بحوث في (المبادئ)
الحجة معانيها ومصاديقها
السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
ص: 1
ص: 2
بحوث في (المبادئ)
الحجة معانيها ومصاديقها
السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6)
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
ص: 5
ص: 6
الحمد لله رب العالمين
بارئ الخلائق اجمعين باعث الانبياء والمرسلين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا
محمد واله الطيبين الطاهرين
واللعنة على اعدائهم اجمعين
الى يوم الدين
ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم
ص: 7
ص: 8
«الحجة» هي «المستند» و«المرجع» الأول والأخير، لكل العلوم والمعارف، وعلى «الحجة» - بالمعنى الأعم - قامت الأديان السماوية، بل عليها يقوم عالما الدنيا والآخرة، إذ «إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول»(1)
و«لولا الحجة(2) لساخت الأرض بأهلها»(3) ولذلك كان من أهم أبواب كتبنا المعتبرة - كالكافي الشريف -: «كتاب الحجة» كما قال الإمام الصادق عليه سلام اللّه: «الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»(4) كما انه «بالحجة قامت السماوات».
ص: 9
و«الحجة» هي «الموضوع لعلم المنطق» أو جزء موضوعه إلى جوار «المعرِّف»، على أنها المقصود الأصلي من «المنطق»، وهي - مع قيد المشتركة القريبة في الفقه - «الموضوع لعلم الأصول» كما استظهرناه، لا «الأدلة الأربعة بذواتها» كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره، ولا هي حتى مع قيد «من حيث الدليلية»، كما ذهب إليه صاحب القوانين قدس سره، وهي الأوضح والأكثر فائدة من تعريفه ب«الكلي المنطبق على موضوعات مسائله»، كما صار إليه الآخوند الخراساني قدس سره.
فماذا تعني «الحجة» مفهوماً، لغة، واصطلاحاً؟ وما هي حقيقتها، وما هي أنواعها وأبرز آثارها؟ وماذا يعني «الدليل» و«الطريق» و«الأمارة» في لسان الآيات والروايات، وفي مصطلح الأصوليين؟
ذلك هو «المحور» الذي تدور عليه «رحى» هذا الكتاب.
ومن الواضح أن البحث عن «الحجة» بحث واسع مترامي الأطراف، لترابطه مع عدد من العلوم «كالكلام والمنطق والأصول». بل لتدخله في كافة العلوم، لكن قد اقتصرنا في هذا الموجز على بحث مختصر حول معاني «الحجة» لغة واصطلاحاً، وعلى الإشارة لبعض أنواعها وبعض مصاديقها، مما لم يطرح عادة، حسب الاستقراء الناقص، أو طرح بشكل استطرادي أو مقتضب في الكتب الأصولية المعهودة، وأفردنا لبعض مباحثه كتباً مستقلة ك«القطع»(1)، و«الضوابط»(2) و«المبادئ التصورية والتصديقية لعلمي الفقه والأصول».(3)
ومع ذلك فإن هنالك مجالات رحبة واسعة، تحتاج إلى بحث وتنقيب وتحقيق، ولعل اللّه تعالى يوفقنا لذلك أو يقيض مَن يقوم به، كما قيّض من علماءنا الأبرار في علوم الحديث والكلام والأصول والمنطق وغيرها، من أفاد
ص: 10
الدارسين والباحثين والمحققين، وأغنى تلك الحقول المعرفية، سواء منهم من أسّس، أو من طوَّر وأكمل.
وقد تضمن الكتاب بحثاً موجزاً عن مجموعة منتخبة من أهم مصاديق «الحجة» - وهي التي تكوِّن مسائله - وقد جرى انتخاب «المسائل» التي لم تطرح أصلاً فيما نعلم «كحجية ذوات المعصومين«عليهم السلام» وصفاتهم»، أو التي اشتد الخلاف حول كونها حجة أو لا «كالقطع»، أو التي استقر رأي المشهور على عدم كونها حجة وارتأينا أنها حجة «كالوهم في الجملة»، وذلك مثل:
هل «القطع» حجة؟ وهو بحث كلامي - أصولي.
هل «العلم الحضوري» حجة؟ وهو بحث فلسفي - كلامي.
هل «ذوات المعصومين الأطهار وصفاتهم» عليهم صلوات اللّه وسلامه، حجة؟ إضافة إلى حجية قولهم وفعلهم وتقريرهم، وهو بحث عَقَدِي - أصولي.
هل «قواعد التجويد» حجة؟ وهو بحث أصولي - تفسيري.
هل «الأصول العملية» حجة؟ وهو بحث أصولي.
هل يعقل جعل الحجية ل«الوهم»؟ وهو بحث أصولي - فلسفي، وعلى فرض الإمكان والصحة، فهل هناك أنواع من الوهم قد اعتبرها الشارع أو العقلاء، حجة؟ - وهو بحث يرتبط بعلم الأصول والفقه والقواعد الفقهية كما سيظهر من البحوث القادمة.
كما تمت الإشارة إلى «موقع» مبحث «الحجة» في علم الأصول، وأنه من المبادئ التصورية أو التصديقية لهذا العلم، أو من مسائله؛ إذ قد حررنا أن البحث عن مصاديق موضوع العلم - وهو الحجة في مبحثنا هذا - قد يعد من مسائل العلم؛ إما نظراً لإنكار تخصيص «المسألة» بما كان البحث فيها عن
ص: 11
العوارض الذاتية لموضوع العلم أو موضوع المسألة، وإما لدعوى أن «العوارض» تشمل العوارض التحليلية، وقد فصلنا ذلك في «الرسالة».(1)
ولقد كان هذا الكتاب بالأساس جزءاً من مباحث كتاب «المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأصول» إلا أن الرأي استقر على إفراده بالبحث، لأهميته، ولترامي أطرافه، وهو - إلى ذلك - يصلح أن يعد الجزء الثاني من ذلك الكتاب.
والجدير ذكره أن ما يعد مكملاً لهذا الكتاب هو كتابنا الآخر «الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية» وهو الذي يؤسس للعلم الموازي لعلم «المنطق»؛ فإن علم المنطق يُعنى ببيان ضمانات الإصابة من حيث العلة الصورية، وعلم «الضوابط» يعنى بذكر ضوابطها من حيث العلة المادية.
واللّه الموفق وهو المستعان.
مرتضى الشيرازي
الحوزة العلمية الزينبية المقدسة
1432 للهجرة
ص: 12
ص: 13
ص: 14
ص: 15
ص: 16
ص: 17
ص: 18
إن قوام العلوم كلها ب«الحجة»؛ سواء ما لوحظ منها في العلم باللحاظ الاستقلالي أم ما لوحظ باللحاظ الآلي، فإن «الحجة» هي ما يستدل به على ثبوت محمولات المسائل لموضوعاتها، وما يستدل به، على وجود الموضوع، وعلى موضوعية الموضوع، وعلى وجود المحمول، وعلى الغاية من العلم، وعلى المفاهيم والتعاريف، وغير ذلك مما يعد من المسائل، أو المبادئ التصورية والتصديقية للعلم، أو المقدمات، أو غيرها(1).
والحاصل: أن «الحجة» أعم من ما يستدل به لإثبات مفاد كان الناقصة وهل المركبة، أو مفاد كان التامة وهل البسيطة، ومن مفاد «ما» الشارحة و«ما» الحقيقية، ومن مفاد «لِمَ» الثبوتية والإثباتية؛ فإن أساس المطالب: مطلب «ما» بقسميه، ومطلب «هل» بقسميه أيضاً، ومطلب «لِمَ» بقسميه كذلك(2)، وإليها يعود مطلب: «أيّ» الجوهرية والعرضية، ومطالب «أين»، «كيف»، «كم»، و«متى»، وكذا مطالب سائر المقولات ك«الفعل» و«الوضع»، وكلها: الطريق إليه «الحجة» بالمعنى الأعم من «المعرِّف».
ثم إن (الحجة) - مع قيد المشتركة القريبة في الفقه - هي موضوع علم الأصول وهي جزء موضوع علم المنطق؛ فإنه «المعرف والحجة»(3)
بل علم المنطق قائم على الحجة، كما أن كل العلوم تقوم على «الحجة» وبالحجة، إلا أن
ص: 19
الفرق أن «الحجة» في علم المنطق «ما ينظر فيه» من جهة و«آلة» من جهة أخرى، وهي «جزء موضوعه»، وأما في علم الأصول فالحجة - بقيودها - هي «الموضوع» له، مع فارق أن متعلَّق الحجة في علم «المنطق» أُخذ مطلقاً، لكن متعلقه في علم «الأصول» خاص؛ فإن مطلق «الحجة» هو المبحوث عنه في علم المنطق، أما الأصول فإنه يبحث فيه عن «الحجة المشتركة القريبة في الفقه».
والحاصل: إن الحجة في العلمين هي «ما فيه ينظر» أولاً، و«ما به ينظر» ثانياً بنحو الطولية، أما في غيرهما ف«الحجة» مبدأ تصديقي أو دليل.
إن من أهم «المبادئ التصورية» لعلم الأصول، هو تحقيق معنى «الحجة» وأخواتها؛ فإنها موضوع علم الأصول على ما حققناه من أنه «الحجة القريبة المشتركة في الفقه»(1)
وعلى ما ذهب إليه السيد البروجردي من أنه «الحجة في الفقه».
بل على القول بأن موضوعه «الأدلة الأربعة بذواتها» أو «الأدلة الأربعة بوصف الدليلية» - على ما ذهب إلى كل منهما صاحبا الفصول والقوانين - فإن الأمر كذلك، للمساواة، أو لكونها من مصاديقها(2) أو لكون جهة «الحجية» هي الملاحظة، وإن لم تؤخذ في الموضوع.
نعم لعل ظاهر بعض الأعلام(3)، كون ذلك من «مقدمات الشروع»، وقد ناقشناه في «المقدمة»(4) إضافة إلى احتمال إرادته: أن إثبات كون هذا موضوعاً
ص: 20
لهذا العلم، من مقدمات الشروع، وليس حتى ما يفيد تصور «الموضوع» بعد إثبات موضوعيته.
ومجمل القول في ذلك: إنه حسب مبناهم، فإن البحث عن «مفهوم الحجية» يعدّ من «المبادئ التصورية» لعلم الأصول، وإن البحث عن «حجية الشهرة، أو خبر الواحد، أو الإجماع المنقول» أو غيرها، هو بحث عن «المبادئ التصديقية»(1) لعلم الأصول؛ بناءً على كون موضوع العلم هو «ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية»، وكون موضوع علم الأصول هو «الأدلة الأربعة بما هي أدلة»؛ فإن البحث عندئذ عن «حجية» الظواهر وحجية خبر الواحد مثلاً، يكون بحثاً عن مفاد «كان التامة» و«هل البسيطة»، وهو بحث عن وجود الشيء، لا عن عوارضه الذاتية.
بل، وبناءً على كون موضوع علم الأصول هو «ذوات الأدلة الأربعة»، فإن «الحجية» وإن كانت من عوارضها لكنها «عرض غريب»؛ لعروضها لها بسبب أمر مباين، وهو تواضع العقلاء في ظهورات الكلام مثلاً - حسب هذا المسلك - فيكون مثل الحرارة للماء، عرضاً غريباً؛ لعروضها له بسبب النار. لكنه غير تام صغرى وكبرى، كما فصلناه في موضع آخر.(2)
ومثله القول بناء - أيضاً - على كون موضوع علم الأصول «ذوات الأدلة الأربعة»: أن البحث عن «حجية» خبر الواحد والشهرة وغيرهما، هو من «المبادئ التصديقية»(3)؛ لأنه بحث عن الحاكي عن السنة - وهي إحدى الأدلة
ص: 21
الأربعة - وليس عن «السنة» فليس بحثاً عن عوارضها الذاتية، إلا أن يجاب بتعميم السنة للحاكي عنها، كما صنع الشيخ قدس سره، أو يصار إلى أن موضوع الأصول هو «الحجة القريبة المشتركة في الفقه» كما صرنا إليه.
أما الحق عندنا فهو أن البحث عن كون أمر - كالشهرة أو خبر الواحد - حجة أو لا؟ هو بحث عن مسألة أصولية؛ نظراً للقول بشمول «العوارض» للعوارض التحليلية، أو لرفض المبنى في الضابط الذي ذكروه ل«المسألة»، وقد حررنا ذلك في «الرسالة» وسنشير له في مطاوي هذا الكتاب، بإذن اللّه تعالى.
و«الحجة» أعم من الأدلة الأربعة كما لا يخفى، فيندرج فيها: «خبر الواحد الحاكي عنها» و«السيرة» و«الظن الانسدادي» بل ومثل «اليقين المسبوق بالشك» فإنه حجة على الإبقاء، وكذا موضوعات سائر «الأصول العملية»؛ لإنطباق «الحجة» عليها، دون «الأدلة الأربعة».
كما إن البحث عن كون «الحجية» مثلاً، مجعولاً بالاستقلال أم أمراً انتزاعياً؟ هو بحث عن «المبادئ الأحكامية»، والتي الأصح إندراجها في «التصديقية».(1)
ويمكن الذهاب إلى كونها «مسألة أصولية» - فتأمل.
وكذلك البحث عن «ما يلزم حجية الخبر»، فهل تستلزم حجيةُ الخبر سقوطَ معارضِهِ عن الحجية أو تستلزم التخيير، لكن الظاهر أنه مسألةَ أصولية؛ لوقوع نتيجته في طريق استنباط الأحكام الفرعية الكلية، والتفصيل موكول إلى محله.
ص: 22
وقبل البدأ في مباحث الكتاب، لابد من الإشارة إلى فوائد تحقيق معنى «الحجة» وأخواتها، والمحتملات والأقوال فيها، وتحقيق «الفوائد» هو الذي يعد من «مقدمات العلم» أو «مقدمات المسألة» على ما أوضحناه في تعريف المقدمة(1) بل حتى على تعريفهم لها(2) وهي غير «الغاية» من «العلم» أو «المسألة» كما ذكرناه هنالك.(3)
والمراد ب«أخواتها»: «الدليل» و«الطريق» و«الأمارة» و«الأصل».
أما «الحجة» فإن معانيها، أو ما ذكر لها من المعاني، وما استعملت فيه، قد بلغت العشرة كما سيجيء.
الجهة الأولى: معرفة المطابق أو الأقرب منها للمعنى اللغوي، أو ما هو مصداقه؛ فإن «الاصطلاح» وإن كان لا مشاحة فيه، إلا أن رعاية السنخية والتجانس والقرب للمعنى الأصلي، لدى وضع الاصطلاح، هو الأولى دون شك.
ص: 23
فإن ملاحظة «العلاقة المصحّحة» هو الفارق بين «المجاز» و «الغلط»، و«الاصطلاح» وإن أمكن دون علاقة؛ فإنه نوع وضعٍ، إلا أنه مرجوح دون شك، ولا يصار إليه، إلا عند تعذر أو تعسر لحاظ علاقة بين اللفظ وبين المعنى الجديد المخترع(1).
بل إنه لا ينبغي الشك في أن «الأصولي» و«المنطقي» و«المتكلم» وغيرهم، عندما يضع المصطلح ل«الحجة» وغيرها، أو يحدد المعنى المراد منها(2)، فإنه لا يروم قطع صلته عن المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ، بل أنه يلاحظ «المعنى الحقيقي» ثم يضع اللفظ بلحاظه «للمعنى المخترع»، أو يستعمله فيه، فلا شك أنه يراعي - وأن عليه أن يراعي - الأقرب فالأقرب، إلا فيما لم يكن الأقرب وافياً بالغرض.
الجهة الثانية: معرفة المعنى المطابق أو الأقرب، للمعنى الذي أريد منه في الآيات المباركة والروايات الشريفة، أو الذي استعملته فيه؛ فإنه لا ريب في أفضيلة بل ضرورة التقيد باستخدام «اللفظ» و«المصطلح»، كما ورد في الآيات والروايات، ولو اضطررنا للعدول لضرورة، فإنما يكون للأقرب فالأقرب.
فإن التقيد بمعاني الألفاظ كما وردت في لسان الشارع، و «تأصيل المصطلحات» إضافة إلى كونه عملاً بالمستفاد(3) من قوله عليه سلام اللّه: «الإسلام
ص: 24
يعلو ولا يعلى عليه»(1) وإلى كون «البركة» فيه(2)، وإضافة إلى دليل «الأسوة» الآتي في بحث "الأمارة"، وإلى أن «تأصيل المصطلحات» هو من عوامل دوام استقلال الأمم، بقَدَرِهِ، ومن أسباب عزتها وقوتها وكرامتها، ومن بواعث تعزيز ارتباطها بالقرآن والعترة الهادية، ولذا نجد الغرب - في الإتجاه المقابل - يصر على تغيير المصطلحات الإسلامية، كالمد والصاع والرطل والفرسخ والذراع، وأسماء الأشهر كمحرم وصفر و... إلى الكيلو والمتر والكيلومتر وغيرها.
إضافة إلى ذلك، فإن التقيد بالمعنى المقصود في الآيات والروايات لازم؛ لأنه «المدار» في الحكم على «الموضوعات» المخترعة والمستنبطة بل والصرفة أيضاً(3) سعة وضيقاً بل وماهيةً، وفي الحكم على «المحمولات»(4) أيضاً، وعليه «المعوّل»، وتغييره كثيراً ما يوجب اللبس في ما يثبت له الحكم، وحدوده.
وعلى هذا، فإن التقيد بالمعنى المراد في الآيات والروايات، يفيد في معرفة «محور» الحكم و«مداره» كما ينفع في «الحكمية» لدى الاختلاف في معرفة ماهية الشيء(5) وحدوده وثبوت حكم له من عدمه؛ فإن معرفة معنى «البيع» في قوله تعالى «أحل اللّه البيع» كما أراده الباري جل اسمه - ولو بكونه جل اسمه قد أحاله إلى العرف - ينتج عدم صحة تعريفه ب«مبادلة مال بمال» - كما ذكره المصباح - مما لا يشمل «مبادلة مال بحق، أو حق بمال أو بحق» وقد يستأنس له بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾(6)
ص: 25
وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم﴾(1) و ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾(2) - فتأمل.
وكذلك الحال في تعريف «الغناء» و«الشطرنج» و«الوطن» و«الصعيد» و«الآنية» وغيرها.
والأمر في المقام كذلك؛ لورود «الحجة» في لسان الشارع، كما فصلناه في موضع آخر، فيقع البحث في مراده من «الحجة» وأحكامها، ككونها «لازمة الإتباع»، وكونها «منجزة ومعذرة»، وكون لزوم الإتباع - وكذا كونه منجزاً ومعذراً - مجعولاً لها بالجعل الأصلي كما في «خبر الواحد»، أو التبعي كما في «القطع»؛ وأنه هل يعقل الردع عن القطع بناء على «الكاشفية» فيه، بعد تفسير الحجية بها وأنها ذاتية للقطع، أو يعقل بناءً على عدم كون الكاشفية ذاتية للقطع، بل هي ذاتية للعلم فقط، وأنه حتى لو كانت ذاتية له، فإنها مقتضٍ لوجوب الإتباع، وليست علة تامة، وكذلك الأمر في «الردع» بناءً على كون الحجية بمعنى «المنجزية والمعذرية»، وأنه هل يعقل أو لا يعقل الردع عن القطع عندئذٍ؛ لأنه معذر أو منجز بذاته؟
وبعبارة أخرى: سلب «الحجية» - بمعنى المنجزية والمعذرية - عن «القطع» غير معقول - عند الأكثر(3) - وسلبها عنه - بناءً على أنها تعني «الكاشفية» - أيضاً غير معقول؛ بناءً على ذاتية الكاشفية للقطع، وممكن بل واقع؛ بناءً على عدم كون الكاشفية ذاتية للقطع بل هي ذاتية للعلم فقط، كما أن إثبات «الحجية» - بمعنى الأوسط - للقطع غير معقول، حسب رأي الشيخ قدس سره.
ص: 26
وكذا يستحيل جعلها لأمر «كالوهم» على «الكاشفية»، فتأمل(1)، ولا يستحيل على «المنجزية والمعذرية»، بل إنه «معذر» عادة(2)، أو على مسلك «لزوم الإتباع».(3)
الجهة الثالثة: إن لأكثر تلك «المعاني» جهة «الموضوعية» أيضاً؛ فإنها أحكام أو آثار وخصائص لما عُدَّ «حجة»(4)، ولوجوب الاعتقاد ببعض مصاديق الحجة على بعض معانيها، كالاعتقاد بأن الأنبياء والأئمة سلام اللّه عليهم، حجج اللّه تعالى.
الجهة الرابعة: إن معرفة «المعنى» الذي أراده كل أصولي(5) من «الحجة»، يوضح مورد النفي والإثبات، وأنهما وردا على معنى واحد أو متعدد؟ كما يوضح صحة الاستدلال وعدمه، كما يوضح الخلط الذي قد يقع في استخدامها، كمدَّعى وكاستدلال، ففي قولهم: «القطع حجة» أو «خبر الواحد حجة» ثم قولهم: «الحجية ذاتية للقطع» أو «مجعولة بالجعل المركب لخبر الواحد» - إن أريد ب- «القطع حجة» أنه كاشف، لم يصح قولهم «الحجية ذاتية له» وإلا لما تخلفت عن القطع في ضمن الجهل المركب، وإن أريد به كونه «لازم الإتباع» عقلاً، أو كونه «منجزاً ومعذراً» صح - ولو لدى الأكثر - قولك
ص: 27
«الحجية ذاتية له».
بل «الحجة» في قولهم: «القطع حجة» قد تُثبَت، إذا أخذت بمعنى: «ما يحتج به» أو «المنجز والمعذر» أو «اللازم الإتباع» ولكنها قد تنفي إذا أخذت بمعنى «الكاشف»؛ إذ الكاشف هو «العلم» لا «القطع» بقول مطلق، كما قد تنفى إذا أخذت بمعنى «الأوسط» ف«ليس بحجة» أي لا يقع «أوسط» في القياس فلا تقول: «هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام» حسب رأي الشيخ «قدس سره» بل الصحيح هو «كل خمر حرام».
وتحقيق القول في ذلك، سيأتي أواسط الكتاب بإذن اللّه تعالى، في ضمن نقل كلام الشيخ قدس سره.
ص: 28
ص: 29
ص: 30
ص: 31
حسب الاستقراء(1) فإن المعاني التي ذكرت ل«الحجة» أو استعملت فيها، بلغت عشرة، وهي:
1- فمنها: «الحجة» بالمعنى اللغوي؛ فإن الحجة هي «ما يحتج به المولى على عبده، أو ما يحتج به العبد على مولاه، أو النظير على نظيره» قال في مجمع البحرين: «وهي الاسم من الاحتجاج»(2)، و«الحجة: البرهان» و«الحجيج: المغالب بإظهار الحجة» و«المحجوج: المغلوب بالحجة»(3) فللمولى أن يحتج على عبيده بالظواهر وغيرها، ولهم أن يحتجوا عليه بها وبالبينة وفتوى المجتهد مثلاً، وللإنسان أن يحتج على شريكه ب- «أوفوا بالعقود» ليلزمه بمقتضياتها، أو بخيار الغبن للفسخ، وكذا له أن يحتج بكلامه - نصاً وظاهراً - عليه.
وهذا المعنى ل«الحجة» هو ظاهر آيات عديدة، قال تعالى ﴿ولله الحجة البالغة﴾(4) وقال جل اسمه: ﴿لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل﴾(5) و﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ﴾(6) و ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾(7)، كما تقول «حاجَّ فلاناً فحجّه» غلبة بالحجة.
ص: 32
كما أن من معاني «الحج»: «القصد» قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(1) أي قصده والسعي إليه، و«رجل محجوج»: أي مقصود، ومطلوب. كما أن «المحجة» وهي جادة الطريق أي وسطه، سميت «محجة» لأنها تقصد.
وسميت «الحجة» حجة؛ لأنها تقصد، وواضح أن «الحجة» بالمعنى الثاني الآتي «وهو الكاشفية» مما «يقصد» كما أنها مما يحتج به المولى على عبده وبالعكس، لكاشفيتها عن الواقع، وكذلك بالمعنى الرابع(2) والخامس(3)، بل بكل المعاني الآتية.
والحاصل: أنه يوجد «مصحح» لإطلاقها على تلك المعاني الآتية، لكن بعضها بنحو المصداق والإنطباق، وبعضها بنحو المجاز؛ فإن «الكاشف» مصداق و«المنجز والمعذر» تفسير باللازم - فتأمل.(4)
وقيل: «الحجة: ما دُفع به الخصم». وقال بعضهم: «الحجة: الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة...».
والظاهر أن تفسيرها ب- «ما دفع به الخصم» وشبهه، تفسير بالأخص؛ لشمولها لما أريد به إفهام المتعلم - غير الخصم - وإقناعه، ولذا فإن الأصح هو أحد الوجهين السابقين، وقال في لسان العرب: «وإنما سميت حجة لأنها تحج أي يقصد إليها، وكذلك محجة الطريق هي المقصد والمسلك... والحجة الدليل
ص: 33
والبرهان.... فعيل بمعنى فاعل...».(1)
والحاصل: أن هذا المعنى(2) أو الدليل والبرهان، هو جوهر المعاني الأصولية اللاحقة.
ولا يرد على هذا المعنى اللغوي «الدور»؛ لأنه شرح الاسم، وليس بالحد ولا بالرسم.
2-ومنها: «الحجة» بمعنى «الكاشف» وهو أحد معانيها المذكورة في علم الأصول؛ فإنها - على ما ذهب إليه بعض الأعلام - «الكاشف» عن الواقع «كشفاً تاماً» - كالقطع على رأيهم، وخصوص العلم من فرديه، على ما نراه - أو «كشفاً ناقصاً» مع وجود متمم لكاشفيتها، وذلك كالظنون المعتبرة؛ «فالحجية» - على هذا - تعني: الكاشفية التامة أو الناقصة.
لكن قد يورد عليه: أن «الكاشف» «حجة» بالحمل الشائع الصناعي، لا بالحمل الذاتي الأولي، بل أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه(3)، وبعبارة أخرى: أن «الكاشفية» ليست هي «الحجية» بالحمل الذاتي الأولي، الذي ملاكه: «مفهومُهُ اتحاد مفهومٍ عُرِفَ» فليست الكاشفية ذاتاً ولا ذاتية لها(4) بذاتي باب الكليات الخمس(5) «باب إيساغوجي»، بل هي مما يحمل عليها بالحمل
ص: 34
الشائع الصناعي.
نعم «الكاشفية» إما ذاتية للحجة بذاتي باب البرهان، كما في «العلم الحصولي»(1) فإن ذاتيّه الكاشفية، لا «القطع» فإنه في ضمن فرده الآخر(2) لا كاشفية له أبداً، بل مجرد «الاعتقاد بالكاشفية» وتخيلها دون مطابقة للواقع كما سنفصله باذن اللّه تعالى - أو هي مجعولة له بالجعل المركب - كما في خبر الواحد والبينة وغيرهما من الظنون المعتبرة - بناء على مسلك متمِّمية الكشف، هذا. وأما العلم الحضوري، فسيأتي البحث عنه بإذن اللّه تعالى.
3-ومنها: الذهاب إلى أن «الحجية» تعني «الانكشاف»، «فالقطع حجة» يعني: أنه عين الانكشاف للواقع.(3)
وقد ذهب إلى كون «القطع عين الانكشاف» المحقق الأصفهاني قدس سره في نهاية الدراية.
وفيه ما لا يخفى؛ إذ إضافة إلى أنه: لا تلازم بين القول بأن «القطع عين الإنكشاف» وبين القول بأن «الحجية تعني الإنكشاف»، أن «الانكشاف» صفة المعلوم وما دلت عليه الحجة أو أوصلت إليه، فإنه «منكشف»، وليس صفة للعلم ولا لمطلق القطع.(4)
ص: 35
وبعبارة أخرى «الانكشاف» لازم «الكاشفية»، وأما «الكاشفية» فهي لازم خصوص العلم، أو مطلق القطع - على رأي - أو عينه.
نعم له أن يقول - ولعله مقصوده - العلم(1) - وكذا القطع - عين الإنكشاف للنفس أي للعالم(2)، إلا أنه أجنبي من مباحث الحجية في الأصول؛ إذ الكلام فيها عن «الحجة» على الخارج(3) لا «الحجة» بالقياس للداخل أي النفس؛ فإنه بحث يتعلق بأحوال «النفس» التي كان يبحث عنها قديماً في الفلسفة أو الكلام، وليس بحثاً أصولياً. هذا.
إضافة إلى النقاش في المبنى، وسيأتي في بحث العلم الحضوري(4)، إن شاء اللّه تعالى.
4-ومنها: «الحجة» بمعنى «المنجز والمعذر» - كما ذهب إليه جمع آخر من الأصوليين(5) - ف«خبر الواحد حجة» أي أنه «منجز» وموجب لاستحقاق العقاب، لدى الإصابة، و«معذر» لدى الخطأ.
وفيه: أن المنجزية والمعذرية، لازمان للحجة وليستا عينها، فإن التنجيز
ص: 36
والإعذار، لازم «صحة الإحتجاج به»(1) أو لازم «الكاشفية» أو «الإنكشاف»، فليس حملها عليها حمل «هو هو»، بل هو حمل «ذو هو».
إضافة إلى أن «الحجية» بهذا المعنى، تناسب «علم الكلام» لا «الأصول».
5-ومنها: «الحجة» بمعنى: «ما يجب الحركة على طبقه»، فالحجية على هذا تعني «لزوم الامتثال». «وهذا حجة» أي واجب امتثاله، والحركة على حسب مقتضاه.
ويرد عليه: الأول مما ورد على سابقه.
ولا يرد عليه: أنه أعم من «الفقه»؛ لورود مثله - نقضاً - على المعنى الأول والثاني، والحلّ: أنه بلحاظ «الأصول»، أو يضاف له قيد «الإشتراك» كما صنعنا في تعريف موضوع الأصول.
6-ومنها: أن «الحجة» هي «الأدلة الشرعية، من الطرق والأمارات، التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه».(2)
ص: 37
فهي واسطة في «الإثبات»، لا «الثبوت»،ف- «خبر الواحد، أو البينة» حجة، أي دليل شرعي على مؤداه، ومما يثبت(1) بها.
لكن لا يخفى أن هذا المعنى هو تفسير بالمصداق؛ فإن «الأدلة الشرعية...» هي مصداق «الحجة».
وبعبارة أخرى: هذا مصداق للمعنى اللغوي، ولا يضاد سائر الأقوال؛ إذ يمكن لقائله أن يلتزم بالقول الثاني «مسلك الكاشفية» أو الرابع «مسلك المنجزية» أو الخامس «مسلك لزوم الإتباع» أو الثامن «الحجة التكوينية» فإنها محرِّكات نحو المطلوب، اقتضاءً أو التاسع «الحجة المعرفية».
اللّهم إلا أن يراد: بلحاظ «الأصول»(2) وقد يناقش أيضاً: بأن «نفي العلقة الثبوتية مطلقاً» غير تام؛ إذ الظاهر أن كل ما اعتبره الشارع حجة، من الأدلة، فإنه كاشف ناقص عن الواقع، وقد تمَّم الشارعُ الكشفَ، فلا يصح القول «من دون أن..»؛ إذ العلقة هي «الكاشفية» الذاتية - وإن الناقصة - لخبر الواحد مثلاً، عن المؤدى، اللّهم إلا أن يراد ب«العلقة الثبوتية» رابطة كرابطة العلية والمعلولية، وأن «الكاشفية» رابطة وعلقة إثباتية - فتأمل. كما قد يناقش أيضاً: أن «الأدلة الشرعية» أعم مما كان «بحسب الجعل الشرعي» ومما كان بإمضاء الشارع، إلا أن يراد «بالجعل الشرعي» الأعم منهما، وعلى أي فتحقيق الكلام حول ذلك يترك ل«مباحث الأصول».
ص: 38
7-ومنها: أن «الحجة» هي «الأوسط» في القياس.
وهذه هي «الحجة» بأحد الاصطلاحين المنطقيين، والتي لوحظ فيها أن يكون الأوسط علة أو معلولاً، للأكبر، أو ملازماً:
فالأول: كقولك: «العالم ممكن، وكل ممكن محتاج»؛ فإن الإمكان علة الحاجة.
والثاني كقولك: «العالم متغير، وكل متغير حادث» فإن التغيير معلول الحدوث.
والثالث كقولك: «العالم متغير، وكل متغير محتاج» - أو العكس - فإن التغير والاحتجاج متلازمان، وكلاهما معلول لعله ثالثه هي «الإمكان».
فإطلاق «الحجة» على الطرق والأمارات المعتبرة شرعاً، على هذا، يراد به «الأوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغير لإثبات حدوث العالم... فقولنا: الظن حجة أو البينة حجة، يراد به كون هذه الأمور أوساطاً لإثبات أحكام متعلقاتها».
لكن يرد على الشيخ «قدس سره»: أن «الظن المعتبر» لا يمكن أن يقع «أوسط» كالقطع تماماً، وبنفس دليله الذي ذكره لعدم صحة وقوع القطع «جزء الأوسط»، من ثبوت الحكم للموضوع بما هو هو، لا بما هو مقطوع الخمرية؛ لورود مثله في الظن كما سبق، نعم لو لوحظ عند إقحامه في الأوسط، كونه طريقاً وكاشفاً عنه، فقط، لا جزء الموضوع، صح، لكن يصح مثل ذلك في القطع أيضاً.
ص: 39
والحاصل أنه لو أريد مرحلة «الثبوت» فإن الحكم «كالحرمة» ثابت للموضوع «كالخمر» في متن الواقع، من غير توقفه على قطع أو ظن؛ وإلا للزم التصويب، وإن أريد «مرحلة الإثبات» فإنه يثبت له، بكل منهما(1).
هذا إضافة: إلى أنه لو قيد «الأوسط» ب«ما يصير واسطة للقطع بثبوته له» - كما صرح به في كلامه - لما شمل الظن المعتبر كالبينة؛ فإنه واسطة للظن بثبوته له أي ثبوت الأكبر للأصغر.
اللّهم إلا أن يراد «القطع التعبدي» أو القطع بالحكم الظاهري وإن كان الطريق ظنياً، فتأمل.(2)
8- ومنها: «الحجية التكوينية» أي الدافعية والمحركية الذاتية التكوينية وقد أطلقت على القطع وسائر الحجج، لكونها ذات محركية تكوينية نحو المطلوب، «فالقطع حجة» أي أن له دافعية ذاتية للقاطع، نحو الحركة المنسجمة مع قطعه، أي الحركة على طبق قطعه.
وقولك «خبر الواحد حجة» مثلاً، أي أنه محرك تكويناً نحو مؤداه.
ولكن يرد عليه أولاً: أجنبية مفهوم «المحركية التكوينية»، عن مفهوم «الحجية»؛ فإنهما متباينان.
وثانياً: أن «الحجة» - كالقطع والظن المعتبر - «مقتضٍ» للحركة على طبقه وليس علة؛ ولذا تنفك عنه. ومن ذلك نجد كثرة العصاة، رغم علمهم بالأمر أو
ص: 40
النهي الإلهي، إلا أن يقال: بأن المقصود: ان «اقتضاء المحركية» ذاتي للحجة، لا نفس «المحركية» أي الفعلية؛ وإلا لما انفكت عن «التحرك».
والحاصل: إن «الدافعية والمحركية»، اقتضاءً، هي إحدى خواص «الحجة»، غاية الأمر أنها - أي اقتضاؤها للمحركية - خصوصية ذاتية لها، لو فرض عدم إنفكاكها عنها وانتزاعها من حاق ذاتها(1)، فليست هي هي.
9-ومنها: «الحجة المعرفية» ويراد بها:
1- معرفة (علة ووجه) كون (حجةٍ) معينةٍ (كالعلم، وخبر الواحد، والبينة) حجةً، وذات قيمة ذاتية أو عرضية.(2)
2- إضافة إلى «المقياس» في كونها حقاً أو مصيبة، أي مقياس حقانية «الحجة» ومدى موضوعيتها.(3)
بعبارة أخرى: «مناشيء الحجية» أي منشأ وعلل كون هذا مما يصح الاحتجاج به، أو منجزاً معذراً، أو كاشفاً، وعدم كون ذاك كذلك، ومقاييس كون هذه الحجة أو تلك: حقاً أو موضوعية، أي ما هو «المقياس» لذلك، والأول ثبوتي، والثاني إثباتي.
والحاصل أنه يوجد أمران: «العلة» التي بها يكون الشيء «حجة». و«المقياس» الذي تقاس به حجية الشيء، فالعلة مثلاً: كونه كاشفاً عن الواقع
ص: 41
مطلقاً أو في الجملة أي كشفاً تاماً أو ناقصاً، والعلة «أيضاً» صدوره - أي الأمر مثلاً - من المولى، فهو «حجة» أي لازم الحركة على طبقه، ومنجز ومعذر، وهكذا. لكن ما هو «المقياس» لمعرفة كونه كاشفاً عن الواقع كذلك؟ فهل هو الاستقراء؟ أو بناء العقلاء؟ أو الحدس؟ وهكذا، وكذلك ما هو المقياس لكونه «مولى» أو ذا سلطة؟
ولا يخفى: أجنبية هذا المعنى - بشقيّه - عن مفهوم الحجة والحجية؛ فإنه بحث عن منشأها وعلة حجيتها وعن المقياس - إثباتاً - في معرفة ذلك، وأين علة الشيء وطريق معرفته، منه؟(1)
10-ومنها: «الحجة» حسب الاصطلاح المنطقي، وهي: «تصديقات معلومة موصلة إلى تصديق مجهول»، أو «كل ما تألف من قضايا أريد بها الوصول إلى مطلوب ما».(2)
وموضوع المنطق هو «المعلومات التصورية والتصديقية من حيث أنها توصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي...»(3) و«ليس المراد أنها مطلقاً موضوع المنطق، بل هي مقيدة بصحة الإيصال، موضوع له..»(4) وواضح أن «المعلومات التصورية..» هي «المعرِّف» و«المعلومات التصديقية..» هي «الحجة». وذلك كالقياس القِراني والاستثنائي. ولا يخفى أن «الحجة المنطقية» هي مصداق من
ص: 42
مصاديق «الحجة» سواء أخذت بالمعنى الأول، أم الثاني، أم غيرهما.(1)
ولا يخفى أيضاً اختلاف هذا المعنى عن «المعنى السادس» الذي صار إليه الميرزا النائيني قدس سره؛ إذ يراد به أمثال البينة وخبر الواحد والظواهر. نعم قد يجتمعان.(2)
وحيث لم يكن الهدف من هذا الكتاب «الحجة المنطقية»، لم نستقص البحث حولها، وحول عدد من المعاني الأخرى، وإلا فإن للبحث عنها وعن الحجة بالمعنى التاسع خاصة مجالاً واسعاً، وقد نوفق للكتابة عنها لاحقاً بإذن اللّه تعالى.
ص: 43
ص: 44
ص: 45
ص: 46
ص: 47
ص: 48
هذا كله من حيث المعاني المذكورة للحجية في «الأصول» وغيره.
ولابد من الرجوع للآيات الشريفة والروايات المباركة، للتعرف على معنى «الحجية»، على حسب ما يستفاد منها. فنقول وباللّه نستعين:
أما الكتاب، فقد وردت مادة «الحجية» في قول اللّه تعالى ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(1) وقوله سبحانه ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(2) وقوله جل اسمه ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾(3) وقوله عز من قائل ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾.(4)
وأما الروايات فمنها: قول الإمام الكاظم «عليه سلام اللّه»: «إن لله على الناس «حجتين»: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول».(5)
ومنها: قول الإمام الصادق «عليه سلام اللّه»: «(حجةُ) اللّه على العبادِ، النبيُّ، و(الحجةُ) فيما بين العباد وبين اللّه، العقلُ».(6)
ومنها: قوله «عليه سلام اللّه»: «فاشهد أن علياً كان قيِّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان «الحجة» على الناس بعد رسول اللّه» (7) هذا.
ص: 49
إن عدداً من الآيات الكريمة، ظاهر في «المعنى الأول» ل«الحجة» عرفاً، ويدل عليه أن المقام مقام حجة واحتجاج ودفع وردّ، إذ يقول تعالى في الآية السابقة (سيقول الذين أشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا..)(1) ويقول (.. قل هل عندكم من علم..) ثم يقول (قل فلله الحجة البالغة..)(2) أما المعاني الأخرى فهي إما مصاديق لها أو لوازم، كما سبقت الإشارة إليه، وستأتي إشارة أيضاً.
ويؤكد ظهورها في المعنى الأول ما ورد «عن الأمالي عن الإمام الصادق «عليه السلام»: أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿فللّه الحجة البالغة﴾ فقال «عليه السلام»: إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن كان جاهلاً قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه بتلك الحجة البالغة»(3).
