أضواء على حياة الإمام علي عليه السلام

هوية الكتاب

أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)

آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله)

الطبعة الثالثة:

1432ه- / 2011م

* * *

الطبعة الأولى: 1400 ه

الطبعة الثانية: 1424 ه

ص: 1

اشارة

الطبعة الثالثة:

1432ه- / 2011م

* * *

الطبعة الأولى: 1400 ه

الطبعة الثانية: 1424 ه

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.

المقدمة

لم يكن للأئمة الأطهار (عليهم أفضل الصلاة والسلام) موقف موحد تجاه القضايا والأحداث التي مرت بهم .. فقد كان لكل إمام موقف متميز تجاه الواقع الذي عايشه، وطريقة خاصة في معالجة المشاكل والأزمات التي مرت به..

والسبب هو: الظروف المختلفة التي كان يواجهها كل إمام، فالإمام الحسن (عليه السلام) واجه ظروفاً تختلف تماماً عن الظروف التي واجهها الإمام الحسين (عليه السلام)، والإمام الحسين (عليه السلام) عايش جواً مختلفاً كل الاختلاف عن الجو الذي عايشه الإمام السجاد (عليه السلام)، وهكذا تصالح الإمام الحسن (عليه السلام) مع

ص: 3

معاوية بينما ثار الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد في الوقت الذي اتخذ فيه الإمام السجاد (عليه السلام) أسلوب التربية الهادئة في «الدعاء».. وهكذا سائر الأئمة (عليهم السلام).

من هنا.. فإن حياة الأئمة (عليهم السلام) هي حياة حافلة،غنية بالعبر والعظات، والدروس العملية.. التي يستطيع كل إنسان أن يستفيد منها مهما كانت الظروف والأوضاع التي يعيش فيها.. لأن الأئمة (عليهم السلام) واجهوا شتى الظروف، واتخذوا منها مواقف محددة يجب أن تكون درساً لكل الأجيال ومنهاجاً ينبغي السير على ضوئه.

ومن هنا تأتي ضرورة دراسة حياة الأئمة (عليهم السلام).. ولذلك فقد بدأنا عرضاً تاريخياً يتناول جوانب من حياة الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام).. بهدف أن نغير أنفسنا ونحاول الاقتداء بالأئمة (عليهم السلام) وتطبيق ما كانوا يفعلونه - حسب الظرف الذي نعيشه - ومن اللّه نستمد التوفيق..

إنه سميع الدعاء.

ص: 4

الإمام علي (عليه السلام) الشخصية الفذّة

الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) شخصية متميزة تخطت حاجر الزمان والمكان وتربعت على قمة المجد.. فقد تجمعت في هذه الشخصية الفذة العملاقة كل الصفات الرفيعة التي فاق بها جميع العظماء والعمالقة - بعد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - حتى لكأنه نسخة ثانية من شخصية الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل هو نفس الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)بتصريح القرآن الكريم: (وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ)(1).. لقد كان الإمام (عليه السلام) متفوقاً في كل المجالات.. ومتقدماً في كل النواحي.. من هنا فقد اختاره اللّه سبحانه خليفة على المسلمين وقائداً لهم بعد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وفي هذه الدراسة الموجزة سنتعرض لجوانب من حياة الإمام علي (عليه السلام) سرداً وتحليلاً عبر سبعة فصول:

الفصل الأول: مميزات الإمام علي (عليه السلام) وصفاته.

ص: 5


1- سورة آل عمران: 61.

الفصل الثاني: المرحلة التي سبقت حكم الإمام علي (عليه السلام).

الفصل الثالث: الإمام علي (عليه السلام) حاكماً.

الفصل الرابع: حروب الإمام (عليه السلام).

الفصل الخامس: معاوية في حياته السياسية.

الفصل السادس: الإمام علي (عليه السلام) من الحرب - إلى الشهادة.

الفصل السابع: أسئلة وإشكالات.

ص: 6

الفصل الأول: الإمام علي (عليه السلام) خصائص ومميزات

اشارة

مميزات الإمام (عليه السلام) كثيرة وهائلة ولا يمكننا أن نستوعبها في كتاب، لكننا سنتحدث عن بعض الصفات والمميزات الرئيسية للإمام (عليه السلام) باختصار.. وهذه مجرد إضاءات:

أولاً: الجهاد والتضحية

فقد كان منذ الصغر يدافع عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويحفظه من أذى الأطفال وأحجارهم، فعند ما كان أطفال الكفّار يؤذون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويرمونه بالأحجار كان يهجم عليهم وهو لم يبلغ العاشرة من العمر ويعضّ آذانهم وأنوفهم.. فكانوا يهربون منه كالفئران المذعورة.. وتبلغ تضحية الإمام علي (عليه السلام) القمة عندما يبيت في فراش الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلة هجرة النبي من مكة

ص: 7

إلى المدينة معرضاً نفسه لخطر محقق.. تعالوا لنسمع تلك الحادثة على لسان الإمام (عليه السلام).

يقول الإمام (عليه السلام): «كنت على فراش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد طرح عليّ بردة (البرد كساء من الصوف).. فأقبلت قريش مع كلّ رجل منهم هراوة فيها شوكها (عصي مليئة بالأشواك) فلم يبصروا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث خرج.. فأقبلوا عليّ يضربونني بما في أيديهم، فتنفط جسدي (أي تقرّح) وصار مثل البيض.. ثم انطلقوا يريدون قتلي»(1) الخ ..

وقد اشترك الإمام علي (عليه السلام) في كل حروب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (ما عدا تبوك) وهي تزيد على الثمانين حرباً..

وفي حرب بدر الكبرى قتل المسلمون جميعاً من الكفار (35) شخصاً، بينما قتل الإمام علي (عليه السلام) بمفرده (35) شخصاً(2) وبذلك يكون مجموع قتلى الكفار هو: (70) شخصاً.. قتل الإمام وحده نصفهم..

وفي حرب أحد أصيب الإمام (عليه السلام) بثمانين جراحة

ص: 8


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج36 ص43.
2- بحار الأنوار: ج41 ص65 وص146.

خطيرة(1) وعندما انتهت الحرب ورجع المسلمون إلى المدينة كاد الإمام علي (عليه السلام) يسقط إعياءً من كثرة ما نزف منه من الدماء ومع ذلك قام الإمام علي (عليه السلام) بصعوبة واتكأ على عبدين وتوجه نحو ساحةالمعركة!!..

وفي حرب الأحزاب أو الخندق التي وقعت عام (5) هجرية، كان الإمام (عليه السلام) هو الوحيد الذي واجه أعظم أبطال جيش الكفار وهو (عمرو بن عبد ودّ العامري) واستطاع الإمام قتله وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره!! وبقتل (عمرو بن عبد ود) تحطمت معنويات قريش إلى درجة كبيرة وقال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك: «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»(2).

وفي حرب خيبر التي وقعت عام (7) هجرية كان (مرحب) أهم أبطال اليهود وكان يضع على رأسه خوذه فولاذية بالإضافة إلى صخرة مثقوبة الوسط يضعها فوق الخوذة كان

ص: 9


1- بحار الأنوار: ج36 ص26.. وينقل جواد فاضل في كتابه (معصومين جهارده كانه) ج1 ص62 إن جراحات الإمام كانت تسعين جراحة..
2- بحار الأنوار: ج39 ص1-7.

مرحب عقبة أمام تقدم المسلمين إذ كان يقتل كل من جاء لمبارزته، فأعطى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الراية بيد أبي بكر ثم عمر ثم عثمان لكنهم تراجعوا وانهزموا، فتقدم الإمام علي (عليه السلام) لمبارزة (مرحب) وبعد قليل كان سيف الإمام (عليه السلام) يخترق رأسه مرحب محطّماً الصخرة والخوذة الفولاذية وقد شق السيف رأسه حتى الأضراس!! ثمتقدم وانتزع باب خيبر.. وبذلك انتصر المسلمون..(1).

وفي معركة حنين قتل الإمام (عليه السلام) بمفرده أربعين من الكفار، كما قتل قائدهم (أبو جرول) بضربة واحدة أصابت الخوذة والعمامة والدرع وجعلته نصفين..(2).

وفي غزوة ذات السلاسل قتل الإمام (عليه السلام) السبعة الأشداء وكان آخرهم أشدهم(3).

وقد كان كثير من رؤساء قوى الشرك والكفر يتساقطون قتلى على يد الإمام، أي إن الإمام (عليه السلام) كان له الدور المبرز في

ص: 10


1- بحار الأنوار: ج39 ص14.
2- بحار الأنوار: ج41 ص 66-67.
3- بحار الأنوار: ج41 ص 66-67.

هذا المجال(1) ولذلك فقد كان الكفار يسمون الإمام علي (عليه السلام) ب- «الموت الأحمر» وذلك لكثرة من قتل منهم(2).

وبالإضافة إلى دور الإمام (عليه السلام) البارز في ميدان الجهاد، كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتبر اليد اليمنى للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم).. وكان هو الذي يحافظ على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويرد عنه كيد الأعداء في جميع الأوقات، فقد خططت عصابة من مشركي مكة مكونةمن ثلاثة من أقوى رجالاتها لاغتيال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسريّة تامّة.. وعرف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخبر.. وفي ذات يوم، بعد صلاة الفجر قال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معاشر الناس أيكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلوا باللات والعزى ليقتلونني وقد كذبوا ورب الكعبة» فلم يقم أحد، وكان الإمام علي (عليه السلام) مريضاً في داره، وعندما وصله الخبر «خرج كأنه نشط من عقال» وتقدم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً: «يا رسول اللّه أنا لهم سريّة وحدي» (السريّة: قطعة من الجيش وسميت بذلك لأنها تسري ليلاً خفية).. وذهب الإمام علي (عليه السلام) لأداء مهمته ... وانقطعت أخباره عن

ص: 11


1- بحار الأنوار: ج41 ص 66-67.
2- بحار الأنوار: ج41 ص63.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).. وبعد ثلاثة أيام رجع الإمام (عليه السلام) ومعه أسيران ورأس، وأخبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقصّة: حيث صادف (عليه السلام) الثلاثة متجهين نحو المدينة، وعندما عرفت العصابة الإمام (عليه السلام) هجم عليه رئيس العصابة ودارت معركة حامية، وبعد جولة قصيرة استطاع الإمام (عليه السلام) القضاء على رئيس العصابة.. وعند ذلك استسلم الرجلان الآخران له وقالا للإمام: «...وصاحبنا المقتول كان يعد بألف فارس»!!(1).

وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قمة الجهاد.. والتضحية.. والبطولة، ولذلك نزلت مجموعةكبيرة من الآيات القرآنية تتحدث حول جهاد الإمام (عليه السلام) وتضحيته، وسنذكر هنا بعضها فحسب لضيق المجال:

قال تعالى: (إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنّهُم بُنْيَانٌ مّرْصُوصٌ)(2) نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين وحمزة وعبيدة ومجموعة أخرى من المجاهدين(3).

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج41 ص74-75.
2- سورة الصف: 4.
3- بحار الأنوار: ج36 ص24.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) -- أي يبذل -- (نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ)(1) نزلت هذه الآية في الإمام (عليه السلام) عند مبيته في فراش الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

وقال تعالى: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (3) وقد نزلت هذه الآية أيضاً في الإمام علي (عليه السلام) (4).

بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الآيات نزلت متحدثة عن جهاد الإمام وبطولته (عليه السلام).

ص: 13


1- سورة البقرة: 207.
2- بحار الأنوار: ج36 ص40.
3- سورة المائدة: 54.
4- بحار الأنوار: ج36 ص32-33.

ثانياً: العبادة

فقد كان الإمام (عليه السلام) يصلي كثيراً، وكان كثيراً ما يغمى عليه من شدة الخوف من اللّه فكان يصير كالخشبة اليابسة!!..

وفي ليلة الهرير(1) كانت الحرب بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش معاوية على أشدّها، وكانت الأيدي والأرجل والرؤوس تتطاير هنا وهناك.. في هذه الأثناء حان موعد صلاة الصبح، فتقدم الإمام (عليه السلام) وبسط له نطع (النطع: بساط من جلد) بين الجيشين ووقف الإمام عليه وبدأ بالصلاة - صلاة الصبح - وهو غير آبه بالسهام التي تتطاير حوله، إلى أن أكمل صلاته!!(2).

وفي إحدى الليالي رجع الإمام إلى داره متأخراً وسهر إلى

ص: 14


1- في حرب صفين اشتدت المعركة بين الطرفين بعد عدة أشهر من بدئها واستمرت المعركة إلى الليل.. وإلى الفجر وإلى الصبح، ولو استمرت الحرب إلى الظهر لانتصر جيش الإمام إلاّ أن خدعه معاوية «بالمصاحف» حالت دون ذلك وليلة الهرير هي تلك الليلة.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص27.

مدة طويلة من الليل مع أحد الأشخاص.. وفي ساعة متأخرة من الليل ذهب (عليه السلام) للنوم ونام الرجل أيضاً.. يقول الرجل: وبعد ساعة (أي: مدة)رأيت الإمام (عليه السلام) يتجه نحو مكان الضوء وهو يتكئ على الجدار (من شدة الإرهاق) فقمت وقلت: إلى أين يا أمير المؤمنين؟

فقال: إلى الصلاة..

فقلت له: إنك لم تسترح إلا قليلاً فلماذا لا تنام أكثر؟

فقال الإمام (عليه السلام): «إن نمت الليل ضيعت نفسي، وإن نمت النهار ضيعت رعيتي» قال الإمام ذلك واتجه إلى محراب العبادة!!.

ص: 15

ثالثاً: الزهد

فقد كان الإمام (عليه السلام) يعيش حياة عادية جداً كحياة الفقراء بل أكثر تواضعاً منها.. فقد كان أكله لا يتعدى خبز الشعير الجاف - وكان في بعض الأوقات يكسر الخبز بركبته لخشونته - وبعض الملح أو اللبن فقط!!

يقول سويد بن غفلة: «دخلت على علي بن أبي طالب القصر فوجدته جالساً وبين يديه صفيحة فيها لبن خاثر (أي: غليظ) أجد ريحه من شدّة حموضته.. وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسره بيده أحياناً فإذا غلبه كسره بركبته وطرحه فيه...

ثم يقول سويد: فقلت لجاريته: ويحك يا فضة أما تتقين اللّه في هذا الشيخ ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟ (نخل الدقيق أي غربله وأزال قشوره).

فقالت: لقد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاماً!»(1).

ص: 16


1- بحار الأنوار: ج40 ص331، وكشف الغمة: ج1 ص163.

