أحكام اللّهو واللعب واللغو وحدودها
أبحاث السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
منشورات:
مؤسسة التقى الثقافية
النجف الأشرف
7810001902 00964 m-alshirazi.com
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
فقه المكاسب المحرمة
6
أحكام اللّهو واللعب واللغو وحدودها
أبحاث السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 4
اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ
الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ
صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ
فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَحَافِظاً
وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ
طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً
ص: 5
ص: 6
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.
بين يدي القارئ الكريم أبحاث سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي عن حرمة اللّهو واللعب واللغو وحدودها، والتي ألقاها في عام (1435 - 1436ه- ق)، ضمن دروس خارج الفقه - مباحث المكاسب المحرمة - في النجف الأشرف، وتعرب مؤسسة التقى الثقافية عن وافر شكرها لكل من ساهم في الكتاب من مراحله الأولى إلى الأخيرة من الأخوة المحققين والفنيين والمخرجين والمتابعين في شؤونه الأخرى، أملاً أن يكتب اللّه لهم ولنا مزيد توفيق للعطاء المرضي عند اللّه جل وعلا.
كما لا يفوتنا القول: إن هذا الكتاب في مراحله الأولى حتى المراحل قبل الأخيرة، كان ضمن اهتمامات وفي دائرة متابعات الفقيد السعيد السيد محمد جواد الحسيني الشيرازي فرضوان اللّه تعالى عليه، وأسكنه فسيج جناته، راجياً من اللّه تعالى أن يتقبله اللّه منا ومنه بقبول حسن.
مؤسسة التقى الثقافية
18/ ذو الحجة / 1437 هجري قمري
عيد الغدير الأغر على صاحبه آلاف التحية والثناء
ص: 7
ص: 8
ص: 9
ص: 10
هناك وجوه عديدة تدعو إلى تحقيق مبحث حرمة اللّهو واللعب وأخويهما وحدود التحريم بعد تحديد الموضوع، وتكشف عن مدى ضرورة هذا البحث وأهميته، نذكر منها الآتي:
كثرة الآيات والروايات الواردة فيه(1)
الأول: كثرة الآيات والروايات التي وردت فيها هذه المفردات الأربع(2)
بموادها أو مشتقاتها، ولنُشر إلى بعض الآيات الكريمة فقط(3):
أ - (العبث) - ولم يذكروه مع أنه كالثلاثة جدير بأن يبحث عنه، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(4)، و(أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)(5).
ب - (اللغو) - قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(6)، و(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ...)(7)، و(يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا
ص: 11
تَأْثِيمٌ)(1)، و(لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً)(2).
ج - (اللعب) - ومما ورد فيه قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوادِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً...)(3)، و(... ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(4) وغيرها.
كما ورد اللعب مقروناً باللّهو في آيات عديدة ومنها:
د - (اللّهو) - قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...)(5)، و(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ...)(6)، و(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ...)(7).
ومما ورد اللّهو فيها بمفرده قوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ)(8)، و(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً...)(9)، و(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)(10)، و(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(11)، و(رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(12)، إلى غيرها.
ص: 12
الثاني: إن الكثير من الفروع والمسائل تبتني على تنقيح حال هذه المسألة(1) سلباً أو إيجاباً، فإنها(2) إما دليلها ومدركها الوحيد،أو هي أحد الأدلة:
ومنها: حرمة الرقص.
ومنها: حرمة التصفيق أو خصوص الشديد منه.
ومنها: حرمة الغناء.
ومنها: حرمة الضرب بالطشت بدل الدفّ.
ومنها: حرمة مختلف أنواع اللّهو الشهوي، وذلك مثل رسم امرأة تخيّلية أو نحتها، أو نحت بعض الأعضاء الخاصة أو رسمها، أو كتابة القصص الغرامية، بل وغيرها مما لا تترتب عليها فائدة عقلائية، وكذلك اللعب الشهوي بأعضاء بدنه حتى لو لم ينزل، فإنه (3) استمناء محرم قطعاً، وكذلك ذكر النكات الجنسية وإن لم تترتب عليها مفسدة أخرى.. إلى غير ذلك.
ومنها: حرمة مختلف الألعاب وعدمها ككرة القدم والطائرة والتنس.
ومنها: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في المكاسب المحرمة: (مثل ألعاب الاختفاء والمقلاع والقلنسوة والخاتم، وكألعاب القط والفأر والشخاط والغوص في الماء، وألعاب النار والثلج والسلاح وما أشبه، بشرط عدم السبَق كما سبق)(4) والسَبَق هو الرهان أي ما يخصص لأحد المتسابقين كجائزة على سبْقه وإنتصاره.
ص: 13
قال الشيخ (رحمه اللّه): (العشرون(1): اللّهو حرام)، ثم قال: (والأخبار الظاهرة في حرمة اللّهو كثيرة جداً)(2).
ولكن قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (الظاهر أن اللّهو كاللعب واللغو غير المصادف للمحرم منه بدليل خاص، جائز)(3).وقال السيد الخوئي (رحمه اللّه): (لا خلاف بين المسلمين قاطبة في حرمة اللّهو في الجملة، بل هي من ضروريات الإسلام، وإنما الكلام في حرمته على وجه الإطلاق)(4).
أقول: تحقيق الحال في ذلك يقتضي تنقيح حال الموضوع أولاً، وأنه هل للهو حقيقة شرعية؟ وهل تصرف الشارع في المعنى اللغوي أو العرفي بالتوسعة والتضييق أم لا؟ وعلى الثاني، فما هو المراد منه عرفاً؟ فإنه المرجع، وتتبع أقوال اللغويين إنما هو لطريقيته إليه على فرضها.
لقد ذكر الشيخ (رحمه اللّه) احتمالات ثلاثة لمعنى اللّهو والمراد منه، قال: (ولكن الإشكال في معنى اللّهو، فإنه إن أريد به مطلق اللعب كما يظهر من الصحاح(5)
ص: 14
والقاموس (1)، فالظاهر أن القول بحرمته شاذ مخالف للمشهور والسيرة، فإن اللعب هي الحركة لا لغرض عقلائي، ولا خلاف ظاهراً في عدم حرمته على الإطلاق.
نعم، لو خص اللّهو بما يكون عن بطر(2) - وفسر بشدة الفرح - كان الأقوى تحريمه، ويدخل في ذلك الرقص والتصفيق والضرب بالطشت بدل الدف، وكل ما يفيد فائدة آلات اللّهو.
ولو جعل مطلق الحركات التي لا يتعلق بها غرض عقلائي مع انبعاثها عن القوى الشهوية ، ففي حرمته تردد)(3).
أقول: فمحتملاته إذن بإيجاز:
1- أن المراد من اللّهو: مطلق اللعب.
2- اللعب(4) عن بطر (أي شدة الفرح) أو: ما يكون عن بطر.
وعليه كان ينبغي أن يفصل بين التصفيق الشديد والخفيف لا أن يطلق، فإن التصفيق الخفيف(5) لا ينشأ عن البطر بل عن الفرح العادي.
3- مطلق الحركات غير العقلائية المنبعثة عن القوى الشهوية.
أما السيد الوالد (رحمه اللّه) فقد ذهب إلى رأي آخر، فقال:
ص: 15
(ولا يبعد - كما يفهم من العرف، وللإنصراف - أن يكون الكل بمعنى واحد، فيقال: اللّهو باعتبار أنه يلهي الإنسان عن الجِدِّيات، ويكون لعباً لا حقيقة، ولغواً غير داخل في مقاصد الإنسان في الحياة، ولذا قال سبحانه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) حيث إنها في مقابل الآخرة التي هي حقيقة ولا تلهي الإنسان، ليست إلا هذين، نعم، ما كان من اللّه كالخلق أو إلى اللّه كالأعمال الصالحة، فهو مستثنى بالشرع والعقل)(1).
وظاهره ليس التساوي المصداقي فحسب بل الترادف المفهومي أيضاً، وإن تلك الوجوه التي ذكرها هي دواعي للوضع وليست الموضوع له، فتكون كالحائط والجدار مثلاً، فتأمل.
أما المحقق الإيرواني (رحمه اللّه) وتبعه جمع - ومنهم السيد الروحاني دام ظله - فقد ذهب إلى مباينة اللّهو لِلَّعب، وأنه من أفعال الجوانح من غير توقف على صدور حركة من الجوارح، عكس اللعب الذي هومن أفعال الجوارح قال:
(فاللّهو فعل النفس واشتغالها باللذائذ الشهوية بلا قصد غاية، وإن كانت الغاية حاصلة، سواء أ صدرت حركة جوارحية من الشخص أو لا، كما في استماع آلات الأغاني، قال تعالى: (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(2))(3).
وقد أيده على ذلك السيد الروحاني في فقه الصادق (عليه السلام)(4).
ص: 16
قال في الفروق اللغوية:
(الفرق بين اللّهو واللعب: إنه لا لهو إلا لعب، وقد يكون اللعب ليس بلهو)(1).
أقول: فالنسبة بينهما على رأيه هي العموم والخصوص المطلق.
هذا وكما ظهر رأي الشيخ(رحمه اللّه) مما نقلناه عنه، فإن اللّهو مساو للعب على احتماله الأول، وأخص منه مطلقاً على احتماله الثاني والثالث.
ولنبدأ بمناقشة الرأي الأخير ثم نعرج إلى مناقشة ما سبقه من الآراء:
ولكن يرد على ما ذكره صاحب الفروق اللغوية: تحقق اللّهو بدون اللعب فالنسبة هي من وجه، وذلك مثل الغناء فإنه لهو دون شك، ولكن لا يطلق عليه اللعب عرفاً ولا لغةً، ولا وَضْعَ جديدللشارع فيه، وكذلك الرقص فإنه لهو ولا يطلق عليه أنه لعب، وكذلك كتابة القصص الغرامية أو مطالعتها فإنه لهو وليس بلعب، وكذلك مشاهدة الأفلام غير الأخلاقية فإنه لهو وليس بلعب.
والحاصل: إن صحة السلب دليل على أنها ليست موضوعاً له أو من جزئياته، وحتى لو فرض وصفها باللعب أحياناً فإنه مجاز.
ص: 17
لا يقال (1): تغيّر العرف أوجب عدم إطلاق اللعب على الغناء والرقص وكتابة القصص الغرامية ونظائرها.
إذ يقال: الظاهر كونه كذلك في زمن المعصومين (عليهم السلام) أيضاً، فإنه كان يطلق على الرقصِ والغناءِ اللّهو، ولم يكن يطلق عليهما اللعب.
ثم لو شككنا فأصالة ثبات اللغة هي المحكّمة، فإنها أصل عقلائي، ويراد بها: الظهور المستند للاستقراء المعلل، أو المستند للحكمة في حفظ تراث الأمم وحفظ التواصل بين الأجيال، أو المستند للغلبة البالغة حدّ إفادة الظن النوعي(2)، لا الأصل العملي من الاستصحاب الذي يوهمه تعبير البعض بأصالة عدم النقل.
وأما مادة الافتراق من جهة اللعب: فقد مثّل له بالشطرنج، حيث ادعى أنه لعب، لكنه قد لا يكون لهواً، قال:
(وقد يكون لعب وليس بلهو، لأن اللعب يكون للتأديب كاللعب بالشطرنج وغيره، ولا يقال لذلك لهو، وإنما اللّهو لعب لا يعقب نفعاً، وسمي لهواً لأنه يشغل عما يعني)(3).
وفيه: صدق اللّهو عليه عرفاً وبحسب إرتكاز المتشرعة أيضاً،ولو لم يصدق عليه فرضاً، نظراً لترتب فائدة عليه(4)،
فإنه ليس بلعب حينئذٍ، ولو أطلق عليه اللعب فمجاز بلحاظ مقتضى وضعه أو بلحاظ جَرْي العادة فيه، وقد يقال
ص: 18
بوجود إطلاقين على نحو الاشتراك، فتأمل.
والحاصل: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، عكس الحمل بلا عناية وصحة السلب الكاشف عن المجازية حتماً، فعلى المدعي الإثبات.
ولعل الأولى التمثيل - للعب الذي ليس بلهو - ب-: كرة القدم والطائرة وأشباهها، فإنها لعب ولا يطلق عليها لهو عرفاً، ولو أطلق فإنه بلحاظ علاقة من علائق المجاز، فتأمل(1).
إضافة إلى: أن اللّهو أعم مما لا يعقب نفعاً؛ إذ قد يكون مما يعقب نفعاً، لكنه سمي لهواً لكونه مقتضى طبعه الأوّلي، أو لأنه يلهي ويشغل عن الأهم أو عما يعني، كما اعترف به هو أيضاً.
وما ذهبنا إليه من أن النسبة من وجه هو ما صرح به أيضاً المحقق الإيرواني(رحمه اللّه) في حاشيته على المكاسب.
ومن نافلة القول الإشارة إلى: أن تغيير أسماء وعناوين الكثير من المحرمات والملاهي أو القبائح، وإبدالها بعناوين جذابة وجميلة وبراقة، هو ضمن خطط شياطين الإنس من شرقيين وغربيين، لنشر الميوعة والفساد والانحرافات في المجتمعات الإسلامية وفي أوساط الشباب بالخصوص، فقد أسموا الرقص وأشباهه ب-(الفنون الجميلة) مثلاً، فهذا الوضع تعييني أو تعيّني في عرفهم ولا مجال له في عرف المتشرعة، وعلى فرضه فإنه محرَز عدمُه في زمن الشارع، فلا تدور الأحكام مداره، بل تدور على ما صدق عليه عنوان (اللّهو) في عرف زمن الشارع.
كما أسموا الفساد الأخلاقي والتبرج والسفور والانحلال وأشباهها
ص: 19
وعنونوها بعنوان (الحريات الشخصية) وشبهها(1).
كما أدرجوا أقبح القبائح العقلية والنقلية مما أطبقت على حرمتها كافة الأديان كالزنا واللواط في دائرة (حقوق الإنسان)، قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(2)، وهل ذاك إلا كتسمية السرقة والاختلاس ب-: حق الإنسان في التمتع بمباهج الحياة وبحقه في الثروات الطبيعية والمكتسبة! أو كتسمية الاحتكار والغش والخداع والتدليس ونظائرها ب-: الذكاء الاقتصادي، وتعليلها بالحريات الشخصية!
ثم إن من مناقشتنا رأي الفروق اللغوية ظهر وجه النقاش فيما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من: كون اللّهو واللعب واللغو بمعنى واحد؛ إذ سبق أن النسبة بين الأوّلين هي من وجه، وأن صحة السلب خير دليل، وظهر عدم صحة تفسير الصحاح والقاموس للهو باللعب، وأنه مسامحة وتفسير بالأعم المقارب لا المساوي المطابق، فتدبر.
هذا إضافة إلى ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب: (لكنّ مقتضى تعاطفهما(3)
في غير موضع من الكتاب العزيز تغايرهما، ولعلهما من قبل الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا)(4).
ص: 20
وبعبارة أخرى: الأصل في العطف هو عطف المباين على المباين، وأما العطف التفسيري فخلاف الأصل لا يصار إليه إلا بالقرينة، والظاهر: أن كون الفقير والمسكين مما إذا افترقا اجتمعا إنما للقرينة الخارجية الدالة على وحدة حكمهما حينئذٍ لا للترادف، فهما نظير الظرف والجار والمجرور إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا بلحاظ الحكم لا للترادف.
وأما الشيخ الإيرواني (رحمه اللّه) فقد سبق قوله: (فاللّهو فعل النفس، واشتغالها باللذائذ الشهوية بلا قصد غاية وإن كانت الغاية حاصلة، سواء صدرت حركة جوارحية من الشخص أو لا، كما في استماع آلات الأغاني، قال اللّه تعالى: (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(1))(2).
وقد أيده على ذلك السيد الروحاني(دام ظله) في فقه الصادق (عليه السلام)(3).
وحاصل كلامه بعبارة أخرى يتألف من بنود محصلها: إن قوام اللّهو بأمور-:
أ - إن اللّهو قائم بالنفس لا بالجوارح.
ب - إنه خاص باللذائذ الشهوية لا مطلقاً.
ج - إنه يشترط فيه أن لا تكون له غاية وإلا لم يكن لهواً، وقد سبق أن الظاهر أن مراده ومراد الشيخ هو: بلا قصد غاية أخرى غير التلذذ؛ لوضوح أن اللّهو واللعب يقصد بهما التلذذ دون شك.
وصريح قوله: (وإن كانت الغاية حاصلة) هو: أن الملاك بنظره (عدم
ص: 21
قصد غاية) وعالم الإثبات والوجود الذهني، لا وجود الغاية وعدمها ثبوتاً.
وقوله (سواءً) يفيد: أن اللّهو متقوّم بالنفس فقط، ولا يشترط فيه مطاوعة الجوارح ومتابعتها؛ فقد تكون وقد لا تكون.
وستأتي مناقشته بعد نقل كلام السيد الروحاني(دام ظله) المؤيد له.
وقد أيّد السيد الروحاني دام ظله كلام المحقق الإيرواني(رحمه اللّه) واستدل للشطر الأول منه - أي لركنية قيامه بالنفس - ب-: الآيات، حيث إن المحقق الإيرواني(رحمه اللّه) لم يستدل على مدعاه بشيء ولم يتطرق لسائر الشروط والبنود ولا للدليل عليها وإن قبلها كما هو صريح آخر كلامه.
قال في فقه الصادق (عليه السلام):
(إن الظاهر أن اللّهو من أفعال النفس، بمعنى أنه عنوان منطبق عليها، ولا ربط له بالأفعال الجوارحية، وليس كاللعب منطبقاً على تلك الأفعال كما يظهر لمن تدبر في مشتقات هذا اللفظ، لاحظ قوله تعالى: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)(1) أي ساهية غافلة مشغولة بالباطل عن الحق وتَذَكُّرِهِ، وقوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ)(2) أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة المال عن الآخرة، وقوله تعالى: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(3). وقوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(4).
ولذا قيل في قول لهو الحديث، أن الإضافة بمعنى من، لأن اللّهو يكون من
ص: 22
الحديث وغيره، وإطلاقه على بعض الأفعال الجوارحية كالغناء إنما هو من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب.
وعليه فاللّهو هو اشتغال النفس باللذائذ الشهوية بلا قصد غاية، وإن كانت الغاية حاصلة سواء صدرت منه حركة جوارحية أم لا، كما ذكره بعض المحققين)(1).
أقول: يرد على المحقق الإيرواني (رحمه اللّه):
أولاً: إن تخصيص اللّهو بفعل النفس تخصيص من غير مخصص، فإن اللّهو يطلق على فعل الجوارح دون شك لغةً وعرفاً عاماً وفي عرف المتشرعة أيضاً، وذلك مثل الغناء فإنه لهو وهو منمقولة الفعل، وكذلك الرقص، واللعب بالشطرنج ونظائرها، وسيأتي الجواب عن كلام فقه الصادق (عليه السلام) في توجيهه لذلك.
نعم، غاية الأمر إنه لهو بلحاظ طريقيته لحالته النفسية، لكنه مغاير لدعوى كونه فعل النفس بل هو في الجملة(2) فعل الجوارح منسوبة إلى ما توجده في النفس أو ما يصحبها من الانشغال والانفعال.
ويؤكد ذلك: أنه لم يشر أحد من اللغويين - فيما نعلم - إلى اختصاص (اللّهو) بفعل النفس، كما يؤكده غرابة ذلك عرفاً على الأذهان، وحاجته إلى التأمل كي يتعقل فكيف بكونه المتبادر؟!
ص: 23
ثانياً: إن دعوى كون اللّهو هو فعل النفس صِرفاً(1) تستلزم القول بعدم حرمته بما هو فعل النفس مطلقاً؛ وذلك لوضوح أن أفعال النفس ليست محرمة، إلا ما ارتبط منها ببعض شؤون العقائد كعقد القلب على إنكار وجود اللّه أو وحدانيته أو إنكار سائر أصول الدين والمذهب، ولا شك أن اللّهو إذا خص باشتغال النفس باللذائذ الشهوية، والمراد بالشهوة إما المعنى الأخص أي الشهوة الجنسية أو الأعم مما أشارت إليه الآية الكريمة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(2)، فإنه لا شيء منها بمحرم إلا ما وقع مقدمة موصلة للحرام، وهو خروج عن محل البحث، إذ محله: هو حرمته بعنوانه وأن اللّهو هل هو كالسرقة أو الزنا حرام بذاته وإن لم يقع طريقاً إلى محرّم آخر أو لا؟
اللّهم إلا أن يخصص اشتغال النفس باللذائذ الشهوية بما إذا كان لها مبرِز، وكان لها ظهور على الجوارح، لكنه خلاف صريح كلامهاللاحق: (سواءً أصدرت منه...).
والحاصل: أنه لا شك في أن انشغال النفس بالتفكير بمثل الزنا من دون أن يؤدي إلى الحرام ليس بمحرم، فكيف بانشغالها بالتفكير بما لا طائل تحته من غير الشهوانيات، كأن يفكر في قصص الخيال العلمي أو في أحلام اليقظة ككونه يسبح
ص: 24
في بحر من الأموال مثلاً ؟!
ثالثاً: إن تخصيص اللّهو بالاشتغال باللذائذ الشهوية تخصيص من غير مخصّص أيضاً، ولا نجد له في اللغة ولا في العرف عيناً ولا أثراً، مع أنه لو كان لذكره اللغويون كأحد المعاني، بل حتى كأحد الأنواع المستعمل فيها اللفظ، مع أن من دأبهم أو دأب المفصّلين منهم - على الأقل - استيعاب كافة المعاني الحقيقية(1) أو حتى كافة موارد الاستعمال المشهورة أو الأعم من المجاز كما ذهب إليه جمع، فتأمل.
هذا إن أريد من (الشهوية) المعنى الأخص - أي الشهوة الجنسية -، أما لو أريد منها مطلق الشهوة مما ورد في الآية الشريفة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(2) أي ما عدا اللذائذ العقلية والعلمية، فقد يكون له(3) وجه، إلا أن ينقض ب-: مثل ألعاب القمار من غير مراهنة كالشطرنج، بناءً على ما ادعوه من أنه رياضة عقلية، فإنه لهو وإن لم تكن فيه لذة شهوية على فرض تمحضه في ترويض الفكر، فتأمل.
على أن مطلق اللذائذ الشهوية كالأنعام والحرث الواردة في الآية الشريفة مما لا شك في كونها شهوة بصريح الآية، لكنها ليست بلهو؛ إذ لا شك أن
ص: 25
المشغول بالزراعة وإن كان ملتذاً بها لا يسمىلاهياً وإن كانت شهوته في الزراعة(1)، فتأمل(2).
نعم، لا شك في حرمة الشطرنج مطلقاً سواء تقوّم به أم لا، إلا أن الكلام في صدق عنوان اللّهو.
رابعاً: قوله (بلا قصد غاية)، قد يورد عليه: أنه لا لهو إلا وغاية الالتذاذ فيه مقصودة، وهي غاية من أهم الغايات العقلائية في الجملة، وإن كانت بعض مصاديقها محرمة عقلاً أو شرعاً؛ لوجود مزاحم أهم، أو لكون نفس هذه اللذة في ذاتها ذات مفسدة وإن لم نكتشفها؛ لإحاطة الشارع بوجوه المصالح والمفاسد دوننا.
نعم، أجبنا عن ذلك بأن الظاهر أن هذا القيد مستبطن في كلامه وكلام الشيخ، وأنه يقصد (بلا قصد غاية غير اللذة) حسب الظاهر، وبذلك يندفع ما أشكل به في فقه الصادق (عليه السلام) على الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه)(قدس سره)، قال: (ولكن يرد عليه - مضافاً إلى ما في الاحتمال الأخير من نحو من الإجمال - إذ تحصيل مقتضيات القوى الشهوية بأنفسها أغراض عقلائية)(3) ولعله لما أشرنا إليه ذيّله ب(فتأمل).
ص: 26
خامساً: قوله (بلا قصد غاية وإن كانت الغاية حاصلة)، يرد عليه(1): أنه لا إطلاق لذلك؛ إذ قد يكون وجود الغاية من القوة بحيث يوجب انطباق عنوان اللّهو وإن لم يقصده أو قصد ضده، وقد يكون بحيث يوجب سلب عنوان اللّهو وإن قصده.
والأول كالغناء والرقص، فإنهما لهو وإن قصد بالرقص فرضاً الرياضة وقوة البدن، أو قصد بالغناء - كالتغني بالقرآن - القرب إلى اللّه تعالى بزعمه.
والثاني كما لو قصد بكلامه مع زوجته أو مع خطيبته التي عقد عليها لتوه الالتذاذ الشهوي، مع كون كلامه في ذكر جهاد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو بطولات أمير المؤمنين (عليه السلام) أو قصص المجاهدين في الإسلام. فإنه لا يصدق على حديثه هذا أنه لهو وإن لم يكن قاصداً غاية التربية، بل كان قاصداً غاية اللذة الشهوية إذ الحديث الحلال مع الحبيب حبيب.
والسر في ذلك: أن الغايات تختلف، فقد تكون من القوة بحيث تلون ذاتها وتفصّله حتى على خلاف قصد فاعله، وقد يغلبها القصد، وقد يتكافآن، وتفصيله:
إن الأفعال على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يكون ظهورها في اللّهوية من القوة بحيث لا يغيره عن عنوانه قصدُ غايةٍ أخرى، وذلك كالرقص الوجدي الصوفي فإنه لهو قطعاً، وإن
ص: 27
قصدوا بزعمهم القرب إلى اللّه به، وكالغناء فإن هيئته الصورية اللّهوية تغلب على أي قصد آخر بل حتى على مادته وإن كانت أسمى المواد كالقرآن الكريم؛ ولذا حرم التغني بالقرآن الكريم.
القسم الثاني: ما يكون ظهورها في الجدية واللالهوية من القوة بحيث لا تخرجه النية والقصد عن كونه جداً إلى اللّهو، وذلك مثل الصوم أو الركوع والسجود أو الحج(1) في الجملة.
القسم الثالث: ما يكون العنوان في حد ذاته حياداً؛ فتلّونه النية والقصد سلباً وإيجاباً، وذلك كالمشي مثلاً.
سادساً: قوله: (سواء صدرت منه حركة جوارحية أو لا كما في استماع آلات الأغاني)، يرد عليه: إضافة إلى ما سبق من أنه ليس على إطلاقه، إذ ليس كل انشغال للنفس باللذائذ لهوياً(2)، بل بعضه كذلك وبعضه مرتهن بالمبرِز، أن الاستماع هو فعل الجارحة (السامعة) إذ لا فعل لها غير ذلك كما أن الاستشمام هو فعل الشامة ولا فعل لها غير ذلك، فلا يصح جعل (كما في استماع...) مثالاً ل-( لا) كما هو ظاهره.
ويرد على ما ذكره فقه الصادق (عليه السلام) من الاستشهاد بالآيات الكريمة:
ص: 28
أولاً: إن الاستعمال في الحقيقة - أي في معنى حقيقي - هو أعم من انحصار الحقيقة بذلك المورد، وهذه قاعدة أخرى غير قاعدة الاستعمال أعم من الحقيقة، إذ مفاد هذه القاعدة هو أن الاستعمال في معنى وإن ثبت كونه حقيقة فيه، كما في الآيات مورد البحث، فإنه لا يدل على انحصار الحقيقة به أي لا يدل على انحصار الموضوع له به، وذلك لأن اللفظ قد يكون كلياً استعمل في بعض أصنافه ك-(الأسود إنسان) أو يكون مشتركاً لفظياً ك-(الذهب عين)، والحاصل أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
وعليه: فإن كون (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) مثلاً يراد به إلهاء نفوسهم وقلوبهم، وإن صح فرضاً(1)، فإنه أعم من كون الإلهاء واللّهو لايستعمل بنحو الحقيقة إلا فيه(2).
ثانياً: إنه قد يقال: إن بعض الآيات يراد باللّهو فيها الأعم من لهو الجوارح، أو لا أقل ان الآية مجملة محتملة للطرفين، فلا تصلح شاهداً على التخصيص.
فقوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ)، قد يقال: إن المراد ألهى قلوبَكم وجوارحَكم التكاثرُ؛ لوجهين:
الأول: إن حذف المتعلق يفيد العموم، فألهاكم أي ألهى قلوبكم
ص: 29
وجوارحكم، أو لأن الضمير (كم) يشمل الجوارح والجوانح.
الثاني: قرينة (التكاثر)، فإن التكاثر يلهي القلوب والجوارح معاً، فإنه تفاعل من الطرفين كما يفيد طلب كثرة الأموال والأولاد، ومن الواضح أن طلب الكثرة أو تكاثر هذا على ذاك وبالعكس(1) يتطلب انشغال الجوانح والجوارح بالبيع والشراء والأخذ والعطاء والذهاب والإياب، فالظاهر أن المراد بالتكاثر ما هو ظاهره(2)، لا خصوص التفاخر والتباهي الذي فسره به في التبيان(3) على أنه لو أريد فإنه أعم أيضاً، فإن التفاخر والتباهي لفظي وجوارحي وقلبي، بل الظاهر أن مصبه اللفظي أولاً.
وقال في (الصافي): ((أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) شغلكم التباهي بالكثرة،... وقيل ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم، وهو السعي لآخرتكم)(4).
ومن الواضح أن إضاعة العمر في طلب الدنيا تشمل الجوارحكالجوانح معاً، وأن التباهي بالكثرة هو لفظي وإن كان قد يكون بالعمل.
وأما قوله تعالى: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)، فالظاهر أن المراد به الأعم من القلب ومن الإعراض بالوجه أو الجسد، كما يدل عليه المورد، فإن عثمان أعرض بوجهه عن الفقير وجمع ثيابه.
قال في (الصافي): (تلهّى: تلهو ولا تلتفت إليه)(5).
ص: 30
ولعل الالتفات ظاهر في الوجه، وقال في (التبيان): (أي تعرض عنه)(1).
والإعراض ظاهر في كونه بالوجه وشبهه أو يشمله.
وأما قوله تعالى: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، فقد يقال: إن المراد من (ذكر اللّه) الأعم من ذكره باللسان ومن تذكره بالقلب؛ ذلك أن التجارة والبيع تلهي القلب، كما تشغل وتلهي عدداً من الجوارح كالعين واللسان والسامعة واليد والرجل بالذهاب والإياب، فيكون المعنى (لا تلهي قلوبهم وألسنتهم عن ذكر اللّه).
ولذا قال الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) في التبيان: (أي لا تشغلهم ولا تصرفهم التجارة والبيع عن ذكر اللّه وتعظيمه)(2)، فإن التعظيم جسمي وبدني كما هو قلبي. ونقل في تفسير الصافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها»(3)، ولعله ظاهر في العمل أي الانطلاق إلى الصلاة أو الانشغال بها في مواقيتها، والصلاة هي فعل الجوارح، فإنها من مقولة الفعل والوضع، وأما النية فهي فعل القلب، فالصلاة مجمع.
وقال الصافي: (وفي الفقيه: كانوا أصحاب تجارة، فإذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة، وهم أعظم أجراً ممن لا يتّجر)(4).
ثالثاً: وبعض الآيات احتوت على قرينة معيِّنة(5)، كقوله تعالى: (لاهِيَةً
ص: 31
قُلُوبُهُمْ) فقد أفادت تخصيص اللّهو بالقلب لذلك، والقرينة المعينة لا تنفي الحقيقة عن غيرها عكس الصارفة، وإذا ترددت القرينة بينهما فلا دلالة فيها على المجازية لإجمالها؛ ولذا لم يكن يمتنع أن يقول: (لاهية عيونهم أو ألسنتهم) خاصة وإن الآية بتمامها ربما تشهد على القرينية؛ (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
بل حيث أن الأصل في القيود الاحترازية فإن قوله تعالى: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) يفيد أعمية اللّهو في ذاته من لهو القلب، لذا احتاج إلى القيد في المقام.
رابعاً: الظاهر أن وصف الحديث - وهو من فعل الجوارح - باللّهو حقيقي(1)، يدلك على ذلك أنه بنفسه مُلهي بالحمل الشائع الصناعي حقيقة(2)،
لذا يقال: هذا الحديث لهوي، وهذا الكلام أو الغناء لهو، بل إن وصفه بالهزلي أيضاً كذلك؛ إذ يقال كلام هزلي وكلام لهوي وكلام جدّي، بلا عناية جدّيةِ صاحبِهِ أو هزله أو لهوه(3)، سلمنا لكن غاية الأمر إنه واسطة في الثبوت لا العروض.
وبعبارة أخرى: الظاهر الحقيقة بدلالة صحة الحمل والإطراد وعدم صحة السلب إلا بعناية، فتأمل.
والظاهر - إضافة إلى ذلك - :أن الغناء والرقص والشطرنج توصف - عرفاً -
ص: 32
بأنها لهو حقيقةً لا مجازاً، ودعوى: أن ذلك من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب، بلا دليل، بل الدليل على العدم للصدق العرفي وصحة الحمل والإطراد وغير ذلك كما سبق، بل قد يقال: إن إطلاق اللّهو على ما عبَّر عنه بالمسبب هو المجاز، بل عليه: يكون معنى (ومن الناس من يشري لهو الحديث) والمراد به – واقعاً – هو (من يشتري لهو النفس بسبب الحديث) وهو بعيد جداً خاصة مع لحاظ شأن نزول الآية، فتأمل(1).
ويؤكد ذلك كله كلمات اللغويين، كما سيأتي.
وعليه: فالظاهر أن الإضافة بيانية أي لهو هو الحديث لا بمعنى (من) فهي ك-(قول الزور) حيث استظهرنا في كتاب (حفظ كتب الضلال) أن الإضافة بيانية.
خامساً: كما أن استدلال فقه الصادق (عليه السلام) بجملة من الآيات على أن اللّهو هو من أفعال النفس لا الجوارح(2) رداً منه على الشيخ (رحمه اللّه) في مكاسبه، يرد عليه: المعارضة ببعض الآيات الأخر التي لا تنطبق على أفعال القلب بل لا يراد بها إلا أفعال الجوارح، ومنها:
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا...)(3) فإن اللّهو هنا المراد
ص: 33
به إما الطبل كما قيل(1) - وهو من الجواهر -، أو الغناءوالمزامير كما فسرت به الآية أيضاً(2) - وهو من أفعال الجوارح(3) -، ويؤيدهما: شهادة الواقع الخارجي وشأن النزول بذلك، فإن قوافل التجارة القادمة إلى المدن كانت عند وصولها على مشارف المدينة أو القرية تدق الدفوف أو كانوا يضربون بالمزامير أو يغنون بصوت عالٍ كي يلفتوا الأنظار إلى مجيئهم من جهة(4)، ولأن في ذلك إغراءً للناس - خاصة البطّالة وما أكثرهم - للمجيء إليهم مما يزيد احتمال شرائهم لبضاعتهم.
وعلى أي حال، فإن المعنى الثالث لا مجال لاحتماله في الآية الشريفة؛ إذ لا معنى لأن يقال: (إذا رأوا لهواً) أي فعلاً من أفعال نفس أولئك أو حالةً من حالاتهم النفسية صارفةً لهم عن ذكر اللّه، أو إذا رأوا انشغالاً نفسياً لأولئك انفضوا إليهم!
ثم إن ملاحظة مجموع الآيات مما ذكره ومما عارضناه به، تصلح دليلاً على أن (اللّهو) موضوع للأعم من أفعال القلب والجوارح، إن استظهرنا أن الاستعمال كان بلا عنايةِ علاقةٍ مصححة وإلا فتكون دليلاً فقط على صحة الاستعمال من دون أن تكون دليلاً على تحديد الموضوع له، فلا يصح رد كلام الشيخ الأنصاري بهذه الآيات، فتدبر!.
ص: 34
أما محتملات الشيخ (رحمه اللّه) الثلاثة فيرد عليها:
أما أولها: - وهو مطلق اللعب - فيرد عليه: ما سبق في مناقشة كلام السيد الوالد (رحمه اللّه)، ومنه ما أجاب به الشيخ(رحمه اللّه) عن هذا الاحتمال،فراجع.
وأما ثانيها: وهو تقييده بما كان عن بطر، أي: عن شدة الفرح .
وثالثها: وهو تقييده بما كان منبعثاً عن القوة الشهوية(1)-، فيرد عليهما:
أولاً: إنه لم نجد أثراً للتقييد بأحد هذين القيدين في مختلف كتب اللغة التي راجعناها(2)، ولو كان أحدهما هو الموضوع له لذكروه أو ذكره بعضهم حتماً، إذ كيف يستقرأون المعاني المجازية ويتركون المعنى الحقيقي؟! وكيف يتركون ذكر المقوّم الجوهري؟! فتأمل(3).
ثانياً: إن التقييد بهما مما لا يخطر ببال العرف، ولا يوجد في ارتكازهم هذان القيدان، غاية الأمر كونهما أظهر المصاديق.
ثالثاً: - وهو العمدة - صحة الحمل وعدم صحة السلب، فإنه يصح حمل (اللّهو) على مطلق الرقص أو الغناء وإن لم يكن ناشئاً عن شدة الفرح أو عن القوة الشهوية بالمعنى الأخص (أي الجنسية)(4)، كما يصح حمله - اللّهو - على
ص: 35
الدف والضرب بالطشت ونظائره وإن لم يكن موجباً لشدة الفرح أو لهيجان الشهوة.
والحاصل: إن مطلق الرقص لهو وكذا الغناء والدف وكذا الشطرنج، من غير تقييد بكونها عن بطرٍ وشدة فرح أو شهوة أو توليدها لهما.
كما لا يصح سلب (اللّهو) عن الرقص أو الغناء غير المنبعث عن البطر أو عن القوة الشهوية.
بل من الواضح أن الرقص والغناء قد لا يكون عن فرح أصلاًولا عن القوة الشهوية (الجنسية)(1) كبعض أنواع الرقص البروتوكولي(2) وكبعض أنواع الغناء وكبعض أنواع التغني بالقرآن الكريم(3)، نعم قد يدعى أن العرف لا يسمي هذه لهواً، لكن الظاهر أنه كذلك في العرف الخاص(4) أو بلحاظ أحد معنيي اللّهو دون الآخر(5)، على أنه في ارتكاز المتدينين الكاشف عن الشرع لهو وإن لم يكن عرفاً كذلك، فتأمل.
ثم إن التحقيق في تحديد ما وضع له اللّهو يتم برسم أمور، ظهر بعضها مما مضى، كما ستظهر منها وجوه أخرى للإشكال على التعاريف السابقة.
ص: 36
إن الظاهر أن (اللّهو) يطلق(1) على أمور ثلاثة:
أ - بعض الأنواع من مقولة الجوهر كالطبل والمرأة والولد وبعض كتب الضلال، وقد فسر بعض المفسرين قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)(2) ب-(المرأة)(3) وفسرهبعضهم ب-(الولد)، وهما من مقولة الجوهر كما لا يخفى.
ب - بعض أفعال الجوارح كالرقص والغناء فإنه فعل اللسان واللّهاة.
ج - بعض أفعال النفس كانشغالها بالتفكيرات الشهوانية الجنسية أو شبهها، أو بمطلق ما يشغل عن الأهم أو بما يشغل عن ذكر اللّه ويصد عنه(4).
