله (عليه السلام): «لا شيء فيها»... 143

صحة عمل المحتاط وإن كان فاقداً لقصد الجزم ونحوه... 145

مناقشة: الأمر بالاحتياط لا يتكفل حال فاقد الشرط أو الجزء... 146

الجواب: الأمر مع العلم بفقد الشرط مطلقاً، دليل على التنزيل أو عدم الشرطية... 146

مناقشة: تخصيص أدلة الاحتياط بالعبادات... 148

جوابان:... 149

الإشكالات العامة على الاحتياط... 149

مفاد الإرجاع للرواة والروايات نفي طريقية الاحتياط... 150

الأجوبة على الإشكال من جهة طريقية التفقه والتقليد... 155

عدم ذكر الاحتياط لصعوبته... 155

لا مفهوم للروايات... 158

ومفهوم الحصر، إضافي... 160

روايات الإرجاع للاحتياط... 161

الجواب عن ضعف سندِ روايات الاحتياط... 162

الإشكال من جهة الحكم التكليفي بالتفقه والتقليد... 164

تمهيد الجواب ببيان حقيقة الوجوب التخييري... 164

الأقوال في حقيقة الوجوب التخييري... 165

الأول: الوجوب التخييري هو التعييني مع فارق... 165

ص: 494

الثاني: الوجوب التخييري مآله إلى وجوب الجامع الانتزاعي... 165

الثالث: الوجوب التخييري مآله إلى أحد الأمرين... 166

هل الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد أم العكس؟... 171

أدلة كون الاحتياط في طول الاجتهاد والتقليد... 172

الدليل الأول: تأخّر الاحتياط رتبةً... 172

الدليل الثاني: الاختلاف في الاحتياط... 174

الدليل الثالث: الاحتياط قسم وليس قسيماً... 174

بين الاجتهاد الساذج والتفصيلي... 175

جواب القول بطولية الاجتهاد... 176

1: التقدم بالتخصص... 176

المناقشة... 176

الفرق بين الاحتياط والبراءة... 179

2: التقدم بالورود... 181

هل الأمارات واردة على الأصول أم هي حاكمة؟... 182

المناقشة: موضوع الاحتياط ليس احتمال العقاب... 183

لا ورود بين الاحتياط وأدلة الاجتهاد... 185

الاحتياط لتحصيل الواقع لا الحجة... 186

3: التقدم بالحكومة... 188

الحكومة وتعريفاتها... 188

أقسام الحكومة... 192

ص: 495

وجه البحث عن الحكومة... 192

القسم الأول: الحكومة على عقد الوضع، توسعةً... 193

القسم الثاني: الحكومة على عقد الوضع، تضييقاً... 194

القسم الثالث: عقد الحمل توسعةً... 195

القسم الرابع: عقد الحمل تضييقاً... 196

احتمالان في (لا ضرر)... 197

النسبة بين الاجتهاد والتقليد وبين الاحتياط... 200

وجوه الجمع بين أدلة الأمر بالتفقه() والأمر بالاحتياط... 203

1: الوجوب التخييري... 203

2: حمل الاحتياط على الاستحباب... 203

3: صَرْف أوامر الاحتياط لبعض الحصيص... 205

4: دلالة احتط على الجامع... 206

وجه الوجه الرابع... 207

المناقشة: لا يصح استعمال صيغة الأمر في الوجوب والندب معاً... 208

صيغة الأمر والمباني في (الموضوع له):... 209

وقفة دقيقة... 209

الطرق الخمس لعلاج الخبرين المتعارضين... 210

خاتمة في بحث الحكومة... 212

بين (الورود والحكومة) و(التخصص والتخصيص)... 212

الفروق الأربعة بين الحكومة والتخصيص... 212

ص: 496

بيان الطولية حسب ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه اللّه)... 215