مع أنه (عليه السلام) كان يحكم على أكثر من (50) دولة بما فيها إفريقيا وإيران وجميع الدول العربية!.

بل أن الإمام (عليه السلام) كان يأكل خبز الشعير اليابسحتى في يوم العيد ولا يرضى أن يخلطه أولاده بشيء من الدهن.. يقول عبد اللّه بن أبي رافع: دخلت عليه (الإمام) يوم عيد، فقدم جراباً (كيساً) مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير، يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل، فقلت يا أمير المؤمنين: فكيف تختمه (أي لماذا تغلف الكيس مع أنه لا شيء ذا أهمية فيه) قال (عليه السلام): «خفت هذين الولدين أن يلتاه (أي يبللاه ويلطخاه) بسمن أو زيت»(1).

أما ملابسه فقد كانت أكثر من عادية.. كانت مرقعة في كثير من جوانبها - يقول الإمام(عليه السلام): «لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها»(2)..

ويقول أبو النوادر - وهو بياع الكرابيس(3) -: أتاني علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومعه غلام فاشترى مني قميصي كرابيس فقال

ص: 17


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص25.
2- مستدرك الوسائل: ج3 ص272 ح3559 عن نهج البلاغة.
3- الكرباس: هو نوع من الأقمشة.

لغلامه: اختر أيّهما شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ علي (عليه السلام) الآخر فلبسه، ثم مدّ يده فقال: اقطع الذي يفضل من قدر يدي، فقطعته، وكفه (طواه) ولبسه، وذهب(1).

وكان الإمام (عليه السلام) يلبس الملابس المرقعة!! وقدرئي وعليه إزار (ثوب) غليظ اشتراه بخمسة دراهم(2).

وأما منزله.. فلم تكن تجد فيه حتى ضروريات أي منزل عادي، فقد كان كل ما في داره (عليه السلام) ليلة الزواج لا يتعدى ال- (13) شيئاً!!..

يقول الإمام (عليه السلام): «ما كان لنا إلا إهاب كبش (جلد خروف) أبيت عليه مع فاطمة (عليها السلام) بالليل ونعلف عليها الناضح (أي الجمل الذي ينقل عليه الماء) بالنهار»!!..(3).

ويقول سويد بن غفلة: دخلت على علي (عليه السلام) يوماً وليس في داره سوى حصير رثّ (بال) وهو جالس عليه، فقلت يا أمير المؤمنين: أنت ملك المسلمين، والحاكم عليهم وعلى

ص: 18


1- أسد الغابة: ج4 ص24.
2- بحار الأنوار: ج40 ص323.
3- بحار الأنوار: ج40 ص323.

بيت المال، وتأتيك الوفود وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟..

قال (عليه السلام): «يا سويد، إن اللبيب (العاقل) لا يتأثث في دار النقلة (الانتقال) وأمامنا دار المقامة (الآخرة) وقد نقلت إليها متاعنا ونحن منقلبون إليها عن قريب».

قال سويد: فأبكاني واللّه كلامه(1).وقد كان الإمام (عليه السلام) يطعم الناس خبز البرّ (الحنظة) واللحم وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير (الجاف) والزيت والخل!!(2)..

وهكذا وبمنتهى البساطة كان يعيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الحاكم على أكثر من خمسين دولة، بينما حكّام اليوم الذين يدعون الإسلام يعيشون في قصور أسطورية صرفت عليها المليارات، وسيارات من آخر موديل، وأموالهم تملأ البنوك الأجنبية، بينما أغلب الجماهير تعيش الفقر المدقع.

ص: 19


1- تذكرة الخواص: ص68، وانظر بحار الأنوار: ج67 ص321.
2- بحار الأنوار: ج40 ص327.

الفصل الثاني: المرحلة التي سبقت حكم الإمام علي (عليه السلام)

عندما وصل «عثمان بن عفان» إلى الحكم شاهد المسلمون المزيد من الانحراف في خط السلطة.. فقد أبعد (عثمان) المؤمنين الصادقين، وقرب إلى نفسه المنافقين وطرداء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم).. وخصص أموال بيت المال لأقربائه وعشيرته.. وولّى على الدول الإسلامية أشخاصاً منحرفين دون أن يمتلكوا شيئاً من الكفاءة، أو التقوى..

فقد جعل عثمان عبد اللّه بن سعيد - وهو أخوه في الرضاعة - والياً على مصر مع أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان قد أهدر دمه، ورد الحكم بن العاص - ابن عمه - إلى المدينة مع أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طرده من المدينة فكان يسمى «طريد الرسول».. وجعل ابنه «مروان» كاتبه وصاحب تدبيره(1)..

ص: 20


1- الأئمة الإثني عشر دراسة تحليلية: ص67، وبحار الأنوار: ج8 الطبعة القديمة ص180 وص236.

وكذلك أعطى حكومة الكوفة للوليد ابن عقبة بنمعيط - أخ عثمان من أمه - مع أنه كان سكيراً فاجراً.. وقد دخل الوليد المحراب مرّة وهو سكران، وصلى صلاة الصبح أربع ركعات، وعندما قدم وفد من علماء وزهاد الكوفة إلى المدينة وأبلغوا عثمان بالخبر وأتوه بالأدلة التي لا تقبل الشك كذّبهم عثمان وأمر بجلدهم أمام الناس لأنهم شهدوا على أخيه بالفجور والفسوق..

ومروان ابن الحكم بن أبي العاص الذي طرده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو وأباه من المدينة أرجعه عمر إلى المدينة بشفاعة عثمان، وعندما وصل عثمان إلى الحكم جعل مروان - طريد الرسول - وزيراً له ومنحه خمس إفريقيا!..

كما أعطاه من بيت مال المسلمين أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار (000ر310ر4) ومائة وستّة وعشرين مليون وسبعمائة وسبعين ألف درهم (000ر770ر126)(1) كلّ ذلك من أموال المسلمين.

كما أعطى الحرية الكاملة لمعاوية ليعمل أي شيء شاء في

ص: 21


1- علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد: ص412.

الشام..

وجعل عبد اللّه بن عامر - ابن عمه - حاكماً على البصرة.. ويعلى بن أمية حاكماً على اليمن، لأنه ابن عمه..وقد وهب عثمان إلى أبي سفيان (رأس الكفر) مأتي ألف! وكل ذلك من بيت مال المسلمين(1).

وأعطى عثمان الحارث بن الحكم - صهره - ثلاثمائة ألف درهم، ووردت إبل الصدقة فوهبها له! وأقطعه سوقاً في «المدينة» يعرف ب- «تهزوز» بعد أن تصدق به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على جميع المسلمين!(2).

وقد ولّى عثمان الحكم بن العاص على صدقات منطقة «قضاعة» فبلغت 300 ألف درهم فوهبها له!(3).

ومنح عثمان سعيد بن العاص 000ر100 درهم!(4).

وأعطى مروان بن الحكم - بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقاً - مائة وخمسين أوقية من الذهب أو الفضّة.. كما أقطعه فدكاً

ص: 22


1- حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) لباقر شريف القرشي: ج1 ص212.
2- المصدر: ص213.
3- المصدر: ص 216.
4- المصدر: ص217.

وأعطاها له!(1).

وليس ذلك فقط، بل إن عثمان سلب الناس حرياتهم.. فقد منع الناس من رعي دوابهم وحيواناتهمفي الجبال والوديان والصحاري(2)..

كما طبق مبدأ «الدكتاتورية» بأجلى معانيها.. فقد كان الكلام ضدّ الخليفة! أمراً محظوراً يعاقب عليه صاحبه.. فعندما جاء عمار بن ياسر حاملاً رسالة من أصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى عثمان تنصحه بالعودة إلى تعاليم الإسلام وعدم إعطاء الأموال لبني أمية.. الخ، عندما أوصل عمار الرسالة وقرأها عثمان ألقاها على الأرض ثم أمر الخدم بضرب عمار.. فهجموا عليه وضربوه بشدّة.. ولم يكتف عثمان بذلك بل قام وضربه برجله على بطنه عدة مرات حتى (أغمي عليه) وأصيب بالفتق!! ولولا هجوم أقرباء عمار وإنقاذهم له من بين أرجل عثمان لكان من الممكن أن يقتل جزاء قوله الحق!!(3).

ص: 23


1- المصدر: ص219.
2- بحار الأنوار: ج8 الطبعة القديمة ص236.
3- الحادثة مذكورة بصورة أخرى في بحار الأنوار: ج8 ص318.

وأبو ذر ذلك الذي قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه: «ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لجهة أصدق من أبي ذر»(1) كان يمشي في الأسواق والأزقة وهو يقرأ هذه الآية: (وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَيُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(2) ولكن عثمان أصدر أمراً يمنعه من ذلك!! ثم سفّره من المدينة إلى الشام.. ثم أمر بإرجاعه إلى المدينة راكباً جملاً عارياً.. وساروا به سيراً متواصلاً أياماً عديدة - كل ذلك بأمر من عثمان - حتى تناثر لحم فخذيه من احتكاك فخذه بظهر الجمل العاري(3) ثم سفره إلى الربذة حيث لا ماء ولا طعام.. واستشهد أبو ذر هناك جوعاً وعطشاً.

هذه الانحرافات الخطيرة في سياسة الحكم عند عثمان سبب تذمر المسلمين، واشتد هذا التذمر حتى تحول إلى ثورة عارمة.. حيث حاصرت الجماهير منزل عثمان وبعد ثلاثة أيام من المحاصرة دخلوا قصر عثمان وقتلوه هناك.. ثمّ اتّجهت الجماهير

ص: 24


1- بحار الأنوار: ج15 ص108.
2- سورة التوبة: 34.
3- بحار الأنوار: ج8 الطبعة القديمة ص317.

نحو الإمام علي (عليه السلام) وطلبت منه البيعة وإمرة المؤمنين.. إلا أنه (عليه السلام) رفض، ثم قبل تحت ضغط الإلحاح الجماهيري.. وهكذا رجع الحق إلى صاحبه.

الفصل الثالث: الإمام علي (عليه السلام) حاكما

عندما وصل الإمام علي (عليه السلام) إلى الحكم كان وضع البلاد الإسلامية متدهوراً جداً، فقد سرى الفساد والانحراف في كل أجهزة الدولة، وأصبح المجتمع طبقتين متباعدتين: طبقة غنية تملك من الذهب ما يكسر بالفؤوس، وطبقة فقيرة تمون في العراء من وطأة الجوع!.

وتجاه هذا الوضع المنحرف اتخذ الإمام (عليه السلام) عدّة قرارات إيجابية وبناءه وحكيمة كان من أهمها:

1: عزل جميع الولاة الفاسدين الذين ولاهم عثمان

ص: 25

[او من سَبَقَه] الحكم.. فعند وصول الإمام (عليه السلام) إلى الحكم عزل معاوية - الوالي على الشام - فوراً، كما عزل سائر الولاة الذين وصلوا إلى السلطة بواسطة المحسوبيات والمنسوبيات دون أن يملكوا شيئاً من الكفاءة أو التقوى، وقال الإمام (عليه السلام) في ذلك: «ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً»(1).

2: نصب ولاة صالحين مكانهم أمثال : عثمان بن حنيف، وسهل بن حنيف، وقيس بن سعد بن عبادة.. وغيرهم، وقد أحدث هؤلاء الولاة ثورة في جميع المجالات.. فقد عادت الأمور إلى مجاريها ولم يعد في البلاد الإسلامية حتى فقير واحد.. وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): «ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالخبز»(2) - أي إن هناك احتمالاً ضعيفاً بوجود فقير في أحد هذين البلدين اللذين كانا من أكثر البلاد تخلفاً وفقراً آنذاك..

وقد أرسل الإمام علي (عليه السلام) والياً إلى أفريقيا - أفريقيا التي

ص: 26


1- نهج البلاغة، الكتب: 62.
2- نهج البلاغة، الكتب: 45، ومن كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري...

يموت فيها الآن يومياً (1000) إنسان تقريباً من الجوع أي (360) ألف في السنة الواحدة(1) - وبعد مدة أرسل الوالي إلى الإمام برسالة يقول فيها : إن الأموال كثيرة ، فماذا نفعل بها؟.. فأرسل له الإمام (عليه السلام): أن أعطها للفقراء كي يستغنوا.. فأرسل الوالي مرة أخرى برسالة إلى الإمام يقول فيها: أنه أغنى الفقراء ولا تزال الأموال زائدة فماذا يفعل بها؟، فأمره الإمام (عليه السلام) بتزويج العزّاب كلهم بهذه الأموال، فزوج العزاب ثم أرسل بالفائض من الأموال إلى الإمام(عليه السلام).

وفي المجال الاقتصادي والمالي قام الإمام (عليه السلام) بما يلي:

1- ألغى مبدأ التفاضل في العطاء، وأعاده كما كان في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم).. فقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يساوي في العطاء، فكل الأموال التي كانت تفيض من بيت المال كان يقسمها بين المسلمين بالتساوي.. سواء منهم الغني والفقير والعربي والأعجمي والسيد والمولى، باعتبار أن بيت المال ملك للمسلمين جميعاً.. الخ.

و كذلك فعل أبوبكر إلاّ أن عمر عند ما جاء قرر:

ص: 27


1- هذا الإحصاء يعود إلى تاريخ التأليف وهو عام 1400ه.

التفاضل في العطاء.. ففضل الأوس على الخزرج، والمهاجرين على الأنصار، والعرب على العجم، ومضر على ربيعة، فجعل لمضر (300)، ولربيعة (200) وهكذا..

وعندما تولى الإمام علي (عليه السلام) الحكم أعاد العطاء متساوياً.. وذلك للأضرار التي ولّدها التفاضل في العطاء.. وفي طليعتها الطبقية والعنصرية، فقد تولدت بين العرب والعجم والموالي والسادة.. الخ عداوات وأحقاد بسبب هذا التفضيل، حتى أن عمر أدرك ذلك في آخر سنين خلافته فقال: «إن عشت هذه السنة ساويت بين الناس فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبو بكر»(1).

2- أعاد الأموال غير الشرعية التي تكونت على أثر سياسة عثمان الجاهلية إلى بيت المال، فقد كان الزبير يملك خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وضياع أخرى.. وكانت غلة طلحة بن عبد اللّه في العراق كل يوم ألف دينار وغلّته في منطقة (السراة) أكثر من ذلك.. وعبد اللّه بن عوف كان على مربطه

ص: 28


1- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص106-107.

مائة فرس وعشرة آلاف شاة وألف بعير، وقد بلغ ربع ثُمن ماله بعد وفاته 84 ألفاً!! وعندما قتل عثمان كان له 150 ألف دينار ومليون درهم وقيمة ضياعه: مائة ألف دينار(1)..

