قولوا للناس حسناً ولا تسبوا

هوية الكتاب

قولوا للناس حسناً و لا تسبوا

أبحاث

سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1443 ه-2022 م

منشورات: مؤسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

قولوا للناس حسناً ولا تسبوا

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1443 ه-2022 م

منشورات:

مؤسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قولوا للناس حسناً و لا تسبوا

أبحاث

سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ

صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ

فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ

وَلِيّاً وَحَافِظاً وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً

حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة اللّه في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)

تقييم منهج سباب أهل البدع والمخالفين والمعارضة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1).

موضوع البحث

موضوع البحث في هذا الكتاب هو: حكم سباب الآخرين بشكل عام وحكم سبّ أهل البدع والضلالة والمخالفين بشكل خاص، وسيلقي هذا البحث الضوء على حكم سبّ المختلفين معنا اجتهادياً أو إدارياً أو سباب المعارضة، مع تعميم دائرة البحث إلى أشخاصهم أو رموزهم وحكوماتهم، وذلك بحسب ما يستنبط من الآيات والروايات والعقل وسيرة الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وذلك في ضمن مطالب تتعلق بالحكم الشرعي بعناوينه

ص: 7


1- سورة الأنعام: 108.

الأولية والثانوية، والحاكمة والمحكومة، كما يتضمن بحثاً مفصلاً عن الموضوع نفسه أي تعريف السب وحدوده.

(السباب) هو موضوع هذا الكتاب، وتعريفه موجزاً: أما بحسباللغة فقد ورد في مفردات الراغب: (السَّبُّ: الشّتم الوجيع)(1) ولكنه تفسير بالمعنى الأخص.

وفي معجم مقاييس اللغة: (إن أصل هذا الباب القطع) أقول: وسميّ السبّ سباً إما لأنه يقطع علاقتك بالآخر المسبوب وإما لأنه يجرح عِرضه ويخرقه ويقطعه، ولذا قال في (جمهرة اللغة): (وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتما لِأَن السب خرق الْأَعْرَاض)(2) وعلى هذا فالسب له معنى واسع أعم.

وفي معجم مقاييس اللغة أيضاً: (أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْبَابِ الْقَطْعُ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ الشَّتْمُ. وَأَكْثَرُ الْبَابِ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ السِّبُّ: الْخِمَارُ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ مِنْ مِنْسَجِهِ... وَمِنْ هَذَا الْبَابِ السِّبْسَبُ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ)(3) أقول: لأن الإنسان ينقطع فيها عن آثار العمران أو عن الخلق أو ينقطع فيها الأمل بالنجاة لو ضاع.

وأما بحسب الفقه فقد قال الشيخ الانصاري (رحمه اللّه): (ثم إنّ المرجع في السبّ إلى العرف.

وفسّره في جامع المقاصد بإسناد ما يقتضي نقصه إليه، مثل الوضيع والناقص.

وفي كلام بعض آخر: أنّ السبّ والشتم بمعنى واحد.

وفي كلام ثالث: أنّ السبّ أن تصف الشخص بما هو إزراءٌ ونقص، فيدخل في النقص كلُّ ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب

ص: 8


1- المفردات في غريب القران: ج1 ص391.
2- جمهرة اللغة: ج1 ص69.
3- معجم مقاييس اللغة: ج3 ص63-64.

والكافر والمرتد، والتعبير بشيء من بلاء اللّه تعالى كالأجذم والأبرص.

ثم الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق السبّ مواجهة المسبوب. نعم، يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص، فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه.

والظاهر تعدد العقاب في مادة الاجتماع؛ لأنّ مجرد ذكر الشخص بما يكرهه لو سمعه ولو لا لقصد الإهانة غيبة محرمة،والإهانة محرّم آخر)(1).

وسيأتي بسط الكلام عن تعريفه لغةً ولدى الفقهاء، فانتظر.

فهذا هو محور البحث في هذا الكتاب، وهناك محاور أخرى سنعقد لها بحثاً آخر في كتاب آخر بإذن اللّه تعالى:

منها: اللعن، وذلك لأن النسبة بين اللعن وبين السبّ هي العموم من وجه، كما أن كلّا من الطرفين ينفرد بأدلة خاصة به فلا بد من بحث كل منهما على حدة.

ومنها: إظهار البراءة بأنحاء أخرى غير اللعن والسبّ، وذلك كالاستدلال البرهاني، أو الجدل، أو المغالطة، أو الشعر، أو الخطابة، والأدلة والمناقشات والحدود لذلك تحتاج أيضاً إلى عقد بحث خاص.

على أن الجامع هو ما فصّلناه في الكتاب من أن المرجع في أصل تشخيص الحكم وحدوده في دائرة الشبهة الحكمية هم مراجع التقليد العظام وشورى الفقهاء والمجتهدين، وفي تشخيص الموضوع العامّ المرجع أهل الخبرة وأهل الحجى والحكمة من مراجع التقليد العظام والخبراء بالشؤون العامة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها - كل ذلك بحسب نوع الموضوع العام -، كما أن إلزامية القرار بالفعل أو الترك مرتهنة بقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2)

ص: 9


1- كتاب المكاسب: ج1 ص254.
2- سورة الشورى: 38.

حسبما فصلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وذلك فيما دخل في دائرة الموضوعات والشؤون العامة، وذلك فيما لم تكن تختص آثاره السلبية أو الإيجابية بالشخص نفسه، بل كانت تعم المجتمع أو شرائح منه بما ينطبق عليه عرفاً موضوع الآية الشريفة، وذلك لأن كل ما يضر بالأمة أو بشرائح منها مما يندرج في الشؤون العامة يدخل في إطار الآية الشريفة.

نطاق البحث وهيكليته: طوائف الآيات والروايات

إن الكتاب يتمحور حول أن الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) هي على طوائف بل على طبقات ومراتب:

الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أوليعام، ويتضمن بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.

الطائفة الثانية: ما يدل على جواز(1) سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.

الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) تقع ضمن هذه الطائفة، وهذه الطائفة إما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.

الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم والحكمين ذوي الملاكين المتضادين.

الطائفة الخامسة: الروايات، الدالة على وجوب مداراة الناس أو على

ص: 10


1- بالمعنى الأعم الشامل للإباحة وللوجوب.

حرمة كسب عداوتهم، وهي مطابقة في المصبّ النهائي مع الطائفة الأولى، ومع ذلك فإنه ينبغي عقد فصل خاص لها واعتبارها طائفة أخرى لأنهما من مرتبتين، ولعل في بحث حال الطوائف الأربع ما يلقي الضوء على أمثال طائفة المداراة فتدبر جيداً.

الطائفة السادسة: الروايات الدالة على أننا في حالة هدنة معهم مما يقتضي عدم صحة سبّهم.

وهناك طائفة سابعة وهي: روايات التقية وأدلتها، ولم نتطرق إليها ههنا لأنها مما يُعقد لها بحث خاص عادة، وعلى أيٍّ فهي متقاربة مع روايات الطائفة الثالثة والطائفة السادسة بل والخامسة أيضاً بوجهٍ.

ويتضمن البحث كذلك خاتمة فقهية وأخلاقية حول سباب الآخرين المختلفين معنا اجتهادياً أو إدارياً.

مشكلة البحث وغايته: الروايات والفتوى بالجواز

مشكلة البحث وغايته: الروايات والفتوى بالجواز(1)

إن العديد من أعاظم الفقهاء أفتوا بجواز أو بوجوب سبّ أو لعن أو البراءة من أهل البدع والمخالفين والكفار واستندوا في ذلك إلى طوائف من الروايات - وهي مندرجة كلها في الطائفة الثانية كما سيظهر - ومن ذلك ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في الجواهر والسيد الخوئي (رحمه اللّه) في مصباح الفقاهة:

قال صاحب الجواهر: ("ولو كان المقول له مستحقاً للاستخفاف" لكفرٍ أو ابتداعٍ أو تجاهرٍ بفسق (فلا حدّ ولا تعزير) بلا خلاف، بل عن الغنية الإجماع عليه، بل ولا إشكال، بل يترتب له الأجر على ذلك، فقد ورد أن من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، وورد أيضا ً: «زيّنوا مجالسكم بغيبة الفاسقين» وعن

ص: 11


1- أي بقول مطلق، بدون ان يقيدوا في ظاهر كلامهم.

الصادق (عليه السلام): «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة»(1) وفي النبوي: «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم وأهينوهم [وباهتوهم خ ل] لئلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا تتعلموا من بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات»(2) إلى غير ذلك مما هو دال على ذلك وإن لم يكن من النهي عن المنكر، بل هو ظاهر الفتاوى أيضاً، بل قد يترتب التعزير على تارك ذلك إذا كان في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين عليه، لحصول الشروط.

نعم ليس كذلك ما لا يسوغ لقاؤه به من الرمي بما لا يفعله، ففي حسن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): (أنه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام(3) إلا أن يكون اطلعت على ذلك منه)(4) وكذا في صحيحه عنه (عليه السلام) وزاد فيه: «أيسر ما يكون أن يكون قد كذب»(5)نعم يترتب التعزير على ما سمعته سابقاً في حق غير المستحق وكذا كل ما يوجب أذى كقوله: يا أجذم أو يا أبرص أو يا أعور أو نحو ذلك وإن كان فيه، إذ ذلك أشد عليه، كما هو واضح، واللّه العالم)(6).

وقال السيد الخوئي (رحمه اللّه): (الوجه الأول: أنه ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم، وإكثار السبّ عليهم، واتّهامهم، والوقيعة فيهم - أي غيبتهم - لأنهم من أهل البدع والريب)(7) و(وفي

ص: 12


1- الوسائل - الباب - 154 - من أبواب أحكام العشرة - الحديث 4 من كتاب الحج.
2- الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الأمر والنهي - الحديث 1 من كتاب الأمر بالمعروف.
3- فكيف بمن هو داخل في دائرة الإسلام ولو ظاهراً؟
4- الوسائل - الباب - 1 - من أبواب حد القذف - الحديث 2.
5- الوسائل - الباب - 1 - من أبواب حد القذف - الحديث 1.
6- جواهر الكلام: ج41 ص412-413.
7- تقريرات أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه اللّه): ج1 ص504.

جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شرّ من اليهود والنصارى وأهون من الكلب، وأنه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. ومن البديهي أنّ جواز غيبتهم أهون من الأمور المذكورة، بل قد عرفت جواز الوقيعة في أهل البدع والضلال، والوقيعة هي الغيبة)(1).

وفي المقابل: فإن هناك العديد من الفقهاء والكثير من المفكرين والحداثويين ممن يرفضون منهج السباب بشكل مطلق، والمعضلة التي يستهدف البحث مناقشتها وحلها هي أن الآيات والروايات تبدو - في بادئ النظر - مختلفة أو متناقضة لذلك يتمسك كل فريق ببعض الآيات والروايات لتدعيم موقعه، والبحث معقود لدراسة فقه الآيات والروايات المتطرقة لموضوعة السباب وتحليل السيرة المنطوية على ذلك.

والبحث يقترح (فهماً) أعمق وأشمل للآيات والروايات، على ضوء معطيات علم الأصول والفقه والتفسير، فهو يوضح مثلاً أن أمثال تلك الفتوى ومستنداتها من الروايات الشريفة، تقع كلها ضمن الطائفة الثانية وأنها مطوّقة بالطائفة الأولى والثالثة والرابعة والسادسة، كما أن البحث يستعرض وجه الجمع الذي توصل إليه المؤلف بين مختلف الأدلة بما تشهد به الروايات بأنفسها خروجاً عنوجوه الجمع التبرعية.

فغاية البحث هي: استكشاف المنظومة الفقهية والفكرية المتكاملة لأحكام سباب الآخرين في الشريعة الإسلامية، وهذا هو ما عقد هذا البحث لأجله، ومن اللّه التوفيق والسداد.

منهجية البحث: يعتمد البحث - بالأساس - على المنهج العلمي - الاستنباطي

ص: 13


1- تقريرات أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه اللّه): ج1 ص505.

والتحليلي كما يتضمن - عرَضاً - إشارات تأريخية، وتلميحات سيكولوجية - سوسيولوجية.

وينتهج منهج (علم الأصول) و(فقه الحديث) في دراسة الأدلة القرآنية والروائية.

مصادر البحث: لم يتوسع البحث - حسب طبيعته - في المصادر، لأنه بحث يعتمد بالأساس على تحليل أمهات الأدلة والاجتهاد فيها، لذلك كانت مصادره هي المصادر الأساسية المعتمدة لدى العلماء وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة أصول الكافي ووسائل الشيعة، ونظائرها.

ص: 14

الفصل الأول: الأصل في العلاقات اللفظية مع الدخر

اشارة

ص: 15

ص: 16

الأصل (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )وحرمة السباب

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: (وَإِذْ أَخَذْنا ميثاقَ بَني إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَليلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(1) و(وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً)(2).

إن طوائف الآيات والروايات حول موقف الشريعة من سباب الآخرين سبعة، وسنتطرق - بإذن اللّه تعالى - في هذا الفصل إلى أولاها فنقول:

الطائفة الأولى: الآيات والروايات الدالة على أن الأصل الأولي العام هو قول الحسنى للناس ووجوبه، كما يستفاد منها ببعض الوجوه حرمة سباب الآخرين.

وتدل على ذلك الآيات والروايات الكثيرة:

ومنها: قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ...).

ومنها: (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً).

ص: 17


1- سورة البقرة: 83.
2- سورة الإسراء: 53.

ومنها: قوله تعالى: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدينَ)(1).

وقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أمر وهو ظاهر في الوجوب بناءً على أن القول الحسن والسيء ضدان لا ثالث لهما، وأما مع القول بوجود الضد الثالث فقد يقال إن الآية تفيد الرجحان.

وفيه: إن ظاهرها الوجوب؛ لمقام الأمر، والرجحان لو استفيد فلدليلٍ خارجٍ، فلو كان دليلاً لبّياً اقتصر فيه على القدر المتيقن فيبقى الباقي على العموم، أو بناءً على أن الكلام ليس عن القول الحسن الابتدائي العام فإنه راجح، بل عن القول الحسن في مواطن النزاع والجدال واحتمال النزاع، وإن الآيات ناضرة إليه أو منصرفة نحوه، فإنه واجب وإن غير الكلام الحسن وإن لم يكن بالسيء لا يخمد النزاع، وما كان منه محرماً فإخماده واجب، فكيف لو قيل بأن عدمه مقدمة له(2) عرفاً، فتأمل.

والظاهر إن المراد من (حسناً) في كلا جانبي علة الكلام المادية والصورية ولا يضر توجيه الخطاب في صدر الآية لبني إسرائيل؛ إما لأن الأصل في الشرائع هو العموم إلا ما خرج أو للاستصحاب، كما نقحناه في الأصول، كما أن ظاهر (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) هو أن إيجاب الأمر به لوجوبه لا لمجرد رجحانه واستحبابه ويؤكده (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) إذ يفيد أن مفسدة الترك عظيمة.

ص: 18


1- سورة النحل: 125.
2- عدم القول الحسن، في مواطن النزاع، مقدمة إعدادية لاستمرار النزاع أو لزيادته، ولذا يقال عرفاً لمن سكت عن إصلاح ذات البين بالقول الحسن وهو قادر عليه، بل سكت أو انشغل بكلام عادي، يقال له: انك ساهمت في استمرار النزاع أو ساهمت في إذكائه.

وقوله تعالى (يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم وهو قريب من معنى النخس الذي يعني غرز مؤخر الدابة بعود ونحوه. وهكذا حال الشيطان فإنه يستغل السباب وغيره من مطلق ما ليس بالأحسن ليهيِّج أحد الطرفين ضد الآخر بوكزة أو نخسةٍ أو دفعة فجائية حادة قوية يستثمر فيها سباب هذا لذاك وبالعكس ليثير فيه قوته الغضبية بأقصى طاقة ممكنة لتعمّ الشحناء والبغضاء المجتمع كله.

لا يقال: إن قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) إن دلّ على وجوب القول الحسن، فإنه لا يدل على حرمة تركه ولا يدل على حرمةالقول السيء؛ إذ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام أو الخاص!

إذ يقال: المراد بالاقتضاء الاستلزام وليس هو المدعى كي يُنفى، بل الظهور العرفي فإنه إذا قال أكرم العلماء دل على وجوب إكرامهم، ودلّ - عرفاً، بدون شك - على حرمة إهانتهم - وهو الضد الخاص - كما دل عرفاً على حرمة ترك الإكرام.

وفي المقام: فإن من الواضح لكل عارف باللسان أن قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) مع تسليم أنه يفيد الوجوب، ظاهر في حرمة القول السيء لهم، بل إن العرف يجد التفكيك بينهما غريباً.

لا يقال: إن العلّة في إيجاب القول الحسن هي مخافة النزغ فلا تشمل الآية مورداً يكون فيه النزغ حاصلاً بنفسه حتى بدون السبّ؟

إذ يقال: أولاً: (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ) حِكمة وليس بعلّة، وقد أوضحنا في الأصول أنه الأصل، بل ومع الشك لا مجال للتخصيص بدعوى عدم تحقق الحكمة أو ما هو محتمل العلّية.

ثانياً: سلّمنا أنها علة، لكن (النزغ) حقيقة تشكيكية ذات مراتب، ولا شك أن في السباب يزيد من شدة العِداء وأن القول الحسن يخفِّف منه أو يمنع زيادته.

ص: 19

لا يقال: لعله لا يكون كذلك؟

إذ يقال: ذلك نادر ولذا قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ)(1) على أن ورودها في (المشركين) يؤكد أن (السباب) يزيد من درجة العداء دون شك.

وقد ذكر في تفسير الصافي: ((وَقُلْ لِعِبادي) يعني المؤمنين و(يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) أي يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن ولا يخاطبوهم بما يغيظهم ويغضبهم (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يهيج بينهم المِراء والشرّ فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازديادالفساد (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً)ظاهر العداوة)(2).

وعلى أيٍّ فلو سلّم فإن النادر المحرَز أن السباب فيه لا يزيد النزغ، لا يكون مشمولاً للآية.

لا يقال: لا يوجد أمر في الآية الكريمة إذ الموجود فيها (يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ)، نعم أُمر الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بأن يقول لهم بأن يقولوا التي هي أحسن!

إذ يقال: كلا، بل هو أمر بدون كلام، ويوضحه: أنه لو قال المولى قل لأولادي يكرموا ضيفهم أو يزوروا البيت الحرام كان معناه قل لهم ليكرموا أو أن يكرموا وليزوروا أو أن يزوروا أي أن الإكرام والزيارة يكونان هما متعلَّق الأمر بقل فيكونان مأموراً بهما، وفي المقام (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) أي ليقولوا التي هي أحسن فمعناه أن قولهم بالتي هي أحسن مأمور به.

ص: 20


1- سورة فصلت: 34 - 35.
2- تفسير الصافي: ج2 ص358.

ولكن قال في مجمع البيان: (الأعراب (يقولوا) جواب شرط محذوف تقديره قل لعبادي قولوا التي هي أحسن يقولوا)، وهو غير عرفي وإن كان على القاعدة النحوية لكنه غريب مستهجن، والأوضح ما ذكرناه، وعلى أي فإنه غير ضارٍ بما نحن بصدده إذ لو كان المقدر في كلامه تعالى كما قال لكان أصرح في الأمر بالقول الحسن، فتدبر.

ثم إنه قال في التبيان: (وقوله: "وقل لعبادي يقول التي هي أحسن" قال الحسن: معناه "قل" يامحمد "لعبادي" يأمروا بما أمر اللّه به، وينهوا عما نهى عنه. وقال الحسن: معناه قل لعبادي يقل بعضهم لبعض أحسن مايقال، مثل رحمك اللّه ويغفر اللّه لك. ثم أخبر تعالى فقال: (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم ويلقي بينهم العداوة والبغضاء)(1).

ومن الواضح أن التفسير الأول تفسير بالمصداق وتخصيصه به بلا مخصص؛ إذ الأمر بما أمر اللّه به هو من مصاديق القول الحسن، وكذلك الشأن في التفاسير التي نقلها في مجمع البيان إذ قال:( (يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) أي: يختاروا من المقالات والمذاهب، المقالة التي هي أحسن المقالات، والمذاهب. وقيل: مرهم يقولوا الكلمة التي هي أحسن الكلمات، وهي كلمة الشهادتين، وكل ما ندب اللّه إليه من الأقوال. وقيل: معناه يأمروا بما أمر اللّه به، وينهوا عما نهى اللّه عنه، عن الحسن. وقيل: معناه قل لهم يقل بعضهم لبعض أحسن ما يقال، مثل: رحمك اللّه، ويغفر اللّه لك. وقيل: معناه قل لعبادي إذا سمعوا قولك الحق، وقول المشركين، يقولوا ما هو أولى، ويتبعوا ما هو أحسن، عن أبي مسلم. وقال نظيره: (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(2) )(3).

ص: 21


1- تفسير التبيان: ج6 ص489.
2- سورة الزمر: 17 - 18.
3- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج6 ص261.

وكلها تفسير بالمصداق فإنها بأجمعها من القول بالتي هي أحسن والتخصيص ببعضها بلا مخصص، ويشهد للتعميم التعليل اللاحق: (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) فإن ترك أي من المذكورات ممهِّد لكي ينزغ الشيطان بينهم.

وقال السيد الوالد (قدس سره) في تقريب القرآن: ((قُل) يا رسول اللّه (لِعِبادي) الذين يسمعون منك (يَقَولُوا) جزم الفعل، لأنه في جواب الأمر، المقالة والكلمة (الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) من سائر المقالات والكلمات، وهي في الاعتقادات كلمة الشهادتين، وفي الاجتماعيات كلمة الإصلاح وهكذا...، فإن الكلمة توجب الفتن والاضطراب (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد ويغري بعضهم ببعض، إذا صدرت منهم الكلمة السيئة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) في جميع الأوقات (لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً) أي ظاهر العداوة، وأيّة عداوة أكثر من إفساد الدنيا والآخرة.

55 - ولا بد بعد هذه التوصية وغيرها، أن تخرج من الإنسان الكلمة السيئة، فليكن الإنسان عند اللّه بين الخوف والرجاء، ولا يزك نفسه، فاللّه أعلم به من غيره، وحتى من نفسه، إذ كثيراً ما لا يعلم الإنسان مقدار الجرم الذي اقترفه، بينما اللّه عالم بذلك، (رَبُّكُمْ) أيها البشر (أَعْلَمُ بِكُمْ) وبما أجرمتم من الآثام (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) وليست إرادته اعتباطية، بل تابعة لموازين عادلة (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بماعملتم من المعاصي، وقلتم من الكلمات السيئة (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول اللّه (عَلَيْهِمْ) على البشر (وَكيلاً) حتى تكون أنت المسؤول عن جرائمهم، بل أنت داع وهاد، فعليك أن تقول كما أمرنا (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ) وعليهم العمل، فإن لم يعملوا، كان حسابهم على ربهم، إن شاء رحم وعفى، وإن شاء عذب وأهان)(1).

ص: 22


1- تقريب القرآن: ج3 ص319 - 320.

ومن الواضح أن انتهاج منهج سباب الآخرين ليس مصداقاً لقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) بل هو على النقيض من ذلك، وكذلك من الواضح أن الشخص السبّاب في تعامله الدعوي أو في حديثه الجدلي مع الآخرين مخالف لأمره تعالى الصريح ب(ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ).

كما أن قوله: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) أوامر وكلها ظاهرة في الوجوب.

وفرق الآيتين الأوليين عن الثالثة أن الأوليين أوسع دائرة من الثالثة إذ تفيد وجوب قول الحسن للناس فيشمل تعامل الرئيس مع موظفيه في كيفية إصداره الأوامر لهم أو حديثه معهم وكذلك كيفية حديث الأب مع ابنه وبالعكس أو الزوج مع زوجته وبالعكس والصديق مع الصديق سواء أكان ذلك في حالة دعوة ووعظ وجدال أم لا، أما الآية الثالثة فخاصة بإطار (الدعوة) و(الموعظة) و(الجدال) وأن الدعوة إلى سبيل اللّه يجب أن تكون بالحكمة وأن الموعظة يجب أن تكون حسنة وأن الجدل يجب أن يكون بالتي هي أحسن، وأما الآية الثانية فهي في مظان حصول النزاع، فتدبر.

لا يقال: إن التمسك بقوله تعالى: (اُدْعُ...) تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأنه لا يعلم كون (السباب) خلاف الحكمة وخلاف الموعظة الحسنة وخلاف الجدال بالتي هي أحسن؟

إذ يقال: لا شك في أنه لا يصدق بالحمل الشائع الصناعي على (السباب) أنه جدال بالتي هي أحسن! كما لا يصدق عليه أنه (موعظة حسنة)! كما أنه ليس السباب (دعوة إلى سبيل اللّه بالحكمة) بل إنه من السالبة بانتفاء الموضوع

ص: 23

فإنه ليس دعوة أصلاً.

ثم إنه لو فرض شمول الحكمة - نادراً - له، فإن الآية ظاهراً منصرفة عنه؛ ألا ترى أنه لا يفهم أحد من الآية (الدعوة بالحكمة عبر السباب) بل إنهم يجدونه غريباً جداً! فتأمل.

وعلى أي فلو شك في شمول (الحكمة) للسباب أحياناً، فلا شك في أن (الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) و(جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) طاردة له، أي أن عطف (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) على (بِالْحِكْمَةِ) موضح للمراد منها أو صارف لها عن توهم إرادة السباب أيضاً، بل نقول إن ظاهر (الحكمة) غير السباب فلاحظ مثلاً ما ذكره مجمع البحرين في مادة الحكمة: (قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً)(1) أي يعطى اللّه الحكمة أي العلم ويوفق للعمل وقيل: الحكمة القرآن والفقه. وقرئ "من يؤت الحكمة" بكسر التاء و"من يؤته اللّه الحكمة" وخيراً كثيراً تنكير تعظيم. والحكمة: العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح، مستعار من حكمة اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابة يمنعها الخروج)(2).

وقال: ("الكلمة الحكيمة ضالة الحكيم" قيل أراد بالكلمة الجملة المفيدة، وبالحكيمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، مصونة معانيها عن الاختلاف والتهافت)(3) وكلها مما لا ينطبق على السباب بوجه.

نعم قد يقال: الآية أخص من المدعى لأنها خاصة بالدعوة، فتأمل.

ص: 24


1- سورة البقرة: 269.
2- مجمع البحرين: ج1 ص553.
3- مجمع البحرين: ج1 ص555 - 556.

ثم إن هذا الأصل العام تدل عليه(1) آيات كثيرة أخرى كقوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(2) قال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في التبيان: (وقوله (وَعِبادُالرَّحْمنِ) يعني عباده المخلصين، الذين يعبدونه، المعظمون ربهم (الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) يعني بالسكينة والوقار - في قول مجاهد - وقال الحسن: معناه حلماً وعلماً، لا يجهلون وإن جهل عليهم. وقال ابن عباس: بالتواضع لا يتكبرون على أحد (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُون) بما يكرهونه أو يثقل عليهم، قالوا في جوابه (سَلاماً) أي سداداً من القول - ذكره مجاهد - وقيل: معناه إنهم قالوا قولاً يسلمون به من المعصية لله. وقال قوم: هذا منسوخ بآية القتال.

وليس الأمر على ذلك، لان الامر بالقتال لاينافي حسن المحاورة في الخطاب وحسن العشرة)(3).

ثم إن تفسير بعض الروايات لعباد الرحمن بالأوصياء - كما في الكافي - تفسير بأجلى المصاديق فلا ينافي كونه أصلاً عاماً، على أنهم (عليهم السلام) لو كانوا يقولون للجاهل سلاماً من القول فما بالك بنا نحن؟ وبذلك يظهر حال بعض التفسيرات الخاصة السابقة.

كما يدل على هذا الأصل العام قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً)(4) ولقد كان الأصل العام في الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) هو كما صرح به تعالى في آيات أخرى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ

ص: 25


1- أما مطلقاً أو في الجملة، فتدبر.
2- سورة الفرقان: 63.
3- التبيان في تفسير القرآن: ج7 ص504 - 505.
4- سورة الأحزاب: 21.

لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1) و(ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ)(2) وحتى في الحروب فإنه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) تحلى بمنتهى الرحمة فلم يبتدأ بقتال بل كانت حروبه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كلها دفاعية، كما أنه منع التمثيل بالقتلى وتعامل مع الأسرى بمنتهى العطف واللطف والرحمة ولم ينتقم من (هند) التي مثلت بعمه سيد الشهداء وحمزة (رضوان اللّه عليهما) وحتى أنه لم يعاقبها أدنى عقوبة ولا انتقم من (وحشي) وألف لا ولا، وقد فصّل السيد الوالد (رحمه اللّه) ذلك في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) وغيره، فالأسوة به (صلی اللّه علیه وآله وسلم) حتى في حال الحرب تعني ذلك إضافة إلى الصبر على مصاعب الجهاد، قال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه): (هذاخطاب من اللّه تعالى للمكلفين، يقول لهم: إن لكم معاشر المكلفين "في رسول اللّه اسوة حسنة" أي اقتداء حسن، في جميع ما يقوله ويفعله متى فعلتم مثله كان ذلك حسناً، والمراد بذلك الحث على الجهاد والصبر عليه في حروبه، والتسلية لهم في ما ينالهم من المصائب، فإن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) شج رأسه وكسرت رباعيته في يوم أحد وقتل عمه حمزة (رضوان اللّه عليه)؛ فالتأسي به في الصبر على جميع ذلك من الأسوة الحسنة. وذلك يدل على أن الاقتداء بجميع أفعال النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) حسن جائز إلا ما قام الدليل على خلافه، ولا يدل على وجوب الاقتداء به في أفعاله وإنما يعلم ذلك بدليل آخر. فالاسوة حال لصاحبها يقتدي بها غيره في ما يقول به، فالاسوة تكون في إنسان وهي اسوة لغيره، فمن تأسى بالحسن ففعله حسن "لمن كان يرجو اللّه" فالرجاء توقع الخير، فرجاء اللّه توقع الخير من قبله ومثل الرجاء الطمع والأمل، ومتى طمع الإنسان في الخير من قبل اللّه، فيكون راجياً له.

ص: 26


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الأنبياء: 107.

وقوله: "وذكر اللّه كثيراً" معناه يذكره تعالى بجميع صفاته، ويدعوه بها فيستحق بذلك الثواب من جهته)(1).

فهذا إذاً هو الأصل العام في الحديث والنقاش مع الآخر أو الحوار معه أو في مطلق التعامل معه.

الفوائد من تأسيس أصل حرمة السباب بشكل عام

ولكن قد يتساءل عن الفائدة من تأسيس هذا الأصل مادامت موارد الاستثناء - وهي الطائفة الثانية من الروايات - محددة، كما في الرواية المعروفة: «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ»(2).

والجواب: إن الثمرات من تأسيس هذا الأصل متعددة:

فأولاً: يكون هذا الأصل هو المرجع لدى الشك في الشبهات المصداقية للخاص، حسب المشهور المنصور.

وثانياً: يكون هو المرجع لدى الشك في الشبهة المفهومية - مفهوم موضوع المخصِّص - سعةً وضيقاً، وذلك كلما كان المخصِّص منفصلاً، فإنه لا سراية حينئذٍ(3)

على المشهور المنصور.

فمثلاً لو شك في أن زيداً هل هو من أهل الريب والبدع أو لا، فلا يجوز

ص: 27


1- التبيان في تفسير القرآن: ج8 ص328.
2- الكافي: ج2 ص275.
3- لا يسري إجمال مفهوم المخصِّص إلى العام.

سبه استناداً إلى الطائفة الثانية من الروايات لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل يرجع إلى الأصل العام وهو الحرمة.

ولو شك في حدود سعة معنى (البدعة) أو معنى (الريب) فالقدر المتيقن داخل في المستثنى وما عداه باقٍ على حكم العام (المستثنى منه) وهو الحرمة، فمثلاً هل منكِر الضروري مطلقاً مبتدع؟ وذلك مبني على حدود الضروري ومدى سعته أو ضيقه وكذلك حال الريب أيضاً، وفي كافة موارد الشك الأصل العدم، وهو أصل عام يجري في العقوبات الشرعية إذ (الحدود تدرأ بالشبهات).

المناقشة: الاستثناء في قوله: (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)

ولكن قد يعترض: بأن الآيتين الكريمتين وإن أفادتا وجوب القول بالتي هي أحسن مطلقاً ووجوب الجدال بالتي هي أحسن مطلقاً، ولكن توجد آية أخرى تفيد تقييد الآيتين فقد قال تعالى: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ * وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فمفاد هذه الآية أمران: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) و(إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي فجادلهوهم بالتي هي أسوأ.

الأجوبة

ولكن هذا الكلام غير تام لوجوه:

المحتمل (إلا الذين ظلموا فلا تجادلوهم أصلاً)

الوجه الأول: إن المحتمل في المراد من الآية الكريمة وجهان:

أولاً: أن يكون المراد (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فجادلوهم بالتي هي أسوأ،

ص: 28

وهذا هو الذي ينفع الطرف الآخر.

ثانياً: إن المراد (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فلا تجادلوهم أصلاً لا بالأحسن ولا بالأسوأ، أي أهملوهم تماماً ولا تدخلوا في حوار معهم أصلاً لأنهم معاندون لا يجدي معهم الحوار أبداً.

وتوضيحه: إن الأضداد ثلاثة وليست إثنتين فإذا نفيت واحدة بقي الضدان الآخران محتملين، والأضداد الثلاثة هي:

1- (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فلا تجادلوهم أصلاً لا بالأحسن ولا بالأسوأ.

2- (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فجادلوهم بالتي هي أسوأ.

3- (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فجادلوهم بالتي هي أحسن، والاستثناء صريح في نفي الأخير فيبقى الأولان محتملين.

لا يقال: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات؟

إذ يقال: ذلك وإن صح لكنه في القضايا البسيطة دون المركبة، وخصوصية الآية إن ما سَبَق قوله: (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) مركب من إيجاب ونفي إذ هو (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) فالشطر الأخير(1) إيجاب وما قبله(2) نفي، فتدبر.

أو المراد (فجادلوهم لا بالتي هي أحسن)

الوجه الثاني: سلّمنا لكن الآية تفيد على فرض التنزل أنه(جادلوا الذين ظلموا منهم لا بالتي هي أحسن) وليس (جادلوهم بالتي هي أسوأ) إذ الأول هو المعكوس الدقيق للمستثنى منه لا الثاني، وذلك لأنه يقع في مقابل (لا تجادلوا):

ص: 29


1- (إلا بالتي).
2- (وَلا تُجادِلُوا).

(جادلوا) ويقع في مقابل (إلا بالتي هي أحسن): (إلا بالتي ليست بأحسن) لا (إلا التي هي أسوأ) فإن (النقيض) هو الأَوْلى بالمقابلة(1)

من الضد، وعلى أي تقدير فإن كليهما محتمل فتكون الآية مجملة المراد (هل: لا تجادلوهم أصلاً لا بالأحسن ولا بالأسوأ، أو: جادلوهم بالتي هي أسوأ) وحيث تردّد أمر الخاص وأجمل بقينا على حكم العام وهو حرمة جدالهم بالتي هي أسوأ مطلقاً؛ وذلك لأنه من الأقل والأكثر مما يخرج عن العام، أي إن القدر المتيقن من الخارج عن العام هو: (لا تجادلوهم لا بالأحسن ولا بالأسوأ) فيبقى الأكثر و(جادلهم بالتي هي أحسن) على القاعدة العامة، وأما على القول بكونهما متعارضين فإنهما يتساقطان ويرجع للأصل العام، أو يقال هما من الدوران بين الحجة واللاحجة والمرجع العام أيضاً، فتأمل وتدبر.

أو المراد: فقاتلوهم ردّاً لاعتدائهم

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأفاضل: من أن المراد من (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي الذين ظلموكم بإشهارهم الحرب عليكم وحملهم السيف ضدكم، فهؤلاء لا مجال للجدال معهم (لا بالأحسن ولا بالأسوأ) بل تجب محاربتهم وردّ اعتدائهم، وذلك يعني أن الاستثناء منفصل، والقرينة أن أهل الكتاب - من حيث الشرك - كلهم مشركون ظَلَمة لقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ)(2) فلا معنى للاستثناء منهم بالقول: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) إذ كلهم ظَلَمَة بهذا المعنى، فالمراد ظلم خاص هو ظلمهم إياكم بحملهم السلاح ضدكم فاحملوا السلاح ضدهم، فتدبر.

ص: 30


1- وقوعه مقابلاً.
2- سورة لقمان: 13.

وقوله (عليه السلام): «وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، مُحَرَّمٌ»

الوجه الرابع: إن بعض الروايات صريحة في أن المراد نفي جواز الجدال بالأسوأ وإن الآية الكريمة تفيد: جادِل بالأحسن كقاعدة عامة، وأما الظالمون منهم فاترك الجدال وليس أنه جادلهم بالأسوأ - كما هو مدعى الطرف الآخر -، فقد نقل في تفسير البرهان عن: الْإِمَامُ أَبي مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام)، وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وَالْأَئِمَّةَ (عليهم السلام) قَدْ نَهَوْا عَنْهُ، فَقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): لَمْ يُنْهَ عَنْهُ مُطْلَقاً، لَكِنَّهُ نُهِيَ عَنِ الْجِدَالِ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَمَا تَسْمَعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (وَلاٰ تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؟ فَالْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَدْ قَرَنَهُ الْعُلَمَاءُ بِالدِّينِ، وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُحَرَّمٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شِيعَتِنَا...»(1). فلاحظ عموم قوله: «وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُحَرَّمٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شِيعَتِنَا» فهو ظاهر - إن لم يكن نصاً - في حرمته مطلقاً(2) وإنما الجائز الجدال بالأحسن مع غير الظالم منهم، وأما الظالم فإنه مندرج في عموم: «وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُحَرَّمٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شِيعَتِنَا».

ثم قال الإمام (عليه السلام): «وَكَيْفَ يُحَرِّمُ اللَّهُ الْجِدَالَ جُمْلَةً، وَهُوَ يَقُولُ: (وَقٰالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ) وَقَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ أَمٰانِيُّهُمْ قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ)(3)؟ فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَمَ الصِّدْقِ

ص: 31


1- البرهان في تفسير القرآن: ج4 ص323.
2- الأعم من الجدال بالأسوأ ومن الجدال لا بالأحسن بالمعنى الأخص.
3- سورة البقرة: 111.

وَالْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ، وَهَلْ يَكُونُ الْبُرْهَانُ إِلاَّ فِي الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؟».

فَقِيلَ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالَّتِي لَيْسَتْ بِأَحْسَنَ؟

قَالَ (عليه السلام): «أَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، بِأَنْ تُجَادِلَ مُبْطِلاً،فيُورِدَ عَلَيْكَ بَاطِلاً، فَلاَ تَرُدَّهُ بِحُجَّةٍ قَدْ نَصَبَهَا اللَّهُ، وَلَكِنْ تَجْحَدُ قَوْلَهُ(1)، أَوْ تَجْحَدَ حَقّاً(2) يُرِيدُ ذَلِكَ الْمُبْطِلُ أَنْ يُعِينَ بِهِ بَاطِلَهُ، فَتَجْحَدَ ذَلِكَ الْحَقَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْكَ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّكَ لاَ تَدْرِي كَيْفَ الْمَخْلَصُ مِنْهُ، فَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى شِيعَتِنَا أَنْ يَصِيرُوا فِتْنَةً عَلَى ضُعَفَاءِ إِخْوَانِهِمْ، وَعَلَى الْمُبْطِلِينَ: أَمَّا الْمُبْطِلُونَ فَيَجْعَلُونَ ضَعْفَ الضَّعِيفِ مِنْكُمْ إِذَا تَعَاطَى مُجَادَلَتَهُ، وَضَعْفَ مَا فِي يَدِهِ، حُجَّةً لَهُ عَلَى بَاطِلِهِ، وَأَمَّا الضُّعَفَاءُ مِنْكُمْ فَتُغَمُّ قُلُوبُهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ضَعْفِ الْمُحِقِّ فِي يَدِ الْمُبْطِلِ.

وَأَمَّا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ أَنْ يُجَادِلَ بِهِ مَنْ جَحَدَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِحْيَاءَهُ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِياً عَنْهُ: (وَضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟ فَقَالَ اللَّهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

فَأَرَادَ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ أَنْ يُجَادِلَ الْمُبْطِلُ الَّذِي قَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ هَذِهِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أَفَيَعْجِزُ مَنِ ابْتَدَأَهُ لاَ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يُعِيدَهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى؟ بَلْ ابْتِدَاؤُهُ أَصْعَبُ عِنْدَكُمْ مِنْ إِعَادَتِهِ.

ص: 32


1- وهذا جدال بغير الأحسن، بالمعنى الأخص.
2- وهذا جدال بالأسوأ.

ثُمَّ قَالَ: (اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نٰاراً)، أَيْ إِذَا كَانَ قَدْ أَكْمَنَ النَّارَ الْحَارَّةَ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الرَّطْبِ، يَسْتَخْرِجُهَا، فَعَرَّفَكُمْ أَنَّهُ عَلَى إِعَادَةِ مَا يَبْلَى أَقْدَرُ، ثُمَّ قَالَ: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَهُوَ الْخَلاّٰقُ الْعَلِيمُ)(1)، أَيْ إِذَا كَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمَ وَأَبْعَدَ فِي أَوْهَامِكُمْ وَقَدْرِكُمْ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ الْبَالِي، فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ مِنَ اللَّهِ خَلْقَ هَذَا الْأَعْجَبِ عِنْدَكُمْ وَالْأَصْعَبِ لَدَيْكُمْ، وَلَمْ تُجَوِّزُوا مَا هُوَ أَسْهَلُ عِنْدَكُمْ مِنْ إِعَادَةِ الْبَالِي؟ فَقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَعُرَى الْكَافِرِينَ(2)، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ، وَأَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَأَنْ تَجْحَدَ حَقّاً(3) لاَ يُمْكِنُكَ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاطِلِ مَنْ تُجَادِلُهُ، وَإِنَّمَا تَدْفَعُهُ عَنْ بَاطِلِهِ بِأَنْ تَجْحَدَ الْحَقَّ، فَهَذَا هُوَ الْمُحَرَّمُ، لِأَنَّكَ مِثْلُهُ، جَحَدَ هُوَ حَقّاً، وَجَحَدْتَ أَنْتَ حَقّاً آخَرَ»(4).

والاستدلال بالرواية مبني على (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) كما فصلناه في ذلك الكتاب فراجع، أو مبني على مطابقتها للقاعدة أو اعتضادها بسائر الأدلة، وإلا فتكون مؤيداً حينئذٍ.

وههنا احتمالان كلاهما دليل لنا على الطرف الآخر:

الأول: إنه قد يقال: بأن قوله (عليه السلام): «أَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،

ص: 33


1- سورة يس: 81.
2- لاحظ قوله (عليه السلام): «لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ» فهذه فائدة الجدال بالتي هي أحسن، لا سبهم وشتمهم!
3- يحتمل أن يكون هذا شقاً ثالثاً، ويحتمل أن يكون نفس الشق الثاني الماضي (أو تجحد حقاً يريد...).
4- البرهان في تفسير القرآن: ج4 ص323 - 324.

بِأَنْ تُجَادِلَ مُبْطِلاً، فيُورِدَ عَلَيْكَ بَاطِلاً، فَلاَ تَرُدَّهُ بِحُجَّةٍ قَدْ نَصَبَهَا اللَّهُ، وَلَكِنْ تَجْحَدُ قَوْلَهُ، أَوْ تَجْحَدَ حَقّاً يُرِيدُ ذَلِكَ الْمُبْطِلُ أَنْ يُعِينَ بِهِ بَاطِلَهُ، فَتَجْحَدَ ذَلِكَ الْحَقَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْكَ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّكَ لاَ تَدْرِي كَيْفَ الْمَخْلَصُ مِنْهُ، فَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى شِيعَتِنَا... » هو تفسير بالمصداق، وإن المحرم هو مطلق الجدال بغير الأحسن، حتى مع الذين ظلموا، ولئن شك في أنه تحديد أو تفسير بالمصداق فالمرجع عموم قوله الواضح قبل ذلك «وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُحَرَّمٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شِيعَتِنَا».

الثاني: إن يقال: بأنه أراد الحصر، وهذا أنفى لقول الطرف الآخر إذ إنه يريد إثبات جواز السباب بهذا الاستثناء مع أن الرواية ظاهره - بناءً على أنها محددّة - في الجدال بالبرهان والجدال بالباطل فغاية ما تدل عليه جواز الجدال بالباطل مع الظالم منهم لا سبّه! فتدبر جيداً يا من رعاك اللّه.

الاستدلال بأصالة الحظر، على حرمة سب الآخرين

ثم إنه قد يستدل على حرمة السباب كأصل أولي عام، بأصالة الحظر؛ وذلك استناداً إلى إحدى الوجوه الآتية والتي فصّلناها في مباحث الأصول، ونذكر ههنا عناوين بعضها:

الأول: حق المملوكية الذاتية، فإن الناس مملوكون بشراشر وجودهم لله تعالى والأصل في المملوك أنه لا يجوز له أي فعل أو قول إلا بعد وصول إذن من مولاه (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ)(1).

الثاني: حق المملكة، فإن التصرف في مملكة الغير بدون وصول إذنٍ منه ورضى غير جائز، وكما لا يجوز لك إذا كنت في بيت غيرك أن تتحرك ههنا

ص: 34


1- سورة النحل: 75.

وهنالك أو أن تجلس هنا وهنالك إلا بإذن منه كذلك في مملكة الباري جل وعلا لا يجوز أي قول أو فعل إلا بإذنه.

الثالث: حق الطاعة، فإن عظيم حق مولى الموالي علينا يقتضي منجزية الاحتمال في الشبهة التحريمية بل والشبهة الوجوبية أيضاً، فكل ما يحتمل حرمته فإن نفس احتماله منجِّز موجب لاستحقاق العقاب بالمخالفة.

والكلام كله - كما ذكرنا - عن الأصل لا عن الاستثناء، نعم لو احتمل وجوب أمر (لكونه من الاستثناء) أو حرمته (لكونه من المستثنى منه) كان من دوران الأمر بين المحذورين فإن كان داخلاً في الأصل وشُكّ في خروجه كان الأصل عدم الخروج، وإن تعارضا بدواً - فرضاً - تساقطا ورجع للأصل الفوقاني وهو حق المملوكية الذاتي.

لكن التحقيق: إن مخصصات (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ونظائره، حيث كانت منفصلة، فيكون المرجع عموم العام إذ تكون الإرادة الاستعمالية منعقدة حينئذٍ وتكون مرآة للإرادة الجدية، فكلما شك في سعة المخصِّص كان المرجع عموم العام، فتأمل وتدبر.

الرابع: الاستحقاق الذاتي، وله تفصيل؛ كما أن لكل النقاط السابقة واللاحقة تفصيلاً وأخذاً وردّاً ذكرناه في تلك المباحث فراجع(1).

الخامس: أصالة حرمة (إيذاء) الغير، ومن الواضح أن السباب إيذاء نوعاً، ويدل على هذا الأصل الكثير من الأدلة النقلية أيضاً.

فائدة الأصل الأولي مع وجود الدليل النقلي

لا يقال: لا مجال للأصل الأولي مع وجود الأصل العملي النقلي وهو (رفع ما لا يعلمون)!

ص: 35


1- راجع موقع مؤسسة التقى الثقافية m-alshirazi.com.

إذ يقال: أولاً: إنه نافع على مبنى من يرى ترجح الدليل لدى تعارضه مع غيره - ومنه المقام - بمطابقته للأصل، وذلك بناءً على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غير المنصوصة كما ذهب إليه الشيخ (رحمه اللّه).

ثانياً: إنه نافع لكل من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية، كالأخباريين.

ثالثاً: بل قد يقال: بأن حكومة أدلة البراءة النقلية على أصالة الحظر العقلية إنما هو إذا كان مستندها حق الطاعة وكان من دائرة غير المستقلات العقلية، دون ما كان من المستقلات العقلية كحرمة قتل الأبرياء الثابت عقلاً فإنه لا يرفعه حديث الرفع (رفع ما لا يعلمون) لأن العقل حجة من باطن كما أن الشرع حجة من ظاهر، كما دلت عليه الروايات وكما هو مسلّم لدى الأعلام، والمقام من المستقلات العقلية على بعض الأدلة الخمس السابقة، خاصة بناءً على دعوى اختصاص حديث الرفع بأفعاله هو، دون التصرف في الغير، وفيه تأمل فتأمل وتدبر.

رابعاً: سلّمنا لكن الإشكال لا يرد على الدليل الخامس الآنف وهو أصالة حرمة إيذاء الغير؛ لأنه دليل اجتهادي وليس أصلاً عملياً.

ثم إن هنالك أدلة أخرى عامة قد يستند إليها في أصالة حرمة السباب كأصل أولي عام، ومنها قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً)(1) وقوله: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْفَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحيمٌ)(2) و(هُوَ الَّذي

ص: 36


1- سورة الإسراء: 70.
2- سورة الأنعام: 165.

جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزيدُ الْكافِرينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزيدُ الْكافِرينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً)(1) وذلك على بعض تفاسير هذه الآيات الكريمة في معنى التكريم وحدوده ومعنى الاستخلاف، ولعلنا نوفق في بحث آخر مستقل لتفصيله والأخذ والرد فيه قبولاً أو رفضاً، إذا اذن اللّه تعالى ويسّر.

أصلان عامان أوّليان

ثم إن التحقيق يقودنا إلى وجود أصلين عامين أوليين - من دائرة الحجج لا الأصول العملية - وهما:

أ - أصالة الرحمة على المؤمنين بل حتى الكافرين

أولاً: إن الأصل هو السلم والرحمة والحكمة والسلم واليسر، كما سيأتي، ويدل على هذا الأصل قوله تعالى: و(ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين) وعليه فإن الأصل هو الرحمة للمسلمين بل للخلق أجمعين، إلا ما دل الدليل على الخروج عنه، فإن ذلك هو الغاية من بعثته (صلی اللّه علیه وآله وسلم)، قال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في التبيان: (ثم قال لنبيه محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) (وما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين) أي نعمة عليهم، ولأن ترحمهم.

وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة في أنه: ليس لله على الكافرين نعمة؛ لأنه تعالى بيّن أن إرسال اللّه رسوله نعمة على العالمين. وعلى كل من أرسل اليهم.

ووجه النعمة على الكافر أنه عرّضه للإيمان ولَطُفَ له في ترك معاصيه. وقيل: هي نعمة على الكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم قبلهم من الخسف

ص: 37


1- سورة فاطر: 39.

والقذف)(1).وقال: (وإنما لم يعاقب اللّه تعالى الخلق مع كون النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فيهم على سلامته مما ينزل بهم، لأنه تعالى أرسله رحمة للعالمين. وذلك يقتضي ألا يعذبهم وهو فيهم)(2).

وقال في مجمع البيان: ((وما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين) أي: نعمة عليهم. قال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والمسخ، وروي أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قال لجبرائيل لما نزلت هذه الآية: " هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم إني كنت أخشى عاقبة الأمر، فأمِنت بك لما أثنى اللّه علي بقوله (ذي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكين)"، وقد قال: «إنما أنا رحمة مهداة».

وقيل: إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرّضه للإيمان والثواب الدائم، وهداه وإن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنه مُنعِم عليه، وإن لم يقبل. وفي الآية دلالة على بطلان قول أهل الجبر في أنه ليس لله على الكافر نعمة، لأنه سبحانه بيّن أن في إرسال محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) نعمة على العالمين، وعلى كل من أرسل إليهم. ثم قال له (عليه السلام): «قل إنما... »)(3).

ولكن التخصيص برفع الخسف والمسخ عن الناس بلا مخصص، بل إن رحمته أعم وتشير إلى ذلك آيات وروايات أخرى كقوله تعالى: (الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ

ص: 38


1- التبيان في تفسير القرآن: ج7 ص285.
2- التبيان في تفسير القرآن: ج5 ص113.
3- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج7 ص121.

الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

كما اشارت الكثير من الروايات إلى مصاديق كثيرة لإرساله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) رحمة للعالمين ومنها ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه (عليه السلام) على زنديق جاء مستدلاً عليه بآية من القرآنمتشابهة تحتاج إلى التأويل على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه وعلى أمثاله في أشياء أخرى ... فراجع الرواية بطولها هنالك.

ومن الجدير نقل ما ارتآه في تفسير (البيان) في تفسيره لقوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ) قال: (ذكر الرحيم بعد الرحمن: قد عرفت أن هيئة فعيل تدل على أن المبدأ فيها من الغرائز والسجايا غير المنفكة عن الذات. وبذلك تظهر نكتة تأخير كلمة الرحيم عن كلمة الرحمن فإن هيئة الرحمن تدل على عموم الرحمة وسعتها ولا دلالة لها على أنها لازمة للذات ، فأتت كلمة الرحيم بعدها للدلالة على هذا المعنى.

وقد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة، فاللّه رحمن قد وسعت رحمته كل شيء وهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة)(2).

كما يدل على أصالة الرحمة على المؤمنين والكافرين، قوله تعالى: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)(3) وقد فصلنا الاستدلال بالآية الشريفة والأخذ والرد في بحث آخر، وتكفي الإشارة ههنا فقد قال في

ص: 39


1- سورة الأعراف: 157.
2- البيان في تفسير القرآن: ج1 ص437 - 438.
3- سورة هود: 118 - 119.

(مجمع البيان): ((وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) اختلف في معناه فقيل: يريد وللرحمة خلقهم، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وهذا هو الصحيح.

واعترض على ذلك بأن قيل: لو أراد اللّه ذلك. لقال: ولتلك خلقهم، لأن الرحمة مؤنثة، وهذا باطل، لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فإذا ذكر، فعلى معنى التفضل والإنعام. وقد قال سبحانه: (هذا رحمة من ربي) و (إن رحمة اللّه قريب) ومثله قول امرئ القيس...)(1) وأما القول الثاني فهو: (وقيل: إن المعنى: ولاختلاف خلقهم. واللام: للعاقبة، يريد: إن اللّه خلقهم، وعلم أن عاقبتهم تؤول إلى الاختلاف المذموم، كما قال. (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) عن الحسن، وعطا، ومالك. ولا يجوز على هذا أن يكون اللام للغرض، لأنهتعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم، إذ لو أراد ذلك منهم، لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف، لأن الطاعة حقيقتها موافقة الإرادة والأمر، ولو كانوا كذلك لما استحقوا عقاباً)(2).

أقول: ويؤيد رجوع اسم الإشارة (وَلِذلِكَ) إلى الرحمة لا إلى الاختلاف، قاعدة عَوْد الضمير واسم الإشارة إلى أقرب شيء إليهما، كما يدل عليه من الروايات ما جاء في التوحيد: عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: سألته عن قول اللّه عز وجل: (وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفين * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبوا به رحمته فيرحمهم)(3).

ولكن قد يجاب بروايات أخرى تدل على رجوع اسم الإشارة للاختلاف

ص: 40


1- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج5 ص350.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج5 ص351.
3- التوحيد للصدوق: ج1 ص403.

أو تدل على تخصيص الرحمة بالمؤمنين، ومنها ما ورد في تفسير القمي عن الإمام الباقر (عليه السلام): « (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فِي الدِّينِ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعَهُمْ يَقُولُ اللَّهُ (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) يَعْنِي أَهْلَ رَحْمَةٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ)(1).

وقد يقال: لا مانعة جمع بين التفسيرين إذ إنه تعالى خلق الناس كافة ليرحمهم ومن رحمته لهم أن خلقهم مختارين وأراهم الطريق وهداهم (النَّجْدَيْنِ)(2) والرحمة أنواع فالعام منها(3) يشمل الكل والخاص منها مختص بمن التزم الحق و(الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ)، فتأمل(4).

ثم إن عَوْد الضمير إلى (الاختلاف) لا يضرّ بالمقصود أيضاً إذ تكون اللام لام العاقبة أو تكون اللام بمعنى على أي على الاختلاف خلقهم، والاختلاف رحمة، ويعضد مضمونها بهذا التفسير قوله تعالى:(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(5) (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً)(6) وفيه ما لا يخفى.

وقد يقال: لا مانعة جمع بين المعنيين: بأن يرجع اسم الإشارة إلى (الاختلاف) و(الرحمة) معاً، وليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأنه مشار إليه لا مستعمل فيه ولا إشكال في صحة تعدده فتأمل؛ والأصح القول

ص: 41


1- تفسير القمي: ج1 ص338.
2- وبذلك يمكنهم أن يفعلوا ما يستوجبوا به العصمة.
3- كالوجود والحياة والعقل والصحة والمال و...، وكذا إراءة الطريق.
4- لأن رواية التوحيد أجنبية عن المدعى، ولدعوى ان رواية القمي تفسير وليست تأويلاً ولا تفسيراً بالمصداق، فتأمل.
5- سورة البقرة: 251.
6- سورة الحج: 40.

