شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية
دراسة أصولية .. فقهية
سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
الطبعة الرابعة
1438 ه- 2017م
حقوق الطبع محفوظة
منشورات: مؤسسة التقى الثقافية ، النجف الأشرف
ص: 1
الطبعة الرابعة
1438 ه- 2017م
حقوق الطبع محفوظة
منشورات:
مؤسسة التقى الثقافية ، النجف الأشرف
ص: 2
شورى الفقهاء و القيادة الإسلامية
المجلد الأول
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)
سورة آل عمران: 159
(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)
سورة الشورى: 38.
ص: 5
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *
الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *
اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ*
* * *
اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ
صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ
فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ
وَلِيّاً وَحَافِظاً وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً
حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
إليك يا حجة الله ودليل إرادته وتالي كتاب الله وترجمانه وبقية الله في أرضه.
إليك يا ولي المؤمنين وبوار الكافرين ومجلي الظلمة ومنير الحق والناطق بالحكمة والصدق.
إليك يا نظام الدين ويعسوب المتقين وعز الموحدين.
إليك يا مهدي الأمم وجامع الكلم وخلف السلف وصاحب الشرف وحجة المعبود وكلمة المحمود.
إليك يا وارث الأنبياء وخاتم الأوصياء ومعز الأولياء ومذل الأعداء.
إليك يا صاحب الزمان وشريك القرآن وإمام الإنس والجان.
إليك يا سيدي أهدي هذا المجهود المتواضع الذي تحدثتُ فيه عن وكلائك مراجع التقليد وعن القيادات الإسلامية، وكلي أمل ورجاء في أن تتقبله بقبول حسن وتشفع لي يوم الحشر عجل الله تعالى فرجك وسهل مخرجك وجعلنا من أنصارك وأعوانك، آمين رب العالمين.
العبد الفقير
مرتضى بن محمد الشيرازي
قم المقدسة
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين.
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:(... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ).(1)
وقال جل وعلا:(... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ...).(2)
وقال سبحانه: ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...).(3)
وقال عز اسمه: (... إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ...).(4)
وقال تعالى:(... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).(5)
لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة الأولى: أن العلماء لا يستوون
ص: 9
مع غيرهم، وفي الآية الكريمة الثانية: أن المؤمنين والعلماء أرفع من غيرهم بدرجات(1)، وفي الآية الكريمة الثالثة: أنالآيات الربانية التي يتمضنها الكتاب الحكيم والتي هي علامات على السنن الإلهية، ودلالات قاطعة على الحقائق الكونية إنما هي آيات وعلامات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، فهم العالمون بحقائق الأشياء كما هي لا غير، وفي الآية الكريمة الرابعة: أن العلماء - والمراد العلم الحقيقي - هم الذين يتحلون بصفة التقوى والخشية من الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الكريمة الخامسة وما شابهها(2): أن مراجع الأمة في معرفة الحقائق التكوينية والتشريعية ينبغي أن يكونوا (أهل الذكر) و(المتفقهين في الدين).
وإذا رجعنا إلى الأحاديث الشريفة نجد مجموعةً كبيرة جداً منها تتحدث عن فضل العلماء وعن كونهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، كما نشاهد مجموعة أيضاً تتكلم عن أصناف العلماء وترشد الأمة إلى المقاييس الدالة على أنواعهم، كما سنعثر على روايات مستفيضة ولعلها متواترة - ولو تواتراً إجمالياً - تتطرق إلى دور الفقهاء الرئيسي في قيادة الأمة وتوجيهها.
ومن المفيد أن نذكر هنا بعض الروايات الشريفة من الطوائف الثلاث السابقة:
فعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (ساعة من عالم يتكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً).(3)
ص: 10
وعن الإمام السجاد أو الإمام الباقر (عليهما السلام): (متفقه في الدين أشد على الشيطان من عبادة ألف عابد).(1)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (فإن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، فإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلفٌ منه، وطالب العلم يستغفر له الملائكة ويدعوله من في السماء والأرض).(2)
وعنه (عليه السلام) مخاطباً ولده محمداً: (تفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء).(3)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رحم الله خلفائي، قيل: ومن خلفائك يا رسول الله؟ قال: الذين يأتون بعدي يروون سنتي ويحفظون حديثي على أمتي أولئك رفقائي في الجنة).(4)
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه إذا جاءه طالب علم قال: (مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله).(5)
وعنه (صلى الله عليه وآله): (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فأحذروهم على دينكم).(6)
وعن علي (عليه السلام): (إياكم والجهال من المتعبدين والفجار من
ص: 11
العلماء، فإنهم فتنة كل مفتون).(1)
وعنه (عليه السلام): (والعلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فقد هلك، وإن أهل النار ليتأذون من نتن ريح العالم التارك لعلمه).(2)
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): (... ورجل أتاه الله علماً فبخل به على عباد الله وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً قليلاً فذلك يلجم يومالقيامة بلجام من النار...).(3)
وعن علي (عليه السلام): (الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم مكر الله).(4)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكماء على الملوك).(5)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في فضل العلم: (... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم).(6)
وعن الإمام الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) في فضل العلم: (... يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم).(7)
ص: 12
وعن علي (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة).(1)
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله).(2)
وعنه (صلى الله عليه وآله): (لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم إلاّ عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد).(3)وعندما نتصفح كتب الروايات نجد المئات من الروايات الشريفة الأخرى التي تتحدث عن العلماء ودورهم في تاريخ الأمم وحياة البشرية، وتركز على ضرورة التقييم الدقيق للفقهاء ومحاولة استكشاف خصائصهم وصفاتهم، باعتبارهم القادة الذين تستقيم الأمة باستقامتهم، وتنحرف بانحرافهم.
ومن هنا كان من اللازم عقد دراسات فقهية وأصولية مفصلة ومستوعبة لتلك الآيات الكريمة والروايات الشريفة لاستكشاف ذلك، ولاستكشاف نوعية العلاقة التي ينبغي أن تكون بين العلماء والأمة، ومسؤولية العلماء تجاه الأمة، والأمة تجاه العلماء، وكذلك نوعية العلاقة بين العلماء بعضهم مع بعض، على ضوء ما يستفاد من الكتاب الحكيم والسنة الشريفة والحجة الباطنة.
وهذا الكتاب محاولة بدائية متواضعة لتسليط بعض الأضواء على جانب من العلاقة بين مراجع التقليد (حفظهم الله تعالى) بعضهم مع بعض حسب المستفاد من الأدلة، وعلى جانب مختصر جداً من العلاقة بين مراجع التقليد (حفظهم الله)
ص: 13
والأُمة كذلك، وأيضاً: تسليط الأضواء على العلاقة بين مختلف القيادات الإسلامية أو الاجتماعية مع المجاميع التي تنضوي تحت رايتها، سواءً أكانت قيادات شعبية أم عشائرية أم حزبية أم غيرها.
ولقد تم في الباب الأول من هذا الجزء الاستدلال بحكم العقل، انطلاقاً من لزوم دفع الضرر المحتمل البالغ، وكذلك الاستدلال ببرهان الدوران والترديد، وبرهان التركب من آحاد مفروضة الحجية على وجوب الاستشارة، وعلى وجوب عمل الفقيه الحاكم برأي أكثرية الفقهاء في الشؤون العامة، وعلى لزوم عمل أية قيادة في أي مستوى كانت، برأي أكثرية الأتباع أو الأعضاء في إطار أحكام الشرع، كما جرى البحث عن الآيتين الكريمتين: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1)، و (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2)، وعن مدى دلالتهما مع التطرق للعديد من الإشكالات التي تورد على الاستدلال بهما، مع ماربما يجاب به عن الإشكالات.
ثم تم التطرق لبعض الروايات الشريفة التي يمكن استظهار بعض المسائل الأساسية منها، مثل التوقيع المبارك المروي عن صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ومجموعة من الروايات الشريفة الأخرى، وأما سائر الروايات التي يمكن التمسك بها مثل: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(3) وغير ذلك، فالمرجو من المولى العلي القدير أن يوفقنا للتحدث عنها في المجلد الثاني بإذنه تعالى.
ثم جرى في الباب الثاني الحديث عن مسائل عديدة هامة، وهي: وجوب الاستشارة، ووجوب الإشارة، وحرمة المنع، ووجوب ردع المانع، ووجوب
ص: 14
طلبها، ووجوب العمل بها، ووجوب الفحص عن صحة الرأي، إضافة إلى النسبة بين أدلة الشورى وأدلة التقليد، وحكم تعارض رأي أكثرية شورى الفقهاء مع أكثرية الأمة، وكون القضاء سلطة مستقلة أم لا، إلى غير ذلك، وبقيت مسائل عديدة أخرى كما بقيت ملحقات كثيرة بما ذكر سنتطرق لها في المجلد الثاني بإذنه تعالى.
وليس ما ذكر في الكتاب إلا مقتضى الصناعة حسب النظر البدوي القاصر، وأما الفتوى فهي من شأن مراجع التقليد (أدام الله ظلهم على رؤوس المسلمين). وسأكون من الشاكرين للعلماء الأعلام والفضلاء الكرام (أيدهم الله تعالى) فيما لو تفضلوا بذكر إرشاداتهم وجرحهم وتعديلهم ونقدهم لما ورد في الكتاب.
ف- (المؤمن مرآة المؤمن)(1)، و(أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي)(2)، وستكون سبباً بإذنه تعالى لإصلاح الهفوات وترميم الثغرات التي تلازم عادة أية محاولة أولى من نوعها في حقل من الحقول الفقهية والأصولية، كسائر الحقول الفكرية، خاصة إذا كان الكاتب لا يملك إلاّ بضاعة مزجاة.ولا بأس أخيراً بالإشارة إلى أن ما ذكر في الكتاب من (فتأمل، وفيه تأمل، و...) قد يكون مشيراً إلى وجود إشكال أو إشكالات على ما ذكر، وقد يكون مشيراً إلى نوع تردد في المقام.
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل هذا الكتاب مقدمةً لدراسات أعمق وأشمل، لكل ما يتعلق بالقيادة في الإسلام في زمن غيبة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، كما أسأله جل وعلا أن يجعله مقدمة لتحقيق (شورى الفقهاء) ممن جمع شرائط النيابة العامة عنه (عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه)، والله الموفق المستعان، وأن يجعله أيضاً مقدمة لتحقق
ص: 15
شورى القيادات الإسلامية في أي مستوى كانت تلك القيادات.
ولقد تمت كتابة هذه المقدمة - بعد إكمال كتابة هذا الجزء - يوم ميلاد أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين) في عصر 13 رجب المرجب 1410 للهجرة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته الطاهرين.
قم المقدسة
ص: 16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع والمحور الذي عليه تدور مباحث كتاب (شورى الفقهاء والقيادة الإسلامية) هو: وجوب التشاور أولاً، والشورى والعمل برأي الأكثرية ثانياً، في شتى مستويات القيادة الإسلامية، سواء أكانت قيادة للأمة، كقيادة الفقهاء والمراجع العظام، أم كانت قيادة لتيارات وشرائح من الأمة، كقيادة العشائر لأفرادها والأحزاب والنقابات والاتحادات لأعضائها ومختلف مؤسسات المجتمع المدني للمجاميع المنضوية تحت لوائها.
وذلك في حدود ما يصدق عليه عنوان (أمرهم) في الآية الشريفة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) فما كان أمراً للأمة وهو المسمى بالشؤون العامة وجب أخذ رأيها واستشارتها فيه والعمل برأي الأكثرية طبق الضوابط الشرعية، الآتية في الكتاب.
وما كان أمراً للعشيرة أو للحزب أو النقابة والاتحاد أو لأي تجمع إنساني آخر، سياسياً كان أم اقتصادياً أم خدمياً أم غير ذلك، وجب على القادة استشارة كافة الأعضاء، عبر السبل العقلائية والطرق السليمة، كما وجب العمل برأي
ص: 17
أكثريتهم في كافة أمورهم.
نعم، بعض الأدلة المطروحة في الكتاب كقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وكبرهان دفع الضرر المحتمل العقلي، عام شامل للقيادات الدينية والسياسية وغيرها وعلى شتى المستويات،وبعضها ك(فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِما)(1)، و(وَأَمَّا الحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم...)(2)، خاص بالقيادة المرجعية والفقهاء، كما سيأتي بإذن الله تعالى.
هذا إضافة إلى البحث عن مسائل أخرى عديدة مرت الإشارة لها في المقدمة الأولى.