وحينئذٍ فالمحتملات هي:
أولاً: أن يكون اللّهو موضوعاً للجامع بينها، والجامع هو (كل ما تُلُهِّي به)
ص: 37
وهو أحد المعاني التي ذكرها لسان العرب وغيره، وأما المعنى الآخر الذي ذكره وهو: (ما يلهي الإنسان فيتشاغل به)، والذي ذكره المفردات (ما يشغل الإنسان عما يهمه ويعنيه) فهو أجنبي عن (اللّهو) كما سيجيء من أنه من مادة (اللّهي) لا (اللّهو).
وهذا المعنى جامع للثلاثة، فإن الطبل والدف وكذا المرأة والولد ثم الرقص والغناء كلها يشملها (ما تُلُهِّي به)، وكذا انشغال النفس بالتفكير باللذائذ الشهوية فإنه صغرى كبرى (ما تلهي به) إذ تَلهَّى بهذا التفكير وانشغل.
ثانياًً: أن يكون اللّهو مشتركاً لفظياً بين الجواهر وغيرها، بأن يكون قد وضع بوضع مستقل للمرأة والولد والطبل وما أشبه، وبوضع آخر لمطلق ما يُلهى به من الأفعال وغيرها(1) على المنصور، أو أفعال الجوارح فقط كما هو ظاهر رأي الشيخ (رحمه اللّه)(2)،أو أفعال النفس فقط كما هو رأي الشيخ الإيرواني(رحمه اللّه).
وقد يؤيد هذا ب-: ما ذكرناه في بعض المباحث من أن أحد وجهي وجود المشترك اللفظي هو أن القبائل العربية كانت متعددة، وكثيراً ما كان كل منها يضع لفظاً لمعنى، فلما جمعت المجاميعُ اللغوية الألفاظَ في كتبٍ(3) برزت ظاهرة
ص: 38
الاشتراك اللفظي(1).
لكن هذا هو أحد الوجهين وهو ممكن وواقع لكنه غير حاصر؛ إذ يوجد وجه آخر وهو أن يضع الحكيم الواحد أو القبيلة الواحدة اللفظ الواحد لمعنيين بوضع على حده إما بالوضع التعييني أو التعيّني من دون لحاظ جامع بينهما(2).
والمنصور هو إمكان ووقوع كليهما، لكن إثبات أن هذا المشترك من أي قبيل بحاجة إلى دليل من عالم الإثبات.
وقد يستدل في المقام - على كون اللّهو مشتركاً لفظياً من القبيل الأول - ب-: ما صرح به بعض اللغويين(3) من أن اللّهو عند (حضرموت) هو المرأة أو الولد مما يستظهر منه أنه موضوععندهم لهما، لكن لعل الأظهر أنهم لم يضعوا اللّهو بوضع على حده للمرأة، بل أطلقوه عليها لكونها مصداقَ كلّيِّ اللّهو أي ما يُتَلَهّى به؛ فإن المرأة عندهم لم تكن إلا لذلك وللإنجاب والخدمة، اللّهم إلا أن يدعى الوضع التعييني عندهم فيهما، لكنه خلاف الأصل بل مستبعد(4).
ص: 39
والحاصل: إن الظاهر أن اللّهو موضوع للجامع وهو (كل ما يتلهى به)، وأن كل ما ذُكر من المعاني (كالطبل والمرأة والغناء و...) فهي مصاديق، والدليل: التبادر(1) وصحة الحمل وعدم صحة السلب والاطراد جميعاً.
ج - الموضوع(2) مختلف لا الموضوع له فقط(3)
وبذلك يندفع الاحتمال الثالث وهو:
إن اللّهو:
أ - موضوع (كاسم جامدٍ) للمرأة والولد، كما وضع الحائط مثلاً للجدار كجامد، بمعنى عدم لحاظ أي معنى حدثي فيه، أي: لا بما هو متضمن لمعنى حدثي(4).
ب - كما أنه (مصدراً) موضوع للمعنى الحدثي لمثل الرقص والغناء والشطرنج.
ج - وأنه (كاسم مصدر) موضوع للحالة النفسية الحاصلة من ذلك الحدث.وقد ظهر مما ذكرنا استبعاد الأول(5)، وأما الثالث فلا ننكره، إلا أنه لا ينفي إطلاق اللّهو كمصدر على فعل النفس أيضاً؛ فإن فيها أمرين:
ص: 40
الأول: نفسُ حَدَثِ انشغالِها بالتفكير في الملذات الشهوية.
الثاني: الحالة الحاصلة من ذلك.
والحاصل: قد يقال: بوضع اللّهو للجامع بين ما هو من مقولة الجوهر
وفعل الجوارح وفعل النفس وهو (كل ما تلهي به)(1)
فيكون إطلاقه على مثل الطبل حقيقياً.
لكن قد يقال: إنه وإن فرض قبول ذلك فإنه لا يكفي دليلاً على كون إطلاق اللّهو على مثل الطبل حقيقياً(2)، بل الظاهر أنه مجاز من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب، وذلك للدليل الخارجي لا لعدم صلاحية الجامع للشمول له وهو صحة السلب؛ فإن الطبل يصح أن يسلب عنه كونه لهواً، والدليل صحة أن يقال إنه آلة لهو (والإضافة لامية) وليس بلهو، فتأمل.
الظاهر وجود مادتين مختلفتين لفظاً ومعنىً ههنا وليس مادة واحدة، وهما (اللّهو) و(اللّهي)، والأولى من الناقص الواوي والثانية من الناقص اليائي، ولذا:
في الواوي يقال: لها يلهو لهواً، وهذا هو مورد مسألتنا.
وفي اليائي يقال: لهى يلهِي لهياً، وهذا يأتي على وزن رمى يرمي، أو على وزن خشي يخشى أي لَهِي يَلهى.
ص: 41
والظاهر: أنهما مادتان مختلفتان لفظاً ومعنى؛ للجهات التالية:
الجهة الأولى: إن الواوي يكتب ماضيه بالألف المقصورة(1) القائمة أي (لها) مثل (دعا) و(غزا).
واليائي يكتب بالألف المقصورة التي هي على صورة الياء(2)
أي (لهى)، مثل (رمى).
الجهة الثانية: إن الواوي يكتب بالواو عند إضافة تاء الفاعل تقول: (لهوت) كما تقول: دعوت، واليائي يكتب بالياء تقول: (لهيت)، كما تقول: رميت.
الجهة الثالثة: إن الواوي في التثنية يكون بالواو (لهو، لهوان) ك-: غزو غزوان أو دعوة دعوتان، واليائي بالياء (لهيٌ لهيان)، ك- رميٌ رميان.
الجهة الرابعة: إن الواوي يُعدَّى بالباء تقول (لهوت بكذا) واليائي يُعَدَّى ب-(عن) تقول (لهيت عن كذا).
وبذلك يظهر منشأ الخلط في كلمات عدد من اللغويين وعدد من الفقهاء
ص: 42
الأعلام ومنهم الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب، إذ استدلوا على رواية تضمنت مادة اللّهي على حرمة اللّهو أو العكس، وسيأتي بإذن اللّه.
الجهة الخامسة: كما يعرف أن الناقص واوي أو يائي من التصغير، ففي المقام يعرف مغايرة اللّهو لِلَّهي من تصغير اللّهو على (لُهَيْوْ)، وتصغير (اللّهي) على (لُهيّ) كتصغير الرَّمْي على رُميّ والرَمية على رُميَّة عكس الغزو على غزيو والغزوة على غزيوه أوالدعوة على دُعَيوه، فتأمل.
كما يظهر الفرق بين الموضوع له فيهما بملاحظة النسبة بينهما؛ فإنها العموم والخصوص من وجه:
فمادة افتراق اللّهي عن اللّهو: ما لو إلتهى بأمر جادٍ غيرِ لهوي عن أمر آخر أهم أو مساوي أو مرجوح، كما لو إلتهى بالدرس عن التجارة أو العكس، أو إلتهى بعلم كالكلام عن علم آخر كالفقه أو العكس، أو إلتهى بدراسة علم الرياضيات عن ذكر اللّه، فإنه لهي وليس بلهو؛ إذ ليس أي شيء منها لهواً، فلا يقال: لها بعلم الرياضيات، ويقال: التهى بها عن كذا.
ومادة افتراق اللّهو عن اللّهي: ما لو كان اللّهو سبباً لجلب انتباهه للأمر الآخر لا لصرفه عنه، كما لو كان غناؤه اللّهوي سبباً للتفكير في مادته غير اللّهوية، إذ قد تكون أمراً علمياً بل قد تكون القرآن الكريم نفسه لو تغنى به - وهو حرام كما لا يخفى - فهو لهوٌ وليس بلهي؛ إذ لم يلهه عن الأهم بل ساقه إليه ولو بزعمه، فتأمل(1).
وقد يجتمعان: كما في الرقص والغناء والشطرنج الصوارف عن ذكر اللّه
ص: 43
تعالى أو عن التجارة أو عن العلم أو عن الاهتمام بالعيال وغير ذلك؛ فإنها لهو ولهي معاً.
وتدل على ما ذكرنا كلمات اللغويين التي نقلوها عن العرب وإن كانوا هم - أي اللغويون - قد خلطوا في الجملة بين المعنيين، فلاحظ ودقق.
قال في لسان العرب: (لها: اللّهو: ما لهوت به ولعبت به وشغلك(1) من هوى وطرَبٍ ونحوهما. وفي الحديث: ليس شيء من اللَّهْو إلا في ثلاث أي ليس منه مباح إلا هذه، لأنَّ كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه. واللّهو: اللعب. يقال: لهَوْتُ بالشيء ألهُو به لَهْواً وتلهَّيْتُ به إذا لعبت به وتشاغلت وغفلتبه(2) عن غيره. ولهيتُ عن الشيء، بالكسر، ألهَى، بالفتح، لُهِيًّا ولِهْياناً إذا سلوت عنه وتركت ذكره وإذا غفلت عنه واشتغلت. وقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً)؛ قيل: اللَّهو الطبل، وقيل: اللّهو كل ما تُلُهِّيَ به، لها يلهُو لهواً والتهى وألهاه ذلك)(3).
إذا ظهر ذلك ظهر أن الاستدلال على حرمة اللّهو برواية أو آية تتضمن مادة اللّهي غير صحيح؛ فإنه استدلال على حكمِ عنوانٍ بحكمِ عنوانٍ آخر نسبته معه من وجه، فهو كالاستدلال على حرمة إكرام الطبيب بحرمة إكرام الفاسق لوجود مادة اجتماع لهما وهي الطبيب الفاسق، أو الاستدلال على حرمة الذهاب للسوق كعنوان وموضوع من الموضوعات(4) بحرمة الربا.
ص: 44
وبذلك ظهر عدم تمامية استدلال الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب على حرمة اللّهو بالروايات الذامة أو المحرمة للهي، قال: (والأخبار الظاهرة في حرمة اللّهو كثيرة جداً)، ثم قال: (ومنها: ما تقدم في روايات القمار من قوله (عليه السلام): « كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِر »(1). ومنها قوله (عليه السلام) - في جواب من خرج في السّفر يطلب الصّيد بالبزاة والصّقور- :«إنما خرج في لهو لا يقصر»(2))(3).
أقول: الاستدلال بالرواية الثانية تام دون الرواية الأولى؛ فإنها تتحدث عن ما ألهى عن ذكر اللّه، وقد لا يكون لهواً كما سبق، بل يكون أمراً جاداً كدراسة الفيزياء أو كالتجارة فإنها تلهي(4)
عن ذكر اللّه لكنها ليست بلهو.
إضافة إلى أن هناك من الفقهاء من قال بحرمة اللّهو مطلقاً، ولا نعلم غير الحلي(رحمه اللّه) قائلاً به، نعم ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري(رحمه اللّه) الإطلاق، لكن تقييده اللاحق للموضوع أنتج التفصيل كما سبق، ولكن لا يوجد من حرَّم (اللّهي) مطلقاً، بل حتى في الجملة بعنوانه.
وبذلك كله ظهر أيضاً خطأ بعض اللغويين حيث توهم اتحاد الكلمتين، كما هو ظاهر سردهم لمعاني الكلمة (كالمنجد)، وكما هو ظاهر عبارات بعضهم كمعجم مقاييس اللغة، قال: (ولهوت من اللّهو، ولهيت عن الشيء إذا تركته لغيره، والقياس واحد وإن تغيّر اللفظ أدنى تغيير)(5).
وقد ظهر أن المعنى مختلف تماماً كما هو مقتضى الحكمة في وضع الألفاظ،
ص: 45
وكما يشهد به الارتكاز العرفي واستعمالاتهم، فإنهم يقولون: لهوت بالدف أو المرأة وشبهها مما فيه لذة شهوانية، فيما يقولون: التهيت - أو لهيت - عن الدرس لانشغالي بالجهاد أو التجارة، ولا يقولون لهوت بالدرس عن التجارة، فتدبر.
ومما قد يرشد إلى ذلك: التدبر في عنوانٍ مقابل وهو (الشغل)، فإنه يتعدى بالباء وب-(عن)، فيقال: اشتغلت وانشغلت بالتجارة، أو شغلي التجارة أو النجارة، كما يقال: اشتغلت أو انشغلت عن التجارة بكذا، أو شغلني عن الدرس كذا.
ونظير ذلك (أي التعدية ب- الباء وب- عن) وإن صح في اللّهو وأمكن ثبوتاً، إلا أن الظاهر أن اللّهو موضوع لما يتعدى بالباء فقط، وأنه خاص بما يلهو به وليس لما يلتهي عنه، وذلك لوجود مادة (اللّهي) إلى جوار مادة (اللّهو) في اللغة، وغلبة تعدية اللّهو ب-(الباء) واللّهي ب-(عن) الظاهر منه ومن الارتكاز والذوق العرفي أن ما عدا ذلك (أي تعديه اللّهو ب- عن أو تعدية اللّهي بالباء) استعمل مجازاً، أو باشرابه معنى الآخر وتضمينه.
ثم إن الشغل يطلق على فعل الجوارح، ك-: شُغله التجارة أو النجارة أو الصيد أو الزراعة، كما يطلق على فعل الجوانح ك-: شغلهالتفكير في أمر اللّه، لكنه لا يطلق على الجواهر، فإنه وإن أطلق مثل شغله المجوهرات - للجوهرجي - أو شغله السمك - للصياد - إلا أنه بتقدير الفعل(1)، فتدبر(2).
ظهر مما سبق مدى أهمية استيعاب البحث حول فقه اللغة في كافة العناوين
ص: 46
التي أُخذت موضوعاتٍ لأحكام الشارع، أو كانت لها مدخلية فيها ككونها شرطاً أو مانعاً أو غير ذلك، بل ظهرت ضرورة استفراغ الوسع في التحقيق والتدقيق في مطلق جهات الحكم والموضوع؛ فإن التحقيق في حقيقة (اللّهو) - مثلاً - من بين محتملات الشيخ (رحمه اللّه) الثلاثة وقول الشيخ الإيرواني (رحمه اللّه) وهو رابعٌ مغايرٌ، قادنا إلى تحديد موضوع حكم الشارع سعةً وضيقاً، كما أن تحقيق الموضوع له للهو وأنه غير الموضوع له للهي ساقنا إلى اختلاف الموضوعين وعدم صحة الاستدلال بروايات اللّهي على حرمة اللّهو، ولو أن التحقيق والتدقيق قاد محققاً آخر إلى ما يخالف المختار، كان موكداً لضرورة المزيد من التدقيق والتحقيق، فتدبر.
وبشكل عام فإن منهج التحقيق والتدقيق الموسع هام جداً لجهتين: جهة الموضوعية وجهة الطريقية:
أما الجهة الموضوعية: فلأن معرفة حدود الحكم الشرعي هي مسؤولية الفقيه المستنبط للحكم الشرعي، ومع عدم الاستيعاب واستفراغ الوسع في تنقيحه فإنه قد لا يعذر الفقيه لو لم يصل لحكم اللّه تعالى، كما أنه متجري إن وصل، فتأمل(1).
أما الجهة الطريقية: فلأن التعود والتمرين على التحقيق المستوعب في كل مسألة يُنمي الملكة ويزيد المقدرة على الاستنباط والاجتهاد عند مواجهة أية مسألة مستحدثة أو أية مسألة معقدة تعترض طريق الفقيه الباحث، بل حتى لدى بحث مطلق المسائل.
والحاصل: إن التناول السريع للمسائل وإن نفع في الكثرة الكمية إلا أنه قد
ص: 47
يكون ضاراً بالجهة الكيفية، على أن لكلٍّ وجهاً .
ويؤكد ما ذكر: أن الطالب ليس بمقدوره أن يستوعب دراسة كافة أبواب الفقه في درس الخارج؛ فإن ذلك يستغرق سنين طوال طوال(1)، فليس له إلا أن يحصل على قوة الملكة وعلى الآلية الأكثر قوة وإتقاناً للاستنباط، خلال عشرة أعوام(2) مثلاً، ليكون بعدها مسلحاً بملكة تُمكّنه من معالجة كل أو أكثر المسائل الفقهية أو الكلامية التي تعترض طريقه، خاصة مع لحاظ كثرة المسائل المستحدثة الاقتصادية والعلمية والفكرية والحقوقية والسياسية والإدارية و... في هذا الزمن، ومع لحاظ كثرة الشبهات المستجدة والأفكار(3)
المطروحة والتي لا يقوم لبعضها(4) إلا ذو ملكة إجتهادية قوية راسخة.
ثم إن التحقيق يسوقنا إلى أن عنوان اللّهوية قد يكون دائراً مدار القصد وقد لا يكون، بل يكون لهواً وإن قصد الخلاف، فكيف بما إذا لم يقصد شيئاً، أو لا يكون لهواً وإن قصده، فرؤوس الصور ثلاثة:
الأولى: ما صدق عليه عنوان اللّهو وإن لم يقصده بل وإن قصد خلافه، وذلك مثل: الغناء والرقص والشطرنج، فإنها لهو وإن قصد منها أغراضاً أخرى شخصية أو نوعية عقلائية، كما لو قصد من الغناء جمع الأموال للفقراء مثلاً،
ص: 48
أو قصد من الرقص الرياضة، أو قصد من اللعب بالشطرنج كسر شوكة الظالم - وهو طرفه الذي يلعب معه فرضاً -، فإن كل تلك القصود لا تخرج الغناء والشطرنجونظائرها عن صدق كونها (لهواً) وذلك لأحد الوجوه التالية:
أ: إما لدعوى كون اللّهوية هو مقتضى ذاتها وطبعها، بأن يقال: إن اللّهوية ذاتية لها، فلا يعقل انفكاكها بالعناوين الطارئة.
ب: أو لدعوى أن اللّهو موضوع لما من شأنه اللّهوية، والفعلية غير مشترطة فيه(1).
ج: أو للقول بأنها لهو حسب ارتكاز المتشرعة؛ حتى في مثل هذه الصور - وإن لم تكن اللّهوية ذاتية لها ولا كانت لهواً عرفاً حينئذٍ فرضاً -، وهذا الارتكاز كاشف عن تصرف الشارع في اللّهو بتوسعته إلى مثل هذه الصور بوضع تعييني أو تعيني.
د: أو لأن ظهور الفعل في أمثالها غالب على ظهور القصد، كما في ما طرحناه في بعض البحوث من مثال السجود أمام الملك؛ فإنه تعظيم وعبادة عرفاً وإن لم يقصد التعظيم بل قصد غيره(2).
نعم، هنالك ما هو لهو اقتضاءً مع صلاحية النية لجعله غير ذلك، وذلك كبناء بيت من الرمال على شاطئ البحر؛ فإنه لهو سواءً قصد اللّهوية أو لا، دون ما إذا قصد المضادَّ كما لو قصد التمرن على الهندسة والبناء، فإنه ليس بلهو حينئذٍ.
الثانية: ما كان صدق عنوان اللّهو عليه وعدمه بالقصد، أي ما لم يكن بحسب طبعه الأولي لهواً ولا جداً، بل كان بالقصد والوجوه والإعتبارات،
ص: 49
وذلك مثل التمثيلية والأعمال المسرحية؛ فإنها تكون لهواً أو لا تكون على حسب القصد والهدف والغاية منها(1)، وكذلك (الرسم) أيضاً.
نعم، قد تتزاحم مادةُ ما رَسَمَهُ أو مثّله مع ما قصده، وذلك عنوان آخر.
الثالثة: ما لا يصدق عنوان اللّهو وإن قصده وتلذذ به، وذلك كما لو كان يتلذذ بتدريس الفيزياء والكيمياء أو الفلسفة حتى شهوياً، كما لو كان يدرسها لزوجته أو خطيبته المعقود عليها ملتذاً بذلك جنسياً قاصداً ذلك الالتذاذ أيضاً، فإن هذا القصد وذاك الالتذاذ لا يخرجانهذا التدريس عن عنوانه إلى عنوان اللّهو، وكذلك ما لو كان يلتذ من إجراء العمليات الجراحية أو من قتال العدو أو شبه ذلك.
الثمرة: أدلة حرمة اللّهو - على القول بإطلاقها - تشمل الصورة الأولى حتى لو قصد منها أمراً عقلائياً، ولا تشمل الصورة الثالثة حتى لو قصد الالتذاذ الشهوي، وهي دائرة مدار القصد في الصورة الثانية.
لقد ظهر من مجمل ما مضى أمور:
الأول: أن اللّهو أعم(2) من كونه عن بطر - أي فرح شديد -، خلافاً للشيخ(رحمه اللّه) في مكاسبه.
الثاني: أنه أعم من كونه عن لذة جنسية بل عن اللذة الشهوية مطلقاً، كما لو غنَّى أو رقص ليحصل على الأجرة لا للالتذاذ بذلك أبداً، بل حتى مع كراهته له.
ص: 50
الثالث: أن اللّهو بمعنى فعل النفس، وهو الذي فسره به المحقق الإيرواني (رحمه اللّه) لا قائل بحرمته أبداً، وذلك يُعدّ من وجوه الرد على الإيرواني(رحمه اللّه) إذ فسر اللّهو بذلك؛ نظراً لكون حرمة اللّهو في الجملة مجمعاً عليها، بل هي من ضروريات الإسلام دون اللّهو بالمعنى الذي فسره.
الرابع: أن اللّهو بمعنى مطلق اللعب، كما فسره به الصحاح والقاموس وذهب إليه السيد الوالد (رحمه اللّه)، ليس بمحرم بل لا قائل بحرمته إلا ما ذهب إليه المحقق الحلي(رحمه اللّه) في المعتبر، قال: (قال علماؤنا: اللاهي بسفره كالمتنزه بصيده بطراً، لا يترخص في صلاته ولا في صومه ... أن اللّهو حرام، فالسفر له معصية)(1)، فتأمل.
الخامس: أن اللّهو بمعنى الجوهر كالطبل والمرأة والولد، لا قائل بحرمته بهذا العنوان، بل خصوص ما إذا صدق عليه عنوان(آلة اللّهو).
ص: 51
ص: 52
على حرمة مطلق اللّهو والمناقشات
ص: 53
ص: 54
استدل الشيخ(رحمه اللّه) على حرمة اللّهو بالروايات وتبعه الموافق والمخالف قبولاً أو ردّاً، لكن الأولى الاستدلال أولاً بالآيات الشريفة سواءً أقبلنا دلالتها أم لا، فإنها كالروايات، فمنهم من قبل الدلالة كالشيخ (رحمه اللّه) ومنهم - وهم الأكثر - من رفضها، وهذه بعض الآيات:
الآية الأولى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا)
الآية الأولى: قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(1).
أقول: لا شك في أن الآية الشريفة بصدد ذم الذين إذا رأوا لهواً انفضوا إليه وتركوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائماً، لكن الاستدلال بهذه الآية يتوقف أولاً على كونها صغرى قاعدة الملازمة، وإلا فلا يتم الاستدلال بها، وبيان ذلك يتم في ضمن رسم أمور ذكرنا اكثرها بتفصيل اوسع في كتاب حرمة الكذب ومستثنياته ونشير ههنا الى ذلك بشيء من الاجمال:
الأمر الأول: إن قاعدة الملازمة هي (كلما حكم به العقل حكم به الشرع)، ومرجع الضميرين في (به) على حسب تصريح بعضهم(2) والمستفاد من
ص: 55
بعضهم الآخر هو (كلما حكم بقبحه العقل حكم بحرمته الشرع) أو (كلما حكم بالمذمة عليه العقل حكم بحرمته الشرع)، فلو التزمنا بهذه الكبرى الكلية، كما التزم بها الكثيرون ولعله المشهور خلافاً للمنصور، فتُضم إلى الآية الشريفة التي يستفاد منها الصغرى فيقال: إن الانفضاض إلى اللّهو قبيح أو مذموم - بحكم الآية - وكلما حكم بقبحه أو المذمة عليه العقل، حكم بحرمته الشرع - قاعدةالملازمة - فهو حرام.
لكن تمامية الاستدلال موقوف على أمر آخر وهو: أن ذم الشارع أو تقبيحه كاشف عن ذم العقل أو تقبيحه لتتم الصغرى، وإلا لم تكن هذه الصغرى، صغرى كبرى قاعدة الملازمة(1)، إلا أن إثبات ذلك سهل نظراً لالتزام العدلية بتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وكذلك تبعية مناشئ الأحكام (كالقبح) وملزوماتها أو لوازمها (كالذم) لجهات واقعية كشف عنها الشارع؛ فلا ريب - على هذا - بحكم العقل بقبحها أو الذم عليها لو اطلع عليها، ويكفيه الشارع مرآةً كاشفةً.
والحاصل: أن حاصل مجموع القياسين يكون هكذا:
- الانفضاض إلى اللّهو قبيح، بحكم الشرع استناداً للآية.
- وكل قبيح شرعاً قبيح عقلاً - وهي قاعدة الملازمة الثانية غير المعروفة -.
- وكل قبيح عقلاً محرم شرعاً - وهي قاعدة الملازمة الأولى المعروفة -.
- فالانفضاض إلى اللّهو محرم شرعاً.
لكن المبنى محل تأمل عندنا؛ إذ ذهبنا إلى أن الملازمة إنما هي واقعة بين الحرمتين
ص: 56
أو الذمين أو القبحين لا بين القبيح والحرمة(1)؛ وذلك نظراً لوجود درجات للقبح لا تلزمها الحرمة بأجمعها بل بعضها فقط، ويدلك على هذا أن المكروه قبيح بل وكذا ترك الأولى لكنه ليس بحرام، ودعوى: أن كل قبيح عقلي فهو بدرجة الحرمة، بلا دليل، بل الدليل على خلافها(2).
وعلى أيٍ فإن الاستدلال تام على مبنى المشهور في قاعدةالملازمة إلا أن يوجّه كلامهم - أو بعضهم - بإرجاعه إلى ما ذكرناه فتأمل.
الأمر الثاني: إن عدداً من الأعلام كالميرزا النائيني (رحمه اللّه) خص قاعدة الملازمة بما إذا كانت في سلسلة العلل(3) لا بما إذا كانت في سلسلة معاليلها(4)، خلافاً لمثل السيد الوالد (رحمه اللّه)، والمنصور التعميم للسلسلتين لكن بين الحرمتين أو القبحين من الطرفين، لا فرق.
توضيحه: إن الأحكام كالوجوب والحرمة - وهي أمور إنشائية وإعتبارات موجَدة(5) - لها علل هي المصالح والمفاسد، ثم بعد أن أنشأت تتولد منها معاليل وأحكام.
فمثلاً: حرمة ضرب اليتيم حكمٌ، وعلته هي أنه ظلم، ومعلوله وجوب إطاعته وامتثاله، إذ حيث حرم وجب الانزجار؛ فوجوب الانزجار واقع في
ص: 57
سلسلة معاليلِ لا تضرب اليتيم، فإنه متولّد عنها، أما الظلم فإنه علة لإنشاء وجعل حرمة ضربه.
وقد استثنوا سلسلة المعاليل؛ لدعوى لزوم التسلسل أو اللغوية أو غيرها من حكم الشرع بها على طبق حكم العقل، وقد أجبنا عن ذلك كله في (الأوامر) و(فقه التعاون)(1).
وعلى أية حال فإن (اللّهو) واقع في سلسلة علل الأحكام؛ فإنه سبب تحريم الغناء أو الرقص أو الشطرنج، فهو مورد قاعدة الملازمة دون كلام - حتى على مبناهم -.
وسيأتي بعد قليل - بإذن اللّه تعالى - تتميم للبحث عن قاعدة الملازمة ومزيد توضيح .
الأمر الثالث: إن مناشئ حكم العقل بالقبح أربعة:
الأول: القبح الذاتي بحسب اقتضاء ذات الشيء.
الثاني: كونه مفوِّتاً لغرض المولى.
الثالث: كونه مستلزماً للضرر.
الرابع: كونه كفران النعمة.
وكل هذه الأربعة مجتمعة في (اللّهو).
إذ: إن العقل يدرك - أو يحكم - بقبحه ذاتاً فإنه عبث وتضييع للطاقات
ص: 58
والأوقات والعمر.
كما إنه مفوِّت لغرض المولى من الخلقة، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(1) و(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(2).
وأما كونه مستلزماً للضرر فلما ثبت في مباحثِ كلٍّ منها من: أن الشطرنج مضر بخلايا المخ وأن الغناء مضر بالأعصاب... وهكذا مما يوكل تفصيله لمحله، على أن الضرر المحتمل في المقام أخروي - إضافة للدنيوي - والأخروي أدنى ضرر منه هو أبلغ من كل ضررٍ بالغٍ، واحتمال الضرر والخطر في الشؤون الخطيرة منجز، فتأمل(3).
كما أن اللّهو نوع كفران نعمة؛ إذ بدل أن يشكر اللّه تعالى بالقول والفعل والعبادة والخدمة والعمل الصالح ليل نهار على نعمه اللامتناهية، كيف ينصرف إلى اللّهو(4) هذا ؟!
لكن مع ذلك كله، وحتى مع قبول كون المقام صغرى القاعدةوقبول الملازمة بين القبح والحرمة، فإن الظاهر أن الاستدلال بالآية غير تام لوجهين:
الأول: إن الظاهر أن الذم هو على (وَتَرَكُوكَ قَائِماً) فقط أو على مجموع (انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً) فلا تصح دعوى: أن اللّهو مذموم لو انفرد،
ص: 59
ويؤكده حال التجارة؛ فإنها ليست مذمومة لو انفردت، إنما الذم على المجموع أو على تركه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائماً.
والحاصل: إن الذم على المركب من أجزاء لا يستلزم الذم على آحادها لو انفردت.
سلمنا، لكن لا أقل من الاحتمال الموجب للإجمال فسقوط الاستدلال، فتدبر.
الثاني: إن النهي لو كان(1) فهو إرشادي تنزيهي وليس مولوياً تحريمياً؛ وذلك بقرينة (خير) الظاهرة في أن ذلك للإرشاد إلى مصلحتهم ويؤكدها قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الصريحة في أن الرزق عند اللّه، فلو التزمتم بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتركتم التجارة لحصلتم على الرزق الأحسن.
ولذلك قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه المكاسب المحرمة: (وقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا) ومن الواضح: أنه لو كان حراماً أنكره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بالإضافة إلى السياق، وإنما كان الإنكار عليهم من جهة تركهم له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائماً في الخطبة، مضافاً إلى دلالة (خير) على الجواز)(2).
ولكن قد يورد عليه: أنه مع إنكار الآية لا ضرورة لإنكار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأنه لعله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنكر ولم يصل إلينا، ولا يقال: لو كان لَبان، وذلك للاكتفاء بإنكار الآية، فلا تتوفر الدواعي لإنكاره أو لنقل إنكاره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، وإن السياق - بكون اللّهو بعد التجارة - ليس من الأدلة؛ لوضوح أن بناء الروايات(3) على ضم الواجب إلى المستحب والحرام للمكروه وسوقها بعصا واحدة، اللّهم إلا أن
ص: 60
يقصد بذلك التأييد، فتأمل.
نعم، جوابه الآخر تام كما سبق.
سبق الخلاف في جريان قاعدة الملازمة في خصوص الأحكام العقلية التي كانت في سلسلة علل الأحكام الشرعية، أو أعميتها مما وقع في سلسلة معاليلها أيضاً.
ولتنقيح أطراف المطلب أكثر، وتشخيص موضع الأخذ والرد والنقاش نقول:
ذهب الميرزا النائيني(رحمه اللّه) وآخرون إلى: أن الأحكام العقلية إنما تستتبعها الأحكام الشرعية إذا كانت من باب التحسين والتقبيح العقليين، وهما من سلسلة علل الأحكام لكون التحسين والتقبيح(1) هما مناطات الأحكام، وهما تابعان للمصالح والمفاسد الواقعية في المتعلقات فإنها الملاك، دون ما لو كانت الأحكام العقلية في باب الإطاعة والمعصية وما يستتبعهما من الثواب والعقاب؛ فإنها سلسلة معاليل الأحكام.
والحاصل: إن (الحكم الشرعي) له علة واقعية اقتضت جعله وتشريعه وهي حسنه أو قبحه الذاتي أو بالعرض أو كونه صنفاً من أصناف كليٍّ حسنٍ أو قبيح في متن الواقع وبنظر العقل اجمالاً أو تفصيلاً، ثم بعد صدوره يحكم العقل بوجوب إطاعته وحرمة معصيته - وهما من سلسلة معاليل الحكم - لكن لا تلازم بين حكم العقل بوجوب إطاعة هذا الأمر الشرعي وحكم الشرع بوجوب إطاعته، فإن الشرع - حسب كلام الميرزا(رحمه اللّه) - لا يعقل أن يأمر أو ينهى مولوياً بما
ص: 61
حكم به العقل بعد صدور الحكم الشرعي ومتفرعاً على صدوره، وذلك للزوم التسلسل؛ فإن الشارع إذا قال (صلِ) وجبت إطاعته، فإذا قال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) فإن متعلقه - أي متعلق أطيعوا - هو فيما أمركم به من الصلاة والصوم وغيرهما، فلو كان أمر أطيعوا مولوياً - كأمر صلوا - للزم التسلسل؛إذ احتاج إلى أمر آخر يتعلق بأطيعوا، أي (أطيعوا، أطيعوا) وهكذا ... فأمر أطيعوا لا محالة إرشادي، وأمر (صلوا) هو المولوي فقط(2).
إن قاعدة الملازمة يمكن أن تطرح على ثلاثة مستويات، بل هي ثلاثة أقوال:
القول الأول: الملازمة بين القبح العقلي للفعل وحرمته الشرعية، أو بين الحسن العقلي ووجوبه الشرعي، وهذا هو ظاهر الميرزا النائيني(رحمه اللّه) في فوائد الأصول وغيره.
ولكنه ينقض ب-: حسن الإحسان وغيره، فإنه حسن عقلاً قطعاً لكنه ليس بواجب عقلاً، فكيف بوجوبه شرعاً ؟!
نعم، استدل السيد الوالد (رحمه اللّه)على وجوب الإحسان في الجملة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(3)، فإنه متعلَّق مادة الأمر لكنه مخالف للمشهور جداً، ولعله ذهب إليه صناعةً دون أن يلتزم به فتوى، وعلى أيٍ فلو قيل بوجوبه فإنه لهذا الدليل الشرعي أو نظائره، لا لقاعدة الملازمة، وإنه لكونه
ص: 62
حسناً عقلاً فهو واجب شرعاً.
القول الثاني: الملازمة بين الذم العقلي والحرمة الشرعية؛ أي بين استحقاق العبد للمذمة عقلاً، وبين استحقاقه للعقاب شرعاً الكاشف عن الحرمة الشرعية، وهو ظاهر الشيخ (رحمه اللّه) في بعض مواضع الرسائل، حيث قال في بحث التجري: (ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجري؛ فإنه لكشف ما تجرأ به عن خبث الفاعل، لا على كون الفعل مبغوضاً للمولى... لأن استحقاق المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقها على نفس الفعل، ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلق بالفعل لا بالفاعل)(1)، فبينما قرر الشيخ (رحمه اللّه) قاعدة الملازمة عندماتطرق لكلامهم على مصب (قبح التجري)، تجده يعدل في جوابه بجعلها على مصب (استحقاق الذم عليه) وتجده يصرح ب-قوله: (ومن المعلوم أن الحكم العقلي...).
والثمرة بين القولين تظهر فيما لو قلنا: إن القبح أعم من استحقاق الذم، وإنه ليس كل قبيح فهو مما يستحق عليه فاعله الذم.
وأما لو قلنا بالتلازم فلا ثمرة عملية، وإنما هو تدقيق فني لمعرفة ما هو موضوع حكم العقل بالملازمة؛ وأنه القبح أو استحقاق الذم، فإنه حتى لو فرض تلازمهما لكن استتباع حكم الشرع هل هو لقبحه أو لاستحقاقه الذم؟ ويتضح ذلك أكثر بما لو فرض إمكان التفكيك، فعلى أيهما تدور قاعدة الملازمة عندئذٍ؟
لكن ينقض هذا القول ب: أن (البطّالية) - مثلاً - قبيحة عقلاً، بل ويستحق فاعلها عليها الذم، لكنها ليست بمحرمة شرعاً.
والحل: بأن القبح درجات وكذا استحقاق الذم على مراتب، وليست كلها ملزومة للحرمة، فتدبر.
ص: 63
القول الثالث: إن الملازمة هي بين القبح العقلي والقبح الشرعي، وبين الذم العقلي والذم الشرعي، وبين الحرمة العقلية والحرمة الشرعية؛ فكلما حكم به (أي بحرمته) العقل حكم بحرمته الشرع؛ وكلما حكم به (أي بقبحه) العقل حكم بقبحه الشرع، وهذا هو المختار كما فصلناه في مظانه.
وأما (اللّهو) فإنه واقع في سلسلة علل الحكم بحرمة الغناء أو الشطرنج أو الرقص وما أشبه، فإن قلنا بالقول الأول أو الثاني فهو حرام شرعاً لقاعدة الملازمة، وذلك لمسلّمية قبحه عقلاً بل واستحقاق المذمة عليه أيضاً(1)، فتصلح(2) الآية الكريمة: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُالرَّازِقِينَ) للاستدلال بها على حرمة اللّهو من هذه الجهة، وإن قلنا بالقول الثالث فلا؛ إذ المسلّم حكم العقل بقبح اللّهو واستحقاق المذمة عليه، وأما حكمه بحرمته كي يلزم منه حكم الشارع بحرمته فلا.
ص: 64
أولاً: لا ريب في أن الضرر الدنيوي واقع في سلسلة علل الأحكام، فإنه من المفاسد الواقعية التي لأجلها جرى تحريم المحرمات كالخمر والميسر وأكل الميتة والحشرات وغيرها، بل إنه أقوى من العديد من المصالح الواقعية التي دعت إلى إيجاب أحكام كثيرة، ولذا كان حاكماً عليها(1).
لكن ما حال (الضرر الأخروي)؟ فهل هو واقع في سلسلة علل الأحكام، أو هو واقع في سلسلة معاليلها؟ فهل هو علة الحكم بحرمة كذا، أو هو معلول له؟
ثانياًً: إن (التشريع) قبيح، فإنه يدخل في سلطان اللّه تعالى وتصرف فيه؛ فإن التشريع بيده تعالى وحده، ولمن فوض إليه بعضه كالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والائمة الطاهرين (عليهم السلام) على حسب الروايات، إضافة إلى أن المشرّع لا بد أن يكون محيطاً بجهات المصالح والمفاسد كلها وتزاحماتها الحالية والمستقبلية على الفرد وعلى المجتمع.. إلخ، ولا محيط بكل ذلك إلا اللّه تعالى، وإلا من منحهم العلم بكافة جهات التشريع.