نعم، قد يقال: إن ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ -أي بأن اللّه شاء شِركَكُم وتحريمكم -فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾(4) قرينة على إرادة «المعنى الثاني» وهو «الكاشفية»، إذ ليس عندكم «من علم» كاشف عن الواقع، بل «إن تتبعون إلا الظن» غير الكاشف عنه ولا الموصل إليه، أما نحن فلنا «الحجة» أي الكاشفة عن الواقع، الموصلة إليه أو الواصلة إليكم.
لكن قد يقال: لعل الظاهر «هل عندكم من علم» تحتجون به، بل «إن تتبعون إلا الظن» الذي لا يصح الاحتجاج به.
ص: 50
ثم إنه لو فرض أن ظاهر الآية السابقة هو ما سبق، فإن (فلله الحجة البالغة) ظاهرها: ما يصلح للاحتجاج أو ما به الاحتجاج، لا (فلله الكاشف) وظهور هذه الآية الشريفة في هذا المعنى، أقوى من ظهور تلك الآية في ذلك المعنى، فتأمل.
وقال في مجمع البيان: «﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ أي حجة تؤدي إلى علم. وقيل معناه: هل عندكم علم فيما تقولونه».(1)
أقول: والمعنى الأول أنسب ب«فَتُخرِجُوه لنا».
وقال في الصافي: « «فلله الحجة البالغة» البيِّنة الواضحة، التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات».(2)
و«البينة» قد تكون أقرب للمعنى الثاني؛ لأنها من بان يبين أي ظهر، وفيه أنه لا دلالة فيه؛ إذ لعله تفسير بالمصداق. بل قد يقال: قوله «والقوة على الإثبات» ظاهر في مقام الاحتجاج.
وقد يؤيد بأن «البالغة» أنسب ب«الكاشف»، منها ب«ما يحتج به».
وفيه أظهرية العكس.
ولو قيل أنه لا حاجة لها بناء على إرادة «الاحتجاج» لتضمنها في «الحجة»؛ إذ لولا بلوغها لم تكن «حجة» ولم يصح بها الاحتجاج، فقوله «حجة» يفيد البلوغ فلا وجه لذكره، دون ما لو أراد الكاشف، أجيب بأنه لو أريد ب«الحجة»: «ما يصح الاحتجاج به» لما أغنى عن البالغة لعدم كونها متضمنةً فيه(3)، بل حتى
ص: 51
لو أريد به «ما يحتج به فعلاً» لكان وجه الحاجة ل«البالغة» التأكيد، ولعله يستفاد منها الأشدّية، ثم إنه يرد مثله في «الكاشف»؛ إذ لولا بلوغه لم يكن كاشفاً، والجواب الجواب - فتأمل.
وأما «المعنى الرابع» «المنجزية» و«الخامس» «لزوم الحركة والإتباع» فهي من لوازم «الحجة البالغة» وخصائصها، لا أنها معنى لها، بل هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآية ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ ومساق الكلام فيها، نعم يلزمها ذلك عقلاً، أي حيث أنها «حجة بالغة» فهي منجزة أي تستحقون العقاب على مخالفتها، ويجب العمل على طبقها، والآية الكريمة وإن لم تكن مسوقة لبيانهما، إلا أنهما لازمان لها.
وأما «المعنى السابع» وهو «الأوسط في القياس»: فواضح عدم إرادة الآية له.(1)
وأما «المعنى الثامن» «الحجة التكوينية» فخلاف ظاهر الآية، بل قد تنفيها قرينة المقام، وقرينة ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، أي لو شاء إلجاءكم(2)، لهداكم أجمعين، والاستدلال يتم: إما بنفي «المقدم» أي «لكنه لم يشأ - أي دفعكم للهداية قهراً وجبراً - فلم تهتدوا» لكن له «الحجة البالغة» والدليل وما يحتج به عليكم، فليست «الحجة البالغة» إذن تكوينية، وإلا لكان قد شاء فكانوا قد اهتدوا، أو بنفي «التالي»، أي لكنكم لم تهتدوا - بالوجدان، وباعترافهم بأنهم لا يؤمنون - فلم يشأ سبحانه وتعالى هدايتكم تكويناً وقسراً، فليست الحجة البالغة تكوينية، وإلا لكانوا قد اهتدوا.
نعم بناءً على «اقتضاء» الحجة للمحركية، ولزوم «الاقتضاء فقط» للحجية، لا دلالة ل«فلو شاء» على النفي؛ لتوقفه على العِلِّية، كما أوضحناه،
ص: 52
لكن الآية ليست في هذا السياق، بل ذلك(1)
مستبعد جداً من مفهومها، بأن يكون مفاد «فلله الحجة» أي لله المحرك الاقتضائي نحو متعلَّقات أوامره أو نحو «الهداية».
وأما «المعنى التاسع» وهو «الحجة المعرفية»(2): فإن العقل يدل، وكذا قوله تعالى «فلله الحجة البالغة» على أن «المنشأ الأول» لها هو البارئ جل اسمه، وأن قوله وكافة إنشاءاته وإخباراته، حجة لذاتها، ولها الموضوعية والقيمة الذاتية، فإنه «يصح الاحتجاج به» دون ريب.
كما(3) أنه «منجز ومعذر»(4) دون شك؛ لأنه جل اسمه الحق المطلق، والمنعم الحقيقي، والمولى، ومن بيده - أولاً وبالذات - حق الثواب والعقاب.
كما أنه «لازم الحركة على طبقه» عقلاً ونقلاً؛ لما سبق؛ ولأن بذلك دفع الضرر البالغ ولو المحتمل، و«شكر النعمة» و«دفع الضرر» هما ملاكا الحكم العقلي والفطري كما فصلناه في «فقه التعاون على البر والتقوى».
كما أنه(5) «الكاشف» عن الواقع، دون خوف لبس أو خطأ أو خطل، فمنشأ «الحجية» الأول وملاكها، ومقياس حقانية الشيء وموضوعيته، يعود - أولاً بالذات - لله العالم المحيط، والملك القادر الحكيم، ويدل عليه قوله تعالى (فلله الحجة البالغة) فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر و«الحجة البالغة»
ص: 53
بالذات، له تعالى، لا لغيره، فإنهم بالتبع والعرض فتأمل.
كما يدل على ذلك قوله تعالى ﴿قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.(1)
وبعبارة أخرى: إن قيمة «الحجج» العقلية والفطرية وغيرها، تعود إليه جل اسمه، فهو المنشأ و «ما بالذات»، وغيره «ما بالعرض»، فالعقل «يدرك» ويصيب بإقدار اللّه تعالى، و«يحكم» بإذنه، وكذلك «الفطرة» و «العقلاء»، و«حكمهم» منجز ومعذر، أو لازم الحركة على طبقه، بأمره وإذنه، وله جل اسمه، أن يعتبر حكم العقل والعقلاء غير حجة، فلا يحتج به، وغير منجز أو معذر فلا يستحق بمخالفته العقاب، ولا بموافقته العذر، وله أن يجعله - تكويناً - غير مصيب، فلا كاشفية له بالمرة وهكذا.
والحاصل أن اللّه سبحانه وتعالى يرجع إليه «مقياس الحقانية» المطلق، ولإخباراته وإنشاءاته «القيمة الذاتية» و«الموضوعية»، ولغيره «الطريقية» و«القيمة الإكتسابية أو العرضية»، وكل من بيده الاعتبار من الموالي العرفية والمشرِّعين، فإنه عرضي، يرجع إليه تعالى؛ لأنه المالك الحقيقي، فلو اعتبر المولى العرفي حكماً وجعله، أو شيئاً «حجة» فسيكون كذلك، بإمضائه جل وعلا، وإلا لما كان له كما هو واضح.
وبعبارة أخرى ﴿ لِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ أولاً وبالذات وبأجلى صورها؛ لأنه العالم القادر الغني الحكيم، فلا يتسرب احتمال عدم الكاشفية، والخطأ أو تعمده، إليه أبداً، عكس غيره؛ فإنه حتى لو كان ممن لا يتسرب إليه قطعاً أيضاً - كالرسول «صلى اللّه عليه وآله» و الوصي «عليه سلام اللّه» - لكنه بالعرض أي بالعلم الذي
ص: 54
أتاهم اللّه تعالى، وبقدرةٍ وحكمةٍ وَجُوْدٍ، منه تعالى، أفاضَهُ عليهم «سلام اللّه عليهم».
نعم قد يقال: إن «العلم» - دون سائر الحجج - حجيته ذاتية بذاتي باب البرهان، فليست مجعولة له بالجعل المركب، نعم هي مجعولة بالجعل البسيط بجعل منشأ الإنتزاع، أما غيره فمجعول له بالجعل المركب أيضاً، فتأمل.
وأما «المعنى السادس» «الأدلة الشرعية...» فهو من مصاديق «الحجة البالغة»؛ فإن النسبة هي العموم والخصوص المطلق.(1)
لا يقال: الآية تتعلق بأصول الدين، فإنها موردها، ولقرينة التفريع ب- ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾؟
إذ يقال: أولاً: المورد لا يخصص الوارد؛ إذ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد، وكذا التفريع؛ إذ تفريع الخاص على العام كثير وهو على القاعدة.
ثانياً: أن موردها أعم؛ إذ مطلعها ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ*﴾.(2)
ص: 55
والمراد من ﴿ وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ البحيرة والسائبة وغيرهما.
قال تعالى ﴿مَا جَعَلَ المممةةلّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾.(1)
ثم إن اختصاصها بأصول الدين، على فرضه، لا يضر بما نحن بصدده.(2)
وأما قوله تعالى: ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(3)
فالظاهر إرادة المعنى الأول «اللغوي»، وإلا فالرابع وهو «المعذرية».
ثم إن من الواضح شمولها - كسابقتها - لشؤون الأصول والفروع، والعقيدة والشريعة؛ فإن ﴿ مُّبَشِّرِينَ﴾ أي «بالجنة والثواب، لمن آمن وأطاع» كما في مجمع البيان.
إضافةً إلى وضوح أن مهمة الأنبياء، كانت غير مقتصرة على التبشير والإنذار فيما يرتبط بشؤون أصول الدين والمذهب، بل كانت شاملة لبيان أحكام أفعال المكلفين، وبعض أحوالهم(4)، أي: كافة ما يتعلق بالعبادات والعقود والإيقاعات والأحكام - حسب تقسيم الشرائع -.
ووضوح كون ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ﴾ أعم من إحتجاجهم على اللّه تعالى، في مخالفتهم الجوانحية والجوارحية، بأنه لم يرسل لهم رسولاً مخبراً عنه تعالى وآمراً وناهياً.
ص: 56
ثم إن الآية الشريفة خاصة - على مسلك القوم - ب- «الأدلة والحجج على العقائد والأحكام» وما يستتبعانه من مثوبة وعقوبة، ولا ارتباط لها ب«الأمارات» القائمة على الموضوعات؛ فإن شأن النبي بما هو نبي، هو التبشير والإنذار، بالواجبات والمحرمات الإعتقادية أو العملية، وعقوباتها ومثوباتها، ولا شأن له بما هو نبي، بتشخيص الموضوعات، اللّهم إلا «المخترعة»(1) منها، ولكن قد فصلنا في بعض كتبنا(2) النقاش مبنى في ذلك، وأن كلاً من شأني الدنيا والآخرة، هو من شؤون النبي والوصي، ولذا كان من أهداف البعثة «ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث» وهي(3) دنيوية - أخروية؛ لتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وقد أجبنا عن ما قد يورد عليه من الإشكالات، هنالك.
نعم قد يقال: ظاهر الآية هو: العقائد والأحكام، لا الموضوعات الصرفة، ولا المستنبطة.
وأما قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ فالظاهر منها هو المعنى الأول ويلزمه المعنى الثاني(4) والرابع والخامس ومن مصاديقها السادس والسابع أي «الأوسط» في القياس - فتأمل.
ويستفاد أيضاً من الضمير في ﴿حُجَّتُنَا﴾: الحجة المعرفية، فإنه استنادها
ص: 57
إليه تعالى، كافٍ في ثبوتها جزماً وحقانيتها وصوابيتها، كما أن الاستناد إليه تعالى، هو «المقياس» وقال في مجمع البيان: «﴿حُجَّتُنَا﴾ أي: أدلتنا.»(1)
وأما آية ﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ...﴾.(2)
فإن «دَاحِضَةٌ» يقصد بها: باطلة زائلة «عند ربهم» وإن كانت وجيهة عندهم، ف«حجتهم» تصلح لإرادة «المعنى اللغوي» - وهو الأول - ومعنى «المعذرية» - وهو الرابع - فإن عذرهم وإعتذارهم باطل، فحجتهم داحضة، أي «ما إعتذروا به أو ما اعتبروه صالحاً للإعتذار به، داحض»، لكن الظاهر من الآية هو المعنى الأول، وأما إرادة معنى «الكاشفية» - وهو الثاني - فبعيد جداً؛ إذ يكون المعنى «حجتهم» أي كاشفهم عن الواقع أو ما اعتبروه كاشفاً عن الواقع «داحضة» أي باطلة غير كاشفة عن الواقع؛ فإنه وإن كان في حد ذاته ممكناً، لكنه بعيد جداً عن الفهم العرفي، كما لا يخفى.
ويحتمل في معنى الآية أن يكون «حجتهم» بمعنى خصومتهم - كما فسرها بها في «مجمع البيان»، لكن لعل «الخصومة» من أوصاف «الحجة»، بل هي وصف بعض أنواعها.
ص: 58
وقد أجاب في مجمع البيان بقوله: «وإنما سمى سبحانه شبهتهم حجة، على اعتقادهم، ولشبهها بالحجة، أجرى عليها اسمها من غير إطلاق الصفة بها»(1) عن شبهة التناقض بين «حجة» و «داحضة»، فإن «الحجة» سواء أخذت بمعنى «ما يحتج به، أو ما يصح الإحتجاج به» أم «المنجز والمعذر» أم «التصديقات المعلومة الموصلة إلى تصديق مجهول» أم «الكاشف» أم غيرها، قد يتوهم التناقض بين وصفِ شيءٍ بها، وبين وصفها ب«باطلة»؛ إذ يكون المعنى «المنجز والمعذر، غير منجز أو معذر» أو «الكشاف غير كاشف» أو «ما يحتج به، لا يحتج به»، فهو كقولك:
«الأبيض ليس بأبيض».
والجواب واضح على ما ذكره مجمع البيان، وتوضيح كلامه: أن إطلاق «الحجة» عليها مجاز، والعلاقة المصححة هي أحد أمرين أو هما معاً: إما لشبهها بالحجة - وذلك لاستخدامهم طرق الاستدلال المعهودة، كبعض الأشكال الأربعة، أو القياس الاستثنائي، أو ما أشبه، لكنها فاسدة من حيث "المادة" بل و "الصورة" أحياناً -، وإما لكونها كذلك، بإعتقادهم.
وبعبارة أخرى: أن استخدام «الحجة» هنا مجاز؛ إما لشبهها بالحجة؛ إذ الحجة: الكاشف، أو المنجز والمعذر، أو ما يحتج به، وهذه غير كاشفة ولا منجزة أو معذرة ولا مما يحتج به، لكنها سميت بالحجة بمشاكلتها لها، أو لكونها كذلك حسب اعتقادهم، فيكون معنى الآية: «الحجة باعتقادهم» أي: ما هو كاشف عن الواقع باعتقادهم، أو ما هو منجز ومعذر، أو ما يصح الاحتجاج به بإعتقادهم، ليس كاشفاً عنه ولا منجزاً أو معذراً أو مما يصح الاحتجاج به،
ص: 59
ثبوتاً وواقعاً، أو «الحجة» أي المشابه للحجة صورةً، ليس حجة في الواقع - بأي معنى أخذت الحجة - .
والحاصل: أن «الحجة» سواء كانت بمعنى ما يحتج به العبد على المولى أم بمعنى المنجز أم غير ذلك، لا يصح إطلاق «باطلة» عليها، إذا كانت «حجة» ثبوتاً وفي متن الأمر، دون ما لو تُوّهم كونها «حجة»، وما لو اعتبرها الجاهل جهلاً مركباً «حجة» أو اعتبرها العالم بأنها ليست حجة، حجة، لجهة ما، فإنه يصح اطلاق «باطلة» عليها، دون لزوم تناقض، ويصح إطلاق «الحجة» عليها بلحاظ كون استخدامها مجازاً ووجود علاقة مصححة للتجوز، ف«باطلة» تفيد: أن حجتهم في واقعها وجوهرها كذلك، وإن كان ظاهرها غير ذلك.
وغير خفي أن توهم التناقض غير جار، على تفسير «الحجة» بالخصومة، كما ذهب إليه في المجمع.
وأما رواية الإمام الكاظم «عليه السلام»: «إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة...(1)» فالظاهر إرادة «المعنى الأول»، ولا يخفى انطباقه على «المعنى الثاني» «الكاشفية»؛ فإن «الكاشف» عن الواقع مصداق للحجة الإلهية، بل «الكاشف» هو ملزوم «ما يصح به الاحتجاج»، وكذا المعنى الرابع «المنجزية والمعذرية» وأما «الخامس» «لزوم الحركة» فهو لازم ذلك، بل وكذا الرابع، أي إن لله سبحانه حجتين يحتج بهما على عبيده، وكلتاهما، كاشف عن أحكامه وإرادته، ومنجز لتكاليفه، وتجب الحركة على طبقهما.
ص: 60
ولا تنطبق الرواية على «المعنى السادس» الذي صار إليه الميرزا النائيني قدس سره، إلا بتجوز إرادة «الدال من ملزوم المدلول»؛ فإن «الدال» هو «الطرق والأمارات» التي ذكرها النائيني قدس سره، باعتبارها طرقاً إلى الحكم الشرعي وموضوعه، أي طرقاً إلى كلام الأنبياء والرسل والأئمة.
و«المدلول» هو قولهم صلوات اللّه عليهم، وملزومه - ويراد به الملزوم العرفي لا الدقي - هو من صدر منه القول، أي ذواتهم صلوات اللّه عليهم، وهو المذكور في الرواية؛ فإن الموجود فيها هو إسناد الحجية لنفس الرسل والأنبياء والأئمة، وحيث يمتنع ذلك حقيقة، أريد به «قولهم وفعلهم وتقريرهم»، ثم الدال على هذه الثلاثة هو «الطرق» وعلى موضوعاتها «الأمارات».
والحاصل أن إنطباق «الحجة» في الرواية على «الطرق»، يحتاج إلى تقدير، فالمجاز في «الحذف» أو «الإسناد»، وهو من قبيل سبك مجاز في مجاز(1) - فتأمل.(2)
ومن ذلك يظهر الحال في «المعنى السابع» «الأوسط في القياس»، وأما «التاسع» وهو الحجة «المعرفية» فيستفاد من «لله» كما سبق في آية «فلله الحجة البالغة»، وأما «الثامن» وهو «الحجة التكوينية» فخلاف ظاهرها.
ومن ذلك وما سبقه ظهر الحال في رواية الإمام الصادق «عليه السلام»، اللاحقة لها.
ص: 61
ص: 62
ص: 63
ص: 64
ص: 65
ص: 66
إن ما ذكر ل«الحجية» من المعاني العشرة، وما ذكر من الآيات والروايات، شاهداً عليها، قد يورد عليه:
أولاً: بأن كثيراً من تلك المعاني، مما لا يناسب علم الأصول، ولا يصلح كتعريفٍ ل«الحجة» التي أخذت موضوعه، أو الجامع بين موضوعاته «الأربعة» أو التي كان الموضوع بلحاظها موضوعاً، بل هي مناسبة لعلم الكلام والفقه والمنطق.
وثانياً: بأن كثيراً من تلك المعاني هو لازم لها أو حكم لها، وليس بها، أو هو مصداق لها وليس تعريفاً لها وحدّاً، وذلك كسؤال السائل «ما الماء؟» فتقول «هذا» أو «ما يروي العطش» والأول تفسير بالمصداق، والثاني تفسير بالخواص أو اللازم(1)، بدل القول بأن الماء سائل يتركب من أوكسيجين وهيدروجين والأول «جنس» والثاني «فصل» - مما هو حد تام -(2)، أو سؤاله «ما الأسد» فتقول: «هذا» أو «مبخر الفم»، دون «حيوان زائر» - مما هو رسم تام -. أو: «ما الإنسان» فتقول: «هذا» أو «الماشي على رجلين»، دون «حيوان ناطق».
والكلام في مفهوم «الحجة» وتعريفها، وليس في «أحكام الحجة»، أو «مصاديقها»، أي البحث فيما يحمل عليها بالحمل الذاتي الأولي - بفارق الإجمالي والتفصيلي - لا بالحمل الشائع الصناعي، وما يحمل بذاتي باب «الكليات»، لا ما يحمل بذاتي باب «البرهان».
ص: 67
وأما «الاستعمال» فهو أعم من الحقيقة، فالاستشهاد بالآيات والروايات غير وافٍ بالمقصود، إلا أن يستدل بالتبادر، وعدم صحة السلب، والإطراد، ونظائرها.
والظاهر أنه غير تام في أكثر تلك المعاني؛ فإن «الحجة» المتبادر منها هو:
1- ما يحتج به أحد الطرفين على الآخر، أو الدليل.
2- أما كونها «منجزة ومعذرة»، فإنه مما يلزمها عقلاً.
3- وأما كونها «لازمة الإتباع» فإنه من أحكامها.
4- وأما كونها «كاشفة عن الواقع» فهو ملزومها.(1)
الشارع كاشفيتها.
د- أو مما قد يقال باستحالة جعلها له، كما لو جعل المولى «الوهم» أو «الاحتمال» حجة أي منجزاً، كالاحتمال حتى في غير الشؤون الخطيرة، فرضاً، فإنه «حجة» أي يحتج به المولى على العبد، ومنجز، وليس بكاشف؛ فإن «الشك» لا كاشفية فيه أبداً، فكيف بالوهم والاحتمال - فتأمل.
إذ قد يقال: «الوهم» و «الاحتمال» له كاشفية بنسبته، فلو احتمل بنسبة خمسة بالمائة فإنه كاشف بنفس النسبة، إلا أن يفرق بين «الوهم» و «الاحتمال»؛ فإن «الاحتمال» كاشف بنفس النسبة، دون «الوهم». والفرق إن «الوهم» إشارة للحالة الذهنية أو النفسية بلحاظ «الوهن»، وأما «الاحتمال» فإنه إشارة للثبوت، أي لنفس نسبة ترجح أو مرجوحية أحد الطرفين على الآخر بلحاظه منسوباً للخارج، ولذا كان «الشك» غير كاشف؛ لأنه يعني الحالة النفسية الترديدية، دون «الاحتمال» المتضمن فيه فإنه كاشف بنسبة خمسين بالمائة، ويوضحه أن «الوهم» يقع في مقابل «الظن» و«القطع»، عكس «الاحتمال» فإنه متضمن في كل منهما، وفي العلم أيضاً وإن بوجود اندكاكي؛ فإن القطع احتمال بالغ مرتبة اليقين.
وبعبارة أخرى: «الوهم» في مقابل «القطع»، فكما قلنا أن الكاشفية عن الواقع ليست ذاتية للقطع إلا في ضمن فرده الآخر «وهو العلم دون الجهل المركب» كذلك قولنا: «الوهم» ليست له الكاشفية إلا في ضمن الاحتمال الذي فيه وبقدره، وكذلك «الشك» فإنه لا كاشفية له إلا في ضمن الاحتمال الذي فيه وبقدره - فتأمل.
ص: 69
وكالاحتمال في باب الإطاعة على ما نراه، من عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيها.
وسيأتي تفصيل الحديث عن إمكان وصحة ووقوع جعل «الحجية» للوهم، بإذن اللّه تعالى، فلا نطيل ههنا.
5- وأما كونها عين «الإنكشاف» فكالكاشفية، إن أريد «إنكشاف الواقع»(1) دون «إنكشافها للنفس»، والأمر في ما هو حجة بالحمل الشائع، كما سبق.
6-7- وأما «الأوسط» و «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات...» فإن تفسير «الحجة» بها تفسير المصداق وبما هو حجة بالحمل الشائع، كما أن صحة قوعها أوسط، هو من أحكامها، في الجملة.(2)
تعريف الميرزا النائيني، ل«الحجة»(3)
نعم قد يقال: إن تعريف «الحجة» ب«الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات...» هو مصطلح أصولي كما صرح بذلك الميرزا النائيني قدس سره، حيث قال: «فإن الحجة بإصطلاح الأصولي عبارة عن "الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات، التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات، علقة ثبوتية بوجه من الوجوه" »(4) - ولا مشاحة في الاصطلاح، فلو ثبت في عرف خاص، فإنه المتبادر في استعمالاتهم عندئذٍ، كما لا بأس بأن يصطلح بإرادة «الأوسط» من الحجة في الأصول، كما هو في المنطق، كما صنع الشيخ «قدس سره».
ص: 70
وعلى هذا فإن تفسير «الحجة» ب- «الأوسط» أو «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات» في علم الأصول، ليس تفسيراً ببعض مصاديقها، بل هو تعريف بالمساوي(1) أو الحد التام(2)؛ لأن الفرض إنه تفسير له في هذا العلم بعد وضع الاصطلاح.
لكن يرد عليه أولاً: أنه أشبه بالضرورة بشرط المحمول، أو المشروطة العامة(3) والغرض في التعريف أن يجري على الذات بما هي، وبحسب الطبع أو الوضع الأولي، لا بلحاظِ وقيدِ أنه قد وضع لمعنى جديد، ولا فرق في ذلك بين الذوات الحقيقية وبين الإعتبارية؛ فإن لها ماهية وتقرراً في عالمها، وهل هو إلا كالقول بأن «القياس» حجة قطعاً؛ لأنه كذلك عند العامة وباصطلاحهم؟ ولأنهم اعتبروه منجزاً ومعذراً ومما يصلح لاحتجاج المولى به على عبده وبالعكس؟ وفيه أنه بما هو هو وفي الواقع، ليس كذلك - فتأمل، إذ الفرق أن أهل الخلاف اعتبروا «القياس» حجة من قبل الشارع، فورد عليهم أنه ليس بنظر الشارع - بالأدلة القطعية - منجزاً أو معذراً ولا كاشفاً ولا مما اعتبره الشارع مما يحتج به على عبيده، نعم لهم أن يصطلحوا فيما بينهم على اعتباره حجة في محاوراتهم، بأن يقول المولى منهم لعبده: لو قست كان قياسك حجة منجزاً معذراً من قبلي، لكنه خارج عن مورد البحث؛ إذ الكلام في «السنة» وأن «السنة إذا قيست محق الدين».
ص: 71
وأما الأصولي فلا يقول «الحجة» عند الشارع، تعريفها كذا، ليرد عليه عدم المساواة، بل يقول: إننا معشر الأصوليين قد تواضعنا على أن «الحجة» كلما أطلقناها أردنا بها كذا - فتأمل؛ إذ الكلام في «الأصول» عن حجج الشارع في الفقه، وليس بحثاً إصطلاحياً صرفاً - فتأمل.
لا يقال: إن أخذ الحجة بمعناها اللغوي أيضاً، أشبه بالضرورة بشرط المحمول، فكيف عددتموها المقياس؟
إذ يقال: الفرق أن «المعنى اللغوي» هو مقتضى الوضع الأولي والطبع، كما أنه متفق عليه بين الأطراف، وأن الكل لاحظه في تعريفه، فليس النزاع فيه بل هو متفرع عليه، عكس التعاريف أو المصطلحات الأخرى للحجة، من كونها «الأوسط» أو «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات...» فإن النزاع فيها وجامعيتها ومانعيتها، لما وضعت له، ومدى انطباق المعنى الأصلي عليها.
لكن الظاهر أن كون «الوضع التعييني أو التعيّني» للفظ، في بعض ما وضع له لغة، استعمالاً للعام اللغوي في الخاص، غير ضار بالاصطلاح، وبأنه بعده حقيقة فيه، في العرف الخاص، والمرادف له فيه.
وثانياً: إن هذا التعريف لا يتكفل بالغرض الذي وضع من أجله، وبالسبب الذي دعا إليه، فهو أخص من المعرَّف ومن المطلوب؛ إذ الفرض أن الأصولي لاحظ وجود مجموعة قوانين في الأصول «من طرق وأمارات وأصول» فأراد أن يكتشف موضوعها والجامع لها «المعبر عنه بالحجة، أو الأدلة الأربعة بذواتها، أو بوصف الدليلية»، فكلٌ حاول العثور على التعريف الجامع المانع، أو «الكلي الطبيعي المنطبق على موضوعات مسائله» - حسب بيان صاحب الكفاية - فوقع الكلام في أنه هل هذا التعريف جامع مانع وتعريف بالمساوي لما يبحث عنه في
ص: 72
الأصول؟ أو بالأخص؟ أو بما هو معه من وجه؟، وعلى فرض المساواة، فهل هو تعريف بالذاتي الأولى أم بالشائع الصناعي؟ وهل هو بالمرادف، أو بالجنس والفصل، أو الخاصة، لما عليه المدار في إقامة الدليل المشترك على إثبات أحكام أفعال المكلفين ووظائفهم، في الأصول، ك«مباحث الدليل اللفظي» مثل خبر الواحد، والظواهر وغيرهما، وك«مباحث الاستلزامات» - من مباحث الدليل العقلي - وك«مباحث الأصول العملية»، من عقلية ونقلية، كقبح العقاب بلا بيان، وأصالة الاشتغال.
وحينئذٍ نقول: هل لاحظ الأصولي عند وضعه المعنى المصطلح، المعنى الأولي الموضوع له اللفظ في اللغة، أم لا؟ وعلى فرض ملاحظته فأي معنى لاحظ؟
فإن كان قد لاحظ المعنى الأولي:
1- فإن إرتآى أنه «الكاشفية»، فيرد عليه أنه لا يشمل(1) «الأصول العملية» النقلية ك«رفع ما لا يعلمون» ولا العقلية ك«قاعدة قبح العقاب بلا بيان»، و«الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية»؛ فإنها لا تكشف عن الحكم الواقعي، بل هي وسيلة للإبراء القطعي للذمة لا غير.
2- ولو أَخَذَ «الحجة» بمعنى «لزوم الحركة على طبق مؤداه» لما شملت ما لو أدى الدليل إلى النفي، ولا الأصول النافية، إلا لو أريد بلزوم الحركة على طبق المؤدى: مجاراة مقتضى «الحجة»، ليشمل مثل ما لو دل الخبر على عدم وجوب شيء، فعندئذ يكون أعم من الأدلة والأصول العملية النافية وهو المطلوب، لكنه خلاف ظاهر اللفظ، وخلاف تعبيره ب«التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها».
ص: 73
3- أما لو أخذها «بالمعنى اللغوي» لعمت، 4- وكذا بمعنى «المنجزية والمعذرية»؛ فإن العبد معذور لو عمل على طبق الأصول العملية «كالبراءة والتخيير».
نعم على الفرضين الأولين، للأصولي أن يجيب بأنه لاحظهما «منشأ» لوضع المصطلح و«داعياً» ولم يلحظهما «ملاكاً» يدور المصطلح مدارهما، فلا يضر عدم مساواة المعنى اللغوي للمعنى المصطلح، والمهم انطباق المعنى المصطلح على تمام ما اصطلح له ووفائه بالغرض المجعول له - فتأمل.
وكأن «الأصولي» في تعريفه ل«الحجة» - حسب تعريف المحقق النائيني «قدس سره» - أخذ «الحجة» في مبناه أو في ارتكازه، بمعنى «الكاشفية» فقصرها في تعريف الأصول على «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات»، فلزم من ذلك خروج الأصول العملية، ولو كان «الأصولي» أخذها بمعنى «ما يحتج به» أو «المنجزية والمعذرية»، لعمم، فتعريفه، وإن كان اصطلاحاً، إلا أن الظاهر أنه مبني على تحقيق معنى «الحجية» في مرحلة سابقة.
اللّهم إلا أن يقال: إن «الحجة» بمعنى «الكاشف»، وهو أعم من الكاشف عن الحكم أو الكاشف عن الوظيفة، لكنه خلاف الظاهر.
فالمصطلح على هذا نهاية وليس بداية.
وبعبارة أخرى «هناك واقع وراء الاصطلاح» وليس المحور هو «الاصطلاح» ولا شيء غيره، ليقال بأنه ليس تفسيراً بالمصداق.
وأما إذا قيل بأن «الأصولي» لم يلاحظ عند وضعه المصطلح، في تعريفه هذا، المعنى الأولي، أو لاحظه لكن كداع وكمنشأ لا باعتباره المحور والمقياس والمدار والملاك، فيرد عليه أن ذلك أيضاً، لا يكفل دفع إشكال «الأخصية»؛ فإن تفسير «الحجة» ب- «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات» يرد عليه أنه أخص
ص: 74
من «الحجج» في الأصول؛ وذلك أولاً: لأنها - أي الحجة الأصولية - أعم من «الأدلة الشرعية، والعقلية»، كالملازمات، وككون الشك في «العنوان والمحصِّل» والغرض، مجرى للاحتياط وما أشبه.
وإن كان يمكن الذب عن هذا الإشكال إذا كان مراد «الأصولي» من «الشرعية» الأعم من المجعولة شرعاً والممضاة، أو بلحاظ أن العقل شرع من باطن، لكنه خلاف ظاهر تصريحه لاحقاً ب- «بحسب الجعل الشرعي».(1)
وثانياً: لأن الحجج الأصولية هي أعم من «الأصول العملية»، والأصول العملية ليست طرقاً ولا أمارات للأحكام، إذ لا حكم فيها، ولا «إثبات فيهما للمتعلقات» بل صرف وظيفة، فلا يصح القول ب«التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي». (2)
وأما الإشكال بعدم إطلاق «الحجة» على «الأصول العملية» فسيأتي الجواب عنه، بإذن اللّه تعالى، في «المسائل».
لا يقال: إن النقاش في «مفهوم الحجة» وإن أي معنى من المعاني العشرة هو الحقيقي؟ وأيها المجازي؟ وأيها المراد منها؟ نقاش لفظي و«كل إلى ذلك الجمال يشير»؛ إذ المقصود معلوم والتعاريف مشيرة، وليس القصد منها الحد أو الرسم، بل قد يعمم هذا الإشكال على كل نقاش أصولي، ك: ما هو موضوع علم الأصول، وما هو تعريفه؟ ثم ما الثمرة من هذا البحث؟(3)إذ
ص: 75
يقال: أولاً: الظاهر من بحث الأصوليين وأخذهم وردهم، أن نقاشهم حقيقي وليس لفظياً.
ويكفي مثالاً لذلك ما نقلناه من كلام الشيخ «قدس سره» من عدم كون القطع «حجة» مطلقاً؛ لأنه أخذه بمعنى «الأوسط»، ولئن اعتبره بعضهم لفظياً، فإنه لا ينفي كون غيره قد اعتبره حقيقياً.
وثانياً: أن كون النزاع لفظياً، تابع لاتفاقهم على المعنى والمصاديق واختلافهم في اللفظ، وليس كذلك الاختلاف في معنى «الحجية»، فأين - مثلاً - مسلك «الكاشفية» عن مسلك «المنجزية والمعذرية»؟(1)
وأين القول بكون «القطع» مسألة كلامية أو شبه كلامية، من القول بكونه مسألة أصولية؟ وأين القول بأن كثيراً من مباحث الألفاظ، هي «استطراد»، من القول بكونها «مبادئ تصورية أو تصديقية» ومن القول بأنها مسائل أصولية؟ وهكذا.
نعم بعض النقاش قد يكون لفظياً ك«الحجة» بمعنى «الأوسط» كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره»، أو بمعنى «الأدلة الشرعية من الحجج والأمارات التي اعتبرها الشارع أوساطاً لإثبات متعلقاتها».
لكن فيه: أنه ليس على هذا لفظياً أيضاً؛ فإن من يلتزم بكون «الحجة» هي: «الأدلة الشرعية من الحجج والأمارات...» قد يقول بعدم صحة كون الحجة «أوسط»؛ مطلقاً؛ بدعوى أن مظنون الشيء كمقطوعه لا يقع أوسط؛ إذ الأحكام ثابتة لذوات الموضوعات لا بما هي مقطوعة أو مظنونة، أو بما هي قد أقيم عليها الدليل، أما الشيخ فيقول بوقوع ما عدا القطع «أوسط»، نعم من يقول بصحة الوقوع، يقع الصلح بينه وبين الشيخ، أن إلتزم بعدم وقوع «القطع»
ص: 76
أوسط(1)، ويكون النقاش حينئذٍ لفظياً، اللّهم إلا من حيث كون تعريفه أعم من ذاك التعريف، وأعم من موضوع علم الأصول.
وثالثاً: أن الثمرات التي ذكرناها سابقاً نتيجة الاختلاف في مفهوم الحجة، كاشفة عن كون الخلاف حقيقياً.
ورابعاً: إن الذهاب إلى ذلك، يقتضي القول بأن كل نقاش للأصوليين ولغيرهم، في كل التعاريف، هو نقاش لفظي، كنقاشهم في «موضوع علم الأصول»: هل هو «الأدلة الأربعة بوصف الدليلية»؟ كما ذهب إليه صاحب القوانين «رحمه اللّه تعالى» أو «ذوات الأدلة»؟ كما قاله الفصول قدس سره، أو «الكلي المنطبق على موضوعات مسائله»؟ كما صار إليه في الكفاية قدس سره، أو «ما يستنبط منه الأحكام من حيث الاستنباط»؟ كما انتخبه الوالد قدس سره، أو «الحجة في الفقه»؟ كما ذهب إليه السيد البروجردي قدس سره، أو «الحجة القريبة المشتركة في الفقه»؟ كما صرنا إليه.
وكنقاشهم في «موضوع العلم» هل هو «جامع موضوعات المسائل» كما في «الأصول»، أو غيره ك: «ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» أي بلا واسطة في العروض - كما عليه الآخوند قدس سره - أو الأخص منه - كما عليه المشهور - أو ك: «مجموع القواعد التي تكون مقياساً لفهم الصحة والفساد» أو غيرهما، أو كنقاشهم في تعريف علم الأصول(2) وكذلك اختلاف الفقهاء في تعريف «البيع».(3)
ومن البين عدم كونه كذلك(4).
ص: 77
خامساً: «المشير» يصار إليه عند الجهل بالمعنى الحقيقي، وعدم الطريق للوصول إليه، أو لدى عدم أهميته، وهذه المباحث غاية في الأهمية، والظاهر عدم انسداد الطريق إليها.
فليس من الصحيح أن يقال: إن النقاش - في موضوع علم الأصول - لفظي بين كلٍ من صاحب القوانين وصاحب الفصول وصاحب الكفاية وصاحب الأصول وغيرهم، «رحمة اللّه تعالى عليهم»؛ نظراً لاتفاق الكل على معنى واحد وهو: جملة ما بين دفتي الكتب الأصولية، أو المباحث المرتكز في أذهانهم أنها من الأصول أو ما أشبه.
وذلك لأنه: لا إتفاق على كون كل ما بين دفتي الأصول، من مسائله، بل الخلاف كبير، والآراء مختلفة بين عدّ كثير من بحوثه، مسائل، أو مبادئ تصورية أو تصديقية، أو مقدمات، أو استطراداً.
وأما «الإرتكاز» فمختلف عندهم، أيضاً، كما يظهر لمن راجع تصريحاتهم وخلافهم حول الكثير من البحوث، نعم قد يستند إليه أحياناً للإشكال على الخصم، لكنه ك«الإنصراف» مما إذا وصل الأمر إليه، انقطع الاحتجاج عادة أو كثيراً ما.
سادساً: أنه على ضوء «التحديد»(1)، تخرج جملة من مباحث الأصول عنه، وتدخل جملة أخرى، ثم إنه لولا «التحديد»، لتوسع علم الأصول بدون حساب أو ضابطة، فالتعريف هو «الضابطة» التي يرجع إليها، وهو المقياس المعتمد.
ولذا نجد أن مثل مبحث «حجية خبر الواحد» و «الشهرة» و «الإجماع المنقول» مع كونه من عمدة مباحث الأصول، لكن تحديد موضوعه ب- «الأدلة
ص: 78
الأربعة من حيث الدليلية» يخرجها عنه(1)، فيضطر الأصولي إلى عدها من «المبادئ التصديقية»، لا من المسائل.
وبذلك: يقع التدافع بين مرتكزه بكونها مباحث أصولية، وبين تعريفه، ف«التعريف» يُعين على تأكيد «المرتكز» وتوضيحه، وعدم حصول تدافع معه، بل وعدم رفع اليد عن «الإرتكاز».