بإمكان استعماله في أكثر من معنى وإنما المحال استعماله في أكثر من معنى على أن يكون كل منها تمام المراد ولكن استعماله في أكثر من معنى بحاجة إلى دليل أو ظهور عرفي.

وقال في الصافي: (قيل: إن كان ضمير (هم) للناس فالإشارة إلى الاختلاف واللام للعاقبة أو إلى الاختلاف والرحمة جميعا وإن كان الضمير لمن فالإشارة إلى الرحمة)(1).

لا يقال: المراد ب(الرحمة) الرحمة الكلية لا الرحمة في كل جزئية حتى يكون خروج ما يخرج تخصيصاً يحتاج للدليل لتكون عهدته على مدعيه، وعليه: فقد يكون ما هو نقمة على البعض رحمة على الكل ومن حيث المجموع ومنه الحدّ والسبّ.

إذ يقال: كلا، إذ كلاهما عام انحلالي لوضوح أن (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ)(2) انحلالي ولا يراد به المجموع من حيث المجموع، فإنه خلاف الأصل وهو المحتاج للدليل، وأظهر منه (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(3) إذ المراد - كما سبق - خلق الناس للرحمة، وهو انحلالي وذلك ككل عام؛ ألا ترى أنه لا يصح القول في مثل (أكرم العلماء) أو (أكرم من جاءك) أو (ما جئت إلا لإكرام علماء البلد) أو (للرحمة أدرّسكم) أن المراد الكلي أو المجموع من حيث المجموع؟ بل المراد الآحاد والانحلال إلى الأفراد.

وعليه: فخروج كل مورد بحاجة إلى دليل.

ثانياً: سلّمنا لكنه حتى على التفسير بالرحمة الكلية، فإن كون السبّ مثلاً

ص: 42


1- تفسير الصافي: ج2 ص477.
2- سورة الأنبياء: 107.
3- سورة هود: 119.

رحمةً بحاجة إلى الدليل، فتأمل.

لا يقال: لو كانت الرحمة علّة للخلق للزم تخصيص الأكثر!

إذ يقال: أولاً: تخصيص الأكثر ليس بقبيح بما هو هو، كما فصلناه في بعض المباحث.

ثانياً: سلّمنا لكنه قبيح إن كان الخارج الأكثر مما لا يجمعه عنوان من بين عناوين عديدة، وإن كان أكثر أفراداً، كما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) وغيره.

ثالثاً: اتضح من التفسير السابق أنه لم يخرج حتى الأقل إذ كان المراد من (رَحْمَةً لِلْعالَمينَ) بتعريضهم لها بمنح الإرادة والاختيار والهداية وإفاضة سائر النِّعم.

ثم إنه من الجدير عقد بحث خاص لدراسة فقه هذه الآية الكريمة والتدبر فيها وفي الروايات الواردة حولها، والتأمل فيما ذكرناه أكثر واللّه الهادي العاصم.

ب - الأصل عدم سب الكفار

ثانياً: إن الأصل - وكما سبق - عدم سبّ الآخرين حتى الكفار منهم سواء أكان ذلك في الحوار أم الدعوة أم غيرها؛ قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(1) (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(2) كما نهى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه عن سب أصحاب معاوية إذ قال: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(3).

ص: 43


1- سورة البقرة: 83.
2- سورة النحل: 125.
3- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حرب صفين، خطبة 206.

لا يقال: (سَبَّابِينَ) صيغة مبالغة، فالمنهي عنه كثرة السباب لاأصل السب، فليس من المكروه له (عليه السلام) أن تسبهم مرة أو مرتين مثلاً وإنما المكروه له (عليه السلام) أن تسبهم كثيراً!

إذ يقال: إن هذا نظير قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ) فإنه يراد به نفي أصل ظلمه للعبيد لا مجرد نفي كثرة ظلمه للعبيد(!) والمقام كذلك، والقرينة على ذلك تعليله (عليه السلام) فإن الأصوبية في القول والأبلغية في العذر إنما هي مع وصف أعمالهم وذكر حالهم لا في سبهم ولو لمرة واحدة!

ثانياً: قد يقال بأن استعمال صيغة المبالغة هنا مع إرادة المفرد، لأن المراد التهويل بأن السب الواحد هو بمنزلة سباب كثيرة(1)، كما تقول أني أكره لك أن تكون أكولاً مع أنك رأيته يأكل مرة واحدة كثيراً؛ وأيضاً: وجه التهويل عدم مناسبته لشأنهم، وقرينته (لَكُمْ) وإلا لكان الأنسب أني أكره السبابية أو ما أشبه، فتأمل.

ثالثاً: إن المبالغة قد تكون بلحاظ المجموع فإنه حتى لو كان سبّ زيد لبعضهم مرة واحدة وكان سبّ عمروٍ لبعضهم مرة واحدة وكان سبّ خالد لبعضهم مرة واحدة كذلك وهكذا، لكن المجموع من حيث المجموع إذا لوحظ صدق عليهم كونهم (سَبَّابِينَ)، ويؤيده قوله (عليه السلام): (لَكُمْ) ولم يقل (لكلٍ منكم) أو (أني أكره لأحدكم أن يكون سباباً) أو ما أشبه، وقد يجاب بأنه يصح مع كونه انحلالياً، فتأمل.

هذا وسيأتي كلام أكثر حول هذه الرواية الشريفة بإذن اللّه تعالى.

ص: 44


1- نعم لابد ان تكون الواقعة مهمّة أو السب عظيماً ليصح ذلك.

الاعتراض بوجود روايات كثيرة تتضمن السباب والشتائم!

ولكن قد يناقش ذلك الأصل العام (وجوب قول الحسنى للناسوحرمة السباب) بمناقشة معروفة وهي: أنه قد كثر السبّ في الروايات الشريفة وفي تراثنا وقد صدر من الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) ومن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، فكيف يقال بحرمة سبّ الآخرين - رؤساءً كانوا أم رموزاً أو شبه ذلك -؟!

والروايات الناقلة لبعض السباب الصادر من الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أو الآل الأطهار (عليهم السلام) بعضها صحيحة السند، وبعضها معتبرة بشكل عام، إضافة إلى أنها متواترة تواتراً إجمالياً وهو: تكثر نقل أخبار أو روايات بحيث يعلم إجمالاً بصدق أحدها وصدوره حتماً(1) فلئن نوقش في إسناد بعضها فلا مجال للمناقشة في إسنادها جميعاً أو في صدور بعضها إجمالاً.

كما أن بعض الروايات مما أتفق علماء الخاصة والعامة على نقله ... فماذا يكون حال الأصل العام إذاً؟!

نماذج من الروايات

ولننقل نماذج من هذه الروايات:

فمنها: ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية من قوله: «وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ، الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ، الْقَلِيلُ الْعَقْلِ، الْجَبَانُ الرَّذْل»(2) حسب نقل ابن أبي الحديد، وقد ورد في نهج البلاغة: «وَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ

ص: 45


1- مقابل التواتر المضموني وهو العلم الإجمالي بصدور المضمون الأخص، فهذا المعنى المشترك بين الروايات هو المتواتر مضموناً، وقد فسر بعض التواتر الإجمالي بهذا التفسير، والأرجح فيما نرى ما فسرناهما به، ولا مشاحة في الاصطلاح.
2- شرح نهج البلاغة: ج16 ص135.

الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ»(1) وكلامه (عليه السلام) إما سبّ له أو بمنزلته.

ومنها: قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) لعمرو بن عبد ود العامري: «مَنْ لِهَذَا الْكَلْبِ»(2).ومنها: سبّه لأخي عثمان في وجهه، في المسجد الحرام بقوله: «مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلُهُ»(3).

ومنها: تعبيره (صلی اللّه علیه وآله وسلم) عن مروان وهو طفل رضيع بقوله: «الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون»(4)!(5) وتشبيه مروان بن الحكم بذلك لأنه كان ينفث سمومه في المجتمع ويحيك الدسائس ويذكي الفتن.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الحديث - أي تعبير النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) عن مروان بن الحكم بالوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون - قال عنه الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

كما أن الرواية موجودة في الكافي الشريف: (عَن أَبَانٌ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَمَّا وُلِدَ مَرْوَانُ عَرَضُوا بِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَرْسَلُوا بِهِ إِلَى عَائِشَةَ لِيَدْعُوَ لَهُ، فَلَمَّا قَرَّبَتْهُ مِنْهُ قَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي

ص: 46


1- نهج البلاغة: باب كتب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جواباً عن كتابه، الكتاب: 64.
2- تفسير القمي: ج2 ص183.
3- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج29 ص35/ والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي: ج5 ص145/ والطبقات الكبرى متمم الصحابة الطبقة الرابعة لابن سعد: ج1 ص448.
4- مستدرك الحاكم: 4 - 479.
5- ومن اللطيف أن نشير إلى أنه قد ثبت علمياً أن الوزغ (المسمى سامُّ أَبْرَص أو أبو بريص) حامل لفايروسات وبكتيريا متنوعة، والغريب انه ينقلها للغير فتسبب الأمراض الكثيرة، وقال بعض العلماء ان من خصائصه انه يتقيأ على الطعام أو غيره، ولعله يقصد انه ينفث سمومه أو لعابه على الطعام أو على الناس في أوقات مختلفة.

الْوَزَغَ ابْنَ الْوَزَغِ»، قَالَ زُرَارَةُ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَلَعَنَهُ)(1).

ومنها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي سفيان: «لَعَنَكَ اللَّهُ وَلَعَنَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى مَعَكَ»(2).

ومنها: ما ورد في نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له(3) بحيث يسمعه: (لا حكم إلاَّ لله)، وكان من الخوارج، فقال له الأمير (عليه السلام):

«اسْكُتْ قَبَحَكَ اللّهُ(4) يَا أَثْرَمُ(5)، فَوَاللّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً(6) شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ(7) الْبَاطِلُ نَجَمْتَ(8) نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ»(9).

الواجب دراسة كافة الروايات كمنظومة متكاملة

والغريب في الأمر: أن بعض الناس يشاهد هذه الروايات (أو الآيات) المتضمنة للسباب أو شبهه، فيعمل بها ويغفل عن الروايات (أو الآيات) الأخرى الناهية عن السباب، والبعض الآخر يعكس الأمر فيلاحظ الآيات أو الروايات

ص: 47


1- الكافي: ج8 ص238.
2- تفسير القمي: ج1 ص117.
3- أي قال البرج بن مسهر للأمير (عليه السلام).
4- قَبَحَكَ اللّه: كسرك، كما يقال: قبحت الجوزة: كسرتها.
5- أثْرَمُ: ساقط الثنيّة من الأسنان.
6- الضئيل: النحيف المهزول، كناية عن الضعف.
7- نَعَرَ: أي صاح.
8- نجمتَ: ظهرتَ وبزرت والتشبيه بقرن الماعز في الظهور على غير شرف ولا شجاعة ولا قدم، بل على غفلة.
9- نهج البلاغة: باب المختار من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من كلام له (عليه السلام) قاله للبرج بن مسهر الطائي، الخطبة: 184.

الناهية ويهمل تلك المتضمنة للسباب.

لكن الواجب هو دراسة الآيات والروايات كمنظومة فقهية - فكرية - علمية متكاملة، والإحاطة بكافة طوائفها ثم البحث عن وجوه الجمع بينها وصولاً للمراد الجدي النهائي للبارئ جل وعلا ولكلمات المعصومين (عليهم السلام)؛ إذ مجموع كلامهم ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد، يفسِّر بعضه بعضاً ولا يناقض بعضه بعضه الآخر.

وهذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها إلا المجتهد الجامع للشرائط بعد الإحاطة الكاملة بكافة طوائف الآيات والروايات (وهي بالمئات) ثم استكشاف مخرجاتها والمحصلة النهائية منها بعد مقارنة بعضها ببعض، وملاحظة نسبتها إلى بعضها الآخر فهل هي التباين؟ أو من وجه؟ أو العموم والخصوص المطلق؟ أو هي على أنواع؟ وهل هي داخلة في دائرة التخصيص؟ أو الحكومة؟ أو الورود؟ أو بالتفصيل؟ وهل يلزم انقلاب النسبة من ملاحظة بعض مجاميع الرواياتمنسوبة لبعض آخر منها أو لا؟ وهل هي بعد ذلك كله مندرجة أصلاً في باب التعارض؟ أو في باب التزاحم؟ أو بالتفصيل؟

والمرجعية في دراسة طوائف الروايات للمرجعية

وهذه المهمة ونظائرها اعتبرها الأئمة (عليهم السلام) مما يجب أن يرجع فيها إلى الفقهاء العدول إذ وردت الروايات الكثيرة المصرحة بذلك ومنها قوله (عليه السلام): «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ»(1) وقد فصّلنا الحديث عن هذه الرواية الكريمة في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع؛ وقد قلنا في تفسير آية (الشاكلة):

ص: 48


1- الاحتجاج: ج2 ص469.

متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟

(والواجب على الفقيه في مقام الاستنباط أمران(1):

أولاً: استفراغ الوسع في استنباط الحكم الشرعي ووجوه الجمع بين طوائف الروايات فإنها حسب التحقيق أكثر من طائفتين.

ثانياً: تنقيح الموضوع العام وأنه هل هذا هو المطلوب في هذا الزمان وهذا المكان وفي هذه البيئة؟ وهل هو مطلوب من هذا الشخص وبالنسبة إلى هذه الجهة أو الفئة أو الدولة أو الشخص؟ أو عكسه هو المطلوب؟ إذ على الفقيه دراسة كافة مقتضيات باب التزاحم في الموضوع وكافة تأثيرات سباب الآخرين من أشخاص وحكومات على الدين وأهله وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) في شتى البلاد حقوقياً، أمنياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن ذلك للفقيه عادة إلا باستشارة مجموعة معتنى بها من أهل الخبرة بأوضاع البلاد وأوضاع المسلمين والناس في كل مكان، وذلك يعني وجوب استشارة خبراء بعلم الاجتماع وبعلم النفس الاجتماعي وبعلم السياسة وشبه ذلك كي يكون تنقيحه للموضوع وللحادثة الواقعة مبرءً للذمةإن شاء اللّه.

ويؤكد ذلك بل يبرهنه أن السباب إذا كان شخصياً - كما لو اجتمعا في غرفة مغلقة فسبّه متوهماً أنه يستخدم سياسة الصدمة بذلك أو معتقداً جواز أو وجوب سبّه مطلقاً - فقد يقال إن تشخيص الموضوع راجع حينئذٍ للمكلف نفسه وذلك طبعاً بعد أخذ الحكم الكلي من الفقيه الجامع للشرائط، ولكن الأمر يختلف في السباب النوعي أعني السبّ الذي ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات فإنه يترك تأثيره على عامة الشيعة دون شك فهو من الحوادث الواقعة

ص: 49


1- وسيأتي أمر ثالث بإذن اللّه تعالى.

فلا بد فيه من الرجوع إلى المرجع الجامع للشرائط.

ومما يؤكد ذلك ويبرهنه أيضاً: إن الروايات التي ورد فيها بعض ما يقال إنه سباب، تحتاج إلى تنقيح فقهي وأنها هل كانت بنحو القضية الخارجية أو كانت بنحو القضية الحقيقية؟ إن ذلك مما لا يمكن للعاميّ البت فيه، ولو فعل لفعل محرماً بل المرجعية هي للمرجع الجامع للشرائط)(1).

ثالثاً: أن يكون الأمر شورى بين المؤمنين - كما سيأتي بيانه بإذن اللّه تعالى -.

ثم إن الموضوعات على قسمين: خاصة وعامة، وتصدي الفقيه لتنقيح الموضوع الخاص ليس من وظائفه وواجباته كما ليس من شأنه بما هو فقيه، بل بما هو أهل خبرة كسائر أهل الخبرة إن كان منهم في ذلك الشأن الخاص(2) وأما الشأن العام فلا بد من كونه أهل خبرة فيه إن أراد التصدي لتنقيحه(3)، وإلا فعليه الاستعانة بالعدد الوافي من أهل الخبرة إن لم نقل بلزوم أن يبذل الجهد ليكون منهم مع استعانته بغيره من أهل الخبرة أيضاً، وذلك بناءً على عدم كفاية(التقليد) للغير في مبادئ الاستنباط التصورية والتصديقية ومنها تشخيص الموضوع في الشأن العام، وذلك أن رأى أن وظيفته التصدي للشؤون العامة، وإلا لم يتصدّ لتنقيح الموضوع أصلاً وكان على عدول المؤمنين من أهل الخبرة التصدي لذلك فإن لم يتصدوا فعلى الموثوق به منهم، على حسب ما فصّل في كتاب المكاسب في مبحث (ولاية الفقيه) و(ولاية عدول المؤمنين) وغيرهما.

ص: 50


1- راجع كتاب (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه).
2- ككون هذا السائل خلّاً أو خمراً وكونه متخمراً أو لا، وككون هذا رجلاً أو أنثى - في الخنثى المشكل أو فيمن أجريت له عملية جراحية كاملة أو ناقصة -، وككون هذا المتولد بين شاة وكلب شاة أو كلباً أو حقيقة أخرى، وككون اللقلق صفيفه أكثر من دفيفه أو العكس - وهي خلافية - ... وهكذا.
3- كما لو أراد التصدي لتنقيح بعض المعاهدات الدولية أو أسباب التضخم والكساد.

الروايات تنقل أفعالاً، والفعل لا إطلاق له ولا جهة

الروايات(1) تنقل أفعالاً، والفعل لا إطلاق له ولا جهة

والآن لا بد من تحليل هذه الروايات ودراستها لنجد أنها هل تقع في مواجهة الآيات والروايات الناهية عن السباب - والتي سبق بعضها وسيأتي بعضها الآخر بإذن اللّه تعالى - أو لا، فنقول:

أولاً: إن العمل لا جهة له، فلا يمكننا الاستدلال به إلا إذا أحرزنا جهته وأنه صادر لكونه حكماً أولياً، أو حكماً ثانوياً، أو حكماً ولائياً، أو أنه كان من الأهم في باب التزاحم، بعد الإحاطة بكل الظروف الموضوعية والذاتية! وهل أن القضية كانت من قبيل القضية الحقيقية أو الخارجية؟ وهل كان الإمام (عليه السلام) في مقام الفتوى أو مقام التعليم(2) إلى غير ذلك.

وثانياً: إن الفعل - فعل المعصوم (عليه السلام) - لا إطلاق له فإنه ليس لفظاً ليكون له عموم أو إطلاق بل هو دليل لُبّي، بل حتى السيرة لو ثبتت فإنها دليل لبّي لا إطلاق له، فكيف نعمِّم الفعل إلى أشخاصنا وأزمنتنا إلا بنحو تنقيح المناط وهو ظني بل هو من أردأ أنواع القياس.

وتوضيح ذلك: إن كل الموارد الماضية والعشرات غيرها إنما هي مثلاً سباب صادرة من المعصوم بالنسبة إلى شخص معين أو جهة معينة في زمن معين وظروف اجتماعية - سياسية - حقوقية خاصة، فمن أين تحرز اتحاد ظروفك مع ظروفه وموقعك مع موقعه؟ نعم لو رود لفظ وأمر من المعصوم (عليه السلام) مثل (سبوا الناس) -كما ورد بالنسبة إلى أهل الريب والبدع وسنبحثه مستقلاً - فهذا هو الذي يجب أن نلاحظ نسبته مع الروايات الناهية عن سبّ الناس وطريقة معالجتها أو الجمع

ص: 51


1- أي غالباً، والنادر غيرها سيأتي بحثه.
2- فصّلنا الكلام عن المقامين في فقه المعاريض والتورية.

بينها، أما الأفعال فلا إطلاق لها ولا جهة.

أمثلة لكون الفعل لا جهة له ولا إطلاق

ويمكن توضيح ذلك عبر مثال عرفي وآخر روائي وثالث فقهي:

لو باع أحدهم (عليه السلام) ثوبه في ساعة معينة

المثال العرفي: لو أن النبي الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) باع أو أشترى كتاباً أو ثوباً - فرضاً - في يوم الجمعة صباحاً الساعة العاشرة، فهذا فعل وعمل لكنه:

أ - لا جهة له، أي لا يدل فعله هذا على استحباب بيع الكتاب أو شرائه يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً، كما لا يدل على وجوبه؛ إذ لا يعلم أنه باعه أو اشتراه لأجل أحدهما، أو لأجل حاجة شخصية(1)، أو لأجل ضرورة واضطرار، أو لأجل عنوان ثانوي طارئ كنذر أو قسم أو وعد أو غير ذلك.

ب - ولا إطلاق له إذ لا يدل على رجحان هذا العمل في سائر ساعات الجمعة وفي سائر الأيام، ولا على استحبابه للرجال والنساء والعلماء والجهال والكبار والصغار.

دخول الإمام الكاظم (عليه السلام) مزرعة العُمَري بدون رضاه

المثال الروائي: وردت في الروايات قصة أحد أحفاد عمر مع الإمام الكاظم (عليه السلام) قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه): (أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (عليه السلام) ويسبه إذا رآه ويشتم علياً (عليه السلام). فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي

ص: 52


1- وإن أمكن اندراجها في المستحب بعنوان آخر.

وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا توطئ زرعنا! فتوطأه أبو الحسن (عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ فقال له: مائة دينار، قال وكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال: لست أعلم الغيب، قال: إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو فيه مائتي دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرة فيها ثلاث مائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه فتبسم إليه أبو الحسن (عليه السلام) وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته. قال فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك قد كنت تقول غير هذا! قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن وجعل يدعو لأبي الحسن (عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره»(1).

والشاهد هنا أن الإمام (عليه السلام) دخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! لكن الإمام استمر في وطأ زرعه بالحمار حتى وصل إليه! فهذا فعل من أفعال الإمام (عليه السلام) ولكنه لا جهة له ولذا لا يجوز الاقتداء به إلا إذا علمنا الجهة وعلمنا انطباقها علينا؛ وذلك لأن الدخول في ملك الغير بدون رضاه حرام (خاصة مع نهيه الصريح) والإضرار بزرع الغير حرام، فلا يجوز لنا أن نفعل ذلك استناداً إلى أن الإمام (عليه السلام) فعل ذلك، كما أنه لا يجوز لنا فعل أشباهه كالدخول

ص: 53


1- الإرشاد: ج2 ص233.

في محلات الغير ومنازلهم دون رضاهم، إذ الفعل لاإطلاق له أيضاً.

والحاصل: إن جَهة فعل الإمام (عليه السلام) مجهولة لنا إذ لا يعلم هل أنه فعل ذلك نظراً لولايته؟ أو فعل ذلك نظراً لمالكيته - حسبما ثبت من أن ملكنا مجازي هو في طول ملك الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، وملكهم في طول ملك اللّه تعالى - أو نظراً لقانون الأهم والمهم؟ أو حتى لأن المزرعة كانت مغصوبة من الإمام (عليه السلام) مثلاً(1) فإن كانت جهة فعل الإمام الكاظم (عليه السلام) الوجه الأخير(2) أو الوجه الثالث، تعدّى ذلك إلينا وسرى وأمكننا أن نفعل كما فعلوا، ولكن حيث لا تعلم جهة الفعل فلا يمكننا ان نقوم بمثله أبداً.

وسبّهم (عليه السلام) لأشخاص أو أقوام إنما هو من هذا القبيل، إذ لا تعلم جهةُ فِعلهم، إذ الجهات المحتملة في فعلهم (عليهم السلام) ستة - مما مضى وسيأتي - بل قد تبلغ عشرة، وعلى غالبها لا يجوز لنا أن نفعل كما فعلوا وعلى بعضها فقط يجوز، فلا يصح أن نفعل كما فعلوا إلا بعد إحراز الجهة، ويوضح ذلك أكثر المثال التالي:

إجراء الإمام (عليه السلام) الحدود، والقول بحرمة إجرائها علينا

المثال الفقهي: لا شك أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أقام الحدود أبان حكومته على أناس منهم شارب الخمر ومنهم فاعل الزنا ومنهم غير ذلك، ولا شك في صدور هذه الأفعال منه - لتواترها وصحة سند بعضها وصراحة دلالتها - ولكن هل يجوز لكل عامي وخاصي ورجل وامرأة وعالم وجاهل، أن يتأسى به قائلاً أن الإمام أجرى الحدود فيجوز لي - أو يجب عليَّ - أن أجري الحدود كذلك - كما يقول البعض: إن الإمام (عليه السلام) سبّ أناساً فيجوز أو يجب عليَّ أن أسب

ص: 54


1- أو لأنه كان مهدور المال، لوجهٍ من الوجوه.
2- بآن كانت المزرعة مغصوبة منه فرضاً.

أناساً كما فعل (عليه السلام)! - الجواب كلا! وذلك لأن جهة فعل الإمام (عليه السلام) مادامت غير معلومة فلا يجوز ذلك، إذ إن جهة فعله قد تكون:

أ - كونه إماماً معصوماً وإن هذا المنصب خاص به فلا يجوزذلك حتى للفقيه المبسوط اليد ويحرم عليه إجراء الحدود.

ب - أو الجهة: كونه حاكماً عادلاً مبسوط إليه، فعلى هذا يجوز للفقيه المبسوط اليد كذلك، دون عامة الناس.

ج - أو الجهة: كون إجراء الحد من شؤون الحِسبة وأنه يوجد قدر متيقن فرضاً، فعلى هذا لا يجوز إلا للقدر المتيقن - وهو المجتهد الجامع للشرائط مبسوط اليد -.

د - أو الجهة: ذلك مع عدم وجود قدر متيقن فيجوز للكل، بل قد لا يجوز حينئذٍ أيضاً نظراً لما التزم به جماعة من الأعاظم(1) من عدم صحة إجراء الحدود في زمن الغيبة.

إذن فعل المعصوم (عليه السلام) بما هو فعل لا جهة له ولا إطلاق له، فلا يصح الاستدلال به على وجوب أمر أو جوازه لنا أو حرمته (إذا تركه) مادام لم نحرز الجهات السابقة وغيرها ك: أنه هل فعل ذلك لعنوان أولي أو لعنوان ثانوي؟ وهل ينطبق العنوان الثانوي علينا أم لا؟ وهل كان بنحو القضية الخارجية أو القضية الحقيقية؟ وهل أنه كان لموقعه ومنصبه أو خصوصياته الأخرى - ككونه

ص: 55


1- مثل ابن إدريس الحلي، وابن زهرة، وظاهر الشيخ الصدوق , في إكمال الدين، وسبقهم إلى ذلك موسى بن إسماعيل بن الإمام الكاظم (عليه السلام) في كتاب (الاشعثيات) المعروف بالجعفريات، وقد توقف العلامة الحلي (رحمه اللّه) في بعض كتبه في إقامة الحدود في زمان الغيبة، كما توقف المحقق القمي (رحمه اللّه) في جامع الشتات وغيرهم، إضافة إلى أن ذلك هو رأي مشهور الأخباريين.

عارفاً بكافة الموازين - مدخلية أم لا؟

والخلاصة: إن مجرد الفعل لا يحتج به إلا بعد إحراز جهته وإحراز إطلاقه.

أمثلة أخرى لخفاء جهة عملهم (عليهم السلام) أو لعدم انطباقها علينا

ولنمثل ببعض الأمثلة الأخرى لإيضاح خفاء جهة العمل - عمل المعصوم (عليه السلام) - وأنه لا يصح أن نفعل كما فعل (عليه السلام) إلا بعد إحرازجهة عمله وإلا بعد العلم بانطباقها علينا، فإنه بدون هذين لا يعلم انطباق عنوان التأسي عليه، ويكون التمسك بدليل التأسي تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، فتدبر.

وضع الزكاة على الخيل والجياد

المثال الأول: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) وضع الزكاة على الأحصنة: الجياد منها دينارين والبراذين ديناراً، فعن محمد بن مسلم وزرارة عنهما جميعاً قالا: (وَضَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ الرَّاعِيَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ فِي كُلِّ عَامٍ دِينَارَيْنِ وَ جَعَلَ عَلَى الْبَرَاذِينِ دِينَاراً)(1) فإنه لا يعلم - بدواً - أنه (عليه السلام) وضعها وجوباً أو استحباباً، بعنوان أولي أو ثانوي أو ولائي؟ فهل يجوز لنا أن نلزم الناس بأداء الزكاة على الجياد؟ الجواب: كلا، بل الواجب فقط هو ما دلت عليه العمومات المفيدة لحصر الزكاة في الغلات الأربع والأنعام الثلاث والنقدين، ولا يجوز لنا أن نضع الزكاة على الجياد موجبين لها على الناس، مستدلين بأنه (عليه السلام) قد فعل ذلك، كما يستدل من يقول بجواز السب أو وجوبه بفعله (عليه السلام)؛ بل حتى إنه علمنا أنه (عليه السلام) أوجب الزكاة في الجياد والبراذين على الناس، إلا أن وجه عمله (عليه السلام) غير معلوم لنا؛ فهل لأنه من الحكم الأولي العام؟ أو لأنه من الحكم الثانوي الخاص؟

ص: 56


1- الكافي: ج3 ص530.

وبعبارة أخرى: هل كان من باب ولاية الإمام (عليه السلام) وهي خاصة به؟ أو من باب كونه حاكماً مبسوط اليد فلا تشمل إلا مَن كان حاكماً مبسوط اليد؟ أو من باب الاضطرار لعنوان ثانوي أهم عارض؟ أو لغير ذلك؟!

إفطار الإمام في شهر رمضان

المثال الثاني: إن الإمام (عليه السلام) لو أفطر في شهر رمضان فهليجوز لنا أن نفطر من غير أن نعرف جهة عمله وانطباقها علينا؟ فلاحظ الرواية التالية:

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بِالْحِيرَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الصِّيَامِ الْيَوْمَ، فَقُلْتُ: ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ صُمْتَ صُمْنَا وَإِنْ أَفْطَرْتَ أَفْطَرْنَا، فَقَالَ يَا غُلَامُ: عَلَيَّ بِالْمَائِدَةِ فَأَكَلْتُ مَعَهُ وَأَنَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ أَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَانَ إِفْطَارِي يَوْماً وَقَضَاؤُهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِي وَلَا يُعْبَدَ اللَّهُ»(1).

والشاهد أننا: أ - لو لم نعلم جهة عمل الإمام (عليه السلام) - وأنه كان مثلاً تقية أو لا - ولم نحرز عدمها ولو بأصلٍ فإنه لا يجوز لنا أن نفعل كما فعل (عليه السلام).

ب - بل إنما يجوز لو علمنا الجهة - ككونه ههنا تقية - وعلمنا انطباقها علينا أيضاً ككوننا في حالة تقية، وهذه الرواية من القسم الثاني.

إباحة الإمام الخمس لشيعته

المثال الثالث: لو فُرِضَ أنّ الإمامَ (عليه السلام) أَخَذَ الخمسَ في إحدى السنين مرتين مثلاً، أو حدث العكس بأن لم يأخذ من بعض شيعته أو كلهم بعض الخمس أو كله لمرة أو طوال مدة إمامته(2)، فهل يجوز لنا أن نفرض الخمس مرتين؟ أو أن

ص: 57


1- الكافي: ج4 ص82.
2- فصلنا الكلام عن عدم إباحة الأئمة (عليهم السلام) للخمس، بشكل مطلق في كتاب (رسالتان في الخمس) فراجع.

نبيح للشيعة التصرف في كل الخمس في سنةٍ ما أو طوال العمر؟ الجواب كلا، يحرم ذلك ولا يجوز إلا بعد معرفة الفقيه - لا كل عامي - لجهة عمل الإمام (عليه السلام) أو تركه، ومعرفته انطباقها على هذا المكلف أو ذاك.

من وجوه (السباب) في التراث الإسلامي

وبعض الكلام عن تلك الأفعال وإن الفقيه لا يمكنه الاستناد إليها إلا بعد إحراز جهتها وإطلاقها: إن المحتملات في ما ورد من سبهم كثيرة وسنفصل الكلام بإذن اللّه تعالى عن ستة منها:

الوجه الأول: أن يكون ذلك من الاستثناء الخاص لا من الأصل العام.

الوجه الثاني: أن يكون ذلك نظراً لباب التزاحم، وباب التزاحم هو الذي تندرج فيه الطائفة الرابعة من الروايات، كما أن الاستثناء هو من دائرة الطائفة الثانية، وسيأتي الكلام عن باب التزاحم لاحقاً مفصلاً بإذن اللّه تعالى.

وأما أن ذلك من الاستثناء من العام فتوضيحه:

الأصل العام: (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)

إن الأصل العام - كما سبق - هو قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(1) وهذه الآية مندرجة في الطائفة الأولى من الروايات وقد سبق الكلام عنها مفصلاً، والقصد ههنا الإشارة والتذكير، وقد دلت بعض الروايات أيضاً على هذا الأصل العام:

ومنها: ما روي عن سليمان بن مهران قال: دَخَلْتُ عَلَى الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ

ص: 58


1- سورة البقرة: 83.

الْفُضُولِ وَقُبْحِ الْقَوْلِ»(1).

والخطاب موجه لعامة الشيعة والأمر صريح ب«كُونُوا لَنَا زَيْناً» وقد نهى الإمام (عليه السلام) فيها صراحة ب«وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً» ومن الواضح أن الزَّين بالرفق واللِّين، وأن الشَّين بالسباب والشتائم؛ أترى أنك لو سببت عشيرةً أو شعباً أو رئيساً أنهم يرون ذلك زيناً للشيعة؟ ثم ضمّن الإمام (عليه السلام) الآية الشريفة في كلامه مؤكداً بذلك كونها الأصل العام (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ثم أكد ذلك بعبارة أخرى «وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ» و«وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقُبْحِ الْقَوْلِ» ومن الواضح أن السباب، بالحمل الشائع الصناعي وبالدقة العقلية ولدى العرف هو من قبح القول.

وهذه الرواية تقع - كما هو واضح - ضمن دائرة الطائفة الأولى.

وعليه: فإذا وجدت رواية تضمنت سباباً، كانت استثناءً من القاعدة العامة، وكان العام هو الحجة علينا إلا لو ثبتت عمومية الرواية الخاصة وشمول حكمها لنا أيضاً، فعلى مدّعي ذلك إقامة الدليل، وليس ذلك على مَن قوله موافق للأصل.

إذا سمعوا أعدائنا ثلبونا بأسمائنا

وقد دلت بعض الروايات الأخرى على حكم بعض صور السباب، فقد روي أنه:

قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا: فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا

ص: 59


1- الأمالي - للطوسي (رحمه اللّه) -: ص440.

مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَ مَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ، إِنَّ أَدْنَى مَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ: هَذِهِ نَوَاةٌ، ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»(1).

أقول: وهذه الرواية تقع ضمن دائرة الطائفة الثالثة، وكلام الإمام (عليه السلام) صريح بقوله: «وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ».

ولقد كانت تلك خطة من المخالفين إذ وضعوا بعض الروايات - على لسان الأئمة (عليهم السلام) أو أصحابهم - التي تتضمن التصريح بمثالب أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وذلك كي يثيروا القوة الغضبية لدى عامةالناس كي يسبوا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ويثلبونهم بأسمائهم، انتقاماً ..؛ وذلك هو ما يدينه الإمام (عليه السلام) بشدة: إن تتسبّب إلى تهييج الأعداء ليسبوا أهل البيت (عليهم السلام) ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتسبب للسبّ مخالفاً كما هو مورد الرواية أو شيعياً فإن التسبيب إلى سب الأعداء للأئمة (عليهم السلام) حرام.

وهذه الرواية تندرج في الطائفة الثالثة من الروايات.

لا يقال: إن كلام الإمام (عليه السلام) إنما هو عن الأخبار التي وضعها المخالفون المتضمنة لمجعولات منهم وضعوها في سباب أعداء أهل البيت (عليهم السلام) - أي سباب قادتهم وطواغيتهم - كي يسبّ العامةُ أهلَ البيت (عليهم السلام) وليست عن نقل أخبارنا

ص: 60


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1 ص303.

الصحيحة في ذم المخالفين ورموزهم!

إذ يقال: العلة معممة مخصصة؛ لبداهة أن الإمام (عليه السلام) إنما أدان وضعهم المثالب لأعداء أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم تسببوا بذلك في استجلاب السبّ على الأئمة (عليهم السلام)، أفهل ترى أن الشيعي يجوز له أن يستجلب السبّ على الأئمة (عليهم السلام) لمجرد أنه ينقل رواية صحيحة من طرقنا لا من طرقهم؟ ولئن شككت في العموم فلاحظ استدلال الإمام (عليه السلام) ب:«وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) » فإنه مفيد للتعميم إذ المسلمون الذين كانوا يسبون آلهة قريش كانوا يسبونها بحق لا بباطل، وقد نهى اللّه عنها لا لأنها سباب جعلها الأعداء - أي عبدة الأصنام مثلاً - ولا لأنها سباب باطلة في حد ذاتها - كي تجوز إذا كانت حقاً - كلا بل المحذور هو استجلاب سبّ المسلمين لآلهة الكفار، سب الكفار لله تعالى عَدْواً بغير علم.

فظهر بذلك أنه لا فرق بين وضع السبّ وبين نقل السب الصحيح، إذا استلزم سب العدو لله أو ثلبه للأئمة الأطهار (عليهم السلام).

إذا اتضح ذلك يتضح أن الموارد التي نقل فيها السب من الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) كان من الاستثناء ولم يكن من الأصل - وهو الطائفة الأولى -، ولا من الاستثناء من الاستثناء - وهو الطائفةالثالثة -، بل كان من الخاص المحض - وهو الطائفة الثانية -، أي السب الذي تحقق مقتضيه التام وارتفع مانعه لكونه مأموناً من ترتب المضاعفات السلبية عليه أي السب الذي أحرز النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) أنه لا يستجلب سبّهم لله أو للرسول أو الأئمة (عليهم السلام)، فهذا إذاً ضابط من الضوابط، ولَئِن تُوُهِّم في النادر من الموارد غير ذلك(1) فسيأتي الجواب عنه بإذن اللّه تعالى، فانتظر.

ص: 61


1- إنه صدر السب منهم رغم استجلابه سبّ العدو.

السباب في حالة الحرب، ورداً على الاعتداء

الوجه الثالث: إن مصاديق السباب الصادرة عنهم (عليهم السلام) - إن عدّت سباباً - كانت في حالة الحرب أو شبهها والمراد بشبهها حالة نقض الطرف الآخر للهدنة أو لشروط الصلح، كما فعل معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنه في حالة الحرب ربما يقال بأنه: إذا جاز قتال العدو المحارب بما قد يستلزم ذلك من إسالة الدماء وقتل النفوس فكيف لا يجوز سبّه؟ فتأمل.

وعلى أية حال فإنه إذا جاز أمر في الحرب، بدليل عام أو خاص، فإنه لا يصح القول بأنه إذا جاز في الحرب فإنه يجوز في غير الحرب أيضاً فإنه من أردأ أنواع القياس!

الوجه الرابع: إن كثيراً منها كانت من باب: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(1) ولم تكن من السباب الابتدائي، فتلك الأفعال - أي السباب الصادرة في إحدى الحالتين - لا إطلاق لها لغير حالة الحرب بل تختص بها، كما لا إطلاق لها للسباب الابتدائي بل تختص بالسباب الدفاعي فقط(2).

والظاهر استغراق حالة الحرب أو نقض الحكومات والمخالفين للهدنة أو صورة ردّ الاعتداء، لكل فترة حضور الأئمة (عليهم السلام) فلا يوجد مورد سباب يخرج عن أحد هذه الأمور الثلاثة على سبيلالبدل فتلك الروايات هي إما من قبيل الوجه الثالث أو من قبيل الوجه الرابع أو هي من مجمع الوجهين، فتأمل وتدبر؛ فمثلاً:

ص: 62


1- سورة البقرة: 194.
2- ولا يخفى أن الوجهين الثالث والرابع، هما من مصاديق الوجهين الأول والثاني، فتدبر.

نماذج من الروايات في حالة الحرب أو رداً على الاعتداء

قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «مَنْ لِهَذَا الْكَلْبِ»(1) مشيراً إلى عمرو بن ود العامري كان في حرب الخندق كما هو معلوم؛ على أنه قال بعض بأن الكلب عند العرب لم يكن سباباً ولذا كان من اسمائهم كلب وكلاب وبني كلاب، فكان الكلب عندهم كالأسد عندنا وكالكلب عند الغربيين، وإنما تحول سباباً بعد الإسلام وبعد حكمه بنجاسته، والأمر بحاجة إلى مزيد تحقيقٍ.

وقوله (عليه السلام) الذي ورد في نهج البلاغة: (من كلام له (عليه السلام) قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: (لا حكم إلاَّ لله)، وكان من الخوارج:

«اسْكُتْ قَبَحَكَ اللّهُ يَا أَثْرَمُ، فَوَاللّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ»(2) فإنه كان في ظرف ثورة عسكرية مضادة وكان ذلك أثناء الحرب أو كان ذلك والحرب على مشارفها أو لما ينطفئ كاملاً أوارها.

وكذلك قول الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية: «وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ، الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ، الْقَلِيلُ الْعَقْلِ، الْجَبَانُ الرَّذْل»(3) فإنه كان مجمع الوجهين: إذ كان ذلك في حالة الحرب أولاً وكان ذلك رداً منه (عليه السلام) على سباب معاوية البذيئة له ثانياً.

وقد نقل ابن أبي الحديد إن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين(عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ طَالَ فِي الْغَيِّ مَا اسْتَمْرَرْتَ إِدْرَاجُكَ كَمَا طَالَ مَا تَمَادَى عَنِ الْحَرْبِ نُكُوصُكَ وَإِبْطَاؤُكَ، تَتَوَعَّدُ وَعِيدَ الْأَسَدِ وَتَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ، فَحَتَّامَ تَحِيدُ عَنِ

ص: 63


1- تفسير القمي: ج2 ص183.
2- نهج البلاغة: باب المختار من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الخطبة: 184.
3- شرح نهج البلاغة: ج16 ص135.

اللِّقَاءِ وَمُبَاشَرَةِ اللُّيُوثِ الضَّارِيَةِ وَالْأَفَاعِي الْمُقَاتِلَةِ فَلَا تَسْتَبْعِدَنَّهَا فَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلَامُ).

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَمَا أَعْجَبَ مَا يَأْتِينِي مِنْكَ وَمَا أَعْلَمَنِي بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ إِبْطَائِي عَنْكَ إِلَّا تَرَقُّباً لِمَا أَنْتَ لَهُ مُكَذِّبٌ وَأَنَا لَهُ مُصَدِّقُ، وَكَأَنِّي بِكَ غَداً تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ ضَجِيجَ الْجِمَالِ مِنَ الْأَثْقَالِ وَسَتَدْعُونِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى كِتَابٍ تُعَظِّمُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَجْحَدُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ وَالسَّلَامُ».

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: (أَمَّا بَعْدُ فَدَعْنِي مِنْ أَسَاطِيرِكَ وَاكْفُفْ عَنِّي مِنْ أَحَادِيثِكَ وَاقْصُرْ عَنْ تَقَوُّلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَافْتِرَائِكَ مِنَ الْكَذِبِ مَا لَمْ يَقُلْ وَغُرُورِ مَنْ مَعَكَ وَالْخِدَاعِ لَهُمْ فَقَدِ اسْتَغْوَيْتَهُمْ وَيُوشِكُ أَمْرُكَ أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُمْ فَيَعْتَزِلُوكَ وَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ بَاطِلٌ مُضْمَحِلٌّ وَالسَّلَامُ).

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَطَالَ مَا دَعَوْتَ أَنْتَ وَأَوْلِيَاؤُكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْحَقَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَجَهَدْتُمْ فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ بِأَيْدِيكُمْ وَأَفْوَاهِكُمْ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وَلَعَمْرِي لَيُتِمَّنَّ النُّورَ عَلَى كُرْهِكَ وَلَيُنْفِذَنَّ الْعِلْمَ بِصِغَارِكَ وَلَتُجَازَيَنَّ بِعَمَلِكَ فَعِثْ فِي دُنْيَاكَ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْكَ مَا طَابَ لَكَ فَكَأَنَّكَ بِأَجَلِكَ قَدِ انْقَضَى وَعَمَلِكَ قَدْ هَوَى ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى لَظًى لَمْ يَظْلِمْكَ اللَّهُ شَيْئاً (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ».

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: (أَمَّا بَعْدُ فَمَا أَعْظَمَ الرَّيْنَ عَلَى قَلْبِكَ وَالْغِطَاءَ عَلَى بَصَرِكَ الشَّرُّ مِنْ شِيمَتِكَ...) إِلَى آخِرِ مَا مَرَّ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى.

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَسَاوِيَكَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ فِيكَ حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ يَصْلُحَ أَمْرُكَ أَوْ أَنْ يَرْعَوِيَ قَلْبُكَ يَا ابْنَ الصَّخْرِ اللَّعِينِ

ص: 64

زَعَمْتَ أَنْ يَزِنَ الْجِبَالُ حِلْمَكَ وَيَفْصِلَ بَيْنَ أَهْلِ الشَّكِّ عِلْمُكَ وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْقَلِيلُ الْعَقْلِ الْجَبَانُ الرَّذْلُ،فَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَسْطُرُ وَيُعِينُكَ عَلَيْهِ أَخُو بَنِي سَهْمٍ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَابْرُزْ لِمَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِ وَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ الْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ وَمَا أَنْتَ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ وَالسَّلَامُ»(1).

وكما هو صريح الرواية فإن معاوية تجنّى على الإمام (عليه السلام) وسبّه بالباطل المحض فكان للإمام (عليه السلام) الجواب إذ: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) على أنه أجاب بالحق المحض أي بما فيه من الصفات البذيئة.

لا يقال: ألم يكن الأولى بالإمام أن يعفو عنه وأن لا يجازيه بالمِثل - والمِثل عرفي، وإلا فلا مثلية إذ سباب معاوية افتراء وكذب، وكلام الإمام (عليه السلام) حق وصدق - إذ إنه قال (عليه السلام) في موطن آخر عندما سبه ذلك الخارجي الفظ بقوله: قَاتَلَهُ اللَّهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ! فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ (عليه السلام): «رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ»(2).

إذ يقال: العفو هو الأولى بشكل عام، ولكن قد يجب الردّ والقصاص، وذلك في مثل حالة الإمام (عليه السلام) فإنه أراد أن يسجل وثيقة تأريخية هامة تكشف حقيقة معاوية للتاريخ والأجيال القادمة خاصة مع ما تميّز به معاوية من الدجل والخداع والتظاهر، وهذا داخل في دائرة الأهم عقلاً وعرفاً؛ ألا ترى أننا لو عبّرنا عن أمثال الحجاج وفرعون وأشباههم(3) ب(السفّاح) أو بالمستبد

ص: 65


1- شرح نهج البلاغة: ج16 ص135 - 136.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 420.
3- كستالين وماو تسي تونغ وهتلر، وصدام.

والدكتاتور، كان مقبولاً عند عقلاء العالم، مع أن وصف شخص بالدكتاتور أو ما أشبه يعد من أعظم السباب في هذا العصر؟!

فجواب الإمام (عليه السلام) كان أولاً رداً للاعتداء ولم يكن سباباً ابتدائياً فغاية ما يفيده جواز السباب الدفاعي دون الابتدائي الهجومي، ثم إنه كان في حالة حرب ألا ترى أن الإمام (عليه السلام) دعاه إلى المبارزةشخصياً وطلب منه أن يجنب الجيشين القتال والقتل وأن يتبارزا بنفسيهما؟!

إذا جاز قتل العدو المحارب جاز سبّه

لا يقال: قد يجوز قتل الطرف الآخر ولا يجوز سبه، فالاستدلال بكون الحالة حالة حرب على جواز السباب حينئذٍ هو من تنقيح المناط الظني!

إذ يقال: كلّا؛ لوجهين:

الأول: إن الأولوية عرفية قطعية وإنه إذا كان العدو(1) مثلاً ممن يجوز قتله بل يجب، فكيف لا يجوز سبّه؟ ألا ترى أن العقلاء في العالم كله لا يشكّون في حرمة تعريض أنفسهم للقتل لمجرد تجنب السب - أن يُسبّ -؟ نعم الشاذ من الناس قد يرجح أن يُقتل على أن يُسبّ، لكنه شاذ أو لعروض عنوان ثانوي على هذا السباب، وبناء كافة العقلاء على ترجيح أن يُسبّ على أن يُقتل، بل الحكم الشرعي قطعاً هو كذلك ولذا لو دار الأمر بين أن يسبك زيد وبين أن يقتلك حرم عليك أن ترجح القتل بل كان من أعظم الآثام وأكبر المعاصي.

الثاني: سلّمنا، لكن يكفي في المقام احتمال مدخلية الحرب في جواز السب، ولسنا بحاجة إلى إحراز أولوية جواز السباب من جواز القتل، إذ مستند مدعي جواز السب في غير حالة الحرب هو هذه الروايات وهذه

ص: 66


1- الطالبان وداعش مثلاً.

الروايات سِباب صادرة في حالة الحرب فكيف يُتعدَّى منها إلى غير حالة الحرب إلا بتنقيح مناط ظني؟ والحاصل: إن مدعي عموم جواز السباب إلى حالة السلم مستدلاً بسباب صادر من المعصوم (عليه السلام) في حالة الحرب، عليه هو أن يقيم الدليل على أجنبية حالة الحرب عن جواز السب بالمرة، وليس على الطرف الآخر الدليل، فتدبر تعرف.

بعبارة أخرى: الفعل لا جهة له، ولا يعلم وجه السب في حالة الحرب، وهل للحرب مدخلية في تجويزه أم لا، والفعل غير ناطق،وأصالة العدم أصل مثبت والعدم غير منشئ للحكم ولا موجد له نظير ما قالوه في قاعدة لا ضرر، فتأمل وتدبر؛ وعلى أي فيكفي أن القدر المتيقن حالة الحرب واللّه أعلم.

نعم قد يقال: هذان الوجهان لا يعمّان جميع ما صدر من المعصومين (عليهم السلام) فإن قسماً منها لم يكن في حالة حرب ولم يكن من باب رد الاعتداء.

والجواب: ما سبق من أنها كلها كانت في حالة حرب أو حالة نقض الطرف الآخر للهدنة، ثم إنه لَئِن لم نُجِب بأنها كلها في الحقيقة كانت ردّ اعتداء من الطرف الآخر فإن الجواب هو: إن هذه الروايات إذاً لا تصلح للدلالة على جواز السب في حالة السلم والسباب الابتدائي، بل تكون بعض الروايات أخرى هي الدليل، وقد أجبنا عنها بأحد الوجهين الأول والثاني وستأتي إجابات أخرى لاحقاً أيضاً، على أن مساحة الروايات المتضمنة للسباب والتي يعود السبب فيها إلى غير الوجهين الثالث والرابع تتقلص إلى حد كبير جداً مما يسهل معالجتها مما تندرج في أخبار الآحاد، فتأمل.

وهنالك جهات أخرى محتملة لا بد للفقيه - لا العامي! - أن يحرز عدم مدخليتها في جواز الفعل أو وجوبه، أو أن يحرز مدخليتها وانطباقها علينا.

ص: 67

ولعل تلك السباب كانت من جهة مقام الولاية

الوجه الخامس: إنه يحتمل في السباب الصادرة أن تكون من جهة ما للإمام (عليه السلام) من المقام: إما مقام ولايته أو مقام إمامته؛ فان كانت صادرة من حيث الجهة الثانية(1) لم يجز لنا أن نفعل كفعله، وإن كانت صادرة من حيث الجهة الأولى وكان الشخص فقيهاً وقلنا بثبوت الولاية للفقيه واتساع نطاقها لمثل ذلك، عمّ الحكم وصحّ له الإفتاء بالجواز أو الوجوب - بضوابطه الأخرى - وإلا فلا.

وتوضيحه: إن كثيراً من أفعال الأئمة (عليهم السلام) كانت معلَّلةً بمقام ولايتهم كما أن بعضها الآخر معلَّل بمقام إمامتهم، ولنضرب لذلك أمثلة:

منع الشيعة من المتعة!

فمنها: منع الإمام الصادق (عليه السلام) الشيعة في فترة من الزمن عن المتعة في المدينة، فهل يصح لنا أن نقول كما منع الإمام (عليه السلام) عن المتعة فإنه يجوز لنا أن نمنع عنها في المدينة أو في سائر المدن أيضاً؟ أو الصحيح هو أن ذلك منوط بمعرفة جهة عمله (منعه) (عليه السلام) وإحراز أن ذلك كان لولايته وكون منعه معلَّلاً بالمفسدة الطارئة في تلك الفترة فتعمّ مع اتحاد الظروف وذلك إذا كنا نقول بولاية الفقهاء أو المجتهدين أو عدول المؤمنين - بشروطها - وإلا فلا، بل نقول إنه قد لا يكون منعه في بعض الصور - أو مطلقاً - منعاً إلزامياً بل كان طلباً ورجاءً(2) أو كان إخباراً عن تزاحم جهتي المصلحة والمفسدة مثلاً، فهل يصح لنا أن نفتي برجحان الطلب ورجاء تركها مطلقاً أو من أهل المدينة خاصة؟ كلا إلا بعد إحراز الجهة(3).

ص: 68


1- نظير ما قاله بعض الفقهاء من أن إجراء الحدود خاص بالإمام المعصوم أو نائبه الخاص لا النواب العامين.
2- على أنه قد يكون منعاً في صورة طلب ورجاء.
3- ولعل المستظهر أنه (عليه السلام) منع في بعض الصور منعاً موَلَوِيّاً إلزامياً وفي أخرى كان رجاءً، والإخبار خلاف الأصل.

وقد ورد مثلاً: قَالَ الْمُفَضَّلُ: قُلْتُ: يَا مَوْلَايَ وَقَدْ رَوَى بَعْضُ شِيعَتِكُمْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: «إِنَّ حُدُودَ الْمُتْعَةِ أَشْهَرُ مِنْ دَابَّةِ الْبَيْطَارِ». وَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: «هَبُوا لَنَا التَّمَتُّعَ فِي الْمَدِينَةِ وَتَمَتَّعُوا حَيْثُ شِئْتُمْ لِأَنَّا خِفْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ شِيعَةِ ابْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَضْرِبُوا جُنُوبَهُمْ بِالسِّيَاطِ فَأَحْرَزْنَاهَا بِأَشْبَاهِهَا فِي الْمَدِينَةِ»(1).

إلزام الشيعة بالتجارة

ومنها: أن الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وعدداً من الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين كالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) ألزموا العديد من الشيعة بالتجارة، والظاهر من بعضهاأنه كان أمراً مولوياً إلزامياً، ومن بعضها الآخر أنه كان إرشادياً إلزامياً(2) كما أن بعضها كان إرشادياً غير إلزامي، وقد ورد عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَقَدْ تَأَخَّرْتُ عَنِ السُّوقِ فَقَالَ لِي: «اغْدُ إِلَى عِزِّكَ»(3).

وَرَوَى هَارُونُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرَكَ التِّجَارَةَ. فَقَالَ (عليه السلام): «وَيْحَهُ أَمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ دَعْوَةٌ! إِنَّ قَوْماً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لَمَّا نَزَلَتْ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَقَالُوا قَدْ كُفِينَا! فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا

ص: 69


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص479.
2- فصّلنا في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) وفي بحث البيع، أن الإرشادي قد يفيد الوجوب وذلك تبعاً للميرزا الشيرازي الكبير (رحمه اللّه)، كما أوضحنا هناك أن التعليل بفائدة أو مضرة دنيوية لا ينافي المولوية، فراجع.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص192.

رَسُولَ اللَّهِ تَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعِبَادَةِ! فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَجِبِ اللَّهُ لَهُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأُبْغِضُ الرَّجُلَ فَاغِراً فَاهُ إِلَى رَبِّهِ يَقُولُ ارْزُقْنِي وَيَتْرُكُ الطَّلَبَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله وسلم) يَقُولُ إِنَّ الرِّزْقَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ فِي التِّجَارَةِ وَ وَاحِدٌ فِي غَيْرِهَا»(2) وظاهر الأمر «اتَّجِرُوا» الوجوب والتعليل ليس قرينة على الاستحباب أو الإرشادية كما فصّلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية)، فتأمل.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَعَرَّضُوا لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّ فِيهَا لَكُمْ غِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ»(3) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «لَا تَدَعُوا التِّجَارَةَ فَتَهُونُوا اتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ»(4) والهوان قسمان محرم ومكروه، ومايؤدي إلى أحدهما له حكمه.