وقد أعاد الإمام الأموال التي تجمعت عند هؤلاء وغيرهم من بيت المال.. قال ال.. وقد أعاد الإمام (عليه السلام) الأموال التي تجمعت عند هؤلاء وغيرهم من بيت المال.. قال الإمام (عليه السلام) في هذا المجال: «ألا وإن كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وملّك بن الإماء وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة ومنضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق».

وقد طبق الإمام (عليه السلام) مبدأ العدالة في الحقوق إلى أقصى درجة ممكنة.. فقد أتي الإمام (عليه السلام) بمال من أصفهان فقرر الإمام (عليه السلام) توزيعه بين المسلمين، وكان أهل الكوفة سبعة أقسام فقسّمه سبعة أسباع، وكان بين المال رغيف يابس فقسمه الإمام (عليه السلام) سبعة أقسام ثم جعل على كل جزء من الأموال

ص: 29


1- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية لحسن الأمين: ص32 نقلاً عن المسعودي.

كسرة من الخبز(1)..

ودخل عليه عمرو بن العاص ليلة والإمام (عليه السلام) في بيت المال، فأطفأ الإمام (عليه السلام) السراج وجلس يتحدث مع عمرو تحت ضوء القمر، فسأله عن ذلك، فقال (عليه السلام): إن السراج من بيت مال المسلمين ولا يحق لي استخدامه لأجل شؤوني الخاصة!(2)..

وقد ساومه (عليه السلام) مجموعة من الأشراف على أن يبايعوه بشرط أن يدع أموالهم ويقتل قتلة عثمان، فرفض الإمام (عليه السلام) ذلك.. فقد أرسل إليه أثرياء قريش الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال للإمام (عليه السلام): يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً ونحن أخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان، وأن تقتل قتلتهوإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام، فرفض الإمام (عليه السلام) ذلك بشدة(3)..

ص: 30


1- بحار الأنوار: ج41 ص118.
2- بحار الأنوار: ج41 ص116.
3- شرح نهج البلاغة: ج7 ص37-40، وعلي من المهد إلى اللحد: ص424.

ورغم أن الإمام (عليه السلام) كان يعلم تماماً إن سياسته المبنية على أساس «العدالة والمساواة في العطاء» سوف تثير جميع الطبقات البرجوازية أمثال طلحة والزبير وقريش والولاة السابقين ضده - كما حدث ذلك بالفعل - ورغم الضغوط الشديدة التي وجهها إليه أصحابه والتي كان منها: (أن طائفة من أصحابه مشوا إليه عند تفرق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن يخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية.. فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): «أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور، لا واللّه لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، واللّه ولو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هو أموالهم» (1)الحديث.

ص: 31


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص91 ب35 ح12494.

الفصل الرابع: حروب الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

عاش الإمام علي (عليه السلام) في ظروف حرجة جداً أيام حكمه، إذ كان معاوية يحارب الإمام علي (عليه السلام) من جهة، وكانت عائشة وطلحة والزبير يحاولون إثارة الفتن الداخلية ضد الإمام (عليه السلام) من جهة أخرى.. وقد أعلن الخوارج الحرب على الإمام (عليه السلام) من جهة ثالثة.. أما أشراف قريش فلم يكونوا راضين عن الإمام (عليه السلام) بل كانوا يحاولون تدبير المؤامرات ضده في أية فرصة مناسبة.. والولاة السابقون الذين عزلهم الإمام (عليه السلام) كانوا يكنون للإمام (عليه السلام) حقداً دفيناً.. وهكذا.

وفي مثل هذه الظروف الحرجة عاش الإمام (عليه السلام) واستطاع رغم كل ذلك أن يطبق أهدافه إلى حد كبير.. فقد زال الفقر من البلاد الإسلامية وتحققت العدالة الاجتماعية فيها..

وفي هذا الفصل سنتعرض لذكر الحروب التي وقعت بين الإمام (عليه السلام) وبين مناوئيه وهي: الجمل، وصفين والنهروان.

ص: 32

أولاً: معركة الجمل

بعد أن استلم الإمام علي (عليه السلام) مقاليد الحكم والخلافة بعدة أسابيع فكرت عائشة في إثارة الفتنة ضد الإمام (عليه السلام) والاستيلاء على الحكم.. توجهت عائشة نحو منزلي طلحة والزبير ثم نحو مروان بن الحكم ويعلى بن أمية - والي اليمن سابقاً - والوليد بن عقبة أخ عثمان وعبد اللّه بن عامر - والي البصرة سابقاً - وغيرهم وتحت عنوان (الثأر لدم عثمان) دعتهم للخروج لحرب الإمام(عليه السلام).

ولكن باعتبار أن محيط مكة لم يكن مساعداً للحرب لذلك قرروا السفر نحو البصرة وقيادة الانشقاق من هناك.. توجهت عائشة مع طلحة والزبير مع ألف مسلح إلى البصرة - وقد غطى يعلى بن أمية جزءً من نفقات الحرب، فقد قدم لعائشة ستمائة جمل لأجل الحرب ..

وفي هذه الأثناء كان «عثمان بن حنيف» والياً للإمام (عليه السلام) على البصرة.. فقررت عائشة خداعه، فدخلت هي وجيشها إلى البصرة تحت عنوان (الصلح) وعندما استقروا في البصرة

ص: 33

أخرجوا عثمان بن حنيف منها بعد حرب طاحنة قتل جيش عائشة فيهاسبعين شخصاً من عباد أهل البصرة فقط!!..(1).

وعندما وصل الخبر للإمام (عليه السلام) كان الإمام (عليه السلام) مشغولاً بالإعداد لحرب معاوية إلا أن هذا الحادث الطارئ غيّر خطة الإمام (عليه السلام).. فتوجه (عليه السلام) عند سماعه النبأ إلى البصرة مع ألف فارس.. ثم أرسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الإمام الحسن (عليه السلام) ومالك الأشتر وأشخاصاً آخرين إلى الكوفة لكي يجهزوا جيشاً قوياً من هناك، وقد كان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة ولغبائه وبلاهته كان يحرض الناس على ترك الحرب وعدم قتال عائشة!.. إلا أن مجموعة من أصحاب الإمام (عليه السلام) بقيادة مالك الأشتر ثاروا ضده واحتلوا دار الإمارة وبذلك عزلوا أبا موسى الأشعري عن الولاية.. واستطاع الإمام الحسن (عليه السلام) أن يجهز جيشاً مكوناً من 12 ألف شخص من الكوفة التحق بجيش الإمام علي (عليه السلام) في «ذي قار».. وهناك قرر الإمام (عليه السلام) إرسال وفد إلى البصرة لإطفاء الفتنة بدون حرب.. وذهب الوفد.. ولكن لم تنفع نصائحه لطلحة والزبير في تغيير

ص: 34


1- بحار الأنوار: ج8 ص180 الطبعة القديمة.

رأيهما.. واستطاعت عائشة أن تشكل جيشاً مكوناً من ثلاثين ألف رجل من أهل البصرة لحرب الإمام علي (عليه السلام).

وفي صحراء واسعة قرب بوابة البصرة عسكرجيش عائشة وفي قباله جيش الإمام (عليه السلام) وهناك وقبل بدأ المعركة اتبع الإمام (عليه السلام) خطتين ذكيتين سببتا تحطم معنويات جيش البصرة..

الخطة الأولى:

قبل بدأ المعركة بدقائق تقدم الإمام (عليه السلام) نحو جيش البصرة بدون سلاح.. وتقدم.. حتى وصل إلى مقدمة الجيش.. ونادى: يا أبا عبد اللّه.. يا أبا عبد اللّه.. يا زبير بن العوام.. تقدم زبير وجرت بينهما محادثات طويلة كانت أهم نقطة فيها هي: تذكير الإمام (عليه السلام) له بحادثتين حدثتا في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للزبير: «.. أما انك ستقاتله - أي الإمام علي (عليه السلام) - وأنت له ظالم» وحادثة أخرى مشابهة.. وبذلك استطاع الإمام (عليه السلام) أن يؤثر عليه ويبدل رأيه .. فقرر الزبير الانسحاب من الحرب قبل أن تبدأ.. وبالطبع فإن انسحاب الزبير أثر تأثيراً كبيراً على جيش البصرة وأضعف معنوياته إلى حد كبير.. وبعد قليل بدأ الجيش المناوئ برمي السهام نحو جيش الإمام (عليه السلام) وسقط عدة قتلى من جيشه،

ص: 35

وعند ذلك قرر الإمام (عليه السلام) الرد بالمثل.. وقبل ذلك اتبع الإمام (عليه السلام) خطة أخرى هي الحرب النفسية.

الخطة الثانية: بعد أن رمى الأعداء جيش الإمام (عليه السلام) بالسهام وبعد أن شرعت الرماح للحرب، دعا (عليه السلام) بمصحف.. وقال لجنوده: «من يأخذ هذا المصحف يعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه، فيحييما أحياه ويميت ما أماته» فتقدم مسلم المشاجعي إلى الإمام (عليه السلام) وقال: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، فقال له الإمام(عليه السلام): «إن فعلت ذلك إنك لمقتول!» فقال الشاب: «واللّه يا أمير المؤمنين ما شيء أحب إليّ من أن أرزق الشهادة بين يديك، وأن اُقتل في طاعتك».. أعطاه الإمام (عليه السلام) القرآن.. تقدم مسلم وصرخ في جيش الجمل: «معاشر الناس هذا كتاب اللّه، وإن أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعوكم إلى كتاب اللّه، والحكم بما أنزل اللّه فيه.. فأنيبوا إلى طاعة اللّه والعمل بكتابه»..

وعندما سمع جيش الجمل صراخ الشاب يدوي في الفضاء تقدموا نحوه وقطعوا يده اليمنى وفيها المصحف، فتناول المصحف بيده اليسرى وكرر نداءه.. فقطعوا يده اليسرى أيضاً.. ولكن كانت نداءاته لا تزال ترن في الفضاء ودماؤه تسيل على

ص: 36

الأرض.. هجم جيش الجمل عليه وقطعوه قطعة قطعة(1).

وقد أثرت هذه الحادثة على الكثيرين من جيش الجمل.. فقد ضعضع ذلك إيمانهم بالحرب إذ رأوا أن قادة الجيش قتلوا حامل القرآن ومزقوا القرآن بالرماح مما سلب إيمان الكثيرين بقدسية أو حتى إسلامية الحرب التي يخوضونها ضد الإمام علي (عليه السلام)..واشتعلت الحرب.. حامية.. قاسية.. وانهزم الأعداء أمام جيش الإمام (عليه السلام).. واستمرت الحرب يومين آخرين وانتهت بهزيمة ساحقة للجيش المناوئ وذلك في 20 جمادى الأولى / 36 هجرية.. ثم دخل الإمام (عليه السلام) البصرة فاتحاً، وفي هذه المعركة الطاحنة قتل من جيش الإمام (عليه السلام) 1700 مجاهد(2) بينما قتل من أصحاب الجمل 17 ألف رجل.

ص: 37


1- بحار الأنوار: ج8 ص25-26 المصدر 341 الطبعة القديمة.
2- ويقال: إنه قتل من جيش الإمام خمسة آلاف ومن جيش الجمل تسعة عشر ألفاً.

سياسة اللاعنف

وعندما انتهت المعركة أمر الإمام (عليه السلام) من ينادي في الناس بأن (من ألقى سلاحه فهو آمن) ثم دعا ببغلة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (الشهباء) فركبها وجمع حوله زهاء ستين شيخاً كلهم من همدان مدججين بالسلاح، ثم سار وهم معه إلى أن وصل إلى دار كبيرة فأمر بفتح الباب ففتح له، وفي مساحة الدار الواسعة كانت عشرات النساء قد احتشدن فيها وهن يبكين، وعندما شاهدن الإمام ارتفعت أصواتهن بالبكاء وصرخن: هذا قاتل الأحبة.

والذي يظهر أن هذه المسرحية كانت خطة مدبرة من قبل على يد بعض قادة جيش الجمل الذين لم يقتلوا في المعركة وهربوا وكان اجتماع النساء في هذه الدار وبكائهن خطة للتغطية على القادة الذين اختبئوا في حجرات تلك الدار، وكانوا يتصورون أن الإمام سيخدع بذلك وسيتصور حقاً أن ليس في الدار سوى النساء اللاتي يبكين قتلاهن.

ولكن الإمام (عليه السلام) عرف أن وراء الأكمة ما وراءها وعرف

ص: 38

الخطة المرسومة فصاح (صفية) فأتته على جناح السرعة فقال لها: «ألا تبعدين عنيهؤلاء الكلبات(1) يزعمن إني قاتل الأحبة ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه». وأشار الإمام إلى ثلاث حجر.

فتوجهت صفية إلى النساء اللاتي كن يبكين، وأخبرتهن بما قاله الإمام (عليه السلام) لها: (فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت، ولا قائمة إلا قعدت) أو ليست الخطة قد فشلت وها هو الإمام (عليه السلام) قد عرف الخطة وأدرك أن بكاءهن ما هو إلا مسرحة للتغطية؟!

والآن لننظر إلى داخل الحجرات الثلاث لنرى من كان فيها؟

في الحجرة الأولى نجد: (عائشة) - القائد العام لجيش الجمل - ومعها مجموعة من خاصتها.

وفي الحجرة الثانية نشاهد: مروان بن الحكم - أحد القادة - ومجموعة من شباب قريش.

ص: 39


1- يبدو أنهن كنّ كما قال تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) سورة الأعراف: 176.

وفي الحجرة الثالثة: عبد اللّه بن الزبير مع عائلته(1).

وهكذا وقع أقطاب (البغاة) وقادة حركة المعارضة بيد الإمام (عليه السلام) فماذا صنع الإمام بهم؟ وماذا كان موقف الإمام منهم في الوقت الذي كان أصحابه قدضربوا بأيديهم إلى قوائم سيوفهم وأحدوا أبصارهم واستعدوا لكي يقتلوهم في لحظة واحدة بمجرد صدور أمر الإمام(2).

لقد اتخذ الإمام (عليه السلام) موقفاً حكيماً جداً فقد عفا عن الجميع(3) ذلك إنه كان يدرك أن قتل هؤلاء القادة وقتل أهل البصرة المحاربين(4) سيولد مضاعفات خطيرة في المستقبل وسيؤدي قتلهم إلى رد فعل معاكس في المستقبل، فبدل أن تنطفئ الفتنة، تستمر الاضطرابات طوال حكومة الإمام علي (عليه السلام) بل وبعدها أيضاً، إذ أن لكل مقتول عشيرة وقبيلة أو على الأقل أقرباء وأصدقاء وهل يمكن أن يسكن أولئك إذا ما قتل

ص: 40


1- جواهر الكلام: ج21، كتاب الجهاد، ص331.
2- المصدر.
3- المصدر.
4- كان للإمام (عليه السلام) الحق في قتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم على الخصوص، رغم كونهم بغاة، وقد استفاضت بذلك النصوص. راجع الجواهر: ج21 ص335.