ص: 79
ص: 80
ص: 81
ص: 82
ص: 83
ص: 84
وأما الدليل فقد ورد في لسان الشارع أيضاً.
قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.(1) وقال سبحانه ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾.(2) و«الدليل» - لغة - هو «ما يستدل به» و«الدليل: الدالّ»(3) و«الدليل»: «البرهان والمرشد» و«دل إلى الشيء وعليه: أرشده وهداه»(4)، فظاهر معنى الآية الشريفة «هل أدلكم» أي هل أرشدكم، وأهديكم إلى تجارة... فهي «دلالة» على الشيء، وإشارة إليه.
لكن قد يقال إنها ظاهرة في «المعنى الثاني»، وهو «الكاشفية»، ف«هل أدلكم» يعني: هل أكشف لكم عن تجارة، ونظير ذلك يقال حول المعنى الأول.(5)
لكن يرد عليه أن الدليل على الشيء هو المرشِد والمشير إليه، والدلالة: الإرشاد والإشارة، ويلزمه الكشف والكاشفية والاحتجاج وصحته، أو هما مصداقه - فتأمل.
ص: 85
وأما «المعنى الرابع» وهو «المنجزية والمعذرية» و«المعنى الخامس» وهو «لزوم الإتباع» فهما مما يلزم الدلالة والدليل، كما يدل على هذا اللازم أيضاً قوله تعالى «تنجيكم من عذاب إليم».
ويمكن أن تنطبق الآية الكريمة على «المعنى السادس» الذي ذهب إليه الميرزا النائيني قدس سره فإن الطرق والأمارات «أدلة»، وهي مرشِدة وهادية وبراهين على الشيء.
وعلى «المعنى السابع» - الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره - أي «الأوسط» في القياس، بأن تقول: «هذا(1)
- كشؤون المبدأ والمعاد وكالجهاد وكالتبليغ الجهادي أو الجهاد بالسمعة والمال - مما يجب الإيمان به أو العمل به، وكل ما وجب الإيمان به أو الجهاد به، ينجي من عذاب أليم، فهذا ينجي من عذاب أليم» فالمعنى السابع مصداق له، فهو تفسير بالمصداق - ونظيره المعنى السادس - وليس أي منهما معنى له، أي ليس معنى ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ هل أذكر لكم «الأوسط» الذي هو علة لإثبات الأكبر للأصغر!
لكن قد يقال: إن ما ذكر من «القياس» لا ينطبق على الآية؛ إذ ينبغي أن يكون «الإيمان باللّه ورسوله» أو «الجهاد» هو الأوسط لا وجوبه، فإنه ما دل عليه اللّه، فاللازم «هذا - كالتسليم له أو التوكل عليه - إيمان باللّه، وكل إيمان باللّه منجي، فهذا منجي»، و«هذا - كالهجرة في سبيل اللّه - جهاد في سبيل اللّه، وكل جهاد منجي، فهذا منجي».
وفيه أن «الأوسط» في القياس المذكور أولاً، ليس الوجوب بل كان «ما يجب الإيمان به» وهو متعلق الوجوب، نعم في أحد القياسين قد جعل «الإيمان» أوسط - وذلك في القياس الثاني - وفي الآخر - المذكور أولاً - قد جعل متعلق الإيمان
ص: 86
- كالتسليم والتوكل - أوسط، وعلى أي فكلاهما صحيح، في البرهان.
وقد يقال: إن «أدلكم» أجنبي عن «الأوسط» بالمرة؛ فإنه المدلول(1) وليس الدليل! والدال هو نفس قوله تعالى هذا، فلو أريد كون «تجارة، وتؤمنون» «الأوسط» لما نفع؛ لأنه المدلول لا الدليل، عكس الكاشفية؛ فإنها تفسير ل«أدلكم»، وليس مدلولاً لها ومتعلقاً لها هذا.
وأما إرادة كون «أدلّكم» هو الأوسط، أي هل أجعل «كلامي هذا» ودلالتي هذه «أوسط»! فلا تخلو من تعسف؛ فإنها خلاف ظاهر الآية جداً.
ثم إن الظاهر هو أن «الدليل» في هذه الآية المباركة قد استعمل في الأعم من شؤون العقيدة والشريعة والأصول والفروع؛ إذ «الإيمان باللّه ورسوله» أصل من أصول الدين و «الجهاد» فرع من فروع الدين.
كما أن من الملاحظ في الآية الشريفة استخدام الدليل في «الموضوع» لا «الحكم» كما جرى عليه مصطلح الأصوليين؛ فإن المدلول عليه في قوله تعالى «أدلكم» هو «الموضوع» وهو «الجهاد» و «الإيمان» وليس حكمه «وهو الوجوب»، خاصة بملاحظة أن «الجهاد» وكذا «الإيمان»، هو الذي ينجي من عذاب أليم وليس وجوبه.
ولا مجال لتوهم أن الآية الشريفة(2) دلت على الموضوع بلحاظ حكمه؛ فإن «فعله» أي أن نفس الجهاد والإيمان، هو المنجي، لا «الفعل بلحاظ وجوبه»،
ص: 87
فإنه لو لم يلحظ وجوبه، بل لو لم يكن واجباً، لما أخلّ ذلك بكونه منجياً.
نعم قد يقال إن الإنشاء استفهامي، لكنه في مقام الإنشاء الأمري «فهل أدلكم» تفيد عرفاً إنشاء وجوب ما دلّنا عليه، ولذا قال في مجمع البيان: «صورته صورة العرض، والمراد به الأمر، على سبيل التطلف في الاستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة».(1)
أو يقال إن: «تؤمنون باللّه ورسوله» إخبار في مقام الإنشاء. فتأمل؛ إذ الأخير خلاف الظاهر، وسابقه أجنبي عن كون متعلق «الدليل» هو «الحكم» أي كونه هو المشار إليه، به، بل يؤكد كون «الموضوع» هو المتعلق، ويوضح فرق هذين الوجهين عن ما سبق التأمل فيه «وهو الدلالة على الموضوع بلحاظ الحكم» أن ذلك كان بدعوى أن «أدلكم» مصبّه «الحكم» بدعوى أن «الموضوع» - وهو المدلول عليه بالصراحة في الآية وهو الإيمان - ناظر إلى حكمه، وما ذكرناه هنا هو أن هو صيغة الاستفهام، أو صيغة الإخبار، هي الدالة على الحكم.
والحاصل أن الآية دليل على استخدام «الدليل» في الموضوعات، ومن الظاهر عدم كونه استخداماً مجازياً، كما لا شك في صحة استخدامه في «الدليل» على «الأحكام» كخبر الواحد؛ فإنه دليل الوجوب مثلاً.
وعلى هذا فإن استخدام «الدليل» ك«الحجة»، في الأعم من «الطرق» و«الأمارات»، لا بأس به، ولا بأس باصطلاح جعله قسيماً للأمارة، بقَصْرِهِ على الدليل على الحكم، عكس «الأمارة» التي لا تصلح لاستخدامها في مورد «الأحكام» إلا بلحاظ أصل المعنى اللغوي، والذي بناء عليه يصح استخدامها للأصول العملية أيضاً - وسيأتي تفصيله بإذن اللّه تعالى.
ص: 88
وقال الإمام الكاظم «عليه سلام اللّه»: «يا هشام! إن اللّه تبارك وتعالى، أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة».(1)
وظاهر قوله «عليه سلام اللّه» «دلّهم» في الرواية - كالآية - هو «أرشدهم»، والأمر في «المعنى الثاني»، كما سبق.
نعم «الأدلة» بما هي هي، أعم من المعنى «الأول» و«الثاني» و«الرابع» و«الخامس» و«السادس» و«السابع»، «أي الأوسط» في القياس، ومن «القياس المتألف من صغرى وكبرى»، ومن الدليل الفطري والعقلي والعقلائي، وكلها مصداق الدليل بالمعنى الأول والثاني، أو لازم(2)،
كما سبق، ثم كل هذه المعاني مصداق «الدليل» بمعنى المرشد، أو لوازمه، بما فيها المعنى الأول.(3)
لكن ظاهر السياق كون المراد ب«الأدلة» هو نفس ما أفاده «دلَّهم» - فتأمل.
بل إن «الأدلة» تشمل «الأدلة التكوينية»، أي ما دل بذاته على صانعه، دلالةَ «الشيء» بنفسه وخصوصياته على خالقه وصفاته، فإنها كاشفة عنه تكويناً.
لا يقال: هذا غير المصطلح عليه في معنى «الكاشفية» المراد بها ما هو صفة للعلم أو ما هو عينه - على قول -.
إذ يقال: غاية الأمر أن الكاشف ينصرف إلى ذلك، بدواً - لكثرة الإبتلاء
ص: 89
-بل حتى لو فرض أنه «اصطلاح» لهم في العرف الخاص، بالوضع التعيّني، فإنه ليس كذلك في العرف العام، والرواية جارية عليه، وعلى هذا فالمعنى الحقيقي للكاشف، في عرف الشارع والمتشرعة باقٍ على نفس معناه اللغوي، فيشمل «الكاشف»: الكاشف بذاته عن شيء مما ليس «علماً»، وذلك ككاشفية «الممكنات»، عن عللها، بل وعن معاليلها ولوازمها - حسب مسلكهم - كما يشمل «العلم» أي الصورة الحاصلة من الشيء لدى الذهن أو الكيف النفساني - على قولٍ -.
وغير خفي أن الرواية هي في مورد أصول الدين، إلا أنه من الواضح أن استخدام «الدليل» فيها هو استخدام له في المصداق، لا أنه الموضوع له.
وبعبارة أخرى: إن «الدليل» قد يطلق ويراد به الكاشف، ف«العقل دليل»، يراد به أنه كاشف عن الواقع، و«خبر الواحد» أو أي ظن معتبر آخر «دليل»، يراد به أنه كاشف عن الواقع، وإن كان بالكشف الناقص المحتاج إلى متمِّم، من بناء العقلاء و إمضاء الشارع. ف«دليل» أي «كاشف»، وهو أعم من الكشف التام «وهو الأصل فيه» أو الناقص.
وقد يقال: إن هذا هو الأصل من معانيه، كما أن «ما يحتج به المولى على العبد، أو العبد على المولى» كان هو الأصل من معاني «الحجة»، فالكاشف محمول على «الدليل» بحمل هو هو لا حمل ذو هو، أي بالحمل الذاتي الأولي لا الشائع الصناعي - فتأمل.(1)
ص: 90
وقد يطلق «الدليل» ويراد به ما يقرب من المعنى الثامن(1)،
أي «الباعثية والمحركية التكوينية» أو «الإيجاد تكويناً» كقوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾(2)، وك«العلم الفعلي»(3) ومن الواضح أنه لو أريد أي من المعنيين، فإنه لا يرتبط بعلم الأصول بوجهٍ.
لكن الظاهر أن «الدليل» هو «الكاشف» أو نظائره من المعاني، لا «الموجد» أو «المحرك» حتى في الآية.
توضيحه: أن دعوى كون «دليلاً» في الآية الشريفة بمعنى «الموجد» أو «المحرك»؛ لقرينة المتعلَق، يرد عليها: أنه مبني على كون «الشمس» موجدِةً للظل وهو غير صحيح فإن الشمس «كاشفة» عن الظل، لا موجدة له ولا محرّكة، وظاهر الآية أن الشمس «مرشد» ودليل ودال وعلامة، أو المعنى الثاني، لا الإيجاد ولا المحركية، ويراد بكونها «كاشفة» «الدلالة التكوينية»؛ لكون الشمس بذاتها دليلاً وكاشفاً عن الظل، لا بجعل جاعل؛ فإن جعل كاشفيتها هو بعين جعلها.(4) وقوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ هو بعين جعلها بالجعل البسيط، لا أنها «أي الدلالة» جعلت للشمس بالجعل المركب فتأمل(5) فتكون الشمس - في الجواهر - كالعلم - في الأعراض - مما كاشفيتها لازمة لذاتها..
ص: 91
توضيح ذلك:
أنه قد ثبت في العلم الحديث: أن «الظل» موجود حتى في الظلام، لكنه لا يُرى، والشمس «دليل لنا عليه» وكاشف عنه؛ فإن الظل هو أثر الطاقة «الحرارة أو الأمواج المنطلقة من الأجسام» بل هو نفسها، وهي موجودة ليلاً ونهاراً. لكن الرؤية لا تتم إلا بسقوط أشعة الشمس على الجسم، فيظهر ظله في الجانب الآخر.
وهذا هو ظاهر الآية الشريفة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾(1) فإن قوله تعالى ﴿كيف مد الظل﴾ ثم قوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ ظاهر في مرحلة الثبوت ثم الإثبات، وأن الشمس ليست موجدة للظل، بل هي دليل عليه وكاشف عنه، فالظل إذن موجود حتى في الظلام؛ نعم لا «دليل»(2) لنا عليه في مرحلة الظاهر عندئذٍ، لا أنه سينعدم في متن الواقع ونفس الأمر.
وربما يستفاد من ﴿كَيْفَ مَدَّ﴾ و ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ﴾ أن هنالك في مرحلة الثبوت والواقع، للظل، مداً وجزراً، أو أنَّ للأمواج والحرارة الصادرة عن الجسم، مداً وقبضاً، فما قبل ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ وكذا ما بعده إشارة للواقع والثبوت، و ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا﴾ إشارة بين قوسين للإثبات - فتأمل.(3)
كما أن قوله تعالى ﴿ولو شاء لجعله ساكنا﴾ ربما يراد به جعله ساكناً، بحجب أمواج الأجساد عنه.
ص: 92
كما قد يراد ب«الدليل» المعنى المراد من «الأمارة» في قبال «الأصل»(1) - حسب جري الكفاية -.
وقد يراد به «الأوسط» في القياس.
وقد يراد به «القياس» المتركب من صغرى وكبرى، والمنقسم إلى دليل نقلي، وعقلي مستقل، وعقلي غير مستقل، كقولك في النقلي المحض «الماء المشكوك في طهارته طاهر، وكل طاهر يجوز شربه أو الوضوء به، فالماء المشكوك كذلك».
وقولك في العقلي غير المستقل: «جواز التدخين أو شرب التبغ مظنون البقاء، وكل مظنون البقاء، باق، بحكم العقل».
وقولك في العقلي المستقل: «العدل حسن، وكل حسن واجب، فالعدل واجب».
ولا يخفى أن «القياس» المنطقي بأقسامه، مصداق من مصاديق «الدليل».
وأما «المنجزية والمعذرية» فهي مما لا يستفاد من لفظ «الدليل»، وإن كانا من آثاره وأحكامه، عكس «الحجة» التي قد يقال بأنه يسبق منها ذلك، وإن كان بلحاظ اللازم، ولعله منشأ توهم وضع «الحجة» للمنجز.
ص: 93
الظاهر أن قصر استخدام «الأمارة» على «الموضوعات»، هو الأولى؛ وذلك:
أولاً: لورودها في الروايات - فيما استقرأت - في موطن الموضوعات، ولم ترد في الأحكام، ومنها قول الإمام علي «عليه سلام اللّه»: «أمارة السعادة إخلاص العمل»(1) و«السعادة» موضوع، وأمارته وعلامته إخلاص العمل.
وقال «عليه السلام» «خفض الصوت وغض البصر ومشي القصد، من أمارة الإيمان وحسن التدين(2)» و«الإيمان» موضوع وكذا «حسن التدين»، والأول جوانحي، أما الثاني فلعله موضوع جوارحي، أو أعم، وأمارتهما ما ذكره «عليه سلام اللّه» من تلك الأعمال.
وفي الرواية: «وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله، ويحمى عليها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثّتكم بأمرنا ونهينا» (3) وأزوف الحركة - أي اقترابها - موضوع خارجي، ومثلها المباثّة.
ص: 94
وورد: « ذكرت «حميدة» أنه «صلوات اللّه عليه» سقط من بطنها حين سقط، واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء. فأخبرتها أن ذلك أمارة رسول اللّه وأمارة الوصي من بعده(1)» وكونه «رسول اللّه» أو «الوصي من بعده» موضوع، أمارته ما ذكر.
وفي الأمالي للطوسي «رحمه اللّه تعالى» «كانت أمارة المنافقين، بغض علي بن أبي طالب» (2) وكونهم منافقين، «موضوع» أمارتُه بغض أمير المؤمنين «عليه السلام».
وفي حديث «المباهلة» مع القوم: «... وإن أتاكم بنفر قليل ذوي تخشع، فهؤلاء سجية الأنبياء وصفوتهم وموضع بهلتهم، فإياكم والإقدام إذاً على مباهلتهم، فهذه لكم أمارة وأنظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينه».(3) ف«مجيؤهم بتلك الخصوصيات "أمارة على أنه نبي".
ونقل عنه «صلى اللّه عليه وآله» أنه قال: «وإن هذا الدين قد تم وأنه صائر إلى نقصان، وان أمارة ذلك: أن تتقطع الأرحام، ويؤخذ المال بغير حقه، وتسفك الدماء...»(4) وتقطع الأرحام وأخذ المال بغير حقه، علامة وأمارة «الظهور» وهو موضوع.
والتقيّد مهما أمكن بما ورد في الآيات والروايات - حتى في استخدام الألفاظ والمصطلحات بنفس معانيها المرادة منها فيها - هو الأولى؛ لجهات كثيرة، أشرنا لبعضها سابقاً، ولعلنا نفصلها ونذكر غيرها في موطن آخر، لكن نضيف هنا: أن من وجوه لزوم «التأسّي»:
ص: 95
حسن ورجحان «الأسوة» و«الاقتداء»، بل وجوب ذلك في الجملة، قال اللّه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(1) وقال جل اسمه ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ [ إبراهيم والذين معه] أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾(2) واستفادة «الوجوب» إما بدعوى أنها جملة خبرية في مقام الإنشاء، وإما لما ذكره الميرزا الشيرازي من «الأصل» في «الجمل الخبرية» لو ترددت بين الوجوب والندب، بعد قيام صارف عن إرادة الإخبار، كما فصله في تقريراته الروزدري، ونقلناه عنه في مباحث الأصول - القطع، أو لغير ذلك(3)، والرسول «صلى اللّه عليه وآله» كان يُغيِّر حتى أسماء الأشخاص إلى أسماء أخرى، ك«صخر» و«حرب» و«صعب»، إلى «سهل» أو «حسن» أو ما أشبه ذلك.
و«الأسوة» و«التأسي» كما يشمل الأصل والفعل، يشمل الكيفية والخصوصية أيضاً، للتبادر ولصحة السلب؛ فإن من خالف في الكيفية والخصوصية، لا يطلق عليه أنه تأسى واقتدى - من هذه الجهة -.
ومن أظهر مصاديق التأسي: استعمال اللفظ كما استعملوه وفيما استعملوه؛ فإن الأسوة هي «الائتمام» و«الإتباع».(4)
وقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: «كنت أتبعه إتباع الفصيل أثرَ أمه».(5)
وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن لكل مأموم، إماماً يقتدي به، ويستضيء
ص: 96
بنور علمه».(1)
وقال عليه السلام: «فلما أفضت «أي الخلافة» إليّ، نظرت إلى كتاب اللّه وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به، فاتبعته، وما استنَّ النبي فاقتديته».(2)
وقال عليه السلام: «وإن شر الناس عند اللّه إمام جائر ضَل وضُل به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيى بدعة متروكة».(3)
وقال عليه السلام: «أنظروا أهل بيت نبيكم، فألزموا سمتهم «أي طريقهم» واتبعوا أثرهم».(4) و «فألزموا السنن القائمة والآثار البينة، والعهد القريب الذي عليه باقي النبوة».(5) وللبحث عن «الأسوة» مجال آخر، فلنكتف بهذا القدر.
وثانياً: لأن «الأمارة» في اللغة هي بمعنى: العلامة والوقت، و«العلامة» هي «المشير»، وقد يجعل المباين علامة على المباين، أما «الحجة» فهي «ما يحتج به المولى على العبد أو العكس»، و«المنجز والمعذر» وشبههما - كما سبق - ف«الحجة» بهذه المعاني، ألصق «بالأحكام» منها بالموضوعات، عكس «الأمارة» فإنها ألصق بالموضوعات، منها بالأحكام، بل لعل العرف لا يستسيغ استعمالها للدلالة عليها، فإطلاق «الأمارة» على «الدليل على الأحكام» لا يخلو من تكلف في الذوق السليم - فتأمل.
ص: 97
بل نقول: لو تمسك بالمعنى اللغوي للأمارة «وهو العلامة» لأطلق على «الأصل» أيضاً؛ إذ الأصول العملية أيضاً علامات على الوظيفة العملية، فلا وجه(1) لتخصيص الأمارة بما عداها.
وبذلك كله ظهر تمامية ما ذكره السيد العم «دام ظله» من «والعدول عما ذكره في الكفاية وغيرها من «الأمارات» إلى «الأدلة»؛ لأولويتها من وجوه، منها: عدم ورود "الأمارات" بهذا المعنى في الشرع ظاهراً، وورود "الأدلة" بهذا المعنى فيه»(2).
وقوله «دام ظله»: «الأمارات بهذا المعنى» يقصد «بهذا المعنى»: إما خصوص الدال على الحكم، أو الأعم من الدليل عليه والدليل على الموضوع، والأول هو الذي استخدمه المحقق الخراساني «قدس سره» فيه، ويشمل مثل خبر الواحد، والشهرة، والإجماع، والظواهر، وغيرها، كما هو عمدة مباحث «المقصد السادس»، أي خصوص الأدلة الاجتهادية، في قبال «الأمارات» بالمعنى الأخص، كالبينة واليد.
وقد أوضحنا أن التتبع في الروايات، أوصلنا إلى أن «الأمارة» لم تستخدم إلا في العلامات الدالة على الموضوعات، ولم تستخدم في موارد الأحكام، بل ربما يقال باختصاص استخدامها في الموضوعات الخارجية والعقدية، دون موضوعات الأحكام، فتأمل.
وأما قوله «ومنها عدم استخدام الفقهاء - رضوان اللّه تعالى عليهم - الأمارة في الجزئيات، فلا يقال ظاهر هذا الخبر أمارة على كذا، والإجماع أمارة على
ص: 98
الحكم الفلاني، أو الاستصحاب أمارة على الطهارة، وإنما يستخدمون الدليل والحجة».
فقد يتأمل فيه من جهة أن الفقهاء يستخدمون الأمارة في الجزئيات والموضوعات، والأمثلة كثيرة على ذلك.
ومنها: ما ورد في المسالك: «وقيّد الصدوقان، الحل «أي للصيد إذا وقع في الماء فمات» بأن يموت ورأسه خارج الماء، ولا بأس به؛ لأنه أمارة على قتله بالسهم إن لم يظهر خلاف ذلك» وهو تقييد لإطلاق موثقة سماعة «لا تأكل من الصيد إذا وقع في الماء فمات».(1)
وقال العلامة في التحرير «وظاهر كلام الشيخ في الخلاف: أن يصلي إلى أربع جهات مع السعة، ومع الضيق يتخير، ولو صلى من غير تقليد بل برأيه ولم يستند إلى أمارة، فإن أخطأ أعاد، وإن أصاب، على إشكال»(2).
وظاهرٌ هنا، استخدام العلّامة قدس سره ل- «الأمارة» في الموضوعات، وكونها جزئية.
وقال في التحرير أيضاً «ولو غاب القرص وبقي له أمارة الظهور، فأصح الروايتين: وجوب الإمساك حتى تذهب علامة ظهوره».(3)
وقال «وحكم ما زاد على إناءين حكمهما، في المنع من التحري، سواء كانت هناك أمارة أم لم تكن، وسواء كان الظاهر هو الأكثر أم لا».(4)
وقال الأصفهاني قدس سره في حاشية المكاسب، «وتحقيق المقام أن "الملكية"
ص: 99
إذا كانت من الأمور الواقعية والموضوعات الخارجية، فإن كانت "الأمارة" حجة من باب الطريقية المحضة، فهي لا توجب إلا العذر عند الخطأ؛ فالتصرف بالعقد الفارسي تصرف في مال الغير وهو حرام»(1) فتدبر.(2)
وقال في العروة: «فصل في القبلة: ويعتبر العلم بالمحاذاة - أي للقبلة - مع الإمكان، ومع عدمه، يرجع للعلامات والأمارات المفيدة للظن»(3).
ويمكن الذب عنه بأن الظاهر أن عبارة «في الجزئيات» غلط من الناسخ، والصحيح هو إرادته: «في الأحكام»؛ فإن الفقهاء لم يستخدموا «الأمارة» في «الأحكام التكليفية» وإن استخدموها في الموضوعات والجزئيات بكثرة.
ولا ينقض(4) بأنهم استخدموها في «الأحكام الوضعية» كالملكية والزوجية والرقية والعدالة - إذ يجاب: بأن استخدامهم للأمارة في الأحكام الوضعية، إنما هو في موارد الدليل على وجود مصاديقها «أي تحقق الملكية مثلاً» - وهي بهذا، موضوع وليست حكماً - ولعلنا لا نجدهم استخدموا الأمارة في الدليل على أصل ثبوت الحكم الوضعي، ومما يؤكد إرادته دام ظله «الأحكام»(5) تمثيله ب- «فلا يقال ظاهر هذا الخبر أمارة على كذا...» إذ كلها أمثلة للدليل على الحكم التكليفي أو الوضعي، وبقرينة دليله الأول: «منها: عدم ورود الأمارات بهذا المعنى في الشرع» فإن الظاهر: أن الاستدلال هو بعدم الورود في الشرع أولاً، وبعدم استخدام الفقهاء ثانياً، فما نفى استخدام الفقهاء له، هو نفس ما نفى وروده من الشارع، لا غيره.
ص: 100
نعم يبقى إن ظاهره تعميم عدم استخدام الفقهاء الأمارة حتى للحكم الوضعي(1) فيرد عليه: استخدامهم للأمارة فيه، كما سبق مثاله، ويجاب: بما سبق.(2)
وأما حديث السنخية «بخلاف الأدلة الشرعية، فإنه يلزم فيها نوع سنخية، خصوصاً على ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد؛ فهي نوع علل» ففيه تأمل؛ إذ لا تلزم السنخية بين الدال والمدلول عليه، وبين عالم الإثبات والثبوت، كما لا تلزم بين العلامة وذيها؛ إذ أية سنخية بين خبر الواحد مثلاً ومدلوله من الوجوب أو الحرمة أو الطهارة والنجاسة؟ ولو لزمت السنخية للزم القول بسنخيته مع كل من الوجوب والحرمة معاً، وهو كما ترى.
كما لا ربط لما عليه العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، بالمقام؛ إذ «الحكم الواقعي» تابع لمصلحةٍ ومفسدةٍ في المتعلق، لا «الدليل»(3) عليه.
والأدلة ليس عللاً للأحكام ولا نوع علل، بل هي علة العلم بها، فقط فلا فرق من هذه الجهة بين «الدليل» و «الأمارة» فلم يتم «مع أن الأمارة بمعنى الوقت والعلامة، وهما لا يجب فيهما السنخية لما هو علامة له، بل قد يجعل الضد علامة لضد آخر كما في باب التقية يجعل «لا» علامة لنعم وبالعكس، بخلاف الأدلة الشرعية فإنه يلزم ...الخ»(4).
ص: 101
وأما «الطريق» فقد ورد في بعض الآيات الشريفة:
فمنها قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.(1)
والظاهر أن معنى «الطريق» «السبيل» و«الموصل» أو «المؤدي إلى شيء» فهو حقيقة عرفية فيه، ولذا يتبادر من «الطريق إلى مكة» مثلاً: ما يؤدي إلى مكة، وكذا «الطريق إلى اللّه» أو «الطريق إلى النجاح»، بل لعله المتبادر لغة منه، وإن ذكر اللغويون ل«الطّرْق» معاني أربعة(2): «الإتيان مساء» و«الضرب» و«استرخاء الشيء» ومنه: أطرق إلى الأرض أو أطرق بنظره، و«خصف شيء على شيء»، وعلى ذلك فإن الطريق سمي طريقاً، إما لكونه مأتياً كثيراً، أو لأنه يطرق بالأرجل ويدق، أو لاسترخاءه وانقياده، أو لكونه يعلو الأرض، فكأنها قد خُصفت به(3)، والأظهر الثاني.
وعلى أي فإن «الطَّرْق» وإن كان بنحو الاشتراك، ذا معاني أربعة - فتأمل(4)، إلا أن الظاهر أن «الطريق» موضوع ل«السبيل» إبتداءً وبوضع مستقل، أو بالوضع التعيني، ولعله الأظهر(5)، وعلى أيّ فإنه منصرف إليه دون ريب، ولعله منقول
ص: 102
إليه في العرف، من «المطروق» بعلاقة أن «الموصِل» لازمه، ف«العلم» طريق و«الإيمان» طريق و«الشارع» طريق، والمراد في الكل:
الموصل للشيء، وإن كان وجه تسميته بالطريق هو كونه مطروقاً أو غيره مما سبق، فهو فعيل بمعنى مفعول.
وهل وصفه ب- «مستقيم» عطف بيان؛ لأن الطريق غير الموصل ليس بطريق، بل هو متوهم الطريقية، وإطلاق الطريق عليه مجاز بعلاقة المشاكلة؛ ولأن الظاهر أن المراد ب«المستقيم» الموصل، لا المستقيم الهندسي المقابل «للمنحني أو المتعرج وإن أوصل». الظاهر: لا بل هو قيد احترازي؛ إذ أريد بالمستقيم الموصل من غير تعرج.
نعم لو أريد ب«المستقيم»، ما يقابل غير الموصِل، كان «عطف بيان» فتأمل.
وليس «الكاشف» معنى ل«الطريق»، غاية الأمر أنه يدل عليه بالدلالة الإلتزامية(1)؛ إذ «الإيمان» و «الصبر» و«الصلاة» طرق إلى الجنة، لكن لا دلالة له - بمنطوقه - على الكاشفية، نعم بعض مصاديق الطريق ك«العلم» الذي هو طريق - إثباتاً - للمعلوم، هو عين الكاشفية(2)، لكنه كذلك بالحمل الشائع الصناعي، لا الذاتي الأولي - فتأمل.
ولا «ما يحتج به المولى على العبد أو العكس» - وهو المعنى اللغوي للحجة
ص: 103
كما سبق -.
ولا «المنجز والمعذر» - وهو المعنى الذي ارتضاه الآخوند قدس سره، للحجة -؛ فإن «الجادة» مثلاً طريق، ولا معنى لوصفها بهما. نعم بعض الطرق(1) منجزه ومعذره.
ولا «المحرك»(2) فإنه أجنبي عنه، نعم في الطريق اقتضاء المحركية سواء كان طريقاً تكوينياً كالشارع، أم كان طريقاً تعبدياً كخبر الواحد - فتأمل.(3)
ولا «ما يلزم الحركة على طبقه»، نعم بعض الطرق كذلك، فهو «عرض مفارق».
أما «الأوسط» - وهو المعنى الذي ذكره الشيخ قدس سره للحجة - و «مجموع الصغرى والكبرى» أو «التصديقات المعلومة الموصلة لتصديقات مجهولة» فهو من مصاديق «الطريق» الإثباتي؛ فإنها طرق لإثبات المطلوب. وكذلك الحال في «الأدلة الشرعية التي تقع أوساطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي».(4)
كانت ل«الولاية» الموضوعية من جهة أخرى، بل «وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية»، بل ظاهر «طريق مستقيم» هو الطريق الموصِل للجنة أو إلى رضوان اللّه تعالى، وذلك شامل للقسمين، ولا يضر بذلك كون أحدهما طريقاً للآخر؛ إذ لا مانعة جمع بين كونه طريقاً وكونه طريق الطريق؛ فإن «الولاية» بذاتها طريق رضى اللّه والجنة، وهي طريق معرفة طرق الجنة «كالصلاة والحج» كما هي طريق كون تلك طرقاً للجنة؛ وإلا لما كانت طرقاً(1)، فإن «الأعمال» لا تقبل إلا بالولاية، ولذا: «ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية»(2)،
فلا يقال: ظاهر الآية هو «الأول» بقرينة «يهدي»، أو «الثاني» فإن القرآن يهدي إلى «الولاية» بقوله: «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا..» وغيرها، وهي الطريق إلى الأحكام الصائبة، والموضوعات النافعة، التي هي الطريق - بدورها - للجنة، أو نقول «يهدي إلى طريق مستقيم» فهو طريق للطريق، وعلى أي فإن استعمال اللفظ في أحد مصداقيه أو مصاديقه، بالقرينة، لا بأس به، وليس دليلاً على «الوضع» له، كما لا يخفى.
والظاهر شمول «طريق مستقيم» للأصول والفروع، وما يتعلق بأحكام الجوانح والجوارح؛ فإن القرآن يهدي إلى «طريق مستقيم» لا فيما يرتبط بالعقيدة فقط، بل فيما يرتبط بأفعال المكلفين أيضاً، كما لعله يدل عليه أيضاً قوله تعالى في الآية اللاحقة ﴿يا قومنا أجيبوا داعي اللّه وآمنوا به..﴾ فإنه صلوات اللّه عليه داعٍ لله في العقيدة والشريعة، والأصول والفروع، وأحكام الجوانج والجوارح.
ص: 105
و«الإنصراف» لخصوص الأوائل منها، لو كان، فبدوي، فتأمل؛ إذ الظاهر ظهور الآية في الشمول والعموم؛ فإن «الكتاب» كذلك، وكذا «الحق» بل لو فرض الإنصراف، فإنه في خصوص الآية الشريفة بلحاظ السياق أو مصب الكلام، وذلك لا يوجب إنصرافاً للفظ «طريق مستقيم» كما لا يخفى.
والأمثلة والشواهد على الطريق المستقيم في «الفروع» كثيرة، وذلك: كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾(1) لا إلى الغروب، فإن إتمام «الصيام» إلى الليل هو «الطريق المستقيم»، لا إلى الغروب.
وكقوله جل اسمه ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(2) ولعله ظاهر في تعدد الطلاق ثبوتاً وإثباتاً وعدم صحة طلاق الثلاث دفعة واحدة، فإنها تقع «مرة واحدة»، كما هو المشهور وهو الذي جعله الشرائع أشهر الروايتين(3)، فالطلاق مرتان، ثم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، هو «الطريق المستقيم».
وكقوله سبحانه: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(4)؛ فإن ظاهر «يريد» كون «اليسر» إلزامياً، لا تخييرياً، فعدم الصوم عزيمة لا رخصة، ويؤكِّده «ولا يريد بكم العسر»، فتركه هو «الطريق المستقيم» وفعله «طريق منحرف».
ص: 106
والمراد من «الطريق المستقيم» هو ما كان كذلك ثبوتاً؛ فإن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، ثم إنه(1) قد ينكشف بالعلم وقد ينكشف بالعلمي؛ فإنه قد ينكشف بالنص القطعي السند، وقد ينكشف بالظاهر، وقد ينكشف بالمقطوع الحجية، وقد ينكشف بالمظنون الحجية لكن بالظن المعتبر شرعاً، فهو مقطوع الحجية بهذا اللحاظ، أي أنه بلحاظ «المنجزية والمعذرية»، مقطوع الحجية، لدلالة الدليل الشرعي على حجيته - مع فرض كون الدالّ قطعياً - وبلحاظ «الكاشفية» عن الواقع مظنون الحجية، وذلك ك«الظواهر» وك«الخبر الواحد» وما أشبه.
وبذلك ظهر أن المنكشف من «الطريق المستقيم» بالاجتهاد، مشمول للأدلة الدالة على وجوب إتباع الطريق المستقيم، من عقلية ونقلية.
ويتضح ذلك بالمثال الآتي، من باب الخمس، فإن «بعض الأحكام» المستنبطة من آية الخمس قد يكون قطعياً وبعضها قد يكون استظهاراً، فللفقيه المستظهِر أن يعتبره «الصراط المستقيم» في هذه المسألة، بل هو يعتبره كذلك فعلاً.
فقد قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ﴾(2) فإنه ظاهرٌ لغةً، ولصحاح الروايات في مطلق الغنيمة لا غنائم دار الحرب فقط، فالتخميس من مطلق الغنيمة - ومنه أرباح المكاسب - هو «الطريق المستقيم»،
ص: 107
وهذا مما لا شك فيه.
وكذلك فإن من «الطريق المستقيم» الحكم بكون الخمس «لله والرسول وذي القربى» حقاً أو ملكاً؛ لمكان اللام، لا حكماً فقط، بل لعل منه أنه لا يدخل في ملك الشخص، لا أنه داخل في ملكه وقد تعلق به الحق فقط، فهو حق - بل ملك - يستلزم حكماً، لا أنه يراد به الحكم فحسب.
وهو الظاهر من الروايات، كقول الإمام الصادق «عليه السلام»: «إن اللّه لا إله إلا هو؛ حيث حرم علينا الصدقة، أنزل لنا الخمس» (1) وظاهر «أنزل لنا الخمس» أنه بنفسه أنزل، لا أن حكمه أنزل، أي أنه أنزل لنا نفس هذا الحق والملك. ولو قيل بكونه مجازاً، فإنه أقرب من مجاز إرادة «الحكم» ف«أنزل لنا الخمس» أي: ملكية الخمس، وليس حكم وجوب دفعه لنا.
إلا أن يستشكل بظهور قرينة مقابلة «حرم علينا الصدقة» في كون «أنزل» حكماً تكليفياً كذلك، وفيه أقوائية ظهور «أنزل» من «حرّم» فتأمل.
ويؤكده أن «الرزق» ينزل من السماء، قال تعالى: ﴿رزقكم في السماء وما توعدون﴾ وملكية «الخمس»، رزق من اللّه تعالى.
وقول الإمام الباقر «عليه السلام»: «لا يحل لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقنا» (2) وظاهر «حقنا» هو ملكهم له، ولا أقل من ظهوره في الحكم الوضعي(3)،
بل لعله نص فيه.
وقوله «عليه السلام» في خبر أبي بصير قلت لأبي جعفر: ما أيسر ما يدخل به العبد
ص: 108
النار؟ قال: «من أكل من مال اليتيم درهماً ونحن اليتيم» (1) والظاهر منه أن الخمس هو مال اليتيم، لا أنه مال المالك وعليه واجب إعطاء اليتيم شيئاً.
وكخبر حماد «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص والكنوز والمعادن والملاحة» (2) فإن الظاهر من «مِن» هو تعلقه بالعين، فإنها للتبعيض.
وكخبر ابن أبي عمير «الخمس على خمسة أشياء» لمكان تعلق «على» بنفس «خمسة أشياء»(3)، هذا.
ومن «الطريق المستقيم» الحكم بكون «الخمس» متعلقاً بالعين لمكان الضمير(4) كما عليه المشهور(5) وليس متعلقاً بالذمة، ولا هو كحق الرهانة، ولا كحق الجناية.
نعم كونه متعلقاً بالعين، وكونه «لله والرسول وذي القربى ...»، أعم من كونه من قبيل الكلي المشاع أو الكلي في المعين فلا ظهور للآية في أحدهما.(6) وإن كان قد يفصل بالظهور بلحاظ المتعلق: فلو قال: خمس الدار له، فظاهره المشاع. ولو قال خمس الصبرة له، فظاهره الكلي في المعين، وكليُّه: التفرقة بين الكل ذي الأجزاء، والكلي ذي الجزئيات - فتأمل.
وتفصيل البحث في الخمس، وأنه: ملك أو حق، كحق الرهانة أو حق الجناية أو غير ذلك، في كتاب «فقه الخمس» - الجزء الأول.
وعلى أي فإن الشاهد أن من استظهر من الآيات أو الروايات، شيئاً،
ص: 109
فإنه يعتبره «طريقاً مستقيماً».
لكن هل تشمله الآية الشريفة؟ مع لحاظ كون الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية؟ الظاهر نعم، في صورة الإصابة، ولا، في صورة العدم، إلا أنه معذر، وهذا هو فرق «الحجج» عن غيرها.(1)
كما أن «طريق مستقيم» يشمل «الأحكام» و«الموضوعات»؛ فإن القرآن الكريم هدانا للطريق المستقيم، موضوعاً كان أو حكماً، كما يشمل «الطرق» إليهما.
فالموضوعات كقوله تعالى: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾(2).
والآية صريحة في أنه «يدلّنا» على «تجارة تنجيكم من عذاب أليم» و«التجارة» موضوع، وكذا ما فسرِّت به وهو «الإيمان» و «الجهاد» فإنهما «موضوعان» كذلك، وهي «الطريق المستقيم» الذي «يؤدي بسالكه إلى الجنة» كما في مجمع البيان.
وكقوله تعالى ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾(3)؛ فإن «الهجرة» إلى اللّه ورسوله، «طريق مستقيم» للجنة ولرضوان اللّه تعالى، ولكي يقع أجره على اللّه، وهي مما يهدي إليه اللّه تعالى، و«وقع» تنزيلاً للمضارع المحقق الوقوع منزلة الماضي.