ص: 65
لكن هل قبح التشريع واقع في سلسلة العلل أم في سلسلة المعاليل؟ فليتدبر(1).
الآية الثانية: قوله تعالى: ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
الآية الثانية: قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)(2).
ص: 66
والاستدلال بالآية غير متوقف على ضميمة قاعدة الملازمة؛ وذلك لظهورها في الحرمة بل صراحتها؛ إذ رتبت العذاب المهين على من اشترى لهو الحديث.
لكن قد يورد على الاستدلال بها أمور:
أولاً: إن الآية خاصة باشتراء اللّهو - كاشتراء الأغاني أو أشرطتها أو المغنية كي تغني -، ولا تعم غير الشراء كاللعب بالشطرنج أو الرقص، فالاستدلال بها استدلال بالأخص على الأعم.
لكن سبق في بعض المباحث المتقدمة(1) أن الاشتراء كناية عن مطلق التعاطي، ولا يراد به خصوص ما يقابل البيع أو الصلح أو الاستئجار أو غير ذلك، فتأمل(2).
ثانياً: إن الآية خاصة ب-(لهو الحديث) فلا تعم لهو الفعل، والرقص لهو الفعل وليس لهو الحديث، وكذا الشطرنج ونظائره، وكذا مطلق الأعمال اللّهوية الشهوانية غير المحللة.
وقد يجاب ب-: تنقيح المناط ولو بمعونة استدلال الإمام (عليه السلام) على حرمة الغناء بهذه الآية، مع أن الغناء ليس حديثاً، بل هو كيفية للصوت فليس بلهو الحديث، بل لهو الأصوات، فتأمل(3).
وعلى أيٍ فالظاهر أن المناط مظنون وليس قطعياً فلا تصح التعدية.
ص: 67
ثالثاً: إن الآية لا دلالة لها على حرمة التعاطي بلهو الحديث، إلا إذا وقع مقدمة للإضلال عن سبيل اللّه أو الاستهزاء بآيات اللّه، فإن ظاهر اللام في (ليضل) هي لام التعليل(1)، فلا تدل على حرمة اللّهو إلا إذا وقع مقدمة للإضلال و(أو) الاستهزاء بآيات اللّه(2)، وهذا أجنبي عن المدعى؛ إذ المدعى والمطلوب هو إثبات حرمة اللّهو بعنوانه وبما هو هو، لا فيما إذا وقع مقدمة للحرام القطعي (الإضلال والاستهزاء)، فإن كل ما وقع مقدمة للإضلال حرام بلا ريب عقلاً، أو عقلاً وشرعاً.
والحاصل: إن العذاب المهين رتب على من (يشتري لهو الحديثليضل عن سبيل اللّه)، لا على مطلق من يشتري لهو الحديث، وإن لم يكن للإضلال عن سبيله، والعلة معممة ومخصصة، وعليه فمن اشترى لهو الحديث لا ليضل عن سبيل اللّه ولم يترتب عليه الإضلال(3)، فلا دلالة للآية على حرمته.
لا يقال: هي حكمة وليست علة.
إذ يقال: أولاًً: الأصل في ما ذكر في لسان الشارع كعلة أنه علة وليست حكمة، أي: الأصل فيما ظاهره العلية عرفاً أنه علة واقعاً وشرعاً، هذا على المشهور، وأما على المنصور من انقلاب هذا الأصل في علل الشارع وكونها حِكَماً غالباً، فلنا الانتقال للجواب الثاني وهو:
وثانياً: إن مادة ليضل عن سبيل اللّه والاستهزاء بآيات اللّه لا يمكن إلا أن
ص: 68
تكون علة، فخصوصية المادة دعت إلى الإذعان بكونها علة، لا الأصل فيما ظاهره التعليل.
وهناك آيات أخرى قد يستدل بها على حرمة اللّهو فإنه:
قد يستدل على حرمة مطلق اللّهو بقوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)(1).
لكن الاستدلال بها ضعيف؛ إذ يرد عليه:
أولاًً: إن ظاهر الآية مدحهم على هذه الصفة (إنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه)، والمدح على الاتصاف بصفة أعم من وجوبها، فلا تدل على وجوب عدم الالتهاء ولا على حرمة التجارة واللّهو.
ثانياًً: إن ظاهر الآية أنها من مادة اللّهي - لا اللّهو -، وهو خارج عن محل الكلام.
ثالثاًً: سياق (تِجَارَةٌ) و(يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُوَالأَبْصَارُ)(2)، وفيه: عدم حجية السياق، وأن غاية ما يفيده هو التأييد إضافة إلى أن (التجارة) متعلَّق وليس سياقاً.
وعلى أيٍّ فإن إلهاء التجارة والبيع إن كان عن ذكر اللّه المستحب فليس بحرام، أو عن ذكر اللّه الواجب فحرام(3) مقدمي، وعليه فهو أجنبي
ص: 69
عن جهة البحث(1).
وقد يستدل ب-(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)(2).
والجواب: إن غاية ما يدل عليه: أن اللّهو ليس من شأنه تعالى أو أنه قبيح عليه، وأين هذا من حرمة اللّهو علينا؟!
وقد يستدل ب- : (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ)(3).
والجواب عنه: أولاً: إنه قد يستظهر أن (ألهاكم) مأخوذة هنا من مادة اللّهي - لا اللّهو - أي ألهاكم التكاثر عن طاعة اللّه وذِكره، وليس المعنى: التكاثر لهو، فأين هي من الدلالة على حرمة اللّهو الالتذاذي بالتكاثر؟ سلمنا، لكنه مجمل مردد بينهما فلا يصلح دليلاً على حرمة اللّهو.
ثانياً: قد يقال إن الإلهاء والالتهاء - في الآية الكريمة - هو بمعنى الاحتجاب القلبي الكامل عن ذكر اللّه، وهو المحرم وأنه هو المراد من الآية الشريفة - وذلك هو ما ذهب إليه المحقق الإيرواني(رحمه اللّه)في معنى اللّهو - (4) وليس مطلق الالتهاء عن
ص: 70
ذكر اللّه، ويدلُّ على ذلك بداهة عدم حرمة مطلق الالتهاء عن ذكر اللّه، ألا ترى التاجر والمدرس والنجار والمزارع وغيرهم في غالب حالات انشغالهم بأعمالهم إلا القليل منهم، غافل وملتهٍ عن ذكر اللّه، ولم يذهب أحد إلى حرمة ذلك؟.
نعم، في خصوص الالتهاء الكامل عن ذكره تعالى حتى يكون كأنه مستخِفٌّ بشأنه جل اسمه أو مهمل له بالمرة، أفتى عدد من الأعلام بحرمته. والحاصل: أن الآية لو دلت على الحرمة فإنها تدل على حرمة صنف خاص من الالتهاء دون مطلقه، فتأمل.
ثالثاً: إنه قد يراد به (ألهاكم التكاثر المحرم) وهو ظاهر الحديث الذي رواه تفسير الصافي(1) (وفي روضة الواعظين: عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدل على المعنى الثاني، قال: إنه قرأ (ألهاكم التكاثر) فقال: تكاثر الأموال جمعها من غير حقها ومنعها من حقها وشدها في الأوعية، (حتى زرتم المقابر) حتى دخلتم قبوركم) فحاصل المعنى على هذا: ألهاكم التكاثر المحرم.
والحاصل: أنه لا يعلم كون المراد من (ألهاكم) مطلق الالتهاء عن.. أو الالتهاء به، بل قد يستظهر: إما كون المراد به (الالتهاء عن الطاعة الواجبة) فحرمته مقدمية، أو الالتهاء الكامل الشامل المساوق لاحتجاب القلب وكونه في غمرة كاملة، فهذا أخص من المدعى جداً(2). أو ألهاكم التكاثر المحرم(3).
ص: 71
وقد يستدل بقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(1).
وفي هذه الآية لا نحتاج إلى ضميمة قاعدة الملازمة لظهور (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في كون هؤلاء القوم باتصافهم ب-(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) من الظالمين، والظلم حرام عقلاً وشرعاً دون شك.
والجواب عنه: أولاًً: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حالٌ فقد يكون العقاب على المجموع منه(2) ومن (يلعبون)(3)، أي: لعب الجوارح المنضم إلى لهو القلوب، لا على أحدهما لو أنفرد.
ثانياًً: إن الظاهر(4) أن العقوبة مرتبة على إعراضهم عن الذكر المحدث الذي يأتيهم من ربهم المساوق للإنكار، لا مطلق لهو القلب حتى إذا كان مع لعب الجوارح، إذا لم يكن إنكاراً أو استخفافاً بل كان لمجرد الانشغال عن ذكر اللّه التذاذاً بالقسيم أو كسلاً عن الذكر، ويرشد إلى ما ذكرنا الإجماع على عدم حرمة لهو القلب إذا لم يصحبه الإنكار والتكذيب، فتدبر.
ص: 72
على حرمة مطلق اللّهو والمناقشات
ص: 73
ص: 74
هنالك طوائف من الروايات قد استدل بها الشيخ (رحمه اللّه) على حرمة اللّهو، - وإن لم يصنفها تحت عنوان الطوائف -، والطوائف هي:
الطائفة الأولى: ما دلت على حرمة ما يكون من اللّهو وفيه الفساد محضاً.
الطائفة الثانية: ما دلت على أن الملاهي من الكبائر، كخبر الأعمش والفضل بن شاذان.
الطائفة الثالثة: ما دل على أن كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر، كخبر عبد اللّه بن علي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر»(1).
الطائفة الرابعة: ما دل على عدم القصر في سفر اللّهو.
الطائفة الخامسة: ما دل على حرمة ما كان في حيز الباطل واللّهو.
الطائفة السادسة: ما دل على حرمة اللّهو بقول مطلق.
الطائفة السابعة: ما دل على أن اللّهو من الباطل والباطل حرام.
الطائفة الثامنة: ما يستفاد منها حرمة المسابقة، والوجه كونها لهواً.
وسيأتي - بإذن اللّه تعالى - بحثها تباعاً:
ص: 75
استدل الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب بروايات عديدة على حرمة اللّهو؛ منها: رواية تحف العقول، حيث قال: (والأخبار الظاهرة فيحرمة اللّهو كثيرة جداً، منها: ما تقدّم من قوله في رواية تحف العقول: «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأُجرة عليه»(1))(2)،
وهذه هي الكبرى.
والصغرى: أن اللّهو كذلك؛ إذ إنه منه وفيه الفساد محضاً، وليس فيه وجه من وجوه الصلاح.
ولكن قد يورد على الاستدلال برواية تحف العقول:
أولاًً: الإشكال على سند الرواية وعلى تحف العقول بشكل عام، وقد مضى البحث عنه في مبحث آخر بالتفصيل، فليلاحظ.
ثانياًً: اضطراب المتن، فإن المتن المستشهد به مضطرب؛ نظراً لأن المذكور في الرواية ضابطان متعارضان في الجملة - أي في بعض الموارد -، والضابطان هما: (ما يكون منه وفيه الفساد محضاً) و(لا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح)؛ إذ يتهافتان فيما لم يكن فيه شيء من وجوه الصلاح ولم يكن فيه شيء من وجوه الفساد، فإنه يكون حراماً حسب الضابط الثاني في الرواية ومحللاً حسب الضابط الأول.
ص: 76
لكن هذا الإشكال يمكن أن يجاب عنه بوجوه(1):
الوجه الأول: إن الإمام (عليه السلام) يشير إلى الضابط الجامع المانع للحرمة وأنه ما اجتمع فيه الأمران (وجود المفسدة وعدم وجود المصلحة)، فإن مجموع ذلك هو سبب الحرمة دون الأول وحده؛ إذ الحكم لا يترتب على صِرف وجود المقتضي، بل أنه متوقف علىانتفاء المزاحِم أيضاً(2)،
فصِرف كونه ذا مفسدة ليس علةً للتحريم، إلا لو لم تكن في مقابله مصلحة مزاحِمة أقوى أو مساوية أو حتى أضعف، لكن لا بدرجة بالغة. فلاحظ قوله (عليه السلام): «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح».
توضيحه: إنه إن قابلت المفسدةَ مصلحةٌ أقوى بالغة وجب الفعل، وإن زاحمتها مصلحة مساوية كان مباحاً مخيراً فيه، وإن زاحمتها مصلحة أقوى غير بالغة استحب، أما لو كانت المفسدة أقوى بدرجة ضعيفة كان مكروهاً، وإن كانت أقوى بدرجة عليا بالغة كان العمل حراماً، فالصور خمسة.
والحاصل: إن الإمام (عليه السلام) لو اقتصر على الضابط الأول لترتب عليه الحكم بالحرمة، حتى مع وجود المصلحة المزاحمة لكنه ذكرهما معاً مما يعني أن الحكم بالحرمة لا يتفرع على صِرف وجود المفسدة، بل على وجودها وعدم وجود المزاحم وهو المصلحة.
وبعبارة أخرى: إن الإمام في مقام الفتوى بإعطاء الضابط النهائي(3)،
ص: 77
وليس في مقام التعليم بذكر مقتضٍ، وإحالة بقية ما له مدخلية في الحكم إلى مجلس الدرس الثاني مثلاً(1).
الوجه الثاني: إن التعارض المتوهم بين ما قيل أنهما ضابطان - وهما (ما يكون منه وفيه الفساد محضاً) و(ما لا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح) - إنما هو فيما لم يكن في الشيء فساد محض ولا كان فيه شيء من وجوه الصلاح(2)، فحينئذٍ يقع التعارض بين الضابطين؛ إذ مقتضى الضابط الأول عدم حرمته إذ لا فساد فيه، ومقتضى الثاني حرمته إذ لا صلاح فيه.
وحينئذٍ نقول: إن المفهوم لا يعارض المنطوق، وفي المقام فإنمنطوق الضابط الثاني هو الحرمة؛ إذ لا وجه من وجوه الصلاح فيه، فلا يعارضه مفهوم الضابط الأول وهو أنه حيث لا فساد فيه فهو حلال.
كما أن التعارض يقع في عكس الصورة السابقة(3)، والكلام الكلام.
الوجه الثالث: الالتزام بأن عدم الصلاح فساد وعدم المصلحة مفسدة، بدعوى: كونهما ضدين لا ثالث لهما، فعدم أحدهما (المصلحة) ملازم لوجود الآخر (المفسدة)، نظير ما ذكره البعض في قاعدة لا ضرر من أن عدم النفع ضرر.
والحاصل: أن النفع والضرر والربح والخسارة والمصلحة والمفسدة أضداد
ص: 78
لا ثالث لها، فيلزم من عدم أحدهما (عدم المصلحة) وجود الضد الآخر (أي المفسدة)، فيكون عطف الإمام (عليه السلام) تفسيرياً(1).
لا يقال: ينقض بالتاجر الذي لم يربح؛ فإنه ليس بخاسر، وبمن لم ينتفع من علمه فإنه ليس بمتضرر بصِرف عدم الانتفاع.
إذ يقال: بل التاجر غير الرابح خاسر؛ إذ ليس الملاك الثبوتي للربح والخسارة هو المال فقط، بل مجموع المال وما خسره من عمره من دون أن يعود عليه بشيء، بل وما خسره من إعتباره فإن من لا يربح يقل إعتماد الناس عليه؛ وكذا من صرف عمره في العلم ثم لم ينتفع به فإنه متضرر، إذ خسر عمره - وهو أثمن من كل شيء - ولم يعوِّض خسارة العمر بربح يجبره.
والحاصل: أن الصحيح في معيار ومقياس الوصف بالمصلحة والمفسدة والمضرة والمنفعة وشبهها هو لحاظ كل ما له دخل في الشيء من العوامل، لا خصوص عامل واحد.
وبعبارة أخرى: إن النظرة الساذجة قد تقود إلى أنه لا مضرة مععدم المنفعة، ولا خسارة مع صِرف عدم الربح، إلا أن النظرة الواقعية الشمولية المحيطة تقتضي بأنه كلما لم يكن ربح فهو خسارة.
وفيه: إن الألفاظ والمفاهيم لا تدور مدار الدقة العقلية بل تدور مدار فهم العرف، والعرف لا يرى في كل عدم مصلحة مفسدة، ولا في كل عدم نفع ضرراً.
هذا إضافة إلى أن ما ذكر لا يفي بالمطلوب بل لا ربط له به؛ إذ الكلام عن أن عدم المصلحة مفسدة، فأجيب بأن عدم منفعة التاجر اقترنت بخسارته بعض
ص: 79
عمره، فأين هذا من كون عدم النفع خسراناً؟! غايته تلازمه معه في مثل المثال.
ويرد على المبنى: أن الظاهر أن الصلاح والفساد ضدان لهما ثالث ويشهد له المباح؛ فإنه لا مصلحة فيه لكنه لا مفسدة فيه أيضاً، هذا كله إضافة إلى أنه ليس الكلام في أن كل ما لا مصلحة فيه ففيه المفسدة كي يقال: إنهما ضدان لا ثالث لهما، بل الكلام في أن كل ما ليس (منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح) - وهو نص الرواية فإن (منه وفيه الفساد محضاً) والحاصل: أن الرواية نص في أن المدار عموم الجهات (ولا فيه شيء من وجوه الصلاح) فلابد من ملاحظة النسبة بين هذين الأمرين لا المصلحة والمفسدة، فتدبر.
الوجه الرابع: أن يقال: إن المفسدة هي عدم ملكة المصلحة، فهما كالعمى والبصر حيث إن العمى هو عدم ملكة الإبصار عمن من شأنه أن يكون مبصراً، وكذلك المفسدة.
والحاصل: إنه كلما لم تكن فيه مصلحة فهو مفسدة، لأن العلاقة بينهما هي علاقة العدم والملكة.
وعليه: فقد ذكر الإمام (عليه السلام) أولاً ما يكون فيه الفساد (وهو عدم الملكة) كضابط، ثم أوضحه بالملكة المقابلة له، وأن ما لا مصلحة فيه ففيه المفسدة، فلا شق ثالث والأمر دائر بينهما.
لا يقال: إن هذا الوجه والوجه الأول وجهان لأمر واحد، إذ لا تنافي بين كون المصلحة والمفسدة ضدين، وبين كون عدم أحدهمامن قبيل عدم الملكة بالنسبة للآخر.
إذ يقال: الضدان أمران وجوديان متعاقبان على موضوع واحد، أما الملكة
ص: 80
وعدمها فأحدهما عدمي فلا يعقل أن يكونا ضدين ويكون أحدهما عدم الملكة للآخر.
الوجه الخامس: إن وزان الضابطين المذكورين في الرواية(1) مختلف، فإن الضابط الأول ثبوتي والضابط الثاني إثباتي، فلا تنافي بينهما.
توضيحه: إنه قد يستظهر أن المدار ثبوتاً على الضابط الأول سلباً وإيجاباً؛ فما يكون منه وفيه الفساد الواقعي فحرام وإلا فحلال، إلا أن الأمارة والكاشف والمرآة عن كونه كذلك واقعاً، هو لحاظ وجوه الصلاح، فإن شوهدت (وهذا عالم الإثبات كما لا يخفى) فيه وجوه الصلاح، دلّ ذلك على أنه ليس فيه الفساد الواقعي، وأما إن لم نجد فيه وجوه الصلاح كشف ذلك عن تحقق الفساد فيه ثبوتاً.
وأما الشاهد على هذا التفكيك فهو إضافة الإمام (عليه السلام) كلمة (وجوه) في الضابط الثاني دون الأول، ومن الواضح أن وجه الشيء هو ما به إليه ينظر وأنه الكاشف عنه والدليل عليه، ولولا ذلك لما كان وجه لإضافة (وجوه) للضابط الثاني دون الأول(2)
فتأمل.
وقد يستشكل على الاستدلال بالرواية على حرمة مطلق اللّهو ب-: أنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ لا شك في كليِّ حرمةِما يجيء منه الفساد
ص: 81
محضاً من غير أن يزاحمه وجهُ مصلحةٍ(1)، لكن الكلام كل الكلام في كون اللّهو مطلقاً مصداق ذلك؛ إذ كيف يثبت أن (الرقص) - بدون المقارنات أو اللوازم المحرمة أي الرقص في حد ذاته - لا يكون منه إلا الفساد محضاً؟ أو لا يكون فيه شيء من وجوه الصلاح؟ أو كلاهما معاً؟.
وقد أشار الميرزا الشهيدي (رحمه اللّه) إلى هذا الإشكال بوجه آخر، وهو (موضوع الحرمة فيها ما كان فيه ومنه الفسادُ المحضُ، وكون اللّهو كذلك ممنوعٌ، إن أُريد من الفساد الفسادُ الظاهرُ الذي يُدركه العرفُ، مع قطع النظر عن الشرع؛ لأنّهم لا يحكمون به في اللّهو، ومصادرةٌ إن أُريد منه الفساد الواقعي المستكشف عنه بالنهي التحريمي، لأنّ الكلام بعد(2) وجود الكاشف)(3).
توضيحه: إن العرف لا يجدون في الرقص بما هو هو فساداً ظاهراً، ولا في الشطرنج إذا تجرد عن المقامرة، فلولا دلالة النصوص الخاصة على حرمته مطلقاً وعلى حرمة نظائره، لما كان لنا الاستدلال بمثل هذه الرواية المتكفلة لحال الكبرى غير المشخّصة لحال الصغريات.
وأما الفساد الواقعي؛ فإن اعتبر النهي التحريمي كاشفاً عنه، فإنه أول الكلام؛ إذ النهي في رواية تحف العقول لا يكشف عن وجود الفساد الواقعي في الأنواع المبحوث عنها كالرقص والغناء، فهو مصادرة، فلا بد من طريق آخر
ص: 82
للتمسك بكون هذه الأنواع ذات فساد واقعي محضاً، من روايات تنص على ذلك أو غيرها.
وقد تُؤَّيد دعوى إرادة الفساد الواقعي ب-: أن الأسماء موضوعةلمسمياتها الثبوتية الواقعية.
وفيه: إنها وإن كانت كذلك إلا أن الأمارة عليها والمرآة لها هو الفهم العرفي فهو المرجع وهو الحَكَم(1)، فتدبر.
والظاهر أن هذا الإشكال لا مدفع له.
وقد قال الشهيدي (رحمه اللّه) وبعبارة أخرى(2): (إن الفساد إن أريد منه الفساد العرفي فممنوع؛ إذ اللّهو عرفاً ليس مما فيه الفساد المحض(3)، وإن أريد منه الفساد الواقعي فمصادرةٌ، أن يستدل عليه بالرواية قبل ثبوت النهي التحريمي عنه - أي اللّهو - بدليل آخر).
ولكن نقول: إن ههنا شقاً ثالثاً كان لا بد من ذكره وردّه ليتم الاستدلال؛ إذ القسمة ليست حاصرة بين الفساد الواقعي والعرفي، والشق الثالث المحتمل هو كون المراد من الفساد، الفساد الشرعي فلا بد من نفيه، فنقول: إن الظاهر أنه لا حقيقة شرعية للفساد والصلاح، فلم يضعه الشارع بوضع جديد تعييني أو تعيّني لمعنى جديد، ولا أنه وسّع في مفهومه أو ضيَّق، بل غاية الأمر أنه كشف عن انطباق الفساد بما له من المفهوم العرفي واللغوي على بعض المصاديق، فدوره هو
ص: 83
دور الكاشف عن المصاديق، وأنّ فيها الفساد أو لا، من دون تصرف في المفهوم، وذلك لا لأن الأصل عدم الوضع الجديد وعدم التصرف فقط، بل لأن الظاهر من تتبع استعمال الشارع للفساد والصلاح، كالخبيث والطيب وسائر عناوين موضوعات الأحكام، هو ذلك.
وعلى أي حال: فإنه لو فرض أن المراد بالفساد الفساد الشرعي، فإنه أيضاً لا يتم الاستدلال برواية تحف العقول على حرمة اللّهو، فإنه مصادرة وتمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو دوري بنفس البيانالآتي مع تغيير طفيف، فتدبر جيداً.
وقد يورد على التمسك برواية تحف العقول لإثبات حرمة مطلق اللّهو، بأنه دوري، وذلك:
أ - لأن صحة التمسك وصحة الاحتجاج بالرواية على حرمة اللّهو موقوف على إحراز كونه فساداً(1) محضاً؛ إذ مع عدم إحراز كونه فساداً كيف يقال بحرمته استناداً إلى الرواية التي تقول: الفساد المحض محرم؟!
ب - وإحراز كونه فساداً محضاً، متوقف على صحة الاحتجاج والتمسك بالرواية على حرمة اللّهو - وهذه المقدمة هي نفس مستدل الشيخ (رحمه اللّه)- إذ الفرض أن طريقنا لإحراز كون اللّهو فساداً محضاً هو هذه الرواية.
وبعبارة أخرى: لو تم كلام الشيخ (رحمه اللّه) - أي استدلاله - للزم الدور، لأنه استدل على حرمة اللّهو بكونه فساداً استناداً إلى هذه الرواية، فدليل حرمة الفساد صار دليلاً على كون اللّهو ذا فساد (حسب استدلال الشيخ) وحيث إن كون اللّهو ذا فساد موقوف على دلالة دليل حرمة الفساد عليه، فيلزم الدور.
ص: 84
بعبارة أخرى: العلم بكونه - اللّهو - ذا فساد متوقف على العلم بشمول الرواية له وبالعكس؛ إذ العلم بشمول الرواية له متوقف على العلم بكونه ذا فساد.
فالدور إذاً هو بين الإثباتين لا بين الثبوتين أو بين ثبوتٍ وإثباتٍ، فتدبر جيداً وتأمل.
الطائفة الثانية من الروايات: تلك التي عدت الملاهي من الكبائر، وهي روايتا الاعمش و الفضل بن شاذان، نبحث عن كل واحدة منها مستقلاً
اما رواية الأعمش، فقد استدل بها الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب على حرمة مطلق اللّهو، قال: (ورواية الأعمش حيث عد في الكبائر الاشتغال بالملاهي التي تصد عن ذكر اللّه كالغناء وضرب الأوتار(1)، فإن الملاهي جمع (الملهى) مصدراً، أو (ال-مَلْهِيّ) وصفاً، لا (الملهاة) آلة، لأنه لا يناسب التمثيل بالغناء)(2).
أقول: تمامية الاستدلال بالرواية من حيث مضمونها متوقف على أمور:
الأمر الأول: تنقيح الحال في مفرد (الملاهي) وإثبات أنه ليس (الملهاة).
بيان ذلك: إن المحتملات في مفرد الملاهي خمسة:
الأول: ما رجحه الشيخ (رحمه اللّه) وهو الأقرب المنصور من: أنه جمع (الملهى)
ص: 85
مصدراً، فيرادف اللّهو، وذلك لأن (مَفْعَل) يأتي مصدراً واسم زمان واسم مكان(1)، مثل المرمى والمنظَر والمضرَب والمقتل، تقول: مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) هو يوم عاشوراء أي زمان قتله، ومقتله كربلاء المقدسة، أي: مكان قتله، ومقتله فاجعة عظمى ألمت بالإسلام والمسلمين، أي: قتله.
وعليه: فإذا كانت (الملاهي) جمع (الملهى) مصدراً، أريد بها: كل أنواع اللّهو، واللّهو يصدق على الأفعال(2) كالغناء والرقص واللعب بالشطرنج(3) وغير ذلك.
الثاني: إنه جمع ال-مَلْهِيِّ، فهو اسم مفعول من باب عَلِم يعلم، من لَهِي يلهى فهو ملهي، ك-: رمى يرمي فهو مرمي، وك-: خشي يخشىفهو مخشيّ (أي مخشي منه)، ورضي يرضى فهو مرضي (أي مرضي منه أو مرضي به أو مرضي لديّ) - مثلاً - فيقال: لَهِي يلهَى فهو ملهي به.
وعليه: فإنه يشمل أيضاً كل أنواع الفعل اللّهوي لأنها جميعاً ملهي بها، كما يشمل آلات اللّهو أيضاً، فيتم الاستدلال بها على المقام وعلى حرمة آلات اللّهو جميعاً.
لكن يرد على هذا الاحتمال: أن جمع ال-مَلهيّ هو مَلهيُّون(4)، كما أن جمع مخشي هو مخشيون، وجمع مرضي مرضيون، وجمع ملِهيّة هو ملهيّات كمخشيات ومرضيات، لا ملاهي ولا مخاشي ولا مراضي.
الثالث: إنه جمع (الملهاة) اسم آلة، أي آلة اللّهو كمرقاة وجمعها مراقي،
ص: 86
لكن ذلك متوقف على ورود وزن ال-مَلهاة - بفتح الميم - كاسم آلة في اللغة أو ورود مِلهاة - بالكسر - في اللغة، وذلك لأن الأوزان القياسية لأسماء الآلة هي مِفعل كمِبرد، ومِفعلة كمِكنسة، ومِفعال كمفتاح - وسيأتي الكلام حوله بعد قليل.
وعلى أي فلو كانت الملاهي جمع (الملهاة) لكانت الرواية أجنبية عن المدعى؛ وذلك لأنها ستدل حيئنذٍ على حرمة آلات اللّهو كالشطرنج والمزمار والعود والقانون وأمثال السامبلر - إن عُدّ من آلات اللّهو -، ولا تدل على حرمة اللّهو بنفسه، وسيأتي تحقيق كون الملهاة آلة أم لا.
الرابع: إن الملاهي جمع (ال-مُلهي) من ألهى من باب الإفعال، تقول: ألهى يُلهي فهو مُلهي.
وهو أعم - لو تم - كسابقه، فإن كلاً من اللّهو ومن آلته مُلِهي، فيشمل آلات اللّهو كما يشمل الأفعال اللّهوية.
لكن يرد عليه: أن جمع ال-مُلهي هو مُلهون، تقول: مُلهي مُلهيان مُلهون، وليس ملاهي، كما أن جمع مصغي ومدلي هو مُصغون ومُدلون، تقول: أصغى يصغي فهو مصغي مصغِيان مُصغون، وأدلى يدلي فهو مُدلي مدليان مُدلون، وليس مدالي ولا مصاغي.وبذلك ظهر عدم صحة ما ذكره البعض من احتمال كون الملاهي جمع المُلهي.
كما ظهر عدم صحة رد الميرزا الشهيدي(رحمه اللّه) لهذا الرأي بقوله: إن جمع ملهي على مُلهيات لا على ملاهي؛ إذ فيه: أن جمع مُلهية - المؤنث - على ملهيات لا على ملاهي.
ص: 87
والحاصل: إن الملاهي ليست جمعاً لا لل-مُلهي - إذ جمعه ملهون - ولا للملهية - إذ جمعه ملهيات -.
الخامس: إن الملاهي جمع الملهو، تقول: لها يلهو فهو ملهوّ (أي ملهو به)، كدعا يدعو فهو مدعو، والأمر فيه كسابقه فإنه لو تم كان أعم.
وفيه: أن جمع ملهو هو ملهوّون كمدعوون لا ملاهي كما ليس مداعي.
ثم إنه قد يستشكل على استظهار الشيخ أن الملاهي ليست جمعاً لملهاة اسماً للآلة ب-:
أولاًً: قول بعض اللغويين، فقد قال في لسان العرب: (الملاهي هي آلات اللّهو)(1).
وثانياًً: إن العرف يفهم من الملاهي اسم الآلة لا المصدر، تقول مثلاً: مدينة الملاهي، وتعني: مدينة آلات اللّهو، أي بها مختلف آلات اللّهو، دون مدينة أنواع اللّهو.
ولكن يرد على الإشكال الأول:
أولاًً: مبنائياً: أن اللغوي - حسب مشهور المتأخرين - ليس أهل خبرة في الوضع، بل هو أهل خبرة في الاستعمال وهو أعم من الحقيقة.
وثانياًً: بنائياًً: - على المنصور من أنهم أهل خبرة في الوضع وأنهم يتصدون كأصل لذكر المعاني الحقيقية لا المجازية - ب:
ص: 88
أن اللغوي ليس في مقام الحد والرسم عادة، بل تبديل اللفظ بلفظ أوضح أو أقرب منه، فقد يكون مرادفاً وقد يكون أخص مطلقاً وقد يكون أعم(1)، والظاهر في المقام أنه تفسير بالمصداق، فلا ينفي ذلك كون الملاهي جمعاً للملهى أيضاً، فهو كما لو ذكر أحد معاني المشترك اللفظي؛ فإنه لا ينفي غيره.
نعم، غيره بحاجة لدليل، وفي المقام الدليل موجود، فإن كلاً من الملهى والملهاة يجمع على الملاهي، فالملاهي أعم ولا ظهور لها في أحدهما.
هذا إضافة إلى أن اللغوي وإن قلنا بأنه أهل خبرة في الوضع على المبنى، إلا أنه ليس أهل خبرة في التصاريف ومعانيها؛ ومنه: المقام؛ إذ الكلام عن أن الملاهي هل هي جمع للملهى أو للملهاة - بل الخبير في التصاريف هو الصرفي، فتأمل.
كما يرد على الإشكال الثاني: أن العرف يحتمل(2)
في الملاهي كلا المعنيين، كما يحتمله في مطلق هذا الجمع، إذ كما يحتمل أن يكون معنى مدينة الملاهي مدينة آلات اللّهو، يحتمل أن يكون معناها مدينة أنواع اللّهو، بل نقول: المستظهر - وفاقاً للشيخ (رحمه اللّه) - ان الملاهي ليست جمعاً لملهاة للوجوه التالية:
الأول: إن أغلب الجموع التي على هذا الوزن من الناقص الواوي أو اليائي يراد بها غير اسم الآلة، فلاحظ مثلاً (مناهي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم))، فإنه جمع النهي لا اسم الآلة(3)، وكذلك قولهم:(المساعي الحميدة)، فإنها جمع المسعى مصدراً،
ص: 89
لا اسم الآلة (آلات السعي)، وكذلك (مناحي الكلام) فإن المراد بها النواحي لا آلة الناحية - إن فرضت - وأما (المجاري)، فإنه يحتمل فيها اسم المكان (كمجاري المياه)(1) ويحتمل في بعض الأمثلة إرادة المصدر ك-«مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْأُمَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِه...»(2) أي جريانها أو محل جريانها، ويبعد إرادة آلات جريان الأمور.
ونضيف أن ذلك لعلّه شبه المستغرق وأن خلافه هو النادر، فلاحظ مثلاً - إضافة إلى ما سبق - المراعي فإنه يراد بها أمكنة الرعي لا آلاته، والمخازي - كمخازي الفاسق أو الظالم - إذ أنه جمع للمصدر الميمي بمعنى الخزي لا اسم الآلة منه، وكذلك قوله تعالى: (مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(3) إذ لا يراد آلة التثنية بل الثواني، أي أنه جمع المصدر الميمي فقد وردت مثنى مثنى(4)، وهكذا.
وعليه: فكون الملاهي جمعاً للملهى كمصدر هو الموافق للأعم الأغلب شبه المستغرق من استعمالات ما كان على وزن مفاعل من معتل اللام، وكونها جمعاً للملهاة كاسم آلة هو الشاذ في مثل هذا الجمع، وهذا وإن لم يكن دليلاً؛ لكنه يصلح مؤيداً قد يورث مع غيره تراكم الظنون التي قد تورث بإجتماعها الإطمئنان.
ص: 90
الثاني: إن اسم الآلة المشتق(1) لا يبنى إلا من الثلاثي المتعدي كالمفتاح فإنه من فَتَح، والمكنسة من كنس، والمقطاط من قط وهكذا، وكلها متعدية، ومن الواضح أن اللّهو لازم وليس متعدياً.
نعم، شذ بناؤه من اللازم كالمصفاة والمرقاة والمزمار، فالملهاة إن كانت اسم آلة فهي من الشواذ(2).
الثالث: إن الغالب في معتل اللام بناء اسم الآلة منه على وزن مِفعلة كمطواة ومشواة ومصفاة، وندر غيره كالمِقلى، ومن الواضح أن الملهاة وردت بفتح الميم لا بكسرها.
والحاصل: إن كون الملاهي جمعاً للملهاة كاسم آلة يُبعِّده: ندرة بناء اسم الآلة من اللازم (كاللّهو)، وقلة بنائه على وزن مَفعلة بفتح الميم (كالمَلهاة).
لكن يرد على الوجهين الاخيرين: إن ما ذكر وإن صح صرفياً، إلا أن حاصله: ندرة ورود مثل (الملهاة) - مما كان لازماً على وزن مَفعلة - كاسم آلة، لكن الملهاة وردت كاسم آلة - وإن قل أو ندر مثل ذلك - وعليه: فلا إشكال من هذه الجهة في كون الملاهي جمعاً للملهاة كاسم الآلة.
وبعبارة أخرى: الوجهان الاخيران لو تمّا صلحا لدفع احتمال كون الملهاة اسم آلة لو شك في كونها كذلك، لكن المدعى أنه لا شك في كونها اسم آلة(3)، ولا ربط لذلك بمعضلة أن الملاهي هي جمع للملهاة أو الملهى(4)، فتأمل.
ص: 91
ثم إن هناك وجهين - غير ما سبق - ترجح كون الملاهي جمعاً لملهى مصدراً، لا جمعاً لملهاة اسمَ آلةٍ، بها يظهر عدم صحة ما ذهباليه السيد الخوئي على ما سياتي كلامه بعد قليل من: (لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر...) وقوله: (بل ربما يرجح رفع اليد عن ظهور الغناء...) وهي:
أولاًً: عدها في الرواية من الكبائر أي المحرمات الكبيرة، فإن من الواضح أن اللّهو كفعل من الأفعال يصلح لأن يقع متعلقاً للحرمة، وكونه محرماً وموصوفاً بالكبيرة، دون الملهاة كآلةٍ؛ إذ الآلة بما هي آلة لا تقع متعلقاً للتكليف بالحرمة ولا غيرها، ولا هي معصية صغيرة أو كبيرة إلا بتقديرٍ هو خلاف الأصل.
والحاصل: إن آلة اللّهو لا تكون بنفسها من الكبائر، فلا يصح القول (عد في الكبائر الملاهي...)، ولكن هذا مبني على عدم وجود كلمة (الاشتغال) في رواية الأعمش(1)،
إذ لا يصح القول (عد من الكبائر الملاهي) إذ آلات اللّهو لا يعقل كونها محرمة إلا بنحو المجاز في الحذف الذي لا يصار إليه إلا بعد تعذر الحقيقة، وهي ممكنة(2) إذ يقال: (عد من الكبائر الملاهي) بإرادة اللّهو - وهو المصدر - من الملاهي أي أنواع اللّهو، فإن اللّهو فعل، أما على وجود كلمة الاشتغال فهي مناسبة لكون الملاهي اسم آلة بل هي مناسبة لكلا الأمرين، فتدبر.
ثانياً: عطف ضرب الأوتار؛ فإن (ضرب الأوتار) فعل وليس آلة، فيفيد
ص: 92
كون (الملاهي) في الرواية يراد بها الفعل وهو اللّهو، لا آلة اللّهو، أي: إنها جمع الملهى مصدراً ليكون هذا مثالاً له ومصداقاً حقيقة(1)، وإلا لزم التجوز فيه، إذ لو كان المراد بالملاهي جمع الملهاة آلةً لكان اللازم التمثيل بالأوتار؛ فإنها الآلة لا ضرب الأوتار،فإنه فعل.