فإذا قلنا بأن هذه الأوامر والنواهي كانت بنحو القضية الحقيقية، عمّ؛ وإن كانت بنحو القضية الخارجية لم يكن الاستناد حينئذٍ إلى قولهم (عليه السلام) بل كان الاستناد إلى مجرد فعلهم(5).

والحاصل: إن هذا فعل، فهل يصح أن يقال إن فعلهم حجة فلنا أن نلزم الشيعة أو بعضهم كما ألزموا؟ كلا! إلا إذا أحرزنا جهة فعلهم (وأنه كان من باب الولاية) وأحرزنا انطباقها علينا أيضاً (بأن تمّت الأدلة على ثبوت هذه المرتبة من الولاية، للفقهاء).

ص: 70


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص192.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص192.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص193.
4- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص193.
5- والأمر من جهةٍ نوع فعلٍ، فتدبر.

أمرهم (عليهم السلام) البعض بالدخول في سلك الظلمة

ومنها: إن الإمام الصادق(عليه السلام) والإمام الكاظم (عليه السلام) كانا يأمران بعض الشيعة بالدخول في سلك الظلمة وتولي الولايات لهم، كالنجاشي وعلي بن يقطين، بل وكسلمان عندما أجازه أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكم المدائن (العراق وإيران) وغيرهم كثير.

فهل يجوز لنا أن نقول إن الأئمة (عليهم السلام) على مرّ التاريخ أمروا جماعة بالدخول في ولاية الحكومة الظالمة أي بالدخول في بعض أعمالهم فلنا بل علينا أن نفعل؟ كلا إلا بعد إحراز الفقيه - لا العامي - جهة فعلهم وأحرز انطباقها عليها.

فكذلك حال السباب، فلعله كان صادراً منهم لما لهم من مقام الولاية على الأمة، وليست لنا هذه الولاية!

دعمهم (عليهم السلام) للحركات الثورية والعسكرية

ومنها: إن العلماء اختلفوا في الحركات العسكرية والثورات التي كانت تقوم أو تشتعل بين حين وآخر ضد حكام بني أمية أو بني العباس، فقال بعض -نها - أي بعضها على الأقل - كانت بتأييد من الأئمة (عليهم السلام) واقعاً بل وقال بعض أنها كانت بتخطيط منهم وإسناد سِرّاً، بينما ارتأى بعض آخر خلاف ذلك.

والشاهد: إن تأييدهم (عليهم السلام) للحركات العسكرية الثورية - على فرضه - أو عكسه - على فرضه - إنما هو فعل من أفعالهم، ولا يصح لنا الاحتجاج به لتسويغ تأييدنا ودعمنا للحركات العسكرية ضد الطغاة أو لتسويغ تركنا دعمهم، إلا بعد أن يقوم الفقهاء الجامعون للشرائط بإحراز جهة فعلمهم (عليهم السلام) وأنهم لو كانوا مؤيدين داعمين (حسب الرأي الأول) فهل وجهه أن ذلك مما فُوّض إليهم لمقام إمامتهم؟

ص: 71

(وعلى هذا فليس ذلك من موارد التأسي بهم أي لم يتحقق موضوع التأسي حينئذٍ أي لا يجوز ان نفعل كفعلهم) أو إنه كان لمقام ولايتهم (فعلى هذا يجوز للفقهاء إذا قلنا بولايتهم إلى هذا الحد) أو أنه كان لمجرد كونه نوعاً من النهي عن المنكر(1) (فيجوز لعامة الناس بإذن الفقيه على رأي(2) ولا بإذنه على رأي آخر).

ويوضح ذلك أكثر: إن الأب له الولاية على أن يضرب ابنه ضرباً خفيفاً جداً (لا أكثر) إذا كان في مقام التأديب(3) (بشرط أن لا يوجب أسوداداً ولا اخضراراً ولا احمراراً وإلا كانت عليه الدية إضافة إلى الحرمة) فهل يصح للأخ مثلاً أن يضرب آخاه تأديباً؟ كلا لأن هذا الحق من مختصات هذا المقام.

والحاصل: إن جواز فعلٍ من الأفعال لشخصٍ من الأشخاص لا يكون دليلاً على جوازه لشخصٍ آخر.

لا يقال: إن الأصل في أفعال النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) صحة التأسي به، وقد ذكر الفقهاء إن احتمال كون فعله (عليه السلام) ولائياً أو احتمال كون القضية خارجية، لا يصار إليه، وإن (العمل لا جهة له) أي من حيث الوجوب والاستحباب أو الحرمة والكراهة (في الترك) لا من حيث الولوية وعدمها، بل الأصل الأسوة، وعدم إعمالهم مقام الولاية!

إذ يقال: كلام الفقهاء لا يشمل أمثال ما نحن فيه أصلاً، إذ ما نحن فيه شأن من الشؤون العامة (إذ الفرض أن الكلام عن السباب في المحافل العامة وفي وسائل

ص: 72


1- أو دفعه.
2- إذ اشترط العديد من الفقهاء في النهي عن المنكر باليد (فكيف السلاح) إذن الفقهاء جامعي الشرائط.
3- كما لو خاف أن يجرح ابنه أحداً أو أن يسرق مالاً وتوقف ردعه على أن يضربه كي لا يجرح الناس ولا يسرق أموالهم.

التواصل الاجتماعي والفضائيات والإذاعات، وليس عن السباب في غرفة مغلقة مثلاً) والشؤون العامة لا يسمح لكل مكلف بأن يعمل كما يعملوا لاختصاص التصدي للشؤون العامة بالإمام أو من يعيِّنه ولو بالتعيين العام - كمراجع التقليد العظام -. وعليه: لو تردّد بعض أفعالهم (عليهم السلام) بين كونه من باب ولاية الأمر أو من باب ولاية الإمامة، فلا يوجد ههنا أصل يعيِّن أحدهما ولم يتطرق الفقهاء لذلك، وهذا هو ما طرحناه ههنا.

ومنه اتضح الجواب عن الإشكال بأصالة اشتراك الأحكام بينهم وبيننا، وذلك لأنها غير مشتركة في (الولاية على الشؤون العامة) فإنها ثابتة لهم (عليهم السلام) ويحتاج ثبوتها في غيرهم إلى دليل خاص.

ولعله من مقتضيات مرحلة التأسيس

الوجه السادس: إنه يحتمل أن تكون لمرحلة التأسيس مدخلية في جواز أو وجوب أفعال، وحيث كنّا فيما بعد تلك المرحلة فلا يصح الاستدلال بفعلهم (عليهم السلام) على جواز السباب أو وجوبه في زمننا هذا، وقد أجبنا عن الإشكال بقاعدة اشتراك الأحكام بانها غير جارية في الشؤون العامة فان أمرها بيد النبي والوصي ومن ثبتت نيابته عنه في ذلك.

كتدرجية نزول الأحكام

توضيحه: إن لمرحلة التأسيس خصوصيات تقتضي إيجاب أمور أو تحريم أمور أو عدم إيجاب ما هو واجب أو عدم تحريم ما هو حرام، ومن الأدلة على ذلك تدرّجية نزول الأحكام: حيث إن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لم يوجب الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة، ... الخ ولم يحرم الخمر والخنزير والدم... الخ إلا على امتداد سنين متطاولة في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة، وقد نزل حكم تحريم

ص: 73

الخمر مثلاً تدريجاً في أربع مراحل، فذلك كان من مقتضيات مرحلة التأسيس - بل يكفي احتماله - ولذا لا يجوز لنا أن نستند إلى (فعله (صلی اللّه علیه وآله وسلم)) على جواز ذلك لنا أيضاً بأن نحرِّم على من دخل في الإسلام توّاً الخمر تدريجاً! أو نوجب عليه الواجبات على امتداد السنين! فنوجب عليه الصلاة أولاً ثم بعد سنين نوجب عليه الصوم وهكذا!!

وقد يقال: إنه مع قطع عن كون الشأن عاماً فإنه لا دليل على شمول قاعدة اشتراك الأحكام بيننا وبينهم بحيث يشمل مثل المقام أي ما احتمل أن لمرحلة التأسيس مدخلية فيه، ولو وجد فإنه لا يعلم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، وقد يدعى انصرافه لمناسبات الحكم والموضوع وغيره.

بل قد يقال: إن مقصودهم من اشتراك الأحكام اشتراكها بين العالم بها والجاهل أو اشتراكها بين عامة المخاطبين وغيرهم من مشافهين وغيرهم، والأدلة المستدل بها على ذلك لا تدل على المدعى ههنا وهو اشتراك الأحكام بيننا وبينهم فيما احتمل عقلائياً مدخلية مرحلة التأسيس فيه، وما دل عليه فإنما هو مثل الضرورة وهو دليل لبي لا إطلاق له ليشمل محل البحث وشبهه مما احتمل عقلائياً مدخلية مرحلة التأسيس فيه، فتأمل.

كسر النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) للأصنام، مثالاً

مثال آخر: قد مثّل بعض العلماء بالمثال التالي وهو: إن النبي الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كَسَر الأصنام، فهل يصح الاستدلال بفعله هذا على جواز أو وجوب أن نكسر سائر الأصنام في سائر البلاد أيضاً؟ كلا إلا إذا قام دليل لفظي على تعميم الحكم، دون فعله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بمجرده مادام أنه لم يحرز إطلاقه ولم تحرز جهته وأنه كان لأن المرحلة تأسيسية فلا بد من أن يقوم بذلك كي يُلقِي الدين بِجِرانه ويستحكم

ص: 74

التوحيد في بلاده، أو أنه كان شعبةً من شعب مقام رسالته أو مقام ولايته، حتىإذا تمّ التأسيس وشُيِّدت دعائم الدين كان المرجع مثلاً أصالة الإباحة بناءً على أن الأصل في الأشياء الإباحة لا الحظر، وكان المرجع عند الشك أصالة البراءة بناءً على أنها المرجع لا أصالة الاشتغال، أو كان المرجع قاعدة الإمضاء «يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ»(1) وقاعدة الإلزام «أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(2) مثلاً، فتأمل.

فإذا لم يجز التأسي حتى بكسره (صلی اللّه علیه وآله وسلم) الأصنام إلا بعد إحراز جهة عمله وانطباقها علينا فما بالك بمثل السباب؟ والذي بمقدوره أن يقوم بتشخيص ذلك هم العلماء الجامعون للشرائط وليس غير المتخصصين، كما سبق.

وأجاب بعض العلماء بأن جهة عمله (عليه السلام) معلومة وهي إزالة سبب المنكر.

ونوقش: بأن دفع المنكر يختلف عن النهي عن المنكر والأخير واجب دون الأول، وقد يجاب بأن ذلك ليس فيما علم من الدين كراهة وقوعه.

كما يناقش أيضاً: بأن احتمال وجود خصوصية للكعبة المشرفة وارد وعقلائي فلا يصح التعدية إلى غيرها إلا بتنقيح مناط وهو ظني، ويكفي الاحتمال لأن العمل لا إطلاق له ولو كان قولاً لما أضرّ بإطلاقه الاحتمال، لكنه عمل، إضافة إلى احتمال مدخلية مرحلة التأسيس، وهو احتمال عقلائي، والاحتمال لا يضر بالمطلق إذا ورد، لكنه كفيل بعدم صحة الاستناد إلى (الفعل) نفسه للتعميم؛ إذ الفعل لا إطلاق له - كما سبق - ولا جهة.

وعلى أي فإن من يذهب إلى التعميم فلا بد له من دليل مطلق فإن عثر عليه كان هو المستند دون خصوص (الفعل) الذي لا إطلاق له ولا جهة.

ص: 75


1- الاستبصار: ج4 ص148.
2- التهذيب: ج9 ص322.

كما قد يناقش أيضاً: بأن الكعبة أسسها النبي إبراهيم (رحمه اللّه) خليل الرحمن، فكان هو المتولي عليها ومن عيّنه من بعده من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، فلم يكن يجوز لأحد التصرف فيها، ككلّ وقفٍآخر، بدون إذن المتولي الشرعي المسمى بسادن الكعبة وحاجبها، وقد وضع الكفار الأصنام عليها بدون إذن من المتولي الشرعي، فكان للمتولي الشرعي إزالتها كما في كل وقف تصرف فيه الآخرون بدون إذن المتولي، فلا يصح الاستناد إذاً لمجرد فعله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) على وجوب أو جواز إزالتها من بيوت الكفار أو شوارعهم أو جبالهم مثلاً، فتأمل.

وأيضاً: فلعل تطهير الكعبة والصفا والمروة من الأصنام؛ لكونهما من شعائر اللّه قال تعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(1) وكون الكعبة بيت اللّه (تشريفاً لها) ولذا أمر بتطهيرها: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالْعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(2) فتطهير البيت والصفا والمروة من الأصنام (فعلٌ) يحتمل فيه - بل الظاهر- استناده لمثل هذه الأوامر والأحكام، فمن أين التعميم إلى الأماكن الأخرى التي لم يختصها اللّه تعالى لنفسه ولم يجعلها من شعائره؟ وليلاحظ أن قولنا (من أين) لا يراد به نفي وجود دليل آخر (فلذلك محل بحث آخر) بل يراد به فقط أن العمل وكسره الأصنام لا إطلاق له ولا جهة.

التدريجية طوال 260 سنة

ثم إن المستظهر أن (التدريجية) - بأحد معنييها(3) - امتدت على مدى مائتين

ص: 76


1- سورة البقرة: 158.
2- سورة البقرة: 125.
3- الثبوتية أو التدرجية الإثباتية (البيان).

وستين عاماً أي أنها لم تكن مختصة بالنبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بل امتدت - إجمالاً - إلى تمام فترة حضور المعصومين (عليهم السلام)، والدليل على ذلك: إن الكثير من الأحكام والتخصيصات والتقييدات وردت عن الإمامين الباقرين 3، وذلك سواء أقلنا بتدرجية - بيان - الأحكام أو قيودها - فهي تدرجية في عالم الإثبات - أم بتدرجية - تشريع - مخصصاتها ومقيداتها - فهي تدرجية في عالم الثبوت -، فإن ذلك العمل - البيان أوالتشريع التدريجي - مما لا يجوز لنا فعله والتأسي به (صلی اللّه علیه وآله وسلم)؛ ألا ترى أننا لا يجوز لنا أن نحجب عن المسلم أو عمن أسلم المسائل الشرعية؟ وأن الواجب أن نفتح له طريق المعرفة بها جميعاً ولو عبر إعطائه الرسالة العملية أو الكتب المصدرية أو شبه ذلك! ولا يجوز لنا أن نتذرع بعمل المعصوم (عليه السلام) وأنه كان عملهم على البيان التدريجي للأحكام طوال عشرات السنين فيجوز أو يجب علينا ذلك أيضاً!

تدريجية بيان الأحكام أو تدريجية تشريعها؟

تنبيه: المشهور تدريجية بيان الأحكام لا تدريجية تشريعها ونزولها، أي ان النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أودع كل التشريعات لديهم (عليهم السلام) فذكروها بالتدريج، لا انهم شرّعوا تلك الأحكام بتفويض من اللّه تعالى أو من النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لهم بعد ان أوضح لهم الأسس والقواعد.

ويقرب من ذلك ما ذكره العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في مرآة العقول في معاني التفويض: (الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام إليهم بما أرادوا ورأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقول الناس وإفهامهم، أو بسبب التقية فيفتون بعض الناس بالأحكام الواقعية، وبعضهم بالتقية، ويسكتون عن جواب بعضهم للمصلحة، ويجيبون في تفسير الآيات وتأويلها وبيان الحكم والمعارف بحسب ما يحتمله عقل كل سائل كما سيأتي، ولهم أن يجيبوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في

ص: 77

أخبار كثيرة: عليكم المسألة وليس علينا الجواب، كل ذلك بحسب ما يريهم اللّه من مصالح الوقت كما سيأتي في خبر ابن أشيم وغيره)(1).

وقال جمعٌ بأن بعض التشريع فوّض إليهم، وقد بحثنا ذلك في كتاب (المعاريض والتورية)، فراجع.

ولا يتوهم من القول الآخر (الذي يذهب لتشريع الأحكام) أن القائل به يقول بكونهم أنبياء، كلا وألف كلا، بل يقول بأن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) منحهم كافة العلوم الدخيلة في معرفة ملاكات الأحكام الشرعية بنحوالعلة التامة فكان لهم الإيجاب والتحريم على طبقها، ويوضح ذلك ما قاله العلامة المجلسي (رحمه اللّه) عن النبي الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) عند تطرقه لمعاني (التفويض) فقال: (الثاني: التفويض في أمر الدين، وهذا أيضا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون اللّه تعالى فوض إلى النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم عموماً أن يُحِلّوا ما شاءوا ويحرّموا ما شاءوا من غير وحي وإلهام، أو يغيّروا ما أوحِى إليهم بآرائهم، وهذا باطل لا يقول به عاقل، فإن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كان أحياناً ينتظر الوحي أياما كثيرة كي يجيب سائلاً ولا يجيبه من عنده، وقد قال تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).

وثانيهما: أنه تعالى لما أكمل نبيه بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئاً إلا ما يوافق الحق والصواب، ولا يحلّ بباله ما يخالف مشيته سبحانه في كل باب، فوّض إليه تعيين بعض الأمور كالزيادة في ركعات الفرائض وتعيين النوافل من الصلاة والصيام، وطعمة الجد، وغير ذلك مما سيأتي بعضها في هذا الكتاب إظهاراً لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي، ولا

ص: 78


1- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم): ج3 ص145.

الاختيار إلا بالإلهام، ثم كان يؤكد ما اختاره (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بالوحي، ولا فساد في ذلك عقلاً، وقد دلت النصوص المستفيضة عليه، وظاهر الكليني (رحمه اللّه) وأكثر المحدثين القول به، والصدوق (قدس سره) وإن أوهم كلامه نفي ذلك يمكن تأويله بما يرجع إلى نفي المعنى الأول، لأنه قد أورد في كتبه أكثر الأخبار الدالة على المعنى الثاني، لا سيما في كتاب علل الشرائع، ولم يردّها ولم يتعرّض لتأويلها، وقال في الفقيه: وقد فوّض اللّه عز وجل إلى نبيه أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدى حدوده)(1).

ويقرّب ذلك - أي رأي بعض العلماء بتفويض بعض التشريع إليهم (عليهم السلام) - إلى الذهن ما يفعله علماء العامة من القياسوالاستحسان والمصالح المرسلة؛ فهل يقولون: (باننا أنبياء لذلك نقيس ونستحسن)؟ كذلك لا يقول أولئك العلماء بأن الأئمة أنبياء، على أنه لا مجال أبداً للمقارنة بين الأمرين والقياس بينهما لوضوح أن قياسهم واستحسانهم غاية الأمر أنه ظني من غير معرفة بكافة ملاكات الأحكام ومزاحماتها وموانعها وآثارها الحالية والمستقبلية، فكيف يعقل أن يقاسوا بالنبي أو الأئمة (عليهم السلام) العارفين بكافة الملاكات إذ (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(2) و«أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»(3) فكيف يجوّزون لعلمائهم ذلك وهم أدنى منزلة دون شك حتى لديهم - وبما لا مجال للقياس - من الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً ويعترضون على من رأى من علمائنا - وهم قليل - هذا الرأي - تفويض بعض التشريع إليهم -؟

ص: 79


1- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم): ج3 ص144 - 145.
2- سورة آل عمران: 7.
3- الأمالي - للطوسي (رحمه اللّه) -: ص558.

التأسي بفعل المعصوم (عليه السلام) بعد إحراز جهاته

وصفوة القول: إن على من يستند إلى صدور السباب من المعصومين (عليهم السلام) إحراز جهات مَضَت ستة منها(1)، فإن أحرزها كلها عمّ ذلك إلينا وصحّ الاحتجاج بفعلهم على جواز أو وجوب السباب لنا أيضاً وإن لم تحرز حتى جهة واحدة لما عمّ ولما جاز.

بل نقول: إنه إن شككنا فإن الأصل هو الحرمة.

توضيحه: إن الأصل الأولي العام - وكما سبق - هو حرمة سبّ الآخرين وقد خرج منه ما أُحرِزت جهاته كلها (وهي ستة أو أكثر) فإن شككنا في جهة فإن الأصل العام - وهو الحرمة - هو المحكم.

وذلك يجري في المقام، فإنه إذا أحرز أن هذا الشخص من أهل الريب والبدع عمّه الحديث السابق، ولو شك فيه فإن التمسك بالرواية حينئذٍ لتعميم جواز السب أو وجوبه لهذا المورد والشخص يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتدبر.

ص: 80


1- وهناك غيرها أيضاً، ومنها مثلاً: ما ذكره السيد الوالد (قدس سره) من أن بعض ما صدر من الإمام علي (عليه السلام) أبان حكومته مما عدّ سباً، كان لمقتضيات التزاحم في السيطرة على الجرائم بين سجن أولئك المجرمين أو الخارقين لحرمة القوانين - أو نفيهم أو جلدهم أو شبه ذلك من أنواع التعزير أو البطش - وبين دفعهم عن إجرائمهم أو خرقهم للقانون، بالشدة اللفظية، فاختار (عليه السلام) الأخير - في العديد من الحالات - لكونه أهونهما..

الفصل الثاني: الروايات الدالة علی سباب بعض الفئات الخاصة

اشارة

ص: 81

ص: 82

الاستدلال برواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ»

الطائفة الثانية: الأدلة الدالة على جواز أو وجوب سبّ بعض أصناف الناس، وأهم روايات الطائفة الثانية الرواية التالية:

فقد ورد في الكافي الشريف بسند صحيح: عَنْ دَاوُدَ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم): إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ»(1).

وهذه الرواية أمر وليست فعلاً من الأفعال كي يشكك في جهته، وقد جاء فيها الأمر صريحاً ب«وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ»(2) وهذه الرواية لا مشكلة فيها من حيث السند وقد أفتى العديد من الأعاظم على طبقها كما نقلنا سابقاً بعض أقوالهم قدس اللّه أسرارهم.

والواجب على الفقيه البحث عن فقه الحديث هذه الرواية حسب المنهج الأصولي والفقهي الدقيق والمتطور، وعند دراسة مفردات الرواية نجد العديد من النقاط الهامة التي تلقي الضوء على الضوابط الأساسية التي وضعها

ص: 83


1- الكافي: ج2 ص275.
2- وسيأتي الحديث مستقلاً عن «فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ» و«بَاهِتُوهُمْ».

الشارع الأقدس في هذه الرواية وغيرها والتي عندها - وعندها فقط - يجوز سباب بعض الناس.

المناقشات

أولاً: الخطاب عام والمكلَّف به خاص

ولكن: قد يجاب عن الاستدلال بالرواية الشريفة على جواز مطلق السب للمختلفين معناً إدارياً أو اجتهادياً أو فكرياً أو دينياً، وعلى أنه جائز لكل شخص بدون الرجوع إلى الفقهاء العارفين ب«الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ»، بوجوه: جامعها أن هنالك ضوابط عديدة وأن الخطاب وإن كان بحسب ظاهره عاماً ولكن الحكم مقيد أولاً والمكلف بإجرائه خاص ثانياً، وتوضيحه:

إن الخطاب وإن كان موجهاً للعموم ظاهراً ولكن الحكم مقيّد والمكلف بتنفيذه خاص:

أما إن الحكم مقيّد، فلأنه مقيّد بكونه مجرداً عن المحذورات التي ذكرتها الطائفة الثالثة من الروايات، إضافة إلى كونه خالياً عن المزاحم الأهم الذي تتضمنه الطائفة الرابعة من الروايات.

وأما إن المكلف بتنفيذه خاص، فوجهه: أنه حيث إن كل أحد قد يتصور نفسه كذلك، فإن كل شخص يُحسِن - عادةً - الظن بنفسه ويرى أنه كفوء عارف بأطراف القضية، لذلك أحال الشارع تشخيص ذلك إلى مراجع التقليد جامعي الشرائط. فهذان هما قيدان إذاً:

أما القيد الأول، فلما سيأتي تفصيلاً في الفصل الثالث والرابع عند الحديث عن روايات الطائفة الثالثة والرابعة.

ص: 84

من بيده الأمر مراجع التقليد

وأما القيد الثاني فعقلي وعقلائي، وهو عام شامل لكل (أمر أو نهي ألقي بذمة المكلف، سواءً من جهة حكمه وحدوده وشرائطه وموانعه أم من جهة تشخيص موضوعه)، إذا كان من الشؤون العامة، ويقرب ذلك إلى الذهن بشكل مبسط أنه إذا قال له: (قلّد الأعلم) وجب عليه إذا أراد أن يقلد زيداً أو عمراً أو بكراً، أن يكون عارفاً بالأعلم أي قادراً على تشخيصه بملاكاته! فإن لم يكن قادراًوجب عليه أن يتبع الطرق الشرعية الأخرى كالشياع والبيّنة غير المعارضة إلى غير ذلك، فلا يصح للعامي أن يقول إن اللّه أمرنا بتقليد الأعلم ولم يقيد بأن أكون قادراً على تشخيصه! أو أن يقول: إن نفس إطلاق هذا الأمر دليل على أن الأمر موكل لي مهما بلغت درجة علمي أو جهلي!

أمثلة للخطاب العام والمكلَّف به الخاص

وتفصيله: إن العديد من الخطابات القرآنية والروائية وإن كانت موجهة لعامة المكلفين ولكن لا يجوز إلا لفئة خاصة العمل بها - بالمباشرة أو بإيكال ذلك لمن يرونه الأصلح للقيام به -، ويحرم على غيرهم القيام بها، ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة:

أ - (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)

قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ)(1) والخطاب ههنا عام بظاهره(2) (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لكن المكلف بتنفيذه خاص؛ إذ لا يجوز لكل أحد أن يقطع يد أي سارق، بل إن

ص: 85


1- سورة المائدة: 38.
2- وإن احتمل بعض كونه مجملاً، لكنه خلاف الظاهر.

إجراء الحدود منوط بالحاكم الشرعي؛ وإلا للزم الهرج والمرج وتعدي كل أحد على كل أحد بتهمة أنه سرق أو زنا أو شرب الخمر أو لاط أو غير ذلك، بل اللازم معرفة القائم بالحد، بشرائط إقامته(1) أولاً وبانطباقها على من تُقام عليه ثانياً إضافة إلى أن يكون القائم به من يأذن له الحاكم الشرعي ثالثاً.

ب - (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)

قوله تعالى: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون)(2).و(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقين)(3).

و(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمين)(4).

فهل يا ترى يصح لأحد أن يقول بأن الأمر القرآني بمقاتلة أئمة الكفر والذين يلوننا من الكفار، صريح وهو خطاب موجّه للجميع ولم يخصِّصه اللّه تعالى بالحاكم الشرعي أو أولياء الأمور أو ما أشبه، إذاً لكل واحد من العوام - بل على كل أحد! - أن يبادر لمقاتلة أئمة الكفر أو مقاتلة الذين يلوننا من الكفار أو شبه ذلك!

والحاصل: إن القرينة العقلية أو العقلائية أو الشرعية الحافّة بالكلام، لهي من إحدى مقيداته بدون كلام.

ص: 86


1- مثلاً لإقامة حد السرقة 44 شرطاً كما فصلها السيد الوالد في الفقه الحقوق، وقد يندر تحققها في سارق، والعلم بهذه الشروط بحاجة إلى اجتهاد وإحاطة تامة.
2- سورة التوبة: 12.
3- سورة التوبة: 123.
4- سورة البقرة: 193.

ولكن قد يسأل عن الدليل على أن المكلف بمثل (فَقاتِلُوا) و(فَاقْطَعُوا) و«فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ» هم أشخاص خاصون - وهم ولاة الأمر أو الحكام والقضاة بالعدل - وإن كان خطابه عاماً؟

والجواب على ذلك واضح وهو - إضافة إلى قضاء العقل المستقل به ولزوم الهرج والمرج لولاه وبناء العقلاء عليه -: إن الدليل هو الروايات الكثيرة المصرحة بمثل أن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء؛ وهي روايات كثيرة:

منها: قول سيد الشهداء (عليه السلام): «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ»(1) وسيأتي بيانه في أواخر الكتاب(2).

ثانياً: الرواية معللة ب«كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ»

فقد ورد في الرواية: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» وهذا المقطع نص في العلة الغائية والغرض من تشريع الحكم السابق الذي تضمن «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ»، الغاية أمران: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ» و«وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» والأول يراد به الدفاع والثاني يراد به التحصين وهو نوع من الدفاع أيضاً.

والسب مقدمي، ويحرم لو أنتج العكس

بعبارة أخرى: إن الأمر ب«وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ...» حسب المستفاد من هذه الرواية طريقي مقدمي وليس موضوعياً أي إنه يراد به (كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام) فلأجل دفع طمعهم في الفساد في الإسلام جرى تشريع هذا الحكم،

ص: 87


1- تحف العقول: ص237.
2- سيأتي بيان ذلك في الفصل السابع.

فالرواية خاصة كما هو واضح بهذه الصورة فلا تشمل سبّهم لإيجاد حالة من الصدمة فيهم كي يهتدوا! فهذا أولاً، وثانياً: إن كثرة السب إذا سببت الحيلولة دون طمعهم في الفساد في الإسلام وجبت ولكنها إذا سببت العكس حرمت!

والظاهر أن زماننا من قبيل الثاني فإن العالَم إذا سمعنا نسبّ أو نهدر الدماء اتهمنا عقلاؤه فوراً بأننا عديموا المنطق وقالوا: إنهم لو كانوا ذوي منطق لو أجمعوا الآخرين بالفكر والمنطق لا بالسباب والعنف! بل ومتى رأى أهل العالم هجومنا على الطرف الآخر بالسباب والشتائم والتهديد والوعيد، اعتبروه مظلوماً فازداد رصيده بين غالب الأمم فوراً وبشكل مذهل!

ثم إن الطرف الآخر إذا رفض ذلك كله فنقول: لا أقل من أن ذلك محتمل!!، فلماذا لا يحتكم هؤلاء إلى علماء الاجتماع والنفس والسياسة وأهل الحل والعقد من مختلف البلاد لكي ننضم إليهم في منهجهم العنيف إذا وجدنا أهل العقل والحكمة وأهل الخبرة والتجربة يرون أن فوائده في باب التزاحم أكثر!

وأما التحصين فهو صريح قوله (عليه السلام): «وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» فإذا لم يمكن تحصين الناس من أعداء العقيدة أوالشريعة إلا بالسباب فهذا ما تنطق به الرواية لا ما إذا كان هناك طريق أنفع وأجدى أحسن؛ ويوضحه: ما لو أن جماعة أرادوا تأسيس مبغى ومحل للفحشاء في منطقتنا أو أرادوا تأسيس مركز لتدريب الإرهابيين مثلاً فإذا أمكن دفعهم عن ذلك بمجرد سبابهم فإن العقلاء يرون السباب حينئذٍ مبرراً فهذا هو التحصين وهو نوع من الدفاع كما سبق.

والحاصل: إن الرواية تتكلم عن أهل الريب والبدع، سواء في العقيدة أم الشريعة وأنه «فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ...»: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ

ص: 88

النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» فهذه هي العلة والعلة معمِّمة ومخصِّصة.

ضوابط وقيود في جواز السباب

وحاصل الجواب عن الاستدلال بالرواية اختصاصها بصورة كون السب مقدمياً لا موضوعياً ولذا يحرم لو أنتج العكس.

ونضيف: إن التدبر في فقه الرواية وسائر الروايات الشريفة يفيد: أن هنالك ضوابط وقيوداً كثيرة على جواز (السباب) وأنه يبقى على أصل الحرمة من دون تحقق تلك القيود، والمرجع في صور جواز السباب وفي تلك الضوابط والقيود وفي تحديد مصاديقها وصغرياتها والموقف منها هم مراجع التقليد وأهل الخبرة من علماء النفس والاجتماع وأهل الشورى(1) كما سيأتي.

وهذه الرواية بالذات تستبطن قيوداً عديدة تظهر لدى التدبر في فقه الحديث الشريف.

الجواز مقيَّد بقطع طمعهم في الفساد في الإسلام

فمن القيود: ما سبق من أن جواز أو وجوب ذلك مقيد بالعلة الغائية وهي قطع طمعهم في الفساد في الإسلام، وعليه: فإذا أنتج سبّهم مزيد طمعهم في الفساد في الإسلام أو مزيد قدرتهم علىالإفساد في الإسلام أو أنتج ابتعاد أهل العالم عنّا ورمينا بالتعصب وفقدان المنطق واللجوء بدله إلى العنف اللساني، حرم - والمرجع كما سبق الفقهاء وأهل الخبرة -.

ثالثاً: الفرق بين المبتدع وبين أهل الريب والبدعة

ثم إن الفرق بين المبتدع والمريب وبين أهل الريب والبدع كبير، وموضوع الرواية هو (أهل الريب والبدع) ولا يصدق هذا العنوان بالحمل الشائع على كل

ص: 89


1- واللف والنشر مرتّب، فتدبر فانها نقطة دقيقة في المبحث ودفع دخل مقدر.

من ارتأى رأياً هو بدعة أو قال بقول مريب.

ويوضحه: إن (أهل الفسق والفجور) أمر ومن غنّى أو رقص أو كذب أو اغتاب أمر آخر؛ فإن أهل الفسق والفجور لا يطلق إلا على من فَسَقَ عن أمر ربه وفَجَر مراراً عديدة بحيث يصدق عليه أنه من أهل الفسق والفجور دون ما إذا فعل ذلك مرة واحدة فقط!

مثال آخر: (أهل المسجد) لا ينطبق على من صلى في المسجد مرة واحدة أو مرتين كما لا يطلق (أهل الذكر والدعاء) على من دعا يوماً أو يومين.

بعبارة أخرى: إن «أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ» أخص من (المبتدع) وكان من الممكن أن تعبر الرواية الشريفة ب: (إذا رأيتم المبتدع فأكثروا من سبه) ولكن تعابير الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) دقيقة إلى أبعد الحدود وهي المحور في الأحكام لا توهمات المتوهمين! وعليه: فإذا صدق على شخص أنه أهل الريب والبدع كان هو موضوع هذه الرواية.

والحاصل: إن موضوع الحكم في الرواية خاص ب«أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ» ولا يعمّ كل مبتدع أي حتى من لم يطلق عليه أنه أهل الريب والبدع - فلا بد من التماس دليل آخر لو أريد التعميم لذلك - وإن المرجع في تشخيص ذلك هم مراجع التقليد العظام.

المرجعية للمراجع العظام وللخبراء والحكماء

وملخص ما سَبَق بعبارة موجزة: إن تشخيص البدعة والريبةوتمييز كون هذا من أهل الريب والبِدَع، هو من شؤون الفقيه الجامع للشرائط خاصة، وأنه لا يجوز لعامة الناس سبّ هذا أو لعن ذاك بدعوى أنه مبتدع أو ضال! فهذا أولاً.

وثانياً: إن تقدير آثار ونتائج الموقف من أهل الريب والبدع وأضراره

ص: 90

ومنافعه، بعد فرض ثبوت الموضوع وتشخيص الفقيه له، لا بد فيه من الرجوع إلى أهل الخبرة بعلم نفس الأمم وبعلم الاجتماع وغير ذلك إذ الخبراء هم المرجع في تقدير منافع وأضرار البدائل المتعددة والتي منها العنف بأنواعه ودرجاته كالسباب وغيره، ومنها انتهاج منهج التثقيف والتوعية مع التحلي بالأخلاق الفاضلة والسلم الفعّال والاحتواء العلمي والعاطفي، أو فقل: منهج (الموعظة الحسنة) و(الجدال بالتي هي أحسن).

هذا مضافاً إلى ما سيأتي من أن أيّ موقف يُتّخَذ فإنه لا يصح إقحام أكثرية المؤمنين فيه بدون (شورى الفقهاء) ورضا أكثرية المؤمنين حسب قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(1).

تمييز دائرة الاجتهاد عن دائرة أهل الريب والبدع

وتفصيل ما سبق بعبارة أخرى: إن الحكم في الرواية الشريفة معلّق على كون ذلك الأمر (بدعةً) و(ريباً) أولاً، وعلى كون القائل به أو المتصدي له من «أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ» ثانياً، وتشخيص كلا الأمرين ليس من شأن عامة الناس بل لا يمكن إلا للفقيه الجامع للشرائط تشخيص ذلك.

وتوضيح ذلك: إن هنالك دوائر أربع:

الدائرة الأولى: دائرة المجتهد، الدائرة الثانية: دائرة المبتدع، الدائرة الثالثة: دائرة أهل الريب والبدعة، الدائرة الرابعة: دائرة المخطِئ(2).

والرواية موضوعها الدائرة الثالثة، وتمييز مصاديقها عن الدوائر الرابعة والثانية والأُولى إنما هو من شأن العلماء الفقهاء،ويتضح ذلك أكثر بإيراد بعض الأمثلة:

ص: 91


1- سورة الشورى: 38.
2- الأعم من كونه مجتهداً أو عامياً.

هل القائل بسهو النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) من أهل الريب والبدعة؟

أ - هل القول بسهو النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بدعة؟ وهل الشيخ الصدوق رضوان اللّه تعالى عليه مثلاً القائل به مبتدع يجوز سبه أو لعنه؟

الجواب: قطعاً لا يجوز سبه ولعنه؛ فإن من المقطوع به أنه ليس من أهل الريب والبدع مع أن رأيه خطأ قطعاً، فإننا نقطع بأن قوله هذا لا يجعله في عداد أهل الريب والبدع، كيف وهو الذي قامت على أكتافه دعائم الدين وانتشرت ببركة كتبه أحاديث أئمة المسلمين صلوات اللّه عليهم اجمعين؟!

لكن العامي قد يتوهم ذلك فيرى مثله مبتدعاً يجب لعنه!

هل القول بالانسداد الكبير بدعة؟

ب - هل القول بالانسداد الكبير - كما ذهب إليه صاحب القوانين رضوان اللّه تعالى عليه - بدعة؟ وهل صاحبه من أهل الريب والبدع؟ كلا وألف كلا، لكن الجاهل قد تتملكه الحماسة على الدين فيزعم أنه مبتدع ضال لأنه يعتقد بانغلاق باب العلم والعلمي إلى أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ومن ثم فهو ينكر كون أحاديث الكافي ومن لا يحضره الفقيه وغيرهما، حجة من باب الظن الخاص المعتبر بالدليل الخاص بل يعتبرها من دائرة الظن المطلق الذي ليس بحجة ذاتاً أبداً إلا على انسداد باب العلم والعلمي!

هل تنويع الأحاديث بدعة وصاحبها من أهل البدع؟

ج - هل القول بتقسيم الحديث إلى أربعة أقسام: الصحيح، الحسن، الموثق، والضعيف، بدعة وصاحبها من أهل الريب والبدع؟ كلا وألف كلا، مع أن العامي بل وبعض علماء الأخبارية توهم ذلك فقال أحدهم على المحكي عنه:

ص: 92

بأن الإسلام هدم مرتين: مرة يوم السقيفة ومرة يوم وُلد الذي ابتكر هذا التصنيف الرباعي للأحاديث؟وذلك مع أن الأكثرية الساحقة من علماء الشيعة ارتضوا هذا التصنيف.

وإذا كان العالم أحياناً يخطئ في تشخيص المبتدع وأهل الريب والبدع فما بالك بالعامي الجاهل؟ ولذا قلنا أن المرجع هو المجتهد الجامع للشرائط بعد التداول، في تحديد الموقف، مع أهل الخبرة والاختصاص. بل المختار أن المرجع في الشؤون العامة هو شورى الفقهاء كما فصلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).

والغريب أن أعظم شخصية يعتزّ بها الأخباريون في القرون الأربعة الأخيرة كما يعتزّ بها الأصوليون، وهو العلامة المجلسي رضوان اللّه تعالى عليه، يعتمد هو الآخر على هذا التصنيف الرباعي في ترجيح الأحاديث المتعارضة بعضها على بعض فيرجح الصحيح على الحسن لأنه صحيح والآخر حسن ويرجح الحسن على الضعيف، فكان لا بد أن يكون هو أيضاً مبتدعاً من أهل الريب والبدع!!

والذي يوضح ما ذكرناه أكثر: إن القول بصوم الوصال بدعة، وإن صلاة التراويح بدعة، وإن الصلاة خمس ركعات بدعة، وكذا أمثالها وقد ورد: «وَصَوْمُ الْوِصَالِ حَرَامٌ وَصَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ وَصَوْمُ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ وَصَوْمُ الدَّهْرِ حَرَامٌ»(1) وأما القول بالانسداد الكبير فليس ببدعة، مع أن تلك الأمور مجرد مصاديق وأحكام فرعية وأما القائل بالانسداد الكبير فإنه يرى انسداد باب الدليل الظني المعتبر بالدليل الخاص على كل الأحكام الشرعية مطلقاً، ومع ذلك فليس مبتدعاً ولا هو من أهل البدع نظراً للفرق الجوهري بينهما وهو أن البدعة (إدخال ما ليس من الدين في الدين وإخراج ما هو من الدين منه) أما الانسدادي

ص: 93


1- الكافي: ج4 ص85.

فلا يفعل ذلك بالبداهة، بل غاية الأمر أنه يقيم دليلاً عاماً على حجية (الظنون الخاصة) التي أقام الآخرون عليها دليلاً خاصاً، فدليله وطريقه إلى الحكم مختلف أما المؤدى فهو حكم اللّه الواقعي أو الظاهري، بحسب كلا الطريقين: الظن الخاص والظن الانسدادي العام، ولكن ذلك مما لا يكاد يفهمهالعامي - سلباً أو إيجاباً - وإنما الذي يفهمه عن اجتهاد هو المجتهد الفقيه لا غير! ولو فهمه العامي فإنما هو عن تقليد ولو كان عن اجتهاد دون توفّره على الملكة لما كان حجة أبداً!

المرجعية للفقهاء والعلماء لا للشباب المتحمس!

إن كثيراً من العوام بطبعهم متحمسون، ولعل بعض الخواص كذلك، وكثيراً ما يثورون في قضية عامة أو شخصية لحماسهم الشديد وقد يعتبرون المنطلق غيرتهم على الدين، ولكنهم لا يجوز لهم ذلك!! إنما الواجب أن يرجعوا إلى الفقهاء الذين ألقى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) إليهم مقاليد الأمور: «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه»(1).

أرأيت أن العامي أو الشابّ المتحمس يحق له أن يرمي الفقيه بأنه مبتدع إذا رآه يفتي بجواز الزواج مع من ارتضعت معه أربع عشرة رضعة، رافعاً عقيرته بأنه: أرأيتم إن هذا يجيز الزواج من الأخت الرضاعية!! مع أن المسألة اجتهادية خلافية حسب اختلاف الروايات من كون العشر رضعات هي المحرمة أو الخمس عشرة رضعة! وكذلك حال سباب من يراه العامي مبتدعاً أو من أهل الريب والبدع مع أنه قد لا يكون كذلك أبداً في مقاييس الشريعة؛ ومزيد الأمثلة يوضح ذلك أكثر:

ص: 94


1- الاحتجاج: ج2 ص469.

هل القول بولاية الفقيه أو عدمها بدعة؟

د - هل القول بولاية الفقيه المطلقة بدعة؟ وهل صاحبها من أهل الريب والبدع لمجرد أنه قال بها؟ أو العكس: هل المنكر لولاية الفقيه المطلقة مبتدع؟ الجواب على كلا السؤالين: كلا وألف كلا، لكن الجاهل وحده من هذا الطرف أو ذاك هو من يتصور ذلك!

إن ولاية الفقيه المطلقة أو عدمها (أو الدرجات بينهما) ما هي إلا مسألة اجتهادية، وقد ذهب المشهور إلى عدم ولاية الفقيه المطلقة بينماذهب مثل صاحب الجواهر (رحمه اللّه) ومن قبله المولى النراقي (رحمه اللّه) إلى ثبوتها، وهم علماء أبرار أخيار وليس قول أي منهم بأي رأي في ذلك سبباً لأن يكون مبتدعاً أو ضالاً فكيف بأن يكون من أهل الريب والبدع؟ إلا أن الشباب أو الشيخ المتحمس، من هذا الطرف أو ذاك، قد (يكفّر) الطرف الآخر وليس مجرد أن يرميه بأنه ضال مبتدع!!

ه - وكذلك حال القائل بوجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة، أو بحرمتها؛ وكذلك حال الكثير الكثير جداً من المسائل الأخرى.

وموجز الكلام: إن المرجع في تشخيص دائرة البدعة وتمييزها عن دائرة الاجتهاد ودائرة الخطأ، هم العلماء الفقهاء، لا كل من رأى هذه الرواية الشريفة فأحس بالوظيفة الشرعية(!) فاندفع ليكفّر هذا أو ذاك أو يسبّ هذا أو ذاك متذرّعاً بأنه قد ارتكب البدعة وقال الباطل في مسألة تاريخية، أو فقهية، أو في ملحقات المسائل العقائدية!

ص: 95

ص: 96

الفصل الثالث: الأدلة على حرمة السبّ مطلقاً أو المستلزم لمحاذير

اشارة

ص: 97

ص: 98

الطائفة الثالثة: الأدلة الدالة على أحد أمرين:

الأول: الأدلة الدالة على حرمة السباب مطلقاً.

الثاني: الأدلة الدالة على حرمته إذا استلزم محذوراً ذكرته الآية الكريمة وعمّمته الروايات الشريفة.

أما القسم الأول فسيأتي.

وأما القسم الثاني فإنه ينقسم إلى نوعين:

النوع الأول: ما يدل على حرمة السباب إذا استلزم محذوراً خاصاً هو سبّ الأعداء لله تعالى، وعمدته الآية الشريفة: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) والآية واضحة الدلالة.

النوع الثاني: ما يدل على تعميم المحذور إلى ما استلزم سب وليّ اللّه أيضاً.

وبعض الكلام في التقسيم الثاني بنوعيه:

تعميم (وَلا تَسُبُّوا... ) إلى ما استلزم سبّ أولياء اللّه

إن الآية الشريفة: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) خاصة بسباب ما يعبده الكفار أي آلهة الكفار؛ إذ المراد ب:(الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) هو (ما يعبدون من دون اللّه) ووجه التعبير ب(يَدْعُونَ) لكونهم يدعونها آلهة أو لكونهم يدعونها في حوائجهم باعتبارها آلهة(1)،

فهي نهي

ص: 99


1- والأول أظهر.

عن سبّ آلهة قريش - أي لا تسبوا آلهتهم فيسبوا اللّه تعالى عدواناً بجهل منهم -.

ولكن من أين تعميم الحرمة إلى سباب غير الآلهة كرموزهم مثلاً، هذا أولاً.

وثانياً: الآية خاصة من جهة أخرى إذ إنها علّلت ب:(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولم تعمِّم إلى سبِّ غير اللّه تعالى كسبّ أحد المعصومين (عليهم السلام) أو أحد أولياء اللّه كسلمان وعمار وأبي ذر رضوان اللّه تعالى عليهم أو أمثال زرارة وحمران ويونس ابن عبد الرحمن أو أعاظم الفقهاء كالطوسي والحلي والأردبيلي والأنصاري رحمهم اللّه وسائر الفقهاء الأخيار ومراجع التقليد الأبرار.

والجواب عن الوجه الأول واضح: وذلك لأن سب رموزهم إن استجلب سبّ اللّه تعالى فرضاً فهو داخل قطعاً في دليل الحرمة لا للحاظ الأولوية العرفية فحسب بل لاندراجه أيضاً في العلة المصرح بها في الآية الشريفة: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أفهل(1) ترى أن يحرّم اللّه تعالى سبّ إلهتهم بسبب أنهم سينتقمون بسب اللّه تعالى، ومع ذلك يجيز سبّ رموزهم حتى لو انتقموا بسبّ اللّه تعالى!!

والجواب عن الوجه الثاني: إن التعميم مستند إلى الروايات الصريحة في هذا الحقل حيث عمَّمت تحريم سباب ما يعبدونه إلى ما لو استلزم ذلك سبّ أولياء اللّه تعالى، وليس مستنداً إلى تنقيح المناط لأنه ظني بل المناط هنا أضعف فلا وجه للاستناد إليه.

«مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ»

ومن الروايات: عَنْ عُمَرَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

ص: 100


1- هذا وجه الأولوية.

قَالَ: فَقَالَ (عليه السلام): «يَا عُمَرُ رَأَيْتَ أَحَداً يَسُبُّ اللَّهَ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ فَكَيْفَ؟ قَالَ (عليه السلام): «مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ»(1) فهذه الرواية صريحة في التعميم والتنزيل.

وهناك روايات عديدة تفيد هذا المضمون ومنها ما سننقله من رواية الكافي الآتية حيث ورد فيها: «وَقَدْ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا حَدَّ سَبِّهِمْ لِلَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ إِنَّهُ مَنْ سَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ سَبَّ اللَّهِ وَمَنْأَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اسْتَسَبَّ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ»(2).

والناتج من ذلك كله: أنه لا يجوز سبّ آلهة الكفار ولا سب رموزهم ومقدساتهم، إذا استلزم ذلك سبهم لله تعالى أو لأولياء اللّه.

ثم إن بعض هذه الروايات الشريفة تحدد ضوابط لسب أعداء اللّه، ومنها ما يفيد أن (سبّهم حيث يسمعونكم محرم) دون (سبهم في المجالس الخاصة بالشيعة)، فهذه أخص من روايات الطائفة الثانية أو حاكمة عليها فتفيد تقييدها، والحاصل أن السب لأعداء اللّه على قسمين: سبهم حيث يسمعونكم كما لو سبهم في الإذاعة أو الفضائيات أو في مجالسهم أو في حضورهم فإن الرواية تفيد حرمته، وسبّهم في مجاميعنا الخاصة، وسيأتي البحث عن الضوابط العامة في آخر الكتاب بإذن اللّه تعالى.

«إياكم وسبّ أعداء اللّه حيث يسمعونكم»

ومن الروايات الدالة على بعض الضوابط والقيود، والدالة أيضاً على تعميم حرمة السباب لما استتبع سبّ أولياء اللّه: ما ورد في روضة الكافي في

ص: 101


1- تفسير العياشي: ج1 ص373.
2- الكافي: ج8 ص7.

حديث طويل عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَجَامِلُوا النَّاسَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَسَبَّ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَيْثُ يَسْمَعُونَكُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا حَدَّ سَبِّهِمْ لِلَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ إِنَّهُ مَنْ سَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ سَبَّ اللَّهِ وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اسْتَسَبَّ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَمَهْلًا مَهْلًا فَاتَّبِعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»(1).

وقوله (عليه السلام): «وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ» أي لا تستفزونهم أو تفعلوا ما يحملهم على الإضرار بكم، وعليه: فأي عمل عنيف من سبٍّ أو بطش بهم مما يسبب تهييجهم ضدنا حرام(2)، و«تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ» أي إذا لم تحملوهم على رقابكم فإنكم تجمعون بذلكخير الدنيا والآخرة: أما خير الدنيا فهو الأمن من ضررهم، وأما خير الآخرة فهو إنكم بذلك تكونون مطيعين لربكم فتستحقون الثواب.

والرواية صريحة في التعميم وفي توسعة دائرة حدّ السب المحرّم إلى ما استلزم سبّ أولياء اللّه تعالى.

وقوله «اسْتَسَبَّ» من باب الاستفعال أي استجلب بسبابه هذا سبابهم لأولياء اللّه تعالى.

وفي قوله: «فَمَهْلًا مَهْلًا» دلالة بالغة على ضرورة ضبط النفس وكظم الغيظ على ما نراه من الأذى منهم وأنه يجب الصبر وتحرم المسارعة إلى سبهم انتقاماً منهم أو ابتداءً منّا، وقد صرح (عليه السلام) بأن ذلك أمر اللّه وقال: «فَاتَّبِعُوا أَمْرَ اللَّهِ» فمن لم يسبهم في مجالسهم وحيث يسمعونه فهو المتّبع أمر اللّه وإلا فهو عاص لله وهو يحسب انه يحسن صنعاً!

ص: 102


1- الكافي: ج8 ص7.
2- وسيأتي بحث صورة باب التزاحم، إذ كلامنا الآن في حدود الطائفة الثالثة.

قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(1) و(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً)(2).

«لَا تَسُبُّوهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسُبُّون عَلَيْكُمْ»

ومما يفيد التعميم للجهتين السابقتين - حرمة سبّ حتى رموزهم، وحرمة ما يستجلب سبّ أولياء اللّه لاما يوجب سب اللّه تعالى فقط - من ضمن أدلة الطائفة الثالثة: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «لَا تَسُبُّوهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسُبُّون عَلَيْكُمْ فَقَالَ: مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لِعَلِيٍّ (عليه السلام) مَنْ سَبَّكَ فَقَدْ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ فَقَدْ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى مَنْخِرَيْهِ فِي النَّارِ»(3) وقوله: «يَسُبُّون عَلَيْكُمْ» مبني على التضمين أي يحملون عليكم ويهجمون عليكم، وذلك وإن احتمل أن تكون مصحّفة والأصل (يسبونكم).

وقال العلامة المجلسي (رحمه اللّه): (ولنرجع إلى تفسير الآيات على قولالمفسرين (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قالوا أي لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً) أي تجاوزاً عن الحق إلى الباطل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي على جهالة باللّه وما يجب أن يُذكر به، وأقول: على تأويلهم (عليهم السلام) يحتمل أن يكون المعنى بغير علم أن سب أولياء اللّه سب لله)(4).

وقوله (يحتمل...) إشارة إلى نكتة هامة جداً وهي أن (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً

ص: 103


1- سورة آل عمران: 31.
2- سورة النساء: 65.
3- بحار الأنوار: ج71 ص217.
4- بحار الأنوار: ج71 ص218.

بِغَيْرِ عِلْمٍ) إما أن يراد به بغير علم مطابقٍ للواقع بل هو بجهل مركب لأن قطعهم ليس بعلم بل هو جهل فمرجع ضمير منهم المقدّر هو للكفار، أو يراد(بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير علم من المؤمنين بأن سبّ أولياء اللّه هو سب لله تعالى إذ قد لا يعدونه عظيماً ويستسهلون أن يسبوا معبودات المشركين إذا كان رد الفعل فقط هو سبهم أولياء اللّه فقط!

«لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»

وأما القسم الأول - الأدلة على حرمة السباب مطلقاً - فهو طوائف الروايات التي يستظهر منها النهي عن سباب الآخرين مطلقاً؛ وذلك لظهور كونها معللة بأنها تجلب عدواتهم، وذلك مثل قوله (عليه السلام) في الصحيح: عَنْهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ: لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»(1).

والرواية صحيحة السند، و«لَا تَسُبُّوا» نهيٌ وهو ظاهر في الحرمة و(الناس) عام يشمل كافة الأشخاص، والمراد أما عامة البشر لأن الناس في اللغة والعرف يراد بهم كل إنسان، وأما خصوص أهل العامة إذا ثبت أن للناس اصطلاحاً آخر في لسان الشارع وهو أهل العامة أي أنه وضع بالوضع التعيني لهم،والمستظهر أنه لا يرفع اليد عن المعنى العام للناس (الشامل لكل البشر) إلا مع وجود قرينة على إرادة المعنى الأخص لعدم ثبوت النقل في لسانهم (عليهم السلام) ثم إن غاية الأمر القول بالاشتراك اللفظي، ولكن التعليل في الرواية يصلح قرينة على التعميم إذ سبّ كل إنسان يستجلب العداوة وليس سبّ أهل العامة فقط، بل العلة معممة

ص: 104


1- الكافي: ج2 ص360.

ومخصصة، والظاهر أن (فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ) عِلّة بشهادة الارتكاز والوجدان والفهم العرفي، فتدبر.

وهذه الآية تضيف مفهوماً جديداً على المستفاد من الآية الكريمة: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)؛ فإن الآية حرّمت سبّ الذين يعبدون من دون اللّه إذا أدى سبهم إلى أن يسبوا اللّه عدواً بغير علم، والرواية الكريمة تفيد حرمة السب أيضاً إذا أدى إلى استجلاب عداوة الناس، وهذا يعني حرمة سب الناس وإن لم يستجلب سبهم لنا بل استلزم فقط عداوتهم لنا؛ وذلك لأن الكثير من الآخرين إذا سببتهم فقد لا يسبونك ولا يسبون اللّه ولا المعصومين (عليهم السلام) ولا العلماء الربانيين، وذلك إما لأن ثقافتهم لا تتناغم مع السباب، وأما لكونهم عاجزين عن السب لخوفهم منا فرضاً - إذا كانت القوة القاهرة لنا - فيكنّون العداوة لنا حينئذٍ، وإما لأنهم جرى دأبهم على رد السباب بالأفعال والتخطيط الاستراتيجي البعيد المدى ضدنا، أو لغير ذلك.