ص: 110
والقضية هي بنحو القضية الحقيقية، ولا حاجة للتنزيل في ماضيها.
ونظيرها قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾(1).
وكقوله تعالى ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(2)؛ فإن «الباقيات الصالحات»: «طريق مستقيم» إلى ما كان «ثواباً» عند اللّه، وإلى رحمته ورضاه، وهي «خير أملاً»، فالآية - كسابقاتها ولاحقاتها - من مصاديق «يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم».
وقوله تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(3)، ف«العمل الصالح» طريق مستقيم، للحياة الطيبة ولجزاءهم بأحسن ما كانوا يعملون، وهو «العلة المعدة» لكليهما، أو «المقتضي»، وشرطه «الولاية»؛ إذ لا تقبل الأعمال إلا بها(4)، بل قد يقال: بدون الولاية «ليس العمل صالحاً» وإن كان ظاهراً صالحاً، فالخروج عن الآية موضوعي.
فلا يقال: ظاهر الآية ترتيب الجزاء على المقدّم، من غير توقف على شيء آخر.(5)
ص: 111
ولو فرض عدم قبول ذلك، فنقول: ظاهر الآية - مع ذلك - المقتضي، لا العلة التامة؛ إذ لا ريب أن «العمل الصالح» لا يترتب عليه «الحياة الطيبة» مطلقاً وبدون شرط؛ فإن من الشروط «عدم الحبط» وعدم الإنحراف اللاحق، فلا شك أنه ليس علة تامة، وكما استفيد هذا الشرط من موضع آخر، يستفاد شرط «الولاية» من الروايات الصحاح الصراح والقرآن الكريم أيضاً، ومن العقل كذلك.
وقوله جل اسمه ﴿رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾(1)، و«الابتغاء من فضل اللّه» هو الطريق المستقيم، في قبال طلب الحرام، فإنه طريق غير مستقيم وهو طريق الضلال والإنحراف.
وأما «الأحكام» فكقوله تعالى ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾(2) في الواجبات، وكقوله تعالى ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً﴾(3) «في المستحبات» وكذا قوله جل اسمه ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(4).
هذا والأمر كذلك في مطلق «المستقلات العقلية» كقوله تعالى ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ﴾(5) وهو نظير أمر «الإطاعة» في البحث عن كونه «إرشادياً» كما لعله مشهور المتأخرين؛ لاستلزام «المولوية» الدور أو التسلسل أو غير ذلك، أو «مولوياً» كما
ص: 112
صرنا إليه(1)، نظراً للضابط الذي اخترناه في المولوي والإرشادي - وهو ما صدر من المولى بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته -.
وكذلك الحال في كافة المستقلات العقلية الأخرى كقوله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾(2) و ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾(3) بل حتى مثل: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾(4) فإن «الأكل من رزق اللّه»، مباح، وذلك مما يستقل به العقل(5) و«الإباحة» حكم، وليست عدم الحكم، فتحتاج إلى تشريع واعتبار.
والأكل من رزق اللّه حلالاً، هو طريق مستقيم لرضا اللّه تعالى وللجنة، وكذا الحكم ب«إباحته»(6) فإنه طريق مستقيم لإحراز رضاه تعالى، وكذا «الإباحة» بنفسها، فإنهما كالوجوب والحرمة طريقا التيسير أو المصلحة والمفسدة في المتعلق وإحرازها أو معرفتها، فتأمل.
وهل هو إرشادي نظراً للضابط الذي ارتآه بعض الأصوليين في «الإرشادي» وهو كل ما ورد في موطن المستقلات العقلية أو شبهه، أو هو مولوي؟ فصلنا ذلك في «الأوامر المولوية والإرشادية».
وأما «الشكر لله» فهو من المستقلات العقلية دون ريب، وهو الطريق المستقيم لزيادة النعم، وللرضا، والجنة، وكذلك قوله تعالى ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
ص: 113
إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1) و ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(2) فإن الأمر بالمعروف مما يستقل العقل بحسنه ورجحانه - الأعم من وجوبه - وكذا النهي عن المنكر، ومثلهما الصبر على المصاب.
لكن قد يقال: إن «الطريق المستقيم» هو نفس متعلق الأحكام في هذه الآيات، لا ذاتها؛ فإن «الطريق المستقيم» الذي يهدي إليه القرآن الكريم هو «إقامة الصلاة»، لا وجوب إقامتها. و «الاستجابة لله والرسول» و «العدل والإحسان»، لا الوجوب المستفاد من «يأمر»؛ فإنه يهدي إلى «العدل» الذي هو الطريق المستقيم للجنة. وكذلك «الوفاء بالعهد» و «الأكل مما رزق اللّه» إلى غيرها.
وقد يجاب بصحة إطلاق «الطريق» على «الأحكام»، بلحاظ كونها طريقاً لإحراز وجود المصلحة والمفسدة في متعلقاتها، وبلحاظ كونها طريقاً كاشفاً عن رضى اللّه وسخطه مثلاً؟
وقد يردّ بأنه وإن صح، إلا أن الظاهر أنه ليس المقصود في الآية الشريفة؛ فإن «يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم» الظاهر منه نفس «إقامة الصلاة» - ونظائرها - كما سبق، أو ما يؤدي إلى إقامتها أو معرفتها(3)، لا «وجوبها»، فإن الظاهر أن المراد هو «طريق مستقيم إلى الجنة» - وهو العمل نفسه لا حكمه - أو طريق مستقيم إلى رضا اللّه تعالى - وهو الإلتزام بالعمل بالحكم لا نفسه -،
ص: 114
نعم «الحكم» - إثباتاً - كاشف عن رضاه، لكن ظاهر الآية الشريفة «الثبوت»(1) - فتأمل.(2)
نعم «وجوبها» هو «الحق»، والدال عليه طريق مستقيم إثباتاً، كما أن الموصِل له «كنفس الصلاة» طريق مستقيم ثبوتاً.
والحاصل أن «الحكم» «طريق» بمعنىً، وليس «طريقاً» بمعنى آخر؛ فإنه بنفسه ليس هو «الطريق المستقيم» للجنة أو للرضا، ثبوتاً، وإن كان من حيث الدلالة والكاشفية عن وجود مصلحة في «متعلقه» وعن كون رضا اللّه تعالى فيه وكونه الطريق للجنة، طريقاً مستقيماً إثباتاً(3)، كما أن الدال عليه والكاشف عنه كذلك، فإنه «طريق مستقيم»(4) إثباتاً، وذلك كالعلم وخبر الواحد وظاهر الكتاب ونصه وما أشبه، كقوله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهْلِها﴾(5) و﴿أَقِمِ الصَّلاةَ﴾(6)
وقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(7)؛ فإن «علم علماء بني إسرائيل» طريق معرفة المشركين، أنه الحق، أو «العلم بعلمهم بذلك» طريق. وقال ﴿ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم﴾ فإن «التفقه» طريق معرفة الحكم، وكذا «الإنذار» طريق كشفه، والاستماع له طريق اكتشافه، ثم «الآية» إثباتاً طريق الطريق.(8) وما سبق بحاجة إلى تأمل، فتأمل.
ص: 115
وقد ظهر بما سبق: أن الظاهر أن «طريق مستقيم» في الآية الشريفة، يشمل: الواجبات والمستحبات كما يشمل المحرمات والمكروهات أيضاً - أي ذواتها ثبوتاً - فإن «الانفاق في سبيل اللّه» و«صلاة الليل» «طريق مستقيم»، و«الربا، والانفاق لترويج الفساد» و«صلاة التراويح» و«النوم بين الطلوعين» أو «السفر وحده» أو «أكل الزاد وحده»، طريق منحرف مائل - بل قد يقال بشموله للمباحات أيضاً، كالأكل مما رزق اللّه؛ فإنه مباح، وهو طريق مستقيم كما سبق.
كما أنه يشمل «الدوالّ» عليها - إثباتاً(1) - كما يشمل المؤدي لها، من العلل المعدة وشبهها، كبناء المساجد، أو لا سمح اللّه «الملاهي».
كما أنه يشمل إضافة للأوامر والنواهي المولوية، الأوامر والنواهي «الإرشادية» إثباتاً، ومتعلَّقاتها ثبوتاً، وذلك كأوامر الإطاعة وسائر الأوامر في كافة المستقلات العقلية على رأي المشهور، ومنها أوامر التوبة، على ما ذهب إليه السيد الحكيم «قدس سره» في المستمسك، مستدلاً بلزوم التسلسل لو كان الأمر فيها مولوياً. وكذا كل ما ذكرت فيه علة التشريع، حيث ارتأى البعض أنه إرشادي، لكننا ارتضينا صحة كونها مولوية، وقد تطرقنا للإجابة عن ذلك ونظائره في كتاب «من فقه التعاون على البر والتقوى».
والحاصل: أن «المعرفة» و«التوبة» و«العدل والإحسان» ونظائرها هي «الطريق المستقيم»، عكس: «التكبر عن عبادة اللّه» و«الظلم» و«الإساءة»، فإنها «الطريق المنحرف».
ص: 116
وكذا الأوامر أو الإرشادات الواردة في «الشؤون الاقتصادية» ك«أنفق ولا تخش من ذي العرش اقتاراً»(1)، أو «الشؤون الإدارية» - كما في الروايات الواردة في كتاب «العشرة» من البحار وغيره - فإنها جميعاً هي «الطريق المستقيم»(2)، سواء قلنا بأن الأوامر فيها «مولوية» أم قلنا بأنها «إرشادية».
ومن الآيات التي وردت فيها كلمة «طريق» قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ...﴾(3) وفي الصافي:«﴿إن الذين كفروا﴾ برسالة محمد صلى اللّه عليه وآله ﴿وظلموا أنفسهم﴾ بالكفر، أي جمعوا بينهما»، وقال: «وفي الكافي والعياشي عن الإمام الباقر «عليه السلام» نزل جبرائيل بهذه الآية هكذا ﴿إن الذين كفروا﴾
جحدوا رسالة محمد صلى اللّه عليه وآله ﴿وظلموا﴾ محمداً بتكذيبهم إياه وبقائهم على الكفر، على علم منهم بظلمهم أولياء اللّه، حسداً لهم».
ولعل «ظلموا» إشارة لما يتعلق بالجوارح من المعاصي مما يرتبط بأفعال المكلفين، و«كفروا» لما يتعلق بالجوانح مما يرتبط بأصول الدين والاعتقادات.
ولعل رواية الكافي والعياشي ظاهرة في ذلك، لقوله عليه سلام اللّه: «بتكذيبهم إياه» الظاهر في التكذيب العملي باللسان وغيره لكن فيه أن «بقائهم على الكفر» أعم من الجوانح والجوارح، إلا أن يفسَّر بخصوص الأخير، ولأن ظاهر رواية الكافي والعياشي أن «كفروا» عند لحاظهم في حد ذواتهم و«ظلموا» عند لحاظهم منسوباً كفرُهُم للنبي صلى اللّه عليه وآله، فهو «كفر» بما أنه كان واجباً عليهم
ص: 117
الاعتقاد بالرسول صلى اللّه عليه وآله، فيما يخصهم، وهو «ظلم» فيما كان واجباً عليهم بالقياس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فيما يخصه، فتأمل.
والظاهر أن «هدايتهم طريق جهنم» المراد بها إما معنى كنائي أي أنه قد كُنِّي ب«هدايتهم طريق جهنم» عن عدم منحهم التوفيق الخاص، أي إما سلب اللطف الإلهي الخاص والعناية والرعاية الخاصة التي يمنحها أولياءه، مما يسهّل ذلك - أي عدم منحهم ذلك اللطف الخاص - لهم «سلوكهم الاختياري» لطريق جهنم، الأعم مما يرتبط بالأحكام كتحليل الحرام وتحريم الحلال، أو الموضوعات كفعل المعاصي.
أو يراد منها: توفير بعض أسباب ووسائل سلوكهم طريق جهنم، فإنها وإن كانت موفّرة للطرفين إذ (وهديناه النجدين)(1) و(فألهمها فجورها وتقواها)(2)، إلا أنه تعالى يوفر لهم وسائل أكثر تسهِّل عليهم سلوك طريق جهنم، قال تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً).(3)
بل لا حاجة لكل ذلك - رغم صحته ووضوحه - لدفع شبهة الجبر، فإن «الهداية» هي: «إراءة الطريق»، ولا شيء من إراءة الطريق بجبر، وهذا هو المعنى المعهود لها،
وأما «الإيصال للمقصود» - وهو المعنى الثاني - فلعله مجاز، ثم إنه(4) أعم
ص: 118
من الجبر والاختيار كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى: المراد من «الهداية إلى طريق جهنم» أصل الهداية التي توفر للكل، فهم مصداق من هداهم اللّه، النجدين.
ص: 119
كما ظهر بذلك الفرق بين «الطريق» و«الحجة» و«الدليل» من حيث صحة إطلاقها على «الحكم».
فإنِّ «الحجة» تطلق على «الحكم» - إن أخذت بمعنى المنجز والمعذر، أو أخذت بمعنى ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس، أو كانت بمعنى ما يلزم الحركة على طبقه، وكذا لو أخذت بمعنى «الأوسط»، ولا تطلق عليه إذا أخذت بالمعنى السادس وهو المصطلح «الأصولي» الذين ارتضاه الميرزا النائيني قدس سره؛ فإنها نفس الطرق إليه، وكذا لو أخذت، بمعنى «الكاشف»؛ فإنها تطلق على الدليل والدال عندئذ، لا على الحكم فإنه المنكشف، وإن أمكن تصويره كما سبق(1)، لكنه ليس شأن الأصولي بما هو أصولي ولا الفقيه بما هو فقيه.(2)
أما «الطريق» فقد سبق أنه لا يطلق على «الحكم»؛ فإنه هو «ذو الطريق» بل يطلق على «الدليل على الحكم، أو الموضوع». اللّهم إلا بتغيير المتعلَّق؛ فإن «الحكم» طريق إلى معرفة وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة أو غيرهما في المتعلَّق، أو طريق إلى معرفة أن في متعلقه رضا اللّه أو سخطه، أو طريق إلى معرفة أن متعلَّقه هو طريق الجنة.
لكن لا يخفى أنه غير معهود عرفاً، وغير المعنى المقصود في علم الأصول؛ فإن «الطريق» - في علم الأصول - يراد به الطريق إلى «الأحكام» كخبر الواحد أو إلى «الموضوعات» كالبينة، لا «الحكم» بلحاظ كونه طريقاً إلى معرفة ما يحرز
ص: 120
رضا اللّه وما أشبه؛ فإنه مما يرتبط بعلم الكلام(1) و علم الأخلاق(2) إذ يبحث فيها عن طرق إحراز رضا اللّه، ومنها إخبار المعصوم بذلك.
كما أنه ليس(3) «الحكم» بلحاظ كونه طريقاً لإحراز المصالح والمفاسد في المتعلقات؛ فإنه بحث مرتبط بعلوم أخرى، كعلم الطب وعلم الاجتماع مثلاً؛ إذ يبحث في «الأول» عن طرق كشف الصالح والضار للبدن وما يصحه ويسقمه، وفي «الثاني» عما يصلح المجتمع أو يضره، وأن من الطرق مثلاً ملاحظة الحكم الشرعي الوارد فيه؛ فإن تحريم الشارع للخنزير والخمر مثلاً، يكشف عن أنه مما يسقم البدن، ويهدم العائلة ويفسد المجتمع.. وهكذا وهلم جراً.
والحاصل: أن معنى «الطريق» لغة وعرفاً وصحة استعماله في «الحكم» أمرٌ، وكون المصطلح الأصولي من «الطريق» هو خصوص كذا مما لا يشمله، أمرٌ آخر، وتحديد المراد من «طريق» في الآية الشريفة ونظائرها، أمرٌ ثالث.
فظهر بذلك أن «الحكم» يبحث عنه، في العديد من العلوم؛ تبعاً لإختلاف «لحاظاته» و«حيثياته» المختلفة:
فمن حيث كونه منجزاً معذراً، يبحث عنه في علم الكلام أو الفقه(4)، وكذا
ص: 121
من حيث كونه «فعلياً»(1)، ولا يبحث فيه(2) من حيث الاقتضاء(3) والإنشاء.(4)
ومن حيث كون بعض أقسامه(5) مدلولاً عليه بالأدلة الأربعة، يبحث عنه في علم الأصول.
ومن حيث كونه «كاشفاً» عن رضا اللّه بمتعلقه، يبحث عنه في علم الإلهيات؛ لحكمته وعدله، وعلم الأخلاق مثلاً.
ومن حيث كونه كاشفاً عن فوائد أو أضرار في متعلَّقه - وهي مرحلة الاقتضاء -، ينبغي أن يبحث عنه في علوم أخرى، حسب مسائله وأبوابه، كعلم «الطب» كما سبق، أو «السياسة» فيما لو جرى - مثلاً البحث عن وجوب «الشورى» بلحاظ مرحلة الاقتضاء وفوائدها المكتشفة بإيجاب الشارع - فتأمل.
أما «الموضوع» فالأمر فيه - من حيث اطلاق الحجة أو الطريق، عليه - بالعكس؛ فإن «الحجة» لا تطلق على «الموضوع» عادة، اللّهم إلا بالمعنى اللغوي؛ فإن «إيمان» زيد و «صلاته» مما يحتج به اللّه على «عمرو»، وليس ذلك هو المبحوث عنه في علم الأصول؛ إذ البحث فيه حول الحجة على الحكم، أي المنجز والمعذر، أو الكاشف عنه، أو عن الموضوع المخترع(6) أو ما يقع «أوسط» لإثباته، أو الطرق والأمارات عليه أو على موضوعه؛ فإن ذلك هو هم
ص: 122
الأصولي والفقيه، ولا يطلق عليه(1) بنفسه، وكذا لا تطلق «الحجة» على الطريق إلى الموضوع، كالبينة، في عرف الأصولي، وإن صح الاطلاق لغة وفي العرف العام.
وأما «الطريق» فإنه يطلق على «الموضوع» عرفاً وعادة(2)، وذلك في المادي، كاطلاقه على الزقاق والشارع وعلى طريق المدرسة أو المسجد مثلاً، وفي المعنوي، كاطلاقه على «الإيمان» و«الصبر» فإنهما طريق الجنة وطريق رضا اللّه. ومن ذلك «الأمارات» ك«البينة» و «اليد» و «سوق المسلمين» فإن كلاً منها «طريق» لإثبات الموضوع أو الحكم الوضعي أو ما يستلزمه من التكليفي كالملكية، والزوجية، وإباحة التصرف أو حرمته، بإذن أو بدون إذن ذي اليد، وحلية الأكل من ما إشتراه من سوقهم وهكذا، ويبحث عنها بهذا المعنى في الأصول، كما أن «الطريق» يطلق على «الحجة» على «الحكم» أيضاً، كخبر الواحد.
لكن لا يخفى أن «الحجة» في أمثالها كذلك.(3)
لكن قد يقال: إن اطلاق «الطريق» و«الحجة» عليها لا بلحاظ كونها موضوعاً، بل بلحاظ كونها دالة ومشيرة، وهو لحاظ آخر؛ فإن الأول بلحاظ مقابلته للمحمول، والثاني بلحاظ مقابلته للمتعلَّق - فتأمل.
فانحصر «الطريق» في الكاشف عن الحكم، وهي المصطلح عليها ب«الحجج»، والكاشف عن الموضوع، وهي المصطلح عليها ب«الأمارات»، وبعض أقسام الموضوع(4)،
و«الحكم» والأولان هما محط النظر في الأصول،
ص: 123
دون الأخيرين، وأما «الحجة» فلا تطلق على بعض أقسام الثالث.
أما «الدليل» فهو يطلق على «الدليل على الحكم، والدليل على الموضوع» ولا يطلق على «الحكم» إلا بالتوجيه المتقدم؛ فإن الحكم دليل على المصلحة أو المفسدة، ودليل على أن رضى اللّه في متعلقه أو سخطه، لكنه كما سبق خارج عن المقصود في علم الأصول؛ فإن البحث فيه عن أدلة الأحكام، لا عنها نفسها أو عن أحكامها(1) وخواصها؛ إذ البحث عن الأحكام هو مهمة الفقيه، وهو أيضاً ليس من حيث كونها كواشف عن المصلحة أو الرضى، بل من حيث تشخيص الوظيفة - بالمعنى الأعم - للمكلف.
وقد ظهرت من ذلك ثمرة جديدة من ثمار تحقيق معنى «الطريق» و«الحكم» وحيثياته ونظائرهما؛ إذ ظهر بذلك «الرابط» بين «العلوم» المختلفة، من الأصول والفقه، والكلام والطبيعة، والأخلاق والسياسة وشبهها، أما «الحكم» وحيثياته، فقد سبق(2) بيان ما يوضح كونه «الرابط» و«الجامع» بين تلك العلوم، وأما «الطريق» فلما اتضح أيضاً، من كون «الأدلة الأربعة» طرقاً(3) وكون «متعلقاتها» طرقاً(4)، وكون موضوعاتها طرقاً.(5)
ومن هذه الثمرة، وهذا الرابط، تظهر أهمية الاستفادة من كل تلك العلوم، لكل تلك العلوم، إما كأدلة وبراهين، أو كمبادئ تصورية أو تصديقية، أو كمقدمات، أو كثمار ونتائج، ويظهر بذلك مجال جديد لتطوير علم الفقه
ص: 124
والأصول وتقويتهما.
ولهذا البحث(1) مجال واسع جداً عسى اللّه تعالى أن يوفقنا لإكماله بإذنه ولطفه وكرمه.
ص: 125
ص: 126
ص: 127
ص: 128
ص: 129
ص: 130
ص: 131
ص: 132
«القطع حجة أم لا»؟(1)
من البديهي أن «العلم» حجة(2) لكن هل «القطع» المراد به الأعم من المصيب وغيره، والمطابق للواقع وغيره، حجة أم لا؟
قال الشيخ «قدس سره»: ( ومن هنا يعلم: أن إطلاق «الحجة» على القطع، ليس كإطلاق الحجة على الأمارات المعتبرة شرعاً؛ لأن الحجة عبارة عن «الوسط» الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغيير لإثبات حدوث العالم، فقولنا: «الظن حجة»، أو «البينة حجة»، أو «فتوى المفتي حجة»، يراد به كون هذه الأمور أوساطاً لإثبات أحكام متعلقاتها، فيقال: «هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه»، أو «هذا الفعل مما أفتى المفتي بتحريمه أو قامت البينة على كونه محرماً...»
والحاصل أن كون القطع حجة غير معقول؛ لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب، فلا يطلق على نفس القطع)(3).
ص: 133
ولكن قد يناقش ب:
أولاً: أن «الحجة» بمعنى «الكاشف» أو «المنجز و المعذر» أو «لازم الإتباع» يطلق على القطع «مطلقاً»، حسب مبناهم من كون القطع كاشفاً، منجزاً معذراً، ولازم الإتباع، أو «في الجملة» على حسب ما صرنا إليه؛ فإن خصوص «العلم» - من فرديه(1) - كاشف، دون مطلق القطع؛ فإنه في ضمن فرده الآخر - أي الجهل المركب - متوَّهم الكاشفية، وليس كاشفاً، بل لو كان كاشفاً لزم الخلف.
كما أن القطع - غير المصيب - ليس «معذراً»، بل المعذر هو «عدم الوصول» سواء وُجد قطع أم لا، و«العلم» من قسميه، هو المنجز.
كما أنه ليس «واجب الإتباع»، إذا كان غير مصيب، كما حررناه في «مباحث الأصول - القطع» من عدم حكم العقل به، و«الحجة» بتلك المعاني وبعضِ غيرها، هو المقصود في علم الأصول، وليس المهم في الأصول «وهو الأساس لعلم الفقه» كونه «أوسط» أو لا؟؛ فإنه الذي يهم «المنطقي» لا الأصولي بما هو أصولي.
ثانياً: أنه يلزم من كلامه «قدس سره»، أن لا يصح إطلاق «الحجة» على الأمارات والطرق أيضاً؛ لأنها لا تقع «أوسط»؛ لأن الظن أو غيره لا يقع - كالقطع - جزء الموضوع؛ وذلك لثبوت الأحكام للموضوعات بما هي هي، لا بما هي مقطوعة أو مظنونة، وبعبارة أخرى: لأن المفروض أخذ القطع والظن طريقاً للموضوع والحكم لا جزءاً، وإلا كان قطعاً أو ظناً موضوعياً، وهو خارج عن محل الكلام.
ولذا قال الوالد «قدس سره» في الوصائل: «ولهذا ربما يقال: إنه لا فرق بين القطع الحجة ذاتاً، وسائر الأمارات الحجة عرضاً، في أن الحكم تابع للواقع، فإن
ص: 134
كان الواقع كان الحكم، وإلا لم يكن الحكم. و«القطع» و«سائر الأمارات» تفيد «التنجيز والأعذار»، و«التجري» في صورة مخالفة الأمارة أو مخالفة القطع فيما اشتبه ولم يكن واقع، فلا وسطية إطلاقاً، لا للأمارة ولا للقطع»(1).
ثالثاً: ونضيف أيضاً: لو لم يقع القطع أو الظن أوسط، ولو لم يطلق عليه «الحجة» بهذا المعنى، لما أضر ذلك بكونه مسألة من مسائل علم الأصول، أو كونه من مبادئها التصديقية - حسب الاختلاف في تعريف موضوع علم الأصول والمسألة الأصولية - فمبحث حجية القطع أو حجية خبر الواحد، هي من المسائل أو المبادي، سواء أوقعت أوسط أم لا؛ فإن موضوع علم الأصول إن كان «ذوات الأدلة الأربعة» كما ذهب إليه صاحب الفصول، كان البحث عن حجية خبر الواحد أو القطع وغيرهما من مسائل الأصول؛ لكون «الحجية» من العوارض الذاتية للموضوع، فتأمل(2)، وإن كان «الأدلة بوصف الدليلية» كما ذهب إليه صاحب القوانين، كان ذلك من المبادئ(3)، وإن كان «الحجة القريبة في الفقه» كما ذهبنا إليه - ويمتاز عن الثاني بامتيازات، ومنها عدم الحاجة إلى تكلف إدخال بحوث حجية الحاكي عن السنة، كخبر الواحد، فيها - فكالثاني، وقد تأملنا في موضع آخر في كونها «مبادئ» حتى على الثاني؛ لمناقشتنا في كبرى كون موضوع العلم هو «ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» مع تفسير العرض الذاتي بما فسروه به، كما سيأتي، فتأمل(4).
ص: 135
وعلى أي حال، فإن عدم إطلاق «الحجة» بهذا المعنى على «القطع»، غير ضار، أما على الأول فلأنها لم تؤخذ في موضوع الأصول، وأما على الثاني والثالث، فلأنها قد أخذت بمعنى المنجز والمعذر أو الكاشف أو اللازم الإتباع، لا «الأوسط» فليس أيضاً بضارٍ عدمُ صدق «الحجة» بمعنى «الأوسط» عليها.
لكن قد يقال: إن الشيخ قدس سره ليس بصدد التفريق بين «القطع» وبين «الأمارات المعتبرة شرعاً» من جهة كونها مسائل أصولية دونه، بل هو في مقام إطلاق «الحجة» عليها دونه؛ لجهة اصطلاحية، عبّر عنها ب«لأن الحجة عبارة عن الوسط..»؛ ولجهة واقعية، عبّر عنها ب«لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب...»، فلا يرد عليه الإشكال الثالث - فتدبر.
رابعاً: إن قوله «لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب»، تعريف بالأخص، لأنها أعم منه ومما يوجب «الاطمئنان به» و«الظن المعتبر به»، نعم لعل الاصطلاح المنطقي أخص، إلا أنه لو كان كذلك للزم تعميمه حسب الحاجة وحسب المقصود بالبحث في علم الأصول، وإلا لكانت استعارة ذلك الاصطلاح لغواً أو نقضاً للغرض، أو لا أقل من كونها قليلة الفائدة وموهمة.
ولا يخفى أن البحث عن «القطع» مترامي الأطراف، وقد أفردنا له كتاب «القطع» من «مباحث الأصول» فلنكتف ههنا بهذا المقدار.
ص: 136
ص: 137
ص: 138
ص: 139
ص: 140
هل العلم الحضوري حجة؟(1)
التحقيق: أن «العلم الحضوري» لا يوجد معنى محصَّل أو متعقل لاعتباره «حجة» على حسب بعض المسالك في «الحجية»، وإن أمكن وصح اعتباره «حجة» حسب بعضها الآخر.
1- أما على مسلك «الكاشفية» فقد يقال: إن العلم الحضوري ليس «حجة» بهذا المعنى(2)؛ إذ هو عبارة عن نفس حضور المعلوم لدى العالم، فلا كاشفية له عن شيء بما هو «حضورٌ لشيء لدى شيء»؛ فإن الكاشفية متقومة بأطراف ثلاثة: الكاشف، المنكشِف، والمنكشف له، فالكاشف في العلم الحصولي هو: «العلم(3) أو خبر الواحد»، والمنكشِف هو: «الوجوب» أو «الملكية» مثلاً، والمنكشِف له هو: «المجتهد أو المقلد - أي الإنسان -».
أما «العلم الحضوري» فلا يوجد فيه إلا المنكشِف والمنكشِف له، فهنالك طرفان فقط.(4)
وأما تسميته علماً فباعتبار حضور المنكشِف لدى المنكشَف له(5)،لكن «الحضور»
ص: 141
لو كان هو ملاك الكاشفية والعلم، للزم كون «الجماد» وغيره، عالماً بنفسه، بأعلى درجات العلم، لعدم خلو الشيء من ذاته، بل حضورها له أبداً ودائماً(1)، وللزوم كون علمنا بخصوصيات نفسنا وقواها، أكمل وأتم وأشمل من علمنا الحصولي بها، وليس.
وبتعبير آخر: يوجد عالم ومعلوم فقط «وهو عين العلم» لا «عالم» و«معلوم» و«علم» حتى يكون «العلم» كاشفاً عن المعلوم.
نعم ينتزع «العلم» من لحاظ حضور أحدهما لدى الآخر، لكنه خاص ببعض صور الحضور لا كلها.(2)
وبعبارة أخرى: الكاشفية تنتزع من نسبة شيء «كخبر الواحد» لشيء «كالمجتهد» بلحاظ نسبته لشيء آخر «كالوجوب» وفي العلم الحضوري لا يوجد - حقيقة - إلا طرف واحد، أو طرفان، لكن لا توجد نسبة، أو قل: نسبة شيء «كالعلم» لأمر خارج عنه «كالمعلوم» إذا لوحظت بالقياس لأمر آخر «كالعالم»، أي كشف «هذا» عن «هذا» ل«هذا»، فتأمل.
نعم المعلوم بالعلم الحضوري، قد تكون له الكاشفية بما هو هو، لا بما هو معلوم بالعلم الحضوري؛ فإن المعلوم بالعلم الحضوري: قد يكون كاشفاً عن شيء آخر «كالنور، المعلوم لله تعالى بالعلم الحضوري» أو «كالعلم الحصولي» أي «الصورة الذهنية للشيء» فإنه معلوم للنفس بالعلم الحضوري لا بعلم آخر؛ وإلا لزم التسلسل لكنه - في الوقت نفسه - كاشف عن غيره - أي المعلوم بالعرض -.
وقد لا يكون كاشفاً «كالظلام» أو «كالوهم والتوهم» أو «الجهل المركب» فهذه خصوصية «المعلوم»، لا العلم الحضوري.
ص: 142
لكن قد يورد على هذا الكلام: أن «حضور الشيء لدى الشيء» حضوراً حقيقياً(1) كحضور المعلول لدى العلة، أو الشيء لنفسه، بنفسه كاشف له عنه.
و«العلم الحضوري» عبارة عن نفس هذا الحضور، فهذا «الحضور» هو عين كاشفية الشيء لنفسه لدى ما حضر عنده، أو هو عين إنكشافه له - على ما ذهب إليه البعض(2)- ولا أقل من كون «الكاشفية» منتزعة من هذا الحضور.
لا يقال: لا توجد أطراف ثلاثة، كما سبق؟
إذ يقال: الكاشف هو عين المنكشِف، فهو بنفسه وبتمام ذاته كاشف لنفسه عن نفسه، لعلَّته، أو لمن حضر عنده حضور إحاطة - كحضور الصور الذهنية لدى العالم، أو حضور النفس لنفسها - فتأمل.
ووجود أطراف ثلاثة متغايرة هو مقوم العلم الحصولي، دون غيره؛ فإن في العلم الحضوري يوجد طرفان(3)، وقد يوجد فيه طرف واحد.(4)
نعم يبقى إشكال أن «الحضور» بذاته لا يعلم كونه بما هو هو ملاك العلم؛ فإنها دعوى بلا دليل، غاية الأمر أنها دعوى مبنية على استقراء ناقص بل على «تقارن»(5) وذلك، كعلمنا بقوانا وبأنفسنا؛ إذ لا يعلم الحال في «الجماد» مثلاً وأنه عالم بذاته أم لا؟ بل يلزم منها القول بعلم كافة النباتات
ص: 143
والجمادات وعديمات الشعور، بذواتها وقواها علماً حضورياً، هو أجلى وأكمل وأتم وأشمل من العلم الحصولي بكافة خصوصياتها مهما بلغ، بل لا يعلم أن ملاك علمنا بأنفسنا، هو حضورها لدينا، أي كونها عيننا؛ بل الظاهر أن الملاك هو: «بإفاضة اللّه تعالى نور العلم علينا فعلمنا أنفسنا، ولو لم يُفِضْ لم نعلم»
والحاصل: أن «الحضور» مقتضٍ للعلم، وليس علة تامة، إن لم نقل إنه مندرج في كلي القول ب«التوافي»(1) أي جريان عادة اللّه تعالى موافاة هذا لدى حصول ذاك، أي صرف تقارن حدوث ما نتوهمه معلولاً بما نتوهمه علة، بإرادته جل اسمه.
ويلزم من دعوى العلم الحضوري، كما قالوا، عدم إمكان سلبه تعالى علمنا بأنفسنا، عنها، إذ لا يعقل سلب الشيء عن ذاته، إلا بإعدامه مفاد هل البسيطة وكان التامة، وسيأتي بإذن اللّه تعالى مزيد إيضاح لذلك، وإشكالات أخرى لنا(2) على كون ملاك الكشف والإنكشاف هو العلم، وكون العلم الحضوري كما قالوا.
ثم إن من أمثلة المعلوم بالعلم الحضوري لنا، على مسلكهم:
أ- كل العلوم الحصولية والصور الحاصلة في الذهن.
ب- وكافة القضايا الفطرية، قال تعالى ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(3) كمعرفة أن لنا خالقاً، ورازقاً، وأن شكر المنعم واجب، وأن دفع الضرر لازم،
ص: 144
وهكذا؛ فإن ذلك مما نجده من أنفسا دون توسط صور حاصلة في الذهن.
ج- وكذلك الحال في كل أحكام العقل ومدركاته، كإدراكه حسن العدل والإحسان، وحكمه بوجوبهما، وكذا قبح الظلم والعدوان، وحكمه بحرمتهما؛ فإن إدراكنا حسن العدل وإدراكنا حكم العقل بوجوبه، بنحو العلم الحضوري.
د- وكذلك مدركات القوة المتخيلة والمتوهمة؛ فإن المتخيلات والمتوهمات - أي الصور الجزئية، والمعاني الجزئية - حاصلة لدى النفس بذاتها، معلومة لها بأنفسها لا بتوسط صور أخرى.
ه- وكذلك «المحسوسات» بالحواس الظاهرة، فإن إحساسنا بالألم - لدى قطع عضو أو جرحه - هو حضوري، لا بصورة منطبعة، بل نفس حضور الألم في الجسد، هو ملاك العلم به - فتأمل.(1)
و- وكذلك معرفتنا بالمحسوسات بالحواس الباطنة «كالحب والبغض»(2)، وإدراكنا لهما مباشرة دون توسط صورة حاصلة؛ ألا ترى إنك تستشعر «حب» أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه صلوات المصلين، في داخلك وفي قلبك وروحك، مباشرة؟ أي بدون صورة حاصلة لدى الذهن، قالوا: فهو علم حضوري إذن، أي أن نفس وجود حبه صلوات اللّه عليه، في داخلك، كافٍ لإنكشافه لك؟
وكذا الأمر في «بغض» أعداء آل محمد صلى اللّه عليه وآله.
ص: 145
وفيه: أن هذه الدعوى مبنية على مقدمتين: أن العلم إما حصولي أو حضوري، وأنه لا ثالث لهما، فحيث انتفى الحصول؛ إذ لا صورة ذهنية، فالعلم إذن حضوري، وقد أوضحنا أن العلم لا بالحصول ولا بالحضور، بل كلاهما مقتضٍ فقط، والعلم إنما هو بنورٍ وإفاضةٍ من اللّه تعالى؛ وإلا للزم أن يكون الإنسان عالماً بنفسه، وبقواه، وبعلومه أي كل ما لديه من صور ذهنية والتي تشكل كل معلوماته، بأعلى درجات الوضوح وبشكل كامل شامل، أبداً، أي حتى حال الإغماء، والنوم، والغفلة، والدهشة، وغيرها، ومن البديهي أن الإنسان في حالة الغفلة أو الإغماء التام، لا يعلم قواه وعلومه، ولو ادعي أنه يعلم بها إجمالاً، فيرد عليهم - بعد أنها دعوى بلا دليل - أن هذا العلم أردأ من «العلم الحصولي» وأخس(1)، والحال أن «العلم الحضوري» أشرف وأجلى وأكمل وأتم من «الحصولي» بما لا قياس؛ إذ أين حضور نفس الشيء بشراشر وجوده لدى العالم، من حضور صورته فقط؟
وقد يمثل للمعلوم بالعلم الحضوري ب:
1- معرفتنا بل شهادتنا - وهي من الشهود - بأن لنا ربّاً وخالقاً.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾(2) فإن شهادة الإنسان بأن له رباً، ومعرفته
ص: 146
به، أمر معلوم له بالفطرة، أو بالعلم الحضوري، على ما قالوا(1)، لا الحصولي.
كما قد يمثل للعلم الحضوري ب: شهادة اللّه على كل شيء، قال جل اسمه: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(2) ولعل المراد به أنه عالم بكل الأشياء بالعلم الحضوري، شاهد عليها، بحضورها لديه، فإنه لو كان عالماً بالعلم الحصولي بكل شؤوننا لكفى في لزوم خشيته وإطاعته، فكيف لو علم بالعلم الحضوري؟
لكن الحق أننا لا نعلم عن كنهِ اللّه وصفاته شيئاً(3)، فلا مجال للقول بأن علمه كيف هو؟ نعم نعلم أنه ليس حصولياً، لكنه هل هو حضوري أم بنحو آخر؟ لا ريب في حضور الأشياء لديه لكن هل حضورها ملاك علمه؟ هذا.
وقد فصلنا في موضع آخر بعض محاذير القول بالعلم الحضوري لله تعالى.(4)
لا يقال: أي استدلال هذا؟
إذ يقال: إنه أقوى نوع منه؛ فإنه استدلال بأوضح وأسمى شيء عليه، فإنه استدلال ب«الذات» على «الصفات» أو من «الصفة» - وهي الرب - على
ص: 147
«الصفة» - وهي الشهادة - وذلك نوع استدلال بالشيء على نفسه.(1)
ولا يقاس بينه وبين الاستدلال بالغير على الشيء؛ فإنه استدلال بالأثر أو الشعاع وبالصورة، وأين هو من الاستدلال بالحقيقة نفسها على نفسها؟ أو بها على صفاتها - وهي عينها -؟
وبعبارة أخرى: أن البرهان الإنِّي هو أضعف البراهين، والأقوى منه البرهان اللِّمي، والأقوى منه هو البرهان الشبيه باللِّم - المراد به الاستدلال بالشيء على نفسه - وذلك لأولوية ثبوت الشيء وصفاته لذاته، من ثبوت أو حضور معلوله لديه.
وللتقريب للذهن نمثل بما لو قلت:
أو لم يكف الأمواج أو الهواء، وأنها قد ملأت الدور والسكك والبلاد، دليلاً على وجودها؟
وألم يكف بك أنك شهيد على إحساسك وخوفك وألمك، دليلاً على وجودها فيك؟ فهو انتقال من العلة للمعلول، لإثبات المعلول - فتأمل.(2)
وقد يقال أن المعلوم بالعلم الحضوري له حيثيتان:
أ- حيثية كونه أمراً خارجياً بما هو هو، مع قطع النظر عن لحاظ حضوره لنفسه أو لعلته.