الإمام أبناءهم؟ ولو سكتوا فإنما هو نار تحت الرماد ستتأجج يوماً ما ضد أتباع الإمام علي (عليه السلام).

وهكذا كان عفو الإمام (عليه السلام) عنهم سبباً لكسب أهل البصرة إلى جانبه واطمئنانه من هذه الجهة.. وذلك ما فعله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تماماً عند فتح مكة حيث قال: «اذهبوا فانتم الطلقاء».. «ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمنو..» وبذلك خضعت له قبائل قريش كلها، وأليس هذا هو النصر الحقيقي؟!

وفي هذا المجال يقول الإمام (عليه السلام):

«مننت على أهل البصرة كما من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أهل مكة»(1).

ويشير إلى العلة التي ذكرناها قول الإمام الصادق (عليه السلام): «إن علياً (عليه السلام) إن منّ عليهم (أي أهل البصرة) كما منّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أهل مكة، وإنما ترك علي (عليه السلام) لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم فأراد أن يقتدى به شيعته، وقد رأيتم آثار ذلك هو ذا سائر في الناس سيرة علي (عليه السلام) ولو قتل علي (عليه السلام) أهل البصرة جميعاً واتخذ

ص: 41


1- المصدر ص334.

أموالهم لكان ذلك له حلالاً لكنه منّ عليهم ليمنّ على شيعته بعده»(1).

وفي حديث آخر يقول: «لولا أن علياً (عليه السلام) سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاءً عظيماً»(2).

ومن موقف الإمام أمير المؤمنين هذا ومواقف الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة وغيرها نستكشف أنأية دولة أو حركة تريد الاستقرار والاستمرار فإن عليها أن تتبع سياسة اللاعنف.. ولنتأمل القصة التالية:

فقد جعل الإمام (عليه السلام) رجلاً والياً على عكبرا وعندما أراد الرجل التوجه إلى عكبرا قال له الإمام أمام الناس: لا تدعن لهم درهماً من الخراج، وشدد علية القول (أي أمره أن يأخذ الضريبة منهم دون نقيصة درهم) ثم قال له الإمام (القني عند انتصاف النهار) وعندما جاء الرجل قال له الإمام سراً: (إني كنت قد أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن (أي آمرك بأمر

ص: 42


1- المصدر.
2- المصدر.

جديد) فإن عصيتني نزعتك (أي عزلتك) لا تبعن لهم في خراجهم حماراً ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف، أرفق بهم)(1).

مناقبيات الجيش الفاتح:

ولنتأمل معاً القصة التالية لنرى كيف ربى الإمام (عليه السلام) جنوده على المناقبيات الرفيعة، وكيف دربهم على الأخلاقيات الإسلامية: فبعد أن وضعت حرب الجمل أوزارها نادى الإمام علي (عليه السلام): «من وجد ماله فليأخذه» رغم أن أموال البغاة (أي الخارجين على الإمام) يملكها المجاهدون..

وفي هذه الأثناء مر رجل من أهل البصرة على مجموعة من المجاهدين كانوا يطبخون طعاماً في قدر له، فطلب الرجل القدر منهم، فقالوا له أن لو انتظر حتى ينضج الطعام ثم يعطونه القدر، ولكن الرجل ضرب القدر برجله ثم أخذه وذهب ولم يتفوه أحد من هؤلاء المجاهدين - وهم الجيش الفاتح - بكلمة

ص: 43


1- المصدر ص240.

اعتراض تجاه هذا التصرف الوقح الذي يصدر من أحد أفراد الجيش المنهزم(1).

ثانياً: معركة صفين

بعد حوالي شهرين من انتهاء معركة (الجمل) بدأ الإمام علي (عليه السلام) بالإعداد لحرب معاوية.. ففي أول رجب سنة 36 ه- بدأ الإمام (عليه السلام) بتهيئة المقدمات وبالتعبئة العامة.. وفي اليوم الخامس من شعبان توجه جيش الإمام (عليه السلام) من النخيلة نحو الشام ووصل جيشه (عليه السلام) إلى صفين في أواخر ذي الحجة(2)، وعندما سمع معاوية النبأ صعد على المنبر وتكلم بكلام طويل تناول فيه قصة مقتل عثمان وأن علياً هو قاتله وأنه - أي معاوية - هو وارث دم عثمان.. الخ، ثم وفي آخرخطاب ألقاه أمر بالمجيء بثوب ملطخ بالدماء ادعى أنه الثوب الذي قتل فيه عثمان.. وبذلك أثار معاوية حماسة أهل الشام.. وبدأ معاوية

ص: 44


1- بحار الأنوار: ج8 ص341 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص475 الطبعة القديمة.

بتهيئة الجيش.. وتحرك بجيشه نحو صفين وفي أوائل محرم وصل معاوية إلى صفين(1) وعسكر هناك مقابل جيش الإمام.. وابتدأت الحرب خفيفة باردة.. واستمرت الحرب الباردة بين الطرفين من شهر رجب عام 36 إلى شهر صفر عام 37 ه.. وخلال هذه الأشهر السبعة كانت تحدث مناوشات صغيرة بين الجيشين.. إلا إنها لم تكن تسحق اسم (الحرب) والسبب في ذلك هو:

أولاً: محاولات كثيرة جرب من جانب الإمام علي (عليه السلام) لكي يرد معاوية عن عزمه ولكي يرجع معاوية عن غيه وغصبه للسلطة ويسلم الحكم للإمام (عليه السلام) ودامت هذه المحاولات أكثر من ثلاثة أشهر(2).

ثانياً: حيلولة الأشهر الحرم الثلاثة وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم.. دون الابتداء بالحرب.. وهكذا بعد محرم في أول يوم من شهر صفر ابتدأت المعركة بين الجيشين.. بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وعدده خمسون ألف مقاتل وبين جيش

ص: 45


1- بحار الأنوار: ج8 ص474 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص449 الطبعة القديمة.

معاوية الذييربو على المائة والعشرين ألف (000/120) بين فارس وراجل(1). وهو يربو على ضعف عدد جيش الإمام (عليه السلام)(2).. ولكن الفرق هو أن جيش الإمام (عليه السلام) كان يحارب مدافعاً عن الحق وكله شوق إلى الشهادة، بينما جيش معاوية كان يحارب رغبة في الحياة، واشتدت المعركة.. وتساقط القتلى من الجانبين.. ومضت عدة أشهر والحرب لا تزال مستمرة.. وانتهت سنة 36 ه- والحرب لا تزال مستمرة.. وحتى شهر صفر من عام 37ه- لم تكن الحرب قد انتهت بعد..

عمليات تضحوية

وقد أبدى أصحاب الإمام (عليه السلام) وجنوده تضحية كبيرة، وقام الكثير منهم في حرب صفين بعمليات تضحوية كادت تقضي على معاوية:

1: في السابع من صفر 36 ه- صمم مالك بن جرير (وكان من أصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)) مع مجموعة من فدائيي قبيلة «بني

ص: 46


1- بحار الأنوار: ج8 ص474 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص452 الطبعة القديمة.

تميم» صمموا على اختراق جيش الشام والوصول إلى مقر معاوية رغم كل المصاعب الناتئة في الطريق.. واخترق مالكصفوف جيش الشام.. وتقدم.. ولكن قبل أن يكمل مهمته الرسالية كان قد وقع على الأرض، والدماء تنزف من جسمه، واستشهد هناك.. في ساحة المعركة.

2: وفي اليوم السابع أيضاً قال الإمام (عليه السلام) لعبد اللّه بن بديل: «احمل عليهم الآن» ونفذ ابن بديل الأمر فوراً.. توجه نحو معاوية مع ميمنة الجيش، وأخذ بيديه سيفين وحمل درعين!.. وتقدم ابن بديل وتقدم ، ووصل إلى مركز معاوية، وبلغت المعركة أقصى درجات العنف والشدة، وبدأ أصحاب معاوية يتساقطون واحداً بعد الآخر.. كان موقف معاوية حرجاً جداً.. أرسل إلى حبيب ابن مسلمة الفهري.. أمير الميسرة - يستنجد به ويأمره بالدفاع.. وألقى ابن مسلمة الفهري بكل ثقله في الميدان ولكن.. استطاع ابن بديل اختراق صفوفهم، وتقدم نحو معاوية.. وتراجع معاوية إلى الخلف وتراجع.

طلب معاوية من ابن مسلمة الفهري تجميع قواه والقيام بهجوم كاسح على ابن بديل وعلى ميمنة أهل العراق..

ص: 47

استجمع ابن مسلمة قواه ولملم فلول جيشه، ودارت معركة طاحنة.. قتل من جيش ابن بديل الكثير ولم يبق معه سوى مائة شخص!!

صمم ابن بديل على التقدم وقتل معاوية - رأس الأفعى - رغم كل شيء.. وبعزيمة المؤمن وإيمانالمحارب بدأ ابن بديل يقاتل مع جماعته، ووصل قرب معاوية، من جديد صاح معاوية: «ويلكم! الصخرة والحجارة، إذا عجزتم عن السلاح».. كان الإنهاك قد بلغ بأصحاب معاوية كل مبلغ.. لم يعودوا يستطيعون حمل السلاح، والحرب.. رضخوه بالحجارة.. تساقطت الأحجار عليه كالمطر، وسقط عن فرسه ودمائه الحمراء الفانية تسيل من جسده.. تقدموا نحوه.. وتناوشته سيوفهم وبعد دقائق كان عبد اللّه بن بديل قد أصبح في عداد الشهداء(1).

3: قررت قبيلة «ربيعة» القضاء على رأس الفساد «معاوية».. اجتمع منهم سبعة آلاف محارب وتبايعوا على أن لا يرجعوا حتى يردوا سرداق (خيمة) معاوية.. قاتلوا قتالاً

ص: 48


1- بحار الأنوار: ج8 ص453 الطبعة القديمة.

شديداً، وبدأت جيوش معاوية تتراجع إلى الخلف، وتقدمت ربيعة. ومن مقره في وسط الجيش رأى معاوية «ربيعة»!.. اتخذ معاوية قراراً جريئاً!!.. كان قراره هو الهرب!!.. فر معاوية من سرداقه في وسط الجيش حتى وصل إلى آخر الجيش.

وصلت ربيعة إلى سرداق معاوية ومقر قيادة القوات المعادية واحتلت المقر ولكن.. كان الفأر قدهرب من صياده!(1).. وبين ربيعة ومعاوية عشرات الألوف من الجيوش.. ورجعت ربيعة إلى مقرها مسجلة انتصاراً معنوياً ساحقاً على معاوية، بعد أن ألصقت في جيشه بصمة العار إلى الأبد.

4: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص كان يشن حملات فدائية رائعة على جيش الشام(2).. وفي كل مرة كان هدفه: الوصول إلى مركز معاوية والقضاء عليه، إلا أنه لم يستطع ذلك.. وفي كل مرة يهاجم فيها هاشم بن عتبة جيش الشام كان معاوية يرتعد من الخوف ويصيح في جنوده منبهاً لهم بمجيئه قائلاً «أعور بني زهرة، قاتله اللّه».. وأخيراً اتخذ هاشم في الحملة

ص: 49


1- انظر بحار الأنوار: ج8 ص456 الطبعة القديمة.
2- بعض هذه الحملات مذكورة في بحار الأنوار: ج8 ص451 الطبعة القديمة.

الأخيرة قراراً خطيراً: إما الاستشهاد، وإما القضاء على معاوية!.. وشقّ هاشم جيش الشام مع ألف فارس.. وتقدم واستمر في تقدمه.. واشتعلت نار الحرب حامية دامية بينه وبين أصحابه من جهة وبين الألوف من جيش معاوية من جهة أخرى.. ولكن: كان هاشم قد اتخذ قراره: إما القتل وإما الشهادة..

فلم تعد تخيفه الدماء الحمراء التي كانت تطوقه من كل جانب ولم يعد يخيفه شبح الموت الذي يرفرفعليه.. وتقدم هاشم.. وتقدم ووصل إلى مقر معاوية.. واحتل الأطراف المحيطة به.. واقتربت ساعة الصفر!! ولكن.. في اللحظات الأخيرة أصابته حربة غادرة.. سقط على الأرض، ومعه أصحابه.. واستشهد هناك.

5: أقسم باللّه.. قائلاً «واللّه لأحملن على معاوية حتى أقتله».. أخذ الرجل - وهو من أصحاب الإمام (عليه السلام) - فرساً وألقى بنفسه بين صفوف الأعداء، واستطاع رغم الجموع الهائلة من جيوش الشام إيصال نفسه إلى مقر معاوية.. رآه معاوية.. ارتعد من الخوف.. ذهب واختبأ في مكان.. ونزل

ص: 50

الرجل عن فرسه لكي يقتل معاوية في مخبأه.. خرج معاوية من المخبأ - عندما رأى الرجل يتقدم نحوه -.. وهرب!! تبعه الرجل.. أحاط الناس بمعاوية.. صرخ فيهم معاوية «ويحكم! إن السيوف لم يؤذن لها في هذا ولولا ذلك لم يصل إليكم، عليكم بالحجارة»!! واستعمل أهل الشام السلاح.. سلاح الجبناء.. رضخوه بالحجارة من بعيد حتى قتل الرجل.. ثم عاد معاوية إلى مجلسه بكل شجاعة!!(1).

هؤلاء دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه

في هذه المعركة الرهيبة.. استشهد مجموعة من خيرة أصحاب الإمام علي (عليه السلام).. ومن طليعة المجاهدين في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي عهد الإمام (عليه السلام).. كان من بين هؤلاء الشهداء:

1: عمار بن ياسر - الذي قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه «الحق مع عمار يدور معه حيثما دار»(2) - كان أبان الحرب يبلغ التسعين

ص: 51


1- بحار الأنوار: ج8 ص454 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج30 ص372.

من العمر.. كان ظهره منحنياً، وكان يلف حزاماً على ظهره، ومع ذلك يحارب كالأسود الضارية، يقول عبد الرحمن السلمي: (شهدت صفين مع علي (عليه السلام) فنظرت إلى عمار بن ياسر وقد حمل فأبلي وانصرف وقد انثنى سيفه من الضرب)!(1) وطوال عدة أشهر من الحرب لم يصل عمار إلى هدفه، إلى ما يعشقه.. إلى الشهادة..