والحاصل: إن العلة في النهي عن سباب الناس أمران: الأول: هو ما ذكرته الآية الكريمة (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) والثاني: هو ما ذكرته الرواية الشريفة «فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ» فأيّ منهما تحقق حَرُم السبّ.

سبّ الرموز الدينية أو السياسية أو الاجتماعية

هذا كله من جهة ومن جهة أخرى فإن «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ» عام يشمل سبّ الرموز (الدينية) للطرف الآخر، كما يشمل سب الرموز (السياسية) كرؤساء الدول أو المنظمات الدولية، و(الاجتماعية) كرؤساء العشائر ومؤسسات المجتمع المدني، و(العسكرية)و(الاقتصادية)، فإن سبّ كل أولئك مشمول للرواية الكريمة «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ» نعم لو فرض أنك إذا سببته لا

ص: 105

ينزعج بذلك أبداً ولا يعاديك بل فرضنا أنه يزداد لك حباً(!) فإن هذا النوع من السباب خارج حينئذٍ عن دائرة هذه الرواية ولكنه يندرج تحت دائرة روايات أخرى أو تحت الأصل الأولي العام من الطائفة الأولى من طوائف الروايات.

«وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»

ثم إن هناك رواية ثانية تضيف مفهوماً جديداً ومحذوراً آخر يُنتج حرمة السب حينذاك أيضاً، والرواية هي: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم): مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَالرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ» ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «خَالِطُوا الْأَبْرَارَ سِرّاً، وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ مِنْ ذَوِي الدِّينِ إِلَّا مَنْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَبْلَهُ، وَصَبَّرَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُقَالَ [لَهُ] إِنَّهُ أَبْلَهُ لَا عَقْلَ لَهُ»(1) وهذه الرواية تفيد حرمة مطلق الميل عليهم - وسيأتي معناه بإذن اللّه تعالى - إذا أدى ذلك إلى ظلمهم لنا، ومن الواضح أن ظلمهم لنا أعم جداً من سبهم لنا لأن السب هو أحد أنواع الظلم، فكل ما أدى إلى ظلمهم لنا بسبٍ أو مصادرة أموال أو سجنٍ أو نفي أو تعذيب أو تخويف أو غير ذلك، فهو منهي عنه، إلا ما دخل في باب التزاحم وأحرز الفقيه الجامع للشرائط أهميته وأولويته من درجة ظلمهم لنا - وسيأتي بإذن اللّه تفصيل ذلك في ضمن الطائفة الرابعة من الأخبار -.

والرواية الشريفة تفيد وجوب مخالطة الأبرار بالخلطة الحسنة سراً، والتقييد بالسرّ يراد به صورة التقية أي صورة ما لو أضرّ بالأخيار الأشرارُ لو ظهرت العلاقة الحسنة بين الأبرار، كما تدل على وجوب المخالطة الحسنة في الظاهر مع

ص: 106


1- الكافي: ج2 ص117.

الفجار، وهل تَرى أنسبابهم أو سباب رموزهم هو من المخالطة الحسنة؟ بل حرّم الإمام (عليه السلام) مطلق الميل عليهم - وقد فسرها البعض بمعارضتهم إرادةً للغلبة عليهم بأي نحوٍ من الأنحاء، وسيأتي - إذا استلزم ظلمهم لنا كما سبق.

الحذر والتوقي من المضاعفات المستقبلية

بل إن الغريب أن هذه الرواية إما عامة للمستقبل أو هي خاصة به بقرينة قوله (عليه السلام): «فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ...» فإن ظاهره أن النهي عن سبنا لهم إذا استلزم ظلمهم لنا في المستقبل أو ولو في المستقبل - والأول على تخصيص المراد بالرواية بالمستقبل والثاني على التعميم -.

وذلك يعني أن سبّ بعض الفجار أو الميل عليه بما يستلزم أن يظلمونا أو أولادنا في المستقبل، محرّم علينا؛ ومفاد الرواية أن النجاة في أن لا تميل عليهم وإن كنت قادراً حتى يظنونك أنك أبله إذ إنك قادر على الميل عليهم والانتقام منهم ولا تفعل! لكنك لست بأبله إنما تأتمر بأمر الأئمة الهداة وتستشرف المستقبل والعواقب والمآلات فإنك وإن كنت الأقوى الآن إلا أن (الدَّهْرُ بالإِنْسَان دَوَّارِيُّ) وكثيراً ما تنقلب الأحوال (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(1) فتحين ساعة انتقامهم حينئذٍ لا سمح اللّه.

والحاصل: إن الإمام (عليه السلام) نهانا عن أن نميل عليهم إذا استلزم ذلك ظلمهم لنا في الحال أو في الاستقبال ولعلنا سنعقد بحثاً خاصاً حول الآية الشريفة.

ثم إن هناك رواية أخرى (ثالثة) تضيف مفهوماً جديداً بل مفاهيم جديدة والرواية هي:

ص: 107


1- سورة آل عمران: 140.

«يَا مُوسَى... أَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ»

عَنْ حَبِيبٍ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) يَا مُوسَى اكْتُمْ مَكْتُومَ سِرِّي فِي سَرِيرَتِكَ وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي وَلَا تَسْتَسِبَّ لِي عِنْدَهُمْ بِإِظْهَارِ مَكْتُومِ سِرِّي فَتُشْرِكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي فِي سَبِّي»(1).

والمستفاد من الرواية الشريفة أمور:

كتمان السر وإظهار المداراة واجبان

الأول: إن كتمان السرّ واجب - ومنه بيان بعض المناقب إذا كان الطرف الآخر لا يتحملها حيثما أدى ذلك إلى مضاعفات سلبية - وإن إظهار المداراة لعدو اللّه وعدوك(2) واجب(3)، وإن استسبابهم حرام بمعنى فعل أي شيء يستلزم سبّهم لنا، كسبهم أو سب رموزهم أو غير ذلك إذا استلزم سبهم لله تعالى.

ووجه الوجوب: ظهور صيغة الأمر (أكتم، أظهر) في الوجوب وظهور صيغة النهي (لا تستسب) في الحرمة، وقد فصّلنا في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) إن الأصل في الأوامر والنواهي هو المولوية دون الإرشادية، بل فصّلنا أن الأصل في الإرشادية منها الوجوب أو الحرمة الإرشادية كما أوضحنا ذلك في مباحث (البيع) أيضاً عند الحديث عن النهي في قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم): (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(4).

ص: 108


1- الكافي: ج2 ص117.
2- والضمير لموسى (عليه السلام) أو مطلق المؤمنين.
3- مطلقاً أو في الجملة.
4- سورة النساء: 29.

مداراة أعداء اللّه ومداراة أعدائك

الثاني: إن المداراة واجبة لفريقين: أولهما أعداء اللّه تعالى، وثانيهما: أعداء الشخص نفسه، فيما إذا قلنا بأن المراد من «وَعَدُوِّكَمِنْ خَلْقِي» عدو المكلف نفسه لا عدو موسى خاصة وإنه إنما (عليه السلام) ذكر لأنه طرف الخطاب لا لحصر الحكم به، إذ الأصل في خطاب الأنبياء عموم الحكم دون خصوصه إلا أن يدل دليل خاص على ذلك، فتأمل.

وعلى أي فإن استظهرنا التعميم، كما قد تشهد به الروايات العامة الأخرى فإنه تجب مداراة أعداء الدين كما تجب مداراة الأعداء الشخصيين، وذلك مما لا شك فيه إذا استلزم ترك مداراتهم للضرر علينا فإن التسبيب إلى الإضرار بالنفس أو العِرض حرام وإن توسَّطَ الفاعلُ بالاختيار، فتدبر؛ وقد فصّلنا ذلك في مبحث حرمة الإعانة على الإثم من مبحث (الأصول) باب التزاحم، فراجع(1).

المداراة للأعداء هو منهج الأديان السماوية كلها

الثالث: إن المستظهر من ضم هذه الرواية إلى سائر الروايات، أن منهج مداراة الأعداء هو منهج عام في كل الشرائع السماوية وليس خاصاً بالدين الإسلامي فقط، ولذلك ينقل الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الوصية من اللّه تعالى لموسى (عليه السلام) في التوراة الأصلية، وذلك مما يحكم به العقل، كأصل عام وقاعدة عامة، فالخروج عنها هو المحتاج للدليل، والعقل هو الحاكم على طبق مثل الرواية التالية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»(2).

ص: 109


1- راجع موقع مؤسسة التقى الثقافية : m-alshirazi.com.
2- الكافي: ج2 ص119.

إذا سببت آلهتهم فقد أشركت باللّه تعالى!

ثم إنه لعل الكثير منا يجد من الغريب أن يُعَدَّ سب آلهة الكفار ورموزهم أو إظهار سرّ اللّه تعالى نوعاً من الشرك باللّه تعالى إذا استلزم سبهم لله تعالى، ولكن ذلك هو صريح الرواية التالية: عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلی اللّه علیه وآله وسلم): إِنَّ الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ؟ فقَالَ(عليه السلام): كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسُبُّونَ مَا يَعْبُدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسُبُّونَ مَا يَعْبُدُ الْمُؤْمِنُونَ فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ لِكَيْلَا يَسُبَّ الْكُفَّارُ إِلَهَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَالَ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) »(1).

وبعبارة أخرى: إن الشرك على قسمين: 1- الشرك المباشر 2- الشرك غير المباشر أو الشرك بالواسطة؛ فالأول: هو أن يسب الشخصُ اللّهَ تعالى - والعياذ باللّه - مباشرةً، والثاني: هو أن يسب كافراً فيسب ذلك الكافر اللّه تعالى، فحيث كنت أنت السبب الباعث له ليسب اللّه تعالى فأنت - حسب الرواية - مشرك بالشرك الخفي باللّه جلّ اسمه.

ويحتمل في التعبير عنه بالشرك الخفي كونه شركاً تنزيلياً لأن هذا(2)

فعل المشرك فمن فعل ما يسبّبه كان بمنزلته، وقد يكون شركاً حقيقياً ببعض مراتبه إذ إنه يضاد توحيد العبادة والطاعة.

فقد ظهر بذلك أن مطلق سب الآخرين إذا استلزم سب اللّه تعالى أو عداوتهم لنا أو ظلمهم لنا، فهو منهي عنه في الشريعة، فلا بد لمن يريد الاستثناء من إقامة الدليل.

ص: 110


1- تفسير القمي: ج1 ص213.
2- سب اللّه تعالى والعياذ باللّه.

الفصل الرابع: تعارض الروايات أو تزاحمها

اشارة

ص: 111

ص: 112

هل روايات (السباب) متعارضة أو متزاحمة؟

الطائفة الرابعة: الأدلة التي يستفاد منها تزاحم المصالح والمفاسد في (السباب) لبعض الناس في بعض الصور، وذلك موقوف على إخراج الأدلة المتخالفة عن باب التعارض أولاً وإدخالها في باب التزاحم ثانياً، وفي هذا الفصل نبدأ أولاً بدراسة الأدلة المتخالفة في مبحث السباب، على مبنى التعارض - المستقر أو غيره - أولاً، ثم ندرسها على مبنى (التزاحم) المنصور لدينا ثانياً، فنقول:

التعارض يبتني على تكاذب الدليلين مما ينتج عدم ثبوت الملاك إلا في أحدهما وهو الراجح منهما بالمرجحات المنصوصة أو الأعم - على مبنى الشيخ (رحمه اللّه) - ووجود الخلل في صدور الآخر - أو جهة صدوره أو إرادته بالإرادة الجدية (1)- وأما لدى التساوي فالتساقط هو الأصل الأولي والتخيير - الظاهري(2) - هو الأصل الثانوي مما يكشف عن عدم توفرهما معاً على الملاك ثبوتاً، بل أحدهما فقط أو لا شيء منهما، فتأمل.

والتزاحم يبتني على تسليم صدورهما واحتواء كل منهما على الملاك ولكن حيث ضاقت قدرة العبد عن الجمع بينهما حدث التدافع العرضي والتزاحم، وعليه يجب تقديم الأهم، وذلك مما يقع بعهدة المكلف في التزاحم

ص: 113


1- فتأمل، لأنها ليست على مساق واحد.
2- أو الواقعي فتأمل.

الامتثالي وبعهدة المولى في التزاحم الملاكي.

ثم لقد ظهر مما مضى، وسيظهر أكثر مما سيأتي، إن الآيات والروايات التي تتطرق بنحو ما وبشكل مباشر أو غير مباشر، إلى قضية السباب وحكمه، تبدو في بادئ النظر متخالفة، ولكن الصحيحغير ذلك، ولكي نحصل على رؤية متكاملة للمنظومة الفكرية الإسلامية في موضوعة العلاقة مع الآخر من زاوية الأداء اللفظي ومطلق ما يعبّر عن مكنون الضمير، لا بد من أن ندرس تلك الأدلة على ضوء قواعد باب التعارض (المستقر أو غير المستقر) أولاً ثم على ضوء قواعد باب التزاحم - الذي نرى أنه الأصح - ثانياً، فنقول:

إن المشكلة التي تعترض هذه الروايات هي أنها متعارضة، حسب النظرة البدوية:

تعارض «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» مع «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»

فقد ورد قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ»(1).

ولكن ورد أيضاً قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(2) وكلا المصدرين (الكافي ونهج البلاغة) في أعلى درجات الاعتبار، كما سيأتي(3).

ص: 114


1- الكافي: ج2 ص275.
2- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الخطبة 206/ بحار الأنوار: ج 32 561 ح 466.
3- بل ورد أيضاً في صحيحة أبي بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ» ، وقد مضت الرواية، فاللازم أيضاً ملاحظة نسبتها مع رواية «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» على أن مضمونها يعضد رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ».

والروايتان متعارضتان، ولا يمكن القول أن الثانية أعم من الأولى فتخصصها الأولى(1) وذلك لأنه يستلزم إخراج المورد القبيح؛ وذلك لأن الثانية واردة في مورد الرواية الأولى فإنها وردت في معاوية وصحبه حيث كان أصحاب الإمام علي (عليه السلام) ومنهم عمرو بنالحَمِقِ الخزاعي وحُجرُ بن عَدِيّ يسبون معاوية قبل معركة صفين أو في أثنائها ومن الواضح أن معاوية كان من أظهر مصاديق أهل الريب والبدع إذ ما أكثر وأسوأ البدع التي ابتدعها في الإسلام، وقد كان من أكثرها فجيعة وفحشاً سنُّهُ سنّةَ سبّ أمير المؤمنين وباب مدينة علم رسول رب العالمين صلوات اللّه وسلامه عليهما وعلى آلهما، على المنابر.

وجوه العلاج

وحسب قواعد باب التعادل والتراجيح فإن اللازم بعد ثبوت أدنى درجات الحجية لكل من الروايتين الفحص عن وجوه الجمع العرفية بين الروايات التي تبدو متعارضة فإن وجدنا جمعاً عرفياً أو وجدنا جمعاً شهدت به روايات أخرى أو قرائن في إحدى الروايتين فكلتاهما حجة فعليه - لا أنها حجة اقتضائية فحسب - فيعمل بهما، وإلا فالمرجع قواعد باب التعارض المستقر حينئذٍ من الرجوع إلى المرجحات المنصوصة على المشهور أو الأعم من المنصوصة وغيرها حسب رأي الشيخ الانصاري (رحمه اللّه) ومن تبعه، فيرجح بمطلق ما يوجب الأقربية للواقع أو الظن به، فإن فقدت فالأصل الأولي لدى المشهور التساقط والأصل الثانوي التخيير في الروايات كأصل عملي على رأي وكأمارة نوعية على رأي آخر، وأما المنصور فهو أن التخيير أصل أولي حينئذٍ، وذلك كله على غير رأي الآخوند (رحمه اللّه) الذي يرى الترجيح بالمرجحات تفضيلياً لا إلزامياً.

ص: 115


1- أي ليكون مفادهما: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين إلا لأهل الريب والبدع.

وسيأتي تفصيل أكثر حول وجوه وخطوات معالجة الروايات المتعارضة في السباب.

وجه جمع عرفي: تعدد إطلاقات (السباب)

وقد يقال: إن هناك وجهَ جمع بين الروايتين وتدل عليه شواهد من الرواية الثانية ومن روايات أخرى أيضاً، ووجه الجمع هذا يبتني علىتحقيق أمر هام جداً لم أجد من طرحه فيمن رأيت كلماتهم(1)، وهو إن للسبّ إطلاقين، أي: له معنيان وليس ذا معنى واحد، فلم يَرِد النفي والإثبات في الروايتين على أمر واحد:

والإطلاقان هما:

أولاً: السبّ بالمعنى الأول، وقد نعبّر عنه بالسب بالمعنى الأخص أو بالسبِّ العَلَمي وهو المتفق عليه أنه سبّ والذي لم يناقش فيه أحد وذلك كقولك لزيد: يا كلب أو يا حمار وما أشبه ذلك.

ثانياً: السبّ بالمعنى الثاني، وقد نعبّر عنه بالسب بالمعنى الأعم أو السبِّ الوصْفي، وهذا الذي قد يختلف العرف والعلماء في إطلاق السب عليه وعدمه كقولك للمنحرف: يا منحرف، أو يا ضال، وكقولك للحاكم الجائر: يا مستبد يا دكتاتور أو يا اوليغارشي، أو كقولك عنه: إنه يسرق أموال بيت المال أو ما أشبه، وهذا الذي قد يختلف الناس في صحة إطلاقه وفي صدقه وعدمه كما أنك لو قلت له: (أنك مستبد ظالم) فيقول: لقد سببتني أو يقول: إن فلاناً سبني، فتجيب أنني لم أسبك بل وصفتك بواقع حالك وبما أنت عليه من قبيح فعالك وخصالك.

والواقع هو أن النفي والإثبات في كلامهما 3 لم يردا على معنى واحد

ص: 116


1- والاستقراء ليس بتام طبعاً.

بل المثبت يريد السب بالمعنى الثاني والنافي ينفي السب بالمعنى الأول.

فالمنفي السبُّ العَلَمي والمثبَت السبُّ الوصفي

والمستظهر في الجمع بين الروايتين - إن لم نقل وكما سيأتي بيانه بأنهما من باب التزاحم وليس من باب التعارض البدوي ولا المستقر - أن السبّ في رواية الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) - «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» - يراد به سبّهم بالمعنى الثاني الوصفي أي وصف أعمالهم المنحرفة وذكر حالهم من الضلالة وأنواع المفاسد، وليس المراد السب بالمعنى الأول العَلَمي.بينما المراد من السبّ المنفي في رواية الأمير (عليه السلام) السبّ بالمعنى الأول العَلَمي الأخص فهذا هو الذي كرهه الأمير (عليه السلام) لا المعنى الثاني الوصفي فإنه صريح في مطالبته به.

«كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»، شاهد جمع

وتتمة الرواية تصلح شاهد جمع فإنه صريح في قوله: «وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ» فإن أعمالهم تضمنت:

أ - سفك دماء الأبرياء في أنحاء البلاد وفي الحروب بل قد اشتهر معاوية بقتل المعارضين غِيلة بجنود من عسل أو غيرها.

ب - وإرشاء الناس ليقولوا الباطل كما في قضية سمرة ووضعه نسبة آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...)(1) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): فقد «قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْكَافِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَذَلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَرْوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ

ص: 117


1- سورة البقرة: 204 - 205.

اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) وَأَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ مُلْجَمٍ وَهِيَ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَقَبِلَ»(1).

ج - كما كان من أعمالهم نهب أموال بيت مال المسلمين.

د - والإسراف والتبذير بشكل رهيب.

ه- - وبيع الخمور وشربها وغير ذلك، فوصفهم بهذه كلها لا تعد سباباً بالمعنى الأول العَلَمي الأخص لكنها من السباب بالمعنى الثاني الوصفي، وكلام الإمام (عليه السلام) صريح في نفي العَلَمي وإثبات المعنى الوصفي - الذي يسميه بعض العرف على الأقل سباً - ف- «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» هذا هو المعنى الأول العَلَمي «وَلَكِنَّكُمْ لَوْوَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ» فهذا هو المعنى الثاني الوصفي، وقوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» يحمل على المعنى الثاني أي وصف أعمالهم الفاسدة وحالهم من الفساد والضلال فإن هذا هو الأصوب في القول والأبلغ في العذر بل السباب بالمعنى العَلَمي الأخص ليس من العذر في شيء أبداً فإن الإنسان إذا ذكر بكل موضوعية وبطريقة علمية وجوه انحراف الطرف الآخر وضلاله وفساده كان «أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ» أما إذا سبه بالمعنى الأخص العَلَمي فإنه لا يشكل إعذاراً ولا تبليغاً للرسالة، كما أن ذكر حالهم وأعمالهم أصوب في القول عكس السبّ العَلَمي فأما إنه ليس بصائب أصلاً أو إنه أقل صواباً وأضعف.

احتمالان في «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»

ومن هنا يظهر أن قوله (عليه السلام): «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ» يحتمل فيه معنيان:

ص: 118


1- الغارات: ج2 ص840 - 841/ شرح نهج البلاغة: ج4 ص73.

تجريدهما من معنى الأفضلية

الأول: أن يكون (عليه السلام) قد جرّد أفعل التفضيل من معناه وهو التفضيل فلا يكون كلا الطرفين واجداً لمبدأ الاشتقاق مع رجحان أحدهما على الآخر بل أحدهما واجدٌ لمبدأ الاشتقاق والآخر فاقدٌ، نظير (قُلِ اللَّهُ يَهْدي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1) فإن (أحق) أفضل تفضيل وقد جرّد من المفاضلة وأريد به أصله أي أنه حقيق بأن يتبع ولا يراد التفضيل حقيقة إذ لا وجه لأن يقال: الباطل حقيق بأن يتبع والحق أحق أن يتبع!.

وعلى هذا المعنى يكون المراد أن وصف أعمالهم وذكر حالهم هو الصواب من القول وإن سبابهم ليس صواباً أصلاً، فعلى هذاتتعارض - بدواً - الرواية مع رواية الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» فيجمع بما سلف من أن مراد الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) هو مراد الأمير (عليه السلام) في كلا الشقين، أي أكثروا من وصف أعمالهم وذكر حالهم؛ فإن ضم الروايتين بعضهما إلى بعض يفيد ذلك فإن كلام أولهم ككلام آخرهم وكلام آخرهم ككلام أولهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، والكلامان الصادران من معصومَين 3 ككلامٍ واحدٍ في مجلسٍ واحدٍ صادرٍ من معصوم واحد، وبذلك يظهر بوضوح وجه الجمع بين الروايتين عندما نضم أحداهما إلى الأخرى ونفترضهما صادرتين في مجلس واحد من الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) نفسه أو الأمير (عليه السلام) نفسه فإنه مع لحاظ الجمع الذي ذكرناه لا يرى العرف تعارضاً أبداً بل يرى التكامل المحض.

ص: 119


1- سورة يونس: 35.

عدم التجريد

الثاني: أن لا يكون (عليه السلام) قد جرّده من معنى التفضيل فيكون المعنى: إن السب بالمعنى الثاني - وهو ذكر أعمالهم وحالهم - أصوب وأبلغ، ولكن السب بالمعنى الأول أيضاً صائب وبليغ، ولكن هذا المعنى لا ينسجم مع قوله (عليه السلام) في صدر الرواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» أما بناءً على أن الكراهة في لسان الرسول والأئمة (عليهم السلام) تعني(1) الحرمة، ولم تكن الكراهة المصطلحة التي هي أحد الأحكام الخمسة المعروفة مستعملة في كلماتهم (عليهم السلام) أبداً، فلأن (أكره) يفيد الحرمة فكيف يجمع مع كون السب بالمعنى الأخص صواباً من القول وعذراً؟!

وأما بناءً على أن (أكره) يراد بها الكراهة المصطلحة أو أنها أعم منهما - الحرمة والكراهة المصطلحة - فلأنه لا يجتمع مع كون السباب صواباً وبلاغاً وعذراً إذ لا شيء من الصواب والعذر في التبليغ بمكروه للشارع الأقدس، سلّمنا لكنه مع ذلك تبقى الرواية معارضة لرواية الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) - لولا الجمع الذي ذكرناه - إذ لا يجتمع كونالسب مكروهاً حسب رواية الإمام مع أمر النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) به «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» الذي يفيد وجوبه أو على الأقل استحبابه، ومن الواضح أن الكراهة لا تجتمع مع الاستحباب فضلاً عن الوجوب، فتدبر تعرف.

شاهد جمع آخر بين الروايتين

فكل ذلك كان هو القرينة من رواية الإمام (عليه السلام) على وجه الجمع الذي ذكرناه، وأما القرائن من الروايات الأخرى فكثيرة نكتفي هنا بذكر إحداها فقط:

ص: 120


1- كما استظهرناه في كتاب (المكاسب).

قوله (عليه السلام): «لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ»

فقد ورد أنه قال الصَّادق (عليه السلام): «فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ»(1) ومن البديهي أن السب بالمعنى الوصفي المذكور في رواية الأمير (عليه السلام) - «وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ» - هو الذي يفصم عرى الكافرين ويزيل شبههم، أما السب بالمعنى الأول العَلَمي - كقولك عنه إنه كلب مسعور مثلاً - فإنه لا يزيل شبهتهم بل يؤكدها لدى الكثير منهم إذ يحتجون بأنك حيث فقدت الحجة والمنطق لجأت للسباب والشتيمة! كما أن وصف حالهم وأعمالهم هو الذي يقطع عراهم، أما سبهم بالمعنى الأخص فإنه يقوي - عادة - عراهم ويوثقها إذ إن ذلك يستثير فيهم القوة الغضبية والعصبية الجاهلية فيزدادون عناداً ولجاجاً وإنكاراً وجحوداً.

ومن ذلك كله يعلم أن المطلوب من «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» هو نفس المطلوب من رواية الأمير (عليه السلام) «وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ» وأن هذا هو الذي يحقق الهدفين اللذين ذكرهما الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) تماماً أو بما لا قياس مع السباب بالمعنى العَلَمي، والهدفان هما «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» فإن الناس إذا عرفوا ضلالهم وأنهم سراقالمال العام مثلاً وأنهم مرابون وسفاكون للدماء وما أشبه ذلك، احترسوا منهم؛ أما لو سببتهم بالمعنى الأخص العَلَمي فإن الناس - عادة - يبتعدون عنك ولا يحذرون منهم أصلاً خاصة مع غلبة الباطل وأهله في عامة الأزمنة خاصة في هذا الزمن، نعم لو كان الصلاح هو الحاكم في البلاد والعام على العباد لكان السبّ بالمعنى العَلَمي الأخص لأهل البدع سبباً لحذر بعض الناس منهم وقطع طمعهم في

ص: 121


1- البرهان في تفسير القرآن: ج4 ص323 - 324.

الفساد في الإسلام، أمَا والفسادُ هو الغالب فإن الطريق الوحيد - عادة - لقطع طمعهم في الفساد في الإسلام هو «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» بالمعنى الوصفي أي ذكر أفعالهم السيئة وحالهم المنحرفة بالحجج والبراهين بما يزيل شبهاتهم ويردها عليه ويقطع عراهم.

هل «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» قضية خارجية؟

لا يقال: إن قوله (عليه السلام): «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» هو بنحو القضية الخارجية، لشهادة «لَكُمْ» فالخطاب خاص بأصحابه (عليه السلام)! فتكون أخص مطلقاً من رواية الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فتخصصها!

إذ يقال: كلا؛ لأن الأصل في كل ما يصدر منهم (عليهم السلام) أنه بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، إضافة إلى أنه لا شهادة ل«لَكُمْ» أبداً في كون القضية خارجية؛ وإلا للزم أن تكون مختلف الآيات والروايات الواردة فيها «لَكُمْ» قضية خارجية وهو بديهي البطلان؛ ألا ترى أن قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)(1) يفيد قضية حقيقية وليست خارجية رغم وجود (لَكُمْ) فيها ورغم أنه كان قد جرى منعهم قبل ذلك من الرفث ليلة الصيام وأنهم خانوا أنفسهم ثم عفى اللّه عنهم وقال: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)؟

وألا ترى أن قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً)(2) قضية حقيقية لا خارجية؟، وأن قوله

ص: 122


1- سورة البقرة: 187.
2- سورة المائدة: 3.

تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(1) قضية حقيقية لا خارجية؟ ... وهكذا وهلم جرا.

والحاصل: إن شأن النزول وخصوص المورد لا يخصص الوارد والنازل، وإن (لكم) ونظائرها إما خطاب للأمة أو الناس على مر التاريخ ولمختلف الأجيال، وأما هو خطاب للمعاصرين لمجرد أن البلاغة تقتضي أحياناً توجيه الخطاب إلى طرف معين رغم عدم حصر الحكم به أو بهم.

لا يقال: رواية «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» أقوى سنداً من رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» فترجح عليها؛ إذ سيأتي الجواب عن ذلك بوجوه عديدة، فأنتظر.

عود على بدء

ولا بد من العود مرة أخرى إلى ما حققناه في وجه الجمع بين طائفتي الروايات بناءً على التعارض، من أن التعارض بدوي وأن وجه الجمع ثابت وأنه عرفي وأنه تشهد به الروايتان بنفسهما وأن ذلك مبني على تعدد إطلاقات السباب، وذلك لنزيده تحقيقاً وتوضيحاً، وذلك في ضمن مطالب:

الإطلاقات المتعددة والمعاني المتنوعة

المطلب الأول: إن اللفظ الواحد قد يطلق على معنيين أو أكثر(2)، أو فقل إنه يستعمل في معنيين أو أكثر بشكل عرفي وبما تساعد عليه اللغة أيضاً، وقد يراد منه في استعمالٍ في آية أو رواية أو في كلام العرف معنى، ويراد به في استعمالٍ آخر في آية أو رواية أخرى أو في كلام العرف معنى آخر، وحيث قد لا يلتفت

ص: 123


1- سورة البقرة: 278 - 279.
2- ستأتي وجوه أربعة محتملة، لوجه تعدد الإطلاقات.

المستمع إلى وجود إطلاقين أو معنيين لهذه الكلمة، فقد يتوهم التخالف أو التعارض بين الروايتين النافية أحداهما والمثبتة أخراهما، ولنضرب لذلك أمثلة من الروايات ومن العرف جميعاً:

إطلاقات (الكفر) السبعة

الأول: كلمة (الكفر)، فإن لها إطلاقات متعددة، فقد يراد بها:

1- ما يقابل الإسلام.

2 - وقد يراد بها ما يقابل الإيمان.

فقد يقال (كافر) ويراد أنه كافر باللّه تعالى أو بالنبوة وهذا له أحكام منها: النجاسة مثلاً أو عدم جواز زواجه من مسلمة، وقد يقال (كافر) ويراد به الكافر بالإمامة وهذا له أحكام أخرى فمثلاً ليس بنجس ويجوز زواجه من الشيعية لكنه لا يصح أن يكون إمام جماعة للشيعة مثلاً.

3 - وقد يراد بها ما يقابل النعمة.

4- 5 - وقد يراد بها الترك أو البراءة(1).

6 - وقد يراد بها الأمر التكويني.

7 - وقد يراد بالكافر (الساتر) للشيء تكويناً ولذا سمي المزارع كافراً لأنه يستر.

وقد ذكرنا في بعض الكتب: (ومن الأمثلة الكلامية والفقهية: عنوان (الكفر) فإن له - كما يستفاد من عدد من الآيات والروايات - إطلاقات خمسة(2)، بل إن هذه الإطلاقات الخمسة هي صريح رواية الإمام الصادق (عليه السلام) الآتية، وكل منها يختص بآثار وأحكام، فلا يصح القياس إلا بعد تحديد المعنى المراد به لو

ص: 124


1- وهما معنييان كما سيظهر.
2- بل أكثر كما ظهر.

أخذ كأوسط في كل من الصغرى والكبرى، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) إن الكفر على خمسة أوجه - نذكرها بتوضيح أو تصرف وإضافات(1):

الأول: كفر الجحود بالربوبية وأنه لا جنة ولا نار، كما في من قالوا: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)(2).

الثاني: كفر الجحود بما هو الحق الثابت عنده، كما في ما جاء في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(3) إذ المراد جحدوا بالآيات التي جاء بها موسى كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد البيضاء، وعلى أي فمطلق جحود ما ثبت أنه حق لديك هو كفر(4) بالمعنى الثاني.

الثالث: كفر النعمة، كما في قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(5) وقوله: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(6) و(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(7).

الرابع: الكفر بمعنى الترك، فالتارك شيئاً هو كافر به، كقوله تعالى: (وَمَنْ

ص: 125


1- والروايات وردت بوجوه مختلفة، فراجع تفسير النعماني والبحار ومجمع البحرين.
2- سورة الجاثية: 24.
3- سورة النمل: 13 - 14.
4- واما إنكار مثل استحالة الدور والتسلسل، أو إنكار الجاذبية، أو إنكار مختلف البديهيات ومطلق ما ثبت لديه بالحس أو غيره، فإنه كفر بالمعنى اللغوي المراد به الستر كما يقال للزارع كافر، وليس ذلك كفراً باصطلاح المتشرعة.
5- سورة إبراهيم: 7.
6- سورة النمل: 40.
7- سورة البقرة: 152.

لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1) وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(2).

والمراد بالكفر حسب نص الإمام الصادق (عليه السلام) ههنا هو: وتتركون العمل ببعض الكتاب، وكلام الإمام في حد ذاته حجة في التفسير، فلا يرد أنه لعل المراد الكفر النظري أو العقدي لا العملي،إضافة إلى أن الظاهر أنهم كانوا يؤمنون بحرمة سفك الدماء والإخراج لكنهم عملاً كانوا يخالفون، بل إن ظاهر الآيتين بتمامها هو الكفر العملي - فلاحظ - بل لعل صريحها هو ذلك لقوله تعالى: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

وعليه: فإن كل من لا يعمل بقوانين الإسلام السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، فهو كافر بهذا المعنى.

الخامس: الكفر بمعنى البراءة، كما في قوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ)(3) أي تبرأنا منكم وكذلك الأمر في: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)(4).

هذا وقد يضاف لها معنى سادس وهو الستر، وسيأتي أنه الجامع، وأما كلام الإمام (عليه السلام) فلا ينفيه إذ اللقب لا مفهوم له، والعدد كذلك لا مفهوم له، فلا ينفي المعاني الأخرى.

ص: 126


1- سورة المائدة: 44.
2- سورة البقرة: 84 - 85.
3- سورة الممتحنة: 5.
4- سورة العنكبوت: 25.

ومن ذلك يتضح معنى ما ورد في الروايات الكثيرة من كفر المخالف، فإنه لا يراد به الإطلاق الأول بل الثاني في بعضهم أي فيمن (من يعرف منهم الحق ثم يجحده)، بل يراد الثالث أو الرابع سواءً أعلموا أم جهلوا عن قصور أو تقصير، فإنّ كفر النعمة وكفر الترك يعمّ ذلك كله، كقول الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن قول اللّه عز وجل: (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)،فقال: «عَرَفَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ بِوَلَايَتِنَا وَكُفْرَهُمْ بِهَا يَوْمَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي صُلْبِ آدَمَ (عليه السلام) وَهُمْ ذَرٌّ»(1).

وقد يقال: بأن جامع المعاني الخمسة هو الستر، وأنه الموضوع له، ولذا يقال للزارع: إنه كافر، لأنه يستر البذرة في الأرض، قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(2))(3).

والارتداد

الثاني: وكذلك كلمة (الارتداد) وقد ورد: «ارْتَدَّ النَّاسُ بَعْدَ النَّبِيِّ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ عَرَفُوا وَلَحِقُوا بَعْدُ»(4) وهنا قد يتصور الجاهل بتعدد الإطلاقات أن المقصود أن كافة الناس كفروا باللّه العظيم أو بالرسول الكريم وأنهم مرتدون بالمعنى الأخص وأن زوجاتهم، على ضوء ذلك يَبِنّ وينفصلن منهم وإن إرثهم يقسم وإن بدنهم قد تنجس وإنه قد وجب الحد على مرتدهم الفطري والملي - بنوعيه - لكنه لو التفت إلى أن الارتداد له إطلاقات وهو يختلف باختلاف المتعلَّق وأن المراد الارتداد عن الإمامة وعن حكم اللّه فيها، لَعَلِم بأن الأحكام السابقة لا تترتب بل أحكام

ص: 127


1- الكافي: ج1 ص413.
2- سورة الحديد: 20.
3- من كتاب (أحكام اللّهو واللعب واللغو وحدودها) ص154 - 157 بتصرف وإضافة.
4- الاختصاص: ص6.

أخرى فرعية ككونه لا يستحق الزكاة الواجبة ولا يُصلّى خلفه وما أشبه ذلك.

والإمامة

الثالث: الإمامة، فإنها تطلق على إمام الجماعة، وإمام الجمعة وتطلق على الإمام المعصوم (عليه السلام).

والملكية

الرابع: الملك، فإن له إطلاقات عديدة كما أوضحناه في بحث (حق الخلو والسرقفلية) وإن منه الملك المبعّض ذاتاً وآثاراً.

والجنّ

الخامس: الجن، فإنه قد يطلق ويراد به الكائن المعروف - المخيف للبعض -، وقد يراد به كل ما جنّ واستتر فيشمل المكروب والفايروس مثلاً، وعلى معنى الاستتار ورد قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً)(1) أي غطّا عليه وأظلم وقيل (الجنين) للجنين في بطن أمه، و(الجانّ) أيضاً ضرب من الحيات قيل هي أكحلالعين، لا تؤذي كثيرة في الرمل و(والجنة - بالفتح - البستان من النخل والشجر، وأصلها من الستر كأنها لتكاثفها والتفاف أغصانها سميت بالجنة التي هي المرة من جَنّهُ إذا ستره)(2) و(والجُنّة بالضم والتشديد: السترة، وما تستّرت به من سلاح ونحوه. وفي الحديث "الصوم جُنّة من النار" أي يُتستّر به من دخول النار والمعاصي، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة)(3) و(والمِجنّ بالكسر والتشديد: الترس لأن صاحبه يستتر به. ومنه الحديث "لا يطولن أحدكم شعر إبطيه، فإن

ص: 128


1- سورة الأنعام: 76.
2- مجمع البحرين: ج1 ص413.
3- مجمع البحرين: ص415.

الشيطان يتخذه مجنا يستتر به". والجمع المجان بالفتح. والجنين: الولد في بطن أمه)(1)، فتأمل(2).

والعرفان

السادس: العرفان، فقد يراد به المعنى اللغوي الأعم جداً وهو مصدر عرف يعرف معرفة وعرفاناً، وقد يراد به المعنى الضيق جداً المصطلح عليه لدى البعض والمقصود به عرفان أمثال ابن عربي، وقد يراد به معنى آخر هو عرفان أهل البيت (عليهم السلام) كما فيما تضمّنته الصحيفة السجادية، وقد خلط البعض - مثلاً - حيث إستدل على صحة العرفان بالمعنى الأخص بأن بعض العلماء كالمقدس الأردبيلي (رحمه اللّه) كان عارفاً أو أنه مدح العرفان فرضاً! مع أن مراده عرفان أهل البيت (عليهم السلام) وليس عرفان فصوص الحكم والفتوحات! فالدقة العلمية في فهم المصطلحات ومراد كل عالم أو مفكر منها، ضرورية.

السابع: السب، فإن له إطلاقات متعددة كما سيأتي.

الوجه في تعدد الإطلاقات

المطلب الثاني: إن الوجه في تعدد الإطلاقات هو أحد الأمور التالية:

أ - فقد يتعدد الإطلاق ويتنوع المعنى نظراً للاشتراك اللفظي بين المعاني العديدة، نظير العين التي قيل إنها موضوعة لمعاني كثيرة، منها: الباصرة، ومنها: النبع الجارية، ومنها: الجاسوس، ومنها: عين الركبه، ومنها: الذهب

ص: 129


1- مجمع البحرين: ص416.
2- إذ كل ذلك وإن صح لكن الاسم وهو (الجِنّ) لا يطلق عرفاً على المِكروب مثلاً، نعم يختلف حال بعض تعريفاته عن اسمه.

وغير ذلك(1)، بل قيل إنها موضوعة لسبعين معنى(2) وقد يقال: إن هذه الإطلاقات كلها حقيقية ونحتاج حينئذٍ إلى القرينة المعينة، وليس السباب من هذا القبيل ظاهراً، وقد يقال: إنها ترجع لمعنى واحد، و؟إن سائر المعاني هي من قبيل الاستعمال والتفسير بالمصداق، أو إن بعضها منقول، ولكن المستظهر أن العين مشترك لفظي بين بعضها، ومنقول لبعضها الآخر، ومجاز في بعضها، ومن باب الاستعمال في بعضها الآخر.

ب - وقد يتعدد الإطلاق ويتنوع المعنى لكون أحدهما موضوعاً له والآخر مجازاً غالباً لكن لا إلى حد هجران المعنى الحقيقي وإلا كان من المنقول، وحينئذٍ يتردد المعنى بينهما.

ج - وقد يتعدد المعنى نظراً للاشتراك المعنوي بين الحصص مع الانصراف تارة إلى هذا المعنى - عند قوم أو في مكان أو زمانخاص - وتارة إلى معنى آخر، عند قوم آخرين أو في زمان أو مكان آخر، كما قد يكون الانصراف لمناسبات الحكم والموضوع أو غير ذلك(3).

ص: 130


1- ك: ما ضرب من الدنانير ويجمع على أعيان، والنقد، تقول: اشتريت بالعين لا الدين، وعين المتاع خياره، والعين من حروف المعجم، وعين الشيء نفسه، وعين الشمس و... فراجع مجمع البحرين.
2- وقد ذكر لها في (لسان العرب) حوالي ثلاثين معنى، ومنها - إضافة إلى ما ذكر -: العين من السحاب ما أقبل عن القبلة، والعين: مطر أيام لا يقلع، والعين: الناحية، وعين الجيش: رئيسه، والعين: اسم لما عن يمين قبلة أهل العراق، والعين: الشمس نفسها وقيل شعاعها، والعين في الميزان: الميل، وعين الشيء: حقيقته، أو نفسه وشخصه وأصله، والعين أهل الدار، وعين الشيء النفيس منه، وعين القوس التي يقع فيها البندق، والعَيْن والعِينة: الرِّبا، والعين: الجماعة، والعين: طائر أصفر البطن أخضر الظهر، وعين التمر: موضعه، وعين كل شيء شاهده وحاضره.
3- فصلنا في بعض الكتب أن مناشئ الانصراف سبعة.

د - وقد يتعدد الإطلاق نظراً لكون الموضوع له حقيقة تشكيكية ذات مراتب فقد ينفي أحدهما صدق عنوانٍ على موضوع، وهو يريد المرتبة الأعلى، وقد يثبت الآخر الصدق، وهو يريد المرتبة الأدنى، ولا تعارض بينهما إذ انصب النفي والإثبات على مرتبتين، لكن الجاهل بوجود مرتبتين قد يتصور التناقض بين النفي والإثبات إذ توهم ورودهما على أمر واحد ومعنى فارد.

ومن ذلك مثلاً (الحلو) أو (المالح) فإن أحدهما قد ينفي الحلاوة عن الشاي أو العصير بينما يثبتها الآخر، وقد يقول أحدهما الطعام مالح وينفي الآخر، ولا تهافت إذ يريد كل منهما مرتبةً، وكذلك (النور) فإن له مراتب وقد يُنفى إطلاقه على المراتب النازلة جداً، وكذلك (البياض) أيضاً.

وكذلك (العدالة) فإن لها مراتب بناءً على أنها الملكة، إذ أين عدالة الإمام المعصوم من عدالة مرجع التقليد؟ بل أين عدالة مرجع التقليد من عدالة الشاهدين أو من عدالة إمام الجماعة؟ فإن لكل منهم مرتبة مشترطة - على رأي(1) -، وقد توهم من رأى أن روايات العدالة متعارضة غفلة، عن مراتبها وأن بعض الروايات تعرِّف مرتبة وبعضها تعرِّف مرتبة أخرى أو أنه قد تضمَّن بعضُها علامةً وبعضُها علامةً أخرى، وقد ذكر السيد العم (دام ظله) أربعين رواية - وكثير منها طوائف - حول العدالة وبيّن أنها لا تخالف بينها وجَمَع بينها وحصر التخالف في عدد محدود منها جداً فراجع بيان الفقه/الاجتهاد والتقليد.

الإطلاقات المتعددة في (السباب)

والمستظهر أن للسباب إطلاقات متعددة وقد تعود للوجه الأخيرأو للوجه الثالث والثاني بل والأول إذا قيل بالوضع التعيّني لبعض إطلاقات، ولا يهمنا الآن

ص: 131


1- فيه تأمل.

تحقيق حال إن تعدد الإطلاقات السباب هو من أي باب، بل المهم إثبات أصل تعدد إطلاقات السباب وذلك على ضوء اللغة، وكلمات الفقهاء والعرف أيضاً:

معاني السباب في كلمات اللغويين

ففي مفردات الراغب: (السَّبُّ: الشّتم الوجيع)(1)

وهو كما ترى وكما سيظهر تفسير بالمعنى الأخص وفي معجم مقاييس اللغة: (إن أصل هذا الباب القطع) أقول: وسميّ السبّ سباً إما لأنه يقطع علاقتك بالآخر المسبوب وإما لأنه يجرح عرضه ويخرقه ويقطعه، ولذا قال في (جمهرة اللغة): (وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتماً لِأَن السب خرق الْأَعْرَاض)(2) وعلى هذا فالسب له معنى واسع أعم.

وفي معجم مقاييس اللغة أيضاً: (أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْبَابِ الْقَطْعُ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ الشَّتْمُ. وَأَكْثَرُ الْبَابِ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ السِّبُّ: الْخِمَارُ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ مِنْ مِنْسَجِهِ... وَمِنْ هَذَا الْبَابِ السِّبْسَبُ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ)(3) أقول: لأن الإنسان ينقطع فيها عن آثار العمران أو عن الخلق أو ينقطع فيها الأمل بالنجاة لو ضاع.

وفي لسان العرب: (سبب: السَّبُّ: القَطْعُ(4).

سَبَّه سَبّاً: قَطَعه؛ قَالَ ذُو الخِرَقِ الطُّهَوِيُّ:

فَمَا كَانَ ذَنْبُ بَني مالِكٍ، ... بأَنْ سُبَّ مِنْهُمْ غُلامٌ، فَسَبْ

وسَبْسَبَ إِذا قَطَع رَحِمه. والتَّسابُّ: التَّقاطُعُ. والسَّبُّ: الشَّتْم(5)، وَهُوَ

ص: 132


1- المفردات في غريب القران: ج1 ص391.
2- جمهرة اللغة: ج1 ص69.
3- معجم مقاييس اللغة: ج3 ص63 - 64.
4- وهذا معنى أعم كما ترى.
5- وهذا معنى أخص.

مَصْدَرُ سَبَّه يَسُبُّه سَبّاً: شَتَمَه؛ وأَصله مِنْ ذَلِكَ. وسَبَّبه: أَكثر سَبَّه.

والسَّبَّابةُ: الإِصْبَعُ الَّتِي بَيْنَ الإِبهام والوُسْطى، صفةٌ غَالِبَةٌ، وَهِيَ المُسَبِّحَةُ عِنْدَ المُصَلِّين. والسُّبَّة: العارُ؛ وَيُقَالُ: صَارَ هَذَا الأَمر سُبَّةً عَلَيْهِمْ، بِالضَّمِّ، أَي عَارًا يُسبُّ بِهِ. وَيُقَالُ: بَيْنَهُمْ أُسْبوبة يَتَسابُّونَ بِهَا أَي شَيْءٌ يَتشاتَمُونَ بِهِ. والتَّسابُّ: التَّشاتُم. وتَسابُّوا: تَشاتَمُوا. وسابَّه مُسابَّةً وسِباباً: شاتَمه. والسَّبِيبُ والسَّبُّ: الَّذِي يُسابُّكَ.

وَرَجُلٌ سِبٌّ: كثيرُ السِّبابِ. ورجلٌ مِسَبٌّ، بِكَسْرِ الْمِيمِ: كثيرُ السِّبابِ. وَرَجُلٌ سُبَّة أَي يَسُبُّه الناسُ؛ وسُبَبَة أَي يَسُبُّ الناسَ.

والسِّبُّ: السِّتْرُ. والسِّبُّ: الخمارُ. والسِّبُّ: العِمامة. والسِّبُّ: شُقَّة كَتَّانٍ رقِيقة.

والسَّبَبُ: كلُّ شيءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلى غَيْرِهِ؛ وَفِي نُسخةٍ: كلُّ شيءٍ يُتَوَسَّل بِهِ إِلى شيءٍ غيرِه، وَقَدْ تَسَبَّبَ إِليه، والجمعُ أَسْبابٌ؛ وكلُّ شيءٍ يُتَوصّلُ بِهِ إِلى الشيءِ، فَهُوَ سَبَبٌ(1). وجَعَلْتُ فُلاناً لِي سَبَباً إِلى فُلانٍ فِي حاجَتي وَوَدَجاً أَي وُصْلة وذَريعَة.

والسِّبُّ: الحَبْلُ، فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ؛ وَقِيلَ: السِّبُّ الوَتِد.

والسَّبَبُ: الحَبْلُ كالسِّبِّ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ، والسُّبوبُ: الحِبال.

سبسب: السَّباسِبُ والسَّبْسَبُ: شجرٌ يُتَّخَذُ مِنْهُ السهامُ(2).

والسَّبْسَبُ: المَفازَة. وَفِي حَدِيثِ قُسٍّ: فبَيْنا أَنا أَجُولُ سَبْسَبَها.

السَّبْسَبُ: القَفْرُ والمَفازة. قَالَ ابنُ الأَثير: ويُرْوَى بَسْبَسَها، قَالَ: وهُما

ص: 133


1- ويسمى السبّ سبّاً لأنه يتوصل به إلى جرح الآخر وإهانته.
2- والسباب سهام وأية سهام!

بِمَعْنًى. والسَّبْسَبُ: الأَرضُ المُسْتَوِية الْبَعِيدَةُ. ابْنُ شُمَيْلٍ: السَّبْسَب الأَرض القَفْرُ الْبَعِيدَةُ، مُسْتَوِيَةً وغيرَ مستويةٍ، وغَليظة وغيرَ غليظةٍ، لَا ماءَ بِهَا وَلَا أَنِيسَ.

مُسَبَّبَة، قُبّ البُطُونِ، كأَنها ... رِماحٌ، نَحاها وجْهَة الريحِ راكزُ)(1).

وكما أن السبسب أرض قفر بعيدة غير مستوية ولا ماء بها ولا أنيس، فكذلك السباب يوحش ما بين الأصحاب، ويحول العلاقات بين الأنام وبين البلاد والعباد إلى قفر ويباب وخراب.

تعريفات ومعاني السباب لدى الفقهاء

وأما الفقهاء فقد تراوحت تعريفاتهم بين معاني مختلفة أوسع وأضيق ومن وجه، ولكن بعضها - موجزاً - كالآتي:

العاملي (قدس سره): ما تضمن ازراء ونقصاً.

المجلسي (قدس سره): ما تضمن استخفافاً وإهانةً.

الشيخ (قدس سره): ما قصد فيه الإهانة والتحقير.

الشيرازي (قدس سره): بيان النقص الواقعي ليس من السباب.

فأنت ترى اختلاف التعاريف بين ما اشترط فيه (قصد الإهانة) كالشيخ (رحمه اللّه) وما لم يشترط كغيره، والفرق كبير إذ التعاريف الأخرى تنيط السب بواقع كونه إهانة وأما الشيخ (رحمه اللّه) فينيطه بقصده الإهانة فلو لم يقصدها لم يكن سباً وإن كان ثبوتاً إهانةً.

كما أن الفرق - سعة وضيقاً أو عموماً من وجه - كبير بين الازراء والإهانة والتعيير والاستخفاف إذ قد يهينه من غير تعيير بل قد يكون إهانة من غير استخفاف عرفاً، فتأمل؛ فهذا إجمال بعض كلامهم، وأما تفصيله:

ص: 134


1- لسان العرب: ج1 ص455 - 460 (مقتبسات من كلامه).

الشيخ الانصاري (قدس سره)

وإليك نص ما قاله الشيخ (قدس سره): (ثم إنّ المرجع في السبّ إلى العرف.

وفسّره في جامع المقاصد بإسناد ما يقتضي نقصه إليه، مثل الوضيع والناقص.

وفي كلام بعض آخر: أنّ السبّ والشتم بمعنى واحد.

وفي كلام ثالث: أنّ السبّ أن تصف الشخص بما هو إزراءٌ ونقص، فيدخل في النقص كلُّ ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد، والتعبير بشيء من بلاء اللّه تعالى كالأجذم والأبرص.

ثم الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق السبّ مواجهة المسبوب. نعم،يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص، فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه.

والظاهر تعدد العقاب في مادة الاجتماع؛ لأنّ مجرد ذكر الشخص بما يكرهه لو سمعه ولو لا لقصد الإهانة غيبة محرمة، والإهانة محرّم آخر)(1).

أقول: وأنت ترى أن مثل قولك (فلان كافر) أو (يا كافر) لشخص ما هو سب بالمعنى الثاني وليس سباً بالمعنى الأول؛ أو فقل هو سب بالمعنى الوصفي أي إنك قد وصفت واقع حاله لأنه بالفعل كافر باللّه - فيمن هو كذلك - ولكنه قد لا يكون سباً بالمعنى الأول العَلَمِي إذ قد لا يراه الطرف الآخر نقصاً وازراء عليه بل قد يراه فخراً وكمالاً، وكذلك عامة من تنسب إليه أمراً فإن قولك للمستبد أنه مستبد قد يؤلمه وقد يفرحه إذ يرى الشورى أو الديمقراطية ضعفاً ووهناً لا كمالاً(2) فهو سب بالمعنى الثاني الوصفي وليس بسبِّ بالمعنى العَلَمِي.

ص: 135


1- كتاب المكاسب: ج1 ص254.
2- كما فصّلناه في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المزودجة) وكما صرح به عدد من فلاسفة الغرب سابقاً وكما تجده لدى (الأمير) لمكيافللي.

العلامة المجلسي (قدس سره)

وقال العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول: (وفي اصطلاح الفقهاء هو السب الذي لم يكن قذفاً بالزنا ونحوه(1) كقولك: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا، أو يا ملعون، أو يا خائن، أو يا حمار، أو يا كلب، أو يا خنزير، أو يا فاسق، أو يا فاجر، وأمثال ذلك مما يتضمن استخفافاً أو إهانة، وفي المصباح: سبه سباً فهو سباب، ومنه يقال للإصبع التي تلي الإبهام سبابة لأنه يشاربها عند السب، والسبة العار وسابه مسابة وسباباً أي بالكسر، واسم الفاعل منه سب)(2).

السيد الوالد (قدس سره)

وقال السيد الوالد (قدس سره): (لا يقال: فلماذا نرى كلمات اللعن والسب أو ما أشبه في القرآن الحكيم، مثل قوله سبحانه: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ)(3) وكذلك سب الأشخاص مثل : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنيمٍ)(4) قال تعالى: (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(5) وقال سبحانه: (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(6) وقال عز وجل: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّين)(7) وقال جل ثناؤه: (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(8).

ص: 136


1- قال بعض العلماء: إخراج القذف من السب إخراج حكمي وليس إخراجاً موضوعياً، أي ليس لأن القذف ليس بسب (لوضوح أنه من أهم مصاديقه) بل لأن له حكماً خاصاً هو الحدّ.
2- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج11 ص5.
3- سورة الأنبياء: 98.
4- سورة القلم: 13.
5- سورة البقرة: 159.
6- سورة الرعد: 25.
7- سورة الحجر: 35.
8- سورة غافر: 52.

لأنه يقال: إذا كان النقص واقعياً ورجع الأمر إلى إرشاد الطرف أو إرشاد أهله وعشيرته أو الآخرين لزم، وهذا ليس من السباب في شيء بل داخل في إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإراءة الطريق للضال، فالمنع والجواز لهما موردان وهذان عقليان قبل أن يكونا شرعيين.

هذا بالإضافة إلى أن كلمات اللعن وشبهه الموجودة في القرآن الكريم كثيراً منها لا توجه إلى أسماء معينة مذكورة، بل إلى من يحمل تلك الصفات الرذيلة أو إلى الأمم السابقة، فالتركيز يكون على الصفات والأفكار والعقائد وأنواع السلوك والعمل، لا الأفراد بأنفسهم، أما ما توجه إلى أسماء معينة كقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ)(1) فإنه(2) يدخل في باب التزاحم والأهم وما أشبه كما لا يخفى).

وقوله (رحمه اللّه): (ليس من السباب في شيء) أي بالمعنى العَلَمِي.