ص: 18
ثم إن النظريات الفقهية في قيادة المراجع العظام للأمة، مختلفة، فهناك من يرى الولاية المطلقة للفقيه، وهناك من يرفض الولاية المطلقة تماماً، وهم أكثر الفقهاء، وهناك المفصلون، والبحث في هذا الكتاب جارٍ على الأقوال كلها:
1: فبناءً على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، فإن هذا البحث يقود:
أولاً: إلى أن الولاية على فرض كونها عامة هي لجميع الفقهاء وليست لأحدهم فقط.
وثانياً: إلى عدم جواز تفرد الفقيه الواحد، بل ومجموع الفقهاء بإعمال الولاية على الناس فيما لا يرضون به، وإن كانت له أو لهم الولاية العامة، إذ هي ولاية عامة مشروطة، بمعنى أن على الفقيه الحاكم، في أي مستوى كانت حكومته، التشاور مع سائر الفقهاء أولاً، وإحراز رضا الناس بحكومته عليهم، والعمل على طبق حدود ما فوضوه إليه وفي الوقت المحدد كخمس سنين مثلاً.
2: وأما إذا لم نقل بولاية الفقيه، كما هو نظر الأكثر من الفقهاء، فإنه لايجوز بالبداهة حينئذٍ أن يفرض الفقيه نفسه على الأمة قسراً، إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) حسب القاعدة المصطيدة.
وأما إذا انتخب الناس أحد الفقهاء لإدارة شؤون بلادهم، فالأمر منوط حينئذٍ بالمبنى الذي يصار إليه في الحكومة، وأنها (وكالة) أو (إجارة) أو (جعالة) أو (إذن) أو (عقد مستأنف) أو غير ذلك، إضافة إلى أن انتخابهم له لا يلغي وجوب الاستشارة، كما لا يلغي وجوب العمل برأي أكثر المراجع الفقهاء حسب
ص: 19
بعض الأدلة المذكورة في هذا الكتاب.
نعم يقع البحث فيما لو تعارض رأي أكثرية الفقهاء مع أكثرية الأمة، وقد تم عقد فصل خاص لذلك.
كما جرى في مطاوي الكتاب بحث العديد من البحوث الأخرىالهامة ذات الصلة، والتي أشرنا إليها في مقدمة الكتاب.
ثم لا يخفى أن الأدلة المذكورة في الكتاب مختلفة، فبعضها يمكن استفادة جميع ما ذكر منه ولشتى المستويات القيادية، نظير برهان دفع الضرر البالغ المحتمل، وبعضها يستفاد منه بعض المسائل، كوجوب المشورة، أو يستفاد منه الحكم على بعض مستويات القيادة، كقيادة المراجع العظام للأمة.
وقد اتضح من ذلك كله غاية البحث وأهدافه.
ولكن المشكلة والمعضلة في البحث هي:
إما من حيث الشكل: فندرة الكتابات الإسلامية التي تتطرق لمبحث القيادة في الإسلام في زمن الغيبة، من وجهة نظر فقهية وأصولية مفصلة، وبالبحث التحليلي للآيات القرآنية والروايات الشريفة، ولحكم العقل في دائرة مستقلاته.
وأما من حيث المضمون: فإن المعضلة هي أن بحث أمر القيادة في الإسلام وعلى ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في ضمن معادلة الشورى والاستشارة، وعلى حسب شتى مستوياتها، يعدّ من أدق وأعمق وأهم البحوث التي تناط بها مصائر البلاد والشعوب الإسلامية، وبذلك تعد من (أمهات المسائل) التي يشتد الابتلاء بها في كل الأعصار، ولعل اكتشاف منظومة الفكر
ص: 20
الإسلامي الشاملة في هذا الحقل يعدّ من أهم بوابات النهوض بالأمة إلى حيث عالم الإيمان والحرية والعدل والإحسان والأخوة والتعاون والرخاء والتقدم والازدهار، لكي يعود إليها سابق مجدها المتألق، خاصة زمن حكومة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، ولكي تكون أمتنا الإسلامية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ)(1).
اعتمدنا في هذا الكتاب على المنهج العلمي التحليلي المعمق، استناداً إلى معطيات علم الأصول والفقه والتفسير، وإلى المنهج العقلي استناداً إلى مباحث الحكمة والفلسفة، إضافة إلى بعض البحث النقلي والوصفي والاستقرائي في مواطن الحاجة.
والخطاب موجه للمتخصصين في علوم الأصول والفقه والتفسير والفلسفة، وللمهتمين بمباحث القيادة في الإسلام.
وقد جرى في المقدمة الأولى ذكر الهيكلية العامة للكتاب، وعناوين مباحثه الرئيسة.
ص: 21
كما اعتمد الكتاب على النقل: الكتاب والسنة كمصادر أساسية للاستدلال، وعلى المصادر الأم في علوم الأصول والفقه والتفسير والحديث، إضافة إلى مصادر منوعة أخرى.
وكنت قد كتبت هذا الكتاب قبل أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، وقد طلب إليَّ بعض الأفاضل الكرام مراجعته بأكمله وإعادة النظر في كافة مطالبه؛ نظراً لتجدد الرأي في بعضها مبنىً أو بناءً، إلا أن ضيق المجال حال دون القيام بذلك بالشكل الكامل الذي كنت أرغب فيه، إضافة إلى أن موارد تجدده (مبنىً) تتضح بمراجعة ما كتب في السنوات الأخيرة، وأما (بناءً) وفي مختلف المناقشات والأدلة فإن تكثّر ما خطر بالبال منها في هذه العجالة حال دون تسجيلها جميعاً، وقد نوفق لكتابتها لاحقاً، على أنني مع ذلك سجلت الكثير منها، ولعلها تقارب المائة مورد أو أكثر.
فاقتصرت على:
1: إعادة تبويبه وترتيبه.
2: نقل الكثير من البحوث المبنوية إلى الملحق.
3: بعض التعديل لبعض مطالبه، بالإضافة أو الحذف أوالمناقشة أو تقوية الدليل أو الأدلة أو تضعيفها.
ولو سنحت الفرصة وحالفني التوفيق فساراجع الكتاب بالمزيد من إعمال النظر في الجرح والتعديل والنقد والتقويم.
النجف الأشرف
محرم 1438ه
ص: 22
وفيه أقسام:
وفيه فصول:
مع التطرق لكون الحجج طريقية، أو طريقية - تعبدية وتأسيس الأصل في ذلك
ص: 23
ص: 24
يمكن أن يستدل على وجوب الشورى في الشؤون العامة، بل ومطلق الأمور الخطيرة، إلاّ ما علم استثناؤه(1)، بأن دفع الضرر المحتمل البالغ واجب عقلاً.
وذلك في الأمور الخطيرة مما لا ريب فيه، اللهم إلاّ أن يكون الاحتمال لشدة ضعفه(2) ملغى في نظر العقلاء، وذلك لأن الاحتمال العقلائي للضرر فيها منجزٌ، ولذا لا يقدم العقلاء على شرب سائل محتمل المسمومية إلاّ لو زاحمه ضرر آخر أشد، ولو أقدم لكان عند العقلاء ملوماً، كما كان مستحقاً للعقاب عقلاً.
وذلك مما يستقل به العقل، وعليه بناء العقلاء، لكونه إلقاءً للنفس أو ما يتعلق بها(3) في التهلكة، وقد أرشدت الآية الشريفة إلى حرمته: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(4)، بل هو نهي مولوي على المختار.
ولأن رأي أكثرية الفقهاء والخبراء فيما يرتبط بأمورهم أقرب إلى الواقع من رأي المجتهد الواحد أو القائد أو الرئيس المنتخب - كما برهنّاه في موضع آخر - ففيها إذن دفع الضرر المحتمل.
ص: 25
الشورى العامة من الأمور الخطيرةولا ريب أن ما ندعي وجوب الشورى فيه - وهي الشؤون العامة(1) - من الأمور الخطيرة، لكون تلك الأمور مما تلحق الضرر إن كان الاجتهاد فيها خاطئاً، لا بأموال وأعراض وأنفس شخص واحد أو عدة أشخاص، بل بطائفة كبيرة من الناس، وذلك مثل إصدار الأمر بالحرب، حيث يسبب ذلك قتل الكثير من الأشخاص وتلف الأموال العظيمة، وربما هتك الأعراض أيضاً، وضعف شوكة المسلمين - إن كان الاجتهاد خاطئاً - وكذا الأمر بالصلح حيث يكون سبب ضعف شوكة الإسلام والمسلمين إن كان أمراً في غير محله، وقد يسبب قتل المئات وتلف الأموال الكثيرة؛ وذلك لأنه إن كان في غير محله، يسبب تجرأ الخصم واستغلاله فرصة الصلح - ولو الموقت - لتقوية الذات والإعداد والاستعداد لهزيمة الطرف المقابل.
والصلح المفروض على أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في معركة صفين في قصة التحكيم أبرز شاهد على ذلك، حيث كان الإمام (عليه السلام) يرى الاستمرار في الحرب، إذ أنها لو استمرت ساعات أخرى فقط لانتصر (عليه السلام) على جيش معاوية، ولرجع الأشتر برأس معاوية، إلا أن (الخوارج) أصروا على (التحكيم)، وكان فيه نجاة معاوية وعسكره، ومقدمةً لاستيلائه على البلاد الإسلامية وارتكابه ما ارتكب من أفظع الجرائم وأشنع الآثام، ولذلك كان رفضه (عليه السلام) القاطع للتحكيم حتى أُكره عليه، يقول (عليه السلام): (وقد كنتُ نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ آباء المنابذين حتى صرفت رأيي إلى
ص: 26
هواكم)(1)، وقد فصل في محله أن قبوله (عليه السلام) الصلح بعد انشقاق جيشه وقيام الخوارج ضده كان هو الأصلح بالعنوان الثانوي.
وإذا كانت الشؤون العامة من الأمور الخطيرة، وكان رأي الأكثرية أقرب إلى الواقع من رأي الفرد الواحد - كما أثبتناه في محل آخر - كان في اتباع رأي الفرد الواحد إلقاءً للنفس والآخرين في التهلكة، وتضعيفاً لشوكة الإسلام والمسلمين، وإذلالاً لأهل الحق، وإعزازاً لأهل الباطل، وذلك لأن المصالح والمفاسد إذا كانت في المتعلقات - كما هو مسلك العدلية والمعتزلة - كان في اتباع الطريق الأكثر خطأً مفسدة أكثر، ووقوع في الندم واتباع لما يوجب الوقوع في الضرر، وفي اتباع الطريق الأقل خطأً والأكثر إصابةً والأقرب إلى مطابقة الواقع مفسدة أقل، ودفعاً للضرر المحتمل تفصيلاً والمتيقن إجمالاً؛ لكون الوقوع في الضرر في كل جزئي جزئي من المؤديات محتملاً، وفي المجموع متيقناً، لفرض كونه أقرب إلى مطابقة الواقع من غيره...
وإثبات صحة كون المصلحة في الأمر دون المتعلق، بل إثبات وقوعه في بعض الأوامر، غير ضار، فإنه خلاف الأصل، إضافة إلى عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل، لوضوح كون المصلحة في (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(2)، و(قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(3)، و(جابية خراجها وجهاد عدوها
ص: 27
واستصلاح أهلها وعمارة بلادها)(1)، و(إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة)(2)، و(فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك)(3)، و(وتفقد أهل الخراج بما يصلح أهله)(4)، وغير ذلك مما يرتبط بالحكم والشؤون العامة، في متعلق الأمر لا فيه نفسه.
لا يقال: (رأي الفقيه) حجة شرعاً، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فإن أصاب فرأيه منجّز وإن أخطأ فمعذّر، فرأيه لكونه دليلاً شرعياً واجب الاتباع على مقلديه، ويكون هو المؤّمن من العقاب والضرر، لا أقل من كونه جائز الاتباع لو فرض كون رأي الشورى حجة شرعية أيضاً، فيتخير المقلد بينهما إن قلنا بالتخيير في تعارض الطريقين، أو قلنا بأنهما داخلان في باب التزاحم(5)، وإلا فيتساقطان ويرجع إلى الأصل أو يجب الاحتياط، لا أنه يتعين عليه الرجوع لرأي الأكثرية؟
وهذا الإشكال عام يرد على كثير من الأدلة التي تضمنها هذا الكتاب، مما دل على حجية رأي الأكثرية، فتسقط بأجمعها عن الدلالة على المدعى بتمامه.