ص: 148
ب- وحيثية كونه حاضراً لنفسه، أي علماً حضورياً حسب تعبيرهم، وهو بالحيثية الثانية لا كاشفية له، إلا بدعوى كون «الحضور» عين الكاشفية والإنكشاف، وهي مصادرة(1)، وبالحيثية الأولى قد يكون كاشفاً وقد لا يكون، على حسب خصوصياته الذاتية فتأمل.(2)
وقد اتضح أن «الأدلة الشرعية» الثلاثة(3) معلومة لنا بالعلم الحصولي، كما اتضح أن مدركات العقل، وأحكامه، وأدلته الجارية في أصول الفقه وغيره، ك:إدراك العقل قبح العقاب بلا بيان، أو حق الطاعة حتى لدى الاحتمال، أو حكمه بحرمة العقاب بلا بيان، أو استدلاله بالمعلول على العلة، وبقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع، على الحكم الشرعي مثلاً - معلومة لنا بالعلم الحضوري، لحضورها بنفسها لدى العقل، فإن مدركاته وأحكامه، حاضرة لدينا دون توسط صورة منطبعة؛ وإلا للزم التسلسل - فتأمل.(4)
2- ثم إن «العلم الحضوري» ليس حجة «بالمعنى السابع» الذي ذكره الشيخ «رحمه اللّه تعالى»؛ إذ لا يقع العلم الحضوري «أوسط» في القياس كما لا يخفى.
ص: 149
3- وليس حجة «بالمعنى السادس» الذي هو «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات، التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي».
إذ لا يقع العلم الحضوري وسطاً لإثبات المتعلقات، وليس مجعولاً بالجعل الشرعي، بل هو مجعول بالجعل البسيط، بجعل الشيء نفسه؛ فإن جعله بنفسه مساوق لحضوره لدى علته، أو الجعل التبعي.
4- نعم العلم الحضوري «منجز ومعذر» - وهو «المعنى الرابع» للحجية - فلو علم بالوجوب أو الإيجاب بعلم حضوري، كان منجزاً.
5- كما ينطبق عليه «المعنى الأول» للحجة؛ إذ يمكن أن يحتج به المولى على عبده، والعبد على مولاه، وذلك كالعلم الحضوري بالألم والمرض، المسوغ لترك الصيام.
6- كما أن له «المحركية التكوينية» - وهو «المعنى الثامن» - كالعلم الحضوري الفطري بالجوع والألم والخوف، فإنه محرك للفرار أو البحث عن الطعام أو العلاج، ولو قيل: إن المحركية صفة المعلوم بالعلم الحضوري، لا العلم، أجيب: بالعينية، والفرق اعتباري - فتأمل.
7- وله أيضاً «الحجية المعرفية»، وهو «المعنى التاسع»؛ فإنه «منشأ» حجية العلم الحصولي(1) - فتأمل.(2)
8- وهو «عين انكشاف» المعلوم للعالم، حسب رأي الأصفهاني «قدس سره»، في معنى «القطع» وأنه «الإنكشاف»، وهو «المعنى الثالث».
لا يقال: إنه صفته؛ إذ لو جرد المعلوم عن حضوره لدى العالم، لكان
ص: 150
ولم يكن ثمَّتَ انكشاف.
إذ يقال: إنه كالقول بتجريد الذات عن ذاتها، لضرورية حضور الشيء لنفسه، أو المعلول لدى علته - فتأمل.
9- كما يلزم «الحركة على طبقه» - وهو «المعنى الخامس»، بل «حجيته» على هذا وبعض ما سبق، أقوى.
10- لكن «العلم الحضوري» لا يعقل كونه «حجة منطقية»(1) كما لا يخفى.
وقد ظهر بما سبق: أن تحقيق معنى «العلم الحضوري» و«تحققه» و«حجيته»، مما ينبغي أن يبحث عنه - ولو في الجملة(2) - في علم الأصول؛ إما كمبدأ تصوري أو تصديقي - كالأولين - أو كمسألة أصولية - كالأخير - وذلك بناء على ما سبق من أن كافة «مدركات العقل» - مما كان منشأ للحكم، «وأحكامه» - فيما يرتبط بأفعال المكلفين - هي معلومة له بالعلم الحضوري، وكذلك «الفطريات»، وكذلك «المحسوسات» بالحواس الظاهرة أو الباطنة، مما عُدَّ موضوعاً للأحكام الشرعية أو شرطاً أو مانعاً - فتأمل.
ص: 151
ص: 152
ص: 153
ص: 154
ص: 155
ص: 156
الظاهر أن كلاً من النبي والإمام، حجة بذاته، وحجة بصفاته، كما هو حجة بقوله وفعله وتقريره، وليس بالثلاثة الأخيرة فقط، وأن لفظ «الحجة» يطلق على النبي والإمام بقول مطلق، وأنه إطلاق حقيقي بلحاظ ذاته وصفاته أيضاً؛ وإذا تمّ ذلك؛ فإن مبحث حجية ذات المعصوم وصفاته سيكون عندئذٍ «مسألة أصولية»، كما هو «مسألة كلامية»، وكان ينبغي أن تعنون في كتب الأصول، وليست مبدءاً من المبادئ التصديقية لعلم الأصول.
والتشكيك في إمكان إتصافها بها(1)، سيظهر الجواب عنه بعد قليل بإذن اللّه تعالى.
وبعبارة أخرى: «وجوده» في حد ذاته «حجة»، وكذا صفاته وحالاته، كما أن أقواله وأفعاله وتقريره، «حجة».
ومما يدل على ذلك: «التبادر»، و«عدم صحة السلب»؛ فإنه لا يصح سلب «الحجية» عن ذاتهم وعن صفاتهم، فمثلاً: إننا عندما نقول:
«أشهد أنك حجة اللّه» فإننا لا نجد من أنفسنا أن هنالك مجازاً:
1- في «الكلمة» مسنداً كانت أم مسنداً إليه أم فعلاً - مما يعبر عنه بالمجاز في الكلمة والمجاز اللغوي -- كقوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ(2) فِي آذَانِهِم﴾(3)
ص: 157
أو ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ(1) مُّؤْمِنَةً﴾(2) و﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ(3)﴾(4) و«رعت الماشية الغيث(5)» و «تيمّمنا(6) بماء المزن حتى فقدناه فقمنا للتراب» مما هو مجاز بعلاقة الكلية، أو الجزئية، أو المحلية، أو السببية، أو البدلية(7)، أو ما أشبه.
2- ولا في «الإسناد» كقولك: «من سره زمن، ساءته أزمان» و «بنى الأمير المدينة» و «سيذكرني قومي إذا جد جدهم» مما هو مجاز في الإسناد للزمان أو السبب أو المصدر(8) - مما يعبر عنه بالمجاز العقلي -.
والحاصل أن في «أشهد أنك حجة اللّه» أو «هم حجج اللّه»، المتبادر هو جَريُ «الصفة» على «الذات» بنفسها. (9) حقيقة ودون تجوّز، وأنه لا يصح سلبها عنها، بالوجدان.
وبعبارة أخرى: إنما يصار إلى المجاز، لو تعذرت الحقيقة كما في «زيد أسد»، فيقال: حيث امتنع إرادة كونه «عليه السلام» بنفسه حجة لله، أريد بذلك كون فعله وقوله وتقريره، حجج اللّه، لكنه ليس بممتنع؛ فإننا ندرك - بعقولنا - ودون تأمل: أنهم هم حجج اللّه، بذواتهم وصفاتهم، دون ريب أو شك، ومرجع هذا إلى التمسك بالبديهة والفطرة والوجدان، فلا يلتفت إلى تشكيكات المشككين.
وأما تحقيق ذلك حسب الصناعة فنقول:
ص: 158
إن ذلك تام على حسب العديد من المعاني «العشرة» التي ذكرناها للحجية.
1- أما حجية «صفاتهم» فنقول أن «صفاتهم» «عليهم صلوات اللّه»:
«حجة» بالمعنى اللغوي؛ فإن خوفهم من اللّه، وشدة حبهم لله، وتواضعهم لله، وللناس، وخضوعهم النفسي لله، وسخاءهم وصبرهم، أي نفس إتصافهم بكل ذلك، مما يحتج به اللّه علينا؛ إذ هم «الحجة البالغة».
وعلى هذا فإن نفس إتصافهم بصفة، يصلح دليلاً على جواز(1) ورجحان(2) الإتصاف بها، فهي من الحجج - كخبر الواحد وظواهر الكتاب - بل من أسماها وأجلها شأناً.
لا يقال: إنه يحتج بالأفعال المسبِّبة للإتصاف بتلك الصفات، لا بها؟ والاحتجاج بها مرجعه إليه.
إذ يقال: يصح عقلاً وقد وقع عرفاً، الاحتجاج بكلا الأمرين، والطولية غير نافية بل مؤكدة؛ نظير بحث السبب والمباشر؛ فإن «ما بالاختيار لا ينافي الاختيار» و«المقدور بالواسطة، مقدور».
وهي «حجة» بمعنى «الكاشفية»؛ فإن تلك الصفات يكشف بعضها عن بعضها الآخر ويدل عليه، كما تكشف عن «الذات»؛ فإن تلك الصفات مثلاً تكشف عنه وتدل على عصمتهم، ومدى قربهم لله، وإمامتهم، كما تدل على حجية أقوالهم في «الفقه» وغيره، فهي من أدلة حجية السنة، فكما عدّوا
ص: 159
بحث حجية «ظواهر الكتاب» أو «خبر الواحد» من الأصول، فليكن بحث حجية «الصفات» منها(1) - فتأمل.
وهي «حجة» بمعنى «المنجزية والمعذرية»؛ فإن «تلك الصفات» توجب على مَن لم يتأسّ بها، استحقاق العقاب أو العتاب، في الجملة. كما أن «أقوالهم» توجب استحقاق العقاب أو العتاب(2)، لو لم نلتزم بها، كما أن عدم إتصافهم بصفات، يوجب لنا صحة «الاعتذار» أيضاً.
وهي «حجة» بمعنى لزوم الإتباع، فكما أن «أقوالهم» لازمة الإتباع، كذلك «صفاتهم» لازمة «التأسي»، والتأسي عبارة أخرى عن الإتباع.
وهي «حجة» بمعنى «الحجية التكوينية»، فإن صفاتهم لها «المحركية» والدافعية والباعثية الوضعية؛ لأن لها الأثر تكويناً؛ فإن إتصاف شخص بالشجاعة - مثلاً - في حد ذاته، له الأثر الوضعي على الناس، ولو لم يتصرف ولم يقل شيئاً. وقد ثبت علمياً أن قلب الشجاع، ومخّه يصدر أمواجاً تؤثر في المحيطين به، أكبر التأثير، على حسب قابلياتهم. وكذلك «السخي» و«الوَرِع» و«العادل» وهكذا وهلم جراً.(3)
كما أنها أظهر مصاديق «الحجة المعرفية» بعد البارئ جل اسمه، وفي طول حجيته المعرفية، كما أوضحناه سابقاً.
نعم «الحجة» بمعنى «الأوسط» و «الأدلة الشرعية التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي» و«التصديقات المعلومة الموصلة للمجهول منها» لا تنطبق على «الصفات» كما لا يخفى، اللّهم إلا بلحاظ الكواشف عنها، كما يقال بمثله في إسناد الحجية لفعل المعصوم، وتقريره.
ص: 160
2- وأما إن الأنبياء والأئمة «عليهم صلوات اللّه وسلامه» «حجج» بحسب «ذواتهم» ونفس «وجوداتهم»، فهو تام حسب العديد من المعاني المذكورة للحجة:
أ- فإن «الحجة» حسب المعنى اللغوي: «ما يحتج به المولى على عبده». و«المعصوم» يحتج المولى بنفس وجوده علينا، كما نحتج بنفس «وجود الأب» على لزوم احترامه والسفر إليه مثلاً(1)، وبوجود «المالك» على حرمة التصرف بدون إذنه، وبوجود «المرجع» على لزوم إتباعه والرجوع إليه، أو عدم جواز الرجوع للميت مع وجوده، أو بوجود «العلمي» على عدم صحة الرجوع لمطلق الظن مثلاً، وبوجود «الملك» أو «الحاكم» على من تجاهل القوانين، وبوجود «المال» و «الثمرة» على وجوب الإنفاق، وبوجود «الكامل» على الناقص.
لكن قد يقال: إن مرجع ذلك إلى الاحتجاج بالصفات، أو بالاعتباري والإنتزاعي(2) - فتأمل.
والأولى التمثيل ب«كما نحتج بنفس وجود المعلول، على وجود العلة، وكما نحتج بصفات المعلول وخصوصياته، على خصوصيات العلة».
وفي المقام نقول: يحتج الباري تعالى بنفس وجود «المعصوم»، على عباده، للزوم شكره وإطاعته؛ لكونهم بنفس وجوداتهم لطفاً منه تعالى وفضلاً يستوجب شكراً وطاعة، أو يحتج بنفس «وجودهم»، على لزوم إتخاذهم
ص: 161
الوسيلة إليه وإلى رضوانه، قال تعالى «وابتغوا إليه الوسيلة».
بو«الحجة» - حسب ما ارتضاه بعض الأصوليين - هي «الكاشف عن الواقع»، والمعصوم نفس ذاته، كاشفة عن الواقع، بأعلى درجات الكاشفية؛ فإنه كاشف عن علم اللّه تعالى وقدرته وحكمته وغير ذلك من صفاته، وليس قوله وفعله فقط، فهو كالنور، بل هو النور.
فهو «عليه السلام» بنفس وجوده «دالّ» و «كاشف» عن الواقع، وبنفس ذاته وحقيقته، طريق موصل لله جل اسمه؛ فإنه أعظم آيات لله تعالى. كما أن «النور» بنفس ذاته كاشف عن الحقائق.
وقال الإمام علي بن موسى الرضا «عليهما السلام» في قوله تعالى ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾: «قال أمير المؤمنين «عليه السلام» : ما لله نبأ أعظم مني، وما لله آية أكبر مني»(1) فإن الأثر يدل على المؤثر ويحكي كمالاته، بذاته، وبنفس وجوده، و«النبأ» بمعنى «المنبأ».
وأما قوله تعالى ﴿الذي هم فيه مختلفون﴾، فإن من الواضح أن الناس اختلفوا لا في أقوال الأمير «عليه السلام» وأفعاله، بل وفي «صفاته» أيضاً ومنها «عصمته»، كما اختلفوا في أصل «إمامته» وهي حجة علينا وليس فعله وتقريره فقط، كما اختلفوا في «عظمته» أو بعض مراتبها، وهي صفة أيضاً،وهي كسائر صفاته من علم وشجاعة وكرم، حجة علينا - كما اختلفوا في أصل «وجود» هذا التجلي الأعظم، أو في وجوده في عوالم سابقة على الأقل، بل لعل «وجوده» هو مصب الآية أو منصرفها - فتأمل.
ص: 162
إنه إذا كان كل شيء بشراشر وجوده «دليلاً» على اللّه وعظمته وحكمته وعلمه وقدرته، فما بالك بأعظم خلائقه، وهو رسول اللّه وعلي أمير المؤمنين وسائر المعصومين؟ ف«علي» عليه سلام اللّه وصلواته «بذاته» نور، وكاشف عن الحق والواقع، هو بنفس ذاته «نبأ» ومنبِئ عن اللّه تعالى وصفات جماله وجلاله، وهو بنفس ذاته «آية لله» تعالى وعلامة عليه، وليس هنالك أكبر منها، والحصر إضافي - بالنسبة لغير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - كما لا يخفى.
وهو صلوات اللّه عليه «بذاته» السامية، دليل وكاشف عن إمامته، وكونه خليفة رسول اللّه وباب مدينة علمه، وأعلم الناس وأقضاهم إلى غير ذلك، وهو «بذاته» وبنفس وجوده الأسمى، كاشف عن صحة أقواله، وهذا هو البرهان اللّمي؛ فإنه كما يستدل من الأقوال على الذات بالبرهان الإني، كذلك يستدل بها عليها(1)باللمِّي.
لا ريب في أن المعصوم عليه السلام «حجة» بذاته، وبنفس وجوده، كما هو كذلك بأقواله وأفعاله، ومن مصاديق كون «وجوده» بذاته كاشفاً ونوراً ودالاً، هو «كاشفيته» الصواب للفقهاء وتسديده لهم تكويناً؛
فإن «صحة استنباطهم» معلولُ وجودِ الإمام نفسه وببركته، والخطأ في استنباطهم، عائد لقابلية القابل لا لفاعلية الفاعل. قال اللّه تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾.(2)
ص: 163
وقد يستظهر أن قوله «عجل اللّه فرجه الشريف» للمفيد «رحمه اللّه تعالى»: «منك الفتيا ومنا التسديد» - ومضمونه على القاعدة - أعم من التسديد حدوثاً وبقاءً، ومن كونه بنفس تشعشعات وجودهم، أو بالإلقاء في أذهانهم، أو بواسطة أقوالهم أو رسلهم، أو ما أشبه.
بل نقول: إن كل فكر صائب - حتى مِن مَن ينكرهم - وفي كافة العلوم، فإنما هو ببركة وجودهم، فوجودهم هو علة الإصابة، وهو الكاشف لمن أصاب عن الواقع والحق.(1)
ومثال ذلك من عالم التكوين: من يقع في دائرة أمواج أو أشعة معينة، فإنها بذاتها توجب سلامة حركة أعضاء الجسم أو سقمها، وأن تلك الأمواج قد تشل قدرته على التفكير، أو تسهله عليه، أو تفقده قدرته على التفكير السليم.(2)
مثال آخر: ما ثبت من أن لبعض الجواهر(3) نوراً خاصاً به وله تأثيره الخاص به(4)، بل ثبت أن «للأمراض» نوراً خاصاً بها، وأن بعض أقسام «المرض» ينتقل بواسطة النور؛ وأن ذلك «النور»، بسطوعه على الإنسان يوجب تمرضه، فكيف يستغرب بعد كل ذلك، القول بأن للنبي والإمام نوراً خاصاً به؟ وأن نفس وجوده، بذاته، نور كاشف عن الواقع والحقيقة؟ وموجب لتسديد الفقهاء وغيرهم - كل حسب قابليته، وعند توفر سائر الشروط -؟
ص: 164
ويدل على ذلك الكثير من مقاطع الزيارات الشريفة والروايات المباركة، وبينها صحاح السند، كما أن «تواترها الإجمالي» بل «والمضموني»، يغني عن البحث السندي.
منها: ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة «خلقكم اللّه أنواراً، فجعلكم بعرشه محدقين»(1).
وواضح أن المراد هو أن نفس جواهرهم وذواتهم، أنوار، وليس كون «النور» عارضاً عليهم، وإلا لكان ينبغي أن يقال: خلق لكم اللّه أنواراً أو جعل لكم، لا «خلقكم اللّه أنواراً» فهو كقولك: خلقك اللّه إنساناً؛ فإنه إشارة للجعل البسيط لا المركب.
ومنها: ما ورد في الرضوي «عليه السلام» «الإمام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع... والشمس المضيئة».(2)
ولعل الوجه في التعبير بهذه الأربعة هو: أن «البدر المنير» لليل والظلام، و «الشمس المضيئة» للنهار، و «السراج الزاهر» لداخل البيت، و «النور الساطع» للإشارة إلى كون ذواتهم نوراً في حد ذاتها، وكونها كواشف عن الواقع، بذاتها، لا بأمر عرض عليها، أي ليست ذواتهم شيئاً عرضت عليه النورانية، كما قد يتوهم من التشبيه بالسراج والبدر الذي هو جرم سماوي عرضت النورانية له، واللّه العالم(3)، أو لعله إشارة لقوله تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ...﴾(4). فإن اللّه منوّر السماوات والأرض، وهم
ص: 165
صلوات اللّه عليهم «نور اللّه» الذي لا يطفأ، وهم «مَثَل اللّه الأعلى»؛ إذ ليس له تعالى «مِثل» لكن له المَثَل.
ولعل الوجه في ترتب الأربعة وتسلسلها بذلك الشكل، هو تدرجها في الإنارة وقوتها.
ومنها: ما ورد في زيارة «الجامعة الكبيرة» من «أنتم الصراط الأقوم»(1) فهم، بذواتهم(2) الصراط إلى اللّه، والطريق إليه، وإلى الجنة؛ فإنهم الكاشف عن عظمته وصفات جماله وجلاله، وعن الحقيقة بشتى تجلياتها.
ومنها: ما ورد في "الجامعة الصغيرة" من: «السلام على محالّ معرفة اللّه» فإنهم بأنفسهم «محال» معرفة اللّه. و«السلام على الأدلاء على اللّه». فإنهم بذواتهم أدلاء على اللّه، كما أنه جل اسمه، بذاته دليل على ذاته «يا من دل على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته».
ومنها: ما ورد في زيارة وارث: «يا أبا عبد اللّه، أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة».
كما ورد في الكثير من الأخبار إن «الصراط المستقيم» في ﴿إهدنا الصراط المستقيم﴾ هو أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ومعرفته وطريقه.(3)
وهذا البحث مما يستدعي بسط القول فيه، كتباً ومجلدات، فلنكتف ههنا بهذا القدر، ولعل اللّه سبحانه يقيض من يسهب فيه بما يؤدي بعض حقهم، حسب حدود قدرة البشر، واللّه المستعان.
ص: 166
ج- و «الحجة» - على المعنى الآخر - هي «ما يلزم ويجب إتباعه»، والمعصوم هو الذي يجب إتباعه قولاً وفعلاً وتقريراً وصفة وذاتاً، بمعنى التأسى به في كل ذلك.
لكن قد يقال: لا معنى للتأسي بالذات بما هي هي، إلا بإرجاعه للفعل؟
وقد يجاب: يراد به جعل «الذات الكاملة»، هي الأسوة والمقصد، بحيث يسعى ليكون - على قدر وسع الممكن غير المعصوم، أن يكونه - مثلها في جوهره، بناء على وقوع الحركة الجوهرية بهذا المعنى، وعلى هذا فالأفعال هي المقدورة بالذات وهي المطلوبة من باب المقدمية، وذوها مقدور بالواسطة، والمقدور بالواسطة مقدور، وهو المطلوب بالذات - فتأمل.
د- و «الحجة» هي: «الدليل الشرعي - من الطرق والأمارات - التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي»، حسب ما عرفها به، الميرزا النائيني قدس سره، و «خبر الواحد» حجة؛ لأنه دليل شرعي مجعول للدلالة على «قول» المعصوم أو «فعله» أو «تقريره» فكيف بقوله «عليه السلام» بنفسه؟ وبفعله؟ وتقريره؟ ثم كيف به بنفسه؟ فهو فوق «الحجة»(1) ومنشأ «حجيتها»؛ فإن حجية خبر الواحد بالعرض، وحجية قوله وفعله وتقريره «عليه السلام» بالذات، بل مرجع حجية الثلاثة إلى كونه صلوات اللّه عليه، حجة بنفسه، لكن لا بهذا المعنى الاصطلاحي(2) بل بمعنى «الدليل الشرعي الذي جعله اللّه كذلك - بالجعل البسيط(3) - ذاتاً وصفة» وبالمعنى اللغوي أيضاً، وبمعنى «الكاشف» كما سبق.
ص: 167
ه- وأما «الحجة التكوينية»: فانطباقها على رسل اللّه وأوصيائهم واضح؛ فإن نفس وجوده «لطف» وباعث ودافع ومحرك للناس - بنحو الاقتضاء - نحو الدين والعقيدة والشريعة، علماً وعملاً.
ومما يقرب ذلك إلى الذهن، كون «النظر إلى وجه العالم عبادة»(1) ومقرباً للجنة، وهو شعاع من وجود العالم؛ فإن النظر بخروج الشعاع من الجسم، فإذا كان للشعاع الصادر منه هذا الأثر، فكيف بالعالم نفسه؟ ثم كيف بالإمام المعصوم «عليه السلام»؟
ومما يقرب ذلك إلى الذهن «المغناطيس» فإنه بذاته جاذب للأشياء.(2) وقد يستدل على ذلك ب«بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(3)
فإن من «الرزق»: «الدين والتدين» و«الإلتزام بالطاعة لله والرسول وأولي الأمر» و«التخلق بالأخلاق الفاضلة» بل هو أفضل أنواع الرزق، وذلك كله بيُمنه وبركته، ومصداقها الأجلى نفس وجوده الشريف.
وأما قوله «وبوجوده ثبتت الأرض والسماء» فصريح في المطلوب.
ومما يؤيد ذلك ما كان يصنعه بعض أكابر الفقهاء من الذهاب - كلما استصعبت عليه مسألة فقهية أو أصولية - إلى حرم أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين، أو إلى حرم سيد الشهداء عليه سلام اللّه وصلواته، والتفكير في المسألة،
ص: 168
هنالك بحضرته الشريفة، فكانت تنحل له العقد والمعضلات، مما يدل على الأثر الوضعي لنفس «الكَوْن» بمحضر الإمام «عليه السلام»، وكونه سبب الإصابة وكاشفاً عن الواقع - فليتدبر.
و- وأما «الحجة المعرفية»: فإن منشأ الحجية هو: الكتاب والسنة والعقل؛ لعود الإجماع، للسنة، ومرجع حجية «السنة» - أعني قول وفعل وتقرير الأنبياء والأوصياء عليهم صلوات اللّه وسلامه، إلى كون ذواتهم كاملة وكونهم «أنواراً»، فلا يعقل أن يتسرب إليها الباطل، أو إلى ما يصدر عنها: «الخطأ» بوجهٍ من الوجوه.
ويدل عليه قوله تعالى «ويطهركم تطهيراً» فإن «التطهير» - بنحو العلة المحدثة والمبقية(1)، لا المبقية فقط - للجوهر والذات، بخلقهم من الجوهر الأسمى والنور(2)، ويلزمه تطهير الأقوال والأفعال، بعدم حدوث خطأ أو خطل أو سهو أو إشتباه.
ويوضحه الحديث المعروف «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(3)،
كما يدل عليه حديث «الثقلين»؛ فإن ذلك لحجيتهما الذاتية، ثم إن «ما إن تمسكتم بهما» لكونهما في حد ذاتهما محض الحق والنور والكاشفية عن الواقع، لا لكون ذلك صفة أقوالهم فقط.
وبعبارة أخرى: كل «الحجج» الأخرى - كخبر الواحد، والإجماع، والسيرة، وبناء العقلاء وغيرها - تعود «حجيتها» للعقل أو الكتاب والعترة،
ص: 169
أما هذه فحجيتها ذاتية؛ إما بذاتي باب «الكليات» بكونها عينها، أو بذاتي باب «البرهان» - فتأمل، ولا أقل من «اللزوم» بحسب الجعل الإلهي، وإن قيل بكونه جعلاً مركباً.
وبعبارة أخرى: إن الإمام «عليه السلام» بنفس ذاته حجة على الخلق؛ فإنه «المولى» بنص القرآن الكريم (إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(1) وهم من يقع في السلسة الطولية للخلقة، بإذن اللّه تعالى، وغيره العبيد.
والحاصل: أن «الحجية» هي خصيصة ذات «المولى التكويني».(2)
وقد يستشهد لذلك بقول الإمام الكاظم «عليه السلام»: «فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة «عليهم السلام»» إذ لو اقتصر على «الرسل» فلربما توهم أن «الحجة» هو الرسول بما هو رسول - أي بلحاظ مقام الرسالة فقط - فلعله «عليه السلام»، أضاف: «والأنبياء» ليعلم أن النبي وإن لم يكن رسولاً لكنه «حجة» في حد ذاته(3)، مما يشير إلى ما ذكرناه من حجية ذوات الأنبياء والأئمة «عليهم السلام» -.
لكن قد يقال: إن «الحجية» له بما هو نبي ومنبأ، فهي له بما هو متصف بهذه الصفة، حتى دون أن يكون رسولاً؟
ص: 170
وفيه: إنها واسطة في الثبوت لا العروض، والحيثية تعليلية لا تقييدية، أما «الرسول» فالظاهر أن الحيثية فيه تقييدية - فتأمل.
وقد يقال: للحجية معاني، ولكل معنى مصاديق، كما لها درجات ومراتب، فله بما هو «رسول»: «حجية»، وبما هو «نبي»: «حجية»، وبما هو هو: «حجية»، وإن اختلفت معانيها في الجملة؛ إذ على «الأول»، يحتج اللّه بأقواله، وعلى «الثاني»، يحتج بنبوته على لزوم الاعتقاد به، وعلى «الثالث»، يحتج بوجوده على كونه لطفاً له، ولزوم إتخاذه الوسيلة إليه، وعلى لزوم الكون مثله ما أمكن، والتأسي به - في الجملة كما يحتج بوجوده على لزوم شكر نعمته - وكذلك الأمر في «الكاشفية» وغيرها - فتأمل.
ص: 171
ضرورة بحث «الأصولي» عن «حجيتهم»«عليهم السلام» المطلقة
وقد اتضح بذلك كله أنه كان من الحسن أن يبحث عن حجية «صفاتهم» وحجية نفس «ذواتهم ووجوداتهم» صلوات اللّه عليهم، في «الأصول» أيضاً؛ فإنه من مسائل علم الأصول، أو من مبادئه التصديقية(1) فيما يقع فيه الاحتجاج ب«صفاتهم» و«ذواتهم» في طريق استنباط الأحكام الشرعية - تكليفية ووضعية -؛ إذ سبقت الإشارة إلى أن الاحتجاج بها أعم من ذلك ومما يقع طريقاً للمسائل الكلامية، والإشكال في «التصور» مندفع بما سبق بيانه، بل إنه مما يساوق تصوره على حقيقته، تصديقه.
كما كان من الحسن أن يبحث في علم الأصول عن «حجية أقوال النبي والإمام «عليهما السلام»، وأفعالهم، وتقاريرهم، بقول مطلق، وكون ذلك لعصمتهم من الخطأ والزلل مطلقاً»، بشكل مبرهن، وليس بمجرد البناء على كونها أمراً مسلماً، وإتخاذها أصلاً موضوعياً؛ فإن ذلك وإن كان مفروغاً عنه في علم الكلام، إلا أنه يعد من أهم «المبادئ التصديقية» لعلم الأصول، وحيث كثرت التشكيكات حول مثل ذلك، كان من الجدير برهنته ولو الإجمالية، في الأصول أيضاً. هذا.
إضافة إلى أن «المبادئ التصديقية»، هي إما «جزء العلم» حسب رأي القدماء حيث جعلوا أجزاء العلم «ثلاثة» هي: «موضوع العلم، والمسائل، والمبادئ»(2) أو «أربعة»: بإضافة «الخاتمة» كجملة من مباحث الاجتهاد والتقليد، أو «أكثر» كما فصلناه في «رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها»(3) أو هي «من مقدماته» التي
ص: 172
يتوقف عليها.(1)
لا يقال: كيف اعتبرتم حجية الذات والصفات والأقوال والأفعال، تارة مسألة كلامية ومبدءاً تصديقياً أصولياً، وأخرى «مسألة أصولية»؟
إذ يقال: «أصل الحجية» مسألة كلامية ومبدأ تصديقي أصولي، وقد أخذ بنحو الأصل الموضوعي في الأصول، وأما «المسألة الأصولية» فهي: هل ظاهر كلام المعصوم حجة؟ أي بعد الفراغ عن كون قوله حجة، فهل قوله يثبت بالظاهر أو بخبر الواحد؟(2)
وبعبارة أخرى: «الكبرى» كلامية و«تعيّنها» في ضمن هذا النوع أو ذاك «أصولية»، وأما في «الصفات»، فما هو أصولي: هو حجية ظهور إتصافهم بهذه الصفة على جواز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - إتصفانا بها. كما أن براهين الحجية تعد من «الأدلة» أو من «المبادئ التصديقية» على ما فصلناه في الرسالة.(3)
أو يفصَّل على حسب المعنى المراد من «الحجة» فإن أريد بها «صحة الاحتجاج» فبحث حجيتهم صلوات اللّه عليهم مسألة كلامية، وكذا لو أريد «المنجزية والمعذرية». أما لو أريد «وجوب المتابعة» فمسألة أصولية، ومثلها ما لو أريد «الكاشفية» فتأمل جداً.
ص: 173
وعلى أي تقدير، فإن البحث عن كل من «براهين حجية السنة بقول مطلق»، و«حجية الصفات والذوات» - والأولى(1) من «المبادئ التصديقية»(2) لعلم الأصول، والثانية أي متعلقاتها(3) من «مسائله»(4) - أولى(5) - دون شك - من بحث الكثير من مباحث «المبادئ التصورية»(6) أو «التصديقية»(7) أو «الأحكامية»(8)
- بناء على كونها قسماً ثالثاً - في علم الأصول، وبالعشرات أو بالمئات من الصفحات، ومنها مباحث، الحقيقة والمجاز، وعلائمهما والمعنى الحرفي، والمشتق - فتأمل.(9)
ص: 174
والحاصل: إن وزان حجية الذات والصفات، وزان حجية خبر الواحد، وما يرد عليه يرد عليه، والجواب، الجواب.
توضيح ذلك:
إن مثل بحث حجية «خبر الواحد» بناء على كون موضوع علم الأصول «الأدلة الأربعة بوصف الدليلية» - كما هو مختار صاحب القوانين(1) - لا «ذوات الأدلة الأربعة» - كما ارتضاه صاحب الفصول(2) - لا يكون البحث عن «حجيته» عندئذ، بحثاً عن عوارضه الذاتية؛ إذ يكون البحث عن حجية أحد الأدلةعلى ذلك، بحثاً عن وجوده وتحققه، أي بحثاً عن مفاد هل البسيطة لا المركبة، وهو - على مبناهم(3) - ملاك عدم كونه «مسألة»؛ لإلتزامهم بلزوم كون «المحمول» عرضاً ذاتياً ل«الموضوع»، وهذا بحث عن أصل وجوده، فهو من «المبادئ التصديقية» بل من «المقدمة» كما صرح به بعضهم - كما حررناه في «الرسالة».(4)
ص: 175
وكذلك الكثير من «مباحث الألفاظ»، بل وغيرها أيضاً، فإنها تخرج عن «المسائل» حتى على قول صاحب الفصول؛ لأن البحث فيها ليس بحثاً عن «الأعراض الذاتية» للأدلة الأربعة؛ إذ ليس البحث عن «خصوص الأمر» الوارد في الكتاب مثلاً.(1)
بل تخرج تلك المباحث على كلا القولين، لوجه آخر أيضاً هو: لأن «الخبر» حاك عن السنة، وليس منها، ولهذا البحث مجال آخر.(2)
وموضع الشاهد: أن تلك البحوث، تعد من المبادئ التصديقية لعلم الأصول - على بعض المباني أو كلها - ولم يمنعها كونها منها وعدم كونها من المسائل، من إدراجها في «علم الأصول»، فَلِمَ لا تجعل مباحث براهين حجية السنة»(3) و«حجية الصفات، ونفس تلك الذوات المطهرة» من «الأصول» وإن فرضت من مبادئه التصديقية؟
بل لقد أفردوا «للقطع» مساحة واسعة، مع تصريح بعضهم كصاحب الكفاية «قدس سره» بقوله: «وإن كان خارجاً من مسائل الفن، وكان أشبه بمسائل الكلام، لشدة مناسبته مع المقام»(4) فكيف لا يُفرَد لمباحث «السنة» - وإن كان بعضها كلامياً - مساحة في علم الأصول، ولو باعتبارها من «المبادئ التصديقية»؟
ص: 176
ولعل ذلك من أسباب إزدياد وكثرة التشكيكات في هذا الزمن، ومن علل جهل بعض الطلبة بمباحث «العصمة» وفروعها، وغيرها، وإنكار بعض الناس لها، رغم أنها الأساس لعلم الأصول والفقه، بذاتها، وعمومها، وبالكثير من خصائصها، فتدبر.
ص: 177
ص: 178
ص: 179
ص: 180
ص: 181
ص: 182
هل«الأصول العملية» حجة؟(1) الظاهر أن «الأصول العملية» تعد من «الحجج» الشرعية، ولا يَرِد أن «الأصول العملية» ليست بحجة، بل هي وظيفة للشاك في مقام العمل؟
إذ يقال: سبق أنها «حجة» بالمعنى اللغوي؛ لأنها مما يحتج بها العبد على المولى - لدى إجراء أصل البراءة مثلاً - أو المولى على العبد - في موارد أصل الاشتغال أو استصحاب التكليف - و كما أنها «حجة» بمعنى المنجزية والمعذرية، وأما لو أخذت «الحجة» بمعنى «الكاشف»، فإن الأصول وإن لم تكن كاشفة عن الواقع و«الحكم الشرعي»، إلا أنها كاشفة عن «الوظيفة».
وبعبارة أخرى: «الأصول العملية» «حكم» بمعنى «الحجة»، لا بمعنى ما تدل عليه من الأحكام؛ إذ فصلنا في موضع آخر إطلاقات الحكم.
والحاصل(2) أن التعبير ب- «الحجج الشرعية» على عدد من التعريفات الأخرى، أخص من المبحوث عنه في علم الأصول(3) عكس ما لو أخذت «الحجة» بمعنى: ما يحتج به المولى على عبده في الفروع وفيما يرتبط بأفعال المكلفين، أو المنجز والمعذر مثلاً؛ فإن «الأصول العملية» معذرة، فلو لم يعلم الحرمة، فأجرى البراءة بعد الفحص، فاقتحم، فإنه معذور، ومنجزة أيضاً، كقاعدة الاشتغال وإن لم تكن طريقاً ولا كاشفاً.
ص: 183
وكذلك لا إشكال لو أخذنا الحجة بمعنى «الكاشف»، وعممناه للكاشف عن الحكم والكاشف عن الوظيفة.
ويمكن الذب عن الإشكال على تعريف أصوليٍّ كالمحقق النائيني «قدس سره» - للحجة الأصولية ب- «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها» بعدم شمولها للأصول العملية، بأن المقصود ب«الأدلة الشرعية» الأعم من الدليل على الحكم والدليل على الوظيفة، لكنه كان ينبغي على هذا إضافة «والأصول» على «من الطرق والأمارات»، وإرادة الأعم من الحكم والوظيفة من «متعلقاتها».
لكن لا يخفى أنه يبعد توجيه تعريف «النائيني» بذلك؛ لظهور حصر «الحجة» بالأدلة الإجتهادية وما يكشف عن الحكم، في هذا التعريف، وإرادته خصوص الدليل على الحكم من «الأدلة الشرعية» لذا حددها ب- «من» البيانية ب«الطرق والأمارات»، كما أن مراده من «متعلقاتها» خصوص الأحكام.
وعلى أي تقدير، فإن من الضروري لدفع الإشكال، أخذ «الحجة» بالمعنى الأعم، سواء عرفناها بما يحتج به المولى على العبد وبالعكس فيما يتعلق بأفعال المكلفين، أم المنجز والمعذر، أم الكاشف، فيراد بها الأعم من الكاشف عن الحكم والوظيفة، ومثل ذلك يقال في «الأدلة».
وقد اتضح بذلك أن أ- جعل «الحجج» بحيث تشمل الأصول العملية؛
ص: 184
نظراً لأننا لدى وضع الاصطلاح الأصولي(1) نحتاج لجامعٍ، و«الحجة» أفضل جامع، هو الأولى من جعلها اصطلاحاً لما يقابلها، ب- ثم جعل «الطريق» أو «الدليل» لخصوص «الأدلة الاجتهادية»، و «الأصل» للأصول العملية، وإن كان الأولى جعل «الطريق» فقط لها، لكون «الدليل» أيضاً كالحجة منصرفاً للأعم ولو بدوياً(2) - فتأمل.
وبذلك(3) نحرز فائدتين، الأولى: سلامة «تعريف علم الأصول» عن إشكال تعدد موضوعه؛ بسبب تعدد محموله دون جامع.
الثانية: سلامة تعريف «الحجة» في علم الأصول عن كونه تعريفاً بالأخص(4)، كما في تعريف المحقق النائيني «قدس سره»، مما ينتج إدخال الأصول العملية، والأدلة الاجتهادية تحت جامع واحد، وهو مقتضى الطبع أيضاً؛ إذ «الأصول» عقد مقدمة للفقه، والفقه هو كل ما يرتبط بأفعال المكلفين، من «حكم» أو «وظيفة»؛ إذ:
«موضوعُهُ فعلُ مكلفينا *** غايتُه الفوزُ بِعِليِّينا»
وليس «أحكام» أفعالهم فقط، فالأصول يبحث عن «الحجة» على الحكم، والوظيفة، وهذا هو المهم للأصولي، كما أنه الذي ينفع ويهم الفقيه ومطلق المكلَّف، وليس خصوص «الحكم» فقط.