ومنه يظهر وجه الاشكال في ما ذيّل به مصباح الفقاهة كلامه، إذ قال: (بل ربما يرجح رفع اليد عن ظهور الغناء، كما يدل عليه عطف ضرب الأوتار على الغناء)(2).
فإنه دليل على نقيض مدعاه؛ إذ ضرب الأوتار فعل، فيؤكد ظهور الغناء في كونه فعلاً(3)، ولو كان المعطوف الأوتار لا ضرب الأوتار لكان مرجحاً لرفع اليد عن ظهور الغناء في الفعل، لأن الأوتار هي آلة اللّهو، فتدبر.
وبما سبق يظهر: إنه لا اجمال لكلمة الملاهي، ليُرَدَّ به - أي بالاجمال - استدلال الشيخ (رحمه اللّه) وبالرواية، كما قاله السيد الخوئي في المصباح حيث ذهب الى انه لا يعرف المراد من الملاهي، فهل هي جمع الملهى مصدراً(4) ليفيد هذا الخبر: حرمة اللّهو بأنواعه وكونه من الكبائر؟ أو أنها جمع الملهاة وهي اسم آلة ليفيد حرمة الاشتغال بآلات اللّهو لا حرمة اللّهو نفسه كفعل من الأفعال.
قال في مصباح الفقاهة: (الأمر يدور بين رفع اليد عن ظهور الملاهي في
ص: 93
اسم الآلة وحملها(1) على الفعل(2) وبين رفع اليد عن ظهور الغناء(3) وحمله على الغناء في آلة اللّهو(4)، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر فتكون الرواية مجملة، بل ربما يرجح رفع اليد عن ظهور الغناء، كما يدل عليه عطف ضرب الأوتار على الغناء)(5).
اذ قد عرف مما سبق وجوه ترجيح كونها مصدراً، لا اسم آلة،فلااجمال في البين.
هذا بعض الكلام في محتملات الملاهي في الرواية الشريفة، ووجوه الترجيح بينها.
الأمر الثاني: تحقيق المراد ب-(التي تصد عن ذكر اللّه) وذلك ضمن مطالب:
المطلب الأول: هل (التي تصد...) قيد توضيحي أو قيد احترازي؟ فإن كان توضيحياً، دلت الرواية على مدعى الشيخ من حرمة مطلق الملاهي؛ لكونها جميعاً تصد عن ذكر اللّه.
وإن كان احترازياً فلا؛ إذ تدل عندئذٍ فقط على حرمة اللّهو المقيد بكونه صادّاً عن ذكر اللّه دون غيره.
لكن الأصل في القيود هو الاحترازية لا التوضيح والبيان، والمراد بالأصل: الظاهر الذي بنى عليه العقلاء، فلا تدل الرواية إلا على حرمة
ص: 94
خصوص الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه، اللّهم إلا لو تمت قرينة بيّنة على أن القيد هنا توضيحي، وسيأتي ذكر بعض القرائن بإذن اللّه تعالى.
المطلب الثاني: تحقيق المراد من الصدّ عن ذكر اللّه، فقد اختلفت فيه الأقوال:
فظاهر الشيخ (رحمه اللّه) هو: الصد الفعلي، وعليه تحرم كل أنواع الملاهي لكونها صادة فعلاً، فتأمل(1).
وظاهر المحقق الإيرواني(رحمه اللّه) هو: الصد الاحتجابي.
وصريح الميرزا الشهيدي (رحمه اللّه) هو: الصد عن الواجبات، فلا يحرم على هذا إلا ما صد عن الواجبات.
قال المحقق الإيرواني(رحمه اللّه): (وأما الثانية - أي رواية الأعمش - فهي أولى بالتمسك بها للجواز؛ فإنّ ظاهر تقييد الملاهي بالّتي تصدّ عن ذكر اللّه هو الاحتراز، والظاهر: أنّ المراد من الصدّ حصول حالة الاحتجاب للنفس من أثر تلك الملاهي، فإنّ لأنواع المعاصي آثاراً خاصة - كما أشير إليه في صدر دعاء كميل - لا الاشتغال الفعلي عن ذكره؛ فإنّ ذلك حاصل عند كل فعل ولو كان مباحاً، والمتيقّن من ثبوت هذا الأثر له هو ما دلّ الدليل عليه، وهو اللعب بآلات الأغاني)(2) وعليه: فلا تدل هذه الرواية على تحريم مطلق الملاهي.
ص: 95
وقال العلامة الشهيدي(رحمه اللّه): (وقد مرّ في الغناء استظهار أنّ المراد منه(1) خصوص إطاعته بترك نواهيه وإتيان أوامره، لا مطلق ذكره تعالى لساناً وقلباً، كي يشكل بالمكروه والمباح، فيكون المراد من (الصدّ عنه) معصيته تعالى بمخالفة أوامره ونواهيه، فيكون مفاده حرمة اللّهو الخاصّ، وهو اللّهو الصادّ، ولا إشكال في حرمته)(2).
أقول: سيأتي فيما بعد، البحث عن هذه الآراء الثلاثة بإذن اللّه تعالى، ونكتفي الآن بالإشارة إلى أن الإشكال على الشيخ (بأن ذلك - أي الاشتغال الفعلي عن ذكر اللّه - حاصل عند كل فعل ولو كان مباحاً، كما ذكره الإيرواني، وكما أشار إليه الشهيدي) غير وارد على الشيخ (رحمه اللّه)، إذ مدَّعى الشيخ(3) هو حرمة كل لهوٍ أشغلَ عن ذكر اللّه، وليس حرمة كل ما أشغل عن ذكر اللّه، فمجموعُ كونهِ لهواً وشاغلاً عن ذكر اللّه هو سبب الحرمة وليس كل منهما بمفرده كي يُنقض عليه بالمباح الذي يشغل فعلاً عن ذكر اللّه تعالى.
ولكن يرد عليهما: أن كلا التفسيرين(4) تفسير بالأخص من غير قرينة مخصِّصة، بل القرائن تؤكد الأعم الذي هو مقتضى الوضع والإطلاق.
أما (الصد)؛ فلأنه لغة وعرفاً هو المنع والصرف، لا خصوص المنع
ص: 96
الاحتجابي، أي المنع الموجِد لحالة الاحتجاب في النفس، وذلك واضح عرفاً ولغة، ويوضحه أكثر قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)، فإنه يراد به مطلق الذين يمنعون عن سبيل اللّه، وليس خصوص من يمنع موجداً حالة الاحتجاب في نفوس الممنوعين، وليس الاستدلال بهذه الآية وغيرها بالاستعمال، بل بالتبادر وعدم صحة السلب عن المنع غير الموجب للاحتجاب، فإنه لا يصح سلب الصد والصاد عن الكافر الذي يمنع عن سبيل اللّه بالقوة، وإن لم يكن تدبيره بحيث يوجد للناس حالة الاحتجاب عن سبيل اللّه(1).
نعم، ورد في اللغة تفسير الصد بالهجران والإعراض(2)، لكن الظاهر أنه تفسير بالأخص، وأن الأعم الذي ذكروه أولاً - وهو المنع - هو الموضوع له، وذكر الهجران من باب أجلى المصاديق أو أحدها، بل إن الصد إذا تعدى ب-(عن) فسّر(3) بالهجران والإعراض لا مطلقاً، على أن هجره وأعرض عنه غير احتجب عنه أو حجبه.
دليلنا: تبادر الأعم وصحة الحمل وعدم صحة السلب والإطراد، فتدبر.
ويشهد له إطلاق الفقهاء (المصدود) على الممنوع بالقوة عن الحج؛ فإنه أعم من أن يوجد صدهم له احتجابه النفسي، ويؤكده قوله تعالى: (...أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...)، إذ لا شك أنهم لم يوجدواللمسلمين حالة الاحتجاب النفسي عن المسجد الحرام، وعلى أي فإن الإطراد وعدم صحة السلب وصحة الحمل بلا عناية، أدلة على المدعى.
ص: 97
المطلب الثالث: تحقيق المراد من (ذكر اللّه) فنقول:
وأما (ذكر اللّه)، فالظاهر أنه أعم من الواجبات والمستحبات كالانشغال بالأذكار المعروفة من تسبيح وتهليل وتحميد وتكبير، ولا مخصص له بخصوص الطاعة الواجبة وإتيان أوامره - جل وعلا - إذ النقض بالمكروه والمباح غير وارد كما سبق، فإنه إنما يرد لو قيل بأن تمام علة الحرمة(1) هو ترك ذكر اللّه، فينقض بأن المباح والمكروه أيضاً يستلزمان عادة ترك ذكر اللّه، لكن علة الحرمة هي مجمع العنوانين أي كونه لهواً صاداً عن ذكر اللّه، وهو ما ورد في الرواية: (الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه) فإنها المحرمة، لا خصوص الوصف لو انفرد عن الموصوف، فلا يتم النقض على الشيخ (رحمه اللّه) بذلك.
ويؤكد ما ذكرناه أن المفسرين كالشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في التبيان وعدد آخر منهم(2) فسروا (ذكر اللّه) في الآية الشريفة بالأعم، ففي قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، قال الشيخ الطوسي: (أي يمنعكم من ذكر اللّه بالتعظيم له والشكر له على آلائه)(3).
ويؤكده أنه ليس مطلق البغضاء محرماً ولا مطلق العداوة ما لم يظهر بالمحرم، اللّهم إلا البغضاء والعداوة للأنبياء والأوصياء فإن مطلقهما محرم.
ص: 98
ظهور (يصدّكم عن ذكر اللّه) في كونه تعليلاً بالطبيعي المستكره عقلاً وعرفاً ومما يؤكد إرادة (الصد عن ذكر اللّه) الأعم في الآية والرواية، أن الظاهر المتفاهم عرفاً هو أن هذا الوصف قد جيء به كتعليلٍ بالطبيعيِّ(1) المستكره عقلاً وعرفاً، فكأنه دفع دخل مقدر، أو كأنه إشارة لعلة ارتكازية يقنع بها المخاطب، فإذ حرمت الخمرة والميسر قيل لأن كلاً منهما يصد عن ذكر اللّه، وذكر اللّه محبوب حسن، فالصد عنه مكروه قبيح مع قطع النظر عن كونه حراماً أو مكروهاً، وكذلك الملاهي فكأن (التي تصد عن ذكر اللّه) سيقت للإلفات إلى أمرٍ ارتكازي مستقبح بطبعه، وهو الصد عن ذكر اللّه ولا نظر فيها إلى خصوصياته وفصوله، من كونه واجباً قد صد عنه أو محرماً.
ونظير ذلك في العرف كثير، بل إنه من فنون البلاغة، إذ قد يقول الوالد لولده: لا تنشغل باللعب أو مشاهدة التلفاز؛ فإنه يصدك عن خدمة الوالدين، فإنه لا يقصد بذلك خصوص الخدمة الواجبة بل مطلق الخدمة الأعم من الواجبة والمندوبة، وذلك لإحالة الأمر على حكمة ارتكازية يقبلها كل ذي لُبٍّ.
وما سبق كله قد يعدّ قرينة عرفية على أن القيد في (الاشتغال بالملاهي التي تصد عن ذكر اللّه) توضيحي لا احترازي، فتدبر جيداً.
أو يقال: إن نظير ذلك أن يقول المولى: لا تصحب الفاسق؛ فإنه يجرك إلى النار، أو لا تصحب الفاسق الذي يجرك إلى النار، فإنه لا يراد به الاحتراز كي يتوهم عدم الردع عن مصاحبة الفاسق الذي لا يجر إلى النار، بل يراد به الإلفات
ص: 99
إلى أمرٍ ارتكازي غالبي من باب ضرب القانون، فتأمل(1).
والحاصل: إن الظاهر تمامية ما استظهره الشيخ (رحمه اللّه) - بضميمةدفاعنا عنه - من إرادة الصد الفعلي عن ذكر اللّه مطلقاً؛ لظهور الصدّ في فعلية الصدّ لا احتجابيته(2)
وظهور ذكر اللّه في الأعم، وكون مجموع كونه لهواً صاداً عن ذكر اللّه، هو سبب التحريم لا خصوص الصد لينقض بالمباحات، نعم قد يرد على الشيخ ما سيأتي(3).
نعم، يمكن أن يصار إلى وجه آخر وهو: أن يراد (الشأنية)، أي: (الملاهي التي من شأنها أن تصد عن ذكر اللّه) فتفيد حرمتها مطلقاً، لكن من غير الطريق الذي سلكه الشيخ (رحمه اللّه)، لتماميته حتى مع التخصيص الذي صار إلى كل منهما أحد العلمين(4)، فإن الحرام هو ما يصد بطبعه وشأنه - أي اقتضاءً - عن ذكر اللّه الواجب، حسب كلام الميرزا الشهيدي (رحمه اللّه)، أو ما يصد شأناً صداً احتجابياً عن ذكر اللّه، فإنه إذا حرم ذلك حرمت الملاهي مطلقاً؛ إذ هي مطلقاً كذلك وإن لم تفد الصد الاحتجابي أو لم تفد الصد عن ذكر اللّه الواجب؛ نظراً لأن المحرم هو ما من شأنه ذلك، والشأنية ثابتة حتى فيما لم يفدهما(5)، وعلى هذا فالصد عن
ص: 100
ذكر اللّه علة، ولا ضرورة للالتزام بكونها حكمة، أما على إرادة الفعلية فلا مناص من الالتزام بكونها حكمة.
نعم، تفسير الصد بالشأنية خلاف ظاهر عناوين الألفاظ، ولا يصار إليه إلا عند تعذر المعنى الحقيقي، إضافة إلى استلزام هذا(1) حرمة كل ما من شأنه الصد عن ذكر اللّه إلا أن يلتزم بحرمة (اللّهو الذي من شأنه أن يصد) لا مطلق ما من شأنه أن يصد ولا محذور فيه، فتأمل.
هذا بعض الكلام في الرواية الأولى من الطائفة الثانية، اماالرواية الثانية منها فهي:
حسنة الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام)(2) ، وقد استدل بها الشيخ أيضاً،وقال عنها: إنها كالصحيحة بل هي صحيحة، قال: (ونحوها(3)
في عد الاشتغال بالملاهي من الكبائر رواية العيون(4)
الواردة في الكبائر، وهي حسنة كالصحيحة بل صحيحة)(5).
وقد أشكل السيد الروحاني (دام ظله) على الاستدلال بها بقوله:
(وفيه: أن الظاهر من اللغة كون الملاهي جمع الملهاة اسمَ الآلة، ولا
ص: 101
صارف عن هذا الظهور، بل يؤكده: أن الظاهر من الباء في صدرها الاستعانة، وزيادة كلمة الاشتغال قبل كلمة الملاهي.
وعليه: فهو يدل على أن استعمال آلات اللّهو حرام ولا نزاع في ذلك، ولا دلالة له على حرمة اللّهو المطلق)(1).
أقول: أما الإشكال الأول فقد سبق الجواب عنه مفصلاً.
وأما قوله: (إن الظاهر من الباء في صدرها الاستعانة)(2)
فيرد عليه:
أولاً: - بنائياً - إنها وإن كانت للاستعانة فإنها أعم؛ إذ تنطبق على اللّهو وعلى آلة اللّهو، حيث يصدق على كليهما الاشتغالمستعيناً بآلة اللّهو أو مستعيناً باللّهو؛ إذ الإنسان قد يشتغل بآلة اللّهو كالقانون والشطرنج مستعيناً بها، وقد يشتغل بالغناء والرقص مستعيناً بهما على الاشتغال.
والحاصل: إن كلمة الاشتغال ومادته صالحة للانطباق على الأمرين كما لا يخفى.
ثانياً: - مبنائياًً - بأن الظاهر أن الأصل في اللازم المتعدي بالباء: أن تكون الباء للتعدية، أما كونها لمعنى إضافي - كالاستعانة - فذلك هو المحتاج للقرينة، والاشتغال لازم(3) فلابد - لكي يتعدى - من الباء.
وبعبارة أخرى: لو كان مدخول الباء آلة للفعل كانت الباء للاستعانة،
ص: 102
ككتبت بالقلم، لا فيما إذا شك في أن المدخول آلة - إذا كان الملاهي جمع الملهاة - أو فعلاً - إذا كان جمع اللّهو - فإنه بحاجة إلى قرينة خارجية عندئذٍ، فتدبر.
سلمنا، لكن قد يقال: الأصل في اللام الإلصاق - لا السببية ولا الاستعانة - ولذا اقتصر سيبويه من معاني الباء على الإلصاق فقط(1)، والإلصاق أعم من آلة اللّهو ومن اللّهو، إذ يصح الاشتغال ملتصقاً بآلة اللّهو أو ملتصقاً باللّهو.
والحاصل: إن رواية الفضل بن شاذان ظاهرة في كون الملاهي - كما حققناه سابقاً - جمع ال-مَلهى مصدراً لا الملهاة؛ لما سبق من الأدلة(2)، كما أنها سليمة من الإشكال الوارد على رواية الأعمش من حيث إنها تضمنت عبارة: (التي تصد عن ذكر اللّه)، والتي منعت(3) عن صحة الاستدلال بها على حرمة مطلق اللّهو، بخلاف رواية الفضل الخالية من هذا القيد، إلا أنها متأمل فيهامن وجهين:
الأول: أن الموضوع هو (الاشتغال بالملاهي) دون (فعل الملاهي) أو (الملاهي)، إذ ورد (عدّ الاشتغال بالملاهي من الكبائر) ولم يكن المصبّ فيها مطلق الملاهي، فقد يقال: إن (الاشتغال) يراد به الأكثر من مجرد فِعلية اللّهو والتلهي بشيء، فإنه يقال له حينئذٍ: إنه يلهو، ولا يقال عنه إن اشتغاله باللّهو إلا لو كان حرفةً أو صنعة له، أو كان الاشتغال باللّهو حالته العامة أو الغالبة أو الكثيرة على الأقل، ألا ترى أن من كانت حرفته التجارة أو كان أكثر عمله بها
ص: 103
يقال: إن اشتغاله بالتجارة أو شغله بها، ولا يقال لمن باع أو اشترى مرة واحدة: إن اشتغاله بالتجارة أو إن اشتغاله بالتجارة هو السبب في كذا، بل يقال: باع أو اشترى أو اتجرّ أو ما أشبه.
ثم إنه إن صدق عليه (اشتغل) كفعل ماضٍ، فإنه لا يصدق عليه أن اشتغاله بالتجارة كمصدر، فإن للعلل الصورية والهيئات مدخلاً في الانصراف أو الاستظهار وإن اتحدت المادة.
سلمنا(1)، لكنّ الاشتغال لابد له من متعلّق ثان، إذ يقال - مثلاً - : اشتغل بالدرس عن عائلته أو العكس، فالاشتغال بالملاهي لابد له من متعلق، والقدر المتيقن منه هو الاشتغال بالملاهي عن الواجبات؛ فإنه من الكبائر، أما الاشتغال بالملاهي عن مجرد ذكر اللّه - أي المستحب - فإنه لا دليل على حرمته، بل المقدمية تقتضي الكراهية فقط(2)، وقد سبق نظيره وتفصيله، وعلى أي فإن الأعم غير محرز فأصالة الحلية محكّمة.
الثاني: أن المشهور شهرة عظيمة حتى كاد أن يكون إجماعاً(3)هو: عدم حرمة اللّهو بقول مطلق، فكيف يعدّه من الكبائر؟! فيكون ذلك - بمعونة الارتكاز المسلّم على عدم كون مطلق اللّهو كبيرة بل حتى محرماً - قرينة على أن المراد من (الاشتغال بالملاهي) هو: الاشتغال بآلات اللّهو لا الاشتغال باللّهو، أو على أن المراد: الاشتغال بالملاهي عن الواجبات.
ص: 104
حيث احتمل في (الملاهي) كونه جمعاً للملهاة آلةً أو للملهى مصدراً، فإن قلنا ب-:ظهوره في جمع الملهاة - كما قال به جمع وقد سبق -، فالرواية أجنبية عن المدعى.
وإن قلنا ب-: أن الرواية محتملة للوجهين فهي مجملة، فلا يثبت بها حرمة مطلق اللّهو.
وإن قلنا ب-:أن الظاهر هو أن الملاهي أعم من اللّهو ومن آلة اللّهو، فيكون الارتكاز والشهرة العظيمة قرينة على صرفها - في المقام - إلى آلات اللّهو، وعلى صرف ذكر اللّه إلى ذكره الواجب، كما تكون (الكبائر) قرينة على ذلك لمناسبة الحكم والموضوع.
سلمنا، لكن الشهرة العظيمة على الخلاف كاسرة للسند أو موهنة للدلالة، فكيف لو ضم إليها الارتكاز؟! فلا يصح التمسك بهذه الرواية على حرمة مطلق اللّهو، خاصة مع ملاحظة ما اشتهر من أن الرواية كلما ازدادت صحةً ازدادت بإعراض المشهور عنها وهناً، فكيف باللّهو الذي وردت فيه عشرات الروايات، ومع ذلك أعرض المشهور - شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً - عن القول بحرمته بقول مطلق(1)؟!
استدل الشيخ ضمن ما استدل على حرمة اللّهو بخبر عبد اللّه بن علي عن
ص: 105
علي بن موسى عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) : «كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر»(1).
أقول: سبق تفصيلاً عدم صحة الاستدلال بمثل هذه الرواية على المقام مطلقاً، وذلك لأنها من باب آخر؛ فإن مسألتنا تدور حول (اللّهو) - وهو ناقص واوي - وما جاء في الرواية مشتق من (اللّهي) - وهو ناقص يائي - وقد سبق اختلاف معنييهما كلفظيهما.
هذا، إضافة إلى أن الإجماع بل والضرورة على خلافها - أي خلاف إطلاقها -؛ إذ لا شك في عدم حرمة كل ما ألهى عن ذكر اللّه؛ فإن كثيراً من المكروهات بل والمباحات ايضاً كذلك، فلا بد من حمل الرواية على أحد المحامل، والمحامل المتصورة فيها هي:
الأول: التصرف في الموصول، بأن يقال: إن (ما) يراد بها آلات اللّهو، أي كل آلة لهو ألهت عن ذكر اللّه فهي ميسر(2)، سواء قلنا: بكون (ألهى عن ذكر اللّه) قيداً توضيحياً حينئذٍ، بدعوى: أن كل آلة لهو فهي كذلك، أم قلنا: بكونه قيداً احترازياً بلحاظ عموم الموصول ظاهراً من غير أن يرجع لبّاً إلى التوضيحي.
وعليه: تكون الرواية أجنبية عن مسألتنا.
وقد يستشهد لترجيح هذا الاحتمال ب-: كون فتاوى الفقهاء على ذلك، أي على حرمة آلات اللّهو، وبقرينة الروايات الدالة على حرمة المعازف والملاهي
ص: 106
وآلات اللّهو، إذ ضمها إلى هذه تفيد أن المراد منها هو ذاك.
ويرد على الأول: أن فهم الفقهاء للرواية بنحوٍ مّا قد يصلح قرينة على المراد منها - كدليل أو مؤيد - دون مجرد وجود فتوى لهم بالأخص، فإنه لا يوجب حمل الوارد الأعم عليه.كما يرد على الثاني: أن المثبَتين لا يقيد أحدهما الآخر، فورود روايات بتحريم آلات اللّهو لا يقتضي تخصيص ما هو أعم، بحسب دلالته الاستعمالية التي تعد أمارة على الجدية - لولا بروز معارض أقوى -(1) والمثبت الأخص ليس معارضاً.
الثاني: التصرف في (ألهى) بالقول بأنه: (لا بد من حمله على إرادة حصول حالة الاحتجاب للنفس من تلك المعصية)(2)، وهو ما ذهب إليه من قبل المحقق الإيرواني(رحمه اللّه)، وقد فصلنا الكلام حوله سابقاً.
وعليه: فالرواية تدل على حرمة بعض أقسام اللّهو فقط.
الثالث: التصرف في (ألهى) بالقول: أن المراد به كل ما ألهى عن ذكر اللّه إلهاءً شهوياً، بدعوى: أن ظاهر اللّهو ما كان عن التذاذٍ شهوي.
لكن إن أريد بالشهوة: المعنى الأعم المشار إليه في آية: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
ص: 107
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(1)، فإن الظاهر عدم فتوى الفقهاء بحرمة كل ما يوجب التذاذاً شهوياً بالمعنى الأعم من الجنسي.
وأما إن أريد بها: المعنى الأخص، أي: الالتذاذ الشهوي الجنسي فلا بُعد فيه.
فلو تمّ سند الرواية أو بعض نظائرها، كانت دليلاً على حرمة كل ما يلهي عن ذكر اللّه مع كونه شهوياً جنسياً في غير الثابت حليته بالدليل الخاص كما في اللّهو مع الزوجة، فإنه خارج عن محل البحثغير مشمول للرواية - على فرض دلالتها على الحرمة - بالتخصيص المسلم، فالكلام فيما عداه، وذلك مثل الالتذاذ الشهوي بمطالعة قصة، أو خبر جنسي، أو مشاهدة رسم تخيلي لامرأة متوهمة من غير أن يوجب الاستمناء، وإلا حرم دون كلام، فتأمل.
وفيه: ان ظاهر اللغة - بل والعرف - أن اللّهو أعم من الشهوي بالمعنى الأخص، بل حتى بالمعنى الأعم المذكور في الآية، فتأمل.
وعلى أيّ فالأخص لا دليل من اللغة والعرف عليه، لكنه أحد المحتملات بعد تعذر المعنى الحقيقي، أما الأعم فلا توافقه الفتاوى.
الرابع: التصرف في (ألهى) بالقول ب-: أن المراد به ما ألهى بحسب طبعه ووضعه، فكل ما وضع للهو كالرقص والشطرنج فإنه حرام، دون ما استفيد منه أحياناً له كعدد من المباحات والمكروهات.
لكن قد يقال: ان ذلك مجاز؛ إذ ظاهر الأفعال الفعلية، لا الشأنية وكونه
ص: 108
بحسب وضعه أو طبعه.
ولو جمع هذا الوجه مع سابقه كان أقرب للقبول، ولعله ترشد إليه رواية وضع إبليس للمعازف وشبهها في قضية قابيل(1)، فتأمل.
الخامس: التصرف في (ذكر اللّه) بالقول: أن المراد به (ذكر اللّه الواجب)، ولا شك في أن ما ألهى عن ذكر اللّه الواجب - كالصلاة المضيَّقة - فإنه حرام عقلاً من باب المقدمية، وشرعاً على المنصور.
لكن التقييد بهذا - كسوابقه - بحاجة إلى الدليل، ويبقى أحد المحتملات إن تعذر المعنى الحقيقي.
وقد يستدل على الاحتمال الخامس - التصرف في (ذكر اللّه) بتقييده بالواجب، بوجهين:
الأول: الانقسام القهري ل-(ذكر اللّه) إلى الواجب والمستحب بضميمة برهان السبر والتقسيم؛ إذ لا شك في أن ذكر اللّه منقسم - بطبعه - إلى ذكر اللّه الواجب كالصلوات الواجبة، وإلى ذكر اللّه المستحب(2)، وهنا نستعين بالسبر والتقسيم فنقول: لا يعقل أن يكون ما ألهى عن ذكر اللّه المستحب حراماً، إذ المانع عن
ص: 109
المستحب أو المزاحم له لا يمكن أن يكون بما هو مزاحم للمستحب أو مانع عنه حراماً، إذ كيف يزيد الفرع والظل على الأصل وذي الظل؟ وهل يمكن القول - مثلاً -: بأن المانع عن صلاة الليل محرم؟
فلم يبق إلا ما يكون المراد: ما ألهى عن ذكر اللّه الواجب هو المحرم، وهو المطلوب.
الثاني: ظهور أن (ذكر اللّه) هو الغاية، وأن المحافظة عليه هي المصب والمحور، وأن الردع عن ما يلهي عنه طريقي لا موضوعي، فلاحظ الرواية: «كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر» تجد ذلك بوضوح.
والحاصل: إن الردع عن (ما ألهى عن ذكر اللّه) إنما هو لمقدميته لعدم ذكر اللّه، وذلك بمعونة الارتكاز، ولا يعقل أن تكون المقدمة محرمة عقلاً أو وشرعاً أيضاً، إلا لو كان ذوها محرماً، وليس ذوها المحرم إلا ترك ذكر اللّه الواجب.
ويمكن عدّ هذا الوجه بياناً آخر للوجه الأول، فتأمل(1).
السادس: أن يلتزم بأنه عام خرجت منه المباحات والمكروهات المسلّمة، فيبقى الباقي تحت عموم التحريم؛ نظراً لأن الميسر هو موضوع الحرمة في الشريعة دون ريب، سواءً أ كان قوله (عليه السلام): «فهو من الميسر» من باب الموضوع بأن يكون الشارع قد تصرف في الموضوع العرفي بالتوسعة، أم محمولاً وحكماً، ولو تممّ
ص: 110
الوجه الثالث بهذا الوجه لكان أقرب للقبول، وإن ورد على الثالث أنه لا دليل من اللغة أو العرف على تخصيص اللّهو بالشهوي.
لا يقال: إن الالتزام بذلك يعني إلغاء أصالة الإباحة والحل.
إذ يقال: كلا؛ إذ هذا أخص مطلقاً من أصالة الإباحة والحل، خاصة مع ضم الوجه الثالث إليه، إذ يكون الحاصل: أن الأصل في الأشياء الحلية والإباحة، إلا ما كان لهوياً عن التذاذ شهوي - أو لهوياً مطلقاً - فإن الأصل فيه: الحرمة.
وقد يستشكل على هذا الاحتمال السادس ب-: أنه يستلزم تخصيص الأكثر وهو قبيح.
والجواب: بعد عدم وضوح كونه كذلك صغرى(1)، أنه لا إطلاق للكبرى، إذ ليس تخصيص الأكثر قبيحاً مطلقاً.
بيان ذلك: إن قبح تخصيص الأكثر ليس ذاتياً له، بل هو بالوجوه والاعتبارات، فقد يكون جعل العنوان المستثنى أكثرُ أفراده موضوعاً للحكم هو الحسن الراجح، بل يكون خلافه خلاف الحكمة.
وذلك بوجوه:
منها: إثبات الرجحان للعنوان أو المرجوحية، وكونه ملاك الحكم ومنشؤه وعليه مداره لولا المعارض، مما لا يستفاد ذلك لو لميجعل نفس العنوان الذي يراد استثناء أكثر أفراده من الحكم، موضوع الحكم.
ص: 111
فمثلاً: لو كان ملاك حُكمه بإكرام الأطباء أو الفقهاء هو كونهم فقهاء أو أطباء، فإنه يرجح أن يقول: أكرم الأطباء أو الفقهاء، وإن كان قد استثنى بمتصل أو سيستثني بمنفصل الفساق منهم وإن كانوا هم الأكثر فيقول: (أكرم الأطباء إلا الفساق منهم)، مع علمه بأن أكثر الأطباء - فرضاً - فساق؛ فإن هذا هو الأرجح ما دام وجه حسن إكرامهم كونهم أطباء، وما دام وجه قبح إكرام الفساق منهم غلبه مفسدة إكرام الفاسق على مصلحة إكرام الطبيب.
ومنها: الجزالة والسهولة في التعبير بالجامع وجعله الموضوع للحكم وإن خرج منه الأكثر حكماً، بل وكونه هو مقتضى البلاغة وفصل الخطاب، ففي المثال السابق لو لم يُرِد أن يقول: (أكرم الأطباء)، ل-مّا لاحظ أنه سيستثني الأكثر الأفرادي وهم الفساق، فإنه سيضطرّ إلى التطويل في الكلام بلا طائل، بأن يقول - بعد أن لم يصح حسب المدعى أن يعبر بالجامع وهو كونهم أطباء -: أكرم زيداً وعمرواً وبكراً، وهكذا يعددهم إلى المائة - مثلاً - وهم الأشخاص العدول من الأطباء في ذلك البلد فرضاً، مع كون الفساق منهم خمسمائة فرضاً، أو يضطر إلى اختيار عناوين متعددة أخرى تنطبق على الأطباء العدول فقط(1)، وهو متعسر عادة إن لم يكن متعذراً.
ومنها: إقرار المرجعية لدى الشك في الشبهة المصداقية للمخصص، فإنه لو جعل محور حكمه وموضوعه (الأطباء) واستثنى الفساق ثم شك في طبيب أنه فاسق أم لا صح التمسك بالعام، وهذا إنما يتم لو جعل الموضوع هو العنوان
ص: 112
المستثنى أكثرُ أفراده، لا غير ذلك.
وقد يقال: بأن قبح استثناء الأكثر إنما هو في القضية الخارجية لا الحقيقية؛ إذ في القضية الحقيقية يصب الحكم على العنوان لاالأفراد، فلا مدخلية لكثرة أفراد المستثنى أو قلتهم بعد أن لم يكن الحكم منصباً عليهم، والأحكام الشرعية قد صبت على العناوين وأخذت بنحو القضية الحقيقية، ومنها: المقام وهو (كل ما ألهى عن ذكر اللّه...)، وخرجت منه عناوين المستحبات(1)
والمكروهات والمباحات.
وفيه تأمل من وجوه(2).
السابع: حمل الرواية على الأخلاقية، وكون التعبير ب-(فهو من الميسر) من باب المبالغة للتنفير والتنزيه.
وبعبارة أخرى: حمل الرواية على الإرشاد إلى أن وجه الحكم في تحريم الميسر، وهو الإلهاء عن ذكر اللّه تعالى متحقق - ولو بمرتبة ضعيفة - في كل ما ألهى عن ذكر اللّه، وإن لم يكن الإلهاء علة للتحريم ولم يكن هو من الميسر حقيقة.
لكن من الواضح أن ذلك مجاز أو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.
ص: 113
الثامن: أن يلتزم بما قاله الشيخ (رحمه اللّه) في ثاني محتملاته، بكون اللّهو ما يكون عن بطر - أي شدة الفرح -(1).
ولكن لا دليل من اللغة أو العرف على اختصاص اللّهو بما كانعن بطر، فهو تخصيص من غير مخصص، كبعض سوابقه.
وحينئذٍ: فإن استُظهر من الرواية أحد الوجوه السابقة فهو(2)، وإلا فالرواية مجملة لا يصح الاستناد إليها لتحريم مطلق ما يلهي عن ذكر اللّه.
ولعل الأقرب من الاحتمالات هو الوجه الأول، ولعله الذي عليه الفتاوى، وإلا فالوجه الخامس، وإلا فالثالث المتمم بالسادس، وإلا فمجملة،فتدبر وتأمل.
ومن الروايات التي استدل بها الشيخ (رحمه اللّه) على حرمة اللّهو بقول مطلق، خبر زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) في جواب من خرج في السفر يطلب الصيد بالبزاة والصقور، قال (عليه السلام): «إِنَّمَا خَرَجَ فِي لَهْوٍ لَا يُقَصِّرُ»(3).
ووجه الاستدلال: إن السفر إذا كان معصية فإنه يستدعي بقاء حكم التمام على المسافر، أو فقل: إنه يؤثر في عدم جواز القصر له خلافاً لحكم المسافر الذي هو القصر، فقول الإمام (عليه السلام): «إِنَّمَا خَرَجَ فِي لَهْوٍ لَا يُقَصِّرُ» دليل على أن السفر
ص: 114
اللّهوي محرم، لذا ترتب عليه عدم جواز صحة القصر له ولا وجه لحرمته إلا كونه لهوياً.
وقد أشكل على الاستدلال بالرواية بوجهين:
الأول: إنه من الممكن ثبوتاً أن يكون المؤثر - في عدم ثبوت القصر له - أمران: أن يكون سفره سفر معصية، أو أن يكون سفره سفر لهوٍ وإن لم يكن اللّهو معصية.
قال المحقق الإيرواني(رحمه اللّه): (فليكن "سفر اللّهو" عنواناً مستقلاًفي التأثير في عدم التقصير، غير عنوان "سفر المعصية")(1).
وقال السيد الروحاني(دام ظله): (وفيه: أولاً: إن هذه الطائفة تدل على أن السفر للصيد اللّهوي لا يوجب القصر، وهذا لا يلازم الحرمة، إذ وجوب (التمام) أعم من كون السفر معصية)(2).
أقول: قد يجاب عن هذا الإشكال ب-: ظهور الرواية عرفاً في أنه حيث عمل عملاً محرماً وهو (كونه لاهياً) فإنه لا يقصر.
وقد يجاب أيضاً عنه ب-: أن ارتكاز المتشرعة على أن السفر معصية غير مجوّز للقصر لا غير، أي بشرط لا، أي: إن سفر المعصية هو العلة المنحصرة بالنسبة إلى أنواع السفر المرجوح.
ص: 115
وقد يورد عليهما: أن الكلام في إثبات الصغرى وأن ارتكازهم على البشرط لائية، ثم على فرضه فإنه لابد من إثبات كون هذا المرتكز غير مستند إلى الفتاوى أو الفهم منها، وإن لم نحتج إلى إثبات اتصال الارتكاز على فرضه بزمن المعصوم (عليه السلام)، لما فصلناه في بحث (التبعيض في التقليد)، خاصة وأن دعوى الفهم العرفي قد تستند إلى الوجه الثاني، فتأمل.
والأولى الجواب ب-: أن ملاحظة سائر روايات الباب تفيدنا الاطمئنان بأن جهة عدم جواز القصر للسفر اللّهوي هو كونه معصية، بل بعض الروايات لعلها صريحة في ذلك.
وقد نقل في الجواهر بعض النصوص، قال:
(ثم إن ظاهر المتن كصريح غيره(1) كون التمامِ في "السفرِلصيد اللّهو" لأنّه معصية، فهو حينئذٍ من السفر للمعصية، ولعله لأن الصيد من الملاهي كما هو صريح خبر زرارة عن الباقر (عليه السلام): سألته عمّن يخرج بأهله بالصقور والبزاة والكلاب يتنزّه الليلة والليلتين والثلاثة، هل يقصّر من صلاته أم لا يقصّر؟ قال (عليه السلام): «إنّما خرج في لهوٍ لا يقصّر» قلت: الرجل يشيّع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان؟ قال (عليه السلام): «يفطر ويقصّر، فإنّ ذلك حقّ عليه»(2).(3)
فيندرج فيما دلّ حينئذٍ على حرمتها.
ص: 116
ولقول الصادق (عليه السلام) في خبر ابن بكير: «... إن التصيّد مسير باطل، لا يقصّر الصلاة فيه»(1).
وفي خبر عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام) أيضاً: «يتمّ؛ لأنه ليس بمسير حقّ»(2).
ومرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام) - أيضاً - قلت له: الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة، يقصّر أو يتمّ؟ فقال (عليه السلام): «إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة»(3).
وخبر حمّاد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(4) قال: «الباغي باغي الصيد، والعادي السارق، وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين، وليس لهما أنيقصّرا في الصلاة»(5))(6) - إنتهى.
فإن ظاهر قوله (عليه السلام): «إن التصيد مسير باطل» أنه محرم، ولا يراد بالبطلان الحكم الوضعي لعدم تصوره في المقام أو استبعاده(7)، فهو كقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(8) الظاهر في أن وجه تحريم أكلها هو كونها بالباطل؛ إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وأما استعمال الباطل في
ص: 117
غير الحرام فإنه أعم من الحقيقة بل هو مجاز، وكذلك كون البطلان بمعنى غير ذي الفائدة، فتأمل(1).