ص: 28
أجنبية باب الفتوى عن الحكومة، وأدلة الحجية لا تشمل المتفرد في الشؤون العامة.
فإنه يقال: أولاً: لا نسلّم شمول أدلة الحجية لرأي الفقيه منفرداً - ولو لمقلديه - في الموضوعات والشؤون العامة، إذ إن أدلة التقليد لا يسلّم شمولها للمقام(1)، وما يشمل منها المقام(2) لا يستفاد منه حجيةرأي الفقيه الواحد في الشؤون العامة، ووجوب اتباعه وإن خالفه رأي الأكثرية، وقد فصلنا الكلام في ذلك في موضع آخر فلاحظ.
وبعبارة أخرى: حجية رأي الفقيه لمقلديه في الأحكام تستفاد من أدلة حجية الفتوى، وهي خاصة بالأحكام، فلا تنفع دلالتها على حجية رأي الفقيه منفرداً في الأحكام لإثبات حجية رأيه منفرداً في الموضوعات والشؤون العامة لمقام التباين، وأما هذه(3) فحجية رأيه فيها يستفاد من أدلة الحكومة، وهي دالة على جعل الحجية والنفوذ للفقهاء جميعاً أو مجموعاً أو للفقيه بشرط انضمام أكثرية الفقهاء إليه، كما فصلناه في موضع آخر فليلاحظ.
ثم إنه لو وجد دال على كلا القسمين كان كالثاني، فتأمل.
وإذا انتفت الحجية انتفى المؤمِّن، بل قد يقال بأن الحجية مؤمّنة من الضرر
ص: 29
الأخروي لا الدنيوي، ومع احتماله احتمالاً عقلائياً لابد من الفحص، أو الاحتياط رغم قيام الدليل الاجتهادي على العدم، إلاّ إذا كان حجة عقلائية، فتأمل.
وعلى فرض الشمول فالترجيح مع الأكثرية لدى التعارض
ثانياً: سلمنا شمول أدلة الحجية لرأي الفقيه منفرداً في الشؤون العامة، لكن نقول: إن ذلك لا يستلزم وجوب بل ولا جواز اتباعه عند معارضته لرأي أكثرية الفقهاء.
وبيان ذلك يتم ضمن أمور:(1)
الأمر الأول: إن حجية ما عدا القطع ليست ذاتية، بل هي بالجعل والاعتبار، فلو لا اعتبار الشارع خبر الواحد حجة لما كانحجة كالقياس، سواء كان اعتباره بالدليل اللفظي المتواتر أم بامضاء بناء العقلاء كما في حجية الظواهر، حيث أمضى طريقتهم ومشى على طبقها أو غير ذلك.
الأمر الثاني: إن شمول أدلة الحجية لشيء لا يستلزم حجيته مطلقاً، لعدم كونه علة تامة للحجية، بل هو(2) مقتضٍ له، لوضوح كون عدم المانع شرطاً، فإن خبر الواحد - مثلاً - حجة إن لم يعارضه معارض أقوى من متواتر أو محفوف
ص: 30
بالقرائن القطعية أو ذي مرجح منصوص أو مطلقاً، وكذا سائر الحجج.
الأمر الثالث: إن (نظر الفقيه) صغرى (الحجة) و(الدليل)، فيندرج في عموم ما ذكرناه في الأمر الثاني، فإذا عارضه معارض أقوى اتبع، ورأي أكثرية الفقهاء لكونه أقرب إلى الواقع حسب العقل والروايات، كما فصلناه في موضع آخر، معارض أقوى، فاللازم اتباعه كلما تعارض مع رأي الفقيه الواحد، حاكماً كان أو غيره، وسيأتي عند الجمع بين أدلة الشورى وأدلة التقليد أن أدلة الشورى حاكمة أو مخصصة لأدلة التقليد، أو هي مباينة لها إن قلنا بعدم شمول أدلة التقليد للموضوعات العامة.
لا يقال: هذا يتم لو كان رأي الفقيه حجة من باب الطريقية، أما لو كان حجة تعبداً فلا؛ وذلك لعدم لحاظ (الأقربية للواقع) فيما كان حجيته لا بملاكها، ولم ينط اعتباره بالكشف عن الواقع؟
لأنه يقال: استظهار الفقيه (أمارة) وليس (أصلاً)، بمعنى أن حجيته بملاك الكشف عن الواقع والإيصال إليه، لا أنه وظيفة الشاك في مقام العمل، سواء بالنسبة إلى نفسه أو إلى مقلده، لكونالاستظهار قسيماً للشك، والمستظهر للشاك، بل حتى لو كان مؤدى الاستظهار أصلاً كان حجيته لأماريته، وذلك لكاشفيته عنه ظناً.
وهذا الظن معتبر لبناء العقلاء على اعتبار ظن أهل الخبرة، وكون المدلول
ص: 31
أصلاً لا يستلزم كون الدال عليه أصلاً كذلك، ألا ترى (رفع ما لا يعلمون)(1) دالاً على أصل البراءة مع كونه دليلاً اجتهادياً؟ كما أن مدلول (أخوك دينك فاحتط لدينك)(2) أصل مع كونه أمارة؟ فالاستظهار كاشف نوعي عقلائي سواء كان المنكشف به حكماً واقعياً أولياً، أو ثانوياً، أو حكماً ظاهرياً.
وبعبارة أخرى: (الاجتهاد) لكاشفيته عن الواقع جعل حجة، لا أن حجيته للعجز عن تحصيل الواقع واعتباره وظيفة في مقام العمل.
نعم غاية الأمر أن تحصيل الواقع تارة يكون بالمباشرة للقادر على الاستنباط، وتارة يكون بالواسطة، فحال المقلد بالنسبة للمجتهد كحال المجتهد بالنسبة إلى الروايات وغيرها من الأدلة.
ولأجل كونه أمارة بالنسبة إليه التزموا بكون مثبتات كلامه حجة بالنسبة له، بل يدل على ذلك ملاحظة مطلق أدلة حجية رأي المجتهد لمقلده، كبناء العقلاء على الحجية، لكونه من مصاديق أهل الخبرة.
وإذا ثبت كونه أمارة فنيدرج في الأمر الثاني، حيث ذكرنا أن ما حجيته من باب الأمارية وبملاك الكشف عن الواقع يسقط عن الحجية بمعارضته بأمارة أقوى.
ص: 32
لا يقال: هب أن الاجتهاد أمارة، لكن كما أن في بعض الأمارات تؤخذ بعض الخصوصيات تعبداً - كما في اشتراط العدالة في مرجع التقليد حيث لا يجود تقليد الفاسق وإن كان صادق اللهجة وأعلم من جميع الجهات مما يستلزم كون رأيه أقرب إلى الواقع، وكما في اشتراط طهارة المولد في المرجع والقاضي وهكذا - كذلك قد تكون (الوحدة) مأخوذة تعبداً في حجية رأي الفقيه ولزوم اتباعه، فينبغي اتباع الفقيه الواحد المقلَّد وإن كان رأي أكثرية الفقهاء أقرب للواقع، أو يقال: بأن (تقليد شخص) مأخوذ تعبداً في حجية آرائه في سائر المواضع، كالموضوعات والشؤون العامة، وإن كان رأي غالبية الفقهاء أقرب للواقع فيها؟ والجامع عدم جواز التبعيض في التقليد والرجوع والإتباع.
إذ يقال: الأصل عدم أخذ شيء تعبداً في حجية الأمارة، ولذا كان اعتبار العدالة وطهارة المولد والحرية والذكورة في مرجع التقليد وفي القاضي والحاكم هو المحتاج للدليل.
بل إن كثيراً من الفقهاء ألغوا في كثير من الموارد خصوصية معينة مأخوذة في الدليل - مما ظاهره اعتبارها تعبداً، أو مما يستلزم بالمفهوم عدم حجية فاقد الخصوصية، لكون الحجة هو المقيد بهذا القيد ففاقده لا دليل على حجيته - وحملوها على جهة أخرى كالتمثيل، أو بيان انطباق الكبرى على المورد، وكذا عند الدوران بين التعبدية والطريقية رجحوا الطريقية.
ص: 33
وهناك موارد عديدة كثيرة: نذكرها مشيرين في ضمن ذكر هذهالموارد - وبالتفصيل - إلى وجوهٍ أخرى عديدة، إجابةً عن هذا الإشكال، وإثباتاً للطريقية، كما سنذكر موارد ذكرها الفقهاء يمكننا أن ننتقل منها لإثبات المدعى:
فمنها: ما أفتى به المشهور كما في المستند والجواهر والفقه وغيرها، بل عن الانتصار والغنية والخلاف ونهج الحق وظاهر السرائر: الإجماع عليه: من جواز أو وجوب قضاء القاضي بعلمه، رغم أن الشارع عيّن طرقاً معينة للقضاء.
ففي صحيح هشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض)(1)، والحصر فيها واضح.
وقال (صلى الله عليه وآله): (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن أويس: (جميع أحكام المسلمين تجري على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة جارية من أئمة الهدى)(3).
بضميمة ندرة موارد عملهم (عليهم السلام) بالعلم، فلا يصدق عليها (سنة
ص: 34
جارية)، لكون السنة ما سُنّ ليمشى على طبقه، وعملهم في موارد نادرة على طبق العلم لا يثبت كونه مما سُنّ ليعمل على طبقه، لأن العمل مما لا جهة له - كما سبق بيانه - ولاحتمال كونه قضية في واقعة، فتأمل.
لا يقال: إن موارد تخالف عملهم مع البينات والأيمان ليست بالقليلة.
إذ يقال: لعل عملهم بالمخالف في تلك الموارد لعنوان ثانوي وضرورة قاضية، لا للعلم بخلافها، ولذا وجه في (الفقه) قتل علي (عليه السلام) لأعرابي كذّب الرسول (صلى الله عليه وآله) في دعواه تسليمه سبعين درهماً ثمن ناقة اشتراها (صلى الله عليه وآله) منه، بأن ذلك كان لسد باب تكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله) فتسقط مكانته عن القلوب، حسب تخطيط المشركين، فراجع.(1)
ويؤيد عدم كون عملهم (عليهم السلام) بالعلم سنةً، بل يدلّ عليه: ما رواه أبو عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إذا قام قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) حكم بحكم داود لا يسأل بيّنة).(2)
وما رواه أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود (عليه السلام) ولا يسأل بيّنة، يعطي كل نفس حقها).(3)
حيث دلا على أن الإمام الحجة (عليه السلام) هو الذي يحكم بعلمه، وأن الدنيا لا تذهب حتى يخرج فيعمل بعلمه، مما يعني أن من سبقه من الحجج (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) لم يكن يعمل بعلمه عموماً، ولا ينافي ذلك عملهم به أحياناً لعلة، هذا وتفصيل الكلام في ذلك والمناقشات في الملحق (1) فليراجع.
ص: 35
ومنها: ما استدل به المشهور لتعيّن تقليد الأعلم من بناء العقلاء على الرجوع إليه لا غير مع الإمكان، فإن بناء العقلاء على ذلك - إن سلّم - ليس إلاّ بملاك كونه أقرب للواقع.لا يقال: أولاً: ليس بناؤهم على ذلك محرزاً، وإلاّ لزم تعطيل المفضول في المهن والتالي باطل.
وثانياً: لو سلّم بناؤهم فلا نسلّم كون مبناه هو كونه أقرب، إذ لا تعلم أقربية فتوى الأعلم من غيره، لا دائماً ولا غالباً، لكثرة مطابقة فتوى المفضول للمشهور، أو لرأي ميت أعلم من هذا الحي، أو ميت لا يعلم أعلمية هذا الحي منه، فلا تعلم الأقربية، أو للاحتياط.
إذ يقال: أولاً: الكلام أن المشهور التزموا بكون بناء العقلاء على ذلك، لنفرع عليه أن رأي أكثرية الشورى حيث كان هو الأقرب للواقع فالواجب اتباعه على مبناهم وما التزموا به.