وبعبارة أخرى: عند التأمل في ما الذي يهم «المكلف»؟ نجد أن الذي يهمه هو ماذا يسوغ له أو لا يسوغ له أن يصنع، ولا يُهمُّه ولا ينفعه أو يضره: كون جوازه أو حرمته بنحو الحكم الواقعي أم الظاهري؟ أي لا يهمه كون ما يصنع
ص: 185
حكماً أو وظيفة؟
وعند التأمل في ما هي «مسؤولية الفقيه»؟ يتضح أن مسؤوليته أن يبين للناس ما يلزمهم أن يفعلوه أو يتركوه، أو ما لا يلزمهم أحد طرفيه، أما أن ما يفعلونه أو يتركونه، هل هو لكونه مؤدى دليل أو أصل ومن باب الحكم أو الوظيفة؟ فليست مسؤوليته.
وعند ملاحظة «مسؤولية الأصولي» نجد مسؤوليته أن يبين للفقيه الحجج بمراتبها الطولية، من أدلة اجتهادية وأصول عملية، وليس خصوص الأولى، أي مطلق القواعد التي بها تعرف الوظيفة الفعلية بالمعنى الأعم من الحكم والوظيفة.
وبعبارة أخرى: كون الاستصحاب مثلاً - وكذلك قاعدة الفراغ وأصالة الصحة – من الأمارات، أو من الأصول المحرزة التنزيلية – حسب ما ذكره المحقق النائيني «قدس سره» – أو من الأصول العملية غير المحرزة(1)، مبحث علمي مفيد معرفياً في كونه كاشفاً عن الواقع، وأنه «في ظرف الشك» أو «موضوعه الشك»؛ وقد لوحظت فيه كاشفيته عن الواقع أو لا، لكن الفقيه ليس واجباً عليه إبلاغ المكلف بذلك، كما لا يجب على المكلف معرفة وجه عمله، وأن وجوبه مثلاً لدلالة الدليل عليه - كخبر الواحد - أو لقاعدة الاشتغال، أو أن إباحته هي للدليل أو لأصالة البراءة.
وأما تفكيك الأصولي بين الأدلة والأصول؛ فإنما هو لمعرفة مرتبة كل منها ومجراه، وليس لأنه المطلوب بالذات، بل المطلوب بالذات كشف «الحجة» بقول مطلق.
ص: 186
ويدل على ذلك: أن بناء العقلاء - وهو عمدة مدرك التقليد(1) - على وجوب معرفة الوظيفة العملية - بقول مطلق - للمكلف اجتهاداً أو تقليداً، والاستناد إلى «الحجة» في ذلك، ولا يرون وجوب معرفة أو بيان كونها طريقاً أو وظيفة.(2)
ويمكن الاستناد في ذلك لعدد من الآيات والروايات الدالة على «التقليد» أيضاً، كقوله تعالى :﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾(3) فإنها تشمل الإنذار بالأحكام والوظائف، أي «الإنذار»
بمؤديات الأدلة والأصول معاً، كما أن «الدين» أعم منهما، وهي بأجمعها من «الدين» فإنه لا شك في انقسام الأحكام الى الواقعية والظاهرية - ببعض معانيه -.(4)
أفرأيت الاستصحاب - مثلاً - من «الدين» لو اعتبرناه كاشفاً، وليس منه لو اعتبرناه أصلاً مثلاً؟ وكذا وجوب الاحتياط في الأجزاء، لدى الشك في العنوان والمحصل؟(5)
وكذا قوله عليه صلوات اللّه: «فللعوام أن يقلدوه»، فإن من البيّن
ص: 187
أن إجراء أصل البراءة في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، أو في التدريجيات - على رأي - وعدم إجرائها في أطرافه في المحصورة، وفيما خرج عن مورد الإبتلاء لاحقاً - على رأي - هو مما على العوام أن يقلدوا فيه.
كما يمكن الاستناد في ذلك إلى «الغاية» من كل علم؛ فإنها هي التي تحدد موضوعه وتعريفه ومسائله، و«الغاية» من علم الأصول هي كشف « الحجة » بالمعنى الأعم – الشامل للحجة على الحكم والحجة على الوظيفة، أي بمراتبها الطولية – «المشتركة القريبة(1)في الفقه»، أي «الحجة» على المكلف، أي تحصيل «المؤمِّن»(2) الكلي من العقاب المحتمل، و«المؤمِّن» أعم من مؤدى الحكم والوظيفة، أي «الحجة» القريبة المشتركة الدالة على وجوب أو لزوم شيء أو عدم وجوبه ولزومه مثلاً، إما كون «عدم وجوبه» مستنداً للكاشف كخبر الواحد أو مستنداً لغيره كأصالة البراءة، وأن عدم وجوبه موضوعه الشك، أو ظرفه الشك فلا يهم(3)، وكذا كون «وجوبه» أو «لزومه» مستنداً للكاشف كخبر الواحد، أو لقاعدة الاشتغال، فلا يهم من حيث الغاية المتوخاة، وإن كان مهماً من حيث معرفة مدرك الوجوب أو اللزوم.(4)
وبعبارة أخرى: لو كان خبر الواحد حجة من باب التعبد، لا من باب
ص: 188
الكاشفية(1)، هل كان يغير من علم الأصول(2)، أو من وظيفة المكلف شيئاً؟
وبعبارة أخرى: كون «الأدلة»(3) كاشفة عن الواقع، وعدمها، أو كون بعضها كذلك دون البعض الآخر بل هو بعدَ فقدِ الكاشف، وظيفةٌ، هي من المبادئ التصديقية(4) لعلم الأصول؛ فإنه بحث عن خواص موضوع علم الأصول وهو «الأدلة الأربعة» - بذواتها أو بوصف الدليلية - أو «الحجة المشتركة القريبة في الفقه» أو «الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة» وموضوع علم الأصول – سواء كان الأدلة الأربعة أو الكلي المنطبق – هو أعم من الدليل على الحكم والدليل على الوظيفة، ف«رفع ما لا يعلمون» و«أخوك دينك فاحتط لدينك» - وهما من السنة - دليل على «الوظيفة»، و«فتبينوا» و«لينذروا قومهم» و«فإن المجمع عليه لا ريب فيه» دليل على «الحكم»، فالدليل عليهما هو المحور، وليس الكاشف منهما فقط، ليكون الآخر(5) أجنبياً عن موضوعه.
ص: 189
ص: 190
ص: 191
ص: 192
ص: 193
ص: 194
والمراد من «الحجة» ههنا الأعم مما يصح الاحتجاج به، ومما يلزم الحركة على طبقه، ومن «الكاشفية» الأعم من الكاشفية عن الواقع التكويني والكاشفية عن الحكم الشرعي، والأعم مما يورث الظن النوعي، وما يورث الظن الشخصي الذي يعتبر حجة أو مرجحاً على القول بالإنسداد، سواء الكبير منه أو الصغير؛ فإنه حجة شرعاً على «الكشف»، وعقلاً على «الحكومة».
إن «قواعد التجويد» من مدّ وإدغام وتنوين وغيرها، يمكن أن تعد من «الحجج»، كما أنها قد تكون مرجحات، وقد تكون مؤيدات؛ فإنها ذات دلالة بالغة في المعنى؛ فإنّ مدّ ﴿حُجَّتُنَآ﴾ في قوله تعالى ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنآ آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾(1) مثلاً، ربما يفيد قوة الاحتجاج، والإحكام والمتانة والإلزام للخصم، أو شدة الكاشفية عن الواقع، أو ما يلزم الحركة على طبقه، إذا أريد أيّ منها ولو بنحو الدلالة الإلتزامية، فمدّ «حجتنا» يفيد أنها حجة قوية محكمة، لا ريب فيها ولا شك؛ وذلك لمناسبة حسنِ مطابقةِ الوجود اللفظي للوجود العيني والاعتباري، فإن خصوصيات «المدلول» وحالاته، كلما تجسدت في «الدال» وتمثّلت فيه، كان أدل على القدرة والحكمة(2)، كما أن «الدال» كلما صار عاكساً لخصوصيات المدلول وأطواره وأبعاده، كان أكثر فائدة وأكثر بلاغة.
ص: 195
كما أن مدّ ﴿آتَيْنَاهَا﴾ في الآية الشريفة يفيد التأكيد، أو القوة في الإعطاء، وعمق المنة والامتنان.
كما أنّ المد في ﴿ فَلَمَّآ أَفَلَ﴾ ربما يفيد: استغراق الأُفول وقتاً وهو طول فترة انتظار إبراهيم «على نبينا وآله وعليه السلام»، لأفوله، أو يفيد شدة ترقبه له وانتظاره، أو لإلفات السامع أكثر، أو لغير ذلك من الفوائد.
والمد في ﴿لآ أُحِبُّ﴾ يفيد التأكيد، وشدة النفي.
وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾(1) قد يستفاد منه استغراق ذلك زمناً، أو الشدة والقوة في المجيء بها.
وكذلك قوله تعالى: ﴿مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾(2) يدل على شدة استيائهم، أو استمراره زمناً، وكذا ﴿إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾(3)، يدل على حتمية مجيء النصر، أو قوته وشدته أو ما أشبه.
وكذلك الحال في الآيات الشريفة التي استند إليها في علم «الأصول» في شتى مباحثه، فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.(4)
ص: 196
فإن المدّ في ﴿طآئِفَةٌ﴾ ذو دلالة بالغة، ولعله يدل على لزوم كون الطائفة كافية وافية بأداء المطلوب، خاصة مع لحاظ المادة وأنها من طاف يطوف، فتدل على لزوم كون الطائفة من الكثرة بحيث يمكن أن تطوف على جميع المنذرين.
كما أن الإدغام في ﴿فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ﴾ - حسب قاعدة حروف يرملون - ذو دلالة أيضاً، ولعلّه يدل على رجحان أو لزوم كون «الفرقة» من صميم القوم ومن متنهم؛ فإنه أقوى في تحقق الغاية وهي «الحَذَر».
وكذلك فإن لإدغام ﴿طائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا﴾ دلالة أكيدة، ولعله يدل على ضرورة تلاحم الطائفة بالفقه، وتفرغهم له، وللمد في ﴿رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ دلالة بالغة؛ ولعله يدل على لزوم العودة، في الوقت المناسب، وعدم «البقاء» نظراً للمغريات هنالك، أي أن «النفر» و«البقاء» له الطريقية، لا الموضوعية...
وكذلك الحال في «المدّ» في ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾.(1)
وهكذا وهلم جراً.
وسيجد المتتبع في كل أو أغلب الآيات التي استند إليها «أصولياً» أو «فقهياً» الكثير الكثير من الشواهد على ذلك.
لا يقال: لا يرقى ذلك إلى درجة «الظهور» و«الظن النوعي»؟
إذ يقال: بل قد يكون بعضه كذلك، ثم إن ما لم يرقَ فإنه يصلح مؤيداً، و«المؤيدات» بإجتماعها قد تكون دليلاً، نظراً لحساب الاحتمالات، وغيره.
وقد يقال: إن الظهور الحاصل من القواعد التجويدية، أقوى من الظهور السياقي، وقد يختلف باختلاف الموارد، لكن «العرف» هو المرجع، فتأمل.
ص: 197
ثم إن الأحكام المستفادة من القواعد التجويدية - على فرضها - قد تكون فقهية، أو أصولية، أو أخلاقية، أو غيرها.
والحاصل: أن الأمر في «قواعد التجويد» كالأمر في «الإعراب»؛ حيث أنه يفيد معاني كثيرة، فالرفع يفيد أن المرفوع فاعل، وقد يفيد أنه مبتدأ أو خبر، والنصب يفيد أنه مفعول به أو له أو معه، أو حال أو تمييز، أو ما أشبه، وهكذا، وكذلك قواعد التجويد.
إلا أن الفرق إن علماء النحو كانوا أقوى على إقناع الناس بأهمية علمهم، ولم يكن علماء التجويد بتلك المثابة، فكان أن تصور الناس أن قواعد التجويد هي أمور جمالية فقط.
لا يقال: لو لم تراعَ قواعد النحو، كان الكلام غلطاً، دون قواعد التجويد؟
إذ يقال: أولاً: قواعد التجويد كذلك في الجملة، ولعل لذلك ذهب الكثير من الأعلام إلى وجوب مراعاة قواعد التجويد في «القراءة» ولو في الجملة؛ فإن «الفقهاء» ذهبوا إلى وجوب مراعاة عدد من قواعده، كالمد الواجب، والتشديد، والسكون اللازم، فلو أخل بها بطلت.(1)
كما قالوا: بأن الأحوط مراعاة عدد آخر من قواعد التجويد، احتياطاً وجوبياً ك- «ترك الوقف بالحركة، والوصل بالسكون»، أو استحبابياً فإن «الأحوط الإدغام إذا كان بعد النون الساكنة أو التنوين، أحد حروف يرملون مع الغنة فيما عدا اللام والراء، ولا معها فيهما، لكن الأقوى عدم وجوبه»(2).
ص: 198
كما ذهب جمع إلى أنه «ينبغي أن يميز بين الكلمات، ولا يقرأ بحيث يتولد من الكلمتين كلمة مهملة كما إذا قرأ «الحمد لله» بحيث يتولد لفظ «دللل...»(1) - فتأمل.(2)
ثانياً: ليس كل المذكور في النحو ضرورياً ومما لو لم يعلمه المرء كان كلامه غلطاً، بل فيه الكثير مما لا يضر جهله، بصحة الكلام، ولا يؤثر علمه في تصحيح اللسان.(3)
ص: 199
ص: 200
ص: 201
ص: 202
ص: 203
ص: 204
قال الشيخ قدس سره: «اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن...».
وهو تقسيم أوليّ بلحاظ «حالات المكلف» باعتبارها موضوعاً للحكم أو ظرفاً له، مجرى له أو دليلاً عليه(1)،فلا يرد عليه تداخل الأقسام من حيث الأحكام.(2)
والتحقيق: إن البحث عن حالات المكلف، وأنها إما «قطع» أو «ظن» أو «شك»، يقع في جهات، ومنها: أن «المنفصلة» غير حاصِرة، وذلك لوجود حالة رابعة، هي «الوهم»، أي «المحتمل احتمالاً مرجوحاً» في مواطن تكليفه، فهل الأصح الاقتصار على الثلاثة لأنها منشأ الأثر والفائدة؟ أم أن «اللازم» إضافته لتتربع الأقسام؟ لا لرجحان مطابقة الإثبات للثبوت فقط، بل لكونه منشأ الأثر أو مورده أيضاً؟ كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، من «الاحتمال المرجوح» في الشؤون الخطيرة، أو في أطراف العلم الإجمالي، أو في الشبهة البدوية قبل الفحص، أو لدى الدوران بين التعيين والتخيير، مع ما يمكن أن يورد عليها، وأجوبتها.
ص: 205
بل هل توجد حالة خامسة للمكلف - حين الالتفات - هي «الإهمال» - وهي غير الغفلة -؟
فإن الناظر في نسبة محمول لموضوع، قد يكون في مقام «التصور» فقط دون «التصديق» فهي حالة خامسة(1) وهو كثير في العلوم(2)، والحالات الأربعة(3) إنما هي في مرحلة التصديق، «فالمنفصلة» حقيقية، في مرحلة التصديق دون «التصور»؛ فإنه في مقامه(4) فإنه مقسم لا قسيم؛ ولذا صح الحكم عليه بالانقسام.(5)
ولكن لم تذكر هذه الحالة لأنه لا يترتب عليها أثر، وليس ذلك لأنها مستبطنة في «التفت»؛ لأنه(6) أعم من التصور والتصديق، ولعل الظاهر من الشيخ قدس سره أنه كان في مقام «التصديق» لا صرف «التصوّر».
ولنعطف عنان الكلام إلى الحالة الرابعة وهي «الوهم»، فنقول وباللّه الاستعانة:
به «الاحتمال المرجوح» أو «الاحتمال المتفصل بفصل الوهم»، لا «الاحتمال» المطلق بنحو اللابشرط؛ فإنه «المقسم» للأربعة(1) فلا يصلح قسيماً، وإن أمكن جعله «المحور» فيكون التقسيم ثنائياً أولاً ورباعياً ثانياً(2) ويكون المجموع خمسة أقسام.(3)
بيان ذلك: أن «التقسيم» إن كان بلحاظ الثبوت والواقع ونفس الأمر، وما يطرأ على النفس من حالات، اقتضى «التربيع» كما لا يخفى، وإن كان بلحاظ ما يعقد لها من البحوث والعناوين، وما يترتب على كل منها من الآثار والأحكام، أو ما يجري في مجاريها منها - كما هو الظاهر - اقتضاه أيضاً؛ إذ لا ريب في وجود سلسلة من الأحكام «للوهم» أو «الاحتمال»(4) وفي ترتب جملة من الآثار عليه، أو كونه مجرى للعديد منها، وسيتضح بذكرها عدم تمامية ما ذكر من الوجه لعدم ذكر «الوهم» من «لأن الظن له حكم دون الوهم»(5)، هذا.
وسيظهر مما سنذكره، من أحكام «الوهم» وآثاره، أنه بلحاظها قد يكون
ص: 207
مبحث الوهم مسألة أصولية، وقد يكون مبدءاً تصديقياً ومسألة كلامية، وقد يكون مسألة فقهية؛ فإنه بناء على كون «الوهم» مما يحتج به المولى على عبيده، بناء على مسلك حق الطاعة الإثباتي، فإنه سيكون كخبر الواحد، من صغريات موضوع الأصول، وهو «الحجة المشتركة القريبة في الفقه» كما صرنا إليه، أو «الحجة في الفقه» كما ذهب إليه السيد البروجردي قدس سره.
وأما بناءً على كون موضوعه «الأدلة الأربعة بذواتها» أو «بوصف الدليلية»، كما ذهب إليه صاحبا الفصول والقوانين، فإن «الوهم» يكون مبدءاً تصورياً وتصديقياً لعلم الأصول؛ حيث إنه يكون «مجرى» أو «موضوعاً» لمتعلق موضوعه، وهو الحكم الشرعي(1) - بل يكون كالشك، موضوعاً للبراءة، وهي مسألة أصولية، فهو موضوع المسألة الأصولية، أو كالظن المعتبر، دليلاً على الاشتغال، بناء على مسلك حق الطاعة الإثباتي، فيكون البحث عن حجيته، مسألة أصولية كالبحث عن حجية خبر الواحد؛ لكونها من العوارض الذاتية له، وذلك بعد تعميم «الأدلة الأربعة» للحاكي عنها كما صنع الشيخ، لتشمل مثل «خبر الواحد»؛ فإن «الوهم» بناء على مسلك حق الطاعة، يكون كسائر الأدلة من «ظواهر» و«أخبار آحاد» و«يقين مسبوق بالشك» وغيرها، دليلاً وحاكياً عن الحكم الشرعي أو الوظيفة العملية، فتأمل.
وبعبارة أخرى: إن «الظن المعتبر»، كخبر الواحد، دليل عام مشترك على الحكم الشرعي الفرعي، و«الوهم»، بناء على مسلك حق الطاعة، دليل على الحكم الأصولي وهو الاشتغال، أي دليل عام مشترك على الحكم الشرعي الفرعي في شتى الأبواب، فهو من «الحجج» في الأصول، أيضاً، أو هو مجرى البراءة، لا على ذلك المسلك، فهو كالشك، موضوع هذه المسألة، ودليل الحكم
ص: 208
أيضاً، فتأمل.(1)
وأما لو قلنا بأن «الوهم» ليس بحجة مطلقاً، فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مسألة أصولية؛ إذ سيكون كالشهرة والإجماع المنقول، بناء على عدم حجيتهما؛ فإن «المسألة» أعم مما كان نتيجتها السلب أو الإيجاب، فكل ما يبحث عن حجيته في الفقه أو عدم حجيته، فهو مسألة أصولية، ولذا كان بحث «عدم حجية القياس» مثلاً، مسألة أصولية.
وأما كونه مسألة كلامية، فإنه إذا جرى البحث عن «منجزيته ومعذريته»، وأما كونه مسألة فقهية، فإنه إذا جرى البحث عن كون «الوهم» مقتضياً لوجوب الفحص، أو كونه «مسقطاً» للحد؛ إذا عدّ شبهةً عرفاً - فتأمل.
فمنها: إن «الاحتمال المرجوح» - وهو الوهم - مما قد يحتج به المولى على العبد، وهو «منجز» وذلك كما في الشؤون الخطيرة، سواء منها ما ارتبط بالعقيدة وأصول الدين، أم ما ارتبط بأفعال المكلفين، كما في الدماء والفروج والأموال، في الجملة.
ومنها: أن «الاحتمال المرجوح» قد يكون «مسقطاً للحكم» أو «معذراً»، وذلك كما في باب الحدود حيث «تدرأ الحدود بالشبهات» في كل «الأقسام الخمسة» للشبهة، أي سواء كانت شبهة المجتهد المرجع، أم شبهة القاضي، أم شبهة الشاهد، أم شبهة المدعي، أم شبهة المدعى عليه أو الجاني والمتهم(2)،ثم
ص: 209
سواء كانت شبهة حكمية(1) أم موضوعية،(2) في الجملة.(3) وذلك على ما حقق في محله في كتاب الحدود والتعزيرات.(4)
نعم لابد من صدق «الشبهة» عليه، إذ صرف «احتماله موهوماً» لا يسقط الحد، وعليه فالأثر أثر «الشبهة» لا «الاحتمال»، ويظهر جوابه مما سيأتي في الجواب عن أن «العلم الإجمالي» هو المنجز أو «الاحتمال»؟
ومنها: إن «الاحتمال المرجوح» في صورة الشك في «التكليف»، «موضوع عدمه» ومجرى للبراءة، بعد الفحص، ك«الاحتمال المساوي» أو «الراجح».
ومنها: أنه «موضوع العدم» في صورة الوهم أو الشك في «الحجية» أيضاً.
والحاصل: أنه كلما شك المكلف في «الحجية» أو توهمها، فلا حجية، كما أنه كلما شك في «التكليف» أو توهمه فلا تكليف.
ومنها: إن «الاحتمال المرجوح» في صورة الشك في «التكليف»، مقتضٍ لوجوب الفحص»، في «الشبهات الحكمية»، بلا إشكال ولا خلاف؛ فإن «البراءة» بقسميها(5) لا تجري إلا بعد الفحص، وفي «الموضوعية» في غير الطهارة والنجاسة وشبهها - على رأي بعض الفقهاء - فلو «احتمل تعلق الخمس به لاحتماله وجود فائضٍ على مؤونة سنته، عند رأس السنة(6) ولو احتمالاً مرجوحاً، وجب
ص: 210
الفحص»، فوجوبه معلول لاحتماله(1)، وذلك حتى مع وجود استصحاب «العدم»، فكيف مع عدم جريانه؛ لتساقطٍ بتعارض أو غيره؛ لبناء العقلاء، وانصراف أدلته عن مثله(2) أو مطلقاً(3)، فتأمل.
ومنها: إن «الاحتمال المرجوح»، مجرى بل موضوع «الاحتياط» مطلقاً، بناء على مسلك «حق الطاعة الإثباتي»(4) سواء تعلق «الشك» بالحكم، أم بالموضوع ذي الحكم أو محتمله، إذ لا مجال لقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» في الشبهات البدوية مطلقاً(5)، حتى بعد الفحص ما لم يقطع بالخلاف(6)، على هذا المبنى؛ نظراً لثبوت حق المولوية مطلقاً، واعتبار العقل «مجرد الاحتمال» نوع بيان ووصول، كافياً لحكمه بالاحتياط، نعم للمولى أن يتفضل، وقد فعل(7)، فلا تكليف وإن لم يقم علم أو علمي، على عدمه، بعد الفحص، نعم لو لم يتفضل المولى لوجب الاحتياط على ذلك المسلك ما لم يقم أحدهما.
ومن الواضح أن هذا «الحكم»(8) مغاير للحكم السابق بلزوم الفحص.(9)
ص: 211
ومنها: إن «الاحتمال المرجوح» المقرون بالعلم الإجمالي(1) في صورة الشك في المكلف به(2)، «منجز»، لتكاليف المولى الواقعية، و«موجب للاحتياط»، وإن لم توجَد ثبوتاً، وهو مما يحتج به المولى على عبده، كالمساوي، وهو مجرى الاشتغال، ما لم يكن قسيمه ظناً معتبراً.
لا يقال: «العلم الإجمالي» هو المنجز وهو «المحتج به»، لا «الاحتمال».
إذ يقال: أولاً قد يقال: إن «الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي» هو المنجز، فكل منهما جزء العلة.
ويعرف ذلك بالمقابلة؛ فإن «الاحتمال» على قسمين: «غير المنجز»، وهو ما كان في الشبهة البدوية غير المقرونة بالعلم الإجمالي، بعد الفحص، أو قبله في الجملة(3)، و«المنجز» وهو ما كان مقروناً بالعلم الإجمالي أو ما كان في الشؤون الخطيرة وإن لم يقترن به، وبعبارة أخرى: «الاحتمال» في «التكليف» غير منجز، وفي «المكلف به» منجز وكلاهما في الجملة، فتأمل.(4)
كما يعرف ذلك بكون «العلم الإجمالي» «غير منجز» إذا كانت أطرافه غير محصورة؛ فإن السبب هو ضعف الاحتمال حتى يعدّه العرف بمنزلة عدمه، فالمقياس إذن هو: قوة الاحتمال(5) مقروناً بالعلم الإجمالي.
ص: 212
كما يعرف ذلك في صورة انحلال العلم الإجمالي حكماً، وإن لم ينحل حقيقة، فإنه رغم وجوده لا يؤثر، مما يظهر منه أنه ليس العلة التامة للتنجز ولصحة الاحتجاج.
وكذلك يعلم من حال «العلم الإجمالي التدريجي»، فإنه غير منجز - على رأي - فيعمل في موارده على حسب مجاري «الاحتمال»، فالأثر حينئذٍ للاحتمال، وكذلك الحال في ما لو كان أحد الأطراف خارجاً عن الابتلاء، فإن «العلم الإجمالي» غير منجز، ويعمل في الطرف الباقي في حيطة الابتلاءة، على حسب مقتضى الأصول الجارية فيه.
والحاصل: أن المجموع من «الاحتمال» بخصوصيته و«العلم الإجمالي» بخصوصيته، هو المقتضي للتنجز، بل إن «العلم الإجمالي» يدل بالدلالة التضمنية على «الاحتمال»؛ فإن العلم الإجمالي هو علم تفصيلي بالجامع، وجهل تفصيلي بالخصوصيات، والمجموع منها هو سبب التنجز - فتأمل.
ثانياً: سلمنا، لكن «الاحتمال» هو «مجرى» للاحتياط، والفرق بين الجوابين، بيّن؛ إذ أين «المجرى» من «السبب» أو «جزئه»؟ فهما كقولك «اليقين الملحوق بالشك» «سبب» لإبقاء ما كان على ما كان. و«الشك المسبوق باليقين» «مجرى» لإبقاء ما كان على ما كان. فالأحكام تترتب عليه وإن لم تكن بسببه.
والحاصل: أنه على الجواب الثاني، فإن «العلم الإجمالي» سبب، و«الاحتمال» مجرى.
بل قد اتضح من الثمرة السابقة أن «الاحتمال» سبب الاحتياط، والتنجز وإن لم يكن مقروناً بالعلم الإجمالي، بناء على مسلك حق الطاعة الإثباتي، فتأمل.(1)
ص: 213
ويكفي ذلك في ضرورة البحث عنه في «علم الأصول» ، كمبدأ تصوري وتصديقي(1)، وإن كان مسألة أصولية، بناء على الجواب السابق(2)، فكما أن «الشك المسبوق باليقين» - والأدق: الملحوظ فيه الحالة السابقة - مجرى للاستصحاب، كذلك «الاحتمال» - الأعم من الظن غير المعتبر، ومن الشك، ومن الوهم - المقرون بالعلم الإجمالي، مجرى للاشتغال.
وكما أن «الاحتمال - شكاً ووهماً وظناً غير معتبر - في أصل التكليف» مجرى البراءة بعد الفحص، كذلك «الاحتمال - بصوره الثلاثة - في المكلف به اذا اقترن بالعلم الإجمالي(3) مع إمكان الاحتياط»، مجرى الاشتغال. وأما «مع عدم إمكانه» - كالشك لدى تعلقه بأحد النقيضين - فإنه مجرى للتخيير، حسب الحصر الثاني للشيخ قدس سره في مجاري الأصول.(4)
ولا فرق في كل ذلك بين الاحتمال المساوي - وهو الشك بالمعنى الأخص - وبين الاحتمال المرجوح - وهو الوهم - أو الراجح - ما لم يبلغ حد الظن النوعي المعتبر -.
ومنها: «الاحتمال المرجوح» في صورة دوران الأمر بين التعيين والتخيير(5)؛
ص: 214
فإن «الاحتمال» في بعض صور الدوران بين التعيين والتخيير، مما يحتج به المولى على عبده، وهو «منجِّز»، وذلك كما «لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال»؛ نظراً للتزاحم، مع العلم بالتعيين في مقام الجعل، وذلك كما لو دار أمر الغريقين الواجب إنقاذهما، بين كون أحدهما المعيّن نبيّاً، ولم تكن للمكلف القدرة إلا على إنقاذ أحدهما، أو كان أحدهما ميتة شاة والآخر ميتة كلب، وقد اضطر إلى أكل أحدهما، فإن «احتمال» كون أحدهما نبياً وإن كان ضعيفاً، إلا أنه مما يحتج به، كما أنه منجز، فيستحق العقاب لو تركه فبان نبياً، وإن أنقذ الآخر، بل حتى لو كان غير نبيٍّ، بناء على حرمة التجري. و«الاحتمال» هو المنجز، وإن كان في ضمن الشك أو الظن، لا هما.
كما أن «الاحتمال» في بعض صور الدوران، «مسقط للحجية»، في طرفٍ، ومعيِّن لها في طرف آخر، وذلك كما «لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الظاهرية ومقام الحجية» وذلك كما لو علم بحجية مرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية، كما لو شك في أن «تقليد الأعلم» على العامي العاجز عن الاحتياط، واجب تعييني أو تخييري بينه وبين تقليد غير الأعلم، وهي شبهة حكمية، أو شك أن هذا هو «الأعلم»؟ أو هما متساويان في الأعلمية؟ -
في الشبهة الموضوعية - فإن «احتمال» كون تقليد غير الأعلم، باطلاً غير مبرئ للذمة، «موضوع عدم حجيته»، و«احتمال» تعيُّن تقليد الأعلم، منجز، يحصر الحجية فيه، حسب مبنى مَن ذهب لتعيين تقليد الأعلم.
وما ذكروه من أن «الشك في الحجية موضوع عدم الحجية» يراد به «الاحتمال» الذي في ضمنه، لا خصوصه؛ ولذا كان «الوهم» بالحجية وكذا «الظن» بها - ما لم يدل دليل خاص على اعتباره - كذلك، فالمدار على «الاحتمال».(1)
ص: 215
وتفصيل ذلك: أن لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، أقساماً:
منها: ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في «مقام الامتثال» نظراً للتزاحم، كما لو دار الأمر في إنقاذ أحد الغريقين(1) بين: «التعيين»؛ لاحتمال كون أحدهما نبياً أو ولياً، و«التخيير»، فإن «احتمال» كون أحدهما نبياً موجب لحكم العقل بالتعيين والتنجز؛ إذ لا ريب في جواز الإتيان به وتفويت الملاك الآخر؛ لدوران أمره بين أن يكون واجباً مخيراً بينه وبين الطرف الآخر، وبين أن يكون واجباً معيناً في مقام الامتثال، وعلى أي تقدير فإن الإتيان به خال من المحذور، على عكس الطرف الآخر؛ فإن الإتيان به(2) وتفويت الملاك «المحتمل» أهميته، لم يثبت جوازه؛ لأنه متوقف على عجز المكلف عن قسيمه(3)
«تكويناً» - والمفروض قدرته عليه - أو «تشريعاً» - والمفروض عدم أمر المولى بإتيان خصوصه(4) ليوجب عجز المكلف عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته، بل يستحق عليه العقاب بحكم العقل.
بل لا حاجة في مثله للاستدلال، لاستقلال العقل بحرمة المهم إذا أوجب تضييع الأهم. فيما كانت «المرتبة» بين الأهم والمهم، مما يقتضي الوجوب، لا صِرف الندب والاستحباب.
ومنها: ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في «الحجة»، كما لو شككنا في
ص: 216
أن تقليد الأعلم(1)، واجب تعييني على الجاهل العاجز عن الاحتياط، أم أنه مخيّر بينه وبين تقليد غيره؟
فإن «احتمال» عدم حجية تقليد غير الأعلم، وعدم مبرئيته للذمة مع وجود الأعلم، موجب لحكم العقل بعدم الحجية الفعلية.
وبذلك ظهر أن قولهم: «الشك في الحجية موضوع عدم الحجية» يراد به الأعم من الشك فيها ابتداءً، ومن غيره، كالشك فيها لدى الدوران، كما يستظهر أن «الشك» في قولهم «الشك فيها موضوع عدمها»، يشير في لُبّه إلى هذا، إذ لم يرد من «الشك» ما كان قسيماً للظن(2)
والوهم - والحال أنه المراد في تقسيم الشيخ «قدس سره» ظاهراً(3) - بل المراد به الأعم منهما، وهو المساوق للاحتمال ما لم يورث الاطمئنان(4)؛ فإن عدم الحجية أثر ولازم «الاحتمال».
كما أن احتمال تعين تقليد الأعلم، منجز عقلاً(5)، وذلك كله على فرض عدم قبول وجود «إطلاق» في المقام، كما لو كان دليل التقليد لبياً كبناء العقلاء وقيل بعدم بنائهم على تقليد غير الأعلم، أو بإجمال معقده، وكما لو كان نقلياً مجملاً أو مهملاً.
والحاصل أنه كلما «احتملت الحجية» كان الأصل عدمها، وكلما
ص: 217
«احتمل تعيُّنها» كان الأصل تعينها.
ومنها: ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة «الجعل» في الأحكام الواقعية، ولذلك صور عديدة نكتفي بذكر واحدة منها وهي:
ما لو علم أن الشارع قد أنشأ وجوب فعل «كالقراءة في الصلاة» في الجملة، وعلم أيضاً سقوطه عند الإتيان بفعل آخر «كالصلاة جماعةً»، ودار الأمر بين أن يكون الفعل الثاني - وهو الجماعة في المثال - «عِدلاً» للواجب - وهو القراءة - ليكون الوجوب تخييرياً «بين الجماعة والقراءة» أو «مسقِطاً» لاشتراط التكليف بالقراءة بعدم الإئتمام.
وحينئذ ف«لو تعذرت عليه القراءة»، فإن «الإئتمام» مبرئ للذمة قطعاً، على كلتا الصورتين «أي سواء كان عدلاً أو مسقطاً».
وأما الصلاة فرادى بدون قراءة، فهي مبرئة، لو قلنا بأن الائتمام مسقط، فحيث لم يأتمّ - إذ الفرض أنه مسقط ولا دليل على وجوب المسقط للواجب - لا تجب عليه القراءة - للفرض أنه عاجز -.
وأما لو قلنا بأن الائتمام عِدل، فلا تصح الصلاة فرادى دون قراءة، لأن الواجب التخييري يتعين أحد طرفيه - وهو الائتمام - مع العجز عن الطرف الأول.
فتحصل: أن «احتمال» كون «الائتمام» عدلاً، موجب، لوجوب الإتيان به عند تعذر القراءة.
وبذلك اتضح عدم تمامية الوجهين الذين ذكرا لعدم ذكر «الوهم» في الأقسام:
ص: 218
من «لأن الظن، له حكم دون الوهم»(1) و «مع أنه لا معنى للتكلم عنه؛ لعدم ترتب أثر عليه من حيث إنه وهم، بوجه من الوجوه كما هو واضح»(2)؛ إذ اتضح أن الوهم أيضاً له أحكام كثيرة، بل قد يترتب «الأثر» عليه دون «الظن»، وذلك كالاحتمال مطلقاً في الشؤون الخطيرة، فلو «ظن» أن ذلك الشبح القادم من بعيد «حيوان»، و «احتمل» أنه إنسان، وجب الاحتياط؛ بعدم رميه، لا لأن كونه حيواناً لا أثر أو حكم له؛ إذ حكمه جواز صيده ورميه - صغرى - ولأن وجود الأثر وعدمه مقوِّم لإجراء «الأصل» وعدمه، لا لغيره - كبرى - نظراً(3) لهذا «الاحتمال المرجوح» وهو «الوهم»، ولم يجز له أن يعمل بظنه، بل لو «احتمل» التكليف من المولى، وجب «الفحص» ولم يعتن بظنه، كما وجب عليه بصِرف هذا الاحتمال «الاحتياط قبل الفحص»، ولو لم يحتط واقتحم استحق العقاب لو طابق(4) وإلا كان متجرياً، وقد أشرنا في موضع آخر إلى إشكالات في المقام مع الأجوبة عليها.
ومن «إلا أنه لمكان لزومه للظن، لم يعقل جعله مقابلاً له»(5).
وفيه: إضافة إلى ما سبق: إن «اللزوم» دليل «التغاير»، فهو غيره، و«مقابل له» فله حكمه.
والحاصل أنه في عالم الثبوت ونفس الأمر، فإن الوهم «مقابل» له تكويناً، فكيف يقال: «لم يعقل جعله مقابلاً له» إن أراد الجعل التكويني، وإن أراد «المقابلة في الحكم» كما هو ظاهر قوله "جعله" بقرينة المقام(6)، أي لم يعقل
ص: 219
جعل حكم مقابل لحكم الظن، ففيه أنه قد يكون «الحكم» للوهم دون الظن، كما يمكن جعل حكمين للطرفين، بل قد وقع ذلك، كما سيأتي بيانه.
ولعل منشأ الدعوى هذه(1)، توهم «لزوم» الوهم للظن، وأنه «اللزوم» المعهود المصطلح، كزوجية الأربعة، لكن التدبر يقود إلى أنهما «متلازمان» لا أن أحدهما ملزوم والآخر لازم، بل إن أيهما سبق في عالم الوجود الذهني، إلى الذهن، عند الإلتفات إلى نسبة حكمية، فهو الملزوم، كما أن حكمه غير حكم الآخر؛ لإختلافهما ذاتاً، والتفكيك بين حكم المتلازمين، والملزوم واللازم ممكن، بل واقع، بل إن دعت إليه الحاجة، فهو لازم، خاصة إذا كانا متقابلين، كالمقام.
ومن شواهد ذلك: ما ذكروه في الشاة المشكوك تذكيتها، فيستصحب عدم حلية لحمها لأن الأصل في اللحم الحرمة، كما ويستصحب طهارتها أيضاً، نظراً لتساقط أصلي عدم التذكية وعدم الموت، بالمعارضة(2)، أو لغير ذلك كما بينّاه في موضع آخر.
وما ذكروه من حكم الزوجين، لو طلقها وهي تعلم بفسق الشاهدين، بناء على أن عدالتهما شرط واقعي، أو تزوجها وهي عالمة بكونها أخته من الرضاعة وهو قاطع بالعدم، ففي مثال «التمكين» لكل منهما أن يعمل بوظيفته، فتأمل.
وكما في معاملة من يرى «الكر» ثلاثة أشبار في ثلاثة في ثلاثة، فتطهر من النجاسة الخبثية والحدثية، به، معاملة الطاهر أو غيره، في الصلاة وغيرها، إلى غير ذلك(3) - فتأمل.
ص: 220
وقد ذكرنا في موضع آخر أمثلة أخرى للتفكيك بين المتلازمين أو الملازم واللازم.
ومنها: «الاحتمال المرجوح» في مبحث «العنوان والمحصل» فإن الأمر لو تعلق بعنوانٍ، فإن كافة محصِّلاته وما له دخل في تحقيقه ولو احتمالاً مرجوحاً، يجب تحصيلها، وليست مجرى للبراءة؛ إذ بدون سدّ باب العدم من جهته، لا يحرز تحقق العنوان المأمور به، فلا يحرز الإمتثال.
وكذا الحال لو تعلق الأمر «بالغرض» كالأوامر المتعلقة بالطهارة من الحدث، كقوله تعالى: ﴿وإن كنتم جنباً فاطهروا﴾.(1) بناء على عدم كونها كناية عن أسبابها(2)، كالوضوء.
هذا. والفرق بين «العنوان» و«الغرض» هو أن «العنوان» هو الكلي الطبيعي للمأمور به، و«الغرض» هو علة فاعلية الفاعل، ومعلول في الخارج لذلك الكلي الطبيعي لدى تحققه.