وفي سنة 37 ه.. قرر عمار الشهادة وخرج نحو المعركة بكامل أسلحته. واشتدت المعركة واشتدت، وبلغت الذروة.. وعمار مستمر في الحرب واستطاع عمار قتل ثمانية عشر شخصاً في سويعات قليلة(2). وفجأة هجم عليه (أبو العادية الفزاري) وضربه بالرمح على جنبه وسقط عمار على الأرض ليدخلالتاريخ من أوسع أبوابه - باب الشهادة -.

2: أويس القرني.. كان يقضي أيامه في الصحراء موزعاً أوقاته بين الرعي والعبادة، لذلك لم يكن قد رآه أحد إلاّ القليل جداً.. وفجأة ظهر في تلك الليلة.. تلك الليلة التي طلب الإمام

ص: 52


1- دعائم الإسلام: ج1 ص392. جواهر الكلام: ج21 ص327.
2- بحار الأنوار: ج8 ص487 الطبعة القديمة.

علي (عليه السلام) فيها مائة شخص من جنوده يبايعونه على الموت.. تقدم الجنود واحداً بعد آخر ووصل العدد إلى تسعة وتسعين شخصاً كلهم بايعوه على الموت، وفجأة ظهر أويس وبايع الإمام (عليه السلام).. وقامت المجموعة بحملة قاسية على جيش معاوية، كان أويس خلالها يشوق المجموعة على الجهاد والتقدم وهو يحمل سيفين!!(1) وبعد ساعة كان يقع على الأرض شهيداً وقد اخترق أحد السهام قلبه!.

وكذلك استشهد مالك بن تيهان الأنصاري وعمرو بن محصن الأنصاري ومجموعة أخرى من خيرة أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من جملتهم «بكر بن هوذة النخعي» وابنه «حيان» و«أبان بن قيس» و«عمير بن عبيد المحاربي»(2) وغيرهم.

ص: 53


1- بحار الأنوار: ج8 ص476 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص476 الطبعة القديمة.

الخطة الفاشلة

بعد الهزائم المتكررة التي أصابت جيش الشام.. عقد معاوية اجتماعاً خطيراً (اجتماع القمة المشؤوم) دعا إليه أربعة من قادة جيشه ورؤسائه وهم: عمرو بن العاص، بسر بن أرطاة، عبيد اللّه بن عمر، وعبد الرحمن بن خالد..

وأدلى معاوية في هذا الاجتماع بتصريح خطير.. قال: لقد غمني رجال من أصحاب علي (عليه السلام) منهم: سعيد بن قيس في قبيلة همدان، ومالك الأشتر في قومه، والمرقال، وعدي بن حاتم، وقيس بن سعد في الأنصار، ثم قال لهم معاوية: إن القضاء على هؤلاء الخمسة يعني الانتصار. وبدأ معاوية بشرح الخطة.. خطة القضاء على هؤلاء الخمسة.. وقسم عملية التنفيذ على خمسة أقسام في خمسة أيام.. وشرح معاوية لهم الخطة.. وانتهى الاجتماع!..

في اليوم التالي حشد معاوية كل قواه، وجمع كل فارس وبطل في جيشه.. ثم هجم على جيش العراق وركز هجومه على قبيلة همدان وعلى سعيد بن قيس ودارت المعركة شديدة حاسمة بين الفريقين.. بين قبيلة همدان وحدها وبين خلاصة

ص: 54

جيش معاوية ولكن.. انتصف الليل ولم يستطع معاوية تنفيذ البند الأول من الخطة إذ لم يستطع قتل سعيد..

وفي اليوم الثاني: جمع عمرو العاص قوىالجيش.. وركز هجومه على (المرقال) ولكن لم يستطع عمرو أيضاً أداء دوره بنجاح ولم يستطع قتل المرقال.

وفي اليوم الثالث: توجه بسر ومعه جميع أبطال الجيش نحو (قيس بن سعد) واشتد القتال ولكن.. فشل بسر بدوره في قتل قيس.

وفي اليوم الرابع: سار عبيد اللّه بن عمرو في عدد ضخم هائل من جيش الشام وقصد قتل مالك الأشتر.. وجاء الليل، وانتهت المعركة.. ولم يصل عبيد اللّه إلى هدفه.

وفي اليوم الخامس: حمل عبد الرحمن بن خالد على عدي بن حاتم وهو - أي عبد الرحمن - في حشد هائل من السلاح والجنود.. ودارت المعركة طاحنة شديدة.. وانتهت، وعدي لا يزال حياً.. وهكذا باءت خطة معاوية الخماسية بفشل ذريع(1).

ص: 55


1- بحار الأنوار: ج8 ص462 الطبعة القديمة.

اقترب النصر ولكن..؟

مضت أربعة عشر شهراً على بدء الحرب.. والمعركة لا تزال مستمرة.. بدأ الملل يسري قليلاً قليلاً إلى جيش الإمام (عليه السلام).. وبدأ الحنين إلى الوطن، والراحة، والسكون يعاود الجنود.. اجتمع أمراءالجيش بالإمام (عليه السلام) وبعد اجتماع خطير هام قرروا إنهاء المعركة والقضاء على معاوية وجيشه في معركة واحدة نهائية.. التحم الجيشان في معركة حامية.. واستمرت المعركة حتى الليل.. لم تتوقف الحرب.. لقد صمم الإمام (عليه السلام) وجنوده على الحرب حتى القضاء على معاوية.. واقترب أذان الفجر ولا تزال الحرب مستمرة.. كانت تلك الليلة هي ليلة الحادي عشر من صفر.. ومع تباشير الصباح كان جيش معاوية يتراجع إلى الخلف.. ومالك الأشتر - قائد قوات الإمام (عليه السلام) - كان يقوم بحملات شديدة مركزة على جيش الشام.. ويهاجم كالصاروخ جيوش معاوية المتراجعة.. وتلك كانت (ليلة الهرير) وقد قتل الإمام (عليه السلام) في هذه الليلة 523 شخصاً بنفسه(1) وبلغ

ص: 56


1- بحار الأنوار: ج8 ص480 الطبعة القديمة.

مجموع القتلى من الجانبين - في تلك الليلة - سبعين ألف قتيل(1).

ساعات قليلة كان يفتقدها مالك الأشتر.. ساعات قليلة أخرى من الحرب كانت تعني الهزيمة الساحقة لجيوش معاوية والنصر التام لجيوش الإمام (عليه السلام).. فكر معاوية في (الخدعة).. أرسل خمسمائة فارس غير مسلح وبأيديهم رماح طويلة، على كل رمحنسخة من القرآن الكريم.. وتقدم فرسان جيش الشام ووقفوا بين الجيشين وهم يصرخون (... اللّه اللّه في دينكم، هذا كتاب اللّه بينا وبينكم) - أي أوقفوا الحرب واجعلوا القرآن حكماً - ولكن صاح مالك الأشتر في جيش الإمام: لا تنخدعوا فالقرآن الناطق هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يأمركم بالحرب.. وبعد ذلك هاجم الأشتر جيش الشام..

ولكن ارتفع صوت المعارضة من الأشعث بن قيس.. أغمد سيفه وصاح في الجيش:

اتركوا الحرب، كتاب اللّه بيننا وبينهم..

وتبعه مجموعة من الأشخاص الذين أتعبتهم الحرب إلا أنهم لم يكونوا كثرة تؤثر في الجيش.. رأى الأشعث فشله في

ص: 57


1- المصدر: ص465.

التخريب فقام وألقى خطابة بليغة حول الوحدة والتحاكم للقرآن.. الخ..

أثرت خطابته في الجيش.. فالإنهاك من جهة، والتقدس الزائف من جهة أخرى، وتحريكات الأشعث وجماعته من جهة ثالثة أثرت في قسم كبير من الجيش..

وفجأة.. رأى الإمام (عليه السلام) قسماً كبيراً من جيشه ينسحب من المعركة.. عشرين ألف شخص مقنعين بالحديد وبأيديهم السيوف، وقد اسودت جباههم منكثرة السجود.. عشرين ألف انسحبوا من المعركة(1) وجاءوا للإمام قائلين: (يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فواللّه لنفعلنها إن لم تجبهم).

فأجابهم الإمام (عليه السلام) «ويحكم.. أنا أول من دعا إلى كتاب اللّه، وأول من أجاب.. ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون»(2).

ولم ينفعهم كلام الإمام.. أجبروه (عليه السلام) على أمر مالك

ص: 58


1- علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد: ص483، وبحار الأنوار: ج8 ص466 ط القديمة.
2- علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد: ص483، وبحار الأنوار: ج8 ص466 ط القديمة.

الأشتر - الذي كان على شرف النصر -(1) بالانسحاب..

وانسحب مالك الأشتر، وتوقفت الحرب، وتقرر انتخاب حكمين، انتخب معاوية : عمرو بن العاص، وانتخب الإمام علي (عليه السلام) عبد اللّه بن عباس.. رفض الأشعث وجماعته ذلك وأصروا على انتخاب أبو موسى الأشعري وقالوا.. إنا لانرضى إلا به فإنه قد كان حذرنا مما وقعنا فيه..

فقال الإمام (عليه السلام): «فإنه ليس لي برضا، وقد فارقني وخذل الناس عني، وهرب مني حتى أمنته قبل أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك».

ولكن رفض ابن الأشعث وجماعته ذلك وأصروا على رأيهم.. وتحت الضغط اضطر الإمام (عليه السلام) إلى القبول(2) إذ أن أكثر الجيش كان مؤيداً للأشعث(3).

ص: 59


1- علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد: ص483، وبحار الأنوار: ج8 ص466 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص267 الطبعة القديمة.
3- سيأتي ذلك بالتفصيل في الفصل الأخير.

الخدعة الماكرة

توجه أبو موسى نحو (دومة الجندل) مع أربعمائة فارس ليتحاكم هناك مع عمرو بن العاص ولكي يحكما بين الفريقين بآيات القرآن..

عندما وصل أبو موسى الأشعري كان عمرو بن العاص قد سبقه إلى (دومة الجندل) بأسبوع.. استقبل عمرو العاص أبا موسى من مسافة ستة كيلومترات وعانقه وقبّله.. وطوال الأيام التالية استعمل معه سياسة الاحترام الفائق في جميع المجالات، وبذلك كسب ود أبا موسى الأشعري وثقته.. حذر ابن عباس - المستشار الخاص لأبي موسى - أبا موسى عدة مرات من انخداعه بما يبديه عمرو من حب واحترام.. لكن لم ينفع ذلك.. وابتدأت المناقشات والمشاورات بين الطرفين، وانفرد عمرو بن العاص بأبي موسى واقترح عليه اقتراحاً ماكراً، قال له: يا أبا موسى، يا أشرف أصحاب الرسول!! لي اقتراح.. هو أن أخلع أنا معاوية وتخلع أنت علياً ثم ننصب عبد اللّه بن عمر خليفة، أو ندع الأمر شورى بين المسلمين؟!..

ص: 60

وقبل أبو موسى الاقتراح، واجتمع الجيشان وتكلم أبو موسى قائلاً: بعد مقدمة طويلة حول حقن الدماء: (... وقد خلعت علياً كما خلعت عمامتي هذه) وانتهىكلام أبي موسى بين فرح أهل الشام، واعتراض أهل العراق... وجاء الدور إلى عمرو بن العاص وتكلم عمرو وبدل أن يخلع هو بدوره أيضاً معاوية حسب الاتفاق.. قال: (أيها الناس إن أبا موسى عبد اللّه بن قيس قد خلع علياً، وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به.. ألا وإني خلعت علياً وأثبت معاوية علي وعليكم).. حدث ذلك بين صرخات الاستنكار التي صدرت من أهل العراق.. قرر العراقيون قتل الاثنين - عمرو بن العاص وأبا موسى -.. ولكن هرب أبو موسى إلى مكة، وعاد عمرو بن العاص إلى دمشق تحت حماية جيش الشام.. وعاد أمراء جيش الإمام إلى الكوفة(1) وأخبروه بالقصة وأقسموا على الحرب مع معاوية من جديد.. وبدأ الإمام (عليه السلام) بتهيئة النفوس للحرب عبر الخطب المتوالية.. وبعد مدة استعد الناس للحرب.. ولكن..

ص: 61


1- لأن الإمام (عليه السلام) غادر صفين بعد التحكيم إلى الكوفة.

ثالثاً: معركة النهروان

في بداية سنة 38 للهجرة توجه الإمام (عليه السلام) نحو (النخيلة) وقد عسكر فيها عشرون ألف مجاهد وخلف الإمام (هاني النخعي) على الكوفة وأمر عبد اللّه بنعباس - واليه على البصرة - بتجهيز جيش من البصرة للتحرك نحو الشام.. وفجأة وصلت إلى الإمام (عليه السلام) أخبار تنبؤه بحدوث اضطرابات في الكوفة، فقد اجتمع أربعة آلاف من "الخوارج" وقرروا محاربة الإمام تحت شعار: «لا حكم إلا لله» وانضم إليهم ثمانية آلاف آخرين من الكوفة والبصرة وغيرها..

أرسل الإمام (عليه السلام) رسالة إلى عبد اللّه بن وهب الراسبي - قائد الخوارج - يدعوه إلى الالتحاق به لحرب معاوية بدل إثارة الفتنة، وأرسل الإمام (عليه السلام) مندوبين من قبله من جملتهم عبد اللّه بن عباس وصعصعة بن صوحان إلى الخوارج لكي يعودوا، ولكن لم ينفع ذلك كله.

وأخيراً.. تحرك الخوارج نحو (النهروان) وتمركزوا هناك.. واضطر الإمام (عليه السلام) للتوجه نحو النهروان بدل التوجه نحو

ص: 62

الشام.. واصطف الجيشان وأرسل الإمام (عليه السلام) عبد اللّه بن عباس ليتكلم معهم.. وبعد حوار قصير طلب عبد اللّه بن وهب الإمام نفسه لكي يتكلم معه.. تقدم الإمام (عليه السلام) وطرح ابن وهب الراسبي عدة اشكالات على الإمام (عليه السلام) من جملتها: لماذا قبلت التحكيم؟.. وأجاب الإمام (عليه السلام) على أسئلتهم بإجابات مقنعة وحلل ما جرى في قصة التحكيم.. وعند ذلك ارتفعت من معسكر الخوارج أصوات تنادي: «التوبة.. التوبة يا أمير المؤمنين» أي انهم طلبوا من الإمام أن يصفح عنهم ويتوب عليهم..والتحق بجيش الإمام ثمانية آلاف من الخوارج!!(1) ولم يبق منهم سوى أربعة آلاف..