ثانياً: لو سلّم عدم إحراز بنائهم على الرجوع للأعلم مطلقاً، فلا يمكن إنكار بنائهم على الرجوع إليه إن أحرزت الأعلمية بالخصوص في مورد تخالف الفتويين، بأن علم كونه أعلم في هذه المسألة الخاصة ولم تعارضه فتوى ميت أعلم أو فتوى المشهور أو الاحتياط أو ما أشبه ذلك(1)، خاصة إذا كان الأمر خطيراً، ألا ترى أن المبتلى بداء خطير لو أحرز كون هذا الطبيب أعلم في خصوص هذا المرض من غيره، وكان الخطأ في التشخيص والعلاج موجباً
ص: 36
لهلاكه، ولم يكن في الرجوع إليه مانع من عسر شديد أو غيره، أتراه يراجع الطبيب المفضول في هذه المسألة؟ وألا تراه ملوماً معاتباً عند العقلاء لو راجع المفضول وهلك، ومعذوراً عندهم لو راجع الفاضل وهلك؟
وليس ذلك البناء في هذه الصورة إلاّ لكون رأيه أقرب إلى الواقع بنظرهم، لكونه أعلم من غيره، هذا وتفصيل الكلام في الملحق (2).
لا يقال: ما الدليل على كون رأي أكثرية الشورى أقرب للواقع ثبوتاً إذ لعلها كالقياس؟
إذ يقال: الدليل هو روايات الاستشارة: (من استبد برأيه هلك) (1)، و(مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (2)، و(من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (3)، وقد فصلنا الكلام حول إفادتها أقربية رأي الأكثرية للواقع، مع ذكر أدلة أخرى عقلية دالة على الأقربية في مواضع أخرى من الكتاب.
ومما سبق قبل أسطر يعلم سر توقف حجية بناء العقلاء على إمضاء الشارع أو عدم ردعه فتدبر.
ص: 37
على أن حجية رأي الفقيه طريقية - تعبدية
لا يقال: حجية رأي الفقيه ليست طريقية محضة، وإلا لما اعتبرت فيه الذكورة والحرية وأشباهها، ولما وجب اتباع العالم العادل حتى وإن خالفه في المسألة أعلم فاسق محرز صدقه، فهي طريقية - تعبدية، فلو سلم وجود ما هو أقرب للواقع منه ودلّ الدليل على ذلك، لم يلزم بل لم يصح اتباعه، لعدم كون ملاك الحجية محض الطريقية، بل إنها مجهولة الملاك، أو يقال: إن القرب للواقع جزء المقتضي، فلعل الأقرب فاقد للجزء الآخر فلا يكون حجة، فلا يجوز العمل به، فكيف بتقديمه؟ ولذا لو سلمنا كون رأي أكثرية شورى الفقهاء أقرب للواقع فلا يستلزم ذلك حجية ووجوب أو جواز اتباع رأيهم، إذ لم يكن القرب تمام الملاك؟
فإنه يقال: يرد عليه أولاً: إن ثبوت تعبدية الدليل من جهة لا يستلزم تعبديته من جهة أخرى، إذ التعدية إسراء للحكم من موضوع إلى آخر بلا دليل، إضافة إلى أن لحاظ شيء خاص في دليلية الدليل خلاف الأصل، لكون الأصل عدم حدوث الحادث فلا يخرج عنه إلا بدليل، والدليل الدال على كون حيثية معينة ملحوظة ومأخوذة في الدليل تعبداً غير متكفل لسائر الحيثيات فيه.
ألا ترى أن اعتبار البلوغ والإسلام والإيمان وطهارة المولد في الشاهدين
ص: 38
تعبداً، (إذ لا حجية في شهادة غير المسلمين أو المؤمنين، وإن كان الظن الحاصل من قولهما أقوى، وإن كان مدعاهما أقرب للواقع، وإن كانا متحرزين عن الكذب جداً، ولم تكن البينة الأخرى من المسلمين المؤمنين كذلك) لا يستلزم إطلاقاً كون الحرية أيضاً مأخوذة فيهما تعبداً، (بأن تقدم شهادة الحرين وإن كان شهادة العبدينأقرب، وبأن لا تقبل شهادة العبدين وإن لم يعارضها شهادة حرين، كما لا تقبل شهادة الكافرين وإن لم تعارضها شهادة مؤمنين، إلا لو دخل ذلك في باب آخر كما لا يخفى)، ولذا ذهب الأشهر بل المشهور - خلافاً لأكثر العامة ولابن أبي عقيل - إلى قبول شهادة المملوك مطلقاً إلا على مولاه.(1)
ومن الواضح أننا لو شككنا في اشتراط الشهادة بالحرية وأخذها تعبداً، كان الأصل عدمها، ولا يلتزم فقيه بعكس ذلك.
كما أن من الواضح كون الشهادة طريقية - تعبدية، ولذا دلت الروايات على اعتبار ارتفاع التهمة في قبولها، بأن لا تكون بينهما عداوة دنيوية تضمنت فسقاً أم لا، وأن لا يكونا ممن يجر بشهادته نفعاً، ولذا أيضاً لم تقبل شهادة (المغفل الذي في جبلته البله، فربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا الأمور وتفاصيلها ويدخل عليه الغلط والتزوير من حيث لا يشعر)(2)، ومن الواضح أنه لولا اعتبارها من باب الكاشفية النوعية عن الواقع لما اشترط فيها ارتفاع التهمة وعدم البلاهة وشبهها المعلوم من اشتراطها الاحتراز عن مخالفة الواقع، وكذلك لوضوح كونها أمارة لا أصلاً.
ومن هنا انقدح جواب آخر عما ذكره في الكفاية: (وأما الكبرى فلأن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية لم يعلم أنه القرب من
ص: 39
الواقع...).(1)
وثانياً: سلمنا.. لكن نقول: إن الجهل بملاك حجية قول الفقيه لا يضر بما نحن في صدده من إثبات حجية رأي شورى الفقهاء، للعلم قطعاً بوجود الملاك في أكثريتهم أيضاً، وذلك لفرض كون كل واحد من أكثرية شورى الفقهاء جامعاً لشرائط التقليد، فكلامهم حجة قطعاً، بل متعين الرجوع لأقربية رأيهم وهي جزء الملاك والمقتضي، من الفقيه الواحد المتصدي للأمور مثلاً.
وأما احتمال اعتبار الوحدة والانفراد في حجية رأي الفقيه، بمعنى كون رأي هذا الفقيه حجة بشرط لا، فمدفوع بعد غاية بعده وعدم تعقل وجه له بالعقل ثم بالأصل، وبعبارة أخرى: العدالة وشبهها معتبرة تعبداً في حجية رأي الفقيه، وأما اعتبار عدم التعدد والوحدة كذلك فلا دال عليه والأصل عدمه، وقد فصلنا الكلام حول ذلك في موضع آخر.
وربما أمكن إرجاع هذا الجواب إلى الأول.
وبما ذكرناه انقدح الجواب عن البيان الآخر للإشكال: (أن يقال أو القرب للواقع جزء الملاك...) فليتدبر.
ومنها: ما التزم به كثير من الفقهاء في باب التعادل والتراجيح من عدم الاقتصار على المرجحات المنصوصة، والتعدي منها إلى غيرها.
قال الشيخ الأعظم (قدس سره): (ولذا ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة، بل ادعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور
ص: 40
الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه من جماعة)(1)، فرغم اقتصار الإمام (عليه السلام) على ذكر مرجحات خاصة، وحكمه بعد فقدها بالتخيير أو التوقف، إلا أن كثيراً منهم تعدى إلى مطلق المرجح وحكم بلزوم الأخذ به وطرح المرجوح، (كالترجيح بالأضبطية والنقل باللفظ وعدم الاضطراب)، لا التخيير أو التوقف، لاستظهار كون الترجيح بمناط الأقربية للواقع ولا مدخلية لخصوص مرجح وعدم كون الترجيح تعبدياً، ووجّهوا ذكر المرجحات الخاصة دون غيرها بأنها كانت للتمثيل، أو للأهمية، أو لمعرفة السائل سائر المرجحات، أو لكثرة الابتلاء بهذه المرجحات، أو إرادة السائل تساوي الروايتين من سائر الجهات، رغم ظهور الحديث في الترتيبالخاص ثم التخيير أو التوقف، وتخالف الترتيب في الروايات لا يخل بهذا الظهور في مرحلة الإرادة الاستعمالية، لكونها منفصلة، بل والجدية إلا على بعض الوجوه، فتأمل.
وقال الشيخ (قدس سره): (ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالاً لمخالفة الواقع)(2)، ومن الواضح عدم إمكان التعدي عن مورد العلة المنصوصة مع التعبدية، لعدم كونها معممة مخصصة حينئذٍ، للجهل بالملاك الواقعي، إذ لعله عدم الريب الخاص لا المطلق.
ومما سبق من الإشكال على ما ذكره الآخوند (قدس سره) في بحث الاجتهاد والتقليد ظهر الإشكال على ما ذكره (قدس سره) هنا بقوله في جواب إشكال (ومنها أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً): (وفيه: إنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك
ص: 41
الحجية في نظر الشارع، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها كالحجر في جنب الإنسان، وكان الترجيح بها بلا مرجح وهو قبيح كما هو واضح)(1)، إذ غاية الأمر كون حجية الخبر طريقية تعبدية فترد الإشكالات الأربعة السابقة فليراجع، ومنها ما يتم ولو مع الالتزام بالتعبدية المحضة، فدقق.
وأما ما ذكره الآخوند (قدس سره) في التعادل والتراجيح إشكالاً على ما ذكره الشيخ (قدس سره) من التعدي عن مورد النص في العلة للتعليل ب- (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) بقوله: (وأما الثاني فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه...)(2)، فقد أجبنا عنه في موضع آخر عند التطرق لإشكال كون اللام في (المجمع) للعهد.
ومنه ينقدح دليل آخر على كون الأقرب للواقع واجب الاتباع، وهو هذه الرواية الشريفة.
ومنها: ما ذكره العديد من الأصوليين: من أن الأصل في التعليل، التعليل بأمر ارتكازي لا تعبدي، وقد نقلنا ذلك عن المرحومين الآخوند والحكيم (قدس سرهما) في موضع آخر فليراجع.
وجه الدلالة: إنهم عند الدوران بين التعبدية والطريقية التزموا بالأخيرة، معتبرينها الأصل، بل إنهم لم يستثنوا ما لو كانت حجية الدليل المعلل مدلوله والحكم الذي تضمنه بعلة منصوصة، طريقية - تعبدية، بل أجروا هذه القاعدة حتى في تلك الموارد.
ص: 42
وببيان آخر: حيث إن الحكم معلول علة، فإذا ذكرت علة للحكم في لسان الشارع ولم يكن دليل على تعبديتها وكان الأصل في التعليل الارتكازية، كان ذلك المذكور في لسانه تمام الملاك للحكم، إن كانت ارتكازيتها مقتضية لذلك، بل لا حاجة لهذا القيد مع ملاحظة ما سيأتي، فيدور الحكم مدار تحققها بدون لحاظ شيء آخر، إلا لو قام دليل على الخارج على كون شيء شرطاً أو مانعاً، فلم يكن ملاك الحكم حينئذٍ مجهولاً حتى لا يعلم بتحققه عند (دلالة غير الحجج الشرعية المعينة عليه وإن كان أقرب للواقع منها)، وحتى يتّجه كون خصوصية طريق معين مأخوذة في تحقق الحكم أو تنجيزه وتعذيره.
إلا أن يقال: هذا الدليل أخص من المدعى، أو يقال: احتمال اعتبار الشارع شيئاً شرطاً أو مانعاً حيث كان وارداً كان احتمال التعبدية وارداً وفيه: إنه مسبب عن احتمال ذلك الاعتبار والأصل عدمه.
نعم قد يقال: بأن العلل المذكورة في لسان الشرع مقتضيات وليست عللاً تامة.
وقد يجاب بوجوه، منها: إنهم التزموا بكون العلة المذكورة في لسان الشارع معممة ومخصصة، رغم كون العلل الشرعية مقتضيات لتقييدها على الأقل بالشروط العامة (كالقدرة والاختيار)، ولكون الاضطرار وشبهه مانعاً، فيحتمل أن تكون العلة التامة للحكمأمراً مركباً مما يشتمل على ما ذكره الشارع وعلى جهة تعبدية(1)، كما يحتمل أن تكون أمراً مركباً مشتملاً على ما ذكره وعلى جهات آخر ارتكازية(2)، ومع ذلك التزموا بأجمعهم بكون العلة معممة مخصصة، وكلامهم على مقتضى الأصل لرجوع الشك إلى أخذ أمر زائد على
ص: 43
المقتضي المذكور في لسان الدليل والشرائط العامة والموانع العامة، والأصل عدمه، فلا تصل النوبة للأصل المسببي الجاري لدى الشك في تركب العلة التامة مما يشتمل على جهة ارتكازية أو تعبدية، بل جريانه لا يخل، لكونه موافقاً، أما المسببي المخالف فهو أصالة عدم كون المذكور في لسان الدليل علة تامة.