مناقشة طولية التحرك عن الأمر الاحتمالي للتحرك عن الجزمي... 215

(التقدم) بالورود أو الحكومة... 217

التقدم الشرفي... 217

التقدم الامكاني... 217

التقدم الوقوعي... 218

طولية الاحتياط للاجتهاد في صورة الشك... 219

إمكان القول بوجود أصل سببي منقح... 220

بيان آخر للطولية: الواجب التحرك عن بعث المولى لا عن احتمال بعثه... 220

الأجوبة:... 222

أولاً: نقضاً بأن التحرك عن الدليل ليس تحركاً عن نفس البعث... 222

ثانياً: حلاً... 224

ثالثاً: استقلال العقل بصحة الانبعاث عن احتمال الأمر... 226

مبنى النائيني (رحمه اللّه) في مرجعية الاشتغال لدى الشك... 227

الاستدلال لكلام الميرزا (رحمه اللّه) ببعض الآيات... 228

إشارة استطرادية في جهات إعجاز القرآن الكريم... 229

ملحق: الشيخ (رحمه اللّه): القطع لا يقع حداً أوسط... 232

المناقشات... 234

القطع المرآتي يقع أوسط في القياس... 234

والقطع حجة لغةً وعرفاً وعلى أكثر المباني... 235

ص: 497

ولكن قد يرد عليه كبرى وصغرى... 235

وتعريف الشيخ (رحمه اللّه) للحجة تعريف بالمصداق... 237

ومورث القطع حجة بالتبع والقطع حجة بالذات... 238

ولا يراد بالقطع إثبات نفس المقطوع به... 239

تنبيه: وجوب الاستضاءة بالآيات والروايات في الأصول وغيره... 239

(الحجة) في بعض الروايات بمعنى العلم... 242

إشكال طولية الاحتياط لأنه مختلف فيه وغير قطعي... 245

تحرير محل النزاع... 245

الإشكال بأن منشأ صحة الاحتياط هو الاجتهاد... 246

الجواب: بل العقل حاكم بذلك بالاستقلال... 246

والطولية خاصة بصورة الشك... 247

التنقيح: انحصار طريق الامتثال بالاجتهاد... 249

الجواب: وجه صحة الاحتياط، حكم العقل لا الاجتهاد... 249

ولو سلم فطريق الامتثال منحصر في العلم... 250

العروة: لأن المسألة خلافية فيجب الاجتهاد أو التقليد فيها... 251

المناقشة... 251

(الفقه): المقياس استقلال العقل وعدمه، لا الخلاف والوفاق... 254

مناقشة مع التنقيح: (لا يطمئن المحتاط بعدم العقاب)... 255

وجه آخر لتوقف صحة الاحتياط على الاجتهاد: حاجته للإمضاء... 257

الأجوبة... 259

ص: 498

الجواب عن الدور وعن أصل الإشكال... 261

صحة الاجتهاد والاحتياط متوقفة على الإمضاء وهو قطعي... 261

هل إحراز عدم الردع حدسي؟... 263

لزوم أن يكون الردع حسياً ظاهراً... 267

إشكال عدم اطراد قاعدة (لزوم الردع الواضح)... 269

أجوبة ثلاثة... 269

الملحق... 271

ردع الشارع عن الكهانة والتنجيم والقيافة، والعفو عن الطيرة... 271

1) الطيرة... 271

2) الكهانة... 272

3) التنجيم... 272

4) القيافة... 274

الردع المتناسب مع شدة رسوخ الطريقة العرفية... 275

خلاف الأخباري في جواز الاجتهاد أشبه بالنزاع اللفظي... 277

شمولية الجواب لردّ الشبهات العقدية... 279

عود على بدء... 280

الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره... 281

أولاً: الواقع منجز فالاحتياط واجب، والأعلم لم يُفْتِ فالمفضول حجة... 281

ثانياً: احتياط الأعلم كاشف عن عدم علمه بالحكم... 284

ثالثاً: يصح الامتثال الإجمالي مع الامتثال التفصيلي... 284

ص: 499

لازم كلام الأعلام... 285

أقسام الاحتياط... 287

القسم الأول: الفتوى بالاحتياط... 288

القسم الثاني: عدم الفتوى لعدم إحراز الحجة... 290

عدم الوضوح للتردد في المبنى... 293

أو للتردد في البناء... 294

القسم الثالث: عدم الفتوى إثباتاً... 296

من وجوه عدم الفتوى... 297

القسم الرابع: عدم الفتوى لضعف الدليل... 300

الصور الثلاث للاستظهار في الفتوى... 303

الصور الثلاث للاستظهار في الاحتياط... 306

التفصيل بين الاحتياط المطلق أو الأصولي والاحتياط المفتى به أو الفقهي... 306

وجوه صحة العمل بالاحتياطات في الكتب الفقهية:... 308

إشكال (بيان الفقه): لا فرق بين الاحتياط الأصولي والفقهي... 310

1: لماذا التفريق... 310

الجواب: لأن الاحتياط الجزئي، تقليد بالحمل الشائع... 310

2: لزوم تقييد صحة الاحتياط بما إذا لم يكن عبادة... 313

الجواب عن الإشكال بالفرق السابق... 315

توسعة دائرة الإشكال على الميرزا والجواب الجواب... 317

خمسة قيود لتخيير المقلد بين احتياط الأعلم وفتوى المفضول... 318

ص: 500

التقييد بعدم مخالفة الأعلم من جهة أخرى... 319

التخيير الاستمراري بين العمل باحتياط الأعلم وفتوى المفضول... 323

فرع على المسألة 63... 323

الرجوع إلى احتياط المفضول... 326

فتويا المفضولين مقابل احتياط الأعلم... 326

مرجعية المبنى الأصولي في تعارض الحجتين... 328

الاحتمالات الثلاث في كون التخيير ابتدائياً أو استمرارياً... 330

الاحتمال الأول: التخيير ابتدائي، وأدلته... 330

الاحتمال الثاني: التخيير استمراري، ودليله... 331

الاحتمال الثالث: التفصيل بين القاصد وغيره... 335

تتمة موجزة... 337

التبريزي (رحمه اللّه): احتياط الأعلم حكم عقلي إرشادي فللعامي مخالفته... 337

مناقشات مع الميرزا التبريزي (رحمه اللّه)... 340

1- منشأ المنع، فتوى الأعلم لا احتياطه... 340

2 - لا إطلاق لكون احتياط الأعلم حكماً إرشادياً... 342

3 - النسبة بين الحكم الإرشادي واحتمال الضرر، من وجه... 343

مختارنا في ضابط المولوي والإرشادي... 344

تطبيق ضابط المولوي والإرشادي في المقام... 344