والحال كذلك لو تعلق الأمر بعلة الغرض التامة - وهما الصورتان اللتان ذهب الميرزا النائيني فيهما إلى لزوم الاحتياط، في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر - وقد فصلنا الحديث عن ذلك وعن بعض ما خطر بالبال القاصر من التفصيل والأخذ والرد، في «فقه التعاون على البر والتقوى»(3) كما أشرنا إليه إشارة في مواضع من كتاب «شورى الفقهاء - دراسة فقهية أصولية».(4)
ص: 221
وكذلك الأمر لو علم «الغرض» وإن لم يكن متعلقاً للأمر(1)، وذلك بناء على أن «الأمر» ليس فقط هو الواجب إمتثاله، بل ما علم من أغراض المولى - وإن لم يأمر بها لمانع - كما أشار إلى ذلك المحقق الإصفهاني قدس سره في نهايته، وفصلناه في «فقه التعاون على البر والتقوى».
ولنذكر مثالاً لطيفاً لذلك، فإن قاعدة «الفراغ» جارية في الوضوء لو شك بعده؛ لموثقة بكير بن أعين(2) قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك».(3)
فإن تعليل(4) الإمام عليه سلام اللّه ب«الظن النوعي» الحاصل، وهو «الأذكرية» حين الوضوء، هو الحاكم على قاعدة الاشتغال لدى الشك في «العنوان والمحصّل»(5) وعلى أصالة العدم، فلا يعتنى ب«الاحتمال»، بينما نبقى على «الأصل» في قاعدة «العنوان والمحصل» وفي «الاستصحاب» لدى «تجاوز المحل» فلا تجري قاعدة «التجاوز» رغم وجود «الأذكرية» أيضاً؛ وذلك لصحيحة زرارة الآتية، مما يستنبط من مجموع ذلك(6)
كون بعض أنواع الظن النوعي فقط مخرجاً عن أصل الاشتغال في صورة الشك في «العنوان والمحصل»، دون غيره.
ص: 222
وصحيحة زرارة هي كما رواها الحر العاملي عن محمد بن الحسن الطوسي عن الشيخ المفيد عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد - وهو من مشايخ المفيد - عن أبيه عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبد اللّه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدرِ أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما، وعلى جميع ما شككت فيه إنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى اللّه ما دمت في حال الوضوء..».(1)
وأستاذ الشيخ المفيد وإن وقع فيه كلام لأنه لم يذكر في حقه توثيق، إلا أن الرواية صحيحة بالسند الآخر الذي ذكره الحر العاملي في آخر الرواية.
والحاصل أن «احتمال» عدم إتيانه بالجزء السابق من الوضوء مادام متشاغلاً به، وإن كان ضعيفاً، إلا أنه «منجز»؛ للرواية وللاستصحاب، ولقاعدة العنوان والمحصل، ولقاعدة «الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية»، وإن لم نقل بكون المقام فرضاً من باب «العنوان والمحصل» صغرى، أو قلنا بأن بحث هذه القاعدة إنما هو لو حصل «الشك» في «المحصِّل» من جهة الشك في اشتراط أمر أو جزئية جزء، لا ما لو كان من جهة القيام به وأدائه أو لا؛ إذ لا حاجة لقاعدة العنوان والمحصل فيه، بل تكفي قاعدة «الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينة»، فتأمل.(2)
وعلى أي، فإن هذا الحكم على مقتضى القاعدة في الشك في «العنوان والمحصل»؛ بناء على أن الواجب في باب الوضوء - على ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره - هو «الطهارة» المسببة عن الغسلات والمسحات، وهذه(3) ليست إلا محصلة للطهارة،
ص: 223
فكان مقتضى القاعدة الاحتياط؛ ولذلك ألحق الشيخ الأعظم «التيمم» و «الغسل» ب«الوضوء» في عدم جريان قاعدة التجاوز فيهما.
لكن قد يقال: «الأذكرية» علة وهي معممة ومخصصة، فهي حاكمة على «الاستصحاب» و«العنوان والمحصل»، فيقتصر في الخروج عنها على مورد النص فقط، وهو «الوضوء»، فيبقى التيمم والغسل على حالهما من جريان قاعدة التجاوز فيهما للأذكرية، اللّهم إلا أن يناقش في تحقق «الأذكرية» لدى التجاوز، أو يقال قياس الأذكرية بعد التجاوز، عليها بعد الفراغ، مع الفارق، فلا وجه للتعميم - فتأمل.
بل حتى لو لم يكن الواجب في باب الوضوء «الطهارة الحاصلة» بل نفس الأفعال، فإن الرواية على مقتضى قاعدة «الاستصحاب»؛ لأن ما شك فيه معلوم العدم سابقاً مشكوك الحدوث لاحقاً - أي بعد تجاوز المحل مادام متشاغلاً بالوضوء - كما أن ذلك هو مقتضى قاعدة «الاشتغال» - أي الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية -.
ثم إن الاحتمال قد يكون بذاته «منشأ» الأثر وقد يكون «مجراه»، كما قد يكون كذلك، لكن مشروطاً بلحوق أو سبق أمر.
وقد يمثل لذلك بالصوم مع احتمال الضرر، لكن لا مطلقاً، بل خصوص الموجب لخوف الضرر(1)، فإنه موجب لبطلان الصوم.
قال في «العروة الوثقى» في شرائط صحة الصوم: «السادس: عدم المرض أو
ص: 224
الرمد الذي يضره الصوم... سواء حصل اليقين بذلك أو الظن، بل أو الاحتمال الموجب للخوف، بل لو خاف الصحيح من حدوث المرض لم يصح منه».(1)
نعم ذهب الشهيد في الدروس(2) إلى عدم كفاية الاحتمال، لكن الأكثر - حسب ما حكي عنهم - ذهبوا إلى أن الاحتمال العقلائي المعتد به الذي يتحقق به الخوف، هو الطريق لإحراز الضرر، كما التزم به في المستند في شرح العروة الوثقى.
وقال السيد الوالد في «الفقه»: « "أو الاحتمال الموجب للخوف" عقلاً وإن كان وهماً، كما لو علم بأن واحداً من ثلاثة أشخاص يصومون، يبتلون بشدة المرض؛ فإن الاحتمال هنا وهم؛ لأنه واحد في مقابل اثنين، بل الواحد من العشرة أيضاً كذلك... وهذا هو المشهور وخصوصاً بين المتأخرين...».(3)
بل اعتبر أن إقصاء الاحتمال - والظن - عن كونه مؤثراً، خلاف دليل الامتنان الرافع للضرر(4)، فمقتضى الامتنان رفع التكليف بالصوم بمجرد احتمال الضرر العقلائي. هذا.
لكن قد يقال: إن «احتمال الضرر» العقلائي، هو منشأ الأثر في الصوم فليس مشروطاً هنا بلحوق أو سبق أمر، نعم مثل «الشك» في باب الاستصحاب، مجرى للحكم بشرطٍ(5) إلا أن يجاب بأن منشأ الأثر ليس صرف احتمال الضرر، بل خصوص الموجب للخوف منه، كما هو ظاهر عبارة «الفقه» و«العروة» -
ص: 225
والملاك لسان الروايات، إلا أن يقال: بأن خوف الضرر النوعي، لازمه(1) إن أريد به «الاحتمال العقلائي» فلا إنفكاك، ليشترط الانضمام، فتأمل.
ثم إن قسماً من أحكام الشك - أي المتساوي الطرفين - يجري في الوهم - أي الاحتمال المرجوح - أيضاً، وذلك في الأصول الأربعة كلها، كالاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.(2)
فإن «لأنك كنت على يقين فشككت» في صحيحة زرارة، لا يراد به خصوص الاحتمال المتساوي الطرفين، بل هو شامل للاحتمال المرجوح، بل والراجح أيضاً كما لا يخفى، «فالشك» بالمعنى الأعم، الملحوظ فيه الحالة السابقة، هو مجرى الاستصحاب. وعلى ذلك بناء العقلاء أيضاً.
وكذلك «البراءة» فإن «الشك في التكليف» الذي هو مجراها، يراد به الأعم.
وكذلك «الشك» في قولهم: «الشك في الحجية موضوع عدمها».
و كذلك الحال في «الشك» في أطراف العلم الإجمالي(3) - كما فصلناه في موضع آخر.
بل لدى التحقيق فإن «هذه الأحكام» كلها أحكام «للاحتمال»، وهو جنس
ص: 226
للوهم والشك والظن غير المعتبر، وقد خرج المعتبر منها(1) بالدليل، وليست أحكاماً للشك بما هو شك، أي بما هو متفصِّلٌ بفصل تساوي الطرفين، أو حتى مع تعميمه لمتقاربهما، فكيف يفرد «الشك» بالذكر دون «الوهم» مع أن كليهما بما هما هما(2)، ليس الموضوع للأحكام؟
ولو قيل أن الملاك الحالة النفسية بلحاظ ما لها من الأحكام، قلنا فاللازم التثليث بنحو آخر(3) أو التثنية(4) لا التثليث كما فصلناه في موضع آخر، فتأمل.
كما أن قسماً من الأحكام المذكورة للقطع في مبحثه، يجري في «الاحتمال المرجوح» أي «الوهم» أيضاً، مثل «التجري»، وذلك كما لو احتمل احتمالاً مرجوحاً أنها أخته من الرضاعة فعقد عليها دون فحص، ولم تكن كذلك، أو «توهم» أنه سم قاتل فشربه، ولم يكن.
فإن بحث «التجري» غير خاص بالقطع، بل يشمل جميع الأمارات المعتبرة، كما أن مخالف مقتضى الأصول العملية في الجملة(5)، يعد «متجرياً» لو بان لا كما اعتقد، وكذا الاقتحام في موارد «الاحتمال» في أطراف العلم الإجمالي(6)، فإنه منجز، و «الاحتمال» في الشبهة البدوية قبل الفحص.
قال في مصباح الأصول «إن بحث التجري... يعم كل منجز للتكليف ولو كان مجرد احتمال، كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف، فإن الاقتحام
ص: 227
في بعض الأطراف داخل في التجري، وإن لم يكن فيه إلا احتمال المخالفة للتكليف، وكذا الحال في الشبهات البدوية قبل الفحص، والجامع بين الجميع هو مخالفة الحجة، أي ما يحتج به المولى على العبد...».(1) وأضاف السيد الوالد قدس سره إلى تلك الموارد التي يجري فيها التجري «...وفي الخوف الذي يؤمر فيه بالارتكاب أو الاجتناب ولو كان دون الشك»(2) والظاهر أنه قسم آخر بلحاظ أنه في «الموضوع»، وما سبق من «الشبهة البدوية قبل الفحص» يراد بها الحكمية عادة، بل حتى لو أريد بها الأعم من الشبهة الحكمية والموضوعية قبل الفحص(3)، فإن عنوان «الخوف» عنوان آخر.
ومن الأمثلة على ذلك: ما سبق من «خوف الضرر لدى الصوم»، وكذلك «خوف الضرر من السفر»؛ فإنه سفر معصية عندئذٍ، أو «خوف الوقوع في الحرام لدى السفر»، خوفاً عقلائياً معتداً به.
ففي كل تلك الموارد تجري بحوث «التجرّي»: من كونه عاصياً، واستحقاقه العقاب وعدمه، أو كون ذلك كاشفاً عن خبث الباطن فقط، ومن «وجوب الموافقة الالتزامية» بناء على وجوبها، وعدمه، و«وجوب الموافقة الاحتمالية» وغير ذلك.
لا يقال: «الاحتمال» ليس قسيماً للشك والظن، بل هو مقسم لهما وللوهم، بل وللقطع أيضاً فإن «الاحتمال لا بشرط» يجتمع مع «الظن»
ص: 228
و«القطع»؛ إذ كل منهما احتمالُ بشرط شيء، فلا يصح جعله رابعاً؟
إذ يقال: المراد ب«الاحتمال» الذي اعتبر رابعاً هو «الاحتمال المرجوح» كما أسلفنا؛ فإن الاحتمال إما راجح وهو «الظن»، أو مرجوح وهو «الوهم»، أو مساو لاحتمال النقيض وقد لوحظا معاً وهو «الشك»، وأما «القطع» فليس الاحتمال مقسماً له؛ لكون «احتمال الخلاف» مأخوذاً في مفهوم «الاحتمال»، فهو «بشرط لا» عن «إلغاء احتمال الخلاف» وليس «لا بشرط» ولذا يصح السلب عن القاطع(1) إضافة لتبادر غيره.
وكما تترتب على «الاحتمال الراجح» آثار، وعلى «الاحتمال المساوي»، كذلك تترتب على «الاحتمال المرجوح» كما سبق بيانه.(2)
وكما أن «مطلق الاحتمال» جنس للشك والظن، كذلك هو جنس للوهم. نعم بعض الآثار هي آثار مطلق الاحتمال.
ونضيف - ببيان أشمل - أن «الاحتمال المرجوح» قد يكون «حجة» في الجملة بحسب عدد من معاني «الحجة» التي ذكرناها في بداية الكتاب، ومنها «المعنى اللغوي» أي ما يصح أن يحتج به المولى على عبده أو العكس، ومنها «الكاشفية» ولو الناقصة عن الواقع، ومنها «المنجزية والمعذرية» - على مسلك حق الإطاعة الإثباتي مثلاً - ومنها أنه يقع «أوسط» في القياس - وهو المعنى المنطقي للحجة، الذي ذكره الشيخ قائلاً أن القطع ليس حجة بهذا المعنى - ومنها «لزوم الحركة على طبقه»، بل وحتى «الحجية التكوينية»؛ فإن «الاحتمال» المرجوح في بعض الشؤون الخطيرة، كاحتمال هجوم الأسد الكاسر عليه، محرك تكويناً، وملزم عقلاً بالحركة على طبقه، وشرعاً، وكاشف ناقص عن
ص: 229
الواقع وقد يصيب، وهو مما يحتج به المولى على عبده، لو احتمل هجوم الأسد عليه، فلم يتصدَّ للدفاع عن مولاه مثلاً.
لا يقال: فهو ملحق بباب «الشك» حيناً، وبباب «القطع» حيناً آخر، فلا داعي لإفراده بالذكر؟
إذ يقال: يرد عليه:
أولاً: النقض ب«الظن» فإنه إما معتبر فملحق بباب القطع، أو لا فملحق بباب الشك، والجواب الجواب.
وثانياً: الحل بأن التقسيم - في نظر الشيخ قدس سره - إنما هو بلحاظ حالات المكلف بالقياس للحكم الشرعي، أي بلحاظ «المبدأ» لا «المآل»(1) وإن كان تمهيداً له(2)، فإنه إذا التفت إلى حكم شرعي، فإن حالاته الأولية هي القطع أو الظن أو الشك(3)، وبذلك صح الدفاع عن الشيخ في قبال إشكال ضرورة التثنية لا التثليث.
فعلى هذا نقول: هي أربعة لا ثلاثة، وهي اثنين لا ثلاثة إذا كان التقسيم بلحاظ «المآل» و «الغاية» وهو تحديد الحجة واللاحجة، فإن التقسيم سيكون ثنائياً عندئذٍ أي: «إن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن تقوم لديه الحجة عليه أو لا» ثم إن كلاً منهما ينقسم إلى أربعة أقسام؛ فإن «الحجة» قد تكون قطعاً أو ظناً أو شكاً - والمراد به أحد الطرفين لا كليهما فإنه يستحيل جعل الحجية للمجموع - أو وهماً، وقد أشرنا سابقاً إلى كونه «حجة» في الجملة، على حسب
ص: 230
عدد من معانيها.(1)
كما أن كلاً من «الأربعة» قد لا يكون «حجة»؛ إذ سنوضح في مبحث «القطع» أن الحجية ليست ذاتية له بما هو هو(2) - حسب عدد من معاني الحجية(3) - بل هي ذاتية للعلم فقط.(4)
ثالثاً: ما أشرنا إليه آنفاً من أن «الاحتمال» - وهو جنس للثلاثة(5)- هو المحور في الأحكام المذكورة للشك، لا «الشك» و لا «الوهم» ولا «الظن»، فلا يصح إفرادهما بالذكر دونه.
وبعبارة أخرى أحكام «الشك» هي أحكام «الاحتمال»(6) وقد جرى تطبيقها على «الشك» لما فيه من الاحتمال، وذلك كموارد الشك في «العنوان والمحصل»، والشك لدى «دوران الأمر بين التعيين والتخيير»، والشك في باب «الإطاعة»، وفي أطراف «العلم الإجمالي» وغيرها، مما ذكرنا بعضها وسيجيء بعض آخر بإذن اللّه تعالى، وكما صح ذاك صح هذا.(7)
لا يقال: ليس لوصف «المرجوحية» مدخلية في ترتب الآثار؛ ولذا قال
ص: 231
الآشتياني «لعدم ترتب أثر عليه من حيث أنه وهمٌ بوجه من الوجوه»(1)، عكس وصف «الراجحية» و«المساواة»، وبعبارة أخرى هما حيثية تعليلية(2) وتقييدية(3)، دونه، ف«المرجوحية» كالحجر بجنب الإنسان.
إذ يجاب: أولاً، بالنقض؛ إذ ينقض ذلك بالشك؛ فإنه ليس لوصف «تساوي الاحتمالين» مدخلية في كثير من الأحكام التي رتبت على «الشك».
بل لعلنا لا نجد حكماً رتب على الشك بالمعنى الأخص(4)؛ فإن له إطلاقين: الأخص وهو المتساوي الطرفين، والأعم المراد به «الاحتمال» بأقسامه الثلاثة.
وذلك ك: «الشك في الحجية موضوع عدم الحجية» فإن موضوعها هو مطلق الاحتمال، سواء كان في ضمن الشك أم الوهم أم الظن غير المعتبر، فليست «المساواة» حيثية تقييدية ولا تعليلية بل هي عنوان مشير فقط.
وك«الشك» في «الاستصحاب» وهو ركنه الثاني؛ فإن المراد به مطلق الاحتمال مرجوحاً كان أو مساوياً أو راجحاً، ما لم يبلغ درجة الاطمئنان العرفي أو يتعبدنا الشارع بحجيته.
وك«الشك»(5) في أطراف العلم الإجمالي، أي الشك في المكلف به؛ فإن المراد به الأعم.
ص: 232
وكذلك الحال في: «الشك في التكليف»، و«الشك في التعيين» لدى دوران الأمر بينه وبين التخيير، وكذا «الشك في مبحث العنوان والمحصل».
بل حتى مثل «لا شك لكثير الشك» لا يراد ب«الشك» المعنى الأخص، كما لا يخفى.(1)
والحاصل أن في تلك الموارد، ليس تساوي الطرفين مأخوذاً بنحو الحيثية التعليلية ولا بنحو الحيثية التقييدية، فلا مدخلية لها في ثبوت تلك الأحكام للشك.
اللّهم إلا أن يجاب أن «الشك» إحدى العلتين أو العلل(2) على سبيل البدل(3) لتلك اللوازم أو الأحكام؛ فلوصف المساواة مدخلية على سبيل البدل، أي ليست «بشرط لا» عن كون غيرها علة - على سبيل البدل - علة، بل هي «لا بشرط».
وفيه: بعد جريان مثله في «الوهم» أو «الاحتمال المرجوح»؛ أن «المساواة» ك«المرجوحية»، كالحجر في جنب الإنسان؛ فإن المدار على «الاحتمال» وهو العلة، لا «المساواة» التي في «الشك» وإن تحقق في ضمنه(4) وذلك ككل أحكام أو لوازم جنسٍ تَحقَّقَ في ضمن نوع، أو نوع تحقق في ضمن صنف، كالماشي أو متحرك بالإرادة للإنسان، وكالناطق أو الضاحك للشخص الأبيض، وما يقال في الجواب عن هذا(5)، يقال في الجواب عن مدخلية «المرجوحية».
ص: 233
ويجاب ثانياً بالنقض أيضاً؛ إذ ينقض(1) ذلك ب«الظن» فإنه ليس لوصف مطلق «راجحيته» مدخلية في «عدم حجية بعض أقسامه»، ولا في «حجية بعض آخر من أقسامه» في الجملة(2) بل مطلقاً(3)، وذلك مع وضوح أن «الأثر» و «الحكم» أعم من النفي والإيجاب، فإثبات أن الشهرة أو الإجماع المنقول ونظائرهما ليست بحجة(4)،
أثر وحكم، وبه يتعلق الغرض العقلائي والفائدة، ولذا نجد أن جملة من مباحث الأصول تتعلق بأمثال ذلك السلب، بل هي من مباحثه المهمة.
أما عدم مدخلية «راجحيته» في «عدم حجيته»، فهو كما في كثير من الظنون(5) كالشهرة والإجماع المنقول والظن الحاصل من خبر الفاسق(6)، بل إن «عدم بلوغ الرجحان» مرتبة إفادة الظن النوعي، هو سبب عدم الحجية والدخيل فيها.(7)
فعدم الحجية في أمثالها حكم «للاحتمال(8) غير المتعبد به» أي الاحتمال الراجح لكن «غير المفيد الاطمئنان» وهو المتضمَّن(9) في مثل «الشهرة» و«المنقول»،
ص: 234
وليس عينها، ومع ذلك ينسب الحكم إليها ويحمل عليها بالحمل الشائع حقيقةً، أي أن «الظن» بعنوانه الخاص(1) اعتبر الموضوع(2)، والعلة غيره، ومع ذلك فإنه قد أخذ في التقسيم، كما أخذ موضوعاً.(3)
وكما لا يضر لحاظ «الظن لا من حيث جهة رجحانه» - في الشهرة والإجماع المنقول مثلاً - بكونه موضوعاً ل«اللاحجية»، وبكونه بحثاً أصولياً، وصحة عقد عنوان له أو لما انطبق عليه من أنواعه لا يضر لحاظ «الوهم لا من حيث جهة مرجوحيته» - كما في الاحتمال في الشؤون الخطيرة - بكونه موضوعاً «للحجية»، وبصحة عقد عنوان له، وكون بحثه بحثاً أصولياً، ولا بكونه موضوعاً «للاحجية» نظير القياس، بلحاظ وصف مرجوحيته، للأقوائية عرفاً فإن الظن القياسي وإن كان كالوهم القياسي، «لا حجة»، إلا أن العرف يرى أقوائية ثبوتها للوهم، فيرى نوع مدخلية للوهم في عدم الحجية ولو في المرتبة، أو لا كذلك؛ لكون الملاك الاحتمال غير المتعبد به - فتأمل. وأما عدم مدخلية «مطلق راجحية الظن» في «حجية» بعض الظنون أو كلها، - والنفي نفيُ الإطلاق لا المطلق أو فقل: نفيٌ مطلق - بل يصح النفي المطلق بلحاظ بعض المراتب(4) فتوضيحه:
إن ما هو حجة من الظنون بقول مطلق(5) فإنه ليس «مطلق الرجحان» ملاك حجيته؛ فإن «الرجحان» أو «الظن»، له صور في نظر الشارع:
ص: 235
1-فقد يعتبره الشارع حجة، على وزان ما في العرف، كما في «خبر الثقة».
2-وقد ينفي حجيته، كما في الرجحان الحاصل من القياس أو الأحلام، رغم أن الظن الشخصي الحاصل منهما في كثير من الأحيان قوي، بل قد يدعى حصول الظن لعامة الناس(1) منهما ولو في الجملة، لكن الشارع ألغاه. لكن الحق أن العرف لو التفت إلى جهله بملاكات حكم الشارع، لما حصل له من القياس، ظنٌ بالحكم الشرعي في «المقيس» أبداً.
3-وقد يقيد حجيته بانضمام قيد أو وصوله إلى حدّ معين، كالرجحان الحاصل من شهادة العدل الواحد؛ إذ لا يعتبره الشارع حجة - ولو أفاد الظن لعامة الناس - ما لم ينضم إليه شاهد ثانٍ.
4-وقد يعتبره الشارع حجة في «كلي» دون «آخر» رغم اشتراكهما في الجنس، كما في مثال «الأذكرية» في الوضوء فراغاً وتجاوزاً؛ إذ قد سبق أن أوضحنا أن «الأذكرية» هي العلة المنصوصة في موثقة بكير بن أعين؛ تعليلاً لجريان «قاعدة الفراغ» في الوضوء، لكنها رغم تحققها لدى تجاوز المحل إلا أنها غير معتبرة في «صورة التجاوز» لصحيحة زرارة؛ رغم أن الرجحان - والظن النوعي - من حيث «الأذكرية» في كليهما واحد - وقد سبق تفصيله.
5-وقد يعتبره حجة في صنف من أصناف نوع، وجد فيه، وفي الصنف الآخر أيضاً مما لم يوجد فيه، كما في مثال «اليد» و «السوق» و «أرض الإسلام».
وإجمال ذلك أنه قد ورد في موثقة إسحاق بن عمار:
«لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام».(2)
ص: 236
وفي صحيحة فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم، حيث سألوا الإمام الباقر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يُدرى ما يصنع القصابون؟ فقال: «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل(1) عنه».(2)
مع أن «ما صنع في أرض الإسلام» ك«تركيا» مثلاً، قد لا يوجب ظناً شخصياً ولا نوعياً(3) بالتذكية(4) كما أن الظاهر من «ولا يدرى ما يصنع القصابون» الشك النوعي لا الشخصي فقط؛ لظهور «يُدرى» بصيغة المجهول في ذلك.
فلم يكن «الرجحان» بما هو هو، «الملاك» و «العلة» في الحجية وعدمها.«(5)»«(6)»
نعم قد يفرق بأن «الرجحان» بما هو رجحان، «مقتضٍ» لاعتبار الراجح حجة، وإن كان إلى جواره «التعبد»(7)، والعلة هي «الرجحان الخاص»(8)، كما أنها أيضاً «دفع الخطر في الاحتمال المرجوح» فإنه من أسباب اعتبار بعض أنواع «الاحتمال»(9) حجة. أما «المرجوحية» فليست بما هي مرجوحية مقتضية للحجية وإن كان المرجوح مما يحتج به أحياناً.
ص: 237
وسيأتي الجواب عنه في ثالثاً بإذن اللّه تعالى، إضافة إلى الإشكال عليه بعدم تمامية كبرى؛ إذ ينقض بمثل الأحلام والقياس وإن أوجبا الرجحان عرفاً؛ فإنه ليس حتى «مقتضياً» في نظر الشارع لاعتبارهما، حجة، إضافة إلى أنه لو صح فإنه لا ينفي إلا أحد الطرفين؛ إذ لا ينفي كون ا لمرجوحية مقتضية ل«اللاحجية» كما سبق، وكفى بها فائدة تكفي للزوم البحث عنها، إضافة إلى أن ذلك غير مجدٍ في تصحيح التقسيم الثلاثي؛ إذ لو كان بلحاظ «الأحكام» لكان اللازم التقسيم إلى «القطع» وإلى «الظن الخاص» أو «المعتبر» أي الرجحان البالغ درجة خاصة، وإلى «مطلق الشك» الشامل للظن غير المعتبر وللشك بالمعنى الأخص، وللوهم، لا إلى القطع، والظن - الأعم من المعتبر وغيره - أي مطلق الراجح، وإلى «الشك»، من غير أن يصنع كون الرجحان مقتضياً، فارقاً، من هذه الجهة.
ولو كان بلحاظ الحالات النفسية للمكلف، كانت الأقسام أربعة، ولا يغيّر كون مطلق الرجحان مقتضياً للحجية دون المرجوحية، شيئاً من ذلك.
وبذلك ظهر عدم الفرق بين «الوهم» و «الشك» من هذه الجهة، وفرقهما عن «الظن» في الجملة؛ فإنه مقتضٍ للحجية ، لكن لا على إطلاقه، بل في الجملة؛ وذلك لما سبق من أن الرجحان ليس على إطلاقه، مقتضياً للحجية، فاللازم التقييد ب«في الجملة» أي «فإنه مقتضٍ للحجية في الجملة، دونهما» فتأمل؛ إذ سبق أن «الوهم» أو «الاحتمال المرجوح» قد يكون مقتضياً للحجية أيضاً.
لكن قد يفرق بأن «الرجحان» أقرب للاعتبار، من «الاحتمال المرجوح»، أو بكون الأصل فيه «إقتضاء الحجية» والأصل في «المرجوح» عدمه، مع وجود استنثاء لكل منهما، فتأمل، نعم من حيث «المجرى» أو «الموضوع»(1) لا فرق.
ص: 238
6-وقد يعتبر «ضده» هو «الحجة» - كما قد يقوم العقلاء بذلك أيضاً(1) - كاحتجاجه بالضرر الموهوم في الصوم، أو بالخطر المحتمل احتمالاً ضعيفاً، إذا كان «المحتمَل» مهماً، أو بالاحتمال المرجوح عند الشك في التكليف قبل الفحص؛ فإن «الظن» على الخلاف في كل ذلك مُلغى لا يلتفت إليه، والأثر رتب على قسيمه وهو الاحتمال المرجوح.
والخلاصة أن «رجحاناً» أقوى «لا يتعبدنا الشارع به»، مطلقاً، أو في الجملة(2)، لا يكون حجة، و «مرجوحاً» أضعف «يتعبدنا الشارع به» مطلقاً أو في الجملة(3)، يكون حجة، فليس «الملاك» في نظر الشارع «الرجحان» مطلقاً.(4)
وبعبارة أخرى: إن قول الآشتياني قدس سره «لعدم ترتب أثر عليه - أي على الوهم - من حيث أنه وهم، بوجه من الوجوه» ينقض بأن «الظن المطلق» أيضاً كذلك؛ إذ أن الظن المطلق من حيث إنه ظن مطلق لا يترتب عليه أثر، إلا على الإنسداد، بل إن الأثر يترتب على مرتبة خاصة منه، أي خصوص الظن النوعي، وعليه فكان اللازم أن لا يؤخذ «الظن» بما هو في التقسيم(5)، بل خصوص النوعي منه، وهو ما أشرنا إليه من أنه عليه يجب أن تكون القسمة ثنائية أو رباعية.
ثم إن وجه اعتبار الشارع أو عدم اعتباره «رجحاناً» أو «ظناً» حجة:
ص: 239
قد يكون لطريقيته للواقع(1) أو عدمها، مطابقاً لما يراه العقلاء، ممضياً ذلك.
ومن ذلك ما كان لطريقيته إليه، لكن مع تخطئته العقلاء في عدهم أو بعضهم، إياه غالب الإيصال للواقع «كالقياس والأحلام»(2) أو في عدهم له غير غالب الإيصال «كما لعله في مثال: اليد والسوق» في بعض الصور كما سبق.
وقد يكون لضرب القانون، حفاظاً على الغرض الكلي المفوَّت أكثر، لو لم يلتزم بالقانون، ومآل هذا - أيضاً - إلى الطريقية الأعم من كونها لخصوص مؤداه الجزئي(3)، أو لغيره(4)، لا الموضوعية.
وقد يكون «امتناناً» لمصلحة التيسير ودفع العسر والحرج، أو مطلق الضرر، كما في مثال السوق واليد وأرض الإسلام(5) في الجملة، وكما في مثال مسقطية
«احتمال الضرر»(6) وخوفه لوجوب الصوم، قال تعالى: «يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» وقال: «غير مضار»، وكما في المثال(7) الآتي من شهادة العدل الواحد فيما اشترط الشرع العدلين؛ فإنه إمتنان على المشهود عليه، كما هو بيّن.
ص: 240
وقد يكون لمزاحمته بالأهم(1)
بل «الامتنان» بأنواعه، مندرج فيه(2) ومنه حفظ ماء وجه المؤمن، المقتضي لعدم قبول شهادة العدل الواحد عليه.
وهذه الجهات قد توجد في «الوهم» أو بعض أنواعه، ولو في الجملة، وقد كانت بعض الأمثلة السابقة، من مصاديقه.
والحاصل: أن اعتبار الشارع - بل والعقلاء في موارد - «ظناً نوعياً» حجة، رغم عدم «رجحان» إصابته في موارد أو أصناف، قد يكون «لمصلحة سلوكية» فيه، وقد يكون لمصلحة خارجية أهم في المتعلق أو للمكلف، اقتضت ذلك.
كما أن عدم اعتبار «ظن نوعي» حجة، قد يكون لمفسدة خارجية فيه أو في متعلقه، أو للمكلف، لا لعدم غالبية إيصاله للواقع، فليس «الوصول للواقع» هو تمام الملاك للحجية والاعتبار، وليس «مطلق الرجحان» هو الملاك.
وعلى هذا فقسم خاص من «الظن» هو «موضوع» الحجة، أي بعض درجات وأنواع الرجحان، لا مطلقها، فليس «الظن» من حيث صرف راجحيته المطلقة، حجة، بل من حيث أن له «رجحاناً خاصاً»، أي مقيداً بقيد إيراثه الاطمئنان النوعي، وبشرط أن لا يزاحم بمصلحة سلوكية أو غيرها، أهم، تقتضي العدم، فليست جهة «الراجحية» هي الملاك والعلة بقول مطلق، مع أن «الظن»(3) مطلقاً أخذ عنواناً وقسيماً، بل لو كان قد أخذ قسم خاص من الظن في التقسيم، لكان لابد من القسمة الثنائية إلى «الحجة» و«اللاحجة»، لا الثلاثية؛ فإن القسمة ينبغي أن تكون إما ثنائية أو رباعية، كما سبق.
ص: 241
ويجاب - ثالثاً - بالحل على كلا مسلكي أصالة الوجود وأصالة الماهية:
أما على القول بأصالة الوجود فنقول: إن «الاحتمال» من الحقائق التشكيكية ذات المراتب، فمنه «الضعيف» وهو المسمى بالوهم، ومنه «القوي» وهو المسمى بالظن - ولكل منهما مراتب أيضاً كما لا يخفى - والوجود الضعيف له آثار، كما أن للقوي آثاراً، فالأثر أثر «الوجود» على كل الصور.
وأما «وصف المرجوحية» فهو عنوان مشير لهذه المرتبة من الوجود، وهو عنوان منتزع، وليس عليه المدار ولا هو منشأ الأثر، وليس المراد من ترتب الآثار على «الوهم» ترتبها على عنوان «المرجوحية» أي على هذا العنوان الإنتزاعي، بل على المشار إليه من الوجود الضعيف؛ فإن الآثار آثار الحقائق الوجودية، لا العناوين الإنتزاعية.
وبعبارة أخرى: «الوهم» كقسائمه، كيفية نفسية؛ فإنه كيفٌ، «أو إضافة، أو انفعال كما ذهب إلى كلٍ، قوم»، ولكل منها آثار، أو هي «مجرى»، بما هي وجودات، وليست الجهة التحليلية العقلية كالمرجوحية، أو التساوي أو حتى الراجحية، هي منشأ الأثر، بما هي جهة تحليلية عقلية.
وأما على القول بأصالة الماهية، فنقول: إن «الاحتمال» جنس متفصل بفصل «الظن» و «الشك» و «الوهم»(1) وحقيقة الشيء بفصله(2)، فآثاره آثاره، وما يهمنا هو كون «الأثر» و «الحكم» للوهم بالحمل الشائع الصناعي وبحسب التحقق الخارجي، وإن كان لا من جهته، لدى التحليل العقلي؛ فإنه يصدق
ص: 242
حقيقة، بل ودقة، أنه حكمه، فتأمل.(1)
«الاحتمال» عين «الوهم» كما هو عين «الظن» و«الشك» خارجاً ومصداقاً وبالحمل الشائع الصناعي، وإن غايره بالحمل الذاتي الأولي، و «الحمل الشائع» وجوداً أو تحققاً(2)، هو ملاك الآثار والأحكام، مما كان من لوازم الوجود أو التحقق، لا الماهية أو المفهوم «كالكاشفية، والتنجز، وصحة الاحتجاج(3) فإنها لوازمه، وليست لوازم المفهوم».(4)
بل قد ظهر أنه عينه بالحملين؛ لأنه الجنس، والحمل الذاتي هو حمل الذات والذاتيات عليها، لكن يبقى أن «الحكم»، لدى التحليل العقلي، ليس «من حيث هو» والجواب الجواب كما سبق - فتأمل.
وبعبارة أخرى: الموضوع إذا تركب من «موصوف وصفة» فإنه قد تكون «الصفة» حيثية تقييدية، وقد تكون تعليلية، وقد تكون عنواناً مشيراً فقط، و«المرجوح» صفةً للإحتمال، قد يكون علة، وذلك كعليته لعدم حجية أكثر أنواع الوهم، وقد يكون قيداً، وقد يكون مشيراً، والحاصل أنه لا يشترط(5) كون الصفة حيثية تعليلية، ف«الواحد» في «خبر الواحد» قيد، وليس علة لعدم ثبوت الحجية له، في ما لم يكتفِ فيه العقلاء بخبر الواحد؛ فإنه ليس لأنه واحد، بل لأنه غير ثقة أو غير مورث للاطمئنان مثلاً؛ ولذا يكون المدار في
ص: 243
التعميم والتخصيص عليها، فتأمل، عكس «خبر الثقة»، بل قد لا يكون قيداً - لدى الدقة - كما في «خبر الواحد حجة»؛ إذ لا يحتمل كونه(1) «بشرط لا» عن الأكثر، فهو قيد بمعنى «المحقق للموضوع»، وذلك هو مفاد «اللقب لا مفهوم له» فلا يدل على الانتفاء عند الانتفاء، وذلك(2) هو ما، عبرنا عنه بأن «الملاك» هو «الحمل الشائع».
والحاصل أن «الواحد» في قولك: «خبر الواحد حجة، أو ليس بحجة» ليس حيثية تقييدية ولا تعليلية، بل هو صِرف عنوان مشير للخبر غير المورث للاطمئنان النوعي أو لخبر غير الثقة، ولذا نجد خبر الاثنين كذلك، لو كانا غير ثقة، ولم يورثا الاطمئنان النوعي، والواحد لا كذلك لو أورث الاطمئنان النوعي مثلاً - فتدبر.
وبعبارة أخرى «الظن» هو الاحتمال الراجح، و «الشك» هو الاحتمال المساوي، و «الوهم» هو الاحتمال المرجوح.
وكما أن «الظن» منه حجة - بمعنى ما يحتج اللّه به على عبده - ومنه ما ليس بحجة، كذلك «الوهم» كما سبق مثاله؛ إذ يحتج المولى حتى بالوهم في الشؤون الخطيرة، وفي العنوان والمحصل وغيرها.
لا يقال: «الشك» لا يعقل جعله طريقاً وحجة، فكيف بالوهم؟
إذ يقال: لا يمكن الاحتجاج بمجموع طرفي الشك(3)،ولا جعله طريقاً؛
ص: 244
لعدم إمكانه «لأنه مستلزم لجعل الطريق إلى المتناقضين(1) وهو محال» كما ذكره العراقي(2)، ولأنه لا ينتهي إلى محصل، فهو كعدم الاحتجاج بمجموع طرفي «الوهم» أو «الظن»، بل الاحتجاج هو بأحد الطرفين(3) فيها بأجمعها؛ ولذا قال الوالد: «وإن أمكن جعل الحجية للوهم، بخلاف الشك حيث أنه ليس متعلقاً بطرف، وإن صح جعلها لأحد طرفيه».(4) فظهر بذلك إمكان «الاحتجاج» بأحد الأطراف، في الثلاثة، بل إمكان كونه طريقاً أيضاً كاشفاً ولو بالكشف الناقص، بل ووقوعه أيضاً.
وبعبارة أخرى: أحد الأطراف يمكن كونه أو اعتباره حجة - سواء أخذنا الحجية بمعنى صحة الاحتجاج، أم بمعنى المنجزية، أم بمعنى لزوم الإتباع، أم بمعنى الكاشفية - دون كليهما كمجموع. وذلك لأن كلاً منهما كاشف كشفاً ناقصاً عن الواقع بحسب درجة الاحتمال الموجود في الطرفين - وقد يحتج به العقلاء، كما في الشؤون الخطيرة - وقد لا يحتجون. ويمكن اعتبار أحد الطرفين منجزاً بل والآخر معذراً، أو التخيير في الإتباع أو الإلزام بإتباع أحد الطرفين.
ثم إن بيان ضرورة تربيع الأقسام، ليس فقط لجهة فنية تتعلق بفهرسة مباحث الكتاب، لكن في مطلَعِهِ، حتى يقال(5) إن الكتاب مبوب إلى رسائل
ص: 245
ثلاثة: في القطع والظن والشك، ولا بأس به في الفهرسة، فإنه يرد عليه إضافة إلى أن هذا الجواب في وجه التقسيم قد يتناسب مع فهرس الكتاب المذكور آخره للإشارة إلى ما جرى البحث عنه(1) ولكنه لا يتناسب مع التقسيم الذي يذكر في صدر الكتاب الذي ينبغي أن يراد به ذكر وجه وعلة هذا النوع من التقسيم أيضاً، أو يراد به تحديد محاور البحث التي تترتب عليها الآثار والأحكام، وإضافة إلى أن «الاعتبار الفني» أيضاً يقتضي التربيع، حتى في الفهرس كما لا يخفى:
إن(2) الجهة الواقعية تقتضي التربيع أيضاً؛ نظراً لأن كثيراً من البحوث تتعلق ب«الاحتمال المرجوح» أو «الوهم». وإذا اقتضت هذه الجهة الواقعية ذلك، لزم فنيّاً أيضاً تبويب الكتاب إلى أربع رسائل.