وبهذا البيان يمكن تعميم الكلام لما لم تذكر فيه العلة، ضرورة استحالة المعلول بلا علة، فلا يعقل حكم دون علة ثبوتاً، فإذا أحرزنا كون الطريق الجديد ظناً نوعياً معتبراً، وقام الظن المعتبر على كونه لا يقل طريقيته عن الأول كان قسيماً، وأما الأقربية فإن قام دليل عليها بحد الرجحان أو التعيين فبها، وإن شك جرت قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير إن لم يكن عموم أو إطلاق، فتأمل.
ومنها: ما ذكره الفقهاء استدلالاً لوجوب تقليد الأعلم، من الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالة على وجوب تقليده وتقديمه، كقوله (عليه السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) (1)، وقوله (عليه
السلام) في رواية داود بن الحصين: (ينظرإلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا) (2)، وقوله (عليه السلام) في عهده للأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك) (3)، رغم كون هذه الروايات مرتبطة بباب الحكومة والقضاء.
قال في (المهذب) في سياق ذكر أدلة وجوب تقليد الأعلم: (الرابع: إنه قد
ص: 44
ورد الرجوع إلى الأفقه في القضاء عند اختلاف القضاة)(1).
وقال في الكفاية: (ثانيها: الأخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها، أو على اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام): اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)(2).
وذلك واضح لمن لاحظ صدر الرواية، ففي المقبولة: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال (عليه السلام): من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامناً فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف، وعلينا قد ردّ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فإن كان كل رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما...) (3).
ولو لا كشفهم الملاك في الترجيح وأنه هو القرب إلى الواقع في المقيس عليه، لما تم ذلك.
ولا يرد: ما ذكره في (الفقه) بقوله: (وفيه: إن هذه الروايات واردة في مقام الحكومة والقضاء، إن قلت: نتعدى من موردها بالمناط، إذ الملاك هو الأخذ بالواقع وكلها طرق إليه، قلت: إسراء الحكم من باب الحكومة والإمامة إلى الفتوى يحتاج إلى مناط قطعي ولا مناط هنا، إذ فرق بين باب الحكومة وباب
ص: 45
الفتوى، فإن الحاكم جعل لفصل الخصومة ولا يحصل ذلك مع الاختلاف فلابد من الترجيح، بخلاف باب الفتوى فإنه لا يحتاج إلاّ إلى الحجة، بل احتمال خصوصية الحكومة كافٍ في عدم جواز الإسراء، بل في باب الحكومة أيضاً وجوب الرجوع إلى الأعلم محل نظر... وكيف كان فقياس باب الفتوى ببابي الحكومة والإمامة مع الفارق).(1)
وذلك لما فصلناه في الملحق (3) مع مطالب أخرى عديدة، فليراجع.
ص: 46
ص: 47
ص: 48
ويمكن الاستدلال بحكم العقل على حكومة رأي أكثرية الفقهاء على رأي الفقيه الواحد حاكماً كان أم لا، في كل أمر من الأمور العامة تصدى له فقيه أو مجموعة من الفقهاء، عن طريق برهان الدوران والترديد، فنقول وبالله نستعين:
إن الأمر يدور عند تعارض آراء وقرارات المراجع، بين:
أ: نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب.
ب: نفوذ أمر أحدهم غير المعين على الجميع.
ج: نفوذ حكم أحدهم المعين.
د: نفوذ حكم أحدهم المخير
ه: نفوذ حكم الأكثرية
فغير صحيح، لاستلزامه الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، إذ من الواضح أن فقيهاً لو أمر بالحرب، وأمر آخر بالصلح، وقلنا بنفوذ حكم كل منهما على مقلديه، وجب على مقلدي الأول الجهاد والإعداد، وحرم ذلك على مقلدي الثاني، بل وجب عليهم إقرار الصلح، وذلك يستلزم دخول الدولة بنصف قواها إلى المعركة - أو أكثر أو أقل - مما يؤدي إلى هزيمتها أمام العدو أحياناً كثيرة، بل يستلزم سعي بعضهم للحرب وسعي بعضهم على الضد من ذلك للصلح.
ص: 49
وأوضح من ذلك ما لو حكم الفقيه الأول: بأن الأولوية للحرب مع الدولة (ألف).
والثاني: بالأولوية للحرب مع الدولة (ب).
والثالث: بالأولوية للحرب مع الدولة (ج).والرابع: (د)(1).
فهل يمكن لشخص أن يلتزم بالخيار الأول حينئذٍ (نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب)؟ مما يستلزم فتح أربع جهات عسكرية في وقت واحد أمام أربعة دول قد تتفوق كل واحدة منها على الدولة الإسلامية كماً وكيفاً؟ وألا يلزم من ذلك أكبر الضرر واختلال النظام والهرج والمرج؟
وكذا لو ارتأى فقيه اتخاذ سياسة (تصدير الثورة) ودعم الحركات التحررية بالسلاح والمال والإعلام وتفجير الداخل وحكم به، وارتأى الآخر عكس ذلك تماماً، بأن رجح إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع الدول المجاورة وغيرها، وإهمال حركات التحرر أو تحديد أو حتى ملاحقة قادتها كونها حائلة دون تحسن العلاقات مع سائر الدول وحكم به، فإن من البديهي أن نفوذ حكميهما على مقلديهما يستلزم ما ذكر من المحذورات.
ومن الثابت أن (حفظ نظام النوع) من الواجبات، وأن الإخلال بالنظام والهرج والمرج مما ردع عنه العقل والشارع، ولذا قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (وطاعتنا نظاماً للملة)(2)، وقال في المستند في كتاب القضاء: (الثالثة: القضاء واجب على أهله بحق النيابة للإمام وفي زمان الغيبة في الجملة بإجماع
ص: 50
الأمة، بل الضرورة الدينية لتوقف نظام نوع الإنسان عليه...).(1)
وأما ما ربما يقال من اندفاع الهرج والمرج واختلال النظام بتحكيم رأي الفقيه الحاكم فسيأتي الجواب عنه تفصيلاً عند التطرق للشق الثالث بإذنه تعالى.
ويمكن توضيح ما ذكرناه أكثر فأكثر بملاحظة أمرين:
الأمر الأول: إن من الواضح عدم تطابق الخارطتين الجغرافيةوالبشرية - التقليدية(2)، ذلك أن مقلدي المراجع يتوزعون في دول عديدة، حيث تضم كل دولة مقلدين لعدة مراجع، حيث لم تستطع (الحدود الجغرافية) أن تأقلم (حدود الولاء) لتحتكر كل دولة لنفسها مرجعاً خاصاً فارضة حصاراً حديدياً أمام تقليد شرائح من الشعب لمراجع آخرين، وهكذا نجد أنه كان لكل مرجعٍ مقلدون كثيرون أو عديدون في بلاد كثيرة، وكانت شعوب كل دولة ترجع إلى عدة فقهاء وإن كان ذلك بنسب متفاوته.
ولقد اشتهر الشيعة منذ القدم وعلى مر الإعصار بذلك، حيث إن فتح باب الاجتهاد لديهم وتعددية مراجع التقليد، أشهر من نار على علم، وكذلك رجوع الناس من أية قومية كانوا إلى المرجع مهما كان صنفه، فترى العربي والتركي والهندي وغيرهم يقلد مرجعاً إيرانياً (كالمقدس الأردبيلي والشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي والسيد أبي الحسن الاصفهاني قدس سرهم)، أو أفغانياً (كالآخوند الخراساني الهروي قدس سره)، وترى الإيراني والأفغاني والباكستاني والهندي والتركي وغيرهم يقلد مرجعاً عراقياً (كالعلامة الحلي والمحقق الحلي وابن سعيد الحلي وابن طاووس والشيخ المفيد قدس سرهم)، أو لبنانياً (كالشيخ البهائي والشهيد الأول والشهيد الثاني والمحقق الكركي قدس سرهم)، أو سورّيا
ص: 51
(كالحلبيين قدس سرهما) وغيرهم، وهكذا وهلم جراً...
كما نجد مراجع عديدين إلى جنب المرجع الأعلى لو وجد: الآخوند الخراساني، والميرزا محمد تقي الشيرازي، وصاحب العروة اليزدي، ثم السيد أبو الحسن الأصفهاني والميرزا النائيني والسيد حسين القمي، وكاشف الغطاء والمرحوم الكمباني، ثم السيد الحكيم والسيد الشاهرودي والسيد الميلاني والسيد البروجردي والسيد الخوانساري والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد الميرزا مهدي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الشيرازي والسيد إبراهيم الاصطهباناتي والسيد محمد حجة الكوهكمري (قدس الله أسرارهم)، ثم المراجع الحاضرون (حفظهم الله تعالى).
ولربما تطرقنا إلى تفصيل ذلك وإلى دراسة الحركة المرجعية طوال التاريخ في كتاب آخر إن شاء الله.
الأمر الثاني: إن كثيراً من القرارات المرتبطة بالشؤون العامة إن لم يكن كلها جميعاً لا تتحدّد في إطار مقلدي المرجع الواحد، بل تتسع تأثيراتها لتشمل مقلدي سائر المراجع سلباً أو ايجاباً.
فعلى صعيد الدولة يمكن التمثيل ب: نظام الضرائب، التأميم وعدمه، تحديد التجارة الخارجية، فرض المكوس والرسوم الجمركية، قطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع هذه الدولة أو تلك، الحرب والصلح، نظام الجندية الإجبارية.
وأما في خارج إطار الدولة، فيمثل ب: اتخاذ أسلوب العمل الثوري في مواجهة الحاكم الجائر (كما ارتآه الآخوند الخراساني صاحب الكفاية (قدس سره) في المشروطة مثلاً)، أو انتهاج سبيل الانعزال والابتعاد عن العمل السياسي (كما ارتضاه الطباطبائي اليزدي صاحب العروة (قدس سره) في تلك الحادثة)، أو اتباع
ص: 52
طريقة (التغيير الثقافي) عبر تقوية نظام الوكلاء والتركيز على بناء المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية كالمساجد والمدارس والحسينيات وغيرها، (كما سلكه السيد أبو الحسن الاصفهاني (قدس سره) عندما آلت إليه المرجعية بعد وفاة صاحبي الكفاية والعروة قدس سرهما).
وكذلك في الموقف من كل فتنة عارضة، وما أكثر أمثلتها، بل وفي السياسة العامة التي يسير عليها المرجع طوال حياته.
ومن الواضح: أن أي موقف من المواقف السابقة لا ينحصر تأثيره في مقلدي المرجع صاحب الموقف المعين، إذ إن اتخاذ أسلوب العمل الثوري في مواجهة الطاغوت في دولة ما تنجم عنه الكثير من المضاعفات والنتائج.
وبعبارة أكثر تفصيلاً: إما أن يؤدي اتخاذ أسلوب المواجهة الثورية مع الطاغوت إلى إسقاطه أو لا، وعلى التقدير الأول، إما مع تضحيات كثيرة في الأنفس وخسائر في الأموال أو لا، ثم إما مع سقوط الحكم بيده أو لا، وعلى هذين التقديرين فإما أن يقع الحكم بعد ذلك بيد الأحسن أو الأسوأ أو المساوي من بعض الوجوه أو كلها أوبالتخالف.
وعلى التقدير الثاني(1) إما أن يسبب ذلك زيادة تكبّر الحاكم الطاغوت وتجبره ودكتاتوريته وغصبه للحقوق وهدره للدماء، أو يسبب العكس، أو لا يؤثر أصلاً لا سلباً ولا إيجاباً، وعلى تقديري الزيادة وعكسها إما أن يسبب ذلك سرعة سقوطه(2) أو بطءه، وهكذا وهلم جراً.
ص: 53
ومن الواضح أنه على جميع التقادير بعد إخراج مستحيل الوقوع ومستبعده، تكون التأثيرات منعكسة على الشعب بأكمله، أو على قطاعات واسعة منه، وقد لا تكون بالضرورة مقلدة بأجمعها للمرجع متخذ القرار.