كما أن ظاهر «ليس بمسير حق» حرمته، وكذا ظاهر «وإن خرج لطلب الفضول فلا، ولاكرامة» لدلالته على المبغوضية بدرجة أوجبت سقوط الأثر، فتأمل.
وقد يقال: إن الخبر الأخير لعله صريح في الحرمة، وإنها وجه عدم القصر في الصلاة حيث ان الإمام (عليه السلام) حرّم أكل الميتة اضطراراً على سفر اللّهو، مع أن من الواضح أنه لو كان السفر مكروهاً فحسب، لما ترتب عليه حرمة أكل الميتة اضطراراً، إذ ما من شيء حرمه اللّه إلا وقد أحله لمن اضطر إليه، وخرج منه من وقع في الاضطرار لارتكابه محرماً؛ فإنه يحرم عليه الأكل وإن خاف التلف أكل، لكنه معاقب إذ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، والظاهر بقاء كل مرتكب للجائز بالمعنى الأعم على الحكم(2)، فتأمل(3).
لكن لعل مجموع الروايات يورث الاطمئنان بما ذكره (قدس سره).
ثم إن فهم الفقهاء ذلك(4) من الروايات - على مرّ التاريخ - يؤيد أو يدل على ما ذكرناه، ولذا قال في الجواهر: ( ولو كان" السفر "معصية لم يقصّر،
ص: 118
كاتّباع الجائر وصيد اللّهو، بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل هو مجمع عليه تحصيلاً ونقلاً مستفيضاً كالنصوص)(1).
وقال: (ثم إن ظاهر المتن كصريح غيره(2)
كون التمامِ في السفرِ لصيد اللّهو لأنه معصية، فهو حينئذٍ من السفر للمعصية)(3).
وقال: (إلى غير ذلك ممّا يدلّ عليه من النصوص(4) المعتضدة بالفتاوى التي لا أجد خلافاً فيها في ذلك، إلا أنّه لم يستوضحه المقدّس البغدادي بعد أن حكاه عن الفاضلين(5) والشهيدين وغيرهم)(6).
وبعد أن نقل كلامه بطوله، قال: (قلت: وهو على طوله كأنه اجتهاد في مقابلة النصّ حكماً وموضوعاً، واستبعاد لغير البعيد، ولا تلازم بين حرمة ما نحن فيه وبين حرمة سائر أفراد التنزّه بالخضر والبساتين والأودية ونحوها، كي يجب الحكم بعدم الحرمة هنا المستفادة من النصوص والفتاوى، لعدم الحرمة هناك، للأصل والسيرة القطعية وغيرهما.
نعم هذا كله لو كان لهواً كما يستعمله الملوك، وأمّا لو كان - أيالصيد - لقوته وقوت عياله قصّر)(7).
ص: 119
الثاني: ما ذكره في فقه الصادق (عليه السلام) بقوله: (وثانياً: إنها لو دلت على الحرمة فإنما تدل على حرمة الصيد اللّهوي، وهذه لا تلازم حرمة اللّهو بقول مطلق(1)، إذ لعل في هذا القسم منه خصوصية كما تقدم)(2).
أقول: الظاهر تمامية هذا الإشكال؛ إذ الظاهر أن الخروج - أي للصيد - في لهو هو علة عدم التقصير، وكون هذا حراماً - بعد رفض الإشكال الأول - لا يستلزم كون مطلق اللّهو حراماً، إذ قد تكون الحرمة متقومة باللّهو الصيدي أي الصيد لا لغايةٍ، أي بهما معاً؛ لما فيه من إهلاك الحيوانات من غير وجه وغرضٍ.
بل إن احتمال ذلك كاف، إذ احتمال كون الخروج للصيد مقدمياً صرفاً أو كالحجر في جنب الإنسان، وكون العلة للتحريم هي اللّهو بمفردها، معارض باحتمال كونه مقوماً للحرمة(3)، ومع هذا الاحتمال فإنه لا يحرز كون عنوان اللّهو بنفسه وبمفرده سبب التحريم وموضوع الحرمة، فتدبر.
ومن الروايات التي استدل بها الشيخ (رحمه اللّه) على حرمة مطلق اللّهو، خبر أبي عباد، عن الإمام الرضا (عليه السلام) في السماع(4)، فقال (عليه السلام): «لأهل الحجاز فيه رأي، وهو في حيّز الباطل واللّهو، أماسمعت اللّه عزوجل يقول: (وَإِذا مَرُّوا
ص: 120
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(1) »(2).
وجه الاستدلال: إن السائل سأل عن جواز وحرمة الغناء، فإن المسألة كانت مورد خلاف شديد بين كثير من العامة وبيننا، وكان ديدن السلاطين - الذين سُمّوا بالخلفاء - وديدن أهل الفسق والفجور على السماع، فأجابه الإمام (عليه السلام) - بما يفهم منه الحرمة وعلتها - بقوله: بأنه في حيّز الباطل واللّهو، وكيف يكون غير المحرم (لو فرض أن اللّهو والباطل غير محرمين) علة للقول بتحريم أمرٍ كالغناء؟! ولا يحتمل أن مراد الإمام (عليه السلام) هو مجرد المرجوحية بحد الكراهة لا لقرينة المقام فقط كما سبق(3)، بل لكثرة الروايات الدالة على حرمته، فلتكن قرينة على أن مراده من «وهو في حيز الباطل» فهو حرام وإن «لأهل الحجاز فيه رأي» أي بالحرمة(4) لا مجرد الكراهة، ومقصوده من أهل الحجاز علماؤه من أهل البيت وهو (عليه السلام) سيدهم.
ولكن أشكل السيد الروحاني(دام ظله) على الاستدلال بالرواية بقوله: (وثانياً: إنه لا يدل على حرمة اللّهو، وكون الغناء المحرم من أقسامه لا يدل على حرمة مطلقه)(5).
ص: 121
لكن هذا الإشكال غير وارد، إذ الظاهر أن الإمام (عليه السلام) رتّب صغرى وكبرى، وهما أن الغناء في حيز اللّهو والباطل، وكل ما كان كذلك فهو حرام.
وبعبارة أخرى: ظاهره التعليل بأمر محرم ارتكازاً حتى لدىالسامع(1) وهو حرمة كل ما يكون في حيز الباطل واللّهو، وإلا لما تم رد الإمام (عليه السلام) للجواز، ولما صح تعليله بأنه في حيز اللّهو والباطل كدليل على تحريمه المستفاد من لحن الخطاب وقرينة المقام.
وبعبارة ثالثة: كيف يستدل الإمام (عليه السلام) على حرمة الغناء بما هو أعم من الحرمة لو قيل: إن مبناه (عليه السلام) كون اللّهو والباطل أعم من الحرام، لوضوح ظهور قوله (عليه السلام) «وهو في حيز... » في كونه تعليلاً لقوله بالحرمة؟!
وبعبارة رابعة: إن قرينة المصب والغاية - وهي قصد بيان حرمة السماع - دليل واضح على أن المبنى في اللّهو والباطل هو الحرمة.
إلا أن يقال: بأن الإمام (عليه السلام) اكتفى ببيان مرجوحية الغناء واللّهو، والشاهد الاستشهاد بالآية الكريمة، وأن هذا المقدار كان يكفي لتقبيح عملهم، إلا أن يجاب بما ذكرناه في وجه الاستدلال، فتأمل.
وقد يورد على الاستدلال بالطائفة الخامسة من الروايات ب-: ما أوردناه على استدلال الشيخ (رحمه اللّه) بالطائفة السابعة الآتية من الروايات، (ما دل على أن اللّهو باطل، بضميمة ما دل على أن الباطل حرام) من:
أن للباطل إطلاقات فلم يتكرر الحد الأوسط في القياس، أو لم يعلم
ص: 122
تكرره، فنقول هنا ايضاً:
أولاً: ان ل-(اللّهو) أيضاً إطلاقات(1)، والأخص منها: ما كان عن شهوة بالمعنى الأخص(2)، ولم يعلم تكرره بنفسه في الصغرى والكبرى، أو أنه أريد باللّهو في الصغرى والكبرى المعنى الأخص، فلا يدل على حرمة المعنى الأعم.
واستدلال الإمام (عليه السلام) على حرمة الغناء به بما يعود إلى هذهالصغرى والكبرى (الغناء لهو واللّهو حرام)(3)
لا يكون دليلاً على حرمة مطلَقِه؛ إذ لعل المستعمل في كلام الإمام (عليه السلام) هو إطلاقه بالمعنى الأخص(4)، ويؤكده: كونه سِيق مع الباطل بعصا واحدة، والمراد بالباطل: معناه الأخص، وعلى أي حال فإنه يكفي الاحتمال لنفي الاستدلال، فقوله (عليه السلام): (وهو في حيز الباطل واللّهو) أي في حيز الباطل واللّهو بالمعنى الأخص، وكل ما كان كذلك فهو حرام، فلا يدل على حرمة كل ما كان في حيز الباطل واللّهو بالمعنى الأعم، فيكون القياس السابق هكذا: (الغناء لهو بالمعنى الأخص واللّهو بالمعنى الأخص حرام).
وأما لو أريد المعنى الأعم(5) فإنه بحاجة إلى تفسير وتوجيه.
وقد فصلنا في موضع آخر وجه استدلال الإمام (عليه السلام) بناءً على إرادة الأعم استناداً إلى الإطلاق الآخر للهو (الأعم) بوجوه:
ص: 123
منها: إنه إقناعي(1)، ومنها: إنه استدلال بالمقتضي(2) وإنه يتم بالتلازم العرفي فراجع، هذا إن لم نقل إنه أريد به الأخص بمناسبة الحكم والموضوع.
لكن نضيف: إنه يوضحه قولك - لمن يعترض على حرمة الخمر -: الخمر حرام لأنه مضر بالصحة، والاستدلال عرفي تام مع أنه ليس مطلق المضر بالصحة حراماً، وذلك لأنه أريد منه الإضرار بالصحة بالمعنى الأخص، وعليه يتم الاستدلال من جهة، ولا يكون هذا الكلام دليلاً على التزام قائله بحرمة مطلق المضر بالصحة من جهة أخرى، فتدبر.
كما أنه لو قلنا بأن للهو معنى واحداً هو الأعم وأنه محرم مطلقاً، لما احتجنا إلى توجيه أيضاً، فتأمل.
أما إذا أريد المعنى الأخص من اللّهو فسنكون بغنى عن هذه التوجيهات.
لكن الالتزام بتعدد إطلاقات اللّهو مشكل، والقول بأن قياس الإمام(3) مبني عليه في صغراه وكبراه - بالاختلاف - أشكل، فتأمل(4).
ثانياً: إن الظاهر أن ما ذكر في كلام الإمام (عليه السلام) هو حكمة، فلا يدل على دوران الحكم (وهو الحرمة هنا) وجوداً وعدماً مدار اللّهو والباطل، وذلك كأغلب ما ذكر في كلام الشارع تعليلاً للأحكام حتى لو لم نصِر على ما التزمنا به من كون الأصل - الذي لا يخرج منه إلا النادر - في علل الشارع إنها حِكَم، وذلك كتعليلهم وجوب العدة ب-(كي لا تختلط المياه)، فإنه حكمة لا علِة، ولذا لو علم ببراءة رحمها من الحمل أو من مائه،
ص: 124
لعزله قطعاً، فإنه لا يرفع عن الرجعيةِ العدةَ، فتأمل(1).
لا يقال: إن الظاهر - ولا أقل من المحتمل - أن يكون المحرم ما كان مجمع العنوانين (الباطل واللّهو) لا أحدهما فحسب.
إذ يقال: الظاهر كون كل منهما علة مستقلة للتحريم، وإلا لما عطف الإمام (عليه السلام) بالواو بل حذفها(2)؛ أرأيت الفرق بين قولك: أكرم العالم والطبيب، وقولك: أكرم العالم - الطبيب؟ فإن ظاهر الأول كون كل من العنوانين علة مستقلة تامة لوجوب الإكرام، عكس الثانيالظاهر في أن مجموع العنوانين هو العلة، فتأمل.
وقد يجاب أيضاً: بأن العطف تفسيري أو هو عطف الأعم على الأخص(3)، لكنه متوقف إما على إثبات تساوي اللّهو والباطل، وأن كل لهو باطل وكل باطل لهو(4)،
أو على إثبات كون اللّهو أعم مطلقاً من الباطل(5)، أما
ص: 125
مع دعوى كون النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه(1) فلا، إلا مع إثبات ظهور كون كل منهما علة مستقلة، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في بعض المباحث فليراجع.
كما استدل الشيخ بخبر عبد الأعلى عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن الغناء، وقلت: إنهم يزعمون أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رخص في أن يقال جئناكم جئناكم حيُّونا حيُّونا نحيِّكم(2)! فقال: «كَذَبُوا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ يَقُولُ: (وَما خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(3)» ثم قال: «وَيْلٌ لِفُلَانٍ مِمَّا يَصِف» رجل لم يحضر المجلس)(4).
فقد كذّب الإمام (عليه السلام) نسبتهم الترخيص في الغناء للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)مستدلاً ب-: الآية وعدم اتخاذه تعالى اللّهو، إذ لو لم تكن الآية دالة على حرمة اللّهو - بوجهٍ من الوجوه - لما كان معنى ووجه لرد زعمهم بترخيص الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للغناء، استناداً إلى هذه الآية، خاصة مع تكذيبه إياهم بهذه الطريقة القوية.
ص: 126
لكن أشكل في فقه الصادق (عليه السلام) على الاستدلال بهذه الرواية، بقوله: (إنه يدل على أن اللّهو لا يناسب ساحته المقدسة، وهذا لا يلازم حرمته علينا كما هو واضح، والاستشهاد بالآية الشريفة لحرمة القول المزبور إنما هو من قبيل ذكر المناسبات)(1).
أقول: إنه لولا استدلال الإمام (عليه السلام) على الحرمة بدلالة الآية على حرمة اللّهو، لما كان وجه لردّ الإمام (عليه السلام) زعمهم ترخيص الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذكر الآية؛ إذ كيف يجاب من زعم أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رخّص في الغناء، بأن اللّهو لا يناسب ساحة اللّه تعالى مع التزامه بأن اللّهو غير محرم؟!(2) وبأن الآية لا دلالة فيها على حرمة اللّهو، بل حتى لو كان اللّهو ممتنعاً عليه فرضاً(3) فأي ربط له بتحريم الغناء علينا، خاصة مع دعوى التزامه بأن اللّهو غير محرم(4)؟! أو بأن الآية لا دلالة فيها على تحريم اللّهو.
وكونه من قبيل المناسبات، إضافة إلى أنه خلاف ظاهر المقام، والجواب لا يصلح رداً لذلك الزعم بالمرة، بل هو غريب؛ إذ كيف يواجه الإمام (عليه السلام) طوائف كبيرة يزعمون بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رخّص الغناء ويقول عنهم إنهم (كذبوا)، باستناده إلى آية لا تدل على الحرمة أبداً - حسب كلامه دام ظله - بل غاية ما تدل عليه أن الغناء لا يناسب ساحة اللّه تعالى؟!
وسيأتي ذكر أكثر من وجه دال على أن الإمام استند إلى الآية لتحريم مطلق
ص: 127
اللّهو، وسنوضح الربط بوجه لطيف دقيق بين الآية وبين تحريم الغناء استناداً إليها، فليتدبر فيها الباحث الكريم، ومن الوجوه ما يظهر بالتدبر في تمام الآيات التي تلاها الإمام (عليه السلام) ، ولعله (دام ظله) حيث لم يُنقل إلا بعض الآية، لم يلاحظ وجه الربط، فعدّه من المناسبات فقط.
ويمكن الجواب عن الإشكال من وجوه(1):
الوجه الأول: الاستدلال بظهور الآية في منافاة مطلق اللّهو؛ ومنه: الغناء، للغرض من الخلقة.
فإن استدلال الإمام (عليه السلام) بآية (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً...) على حرمة الغناء حيث أنه كذّب - استناداً إليها - مَن زعم أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد رخّص في بعض مصاديقه، مبنيٌ على ظهور الآية في كون خلق السماء والأرض وما بينهما - ومنه الإنسان - لغايةٍ، لا عبثاً ولهواً، وأن اللّهو يضاد هدفية الخلق والخلقة، فهو حرام مطلقاً - حسب ظاهر الاستدلال - وهذا هو ظاهر الآيات، ولذلك تلاها الإمام (عليه السلام) بأجمعها ولم يقتصر على (لَوْ أَرَدْنَا...)، والآية بتمامها ظاهرة في ذلك، فلاحظ قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)، فإن الآية صريحة في أن خلق السماوات والأرض وما بينهما - ومنه الإنسان - لم يكن لعباً وبلا غاية بل
ص: 128
هو لغاية، وعليه: فكيف يقال بجواز الغناء وهو لهو لا منفعة له ولا يصب في الغاية من الخلق بل يضادها؟! ثم يتأكد ذلك بقوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ...)، فإن اتخاذ اللّه اللّهو، ودعوى خلقه السماوات والأرض لعباً، باطل يقذف اللّه تعالى بالحق عليهفيدمغه، ولا ريب أن ما يُقذف الحق عليه فيُدمغ ليس مرجوحاً فحسب، بل هو محرم تشريعاً إن كان من عالم التشريع، أو ممنوع ومدفوع تكويناً إن كان من عالم التكوين.
والحاصل: إن تشريع اللّهو - أي جوازه - يتنافى مع الغرض من الخلقة، ولو تمّ هذا لدل على حرمة مُطلَقِهِ إلا ما خرج بالدليل على استحبابه أو كراهته أو إباحته بعنوانه، فلا يقال: إنه معارض بما دل على جواز بل رجحان أقسام من اللّهو - كاللّهو مع الطفل أو مع الزوجة، أو ما أشبه - إذ هي من الاستثناء الذي لا يضاد الأصل بل يؤكده، وتوضيحه في ضمن الإشكال والجواب الآتي:
لا يقال: هذه الدعوى تنافي الضرورة القائمة على حلية كثير مما ينافي الغرض من الخلقة، كالنوم(1) الاختياري الزائد عن الحاجة، وأنواع اللّهو المحلل.
إذ يقال: ذاك هو الأصل، وهذه ونظائرها مستثنيات، ولا مانع من استثناء المولى المحيط بالجهات لا لمولويته فحسب(2) بل لملاحظته وجود جهات مزاحمة كمصلحة التسهيل ومصلحة التخفيف، كي لا يفوّت العبد الغرض بأكمله أو الأهم من الأغراض لو ضُيِّق عليه، إذ أن كثيراً منهم لا يتحمل التكليف المطلق الدائم، بتحصيل الغرض الأكمل من الخلقة وهو عبادته جل اسمه دائماً،
ص: 129
بنحو: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)(1).
والحاصل: إن تجويز اللّهو في بعض أنواعه، لا ينافي حرمته بشكل عام كما لا ينافي الغرض من الخلقة إذا كان مقدمة لإحراز تحقق بعض مراتبه - على الأقل -، وإن فوّت بعضها الآخر، كما لا ينافيه لو زوحم بمصالح أخرى تؤدي إلى تحقيق الغرض من الخلقة بوجه آخر، كما في تجويز - بل تحبيذ - الزواج وما يستتبعه ويتضمنه منلهو والتذاذ، حيث كان مقدمة للتناسل الذي به قوام حفظ البشرية وديمومة خط خلافة اللّه في الأرض، وغير ذلك، فتدبر جيداً.
الوجه الثاني: وقد يصار إلى التمسك بإطلاق (لهواً) في الآية الكريمة بأن يقال: إن ظاهر الآية أنه تعالى لا يتخذ اللّهو سواءً التكويني منه - باتخاذ المرأة أو الولد - أم التشريعي بتشريع اللّهو - أي جوازه -.
لكن قد يورد عليه ب-: أنه ينفيه مصب الآية لا سياقها فقط، فلاحظ قوله تعالى: (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) فإن الاتخاذ من لدنه يناسب كون الكلام عن اللّهو التكويني، بأن يتخذ امرأة - وفرض المحال ليس بمحال - من سنخ عالم الآلهة - كما كان يزعم المشركون - لا من سنخ الملائكة ، لا عن اللّهو التشريعي أي: تشريع اللّهو بلحاظ أن تشريع اللّهو لهو، إضافة إلى ظهور (نتخذ) في غير تشريع اللّهو، فإنه لا يعبر عنه بالاتخاذ، فتأمل.
الوجه الثالث: إن استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية إنما هو من باب الانتقال لا
ص: 130
الاستعمال(1)، وذلك بأن يكون الإمام (عليه السلام) قد انتقل من الصغرى التي صرحت بها الآية - وهي عدم اتخاذ اللّه تعالى لهواً كالمرأة والولد - إلى الجامع والكبرى الكلية - وهي أن اللّه تعالى لا يتخذ لهواً لا تكويناً ولا تشريعاً، أي لا يصدر منه اللّهو ولا يشرعه - فيكون الغناء صغرى كبرى الجامع الذي صرح به الإمام (عليه السلام)، منتقلاً من صغرى الآية إليه، فتفيد الآية بمعونة الرواية حرمة اللّهو بقول مطلق.
ثم إن قول الإمام (عليه السلام): «ويل لفلان مما يصف»، يمكن أن يكون من هذا الباب (أي الانتقال)، كما يمكن أن يكون من الوجه الرابع، بل وأحد الأولين أيضاً - على فرض تماميتهما -فإن قول فلان يكون حينئذٍ صغرى كبرى (مما تصفون).
الوجه الرابع: إن استناد الإمام (عليه السلام) إلى الآية، إنما هو من باب التأويل والبطن لا التنزيل والظاهر، ومن الواضح أن التأويل له قواعد وضوابط ومقاسات أخرى غير ضوابط وقواعد التنزيل والظاهر، فلا مجال للإشكال بأن الاستشهاد بما لا يليق بساحته تعالى على حرمةِ أمرٍ إنما هو من قبيل المناسبات(2)، إذ ذلك قد يكون تاماً على حسب مقاييس الظاهر لا الباطن والتأويل، فإن التأويل له أبعاده وحدوده ومقاساته التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(3).
ص: 131
ويظهر ذلك جلياً عند مراجعة مختلف روايات التأويل والبطون، إذ لها عالمها ومقاساتها التي لا يصح أن تقاس بضوابط عالم التفسير من تأنيث وتذكير وعموم وخصوص ووضوح وغموض وغير ذلك، فلا يصح الإشكال عليها بها.
ولنضرب لذلك مثالاً: فقد جاء في الكافي الشريف:
(عن الأصبغ بن نباتة، أنه سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى: (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(1).
فقال (عليه السلام): «الوالدان اللذان أوجب اللّه لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورّثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما، ثم قال اللّه: (إِلَيَّالْمَصِيرُ)، فمصير العباد إلى اللّه، والدليل على ذلك الوالدان». ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه، فقال في الخاص والعام:« (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْ-رِكَ) تقول في الوصية وتعدل عمن أُمرت بطاعته: (فَلا تُطِعْهُمَا) ولا تسمع قولهما». ثم عَطَف القول على الوالدين، فقال (عليه السلام): « (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)، يقول عرِّف الناس فضلهما، وادع إلى سبيلهما، وذلك قوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) »، فقال (عليه السلام): «إلى اللّه ثم إلينا، فاتقوا اللّه ولا تعصوا الوالدين، فإن رضاهما رضى اللّه وسخطهما سخط اللّه»(2) - الخبر)(3).
ص: 132
والحاصل: إن (لوالديك) تارة يفسر بأنهما مصداق للوالدين وهذا تفسير(1) وليس تأويلاً، وتارة يفسر كما فسرته الرواية، وهو تأويلوليس تفسيراً للفظ، أي: هو ما يؤول إليه هذا الظاهر بحسب باطنه الذي أودعه اللّه تعالى عندهم، فتأمل.
ومن الواضح أنه مع كونه تأويلاً لا مجال للإشكال مثلاً ب-: عدم التطابق بين الوالدين بالمعنى الحقيقي والوالدين بالمعنى المؤول، بدعوى: أن الوالدين أحدهما رجل والآخر امرأة وليس في التأويل كذلك؛ إذ يجاب ب-: أن التأويل
ص: 133
بطن لا يشترط تطابقه مع الظهر لا لفظاً ولا معنى، نعم يشترط فيه أن يصدر ممن نزل القرآن في بيوتهم، لأنهم الذين أودعهم اللّه تعالى علم التنزيل وعلم التأويل، فكما أنهم المرجع والحَكَم في التنزيل كذلك هم المرجع والحكم في التأويل.
ويُقرِّب ذلك(1) إلى الذهن التشبيه (من المجازات) فعندما يقال: زيد أسد، لا يصح الاعتراض بأن الأسد له مخالف وأنياب و...، فكيف تقول زيد أسد؟
ثم لا يخفى أن الوجه الأول مبني على ملاحظة الآيات التي تلاها الإمام (عليه السلام) بتمامها، أما الوجوه الثلاثة الأخيرة فيكفي فيها ملاحظة خصوص قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).
ومما استدل به الشيخ (رحمه اللّه) على حرمة اللّهو بقول مطلق، قوله: (ومنها ما دل على أن اللّهو من الباطل بضميمة ما يظهر منه حرمة الباطل كما تقدم في روايات الغناء، ففي بعض الروايات: «كلّ لهو المؤمن من الباطل، ما خلا ثلاثة: المسابقة، وملاعبة الرّجل أهله ...»(2). وفي رواية عليّ بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه، قال: سألته عن اللّعب بالأربعة عشر وشبهها، قال (عليه السلام): «لا نستحبّ شيئاً من اللعبغير الرّهان والرّمي»(3)، إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبّع.
ويؤيّده: أن حرمة اللعب بآلات اللّهو، الظاهر أنه من حيث اللّهو لا من
ص: 134
حيث خصوص الآلة، ففي رواية سماعة قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ل-مّا مات آدم شمت به إبليس وقابيل، فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم (على نبينا وآله وعليه السلام) فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضّرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك»(1) فإن فيه إشارة إلى أن المناط هو مطلق التّلهي والتلذذ)(2). انتهى.
أقول: ذكر الشيخ قدس سره في هذا المقطع ثلاث روايات على حرمة اللّهو، و مورد البحث وهو الطائفة السابعة وان كان الرواية الأولى، الا اننا ندرس الرويات الثلاث تتميماً.
أما الرواية الأولى، فقد نقلها الشيخ بالمضمون، ونصها: «كُلُ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ فِي تَأْدِيبِهِ الْفَرَسَ وَ رَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ وَ مُلَاعَبَتِهِ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ حَق... »(3).
ولكن هل المراد بال- (باطل): العرفي أو الشرعي أو الواقعي؟ سيأتي، وما هو وجه تخصيص اللّهو بإضافته للمؤمن؟ وهل له مدخلية في الاستدلال؟ سيأتي بإذن اللّه تعالى.
الإشكال بأن اللّهو أطلق على المستحب(4)
وعلى أي فقد أشكل في مصباح الفقاهة على الاستدلال بالروايات الوارد
ص: 135
فيها لفظ اللّهو في مبحث القمار(1)، ب-: أن اللّهو أطلق على بعض الأمور المستحبة، ومنه قوله (عليه السلام): «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ وَ مُفَاكَهَةِ الْإِخْوَانِ وَ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ»(2)، وعليه: فلا يدل كون شيء من اللّهو على كونه باطلاً، كي يقال: وكل باطل حرام، قال(3): (بل قد أطلق اللّهو على بعض الأمور المستحبة في جملة من الروايات، كسباق الخيل ومفاكهة الإخوان وملاعبة الرجل أهله ومتعة النساء، فإنها من الأشياء المندوبة في الشريعة، ومع ذلك أطلق عليها اللّهو)(4).
أقول: ليس هذا الإشكال وارداً على الشيخ(5), إذ الاستعمال أعم من الحقيقة، فإن إطلاق اللّهو على المستحب استعمالٌ؛ وهو أعم من الحقيقة.
ومع ذلك فإنه لا يرد هذا الإشكال بعينه (الاستعمال أعم من الحقيقة) على الشيخ (رحمه اللّه) حيث استدل بالرواية التي أطلقت الباطل على اللّهو «كل لهو المؤمن باطل إلا...»، وذلك(6) لوجه دقيق هو:
إن الإدخال غير الاستعمال، والاستعمال أعم من الحقيقة، أما الإدخال
ص: 136
فهو دليل الحقيقة وكذلك الحمل بلا عناية، والظاهر من قوله: (كل لهو المؤمن باطل) كونه حملاً بلا عناية وتجوز، عكس زيد أسد أو قمر، هذا ان كانت الرواية بلا كلمة (من)، اما لو كانت متضمنة لكلمة (من) كما هو الموجود من نقل الشيخ (كلّ لهو المؤمن منالباطل) ، فيكون من باب ادخال فرد ضمن نوعه او جنسه، وهو أيضا ظاهر في الحقيقة.
توضيحه: أما أن الاستعمال أعم من الحقيقة فواضح ومسلّم، لأن الاستعمال أعم من كونه بعناية أو لا، أي: أعم من كون المستعمل فيه هو الموضوع له أو لا بل لمصححٍ من علائق التجوز.
وأما أن الإدخال وكذا الحمل بلا عناية علاقةٍ مصححةٍ دليل الحقيقة، وأن المورد من الإدخال أو الحمل دون عنايةٍ:
فبيانه: أن ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) - على تقدير وجود (من) كما هو المنقول في كلام الشيخ - هو: أن اللّهو داخل في دائرة الباطل، وأنه أخص منه مطلقاً؛ لشهادة كلمة (من) على تقدير وجودها، وظاهر الإدخال الحقيقة.
وأما على تقدير عدم وجود لفظة من في الرواية فظاهره: أن اللّهو مرادف للباطل أو مساوٍ له أو أخص؛ إذ الحمل يحتمل الوجوه الثلاثة، وظاهر الحمل - من دون لحاظ علاقة مصححة - الحقيقة.
والحاصل: إننا لا نستدل بالاستعمال على الحقيقة بما هو مجرد استعمال، أي: لا نستدل بمجرد استعمال اللّهو في الباطل أو الباطل في اللّهو على أنه حقيقة فيه، بل استدللنا - بناءً على عدم وجود (من) - بحمل الإمام (عليه السلام) الباطل على اللّهو، وظاهر الحمل هو حمل هو هو ثم حمل ذو هو(1)، والحمل المجازي ليس
ص: 137
بأي منهما، وهو خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا بدليل، ولذا كان من علائم الحقيقة صحة الحمل، فقول الإمام (كل لهو المؤمن باطل) كقول الخبير فرضاً (كل ماء معدني فهو ماء) أو (كل ضالٍ منحرف) إذ ظاهره الحقيقة وأنه بلا عناية.
وأما بناءً على وجود (من) فالأمر أوضح، إذ ظاهر إدخال عنوانٍ في عنوانٍ أنه من أنواعه وأصنافه، فهو كقول الخبير: المياه الزاجية من المياه، أو كقوله: التماسيح من الزواحف، فإن ظاهره بيان الحقيقة والماهية، وأنه صنف من أصنافه لا أنه حمله عليهمجازاً.
وبعبارة أخرى: هنا أصلان: (الأصل: الاستعمال في الحقيقة) أي في المعنى الحقيقي - والمقام منه - ،و(الاستعمال أعم من الحقيقة) - وليس المقام منه - .
ومورد القاعدة الأولى: ما لو كان المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معلومين، ثم استعمل اللفظ، فقال: جئني بأسد - مثلاً - فإن الأصل هنا الاستعمال في الحقيقة، فيقال: إن مقصوده الحيوان المفترس لا الرجل الشجاع، وكذا لو قال: رأيت أسداً، وليس له أن يستخدم في المجاز إلا بقرينة، ك-(زيد أسد)، والقرينة هنا قطعيةُ كونهِ غيرَه عرفاً ولغةً وعقلاً فيصار إلى أنه أطلقه عليه مجازاً.
ومورد القاعدة الثانية: ما لو كان المعنى الحقيقي والمجازي مجهولين، ثم استعمل اللفظ في معنى، فإنه - أي الاستعمال - لا يدل على أنه - أي المستعمل فيه - هو الموضوع له الحقيقي، وكذا لو كان كلاهما معلوماً لكن لم يعلم أن الاستعمال كان بلا عناية أو معها، ولم يكن أصل منقح لذلك.
والحاصل: إن الاستعمال بنفسه لا يشخِّص الموضوع له إذا كان مجهولاً،
ص: 138
أما إذا كان معلوماً فإن أصالة تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية هي التي تفيدنا: (الأصل الاستعمال في الحقيقة)، ولو لم يجر هذا الأصل لوجه من الوجوه(1)، لما علم من الاستعمال المجرد بما هو، حال المستعمل منه أو نوع الاستعمال.
والمقام من قبيل القاعدة الأولى؛ إذ معنى اللّهو والباطل معلوم عرفاً - كما سيأتي مزيد بيان له - فلو أطلق الباطل على اللّهو وحملعليه، كان من الحقيقة، بل حتى لو فرض كونهما مجهولين - أي في حدودهما، وكون أحدهما أخص من الآخر مطلقاً، أو كونه معه من وجه - ثم وجدنا حمل أحدهما على الآخر من الخبير مطلقاً بلا عناية، فإنه دليل الحقيقة، أو فقل وبه يحرز الوضع في رتبة سابقة.
نعم، غاية الأمر أنه بعد معلومية المعنيين قد تجهل النسبة بينهما، بأنها من وجه أو المساواة أو العموم والخصوص المطلق أو حتى التباين، فيكون الحمل بلا عناية دليلاً على أن النسبة ليست التباين ولا من وجه(2)، وأما الإدخال ببركة (من) أو غيرها، فإنه يفيد الأكثر؛ إذ يفيد - إضافةً إلى النسبةِ المصداقيةِ - المفهومَ أيضاً، وأنه داخل في مفهومه وحقيقته نوعاً أو صنفاً، فتدبر جيداً.
وبهذا يظهر عدم ورود الإشكال على الشيخ (رحمه اللّه).
ص: 139
وأما الاستدلال ب-(بل أطلق اللّهو على بعض الأمور المستحبة)، ففيه: أنه لا ريب في كون هذا الإطلاق مجازياً بعد قطعية عدم كون صلاة الليل - وهي التي أطلق اللّهو في الرواية عليها - لهواً، لغةً وعرفاً وعقلاً ودقةً.
والحاصل: إنه مع قطعية كون إطلاقه (عليه السلام) اللّهوَ على صلاة الليل مجازاً، فلا يصح نقض دعوى (كل لهو المؤمن باطل) كما هو نص الرواية، ب-: أنه قد أطلق اللّهو على صلاة الليل؛ إذ لو كان إطلاقاً حقيقياً لصح النقض، لأنه يقال حينئذٍ: صلاة الليل لهوٌ حقيقة، فلا يصح القول كل لهو باطل، أما لو كان مجازاً قطعاً فكيف ينقض به؟!(1) إضافة إلى أنه لو فرض فهو استثناء موضوعي، لوجود جهة مزاحمة أقوى، فهو باطل لولاها فتأمل.
اشكال على استدلال الشيخ بالرواية الاولى: عدم صحة القياسلعدم تكرر الحد الأوسط في المقدمتين
هذا ولكن قد يورد على استدلال الشيخ: أن ل- (الباطل) إطلاقات؛ بعضها عام وبعضها خاص وبعضها أخص، ولا محرز لكونه في هذه الروايات بالمعنى الأخص المساوق للحرام، فلا ينتج القياس.
وبعبارة أخرى: انه لا يعلم تكرر الحد الأوسط في المقدمتين، فهل الباطل في الصغرى ( كل لهو باطل) نفس الباطل في الكبرى ( وكل باطل محرم) لينتج القياس.
وتحقيق ذلك يتوقف على تحقيق معاني الباطل، وتتبع موارد استعماله،
ص: 140
فنقول: ان للباطل معاني عديدة ذكرها اللغويون، وهي إما بنحو الاشتراك اللفظي أو بنحو الاندراج تحت الجامع، مع احتمال كون بعضها مجازاً كما سيجيء.
فلنبدأ بمعاني الباطل في كتب اللغة، ثم نثنّي بمعانيه أو موارد استعماله في القرآن الكريم:
فمنها: الفاسد، وهو يشير إلى الشيء في حد ذاته، ولتعميمه لكل المعاني وجه وجيه.
ومنها: الزائل، وهو المشير للشيء بلحاظ بقائه واستمراره زمناً، ونظيره تفسيره ب-: الذي لا ثبات له.
ومنها: غير المطابق للواقع، ولم يذكره من راجعت كلماته من اللغويين، مع أنه من أظهر إطلاقاته، إذ يقال - مثلاً -: كلام باطل، أي غير مطابق للواقع، ولعل عدم ذكره لأنه مصداق الفاسد.
ومنها: الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة أو نتيجة له.
ومنها: الحرام الذي لا يجوز فعله.
قال في معجم مقاييس اللغة: (ذهاب الشيء وقلة مُكثه ولُبثه)(1).
أقول: ذهاب الشيء أعم من قلة لبثه؛ إذ قد يطول بقاؤه ثميذهب، فهو باطل بهذا اللحاظ، ثم إنه غفل عن المعنى السابق مرتبةً على الذهاب، وهو بطلانه في نفسه كشريك الباري.
وقال: (سمي الشيطان باطلاً لأنه لا حقيقة لأفعاله) (2).
أقول: هذا إحدى وجوه تسميته بالباطل، وتظهر الوجوه الأخرى بالتدبر.
ص: 141
وقال الراغب: (الباطل نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ...)(1))(2).
أقول: الباطل في الآية أعم مما فسره به، بل يشمله وعدداً آخر من معاني الباطل السابقة والآتية، لأن الحق يقع في قبالها جميعاً، ولشهادة الواقع الخارجي بذلك، فتأمل.
وقال: (بطل دمه - إذا قتل ولم يحصل له ثأر ولا دية) ثم قال: (قيل للشجاع المتعرض للموت: بَطَل؛ تصوّراً لبطلان دمه)(3).
أقول: اختلفوا في وجه تسمية البَطَل بالبَطَل، ولعل المستظهر أن وجهه هو: إن الأهوال والمخاطر تبطل لديه، فلا تأثير لها عليه وعلى عزمه وشجاعته، إذ شأن الأهوال أن تخيف الرجال وأن تشرِّدهم، لكنها تبطل عند مواجهة الأبطال، وبعبارة أخرى: إنه يُبطلها.
وقد يكون الوجه: إنه يبطل لديه دمُ عدوه، إذ لا يقدر أولياؤه على المطالبة به والثأر له أو أخذ الدية منه.
وقد يكون الوجه - وهو يتلو في الضعف سابقه -: إنه يُبطِل دمَه باقتحامه في الأهوال.
وقال في لسان العرب: (بَطَل الشيء يبطل بُطلا وبطولاًوبطلاناً، ذهب ضياعاً وخسراً)(4) وهو منطبق على الذات وعلى الثمرات، فتدبر.
ص: 142
وقال الفراهيدي في العين: (الباطل نقيض الحق)(1).
وقال(2): (ابطلتَ جئت بكذب، وادعيت غير الحق)(3).
وقال في المنجد: (بطل: انتهى، زال، ذهب)،
ولا يخفى: أنها يمكن أن تفسر بثلاثة أنحاء(4) وإن قصد هو - احتمالاً - ترادفها.