السيد الخوئي (رحمه اللّه)

وقال السيد الخوئي (رحمه اللّه) في مصباح الفقاهة: (الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتعيير في مفهوم السب وكونه تنقيصاً وازرءاً على المسبوب وأنه متحد مع الشتم، وعلى هذا فيدخل فيه كلما يوجب إهانة المسبوب وهتكه، كالقذف والتوصيف بالوضيع واللا شيء، والحمار والكلب والخنزير، والكافر والمرتد، والأبرص والأجذم والأعور، وغير ذلك من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة، وعليه فلا يتحقق مفهومه إلا بقصد الهتك، وأما مواجهة المسبوب فلا تعتبر فيه)(3).

ص: 137


1- سورة المسد: 1.
2- إضافة إلى ندرته.
3- مصباح الفقاهة: ج1 ص441.

والمستظهر كما سبق: تعدد إطلاقات السب وإن له مراتب مختلفة شديدة وضعيفة وعلى ذلك قد ينفي أحدهما السب ويثبته الآخر من غير تنافٍ إذ كل منهما يثبت أمراً لا ينفيه الآخر، وإذا أردنا اختصار إطلاقات السبّ في إطلاقين فنقول: إن أساس الإطلاقين هما: السبّ بالمعنى العَلَمِي الضيّق والذي نسمّيه السبّ بالمعنى الأول والسبّ بالمعنى الوصفي الواسع والذي نسمّيه السبّ بالمعنى الثاني.

لا يقال: إن تعاريف الفقهاء لفظية عادة فلا هي طاردة ولا هي عاكسة، فلا تصلح أن تكون مداراً للبحث والأخذ والردّ.

إذ يقال: التعريف قسمان: إما تعريف لفظي وإما تعريف اسمي، وقد ارتآى جمع من المنطقيين تعريف التعريف اللفظي بأنه تبديل لفظ بلفظ أوضح منه كما لو سألك عن معنى غضنفر فقلت: أسد، وتعريف التعريف الأسمي: بالتعريف بالجنس والفصل، والأصل فيه أن يكون بالقريبين منهما، ويلحق به التعريف بالخاصة - فيندرج فيه الرسم إضافة إلى الحدّ -، والأولى - بنظرنا - تسمية التعريف الاسمي بالتعريف الماهوي فإنه أبعد عن اللبس وأدق في الوصف.

وعلي أي فالمستظهر أن تعاريف الفقهاء - عادة - ليست لفظية بل هي اسمية - أو ماهوية - والدليل - كما استدل به السيد الوالد (رحمه اللّه) - كثرة نقض بعضهم على البعض الآخر وإبرامه وتدقيقهم في الوصف والقيود، ولو كان لفظياً لما احتاج إلى ذلك أصلاً بل كفى أن يقال: إنالتعريف إشارة للمعنى المرتكز إجمالاً في الأذهان فالمناقشة في حدوده مضيعة للوقت!

والحاصل: إنهم اعتبروا التعريف عاكساً لذلك المعنى المرتكز إجمالاً في الأذهان، وحيث كان مجملاً في كثير من الأحيان، في بعض حدوده، احتاج إلى التدبر والتعمل والاجتهاد لاكتشاف الوصف الدقيق الجامع والمانع له العاكس له

ص: 138

الكاشف عن تمامه بذكر ما يشبه الجنس والفصل(1) أو ذكر الخاصه.

حوار افتراضي يجسد معنيين للسباب

ويرشدك إلى ذلك الحوار التالي المفترض بين شخصين خاطب أحدهما الآخر بقوله:

أ - يا شارب الخمر أو يا كسول - إذا كان ينام كثيراً - أو يا كافر.

ب - فيقول له الآخر: لقد سببتني! أو لماذا تسبني؟

ج - فيجيبه الأول: كلا، لم أسبك! وإنما وصفت واقع حالك وما أنت عليه وليس ذلك بالسباب!

د - أو يجيبه: كلا؛ إذ لم أقصد إهانتك والإزراء بك أو تعييرك بل قصدت شرح واقع حالك!.

ه- - فيردّ عليه: لا علينا بقصدك، لقد سببتني واللّه!

وعند الرجوع إلى العرف نجد صحة الحمل وصحة السلب معاً في إطلاق السباب على ما قاله من: (يا كافر أو يا جبان أو يا كسول أو يا شارب الخمر) فإنه يصح حمله عليه بالإطلاق الثاني الوصفي (وصف النقص الثبوتي الذي هو فيه) ولا يصح حمله عليه بالإطلاق الأول (السب العَلَمِي).

والحاصل: إن الشخص الأول صادق في قوله سببتني، والشخص الآخر صادق أيضاً في قوله لم أسبك؛ فإن (ب) اعتمد في إسناده السباب لزيد على المعنى الثاني الوصفي أي إنه في ارتكازهبنى على ذلك، و(ج) اعتمد في نفيه السب على المعنى الأول العلمي و(د) اعتمد على رتبة من السباب يشترط فيها القصد (وإلا لم يكن سباباً) ولذلك نفاه، فليس (يا كافر) سبّاً مادام لم يقصد

ص: 139


1- إذ لا جنس ولا فصل في الاعتباريات.

الإهانة بل قصد مجرد وصف واقع حاله، و(ه) اعتمد على رتبة منه لا يشترط فيها القصد ولذلك قال إنه سبّه.

نموذج من الخطبة الشقشقية

ولنمثل لذلك بمثال من نهج البلاغة حيث قال (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: «أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ(1) وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً

حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ! لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا! فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ

حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَن...»(2).

ص: 140


1- وفي بعض النسخ: ابن أبي قحافة.
2- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من خطبة له (عليه السلام) المعروفة بالخطبة الشقشقية.

وقوله: «لَقَدْ تَقَمَّصَهَا...» و«فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ» و«أَرَى تُرَاثِي نَهْباً» و«لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا» و«فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ...» يراه بعضهم شتماً وسباً، لكنه لا يعدو كونه وصفاً لواقع الحقائق التأريخية إضافة إلى أنه يعكس لنا الأبعاد النفسية والاجتماعية(1)، وكذا قوله (عليه السلام): «مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا...».

جرح الشهود والرواة ونصح المستشير

ومن الأمثلة أيضاً: (جرح الشهود) فإن جرح الشهود ليس سبّاً وإن كان سبّاً! والمراد من (ليس سبّاً) أي ليس سباً بالإطلاق الأول العَلَمِي، وهو سب بالإطلاق الثاني الوصفي.

ومن الأمثلة: (جرح رواة الحديث) في كتب علم الرجال فإنه كسابقه.

ومنها: ما يقوله الناصح في مقام (نصح المستشير) من عيوب الرجل المقبل على خطبة فتاة ولنسمّه زيداً مثلاً، فإنه ليس بسبّ وهو سبّ أيضاً حسب الإطلاقين! فإن ذلك الرجل المسمى بزيد لو أطلع على أنه قال عنه عمرو كذا اعترض ب- (لماذا سببتني عند أهل العروس؟) فيجيب عمرو: لم أسبّك وإنما عملت بواجب النصيحة ووصفتك بما هو فيك لا أكثر!

بين «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» و «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»

وعلى ضوء ذلك يقع الجمع بين الروايتين، وقد فصلناه سابقاً وملخصه مع بعض الإضافة:

ص: 141


1- مما ينفع جداً الباحثين في سيكولوجية الأمم والشعوب والقيادات، والباحثين في القضايا السوسيولوجية - التاريخية.

الموجز: قرينتان في الروايتين على وجه الجمع

وبذلك ظهر أن ههنا قرينتين على وجه الجمع:

الأولى: في رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» والقرينة هي: «وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ».

الثانية: في رواية «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ» فإن طمعهم إنما يُقطع عادةً عبر الجدال بالتي هي أحسن وعبر ذكر حقائق وأرقام عنهم بموضوعية وبطريقة علمية منهجية وعبر كشف واقع استبدادهم مثلاً للناس فإن هذا يقطع طمعهم في الفساد في الإسلام، أما سبهم بأمثال كلاب وحقراء فإنه - عادة - ينتج العكس إذ إنهم سيستدلون بذلك على أننا لا حجة لنا وأننا لا نملك المنطق والدليل والبرهان ولذلك لجأنا إلى منهج السباب والشتائم، فالسباب نقض للغرض وهو مما يزيد طمعهم في الفساد في الإسلام ويوجب التفات الكثيرين حولهم أكثر أو يوجب ان يتعصب لهم حينئذٍ اتباعهم بشدة أكبر.

لا يقال: إذا تربى الأطفال على سبّ طوائف من الناس (كأهل الريب والبدع)، كان ذلك من دواعي تحصينهم؟

إذ يقال: أولاً: إن تلك الحصانة تنهار، بشكل كامل أو بدرجة ما، عند أية مواجهة مع الطرف الآخر والاستماع إلى حججه وأدلته، فالأقوى والأجدى تحصينهم فكرياً وعلمياً وبالحجج والبراهين بدل السباب ويشير له قول الإمام (عليه السلام): «وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي

ص: 142

الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»، فتأمل.

ثانياً: لئن صح ذلك في المجتمعات المنغلقة فإنه لا يصح في المجتمعات المنفتحة والعالم اليوم مجتمع منفتح مترابط: في المدارس والجامعات، وفي الأسواق والشركات، وعبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.

ص: 143

إدراج الروايتين في باب التزاحم

ثم إن هذا كله على المسلك المعروف من أن أمثال ذلك مندرج في باب التعارض (البدوي أو المستقر) ولكن قد يقال: بأن النسبة بين «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» و«إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» ليست التعارض (لا بدوياً ولا مستقراً) بل هي التزاحم، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور:

الأمر الأول: إن التزاحم على قسمين:

التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي

الأول: التزاحم الملاكي.

والثاني: التزاحم الامتثالي.

و(التزاحم الملاكي) يعني أن يكون في متعلق التكليف ملاكان متضادان أي ملاك مصلحة وملاك مفسدةٍ معاً، وحسم الأمر في هذا التزاحم يعود للمولى المشرّع فإنه يلاحظ مدى قوة كل من المصلحة والمفسدة فإن وجدهما متساويتين حكم بالإباحة (الاقتضائية) وإن رجحت أحداهما على الأخرى قليلاً حكم بالكراهة أو الاستحباب، أو كثيراً بدرجة بالغة حكم بالحرمة أو الوجوب، ومن مصاديقه قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ»(1) فإن مصلحة التيسير كانت غالبة على مصلحة الفعل نفسه لذا كان مستحباً فقط.

وقد فصّلنا في الأصول: مباحث التزاحم، الكلام عن التزاحم الامتثالي وعن حلقة الربط بينهما بما ينفع في حل الاعضال في الكثير من الروايات التي تبدو متدافعة والتي اعتبرها القوم من باب التعارض بينما نرى أنها من باب التزاحم، وستأتي هنا بإذن اللّه تعالى الإشارة إلى ذلك مع تطبيق التزاحم الملاكي

ص: 144


1- الكافي: ج3 ص22.

فالامتثالي على (السباب)، فأنتظر.

نماذج من آيات عُدّت متعارضة والظاهر أنها متزاحمة

الأمر الثاني: إن هنالك الكثير من الآيات والروايات التي عدّها الأعلام أو بعضهم من التعارض، بينما يمكن القول بأنها من التزاحم ولنمثل ذلك بأمثلة - من غير تبنٍّ فعلاً لها بل لمجرد العرض والطرح ولعله يأتي تفصيل الأخذ والرد فيها في بحثنا في كتاب التزاحم -.

أولاً: قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ)(1) مع قوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(2) وعلى التعارض قال البعض بناسخية الأولى للثانية، لكن قد يقال بأنها من التزاحم وإن لكل ملاكاً فلا معنى للقول بالنسخ حينئذٍ، وهذا هو الأظهر لدينا والأقوى من القول بأن كلتا الآيتين أو أحداهما كانت بنحو القضية الخارجية، على أن وَلَوية الحكمين لا تنفي اشتمالهما على الملاك، فتدبر.

ثانياً: قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(3) مع قوله: (وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)(4) وقوله: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(5) فإننا نراها من التزاحم، وقد توهم من رآها من التعارض المستقر أو

ص: 145


1- سورة التوبة: 5.
2- سورة الأنفال: 61.
3- سورة الحشر: 9.
4- سورة القصص: 77.
5- سورة الإسراء: 29.

البدوي فبحث عن وجه الجمع، إذ كيف يعتبر اللّه تعالى الإيثار فضيلة ثم يردع نبيه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) عنه؟!

ثالثاً: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(1) معقوله تعالى: (يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(2) وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)(3) فإن تقوى اللّه حق تقاته تستلزم العسر الشديد بل أعلى درجات العسر (ولذا لم يبلغ هذه المرتبة إلا المعصومون (عليهم السلام) ثم أمثال سلمان المحمدي رضوان اللّه تعالى عليه فقط) فكيف يجتمع الأمر به وطلبه(4) مع (وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)؟ وتفسير ذلك حسب مقتضيات باب التزاحم، أرجح من البحث عن وجه جمع لحل مشكلة التعارض المتوهم.

رابعاً: ما نحن فيه من التعارض المتوهم بين «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» و«وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» حيث نرى انه من باب التزاحم كما سيأتي.

تنبيه: إن نتائج هذا البحث مهما كانت(5) فإنها تقع كلها - كما سبق - ضمن الطائفة الثانية من الروايات، وهي - كما سبق أيضاً - محكومة أو مخصصة بالطائفة الثالثة(6) وبمقتضيات قواعد باب التزاحم المستفادة من الطائفة الرابعة من الروايات، كما أن الإطار العام الذي تدور فيه كافة المباحث هو أن الواجب، هو أن يقع ذلك كله في إطار قوله تعالى: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

ص: 146


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة البقرة: 185.
3- سورة البقرة: 286.
4- حتى بدرجة استحبابه، فتأمل.
5- جواز سباب أهل الريب والبدع، بالمعنى الأول العَلَمي أيضاً أو بالمعنى الثاني الوصفي فقط.
6- كقوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (سورة الأنعام: 108).

الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(1) وإن الاستثناء مشروط بالشروط الثلاثة وهي: إن المرجعية في تحقيق حال الكبرى وتشخيص حال الصغرى هو للمراجع العظام (وشورى المراجع حسبما ساقتنا إليه الأدلة في كتاب شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)؛ لأن القضية(2) منالشؤون العامة، والواجب فيها أيضاً تحكيم آراء أكثرية أهل الخبرة وأهل الشورى لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(3) كما فصلناه في موضع آخر.

تزاحم الملاكات في السباب على ضوء الآيات والروايات

الأمر الثالث: إن المستظهر أن المبحث كله مندرج في باب التزاحم، فقد قال اللّه العظيم: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(4) وقال جل اسمه: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(5) كما ورد في الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ»(6) وفي المقابل: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»(7) وورد: «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»(8) وورد: «وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»(9) وهنالك آيات وروايات أخرى ستأتي تباعاً بإذن اللّه تعالى.

ص: 147


1- سورة النحل: 125.
2- فيما كان منها على الملأ العام، أو ما كان يصل إلى الملأ العام.
3- سورة الشورى: 38.
4- سورة البقرة: 83.
5- سورة الأنعام: 108.
6- الكافي: ج2 ص275.
7- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام)، من كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حرب صفين،الخطبة 206.
8- الكافي: ج2 ص360.
9- الكافي: ج2 ص117.

وتفصيل الكلام يتوقف على تمهيد مقدمة هامة وهي:

التزاحم من أصعب الأمور وأخطرها

إن التزاحم في كلا بعدي العقل النظري والعقل العملي لَهو من أهم الأمور وأخطرها وأصعبها، كما أنه من أكثر الأمور التي يجهلها عامة الناس بل حتى الكثير من الخاصة، وهو إلى ذلك من أكثر الأمور التي يقتحم فيها كثير من الناس - حتى بعض الخواص منهم - بدون دراسة وافية عادة.

فشل الناس في امتحان التزاحم

ثم بعد ذلك فإن الكثير الكثير جداً من الناس يفشلون في امتحان التزاحم العملي وإن عرفوا وجه الأهمية وما هو الأهم على مستوى العقل النظري، ولنمثل لذلك بمثالين:

الأول: إن الكثير من الناس يفشلون في امتحان التزاحم بين واجبات العمل وبين متطلبات إدارة الأسرة فتراه إما مُفرِطاً دائماً أو مفرّطاً دائماً أو متأرجحاً بينهما: فأما هو مجحف - دائماً أو في بعض الأوقات - بحق الأسرة مهمل لحاجاتها وتطلعاتها ورغباتها وإما هو مهمل - دائماً أو في بعض الأوقات - لشؤون العمل والوظيفة أو الدراسة ومقتضياتها.

الثاني: إن الكثير جداً من الناس يفشلون في امتحان التزاحم العملي بين متطلبات الروح من جهة وبين مقتضيات الجسد من جهة أخرى، أو بين تطلعات العقل وبواعث الفكر من جانب وبين نوازع النفس ورغبات الجسم من جانب آخر، فقد ترى بعضهم فاشلاً في الأخلاقيات وفي المعنويات ناجحاً في العلم والفكر والثقافة، أو تراه متعالياً في مراتب القرب والعروج الروحاني صفر اليدين خالي الوفاض من مدارج العلم والكمال.

ص: 148

نماذج فقهية مهمة من تزاحم الواجبات

فذلك كله على الصعيد العملي، وأما على الصعيد النظري، فإن مبحث التزاحم بين الملاكات والمصالح أو المفاسد الفردية، والعائلية، والاجتماعية، الخاصة والعامة، يعدّ من أدقّ المباحث وأصعبها وأكثرها إثارة للخلاف والاختلاف كما أن هذه المباحث من أكثر ما يجهله الناس، ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة:

أ - التزاحم بين نفقة الزوجة ونفقة الأم، كما لو لم يكن له إلا ما يكسو به أحداهما أو ما يشبع به جَوعتها، فأيهما المقدم؟

ب - التزاحم بين إنقاذ الأم وإنقاذ الزوجة، فيما لو دار الأمر بينهما وعجز عن الجمع كما لو غرقا معاً ولم يمكنه إلا إنقاذأحداهما، فأيهما المقدم؟

ج - التزاحم بين التوقي عن إيذاء الأم أو إيذاء الزوجة، كما لو كان سفره موجباً لإيذاء الأم ولكنه كان مُرضياً للزوجة أو العكس بأن كان سفره موجباً لإيذاء الزوجة ومُرضياً للأم فأيهما المقدم؟

ومن لا يعرف آراء الفقهاء في تلك المسائل قد يخبط خبط عشواء فقد يتوهم ترجيح الأم وتقديم حقها في كل تلك الصور أو قد يرتأي ترجيح الزوجة فيها جميعاً أو قد يقول بما يحلو له، مع أن الحكم في الصور الثلاثة مختلف، ففي الأولى: نفقة الزوجة مقدمة، وفي الثالثة: التوقي عن إيذاء الأم هو المقدم، وفي الصورة الثانية: التخيير على ما صرح به جمع.

د - التزاحم بين الوضوء للصلاة وبين سقي الهرة العطشى مثلاً؟ فأيهما المقدم؟

ه- - التزاحم بين التيمم وبين التصرف في ملك الغير دون رضاه كما لو

ص: 149

انحصر التراب في المغصوب، ولم يكن له ماء، فهل يتمم بالمغصوب أو لا يتمم؟ فهل عليه حينئذٍ صلاة أو لا لكونه فاقد الطهورين؟

و - التزاحم بين إنقاذ عالم واحد (كأستاذ حوزة أو جامعة) وبين إنقاذ جاهلين أو أكثر؟

ز - التزاحم بين أداء الزكاة أو الخمس وبين أداء الدين؟

ح - التزاحم بين الحج المستقر وأداء الدين، لو لم يمكنه بهذا المال إلا أحدهما.

ط - التزاحم بين النهي عن المنكر وبين قطع الرحم، كما لو كان نهيه لرحمه عن المنكر، كنظره للأجنبية، موجباً لحدوث صراع في الأسرة وقطع الرحم؟ فأيهما المقدم؟

وقد فصلنا في مباحث التزاحم البحث عن ذلك وأشباهه، وكان مما أشرنا أنه قد تكون لكل من الملاكين مراتب ودرجات وأن الحكم قد يختلف حسب اختلاف الدرجات في كل منها.

وذلك كله مما يلقي الضوء على خطورة مباحث التزاحم سواء على المستوى النظري أم على المستوى العملي.

تزاحم ملاكات السباب بين المصلحة والمفسدة

ومباحث السباب مندرجة في هذا الباب؛ ذلك أن للسبّ في الصورة المذكورة في الرواية ملاكاً، كما أن لتركه ملاكاً، وله مصلحة وله مفسدة أو مفاسد فأيهما الأرجح؟

إن المتسرِّع وحده هو الذي قد ينظر إلى وجود بعض الأرباح والمكاسب التي تحققها الشتائم فيحكم - بارتجالية - بلزوم السباب ورجحانه غفلة عن جهات

ص: 150

مرجوحيته وفساده.

ولكن حيث إن ملاكات الأحكام مما لم تشرع أبوابها إلينا فإنها شأن المولى جل وعلا، لذلك كان اللازم الاعتماد على الملاكات التي يذكرها الشارع الأقدس بنفسه والتي جعلها المدار حسب الأدلة، للحكم بالتعادل أو التراجيح والتقديم والتخيير.

طوائف الآيات والروايات

وعند الرجوع إلى الآيات والروايات التي تصرح بملاكات المصلحة أو المفسدة في السباب نجد كلتا الطائفتين الآتيتين:

المصلحة في سبابِ بعضٍ: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ»

الطائفة الأولى: الروايات التي تصرح بملاك المصلحة في سباب مثل أهل الريب والبدع، وهذه الطائفة رواياتها قليلة، ولكن أهمها على الإطلاق هي الرواية المعروفة عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ»(1) فالملاك المصرح به هو: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ» و«وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْبِدَعِهِمْ».

وأما الآيات فقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(2) فإن اعتداءه علينا ملاك مصحح لاعتدائنا عليه بالمثل، لكن هل تشمل الآية الكريمة إضافة إلى الشؤون الفردية - كما لو ضربك أو سبك فإن

ص: 151


1- الكافي: ج2 ص275.
2- سورة البقرة: 194.

لك أن تضربه أو تسبه بمثل ما ضربك أو سبك به - الشؤونَ المذهبيةَ - كما لو سب مذهبك فتسب مذهبه -؟ فيه بحث!

المفسدة في السباب عموماً أو خصوصاً

الطائفة الثانية: الآيات والروايات التي تصرح بالمفسدة في سباب الآخرين، وعلى عكس الطائفة الأولى فإن ههنا آيات كريمة وروايات كثيرة وقد ذكرت فيها مفاسد منوعة لسباب الآخرين وهي تتراوح بين ما يعدّ انتهاكاً لحق اللّه تعالى وما يكون هتكاً لحريم الرسول والأئمة (عليهم السلام) وما يكون علّة لتضعيف الحق وأهله وما يكون سبباً لتضييع حقوق المؤمنين وظلمهم.

أ - ردود أفعال الآخرين: سب اللّه عدواً بغير علم

فمنها: قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقد مضى البحث عنها مفصلاً، وموطن الكلام هو أنه لو دار الأمر بينهما فأيهما الأهم؟ أي إنه لو كان سبّ أهل الريب والبدع مما يردع أولئك المبطلين ويقضي على (أو يقلل من) طمعهم في الإفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم لكنه كان مما يستلزم سبهم لله تعالى، فأيهما الأهم؟ فهل علينا ان لا نسبهم كي لا يسبوا اللّه تعالى وان استلزم عدم سبهم طمعهم في الإفساد في الدين؟ أو العكس علينا ان نسبهم وان استلزم ذلك سبهم لله تعالى، لما يترتب على سبهم من فائدة ان لا يطمعوا في الفساد في الدين؟ فايهما الأهم؟ ان تشخيص ذلك ليس للعامي بل لا بد للفقيه ان يراجع مختلف النصوص ويدرس فقهها لكي يصل إلى نتيجة مبرئة للذمةحقاً.

ولكي لا يتسرع شخص فيقول إن الأهم هو الأول(1) نقول: بأن من

ص: 152


1- قطع طمعهم في الفساد في الإسلام.

مرجحات الثاني(1): أن الملاحَظ أن اللّه تعالى اعتبر حريمه أهم من أي شيء آخر في مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(2) فمع أن الشرك باللّه تعالى لا يضره شيئاً ومع أن المشرك قد يكون ممن قدم أكبر خدمة للبشرية لكنه إذا كان فرضاً مشركاً عن تقصير أو عن علم وعمد فإنه تعالى لا يغفر له شركه ولكنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهذا وجه من هذا الطرف.

ولكنّ استقراء كل الوجوه عبر التدبر في مختلف النصوص بما يخرج الأمر - في كلا الطرفين - عن الاستحسان أو القياس بحاجة إلى دراسة مستوعبة، ولذلك قلنا إن المرجع هو الفقيه وإنه لا يصح أن يرى العامي أو الفاضل روايةً كرواية «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» فيسارع إلى الأخذ بها ويتغافل عن سائر الآيات والروايات وعن مقتضيات التزاحم بينها وتراجيحها.

ب - «وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً... وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ»

ومنها: قوله (عليه السلام): «مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ»(3) فهذا ملاك آخر مصرح به، وهو ملاك من دائرة حقوق الأئمة (عليهم السلام)، وهو ملاك مزاحم لملاك «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ» فإذا تزاحما: بأن كان سبّ أهل البدع والريب يستلزم بعض الشين على الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) ويستلزم أيضاً قطع طمعهم في الفساد في الإسلام فأيهما المقدم؟ إن ذلك مما لا يمكن

ص: 153


1- رعاية حريم اللّه تعالى.
2- سورة النساء: آية 48.
3- الأمالي - للصدوق (رحمه اللّه) -: ص400.

الجواب عنهبسهولة إلا للجربزي (المقتحم في الفتوى دون تثبت) أو القائل بالاستحسان أو القياس!

ج - (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)

ومنها: قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)(1) وقد سبق أن معنى ينزغ هو يُفسِد وهو قريب من معنى ينخَس، ومن البديهي أن سبّ الآخرين يثير فيهم القوة الغضبية فيزدادون إفساداً على إفساد وشقاقاً على شقاق، فأيهما الأهم؟ وهذا الملاك كما لا يخفى هو ملاك من دائرة حقوق الناس.

د- الجدال بالأحسن يسبّب «قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ»

ومنها: الرواية التي سبقت: قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهَا قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ وَأَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِأَنْ تَجْحَدَ حَقّاً لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاطِلِ مَنْ تُجَادِلُهُ وَإِنَّمَا تَدْفَعُهُ عَنْ بَاطِلِهِ بِأَنْ تَجْحَدَ الْحَقَّ فَهَذَا هُوَ الْمُحَرَّمُ لِأَنَّكَ مِثْلُهُ جَحَدَ هُوَ حَقّاً وَجَحَدْتَ أَنْتَ حَقّاً آخَرَ»(2) ومن الواضح، كما هو صريح الرواية أيضاً، أن بالحجج والبراهين والأدلة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن تنقطع عرى الكافرين وأعذارهم وتزول شبههم لا بالمغالطة التي أشارت إليها الرواية الشريفة ولا بالسباب والشتائم - لا لتنقيح المناط، على أنه قطعي، بل لبداهة ذلك(3) ووجدانيته -.

ص: 154


1- سورة الإسراء: 53.
2- الاحتجاج: ج1 ص21.
3- إنه لا تنقطع أعذار الكفار ولا تزول شبهاتهم، بالسباب.

وهنا نقول: إنه لو فرض أن السباب كان السبب في قطع طمع المبطل كما أفادته الرواية الأولى «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ» فإن هذا يشكل ملاكاً مزاحماً للملاك الذي ذكرته هذهالرواية وهو إزالة الشبهة وقطع عذر الكافرين وعراهم عبر الجدال بالتي هي أحسن فإنه يتحقق بالجدال بالأحسن لا بالسباب لبداهة أنه لا تزول شبهة الطرف الآخر ولا المستمع المحايد ولا ضعيف الإيمان بالسباب ولا يكون قاطعاً لعذر الكافر بل كل ذلك إنما يتحقق بالحجة والمنطق والجدال بالتي هي أحسن، ومع ذلك فأيهما الراجح؟!

ثم إن من الواضح أن هذا الملاك: «انْقِطَاعَ عذر أو عُرَى الْكَافِرِينَ، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ» ملاك من دائرة حقوق الدين والشريعة علينا كما أن مقابله كذلك.

ه - «وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ»

ومنها: قوله (عليه السلام): «وَجَامِلُوا النَّاسَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَسَبَّ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَيْثُ يَسْمَعُونَكُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(1) ومن الواضح أن حمل الناس على رقاب الشيعة بأغرائهم بهم ليقتلوهم أو يسجنوهم أو يشرّدوهم أو يطاردوهم أو يحاصروهم أو يقاطعوهم، ملاك مهم جداً (بل إن الرواية صريحة في أن طاعة الرب هي بذلك) فهذا الملاك يزاحم ذلك الملاك الآخر «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ»، ولكن أيهما الأهم؟ أو على حسب درجات كل منهما؟

و - «مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ... يَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً»

ومنها: قوله (عليه السلام): «إِنَّ قَوْماً مِنَ النَّاسِ قَلَّتْ مُدَارَاتُهُمْ لِلنَّاسِ فَأُنِفُوا(2) مِنْ

ص: 155


1- الكافي: ج8 ص7.
2- المستظهر أنها (فنُفُوا).

قُرَيْشٍ، وَايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ بِأَحْسَابِهِمْ بَأْسٌ، وَإِنَّ قَوْماً مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُمْ فَأُلْحِقُوا بِالْبَيْتِ الرَّفِيعِ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُأَيْدِيَ كَثِيرَةً»(1) وكفّ أيدي الناس - والمراد به في مصطلح الروايات عادةً: العامة - ملاك هام محبوب للإمام (عليه السلام) وعكسه مبغوض له - وقد سبق الكلام عن الرواية والروايات السابقة واللاحقة بتفصيل أكثر فراجع، فهذا ملاك مزاحم لملاك «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ»، وهذا الملاك يرتبط بكلتا الدائرتين: حقوق اللّه تعالى ودينه وحقوق الناس؛ إذ إن كفّ الناس أيديهم تارة يكون عنّا كأشخاص أي عن دمائنا وأعراضنا وممتلكاتنا، وقد يكون عن مذهبنا وشعائرنا وحسينياتنا ومساجدنا وأئمتنا (عليهم السلام).

ز - «وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»

ومنها: قوله (عليه السلام): «خَالِطُوا الْأَبْرَارَ سِرّاً، وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»(2) وهذه الرواية كسوابقها صريحة في النهي عما يسبب ظلم أهل العامة للشيعة، وقد اعتبر الإمام (عليه السلام) ظلمهم للشيعة العلة للردع والنهي عن ميلنا عليهم، والميل عليهم أنواع وأقسام ومن أبرزها سبّهم بحيث يسمعوننا، فهذا ملاك، وهو ملاك من دائرة حقوق الناس.

ح - «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»

ومنها: قول الإمام الباقر عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»(3) وهو ملاك من دائرة حقوق الناس كما هو واضح.

ص: 156


1- الكافي: ج2 ص117.
2- الكافي: ج2 ص117.
3- الكافي: ج2 ص360.

ط - نحن في زمن هدنة، والسباب ناقضٌ لها

ومنها: إن سباب الغير مناقض لمصلحة (الهدنة) التي صرحت بها الروايات فراجعها في الفصل السادس.

ومن الواضح أن للهدنة ملاكاً بل ملاكات مزاحمة لملاك السباب.

فهذا كله على التزاحم، أما على التعارض فهل دليل الهدنة حاكم؟ أو دليل السباب مخصص؟ أو هو خاص بالزمان بعد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) مباشرة قبل هدنة الأئمة (عليهم السلام) معهم؟ أو غير ذلك؟ فهذا بحاجة إلى تحقيق مستقل ولعله يأتي في مباحثنا عن (التقية) و(الهدنة) بإذنه تعالى.

ي - «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»

ومنها: قوله (عليه السلام) «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(1) فإنه صريح في أن كونهم سبّابين مبغوض له (عليه السلام)، فأيهما أرجح لو تزاحما: ارتكاب ما يبغضه الإمام (عليه السلام) لأجل أن لا يطمعوا في الفساد في الإسلام، أو العكس: تجنّب ما يبغضه (عليه السلام) وإن طمعوا في الفساد في الإسلام؟

ك - «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»

ومنها: الملاك المصرح به في ذيل الرواية: «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ» فإنه يزاحم ملاك السباب الذي لا هو أصوب في القول ولا هو أبلغ في العذر.

ص: 157


1- نهج البلاغة : باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)،من كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين. الخطبة 206 / بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466.

ل - «وَأَنَّ إمارتنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ»

ومنها: عن الصادق (عليه السلام): «فَلَا تَخْرَقُوا بِهِمْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَارَةَبَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ بِالسَّيْفِ وَالْعَسْفِ وَالْجَوْرِ، وَأَنَّ إمارتنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ، فَرَغِّبُوا النَّاسَ فِي دِينِكُمْ وَفِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ»(1) وهذه صريحة في السياسة التي تبتني عليها أمارتهم (عليهم السلام) «الرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ» فهو مزاحم لتلك المصلحة في سباب أهل الريب والبدع «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ».

م - «وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ»

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي عن حبيب السجستاني عن أبي جعْفرٍ (عليه السلام) قال: «فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام): يَا مُوسَى اكْتُمْ مَكْتُومَ سِرِّي فِي سَرِيرَتِكَ وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي وَلَا تَسْتَسِبَّ لِي عِنْدَهُمْ بِإِظْهَارِ مَكْتُومِ سِرِّي فَتُشْرِكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي فِي سَبِّي»(2) والمداراة للعدو ملاك مصرح به في هذه الرواية، أو فقل هو مأمور به فيها والسباب يناقضه تماماً.

ن - «هذا أبصر بالحجج وأرفق منه»

ومنها: إنه روي عنه (عليه السلام) أنه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام و أمرت هذا به؟ فقال: «هذا أبصر بالحجج وأرفق منه»(3) فهذا ملاك صريح «أرفق منه» فقد أمر الإمام (عليه السلام)

ص: 158


1- الخصال: ج2 ص354.
2- الكافي: ج2 ص117.
3- تصحيح الاعتقاد: ص71.

أحدهما بالكلام لأنه أرفق ونهى الآخر عنه لأنه غير أرفق فبما بالك بالسباب؟

خلاصة القول في ملاكات السباب

والحاصل: إن هذه ملاكات عديدة كثيرة صرحت بها الروايات، وهي تتنوع بين ما هو حق اللّه تعالى (الذي ينتهكه السباب) وما هو حق الرسول والإمام (عليهم السلام) (والذي يهتكه السباب) وما هو حق الشيعة والناس - وهو على أنواع - (وكلها يضيِّعه السباب)، فكيف يتجرأ شخص ما بأن يقول بوجوب أو جواز سباب أهل البدع لمجرد ملاحظة هذه الرواية: «وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ» بدون أن يرجع لفقهاء يستفرغون وسعهم في دراسة مختلف الروايات والموازنة بين الملاكات المصرح بها على ضوء معطيات قواعد باب التزاحم؟!

وما هي المرجعية؟

فهذا كبرىً وعلى صعيد العقل النظري(1)،

وأما صغرىً وعلى صعيد التشخيص الموضوعي فقد سبق أن تشخيص الموضوع (وأنه مَن يقوم بذلك؟ وكيف؟ ومتى؟ وما هي الحدود.. الخ) يعود إلى الفقهاء العظام بالتعاون مع أهل الخبرة وفي إطار الشورى التي صرح بها تعالى في قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2) فبعد ذلك كله تكون الذمة شرعاً بريئة من اتخاذ الموقف النظري العام ثم تطبيقه في الزمان المناسب والمكان المناسب وعبر الفرد الكفوء الحكيم المناسب

ص: 159


1- حسب تفسير العقل النظري بالمدرِك لما ينبغي أن يُعلَم، والعقل العملي بما ينبغي أن يُعمل. وقيل: النظري ما كان متعلَّقه الاستحالة والإمكان أي ما يدركان به، والعملي: ما كان متعلَّقه الحسن والقبح أي ما يكتشفان به.
2- سورة الشورى: 38.

وبالطريقة المناسبة التي تمخضت عن دراسة مختلف مقتضيات ملاكات باب التزاحم المتخالفة.

وتلك الملاكات حقائق تشكيكية

ومن الجدير التأكيد على أن كافة الملاكات السابقة هي حقائقتشكيكية ذات مراتب فعلى الفقيه أن يلاحظها بمراتبها ثم قد يفصّل على ضوئها في شأنها، وذلك مما قد ينتج صوراً عديدة كثيرة منوعة.

كما أن من الضروري التأكيد على أن ذلك كله بناءً على كون الأمر من باب التزاحم كما هو مفاد ذكر الملاكات في تلك الروايات، وأما بناءً على كونه من باب التعارض فقد سبق بعض الكلام وستأتي تتمته بإذن اللّه تعالى عند تفصيل الكلام عن: أ - تعدد إطلاقات السباب، ب - وجه الجمع بين الروايات، ج - مقتضى أدلة التعادل والتراجيح.

الخطوات الأصولية في معالجة الروايات المتعارضة في السباب

سبق بعض الكلام عن وجوه وخطوات معالجة الروايات التي تبدو متعارضة في قضية السباب، ومزيد التحقيق أنه:

1- البحث عن الجمع العرفي

أولاً: لا بد من البحث لدى تعارض الروايات المعتبرة - والمراد التعارض في بادي النظر الأعم من البدوي والمستقر - عن وجوه الجمع الدلالي العرفي أو الذي عليه شاهد من الآيات او الروايات، فإن وُجد ذلك فلا يلتفت بعدها إلى أقوائية سند إحدى الروايتين من الأخرى، وقد سبق وجه الجمع العرفي بين الروايتين.

ص: 160

2 - الترجيح بموافقة الكتاب

ثانياً: فإن فُقد الجمع العرفي الدلالي، ووقع التعارض المستقر بين الروايتين فإن الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفته، هو المقدمعلى المرجحات السندية(1) ككون راوي أو رواة إحدى الروايتين أعدل أو أوثق أو أصدق في الحديث أو أورع - وهي المرجحات الأربع في المقبولة - بل إن بعض الأعلام عدّ موافقة الكتاب ومخالفته مرجعاً وليس مرجِّحاً بمعنى أن مخالف الكتاب ليس بحجة أصلاً أي ليس فيه اقتضاء الحجية وليس أنه حجة اقتضاءً، لكنها مرجوحة مغلوبة لحجة أخرى هي المعارض الأقوى؛ وذلك استناداً إلى صريح الأحاديث التي تفيد ذلك كقوله (عليه السلام): «قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بِمِنًى فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ»(2) و«كُلُّ شَيْ ءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ»(3) وقال رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ» ورُوِيَ عن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وعن الأئمة (عليهم السلام) أنهم قالوا: «إِذَا جَاءَكُمْ مِنَّا حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَاطْرَحُوهُ أَوْ رُدُّوهُ عَلَيْنَا»(4).

فمخالف كتاب اللّه (زخرف) و(لم أقله) و(اطرحوه) و(دعوه) ويضرب عرض الحائط، ولا ينظر إلى أن سنده أقوى من سند الموافق، وقد حقق في

ص: 161


1- بل وعلى الترجيح بموافقة أو مخالفة العامة، واما الترجيح بالشهرة فحسب المقبولة فانه المقدم، إن لم نقل بمقالة المحقق صاحب الكفاية في الترتيب، وههنا كلام لا يسعه المقام.
2- الكافي: ج1 ص69.
3- الكافي: ج1 ص69.
4- التهذيب: ج7 ص275.

الأصول أنه لو تعارضت روايتان خاصتان وكان العام القرآني موافقاً لإحداهما كان مرجحاً أو مرجعاً، بعبارة أخرى: إن هذا المرجح أو المرجع غير خاص بتعارض روايتين إحداهما موافقة للكتاب بالتساوي والأخرى معارضة له بالتباين بل قد قيل بعدم وجود مثل ذلك أصلاً فلا يعقل حمل روايات الترجيح بالكتاب على هذا الفرد المعدوم إطلاقاً أو النادر جداً، بل المراد غير هذه الصورة أي المراد: خصوص ما نسبتها إلى الكتاب العزيز منوجه أو الخصوص المطلق، أو الأعم منها جميعاً، وعلى كل التقادير فالكتاب مرجع أو مرجح.

وروايات كراهة السباب موافقة للكتاب

هذا كبرىً واما صغرىً فان رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(1) موافقة للكتاب إذ توافق قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(2) و(ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(3) بل وقوله (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(4) في الجملة، كما أن رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» تخالف تلك الآيتين الأوليين، كما تخالف الآية الثالثة في الجملة أي في مورد تحقق تلك العلة.

لا يقال: لكنها متوافقة مع قوله تعالى: (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)؟.

إذ يقال: سبق الجواب عن ذلك في تفسيرنا لهذا الاستثناء والمعنى المقصود

ص: 162


1- نهج البلاغة : باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)،من كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين. الخطبة 206 / بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466.
2- سورة البقرة: 83.
3- سورة النحل: 125.
4- سورة الأنعام: 108.

به فراجع.

لا يقال: وهي متوافقة مع الآيات القادحة في آلهتهم أو بعض قادتهم ك(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنيمٍ) و(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

إذ يقال: أولاً: تلك الآيات لم تذكر أسماء الأشخاص فهي أخص من المدعى.

ثانياً: إنها إن توافقت فمع (السبّ) لا مع (الإكثار من السب) فليست الآيات موافقة للإكثار من السبّ بما هي هي.

ثالثاً: ما فصلناه في موضع آخر من الفرق بين السبّ العَلَمي والسب الوصفي والآيات - عادة - سبّ وصفي فلا يصح لمن يستدل ب(أكثروا من السب) على صحة السبّ العَلَمي أن يستدل بالآياتالمتضمنة للوصفي! فتأمل.

لا يقال: إن سبّ أهل البدع من ضروريات المذهب، كما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) وغيره!

إذ يقال: لم يدعّ صاحب الجواهر (رحمه اللّه) الضرورة بل ادعى الإجماع، وعلى أي فإن الأدلة اللبية يقتصر فيها على القدر المتيقن، والقدر المتيقن هو السب الوصفي دون العَلَمي.

أو يقال: إن القدر المتيقن هو الذي جمع الشروط الثلاثة التي فصلناها آخر الكتاب - وهي كونه بإجازة الفقيه، وتشخيص أهل الخبرة والحل والعقد لضرورته، وإذن أكثرية الأمة إذا أضرّ بها - أو على الأقل ما جمع الشرطين الأولين.

أو يقال: إن القدر المتيقن هو السبّ سراً لا جهراً أي ما كان موافقاً للتقية لا مطلقاً.

أو يقال: القدر المتيقن ما لم يضرّ بالمؤمنين، والسباب على رؤوس الأشهاد

ص: 163

في هذا الزمن، مما لا شك في أنه يضر المؤمنين بمعنى أنه يُضِرّ بسمعتهم كما قد يعرضهم للاضطهاد والظلم والمكاره في بلاد كثيرة.

3- مقارنة الروايتين من حيث قوة الإسناد

ثالثاً: سلّمنا لكن رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ...» المروية في نهج البلاغة ليس مرجوحة سنداً عن رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» المروية في أصول الكافي؛ وذلك لأن روايات نهج البلاغة لا تقصر في الحجية عن روايات الكافي ولأن مراسيل الثقات المعتمدة لا تقصر في الحجية عن مسانيدهم.

مراسيل الثقات المعتمدة حجة

أما الثاني: فلما فصّلناه في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) كما نقلنا هنالك أقوال جمع من أعاظم الأصوليين كالشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في العدة (بل سبقه إلى ذلك البرقيّان) والشهيد الثانيوالشيخ البهائي وكما هو مبنى الشيخ الأنصاري والسيد الوالد , وغيرهم.

ولا بأس بنقل عبارة الشيخ (رحمه اللّه) في العدة لتضمنها احتجاجاً لطيفاً رائعاً على ذلك، فقد ذكرنا في الكتاب:

(من القائلين بحجّية مراسيل الثقات مطلقاً

فمن الذين ذهبوا إلى حجية مراسيل الثقات بقولٍ مطلق من قدماء الأصحاب (احمد بن محمد بن خالد البرقي) وابوه (محمد بن خالد) على ما نقل عنهما(1) بمعنى أنهم ذهبوا إلى الحجية مطلقاً إذا كان المرسل ثقة سواء أكان المرسل

ص: 164


1- الرواشح السماوية - للميرداماد (رحمه اللّه) - : ص254، مبحث حجية المراسيل، إذ نقل ذلك عن احمد بن محمد بن خالد. وقال المحقق القمي (رحمه اللّه) في القوانين ج1 ص478: (نسبه ابن الغضائري إلى احمد بن محمد بن خالد البرقي). وأيضاً: أصول علم الرجال للشيخ الداوري: ج1 ص409، اذ نقل ذلك عنهما معا.

جليلا من الفقهاء أم لا، صحابياً أم لا، وسواء سَقَط راوٍ واحد أو أكثر.

كلام الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في العدة

ومنهم الشيخ الطوسي (رحمه اللّه)(1) على ما هو ظاهر عبارته في عدة الأصول، بل إنه ادعى إجماع الفرقة المحقة على ذلك، قال: (فأما ما اخترته من المذهب فهو:

إن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أو عن واحد من الأئمة (عليهم السلام)، وكان ممن لا يطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله، ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كانت هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم - ونحن نذكر القرائن فيما بعد - جاز العمل به.

والّذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتهامجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشي ء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل(2) مشهور، وكان راويه

ص: 165


1- هذا إذا فسرنا الإطلاق والتفصيل بما سبق: (سواء أكان المرسل جليلاً...) وإلّا فهو مفصّل، وعلى أية حال فالإطلاق والتفصيل إضافيان، فلاحظ ذلك في جملة مما نقلناه من الكلمات فقد يلحق المطلِق بالمفصِّل أو بالعكس على حسب المقصود من الاطلاق، فلاحظ وتدبر.
2- المقصود من الأصل عند الإمامية: هو الكتاب الذي جمع فيه مصنفه الأحاديث التي رواها عن الإمام المعصوم (عليه السلام) مباشرة أو عن الراوي من الإمام المعصوم (عليه السلام)، لا منقولاً عن كتاب مدون فيه روايات الإمام (عليه السلام). و لم يعرف بالضبط عدد أصحاب الأصول المؤلفين لها، إلا أن المشهور عند قدماء الإمامية أنهم لم يكونوا أقل من أربع مائة رجل و هم أصحاب و تلاميذ الإمامين الصادق و الكاظم 3، و قد اعتمدت الإمامية على هذه الأصول في استنباط الأحكام الشرعية، و تعتبر هذه الأصول المادة الأساسية للمدونات الروائيّة الكبرى عند الإمامية أي الكافي، و من لا يحضره الفقيه، والتهذيب، الاستبصار. راجع [الذريعة: ج2 ص125 - 135].

ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ومن بعده من الأئمة (عليهم السلام)، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) الّذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلو لا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.

والذي يكشف عن ذلك أنه لما كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم، لم يعملوا به أصلاً، و إذا شذ منهم واحد(1) عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه و إن لم يعلم اعتقاده، تركوا قوله و أنكروا عليه و تبرءوا من قوله، حتى إنهم يتركون تصانيف من وصفناه و رواياته لما كان عاملاً بالقياس، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى لوجب أيضاً فيه مثل ذلك، و قد علمنا خلافه.

فإن قيل: كيف تدعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها أنه لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أن المعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بالقياس، فإن جاز ادعاءأحدهما جاز ادعاء الآخر.

قيل لهم: المعلوم من حالها الذي لا ينكر و لا يدفع أنهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد، و يختصون بطريقه، فأما ما يكون راويه منهم و طريقة أصحابهم، فقد بينا أن المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضاً، وأنه لو كان معلوماً حظر العمل بخبر الواحد لجرى

ص: 166


1- ممن نسب إليه العمل بالقياس فتركوا لذلك العمل بتصانيفه و آرائه محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي (توفي قبل 377 ه). انظر: رجال النجاشي، رجال الشيخ الطوسي، رجال العلامة، رجال المامقاني، ومعجم رجال الحديث ج14ص 318 - 323.

مجرى العلم بحظر القياس، و قد علم خلاف ذلك)(1).

أقول: الذي يُطعن في رواياته وليس سديداً في نقله، ليس بثقة فيصح القول بأنه - أي الطوسي (رحمه اللّه) - ذهب إلى حجية مراسيل الثقات كمسانيدهم مطلقاً(2)، على أن (السديد في النقل) هو الضابط، ولا يخفى اشتراطه في المسنِد أيضاً فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ولا ينافي هذا ما سننقله عنه مما ظاهره التفصيل فإن ذلك في باب الترجيح(3)، قال: «وإذا كان أحد الراويين معروفاً والآخر مجهولاً، قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لأنه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره...» انتهى(4).

وقال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه): (وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً، نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير(5)، وصفوان بن يحيى(6)،

وأحمد بن محمد بن أبي نصر(7)

ص: 167


1- العدة في أصول الفقه: ج1 ص126- 128.
2- فتأمل، ولكن بعد أسطر ستأتي عبارة صريحة من الطوسي (رحمه اللّه)، فتدبر.
3- أقول: ليس ظاهره التفصيل أصلاً فإن كلامه هنا عن راوٍ مجهول وآخر معروف، ومحل الكلام ليس ذلك بل محله: راوٍ مسنِد وآخر مرسِل وكلاهما معروف.
4- ما نقلناه من كتاب حجية مراسيل الثقات المعتمدة.
5- هو محمد بن زياد بن عيسى الأزدي البغدادي، من متقدمي شيوخ الإمامية و من أصحاب الإمامين الكاظم و الرضا 3 جليل القدر، عظيم المنزلة و من الثقات. كان جلداً في تشيعه، حبس أربع سنوات أيام الرشيد و المأمون وعذب ليدل على أسماء الشيعة لكنه صبر وقاوم ففرج اللَّه عنه، وقيل أن أخته دفنت كتبه أيام حبسه فهلكت الكتب، فكان يحدث من حفظه، والإمامية تعتمد على مراسيله وتعتبرها مسانيد، صنف 94 كتاباً في مختلف المجالات، وتوفي ببغداد سنة 217 ه.
6- هو صفوان بن يحيى البجلي، الكوفي، من الفقهاء و المحدثين الثقات، كان بياعاً للسابري (نوع من الثياب)، عد من أورع الناس و أتقاهم و كانت له منزلة من الزهد والعبادة كثير الخشوع والصلاة، كان من أصحاب الإمامين الكاظم و الرضا 3 وروى عنهما، صنف ثلاثين كتاباً توفي سنة 210 ه.
7- هو أحمد بن محمد بن عمرو البزنطي الكوفي، من الفقهاء و المحدثين الثقات، صحب الإمامين علي بن موسى الرضا والجواد 3 وروى عنهما، توفي سنة 221 ه.

وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم، و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم.

فأما إذا انفرد، وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به(1).

فأما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الّذي ذكرناه، ودليلنا على ذلك: الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل، فبما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر، فلا فرق بينهما على حال.

وإذا كان إحدى الروايتين أزيد من الرواية الأخرى، كان العمل بالرواية الزائدة أولى، لأن تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه.

فإذا كان مع إحدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح، بل هو دليل قاطع على صحته وإبطال الآخر.

فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة، ينبغي أن يرجح على الخبر الآخر الّذي عمل به قليل منهم.

وإذا كان أحد المرسلين متناولاً للحظر والآخر متناولاً للإباحة، فعلى

ص: 168


1- الظاهر أن في هذا الجملة: (فأما إذا انفرد، وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به) خطأ ما، ولعلها زائدة خطأ، أو المراد (انفرد بخبر شاذٍ مخالف للقواعد).

مذهبنا الذي اخترناه في الوقف يقتضي التوقف فيهما، لأن الحكمين جميعاً مستفادان شرعاً و ليس أحدهما بالعمل أولى من الآخر.

وإن قلنا: إنه إذا لم يكن هناك ما يترجح به أحدهما على الآخر كنا مخيرين، كان ذلك أيضاً جائزاً كما قلناه في الخبرين المسندين سواء.

وهذه جملة كافية في هذا الباب)(1) فتأمل.

وكلامه (رحمه اللّه) كما قال؛ إذ لم تجرِ العادة(2) طوال حياة المعصومين (عليهم السلام) على أن يسأل راوٍ راوياً آخر إذا كان ثقة عنده (ولم تعارضه رواية أخرى) إنه هل سمعت هذا بنفسك من الإمام (عليه السلام) أو أنك تنقله بالواسطة؟ ومن هي الواسطة؟ بل إذا سمع أحد الرواة أو العامة من سلمان أو أبي ذر أو مالك أو جابر أو زرارة أو حمران أو يونس رواية، اعتمد عليها من غير استفصال عن كونها مرسلة أو مسندة! وما طرح التفريق بين المرسَل والمسنَد كمنهج عام إلا أمر مستحدث لم يعهده معاصروا المعصومين (عليهم السلام)! ولو كان فرق بينهما لوجب التنبيه ولو في رواية بان عليك الاستفصال وسؤال الراوي عن سلسلة أسانيده والتحقيق عن حالهم أيضاً!

كلام السيد الوالد (رحمه اللّه) عن تعدد طرق حجية الرواية

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه): (وقد ذكرنا في بعض المباحث(3) أن الحجية قد تكون من جهة تمامية السند بمقتضى بناء العقلاء والآيات والروايات، ومنها: قوله (عليه السلام):

ص: 169


1- العدة في أصول الفقه: ج1 ص154 - 155.
2- ولو وجد (بالشرطين في المتن) فهو نادر أو قليل خاصة مع إضافة قيد أن يكون سؤاله عن السند لكي يعتبره حجة ويعمل به لا لمجرد أن يزداد اطمئناناً أو لمجرد مزيد التثبت إذا سأله المشكك، والعمل لا جهة له كما هو واضح، وعلى أي فمن وجد مثل ذلك فليرشدنا إليه، وله الشكر والفضل.
3- راجع (الأصول) و(الوصول إلى كفاية الأصول).

«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(1) الحديث.

وقد تكون من جهة قوة المتن، مما تكون دليلاً على الورودعنهم (عليهم السلام) وإن لم يكن قوي السند، لبناء العقلاء أيضاً، ولشمول ملاك (ثقاتنا) له(2).

وقد تكون من جهة قوة المؤلف، فيما كان بناء العقلاء الاعتماد على إسناده أو أفاد الاطمئنان وذلك كالشريف الرضي (رحمه اللّه)(3)، ونحن نرى حجية (نهج البلاغة) وإن لم يتسلسل إسناد العديد من الخطب والكلمات الواردة فيها - لمجموعة من القرائن الخارجية والداخلية -.

وقد تكون من جهة القرائن الخارجية(4)، كما ذكر ذلك العديد من علماء الأصول.

وقد تكون من جهة الشهرة المضمونية، لشمول قوله (عليه السلام): «خذ بما اشتهر

ص: 170


1- وسائل الشيعة: ج149 - 150 27 ب11 ح33455.
2- والملاك هو: (الوثاقة) كما تطرق له السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في (الأصول).
3- الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ولد في بغداد عام 359ه- من أسرة شريفة وأصيلة، يصل نسبه إلى الأئمة المعصومين (عليهم السلام). يعود نسبه من أبيه إلى الإمام الكاظم (عليه السلام)، ومن أمه إلى الإمام السجاد (عليه السلام). وهو عالم مفكر ذو ذكاء خارق وفهم عالٍ، أسس مدرسة علمية في بغداد قام فيها بتربية وتدريس طلاب العلوم الدينية وفيها مكتبة كبيرة. لقبه بهاء الدولة سنة 388ه ب«الشريف الجليل»، ولقب سنة 398ه ب (ذي المنقبتين)، وفي تلك السنة لقبه بهاء الدولة ب(الرضي ذي الحسبين)، ولقبه أيضاً قوام الدين ب (الشريف الأجل). له مؤلفات قيمة وعلى رأسها جمعه كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب أسماه (نهج البلاغة). توفي عام 406ه في السابعة والأربعين من عمره، بعد عمر قضاه في خدمة الإسلام والتشيع، ودفن في الكاظمية بجوار قبر الإمامين الكاظم والجواد 3.
4- بعض ما سبق وسيأتي من مصاديق ذلك كما لا يخفى، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام أو قبله.

بين أصحابك(1)... فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(2))(3).