وفي هذه المعركة أيضاً اتبع الإمام (عليه السلام) نفس الخطة التي اتبعها في «الجمل» و«صفين» فقد دعا الإمام شخصاً لكي يأخذ المصحف ويدعو القوم إليه، فقام شاب حديث السن.. وقبل المهمة وذهب ودعاهم إلى القرآن.. ولكن رجع بعد قليل ووجهه كالقنفذ من كثرة السهام التي رماها عليه الخوارج.. واستشهد بعد قليل.. وقد ساعدت هذه الخطة كثيراً في إزالة

ص: 63


1- بحار الأنوار: ج8 ص563 الطبعة القديمة.

الشك في مشروعية قتال الخوارج.. هذا الشك الذي تولد عند بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) عندما رأوا إن الخوارج يقرؤون القرآن ووجوههم مسودة من كثرة السجود(1) واستعرت المعركة حامية.. كان الخوارج فيها قد يئسوا من الحياة، فهم يحاربون حرب من يريد التخلص من الدنيا.. فقد ضعفت معنوياتهم إلى درجة كبيرة بالتحاق ثلثيهم بجيش الإمام (عليه السلام)..

وخلال ساعة قتل 3991 من جيش الخوارج ولم يبق منهم سوى تسعة أنفار هربوا إلى أماكن متفرقة..

بينما لم يقتل من جيش الإمام سوى تسعةأنفار(2)..

وانتهت المعركة..

ولكن معاوية لا يزال بعيث في البلاد الفساد...

ص: 64


1- بحار الأنوار: ج8 ص562 الطبعة القديمة.
2- المصدر: ص563.

الفصل الخامس: معاوية في حياته السياسية

اشارة

أصبح معاوية والياً على الشام عام 18 ه- من قبل عمر بن الخطاب وذلك على أثر اتفاق كتبي عقده (أبو سفيان) مع أبي بكر عام 10 ه- وينص الاتفاق على أن يعطي أبو بكر ولاية الشام لواحد من أقرباء أبي سفيان في أسرع وقت ممكن وذلك في قبال سكوت أبي سفيان عن حكومة أبي بكر وعدم إثارته الفتن ضدها..

وتحقق ما أراده أبو سفيان عام 18 ه.. أصبح معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام.. وبدأ ببناء قصر كبير فخم له - لأول مرة في تاريخ الإسلام -.. وفي زمن عثمان أيضاً كان معاوية والياً على الشام.. وحتى سنة أربعين كان معاوية والياً على الشام رغم أن الإمام علي (عليه السلام) عزله عن الولاية عام 35 ه... ومن سنة أربعين إلى سنة ستين للهجرة أصبح معاوية الحاكم المطلق على البلاد الإسلامية.. وخلال هذه ال- 42 سنة

ص: 65

كان معاوية يحاول تثبيت أقدامه في الشام والبلاد الإسلامية.. فقد جهز أبان حكومة الإمام علي (عليه السلام) جيشاً قوياً وضعه على حدود الشام وذلك لحفظهمن أي هجوم أو خطر يتوجه إليه..

معاوية والثّالوث الرهيب

كما أن معاوية اتبع سياسةً ثلاثيةً تهدف تثبيت حكمه، والقضاء على أي صوت معارض ينطلق من حناجر الشعب.. وخططه السياسية الثلاث هي:

أولاً: الخداع وتزوير الحقائق.. فقد حرك معاوية أهل الشام لمحاربة الإمام علي (عليه السلام) تحت شعار (الثأر لدم عثمان) وإن علياً قتله.. وأنه هو (أي معاوية) وارث دمه!.. وفي الأيام الأخيرة من ذهابه إلى حرب الإمام (عليه السلام) صعد على المنبر وألقى خطابة حماسية.. تكلم خلالها عن عثمان.. خليفة المسلمين! الذي قتل مظلوماً، وقاتله علي بن أبي طالب (عليه السلام)!.. ثم رفع ثوباً ملطخاً بالدماء ادّعى أنه ثوب عثمان.. وبهذه الخطوات الماكرة الخادعة استطاع معاوية أن يجهز جيشاً قوياً مؤلفاً من 000/120 رجل لقتال الإمام علي (عليه السلام).

ص: 66

وقصة "المصاحف" هي نموذج آخر على خداع معاوية ومكره الجهنمي..

وفي حرب صفين اتبع معاوية بعض الخطط لخداع جيش الإمام (عليه السلام) إلا أن خدعه لم تكن لتنطلي على الإمام علي (عليه السلام).. فعند ما احتل جيش الإمام (عليه السلام) ضفة النهر وعسكر هناك قرر معاوية استردادذلك الموقع الاستراتيجي المشرف على الماء ولكن لم يكن يستطيع ذلك بالحرب.. فكر قليلاً ثم كتب رسالة قال فيها: «من عبد من عبيد اللّه إلى جيش علي.. اعلموا إن معاوية قد أرسل عدداً كبيراً من جيشه لكي يخربوا السد عليكم وبذلك تغرقكم المياه المتجمعة وراء السد.. فارحلوا من الضفة».. ووضع معاوية الرسالة في سهم ورماها إلى معسكر الإمام.. وعثر البعض على الرسالة.. وتناقلتها الأيدي وأثار ذلك اضطراباً في جيش الإمام (عليه السلام) ووصلت الرسالة إلى يد الإمام (عليه السلام).. قرأها وقال: إن هذا الخط هو خط معاوية أراد خداعكم، ولن تستطيع جماعته هدم السد لقوته ومتانته وضخامته(1).. وبالفعل فشلت خطة معاوية، ولم يستطع

ص: 67


1- بحار الأنوار: ج8 الطبعة القديمة.

جماعته هدم السد، وانتهت الأزمة..

ثانياً: شراء الضمائر بالمال.. فقد كان معاوية يعطي الأموال الضخمة لكل شخصية بارزة تلحق به، كما كان يمنّي كل شخص ذي أهمية بالمال ويجعله والياً على إحدى المناطق.. وبهذه الخطة استطاع جذب عبيد اللّه بن عباس - وهو أحد قادة جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وكان تحت قيادته اثني عشر ألف رجل - إلى صفوفه.. وبالخطة نفسها استطاع معاوية أنيسحب قائداً آخر من قادة جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وهو: حكم الكندي.. واتبع معاوية خطة شراء الضمائر بالمال مع بقية أمراء وقادة جيش الإمام واستطاع سحب الكثير منهم إلى صفوفه.. كما اتبع معاوية هذه الخطة نفسها مع (عمرو بن العاص) عام 36 ه- فأرسل له رسالة يدعوه إلى المجيء للشام لمحاربة الإمام علي (عليه السلام)(1)، ولكن عمراً رفض ذلك قائلاً: «وكتابك يا معاوية... ليس مما يخدع به من له عقل ودين والسلام»..

وفي هذه المرة أرسل معاوية رسالة أخرى إلى عمرو وعده فيها بأن يعطيه ملك مصر ويجعله الحاكم المطلق عليها فيما لو

ص: 68


1- كان عمرو بن العاص آنذاك يعيش في فلسطين.

اشترك في حربه ضد الإمام علي (عليه السلام).. وهنا استجاب عمرو وتحرك من فلسطين نحو الشام وكان في طليعة الذين قاتلوا الإمام علي (عليه السلام) في حرب صفين بل كان يعد اليد اليمنى لمعاوية في هذه الحرب الدامية..

ثالثاً: العنف والإرهاب.. فعندما كان معاوية يرى عدم جداوئية الطريقتين الأوليتين كان يصفّي المعارضة بهدوء، فقد كان يقتل الكثير من معارضيه بالسم الموضوع في العسل أو الحليب.. وكان يقول: «إن لله جنوداً من عسل»!!.. وبهذه الطريقة قتلالإمام الحسن (عليه السلام) كما قتل مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم.. وقد قتل معاوية الألوف من معارضيه ومخالفيه.. فإنه قتل أربعين ألفاً من المهاجرين والأنصار مدة حكمه!!(1).

كما قام معاوية بسلسلة من العمليات التخريبية ضد الإمام علي (عليه السلام) هدفها إشاعة الرعب في نفوس أنصار الإمام، وتضعيف حكومته (عليه السلام).. وفيما يلي نذكر بعض هذه العمليات:

ص: 69


1- بحار الأنوار: ج8 ص522 الطبعة القديمة.

عمليات تخريبية

العملية الأولى:

أرسل معاوية الضحاك بن قيس الفهري مع أربعة آلاف فارس إلى العراق وأوصاه بالقيام بحروب خاطفة، بالهجوم على القرى والمناطق الآمنة وقتل الجميع: الصغير، والكبير، والمرأة، والرجل، وكل أحد.. كما أوصاه بعدم البقاء في مكان واحد يوماً كاملاً، إذ قد يلاحقه جيش من الكوفة آنذاك.. وتوجه الضحاك نحو العراق.. وطبق تعاليم معاوية بحذافيرها.. ووصلت الأخبار للإمام علي (عليه السلام).. أرسل الإمام حجر بن عدي مع 4000 فارس.. ولاحق حجر الضحاك.. ودارت معركة.. وانهزمالضحاك هارباً نحو الشام بعد أن أفسد كثيراً..

العملية الثانية:

حدثت اضطرابات في اليمن حيث ثار بعض العثمانيين على عبيد اللّه بن عباس - والي الإمام - وجهزوا جيشاً لمحاربة عبيد اللّه.. وكتبوا رسالة إلى معاوية يخبرونه بالثورة.. عند سماعه النبأ أمر معاوية بسر بن أرطاة بالسير نحو اليمن من طريق الحجاز ومكة والمدينة وأمره بأخذ البيعة من جميع الناس

ص: 70

على طول الطريق، ومن أبى فجزاؤه القتل. توجه بسر للحجاز مع ثلاثة آلاف فارس.. وطوال مسيره كان يقتل كل من تقع يده عليه من شيعة الإمام علي (عليه السلام) ووصل إلى المدينة واستطاع دخول المدينة بسهولة لضعف تحصيناتها ولهروب الوالي.. وهدد بسر أهل المدينة تهديداً مرعباً ثم طلب البيعة.. وبايعه الكثير.. ومن رفض ذلك قتله، وأحرق دوراً كثيرةً.. ثم توجه نحو مكة، وصنعاء و.. و.. حتى وصل إلى اليمن.. وقد قتل بسر في هذه العملية الإجرامية ثلاثين ألفاً! عدى الذين أحرقهم بالنار!! وعدى الدور التي أحرقها وهدمها..!!

العملية الثالثة:

بأمر من معاوية توجه النعمان بن بشير الأنصاري مع ألفي فارس لأجل القيام بأعمال قتل وسلب ونهب في الحجاز واليمن.. وتوجه النعمان نحوالعراق وفي (عين التمر) تصدى له مالك بن كعب الأرجي وهو في مائة فارس فقط، وبقوة الإيمان وبعزيمة المؤمن المجاهد استطاع المائة التغلب على الألفين.. وهرب النعمان نحو الشام بعد فشل هذه العملية فشلاً ذريعاً..

ص: 71

العملية الرابعة:

فكر معاوية في احتلال البصرة - المركز الرئيسي الثاني للإمام علي (عليه السلام) بعد الكوفة - واتبع لذلك خطة ماكرة.. فباعتبار أن البصرة كانت مركز تجمع الناقمين على حكومة الإمام علي (عليه السلام) وهم المطالبون بدم عثمان.. وباعتبار أن الإمام (عليه السلام) قتل الكثير منهم في حرب الجمل.. لذلك فمن السهل إثارة الفتنة في هذه البلدة خصوصاً إذا كان المحرك شخصية بارزة مرموقة عند المجتمع البصري.. استشار معاوية عمراً وبعد التفكير وقع الاختيار على عبد اللّه بن عامر مع مجموعة أخرى من المطالبين بدم عثمان.. توجه عبد اللّه نحو البصرة وأقام عند قبيلة بني تميم - وهي من محبي عثمان - وبدأ ببث سمومه في المجتمع البصري.. ووصل الخبر إلى والي الإمام على البصرة.. وعلم زياد بن عبيد بالخبر.. واتصل بقبيلة (أزد) وطلب منها محاربة (بني تميم).. واستعدت القبيلتان .. ودارت معركة حامية.. وخلال أيام انتصرت أزد على تميم وقتل عبد اللّه بن عامر رأس الفتنة.

وبذلك فشلت خطة معاوية وعملياته التخريبية في البصرة أيضاً..

ص: 72

وقد اتبع معاوية العديد من الخطط التخريبية التي باء الكثير منها بالفشل - ولا مجال لذكرها الآن -(1).. وهكذا كانت حياة معاوية سلسلة من المآسي.. والجرائم.. وعمليات التخريب، والخداع، والتضليل، والتزوير.. ولا شيء آخر بعد ذلك..

الفصل السادس: الإمام علي (عليه السلام) من الحرب إلى الشهادة

اشارة

بعد انتهاء معركة النهروان، وبعد القضاء على «الخوارج» صمم الإمام (عليه السلام) على تجهيز جيش قوي لمحاربة معاوية.. وبدأ بتحريض الناس على الجهاد.. ولكن كان الناس قد ملوا الحرب فسيوفهم كانت لا تزال مبتلة بدماء أربعة آلاف خارجي، كما أن ذكريات حرب صفين كانت لا تزال تتراقص في مخيلتهم كشبح مخيف مرعب.. ولكن رغم ذلك كلهاستطاع الإمام (عليه السلام) تحريكهم بخطاباته التي تفيض بلاغة وحماسة، وبكلماته التي تقطر شجاعة وإيماناً..

ص: 73


1- راجع كتاب معصوم دوم: ج2 ص192-222 لجواد فاضل.

وأخيراً.. في شهر شعبان عام 40 ه- استطاع الإمام (عليه السلام) تجهيز جيش قوي ضخم مؤلف من مائة ألف فارس وراجل قدموا من الكوفة والبصرة والحجاز وإيران واليمن.. ثم عسكر الجيش في النخيلة..

وفي 15 رمضان من عام 40 ه- تقدم الإمام (عليه السلام).. وصعد على أحجار موضوعة بعضها فوق البعض الآخر وألقى خطابته التاريخية على مائة ألف مسلح.. قال الإمام (عليه السلام) فيها: «.. الجهاد.. الجهاد.. عباد اللّه.. ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى اللّه فليخرج».. وبعد إلقاء هذه الخطابة بدأ الإمام (عليه السلام) بتجهيز جيشه.. فجعل الإمام الحسين (عليه السلام) مع تسعة آخرين قادة للجيش.. كل واحد منهم قائد لكتيبة من الجيش تقدر بعشرة آلاف مسلح.. وفي هذه الأثناء.. تحرك قسم من الخوارج بقيادة (المستورد) وتوجهوا من الكوفة نحو النخيلة من جديد ليعسكروا هناك ويحاربوا الإمام (عليه السلام).. ونصحهم الإمام (عليه السلام) لكن نصائحه لم تزدهم إلا عناداً.. وعندئذٍ قرر الإمام استعمال (منطق القوة) حيث لا يجدي (منطق العقل).. وبأول ضربة تفرق الخوارج.. وانقشعت سحابة الصيف العابرة!!..