و: (افتراض باطل: كاذب، غير صحيح، لا قيمة له، وكذا اتهام باطل).
أقول: (لا قيمة له) أمر مغاير ل-(كاذب).
و: (غير مثمر، غير مجد، خال من النفع أو المعنى، لا جدّية فيه ك-: جهود باطلة، كلام باطل).
أقول: وهذا الأخير - لا جدية فيه - يختلف عن سوابقه.
و: (وهمي، خلاب، لا يتحقق، آمال ووعود باطلة).
أقول: خلاب(5) ليس من معاني الباطل، وكان الأولى أن يبدله بسراب.
و: (ساقط، ملغى، غير صحيح قانوناً) والأخير أخص مما سبقه، والساقط مشير لجهة ذاتية والملغى لجهة خارجية غيرية و(أبطل: ألغى، فسخ، اعتبره غير صحيح ك-: أبطل وصية أو انتخاباً أو عقداً أو شهادة).
ص: 143
ولنستعرض بعض الآيات الشريفة:
فمنها: قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ(1) فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)(2).
والمراد بالباطل: غير المطابق للواقع أو الفاسد أو الوهمي أو الزائل، وقد فسره الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) بالمصداق؛ إذ فسره في التبيان بالشبهات وأن اللّه تعالى يقذف بالحجج التي منحها للعقل وللأنبياء والرسل على الشبهات الباطلة فيدمغها. قال: (والمراد به أن حجج اللّه تعالى الدالة على الحق تبطل شبهات الباطل)(3).
ومن الواضح أن (الشبهة) مصداق لغير المطابق للواقع، وللفاسد والوهمي والزائل، وسميت شبهة لأنها تشبه الحق وليست به، فهي غير مطابقة للواقع وهي فاسدة ومتوهمة وزائلة.
ومنها: قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(4).
والظاهر: أن المراد بالباطل هنا: بغيرِ وجهٍ جائزٍ، وقد ذكر الشيخ الطبرسي (رحمه اللّه) تفسيرين للباطل: أحدهما: أنه الربا والقمار والبخس والظلم، وقال: إنه المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام). والثاني: أي بغير استحقاق عن طريق
ص: 144
الأعواض)(1).
أقول: ومن الواضح أن تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) للباطل بالربا وأخواته هو تفسير بالمصداق، والجامع ما كان بغير وجهٍ جائز، أي ما لم يُشرّع كونه سبباً لجواز التصرف في مال الغير.
وأما التفسير الثاني؛ ففيه: أن (غير الاستحقاق عن طريق الأعواض) ليس بباطل على إطلاقه، وذلك كما في الهبة غير المعوضة والوقف عليه والنذر له، إلا أن يقال: بأنها ليست أكلاً لهحينئذٍ، فتأمل، وعلى أي فإنه لو صح فإنه تفسير بالمصداق أيضاً.
ومنها: قوله تعالى: (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2).
والظاهر: أن المراد أنه باطل في ذاته أو في آثاره أو فيهما معاً، والباطل في ذاته هو الفاسد في ذاته بل والمعدوم أيضاً، وفي آثاره هو غير المثمر، وهما من إطلاقات الباطل.
ومنها: قوله تعالى: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(3).
والظاهر: أن المراد به: غير المطابق للواقع، والحجج الباطلة مصاديق، والباء للاستعانة أو السببية.
ومنها: قوله تعالى: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً)(4).
والظاهر: أن المراد به: أي بلا غاية ولا هدف.
ص: 145
قال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه): (بل خلقته دليلاً على وحدانيتك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك، لأنهم يأتون بما يعجز عنه جميع الخلق).
وقوله: (سبحانك) معناه براءة لك من السوء، وتنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً... وقوله: (فقنا عذاب النار) أي فقد صدّقنا رسلك بأن لك جنة وناراً، فقنا عذاب النار.
ووجه اتصال قوله: (فقنا عذاب النار) بما قبله، فيه قولان:
أحدهما: كأنه قال: (ما خلقت هذا باطلاً)، بل تعريضاً للثواب بدلاً من العقاب، (فقنا عذاب النار) بلطفك الذي نتمسك معه بطاعتك.
والثاني: اتصال الدعاء الذي هو طاعة لله بالاعتراف الذي هو طاعة له.
وفي الآية دلالة على أن الكفر والضلال وجميع القبائح ليست خلقاً لله، لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف، وقد نفى اللّه تعالى بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيماخلقه(1)، فيجب بذلك القطع على أن القبائح كلها من فعل غيره، وأنه لا يجوز إضافتها إليه تعالى)(2) انتهى.
أقول: الفرق إننا فسرنا الآية بمقام الثبوت، وقد فسرها الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) بمقام الإثبات، والظاهر ما فسرناه، أو الأعم منهما(3)، بل الإثبات متفرع عن الثبوت، نعم ظاهر ذيل كلامه التعميم لمقام الثبوت أيضاً، فتدبر.
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى)(4) أي لا تجعلوها باطلة أي فاسدة أو زائلة - وهذان في مقام الذات
ص: 146
حدوثاً وبقاء - أو بلا ثواب - وهذا في مقام الآثار -.
وفسرها الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) بأن نفس الأعمال تكون باطلة إذا أوقعت على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، قال:
(إذا رفع المنان صدقته وقرن بها المنّ فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى استدراكه وتلافيه، لوقوعه على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب، فإن وجوه الأفعال تابعة للحدوث، فإذا فاتت فلا طريق إلى تلافيها)(1)، وقال: (أي لا يعود عليهم بنفع ولا يدفع ضرراً).
والظاهر: أنه فسّر الباطل تارة بالشق الأول، وأخرى بالشق الثاني مما ذكرناه(2)، فهو تفسير بالمصداق أو بالأخص، فتأمل.
فائدة: استظهر الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) بأن المراد البطلان حدوثاً لا بقاءً، قال: (وليس فيها ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يزول بالمن فيما بعد ولا بالرياء الذي يحصل فيما يتجدد، فليس في الآية مايدل على ما قالوه)(3)، لكن الظاهر أن الآية أعم منهما(4)، نعم ظاهر الشطر الثاني من الآية: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)(5) هو الحدوث.
ومنها: قوله تعالى: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)(6) أي: يجعله بلا أثر، أو يزيله ويفسده.
ص: 147
ومنها: قوله تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(1).
وقد ذكر الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) فيه احتمالات خمسة، قال: (أحدها: إنه لا تَعلَق به الشبهة من طريق المشاكلة ولا الحقيقة من جهة المناقضة، وهو الحق المخلص والذي لا يليق به الدنس.
الثاني: قال قتادة والسدي: معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقاً ولا يزيد فيه باطلاً.
الثالث: إن معناه لا يأتي بشيء يوجب بطلانه مما وجد قبله ولا معه ولا مما يوجد بعده. وقال الضحاك: لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله ولا من خلفه أي ولا حديث من بعده يكذبه.
الرابع: قال إبن عباس: معناه لا يأتيه الباطل من أول تنزيله ولا من آخره.
والخامس: إن معناه لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم، ولا من خلفه ولا عما تأخر)(2).
ولعل ظاهر الثاني تفسير الباطل بمعنى الشيطان نفسه، وهو مجاز إلا أن يكون من أسمائه(3) أو بلحاظ مصداقيته والعهد، وأبعد منه المعنى الثالث؛ إذ فسّر الباطل بالمبطل، ولعل المعنى الخامس بلحاظ نفي كونه يَبلى على مر العصور فإنه مصداقه، فتأمل.
والحاصل: إن الباطل استعمل في كل آية بمعنى من المعاني أو أكثر، قد يغاير المعنى في آية أخرى، والمستظهر أنها مصاديق أو أصناف للمعنى الموضوع له، وليست موضوعاً لها بوضع على حده، ولا مجازاً.
ص: 148
أقول: ينبغي التدبر في مجموع التعاريف أو التفسيرات التي ذكرها اللغويون لكلمة الباطل والدارجة في العرف أيضاً، لنصل إلى تصنيف لها قد يسهم في الاقتراب إلى معنى الباطل المذكور في الروايات.
وصفوة القول: إن المعاني المذكورة بعضها ينتمي إلى عالم الإثبات، وبعضها يُعدُّ من عالم الثبوت، وبعضها داخل في عالم الاعتبار.
فمن الأول: (الكذب، غير المطابق للواقع).
ومن الثاني: (الفاسد، الزائل)، وأيضاً: (الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة أو نتيجة له)، والفرق: أن (الفاسد) يشير إلى ما هو في مرتبة الذات، و(غير مثمر أو مفيد) يشير إلى مرتبة الآثار واللوازم مما هي خارج الذات، إضافةً إلى أن عدم الفائدة أعم من الفساد.
ومن الثالث: (غير صحيح قانوناً، ملغى، فَسَخَ... إلخ) فإنها من عالم الاعتبار، أي إن الشارع أو المقنِّن أو العقلاء لم يعتبروه نافذاً، تقول: بيع باطل، أي ليس بنافذ - أي لم يعتبره من بيده الاعتبار سبباً لنقل الملكية مثلاً فهو ملغى، وأما (فسخ) فهو في مرحلة العلّة المبقية.
البحث عن عالم الاعتبار بحث معمق، وأنه ما هو؟ وهل هو من عالم الثبوت؟ فأين هو؟ - أم من عالم الإثبات؟ فكيف ؟ ولِمَ لا ينعدم بانعدام الإثبات؟ أم هو عالم آخر بينهما؟
ولعل المستظهر: أنه قائم بأذهان العقلاء تارة، وجماعة من المعتبرين
ص: 149
أخرى، والمعتبِر ثالثة، حسب أنواعه(1)، فينعدم المعتبَر بانعدام الاعتبار وانعدامه بإعراض(2) من بيده ذلك الاعتبار، فهو من عالم الوجود الذهني، وهو من عالم الإثبات الذي هو مرتبة نازلة من مراتب عالم الثبوت(3) وهي أربعة؛ فإن الوجودات الذهنية والكتبية واللفظية وجودات عينية لكنها أنزل من الوجود العيني الشامل للجوهر والعرض. ولتفصيل ذلك محل آخر.
أقول: المستظهر أن كافة المعاني التي نقلناها مما ذكرها اللغويون للباطل هي من التفسير بالمصداق، وإنها تندرج بأجمعها تحت جامع، وليس بعضها مجازاً، ولا أنها موضوع لها بوضع على حده ليكون الباطل مشتركاً لفظياً، والجامع هو: (الفاسد) أو ما يقرب منه، بل يكفي أن نشير إليه بنحو من الأنحاء، كما ذهب إليه الآخوند (رحمه اللّه) في عدد من المقامات، ومن أنواع الإشارة إليه: الإشارة بالسلب أو بكونه ضد كذا أو نقيضه، وهو الذي صنعه الفراهيدي إذ عرَّف الباطل بأنه نقيض الحق(4)، فهو كتعريف الأبيض للأعمى خِلقةً أو المبتلى بعمى الألوان ب-: أنه ضد الأسود، أو تعريف الخير ب-: أنه ضد الشر، أو الليل ب-: أنه ضد النهار.
وذلك هو ما ذكرته بعض الرويات في البحث الكلامي عن صفات الباري
ص: 150
تعالى من سلب نقيضها(1)، حيث المفهوم لنا من تلك الصفات هو سلب النقيض، أما معناها وكنهها فلا، إذ إن صفاته عين ذاته، وإذا امتنعت الذات عن الإدراك امتنعت الصفات إلا بنحو الإشارة.أقول: وعلى هذا فلا يصح تفسير العلم في اللّه بأنه حضوري(2) أو غيره، إذ ذلك إحاطة بكيفية علمه، وإذا جهلنا ذاته فكيف نعلم كيفية ما هو عين ذاته؟! والذي نفهمه من أنه عالم أنه ليس بجاهل، أما كيفية علمه فأمر مجهول، فتأمل(3).
وعلى أي فإن الظاهر أن المعنى الساري في كل تلك المعاني المذكورة في اللغة وفي موارد الاستعمال في القرآن الكريم هو (الفاسد) أو ما يقرب منه، على أنه لو لم نصر إلى الاشتراك المعنوي فلا محيص عن اللفظي، لصحة حملها جميعاً على الباطل ووصفها به دون عناية، ولعدم صحة السلب.
لا يقال: (الحرام) الذي عددناه من معاني الباطل، لم يذكره اللغويون فكيف بنى الشيخ قياسه الذي رتّبه (اللّهو من الباطل، بضميمة ما يظهر منه أن الباطل حرام) عليه؟
إذ يقال: إن الحرام أخص مطلقاً من الفاسد، ومن الذاهب ضياعاً وخسراناً، سواء الحرام العقلي أم الشرعي، فإن الشرع كشف عن كونه كذلك لا
ص: 151
أنه تعبدنا به، إذ الأحكام تابعة لمفاسد أو مصالح في المتعلقات، فعدم ذكره كمصداق لا يضر بعد ذِكر الأعم الذي هو أجلى مصاديقه.
هذا، ولم يجعل الشيخ الحرمة من معاني الباطل، بل استفادها من الروايات في كبراه، ولذا قال: (بضميمة ما يظهر منه حرمة الباطل) ولم يقل (ما يظهر منه تفسير الباطل بالحرام) فتدبر. وأما صغراه (اللّهو من الباطل) فهي مفاد الروايات أيضاً.
إذا ظهر ذلك فنقول عوداً على بدء: إنه قد يستشكل علىاستدلال الشيخ ب-: انه (قدس سره) شكّل قياساً مؤلفاً من صغرى هي: (كل لهو باطل)، وكبرى هي: (كل باطل حرام)، واستدل على الصغرى بروايات ذكرها ههنا: (المسألة العشرون: اللّهو)، وعلى الكبرى بروايات ذكرها في: (المسألة الثالثة عشرة: الغناء).
فحينئذٍ نقول: انه قد يورد عليه: أنه حتى لو فرض تسليم كلية الصغرى والكبرى معاً، فإن هذا القياس لا ينتج حرمة اللّهو مطلقاً، وذلك لعدم تكرر الحد الأوسط وهو (الباطل) واقعاً - وإن تكرر ظاهراً -؛ لتعدد إطلاقات الباطل، وأن المراد به في الصغرى غير المراد به في الكبرى، بل يكفي حتى احتمال ذلك؛ إذ لا بد من إحراز تكرر الحد الأوسط في القياس.
والاشكال جار على المبنيين، فسواء أ قلنا بان الباطل مشترك معنوي وان له جامعاً كما استقربناه، ام قلنا بانه مشترك لفظي بين المعاني المذكورة، فالاشكال آت.
أما على الأول: فلأن له افراداً ومصاديق مختلفة، لا يعلم هل يراد بها في
ص: 152
الصغرى نفس ما يراد بها في الكبرى.
أما على الثاني: فالاشكال آكد بعدم تكرر الحد الأوسط.
بل حتى لو فرض كون بعضها مجازاً، فإن ما يدفع الاشكال هو: كون ما عدا الحرام من معاني الباطل مجازاً، إذ ينحصر المعنى الحقيقي حينئذٍ في الحرام، ومع استعمال الباطل كحد أوسط في الصغرى والكبرى فإنه سيكون هو المراد فيها فيتم استدلاله.
وبعبارة أخرى: الذي ينفع الشيخ في استدلاله وتماميته هو: كون الباطل موضوعاً للحرام مجازاً في غيره، وحينئذٍ يتم قياسه وإلا فلا، ولا طريق للشيخ لإثبات وضع الباطل لخصوص الحرام، بل لم يُذكر (الحرام) كمعنى من معاني الباطل في اللغة أصلاً، فكيف يكون هو الموضوع له؟! والظاهر أنه حتى مثل الشيخ لا يلتزم بكونه حقيقة شرعية في الباطل، ولو ادعي ذلك فإن الروايات التي ذكرها في مسألة الغناء لا تفي بإثبات ذلك أبداً، كما أشرنا إليه سابقاً، وأوضحنا وجه استدلال الإمام (عليه السلام) رغم ذلك بوجوه فلا نعيد، فتدبر.
وبعبارة أخرى: إن الأوسط في قياس الشيخ - السابق الذكر - لم يتكرر أو لا يعلم تكرره على الأقل، إذ القدر المسلم من (الباطل) في الصغرى أنه أريد به الجامع أو أخص المعاني مورداً، او لا دليل - على الأقل - على إرادة خصوص الحرام، وفي الكبرى يراد به أخص معاني الباطل وهو الحرام أو ما يساويه، فلا ينتج القياس (كل لهو حرام).
والجامع: أن العنوان سواء أخذ موضوعاً لحكمٍ أو أثرٍ، أو شرطاً أو شطراً أو مانعاً أو قاطعاً أو محمولاً، فإن القياس المتكرر فيه هذا العنوان لا ينتج وإن جمع
ص: 153
سائر شروط الإنتاج إلا لو أحرز أنه كُرِّر كحدّ أوسط بنفس ما له من المعنى.
وعليه: فإن من المغالطة استخدام المشترك اللفظي بل والمشترك المعنوي إن أريد به في الصغرى صنف وفي الكبرى صنف آخر، فكيف بما لو كان المراد به في الصغرى المعنى الحقيقي وفي الكبرى المجازي أو العكس، وكذا لو لم يحرز المراد به؟!
ومثاله في وقوع المغالطة الناشئة من اختلاف المعاني او مراتبها في كل من الصغرى والكبرى: هذا القياس:أ: (كل من لم يشكر النعمة فهو كافر)، وهذا مفاد الآية: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) ب: (وكل كافر نجس أو تبين منه زوجته بالارتداد)، ج: فإنه لا ينتج: (كل من لم يشكر النعمة نجس أو تبين منه زوجته بالارتداد)؛ وذلك لعدم تكرر الحد الأوسط واقعاً، وإن تكرر ظاهراً.
ومن الأمثلة الفقهية على ذلك: ما ذكرناه في بعض المباحث من عنوان (العدالة) وإنها تطلق على أكثر من معنى أو مرتبة في إمام الجماعة والمرجع والقاضي والشاهدين، فراجع.
ومن الأمثلة الكلامية والفقهية: عنوان (الكفر) فإن له - كما يستفاد من عدد من الآيات والروايات - إطلاقات خمسة، بل إن هذهالإطلاقات الخمسة هي صريح رواية الإمام الصادق (عليه السلام) الآتية، وكل منها يختص بآثار وأحكام، فلا يصح القياس إلا بعد تحديد المعنى المراد به لو أخذ كأوسط في كل من الصغرى والكبرى، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) إن الكفر على خمسة أوجه - نذكرها بتوضيح أو تصرف وإضافات(1)-:
الأول: كفر الجحود بالربوبية وأنه لا جنة ولا نار، كما فيمن قال: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)(2).
ص: 154
الثاني: كفر الجحود بما هو الحق الثابت عنده، كما في ما جاء في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(1) إذ المراد جحدوا بالآيات التي جاء بها موسى كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد البيضاء، وعلى أي فمطلق جحود ما ثبت أنه حق لديك هو كفر(2).
الثالث: كفر النعمة، كما في قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(3) وقوله: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(4) و(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(5).
الرابع: الكفر بمعنى الترك، فالتارك شيئاً هو كافر به، كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(6) والمراد
ص: 155
بالكفر حسب نص الإمام الصادق (عليه السلام)(1) ههنا هو: وتتركون العمل ببعض الكتاب، وكلام الإمام في حد ذاته حجة في التفسير، فلا يرد أنه لعل المراد الكفر النظري أو العقدي لا العملي، إضافة إلى أن الظاهر أنهم كانوا يؤمنون بحرمة سفك الدماء والإخراج لكنهم عملاً كانوا يخالفون، بل إن ظاهر الآيتين بتمامها هو الكفر العملي - فلاحظ - بل لعل صريحها هو ذلك(2).
وعليه: فإن كل من لا يعمل بقوانين الإسلام السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، فهو كافر بهذا المعنى.
الخامس: الكفر بمعنى البراءة، كما في قوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ)(3) أي تبرأنا منكم وكذلك الأمر في: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)(4).(5)
ومن ذلك يتضح معنى ما ورد في الروايات الكثيرة من كفر المخالف، فإنه لا يراد به: الإطلاق الأول، بل الثاني في بعضهم، بل يراد الثالث أو الرابع فيهم جميعاً، كقول الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن قول اللّه عز وجل: (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)،فقال: «عَرَفَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ بِوَلَايَتِنَا وَكُفْرَهُمْ بِهَا يَوْمَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي صُلْبِ آدَمَ (عليه السلام) وَ هُمْ ذَرٌّ»(6).
وقد يقال: بأن جامع المعاني الخمسة هو الستر، وأنه الموضوع له، ولذا
ص: 156
يقال للزارع: إنه كافر، لأنه يستر البذرة في الأرض، قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(1).
والتحقيق: أن الثلاثة الأول اختلف فيها متعلق الكفر من دون اختلاف معناه في حد نفسه، أما الكفر بالمعنى الرابع والخامس الآتيين فإنهما بحاجة إلى وجه لإرجاعهما إلى الكفر بمعنى الستر أو الرفض، وإلا كانا - أو كان أحدهما - قسيماً؛ إما حقيقةً لدعوى الاشتراك اللفظي، أو مجازاً إذا كان لعلاقةٍ، وعلى أي فسواء رجعت إلى معنى واحد أم كان الأمر لاختلاف المتعلق، فلابد - إذا وقع الكفر ونظائره أوسطاً في القياس - من إحراز أنه تكرر بنفسه معنى، ويلاحظ متعلقه في الصغرى والكبرى، وإلا لما أنتج.
إن قلت: سلمنا ذلك انه لا يصح الاستدلال على حرمة اللّهو ب-: كون اللّهو باطلاً في قوله (عليه السلام): «كل لهو المؤمن باطل» كما صنع الشيخ، ولكن نظير هذا الاستدلال قد أقيم على حرمة الغناء من غير ان يستشكل عليه، فقد استدل الشيخ على حرمة الغناء بأنه باطل، كما صنع الإمام (عليه السلام) في رواية أخرى(2)، وقد استند إليه الشيخ أيضاً.
فما هو وجه دعوى التفريق بين الروايتين، ولِمَ كان كون الغناء باطلاً دليلاً على حرمته، ولم يكن كون اللّهو باطلاً دليلاً على الحرمة، مع أن الباطل إن كان أعم من الحرام لم يصح الاستدلال في الصورتين وإن ساواه صح في الصورتين؟
ص: 157
قلت: أما (كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث...)، فإن الباطل فيه يحتمل أن يكون بمعنى الفاسد أو ذي مفسدة، والفاسد وذو المفسدة أعم من المحرَّم، كما يحتمل أن يكون بمعنى زائل؛ إذ اللّهو يزول ولا يبقى منه أثر ولا نفع، وبمعنى غير المثمر والخالي من النفع، وبمعنى الخسارة والضياع وهما أعم من الحرمة أيضاً.
كما أنه - في المقابل - يحتمل أن يكون بمعنى غير الجائز وغير ال-مُشرَّع أو غير الصحيح أو المكروه شرعاً، ولا يرد: (كما لا يراد به عالم الاعتبار إذ اللّهو حقيقي واتصافه بالباطل أيضاً حقيقي)(1) فإنه بهذا المعنى(2) اعتباري، ولا مانعة جمع بين المعنيين.
وبعبارة أخرى: (باطل) في (كل لهو المؤمن باطل) يحتمل فيه إرادة البطلان التكويني بأحد معانيه: فاسد أو زائل أو غير مفيد كما هو كذلك واقعاً، كما يحتمل فيه البطلان التشريعي أي لم يُشرَّع ولم يُجوَّز أو لم يحبّذ إليه شرعاً بل كُرِه.
وكون اتصافه بالباطل حقيقياً لا ينفي وجود اعتبار - من تحريم وشبهه - على طبقه، بل يؤكده؛ إذ الأحكام والتشريعات تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، ولكن عدم نفيه له لا يكفي دليلاً على ثبوته أيضاً، أو على إرادة المجموع، والتبعية أعم من الفعلية.
والحاصل: إن الباطل أعم من البطلان التكويني والتشريعي الاعتباري، فلا يصح الاستدلال به على الأخص وهو الحرمة، إلا لو أحرز إرادتها بأجمعها منه، أو كان له ظهور في الأخير بقرائن ولا محرز، فتأمل، خاصةً وأن البطلان
ص: 158
التشريعي هو بدوره أعم من الحرمة والكراهة، وإن أمكن تأييد كل من كونه تكوينياً أو تشريعياً بوجوه - كما في الهامش(1) وكما سيأتي -.
فهذا هو وجه عدم صحة الاستدلال على حرمة اللّهو ب-: وصف الإمام (عليه السلام) اللّهوَ بأنه باطل؛ إذ موجزه: أن الباطل أعم مطلقاً منالحرام، فإنه موضوع للجامع أو هو مشترك لفظي بينها، ولا يصح الاستدلال بالأعم على الأخص أو بالمشترك على إرادة أحد أفراد الموضوع له دون قرينة معينة.
لكن الأمر في الغناء مختلف، حيث يصح الاستدلال على حرمة الغناء بوصف الإمام (عليه السلام) للغناء بأنه باطل، وذلك بإحدى وجوه ثلاثة لا تجري في رواية (كل لهو المؤمن باطل) - وهو مورد البحث -.
وتوضيحه: يستدعي ذكر الرواية الواردة في الغناء بتمامها، ففي رواية يونس قال: سألت الخراساني (عليه السلام) و قلت: إن العباسي ذكر أنك ترخص في الغناءِ! فقال: «كَذَبَ الزِّنْدِيقُ مَا هَكَذَا قُلْتُ لَهُ؛ سَأَلَنِي عَنِ الْغِنَاءِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَسَأَلَهُ عَنِ الْغِنَاءِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ إِذَا مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ
ص: 159
وَالْبَاطِلِ فَأَنَّى يَكُونُ الْغِنَاءُ؟ فَقَالَ: مَعَ الْبَاطِلِ، فَقَالَ: قَدْ حَكَمْتَ »(1).
فإنه في المقام توجد وجوه ثلاثة مصححة للاستدلال وهي(2):
الوجه الأول: إن هذا الجواب إقناعي، فهو كقولك - لمن يتجسس على بيوت الناس وعوراتهم -: أ تحب أو أ يسرك أن يتطلع الناس إلى حريمك ويتجسسوا على عوراتك؟ فإنه وجه إقناعي يراد به استثارة الغيرة والحمية لديه وإلفاته إلى مدى قبح عمله، فلا يرد أن (أ تحب أو أ يسرك) الذي جوابه (لا) أعم من الحرمة.
لكن الوجه الإقناعي - وإن صح - إلا أنه لا يستلزم كونه وجهاً حقيقياً ولا يفيد الحرمة إلا بتتمة، مثل: إن مناسبات الحكم والموضوعفي مثل المقام تفيد إرادة الحرمة، وهذا الوجه كالوجوه الآتية، لا يجري في (كل لهو المؤمن باطل).
الوجه الثاني: إنه استدلال بالمقتضي مع تتميمه بالاستلزام العرفي، وما أكثر ذلك في العرف، بل إنه من وجوه البلاغة، فلا يرد أن وجود المقتضِي أعم من تحقق المقتضَى.
ويوضحه المثال الآتي: فإنه إذا كذب أحدهم أو اتهم أو نمّ فقد يقال له: ألا ترى ما في الكذب أو التهمة من المفاسد؟ فإن وجود المفسدة أعم من الحرمة(3)
ص: 160
لكنه يفهم عرفاً منه إرادة المولى أو المتكلم استلزامه للحرمة.
ولعل ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) وطريقة إجابته للسؤال بإرجاعه السؤال إلى سؤال آخر من السامع ثم قوله (عليه السلام): «قد حكمت»، هو ذلك.
ولعل مآل الجوابين إلى واحد فتأمل.
الوجه الثالث: أن يستند في كون المراد من (الباطل) في رواية الغناء هو المعنى الأخص المساوق للحرام، إلى قرينة السؤال وقرينة مصب جواب الإمام (عليه السلام) وغايته(1)،
إذ السؤال عن الترخيص والتجويز، فأجابه الإمام (عليه السلام) ب-«كذب الزنديق» الصريح في أنه لم يُجوِّز بل حرَّم، إضافة إلى أن الغاية من كل ذلك هو بيان حرمة الغناء لا كراهيته فقط.
والحاصل: إن (الباطل) وإن كانت له إطلاقات، وكان أعم منالحرام، إلا أن القرينة على إرادة الإمام (عليه السلام) المعنى الأخص من الباطل وهو المساوق للحرام موجودة هنا، لكن لا توجد قرينة على ذلك في رواية «كل لهو المؤمن باطل... »، فتدبر جيداً.
ثم إنه لا يحتمل كون السؤال استرشادياً والجواب نصحياً، فإنه خلاف ظاهر - بل خلاف نص - السؤال (إن العباسي زعم أنك ترخص في الغناء) ونص الإمام (عليه السلام) (كذب الزنديق...).
نعم هذا الوجه محتمل في رواية المقام (كل لهو المؤمن باطل)؛ إذ لعله إرشادي لا مولوي، فمع كونه إرشادياً فلا دلالة له على الحرمة، كما سيأتي
ص: 161
بإذن اللّه تعالى.
فصلنا في (فقه مبادئ الاستنباط) أن من مبادئ الاستنباط علم فقه اللغة. والتدبر في هذا المثال (الباطل) ونظائره - وما أكثرها - يؤكد مدى مدخلية فقه اللغة في عملية الاستنباط، سواء استقر رأي الفقيه على هذا الطرف أو ذاك؛ إضافة إلى أن فقه اللغة يفتح أمام ناظري الأصولي الفقيه والمفسر والمتكلم وغيرهم باباً نحو بحر من المعاني.
بل أقول: إن علم فقه اللغة لو وُفِّيَ حقه لكان من أهم مظاهر إعجاز اللّه تعالى في الكون، إذ تجلت عظمته في (الكلمات) أيضاً، إذ كل كلمة فإنها تختزن في داخلها بحراً من المعاني، إذ لها ظاهر وبطون وجذور ومناشئ وترابطات ولوازم و...، ولعل ذلك من وجوه أو مصاديق قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(1).
والحاصل: إن كل ما في الكون إعجاز لله رب العالمين، ومن مظاهر إعجازه أن له عمقاً وبطوناً لا تتوقف عند حدّ، و(الكلمة) هي ك-(الذرة) فكلما تطور العلم والعقل والفهم والتجربة، ازداد الإنسان معرفة ببعض غرائبها وعجائبها وأبعادها ومتضمَّناتها وعلومها.
ص: 162
وأما الرواية الثانية التي ذكرها الشيخ (رحمه اللّه) فهي: رواية عليّ بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه، قال: سألته عن اللّعب بالأربعة عشر وشبهها،
ص: 163
قال (عليه السلام): «لا نستحبّ شيئاً من اللعب غير الرّهان والرّمي»(1).
وقد أورد عليها بأن (لا نستحب) أعم من الحرمة.
وفيه: - بعد حاجة ذلك إلى مراجعة لسان الروايات، إذ قد يقال: بأن لحن كلامهم في لا نستحب هو الحرمة، أي إنه موضوع بالوضع التعيني عندهم (عليهم السلام) عليها، لكن هذا بحاجة إلى تتبع وإثبات، فلنبنِ الآن على عدمه ولو لأصالة عدم النقل أو ثبات اللغة، ولنبق على ظاهر الكلمة العرفي من أنه أعم من الحرمة والكراهة -: أنه قد يستدل على إرادة الحرمة من (لا نستحب) في خصوص هذه الرواية بقرائن داخلية وخارجية:
منها: قرينة المقام والسؤال والمسؤول عنه؛ فإن الظاهر أن المسؤول عنه على مر العصور كان حرمة الشطرنج والأربعة عشر وشبهها وجوازها لا استحبابها وعدمه، وأن السائل سأل عن الجواز والحرمة، كما أن السؤال في هذه الأزمنة أيضاً كذلك، إذ لا يتصور أن شخصاً يسأل عن استحبابها أو كراهتها متقابلين.
ويؤكده: أن المعروف من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) حرمتها، وأن كثيراً من الناس كان يجوِّزها أو يمارسها، وكذلك المسمّون بالخلفاء، فكان مقتضى القاعدة السؤال عن الجواز والحرمة، فيكون قوله (عليه السلام): «لا نستحب» مفيداً لعدم الجواز خاصة مع قرينة المستثنى(2)، فإنه إثبات لجوازها مما يفيد أن المستثنى منه يراد تحريمه بهذا الكلام،فتأمل.
ص: 164
وأما الرواية الثالثة وهي: رواية سماعة قال أبو عبد اللّه (عليه السلام):: «لَمَّا مَاتَ آدَمُ (عليه السلام) وَشَمتَ بِهِ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ فَاجْتَمَعَا فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ الْمَعَازِفَ وَالْمَلَاهِيَ شَمَاتَةً بِآدَمَ (عليه السلام)، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ النَّاسُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذَاك »(1).
فقد استظهر الشيخ منها ومن نظائرها - خلافاً للمشهور - أن حرمة آلات اللّهو إنما هو لجهة لهويّتها، ولا مدخلية لكونها آلة لهو في الحرمة، والظاهر: أنه يريد أن (كونها آلة) لا هي قيد ولا هي شرط، بل هي كالحجر في جنب الإنسان، وأن تمام الموضوع للحرمة هو اللّهوية.
قال (رحمه اللّه): (ويؤيده أن حرمة اللعب بآلات اللّهو، الظاهر أنه من حيث اللّهو لا من حيث خصوص الآلة، ففي رواية سماعة: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لما مات آدم شمت به إبليس وقابيل، فاجتمعا في الأرض، فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم على نبينا وآله وعليه السلام، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك» فإن فيه إشارة إلى أن المناط هو مطلق التلهي والتلذذ)(2).
ولكن يرد عليه: أن ظاهر الرواية هو عكس ما استظهره، وذلك لشواهد:
ص: 165
الشاهد الأول: قوله (عليه السلام): «من هذا الضرب»، فإنه صريح في أن المحرم هو ما كان في الأرض من هذا الضرب والنوع، أي ضرب ونوع المعازف والملاهي الذي يتلذذ به الناس، لا مطلق ما يتلذذ به الناس، ولو كان المراد كون التلذذ هو تمام الموضوع للحرمة للزم أن يقول: (فكلما كان في الأرض مما يتلذذ به الناس).
والحاصل: إن قوله (عليه السلام): «هذا الضرب» أي هذا النوع، ومرجع اسم الإشارة هو (المعازف والملاهي).
ولا فرق - على هذا - بين أن تكون (الذي يتلذذ به الناس) قيداً احترازياً أو توضيحياً؛ إذ المحور هو (هذا الضرب) سواءً أ كان التلذذ مساوياً له أم أخصاً وقيداً، فتدبر.
الشاهد الثاني: قوله (عليه السلام): «فإنما هو من ذلك»، وذلك لوضوح أنه ليس مطلق اللّهو والتلذذ مأخوذاً من ذلك، أي مما أسسه إبليس وقابيل، بل إن خصوص اللّهو والتلذذ بآلات اللّهو هو الذي يمكن الالتزام فيه بأنه من ذلك، والدال عليه هو صريح الرواية؛ إذ لا يعقل القول بأن مطلق التلهي والتلذذ (هو من ذلك)، أرأيت التلهي بالسباحة وملاعبة الصبي والنزهة ونظائرها والتلذذ بها (من ذلك)؟!
والحاصل: إن قطعية عدم كون كل تلذذ وتلهي مشتقاً من فعل إبليس وقابيل، دليل على أنه ليس المراد إلا خصوص ما كان من أدوات اللّهو، فإنه المناسب لما جعله إبليس وقابيل من المعازف والملاهي، فليس المناط مطلق التلهي والتلذذ.
ص: 166
الشاهد الثالث: إن ظاهر الرواية على فرض استفادة التحريم منها(1) هو مدخلية العلة الغائية، وهي الشماتة بآدم (عليه السلام) في تحريم المعازف والملاهي ولا أقل من احتمال مدخليتها، ومن الواضح أنهذا العنوان (الشماتة) غير متحقق في مطلق التلهي والتلذذ، فإن منه اللّهو مع الصبي ومع الزوجة وبالسباحة وركوب الخيل والرماية ونظائرها، ولا ريب أن منشأها ليس إبليس ولم تجعل شماتة بآدم، بل هو متحقق في خصوص آلات اللّهو وبعض أنواع اللّهو، فليس المناط هو (مطلق التلهي والتلذذ) بل الظاهر أن المناط ما جمع الأمرين:
أولاً: ما وضع وضعاً لهوياً كآلات اللّهو، فإنها موضوعة وضعاً لهوياً، ولذا لا يحرم المشترك منها، وكبعض أنواع اللّهو كالرقص.
ثانياً: وما كان بحسب طبعه أو وضعه متناسباً مع الشماتة أو مما يحتمل كون وضعه لذلك، أما ما جعل لغرض آخر وإن قارنه اللّهو غالباً أو أحياناً بل حتى دائماً فإنه لا يحرم، إذ لم يوضع للهو ولا للشماتة، ومنه: ملاعبة الصبي والزوجة وأمثال السباحة، فإنه لا شك أنه ليس مما وضع للشماتة بآدم، فتأمل.
فإن الأول وضع لتنمية الصبي وضمان سلامته النفسية وتوازنه الروحي وشد أواصر المحبة معه ليرشد وينمو ويكبر على الحب والرحمة، لا على البغضاء والعداوة وإن لازمه التلذذ والتلهي.
والثاني جُعل لحفظ النسل وشد أواصر الأسرة وإن لازمته اللذة، وقد جعلها اللّه تعالى في النكاح ببالغ حكمته؛ إذ لولا التلذذ لأعرض غالب الناس عن ذلك، مما يستلزم تحطم الأسرة غالباً وانقطاع النسل.
ص: 167
والثالث جعل مقدمة للجهاد أو للصحة الجسمية والنفسية بل والعقلية وإن قارنه التلذذ غالباً.
ولكن قد يجاب عن القرائن الثلاثة دفاعاً عن الشيخ ب-: أن المبنى في القرائن الثلاث هو كون (الملاهي) في الرواية جمع الملهاة اسم آلة، فيكون عطف الملاهي على المعازف عطفاً للعام على الخاص، لكن ذلك غير معلوم، إذ لعل الملاهي هي جمع الملهى مصدراً ميمياً، فيكون عطفها على المعازف عطفاً للمباين على المباين.
وفيه: أولاً: إن صِرف الاحتمال لا يفي لكشف المناط الذي ذكره الشيخ (رحمه اللّه)، بل لا بد من الدليل، وقد سبق استظهار البعض: أن الملاهي جمع الملهاة، وعلى أي فهذا الجواب مبنائي، والإشكال وارد - على فرض تماميته - على المتردد الشاك أيضاً.
ثانياً: سلمنا، لكن كون الملاهي جمع الملهى مصدراً لا يتكفل بدفع أي واحد من القرائن الثلاثة الدالة على أن المحرم هو (هذا الضرب من المعازف واللّهو) و(ذلك الذي نشأ من فعل إبليس) و(كانت غايته الشماتة)، فتأمل(1).
قال الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب: (ويؤيده ما تقدم من أن المشهور حرمة المسابقة على ما عدا المنصوص بغير عوض(2)، فإن الظاهر أنه لا وجه له عدا
ص: 168
كونه لهواً وإن لم يصرحوا بذلك عدا القليل منهم، كما تقدم. نعم صرح العلامة في التذكرة بحرمة المسابقة على جميع الملاعب كما تقدم نقل كلامه في مسألة القمار)(1).