4 - مرجع إشكال إلى المبنى والتفصيل فيه... 345

احتياط الأعلم والمفضول والرجوع إلى الثالث... 347

ص: 501

الاحتياطات النسبية... 347

الاحتياطات غير النسبية... 348

الاحتياط الاستحبابي... 352

المطلب الأول: معنى الاستحباب العقلي... 352

معاني الاستحباب اللغوي... 353

العقل له نوعان من الحكم... 354

الاحتياط العقلي إرشاد... 354

الفرق بين الاستحباب العقلي والشرعي... 355

1: الحاكم بالاحتياط... 355

2: ترتب الثواب وعدمه... 356

مدارك وعلل الاحتياط الاستحبابي... 357

الوجه الأول: عمومات دليل الاحتياط... 357

الوجه الثاني: شمولية قاعدة التسامح للمورد... 358

الوجه الثالث: مخالفة فتواه لبعض الروايات... 360

الوجه الرابع: مخالفة فتواه للمشهور... 360

أقوال ثلاثة في حقيقة الوجوب والندب... 362

القول الأول: إن الوجوب والندب مرتبتان... 362

القول الثاني: إن الوجوب مركب من أمرين... 362

القول الثالث: إنهما حقيقتان متباينتان... 363

الخلط بين المؤدى والحكم... 364

ص: 502

الوجه الخامس: رعاية فتوى الأفقه... 365

الثمرة من كون الاستحباب شرعياً أو عقلياً... 367

فروع ومسائل... 369

حرمة العدول في الاحتياط الاستحبابي... 369

إذا تطابق فتوى المفضول مع احتياط الأعلم... 371

الجواب عن الإشكال الأول... 372

الجواب عن الإشكال الثاني... 373

التفريق بين عدم قصد القربة والتشريع... 374

التشريع المحرم... 375

الفرق بين التشريع والبدعة... 376

الدليل على حرمة التشريع بقول مطلق... 377

الاحتياط الوجوبي... 380

المبحث الأول: هل الوجوب شرعي أم عقلي؟... 380

وجوه الاستدلال لكون الوجوب عقلياً... 381

الوجه الأول: أمر الاحتياط في رتبة المعاليل، فالوجوب عقلي... 381

المناقشة: الأمر بالمعلول قد يكون مولوياً... 384

الوجه الثاني: الاحتياط الوجوبي إما قبل الفحص أو بعده... 387

المناقشة مبنىً وبناءً... 389

الوجه الثالث: الحاكم في الشك في العنوان والمحصل، العقل... 391

الوجه الرابع: الحاكم في الدوران بين التعيين والتخيير، العقل... 392

ص: 503

المناقشة: صور قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير... 393

الأولى: الدوران في الحجج... 393

الثانية: الدوران في مرحلة جعل الحكم الواقعي... 394

الثالثة: الدوران في مرحلة الامتثال... 395

الوجه الخامس: القول بأصالة الحظر عقلاً... 397

هل الاحتياط في طول الأصول العملية؟... 399

فرع تمريني: لو قال الأعلم بالتخيير أو بالبراءة ولم يحتط... 401

صعوبة تشخيص موارد الاحتياط على العامي... 403

[موارد الاحتياط و عسر تشخيصها]... 403

صور مسألة عسر تشخيص موارد الاحتياط... 404

الصورة الأولى: العسر في الإحاطة بالأقوال... 404

الصورة الثانية: لو تعارض الاحتياطان... 404

الصورة الثالثة: خفاء احتمال وجود الإشكال... 406

الصورة الرابعة: كون الاحتياط في ترك الاحتياط... 407

الصورة الخامسة: إذا كان للاحتياط وجهان... 409

الصورة السادسة: تعارض الاحتياط الأصولي وشبهه مع الاحتياط الفقهي... 410

ست أمور لتوضيح المعادلة وأبعادها... 410

تطبيقات لتخالف الاحتياطين... 413

تخالف المبنى الأصولي في الاستصحاب مع الاحتياط الفقهي... 413

تخالف المبنى الأصولي في الاحتياط مع الاحتياط الفقهي... 417

ص: 504

تخالف مقتضى العلم الإجمالي مع الاحتياط الفقهي... 419

تعارض القاعدة الفقهية مع الاحتياط... 420

اقسام الاحتياط المذموم... 422

1: الاحتياط فيما كان بشرط لا... 422

2: الاحتياط على خلاف الأمارة... 423

من أدلة ذم الاحتياط مع وجود الأمارة... 425

3: الاحتياط مع العلم بالحكم الشرعي... 427

مناقشة دعوى عدم حسن الاحتياط مع العلم بالحكم... 429

4: الاحتياط في حدود سلطنة الغير... 431

5: الاحتياط الضرري... 432

المباني والوجوه في صحة الوضوء الضرري... 433

6: الاحتياط المضر بالغير... 435

7: الاحتياط الموجب للتنفر من الدين... 436

8: الاحتياط الموجب للعسر أو الحرج... 437

الأول: نسبة أدلة الحرج مع أدلة الاحتياط... 438

الثاني: رافعية أدلة العسر للحسن؟... 439

9: الاحتياط في الحدود... 440

أنواع الشبهة التي تدرأ بها الحدود... 441

شبهة الفقيه... 441

شبهة القاضي... 442

ص: 505

شبهة المدعى عليه (المتهم)... 443

10: الاحتياط المستلزم للإسراف... 444

من أدلة حرمة الإسراف والتبذير... 445

النسبة بين أدلة الاحتياط وأدلة الإسراف... 446

11: الاحتياط والفتوى في غير مورده... 448

الفتوى بالاحتياط قد لا تطابق الاحتياط... 450

12: الاحتياط المتضمن للمفسدة السلوكية... 451

13: الاحتياط الموجب لإسقاط حق الغير... 453

14: الاحتياط مع الوسوسة... 454

15: الاحتياط في ترك الاحتياط... 456

فهرس المصادر... 460

فهرس البحوث العلمية... 470

فهرس الفوائد العلمية... 471

فهرس الاشارات العلمية... 478

الفهرس... 489

ص: 506

كتب أخرى للمؤلف

1. (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) - مطبوع.

2. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

3. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

4. الأصول مباحث القطع، مخطط.

5. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

6. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

7. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

8. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

9. بحوث في العقيدة والسلوك، مطبوع.

10. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

11. تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط.

12. التبعيض في التقليد، تحت الطبع.

13. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

ص: 507

14. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

15. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

16. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.1

17. توبوا إلى اللّه، مطبوع.

18. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

19. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي . نموذجاً)، مطبوع.

20. الحوار الفكري، مطبوع.

21. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

22. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

23. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

24. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها - مطبوع.

25. رسالة في أسلمة العلوم الإنسانية - مطبوع.

26. رسالة في الحق والحكم، التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.

27. رسالة في السيرة العقلائية - مخطوط.

28. رسالة في شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات - مخطوط.

29. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

30. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

31. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

ص: 508

32. السرقفلية (حق الخلو) موضوعاً وحكماً .

33. السلطات العشر - تحت الطبع.

34. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

35. السيد نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

36. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

37. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

38. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة1. الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

39. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث أصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل، مطبوع.

40. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

41. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

42. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

43. فقه المكاسب - مباحث البيع، مخطوط.

44. فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللّهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

45. فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

46. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

47. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

48. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

ص: 509

49. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

50. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

51. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، تحت الطبع.

52. قاعدة اللطف، تحت الطبع.

53. قولوا للناس حسنا ولا تسبوا - تحت الطبع.

54. القيمة المعرفية للشك - مطبوع.

55. كونوا مع الصادقين، مطبوع.

56. لا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل - مخطوط.

57. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

58. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

59. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

60. مباحث الأصول: (الحكومة والورود)، مخطوط

61. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

62. مباحث الأصول، التعارض - مخطوط.

63. المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد (بحوث تمهيدية)، مطبوع.

64. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

65. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

66. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

ص: 510

67. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

68. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

69. مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

70. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

71. مقدمات الاجتهاد والاستنباط وشروطه.

72. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

73. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

74. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

75. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

76. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

77. وجيزة في التقليد - مطبوع.

78. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 511

بحوث في الإحتیاط

سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

مؤسسة التقی الثقافية

ص: 512

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.