إشارة لوجه حجية نهج البلاغة

وأما الأول: وهو حجية نهج البلاغة(4) فبيان حاله في ضمن الأمور التالية بما يفيد حجيته دون ريب وبمستوى لا يقصر عن الكافي وعن المسانيد:

توثيق الشريف الرضي بأعلى درجات التوثيق

الأول: إن الشريف الرضي وثّق ما جمعه فيه بأعلى درجات التوثيق وبأبلغ العبارات وأجزلها وأقواها، قال في مقدمته لنهج البلاغة: (ابتدأتُ تأليف كتابٍ في خصائص الأئمة (عليهم السلام) يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غرضٌ ذكرتهُ في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، وفرغتُ من الخصائص التي تخصُ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب، محاجزات الأيام ومماطلات الزمان، وكنتُ قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً وفصّلتهُ فصولاً، فجاء في آخرها فصلُ يتضمن مَحاسِنَ ما نُقل عنه (عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخُطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسنَ جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خُطب وكتب ومواعظ وأدب، علماً أن ذلك يتضّمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية

ص: 171


1- حيث يستفاد الشمول للشهرة الفتوائية أيضاً.
2- راجع وسائل الشيعة: ج106 - 107 27 ب9 ح33334.
3- من فقه الزهراء: ج1 ص6 - 7.
4- وعدم قصوره عن الكافي الشريف.

والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مَشْرَع الفصاحة ومورِدها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدّم وتأخروا، لأن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقةٌ من الكلام النبوي، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالماً بما فيه من عظيمالنَّفع، ومنشور الذِّكر ومذخورِ الأجر، واعتمدت به أن أبيّن عن عظيم قدر أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الفضيلة، مضافةً إلى المحاسن الدثرة والفضائل الجمة، وأنه (عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين، الذين إنما يُؤثَرُ عنهم منها القليل النادر، والشَّاذّ الشارِدُ، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجمّ الذي لا يُحافَل.

وأردتُ أن يسوغ لي التمثُّل في الافتخار به (عليه السلام)، بقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلِهِم***إذا جمَعَتْنا يا جريرُ المُجامعُ

ورأيت كلامه (عليه السلام) يدور على أقطاب ثلاثة: أوّلها الخُطَب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحِكَم والمواعظ، فأجمعتُ بتوفيق اللّه سبحانه وتعالى على الابتداء باختيار محاسنِ الخُطب، ثم محاسنِ الكُتُب، ثم محاسِن الحِكَم والأدب)(1).

وعباراته واضحة صريحة في إسناده القطعي لما اختاره من كلامه (عليه السلام) إليه (عليه السلام) إذ إنه اعتبرها من (محاسن أخبارهم (عليهم السلام) وجواهر كلامهم) و(مَحاسِنَ ما نُقل عنه (عليه السلام)) و(كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خُطب وكتب، ومواعظ، وأدب، علماً أن ذلك يتضّمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية،

ص: 172


1- نهج البلاغة: مقدمة السيد الشريف الرضي.

وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب) و(لأن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقةٌ من الكلام النبوي) و(وأنه (عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين، الذين إنما يُؤثَرُ عنهم منها القليل النادر، والشَّاذّ الشارِدُ، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجمّ الذي لا يُحافَل) و(فأجمعتُ بتوفيق اللّه سبحانه وتعالى على الابتداء باختيار محاسنِ الخُطب، ثم محاسنِ الكُتُب، ثم محاسِن الحِكَم والأدب).

ويؤكد ذلك أنه قدس اللّه نفسه الزكية كلما لم يعتمد على رواية عبّر برُوي عنه أو قيل؛ فتدبر.

مؤيدات مضمونية أو أدلة على حجيته

الثاني: إن كلمات بعض الأعلام المفصحة عن قوة مضامين نهج البلاغة كاشفة عن ذلك أيضاً فتعد مؤيدة لما قلناه، والمرجع هو إحراز قوة مضامينه بحيث تشهد لصحته، فلاحظ مثلاً ما قال الشيخ هادي كاشف الغطاء (رحمه اللّه): (إن "نهج البلاغة" من كلام مولانا أمير المؤمنين، وإمام الموحدين، باب مدينة العلم، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، من أعظم الكتب الإسلامية شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسَّك بعراه، وبرهان لمن اعتمده، ولب تدبَّره، أقواله فصل، وأحكامه عدل، حاجة العالم والمتعلم، وبُغية الراغب والزاهد، وبُلغة السائس والمسوس، ومُنية المحارب والمسالم، والجندي والقائد، فيه من الكلام في التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق والترغيب والترهيب، والوعظ والتحذير، وحقوق الراعي والرعية، وأصول المدنية الحقة، ما ينقع الغلة، ويزيل العلة، لم تُعرف المباحث الكلامية

ص: 173

إلا منه، ولم تكن إلا عيالاً عليه، فهو قدوة فطاحلها، وإمام أفضلها)(1).

وقال الاقا بزرك الطهراني (رحمه اللّه): (لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحى الإلهي كتاب آمن أمس به مما دُوَّنَ في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي، وهو صدف لئالي الحكم، وسفط يواقيت الكلم، المواعظ البالغة في طي خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاب الحقائق بمشاهدة ضالتهم وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يَعتكِف بفنائه العارفون وينقبه البحاثون، وحري أن تكتب حوله كتب ورسائل كثيره حتى يشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر؛ ليغترف أهل كل لسان من بحارهغرفة)(2).

وقال السيد محسن الأمين (رحمه اللّه): (ولما كان نهج البلاغة له منه عليه شواهد، وهو كسائر كلام علي (عليه السلام) كما قيل عنه: «إنه بعد كلام النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق» لا يرتاب في ذلك إلا أمثال من يريد التشكيك في الشمس الضاحية)(3).

والعمدة والمستند: إن الطريق إلى صحة الرواية لا ينحصر في صحة السند بل قد تكون قوة المحتوى والمضمون أو روعة الأدب والسمو في الفصاحة والبلاغة على سائر العرب، طريقاً مساوياً أو أقوى، كما قد تكون مطابقة المضمون للكتاب العزيز أو للشهرة الروائية أو الفتوائية أو شبه ذلك، هي الطريق إلى إحراز صحة المضمون، لدى نوع العقلاء.

ص: 174


1- مستدرك نهج البلاغة: 3.
2- الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة: ج4 ص144.
3- أعيان الشيعة: ج1 ص535.

رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ...» مستفيضة

الثالث: إن هذه الرواية ربما يقال بكونها مستفيضة لروايتها في كتب العامة والخاصة، فراجع مصادر نهج البلاغة للسيد عبد الزهراء الخطيب وغيره، وتأمل.

4 - رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» معارضة للكتاب في مورده

رابعاً: سلّمنا إن رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ...» مرجوحة سنداً، ولنفرض أنها ساقطة في مورد المعارضة اعتباراً، فإن رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» تعارض حينئذٍ نص الكتاب أي قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلما لزم هذا المحذور - أي محذور أن يسبوا اللّه بغير علم مع تعميمه بنص الروايات لسب الرسول والأئمة والزهراء (عليهم السلام) كما سبق نقل بعض الروايات - ولا شك في تقدم الكتاب على الرواية، خاصة وأنه ببركةالتعليل فهو نص في مضمونه، فتدبر.

نعم، لو رفض شخص الوجوه الأربع السابقة، كانت رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» أرجح سنداً من رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ...» فلاحظ وتدبر وتأمل، ولاحظ أيضاً وجود روايات أخرى مطابقة في المضمون أو مقاربة لرواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» وبعضها صحاح السند مثل ما مضى نقله من صحيح أبي بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ» وغيرها مما لا تقصر في السند عن رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» ونظائرهما، مما نرى أنها جميعاً - كما أوضحناه - تندرج في باب التزاحم، وراجع أيضاً ما ذكرناه حول مرجعية الفقهاء في الشؤون العامة ومنها هذا الشأن، واشتراط الشورى ورأي أهل الخبرة في حجية التشخيص والتطبيق. واللّه الهادي العاصم.

ص: 175

ص: 176

الفصل الخامس: مداراة الناس

اشارة

ص: 177

ص: 178

مداراة الناس فريضة

الطائفة الخامسة: الأدلة الدالة على أن مداراة الناس فريضة واجبة، وبعض الروايات أنذرت بنوع أو أكثر من الجزاء الدنيوي أو الأخروي والنتائج والآثار السلبية التي تلاحق كل من لا يداري الناس، فلاحظها بدقة وتدبر فيها يا من رعاك اللّه وأشكر اللّه تعالى على ما منحك وأعطاك.

وقد سبق الكلام عن بعض الروايات الشريفة الهامة:

ومنها: قوله جل اسمه: «يَا مُوسَى اكْتُمْ مَكْتُومَ سِرِّي فِي سَرِيرَتِكَ وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي وَلَا تَسْتَسِبَّ لِي عِنْدَهُمْ بِإِظْهَارِ مَكْتُومِ سِرِّي فَتُشْرِكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي فِي سَبِّي»(1).

ومنها: قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) «مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَ الرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ»(2) فراجع، ونضيف:

من يكفّ عن الناس يكفّون عنه

إن المستفاد من الروايات كما هو المستفاد من العقل والوجدان والتجربة: إن كل فعل له ردّ فعل يساويه(3) في القوة ويعاكسه في الاتجاه.

ص: 179


1- الكافي: باب المداراة ج2 ص117.
2- الكافي: باب المداراة ج2 ص117.
3- أو يزيد عليه أو يضعف عنه بحسب المؤثرات الخارجية، والمساواة إنما هي بحسب الفعل نفسه.

والمستفاد من الرواية الآتية: أن من يكفّ عن سباب الناس - ومطلق التهجم عليهم - فإن الناس يكفّون عنه - أي بنحو المقتضي -والمفهوم منها عرفاً إن من لا يكف عن الناس فإنهم لا يكفّون عنه، وذلك من البديهيات الوجدانية إضافة إلى جزاء النفي من قريش لمن قلّت مداراته للناس، فلاحظ قوله (عليه السلام) في هذه الرواية: عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ذَكَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَوْماً مِنَ النَّاسِ قَلَّتْ مُدَارَاتُهُمْ لِلنَّاسِ فَأُنِفُوا(1)

مِنْ قُرَيْشٍ، وَايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ بِأَحْسَابِهِمْ بَأْسٌ، وَإِنَّ قَوْماً مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُمْ فَأُلْحِقُوا بِالْبَيْتِ الرَّفِيعِ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً»(2).

وفي الرواية مطالب:

الأول: إن قِلّة مداراة الناس مبغوضة للأئمة (عليهم السلام) وإن مداراة الناس محبوبة لهم (عليهم السلام) وهل يا ترى من مداراة الناس سبّ الناس على مستوى الفضائيات والجرائد والمجلات وشبها؟!

من لا يداري الناس، يكرهه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)

الثاني: إنه قد ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) في تفسير الرواية وجهين فقال:

(والحاصل أن الكلام يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه لا بد من حسن المعاشرة والمداراة مع المخالفين في دولاتهم مع المخالفة لهم باطناً في أديانهم وأعمالهم، فإن قوماً قلّت مداراتهم للمخالفين

ص: 180


1- المستظهر أنها (فنُفُوا).
2- الكافي: ج2 ص117.

فنفاهم خلفاء الجور والضلالة من قبيلة قريش وضيّعوا أنسابهم وأحسابهم مع أنه لم يكن في أحساب أنفسهم شي ء إلا ترك المداراة والتقية أو لم يكن في شرف آبائهم نقص، وإن قوماً من قريش لم يكن فيهم حسب أو في آبائهم شرف فألحقهم خلفاء الضلالة وقضاة الجور في الشرف والعطاء والكرم بالبيت الرفيع من قريش وهم بنو هاشم.

وثانيهما: أن المعنى: أن القوم الأُوَل بتركهم متابعة الأئمة (عليهم السلام) في أوامرهم التي منها المداراة مع المخالفين في دولاتهم ومع سائر الناس، نفاهم الأئمة (عليهم السلام) عن أنفسهم فذهب فضلهم وكأنهم خرجوا من قريش ولم ينفعهم شرف آبائهم، وإن قوماً من غير قريش بسبب متابعة الأئمة (عليهم السلام) ألحقوا بالبيت الرفيع وهم أهل البيت (عليهم السلام) كقوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) سلمان منا أهل البيت وكأصحاب سائر الأئمة (عليهم السلام) من الموالي فإنهم كانوا أقرب إلى الأئمة من كثير من بني هاشم بل من كثير من أولاد الأئمة (عليهم السلام))(1).

أقول: فعلى المعنى الثاني فالأمر خطير جداً إذ الإمام (عليه السلام) يقول: بأن الذين لا يدارون الناس ينفيهم الأئمة (عليهم السلام) من أنفسهم (عليهم السلام) (فذهب فضلهم وكأنهم خرجوا من قريش ولم ينفعهم شرف آبائهم) عكس الذين يدارون الناس (وإن قوماً من غير قريش بسبب متابعة الأئمة (عليهم السلام) ألحقوا بالبيت الرفيع وهم أهل البيت (عليهم السلام) كقوله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) سلمان منا أهل البيت...).

وعلى المعنى الأول: فلا ريب أنه ظاهر في كراهة الإمام (عليه السلام) لترك مدارة الناس ولذا عبّر العلامة المجلسي (رحمه اللّه) ب:(لا بد من حسن المعاشرة والمداراة...) ولم يقل يحسن أو يحبّذ فقط.

ص: 181


1- بحار الأنوار: ج72 ص441.

وقوله في (دولاتهم) إشارة إلى الإطار العام للحكم حسبما يراه العلامة المجلسي (رحمه اللّه)، والتاريخ يشهد بأن الدولة هي للمخالفين - بشكل عام - على امتداد الزمن، ألا ترى أن حكومة أهل الخاصة كانت، زمناً ومساحةً، أقل بكثير من حكومة أهل العامة؟ فعامة الدول الإسلامية زمن الأمويين والعباسيين والعثمانيين وفي هذا الزمن - وهي الآن تقريباً خمسين دولة إسلامية - هي بأيدي أهل العامة وقد خرج الأقل - إما مساحة أو زمناً - بل المستظهر من بعض الروايات أن الأمر سيبقى كذلك - عموماً - إلى زمن ظهور قائم آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشريف) فاللازم حسب هذه الرواية مداراتهم في دولاتهم، بل إن الدولة حتى لو كانت لنا فيجب أن نلاحظ حال المستقبل فنداري في دولتنا كي لاينتقموا في دولتهم القادمة.

وقد ورد في بعض الروايات إن ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل من العفو عن عامتهم، كان من أهم الأسباب في حفظ ذريته والشيعة من بطش الأمويين، بمعنى أنهم افتقدوا أقوى دليل للانتقام ومن الروايات ما جاء في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن أبي بكر الْحضرمي قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَسِيرَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَتْ خَيْراً لِشِيعَتِهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ لِلْقَوْمِ دَوْلَةً فَلَوْ سَبَاهُمْ لَسُبِيَتْ شِيعَتُهُ»(1).

ثم إن هذه الطائفة الخامسة تنفي الجهر بالسباب لكونه المنافي للمداراة، دون أصله.

لا يقال: فما بال أمثال أبي ذر والمعلى بن خنيس حيث جهروا بمرّ الحق وسبّوا الطرف الآخر!

ص: 182


1- الكافي: ج5 ص33.

إذ يقال: أولاً: الجهر بالمعارضة أمر والسباب أمر آخر ولا دليل على صدور السباب منهم، غاية الأمر (السباب الوصفي) أي ذكر أوصافهم السيئة دون (السباب العَلَمي).

ثانياً: الظاهر أن أبا ذر وبعض آخر من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانت لهم إجازة خاصة، حسب الظروف الموضوعية آنذاك، ولم تُعطَ هذه الإجازة لعامة الناس ولا لأكثر خاصتهم بل جرى التأكيد على المداراة والتقية وشبهها.

ثالثاً: وأما المعلى فقد ضعّفه النجاشي ووثقه الطوسي ونقل الكشي في ذمه روايات وفي مدحه روايات، ولعلّ منها(1) أنه إنما ذاق بأس الحديد لأنهم لم يكتم سرهم (عليهم السلام)، والظاهر وثاقته وسلامته(2) إلا أنه أخطأ في عدم الكتمان وقد ورد في الحديث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أَذَاعَ عَلَيْنَا حَدِيثَنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَحَدَنَا حَقَّنَا» قَالَ: وَقَالَ لِمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ: «الْمُذِيعُ حَدِيثَنَا كَالْجَاحِدِ لَهُ»)(3) وتحقيق ذلك في محلّه.

ص: 183


1- يحتاج لتثبّت.
2- كما ذهب إليه الشيخ الطوسي والعلامة الحلي وابن طاووس والبهائي والسيد بحر العلوم , وغيرهم.
3- الكافي: ج2 ص370.

ص: 184

الفصل السادس: الزمان زمان الهدنة

اشارة

ص: 185

ص: 186

الزمان زمان هدنة، والسباب ناقض لها

الطائفة السادسة: الأدلة الدالة على أن زماننا هو زمان هدنة فقد يقال بأن السباب في الملأ العام وعلى رؤوس الأشهاد يعدّ نقضاً لها - مطلقاً أو في الجملة -.

وهذه بعض الروايات:

عن بريد العجلي قَالَ: قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ أَصْحَابَنَا بِالْكُوفَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَلَوْ أَمَرْتَهُمْ لَأَطَاعُوكَ وَاتَّبَعُوكَ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَجِي ءُ أَحَدُهُمْ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَاجَتَهُ؟» فَقَالَ: لَا، قَالَ (عليه السلام): «فَهُمْ بِدِمَائِهِمْ أَبْخَلُ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «إِنَّ النَّاسَ فِي هُدْنَةٍ نُنَاكِحُهُمْ وَنُوَارِثُهُمْ وَنُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ وَنُؤَدِّى أَمَانَاتِهِمْ»(1) فالمزايلة والفرز حينذاك وليس قبل ذلك(2) وقوله (عليه السلام): «إِنَّ النَّاسَ فِي هُدْنَةٍ» عام، وما ذكر بعده الظاهر أنه ذكر للمصاديق لا للحصر فإن اللقب لا مفهوم له، والسباب العام في الملأ العام والفضائيات والجرائد والمجلات، يعدّ مطلقاً أو غالباً، ناقضاً لها عرفاً.

ولعل الظاهر أن المراد (الهدنة) رغم نقض الطرف الآخر لها إذ كانوا يسجنون الشيعة ويقتلونهم ويصادرون أموالهم، بدءً من معاوية(3) الذي نقض

ص: 187


1- الاختصاص: ص24/ بحار الأنوار: ج52 ص372.
2- والاستثناء يحدده الفقيه الجامع الشرائط.
3- بل حتى في زمان الثلاثة في قضية قتل مالك بن نويرة ونفي أبي ذر، وغيرها.

شروط الصلح وقتل خلقاً كثيراً صبراً أو بالسم أو غير ذلك، ومع ذلك أمر الأئمة (عليهم السلام) الشيعة بعدم ردّ الاعتداءات بالمثل واعتبارها هدنة من طرف واحد، ويؤكد ما ذكرناه ما جاء في الرواية الآتية: «إِنَّمَا نَحْنُ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ».

وعلى أي فإن إرادة الأعم من الهدنة لتشمل ما ذكرناه والهدنة التي التزم الطرف الآخر بها أيضاً، غير ضار بما نحن فيه من لزوم الالتزام بالهدنة، بل يؤكده، وأن السباب - عرفاً - ناقض لها أو مبرر للطرف الآخر لينقضها أو تصلح حجة له على نقضها.

وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ أَرْضاً مَوَاتاً تَرَكَهَا أَهْلُهَا فَعَمَرَهَا وَكَرَى أَنْهَارَهَا وَبَنَى فِيهَا بُيُوتاً وَغَرَسَ فِيهَا نَخْلًا وَشَجَراً، قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ طَسْقُهَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْإِمَامِ فِي حَالِ الْهُدْنَةِ»(1) فلاحظ قوله (عليه السلام): «فِي حَالِ الْهُدْنَةِ» الذي وقع موقع التعليل لصغرى أداء الطسق.

وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عثمان الحلبي عن أبيه، عن محمد بن علي الحلبي قال: اسْتَوْدَعَنِي رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي آلِ مَرْوَانَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَغَابَ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَصْنَعُ بِالدَّنَانِيرِ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، فَقَالَ: «لَا إِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ نُؤَدِّي أَمَانَتَهُمْ وَنَرُدُّ ضَالَّتَهُمْ وَنُقِيمُ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ»(2) فلاحظ قوله (عليه السلام): «إِنَّمَا نَحْنُ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ» والحصر ظاهره أنه حقيقي، وقوله بمنزلة هدنة لأنها لم تكن هدنة قانونية مكتوبة وصريحة وموقعة بين الطرفين، بل

ص: 188


1- وسائل الشيعة: ج9 ص549.
2- التهذيب: ج6 ص350/ ووسائل الشيعة ج19 ص74.

هي (هدنة تنزيلية) بل ذلك صريح قوله (عليه السلام): «بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ».

وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن العلاء بن رزين أنّه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عَنْ جُمْهُورِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «هُمُ الْيَوْمَ أَهْلُ هُدْنَةٍ تُرَدُّ ضَالَّتُهُمْ وَتُؤَدَّى أَمَانَتُهُمْ وَتُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ وَتَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَمُوَارَثَتُهُمْ فِي هَذَا الْحَالِ»(1) إلى غير ذلك من الروايات.

ومن الروايات: الرواية المفصلة الرائعة الآتية الكاشفة عنامتداد زمن الهدنة إلى زمن ظهور الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشريف) وجَعَلَنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه فقد روى الحسين بن محمَّد الأشعريُّ عن معلَّى بن محمَّد عن علي بن مرداسٍ عن صفوان بن يحيى والحسن بن محبوبٍ عن هشام بن سالم عن عمَّار الساباطي قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَيُّمَا أَفْضَلُ الْعِبَادَةُ فِي السِّرِّ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَوِ الْعِبَادَةُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ الظَّاهِرِ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا عَمَّارُ الصَّدَقَةُ فِي السِّرِّ وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَكَذَلِكَ وَاللَّهِ عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَتَخَوُّفُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَحَالِ الْهُدْنَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ مَعَ إِمَامِ الْحَقِّ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ مَعَ الْخَوْفِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مِثْلَ الْعِبَادَةِ وَالْأَمْنِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ صَلَّى مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَلَاةً فَرِيضَةً فِي جَمَاعَةٍ مُسْتَتِرٍ بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ خَمْسِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً فِي جَمَاعَةٍ وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَهُ مُسْتَتِراً بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا لَهُ خَمْساً وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَانِيَّةً وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً نَافِلَةً لِوَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ نَوَافِلَ وَمَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَسَنَةً كَتَبَ

ص: 189


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص472. ووسائل الشيعة ج20 ص561.

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا عِشْرِينَ حَسَنَةً وَيُضَاعِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا أَحْسَنَ أَعْمَالَهُ وَدَانَ بِالتَّقِيَّةِ عَلَى دِينِهِ وَإِمَامِهِ وَنَفْسِهِ وَأَمْسَكَ مِنْ لِسَانِهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِيمٌ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ وَاللَّهِ رَغَّبْتَنِي فِي الْعَمَلِ وَحَثَثْتَنِي عَلَيْهِ وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ صِرْنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَفْضَلَ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْكُمْ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَنَحْنُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ؟!

فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّكُمْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَفِقْهٍ وَإِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ سِرّاً مِنْ عَدُوِّكُمْ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ مُطِيعِينَ لَهُ صَابِرِينَ مَعَهُ مُنْتَظِرِينَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ خَائِفِينَ عَلَى إِمَامِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ تَنْتَظِرُونَ إِلَى حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْمَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِكُمْوَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالْخَوْفِ مَعَ عَدُوِّكُمْ فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمُ الْأَعْمَالَ فَهَنِيئاً لَكُمْ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا تَرَى إِذاً أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ وَيَظْهَرَ الْحَقُّ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ دَوْلَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ؟

فَقَالَ (عليه السلام): «سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْبِلَادِ وَيَجْمَعَ اللَّهُ الْكَلِمَةَ وَيُؤَلِّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ حُدُودُهُ فِي خَلْقِهِ وَيَرُدَّ اللَّهُ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ فَيَظْهَرَ حَتَّى لَا يُسْتَخْفَى بِشَيْ ءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ؟ أَمَا وَاللَّهِ يَا عَمَّارُ لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ فَأَبْشِرُوا»(1).

ص: 190


1- الكافي: ج1 ص333 - 335.

ولكن روايات الهدنة بحاجة إلى بحث فقهي أوسع وأعمق من حيث مضمونها ودلالتها ومن حيث حدود دلالتها وقد نوفق له في وقت آخر.

كما أن الطائفة السابعة من الأخبار وهي روايات التقية، بحاجة إلى أن يكتب حولها كتاب مستقل يتضمن فيما رخصة أو عزيمة أو التفصيل بين الموارد كما هو المستظهر، وغير ذلك؛ وقد كتب فقهائنا الأبرار رسائل أو كتباً عديدة عنها ومنها ما كتبه الشيخ الأنصاري (قدس سره) في (رسالة في التقية) ومنها تقريرات للشيخ الداوري حفظه اللّه باسم (التقية في فقه أهل البيت (عليهم السلام)) في ثلاث مجلدات، ومنها غير ذلك.

ص: 191

ص: 192

الفصل السابع: المرجعيات

اشارة

ص: 193

ص: 194

سبق: إن سباب الآخرين في وسائل التواصل الاجتماعي أو الفضائيات أو الإذاعات أو الجرائد والمجلات وشبهها، هو شأن من الشؤون العامة، ولا يحق لآحاد المكلفين التصدي للشؤون العامة إلا بعد الرجوع إلى الفقهاء - وفيما نرى شورى الفقهاء - وإلى أهل الخبرة - في تشخيص الموضوع وحدوده وآثاره المختلفة - وإلى أكثرية الناس فيما كان تأثيره سلباً أو إيجاباً يعمم ويشملهم. وتفصيل ذلك:

أولاً: مرجعية الفقهاء

والأدلة على ذلك كثيرة ومنها: «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ».

قال الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: «ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ»(1).

ومن الواضح إن سِباب أهل الريب والبدع على قسمين:

فتارة يسب أحدَهم في غرفة مغلقة مثلاً، فذلك مما قد يقال إنه ليس من الشؤون العامة وليس من (الأمور والأحكام) وإنه قد أوكل الموضوع إلى المكلف نفسه، وإن كان عليه أن يأخذ الحكم من المرجع.

وتارة يسبّ أهل الريب والبدع على مستوى الجرائد والمجلات والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يصل للقريب والبعيد والصديق والعدو

ص: 195


1- تحف العقول: ص237.

والمحب والمبغض، ومما تنعكس آثاره بالتبع على الشيعة بشكل عام، فهذا القسم لا شك في أنه من الأمور التي مجاريهابأيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله وحرامه.

بعبارة أخرى: لا ريب أن سبّ رؤساء الكفار أو رموز الأديان أو المذاهب الأخرى، مما تنطبق عليه الرواية الشريفة «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ»، وإلا إذا لم تكن منها فما هي الأمور التي بأيدي العلماء؟ وكيف لا تكون كذلك وهي مما تنعكس تأثيراتها(1) على الشيعة عامة أو على شرائح واسعة منهم؟!

بعبارة أخرى: إن الضابط العام في مثل: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2) ومثل: «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ» هو أن أي أمر صدق عليه أنه (أمرهم) فهو شورى بينهم فلا يحق لأحد أن يستفرد باتخاذ القرار فيه - وقد فصّلنا الكلام عن آية الشورى في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) ولعله تأتي إشارة إليه - وكذلك كل أمر صدق عليه (الأمور) وهو جمع محلى باللام فيشمل كل شيء، ولا شك أن سبّ رموز الآخرين أمر من الأمور - بل من الأمور الهامة - فيجب الرجوع فيه إلى العلماء باللّه الأمناء على حلاله وحرامه.

بعبارة أخرى: (الأمور) عام يشمل كل موضوع، حتى الشخصي(3)

- كالسبّ في غرفة مغلقة مثلاً - فإذا دلّ الدليل(4) على خروج الأمر الشخصي عن العموم، فلا شك في بقاء الأمر النوعي في دائرة العموم؛ وإلا للزم لغوية القول بأن مجاري

ص: 196


1- السلبية برأي بعض والإيجابية برأي بعض آخر.
2- سورة الشورى: 38.
3- أي من جهة احتمال ثبوت حكم شرعي له، لا من حيث هو موضوع من الموضوعات الصرفة.
4- ولو كان هو الانصراف ومناسبات الحكم والموضوع.

الأمور بأيدي العلماء.

ولئن أبيتَ عن شمول الأمور لمثل سباب رموز الآخرين على رؤوس الاشهاد مما يتموج بالسلب - أو الإيجاب على مدعى الطرف الآخر - على الشيعة أو على قطاعات واسعة منهم - رغم بداهة أنه من الأمور بل من أظهرها - فلا مجال لإنكار أنه من (الأحكام) وقد قال الإمام (عليه السلام): «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِالْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ» فالحكم يؤخذ منهم أي حكم سباب العامة على رؤوس الاشهاد.

ولا بأس بالإشارة إلى أن قوله (عليه السلام): «الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ» المراد به العلماء به جل اسمه وأحكامه وقوانينه التشريعية، ولا يكون الشخص عالماً بها إلا إذا علم أصولها وفروعها وشرائطها وموانعها ومزاحماتها والمخصصات لها أو الحواكم عليها وغير ذلك.

الأمر بالمناظرة خطاب عام وحكم خاص

ومما يوضح ذلك أكثر: الجدال والهداية والإرشاد والمناظرة، فإنه لا شك في عموم خطاباتها لعامة المكلفين، ولكن مع ذلك نجد أنها مقيدة بالشرطين أعلاه، فلاحظ مثلاً قوله تعالى: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(1) والخطاب - بظاهره - نفياً أو إثباتاً للكل و(ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(2) والخطاب أيضاً للكل وإن كان طرف الخطاب شخصه الكريم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وكذلك الروايات الشريفة:

ومنها: عن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى

ص: 197


1- سورة العنكبوت: 46.
2- سورة النحل: 125.

آلِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي: «خَاصِمُوهُمْ وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَبَيِّنُوا لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَبَاهِلُوهُمْ فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) »(1) وأنت ترى أنه، إضافة للآيات، فالرواية صريحة في أن الخطاب للجميع «خَاصِمُوهُمْ» ولم يقل (خاصمهم) و«وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ» مع وضوح أن الكل واجب عليه ذلك وجوباً كفائياً.

ولكن مع ذلك نجد أن الإمام (عليه السلام) لم يترك أمر المناظرة والحوار لعامة الشيعة بل صرّح بأن الحكم خاص بالبعض وأجاز للبعض المناظرة ومنع البعض من المناظرة، بل نجد أنه (عليه السلام) فيبعض الفترات منع عامة الشيعة من المناظرة إلا من استثناه هو خاصة.

منع الإمام (عليه السلام) الكثيرين من الكلام وأمره البعضَ به

والروايات في هذا الحقل كثيرة:

ومنها: إنه روي عنه (عليه السلام) أنه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: «هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه»(2)، فالإمام يمنع شخصاً لا لأنه غير بصير بالحجج بل لمجرد(3) أن غيره أبصر بالحجج! هذا أولاً ولأن غيره أرفق في الاحتجاج فهذا ثانياً، ومن الواضح أن كل إنسان يحسن الظن بنفسه عادةً ويرى أنه الأبصر بالحجج والأعرف، ولكن تشخيصه ليس بحجة بل تشخيص ولاة الأمر هو الحجة، بل لو شخّص أنه بصير بالحجة لما صح له أن يتصدى إلا بعد الرجوع لولاة الأمر.

ص: 198


1- بحار الأنوار: ج10 ص452.
2- تصحيح الاعتقاد: ص71.
3- حسب قاعدة الأصل في أفعل التفضيل، فتدبر.

وهنا نؤكد مرة أخرى: ان القدر المسلّم من ذلك ما كان للمناظرة انعكاسات على الوضع الشيعي العام بحيث عدّ من (الأمور) أو (الشؤون العامة) واما ما كان خاصاً بالمتناظرين فقط فقد يقال بعدم شمول الروايات لمثله؛ للانصراف أو غيره، فتأمل.

ومنها: عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنَّ النَّاسَ يَعِيبُونَ عَلَيَّ بِالْكَلَامِ، وَأَنَا أُكَلِّمُ النَّاسَ! فَقَالَ: «أَمَّا مِثْلُكَ مَنْ يَقَعُ ثُمَّ يَطِيرُ، فَنَعَمْ، وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ ثُمَّ لَا يَطِيرُ فَلَا»(1).

وروي عَنِ الطَّيَّارِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهْتَ مُنَاظَرَةَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا كَلَامُ مِثْلِكَ فَلَا يُكْرَهُ مَنْ إِذَا طَارَ يُحْسِنُ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ وَقَعَ يُحْسِنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا لَا نَكْرَهُهُ»(2).

فرغم أن الأمر بالجدال في الآية عام وفي تلك الرواية«خَاصِمُوهُمْ وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَبَيِّنُوا لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَبَاهِلُوهُمْ فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) » إلا أن الإمام (عليه السلام) يضع ضوابط، ثم إنه هو الذي يشخّص المصداق ويمنع شخصاً ويجيز لآخر.

ومنها: عن أبي خالد الكابلي، قال: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت: إن أبا عبد اللّه (عليه السلام) ينهانا عن الكلام.

فقال: أمرك أن تقول لي؟

فقلت: لا واللّه، ولكن أمرني أن لا أكلم أحداً، قال: فاذهب فأطعه فيما أمرك.

ص: 199


1- رجال الكشي: ص319.
2- رجال الكشي: ص 348.

فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب وأطعه فيما أمرك، فتبسم أبو عبد اللّه (عليه السلام) وقال: «يا أبا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير وينقض، وأنت إن قصّوك لن تطير»(1).

الاستدلال بحكومة «مَجَارِيَ الْأُمُورِ...» لا بالقياس

وليس الاستدلال بتنظير السباب بالمناظرة كي يقال إنه نوع من القياس، بل الاستدلال بحكومة عمومات «مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ» وغيرها وك«وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه»(2) مما فصّلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وسائر الروايات الدالة على وجوب الرجوع إلى العلماء في «الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ» و(الأمور) و(الأحكام) وأيّ أمر أهم من سلسلة قضايا منها سباب رؤساء الدول الأخرى أو رموز الأديان الأخرى، على مستوى عالمي، مما أثار على مرّ التاريخ التوترات والأزمات بل والحروب - بالفعل أو لاحقاً - بين الدول والأمم والطوائف والفرق. قال الشاعر:

جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ *** وَلا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

السباب شأن عام ومن الموضوعات العامة

والحاصل: إنه حتى في موارد جواز سبّ الطرف الآخر، ومنها سبّه من باب المقابلة بالمثل لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(3) فإنه إذا صار شأناً عاماً فالواجب الرجوع إلى العلماء باللّه

ص: 200


1- رجال الكشي: ص185.
2- الاحتجاج: ج2 ص469.
3- سورة البقرة: 194.

الأمناء على حلاله وحرامه، والاستئذان منهم، ثم إن الفقيه لا يأذن عبثاً فإنه لا يجوز ذلك بل عليه دراسة كافة الظروف والشروط الذاتية والموضوعية والآثار الحالية والمستقبلية، وبعد مشورة مجموعة معتدّ بها من أهل الخبرة، بل وفيما نرى بعد مشورة سائر الفقهاء كما فصلناه في (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) وسيأتي الكلام عن ذلك وعن بعض شرائط الإفتاء بمثل ذلك لاحقاً بإذن اللّه تعالى.

باب التزاحم وعدم زحزحة الإمام (عليه السلام) للبدع

كما أن مما يوضح ذلك أكثر: أن الإمام علياً (عليه السلام) رغم أنه صار حاكماً على عشرات الدول بجغرافية اليوم(1) ورغم تصريحه بقيام الثلاثة قبله ببدع قطعية إلا أنه لم يغيرها أصلاً.

فلاحظ قوله (عليه السلام) في هذه الرواية: ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَخَاصَّتِهِ وَشِيعَتِهِ فَقَالَ (عليه السلام): «قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِهِ وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم).

ص: 201


1- هناك اختلاف في عدد الدول الإسلامية فقد قيل إنها خمسون دولة وقيل إنها 23 دولة بجغرافية اليوم، ولعل وجه الفرق أن الأول عدّ الدول الفدرالية نظير الأمارات العربية المتحدة أو التي تحظى باستقلال ذاتي أو شبهه دولاً عديدة أو لاحظ انقسامات الدول في مراحل زمنية مختلفة. وقد يقال: إن (التعريف) هو الفيصل: فهل الدولة الإسلامية هي التي ديانتها الإسلامية رسمية؟ أو التي أكثريتها (أي فوق ال-50(عليهم السلام)) مسلمون؟ أو التي هي عضو في منظمة التعاون الإسلامي؟ وقد قيل إن منظمة التعاون الإسلامي تضم 53 دولة إسلامية و4 دول بصفة مراقب. وعلى ضوء كله يجب دراسة المساحة التي امتدت إليها حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأما الدول الإسلامية الحالية فهي في قارة آسيا 27 دولة وفي قارة أفريقيا 26 دولة - كما قيل.

- أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَمَرْتُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) فَرَدَدْتُهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم)،

- وَرَدَدْتُ فَدَكاً إِلَى وَرَثَةِ فَاطِمَةَ $،

- وَرَدَدْتُ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كَمَا كَانَ(1)،

- وَأَمْضَيْتُ قَطَائِعَ أَقْطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لِأَقْوَامٍ لَمْ تُمْضَ لَهُمْ وَلَمْ تُنْفَذْ،

- وَرَدَدْتُ دَارَ جَعْفَرٍ إِلَى وَرَثَتِهِ وَهَدَمْتُهَا مِنَ الْمَسْجِدِ،

- وَرَدَدْتُ قَضَايَا مِنَ الْجَوْرِ قُضِيَ بِهَا وَنَزَعْتُ نِسَاءً تَحْتَ رِجَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَرَدَدْتُهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَاسْتَقْبَلْتُ بِهِنَّ الْحُكْمَ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَحْكَامِ،

- وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّ بَنِي تَغْلِبَ، وَرَدَدْتُ مَا قُسِمَ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ،

- وَمَحَوْتُ دَوَاوِينَ الْعَطَايَا وَأَعْطَيْتُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) يُعْطِي بِالسَّوِيَّةِ(2) وَلَمْ أَجْعَلْهَا دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ

- وَأَلْقَيْتُ الْمَسَاحَةَ وَسَوَّيْتُ بَيْنَ الْمَنَاكِحِ،

- وَأَنْفَذْتُ خُمُسَ الرَّسُولِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفَرَضَهُ،

- وَرَدَدْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَسَدَدْتُ مَا فُتِحَ فِيهِ مِنَ الْأَبْوَابِ وَفَتَحْتُ مَا سُدَّ مِنْهُ،

- وَحَرَّمْتُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَحَدَدْتُ عَلَى النَّبِيذِ، وَأَمَرْتُ بِإِحْلَالِ الْمُتْعَتَيْنِ،- وَأَمَرْتُ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ،

- وَأَلْزَمْتُ النَّاسَ الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)،

ص: 202


1- لأن قسماً من الأحكام الشرعية رتبت على الصاع الشرعي كالكفارة إذ أحيلت على الصاع، فتكبيره أو تصغيره مغرٍ بالجهل عادة.
2- لعله كان ذلك في بداية الأمر، ثم لما استتبّ له بعض الأمر - ولعله كان بعد فترة وجيزة - قسّم بالسَّويَّة وباللّه العالم.
3- أي الجهر بها في الصلاة الجهرية.

- وَأَخْرَجْتُ مَنْ أُدْخِلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فِي مَسْجِدِهِ مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أَخْرَجَهُ وَأَدْخَلْتُ مَنْ أُخْرِجَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أَدْخَلَهُ.

- وَحَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الطَّلَاقِ عَلَى السُّنَّةِ وَأَخَذْتُ الصَّدَقَاتِ عَلَى أَصْنَافِهَا وَحُدُودِهَا،

- وَرَدَدْتُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا وَشَرَائِعِهَا وَمَوَاضِعِهَا،

- وَرَدَدْتُ أَهْلَ نَجْرَانَ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ، وَرَدَدْتُ سَبَايَا فَارِسَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلی اللّه علیه وآله وسلم)،

- إِذاً لَتَفَرَّقُوا عَنِّي،...»(1).

مع أن المذكورات كان تتراوح بين المحرمات وبين البدع وبين ما كان من أعظم البدع؛ ألا ترى أنك لو صرت حاكماً مبسوط اليد وجب عليك إرجاع فدك؟ - بل يرى ذلك كل شيعي بديهياً! - وكان عليك أيضاً المبادرة إلى إلغاء تلك البدع والحيلولة دونها؟ ولكن مع ذلك فإن الأمر مندرج في باب التزاحم والأهم والمهم، (بين تغيير تلك المذكورات وبين إحقاق مجمل الحق والحيلولة دون الأكثر منها) فكيف يتوهم متوهم أن أمر السباب ليس مندرجاً في باب التزاحم والأهم والمهم وإن كل شخص بمقدوره أن يشخّص الأهم والمهم النوعي وتزاحم مصالح أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على امتداد البسيطة؟!

ثانياً: التشخيص لأهل الخبرة والعقل والحكمة

مرجعية أهل الخبرة، بمعنى أن تشخيص الموضوعات في الشؤون العامة راجع إلى مراجع التقليد أولاً وإلى تشخيص مجموعة معتد بها من أهل الخبرة

ص: 203


1- الكافي: ج8 ص59 -63.

ثانياً، وتكون النتيجة هي المحصلة الناتجة عن استعانة الفقهاء العظام بأهل الخبرة والاختصاص في الشأن العامسياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم عسكرياً أم غير ذلك فكيف إذا كان يؤثر على تلك الجهات كلها أو معظمها؟ وتوضيحه:

إن الفقهاء على مرّ التاريخ اعتبروا أهل الخبرة هم المرجع في تشخيص الموضوعات، ومن ذلك النماذج التالية بدءً من الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) وانتهاءً إلى الفقهاء المعاصرين:

مرجعية أهل الخبرة في كلمات الفقهاء

قال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في الاقتصاد: (ومتى وقع فيها(1) تنازع من أهلها ففرضه الرجوع إلى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه)(2).

وقال في المبسوط: (مرض مشكل لا يعرفه إلا الخواص فإنه يرجع فيه إلى أهل الخبرة من الطب)(3).

كما أنه (رحمه اللّه) حكم فيمن قلع أسنان غيره أن يرجع إلى أهل الخبرة في أنها تعود أو لا وغير ذلك، وعلى ضوء ذلك يقرر القصاص وعدمه.

كما ذهب إلى أن مرجع تعديل الشاهدين هو إلى أهل الخبرة والبصيرة والمعرفة.

وقال في المختصر النافع: ((الثامنة) يُقوّم المبيع صحيحاً ومعيباً، ويرجع المشترى على البائع بنسبة ذلك من الثمن. ولو اختلف أهل الخبرة رجع إلى القيمة الوسطى)(4).

ص: 204


1- الرئاسة.
2- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: ج1 ص192.
3- المبسوط في فقه الإمامية: ج4 ص45.
4- المختصر النافع في فقه الإمامية: ج1 ص126.

وفي الشرائع: ما ملخصه: إن المرجع هم أهل الخبرة في اندراس القبر فيجوز نبشه حينئذٍ.

بل قال في الجواهر: (معلومية الرجوع إلى أهل الخبرة في كل ما لهم خبرة فيه)(1).وقال في العروة: (والمرجع في تعيينه - أي الأعلم - أهل الخبرة والاستنباط)(2).

وقال في العروة أيضاً: (نعم اللازم معلومية كون التبديل(3)

أصلح وأنفع بحسب أنظار أهل الخبرة وتصديق الحاكم الشرعي وإذنه من طرف البطون)(4).

وهذه العبارة هامة جداً إذ إنها صريحة في اعتبار (أنظار أهل الخبرة) في مورد مسلّمية ثبوت الولاية شرعاً للفقيه والمورد هو: الوقف الذُرّي لكون الفقيه ولياً للبطون اللاحقة قائماً مقامها، ومع ذلك عليه الرجوع إلى أهل الخبرة وتصديقهم بان التبديل أصلح وأنفع.

وقال في فقه الصادق (عليه السلام): (ثالثها: الإرتكاز الثابت ببناء العقلاء، حيث جرى بناؤهم في كل أمر راجع إلى المعاد والمعاش على رجوع الجاهل إلى العالم من جهة كونه أهل الخبرة والإطلاع، ولم يردع الشارع الأقدس عن ذلك)(5).

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه): (ولذا جرت السيرة بين أهل الرجال على صِرف الجرح والتعديل، ويؤخذ بقولهم فيهما، كما جرت السيرة بين العقلاء على قبول قول أهل الخبرة مطلقاً من دون ذكر السبب، كأهل العلوم من اللغويين

ص: 205


1- جواهر الكلام: ج11 ص405.
2- العروة الوثقى: ج1 ص22.
3- أي تبديل الوقف.
4- العروة الوثقى: ج6 ص392.
5- فقه الصادق (عليه السلام): ج16 ص159.

والصرفيين والنحويين والبلاغيين وغيرهم.

أما اعتبار أن يكون القائل خبيراً، فقد تقدم وجهه في اعتبار أن يكون ضابطاً)(1).

وقال: (مسألة: إذا تعارض الجرح والتعديل، فإن كان أحدهما أتقن وأدق أخذ به، ولا يعتنى بقول الآخر، لأنه بناء العقلاء في تعارض أهل الخبرة، ولذا نراهم يعملون بقول أدق الأطباء في ما تعارض في أن المرض سل أو سرطان، إلى غيرهم من أهل الخبرة)(2).

ومن الواضح أن الموضوعات التي تقع في دائرة الشؤون العامة هي أحوج إلى أنظار أهل الخبرة فإنها أكثر تعقيداً وعمقاً وغوراً وأبعاداً كما أنها أهم بما لا يقاس، من الموضوعات الخاصة كهذا المرض أو هذا المعيب أو ذلك الشاهد أو هذا الوقف وتبديله.

والحاصل: إنه إذا كان اللازم الرجوع إلى أهل الخبرة في الموضوع الشخصي الخاص مع أنه ينعكس بالسلب أو الإيجاب على شخص واحد أو على أشخاص متعددين فقط، فما بالك بالموضوعات العامة (كالسباب العلني العام على رؤوس الأشهاد للحكومات أو لرموز الأديان والمذاهب الأخرى وشبه ذلك) والتي تنعكس بالسلب - أو ببعض الإيجاب حسب الرأي الآخر - على الطائفة أو على المذهب؟!

وقد سبق:

(متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟

والواجب على الفقيه في مقام الاستنباط أمران:

أولاً: استفراغ الوسع في استنباط الحكم الشرعي ووجوه الجمع بين طوائف

ص: 206


1- موسوعة الفقه/ حول السنة المطهرة: ج111 ص66.
2- موسوعة الفقه/ حول السنة المطهرة: ج111 ص67.

الروايات؛ فإنها حسب التحقيق أكثر من طائفتين.

ثانياً: ثم الواجب عليه إذا تصدى لبيان الحكم(1) تنقيح الموضوع وأنه هل هذا هو المطلوب في هذا الزمان وهذا المكان وفي هذه البيئة؟ وهل هو مطلوب من هذا الشخص وبالنسبة إلى هذه الجهة أو الفئة أو الدولة أو الشخص؟ أو عكسه هو المطلوب؟ إذ على الفقيه دراسة كافة مقتضيات باب التزاحم في الموضوع وكافة تأثيرات سباب الآخرين من أشخاص وحكومات على الدين وأهله وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) في شتى البلاد حقوقياً، أمنياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن ذلك للفقيه عادة إلا باستشارة مجموعة معتنى بها من أهل الخبرة بأوضاع البلاد وأوضاع المسلمين والناس في كل مكان، وذلك يعني وجوب استشارة خبراء بعلم الاجتماع وبعلم النفس الاجتماعي وبعلم السياسة وشبه ذلك كي يكون تنقيحهللموضوع وللحادثة الواقعة مبرءً للذمة إن شاء اللّه)( (2).

ومن الواضح أن الخبراء بعلم نفس الأمم وخبراء علم الاجتماع - ونعني بالخبراء التطبيقيين منهم لا المنظرين بمعزل عن الناس - وأهل الحل والعقد أو فقل أهل العقل والحكمة وأهل العلم والبصيرة بالمجتمعات وبسياسة الدول وغيرها، هم القادرون بعد البحث المستفيض وبعد القيام بإجراء استبيانات واستطلاعات وغيرها، على تشخيص نطاق أضرار سباب رموز الآخرين وتموجاته على المجتمعات الإسلامية ومدى منافعها والموازنة بينهما فإذا رأينا أن منهج السباب أدى إلى هداية عشرة آلاف شخص فرضاً، عبر سياسة الصدمة أو شبه ذلك، فإن اللازم دراسة الأضرار أيضاً وهل أن منهج السباب سبّب ابتعاد عشرة آلاف أو مائة ألف أو مليون أو أقل أو أكثر عن الدين أو عن منهج أهل البيت (عليهم السلام)؟

ص: 207


1- بنحو القضية الخارجية.
2- سبق الكلام في الصفحة 49، والكلام منقول من كتاب (وكل يعمل على شاكلته).

وهل أنه ولد جداراً سميكاً من الحاجز النفسي أمام الكثيرين ممن كان يمكن أن يهتدي لو انتهجنا معهم أسلوب (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(1)؟

وأيضاً لا بد من دراسة ردود أفعال حكوماتهم على مجمل وضع الشيعة في بلادهم وعلى علاقتهم مع الشيعة في الدول الأخرى وغير ذلك.

من الخطأ إصدار حكم بهدر دم كاتب أو مفكر

ومن هنا فإن الكثير من أهل الخبرة والعلماء وجدوا أنه من الخطأ الاستراتيجي إصدار فتاوى بهدر دم فلان أو فلان لأنه كتب كتاباً ضد الإسلام أو لأنه قال كذا وكذا .. ويشهد لذلك أن أحدهم كان مغموراً ومع أنه كانت له روايات وقصص سابقة ضد الإسلام إلا أن مبيعاتها كانت محدودة جداً(2)، إلا أن الفتوى بهدر دمه قفزت بمبيعات كتبه إلى الملايين، ومن الواضح أن الباطل يموت بموتذكره وأن الفتوى بهدر دمه سببت:

أولاً: انتشار كتبه بشكل رهيب مذهل.

ثانياً: اكتسابه تعاطفاً عالمياً غريباً.

ثالثاً: كما سبّبت تشويه سمعة الإسلام والمسلمين بأنهم غوغاء فوضويون لا منطق لهم ولذا تراهم يقارعون الكلمة الحرة بهدر الدماء!.

وهذا كله مع أنه كان من الأفضل عقلاً ومنطقاً كتابة ردود علمية منطقية أو روائية قوية رداً على كتابه، بدل انتهاج منهج الصدمة والعنف!

والغريب أن كتابه فاقد للقيمة العلمية تماماً وهو مليء بالأكاذيب

ص: 208


1- سورة النحل: 125.
2- بالألوف أو بعشرات الألوف فقط.

والمجعولات على أن بعض ما فيه مقتبس من كتب أهل العامة فأمثال صحيح البخاري أعطاه الذريعة (الباطلة قطعاً) للتهجم على رسول الإنسانية الخالد (صلی الله علیه وآله وسلم)، لكن الفتوى بهدر دمه صوّرته بصورة المفكر الكاتب الأديب صاحب الفكر الحرّ كما صورتنا بصورة الغلاظ الشداد القساة السفاكين للدماء!

ولقد كان المفروض على من يريد أن يصدر الفتوى أن يجمع المئات من الخبراء من أرجاء العالم الإسلامي من أهل الحل والعقد ومن أهل السياسة ومن علماء النفس والاجتماع ومن العلماء من شتى الحوزات الدينية، ليقيِّموا آثار مثل هذه الفتوى على مستوى العالم، سلباً - أو إيجاباً، بزعم الطرف الآخر - على وضع الشيعة والعالم وعلى سمعة الإسلام والمسلمين، ثم بعد الاستشارة المكثفة وإجراء الدراسات العلمية كان يجب أن يتخذ القرار بنوع الردّ الأمثل(1).

والمأساة أننا بهذه الطريقة العجيبة نتعامل مع مختلف قضايا الشؤون العامة والظواهر الاجتماعية الكبرى ونتخذ القرار تارة في سباب الآخرين - حكومات ورموزاً - وتارة في هدر دمائهم، وأخرى في شن حرب أو إجراء معاهدة أو غير ذلك .. وإذا بقيت حالنا كذلك فسنبقى لا سمح اللّه متخلفين تعجب من بدائيتنا

ص: 209


1- وإن ذلك لهو الفارق بين الدول المتطورة ودولنا، فإنهم يعتمدون على أهل الخبرة والعلم والكفاءة في كل شيء بدءً من صناعة الإبرة حتى صناعة سفن الفضاء التي تجوب أنحاء المجرّة، وبدءً من هندسة البيوت حتى هندسة المدن، وبدءً من دراسة أساليب التعليم ومناهجه حتى تطبيق مختلف مناهج علم الاجتماع وعلم النفس التطبيقيين وعلم الأعصاب وسائر العلوم على شتى الظواهر الاجتماعية. أما المأساة الكبرى في دولنا فهي أن كل شيء ارتجالي، وأن الأساس أصبح هو الاعتماد على القرارات الشخصية وعلى الولاءات دون الكفاءات، فلاحظ رؤساء بلادنا والوزراء ولاحظ المسؤولين ولاحظ قراراتهم في شتى الحقول في الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم العالي وغيرها وقارنها بدول العالم المتحضر لتعرف سرّ تخلفنا وفشلنا وسر تقدمهم.

وتخلفنا الأمم!.

ثالثاً: والقرار العملي مرتَهن بأكثرية المؤمنين

إن المرجع بعد ذينك الأمرين - الفقهاء العظام(1) وأهل الخبرة -، في اختيار الموقف العملي وتعيينه هو شورى الناس الذين صدق عليهم ضمير (أمرهم) في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2)(3) وقد فصّلنا الكلام عن ذلك بإسهاب في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)، فراجع.

وإجماله في سطور: إن الحكم الشرعي يؤخذ من الشارع (الأقدس) وأما الموضوع المستنبط العام أي الشؤون العامة(4) فإنه يرجع فيها إلى العلماء وأهل الخبرة وأهل الشورى بالاشتراك أي أن العلماء يقومون بتحديد الموقف الأصلح بعد مشورة الخبراء ويمارسونه عملياً بعد انعقاد رأي أكثرية الأمة على ذلك أي أنه لايجوز لهم جبر الأمة على رأيٍ، بل ولا يجوز لهم التصرف في شؤون الناس بدون رضاهم لأن ولايتهم - على فرض القول بها - تعليقية أي أنها معلقة على رضا الناس بإعمالها في حقهم فإن لم يرضوا سقط تكليف الفقيه ولم يجز له حينئذٍ التصرف في شأنهم دون رضاهم ولا جبرهم على أمر لا يرضونه(5)، ألا ترى أن الحرب من الشؤون العامة التي تنعكس بظلالها على كافة الأمة؟ وألا

ص: 210


1- بل شورى الفقهاء وشورى القيادات الإسلامية.
2- سورة الشورى: 38.
3- وهم عامة المؤمنين في شتى البلاد الإسلامية، فيما كان القرار يتموج عليه ويؤثر على أحوالهم.
4- لا الموضوعات الصِّرفة، ولا المستنبطة الشرعية، أو اللغوية، أو العرفية الخاصة، فإن المستنبطة الشرعية تؤخذ من العلماء واللغوية تؤخذ من أهل الخبرة في اللغة والعرفية من العرف، كما فصلناه في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى)، فراجع.
5- تجد تفصيل ذلك في كتاب (حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي (رحمه اللّه))، فراجع.

ترى أن وجوبها يؤخذ من الشارع ومن مثل قوله تعالى: (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفينَ)(1) ومع ذلك فإن كيفية الحرب وزمانها ومكانها وسائر خصوصياتها يجب أن تكون بمشورة أهل الخبرة وأن يتخذ القرار بالشورى ولا يصح جبر الناس عليها؛ لصريح قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ولغير ذلك مما فصّلناه في الكتاب.