وكذلك قرار العمل الثقافي والانعزال، إذ من الواضح أن متخذي القرار يرون فيهما مجموعاً المصلحة أو المفسدة الأقل، وفي عكسهما المفسدة أو المفسدة الأكثر، وعلى جميع التقادير لا تنحصر المصلحة والمفسدة في مقلديهما.
فلو قلنا بنفوذ حكم كل فقيه على مقلديه، استلزم ذلك - مع لحاظ ما سبق من الأمرين - الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، ولو قيل بكون الدليل أخص من المدعى ضمها إليها لزوم الضرر البالغ.
هذا إضافة إلى ورود إشكال آخر على الالتزام بالشق الأول، وهو أن جعل مرجّح نفوذ حكم هذا الفقيه هو كونه مقلَّداً، بلا دليل، لعدم قيام دليل على كون النافذ حكمه هو المقلّد، فإنه لا تلازم بين الرجوع إلى شخص في التقليد وبين نفوذ أحكامه، بل الدليل على العدم، إذ أدلة ولاية الفقيه مطلقة شاملة لكل جامع للشرائط مقلَّداً كان أو غيره، فتخصيصها بما لو قلّده الشخص تخصيص بلا مخصص،هذا ولذا تجد الفقهاء يرون نفوذ حكم الحاكم بالهلال وشبهه ولو على مقلدي المرجع الآخر، فإن باب الفتوى غير باب الحكومة في مثل الهلال، كما هما غير باب الحكومة في الشؤون العامة.
ولا يخفى أن هذا الشق الأول مندرج في الشق الثالث ومن مصاديقه.
ص: 54
فغير تام أيضاً، إذ أنه مستحيل إن أريد ب- (غير المعين) غير المعين في مرحلة الثبوت، إذ لا وجود للواحد المردد في الخارج، لأن كل شيء هو هو، ولا يعقل أن يكون هو أو غيره، إذ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه محال، وإلا لزم اجتماع النقيضين.
ولا معنى له إن أريد به (غير المعين في مرحلة الإثبات) مع تعيينه في مرحلة الثبوت، فيكون أحدهما الحجة واقعاً والآخر غير حجة واقعاً، إذ لا معنى للأمر باتباع شخص غير معين من مجموعة، بل هو مستحيل من الآمر الملتفت، ومن المأمور إن لم يعد إلى التخيير بينهما كما هو مفروضنا في هذا الشق.
أما من الآمر فلعدم إمكان البعث الحقيقي نحو ما لا يمكن الانبعاث إليه من الملتفت إلى ذلك، ألا ترى عدم إمكان البعث الفعلي نحو اتباع النبي لو جهل وتردد بين من هو نبي ومن ليس بنبي لمن جهله ولم يكن له طريق إلى معرفته قصوراً، وأنه لا يمكن (تنجيزه) حينئذٍ، ضرورة كون التنجز فرع الإمكان، ولا يمكن إتباع النبي المردد بين نبي وعدوِّ نبي.
أما من المأمور فكذلك، لأن الاتباع فرع إمكانه، ولا يمكن مع تردده بين الضدين أو النقيضين.
ثم إن الفرق بين هذا القسم الثاني بشقيه، وبين القسم الرابع الآتي، هو أن الحجية مجعولة في القسم الرابع لكلا الرأيين لكن لا بشرط، بمعنى جواز اتباع ذاك وذا على سبيل البدل، والواجب الجامع، فأياً منهما اتبع كان منجزاً أو
ص: 55
معذراً، وفي الشق الأول من القسم الثاني مجعول لأحدهما غير المعين ثبوتاً دون الآخر غير المعين ثبوتاً أيضاً، وأما في الشق الثاني من القسم الثاني فمجعولة لأحدهما المعين ثبوتاً وهو المنجز أو المعذّر دون الآخر.
وهو نفوذ حكم أحدهم المعين، فيرد عليه: إنه ليس أولى من نفوذ حكم الآخرين عليه.
لا يقال: الذي ينفذ حكمه هو الأعلم، لأنه الواجب تقليده.
إذ يقال: أولاً: إن باب الفتوى والتقليد غير باب الحكومة في الشؤون العامة، كما أوضحناه في موضع آخر، فلو ثبت تعين تقليد الأعلم فإنه لا ربط له بتعين الرجوع في أمر الشؤون العامة إليه.
سلمنا، لكنه لا تلازم بين كونه أعلم بالأحكام، وكونه أعلم في الموضوعات العامة، فإن النسبة من وجهٍ، كما هو أوضح من أن يحتاج إلى البيان.
وثانياً: إنه غير تام مبنىً وبناءً:
أما مبنى: فلأن تقليد الأعلم غير واجب، وقد جرى الحديث عن ذلك بحمد الله في موضع آخر(1)، وعن عدم صحة سائر الأدلة التي أقيمت لنفوذ حكم
ص: 56
الأعلم.
وأما بناءً: فلو سلمنا وجوب تقليد الأعلم، ثم فرضنا كون الأعلم في الأحكام هو أعلم في الموضوعات والشؤون العامة(1)، ثم سلمنا أن ذلك يستلزم نفوذ حكمه هو لا غير، ثم فرضنا وجود أعلم يسلم الجميع أعلميته، وفرضنا التزام الجميع بوجوب تقليد الأعلم، صح ماذكر(2)، ولكن سيأتي عدم تحقق هذه الفروض، بل اجتماعها أشبه بوجود العنقاء، فهذا الفرض غير واقع.
سلمنا، لكنه نادر جداً، بل أندر من النادر، وهل يعقل أن يقرر الشارع أمر الحكومة على الفرد الأندر من النادر؟ ولو فرض لما أجدى في سائر الفروض، فكان لا بد من خيار آخر حينئذٍ.
ويكفي أن نشير إلى إحدى تلك الفروض فنقول:
الخلاف الصغروي في (الأعلم) مما لا ينكر، إذ الاختلاف بين الناس والفضلاء في صغرى (الأعلم) مما لا يخفى على أحد، إذ كل يدعي أن مقلَّده ومرجعه هو الأعلم، فأتباع الآخوند (قدس سره) كانوا يدعون أعلميته، وكذا أتباع اليزدي (قدس سره)، وقل مثل ذلك في النائيني والاصفهاني والعراقي (قدس سرهم) وهكذا نازلاً وصاعداً.
وليس هذا الاختلاف ناشئاً عن الهوى والتعصب، بل إنه كثيراً ما يرجع إلى:
أ: الاختلاف في (ضابط الأعلمية)، فهل هو العمق والتدقيق، أم السعة والشمول، أم غيرهما؟ فالشيخ الأنصاري (قدس سره) أدق، وصاحب الجواهر (قدس سره) أشمل، فمن الأعلم؟
ص: 57
قال في (المهذب): (الأعلمية من الموضوعات العرفية ومحتملاتها في المقام أربعة: الأول: أن يكون أكثر علماً من غيره... الثاني: أن يكون أكثر استحضاراً للفروع الفقهية ومسائلها... الثالث: أقرب إصابةً إلى الواقع... الرابع: أجود فهماً وأحسن تعييناً للوظائف الشرعية..).(1)
وقال في (الأصول): (ثم إن الأقوال والاحتمالات في موضوع الأعلم متعددة:
1:فهل هو الأوسع علماً، كأن يعرف الربا والمضاربة والمعاملة السابحة حتى يتمكن من تطبيق القضية على أحدها.
2: أو الأكثر اطلاعاً على الأشباه والنظائر، كأن يعرف أن الخمس شركة أو شبيه بحق الجباية أو حق الرهانة أو غيرها منالأقوال.
3: أو الأكثر تحقيقاً، حيث لا يمكن تعدد الحق في موضوع واحد، وإن أمكن بالنسبة إلى أفراد الكلي وإلى الصحيح والأفضل، كما في (داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ)(2).
4: أو الأكثر تدقيقاً، فإنه بعد التحقيق لفهم خصوصيات الحق ومزاياه.
5: أو الأكثر ممارسةً، كمن درّس الرسائل عشر مرات في قبال من دّرسه أقل.
6: أو الأقوى معرفةً، بحيث لا يزول بتشكيك المشكك، فإن الصفات النفسية ومنها العلم قد تكون متينة، وقد تكون ركيكة، حالها حال الألوان الخارجية.
7: أو الأجود فهماً، بمعنى العرفية في فهم الأدلة، حالها حال العرفية في
ص: 58
السلوك الاجتماعي.
8: وربما يقال: إن الأعلم من جمع الكل في قبال من فقد الكل أو بعضها أو من جمع المتعدد منها.
ولو شككنا في المراد منه، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقن.
كما أنه لو حصل أحدهما على بعضها والآخر على بعض آخر بتساوٍ لم يكن أحدهما أعلم)(1).
وقال في (الفقه): (الظاهر أن الأعلمية عبارة عن قوة الملكة وشدتها، وما ذكره المصنف وغيره من عللها أو معلولاتها، لا حقيقتها، إذ كثرة الاطلاع وجودة الفهم سببان لقوة الملكة، وحسن الاستنباط متفرع عليها)(2)، فتأمل.
ولا بأس بنقل كلام المولى أحمد النراقي (رضوان الله تعالى عليه) بطوله لما فيه من فائدة توضيح ما ادعيناه (من ندرة الاتفاق على الأعلم)، قال (قدس سره) في المستند:
(والمراد بالأعلمية: الأعلمية في الأحاديث، وفي دين الله - كمافي الروايتين - ... والأعلمية في الأحاديث تكون تارة: بأكثرية الإحاطة بها، والاطلاع عليها، وأخرى: بالأفهمية لها، وأدقية النظر، وأكثرية الغور فيها. وثالثة: بزيادة المهارة في استخراج الفروع منها، وردّ الجزئيات إلى كلياتها. ورابعة: بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها، وفهم وجوه الخلل فيها. وخامسة: بأكثرية الاطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم اللغة وقواعد العربية والنحو والصرف والبديع والبيان ونحوها. وسادسة: باستقامة السليقة ووقادة الذهن وحسن الفهم فيها، كما أشار إليه في بعض الأخبار المتقدمة بقوله: (وحسن الاختيار). وسابعة: بأكثرية الاطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في
ص: 59
فهم الأخبار، ومواقع الإجماعات، وأقوال العامة التي هي من المرجحات عند التعارض، وفي فهم القرآن الذي هو أيضاً كذلك.
والأعلم الذي يمكن الحكم الصريح بوجوب تقديمه هو: الأعلم بجميع تلك المراتب، أو في بعضها مع التساوي في البواقي. وإلا فيشكل الحكم بالتقديم، ومن ذلك تظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة، والله سبحانه العالم)(1).
ومن ذلك كله اتضح ما ذكرناه أكثر في سبب الاختلاف في مصداق الأعلم، وأن من أهم أسباب الاختلاف فيه هو الاختلاف - تفصيلاً أو ارتكازاً - في الضابط، وتبعض تلك المراتب السبعة وعدم اجتماعها جميعاً في فقيه غالباً، وامتلاك فقيه لبعضها في حين امتلاك فقيه آخر لبعضها الآخر وهكذا.
ب: الاختلاف في (التشخيص) عن قناعة تامة، ألا ترى الناس مختلفين في أمهر الأطباء وأعلمهم؟ وكذا في أفضل المهندسين والبنائين و.. و.. وذلك تابع في الأكثر لاختلاف التشخيص والقناعة التامة بذلك، وليس بالضرورة عن الهوى والتعصب.
ولعلماء النفس والاجتماع تحليلهم في هذا المقام، قد نتطرق له في كتاب آخر بإذن الله.وحينئذٍ إذا اختلف الناس في الأعلم، فإن قلنا بنفوذ حكم الأعلم بنظر كل جماعة، أي الأعلم الإثباتي، في حق الجميع: مقلديه ومقلدي غيره، بناءً على تسليم الكبرى من الجميع، وأن الأعلم هو واجب الاتباع، لزم نفوذ أحكام مجموعة من المراجع، ممن ادعى بعض الناس أعلميته، سواء للاختلاف في
ص: 60
الضابط، أم للاختلاف في التشخيص بعد الاتفاق على الضابط، على كل الشعب، وهذا محال(1)، لاستلزامه في صورة الاختلاف طلب النقيضين أو الضدين من المكلف، مثلاً لو حكم أحدهم بتجنيد كل الطاقات للحرب على الجبهة الشمالية، والآخر بتجنيد كلها للحرب على الجبهة الجنوبية مثلاً، أو حكم أحدهم بالحرب والآخر بعدمها، أما إن قلنا بنفوذ حكم الأعلم الثبوتي(2) - وإن كان الإثباتي عكسه مطلقاً أو في الجملة - فيلزم المحذور الذي ذكر في الخيار الثاني وتكليف ما لا يطاق.