نعم، «الوهم» ألحق بالقطع - أي العلم والعلمي - تارة - في المنجز منه(3)- وبالشك أخرى - في غيره - إلا أن ذلك بلحاظ المآل، فهو «كالظن» الملحق - مآلاً - بالقطع تارة - في ما هو حجة منه - وبالشك أخرى - في غير الحجة منه -.
وبعبارة أخرى: إذا لوحظ «المبدأ» كانت الأقسام أربعة لا فنياً فقط، بل وبلحاظ ثبوت أحكام لها بأجمعها أيضاً، وإذا لوحظ «المآل» كانت قسمين وهما - إلى ذلك - منبسطان على الأربعة(4)، بل لابد أن تعقد لأنواع كل من الأربعة، مسائل، فإنها عناوين شتى(5)، موضوعاتها هي أنواع موضوع علم الأصول، بناء
ص: 246
على أنه «الحجة في الفقه» بل وبناء على غيره كما فصلناه في موضع آخر، بل إن الوهم يزيد على الشك، بعدم إمكان جعل الحجية للشك، دونه.
والحاصل: أن ضرورة تربيع الأقسام، نابع عن جهة فنية، وجهة واقعية أيضاً.
لا يقال: أراد الشيخ ب«الشك» الأعم من «الوهم».
إذ يقال: فكان ينبغي أن يراد به الأعم من «الظن غير المعتبر» أيضاً؛ لأن حكمها بأجمعها واحد - ويجمعها الشك بالمعنى الأعم -.
فعليه كان اللازم أن يقال: «فإما أن يحصل له القطع أو الظن المعتبر أو الشك»(1) مع إرادة المعنى الأعم من «الشك» ليشمل الثلاثة.(2)
ولعله السبب في عدول الأصبهاني إلى «الطريق التام، والناقص، واللا طريق»(3)، لكن مع ضرورة تعميم «الطريق»(4) لبعض أقسام الاحتمال المرجوح أي الوهم أيضاً؛ لأنه طريق ناقص في الجملة، ولأحد طرفي الاحتمال في الشك أيضاً، كما فيما سبق من الأمثلة.
كما أنه لابد من إرادة «العلم» من الطريق التام؛ فإنه كذلك ثبوتاً، دون القطع الأعم من الجهل المركب؛ فإن زعم القاطع أنه طريق تام، لا يغير من عالم الثبوت شيئاً، وقد حررناه في موضع آخر.
ص: 247
بل لم يكن من الكافي إضافة «الظن المعتبر» لكون بعض «الاحتمال المرجوح» معتبراً، فكان لابد من القول «الطريق المعتبر» كما صنعه الأصبهاني(1)، ولتنسيق تقابل الأقسام(2) كان الأفضل أن يقال «فإما أن يحصل له القطع أو الاحتمال المعتبر أو غير المعتبر» ويراد بالاحتمال المتحقق في ضمن الأقسام الثلاثة.(3)
إن كان التقسيم بلحاظ «الأحكام» كان لابد من إضافة «المعتبر» للظن، وتعميم «الشك» للظن غير المعتبر، والشك بالمعنى الأخص، والوهم، ثم لم يكف ذلك لكون بعض غير الظن معتبراً أيضاً، فاللازم العدول إما إلى «الطريق المعتبر» أو «الاحتمال المعتبر»(4)، هذا إثباتاً(5)، أو إلى «الطريق التام والناقص واللاطريق» ثبوتاً.
أو(6) كان اللازم التقسيم للحجة واللاحجة بأن يقال: «إن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فإما أن تقوم لديه، عليه الحجة، أو لا».
وإن كان بلحاظ حالات المكلف، فإنها أربعة، فلا وجه لدرج أحدها في الآخر.
ص: 248
ثم إن «الشك» عرفاً خلاف «الوهم»؛ فإنه وإن أطلق عرفاً على ما قارب متساوي الطرفين أيضاً، إلا أنه مع ذلك لا يشمل المراتب الدانية من الاحتمال والوهم، والتي هي كالمراتب العالية، محل البحث ولها نفس أحكامها وآثارها التي ذكرناها ولو في الجملة، إلا أن تبلغ ما يعد كالملحق بالعدم عرفاً ، بل نقول: لا يطلق الشك على مراتب من الوهم «ك-40%» إلا بلحاظ مجموع الطرفين، أما الوهم فإنه يطلق بلحاظ أحدهما فقط، بل قد يطلق الوهم على أحد طرفي الشك الدقي وهو الخمسين بالمائة، والحاصل أن اعتبارهما مختلف - فإرادة الشيخ له، خلاف الظاهر، إضافة إلى أنه غير مجد في دفع ما سبق من الإشكال.(1)
وقد يقال: «الشك» يراد به متساوي الطرفين، فقط كما ذكره الراغب في مفرداته قال: «الشك: اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما»(2) لكن ذهب بعض اللغويين إلى عكس ذلك، فقالوا: إنه لغة «خلاف اليقين» كما ذكره مجمع البحرين، وأيده بموارد استعمال اللغة ك«من شك في الطلاق» و «من شك في الصلاة» و بالآيات ك﴿أفي اللّه شك فاطرِ السماوات والأرض﴾.(3)
إلا أن الظاهر - بعد لحاظ أن الاستعمال أعم من الحقيقة، وبعد وضوح التسامح في التعبير ب«خلاف اليقين» لشموله للظن المعتبر والاطمئنان، مع أنه لا يطلق عليهما «الشك» كما هو واضح - أنه لا يشمل المراتب الدانية(4) كخمسة
ص: 249
بالمائة مثلاً، إلا مجازاً وبقرينة مناسبة الحكم والموضوع والأولوية(1)، وأما غير المراتب الدانية أي المقاربة، فقد يقال: «الشك» له إطلاقان: أخص، ويعرف بالمقابلة مع قسيميه، وأعم يعرف بمناسبة الحكم والموضوع، لكن الظاهر كما سبق أنه حقيقة في المتساوي الطرفين مع ما قاربه، مع ملاحظة الطرفين.
وعلى أي فلو أراد قدس سره «الشك» بالمعنى الأعم الشامل للمراتب الدانية أيضاً ولو مجازاً بقرينة عدم ذكر الوهم، وإيقاعه مقابلاً للظن، ورد الإشكال السابق فقط.
لا يقال: إنما لم يذكر الوهم قسماً رابعاً؛ نظراً ل«أنه لمكان لزومه للظن، لم يعقل جعله مقابلاً له».(2)
إذ يقال: ربما يجاب:
أولاً: الظن والوهم متلازمان، وليس أحدهما ملزوماً والآخر لازماً؛ ولذا قال الوالد: «أما الوهم الملازم له - أي للظن - دائماً»(3)، أو يقال: أيهما انقدح في النفس أولاً - عند لحاظ أمرٍ - فالآخر لازمه أو ملازمه.
ص: 250
إلا أن يريد(1) اللزوم بالمعنى الأعم، مجازاً.(2)
ثانياً: «الوهم» قد ينفك عن الظن(3) كما في ذي المحتملات الثلاثة المتساوية أو الأكثر وإن لم تتساو مع عدم كون أحدها راجحاً؛ حيث وهم ولا ظن، فلا يصح القول «إنه لمكان لزومه الظن، لم يعقل جعله مقابلاً له» فإنه وإن صح أنه
كلما كان ظنٌ كان وهمٌ، لكن لا يصح العكس، فيصح جعله مقابلاً؛ لوجوده أحياناً دونه، فاللازم البحث عن حكمه عندئذٍ.
ثالثاً: وعلى كلا التقديرين، فإنه «مقابل له»؛ فإن اللزوم والتلازم، دليل التغاير، فهو «غيره» و «مقابل له» فله حكمه، وبعبارة أخرى «اللازم» مغاير ومقابل - في الواقع ونفس الأمر - للملزوم وإن لم ينحزْ عنه وجوداً، أي لم يكن له ما بإزاء مستقل؛ فإن «الزوجية» غير «الأربعة» ومقابلة لها ولها أحكامها، بل هما من مقولتين(4) وكذا «الإمكان» و«الممكن» وغيرهما(5) من المعقولات الثانية الفلسفية(6)، بل وكذا بعض المعقولات الثانية المنطقية(7)
أيضاً.
اللّهم إلا أن يراد ب«جعله مقابلاً» أي «خارجاً»؛ فإن الإنسان تعتريه ثلاث حالات لا أربعة: «قطع»، و«ظن» يلزمه وهم في مقابله، و«شك»، وفيه إضافة إلى عدم استقامة التعبير ب«لم يعقل» وإضافة إلى صحة عكسه(8) بل
ص: 251
أولويته لو كان المنقدح في النفس أولاً هو الوهم، ما سيأتي في رابعاً وخامساً، بل نقول: بل تعتريه حالات أربعة: رابعها «وهم دون ظن»، كما في المثال السابق.(1)
رابعاً: حيث أن تقسيم حالات المكلف هو بلحاظ الآثار والأحكام والبحوث، فنقول: قد تكون الآثار والأحكام «للوهم» أي الاحتمال المرجوح، دون «الظن» أي الاحتمال الراجح، كما فيما حررناه مفصلاً من الأمثلة.(2)
وحيث كانت الآثار تارة لهذا الطرف «ملزوماً، أو ملازماً»، وأخرى لذلك الطرف، كان لابد من ذكر «الظن» و «الوهم» معاً في التقسيم.
خامساً: قد تكون الأحكام لكلا الطرفين، غير متنافرة(3) خامساً(4): بل قد تكون «الأحكام والآثار» مترتبة على كلا الطرفين معاً وقد تكون متوافقة أيضاً، أو يكون كلا الطرفين «مجرى» ولا يرى العقلاء لغوية الثاني، بل هو عقلائي، بل قد يرونه ضرورياً؛ لعدم وفاء جعل الحكم لطرف، عن جعله للآخر، بالمقصود، في العديد من الصور، وذلك كما لو ظن ظناً غير معتبر بوجوب صلاة الجمعة تعييناً، واحتمل احتمالاً مرجوحاً وجوب صلاة الظهر كذلك، فإن كلاً من الظن والاحتمال - بعد العلم الإجمالي بوجوب مردد بين المتبايين نظراً للدليل على عدم صحة الجمع بينهما - «مجرى» للوجوب
ص: 252
التخييري، كما أن متعلَّق كليهما(1) مجزئ ومبرئ للذمة(2) وكذلك لو ظن الحرمة ووهم الوجوب أو العكس، لدى علمه بثبوت أحد الحكمين إما الوجوب أو الحرمة؛ فإن كلا طرفي الظن والوهم «مجرى» الوجوب التخييري، أو يقال مجموعهما «مجرى» للتخيير، بل مقتضٍ له، فحكم هذا الظن أو الوهم، جواز العمل به تخييراً، فتأمل.
ويمثل(3) له سلباً، بعدم اعتبار كلا طرفي الظن، في الشبهات الموضوعية مطلقاً أو في الجملة، وفي الحكمية بعد الفحص، فلو «ظن» التكليف أو «احتمله مرجوحاً» بعد الفحص، لم يعتن ولم يتنجز التكليف، فحكم هذا الظن أو الوهم، أنه غير منجز.
ويمثل له إيجاباً أيضاً، إضافة إلى ما سبق(4): بما لو ظن أو وهم، قبل الفحص، فإنه حجة ومنجز، ولا يكفي بيان حكم الظن.
لا يقال: فالحكم في المرجوح(5) يعلم بالأولوية؟
إذ يقال: أولاً: لا إطلاق لذلك، كما في ما سيأتي من المثال(6) حيث لا أولوية بل ولا مساواة.
ص: 253
ثانياً: ذلك يغني عن البيان؛ لأنها(1) نوع بيان، لا عن الجعل والحكم، فلا يصح «إنه لمكان لزومه للظن، لم يعقل جعله مقابلاً له».
كما يمثل له إيجاباً(2) - بالبناء على الأكثر - في كثير الشك - سواء كان محتملاً احتمالاً راجحاً «للأكثر»، أم محتملاً احتمالاً مرجوحاً - فإن بيان حكم ظنه بالوفاق لا يغني عن بيان حكم وهمه به(3)، وفي عكسه؛ فإن بيان حكم وهمه «بالأقل»، لا يغني عن بيان حكم ظنه بالأقل، فاللازم أن يقال «لو توهم الأقل، بنى على الأكثر، بل لو ظن الأقل بنى على الأكثر أيضاً».(4)
نعم في «الحالة الواحدة»، فإن للطرفين حكمين متغايرين متطابقين - أي غير متكاذبين - فإن متوهم الأقل مثلاً ظآن بالأكثر، فيلغي وهمه أي لا يعمل على طبقه ويعمل على طبق ظنه، لا لأجله، بل هو مجرى، والسبب كثرة الشك.
والحكم في الطرفين لا تنحصر فائدته في التأكيد، ليكون - في جوهره - تكراراً، بل لعله لاستحقاق ثوابين وعقابين - فتأمل.(5)
سادساً: إن كون «الظن» و «الوهم» متلازمين أو كون أحدهما ملزوما والآخر لازماً، لا ينفي إمكان وصحة ووقوع حكمين متغايرين متخالفين(6)
ص: 254
للطرفين معاً؛ فإن «التفكيك» في الأحكام الظاهرية ممكن بل واقع، ووجود حكم مقابل للطرف المقابل لا يعد لغواً، كما التزم به بعض الأعلام من استحباب فعل وكراهة تركه، لترتب أثرين.
أما «اللغوية» فقد عُدّ، مع محاذير أخرى، من الأدلة على عدم وجود حكمين للطرفين، إذا استدلوا ب: «ولو وضع حكمان في طرفين لزم لغوية الثاني، وكون كل إنسان فاعلاً للواجب دائماً لأنه تارك للحرام، ووجود ثوابين لكل تارك حرام أو فاعل واجب، وعقابين في عكسه».(1)
فإن «اللغوية» إنما تتم لو لم يكن الثاني لغرض عقلائي - بل لأي غرض يهم المعتبِر - ومن الأغراض «تقوية الداعي»؛ إذ لا ريب في أن الداعي حقيقة تشكيكية ذات مراتب، وأن وجود الحكم في الطرف الآخر مما يشتد به داعي العبد فتأمل(2) هذا أولاً.
وثانياً: أن جعل الحكم للطرفين مما تكون به الحجة على العبد أتم، وانقطاع العبد المعاند، عن الاحتجاج، بدرجاته، داع عقلائي.
وثالثاً: أن «اللغوية» تندفع أيضاً لو رتب المولى على كلا طرفي الحكم، الثوابَ، أو العقاب، فإنه اعتبار وهو بيد من بيده الاعتبار، لدواعي شتى، بل يكفي استحقاقهما عندئذٍ(3)، بل يكفي استحقاق «العتاب» و«اللوم».
ورابعاً: كما تتصور الفائدة في ما لو أوجب الفعل وحرم تركه، فتركه(4)،
ص: 255
وكان تركه مقدمة واجب، فإنه سيكون من مصاديق اجتماع الأمر والنهي(1) و«التزاحم»، دون ما لو لم يحرم، ويتفرع عليه كونه مقرباً ومثاباً عليه(2) من هذه الجهة، أو لا - على التفصيل المذكور في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام، ومبحث مقدمة الواجب - فتأمل.
وأما لزوم «كون كل إنسان فاعلاً للواجب دائماً؛ لأنه تارك للحرام»؟(3) فإنه لا محذور ثبوتي فيه؟(4)
هذا إضافة إلى اختصاصه بطرفي الواحد مما كان من قبيل الضد العام، لا الضد الخاص، والمقام منه(5)، نعم قد يستبعد للإرتكاز وشبهه، فتأمل.
وأما «استحقاق الثواب» فإنه يتفرع على الالتفات والقصد.(6)
وأما فعلية وجود ثوابين لكل تارك حرام، فليس بتالٍ فاسدٍ، وأي محذور فيه؟ غايته أنه إثباتاً لا دليل عليه، بل قد يقال: إنه مقتضى لطف الكريم ورحمته، بل قد يعد هذا من ثمار جعل الحكمين في الطرفين، فهو وجه آخر لنفي اللغوية كما سبق، فالمولى يجعل الحكمين ليستحق تارك الحرام عليه بمجرد تركه ثوابين، كما سبق، وبعبارة أخرى: هو مقتضى «الحكمة» أيضاً لأنه باعث أقوى على الطاعة، وسبب لإيصال الخير الأكثر للعبد، وهو مطلوب للمولى - فتأمل.
ص: 256
بل إن ضم أدلة «الوجوب» وأدلة «الحرمة» إلى أدلة النهي عن العصيان المطلقة، قد يدل على ذلك عرفاً، بعد الإلتزام بأن نواهي «المعصية» كأوامر «الإطاعة» مولوية، وليست إرشادية، كما فصّلناه في «مباحث الأصول» كتاب «الأوامر المولوية والإرشادية».
وأما «العقابان» فإن كان الكلام في الامكان، فلا إشكال فيه؛ إذ لا إستحالة لاستحقاق العبد عقابين على فعله الحرام لو اعتبر الشارع حكمين في طرفين، نعم لو كان الكلام في الوقوع وعالم الإثبات، فإنه يتبع ظواهر الأدلة، فمثلاً: هل «أقم الصلاة» يستفاد منها وجوبها وحرمة تركها عرفاً؟ وهل يرى العقلاء حسن ثبوت عقابين له؟ فقد يقال إنه لا يستظهر من مثل «أقم الصلاة» ثبوت عقابين على الترك، اللّهم إلا بمعونة أدلة «ومن عصاني»؟ فتأمل، والبحث بحاجة إلى تأمل أكثر(1) - ولنعد إلى ما كنا فيه فنقول:
وأما التفكيك في الأحكام الظاهرية فمن أمثلته:
الحكم بالطهارة دون الحلية، فيما لو شك في اعتبار شيء في التذكية - كاعتبار كون الذبح بالحديد مثلاً - وعدمه - وهي شبهة حكمية - أو وجد حيوان مذبوح، لا يدرى مذكى أم لا، من غير أمارة شرعية عل التذكية - وهي شبهة موضوعية -.
فإن الشهيد مثلاً ذهب إلى «أن الأصل في اللحوم هي الحرمة، والطهارة».
وأما التفكيك في المقام فهو: إما لما ذهب إليه الفاضل النراقي من أن أصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم الموت، فيتساقطان، ويرجع إلى
ص: 257
أصالة الطهارة وأصالة الحرمة في اللحوم، وذلك بعد فقدان الأصل السببي.
وإما لما ذهب إليه بعض الأعلام(1) من جريان الأصلين معاً(2)؛ لعدم لزوم مخالفة عملية(3)؛ ولأن التفكيك بين اللوازم في الأصول العملية غير قليل.
وتوضيحه: على هذا المبنى: أن «حرمة أكل اللحم» وكذا «عدم جواز الصلاة في المصنوع منه»، مترتبة على «عدم التذكية» لقوله تعالى ﴿إلا ما ذكيتم﴾(4) - أي ما ذكيتم حلال فما لم تذكوا فهو حرام - ف«أصالة عدم التذكية» تقتضي حرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة في جلده.
أما «النجاسة» فهي مترتبة على عنوان «الميتة» وهي أمر وجودي - لأنها «زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي» - فلا يمكن إثباته بأصالة عدم التذكية(5)، و«أصالة عدم الموت» - أي عدم كونه ميتة - تقتضي الطهارة.
وذلك مع أن «عدم التذكية» و «الموت» متلازمان؛ لكون الموت والتذكية - في غير الحيّ - ضدين لا ثالث لهما، كما أن الحرمة والنجاسة متلازمان ثبوتاً؛ لأنه لو كان مذكى واقعاً فطاهر وحلال، وإلا فنجس وحرام.
وأما توضيحه على مبنى النراقي فلأن «التذكية» تقتضي الأمرين معاً، أي الطهارة والحلية و«الموت» يقتضي كليهما، أي النجاسة والحرمة، لكن حيث تعارض الأصلان «أصالة عدم التذكية، وأصالة عدم الموت»؛ لكون كليهما وجودياً، تساقطا، فنرجع إلى سائر الأصول، والأصل في الشك في الطهارة،
ص: 258
الطهارة، بينما الأصل في الشك في الحلية، الحرمة؛ لأن الأصل في اللحوم مطلقاً هو الحرمة، على ما ذكره الشهيد قدس سره، فقد جرى في المقام التفكيك بين المتلازمين: الحلية والطهارة.
ولا يتوهم أنه جرى التفكيك بين الملزوم واللازم، بوجه آخر؛ لأن لازم «عدم التذكية» كونه ميتة، ولازم كونه ميتة، النجاسة. والتلازم بين الأولين عرفي وشرعي أيضاً فليس «أصلاً مثبتاً»(1)، وذلك لعدم جريان الملزوم، للمعارضة(2)، لا أنه جرى ولم يرتب عليه لازمه.
وأما بيان التفكيك، بأنه قد وقع(3) بين حكم «الظن بعدم التذكية» - وهو ظن نوعي بمقتضى الاستصحاب - فبنى على حرمة اللحم، وبين حكم لازمه أو ملازمه وهو «الوهم بالتذكية» فبني على الطهارة؛ ففيه: أن الطهارة ليست أثر «الوهم بالتذكية» بل أثر عدم كونها ميتة، ولو بالأصل، لكن فيه أنه يكفي كونه مجرى لها، فتأمل.
ومن الأمثلة: لو توضأ - في الظلام مثلاً - بمائع مردد بين البول والماء، أو بين المتنجس والطاهر، فإنه محكوم بالطهارة الخبثية دون الحدثية؛ لجريان الاستصحابين.
ومنها: «المختلفان اجتهاداً أو تقليداً أو بالاختلاف، أو تشخيصاً للموضوع الخارجي في أنها زوجته أم لا، للاختلاف في عدد الرضعات
ص: 259
المحرمة، أو للاختلاف في أن العقد عليها تمّ أم لا، وأن الطلاق وقع أم لم يقع، وجمع الشرائط أم لا؟ - وكان جازماً بأنها زوجته مثلاً وهي جازمة بالعكس - تبعاً للخلاف موضوعاً أو حكماً - فإن له الاستمتاع بها قهراً، وعليها الامتناع، وعليه دفع النفقة وعليها الامتناع، ولا يستلزم جواز قاهريته لها جواز التمكين، وهكذا».(1)
نعم، اذا رجع إلى القاضي، فحكم، وجب عليها إتباعه؛ لأدلته، على حسب أحد الآراء في المسألة.
وبذلك كله اتضح أنه لا يصح القول بعدم التفكيك في الأحكام الظاهرية، ولا يصح: «إلا أنه - أي الوهم - لمكان لزومه للظن، لم يعقل جعله مقابلاً له» كما قاله الآشتياني قدس سره(2)، سواء أراد ب«جعله» أي «جعل الوهم بذاته»، أو «جعله بلحاظ حكمه» أي جعل حكمٍ له مقابلٍ لحكم الظن.
سابعاً: يمكن تصوير وجود حكمين مختلفين للظن والوهم في الشخصين، أو في الشخص الواحد في حالتيه، بل في الحالة الواحدة أي في المصداق الواحد من «الظن» الخارجي، فقد يكون له حكم، ولمقابلة اللازم له - أي الوهم - حكم آخر مخالف له، فلا يكفي بيان حكم الظن عن بيان حكم لازمه.
ومن الأمثلة على ذلك ما لو «ظن» المأموم في الركعات بل حتى في الأفعال أيضاً، فإن ظنه معتبر، ولا يرجع - حسب رأي بعض الأعلام(3)- إلى الإمام المتيقن،
ص: 260
وأما «وهمه» المطابق ليقين الإمام، فغير معتبر، أما لو كان شاكاً أو واهماً(1) فإنه يرجع إليه، أي أن «وهمه» سبب للحكم عليه بالرجوع للإمام.
لا يقال: حكم الوهم متضَّمن في حكم الشك؟
إذ يقال: لا تلازم؛ إذ يمكن ثبوتاً اعتبار هذا «الوهم» مبطلاً، واعتبار حكم الشك الرجوع للإمام، كما لو شك أنه في الأولى أو الثانية، أو وهم بأنه فيهما أو الثالثة، ثم إنه على فرض قبول «التضمن»، فإنه في عالم الإثبات، ومؤكد لوجود حكم للوهم في عالم الثبوت، غير حكم الظن. وإن كانت الإشارة إليه، لا بلفظه، بل بما يشمله ويدل عليه(2).
هذا إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً حول «الشك» وأنه مباين للوهم بمراتبه الدانية، بل هو مباين له لحاظاً.
لا يقال: كلما ظن بجانبٍ، وَهَمَ بالجانب الآخر؟
إذ يقال: قد سبق عدم نفي ذلك، وجود حكم للجانب الآخر - كبرى -، كما سبق أنه قد يكون «الوهم» في كل الأطراف بدون «ظن» - صغرى -، كما لو تردد بين كونه في الركعة الرابعة أو الخامسة أو السادسة، أو ركع ركوعاً أو اثنين أو ثلاثة، فبيان حكم الظن لا يفي ببيان حكم الوهم، فليس كل وهم يقع في مقابله ظن، ليكون حكمُه عكسَه، أو بلا حكم؛ لإغنائه عنه.
أما على رأي أعلام آخرين(3) فإنه يصلح مثالاً لترتب الحكم على «الوهم» دون «الظن»، فإنه لو «ظن» المأموم، مع تيقن الإمام، فإنه لا يعتني «بظنه» إذا
ص: 261
خالف الإمام، بل يرتب الأثر على «وهمه»؛ إما لكونه «مجرى»؛ أو لكونه «مقتضياً» لاعتضاده بالمطابقة ليقين الإمام، أي أن هذا الوهم(1) المقرون بتيقن الإمام، هو «المقتضي» أو «جزء العلة» أو لا أقل من كونه «المجرى» للبناء على ما بنى عليه الإمام.
والإشكال بعدم كونه علته(2) غير ضار؛ لكفاية كونه مجراه كما في «الأصول العملية»؛ فإن «الشك» مجرى لا علة، بل مدفوع إذ قد يقال: إنه جزء العلة وليس صرف المجرى(3) بل قد يقال «العلة»(4) هي «الوهم» بشرط اقترانه بيقين الإمام(5) كما مضى نظيره في اقتضاء «الشك» المسبوق باليقين للإبقاء في الاستصحاب، وعِلِّيةِ «الاحتمال» في أطراف العلم الإجمالي، للتنجيز، و«الإجمالي» شرط - فتأمل.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.
ص: 262
ص: 263
ص: 264
خير ما نبتدئ به:
القران الكريم
(نهج البلاغة) ، دار المعرفة، بيروت.
(اصول الكافي)، للكليني ، الناشر دار الكتب الاسلامية ، مطبعة الحيدري.
(وسائل الشيعة) للحر العاملي، الناشر مؤسسة ال البيت لاحياء التراث ،مطبعة مهر.
(بحار الانوار) للمجلسي، مؤسسة الوفاء بيروت، الطبعة الثانية:1403.
1.(الاصول) للسيد محمد الشيرازي ، دار العلوم ، الطبعة الخامسة 1412.
2.(الامالي) للطوسي ، دار الثقافة ، الطبعة الاولى 1414.
3.(الانوار البهية) للشيخ عباس القمي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة بجماة المدرسين، الطبعة الاولى.
4. (بحر الفوائد في شرح الفرائد) للشيخ الآشتياني (قدس سره)، مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة الأولى، .1429
5. ( بحوث في الأصول) للشيخ الاصفهاني (قدس سره)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1409 .
6. (البلاغة) للسيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، مركز الدراسات الإسلامية للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1417 .
7. (بيان الأصول) للسيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، دار الأنصار، 1427 .
8. (تحرير الاحكام) للعلامة الحلي (قدس سره)، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، مطبعة: اعتماد، الطبعة الأولى 1420 .
9. (تفسير الصافي) للفيض الكاشاني (قدس سره)، الناشر: مكتبة الصدر، مطبعة: مؤسسة الهادي ،(عليه السلام) الطبعة الثانية 1416 .
ص: 265
10. (تفسير مجمع البيان) للشيخ الطبرسي (قدس سره)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، الطبعة الأولى 1415 .
11. (حاشية المكاسب) للشيخ الاصفهاني (قدس سره)، الناشر: المحقق، مطبعة: علمية، الطبعة الأولى 1418 .
12. (الدر المنثور) للسيوطي، دار الفكر.
13. (الدروس الشرعية في فقه الإمامية)، للشهيد الأول (قدس سره)، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى 1412 .
14. (رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها) للمؤلف.
15. (شرح أصول الكافي) للشيخ المازندراني (قدس سره)، دار احياء التراث العربي بيروت، الطبعة الأولى 1421 .
16. (شرح الرسالة الشمسية) لقطب الدين الرازي الطبعة الرابعة، الناشر: انتشارات بيدار،.1428
17. (شورى الفقهاء، دراسة فقهية أصولية) للمؤلف.
18. (العروة الوثقى) للسيد اليزدي (قدس سره)، مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى 1410 .
19. (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) للشيخ الصدوق (قدس سره)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى 1404
20. (غرر الحكم).
21. (الفصول الغروية) للشيخ محمد حسين الاصفهاني الحائري (قدس سره)، النسخة الحجرية.
22. (فقه التعاون على البر والتقوى) للمؤلف.
23. (فوائد الأصول) تقريرات المحقق النائيني، للكاظمي قدس سرهما، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
24. (قوانين الأصول) للمحقق القمي (قدس سره)، النسخة الحجرية.
25. (كفاية الأصول) للآخوند الخراساني قدس سره.
26. (كنز العمال) للمتقي الهندي، مؤسسة الرسالة، 1409 .
27. (لسان العرب) لابن منظور، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 2009 .
ص: 266
28. (مباحث الأصول) للمؤلف.
29. (مجمع البحرين) للشيخ الطريحي (قدس سره)، الناشر: المكتبة المرتضوية، مطبعة: الحيدري، الطبعة الثالثة 1375 ه.ش.
30. (مستدرك سفينة البحار) للشيخ الشاهرودي (قدس سره)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
31. (المستدرك على الصحيحين) للحاكم النيسابوري، دار المعرفة.
32. (مصباح الأصول) للبهسودي، تقريرات بحث السيد الخوئي قدس سرهما، مكتبة الداوري، الطبعة الخامسة 1417 .
33. (مفاتيح الجنان) للشيخ القمي
34. (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب الاصفهاني، الناشر: طليعة النور، الطبعة الثانية 1427 .
35. (المكاسب) للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره.
36. (منتقى الأصول) ، تقرير بحث السيد الروحاني (قدس سره)، مطبعة الهادي (عليه السلام)، الطبعة الثانية 1416.
37. (المنجد في اللغة).
38. (المنطق) للشيخ المظفر (قدس سره)، الناشر: إسماعيليان، الطبعة السادسة عشر 1428 .
39. (موسوعة الفقه) للسيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، دار العلوم، الطبعة الثانية 1410 .
40. (الميزان في تفسير القرآن)، للسيد الطباطبائي (قدس سره)، منشورات جماعة المدرسين.
41. (الوصائل إلى الرسائل) للسيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، مؤسسة عاشوراء، 1421 .
ص: 267
ص: 268
موقع «الحجة» في العلوم... 19
موقع الحجة في «المنطق» و«الأصول»... 19
الحجية من «المبادئ» لعلم الأصول... 20
فوائد تحقيق معنى «الحجة» وأخواتها... 23
1- معرفة «الأقرب» للمعنى اللغوي؛ رعايةً للسنخية... 23
2- أفضلية التقيد بمصطلحات الشارع... 24
وجوه ضرورة التقيد بألفاظ الشارع... 24
3- الموضوعية... 27
ص: 269
4- تحديد مواطن النفي والإثبات... 27
معاني «الحجة» في اللغة والأصول وغيرهما... 32
المعنى اللغوي: ما يحتج به... 32
«الحجة» هي «الكاشف»... 34
«الحجة» هي «الإنكشاف»... 35
«الحجة» هي «المنجز والمعذر»... 36
«الحجة»: ما يجب الحركة على طبقه... 37
«الحجة»: الطرق والأمارات التي تقع أوساطاً... 37
«الحجة» هي «الأوسط» في القياس... 39
«الحجة»: المحرك التكويني... 40
«الحجة» كناية عن «منشأها» و«مقياسها»... 41
الحجة المنطقية... 42
معنى «الحجة» في الآيات والروايات... 49
«فَلِلّهِ الْحُجَّة الْبَالِغَة» والمعاني العشرة للحجية... 50
اللّه تعالى هو المنشأ الأول للحجية المعرفية... 53
وقيمة كل «الحجج» عائدة إليه تعالى... 54
الطرق والأمارات، من مصاديق «الحجة البالغة»... 55
المراد ب«لئلا يكون للناس على اللّه حجة»... 56
هل الآية شاملة للأمارات، كالطرق؟... 57
المراد ب«وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم»... 57
«حجتهم داحضة» ومعانيها... 58
ص: 270
شبهة «التضاد» بين «حجتهم» و«داحضة» وجوابها... 59
«إن لله على الناس حجتين» والمراد بالحجة... 60
تحقيق القول في معاني «الحجة» العشرة... 67
«الكاشفية» عين، أو لازم، أو مجعول، أو...؟... 68
هل يستحيل جعل «الحجية» ل«الوهم»؟... 69
تعريف الميرزا النائيني، ل«الحجة»... 70
وفيه أولاً: كونه أشبه بالمشروطة العامة... 71
ثانياً: أنه أخص من مسائل الأصول... 72
هل النقاش في تحديد معنى «الحجة» لفظي؟... 75
«الدليل» في الآيات والروايات... 85
المحتملات في: «هل أدلكم على تجارة»... 85
«الدليل» أعم من: شؤون العقيدة والشريعة، والحكم والموضوع... 87
الاحتمالات في رواية: «ودلّهم على ربوبيته بالأدلة»... 89
من معاني «الدليل»... 90
تحقيق معنى «ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً»... 91
اطلاقات أخرى ل«الدليل»... 93
«الأمارة»... 94
في الآيات والروايات والفقه والأصول... 94
أولوية قَصر «الأمارة» على «الموضوعات»... 94
أولاً: تبعيةً للروايات... 94
«التأسي» بالمعصومين«عليهم السلام»حتى في استعمال الألفاظ... 95
ثانياً: لأنها لغة بمعنى «العلامة»... 97
ص: 271
مناقشة «بيان الأصول» ل«الكفاية»... 98
«الطريق» في الآيات والروايات... 102
معاني «الطريق» الأربعة... 102
«الطريق» ومعاني «الحجة» العشرة... 103
«الطريق» و«طريق الطريق»... 104
عموم هداية القرآن ل«الطريق المستقيم»... 105
من مصاديق «الطريق المستقيم» في الفروع... 106
شمول «الطريق المستقيم» للمنكشف بالاجتهاد... 107
التمثيل بأحكام من باب «الخمس»:... 107
شمول «طريق مستقيم» للأحكام والموضوعات... 110
هل «الطريق المستقيم» هو الأحكام أم متعلقاتها؟... 114
شمول «طريق» للأحكام الخمسة وللدال عليها والمؤدي لها... 116
شمول «الطريق» للأوامر الإرشادية كالمولوية... 116
قوله تعالى: «وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً»... 117
معنى هدايتهم إلى طريق جهنم... 118
الفرق بين «الطريق» و«الحجة» و«الدليل»... 120
إطلاق «الحجة» و«الطريق» على «الحكم»... 120
علاقة «الحكم» بالعلوم المختلفة... 121
اطلاق «الحجة» و«الطريق» على الموضوع؟... 122
الثمرة:... 124
الباب الثاني... 130
«القطع حجة أم لا»؟... 133
ص: 272
الشيخ: لا يعقل كون «القطع» حجة... 133
مناقشة رأي الشيخ «قدس سره»... 134
هل العلم الحضوري حجة؟... 141
هل العلم الحضوري كاشف؟... 141
هل «الحضور» بذاته ملاك العلم؟... 143
خمسة مصاديق للعلم الحضوري... 144
وجه الإشكال فيها... 146
هل علمنا باللّه حضوري؟... 146
هل الأدلة الأربعة معلومة لنا، بالحصولي أم الحضوري؟... 149
بين المعاني التسعة الأخرى ل«الحجة»، والعلم الحضوري... 149
الثمرة:... 151
هل «صفات» المعصوم(عليه السلام) «حجة»، كقوله وفعله وتقريره؟... 157
من الأدلة على حجية ذواتهم وصفاتهم«عليهم السلام»... 157
صفاتهم«عليهم السلام»«حجة» حسب عدد من معانيها... 159
هل «ذات» المعصوم(عليه السلام)، حجة؟... 161
«ذواتهم» مما يحتج به المولى جل وعلا... 161
«ذواتهم» أنوار كاشفة عن الحقائق وأدلة على الواقع... 162
ومن المصاديق: تسديدهم«عليهم السلام» للفقهاء وغيرهم... 163
تقريب علمي... 164
أدلة نقلية... 165
«ذواتهم» «حجة» بمعنيين آخرين أيضاً... 167
ص: 273
«ذواتهم» «حجة تكوينية»... 168
وَهُم «حجة معرفية»... 169
من الأدلة النقلية... 170
ضرورة بحث «الأصولي» عن «حجيتهم»«عليهم السلام» المطلقة... 172
أولوية هذا البحث من بحوث أصولية أخرى... 174
النقض بخبر الواحد وشبهه وأنه مسألة أصولية أم مبدأ تصديقي؟... 175
هل «الأصول العملية» حجة؟... 183
والحاصل: ضرورة أخذ «الحجة» بالمعنى الأعم... 184
لزوم تعميم «الحجة» للحجة على الحكم والوظيفة... 184
«أدلة التقليد» دليل على أعميّة «الحجة»... 187
غاية الأصول: «الحجة» بالمعنى الأعم... 188
هل «قواعد التجويد» من الحجج؟... 195
الحكمة والفائدة في قواعد التجويد... 195
«قواعد التجويد» و«الأصول»... 196
مقارنة بين علمي «التجويد» و«النحو»... 198
في إمكان جعل الحجية للوهم، ووقوعه... 205
وبعض آثار الوهم وأحكامه... 205
حالات المكلف الثلاثة لدى الشيخ قدس سره 205
الحالة الرابعة للمكلف: «الوهم»... 205
الحالة الخامسة: «الإهمال»... 206
رابع الأقسام: «الوهم»... 206
ص: 274
حجية «الوهم» وعدمها، مسألة أصولية أو مبدأ تصديقي؟... 207
من أحكام «الوهم» وآثاره:... 209
هل «العلم الإجمالي» هو المنجز، أم «الاحتمال» أم المجموع؟... 212
دوران الأمر بين التعيين والتخيير... 214
تحقيق وتفصيل... 216
دليلان لإلغاء «الوهم» وجوابهما... 218
العنوان والمحصل، والغرض... 221
جريان قاعدة «الفراغ» دون «التجاوز»، في الوضوء... 222
«الاحتمال» إما بذاته منشأ الأثر أو بشرطٍ... 224
وبعض أحكام الشك، جارٍ في الوهم أيضاً... 226
التحقيق: الأحكام كلها ل«الاحتمال»... 226
الإشكال بأن «الاحتمال» مقسم للشك والظن وليس قسيماً... 228
الإجابة عن «الوهم إما ملحق بالشك أو بالقطع»... 230
إشكال عدم مدخلية وصف «المرجوحية» في ترتب الآثار... 231
الجواب أولاً النقض بالشك... 232
ثانياً: النقض بالظن... 234
الأقسام الستة للرجحان والظن... 235
الوجه في اعتبار الشارع بعض الظنون «حجة»... 239
ثالثاً: الحل: الأثر أثر الوجود الضعيف لا المرجوحية... 242
«الشك» ليس طريقاً وحجة فكيف بالوهم؟... 244
ضرورة «التربيع» فنياً وواقعياً... 245
بدائل خمسة لكلام الشيخ قدس سره... 247
تحقيق معنى «الشك» عرفاً ولغة... 249
ص: 275
الإشكال بأن «الوهم للزومه للظن لا يعقل جعله مقابلاً»... 250
الجواب الأول إلى الرابع... 250
خامساً: قد تكون الأحكام لكلا الطرفين، غير متنافرة... 252
سادساً: وقد تكون متخالفة للتفكيك في الأحكام الظاهرية... 254
الجواب عن إشكال اللغوية ووجود ثوابين وعقابين... 255
من أمثلة التفكيك: الطهارة دون الحلية في اللحوم... 257
ومن الأمثلة: المختلفان اجتهاداً أو تقليداً... 259
سابعاً: الحكمان المختلفان للشخص في حالتيه... 260
مصادر الكتاب... 265
المحتویات... 269
ص: 276