وإذا كان حال الحرب ذلك .. فما بالك بحال السبّ؟ أي أنه إذا جاز أو وجب سبّ بعض الأعداء(2) مثلاً أو مطلق أهل الريب والبدع بشروطها الكثيرة، فإن (تشخيص) مَن يَسب؟ ومتى يسب؟ وكيف يسب؟ وإلى أي حد يسب؟ وعلى أي مستوى؟ يعود للمراجع العظام والخبراء والحكماء، واما القرار العملي فيه فيعود لأكثرية أهل الشورى.

فمثلاً: قد يدرج المراجع والخبراء والحكماء الأمر في دائرة التفاوض مع الطرف الآخر وقد يوكلون الأمر إلى لجنة من الحكماء والخبراء والسياسيين المحنكين والمفكرين لصياغة الأسلوب الأمثل للتعاطي مع أهل الريب والبدع، على ضوء رأي المراجع والخبراء، ثم لا يكون القرار العملي، فيما كان ينعكس بالسلب والإيجاب على الأمة والمجتمع - لا في المجالات الفردية والمغلقة كما سبق -، إلا بعد اجتماع آراء أكثرية الأمة على ذلك.

وقد جرى تفصيل أن ولاية الفقهاء - على فرضها - تعليقية لا تنجيزية وأنها مشروطة برضا الناس، في كتاب (حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي (رحمه اللّه)) فليراجع.

ص: 211


1- سورة النساء: 75.
2- كداعش.

ومحصل القول: إن (الولاية) على الناس في الشؤون العامة حكم وضعي، ولا دليل على ثبوتها الفعلي المنجز مع كراهة الناس أو حتى مع عدم رضاهم وإن لم يكرهوا، وأما الفتوى فإنها تتطرق للأحكام التكليفية، ولا تلازم بين الأمرين، فإن وظيفة الفقيه استنباط الأحكام والحكم بالحرمة أو الجواز أو الوجوب مثلاً، وليس له أن يجبر الناس - بعد ذلك - على العمل بفتاواه ولا ولاية له عليهم، وأما الناس فهم مخيّرون في العمل بفتاوى أي مجتهد جامع للشرائط، لكنهم لو خالفوا فقد خالفوا الحجة الشرعية فإن كان الرأي الاجتهادي مصيباً فقد عصوا وإلا فقد تجرّوا، ولكن على أية حال لا يجبرون على الالتزام بحكم، وأما العقاب والثواب فأمرهما موكول إلى الآخرة.

نعم ذلك كله في الشؤون العامة كالحرب والسلم والمعاهدات الدولية وكل ما ينعكس بآثاره على عامة الناس أو شرائح واسعة منهم، أما الشؤون الفردية كشرب الخمر وشبهه فإن الواجب الالتزام بالنواهي والأوامر، ومن خالف فالواجب نهيه عن المنكر، حسب درجاته، على الخلاف في درجاته في زمن الغيبة.

عمل الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) برأي الأكثرية في معركة أحد

ويكفي في هذه العجالة أن نقول إنه إذا أرجع النبي الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) على عظمته وسمو مقامه وكون عقله أكمل العقول - حتى مع قطع النظر عن مقام نبوته - القرار العملي في أمر مصيري جداً كمعركة أحد وكيفيتها إلى أكثرية المسلمين(1)، رغم أن رأيه المبارك كان على خلاف رأيهم، فما بالك بالفقهاء؟ وما بالك بموضوع أقل خطورة من الحرب مثل السباب؟ وذلك لأن أدنى خطأ في الحروبقد ينتهي إلى تعريض المسلمين للخطر بل وقتل الكثير منهم.

ص: 212


1- أو إلى الكثير منهم على الأقل وذلك حسبما يستنبط من كتب التاريخ والروايات.

بل إن مثل ذلك الخطأ الناتج عن رأي الأكثرية في معركة أُحد كاد - بحسب الظاهر - أن يؤدي بحياة النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) نفسه وكاد الكفار - بحسب الظاهر - أن يقضوا على الإسلام من أساسه - لو انتصر المشركون في المعركة -(1) ولكن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) رغم أنه كان يرى أن الصحيح هو مقاتلة المشركين - وكان المشركون ألفين وكان المسلمون سبعمائة -(2) وهم - أي المسلمون - بالمدينة، أي كان يرى استدراج الكفار إلى المدينة ومواجهتهم وهم داخل المدينة(3)، مع تسليح الأطفال والنساء

ص: 213


1- ونقول (كاد) لأن الظاهر أن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كان يعلم بانتصار المسلمين في كلتا الصورتين، إلا أن الخسائر في إحداهما - وهي الخروج خارج المدينة - كانت أكثر، واللّه أعلم.
2- كان المسلمون في البداية ألف شخص ثم انسحب عبد اللّه بن أبي مع المنافقين منهم وكان ثلاثمائة فبقي سبعمائة مع الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم).
3- بالقتال من فوق الأسوار وفوق الأسطح، وربما إذا دخلوها: فبقتالهم من فوق الأسطح وعبر حرب الشوارع ولعل ذلك ظاهر رواية الطبرسي (رحمه اللّه): (أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمى الضعفاء من فوق البيوت فأبوا إلا الخروج إليهم فلما صار على الطريق قالوا نرجع قال ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم وكانوا ألف رجل فلما كانوا في بعض الطريق انخذل عنهم عبد اللّه بن أبي بثلث الناس وقالوا واللّه ما ندري على ما نقتل أنفسنا والقوم قومه وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ثم عصمهم اللّه جل وعز وهو قوله (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وأصبح رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) متهيأ للقتال وجعل على راية المهاجرين علياً (عليه السلام) وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة وقعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) في راية الأنصار ثم مر (صلی اللّه علیه وآله وسلم) على الرماة وكانوا خمسين رجلاً وعليهم عبد اللّه بن جبير فوعظهم وذكرهم وقال اتقوا اللّه واصبروا وإن رأيتمونا يخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم. وأقامهم عند رأس الشعب وكانت الهزيمة على المشركين وحسهم المسلمون بالسيوف حسا، فقال أصحاب عبد اللّه بن جبير الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد اللّه: أ نسيتم قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم)! أما أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد إلي فيه رسول اللّه ما عهد. فتركوا أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبون وأقبلوا على الغنائم ...) (إعلام الورى: ص81 - 82) وكذا ظاهر رواية الواقدي: (كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدو منها قط إلا أصاب منا وما دخل علينا قط إلا أصبناهم) (بحار الأنوار: ج20 ص124).

بالحجارة ليرموا بها المشركين من أعالي السطوح، ورغم أنه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) كان يرى خطأ رأي الشباب والشيوخ المتحمسين للخروج إلى خارج المدينة ومواجهة قريش في مكان مكشوف، إلا أنه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أمضى رأي الأكثرية(1)، رغم ما نجم عن ذلك من الخسائر الكبيرة جداً في صفوف المسلمين مِن قتلى بالعشرات ومن جرحى كثيرين جداً بل ومن إصابات مباشرة تعرّض لها الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) إذ شجّ وجهه المبارك وقيل بإنه كسرت رباعيته(2)

وغير ذلك.

لا يقال: إذا علم النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) فكيف يخالف علمه؟

إذ يقال: الأنبياء والرسل مكلفون بالظواهر، لا بالعمل بعلم الغيب، ولذلك قال (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ...»(3).

والغريب أن بعض كبار السن كانوا من صف الأكثرية - أو الكثيرين -، خلافاً للأكثر حكمة ممن كان رأيهم مع رأي النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم)، ولعل السبب الأساس في موقفهم أو موقف الكثير منهم لم يكن تقدير معادلات الخسارة والربح ودرجاتهما في المعركة نفسها، بل كان الحماس الزائد والأَنَفَة من أن يتهموا بالجبن وأن يدخل عليهم المشركون في عقر دارهم فيقاتلونهم فيها!

وقد نقلنا في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) الحادثة وكان مما جاء فيه:

(الرواية السادسة: عمله برأي الأكثرية في الخروج من المدينة

استشارته (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وعمله ظاهراً برأي الأكثرية رغم مخالفتها لرأيه في القضية التالية: (وكان أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) يومئذٍ سبعمائة والمشركين ألفين، وخرج

ص: 214


1- أو الكثير.
2- وانكر ذلك بعض المحققين فلاحظ.
3- الكافي: ج7 ص414.

رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بعد أن استشار أصحابه، وكان رأيه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمي الضعفاء من فوق البيوت، فأبوا إلا الخروج إليهم، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع، فقال: ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم)(1).)(2)

وظاهر (أبوا إلا الخروج إليهم) أن الأكثرية شبه المطبقة هي التي أبت.

ومثل هذه الرواية حجة؛ لا لمجرد ما التزمنا به في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) إذ ظاهر الطبرسي (رحمه اللّه) الاعتماد عليها بل لاعتضادها أيضاً بروايات أخرى من طرق أخرى أيضاً(3)، فتأمل(4).

أقول: ليس معنى (أبوا إلا الخروج إليهم) أنهم أجبروا النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أو أنه اضطر للخروج بل كان من المسلّم أنه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) لو لم يتنازل لهم بل أصر على رأيه أنهم كانوا سيطيعونه حسب تتبع مختلف صفحات التاريخ ولأنه كان القائد العسكري العام بلا منازع.

لا يقال: فلماذا خالفهم بعد ذلك إذ قالوا (نرجع) لما صاروا على الطريق وندموا!

إذ يقال: قد علّله (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بأنه كان حكماً إلهياً: (ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم) (وما كان ل...) ظاهر في الحرمة التشريعية أو في كونه مبغوضاً لله تعالى(5)، ومن الواضح أن الرجوع للشورى والأكثرية لا يكون فيما ورد فيه حكم ونص من السماء.

ص: 215


1- إعلام الورى: ص79 -80.
2- شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية: ص193.
3- كرواية الواقدي الآتية.
4- لأكثر من وجه، فتدبر.
5- فصلنا في كتاب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ) معاني (ما كان ل...) فراجع.

ولاحظ الرواية التالية: (وقال الواقدي: (فقال (عليه السلام): أشيروا عليّ، ورأى أن لا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فقام عبد اللّه بن أبي فقال: يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء، ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو منها قط إلاّ أصاب منها، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناهم، فكان رأي رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) مع رأيه، وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة، وقال رجال من أهل التيه وأهل السن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوسوالخزرج: إنا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، فقال حمزة: والذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة، وكان يقول: كان حمزة يوم الجمعة صائماً ويوم السبت صائماً فلاقاهم وهو صائم، وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول اللّه إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ثم جاؤونا وقد قادوا الخيل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يُكلموا فيجرّؤهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويضعوا الأرصاد والعيون علينا، وعسى اللّه أن يظفرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو يكون الأخرى فهي الشهادة، لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورقّ

ص: 216

عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع اللّه أن يرزقني الشهادة، فدعا له رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) بذلك، فقُتل بأحُد شهيداً.

فقال كل منهم مثل ذلك، فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج صلّى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ثم صلّى العصر ولبس السلاح وخرج، وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) خوفاً من تبييت المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا...)(1).

بعض فقه رواية عمل النبي برأي الأكثرية في أحد

وقد ذكرنا في الكتاب: (فرغم أن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) (رأى أن لا يخرج من المدينة)، و (فكان رأي رسول اللّه (صلی الله علیه وآله وسلم) مع رأيه)، و (كان رأيه (صلی الله علیه وآله وسلم) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك...) كما في رواية الطبرسي (رحمه اللّه)، إلاّ أنه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) اتبع رأي الأكثرية عندما خالفته، رغم أنه كان يرى في رأيها خطر الهزيمة، (فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة).

إن قلت: كان رأي الأكثرية موافقاً له (صلی اللّه علیه وآله وسلم) إذ (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار)!

قلت: لعله يستظهر أن الأكثرية كانت في الجانب المخالف إذ ورد (فأبوا إلا الخروج إليهم) في رواية الطبرسي والواقدي، (فقام فتيان أحداث...)، و(قال رجال من أهل التيه والسن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في

ص: 217


1- بحار الأنوار: ج20 ص124.

غيرهم من الأوس والخزرج)، الظاهرة في أن الأكثرية الساحقة للأوس والخزرج كانت ترى الخروج من المدينة، (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...)، و(فقال كل منهم مثل ذلك فقال (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إني أخاف عليكم الهزيمة»، فلما أبوا إلاّ الخروج...).

فقوله: (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار) إما محمول على مجموعة منهم، كعشرين مثلاً منهم، كعلي (عليه السلام) من هذا الجانب، وعبد اللّه بن أبيّ من ذلك الجانب، وآخر من الجانب الثالث، حيث يطلق على تركيبة من هذا القبيل (الأكابر)، وفيه ما لا يخفى. وأما أن رأي (الأكابر...) تغير عندما رأوا حماسة الشباب من جانب، وعزيمة وإصرار أهل السنّ من جانب آخر، وحججهم القوية من جانب ثالث، (وقال رجال من أهل التيه وأهل السن... إنا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا) و (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...) و.. الخ.

ومن الواضح رغم كل ما قد يقام من الأدلة، أن رأي الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) هو الأرجح والمطابق للواقع، وقد انكشف هذا (أي قول الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم): إني أخاف عليكم الهزيمة) للأصحاب، حيث هزمواهزيمة كبيرة(1)، وقُتل الكثير منهم، منهم حمزة (عليه السلام)، وكاد رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أن يقتل لولا التدخل الإلهي الخارجي الإعجازي وبطولات أسد اللّه الغالب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولذا نجدهم في غزوة الأحزاب أجمعوا على اتباع رأي النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) من البقاء في المدينة.

وقد ورد في بيان شأن نزول آية: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ)(2)، أقوال:

ص: 218


1- ولو كان لمخالفة الرماة الذين وضعهم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) على ثنيّة الجبل.
2- سورة آل عمران: 165.

منها: (إن ذلك مخالفتهم رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) في الخروج من المدينة للقتال يوم أحُد، وكان النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها)(1)(2).

وليس الاستشهاد ب- (شأن نزول هذه الآية) حتى يقال: إنه مختلف فيه، بل الاستشهاد بما أجمعوا على القول به: (وكان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها) فتأمل، إذ قد يكون (وكان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) من تتمة هذا القول، لا تتمة ناقل الأقوال...)(3).

وعلى أية حال فإنه إن اتضح لنا أن الأكثرية كانت مخالفة للنبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وأنه وافق على رأيهم رغم مخالفته لرأيه المبارك، فإن الأمر واضح وهو أرجحية إمضاء رأي الأكثرية في الموضوعات العامة حتى للنبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) - سواء أكان ذلك للتحبيب أم لتعويد الأمة على الشورى في الموضوعات العامة، أو لهما ولغيرهما أيضاً - فكيف بمرجع التقليد؟

وإن لم يتضح ذلك بل استظهرنا أو احتملنا أن المخالفين لم يكونوا أكثرية القوم بل نصفهم أو ربعهم مثلاً فالأمر أوضح إذ إنه(صلی اللّه علیه وآله وسلم) راعى الرأي الآخر المعارض رغم أنه لم يكن الأكثرية فكيف إذا كانت الأكثرية هي المعارضة(4)؟!

ص: 219


1- مجمع البيان: ج2 ص533 ذيل الآية الكريمة، وقد ذكرت أغلب التفاسير هذه الأقوال الثلاثة.
2- علماً بأن القول الثاني في شأن نزولها أيضاً نافع لما نحن فيه وهو (وثانيها أن ذلك باختيارهم الفداء من الأسرى يوم بدر وكان الحكم فيهم القتل وشرط عليهم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم قالوا رضينا...) المجمع: ص533 وغيره، كما سبق تفصيله حول مسألة الفداء.
3- شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية: ص195 - 196.
4- وههنا رأي يقول: إن مراعاة رأي الأقلية فيما ينعكس بالأضرار والمنافع عليها، شرط، وإن رأي الأكثرية إنما ينفذ إذا كانت الأكثرية ساحقة، ك-90(عليهم السلام) مثلاً لا ما إذا كانت أكثرية مطلقة ك-51(عليهم السلام) مثلاً وتفصيل الكلام في ذلك ونظائره أخذاً ورداً، في مظانه، وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المزدوجة).

ولكن قد يعترض: كيف راعى (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أولئك دون هؤلاء؟

وقد يجاب: بأنه إذا تعارضت الطائفتان من غير مرجح ملزِم أو مع تزاحم المرجحات - ككون الأكثرية في هذا الجانب والأصلحية في الجانب الآخر - فلِوليِّ الأمر الخيار، على أن له (صلی اللّه علیه وآله وسلم) الخيار أولاً وأخيراً.

وإذا كان ذلك كذلك في أمر الحرب، فكيف بأمر السباب؟

ملخّص الموقف الشرعي من الشؤون العامة

والحاصل(1): إن أمراً مختلفاً فيه مما كان من دائرة الشؤون العامة كسباب الآخرين على رؤوس الأشهاد ومما ينعكس بتأثيراته على كثير من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وكالدخول في معاهدة مع هذه الدولة أو حرب مع تلك الدولة، وغير ذلك، من حيث كبراه أو صغراه أو كيفيته وزمانه ومكانه ومَن يقوم به وحدود ما يقوم به، يجب أن يرجع فيه إلى المراجع العظام وإلى أهل الخبرة وإلى أكثرية آراء أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فيما يرتبط بهم(2) مباشرةً إن أمكن، وإلا فعبر مختلف القنوات التي تعكس آراؤهم ككبار علماء المناطق المختلفة ومشاهير خطبائها وأئمة جماعاتها ومفكريها وأساتذة جامعاتها والوجهاء فيها ونظائرهم(3)، فان كان رأي الأكثر مع رأي المرجعية (وكان فرضاً التصدي للحرب أو للسبّ، بهذه الكيفية أو تلك) فهو، وإلا سقط التكليف عن المرجعية بل لم يجز حمل الأكثرية رغماً عنها على خلاف رأيها حتى للمرجع نفسه(4)

ص: 220


1- راجع ما سبق تحت عنوان (ثالثاً: والقرار العملي مرتهن بأكثرية المؤمنين).
2- لأنه يعدّ (أمرهم) عرفاً بل وبالحمل الشائع الصناعي دقةً وقد قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ).
3- فإن أمكن استشارتهم بأجمعهم فهو المطلوب، وإلا وجب استشارة مجموعة معتد بها منهم بحيث يحرز نوعاً أنها تعكس رأي أكثريتهم.
4- راجع (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) و(حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه)) لتعرف وجوه عدم ولاية الفقيه القسرية على الناس وعدم جواز أن يحملهم على خلاف رأيهم بدون رضاً منهم.

فكيف بأن يحملهما على ما يخالف رأيها طالب علم أو مثقف أو شباب متحمس؟!

أقربية رأي الشورى من الخبير أو المجتهد الواحد

ثم إن من الأدلة على مرجعية الشورى أي مرجعية آراء أكثرية أهل الشورى، أقربية إصابتها للواقع في الموضوعات المبتلى بها أي في مطلق الموضوعات وفي الشؤون العامة.

لشهادة العقل والعقلاء بذلك

ويدل على أقربية الشورى للإصابة من رأي الفرد الواحد.

أولاً: العقل.

وثانياً: بناء العقلاء فلاحظ مثلاً بناءهم على الاعتماد على اللجنة الطبية أكثر من الاعتماد على الطبيب الواحد، وإنما لم نقل بالتعيين في مثل ذلك ومثل الأعلم لمزاحمة ذلك لمصلحة التسهيل بل واختلال النظام اللازم من فرض إغلاق أبواب غير الأعلم وغير اللجان الشورية، وغير ذلك مما فصلناه في ذلك الكتاب فراجع.

والروايات

وثالثاً: العشرات من الروايات الصريحة في ذلك أو الظاهرة أو الدالة عليه بدلالة الاقتضاء أو التنبيه والايماء والإشارة أو شبه ذلك:

ومن الروايات:

1- عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأخر إلاّ بخير، وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين

ص: 221

والدنيا»(1). فرأيه هو الأهدى سبيلاً من التفرد بالرأي والاستبداد به فكيف بمجوعة من العقلاء الورعين؟!

ولا شك في أن ما هو مفسدة للدين والدنيا محرم، وعليه فيبقى «استشر العاقل...» على ظاهره من الوجوب المولوي دون الاستحباب أو الإرشادية، نعم يخرج ما علم أنه ليس بمفسدة في الدين والدنيا، كالاستشارة في الأمور الهامشية والعادية والثانوية(2) بل إن مناسبات الحكم والموضوع تقتضي خروج أمثال هذه إما تخصيصاً أو تخصصاً.

وعلى أي فإن (الشورى العامة) ومنها سباب رموز الطوائف الأخرى على رؤوس أهل العالم، من الشؤون الخطيرة التي تستلزم إذا كان التشخيص الحكمي أو الموضوعي فيها خطأً، مفسدة في الدين أو الدنيا، فيحرم فيها الاستبداد بالرأي وتجب فيها المشاورة مع عقلاء القوم، ومقتضى الجمع بين أمثال هذه الرواية وأمثال الرواية الخامسة، بشهادة العقل والوجدان، هو:

إن ما تنحصر تأثيراته السلبية على مستوى الشخص نفسه فيكفي فيه استشارة العاقل الناصح الواحد بشرط أن يكون قادراً على الإحاطة بجوانب الأمر وإلا لم تَكفِ استشارته، وأما ما تتسع تأثيراته لتشمل الأمة كلها أو شرائح واسعة منها فإن الواجب استشارة مجموعة من الخبراء بما يحرز إحاطتهم بمختلف الجهات.

2: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق

ص: 222


1- المحاسن: ج2 ص602، ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594، وبحار الأنوار، ج72 ص101، وج88 ص254.
2- نظير انه: هل نشتري هذا الثوب أو ذاك، وهل نأكل هذا الطعام أو ذاك، وهل ندرس عند هذا الأستاذ أو ذاك؟

من اللّه، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(1) وهي ظاهره - كسائر الروايات - في أقربية الرأي الاستشاري للإصابة للواقع، من غيره.

3: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع»، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «أما إنه إذا فعل ذلك لم يخذله اللّه بل يرفعه اللّه ورماه بخير الأمور وأقربها إلى اللّه»(2).

4: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «خاطر بنفسه من استغنى برأيه»(3) والمخاطرة بالنفس محرمة، نعم المخاطرة بفقد أمر كماليٍّ (محبّذ) غير محرمة.

5: عن جعفر بن محمد، عن أبيه 3 قال: «قيل: يا رسول اللّه ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم»(4) والحزم بين واجب ومستحب، على حسب متعلَّقه، ولا شك أن الشؤون العامة من الشؤون الخطيرة التي يجب فيها الحزم ومشاورة ذوي الرأي وإتباعهم.

6: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: فيما أوصى به رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) قال: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير»(5).

ص: 223


1- تحف العقول: ص397/ والمحاسن: ج2 ص602/ ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595.
2- المحاسن: ج2 ص602/ ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596/ وبحار الأنوار: ج72 ص102.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص388/ والأمالي - للصدوق (رحمه اللّه): ص446/ وعيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص53/ ووسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15589.
4- المحاسن: ج2 ص600/ ومكارم الأخلاق - للطبرسي (رحمه اللّه) -: ص319 / ووسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
5- ووسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15583.

7: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر»(1).

وما يورث (الندم) فيما يملك الإنسان أمره مما هو تحت حدود سلطنته، بين مكروه ومحرم، وأما فعل ما يوجب الندم في الشؤون الخطيرة ومنها الشؤون العامة، فمحرم.8: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لن يهلك امرؤ عن مشورة»(2).

والمستفاد عرفاً أنه بدونها يهلك، وقد قال تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(3) ولا وجه لدعوى الانصراف عن الشؤون العامة الخطيرة.

9: وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(4). فلاحظ قوله (عليه السلام) من استبد برأيه هلك؟ وهل يحتمل جواز الاستبداد بالرأي مع ذلك؟!

10: وعنه (عليه السلام): «ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(5).

11: وعنه (عليه السلام): «فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست

ص: 224


1- المحاسن: ج2 ص601، ووسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15584.
2- المحاسن: ج2 ص601، ووسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15585.
3- سورة البقرة: 195.
4- نهج البلاغة: باب حكم مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة:161 وهي مذكورة أيضاً في غرر الحكم: ص266 و284، وفي ربيع الأبرار باب العقل والفطنة للزمخشري.
5- نهج البلاغة: باب حكم مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) الحكمة: 173، وهي مذكورة أيضاً في تحف العقول: ص90، وروضة الكافي: ص19، ومن لا يحضره الفقيه: ج4 ص278، ودستور معالم الحكم، للقضاعي: ص28، وغرر الحكم للآمدي.

في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذاك من فعلي إلا(1) أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به مني»(2).

12: وعنه (عليه السلام): «لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراثكالأدب، ولا ظهير كالمشاورة»(3).

13: وعنه (عليه السلام): «... ولا شرف كالعلم، ولا عز كالحلم، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة»(4).

14: وعنه (عليه السلام): «والاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه»(5).

ص: 225


1- لاحظ هذا الاستدراك المهم أي (لا آمن ذلك من نفسي لولا عصمة اللّه تعالى لي) فهو نظير قوله تعالى: (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي إنه حيث رأى برهان ربه لم يهم بها وههنا: حيث كفى اللّه من نفسي ما هو أملك به مني لذلك فإنني آمن ذلك من نفسي، والحاصل إن العصمة، كسائر النعم، هي بإذن اللّه تعالى ولطفه.
2- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن خطبة له (عليه السلام) خطبها بصفين، الخطبة: 216 . أواخر الخطبة المذكورة في روضة الكافي: ص352.
3- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة:54 / ومذكورة أيضاً في تحف العقول: ص 201 و89 و94 / وفي روضة الكافي: ص17 / وفي الأمالي: ص193 / وفي غرر الحكم وفي البصائر والذخائر وغيرها.
4- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة:113 / وهي موجودة في المصادر السابقة أيضاً.
5- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة:211 / وهذه مذكورة في تحف العقول: ص98 / وروضة الكافي: ص16 / وأدب الدنيا والدين: ص 162 و273 و275 / وسراج الملوك: ص185 / وغرر الحكم ودستور معالم الحكم: ص15 / ومطالب السؤول: ج1 ص162 / ونهاية الأرب: ج6 ص85 / والنهاية في غريب الحديث: ج3 ص421 / والآداب السلطانية: ص15. هذا ولا يخفى أننا اعتمدنا في معرفة مصادر بعض هذه الأحاديث الشريفة على كتاب مصادر نهج البلاغة للسيد عبد الزهراء الخطيب، فشكر اللّه سعيه.

والمخاطرة في الشؤون العامة، بدون الرجوع للموازين الشرعية والعقلائية، مقطوعة الحرمة.

وقد فصلنا وجوه الاستدلال بها مع الأخذ والرد والمناقشات في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)(1) فراجع.

ومما جاء فيه:

الوجه الثاني: أقربية الإصابة في رأي المشيرين من رأي الواحد

فإنه إذا كان في اتباع رأي المشير الناصح (أقربية للواقع)، سواء في الشؤون الدينية أم الدنيوية، حيث قال (عليه السلام): «فإنه لا يأمر إلا بخير»(2)، وقال: «بل يرفعه اللّه ورماه بخير الأمور وأقربها إلىاللّه»(3)، وقال: «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه»(4)، وإذا كان في مخالفته الأبعدية عن الواقع بل (مفسدة في الدين والدنيا)، و: (فإن في ذلك العطب)، فماذا ترى في اتباع عدة مشيرين ناصحين، وكيف بمخالفة مجموعة منهم(5).

وأما في صورة تخالف النصائح وتناقض آراء المشيرين فاتباع رأي أكثرية الناصحين هو المحتم، كما فصلناه في موضع آخر، وسنفصله عند التطرق للمقبولة والمرفوعة والتوقيع المبارك، ونزيد هنا: إن السرّ في كون اتباع الناصح المشير رشداً ويمناً وخيراً وأقرب إلى اللّه هو أنه يرى ما لا يراه المستشير، كما ورد

ص: 226


1- راجع كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) من ص415 إلى 452.
2- المحاسن: ج2 ص602 / ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
3- المحاسن: ج2 ص602 / ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596 / وبحار الأنوار: ج72 ص102.
4- تحف العقول: ص397 / والمحاسن: ج2 ص602 / ووسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595. وج12 ص42 ب22 ح15595.
5- أو مخالفة أكثريتهم؟

عنه (عليه السلام): «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(1)، ولذا ورد: «أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(2)، إذ أن كل عقل يرى جهةً ويقترح اقتراحاً فيكون باجتماعها الكمال والتكامل، وقد ورد عنه (عليه السلام): «والعقل حفظ التجارب»(3)، ومن الواضح أن العقول المتعددة لها تجارب تفوق تجارب إحداها، وقال (عليه السلام): «ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(4)، وإذا كان لأجل ذلك ورد الأمر باتباع الناصح الواحد، ففيما تعدد الناصحون المشيرون وتخالفت آراؤهم وكانت الأكثرية على رأي معين فإن اتباعها أولى وألزم لأقوائية الملاك المصرح به في الروايات، فتأمل)(5).

ص: 227


1- الكافي: ج8 ص22 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة ح4.
2- في غرر الحكم: ص52 أعقل الناس ح385: (أعقل الناس من أطاع العقلاء).
3- نهج البلاغة: باب كتب ووصايا أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن وصية له (عليه السلام) للحسن بن علي 3 كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.الوصية: 31.
4- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الحكمة: 161.
5- شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية: ص435 - 436.

ص: 228

الفصل الثامن: أسئلة وأجوبة

اشارة

ص: 229

ص: 230

هناك العديد من الأدلة أو الإشكالات التي قد تثار على ما ذكر في الكتاب ورغم أن الكتاب تضمن الإجابة عليها مطابقة أو التزاماً، إلا أننا نطرحها ههنا بشكل أكثر تحديداً مع إضافة أجوبة على ما ذكر في ثنايا البحث.

(1)

كثرة سباب الآخرين توجب ترويضهم!

قد يقال: بأننا نقوم بترويض أهل العامة والكفار والحكومات على تحمل سباب رموزهم أو حكوماتهم، وذلك الترويض إنما يكون بكثرة سبهم وتكراره حتى يتحول بالتدريج إلى شيء عادي عندهم فلا ينتقمون حينئذٍ بل ولا يُستفزون!

ولكن هذا الكلام مخالفة صريحة للعديد من الروايات ومنها الرواية التي سبق الكلام عنها والمصرحة ب:«مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً» ومدّعي الترويض يدّعي خلاف ذلك ويقول بأنه إذا أكثرنا من سبّهم والهجوم عليهم فإنهم يكفون عنّا أيديهم الكثيرة!

وقد وردت بذلك المضمون روايات عديدة أشار العلامة المجلسي (رحمه اللّه) إلى واحدة منها بقوله: ("من كف يده" هذا مثل ما قَال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا يَقْبِضُ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً وَ يُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدِي كَثِيرَةٌ»(1) كما سيأتي في باب صلة الرحم)(2).

ص: 231


1- الكافي: ج2 ص154.
2- بحار الأنوار: ج72 ص443.

بل إن ذلك خلاف الوجدان والضرورة وبداهة العقلاء، إذ من البديهي أنك إذا سببتَ شيخ عشيرة أو رئيس دولة أو رمزاً مقدساًللطرف الآخر، فلم يستطع أن يردّ وكرّرتَ على مسامعه السباب، فإنه يختزن حينئذٍ في داخله حقداً هائلاً عليك وسوف يغلي الحقد في قلبه كالمرجل وسينتظر أول فرصة لكي ينتقم انتقاماً مروعاً، كما حدث مراراً طوال التاريخ.

نعم إنما يمكن ترويضه إذا كنت الأقوى بقول مطلق وكانت بيدك السلطة والأغلال والسجن وغيرها(1) فإنك إذا سببته حينئذٍ أو أكثرت من سبه فإنه يضطر للسكوت كي لا تقتله أو تسجنه، فيترّوض قهراً وإن كان ممتلأ حقداً وغضباً يدّخره لحين انقلاب الأمر وسنوح الفرصة إذ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(2) ولكن اللازم مراعاة تلك الحال أيضاً إذ المؤمن بعيد النظر (كان واللّه بعيد المدى) والجاهل قصير النظر، ولكن من البديهي أن موازين القوة في العالم الإسلامي الآن لصالحهم لا لصالح الخاصة، فمن الجهل المطلق تصور أننا إذا سببناهم وأكثرنا من سبّهم فإنهم سيتروّضون ويتعوّدون على شتمهم بل يستعذبونه! وهذا الأمر الثالث هو ما أشارت إليه الروايات كما هو محور المطلب السابع:

لا يعقل أن يروّض الأضعفُ الأقوى على تحمل الشتائم!

إن سبّ الآخرين لو صحّ، فإنما يصح ويوجب ترويضهم، لو كانت لك القوة والطاعة دون ما لو كنت أنت الضعيف وهو الأقوى؛ والغريب أن يتوهم الضعيف أنه إذا أكثر من سبّ القوي فإنه يستسيغ ذلك ويتعود عليه ويتروض به! والغريب أن يتوهم متوهم أن العالم الحر لا يسمح بأن ينتقم منك القوي! وقد

ص: 232


1- هذا جدلاً، وإلا فان العنف خاصة من السلطة مرفوض مطلقاً.
2- سورة آل عمران: 140.

ترون ظلمهم لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الكثير من الدول بل حرمانهم حتى من تأسيس حسينية بل حتى من إقامة مجلس حتى بدون سبّ وشتم! كما قد ترون ذبحهم لطفل بريء في المدينة المنورة بوحشية مطلقة ولم نرَ مندول العالم الحرّ حتى مجرد إدانة عابرة!! كما قد ترون ما فعلته المنظمات الإرهابية في العراق وأفغانستان وغيرهما من الجنايات مما تقشعر له الأبدان ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

ويكفي أن نحتكم إلى الروايات وهي عديدة:

ومنها: «كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى وَلَا عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْأُمَّةُ وَاحِدَةٌ فَصَاعِداً كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) يَقُولُ مُطِيعاً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ إِذَا كَانَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ وَلَا طَاعَةَ»(1).

والرواية صريحة، كما ترى، في الهداية والتبليغ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) وإنه واجب كفائي لا عيني، وليست في خصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إذ قد يقال بالفرق بينهما) إذ صريح الرواية: «كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى وَلَا عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ» فالكلام عن هداية الآخرين ودعوتهم للدين المبين ومع ذلك يقول (عليه السلام): «وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ إِذَا كَانَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ وَلَا طَاعَةَ» والمراد بالقوة ظاهر، وأما العُذر فالمراد كونه بحيث يعذره الآخرون (المدعوون للاهتداء) إذا دعاهم المؤمنون للدين المبين، والمراد (بالطاعة) إنهم يطيعونهم لغلبتهم، بنحو ما، عليهم.

ص: 233


1- الكافي: ج5 ص59.

وهل يتوهم أحد أننا حيث نسبّهم فإن لنا القوة عليهم ولنا العذر عندهم - أي يعذروننا في سبّ رموزهم - وأننا فوقهم قاهرون فلنا عليهم الطاعة!

وأما قوله (عليه السلام): «فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ» فقد أشرنا إلى أننا، حسب الكثير من الروايات، في زمن هدنة مع أهل العامة فلا يصح سبّهم واستفزازهم، اللّهم إلا في حدّ معين مستثنى مندرج في ضمن علل الطائفة الثانية من الروايات وهو ما لو توقف حفظ أصل الدين والمذهب أو التبري من أعداء اللّه - لا بعض حدود ذلك - عليه أوشبه ذلك.

ص: 234

(2)

سياسة الرعب والصدمة!

وقد يقال: إن سياسة الرعب والصدمة، أثبتت جدوائيتها في مقابل الخصوم، وأن من أهم مصاديقها الصدمة بسباب رموز الآخرين، بل كلما ازداد السباب بذاءة كان أقوى في إيجاد حالة الرعب والصدمة في الطرف الآخر، مما يدعوه إلى إعادة التفكير في منظومته الفكرية وحينئذٍ يهتدي إلى الحق!

ولكن هذا التصور غير صحيح، ومجمل القول فيه:

إن بعض الإسلاميين من شيعة وسنة اتخذ سياسة الصدمة والرعب منهجاً في طريقة التعامل مع الآخرين؛ كما أن ذلك كان هو السبب وراء ما كانت تفعله داعش؛ إذ إنهم كانوا يحرقون أعدائهم بل حتى أصدقائهم إذا لم يطيعوهم ولو في أمر عادي، أحياءً بطريقة صادمة مفجعة، وكانوا يحبسون السجين في قفص حديدي ضيق ثم يغرقونه في الماء والسجين يصرخ ويستغيث، وكانوا هم الذين يصوّرون ذلك ثم يبثونه في وسائل الاتصال الاجتماعي على أوسع نطاق كي يبثوا الرعب الشديد في نفوس الناس وفي الجيش المقابل كي يستسلموا لهم دون أدنى مقاومة!!

سياسة استعمارية تبناها إسلاميون!

ولقد تبنى ذلك المنهج بعض الإسلاميين فاتخذوا من التهجم على جميع من لا يوافقهم الرأي، من مرجعيات أو أحزاب أو شخصيات، منهجاً لهم وأسلوباً للدعوة إلى الحق!! واتخذوا من السباب والازدراء بالآخرين أسلوباً للنهي عن المنكر فيما يرون هم أنه المنكر!! وكأنهم اعتبروا أنفسهم (ميزان الحق

ص: 235

والباطل) وأنهم (الحق المطلق) وأن اجتهاد غيرهم باطل مطلق!

ومع أن الفقهاء العدول كلهم وكلاء الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشريف) وإن لكلٍّ اجتهادُهفي الأحكام وفي تشخيص الموضوعات الشخصية أو العامة وأن من بديهيات التشيع فتح باب الاجتهاد، كما أن الأصل في فعل المسلم حمله على الصحة، إلا أن بعض هؤلاء أجلسوا أنفسهم مجلس الرسول الاعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) ومجلس الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) نفسه وجعلوا تشخيصهم للموضوعات وللشخصيات الملاك المطلق للصحيح والخطأ والحق والباطل، وكأنهم هم (مدينة علم الرسول) وكأنهم هم (ميزان الأعمال) مع أن ميزان الأعمال هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولم ينصبهم (عليه السلام) ميزاناً للأعمال من بعده!

والغريب أنهم انتهجوا منهج الولاية المطلقة حتى على أعاظم الفقهاء واعتبروا تشخيصهم هو الحجة على الجميع حتى كأنهم المعصومون عن الزلل والخطأ!! وحتى كأن على كافة الشيعة والمجتهدين أن يخضعوا لسلطانهم الوهمي واستبدادهم المطلق!

والغريب أنهم عادة ليسوا بمجتهدين وإن وجد فيهم مجتهد فرضاً فهو مجتهد مبتدئ، إلا أنهم بما ابتلوا به من عجب مفرط بالذات واستبداد مطلق بالرأي، اعتبروا انفسهم ميزان الأعمال والمرجع الأعلى للتفسيق والتسقيط والتضليل!! ولعمري أنها بدعة في تاريخ التشيع ما سبقهم(1) بها - فيما نعلم - من أحد من العالمين! كما أن تكفير ابن تيمية وأتباعه لكافة من خالفه الرأي، لعله مما لم يسبقه إليه بهذه السعة في العصر الحديث أحد من المسلمين!

والأغرب أنهم قد تذرعوا في ذلك بسياسة الصدمة والرعب! غافلين أو متغافلين عن أنها، بشكلها الخاص وكعنوان مستقل يراد بناء الأحكام عليه،

ص: 236


1- أي بهذه الطريقة والمنهجية والسعة والشمول.

سياسة ابتكرها شياطين الغرب في الخمسينيات - وغيرهم في أزمنة أخرى - حيث ارتأى محللوهم العسكريون أن المجتمعات والشعوب الأخرى لا تستسلم لهم أبداً وأن الأمم والشعوب بل حتى القبائل والأحزاب لا تتخلى عن عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومبادئها مهما كان العدو قوياً ومسيطراً؛ وقد اكتشفوا أن الطريق الوحيد لكي تستسلم الشعوب والجماعات الأخرى لهم بشكل مطلق ليفرضوا عليهم عاداتهم وتقاليدهم ومبادئهم بشكل كامل، هو أن يصيبوهم بالرعب المطلق عبر الصدمات المذهلة ليستسلموا لهمبالكامل! وقد علل السياسيون والعسكريون المكيافيليون إلقاء أمريكا قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي بأن ذلك هو ما أدى باليابان إلى الاستسلام الكامل لإرادة أمريكا حتى يومنا هذا!! لأنهم إذ أصيبوا برعب لا نظير له عندما شاهدوا وحشية مذهلة وقسوة مرعبة لم يشهد التاريخ لها نظيراً!..

وكذلك سياستهم العامة في الحروب، فلعله كان يكفي لاستسلام شعب أن يطلقوا عليه عشر صواريخ مثلاً لكنهم قد يطلقون عليهم ألف صاروخ وذلك لأجل هذا الغرض بالذات، ولأسباب اقتصادية وسياسية أخرى أيضاً.

منطق القرآن الكريم: الرحمة والسلم واليسر والحكمة

والغريب - وكما سبق - أن بعض الإسلاميين من شيعة وسنة تلقفوا هذا المفهوم الذي يعدّ، بما له من ظِلال، من بدع الغرب الجهنمية واعتبروه كأنّه الوحي المنزل من السماء! مع أنك تجد القرآن الحكيم يقول: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(1) ولا يقول ادع إلى سبيل ربك بسياسة الرعب والصدمة! كما تجده جل وعلا يقول عن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم): (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ

ص: 237


1- سورة النحل: 125.

رَحْمَةً لِلْعالَمينَ)(1) ولم يقل وما أرسلناك إلا نقمة للعالمين!

ومع أن الروايات تقول: «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْ ءٍ إِلَّا زَانَهُ وَ لَا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْ ءٍ إِلَّا شَانَهُ...»(2) وتقول وتقول.. ومع أن الآيات تقول: (يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(3) إلى غير ذلك..

والأغرب أن مصطلح (الصدمة) لم يرد حتى في آية أو رواية واحدة ومع ذلك اعتبر بعض هؤلاء (الصدمة) دليلاً بل أقوى دليل على وجوب انتهاج منهج سبّ كافة الأطراف وتسقيطهم والازدراءبهم! ولئن ورد شيء فهو ألفاظ أخرى يجب أن يدور البحث حولها لا حول لفظ مخترع يتخذ دليلاً شرعياً! ولقد ذكرنا في الأصول والفقه مراراً أن من الأخطاء المشهورة أنْ تُغيَّر ألفاظ ومصطلحات القرآن والروايات إلى ألفاظ أخرى وتفسيرات معينة ثم يَدار الأخذ والرد والاستدلال والنقض مدارها! وذلك مع أن النسبة قد تكون العموم من وجه أو العموم والخصوص المطلق، بل مع إن لكل لفظ دلالات وظلالاً ووقعاً ومناسبة مع سائر ألفاظ الآيات والروايات والتي بها قد تسبب الانصراف أو غيره! فراجع.

والتحقيق: إن الأصل في الإسلام هو:

1 - الرحمة. 2 - والحكمة.

3 - والسلم. 4 - واليسر.

وذلك حسب الآيات التالية (وغيرها): (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(4) و(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

ص: 238


1- سورة الأنبياء: 107.
2- بحار الأنوار: ج72 ص55.
3- سورة البقرة: 185.
4- سورة هود: 118 - 119.

الْحَسَنَةِ)(1) و(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(2) و(يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

وفي المقابل فإن العنف بمختلف أشكاله هو الاستثناء الذي لا يصار إليه إلا بضوابط شديدة:

العنف استثناء وليس أصلاً

فأولاً: إنه خلاف الأصل، ولا بد كلما أريد التعامل العنيف، بقولٍ أو فعل، مع أحدهم، من إقامة الدليل الشرعي الوافي على جوازه.

تشخيص الموضوع للفقهاء العدول ولأهل الخبرة

ثانياً: - وكما سبق - إن تشخيص ذلك هو بيد الفقهاء الجامعين للشرائط إذ يقول الإمام (عليه السلام): «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَاإِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ»(3) وليس بيد كل من هبّ ودبّ ولا بيد كل من قرأ شيئاً أو ألقى خطاباً أو كتب كتاباً أو درّس درساً.. وإلا للزم من ذلك الهرج والمرج واختلال النظام وأي هرج ومرج! وتصوروا لو أن كل مثقف أو سياسي أو طالب علم اعتبر نفسه محور الحق والباطل، وأن له - بتشخيصه - ان يسب كافة العلماء والفضلاء والأساتذة والخطباء وأصحاب الحسينيات والمؤمنين والمفكرين وغيرهم، فأية فوضى كانت ستحدث حينئذٍ؟ وأية فتنة كانت ستتولّد؟ وأي مجتمع ساقط اخلاقياً سيوجد عندئذٍ؟ وأية فتنة أكبر من ذلك؟!

ثالثاً: إن العنف لا يصار إليه إلا بعد تعذر إنتاج النصح، بعد الصبر الكافي

ص: 239


1- سورة النحل: 125.
2- سورة البقرةآية 208.
3- الاحتجاج: ج2 ص469.

والحكمة الوافية.

العنف درجات

رابعاً: كما أن العنف درجات ولا يصار إلى المراتب اللاحقة من العنف إلا بعد عدم نجاعة المراتب السابقة، وذلك عقليٌّ قبلَ أن يكون شرعياً، إذ الظاهر أنه من المستقلات العقلية، كما أنه عقلائي وأمرُ ذلك يرجع للمجتهدين العدول ولأهل الخبرة بعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم نفس الأمم وشبه ذلك أي انه يرجع لأهل الخبرة حقاً.

والغريب أن الذين ينهجون منهج السباب والشتائم كأصل عام لا هم خبراء ولا هم مجتهدون، بل هم - عادةً - مجرد شباب مندفع تملّكهم الحماس أو الغرور لمجرد كلمات تعلّموها أو روايات حفظوها فاعتبروا أنفسهم - بلسان الحال - أعلم العلماء وأفقه الفقهاء، فإن لم يصرّحوا في ذلك بالقول فإن أفعالهم تفصح - بالبرهان الإني - عن واقع اعتقادهم في أنفسهم!!

ص: 240

(3)

الاستدلال بوجود السباب في القرآن والسنة

لا يقال: وردت آيات في القرآن الكريم عنيفة اللّهجة تتبع سياسة (الصدمة)!

ولله الحق، وليس لكل من هبّ ودبّ!

إذ يقال: أولاً: لله تعالى الحق في أن يفعل ما يشاء، وليس أنتم! (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1) فكيف تقيس نفسك باللّه تعالى فإنه خالق الكون وولي الجميع.. ومن أنت؟ ثم الحق، من بعد اللّه تعالى، للرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) والآل (عليهم السلام)، ثم لوكلائهم الفقهاء العدول بالقدر المخوّل إليهم، وليس لكل أحد ذلك أبداً.

وقد أجاب السيد الوالد (رحمه اللّه) بجواب دقيق وهو: (وهنا سؤال: كيف نهى اللّه عن سبّ الأصنام، وفي القرآن كثير من القدح فيهم؟

والجواب: إن الفرق بين سبّ الحكيم وسبّ الجاهل أن الأول يعرف موقع السب، بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس، ورأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص، فإن الأمرين لا يتنافيان)(2).

لا يقال: ورد في الحديث (تخلّقوا بأخلاق اللّه)؟ إذ يقال: لا يوجد لدينا هكذا حديث أبداً، بل لعلها عبارة لبعض الصوفية أو غيرهم(3).

ثانياً: إن ذلك هو الاستثناء في القرآن الكريم وليس الأصل (وهؤلاء

ص: 241


1- سورة الأنبياء: 23.
2- تقريب القرآن: ج2 ص103.
3- وقد جاءت في البحار نقلاً عن بعضهم، لا كرواية، ولعله لذلك اختلط الأمر على البعض.

اتخذوا ذلك الأصل) ألا ترى أن آيات القرآن هي - علىقول - 6636 آية أما الآيات التي قيل إن فيها سباً وشتماً بالمعنى العَلَمي (الأول) فهي نادرة جداً ولعلها لا تبلغ حتى الواحد بالألف! أما هؤلاء فتراهم يسبون الناس ليل نهار .. وما أعجب ذلك؟ وإن عشت أراك اللّه عجباً!.

ثالثاً: إن المنهج العام للروايات هو كذلك أيضاً فراجع وسائل الشيعة مثلاً وهو يحتوي على ما لعله ستة عشر ألف رواية، والنادر النادر فيها السباب - إن صدق عليه السباب - وبعض هؤلاء اتخذوا السباب منهجاً في الحياة! وأين المنهج العام من الاستثناء لأسباب خاصة؟!

المرجع في طائفتي الآيات والروايات المتعارضة، المجتهد

رابعاً: سلّمنا، ولكن نقول غاية الأمر إن هناك طائفتين من الآيات والروايات متعارضة إذ إن بعضها تدعو ل(ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) و(وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) و«إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ...» وبعضها تدل على صدور السباب من الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فنقول، وكما سبق مراراً:

إن المرجع في حلّ التعارض (المتوهم) بين الروايات، هو مرجع التقليد الجامع للشرائط، وليس كل شخص متحمس ومتفاعل أو منفعل، فهو المرجع لاكتشاف ما هو الأصل ثم ما هي الحدود والقيود والشروط وغيرهما، كما أن المرجع هو المرجع في باب التزاحم ههنا، وذلك ككافة المسائل الشرعية بل إن هذه من أهمها على الإطلاق فكيف يأخذ المكلف أحكامه من مراجع التقليد لكنه في هذه المسألة الخطيرة يعرض عنهم ليجتهد فيها مع أنه غير مجتهد! إن هذا لشيء عجاب!

ص: 242

ومرجعية الفقهاء الجامعين للشرائط في أمثال ذلك بديهية إذ تدل عليها إضافة للعقل وبناء العقلاء، الآيات والروايات الكثيرة ونشير إلىاثنين فقط منها ههنا قال تعالى: (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(1) وقال الإمام (عليه السلام): «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ»(2) ولا شك أن سبّ المعارضين والمخالفين والكفار والمشركين على رؤوس الاشهاد من أهم الحوادث الواقعة في هذا الزمن بل في كل الأزمان، فاللازم الرجوع في هذه القضية إلى الفقهاء الجامعين للشرائط.

نحن في زمان هدنة

خامساً: إن المستظهر من الروايات أننا معهم في زمان هدنة إلى يوم ظهور القائم المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشريف)، والروايات تتنوع بين العامةٍ وبين ما تتطرق للأهم من السباب ملاكاً، قطعاً، وبين ما يعلم بضم بعضها إلى بعض القاعدة العامة.. وقد ذكرناها في الفصل السادس فراجع.

سياسة الصدمة مغامرة تنتج غالباً النقيض

ثم إن سياسة (الصدمة) مغامرة غير مضمونة العواقب، بل الغالب فيها أنها تنتج نقيض المقصود، ومن الغريب أن يستدل دعاة هذا المنهج بالثمرة التي حصلوا عليها أحياناً من إتباع هذه السياسة، مع أنها لا تقارن بالنتائج المعاكسة والأضرار الفادحة التي جلبتها هذه السياسة العنيفة؛ ألا ترى أن الأطفال الذين يربون بالضرب والقسوة والعنف والسباب يتكوّنون غلاظاً خشنين ويختزنون

ص: 243


1- سورة النساء: 83.
2- الاحتجاج: ج2 ص469.

- عادة - بداخلهم حقداً كبيراً على الناس وعلى المجتمع؟ وألا ترى أنهم عندما يكبرون ينفّسون عن سنوات الكبت والضغط، بالقسوة والعنف والانتقام من هذا وذاك حتى - لربما - لأتفه الأمور؟ وألا ترى أن من يربى بالرفق واللين والمحبة والمودة والصفح والتعايش السلمي، يتحول إلى ينبوع للحنان والرأفة والرحمة والطيبة والوداعة ويكون كما جاء في الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلم): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّالْعَبْدَ يَكُونُ سَهْلَ الْبَيْعِ سَهْلَ الشِّرَاءِ سَهْلَ الْقَضَاءِ سَهْلَ الِاقْتِضَاءِ»(1) و«الْمُؤْمِنُ إِلْفٌ مَأْلُوفٌ»(2).

إن من الطبيعي أن ينضح كل إناء بما فيه.. فإذا ملأتَ أسماع الصغار - أو الكبار - وقلوبهم وجوانحهم بالسباب والبذاءة، فإن صادراتهم ستكون من سنخ وارداتهم تماماً، وسوف لا يفرقون حينئذٍ بين صديق وعدو وأخ وأب وجار وشريك.. لأن طبيعة الإنسان واحدة، ومن اعتاد على سباب أعدائه فإنه سيبادر إلى سباب أصدقائه والمؤمنين لمجرد أدنى خلاف بسيط قد يحدث بينه وبينهم .. والمشاهدة الميدانية أكبر شاهد على ذلك فتتبعوا أحوال أولئك السّبابين فستجدونهم كذلك: لدى أدنى خلاف إداري أو مالي أو غيرهما مع أصدقائهم، يملأون الأسماع والأجواء بأنواع الشتائم والسباب!

نعم، من الممكن أن تنتج هذه السياسة في بعض الأفراد، لكن ذلك الاستثناء، وهؤلاء يتخذونها قاعدة عامة؛ ولعمري أنها لأن أنتجت فرضاً هداية العشرات فإنها أبعدت الألوف المؤلفة؛ ولئن أجدَتْ مع أشخاص فإنها نفرّت جماعات وفئات ومجاميع ومجتمعات، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: (فَبِما

ص: 244


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص196.
2- جامع الأخبار: ص85.

رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(1) فإذا كان النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) على عظمته وإعجازه وارتباطه بالسماء ومظاهر كماله وآلاء جلاله وجماله، بتلك المثابة فما بالك ببعض الشباب الساذج المتحمس!

إذا أجدَتْ مع البعض فانها اخربَت الأكثر!

نعم، إن بعضهم قد يستدل بأن هذه السياسة قد أفلحت مع فلان وفلان وقد يستشهد بعدد من الموارد، ولكنه غفلة عن أن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، وأن المقياس هو بالمجموع الكلي، وأنطريقتهم في عرض النتائج لهي غير علمية ولا منهجية؛ إذ الطريقة العلمية تعتمد على قواعد وأسس في (الاستبيان) و(الاستطلاع).. أما هؤلاء فيتخذون من الاستقراء لعدد من الموارد ومن التجربة الناقصة بل الناقصة جداً، دليلاً على التعميم كقاعدة عامة!

وما أشبه ذلك بمن يستدل على حجية (الأحلام أو الرمل أو الاسطرلاب) بأنها قد أصابت أحياناً! فهل يتقبل العقلاء ذلك؟ وهل يجوّز الشارع ذلك؟ فإنه لا ريب أن الأحلام قد تصيب وكذلك استكشاف الطالع عبر النجوم، وهو حرام على رأي أو على بعض صوره، ومع ذلك فإن الاعتماد عليها في استخراج الأحكام أو الحكم على الأشخاص محرم شرعاً مرفوض عقلاً؛ ألا ترى أنه لو رأى في منامه أن سارق مجوهراته هو فلان، ثم أثبتت التحريات فرضاً صدق ذلك، فهل يجوز له إذا رأى مناماً آخر أن سارق كتبه أو ساعته هو فلان الآخر، أن يتهمه بالسرقة ويحكم عليه بها؟ كلا وألف كلا..

إن مَثَلَ هؤلاء هو ذلك تماماً، إذ يستشهد بعشرة أو حتى خمسين أو مائة من الموارد التي اهتدى فيها أشخاص عبر سياسة الصدمة، لكنه يغفل أو يتغافل

ص: 245


1- سورة آل عمران: 159.