ص: 74

وتكاملت خيوط المؤامرة

وفي مكة... تكاملت خيوط المؤامرة الخطيرة هناك.. فبعد تشتت قوة الخوارج في (النهروان) توجه (الرجل المجهول) نحو مكة هارباً من وجه العدالة.. وهناك عقد الخوارج اجتماعاً مصغراً.. حضره الرجل ودار الحديث حول قتلى النهروان، وعلي ومعاوية وعمرو ابن العاص، و.. و.. ووصل المجتمعون إلى هذه النتيجة: يجب اغتيال الثلاثة الكبار! رؤوس الفتنة وأساس الفساد!! - حسب رأيهم - وهم: علي! ومعاوية وعمرو ابن العاص.. وتكفل برك بن عبد اللّه الصريمي بمعاوية.. وتحمل عمرو بن بكر مسئولية اغتيال عمرو بن العاص، وبقي الإمام علي (عليه السلام).. وساد السكوت المكان.. وتقدم الرجل.. وقبل المهمة الخطيرة!.. وتوجه الرجل المجهول نحو الكوفة.. ووصل إلى الكوفة في 25 شعبان عام 40 ه.. ونزل ضيفاً في محلة الخوارج القاعدين(1).. وأثر الجو الجديد في (عبد الرحمن)، جو سكوت الخوارج وعدم تدخلهم في السياسة، فتراجع عبد الرحمن عن قراره.. ولكن.. تعرفه على «قطام»

ص: 75


1- هم الثمانية آلاف الذين انسحبوا من معركة النهروان.

وغرامه بها قلب الوضع رأسه على عقب..

كانت قطام تفكر منذ فترة طويلة باغتيال الإمام (عليه السلام) فقد قتل الإمام (عليه السلام) أباها وأخاها في النهروان..ووجدت عبد الرحمن مطية جيدة لهذا الغرض.. اصطادته بشباك الجمال، وأوقعته في غرامها.. وعندما طلب منها الزواج طلبت مهراً.. والمهر هو: اغتيال الإمام علي (عليه السلام).. وبعد قلق وتفكير قبل عبد الرحمن بن ملجم المهمة من جديد.. واستعد.. واقتربت ساعة الكارثة..

اعتكف أربعة مجرمين هم عبد الرحمن وقطام وشخصان آخران في المسجد وضربوا خيمة لهم هناك.. وبدؤوا يتداولون الخطة.. ومضت الأيام.. واقترب اليوم الجهنمي..

قبل ساعات من صباح 19 رمضان.. كان ابن ملجم يتقلب على جنبيه، ويفكر في مهمته الخطيرة، ومضت الدقائق ثقيلة بطيئة، وكأنها لا ترغب في التقدم.. وأخيراً.. تقدم الإمام (عليه السلام) للصلاة.. وفي الظلام البهيم تقدم ابن ملجم ومعه زميلاه.. وعندما رفع الإمام (عليه السلام) رأسه من السجود كانت يد ابن ملجم ترتفع بسيف مسموم لتهبط على رأس الإمام (عليه السلام).. وجرت الدماء على محراب العبادة.. وارتفع صوت الإمام (عليه السلام)

ص: 76

يرن في جنبات المسجد: «فزت ورب الكعبة».. وحاول ابن ملجم الهرب.. ولكن ألقي عليه القبض.. ونُقل الإمام نحو منزله.. وجاء الأطباء.. ولكن.. كان الجرح عميقاً، والسم قد سرى في جسد الإمام.. وخلال يومين كان الإمام (عليه السلام) يعاني آلاماً رهيبة.. إلا أنها لم تمنعه من العبادة المستمرة وتوجيهوصاياه القيمة إلى ابنيه 3 وإلى الآخرين.. وكان من جملة وصاياه (عليه السلام): «أوصيكم.. بتقوى اللّه ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم.. أوصيكم بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم...»..

وقال (عليه السلام) في وصيته هذه: «.. اللّه اللّه في الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم، فإنما يجاهد في سبيل اللّه رجلان: إمام هدى، ومطيع له مقتد بهداه».. وفي ليلة الواحد والعشرين من رمضان عام 40 ه- كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يودع الحياة الدنيا لينتقل إلى ما مهّد لنفسه: (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ){آل عمران:133}.

ص: 77

الفصل السابع: تساؤلات ملحّة

اشارة

يصادف المطالع لحياة الإمام علي (عليه السلام) العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول حياة الإمام ومواقفه وأعماله (عليه السلام).. وفي هذا الفصل نحاول - باختصار - الإجابة على مجموعة من هذه الأسئلة، وحل بعض هذه الاستفهامات.. واللّه ولي التوفيق.

السؤال الأول:

ماذا كان دور الإمام علي (عليه السلام) طوال حكومة أبي بكر وعمر وعثمان؟

الجواب: كان للإمام (عليه السلام) مجموعة من الأدوار والأعمال نذكر منها دورين فقط:

1: القيام بمهمة توجيه السلطة، والحد من انحرافها إلى أقصى درجة ممكنة.. فقد كان الإمام (عليه السلام) يقوم بدور (الموجّه) للدولة وللمسلمين.. كان الإمام (عليه السلام) يقوّم الأخطاء ويصلحها.. ويحل المشاكل العسيرة التي كانت تواجه المسلمين.. فقد كانت السلطات الحاكمة تقع في الكثير من الأخطاء القضائية

ص: 78

والتنفيذية والقانونية والسياسية وغيرها.. وكان الإمام (عليه السلام) هو الذي يصححها ويقومها حتى قال عمر في سبعين موضعاً: «لولا علي لهلك عمر».

كما كان الإمام (عليه السلام) يتصدى للسلطات حينما تحاول الانحراف عن الخط الإسلامي.. وكان الإماميقوم - تارة - بهذا الدور بنفسه، ويأمر أصحابه وأنصاره بالقيام بهذا الدور - تارة أخرى - مثلاً: كان أبو ذر يخالف عثمان علناً ويبدي انحرافاته أمام الناس.. كما كان يقوم بتحريك الناس ضد عثمان.. وكذلك فإن عمار بن ياسر كان يقوم بنفس الدور.. وهكذا بقية أصحابه وأتباعه..

وبالإضافة إلى كل ذلك كان الإمام يقوم بالتخطيط للحفاظ على كيان الأمة الإسلامية، فعند حدوث أي خطر على كيان الإسلام وعلى المسلمين كان الإمام (عليه السلام) هو الملاذ والملجأ لرد الخطر والحفاظ على الإسلام. ولم تكن بعض الحروب التي يأمر بها عمر مثلاً والانتصارات والفتوحات التي حدثت في عهده بعيدة عن إذن الإمام علي (عليه السلام) وإشارته المسبقة بذلك..

قال السبزواري في الكفاية: (الظاهر أن الفتوح التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن أمير المؤمنين (عليه السلام).. لأنه كان لا يصدر

ص: 79

إلا عن رأي علي(عليه السلام))(1).

ونحن لو لم نقل بأن كل الحروب التي أمر بها عمر كانت بإذن الإمام فإنه مما لا شك فيه أنه كان يشاور الإمام (عليه السلام) في بعضها على الأقل ويتبعه فيها..

فمثلاً عام 21 ه- وصلت التقارير إلى عمر تنبؤه أن (يزد جرد) شاه إيران اجتمع بأمراء إيران وجميع القادة.. وقرروا في الاجتماع القيام بحملة ضخمة جداً على البلاد الإسلامية وفي طليعتها الكوفة والبصرة واحتلال هذه المراكز.. ومن ثم القضاء على الإسلام نهائياً.. واستطاع يزدجرد أن يجهز جيشاً مؤلفاً من مائة وخمسين ألف فارس مسلح تحت قيادة (فيروزان) وثلاثة قادة آخرين وهم من أكفأ ضباطه وأكثرهم خبرة في الشؤون العسكرية.. وقرأ عمر التقرير.. وأمر بجمع الناس في المسجد.. وأخبرهم بالقصة.. وطلب منهم العثور على حل لهذه المشكلة.. وسكت الجميع.. لم يكن أحد منهم يعرف طريقة للخلاص.. وطرح عثمان خطة غير جيدة لمحاربة جيش يزدجرد وقد رفضها عمر فوراً.. أما سائر المسلمين فقد لاذوا بالصمت

ص: 80


1- راجع الجواهر: ج21 ص61 حيث ذكر كلام الكفاية.

لأنهم لم يجدوا حلاً للمشكلة.. وأخيراً استنجد عمر بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واستفسره عن الخطة العسكرية.. فشرح الإمام (عليه السلام) له الخطة بالتفصيل خطة الحرب ووافق عمر على الخطة.. وحسب خطة الإمام (عليه السلام) أمر عمر واليه على الكوفة (عمار بن ياسر) بإعداد ثلث جيش الكوفة فقط وهو ثلاثون ألف مسلح!! لكي يذهبوا لحرب جيوش يزد جرد التي تربو على مائة وخمسين ألف فارس مسلح.. والتقى الجيشان.. ودارت معركة طاحنة.. انتهت بانتصار جيش المسلمين، وهزيمةجيش الكفر والضلال.. حسبما خطط الإمام (عليه السلام).

هذا المثال وكثير من الأمثلة الأخرى تبين : عمل الإمام (عليه السلام) للحفاظ على الأمة الإسلامية.. وهكذا نجد أن الإمام (عليه السلام) كان يقوم بدور (المرشد) و(الموجه) و(المخطط) للدولة على امتداد حكم أبي بكر وعمر وعثمان ولم يكن منعزلاً عن الحياة السياسية(1)..

2: تربية الطلائع الثورية.. فطوال ربع قرن من حياة الإمام (عليه السلام) كانت له (عليه السلام) اتصالات مستمرة بشيعته وحواريه

ص: 81


1- هذا من دون أن يمنحهم أية شرعية.

وخاصته أمثال: أبي ذر، وعمار، وميثم التمار، وسلمان الفارسي، وأبي الهيثم بن التيهان، وغيرهم من الثوار الأحرار.. وكان الإمام (عليه السلام) يوجههم ويرسم لهم طريق العمل..

السؤال الثاني:

كان باستطاعة الإمام (عليه السلام) أن يصل إلى الحكم بعد عمر فيما لو قبل شروط عبد الرحمن بن عوف عندما قال له عبد الرحمن: «أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر» فلماذا رفض الإمام ذلك وقال: «بل على كتاب اللّه وسنة النبي واجتهاد رأيي» علماً بأن الإمام كان يستطيع أن يقبل شروط عبد الرحمن.. وعندما يبايعه عبد الرحمن ويصل الإمام إلى الحكم يضرب شرطه الأخير -سيرة الشيخين - عرض الحائط؟

الجواب:

أولاً: يجب أن نعرف أن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن قائداً محدوداً لعصره وزمانه فحسب، بل هو قائد خالد.. وإمام لجميع العصور والأزمنة.. من هنا فإنه يجب أن يصل شعاعه إلى ملايين السنين القادمة.. إلى أعماق المستقبل ومجاهيله.. وباعتبار

ص: 82

أنه يريد توجيه الملايين بل آلاف المليارات من البشر في المستقبل.. يريد توجيههم نحو القيم الإسلامية.. نحو الصدق، نحو الطهارة، نحو الشرف، نحو البطولة.. الخ.. ولأنه هو القائد العالمي لذلك فإنه يجب أن يكون رمز الفضيلة ومثال الصدق والطهارة والبطولة والتضحية.. ويجب أن لا تعكر صفحته البيضاء النقية حتى ظلال خفيفة من الخداع والمكر حتى لو كان ذلك في سبيل الهدف الأسمى.. ولذلك فإن كذبة صغيرة من الإمام - مع أنها محللة - تعني تشويه صفحته عن الملايين.. كما تعني تضعيف تلك الهالة القدسية الشفافة التي تحيط به عند الناس.

ثانياً: لأن المسألة لم تكن مسألة كذبة واحدة ينتهي بعدها كل شيء.. بل كانت الكذبة موقفاً حاسماً من الإمام (عليه السلام) فمن جهة كان قبول الإمام بالعمل على سيرة الشيخين يعني تأييده لهما ويعني صحة أفعالهما وأعمالهما ومواقفهما وذلك ما لا يمكن أن يقره الإمام بأي وجه.. ومن جهة أخرى فإن وعده بالعمل علىسيرة الشيخين كان سيتبعه المطالبة بالوفاء بوعده.. ولو لم يعمل الإمام بما قال لهرج ضده عبد الرحمن - وهو شخصية بارزة - ووضع الإمام في موقف حرج وإعاقة عن تحقيق أهدافه الإصلاحية.

ص: 83

السؤال الثالث:

لماذا لم يثر الإمام علي (عليه السلام) ضد أبي بكر ويسترجع الخلافة المغصوبة بالقوة؟

الجواب: لثلاثة أسباب..

السبب الأول: هو أن الإمام (عليه السلام)لم يكن له نصراء.. فقد دعا الإمام جميع الأصحاب لنصرته.. فلم يستجب له إلا القليل.. يقول في البحار: «... فلم يدع أحداً من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا أتاه في منزله فناشدهم اللّه حقه، ودعاهم إلى نصرته فما استجاب منهم رجل غير أربعة»!(1).

فعندما دعا الإمام الأصحاب لنصرته قبل منهم أربعة وأربعون رجلاً.. فعين لهم الإمام موعداً لكي يأتوا ويبايعوه على الموت أو لكي يسترجعوا الخلافة المغصوبة.. ولكن.. لم يحضر من ال- 44 شخصاً سوى أربعة أشخاص!!(2).

إذن فالإمام (عليه السلام) حاول القيام بالسيف ولكن لميستطع ذلك لعدم وجود من يحارب إلى جانبه.. يقول الإمام الصادق

ص: 84


1- بحار الأنوار: ج8 ص51 الطبعة القديمة.
2- بحار الأنوار: ج8 ص51 و146 الطبعة القديمة.

(عليه السلام) «... فلذلك كتم عليّ أمره... حيث لم يجد أعواناً»(1).