والكلام بعينه يجري فيما لو وجد أعلم يسلم الجميع أعلميته، ولكن لم يلتزموا بأجمعهم بوجوب تقليد الأعلم، فقلّد كثير منهم غيره، إما لاستقلال عقل المكلف بذلك، أو لفتوى الأعلم بعدم تعين تقليد الأعلم، أو لغير ذلك(3)، فههنا وفي هذه الصورة من الطبيعي أن يرى كل من الأعلم(4) وغير الأعلم نفوذ حكمه هو على مقلديه (فكيف لو رأى النفوذ على الجميع باعتباره حاكماً)، وأن يرى مقلدوا الأعلم نفوذ حكمه عليهم، ومقلدوا غيره نفوذ حكم هذا الغير عليهم، ويعود الكلام السابق فيما لو اختلف الناس في الأعلم، ولا يمكن القول بعدم صحة حكم غير الأعلم في حق مقلديه، إذ إن قوله هو الحجة عليهم شرعاً وعقلاً إما تخييراً لما توصولوا إليه بعقولهم من عدم وجوب تقليد الأعلم تعييناً، أو تعييناً بناءً على عدم جواز العدول والتبعيض، فتأمل.
كما لا يمكن الذهاب إلى أن الواجب عليه هو اتباع الأعلم، لأنه - أي المفضول حتى وإن سلّم أنه المفضول - يرى رأيه في هذه القضية هو الموافق
ص: 61
للموازين الفقهية ويرى رأي غيره خطأً، ولذا قال في العروة في كتاب القضاء: (مسألة 5: لابد للقاضي أن يحكم بمقتضى رأي نفسه لا رأي غيره وإن كان أعلم).
وقال في المهذب: (لأنه المناسق من الأدلة، ولأصالة عدم الاعتبار في غيره، ولكن لو اتفق رأيه مع رأي غيره من حيث تمامية الدليل لديه، لا اعتماداً على نظره يصح حينئذٍ).(1)
وقال في المستند: (الثانية عشرة: إذا كان تنازع المتخاصمين عند حاكم في أمر لاختلاف المجتهدين... يجب على الحاكم المترافع إليه الحكم في الواقعة بمقتضى رأيه وفتواه إجماعاً، لأنه حكم الله عنده وفي حق كل من يقلده أو يترافع إليه...)(2).
وقال في الفقه: (... وذلك لأنه يصدق أنه حكم بحكمهم، وأن الراد عليهم كالراد عليهم عليهم السلام).(3)
ولا يخفى جريان ما ذكر في المهذب والمستند والفقه من التعليل في أمر الحكم في الشؤون العامة فليلاحظ.
ونحن في غنى عن إثبات ذلك، إذ لم يقل المشهور بوجوب اتباع - بل حتى بجواز اتباع - المجتهد لغيره في الفتاوى(4) أو في القضاء، وأما في الحكم فقد تطرقنا ههنا لجانب من البحث، وسنتكلم عنه في مكان آخر أيضاً إن شاء الله تعالى، وسنتطرق إلى صورة حدوث التدافع أيضاً، بأن رأى الأعلم نفوذ حكمه على سائر المجتهدين ورأى غير الأعلم عدمه، أو بالعكس بأن رأى غيره نفوذ حكم
ص: 62
السابق سواء أكان أعلم أو غيره!
اللهم إلا أن يقنعوا جميعاً - وهو فرض غير واقع - بلزوم تقليدالأعلم، فيرجع الكلام إلى الفرض السابق.
لا يقال: لنا أن نلتزم بأن الذي ينفذ حكمه هو (ولي الأمر)؟
فإنه يقال: (ولي الأمر) هو الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولو تعدى منهم إلى خلفائهم كان كل المراجع أولياء للأمر، لا أحدهم بعينه، إذ دليل التعدي عام يشمل كل من جمع الشرائط.
فمثلاً قوله (عليه السلام) في المقبولة: (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (1).
وقوله (عليه السلام): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) (2).
وقد فصلنا الكلام حول ذلك، والاستدلال بهذه الروايات وسائر الروايات في فصل آخر فليراجع.
ص: 63
ولو قيل: بأن الذي ينفذ حكمه هو (الحاكم الفعلي) الذي تسلم أزمة أمور الدولة بيده، وهو قائد الثورة الذي أسقط الحكم السابق وأقام مقامه حكومة جديدة.
قلنا: إن (ولاية الفقيه) على القول بها لم يقيدها أحد من الفقهاء بسقوط السلطة بيده، فللفقيه الولاية شرعاً، داخل الحكم كان أم خارجه(1)، ولذا قال في (الحكومة الإسلامية): (وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة فالولاية لا تسقط، لأن الفقهاء قد ولاهم الله، فيجب على الفقيه أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع، فعليه أن يأخذ الزكاة والخمس والخراج والجزية إن استطاع لينفق كل ذلك في مصالح المسلمين، وعليه إن استطاع أن يقيم حدود الله).(2)
ومن هنا يظهر عدم صحة (وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (صلى الله عليه وآله) منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا)(3)، إن أراد من (الناس) ما يشمل سائر الفقهاء المراجع، بل هذا الكلام ينافي ما ذكره من: (لأن الفقهاء قد ولاهم الله)، مستدلاً به على عدم سقوط الولاية إن أراد سقوط ولايتهم بمجرد تولي فقيه آخر للحكم، فإذا كان الله قد ولاهم فما المسقط لولايتهم عند تصدي فقيه للحكم؟،
ص: 64
اللهم إلاّ لو قام دليل خاص على الاستنثاء، وأن الولاية ثابتة للفقهاء مطلقاً سواء كانوا داخل الحكم أو خارجه إلاّ في صورة وقوع الحكم بيد أحدهم، ولكن لا يوجد ما يدل على هذا التخصيص، بل الدليل على عدمه كما أوضحناه هيهنا، وفصلناه في مواضع آخر من هذا الكتاب فليراجع.
ومن هنا اتضح تمامية ما ذكره من: (وعلى الفقيه أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع...)، وكون إطلاقه وعدم تقييده بما لو وقع الحكم بيد أحد الفقهاء هو مقتضى القاعدة.
وبناءً على ذلك يكون من الواجب على الحاكم، فقيهاً كان أو غيره، السماح لسائر الفقهاء بإعمال ولايتهم، ويكون سلب قدرة الفقيه على إعمال ولايته، أو عدم السماح له بتحصيلها، صداً عن المعروف، ومنعاً للحق عن ذي الحق، وكلاهما محرم، ولو منعت الحكومة الفقيه عن ذلك كان عليه أن يعمل ولايته قدر استطاعته - كما مر من كلامه - وعليه أن يسعى ليصل إلى مقدار ما له من الولاية مما اعتبره الشرع المقدس للفقيه.
وأما لزوم الهرج والمرج، فقد فصلنا الحديث عنه في موضع آخر، وذكرنا أنه يندفع بشورى الفقهاء، ولا يصح الاستدلال بالأعم على الأخص، إضافة إلى أجوبة أخرى فليراجع.
ومما يوضح عدم تمامية ما ذكره لو أريد به تعميم الولاية ووجوب الإطاعة، أنه قد استفاد ولاية الفقيه من مجموعة روايات مطلقة، لم تقيد فيها ولايته ووجوب متابعته بسيطرته على الدولة، أو عدم سيطرة غيره من الفقهاء عليها.
فمن الروايات التي استدل بها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهم ارحم خلفائي - ثلاث مرات -، قيل: يا رسول الله
ص: 65
ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي فيعلّمونها الناس من بعدي)(1).
حيث قال: (... ولا مجال للشك في دلالة الرواية على ولاية الفقيه وخلافته في جميع الشؤون)(2)، وإذا كان ذلك، فأين التقييد بصورة توليه للحكم أو صورة عدم تولي غيره له؟ بل إن ما ذكره بعد ذلك من (والخلافة الواردة في جملة (اللهم ارحم خلفائي) لا يختلف مفهومها في شيء عن الخلافة التي تستعمل في جملة (عليخليفتي))(3)، كالصريح في نفي هذا التقييد، إذ مما لا شك فيه أن (خلافة الإمام علي عليه السلام) لا تختص بصورة توليه الحكم، أو بصورة عدم تولي غيره للحكم، فإذا كان العلماء خلفاء للرسول (صلى الله عليه وآله) كخلافة علي (عليه السلام) تماماً - على ما ذكره - فينبغي أن لا تناط خلافتهم وولايتهم بالسلطة الظاهرية أبداً، وجوداً وعدماً.
ومثل ذلك جارٍ في الرواية الأخرى التي استند إليها في إثبات ولاية الفقيه، قال الكاظم (عليه السلام): (إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصون سور المدينة لها...)(4).
قال: (قوله عليه السلام: (لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام...) تكليف للفقهاء أن يحفظوا الإسلام بعقائده وأحكامه وأنظمته...)(5).
ص: 66
فهل تنحصر حصنية الفقيه للإسلام - التي استفيد منها ولاية الفقيه - وكذا (تكليف الفقهاء بأن يحفظوا الإسلام بعقائده وأحكامه وأنظمته...) بالفقيه المتولي للسلطة، حتى يخرج كافة الفقهاء الذين لم تقع السلطة بأيديهم عن الحصنية، وعن التكليف بحفظ الإسلام؟! مع وجود الجمع المحلى بأل، وإلاّ يلزم من ذلك تخصيص الأكثر وبلا مخصص؟.
ونفس الكلام يجري في سائر الروايات التي استند إليها، فليراجع خاصة المقبولة ص86، ورواية أبي خديجة ص89، ورواية تحف العقول ص102، الواردة في ظرف عدم تسلم الفقيه والقاضي للسلطة.
وكيف كان، فإن سقوط الفقيه عن الولاية وعن نفوذ التصرفات بمجرد تسلم فقيه آخر للسلطة، هو المحتاج للدليل، بل نقول: إن الدليل قائم على العدم، حيث إن إطلاقات أدلة الولاية - وهي الروايات والآيات - تشمل صورتي تسلم الفقيه للحكم وعدمه، وقدذكرنا الآن بعض الروايات، وذكرنا في فصل آخر ما يمكن أن يستدل به منها، فليراجع.
ومما يدل على ذلك: أننا لا نجد ولا في رواية واحدة تعليق الولاية على صورة وقوع السلطة الظاهرية بيد الفقيه، أو اشتراطها بعدم وقوعها بيد فقيه آخر، فليلاحظ.
ص: 67
لا يقال: النافذ حكمه هو السابق في إصدار الحكم، كما قالوا بذلك في باب القضاء.
إذ يقال: قياس ما نحن فيه بباب القضاء باطل، وذلك لسببين.
أما أولاً: فلأن حكم الحاكم الجامع للشرائط في باب القضاء إنما ينفذ (لوجود المقتضي وانتفاء المانع)، إنما الكلام في أنه هل للحاكم الآخر (رفع) ونقض ذلك الحكم الثابت أم لا؟ فيقال: بأنه لا يجوز - خاصة في صورة الشك المصداقي واحتمال صدور حكمه صحيحاً(1) - نقض حكمه، لإطلاق قوله (عليه السلام) في المقبولة: (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا قد رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله) (2)، حيث قالوا بشمول إطلاقه لصورة الشك، وقيام العلمي على الخلاف أيضاً، وللإجماع ولفطرية وعقلائية قبح نقض حكم القاضي، ولذا نجد اتفاق الملل عليه.(3)
أما في باب حكومة الدولة فليس الكلام في أنه هل للحاكم الآخر - وكذا هل لأكثرية الفقهاء - نقض ورفع حكم الحاكم الأول في (الشؤون العامة) أم لا،
ص: 68
بل الكلام في أنه هل يحق للفقيه الجامع للشرائط أن يحكم في (الشؤون العامة) دون استشارة سائر الفقهاء،ودون اعتقاد الأكثرية بما ارتئاه، وانعقاد رأي أكثريتهم عليه، وأن من له صلاحية (الحكم) في (الشؤون العامة) هو كل فقيه فقيه منفرداً، أم شورى الفقهاء؟
وبعبارة أخرى:
(الكلام في المقتضي لنفوذ حكم الفقيه الواحد، لا الرافع بعد تسليم المقتضي، فمدعي شورى الفقهاء يدعي عدمه، ومنكرها يدعي وجوده)(1)، فلا يصح على هذا التمسك بإطلاق (الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا الراد على الله) (2)، إذ الراد على الفقيه فيما هو من شأنه، وفيما نصبه الإمام (عليه السلام) حاكماً فيه رادّ على الإمام لا في غير ذلك.