أقول: العناوين العامة(2) الواردة في الآيات أو الروايات أربعة، هي: القمار، والرهان، والسبق، والميسر.
وأما الصور فأربعة:
الأولى: اللعب بآلات القمار مع الرهن، ولا شك في حرمته؛ إجماعاً ولمتواتر الأخبار.
الثانية: اللعب بآلات القمار (كالشطرنج والنرد) بدون رهن، والمشهور حرمته بل هو مجمع عليه، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في فقه المكاسب: (ولا إشكال ولا خلاف في الحرمة وضعاً وتكليفاً لما تقدم من الأدلة الأربعة)(3).
الثالثة: اللعب بغير آلات القمار مع الرهن، إلا في الخف والنصل والحافر، قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (ولا ينبغي الإشكال في الحرمة، وعليه الإجماع المقطوع وإن كان محتمل الاستناد، وتدل عليه الروايات المتواترة بالإضافة إلى السيرة القطعية والارتكاز)(4).
الرابعة: اللعب بغير آلات القمار بدون الرهن مغالبةً، أي المغالبة بغير
ص: 169
عوض في غير ما نص على الجواز فيه، وذلك كالمصارعة ومسابقة السيارات أو السفن أو الطائرات أو السباحة أو العَدْو ورفع الأثقال وغير ذلك.
وهذه الصورة هي التي استشهد بها الشيخ في كلامه إذ صرح هنا أنه المشهور، وقال في مسألة القمار: (والأكثر على ما في الرياض على التحريم، بل حكى فيها عن جماعة دعوى الإجماع عليه...)(1)، واستظهر الشيخ أن التحريم لا وجه له إلا كونه لهواً، ثم ذهب في آخر كلامه في مسألة القمار إلى التفصيل، فقال: (لكن قد يشكل الاستدلال فيما إذا تعلق بهذه الأفعال غرض صحيح(2) يخرجه عن صدق اللّهو عرفاً، فيمكن إناطة الحكم باللّهو ويحكم في غير مصاديقه بالإباحة، إلا أن يكون قولاً بالفصل وهو غير معلوم، وسيجيء بعض الكلام في ذلك عند التعرض لحكم اللّهو وموضوعه إن شاء اللّه)(3).
لكن يرد على الشيخ (رحمه اللّه) أنّ وجه فتوى المشهور - على القول بها - هو الروايات، وليس(4) ما ذكره من: (فإن الظاهر أنه لا وجه له عدا كونه لهواً)؛ وذلك لأن من قال: بحرمة المسابقة ولو من دون رهن وبدون آلات قمار، إستند إما إلى دعوى شمول عنوان القمار والمقامرة لها، أو إلى قوله (عليه السلام): «لَا سَبَقَ(5)
ص: 170
إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ يَعْنِي النِّضَال » (1)، وندر من علّلها بكونه لهواً.
بيان ذلك: إنه ارتأى البعض أن القمار اسم للأعم من ما كان بِرَهن أو بآلة قمار، وأنه بمعنى المغالبة كما نقل ذلك الشيخ بنفسه أيضاً في أول المسألة الخامسة عشرة (القمار)، وعليه ارتأى حرمة مطلق المسابقة لكونها من أصناف المقامرة أو هي هي، فهذه هي جهة التحريم عندهم، لا ما استنبطه الشيخ من أن السبب هو إدراجهم إياها في اللّهو، وإن امكن أن يعلل بعضهم بذلك، بل وإن علّل بعضهم النادر بذلك(2)، لكن هذا غير دعوى الشيخ: (إن المشهور حرمة المسابقة وأنه لا وجه له عدا كونه لهواً).
وقد سبق أنه ذهب جمع من الفقهاء إلى حرمة المغالبة استناداً إلى قول الإمام الصادق (عليه السلام): «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل»(3).
وقد أجاب السيد الوالد (رحمه اللّه) في فقه المكاسب المحرمة عن ذلك بقوله: (اُستُدل لمن قال بالمنع: بخبر ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل»، وبإطلاق القمار عليه لأنه مطلق المغالبة، وبأنه لهو بضميمة ما دلّ على حرمة اللّهو، مثل ما ورد في علّة تحريم اللعب بالنرد والشطرنج بأنه من اللّهو والباطل وما وردمن أن «كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث»(4)، وربما استدل بالإجماع المنقول في كلام بعضهم على ذلك.
وفي الكل ما لا يخفى: إذ لم يثبت أن السبْق بالسكون(5)، بل عن الشهيد
ص: 171
الثاني (رحمه اللّه) أنه بالفتح، وليس المقام من (المتباينين) بل (الأقل والأكثر)(1) فالمتيقن يؤخذ به وفي غيره تجري البراءة.
كما أنه ليس بقمار قطعاً؛ لأنه لا يصدق عليه لا لغة ولا عرفاً ولا عند المتشرعة، فهل يقال لمن يتسابقان في مركب أو دابة أو سفينة أو ما أشبه: إنهما يقامران؟
وكذلك لا دليل على أن مطلق اللّهو حرام، بل الدليل على خلافه - كما سيأتي - بالإضافة إلى أن بين اللّهو والمغالبة من وجه.
والإجماع مقطوع العدم وعلى فرضٍ غير واقع هو محتمل الاستناد، ومثله ليس بحجة كما قرر في محله)(2).
والحاصل: إن إمكان أن يعلل باللّهو غير التعليل به، وأن تعليل البعض النادر به غير كونه مستند المشهور.
السبْق بالسكون مصدر بمعنى المسابقة، والسبَق بفتح الباء بمعنى المال المبذول للسابق، وحينئذٍ: فلو لاحظنا اللفظ نفسه فهما متغايران، ومع الشك في أن أيهما الوارد فلا أصل محرز في المقام.
والظاهر: أن السكون ضد وجودي للحركات الثلاثة وليس عدماً لها وإن كان هو المشتهر؛ فإنه تموّج وحالة متميزة في الصوت، والحاصل: أن الحرف الواحد يمكن أن يوجد بإحدى حالات وجودية أربعة(3).
ص: 172
وأما لو لاحظنا المعنى فغير مترادفين بل متباينان كما ظهر منتفسيرهما.
نعم لو لاحظنا المصاديق فقد يقال: بأنهما من الأقل والأكثر، وقد يقال بأنهما من العام والخاص(1)، إذ السبَق بالتحريك أخص مطلقاً من السبْق بالسكون، فإن كل سبَق ففي سبْق ولا عكس، ولا يقال: كونه فيه غير كونه نوعاً منه أخص مطلقا، إذ يجاب بأن النسبة لوحظت من حيث المورد، فتأمل. والسبْق جنس والسبَق انضم إليه فصله أو هو ملزومه، فالقدر المتيقن هو السبْق بالسكون.
وعلى أي حال، فإنه حتى لو قلنا إنهما من المتباينين ولم نحرز الوارد منهما، فإن السبق بالسكون أي المسابقة تبقى على أصالة الحل بعد إجمال الوارد وعدم إحراز أنه بالسكون ليحرم.
لم يتم لنا دليل واحد من الآيات والروايات على حرمة مطلق اللّهو، سواء فسرنا اللّهو ب-: أ: مطلق اللعب لا لغرض عقلائي، ب: أم فسرناه بما كان عن بطر المفسّر بشدة الفرح، أو بما كان معه نوع كبر وخيلاء، ج: أم فسرناه بما لم يكن لغرض عقلائي وكان انبعاثه عن القوى الشهوية بالمعنى الأعم للشهوة، وهي المعاني الثلاثة التي ذكرها الشيخ للّهو والتي قوّى حرمة ثانيها.
الآية الأولى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(2).
ص: 173
ويرد على الاستدلال بها:
أولاً: أن الظاهر أن الذم هو على (وَتَرَكُوكَ قَائِماً) ويؤكده الذم على التجارة في الآية، أو على مجموع (انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً)،بل ومع الاحتمال فإنه يسقط الاستدلال.
وثانياً: أن غاية ما تفيده هو الذم(1)، ولا ملازمة بين الذم والحرمة، بل الملازمة إنما هي بين الحرمتين أو بين الذمين حسب قاعدة الملازمة بطرفيها(2)، ولا ملازمة بين الذم الشرعي والحرمة العقلية أو الشرعية، ولا بين الذم العقلي والحرمة الشرعية أو العقلية، كما فصلناه في رسالة في قاعدة الملازمة بين حكمي الشرع والعقل.
وأما ما سبق من الإشكال بالإرشادية، ففيه ما فصلناه: مبنىً - في (الأوامر المولوية والإرشادية) -: من أن التعليل بأمر دنيوي بل الأعم منه ليس دليلاً على الإرشادية، فراجع،وصغرىً: إنه لا ظهور في آخر الآية في كونه تعليلاً، بل إنه مجرد حض وتشويق وبيان لأجرِ من يلتزم، فتأمل.
الآية الثانية: قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)(3).
والجواب: إن الآية لا تدل إلا على حرمة ما كان للإضلال عن سبيل اللّه، فيكون ما كان كذلك حراماً، سواء أكان لهواً أم كان جداً، وأما ما لم يكن للإضلال كاللّهو في حد ذاته مما لم يقع مقدمة للإضلال عن سبيل اللّه، ولا كان
ص: 174
مقارناً(1) للحرام(2)، فلا تدل الآية على حرمته.
الآية الثالثة: قوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)(3).
والجواب: إن غاية ما تدل عليه الآية مدحهم على هذه الصفة،فيكون الإلتهاء باللّهو أو بالتجارة عن ذكر اللّه مكروهاً، وأما الإلتهاء عن ذكر اللّه الواجب فمحرم، سواء بلهو أم غيره، فلا يفيد حرمة عنوان اللّهو بذاته.
إضافة إلى استظهار أن (تلهيهم) هنا هي من مادة اللّهي لا اللّهو.
الآية الرابعة: قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)(4).
والجواب: إنها لا تدل على أكثر من عدم كون اللّهو من شأنه تعالى(5)، وأين هذا من الدلالة على حرمة اللّهو على العِباد؟!
الآية الخامسة: قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا...)(6).
والجواب: إن الظاهر أن الذم والتحريم والعقوبة مصبّها الإعراض عن ذكر اللّه المراد به الإنكار، بقرينة السياق وشأن النزول، وقوله تعالى: (مُعْرِضُونَ)
ص: 175
و(الَّذِينَ ظَلَمُوا) وغيرها، لا مطلق لهو القلب أو الجوارح حتى وإن تجرد عن الإنكار والاستخفاف وطرح ما ذُكِّروا به.
الاية السادسة: قوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ)(1).
والجواب: إنها لا تدل على حرمة أكثر من إلهاء التكاثر عن فعل الواجبات، إضافة إلى استظهار أنها مأخوذة من مادة اللّهي لا اللّهو.
مضى الإشكال على الاستدلال بالطوائف الثمانية من الروايات بشكل تفصيلي، ولنشر ملخصاً إلى أهم إشكال على كل طائفة:
الطائفة الأولى: ما دل على حرمة (ما يكون منه وفيه الفسادمحضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح)، كما في رواية تحف العقول.
وفيه: إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ لا دليل على أن مطلق اللّهو فيه ومنه الفساد محضاً، وهذا مع قطع النظر عن تحقيق كون الواو في (ولا يكون...) للجمع(2) أو للتقسيم(3).
الطائفة الثانية: رواية الأعمش حيث عدّ في الكبائر الاشتغال بالملاهي التي تصد عن ذكر اللّه.
وفيه: إنها مقيدة ب(التي تصد عن ذكر اللّه) حتى مع القول بأن الملاهي جمع الملهى مصدراً لا الملهاة اسم آلةٍ.
الطائفة الثالثة: قوله (عليه السلام): «كلما ألهى عن ذكر اللّه فهو الميسر».
ص: 176
وفيه: أن اللّهْي غير اللَّهْو، والثاني هو مورد البحث، والرواية موضوعها الأول، وأن المراد ب-(ذكر اللّه) هنا الواجب منه.
الطائفة الرابعة: قوله (عليه السلام): «إنما خرج في لهو لا يقصرّ».
وفيه: إنه لا يدل على حرمته، بل لعله - السفر اللّهوي - عنوان مستقل يقتضي التمام إلى جوار عنوان فعل المحرم.
سلمنا(1)، لكنه لا يدل على أكثر من أن الخروج للصيد اللّهوي حرام لا مطلق اللّهو، ولم نتطرق لدى ذكر الطائفة الخامسة من الروايات إلى هذه المناقشة، إلا أنها بلحاظ ما ذكرناه لاحقاً في تحقيق القياس الذي شكله الشيخ في الطائفة السادسة والسابعة، تامة(2).
الطائفة الخامسة: قوله (عليه السلام) في جواب من سأله عن السماع: «وهو في حيز اللّهو».
وفيه: تعددت إطلاقات اللّهو، وأن المراد باللّهو هنا المعنى الأخص، فلا يفيد حرمة اللّهو بمعناه الأعم، ودلالة قرينة السؤال والجواب على حرمة اللّهو الذي انطبق على الغناء ونظائره، لاتقتضي حرمة مطلق اللّهو.
الطائفة السادسة: ما دل على أن اللّهو باطل، بضميمة ما دل على أن الباطل حرام.
وفيه: عدم تكرر الحد الأوسط في القياس، إذ للباطل إطلاقات عديدة.
الطائفة السابعة: رواية سماعة وفيها: «فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم».
ص: 177
وفيه: إنها لو دلت على الحرمة لما دلت إلا على حرمة ما كان (من ذلك الضرب) بل وما كان شماتة بآدم - وضعاً أو قصداً - لا مطلق الملاهي وإن سلمنا أنها جمع الملهى لا الملهاة.
الطائفة الثامنة: روايات المقامرة و«لا سبق إلا...».
وفيه: لم يثبت أن السبق بسكون الباء بل لعلها بفتحها.
فتحصل: أنه لا يحرم من اللّهو إلا ما ورد بعنوانه الخاص في الروايات كالغناء والشطرنج ونظائرهما، فيبقى غيرها كالتصفيق والضرب بالطشت وأنواع اللّهو واللعب على أصالة الحل، نعم لا شك في كون اللّهو بما هو هو مرجوحاً، فإنه تضييع للعمر والوقت والمال وتبديد للنعمة، وقد قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(1) وقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(2).
ويؤكد ما ذكرناه: أن المشهور(3) لم يذهبوا إلى حرمة اللّهو بقول مطلق.
ولذا قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (والروايات - بعد ضعف إسناد جملة منها وعدم عمل المشهور بمثل هذا الإطلاق - ضعيفة الدلالة، لأنها محفوفة بقرائن تدل على أن المراد منها: الغناء والقمار وما أشبه ذلك من المحرّمات.
ولو فرض تمامية السند والدلالة، فما دل على الجواز مماتقدّم(4) أقوى، فالجمع يقتضي الكراهة)(5).
ص: 178
ص: 179
ص: 180
ص: 181
ثم إنه سواء قلنا بحرمة اللّهو بقول مطلق، أم قلنا بحرمة ما كان عن شهوة جنسية، أم قلنا بحرمة ما كان عن بَطَرٍ - كما ذهب إليه الشيخ -، أم قلنا بجوازه إلا ما حرمه الشارع بعنوانه كالغناء والشطرنج ونظائرهما، فإنه لابد من البحث عن حرمة اللعب وعدمه، فنقول:
الاحتمالات - بل الأقوال - في النسبة بين اللّهو واللعب، أربعة:
ولذا قال سبحانه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، حيث إنها في مقابل الآخرة التي هي حقيقة ولا تلهي الإنسان، ليست إلا هذين.
نعم، ما كان من اللّه كالخلق، أو إلى اللّه كالأعمال الصالحة، فهو مستثنى بالشرع والعقل)(1).
وقد يناقش ب-: أن التساوي غير الترادف، وما ذكره أدل على التباين المفهومي وإن تساويا مصداقاً، فتأمل، إذ قد ينقض بالحائط والجدار، وبأن وجود الوجهين لا ينفي الترادف كالإنسان والبشر .
وعلى أي، فاستدلاله بالعرف والانصراف لو تمّ لكان ما ذكره (قدس سره) هو الوجه لتعدد الأسماء أو الصفات في المترادفات، لكن الانصراف أمارة الحقيقة وإن انصرف عنها اللفظ، أما العرف فيفيد المجازية فلا ينبغي الجمع بينهما إلا تجوزاً، أو إنه أراد الطولية.
وقد يدعى: أن العرف على العكس، وأن موارد الاستعمال كاشفة عن افتراقهما في الجملة؛ ألا ترى أنه يقال عادة: تعال لنلعب بالكرة مثلاً، ولا يقال تعال لنلهو بها إلا في بعض الحالات؟ أو يقال: تعالى لنلهو في الملهى - والعياذ باللّه - ولا يقال: تعال لنلعب في الملهى؟ وستأتي أمثلة أخرى فتأمل.
وقد نفى الشيخ(رحمه اللّه) الترادف استناداً إلى ظاهر التعاطف في القرآن الكريم، فإن الأصل في العطف أنه من عطف المباين على المباين.
ثم احتمل أنهما من قبيل المسكين والفقير، قال: (ولعلهما من قبيل الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ولعل اللعب يشمل مثل حركات الأطفال الغير المنبعثة عن القوى الشهوية، واللّهو ما تلتذ به النفس وينبعث عن
ص: 183
القوى الشهوية)(1).
أقول: ولعل ما ذكره من أنهما إذا اجتمعا افترقا وبالعكس هو السبب في توهمهما مترادفين تارة ومتباينين أخرى، فتأمل واللّه العالم.
وعلى أي حال، فإنه على هذا القول(2) لا حاجة لعقد مسألة جديدة للّعب، غاية الأمر إضافة بعض ما ورد فيه لفظ اللعب من الآيات والروايات إلى أدلة الجواز أو التحريم، نعم قد تنهض بعضالأدلة هنا(3) في قبال بعض الأدلة هناك(4)، فتدبر.
القول الثاني: إن اللعب مباين للهو، وهو ما ذهب إليه المحقق الإيرواني(رحمه اللّه)، حيث ذهب إلى أن اللّهو من أفعال الجوانح، واللعب من أفعال الجوارح، وقد سبق قوله: (فاللّهو فعل النفس واشتغالها باللذائذ الشهوية بلا قصد غاية وإن كانت الغاية حاصلة سواء أصدرت حركة جوارحية من الشخص أو لا، كما في استماع آلات الأغاني، قال تعالى: (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ))(5)
- انتهى.
وحاصل كلامه بعبارة أخرى يتألف من بنود، وهي: إن قوام اللّهو بأمور:
الأول: إن اللّهو قائم بالنفس لا بالجوارح.
ص: 184
الثاني: إنه خاص باللذائذ الشهوية لا مطلقاً.
الثالث: يشترط فيه أن لا تكون له غاية وإلا لم يكن لهواً، وقد سبقت مناقشته(1)، ولكن وعلى أي حال فإنه لابد من عقد مسألة جديدة للعب.
القول الثالث: إن اللعب أعم مطلقاً من اللّهو، وهو ما ذهب إليه صاحب (الفروق اللغوية)(2)،
ولعله ظاهر الشيخ في آخر المسألة حسب احتماله الثاني، وعلى أي فإنه لو كان اللعب أعم فلا يدل على حرمته مطلقاً ما دل على حرمة اللّهو وإن كان مطلقاً.
القول الرابع: هو إن النسبة بينهما هي من وجه، وهو ما استظهرناه وإن ذيلناه ب-(فتأمل)، وذلك لوجود مادة الافتراق من الطرفين:
أما مادة افتراق اللّهو عن اللعب: فكالرقص، فإنه لهو قطعاً ولا يسمى لعباً، وكذلك الغناء وكذا مشاهدة الأفلام غير الأخلاقية، بل وكذا الصفير والتصفيق مطلقاً أو في الجملة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)(3).
وأما مادة افتراق اللعب عن اللّهو: فكاللعب بكرة القدم أو الطائرة أو السلّة لأجل الرياضة، أو لأجل الحصول على مالٍ أو شبه ذلك(4)، فإنه لعب
ص: 185
وليس بلهو، هذا إن لم نقل بأن مطلق اللعب بأمثال الكرة لعب وليس لهواً، وإن لم يكن لإحدى تلك الأغراض لكنه ضعيف، فتأمل.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة، فإنه لابد من عقد مسألة جديدة وبحث إن اللعب حرام مطلقاً، أو لا مطلقاً، أو بالتفصيل.
ثم إن هنالك أدلة أقيمت على جواز اللعب بقول مطلق، وأدلة على حرمته مطلقاً. والحق التفصيل بين ما ورد النهي عنه بعنوانه وغيره، أما أدلة الطرفين فمدخولة، والمرجع «كُلُّ شَيْ ءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ نَهْي»(1) وأصل الجواز والإباحة.
أما الأدلة على الجواز، فقد استدل السيد الوالد (رحمه اللّه) في المكاسب المحرمة عليه(2) ب-:
قوله تعالى: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)(3)، قال: (بضميمة إنالشرائع السابقة حجة علينا في غير المنسوخ نصّاً أو فتوى، فإنّهم قالوا ذلك للنبي يعقوب (عليه السلام) ولم ينكر عليهم)(4).
ولكن قد يورد على هذا الاستدلال ب-: أن يوسف كان طفلاً حينذاك، وجواز اللعب للطفل لا يستلزم جوازه للبالغ كما هو واضح، ولا فرق في ذلك بين
ص: 186
القول بكون الشرائع السابقة عامة لنا بأدلتها بدعوى: عموم خطابها لكل الأمم إلا ما عُلم نسخه، وبين القول بكونها شاملة للأمم اللاحقة بالاستصحاب(1).
نعم الاستدلال غير تام على قراءة نافع (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)، وهي القراءة المتداولة، أما إبن كثير وأبو عمرو وابن عامر فقد قرأوا هكذا (نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ)، وعلى هذه القراءة يتم الاستدلال لوضوح كونهم رجالاً بالغين.
لكن الصحيح المنصور - كما فصلناه في بعض المباحث -: إن القرآن نزل من عند الواحد على حرف واحد لأدلة عديدة؛ منها: الروايات، ومنها: ما عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: «كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللَّهِ وَ لَكِنَّهُ نَزَلَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ»(2) .
كما أنه مبنى جمع من الأعلام ومنهم السيد الوالد (رحمه اللّه) فلا حجية لهذه القراءة، كما سبق أن سائر القراءات غير ممضاة بحيث(3) يستفاد منها حكم شرعي، خلافاً لمن وافق على عدم تعدد القراءات ثبوتاً، لكنه ارتأى إمضاء الأئمة (عليهم السلام) لغير القراءة النازلة، لِحَكمٍ، كما فصلناه في محله.
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَاعِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(4).
ص: 187
قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (ومن الواضح: إنه لو كان حراماً أنكره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بالإضافة إلى السياق، وإنما كان الإنكار عليهم من جهة تركهم له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائماً في الخطبة، مضافاً إلى دلالة (خَيْرٌ) على الجواز)(1).
لكن قد يورد على هذا الاستدلال:
أولاً: إنه لا يعلم أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم ينكره، أي لا محرز لعدم إنكاره.
لا يقال: لو كان لبان.
إذ يقال: ذلك لو كانت القضية عامة سيالة للمكلفين ومورد ابتلائهم، لا مثل هذه القضية الخاصة به (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، اللّهم إلا أن يستدل بعدم إنكاره للكلي(2) فتأمل.
وقد يجاب ب-: الاكتفاء بإنكاره تعالى في هذه الآية.
لكن فيه: أن ذلك تام على فرض كون الذم على اللّهو، أما على تقدير كونه على (تركوك قائماً) فلا إنكار على اللّهو كي يكتفي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) به، لكن لا يصح الاستدلال به(3)
على جوازه(4). وهذا هو وجه الإيراد الثاني إذ نقول:
ثانياً: الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، إذ مصبها ومورد اهتمامها هو تركه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائماً، لذا ردع تعالى عنه، أما غيرهفليست الآية مسوقة له - على
ص: 188
فرض أن الذم هو تركه قائماً فقط، وأن اللّهو والتجارة مقارنان لذلك - فلا يستفاد من السكوتِ الإمضاءُ ولا من عدم الإنكار الجواز، وذلك كما في: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(1) غير الدال على طهارة موضع العض؛ إذ الآية مسوقة لحلية الأكل من حيث التذكية وعدمها لا للطهارة وعدمها، وذلك نظير مذمة المولى لولده بقوله: انشغلت بالمسابقة(2) وتركت الصلاة، أو انشغلت بغيبة الناس وتركت الصلاة، فإنه حيث كان مسوقاً للذم على ترك الصلاة لم يدل بذاته على حكم المسابقة والغيبة وغيرها، بل قد يكون ما انشغل به مستحباً كالمسابقة أو حراماً كالغيبة أو مباحاً كالأكل.
ثالثاً: إن (خير) في: (مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ) وإن ادعى دلالتها على جواز اللّهو لأن مفادها أن اللّهو والتجارة خير لكن ما عند اللّه أخير، لا تدل على جواز اللّهو لوجهين:
الأول: دعوى غلبة استعمال (خير) في المجرد عن مفهوم التفضيل على الطرف الآخر مع كونه(3) ذا فضل، إلى درجة إجماله بين إرادة الأفضلية أو إرادة صرف الخيرية مع كون الطرف الآخر لا خير فيه أصلاً أو كونه على الضد محرماً.
وفيه: أن الظاهر عدم بلوغ كثرة الاستعمال درجة توجب الإجمال، فكيف بالهجر والنقل؟! إلا أن يستند إلى مناسبات الحكم والموضوع(4) في مثل
ص: 189
المقام، فيستظهر ببركتها التجرد عن معنى التفضيل، فلا تفيد الجواز كما لا تفيد الحرمة، فتأمل(1).الثاني: إن (خير) وإن دلت على وجود الخير (الأقلّ) في الطرف الآخر، لكنها أعم من الجواز؛ إذ صِرف وجود المنفعة والفائدة(2) ليس دليلاً على الجواز إلا مع إحراز عدم وجود المزاحم من المفسدة الأقوى، ألا ترى قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(3)؟
والحاصل: إنه لا يصح الاستدلال بإطلاق الآية(4) على نفي وجود مفسدة مزاحمة، إذ الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل غاية ما تفيده وجود المقتضي للجواز.
بعبارة أخرى: إن ذكر الشارع وجود مصلحة أو مفسدة في أمرٍ، إذا لم يكن في مقام بيان الحكم لا يصلح دليلاً على التحريم أو الإيجاب؛ إذ لا إحاطة لنا بكافة ملاكات الشارع الدخيلة في الحكم.
وأما تتميم الاستدلال بأصالة عدم وجود المفسدة أو المصلحة المزاحمة ففيه أنه مثبت.
وأما التمسك بأصالة الحل والإباحة فأمر آخر، فإنه وإن تمّ لدى فقد الأدلة، إلا أنه غير التمسك بقول الشارع ضمناً أن في كذا منفعة كذا، فتأمل(5).
ص: 190
رواية ابن سيابه عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «لَا بَأْسَ بِشَهَادَةِ الَّذِي يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ»(1).
وفيه: إن الموضوع في الرواية اللعب بالحمام وجوازه، فلا تسقط عدالة من يلعب بالحمام مادام لم يقترن بالمحرمات كالنظر إلى الحُرمات مثلاً، فلا يتعدى منه إلى مطلق اللعب، إلا بدعوى: تنقيح المناط، وهو ظني، ولا سبيل إلى القطع به وإنه لكونه لعباً؛ إذ لعلللّعب بالحمام خصوصيةً خاصة اقتضت جوازه(2)، ومن أين لنا أن اللعب بالخاتم والقط والفأر مثلاً واجد لنفس الملاك؟! خاصة مع وضوح إننا لا نعلم ملاكات أحكام الشارع بشتى تزاحماتها المقتضية لدوران الحكم مدارها وجوداً وعدماً، فلعلها حكمة لا علة.
رابعاً: الاستدلال ب-روايات (دعه يلعب)(3)(4)
أقول: لم أجد رواية بهذا النص في الوسائل والمستدرك وجامع أحاديث الشيعة - ولعل التتبع الأكثر يقود إلى وجودها - وعلى أي فإن الموجود في التهذيب والكافي: «الْغُلَامُ يَلْعَبُ سَبْعَ سِنِينَ وَ يَتَعَلَّمُ الْكِتَابَ سَبْعَ سِنِينَ وَ يَتَعَلَّمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ سَبْعَ سِنِينَ»(5)، وفي من لا يحضره الفقيه: «دَعِ ابْنَكَ يَلْعَبْ سَبْعَ سِنِينَ،
ص: 191
وَيُؤَدَّبْ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَلْزِمْهُ نَفْسَكَ سَبْعَ سِنِينَ، فَإِنْ أَفْلَحَ وَإِلَّا فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ»(1).
وهذه الروايات لا دلالة فيها على جواز اللعب للبالغ كما لا يخفى، إذ لا ملازمة بين جواز الشيء للصبي وجوازه للبالغ، اللّهم إلا أن تدعى الملازمة بين رجحانه شرعاً للصبي - المستفاد من الروايتين وغيرهما - وجوازه للبالغ استناداً إلى أنه لا شيء من المحرمات براجح للصبي، فتأمل.
ص: 192
وأما ما يمكن الاستدلال به - مبدئياً - على حرمة اللعب فطائفتان من الآيات، إضافة إلى الاستدلال بالعقل:
الطائفة الأولى: ما دل على حرمة اتخاذ دين اللّه لعباً، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1).
وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(2).
وقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(3).
ويرد عليها: أنها لا تدل على أكثر من حرمة نوع خاص من اللعب وهو اتخاذ الدين هزواً ولعباً(4)، ولا شك في حرمة اتخاذ الدين - أصولاً أو فروعاً أو
ص: 193
أحكاماً أو حتى آداباً - هزواً ولعباً.
نعم، لا يرد: أنها لا تدل على أكثر من تحريم ما جمع كلتا الصفتين (الهزو واللعب)؛ وذلك(1) لأن الظاهر أن الحكم يدور مدار أحد العنوانين ولو بمناسبات الحكم والموضوع؛ لوضوح أن اتخاذ الدين هزواً محرم كاتخاذه لعباً، إضافة إلى تجرد بعض الآيات، كالوسطى، من ضميمة الهزو.
الطائفة الثانية: ما دل على ذم اللعب، بضميمة قاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، بل ودعوى ذم العقل للعب بضميمة الملازمة بين ذمه وتحريم الشارع أو بين ذمه وتحريمه أو بدعوى حكمه - ابتداءً - لا بالقبح فقط بل بالحرمة أيضاً، وهذا وجه آخر كما لا يخفى.
وذلك كقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(2).
وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(3).
ويرد عليها: مبنىً، بأن قاعدة الملازمة إنما هي بين الحرمتين أو الذمّين،
ص: 194
ولا ملازمة بين الذم أو القبح والحرمة كما فصلناه في (رسالة في قاعدة الملازمة) وقد سبقت إلى ذلك الإشارة.
وأما من يرى قاعدة الملازمة بين الذم العقلي والحرمة الشرعية، فله أن يجيب ب-: أن قاعدة الملازمة هي بين القبح أو الذم العقلي والحرمة الشرعية، ولا ملازمة بين الذم الشرعي والحرمة الشرعية، ولا بين الذم الشرعي والحرمة العقلية، فإن الذم الشرعي أعم من الحرمة كما لا يخفى.
وأما دعوى: استقلال العقل بحرمة اللعب على إطلاقها فمجازفة، وأما حكمه بقبح اللعب في الجملة فلا ينتج - على فرض قبول الملازمة بين القبح العقلي والحرمة الشرعية - إلا حكم الشرع بحرمته في الجملة، ويعود أمر تحديد مصاديقه إلى الشارع، وحيث حدد الشارع اللعب الحرام بعناوين خاصة (كاللعب بالشطرنج ونظائره) بقي غيره على أصالة الجواز والإباحة.
والعلم الإجمالي بحرمة اللعب في الجملة غير منجِّز في الشبهة غير المحصورة بل وفي المحصورة الخارج قسم من أطرافها عن محل الابتلاء، بل وفي المحصورة الداخل أطرافها في محل الابتلاء مع وجود علم إجمالي صغير بأنواع محرمة منه، ينحل به العلم الإجمالي الكبير حقيقةً أو حكماً، فتدبر.
وقد يناقش الاستدلال بهذه الآيات ب-: أنها لا تفيد التنقيص والذم والتقبيح الذاتي للعب ولا التنقيص والذم المطلق، بل تفيد التنقيص والتقبيح بالمقارنة، أي أن الدنيا مذمومة واللعب مذموم بالقياس إلى تفويتها وتفويته مصالح الآخرة(1)، بل قد يدعى: أنها لو دلت على المنع فعلى المقدمي منه لا
ص: 195
النفسي، وبلحاظ ذلك - أي بلحاظ وقوعه مقدمة للتفويت - فلا تدل الآيات على مذمة اللعب في حد ذاته والدنيا في حد ذاتها.
ولكن يمكن الاستدلال على كلا الطرفين بشواهد من هذه الآيات وغيرها؛ فقد يستشهد على القبح الذاتي بقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) فتأمل(1) أو على القبح بالقياس بقوله: (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) بناء على تضمنها معنى التفضيل كما هو الأصل فيها.
كما قد يستدل بقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(2) على الحسن، وفيه: أن اللعب ليس مصداق (زينة اللّه) ولا الطيبات من الرزق كما لا يخفى، ولا مناط قطعي ليتمسك به، وعلى العكس بقوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) و(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(3).
وبالروايات ك-:«إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، و دار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء اللّه ومصلى ملائكة اللّه ومهبط وحي اللّه ومتجر أولياء اللّه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة... »(4)
وعليه: فلا ينبغي إضاعة العمر باللعب فيها(5).
ص: 196
وك-:«...فإن الدنيا جيفة و طالبها كلاب »(1) ولكن هل اللاعب مصداق طالب الدنيا؟ الظاهر: العدم عرفاً وبالحمل الشائع.
والبحث طويل في هذا الحقل، ولعله أقرب للأخلاقي - على أهميته - منه للفقهي لذلك يوكل لمظانه، ومن الجيد استفراغ بعض الأفاضل وسعه لتحقيق ذلك على ضوء الآيات والروايات، وبضميمة الروايات المختلفة التي تدعو إلى الزهد، أو التي تفسره بما يخرجه عن المعنى المعهود له، فتدبر وتأمل.
ذهب البعض إلى الرجحان المقدمي للعب غير المحرم(2)
أو وجوبه في صور:
منها: ما لو كان سبباً للترويح عن النفس وتخفيف الضغط على الأعصاب ودفع مرض الاكتئاب.
ومنها: ما لو وقع مقدمة لحفظ الشباب عن الانزلاق في مزالق المفاسد، وعليه يجب إشغالهم باللعب مقدمةً، فإن الفراغ مفسدة للمرء أي مفسدة، فلو لم يمكن ملء أوقات الشباب - أي فائض أوقاتهم - بالألعاب السليمة فلربما انجرفوا إلى المفاسد السقيمة، نعم لا شك أن الأولى بل الضروري ملء أوقاتهم بالعبادة والعلم وبالعمل الصالح والأنشطة النافعة كرعاية الأيتام والمهجرين وتأسيس المؤسسات الإنسانية والدينية وشبهها، إلا أن الكلام في صورة عدم الإمكانوالتوقف.
ص: 197
ص: 198
ص: 199
قد يدعى ب-: أن اللغو مرادف للهو، وقد يفرّق بين اللغو واللعب واللّهو ب-: أن اللعب ما كان لغاية الالتذاذ لا غير، واللغو ما لم يكن لغاية أبداً، وأما اللّهو فما كان لغاية الالتذاذ الشهوي أو عن بطر أو غير ذلك كما سبق.
لكن الشيخ (رحمه اللّه) في المكاسب ادعى: ظهور بعض الروايات في أنه مرادف للهو، قال: (وأما اللغو فإن جعل مرادف اللّهو كما يظهر من بعض الأخبار، كان في حكمه، ففي رواية محمد بن أبي عباد المتقدمة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «أن السماع في حيز اللّهو والباطل، أ ما سمعت قوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(1)»؟! ونحوها رواية أبي أيوب حيث أراد باللغو الغناء مستشهداً بالآية، وإن أريد به مطلق الحركات اللاغية فالأقوى فيها الكراهة)(2).
ولعل ظاهر كلامه: الحقيقة الشرعية بمعنى تصرف الشارع في مفهوم اللغو بجعله مرادف اللّهو، إذ أنهما عرفاً متغايران، لكن قد يدعى: أنه استدلال على أن معناه العرفي أو معناه الواقعي أي الموضوع له هو هذا، مستعيناً بالروايات، لكن الأول أظهر.
ص: 200
أقول: لكنه على كلا التقديرين(1) متأمل فيه؛ إذ الاستشهاد بالآية على حرمة اللغو أعم من الترادف ومن كون اللغو أعم مطلقاً مناللّهو(2)، فكيف يجعل دليلاً على الترادف؟!
نعم، لا يصح ما ذكره فقه الصادق (عليه السلام) من أن الاستدلال بلحاظ تطابق العنوانين أحياناً؛ إذ فيه: أنه إن أراد ما كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه - كما لعله ظاهره(3)- لا يصح الاستدلال(4) على حرمة عنوان بحرمة عنوان آخر نسبته معه من وجه، كما هو بيّن.
وفيه: أنه دام ظله لم يستدل بذلك(5)، بل استدل على حرمة مجمع العنوانين بالرواية، فتأمل. إذاً كلامه إنما هو عدم صحة الاستدلال على اتحاد المفهومين والترادف بالرواية، إذ لا تدل على أكثر من صدق العنوانين في بعض الموارد، فتأمل.
وقد ذكر اللغويون والمفسرون للغو معاني عديدة، مثل: الذي لا فائدة فيه، الباطل، الكذب، السباب، الحلف اللغو، الغناء، الملاهي، وقد ورد
ص: 201
الأخيران في بعض الروايات، والظاهر: أنه موضوع للذي لا فائدة فيه، والأخريات مصاديق له، وجامعها: أنها لا فائدة فيها وإن زادت أن فيها الضرر أيضاً، لكن تسميتها باللغو لجهة عدم فائدتها.
ثم الظاهر أن اللغو هو الفعل - الأعم من القول - الذي لا فائدة فيه وليس الفعل الذي لا غاية له، أو الفعل الخالي عن الغاية، كما فسره به المحقق الإيرواني (رحمه اللّه) في حاشيته والروحاني في فقهالصادق (عليه السلام)(1)؛ وذلك لأنه لم نجد للغاية أثراً ولا ذكراً في كلمات اللغويين والمفسرين، بينما نجدهم جميعاً قد ذكروا ما لا فائدة فيه.
والفرق بينهما كبير؛ فإن الفائدة قائمة بالشيء - جوهراً كان أم كان من مقولة الفعل أو غيرها - والغاية قائمة بالفاعل، إضافة إلى أن النسبة بين الفائدة والغاية هي العموم والخصوص من وجه:
فقد تكون للشيء فائدة لكن لا يجعلها الفاعل غاية له ولا يرومها(2).