السبب الثاني: هو الخوف من تدخل الروم.. فدولة الروم - أمريكا اليوم - كانت تنتهز الفرص للهجوم على البلاد الإسلامية بعد أن هاجمها المسلمون وبعد أن وجه المسلمون إليها ضربات قاصمة طوال حربهم معها.. لذلك فإن وقوع أية اضطرابات في الدولة الإسلامية الوليدة كان يعني تضعيف قوة المسلمين.. كما أن وقوع الحرب الداخلية بين رئيس الدولة (أبي بكر) وبين الإمام علي (عليه السلام) وهو الخليفة الواقعي كان يعني تدخل الروم السريع في البلاد الإسلامية واحتلالها قبل أن يفيق المتنازعون.. وقبل أن يستطيعوا تجميع قواهم للدفاع عن الدولة الإسلامية.. ولذلك نجد قرار الإمام علي (عليه السلام) حكيماً بتركه الثورة والحرب ريثما تعود الظروف مناسبة وملائمة..

السبب الثالث: هو الخوف من حدوث (الردة) عند المسلمين.. فالإسلام لم يكن متجذراً في نفوس بعض المسلمين إذ كان أكثر المليون مسلم - الذين أسلموا في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - قد أسلم في السنوات الخمس الأخيرة.. بالإضافة إلى بعدهم

ص: 85


1- المصدر: ص49.

عن مركز الرسالةومهبط الوحي - باعتبار أن أكثرهم كان يسكن في أماكن بعيدة عن المدينة نسبياً كاليمن والعراق - لذلك كله كان الإسلام غير متجذر في نفوسهم.. ولذلك أيضاً لم يكونوا يعرفون الصالح والطالح من أصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم).. فاندلاع حرب بين الإمام علي (عليه السلام) وأنصاره من جهة، وبين أبي بكر وعثمان وجماعتهما من جهة أخرى ربما كان سيولد (ردة فعل) عنيفة عند المسلمين ويشككهم في أصل الإسلام والدين..

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلا نظراً للناس، وتخوفاً عليهم أن يرتدوا عن الإسلام ويعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن (لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه).. وكان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن الإسلام.. فلذلك كتم علي أمره، حيث لم يجد أعواناً»(1).

وقال الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) «بايع الناس أبا بكر

ص: 86


1- بحار الأنوار: ج8 ص49 الطبعة القديمة.

وأنا واللّه أولى بالأمر منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع القوم كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف...»(1)..وهكذا نجد أن موقف الإمام (عليه السلام) من الخلافة لم يكن نابعاً من الجبن عن الحرب، أو الإقرار بحكومة أبي بكر، بل كان نابعاً من منطلق (الحفاظ على الإسلام ووجوده والتضحية بالمهم في سبيل الأهم)..

السؤال الرابع:

لماذا بايع الإمام علي (عليه السلام) أبا بكر مع أنه ليس سوى مغتصب للخلافة؟

الجواب: إن الإمام (عليه السلام) لم يبايع ابداً ، بل كانوا هم الذين مسحوا على يده ، وحتى هذا وان لم يكن مختاراً فيه بل كان مجبراً.. فقد قال له عمر: «... دع هذا عنك يا علي، فو اللّه إن لم تبايع لنقتلنك»!!(2).. وقد طلب مبعوثو أبي بكر إلى الإمام علي (عليه السلام) البيعة من الإمام فرفض وقال: «لا أفعل» فهددوه بالقتل وقالوا: «لنقتلنك» ثم قبض الإمام يده فأرادوا بسطها كي يبايع لكنهم لم يستطيعوا ذلك فمسحوا على يده - دلالة

ص: 87


1- المصدر: ص175.
2- بحار الأنوار: ج8 ص57 الطبعة القديمة.

على البيعة - وهي مضمومة(1).

إذن فبيعة الإمام كانت بالإجبار، وجرت علی خلاف رغبته (عليه السلام).

السؤال الخامس:

إذا كان الإمام علي (عليه السلام) خليفة حقاً فلماذا لم يعلن القرآن اسمه، ولماذا لم ينص عليه بالخلافة بالاسم؟

الجواب:

أولاً: لأن القرآن كتاب قوانين عامة، فهو يرسم الخطوط العريضة للأجيال الصاعدة.. وبعد ذلك فإن بيان المسائل الأخرى والمصاديق تقع على عاتق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ولذلك نجد القرآن الكريم يصر ويذكر أصل مسألة الخلافة ويدع التفاصيل وتعيين الخليفة بالاسم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم).. يقول القرآن الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(2)

فالقرآن هنا عين أصل مسألة الولاية..

ص: 88


1- المصدر: ص58.
2- سورة المائدة: 55.

ونجد الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: معيناً الخليفة والولي بالاسم: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه...».. إذن فالقرآن مهمة رسم الخطوط العريضة للبشرية ولذلك لم يذكر اسم الإمام علي (عليه السلام) وترك ذكره إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ثانياً: إن في القرآن الكريم آيات هي كالنص القاطع في ولاية وخلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فكلها تشير إلى أن الإمام علي (عليه السلام) هو الخليفة الحقيقي للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل آية الإنذار والمباهلة والغدير وغيرها.

ثالثاً: إن القرآن لو نص على خلافة الإمام علي (عليه السلام) لحرفته السلطات الجائرة إذ أن ذلك كان يشكل ضربة قاصمة لشرعية خلافتهم.. وأما قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1) فإن حفظ اللّه للقرآن وصيانته له من التحريف يكون بتهيئة السباب والمقدمات فقد «أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها».. ومن جملة الأسباب والمقدمات هو: عدم ذكر شيء صريح يحرك الحكام الذين جاؤوا بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 89


1- سورة الحجر: 9.

لتحريف القرآن.. إذ لم يكن من المستبعد أن يحرفوا القرآن فيما لو كان فيه ذكر الإمام علي (عليه السلام) صريحا، فكما أحرقوا القرآن كان يحرفوه أيضاً، وتحريف القرآن يعني تحريف الإسلام أساساً.. وبذلك يتحول الإسلام إلى ألعوبة بأيديهم كما تحولت الديانة (اليهودية) و(المسيحية) ألعوبة بأيدي الصهيونية والاستعمار الغربي.

السؤال السادس:

عندما وصل الإمام علي (عليه السلام) إلى الحكم قام بسلسلة من الإجراءات التغييرية الثورية لجميع أجهزة السلطة السابقة، كما عزل جميع الولاة السابقين المنحرفين مما ولد حقد وعداوة الكثيرين للإمام علي(عليه السلام) حيث عملوا على تقويض أركان حكومة الإمام علي (عليه السلام) بالحرب تارة، وبإثارة الفتن وتحريك الناس ضد الإمام علي (عليه السلام) تارة أخرى، وبالفعل حققوا بعض أهدافهم فقد أضعفوا حكومة الإمام (عليه السلام) إلى درجة كبيرة كما استنزفوا الكثير من طاقاته وجهوده (عليه السلام) في محاربتهم وإصلاح ما أفسدوه، أفلم يكن من الأفضل للإمام (عليه السلام) أن يدع الولاة السابقين مدة حتى تستقر حكومته وحتى تخضع له

ص: 90

جميع الأطراف، وبعد ذلك يبدأ الإمام بعزل الولاة السابقين (أمثال معاوية وعبد اللّه بن عامر ويعلى بن أمية وغيرهم) وإصلاح الأجهزة الحاكمة واحداً بعد آخر ودون إثارة أية ضجة؟ وبذلك يضرب الإمام عصفورين بحجر واحد، فمن جهة يصل إلى أهدافه الإصلاحية ومن جهة أخرى تثبت أركان دولته ولا تحدث فيها أية اضطرابات أو حروب أو انشقاقات..؟

والجواب: أولاً: إن إقرار الإمام علي (عليه السلام) الولاة السابقين على الحكم كان يعني وقوع المزيد من الأعمال المنافية للشرع.. فقد بنى الحكام والولاة السابقين حكومتهم على أساس الظلم والجور وسرقة الأموال و.. و.. فلو أبقاهم الإمام علي (عليه السلام) في الحكم كان يعني وقوع المزيد من هذه العمليات الإجرامية - على رغم إرادة الإمام - بينما جاء الإمام علي (عليه السلام) إلى الحكم للإصلاح ولتغيير الواقع القائم من جذوره، ولم يأت لكي يحكم ويتمتع بمباهج الحياة الدنيا.

ثانياً: إن ثورة الشعوب الإسلامية ضد عثمان كان من أهم أسبابها هو: إقراره الولاة المنحرفين وتوليته إياهم على البلاد الإسلامية حيث كانت حكومتهم دكتاتورية محضة، بالإضافة إلى جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعوب المسلمة كسرقة بيت

ص: 91

مال المسلمين وقتل البعض بدون جرم والاعتداء على أموال المسلمين.. فكيف يدع الإمام (عليه السلام) الولاة السابقين على الحكم مع أن الثورة كان من أهم أهدافها عزل هؤلاء الولاة الجائرين؟

السؤال السابع:

كان (طلحة) و(الزبير) في طليعة الثوار الذين ثاروا على عثمان، فقد كانا يحرضان الناس على الثورة ضده.. كما كانا يمدان الثوار بالمال(1) وبالإضافة إلى ذلك كانت لهما شخصية بارزة عند المسلمين.. وقد طلبا من الإمام (عليه السلام) توليتهما البصرة والكوفة - بعد مبايعتهما له - فلماذا رفض الإمام ذلك علماً بأن رفضه أدى إلى قيامهما بالتخريب، وإلى القيام بثورة مسلحة ضد الإمام (عليه السلام)؟

الجواب: ذلك لأن البصرة والكوفة كانتا منطقتين حساستين جداً.. فقد كان الجيش الإسلامي يتركز فيهما ولذلك فإن تولية الإمام لهما على البصرةوالكوفة كان يعني خطأ كبيراً إذ لم يكن يأمن قيامهما بثورة ضده أو على الأقل لم يكن يأمن ظلمهما، إذ أن طلحة والزبير كانا يريدان الحكومة لكي يحصلا

ص: 92


1- الأئمة الإثني عشر دراسة وتحليل: فصل الإمام علي (عليه السلام).

على أكبر قدر ممكن من المال، وتوليتهما على الحكومة كان انحرافاً عن الخط الإسلامي، ولذلك نجد أن طلحة والزبير عندما أعطاهما عمال الإمام ثلاثة دنانير من بيت المال - كبقية الناس - اعترضا على ذلك وقالا للموزعين: هل هذا منكم أو من أمر صاحبكم؟ (أي الإمام علي (عليه السلام))

فقال الموزعون: بل من أمر صاحبنا!

فجاء طلحة والزبير إلى الإمام - وكان الإمام (عليه السلام) في ضيعة له بالمدينة - وطالباه بأن يعطيهما أكثر لقرابتهما من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولسابقتيهما في الإسلام والجهاد، ولكن الإمام (عليه السلام) رفض.. وهذه الحادثة الصغيرة تبين عقلية طلحة والزبير حيث إن المفاهيم الإسلامية لم تكن مشربة في أرواحهم فكيف يوليهما الإمام علي (عليه السلام) الحكم؟

السؤال الثامن:

عندما وصل الإمام علي (عليه السلام) إلى الحكم أصدر قراراً ثورياً بعزل معاوية عن الحكم فوراً، ألم يكن ذلك خطأً سياسياً وقع فيه الإمام علي (عليه السلام)؟ إذ أنّ معاوية كان يحكم في الشام حوالي 17 سنة أي أنه استطاع تثبيت جذوره في المجتمع

ص: 93

الشامي. بينما لمتكن حكومة الإمام علي (عليه السلام) متجذرة فلو صبر الإمام قليلاً حتى تتجذر حكومته ثم يعزل معاوية لكان ذلك أفضل بكثير، فهل هذا صحيح؟

الجواب: إن عزل الإمام لمعاوية كان قراراً حكيماً 100(عليهم السلام) ولم يكن باستطاعة الإمام (عليه السلام) أن يفعل غير ذلك للأسباب التالية:

1: إن وجود معاوية في قمة ولاية الشام كان من أهم المآخذ على عثمان، وهو أحد الأسباب التي أشعلت الثورة ضد عثمان.. فكيف يبقيه الإمام والياً على الشام، وماذا يكون موقفه مع الثوار الذين ثاروا ضد عثمان؟

2: إن الإمام (عليه السلام) أشار على عثمان مراراً بعزل معاوية فكيف لا يعزله هو؟

3: إن بقاء معاوية على الحكم كان يعني المزيد من الجرائم والجنايات وذلك ما لا يرضى به الدين، ولم يكن من الصحيح إبقاء معاوية حتى تتجذر حكومته ثم عزله إذ «الهدف لا يبرر الوسيلة» وإلا فما فهو الفرق بين علي وعثمان؟ لو كان كلاهما يوليان ولاة جائرين.

4: إن معاوية - حتى لو أبقاه الإمام علي (عليه السلام) - كان يدرك

ص: 94

تماماً أنه عنصر غير مرغوب فيه في دولة الإمام علي (عليه السلام) ومن الممكن في كل لحظة أن يصل إليه قرار العزل وذلك لأنه كان يعرف الإمام جيداً.. كان يعرف أن الإمام لا يمكن أن يدعه - وهو الفاجرالفاسق - يحكم مدة طويلة.. وذلك فإن معاوية - لو أبقاه الإمام - كان يفكر في الحكومة.. ولذلك كان يفكر في أخذ أزمّة الدولة الإسلامية كلها بيده.. لذلك فإبقاء معاوية كان يعني: المزيد من المؤامرات والمزيد من التخريب تحت ستار كونه والياً للإمام علي (عليه السلام).

وأخيراً فقد كانت حياة الإمام علي (عليه السلام) سلسلة من التجارب والدروس، علينا أن نستفيد منها في حياتنا.. واللّه الموفق، وهو المستعان.

14/8/1400 ه-

مرتضى الحسيني

ص: 95

الفهرس

المقدمة... 3

الإمام علي (عليه السلام) الشخصية الفذّة... 5

الفصل الأول: الإمام علي (عليه السلام) خصائص ومميزات... 7

أولاً: الجهاد والتضحية... 7

ثانياً: العبادة... 14

ثالثاً: الزهد... 16

الفصل الثاني: المرحلة التي سبقت حكم الإمام علي عليه السلام... 20

الفصل الثالث: الإمام علي (عليه السلام) حاكما... 25

الفصل الرابع: حروب الإمام علي عليه السلام... 32

أولاً: معركة الجمل... 33

ثانياً: معركة صفين... 44

ثالثاً: معركة النهروان... 62

الفصل الخامس: معاوية في حياته السياسية... 65

الفصل السادس: الإمام علي (عليه السلام) من الحرب إلى الشهادة... 73

الفصل السابع: تساؤلات ملحّة ... 78

ص: 96

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.