عن أنه صدّ بذلك الملايين عن الهداية حيث أوجد فيهم حاجزاً نفسياً سميكاً ضد الإسلام أو التشيع، بل إن سباب رموزهم على الفضائيات وغيرها، يولّد المزيد من الحقد والبغضاء بل يجعل مراجل أحقادهم تغلي على الإسلام والمسلمين أو على الشيعة والمؤمنين؛ وذلك من بديهيات من يعيش داخل المجتمع وقد يغفل عنه المنعزل في برج عاجي أو المتعصب الغافل عن حقائق الأمور؛ ألا ترى أن كافراً أو مخالفاً لو سبّ الرسول الأعظم (صلی اللّه علیه وآله وسلم) أو أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو السيدة الزهراء $ - لا سمح اللّه - فإن الملايين من الناس، إن لم يكن عشرات أو مئات الملايين، سينفجرون غضباً وغيظاً ضد ذلك الساب الأثيم؟ وأنه لا يعقل أن يستدل ذلك السفيه المتعجرف بأنه بسبابه لأحد الأنبياء أو الأئمة أمكنه، وبسياسة الصدمة الرهيبة هذه، أن يخرج من الإسلامأو التشيع، مجاميع من الناس؟(1)

ص: 246


1- وبذلك نعرف أن أي استدلال على نجاعة سياسة الصدمة كأصل عام، إنما هو استغفال للعقول وجهل بسيط أو مركب .. وفي المثال الطريف التالي شاهد لطيف لدعاة الصدمة ولكنه في الواقع ولدى التدبر عليهم وليس لهم: إذ ينقل أن ملكاً حكيماً عادلاً وُلِد له ولد ذَكَر، فلما بلغ السنة الرابعة - مثلاً - فكّر أن يتخذ له معلماً حكيماً يربيه أحسن تربية كي يكون من بعده نِعم الملك، فلما استشار أشاروا عليه بحكيم معروف، فاتخذه معلماً لولده وأعطاه الملك الصلاحية المطلقة في تربيته، كما نهى ابنه عن أن يشتكي من المعلم وأمره بأن يطيعه كاملاً وحذّره من أن يخالف المعلم في صغيرة أو كبيرة. وكان المعلم نِعم المعلم بالفعل فقد ربى الصغير أفضل تربية وزكّاه أحسن تزكية وعلمه أفضل تعليم طوال سنين من الزمن، لكنه في إحدى المرات حيث امتحنه فأجاب بنجاح مبهر قال له المعلم لقد نجحت بالفعل ولكن جزاءك مني هو ما سترى .. ثم صفعه صفعة قوية!!.. بكى الطفل وسأله لماذا ضربتني؟ قال: لا لشيء أبداً.. إنما أحببت أن أضربك ظلماً وعدواناً!! انفجر الطفل بالبكاء أكثر وحمل معه حقداً هائلاً على المعلم وصمّم على أنه إذا صار ملكاً أن ينتقم منه شرّ انتقام. ومضت الأيام ... ومات الأب وصار الولد ملكاً، وعندما استوى على سرير الملك كان أول ما طلب هو إحضار المعلم وإحضار الجلاد والنطع!!.. فلما حضر المعلم صرخ فيه الملك: هل تذكر إنك ضربتني ظلماً وعدواناً؟ قال المعلم - غير هيّاب -: نعم أذكر جيداً، قال له الملك: الآن حانت ساعة الانتقام! قال له المعلم: لست خائفاً من القتل فاقتلني إن شئت ولكن إِعلم إنه كانت لعملي حكمة عظمى!.. قال الملك: عجيب أمرك! تظلم وترى لعملك حكمة عظمى! قال: نعم، قال لماذا إذاً ضربتني؟ قال: لأنني فكرت أنك ستصبح ملكاً وإن الملوك يظلمون عادة وأنك ستكون أحدهم، ففكرت أنه لا بد أن أذيقك طعم الظلم ومرارته، لكي تتذكر ذلك بعمق عندما تريد أن تسجن شخصاً أو تقتله ظلماً، فهل أحسست طعمه بعمق يا ترى؟! فكّر الملك قليلاً وقال: ذلك مذهل! وكلامك صحيح! ثم عفى عنه وأصبح ذلك الملك العادل! هذه القصة سقناها كشاهد لأولئك الذين اتخذوا الصدمة منطقاً لهم أو قالوا أن الصدمة نافعة أحياناً! نقول: نعم أحياناً - نادرة أو قليلة - قد تنفع لكنها مغامرة كبرى، والنادر وجود مثل هذا الملك الذي ينتج ظلمه تحوّله إلى عادل! والأغلب يحملون بسبب ذلك الحقد على المجتمع كله إذ يتحول ذلك إلى عقدة متجذرة في حياتهم! ونقول: نعم لا ننكر بعض الثمرة أحياناً ولكن ذلك كالخمر والميسر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فهل يصح الاستدلال ببعض المنافع على الجواز؟ فكيف بالرجحان؟ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون)؟!

ص: 247

(4)

الحداثويون أيضاً يسبّون ويشتمون!

وقد اعترض بعض الحداثويين على الرسول والأئمة (عليهم السلام) وعلى تراثنا بأنه حافل بالسباب والشتائم؟

والجواب: إن اعتراض أولئك الحداثويين غير واردٍ أبداً؛ إذ نجيبهم بالنقض أولاً وبالحل ثانياً:

أما الجواب النقضي: فإنهم هم بأنفسهم - بل وكافة عقلاء العالم - أيضاً يسبون ويشتمون وإن كان (المتعلَّق) والمشتوم مختلفاً؛ ألا ترى أنهم يشتمون الكثير من الناس بعبارات مختلفة ك: (الرجعي، المتخلف، المتحجر!) بل وبعبارات أقسى ك(الدوغمائي)! بل وبعبارات أقسى ك(الإرهابي)! بل إنهم إذا وصفوا شخصاً أو جهة بالإرهابي اعتبروها أكبر منقصة وأعظم مثلبة، بل اعتبرَ كثيرٌ منهم ذلك سبباً لتجريد من وَصَمُوهُ بالإرهاب من بعض حقوقه أو حتى من كافة حقوقه!

والشواهد والقصص كثيرة في هذا الحقل وليس ههنا محل استعراضها ولكن يكفي أن نشير إلى أن بعض التقارير الصادرة من مجلات معتبرة أكّدت أن أمريكا قتلت المئات من الإرهابيين(!) عبر الطائرات المسيرة بلا طيار، في اليمن وليبيا وأفغانستان والصومال وغيرها! وذلك يعني أنهم قتلوهم دون محاكمة قانونية! وبدون السماح لهم باتخاذ محامٍ وشبه ذلك! بل كان اعتمادهم على مجرد تقارير استخباراتية عن أنه إرهابي! مع أن كثيراً منهم مجاهدون! وكثير منهم أبرياء بعيدون كل البعد عن الإرهاب وعن الجهاد معاً!

ص: 248

وأما الجواب الحلي، فجوابان: أحدهما ما مضى تفصيلاً عندما تطرقنا لوجوه السباب الموجودة في تاريخنا سواء الصادرة على لسان الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أم الموجودة في القرآن الكريم، إن عدّت سباباً حسب الخلاف المبنوي:

ومنها: إن كثيراً منها ليس معتبراً من حيث السند.

ومنها: إن بعضها كان من باب التزاحم.

ومنها: إن بعضها كان من باب المقابلة بالمثل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

ومنها: إن أكثرها لم تكن سباباً بالمعنى المصطلح العَلَمي بل كانت وصفاً علمياً لما عليه الطرف الآخر.

ومنها غير ذلك فراجع ما سبق تفصيله.

والثاني: هو إن السباب والاستهزاء بمقدسات الآخرين يعدّ لدى كثير من المفكرين مظهراً من مظاهر الحرية والحضارة الحديثة، وقد ذكره بعض المفكرين:

(فلا شك في أن الاستهزاء بالمقدسات جزء من التراث الديني الأوروبي نفسه، بدءاً من الطقوس الإغريقية القديمة، طقوس السخرية من آلهة جبل الأولمب. فليس ثمة أي شيء تخريبي أو إلحادي - كافر في الأمر، فهذه السخرية جزء لا يتجزأ من الحياة الدينية. أما في ما يخص المسيحية، فعلينا ألا ننسى لحظات السخرية الكرنفالية من حكايات المسيح وأحجياته. فحتى الصلب ينطوي على نصيبه من السخرية.

حيث المشهد التجديفي لملك، هو المسيح، يمتطي حماراً وإكليلُه كتلة من الأشواك.

وتنجح المسيحية في نسف الفكرة الوثنية لقلب كوميديا التهريج أو التمثيل

ص: 249

الخاصة بعلاقات السلطة ذاتها، حيث يجري، لبعض الوقت، الاحتفاء بأحد الحمقى على أنه ملك. ففي المسيحية يجري الكشف عن أن الملك "الحقيقي" هو التجديفي، هو سيد اسمه، سيد الفوضى، وهو أحد الحمقى. هذا هو السباب الكامن في أن نواباً محافظين - قوميين في البرلمان البولوني، اقترحوا جدّياً إعلان يسوع المسيح ملكاً لبولونيا، من دون أن يقفوا عند حدود خلط النظام الديني بنظيره السياسي. فقد كان اقتراحهم أيضاً متجذراً بعمق في وثنيته، معادياً للمسيحية، غافلاً، عن "نكتة" أو طرفة المسيحية نفسها)(1).

ص: 250


1- سلافوي جيجيك، ترجمة فاضل جتكر، العنف تأملات في وجوهه الستّة، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات: ص110.

الخاتمة

اشارة

وفي ختام الكتاب نشير إلى مطلبين هامين:

الروايات الدالة على ثبوت التعزير في سبِّ المؤمنين

المطلب الأول: إن الكلام كله يدور حول سباب غير المؤمنين وأن الأصل الأولي العام فيه الحرمة وأنه يخرج ما يخرج بالدليل بعد إحراز شروطه وضوابطه الشديدة التي سبق بعضها، وأما سبّ المؤمنين - كما جرى عليه دأب بعض الناس إذ يسبّ سائر المؤمنين لدى أدنى اختلاف فكري أو عقائدي أو إداري أو سياسي أو شخصي أو عشائري أو مرجعي أو حزبي معهم -، فإنه لا شك في حرمته بل وإنه يوجب على السابّ بعضاً من العقوبة أي ما يصطلح عليه بالتعزير حسب المستفاد من بعض الروايات، وإليك بعضها:

فقد ورد في الكافي الشريف: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ سَبَّ رَجُلًا بِغَيْرِ قَذْفٍ يُعَرِّضُ بِهِ هَلْ يُجْلَدُ؟ قَالَ (عليه السلام): «عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ»(1) والمقصود أنه لم يقذفه بالزنا مثلاً صراحة بل كان تعريضاً به؛ فإن القذف الصريح فيه الحد أما القذف تعريضاً ففيه التعزير.

وفي الوسائل: (19- بَابُ أَنَّ مَنْ سَبَّ وَعَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَكَذَا لَوْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَكَذَا فِي الْهِجَاءِ وَحُكْمِ مَنْ قَالَ لَا أَبَ لَكَ وَلَا أُمَّ.

مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (عَنْ أَبِيهِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ

ص: 251


1- الكافي: ج7 ص240.

يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ سَبَّ رَجُلًا بِغَيْرِ قَذْفٍ يُعَرِّضُ بِهِ هَلْ يُجْلَدُ؟ قَالَ (عليه السلام): «عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ».

وَرَوَاهُ الشَّيْخُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُونُسَ مِثْلَهُ وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْوَشَّاءِ عَنْ أَبَانٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ.

وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنْتَ خَبِيثٌ أَوْ أَنْتَ خِنْزِيرٌ فَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ وَلَكِنْ فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَبَعْضُ الْعُقُوبَةِ».

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ السَّرَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي رَجُلٍ دَعَا آخَرَ ابْنَ الْمَجْنُونِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: أَنْتَ ابْنُ الْمَجْنُونِ فَأَمَرَ الْأَوَّلَ أَنْ يَجْلِدَ صَاحِبَهُ عِشْرِينَ جَلْدَةً وَقَالَ اعْلَمْ أَنَّهُ مُسْتَعْقِبٌ مِثْلَهَا عِشْرِينَ فَلَمَّا جَلَدَهُ أَعْطَى الْمَجْلُودَ السَّوْطَ فَجَلَدَهُ نَكَالًا يُنَكِّلُ بِهِمَا»(1).

وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ مِثْلَهُ.

وَعَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ (الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمِنْقَرِيِّ) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ يَا فَاسِقُ قَالَ: «لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَيُعَزَّرُ».

وَرَوَاهُ الشَّيْخُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالَّذِي قَبْلَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي قَبْلَهُمَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى مِثْلَهُ.

ص: 252


1- والسبب في تعزيرهما (حق المعتدى عليه الراد) أنه سب أباه ولو كان سبه فسبه لم يستحق الراد العقوبة.

وَعَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي الْهِجَاءِ التَّعْزِيرَ» )(1).

موعظة أخلاقية: الطبع سَرّاق والحالات النفسية سيّالة مُعدِية

المطلب الثاني: ويتضمن موعظة أخلاقية - مفتاحية هامة، وهي أن الفقيه لو توصل إلى جواز أو وجوب سبّ بعض الفئات، كأهل الريب والبدع، بعد استقرائه كافة الأدلة، وبحسب الشروط التي اعتقد بها، فإن من الطبيعي حينئذٍ أن يتّبعه مقلدوه وأن تتحول هذه بالتدريج إلى ظاهرة فيهم إذ كان رأيه حجة عليهم، وهنا موطن النصيحة الأخلاقية وهي أن طبع الإنسان سرّاق أولاً وأن الإنسان عادة لا يمكنه التفكيك بين الملفات ثانياً فإن من اعتاد سبّ الجيران لدى أدنى خلاف فإنه سيسب أهله أيضاً لدى أدنى خلاف ومن اعتاد سبّ الأهل فإنه سيسب أصدقائه أيضاً كلما لم يوجد محذور مانع، ولذلك نجد أن الجندي إذا اعتاد الخشونة في المعسكر فإنه سيتعامل كذلك بخشونة مع موظفيه إذا أسس شركة أو مع تلامذته إذا أصبح معلماً أو مع أهله إذا صار زوجاً فأباً، فهذه هي طبيعة الإنسان، ولا يمكن الفصل بين الملفات النفسية - الاجتماعية إلا للأوحدي أو لمن قام حكيم من الحكماء على تربيته بتركيز شديد على فصلها تماماً ليكون مثلاً في ساحة الحرب البطل المغوار المقدام والمقاتل الشرس العنيد ويكون مع أصدقائه وأهله الهيّن اللّين الهش البش المتواضع الخلوق المجازي للإساءة بالإحسان.

الواجب أن لا تسري حالة السباب إلى الدوائر المحرمة

وإذا كان ذلك كذلك - وهو كذلك -، فإن من أهم الواجبات على من يرون جواز أو وجوب سباب أهل الريب والبدع، بأي حدّ وبأية درجة أو كيفيةٍ

ص: 253


1- وسائل الشيعة: ج28 ص202 - 204.

رأوها، هو التوجيه المركز والتأكيد المشدد والبرمجة الشاملة المستوعبة لكي لا يتجاوز إتباعهم الحدود فيتحول السباب لديهم إلى طبيعة ثانوية سيالة متعدية من سباب أهل الريب والبدع، إلى سباب الجهات أو التيارات الأخرى لمجرد اختلافهم معهم في المرجعية أو في الحزب أو التيار أو العشيرة أو النقابة أو الاتحاد، أو يتحول إلى سباب الآخرين لمجرد الاختلاف معهم على شأن من شؤون المؤسسة أو المسجد أو الحسينية، أو على أمر إداري أواقتصادي أو اجتماعي أو عائلي أو شبه ذلك؛ ذلك إن المشاهَدَ أن الناس عادة لا يملكون مَلَكةَ المحافظة على الحدود العازلة بين دائرة الواجب ودائرة المحرم: فإنه لئن كان سباب أهل البدع والريب واجباً - حسب نظر هذا الفقيه - فإن سب المؤمنين لمجرد اختلاف إداري أو ثقافي أو عملي أو شبه ذلك، حرام قطعي.

كلام السيد الوالد (رحمه اللّه) عن التكفير والتفسيق

قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (الاتهام والتكفير والتفسيق

الثاني والأربعون: من فلسفة التأخر بل الانحطاط والتحطم، ما اعتادته بعض التيارات الإسلامية من توزيع الاتهامات والتكفير والتفسيق وما أشبه.

وليعلم أمثال هؤلاء أنهم يسعون في تحطيم أنفسهم، بله إن الناس لا يلتفون حولهم)(1).

(وعلى أي، فالتكفير والتفسيق والحط من كرامات الناس يوجب أموراً:

الأول: إهانة الأفراد والحط من كراماتهم وتعريضهم للإذلال والتحقير، وكل ذلك محرم في الشريعة الإسلامية، ولا يمكن أن يكون فاعلها مورد اعتماد المسلمين وثقتهم)(2).

ص: 254


1- موسوعة الفقه: ج102 ص 230 - 233.
2- موسوعة الفقه: ج 102 ص 230 - 233.

من رَوَى... أخرجه اللّه من ولايته فلا يقبله الشيطان!

أقول: وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ»(1).

الوجه في رفض الشيطان لقبوله

وفي هذه الرواية الشريفة نكات لطيفة شريفة:

منها: أن الولاية يمكن أن تكون بفتح الواو (الوَلايَة) ويمكن أن تكون بكسرها (الوِلاية) والوَلاية بالفتح تعني المحبة والنصرة، والوِلاية بالكسر تعني السلطة والحكومة(2).

وكلاهما في الرواية محتمل، فعلى الأول: يكون المعنى أن اللّه تعالى يخرجه

ص: 255


1- الكافي: ج2 ص358.
2- قال في مجمع البحرين: (والولاية أيضاً: النصرة، بالكسر: الإمارة، مصدر وليت، ويقال: هما لغتان بمعنى الدولة. وفي النهاية: هي بالفتح: المحبة، وبالكسر: التولية والسلطان، ومثله "الولاء " بالكسر - عن ابن السكيت) وقال: (الولاية بالفتح: محبة أهل البيت وأتباعهم في الدين وامتثال أوامرهم ونواهيهم) (مجمع البحرين: ج4 ص561). وقال الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في التبيان: (الولاية بفتح الواو، وكسرها فلغتان مثل الوكالة والوكالة والدلالة والدلالة. وقال قوم: هما مصدران فالمكسور مصدر الوالي من الإمارة والسلطان. والمفتوح مصدر الولي ضد العدو، تقول: هذا وليٌّ بيّن الولاية). (التبيان في تفسير القرآن: ج7 ص49). وقال في مجمع البيان: (وقال بعض أهل اللغة: الولاية النصر، يقال هم أهل ولاية عليك أي: متناصرون عليك. والولاية: ولاية السلطان. قال: وقد يجوز الفتح في هذه، والكسر في تلك، كما قالوا الوكالة والوكالة، والوصاية بمعنى واحد، فعلى هذا يجوز الكسر في الولاية في هذا الموضع) (مجمع البيان: ج6 ص346).

من محبته له ونصرته له ثم لا يقبله الشيطان في دائرة محبيه ودائرة من ينصره، وعلى الثاني يكون المعنى: يخرجه اللّه من سلطانه وحكومته اعتباراً فلا يقبله الشيطان في حكومته ومملكته! وذلك نظير الحكومات التي قد تُسقط جنسية أحدهم وتخرجه من مملكتها ثم لا تقبله الدولة الأخرى أبداً!.

ولكن لماذا لا يقبله الشيطان في دائرة محبّيه ولا في مملكته وسلطانه؟

يمكن تعليل ذلك بوجوه:

منها: أن الشيطان لا يهمه أبداً أن يكون الضٌّلّال من دائرة مملكته وسلطانه أو من محبيه وخِلاّنه؛ فإن الشيطان لا يحب الإنسان ولا يحتاجه وإنما هدفه تدمير الإنسان وتحطيمه وإذلاله واشقاؤه في الدنيا والآخرة لما يحمله من الحقد الدفين على آدم وذريته، قال تعالى: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْديهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلاتَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرينَ)(1)، ثم إنه لا تزداد بالضلّال قوة الشيطان فإنه أقوى من البشر، في دائرة سلطانه، بما لا قياس.

وذلك هو ما استظهره العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إذ قال في شرحه لهذه الرواية: (ولا يخفى ما في هذه الوجوه لا سيما في الأخيرين على من له أدنى مِسكة، بل المراد: إما المحبة والنصرة فيقطع اللّه عنه محبته ونصرته ويكله إلى الشيطان الذي اختار تسويله وخالف أمر ربه، وعدم قبول الشيطان له لأنه ليس غرضه من إضلال بني آدم كثرة الأتباع والمحبين فيودّهم وينصرهم إذا تابعوه بل مقصوده إهلاكهم وجعلهم مستوجبين للعذاب للعداوة القديمة بينه وبين أبيهم، فإذا حصل غرضه منهم يتركهم ويشمت بهم ولا يعينهم في شيء: لا في الدنيا كما قال سبحانه فمثله: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي

ص: 256


1- سورة الأعراف: 17.

بَرِي ءٌ مِنْكَ) وكما هو المشهور من قصة برصيصا وغيره، ولا في الآخرة لقوله: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).

أو المراد التولي والسلطنة أي يخرجه اللّه من حزبه وعداد أوليائه ويعده من أحزاب الشيطان وهو لا يقبله لأنه يتبرأ منه كما عرفت، ويحتمل أن يكون عدم قبول الشيطان كناية عن عدم الرضا بذلك منه بل يريد أن يكفره ويجعله مستوجباً للخلود في النار)(1).

ومنها: ما قيل من أن الشيطان يرى هذا المغتاب لإخوانه، في أدنى درجات الخساسة والدناءة فلا يشرّفه أبداً أن ينتمي مثله إليه! وذلك لأن الشيطان عندما عارض السجود لآدم وعندما حسده لم يقم بحملة تسقيط ضده! ولم ينشغل بغيبته وتهمته ليسقط من أعين الملائكة مثلاً، بل غاية ما فعله أنه اعترض على اللّه في تفضيله عليه بقوله: (خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ)(2) ولذلك وحيث يرى الشيطان منتهى دناءة من يغتاب أخاه ويسقطه من أعين الناس لمجرد خلاف إداري أو مالي، وحيث يراه شريراً إلى درجة لا تطاق فإنه لا يقبله في مملكته وسلطانه ولا يعتبره من أودائه وخِلّانه! وقال العلامة المجلسي (رحمه اللّه): (السرّ فيعدم قبول الشيطان له أن فعله أقبح من فعل الشيطان لأن سبب خروج الشيطان من ولاية اللّه هو مخالفة أمره مستنداً بأن أصله أشرف من أصل آدم (عليه السلام) ولم يذكر من فعل آدم ما يسوء به ويسقطه عن نظر الملائكة، وسبب خروج هذا الرجل من ولايته تعالى هو مخالفة أمره عز وجل من غير أن يسندها إلى شبهة إذ الأصل واحد وذكره من فعل المؤمن ما يؤذيه ويحقره وادعاء الكمال لنفسه ضمناً وهذا إدلال وتفاخر وتكبر فلذا لا يقبله الشيطان لكونه أقبح فعالاً منه على أن الشيطان لا يعتمد على ولايته له لأن شأنه

ص: 257


1- بحار الأنوار: ج72 ص168.
2- سورة الأعراف: آية 12.

نقض الولاية لا عن شي ء فلذلك لا يقبله انتهى)(1).

ولا يخفى أن الوجه الأول أقرب، وإنما ذكرنا الثاني لظرافته ولطافته.

سائر سلبيات اغتياب الناس وتسقيطهم

ثم قال السيد الوالد (رحمه اللّه): (الثاني: إضاعة الأهداف السامية، إذ الناس يقعون في حيرة من أمرهم، هل أهل التكفير والتفسيق وما أشبه على حق؟ فإن التيار إن كان صادقاً في دعواه أنه يريد ترويج الإسلام وتقديمه إلى الأمام والوصول إلى الحكم الإسلامي كيف يكون هو بنفسه آخذاً بمعول الهدم لتحطيم الإسلام أولاً في أنظار كثير من الناس، ولتحطيم نفسه ثانياً؟!

الثالث: إيجاد جو من سوء الظن والفساد بين المسلمين، وبذلك تنصرف الألسنة والأقلام والأفكار إلى الهجوم والدفاع بدل صرفها في التقديم والتقدم.

الرابع: إيجاد جو صالح للاستعمار والاستثمار، ولتقدم أعداء الإسلام وسيطرتهم على المسلمين، حيث يعرفون بذلك نقاط الضعف في المسلمين، فيأخذون في الهجوم عليهم.

الخامس: انعزال الصالحين عن الميدان، حيث إن الصالحين قلماً ولساناً وأخلاقاً يبتعدون عن الاجتماعات الموبوءة، قال سبحانه:(إِنَّ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْ ءٍ)، وبذلك تخسر الحركة الإسلامية الهدف والسمعة في وقت واحد معاً.

السادس: وحينما يكون الجو مشحوناً بالتوتر وانزواء الصالحين، ينفسح المجال أمام المتزلفين والمتملقين ووعاظ السلاطين وفقهاء البلاط لهدم الإسلام والمسلمين.

ص: 258


1- بحار الأنوار: ج72 ص168.

السابع: وبذلك يتحطم العمق الإسلامي في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية وغيرها، لأن الفراش يصبح الجوال في الميدان، على مثل معروف في الألسنة، فلا عمق ولا تعميق، ولا حق ولا تحقيق، ولا لب ولا تلبيب، وإنما قشور وظواهر وسطوح ومظاهر، ومثل هذه الحياة ظلمات بعضها فوق بعض)(1).

ثم قال: (وقد كان من نصائح والدي رحمه اللّه لي أن قال: لا ترد السيئة، فإنه إذا سّبك إنسان كان هناك سّب واحد، أما إذا رددته يكون هناك سبان، وسّب واحد أقل شراً من سبّين، وقال رحمه اللّه: وعلاج ذلك أن ترد السيئة بالحسنة.

ويحكى عن الشيخ البهائي رحمه اللّه أنه اغتابه إنسان فأهدى إليه سلة من الفواكه)(2).

لماذا أهدى الشيخ البهائي سلة الفواكه لمن اغتابه!

أقول: ولعل الوجه في إهداء الشيخ البهائي (رحمه اللّه) سلة الفواكه إلى من اغتابه أمران:

الأول: إنها هدية في مقابل خدمة عظيمة أسداها له من اغتابه! وذلك لأن الأعمال الصالحة تنتقل من المغتاب بالكسر إلى المغتاب بالفتح، أي إنه إذا كان قد صلى مثلاً صلاة الليل بخشوع أو كان قد تصدق بصدقة عظيمة بخلوص نية بدون رياءٍ وسمعة فأعطاه اللّه بها قصوراً فخمة عظيمة في الجنة فإنه بغيبته لزيد مثلاً يعوّض اللّه تعالى زيداً بأن ينقل قصر من اغتابه إليه! أفلا يستحق هذا الشخص

ص: 259


1- موسوعة الفقه: ج 102 ص 230 - 233 بتصرف بسيط.
2- موسوعة الفقه: ج 102 ص 230 - 233.

أن يهديه المغتاب هدية بل هدايا!

والآن فكر أيها القارئ الكريم معي: لو أن كل من اغتابه شخص فكّر بهذه الطريقة فإنه قطعاً سوف لا ينشغل بالردّ ولا النزاع والصراع وسوف لا تروج بضاعة السباب والغيبة بعدها أبداً!

الثاني: إن ذلك كان من مصاديق النهي عن المنكر إذ النهي عنه تارة يكون بالقول الخشن - مثلاً - إذا كان لا يرتدع إلا به، وأخرى يكون بالنصح الحسن أو بالإحسان إليه إذا كان هذا هو الطريق لارتداعه فهو نهي عن المنكر بالمعنى الاسم المصدري للنهي وإن لم يكن بالمعنى المصدري له، وبعبارة أوضح: إن الكلام الحسن والإحسان كثيراً ما يكون طريقاً فاعلاً لإغلاق بوابات الغيبة والعداوات بين المؤمنين؛ إذ إن الشخص إذا سبّ شخصاً آخر أو اتهمه فتواضع وأهداه هدية - بطريقة لطيفة - فإنه - عادة - سوف يستشعر الذنب وسيخجل من نفسه بل وسيتحول إلى صديق بالتدريج.

وقد يقال: إن عمله كان من مصاديق مقدمة الواجب إذ الواجب الدفع بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ)(1) وما فعله البهائي (رحمه اللّه) كان كذلك إذ دفع شره واغتيابه (في علته المبقية) عنه بذلك، وعلى أي فإنه إن لم يخجل ولم يرتدع في المرة الأولى فإنه سيخجل في المرة الثانية أو الثالثة أو حتى العاشرة والعشرين ... وستجد حينئذٍ المجتمع مجتمعاً إيمانياً مثالياً نموذجياً طوباوياً لا نظير له - ربما - حتى في أحلام أشد الناس تفاؤلاً!

نعم يبقى من لا يجدي معه هذا الأسلوب فيندرج تحت عمومات النهي عن

ص: 260


1- سورة فصلت: آية 34 - 35.

المنكر بضوابطه المعروفة من التدرّج؛ لكن - وكما سبق - فإن سباب الآخرين - عادة - ينتج النقيض واللّه الهادي سواء السبيل.

ولنختم الكتاب بما ذكره السيد العم الشهيد (رحمه اللّه) في كتابه القيّم (خواطري عن القرآن) قال: (الحوار المنطقي، لا للسب

(وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

يا أيها المؤمنون!

(لا تَسُبُّوا) الآلهة المزعومة (الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، رغم أن الإسلام جاء لتحرير الإنسان من أساطير الآلهة المزعومة، وتوجيهه إلى الإله الواحد، ولا تسبوا الأصنام، رغم أن أسمى جهاد المسلم هو تحطيم الأصنام.

فأنتم مدعوون إلى: تسفيه الآلهة، وتحطيم الأصنام، ولكن لا تسبوها، لأن:

1- السب تنفيس عاطفي، وليس عملاً يحقق هدفاً. والإسلام لا يريد المسلم عاطفياً، يجيش، فيبحث عن منفس يفرغ به عاطفة الكراهة التي تغلي في صدره، ثم يتصور أنه قد أدّى رسالته، دون أن يكون قد عمل شيئاً. بل على العكس، أسف إلى مستوى الرعاع.

وإليك - بهذا الصدد - الرواية التالية:

(خرج "حجر بن عدي" و"عمرو بن الحمق" يظهران البراءة من (أهل الشام)، فأرسل علي (عليه السلام) إليهما أن: «كفّا عما يبلغني عنكما». فأتياه، فقالا: (يا أمير المؤمنين! ألسنا محقّين)؟! قال: «بلى». قالا: (فلم منعتنا من شتمهم)؟ قال: «كرهت - لكم - أن تكونوا لعانين شتامين، تشتمون وتبرأون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا.. وكذا.. ومن أعمالهم كذا.. وكذا.. كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر. و(لو) قلتم - مكان لعنكم إياهم،

ص: 261

وبراءتكم منهم: اللّهم أحقن دمائهم ودمائنا، وأصلح ذات بينهم وبيننا، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق - منهم - من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان - منهم - من لجّ به، لكان أحب إليَّ، وخيراً لكم» فقالا: (يا أمير المؤمنين! نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك)(1).

فالإسلام يكره للمسلم، ويكره الإمام لأصحابه، أن يكونوا سبابين، يلخصون رسالاتهم في ألفاظ نابية يقذفونها في الفراغ، وهم يحسبون أنهم انجزوا كثيراً، لأنهم قالوا ما لم يقله غيرهم، أو ما لا يجرؤ عليه غيرهم.

2 - السب بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً، يخفف من زخمالاندفاع، فالذي لا يسب، يندفع بدافع العاطفة وبدافع الفكر في اتجاه هدفه. والذي يسب، يفرغ بالسباب طاقته العاطفية، فلا يبقى لديه من وقود يحركه نحو هدفه سوى الفكر، والفكر بدون العاطفة أضعف من الفكر مع العاطفة، فالسباب يستهلك من وقوده دون أن ينجز شيئاً.

3 - السب وإن وُجِّه إلى الأصنام - التي تستحق أكثر من السب -، إلا أن عدواه يسريه إلى غيره، فإن الإنسان إذا اعتاد عملاً مكرساً في اتجاه، فسرعان ما يحل الغضب رباط تكريسه، فيعدو به إلى غير ذلك. ومع تواتر الأحداث المثيرة، يصبح سبّاباً، يسب كل شيء.. وكل أحد.. والإسلام يربأ بالمسلم عنه.

4 - السب - بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً - يؤدي إلى رد فعل معاكس من الطرف الآخر، من باب المقابلة بالمثل. وهذا.. غير صحيح لسببين:

الأول: أن تعريض المؤمن مقدساته لإهانات الكفار، من أجل التنفيس عن غيظه، إسفاف بها. وعلى المؤمن أن يبرر كظم غيظه بصيانة مقدساته، لا أن يبرر تعريضها للإهانة بالتنفيس عن غيظه:

ص: 262


1- بحار الأنوار: ج32 ص399.

(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً) بمرض العدوى، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بما يجرون على أنفسهم من سب اللّه.

الثاني: أن المعارك الكلامية تهدر النشاطات التي لا بد من استثمارها في معارك عملية، لأنها الفاصلة، وأما المعارك الكلامية فملهاة - أو منساة - تجهض المعارك العملية الهادفة.

وإذا كان القرآن ينهى عن المعركة ضد الآلهة المزعومة، حتى عن أقل المعركة الكلامية الذي هو السب، إتقاء أن يؤدي - بأسلوب رد الفعل - إلى تطاول الكفار على اللّه؛ فكيف يمكن القضاء على الآلهة المزعومة؟

إن محاربة الآلهة المزعومة، أو أي هدف آخر، تكون بطريقتين:

الطريقة الأولى: طريقة المجابهة. وهذه طريقة تقليدية، قد تستخدم حتى في المعارك الساخنة؛ حيث يصطف الجانبانالمتحاربان، ويتلاحمان وجهاً، ويقدمان الضحايا بسخاء، حتى ينتصر جانب على جانب.

الطريقة الثانية: طريقة الالتفاف. وهذه طريقة أحدث من تلك، وكثيراً ما تستخدم في المعارك الساخنة أيضاً؛ حيث يخلي جانب موقعه، ويتحول إلى موقع مجهول، حتى إذا زحف الجانب الآخر زاعماً أن خصمه اندحر، طلع الجانب الأول من موقعه المجهول، والتف حول خصمه، وأحكم عليه الحصار بحيث لا يجد إلا الاستسلام.

وكما في المعارك العسكرية، كذلك في المعارك الفكرية: فقد يبدأ المناقش بنقطة ارتكاز الطرف الآخر، فيسخفها بحيث يثير عناده، ثم يظل يبادله الحجة حتى تنفذ حججهما، فيتراشقان بألفاظ حادة تعمق الشقة بينهما، وهذا أسلوب يؤدي إلى تعنيد الطرف الآخر.

ص: 263

وربما يتجاهل المناقش نقطة ارتكاز الطرف الآخر، ويبدأ الحديث من موقع يجهل الطرف هدفه فيتجاوب معه، ويسير معه خطوة.. خطوة.. نحو نقطة ارتكازه، ويرتب المقدمات التي تنتج بطلان نقطة ارتكازه، ويقف المناقش عند هذا الحد ليقول الطرف الآخر خلاف نقطة ارتكازه.

وهذا الأسلوب هو أسلوب التوجيه غير المباشر، الذي ينتج وبلا شجار.

وإلى هذا .. يوجه القرآن حيث يمنع عن سب الآلهة المزعومة، فيريد من المسلمين أن يرتبوا - في حوارهم مع الكفار - كل المقدمات التي تنتهي بإثبات زيف الآلهة المصنوعة، وتركهم يستنتجون زيفها، بل وتركهم يحاربوها ويحطموها)(1).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمد واله الطيبين الطاهرين.

ص: 264


1- خواطري عن القرآن: ص449 - 452.

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

* الكافي الشريف.

- الاحتجاج /لأحمد بن علي الطبرسي (رحمه اللّه)، نشر المرتضى - مشهد، 1403ه.

- أحكام اللّهو واللعب واللغو وحدودها /للمؤلف.

- الاختصاص/ للشيخ المفيد (رحمه اللّه)، المؤتمر للشيخ المفيد - قم، 1413ه.

- الإرشاد / للشيخ المفيد (رحمه اللّه)، المؤتمر للشيخ المفيد - قم، 1413ه.

- الاستبصار /للشيخ الطوسي (رحمه اللّه)، دار الكتب الإسلامية - طهران.

- أصول علم الرجال/ للشيخ الداوري.

- الأصول / للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه).

- إعلام الورى / لأمين الإسلام الطبرسي (رحمه اللّه)، دار الكتب الإسلامية - طهران.

- أعيان الشيعة / للسيد محسن الأمين (رحمه اللّه)، دار التعارف للمطبوعات - بيروت.

- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد/ للشيخ الطوسي (رحمه اللّه).

ص: 265

- الأمالي/ للشيخ الطوسي (رحمه اللّه)، دار الثقافة للنشر - قم،1414ه.

- الأوامر المولوية والإرشادية / للمؤلف.

- بحار الأنوار /للعلامة المجلسي (رحمه اللّه)، مؤسسة الوفاء - بيروت، 1404ه.

- البرهان في تفسير القرآن / للسيد هاشم البحراني(رحمه اللّه)، مؤسسة البعثة.

- تاريخ دمشق / لابن عساكر.

- البيان في تفسير القرآن / للسيد أبي القاسم الخوئي(رحمه اللّه).

- تحف العقول عن آل الرسول صلوات اللّه عليهم اجمعين / للحسن بن شعبة الحراني(رحمه اللّه)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1404ه.

- تصحيح الاعتقاد/ للشيخ المفيد(رحمه اللّه)، المؤتمر للشيخ المفيد - قم 1413ه.

- تفسير التبيان / للشيخ الطوسي (رحمه اللّه)، الناشر: الناشر: احياء التراث العربي - بيروت.

- تفسير الصافي / للفيض الكاشاني (رحمه اللّه)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت.

- تفسير العياشي / لمحمد بن مسعود العياشي (رحمه اللّه)، المطبعة العلمية - طهران، 1380ه.

- تفسير القمي / لعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي(رحمه اللّه)، مؤسسة دار الكتاب - قم، 1404ه.

- تقريب القرآن إلى الأذهان / للسيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه).

- تقريرات أبحاث السيد أبي القاسم الخوئي(رحمه اللّه) / للشيخ محمد علي التوحيدي(رحمه اللّه)، مكتبة الداوري - قم.

- التهذيب / للشيخ الطوسي(رحمه اللّه)، دار الكتب الإسلامية - طهران.

ص: 266

- جامع الأخبار/ تاج الدين الشعيري، دار الرضي للنشر - قم، 1405ه.- جمهرة اللغة/ لابن دُرَيْد.

- جواهر الكلام / للشيخ محمد حسن النجفي الجواهري(رحمه اللّه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

- حجية مراسيل الثقات المعتمدة - الصدوق والطوسي نموذجاً - /للمؤلف.

- حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) / مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث.

- الخصال / للشيخ الصدوق (رحمه اللّه)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1403ه.

- خواطري عن القرآن / للسيد حسن الشيرازي(رحمه اللّه).

- الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة / لآقا بزرك الطهراني(رحمه اللّه)، إسماعيليان - قم.

- ربيع الأبرار باب العقل والفطنة / للزمخشري.

- الرجال / للشيخ الطوسي(رحمه اللّه).

- الرجال / للعلامة الحلي(رحمه اللّه).

- رجال الكشي / لمحمد بن عمر الكشي(رحمه اللّه)، مؤسسة النشر في جامعة مشهد.

- الرجال / للشيخ المامقاني(رحمه اللّه).

- الرجال / للنجاشي(رحمه اللّه).

- رسالتان في الخمس /للمؤلف.

- الرواشح السماوية / للميرداماد (رحمه اللّه)

- شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد المعتزلي ، مكتبة آية اللّه المرعشي - قم، 1404ه.

- شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية / للمؤلف.

ص: 267

- الطبقات الكبرى متمم الصحابة الطبقة الرابعة / لابن سعد.

- العدة في أصول الفقه / للشيخ الطوسي (رحمه اللّه).

- العروة الوثقى / للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (رحمه اللّه)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1417ه.- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) / للشيخ الصدوق(رحمه اللّه)، دار العالم للنشر (جهان) 1378ه.

- الغارات / إبراهيم الثقفي الكوفي - ط الحديثة، الناشر: انجمن آثار ملى طهران، 1395ه.

- غرر الحكم.

- فقه الصادق (عليه السلام) / للسيد محمد صادق الروحاني دام ظله ، مؤسسة دار الكتاب - قم، ط3، 1413ه.

- الفقه - حول السنة المطهرة / للسيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه) ، ط3 بالتعاون مع مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر - كربلاء.

- لسان العرب / لابن منظور.

- المبسوط في فقه الإمامية / للشيخ الطوسي (رحمه اللّه)، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية - طهران.

- مجمع البحرين / للشيخ فخر الدين الطريحي(رحمه اللّه).

- مجمع البيان في تفسير القرآن / للشيخ الطبرسي (رحمه اللّه)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت.

- المحاسن / لأحمد بن محمد بن خالد البرقي(رحمه اللّه)، دار الكتب الإسلامية - قم، 1371ه.

ص: 268

- المختصر النافع في فقه الإمامية / للمحقق الحلي(رحمه اللّه)، قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة - طهران.

- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول صلوات اللّه عليهم اجمعين / للعلامة المجلسي (رحمه اللّه)، دار الكتب الإسلاميّة، ط/2، 1404ه.

- مستدرك الحاكم.

- مستدرك الوسائل / المحدث النوري(رحمه اللّه)، مؤسسة آل البيت - قم 1408ه.

- مستدرك نهج البلاغة.

- مصباح الفقاهة / للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمه اللّه)، مكتبة الداوري -قم.

- معجم رجال الحديث/ للسيد أبي القاسم الخوئي(رحمه اللّه).

- معجم مقاييس اللغة / لابن فارس.

- المفردات في غريب القران / الراغب الأصفهاني،.

- مكارم الأخلاق/ للحسن بن الفضل الطبرسي(رحمه اللّه).

- المكاسب / للشيخ مرتضى الانصاري (رحمه اللّه)، ط تراث الشيخ الأعظم.

- من فقه الزهراء $/ السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر - بيروت.

- من لا يحضره الفقيه / للشيخ الصدوق (رحمه اللّه)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1413ه.

- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك / لابن الجوزي.

- موسوعة الفقه - كتاب الحقوق / للسيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه).

- وسائل الشيعة / لمحمد بن الحسن الحر العاملي(رحمه اللّه)، مؤسسة آل البيت - قم، 1409ه.

ص: 269

- الوصول إلى كفاية الأصول / للسيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه).

- العنف تأملات في وجوهه الستّة / سلافوي جيجيك، ترجمة: فاضل جتكر، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات.

ص: 270

الفهرس

تقييم منهج سباب أهل البدع والمخالفين والمعارضة...7

موضوع البحث...7

نطاق البحث وهيكليته: طوائف الآيات والروايات...10

مشكلة البحث وغايته: الروايات والفتوى بالجواز...11

الفصل الأول: الأصل في العلاقات اللفظية مع الآخر/15

الأصل (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )وحرمة السباب...17

الفوائد من تأسيس أصل حرمة السباب بشكل عام...27

المناقشة: الاستثناء في قوله: (إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)...28

الأجوبة...28

المحتمل (إلا الذين ظلموا فلا تجادلوهم أصلاً)...28

أو المراد (فجادلوهم لا بالتي هي أحسن)...29

أو المراد: فقاتلوهم ردّاً لاعتدائهم...30

وقوله (عليه السلام): «وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، مُحَرَّمٌ»...31

الاستدلال بأصالة الحظر، على حرمة سب الآخرين...34

فائدة الأصل الأولي مع وجود الدليل النقلي...35

أصلان عامان أوّليان...37

ص: 271

أ - أصالة الرحمة على المؤمنين بل حتى الكافرين...37

ب - الأصل عدم سب الكفار...43

الاعتراض بوجود روايات كثيرة تتضمن السباب والشتائم!...45

نماذج من الروايات...45

الواجب دراسة كافة الروايات كمنظومة متكاملة...47

والمرجعية في دراسة طوائف الروايات للمرجعية...48

متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟...49

الروايات تنقل أفعالاً، والفعل لا إطلاق له ولا جهة...51

أمثلة لكون الفعل لا جهة له ولا إطلاق...52

لو باع أحدهم (عليه السلام) ثوبه في ساعة معينة...52

دخول الإمام الكاظم (عليه السلام) مزرعة العُمَري بدون رضاه...52

إجراء الإمام (عليه السلام) الحدود، والقول بحرمة إجرائها علينا...54

أمثلة أخرى لخفاء جهة عملهم (عليهم السلام) أو لعدم انطباقها علينا...56

وضع الزكاة على الخيل والجياد...56

إفطار الإمام في شهر رمضان...57

إباحة الإمام الخمس لشيعته...57

من وجوه (السباب) في التراث الإسلامي...58

الأصل العام: (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)...58

إذا سمعوا أعدائنا ثلبونا بأسمائنا...59

السباب في حالة الحرب، ورداً على الاعتداء...62

نماذج من الروايات في حالة الحرب أو رداً على الاعتداء...63

ص: 272

إذا جاز قتل العدو المحارب جاز سبّه...66

ولعل تلك السباب كانت من جهة مقام الولاية...68

منع الشيعة من المتعة!...68

إلزام الشيعة بالتجارة...69

أمرهم (عليهم السلام) البعض بالدخول في سلك الظلمة...71

دعمهم (عليهم السلام) للحركات الثورية والعسكرية...71

ولعله من مقتضيات مرحلة التأسيس...73

كتدرجية نزول الأحكام...73

كسر النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) للأصنام، مثالاً...74

التدريجية طوال 260 سنة...76

تدريجية بيان الأحكام أو تدريجية تشريعها؟...77

التأسي بفعل المعصوم (عليه السلام) بعد إحراز جهاته...80

الفصل الثاني: الروايات الدالة على سباب بعض الفئات الخاصة/81

الاستدلال برواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ»...83

المناقشات...84

أولاً: الخطاب عام والمكلَّف به خاص...84

من بيده الأمر مراجع التقليد...85

أمثلة للخطاب العام والمكلَّف به الخاص...85

أ - (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)...85

ب - (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)...86

ثانياً: الرواية معللة ب«كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ»...87

ص: 273

والسب مقدمي، ويحرم لو أنتج العكس...87

ضوابط وقيود في جواز السباب...89

الجواز مقيَّد بقطع طمعهم في الفساد في الإسلام...89

ثالثاً: الفرق بين المبتدع وبين أهل الريب والبدعة...89

المرجعية للمراجع العظام وللخبراء والحكماء...90

تمييز دائرة الاجتهاد عن دائرة أهل الريب والبدع...91

هل القائل بسهو النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم) من أهل الريب والبدعة؟...92

هل القول بالانسداد الكبير بدعة؟...92

هل تنويع الأحاديث بدعة وصاحبها من أهل البدع؟...92

المرجعية للفقهاء والعلماء لا للشباب المتحمس!...94

هل القول بولاية الفقيه أو عدمها بدعة؟...95

الفصل الثالث: الأدلة على حرمة السبّ مطلقاً أو المستلزم لمحاذير/97

تعميم (وَلا تَسُبُّوا... ) إلى ما استلزم سبّ أولياء اللّه...99

«مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ»...100

«إياكم وسبّ أعداء اللّه حيث يسمعونكم»...101

«لَا تَسُبُّوهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسُبُّون عَلَيْكُمْ»...103

«لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»...104

سبّ الرموز الدينية أو السياسية أو الاجتماعية...105

«وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»...106

الحذر والتوقي من المضاعفات المستقبلية...107

«يَا مُوسَى... أَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ»...108

ص: 274

كتمان السر وإظهار المداراة واجبان...108

مداراة أعداء اللّه ومداراة أعدائك...109

المداراة للأعداء هو منهج الأديان السماوية كلها...109

إذا سببت آلهتهم فقد أشركت باللّه تعالى!...110

الفصل الرابع: تعارض الروايات أو تزاحمها/111

تعارض الروايات أو تزاحمها...111

هل روايات (السباب) متعارضة أو متزاحمة؟...113

تعارض «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» مع «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»...114

وجوه العلاج...115

وجه جمع عرفي: تعدد إطلاقات (السباب)...116

فالمنفي السبُّ العَلَمي والمثبَت السبُّ الوصفي...117

«كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»، شاهد جمع...117

احتمالان في «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»...118

تجريدهما من معنى الأفضلية...119

عدم التجريد...120

شاهد جمع آخر بين الروايتين...120

قوله (عليه السلام): «لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ» 121

هل «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ» قضية خارجية؟...122

عود على بدء...123

الإطلاقات المتعددة والمعاني المتنوعة...123

إطلاقات (الكفر) السبعة...124

ص: 275

والارتداد...127

والإمامة...128

والملكية...128

والجنّ...128

والعرفان...129

الوجه في تعدد الإطلاقات...129

الإطلاقات المتعددة في (السباب)...131

معاني السباب في كلمات اللغويين...132

تعريفات ومعاني السباب لدى الفقهاء...134

الشيخ الانصاري قدس سره ...135

العلامة المجلسي قدس سره...136

السيد الوالد قدس سره...136

السيد الخوئي رحمه اللّه...137

حوار افتراضي يجسد معنيين للسباب...139

نموذج من الخطبة الشقشقية...140

جرح الشهود والرواة ونصح المستشير...141

بين «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» و «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»...141

الموجز: قرينتان في الروايتين على وجه الجمع...142

إدراج الروايتين في باب التزاحم...144

التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي...144

نماذج من آيات عُدّت متعارضة والظاهر أنها متزاحمة...145

ص: 276

تزاحم الملاكات في السباب على ضوء الآيات والروايات...147

التزاحم من أصعب الأمور وأخطرها...148

فشل الناس في امتحان التزاحم...148

نماذج فقهية مهمة من تزاحم الواجبات...149

تزاحم ملاكات السباب بين المصلحة والمفسدة...150

طوائف الآيات والروايات...151

المصلحة في سبابِ بعضٍ: «كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ»...151

المفسدة في السباب عموماً أو خصوصاً...152

أ - ردود أفعال الآخرين: سب اللّه عدواً بغير علم...152

ب - «وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً... وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ»...153

ج - (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)...154

د- الجدال بالأحسن يسبّب «قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ»...154

ه- - «وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ»...155

و - «مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ... يَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً»...155

ز - «وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ»...156

ح - «لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ»...156

ط - نحن في زمن هدنة، والسباب ناقضٌ لها...157

ي - «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ»...157

ك - «كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»...157

ل - «وَأَنَّ إمارتنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ»...158

م - «وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ»...158

ص: 277

ن - «هذا أبصر بالحجج وأرفق منه»...158

خلاصة القول في ملاكات السباب...159

وما هي المرجعية؟...159

وتلك الملاكات حقائق تشكيكية...160

الخطوات الأصولية في معالجة الروايات المتعارضة في السباب...160

1- البحث عن الجمع العرفي...160

2 - الترجيح بموافقة الكتاب...161

وروايات كراهة السباب موافقة للكتاب...162

3- مقارنة الروايتين من حيث قوة الإسناد...164

أ- مراسيل الثقات المعتمدة حجة...164

(من القائلين بحجّية مراسيل الثقات مطلقاً...164

كلام الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في العدة...165

كلام السيد الوالد (رحمه اللّه) عن تعدد طرق حجية الرواية...169

إشارة لوجه حجية نهج البلاغة...171

توثيق الشريف الرضي بأعلى درجات التوثيق...171

مؤيدات مضمونية أو أدلة على حجيته...173

رواية «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ...» مستفيضة...175

4 - رواية «أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ» معارضة للكتاب في مورده...175

الفصل الخامس: مداراة الناس/177

مداراة الناس فريضة...179

من يكفّ عن الناس يكفّون عنه...179

ص: 278

من لا يداري الناس، يكرهه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)...180

الفصل السادس: الزمان زمان الهدنة/185

الزمان زمان هدنة، والسباب ناقض لها...187

الفصل السابع: المرجعيات/193

أولاً: مرجعية الفقهاء...195

الأمر بالمناظرة خطاب عام وحكم خاص...197

منع الإمام (عليه السلام) الكثيرين من الكلام وأمره البعضَ به...198

الاستدلال بحكومة «مَجَارِيَ الْأُمُورِ...» لا بالقياس...200

السباب شأن عام ومن الموضوعات العامة...200

باب التزاحم وعدم زحزحة الإمام (عليه السلام) للبدع...201

ثانياً: التشخيص لأهل الخبرة والعقل والحكمة...203

مرجعية أهل الخبرة في كلمات الفقهاء...204

(متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟...206

من الخطأ إصدار حكم بهدر دم كاتب أو مفكر...208

ثالثاً: والقرار العملي مرتَهن بأكثرية المؤمنين...210

عمل الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلم) برأي الأكثرية في معركة أحد...212

بعض فقه رواية عمل النبي برأي الأكثرية في أحد...217

ملخّص الموقف الشرعي من الشؤون العامة...220

أقربية رأي الشورى من الخبير أو المجتهد الواحد...221

لشهادة العقل والعقلاء بذلك...221

ص: 279

والروايات...221

(الوجه الثاني: أقربية الإصابة في رأي المشيرين من رأي الواحد...226

الفصل الثامن: أسئلة وأجوبة/229

كثرة سباب الآخرين توجب ترويضهم!...231

لا يعقل أن يروّض الأضعفُ الأقوى على تحمل الشتائم!...232

سياسة الرعب والصدمة!...235

سياسة استعمارية تبناها إسلاميون!...235

منطق القرآن الكريم: الرحمة والسلم واليسر والحكمة...237

العنف استثناء وليس أصلاً...239

تشخيص الموضوع للفقهاء العدول ولأهل الخبرة...239

العنف درجات...240

الاستدلال بوجود السباب في القرآن والسنة...241

ولله الحق، وليس لكل من هبّ ودبّ!...241

المرجع في طائفتي الآيات والروايات المتعارضة، المجتهد...242

نحن في زمان هدنة...243

سياسة الصدمة مغامرة تنتج غالباً النقيض...243

إذا أجدَتْ مع البعض فانها اخربَت الأكثر!...245

الحداثويون أيضاً يسبّون ويشتمون!...248

الخاتمة...251

الروايات الدالة على ثبوت التعزير في سبِّ المؤمنين...251

ص: 280

موعظة أخلاقية: الطبع سَرّاق والحالات النفسية سيّالة مُعدِية...253

الواجب أن لا تسري حالة السباب إلى الدوائر المحرمة...253

كلام السيد الوالد (رحمه اللّه) عن التكفير والتفسيق...254

من رَوَى... أخرجه اللّه من ولايته فلا يقبله الشيطان!...255

الوجه في رفض الشيطان لقبوله...255

سائر سلبيات اغتياب الناس وتسقيطهم...258

لماذا أهدى الشيخ البهائي سلة الفواكه لمن اغتابه!...259

فهرس المصادر...265

الفهرس...271

ص: 281

كتب أخرى للمؤلف

1. (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) - مطبوع.

2. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

3. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

4. الأصول مباحث القطع، مخطط.

5. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

6. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

7. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

8. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

9. بحوث في العقيدة والسلوك، مطبوع.

10. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

11. تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط.

12. التبعيض في التقليد، تحت الطبع.

13. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

14. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

ص: 282

15. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

16. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

17. توبوا إلى اللّه، مطبوع.

18. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

19. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

20. الحوار الفكري، مطبوع.

21. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

23. خلق لكم ما في الأرض جميعا (الأرض للناس لا للحكومات), تحت الطبع.

24. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

24. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

25. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

26. رسالة في أسلمة العلوم الإنسانية – مطبوع.

27. رسالة في الحق والحكم، التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.

28. رسالة في السيرة العقلائية - مخطوط.

29. رسالة في شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات - مخطوط.

30. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

31. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

32. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

ص: 283

33. السرقفلية (حق الخلو) موضوعاً وحكماً .

34. السلطات العشر والبرلمانات المتوازية ، مطبوع.

35. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

36. السيد نرجس $ مدرسة الأجيال، مطبوع.

37. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

38. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

39. شعاع من نور فاطمة الزهراء $، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء $، مطبوع.

40. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث أصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل، مطبوع.

41. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

42. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

43. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

44. فقه المكاسب - مباحث البيع، مخطوط.

45. فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللّهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

46. فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

47. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

48. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

49. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

50. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

ص: 284

51. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، تحت الطبع.

52. فقه المكاسب المحرمة- مباحث الرشوة، مطبوع.

53. قاعدة اللطف، تحت الطبع.

54. القيمة المعرفية للشك - مطبوع.

55. كونوا مع الصادقين، مطبوع.

56. لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ, بحث فقهي عن المكاسب المحرمة، على ضوء الآية الشريفة, تحت الطبع.

57. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

58. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

59. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

60. مباحث الأصول: (الحكومة والورود)، تحت الطبع.

61. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

62. مباحث الأصول، التعارض - مخطوط.

63. المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد (بحوث تمهيدية)، مطبوع.

64. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

65. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

66. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

67. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

68. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

69. مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

ص: 285

70. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

71. مقدمات الاجتهاد والاستنباط وشروطه.

72. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

73. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

74. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

75. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

76. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

77. وجيزة في التقليد - مطبوع.

78. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 286

ص: 287

قولوا للناس حسناً و لا تسبوا

مؤسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 288

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.