وقد تكون له غاية لكنها غير مفيدة بل قد تكون مضرة، وهذا في الغايات الشخصية واضح، وأما الغايات النوعية فالظاهر أيضاً أنها قد لا تتطابق مع الفوائد الواقعية ولا الفائدة الشرعية، والأُولى هي مقتضى قاعدة وضع الأسماء لمسمياتها الثبوتية، والثانية هي مقتضى تصرف الشارع في بعض ما يراه العرف
ص: 202
مفيداً بتحريمه(1) أو مضراً بتحليله أو ترجيحه(2)، فتأمل.
قد يستدل على حرمة اللغو بالآيات والروايات:
أما الآيات فمنها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(3).ومنها: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً)(4).
ومنها: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ)(5).
ومنها: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(6).
ومنها: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)(7).
لكن أورد - أو قد يورد - على الاستدلال بالآية الأولى بوجوه؛ تجري
ص: 203
جميعها أو بعضها في سائر الآيات فلاحظ:
1: لا إطلاق ل-(وإذا مروا باللغو) لكون مصبها الأثر(1)
الوجه الأول: ما ذكره في فقه الصادق (عليه السلام) من: (فالظاهر ولا أقل من المحتمل عدم إرادة مطلق اللغو منها، حيث أنها ليست إلا في مقام بيان ما يترتب على التجنب عن اللغو، فلا يمكن التمسك بإطلاقها)(2).
لكن يرد عليه:
أولاً: مبنىً: بأن المرجع في الظهور هو العرف، والعرف يرىأن اختيار المولى للفظ المطلق بنفسه دليل على إرادة العموم والشمول، وليس تمامية مقدمات الحكمة وعدمها - ومنها المقدمة الأولى التي مقتضى الإشكال نفيها(3) - وذلك تبعاً لثاني قولي الآخوند؛ إذ ذهب في آخر الكفاية (بحث التعادل والترجيح) إلى أن المطلق إذا عارض العام فقد يقدم عليه؛ لأن المرجع في الظهورات العرف وقد يكون المطلق أظهر من العام، وقد عدل بذلك ظاهراً عما
ص: 204
ذكره في بحث المطلق والمقيد من تقدم العام على المطلق إذا تعارضا بالورود؛ نظراً لكون دلالة العام على العموم بالوضع، وكون دلالة المطلق على الشمول ببركة مقدمات الحكمة، فمع وجود العام لا تتم مقدمات الحكمة - إذ هو قرينة على الخلاف(1) - فلا مقتضي للإطلاق، وليس أنه مطلق انعقد إطلاقه فعارضه عام ليُرى أيهما المقدم.
والظاهر أن العرف يرى الإطلاق في: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) بنفس استعمال اللفظ (اللغو) دون قيد، وأنه لا وجه للتشكيك في كون المولى في مقام البيان.
ثانياً: بناءً: إن ذلك حتى إن تمّ وقلنا به، فإننا لا نقول به - تبعاً لجمع من الأدباء - في المفرد المحلى بأل أي الكلي الطبيعي المحلى به(2)، فإن الأصل فيه الاستغراق ثم الجنس، وكون العهد الذهني أو الذكري أو الحضوري خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل، و(اللغو)كلي طبيعي محلى بأل فهو ك-(الحمد) في الحمد لله رب العالمين.
ومآل هذين الإشكالين إلى عدم توقف انعقاد الإطلاق على إحراز كون المولى في مقام البيان مطلقاً أو في خصوص اسم الجنس المحلى بأل بإحراز مستقل، وأن الأصل(3) هو كونه في مقام البيان إلا لو كانت قرينة على الخلاف(4)، وذلك
ص: 205
كما هو الحال في العام.
ثالثاً: سلمنا، لكن كون المولى في مقام البيان لا ينحصر في ما لو جَعَل المطلق بنفسه متعلقاً للحكم، بل هو أعم من ذلك ومن جَعْلِهِ المطلق في طريق ترتيب آثار أو أثرٍ ما عليه، ألا ترى أنه لا فرق - عند العرف في إحراز كون المولى في مقام البيان والإطلاق - بين قوله: (اجتنب الغيبة)، وقوله: (إذا اجتنبت الغيبة تكاملتَ) خبراً، أو (آجرتك وأثبتك كذا أو كذا) وَعْداً وإنشاءً؟ وفي الأول (الغيبة) هي المصب والمتعلق للحكم، وفي الثاني وقعت في طريق الأثر، أي في مقام بيان ما يترتب على تجنب الغيبة أو اللغو - على حسب تعبيره (دام ظله)(1) -.
ويدل عليه: أنه لو امتثل العبد أمره في الصورة الثانية، واجتنب الغيبة في حالة ما، فلم يؤجره المولى متعللاً بأنه لم يكن في مقام البيان ولا إطلاق أحوالي ليشمل هذه الصورة، عُدّ مغرياً بالجهل، ظالماً، ناكثاً للوعد، أو محتالاً، أو على أقل الفروض مورّياً.
ويتضح ذلك أكثر ب-: ملاحظة النظائر، فإنه لا فرق بين قولك: أكرم الجار وقولك: إذا أكرمت الجار سأعطيك كذا من المال، في انعقاد الإطلاق الإفرادي والأحوالي لكليهما، والآية من هذا القبيل، إذ لا فرق عرفاً أبداً من حيث ظهور كون المولى في مقام البيان والإطلاق في (اللغو) بين قوله: (مرّ باللغو مرور الكرام) وبين: (وَإِذَامَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً).
ص: 206
الوجه الثاني: ما ذكره أيضاً بقوله: (والمتيقن منها إرادة الغناء)(1).
لكن يرد عليه: إن وجود القدر المتيقن لا يخل بالإطلاق أبداً (2)،
وإلا لما انعقد لمطلقٍ إطلاق، إذ لا مطلق إلا وله قدر متيقن هو الفرد الأكمل أو الأشد أو الأولى أو الأسبق أو ما أشبه؛ ألا ترى أن قوله: أكرم العالم، قدره المتيقن هو العالم العادل الورع...؟ وألا ترى أن القدر المتيقن من (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) هو بيع النقد بالنقد؟ فهل أخل ذلك بالإطلاق؟
أو يقال: - تبعاً للآخوند(رحمه اللّه) -: إن القدر المتيقن في مقام التخاطب هو المخلّ بالإطلاق لا غير، فإن مقام التخاطب قد يصلح قرينة على تحديد مراد المتكلم، لكنه لا يوجد في الآية قدر متيقن في مقام التخاطب بإرادة الغناء فقط كما لا يخفى، وأما تفسير الروايات للغو بالغناء والملاهي فهو إضافة إلى أنه قرينة منفصلة(3) وليس من باب القدر المتيقن، فإنه تفسير بالمصداق أو لا دليل على الأكثر من ذلك، فتأمل.
الوجه الثالث: وهو مبني على ما ذكره الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) في التبيان من: (واللغو: الفعل الذي لا فائدة فيه، وليس معناه أنه قبيح، لأن فعل
ص: 207
الساهي لغو، وهو ليس بحسن ولا قبيح - عند قوم -ولهذا يقال: الكلمة التي لا تفيد لغو)(1).
أقول: سبق أن القصد تارة يكون مقوّماً لصدق العنوان وأخرى لا، وفعل الساهي على نوعين، فقد يكون القصد مقوّماً لقبحه وقد لا يكون، فمن الأول: ما لو سهى فأخطأ في أمر علمي أو شبهه(2)، ومن الثاني: ما لو سهى فسبّ أولياء اللّه سباً بذيئاً، أو كفر وألحد باللّه تعالى، فإن هذا اللغو قبيح(3) في حد ذاته وإن لم يكن الفاعل قاصداً، والحاصل أنه نظير ما ذكروه عن المعصية الفعلية وإن لم تكن معصية فاعلية.
وعلى أي فإنه يمكن أن يكمل كلام الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) بما يقع إشكالاً على الاستدلال بالآية على حرمة مطلق اللغو، بأن ما لا فائدة فيه(4) ليس بحرام، للارتكاز وللسيرة ولغيرها، فلابد من صرف الآية عن ظاهرها في الإطلاق لو قيل بظهورها فيه وبكون ظاهرها الحرمة، أو تكون مجملة لو تردد معنى اللغو فيها بين القبيح وبين ما لا فائدة فيه.
ولكن قد يدعى ظهور الآية الكريمة في إرادة القبيح بمناسبات الحكم والموضوع لو لم يرد بها الأعم لشموله(5) لهما جميعاً، فتأمل.
ص: 208
الوجه الرابع: إن هذه الآية الشريفة وسائر الآيات لا تدل إلا على رجحان اجتناب اللغو، ولا دلالة فيها على الحرمة، فإن قوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) يفيد مدح المؤمنين لا أكثر.
لا يقال: لكن السياق يفيد الوجوب إذ قد سبقها: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَالزُّورَ)(1)!
إذ يقال: أولاً: ليس السياق حجة، وليس مما يفيد الظهور النوعي، غاية الأمر أنه يصلح مؤيداً(2).
ثانياً: إن السياق على العكس أدلّ، فإن الآيات الشريفة تتحدث بظاهرها عن صفات المؤمنين الكاملين، وقد بدأت ب-(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) وهو مستحب بناء على تفسير (هوناً) ب-(السكينة والوقار)، بل وعلى تفسيره ب-(حلماً وعلماً)، بل وعلى تفسيره ب-(لا يجهلون وإن جُهِل عليهم) في الجملة(3)، وأما (سلاماً) فإن فسر بالسداد كان أعم فتأمل، وإن فسر بما يسلمون به عن المعصية كان تركه حراماً مقدمياً لا غير.
و(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) فإن ذلك مستحب كنظائره، وكذا
ص: 209
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
إضافة إلى ظهور الجزاء في أنه مثوبة على الدرجات العليا من الإيمان (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) فإن الغرفة هي المنازل العالية في الجنة، ولا يجب السعي لذلك بل يستحب.
ولذا قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في المكاسب المحرمة: (ومنه يعرف وجه عدم دلالة: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) بالإضافة إلى أن السياق دال على الأعم من الحرام، قال سبحانه: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) إلى غير ذلك)(1).
وقال عن آية (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ): (فالظاهر أنالآيات سياقها في الأعم من الواجب، ولذا أردف بقوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(2) فالمراد المؤمنون الكاملون).
وقال في فقه الصادق (عليه السلام): (مع أنه لا ظهور في الآية إلا في رجحان التجنب عنه ولا تدل على لزومه)(3).
الوجه الخامس: إن (اللغو) مجمل حيث فسره اللغويون والمفسرون - كما سبق - بتفاسير شتى، منها: الفعل الذي لا فائدة فيه، الباطل، الكذب، السباب، الحلف اللغو، الغناء، والملاهي. وقد ورد الأخيران في الرواية، وذكرت
ص: 210
السوابق في التبيان ولسان العرب وغيرهما.
وقد سبق أيضاً: ان الظاهر أن اللغو موضوع للذي لا فائدة فيه، وتلك الآخريات مصاديق، وجامعها أنها لا فائدة فيها، وزادت على ذلك بأنَّ فيها الضرر، والظاهر أن وجه تسميتها باللغو إنها لا فائدة فيها لا أن فيها الضرر كما هو واضح.
وعلى أي فلو أريد من اللغو ما لا فائدة فيه لما تم الاستدلال بالآيات على حرمته؛ لوضوح عدم حرمة مطلق ما لا فائدة فيه، بل عدم تحريمه مطلقاً بعنوانه من الضروريات.
وقد استدل الشيخ(رحمه اللّه) على حرمة اللغو بالروايات، قال: (... وفي رواية أبي خالد الكابلي، عن سيد الساجدين (عليه السلام)، تفسير الذنوب التي تهتك العصم ب-: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو القبيح والمزاح، وذكر عيوب الناس. وفي وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر رضوان اللّه عليه: «إن الرجل ليتكلمبالكلمة فيضحك الناس فيهوي ما بين السماء والأرض»(1))(2).
وأشكل عليه في فقه الصادق (عليه السلام): (وأما خبر الكابلي: فمضافاً إلى ضعف سنده لبكر بن عبد اللّه بن حبيب، إنه في مقام بيان الذنوب التي يترتب
ص: 211
عليه هذه الخاصية وهي هتك العصم المفروغة ذنبيتها، وليس في مقام بيان حرمة اللغو)(1) وذلك تبعاً لما ذكره المحقق الإيرواني(رحمه اللّه)، إذ قال: (هذه الرواية في مقام إثبات خاصيّة هتك العصم لبعض الذنوب المفروغ عن ذنبيّته، لا في مقام بيان كونه ذنباً، فلا تدلّ على حرمة اللغو والمزاح بقول مطلق، بل تدلّ على ثبوت هذه الخاصية لهما في موضوع كونهما ذنباً، ولعلّ ذلك فيما كان سخريةً لمؤمن أو استهزاءً به أو إدخالاً للأذى عليه بأيّ وجهٍ كان)(2).
وبعبارة أخرى: إن التمسك بهذه الروايات لإثبات كون اللغو ذنباً تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
أقول: يرد عليهما: أن الرواية صريحة في بيان مصاديق (الذنوب التي تهتك العصم) وإن منها: شرب الخمر واللعب بالقمار ومنها اللغو والمزاح، فلا مجال لذلك التوهم.
والذي يوضحه أكثر: أن الرواية ذكرت إن الذنوب على أنواع وذكرت لكل نوع مصاديق:
فذكرت: (الذنوب التي تغير النعم: البغي على الناس، والزوالعن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم وترك الشكر.
قال اللّه عزوجل: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(3)).
وذكرت: (والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللّه.
ص: 212
قال اللّه تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)(1). وقال عز وجل في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل، فعجز عن دفنه فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله: (فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ)(2). وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية ورد المظالم، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان).
وذكرت: (والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب).
وذكرت: (والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وذكرت: (والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، والإتباع للأشرار)
وذكرت: (والذنوب التي تُظلِم الهواء: السحر، والكهانة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين..)(3) إلخ.
والحاصل: إن الإمام (عليه السلام) بنفسه تصدى لتحديد مصاديق هذه العناوين الكلية، وإن هذه العناوين ك-(الذنوب التي تهتك العصم) تنطبق على الخمر واللغو وما أشبه، فكيف يتوهم أنه تمسك بالعام فيالشبهة المصداقية وإن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام بيان كونها ذنباً؟!
ص: 213
والحق في الجواب أن يقال: إنه لا شك في أن المراد من اللغو والمزاح في الرواية بعض أفرادهما لا مطلقها، وذلك لمناسبات الحكم والموضوع، وللارتكاز القطعي على عدم حرمة مطلق اللغو فكيف بكونه كبيرة؟ وللإجماع والسيرة المسلّمة، فتدبر.
فالمراد باللغو فيها أمثال الكذب والسباب، والمراد بالمزاح المزاح بالحرام، كالمزاح المؤذي أو بفعلٍ حرام أو ما أشبه.
وقد يقال: بأن هتك العصم مشكك له مراتب، وما يوجب بعضها محرم دون ما يوجب الدرجات الدنيا منها، فلا يدل على أمر حرمته المقدمية فكيف بالنفسية؟! إلا لو ثبت أنه يمتلك المرتبة العليا، فتأمل.
وقد مضى في مبحث اللّهو الكثير مما ينفع في تنقيح المقام فراجع.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
ص: 214
بسم اللّه الرحمن الرحيم
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.
وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللَّهُمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.
ص: 215
وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْيَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(1)
فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
ص: 216
* فقه القرآن الكريم والتفسير
1. تحديد المراد باللّهو في بعض الآيات الكريمة 29 -32 و33 -34
2. من فقه آية: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا) 59 -60
3. من فقه آية: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) 66 - 68
4. من فقه آية: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ) 69
5. من فقه آية: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) 70 - 71
6. من فقه آية: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) 72
7. من فقه آية: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) 128 - 131
8. وجه الاستدلال بالقرآن استعمالاً أو انتقالاً أو بطناً 130 - 134
9. إطلاقات الباطل في القرآن الكريم: 144 - 148
10. معاني (الكفر) في الآيات 154- 157
* فقه الحديث الشريف
1. بحث عن مغايرة (اللّهو) في الروايات والآيات، ل-(اللّهو) 43 - 46
2. بحث عن اضطراب متن رواية تحف العقول وتعارض ضابطيها 76-81
ص: 217
3. فقه رواية: «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً...» 81 - 84
4. فقه رواية: «عد في الكبائر الاشتغال بالملاهي» 85 - 101
5. فقه رواية (الفضل بن شاذان) 101 - 105
6. فقه رواية: «كلما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر» 105 - 115
7. فقه رواية: «إنما خرج في لهو لا يقصر» 114 - 120
8. فقه رواية: «وهو في حيز الباطل واللّهو» 120- 126
9. فقه رواية: «كذبوا... ويل لفلان مما يصف» 126 - 134
10. وجوه استدلال الأئمة (عليهم السلام) بالانتقال أو الاستعمال أو البطون... 130 - 134
11. فقه رواية: «كل لهو المؤمن باطل» 135 - 162
12. فقه رواية: «لا نستحب» 162 - 163
13. فقه رواية: «فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي » 164 - 167
14. فقه رواية: «الذنوب التي تهتك العصم» 211-212
* بحوث فقهية
1. الأقوال في حرمة اللّهو 14
2. بحث عن كون اللّهو في السفر سبب القصر لا لكونه معصية 114-120
3. بحث عن عناوين (القمار والرهان والسبق والميسر) والصور الأربع للقمار 168 - 172
ص: 218
* الفوائد والإرشادات الأصولية
1. إشارة: وجه أصالة ثبات اللغة 18
2. إشارة: الاستعمال في الحقيقة أعم من الانحصار بها 29 و137
3. بحث: قاعدتان (الأصل الاستعمالي في الحقيقة) و(الاستعمال أعم من الحقيقة) 138 - 139
4. بحث عن قاعدة الملازمة 55 - 57 و62 - 64
5. مناشئ حكم العقل بالقبح 58 - 59
6. إشارة: حدود خبروية أهل اللغة 88 - 89
7. بحث: حسن (تخصيص الأكثر) في الجملة111 - 113
8. إشارة: عدم الحاجة لمقدمات الحكمة في المطلقات 203 - 204 و206
* البحوث والإشارات اللغوية
1. بحث: معاني اللّهو وفرقه عن اللعب والمناقشات 14- 51 و181 -185
2. إشارة: منشأ الاشتراك اللفظي 38
3. بحث: الفرق بين اللّهو واللّهي 41- 46
4. فائدة: دوران بعض العناوين مدار القصد وعدمه 48 - 50
5. فائدة: الفساد الظاهري والواقعي والشرعي 82 - 84
6. بحث: معاني (الملاهي) والمناقشات 85 - 94
7. بحث: معاني (الصد عن ذكر اللّه) 94 - 97
8. بحث: معنى (ذكر اللّه) 98 - 100
ص: 219
9. فائدة: (الباء) والأصل فيها 102 - 103
10. فائدة: معنى مادة (الاشتغال) 103 - 104
11. بحث: معاني (الباطل) 141 - 143 و149 - 151
12. بحث: معاني (الكفر)154 - 157
13. فائدة: الفرق بين السبْق والسبَق 171 - 172
14. فائدة: دلالة (خير) على الجواز وعدمها 188 - 189
15. بحث: معنى (اللغو) 199 - 201 و206 - 207
* فوائد عامة:
1. أصناف الأفعال وظهورها بالنسبة للغايات 27 - 28
2. بين منهج التحقيق الموسع والتدقيق وغيره 46 - 48
3. الغرض من الخلقة 128 - 130
4. فائدة: من عالم الإعتبار 149
5. أهمية علم فقه اللغة 162
ص: 220
* القرآن الكريم
* نهج البلاغة، المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى (رحمه اللّه)
* الكافي الشريف/ للشيخ محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني (رحمه اللّه)، الناشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407.
1. التبيان في تفسير القرآن/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي6، الناشر: دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى.
2. تفسير الصافي/ للشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني(رحمه اللّه)، الناشر: مكتبة الصدر، الطبعة الثانية:1415
3. تفسير القمي/ للشيخ علي بن إبراهيم القمي(رحمه اللّه)، الناشر: دار الكتاب، الطبعة الثالثة: 1404 ه-
4. الامالى/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي،(رحمه اللّه)، الناشر: دار الثقافة، الطبعة الأولى: 1414 هجري
5. الاستبصار/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(رحمه اللّه)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى: 1390 هجري
ص: 221
6. بحار الانوار/ للشيخ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي(رحمه اللّه)، طبعة بيروت.
7. تحف العقول عن آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)/ للشيخ حسن بن علي بن شعبة الحراني(رحمه اللّه)، الناشر: جامعة المدرسين، الطبعة الثانية: 1404 ه-.
8. تهذيب الاحكام/ للشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه اللّه)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407 ه-.
9. الخصال/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق(رحمه اللّه)،الناشر: جامعة مدرسين، الطبعة الاولى: 1362 شمسي.
10. عيون اخبار الرضا عليه السلام/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق(رحمه اللّه)، الناشر: نشر جهان، الطبعة الأولى: 1378 ه
11. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول/ للشيخ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي(رحمه اللّه)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية: 1404
12. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل/ للشيخ محمد حسين بن محمد تقي النوري(رحمه اللّه)، الناشر: مؤسسة ال البيت عليهم السلام، الطبعة الأولى:1408 ه- .
13. وسائل الشيعة/ للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي(رحمه اللّه)، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأولى: 1409 ه-.
14. فقه الصادق (عليه السلام)/ للسيد صادق الروحاني دام ظله، الناشر: دار الكتاب - مدرسة الامام الصادق (عليه السلام)، الطبعة الثانية
15. جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام/ للشيخ محمد حسن النجفي(رحمه اللّه)، الناشر: دار احياء التراث العربي، الطبعة السابعة: 1404
ص: 222
16. حاشية المكاسب/ للشيخ ميرزا علي الإيرواني (رحمه اللّه)، الناشر: دار ذوي القربى، الطبعة الأولى: 1421.
17. الفقه المكاسب المحرمة/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي6
18. المبسوط/ للشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه اللّه)، الناشر: جامعة المدرسين.
19. مصباح الفقاهة في المعاملات/ للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمه اللّه).
20. المكاسب / للشيخ مرتضى الانصاري(رحمه اللّه)، الناشر: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم(رحمه اللّه)
21. هداية الطالب الى اسرار المكاسب/ للميرزا فتاح الشهيدي التبريزي(رحمه اللّه).
22. فرائد الأصول/ للشيخ مرتضى الانصاري(رحمه اللّه)، الناشر:لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم (رحمه اللّه).
23. فوائد الأصول/ للميرزا محمد حسين الغروي النائيني(رحمه اللّه)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى: 1418 هجري.
24. صحاح اللغة
25. الفروق اللغوية
26. القاموس المحيط
27. كتاب العين
28. لسان العرب
29. مجمع البحرين
30. مفردات ألفاظ القرآن
31. المعجم الوسيط
32. معجم مقاييس اللغة
ص: 223
كلمة مؤسسة التقى الثقافية. 7
الفصل الأول
المبادئ التصورية والتصديقية/9
أهمية هذا البحث وضرورته. 11
كثرة الآيات والروايات الواردة فيه. 11
كثرة الفروع المترتبة عليه وأهميتها. 13
بعض الأقوال في حرمة اللّهو. 14
تنقيح موضوع اللّهو وتحديده. 14
محتملات معنى اللّهو حسب رأي الشيخ رحمه اللّه... 14
بعض الآراء في فرق اللّهو عن اللعب.. 15
رأي السيد الوالد (رحمه اللّه)... 15
رأي الشيخ الإيرواني(رحمه اللّه)... 16
رأي صاحب الفروق اللغوية 17
المناقشات.. 17
مناقشة رأي الفروق اللغوية. 17
عدم تغيّر عرفنا عن عرف زمن المعصومين (عليهم السلام)...... 18
ص: 224
منهج تغيير أسماء القبائح إلى عناوين برّاقة. 19
مناقشة رأي الفقه. 20
رأي المحقق الإيرواني رحمه اللّه... 21
تأييد السيد الروحاني للمحقق الإيرواني. 22
مناقشات على كلام الشيخ الإيرواني رحمه اللّه... 23
أولاً: تخصيص اللّهو بفعل النفس بلا مخصص... 23
ثانياً: إذا كان اللّهو فعل النفس صرفاً، لم يحرم أبداً. 24
ثالثاً: لا وجه لتخصيص اللّهو باللذائذ الشهوية. 25
رابعاً: للّهو غاية هي الالتذاذ. 26
خامساً: قد يكون وجود الغاية ملاك اللّهوية وإن لم يقصدها. 27
أصناف الأفعال وظهورها بالنسبة للغايات.. 27
سادساً: الاستماع فعل الجارحة. 28
مناقشة ما ذكره فقه الصادق عليه السلام.... 28
أولاً: الاستعمال في الحقيقة أعم من الانحصار بها. 29
ثانياً: المراد باللّهو في بعض الآيات الأعم. 29
ثالثاً: القرينة في بعض الآيات خصصت اللّهو بالقلب.. 31
رابعاً: وصف الحديث باللّهو حقيقي. 32
خامساً: المعارضة بآيات أخرى. 33
مناقشة كلام الشيخ (رحمه اللّه): لا وجه لتقييد اللّهو بما كان عن بطر أو شهوة. 35
مقتضى التحقيق في معنى اللّهو وحدوده ضمن أمور. 36
الأمر الأول: إطلاقات اللّهو. 37
ص: 225
المحتملات في اللّهو: الاشتراك المعنوي أو اللفظي أو غيرهما. 37
ج - الموضوع مختلف لا الموضوع له فقط. 40
اللّهو وإن وضع للجامع إلا أنه مجاز في الأعيان. 41
الأمر الثاني: الفرق بين اللّهو واللّهي. 41
أدلة لفظية ومعنوية على الفرق بينهما. 42
النسبة بين اللّهو واللّهي العموم من وجه. 43
الثمرة: خطأ الاستدلال على حرمة اللّهو بروايات اللّهي. 44
تنبيه: وجوه ضرورة التزام منهج التحقيق الموسع والتدقيق. 46
الأمر الثالث: صور دوران عنوان اللّهوية مدار القصد. 48
تلخيص واستنتاج. 50
الفصل الثاني
الاستدلال بالآيات الكريمة على حرمة مطلق اللّهو والمناقشات/53
الاستدلال بالآيات الكريمة. 55
الآية الأولى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا). 55
الاستدلال بالآية بضميمة قاعدة الملازمة وإيضاح المراد منها. 55
جريان قاعدة الملازمة في سلسلة علل الأحكام فقط أو مطلقا. 57
مناشئ حكم العقل بالقبح. 58
إشكالان على الاستدلال بالآية الكريمة. 59
تتميمٌ: الفرق بين سلسلة العلل والمعاليل. 61
الأقوال في قاعدة الملازمة. 62
(اللّهو) وقاعدة الملازمة. 64
ص: 226
* بحثان تمرينيان:. 65
هل (الضرر الأخروي) في سلسلة العلل أم المعاليل؟. 65
هل قبح (التشريع) من سلسلة العلل أم المعاليل؟. 65
الآية الثانية: قوله تعالى: ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ). 66
إشكالات وأجوبة على الاستدلال بالآية الكريمة. 67
الآية الثالثة: قوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ). 69
الآية الرابعة: قوله تعالى (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً...). 70
الآية الخامسة: قوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ). 70
الآية السادسة: قوله تعالى: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ). 72
الفصل الثالث
الاستدلال بالروايات الشريفة على حرمة مطلق اللّهو والمناقشات/73
طوائف الروايات المستدل بها على حرمة مطلق اللّهو. 75
* الطائفة الأولى: رواية تحف العقول واشكالات على الاستدلال بها. 76
الإشكال الأول: اضطراب المتن وتهافت الضابطين. 76
الجواب عن الاضطراب والتعارض بوجوه. 77
الإشكال الثاني: إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. 81
رد الاستدلال بالرواية سواء أريد بالفساد العرفي أو الواقعي. 82
ولا يصح إرادة الفساد الشرعي. 83
ص: 227
الإشكال الثالث: التمسك بالرواية دوري. 84
* الطائفة الثانية: الاستدلال بما عدت الملاهي من الكبائر. 85
رواية الأعمش.. 85
الاحتمالات الخمسة في مفرد (الملاهي) ووجوه الترجيح بينها. 85
إشكالان على كلام الشيخ (رحمه اللّه) من عدم كون الملاهي اسم آلة. 88
مناقشات للإشكالين. 88
وجوه ثلاثة لعدم كون الملاهي جمعاً لاسم الالة (الملهاة). 89
وجهان لترجيح كون الملاهي مصدراً لا اسم الة. 92
1: عدها من الكبائر. 92
2: عطف ضرب الأوتار. 92
دفع إشكال اجمال الملاهي. 93
(التي تصدّ عن ذكر اللّه) قيد احترازي أو توضيحي؟. 94
المحتملات الثلاثة في (التي تصدّ عن ذكر اللّه). 95
عبارات بعض الأعلام. 95
الإشكال على تفسير الشهيدي لذكر اللّه والإيرواني للصد. 96
معنى الصدّ لغة وعرفاً. 96
معنى (ذكر اللّه) لغة وعرفاً، ودفع النقض عن الشيخ بالمباح. 98
ظهور (يصدّكم عن ذكر اللّه) في كونه تعليلاً بالطبيعي المستكره عقلاً وعرفاً. 99
توجيه آخر: إرادة الشأنية من (الصدّ). 100
رواية الفضل بن شاذان. 101
ص: 228
مناقشتان وأجوبة. 101
مناقشة رواية الفضل بن شاذان من وجهين. 103
الخلاصة على الأقوال، والمختار. 105
* الطائفة الثالثة: (كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر). 105
المحامل والمحتملات الثمانية في الرواية. 106
1: التصرف في الموصول. 106
2:التصرف في (ألهى) بإرادة الاحتجاب.. 107
3: التصرف في (ألهى) بإرادة الشهوي منه. 107
4: التصرف في (ألهى) بإرادة طبعه. 108
5: التصرف في (ذكر اللّه). 109
وجهان للاحتمال الخامس:. 109
الأول: الاستدلال ببرهان السبر والتقسيم. 109
الثاني: الاستدلال بكون حرمة الإلهاء مقدمية. 110
6: الالتزام بأنه عام خرجت منه اللا اقتضائيات.. 110
الإشكال على المحمل السادس بقبح تخصيص الأكثر. 111
حسنُ (تخصيص الأكثر) في الجملة. 111
7: حمل الرواية على الأخلاقية والإرشاد. 113
8: حمل (ألهى) على ما كان عن بطر. 114
* الطائفة الرابعة: ما دل على عدم القصر في سفر اللّهو. 114
ص: 229
الإشكال الأول: سفر اللّهو عنوان مستقل في التأثير. 115
الجواب: إن تأثيره لكونه صغرى سفر المعصية عرفاً. 115
الاستناد لروايات الباب.. 116
الاستشهاد بفهم الفقهاء. 118
الإشكال الثاني: الصيد اللّهوي حرام لا مطلق اللّهو. 120
* الطائفة الخامسة: ما دل على حرمة ما كان في حيز الباطل واللّهو. 120
إشكال فقه الصادق (عليه السلام) على الاستدلال وجوابه. 121
مناقشات لرواية (وهو في حيِّز الباطل واللّهو) وأجوبة. 122
إشكال وجوابان. 125
* الطائفة السادسة: ما دل على حرمة اللّهو بقول مطلق. 126
إشكال فقه الصادق (عليه السلام) على الاستدلال وجوابه. 127
وجوه الاستدلال بآية (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً). 128
الوجه الأول: مضادة مطلق اللّهو للغرض من الخلقة. 128
الإشكال ببداهة جواز كثير مما ينافي الغرض من الخلقة وجوابه. 129
الوجه الثاني: التمسك بإطلاق (لهواً) وشموله لتشريع اللّهو. 130
الوجه الثالث: استدلال الإمام (عليه السلام) من باب الانتقال لا الاستعمال. 130
الوجه الرابع: استدلاله (عليه السلام) بالبطن والتاويل لا الظهر. 131
نموذج من الاستدلال بالتاويل: الاستشهاد بآية (وَلِوَالِدَيْكَ) وبطنها. 132
ص: 230
* الطائفة السابعة: ما دل على أن اللّهو من الباطل والباطل حرام. 134
دراسة الرواية الأولى في كلام الشيخ (رحمه اللّه): كُلُ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ. 135
الإشكال بأن اللّهو أطلق على المستحب.. 135
الجواب: في الرواية حمل أو إدخال وليس صِرف الاستعمال. 136
قاعدتان: (الأصل الاستعمال في الحقيقة) و(الاستعمال أعم من الحقيقة). 138
اشكال على استدلال الشيخ بالرواية الاولى: عدم صحة القياس.. 140
تحقيق معنى (الباطل) واستعمالاته في الآيات والروايات واللغة والعرف.. 140
إطلاقات الباطل في القرآن الكريم. 144
ولنستعرض بعض الآيات الشريفة:. 144
تصنيف معاني الباطل وإرجاعها لعوالم ثلاثة. 149
فذلكة: ما هو عالم الاعتبار؟. 149
الجامع بين معاني الباطل. 150
إشكال ودفع: الحرام ليس من معاني الباطل. 151
تتميم مناقشة الشيخ عدم تكرر الحد الأوسط في المقدمتين. 152
عصارة المناقشة مع الشيخ. 153
معاني الكفر الخمسة. 154
وجه التفريق بين اللّهو والغناء. 157
(الباطل) في (لهو المؤمن باطل) أعم من التحريم. 158
وجوه استدلال الإمام ب-(الباطل) الأعم على (الحرام) الأخص في مورد الغناء. 159
الوجه الأول: الجواب إقناعي. 160
الوجه الثاني: إنه استدلال بالمقتضِي مع تتميمه بالاستلزام العرفي. 160
ص: 231
الوجه الثالث: دلالة قرينة السؤال والغاية على أن المراد الباطل بالمعنى الأخص... 161
تنبيه: أهمية علم فقه اللغة. 162
دراسة الرواية الثانية في كلام الشيخ: (لا نستحب شيئا من اللعب). 162
دراسة الرواية الثالثة في كلام الشيخ: (فجعل ابليس وقابيل المعازف والملاهي). 164
مناقشة الاستدلال بالرواية. 164
1- التحريم مصبه (من هذا الضرب). 165
2- دلالة (فإنما هو من ذلك). 165
3- مدخلية العلة الغائية في تحريم المعازف والملاهي. 166
دفاعاً عن الشيخ: الملاهي جمع المصدر الميمي فالمناط التلذذ. 167
الجواب: عن الدفاع. 167
* الطائفة الثامنة: ما يستفاد منها حرمة المسابقة، والوجه كونها لهواً. 167
الصور الأربع للقمار. 168
مناقشة مع الشيخ في وجه تحريم المسابقة. 169
فائدة: النسبة بين السبْق والسبَق. 171
نتيجة البحث وموجز الأدلة وعمدة الإشكالات عليها. 172
موجز مناقشة الاستدلال بالآيات الكريمة. 172
موجز مناقشة الاستدلال بالروايات الشريفة. 175
الفصل الرابع
الأدلة على حرمة اللعب ومناقشتها / 179
مسألة: حرمة اللعب وعدمها. 181
ص: 232
تحديد الموضوع. 181
الأقوال الأربعة في النسبة بين اللّهو واللعب.. 181
1- الترادف.. 181
2- التباين. 183
3- اللعب أعم مطلقاً من اللّهو. 184
4- النسبة بينهما عموم من وجه. 184
الأدلة من الآيات والروايات على جواز اللعب.. 185
أولاً: الاستدلال ب-(يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) ومناقشته. 185
ثانياً: الاستدلال ب-( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً...) والمناقشة. 186
الجواب عن (لو كان اللّهو حراماً لأنكره النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم). 187
ليست الآية في مقام البيان. 187
وجهان لعدم دلالة (خير) على الجواز. 188
ثالثاً: الاستدلال برواية ابن سيابه. 190
رابعاً: الاستدلال ب-روايات (دعه يلعب). 190
الأدلة على حرمة اللعب.. 192
الآيات الدالة على حرمة اتخاذ دين اللّه لعباً. 192
المناقشة. 192
الآيات الدالة على ذمّ اللعب، وحكم العقل. 193
المناقشة. 193
هل تفيد الآيات التنقيص الذاتي أو المقدمي وبالقياس؟. 194
فذلكة: ذهاب البعض الى رجحان اللعب المقدمي. 196
ص: 233
الفصل الخامس
الأدلة على حرمة اللغو ومناقشتها / 197
مسألة: حرمة اللغو وعدمها. 199
تحديد الموضوع:. 199
(اللغو) ما لا فائدة له، لا ما لا غاية له. 200
الأدلة على حرمة اللغو. 202
الإشكالات:. 202
1: لا إطلاق ل-(وإذا مروا باللغو) لكون مصبها الأثر. 203
وجوه لإثبات الإطلاق. 203
أ: المرجع في الإطلاق العرف، وهو يرى اختيار المطلق بنفسه دليلاً. 203
ب: (اللغو) محلى بأل والأصل فيه الاستغراق. 204
ج: الإطلاق منعقد حتى لو كان المصب هو الأثر. 205
2: المتيقن من (اللغو) الغناء. 206
3: اللغو يعني ما لا فائدة فيه. 206
4: الآيات لا تدل على أكثر من الرجحان. 208
5: إجمال الآيات.. 209
الاستدلال على حرمة اللغو بالروايات:. 210
إشكال الإيرواني والروحاني. 210
الجواب عن إشكالهما. 211
الحق في الجواب.. 213
ص: 234
فهرس البحوث والفوائد. 216
فقه القرآن الكريم والتفسير. 216
فقه الحديث الشريف.. 216
بحوث فقهية. 217
الفوائد والإرشادات الأصولية. 218
البحوث والإشارات اللغوية. 218
فوائد عامة:. 219
فهرس المصادر. 220
الفهرس.. 223
كتب أخرى للمؤلف.. 235
ص: 235
1. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.
2. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.
3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.
4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.
5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.
6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.
7. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.
8. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء (عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.
9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.
10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.
11. السيد نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.
12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.
ص: 236
13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.
14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.
15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقلوالجهل، مخطوط.
16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة (كونوا مع الصادقين)، مطبوع.
17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.
18. توبوا إلى اللّه، مطبوع.
19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.
20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.
21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.
22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.
23. مناشئ الضلال ومباحث الإنحراف، مطبوع.
24. شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية، مطبوع.
25. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.
26. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.
27. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.
28. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.
29. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.
ص: 237
30. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.
31. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.
32. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.
33. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.
فقه المكاسب المحرمة - حرمة اللّهو واللعب واللغو وحدودها، مطبوع.
34. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.35. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.
36. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.
37. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.
38. الإجتهاد في أصول الدين، مخطوط.
39. الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات الدرس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.
40. فقه الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.
41. الأصول مباحث القطع، مجلدان، مخطوط.
42. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.
43. التبعيض في التقليد، مخطوط.
44. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.
45. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.
46. الحجة معانيها ومصاديقها، مطبوع.
ص: 238
47. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.
48. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.
49. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط
50. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.
51. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.
52. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.
53. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.
54. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.
55. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.56. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.
57. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.
58. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.
59. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.
60. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.
61. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.
62. الحوار الفكري، مطبوع.
ص: 239