ألا ترى أن المشهور إن لم نقل الإجماع، أفتوا بأن الفقيه لا ينفذ حكمه في الموضوعات الصرفة، (ككون هذا خمراً، وتلك شاة)، وللمقلد أن يعمل بظنه هو إن كان من أهل الخبرة، أو يعمل بقول خبير في ذلك وإن خالف تشخيص الفقيه؟ ولا يعد هذا رداً على الإمام (عليه السلام)، إذ لم ينصبه حاكماً في هذا الأمر، ليكون رده كرده (عليه السلام)، وألا ترى أنه مع علم الفقيه الآخر بعدم أهلية الحاكم الأول له أن ينقض حكمه، بل قد يجب، لعدم الموضوع لحرمة النقض حينئذٍ، إذ لا يوجد مقتضٍ لنفوذ حكم الأول؟
وفيما نحن فيه، لو سلّم نصب الإمام (عليه السلام) كل واحد واحد من الفقهاء منفرداً، حاكماً في الشؤون العامة المرتبطة بكافة المقلدين وبغيرهم أيضاً، لكان المقتضي لنفوذ حكم الأول موجوداً، فيقال: لا يجوز للثاني (أو للأكثرية)
ص: 69
نقض حكمه، لأنه يعتبر رداً عليه، والرد عليه رد على الإمام (عليه السلام)(1).
أما لو نوقش في ذلك وادعي أن المستفاد من الأحاديث - كما تطرقنا لذلك مفصلاً في فصل آخر - نصب الإمام (عليه السلام) للفقهاء الجامعين للشرائط كافة حُكّاماً، أي نصب كلٍّ منهم (بشرط شيء)، أي بشرط انضمام الآخرين، لا (بشرط لا)، ولا (لا بشرط)، فيما كان المتعلق ارتباطياً كالشؤون العامة، فلا يكون الرد عليه وحده رداً على الإمام (عليه السلام)، لأنه ليس منصوباً من قبله منفرداً في ذلك، فحكمه من هذه الجهة كحكم أي إنسان عادي، نعم يكون رد حكم شورى الفقهاء رداً على الإمام (عليه السلام) لكونهم منصوبين من قبله (عليه السلام).
وأما ثانياً: فلأن السبب في جعل حكم السابق هو النافذ في باب القضاء، وعدم جواز نقض اللاحق له، قد يكون هو أن عدم جعل ذلك، مع لحاظ عدم إمكان أو عدم عقلائية جعل الحاكم في القضاء هو أكثرية الفقهاء، لكون القضايا التي يرجع فيها للقضاء مما لا تعد ولا تحصى، مما يستلزم لو اشترطنا ذلك تعطيل أكثر المنازعات، مستلزماً للهرج والمرج واختلال النظام، أو بقاء الخصومات وتعطل الأحكام، أما في الشؤون العامة فيمكن لمحدوديتها الإرجاع للأكثرية، وبه يرتفع اختلال النظام، فلا يتوقف الرفع على جعل الأسبق هو النافذ فتأمل، وقد فصلنا الحديث عن هذا في موضع آخر.
وأما الإجماع، فليس محققاً في مسألة حاكم الدولة، وإن ادعي في مسألة القاضي.
وكذا لا اتفاق للملل على عدم نقض حاكم الدولة الجديد لأحكام الحاكم
ص: 70
القديم، بل الأمر بالعكس، إذ كثيراً ما ينقض اللاحق أحكام السابق، ولا ترى الملل ولا العقل في ذلك قبحاً، كما لا اتفاق للملل على قبح نقض العقلاء أو القادر منهم لحكم الحاكم إذا ظهر لهم خطؤه.
وكذلك لا اتفاق للملل - في مرحلة المقتضي - على أن نفوذ حكم الحاكم مشروط بالوحدة، ولو كان شيء فهو في ظرف الوحدة لا بقيد الوحدة، فتدبر جيداً.
بل نجد العديد من الحكومات الشوروية بشكل أو بآخر في التاريخ منها: بعض ممالك اليونان، ومنها: مملكة سبأ، قال تعالى فيكتابه الحكيم: (قالَتْ يا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(1)،(2)، فتأمل.
نعم من القبيح عقلاً أن يكون لدولة واحدة عدة حكام عرضيين لكل منهم أن ينقض حكم الآخر متى شاء، لأنه يستلزم الهرج والمرج واختلال النظام والضرر العام كما لا يخفى، والقبح كما يرتفع - من باب التخصص والخروج الموضوعي - فيما لو كان الحاكم واحداً، سواء كان في طوله حاكم آخر أم لا، كذلك يرتفع لو كان الحاكم مجموعة (وهم الأكثرية)، إلا أنه عند الدوران بينهما يكون الثاني هو المقدم كما يوضحه هذا البرهان - برهان الدوران والترديد - ببنوده، وكذا سائر البراهين التي ذكرناها في هذا الكتاب.
هذا كله إضافة إلى أن هذا الحل (كون النافذ حكمه هو السابق في إصدار الحكم) لا ينفع لدفع الإشكال على إطلاقه، إذ ما هو الحل:
1: فيما لو تقارنت الأحكام فمن المقدم؟
2: وكذا لو تتابعت ثبوتاً، ولكن لم يعلم السابق إثباتاً.
ص: 71
اللهم إلا أن يقال:
أ: بندرة هاتين الصورتين.
ب: أو يقال: بالتساقط عند التقارن، وعند الجهل بالمتقدم، كما في تزويج وكيلي امرأة إياها لرجلين في آن واحد أو جهل المتقدم، وكما في حكم قاضيين في آن واحد، والرجوع إلى القرعة مثلاً.
ج: أو يقال: بتخيير الأمة عندئذٍ.
د: أو يقال: بالرجوع إلى الأكثرية في هذه الصورة فقط أو غير ذلك، فتأمل.
ص: 72
ه: مناقشة فكرة نفوذ حكم من اختارته الأكثرية حاكماً
لا يقال: النافذ حكمه من (الفقهاء) هو الذي اختارته أكثرية الأمة حاكماً؟
إذ يقال:
أولاً: لا منافاة بين اختيار أكثرية الأمة لمرجع تقليد كحاكم، وبين كون إتخاذ القرار النهائي منوطاً بأكثرية معينة، ألا ترى في كل دول العالم الديمقراطي أن الأكثرية تنتخب حاكماً (رئيس جمهورية أو رئيس وزراء) ومع ذلك يكون القرار النهائي في الشؤون الخطيرة لأكثرية البرلمان أو مجلس الشعب أو ما أشبه؟!
فالدليل أخص من المدعى إذن، أي أن انتخاب أكثرية الأمة لمرجع تقليد كحاكم، لا يستلزم بالضرورة إعطاءه صلاحيات الحاكم الدكتاتوري، بل قد تكون صلاحياته هي صلاحيات الحاكم الديموقراطي، فانتخابه حاكماً لا يعني نفوذ حكمه في الشؤون العامة منفرداً ودون استشارة، وحتى مع معارضة الأكثرية له.
ثانياً: إن رأي (أكثرية الشعب) إنما يكون صحيحاً نافذاً لو كان في الإطار السليم وفي حدود الشريعة، إذ من الواضح أن الأكثرية لو ارتأت جواز السرقة وإباحة الزنا، وحرمة الصوم في رمضان للعامل مثلاً باعتبار أنه يضر باقتصاد البلد! لم يجز اتباعها، بل وجب إرشادها، وكذلك لو انتخبت الأكثرية (قاضياً) فاقداً للشروط المنصوصة من الشارع (كالاجتهاد والعدالة وطهارة المولد...) لم يصح ذلك، وكذلك لو انتخبت الأكثرية (حاكماً) فاقداً لما اشترطه الشارع فيه، (كالعدالة وطهارة المولد والذكورة والحرية وغيرها) فإنه غير صحيح.
وإذا تضح ذلك يتضح أن رأي الأكثرية ليس مشرّعاً، وليس في عرض
ص: 73
الشارع، بل في طوله، فعلينا أن نرجع للشارع أولاً لنجد أنه هل اشترط في الفقيه الحاكم اعتبار انضمام رأي أكثرية الفقهاء المراجع في الشؤون العامة، وكون قراراته نافذة إن صوبتها أكثريةالمراجع، وأنه لا حق له في الانفراد والاستبداد باتخاذ القرار، أم لم يشترط ذلك؟
فإذا كان الشرع قد اشترط ذلك وحدد صلاحية الحاكم بهذا الحد، فليس للأكثرية مخالفة الشرط، ونصب فقيه حاكماً بحيث يكون له أن يعمل ما يشاء سواء أوافقته أكثرية المراجع أم لا، ولو فعلت ذلك كان باطلاً، لمخالفته للشرع، كما لو انتخبت فاسقاً أو طفلاً حاكماً.
وعلى هذا، فلا يمكن التمسك ب(انتخاب الأكثرية للفقيه حاكماً) على صحة حاكميته في الشؤون العامة بمفرده، ونفوذ حكمه لا بشرط الاجتماع مع سائر الفقهاء، كما أنه لا يمكن العكس أيضاً، إلا لو لم يدل دليل على ولاية الفقهاء، فيكون أمر الناس بيدهم، إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم)، فلهم التفويض للأكثرية من الفقهاء، وأما التفويض لأحدهم فمنوط بمبحث حكومة أدلة الشورى على ولاية الناس على أنفسهم وسلطتهم عليها، مما يفصل في موضع آخر.
ثالثاً: ما سبق قبل صفحات من أن (ولاية الفقيه) حسب المستفاد من الروايات الدالة عليها ومن كلمات الفقهاء، غير مقيدة بما لو انتخبته أكثرية الأمة حاكماً، فلا يمكن القول بأن (النافذ حكمه من الفقهاء من اختارته أكثرية الأمة حاكماً)، بأن تقيد ولايته بالاختيار، فتأمل.
وأما تقييد ولايته في الشؤون العامة (التي تشمل مقلديه وغيرهم) بولاية سائر الفقهاء المراجع، واشتراط نفوذها بموافقة الأكثرية، فقد بيّنا وجهه واستفادته من الأخبار وغيرها في فصل آخر.
ص: 74
(وهو نفوذ حكم أحدهم المخير) كتخيير المكلف بين خصال الكفارة، فغير تام أيضاً، لاستلزامه الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، إذ لو اختار بعض الشعب رأي الفقيه الأول (من الحرب مع الدولة الفلانية) مثلاً، وبعضهم الآخر رأي الفقيه الثاني (من الحرب مع دولة أخرى) وهكذا، لزم الأخير بل وما قبله في الجملة، أو اختار بعضهم رأيه بالحرب وبعضهم رأي الآخر بالسلم أو الصلح، لزم الكل.
وإذا لم تصح تلك الصور السابقة بأجمعها، فلا مناص من الالتزام بالشق الخامس (نفوذ حكم الأكثرية).
لا يقال: نفوذ حكم الأكثرية ليس أولى من نفوذ حكم الأقلية؟
فإنه يقال: إن في تقديم رأي الأقلية من الفقهاء والخبراء على الأكثرية منهم، والأقلية من الناس على الأكثرية منهم، ترجيحاً للمرجوح بلا شك، لحكم الوجدان والعقل بذلك، فيما لو دار الأمر بينهما، لوضوح أن تضييع حق الأكثر رعاية لحق الأقل قبيح عقلاً وعرفاً، ولبداهة أن (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) فلو دار الأمر بين رفع اليد عن سلطة الأكثر أو سلطة الأقل، رجح الثاني دون شك، هذا بلحاظ المتعلق وفي مرحلة تزاحم المصالح والمفاسد فيها، وأما من حيث الطريق والكاشف عن الأصلح للناس،
ص: 75
فإن رأي الأكثرية من الخبراء والفقهاء أقرب للإصابة من رأي الأقلية.
هذا لو تكافأت الفئتان كيفاً، وأما إذا تخالفتا وكان الكيف مع الأقلية، بأن كان الأعلم فيهم مثلاً، فقد أجبنا في موضع آخر عن ذلك بوجوه، ومنها: أن الأكثرية من الخبراء لإحاطتها بالجوانب أقربللأصابة نوعاً من الأقلية، وقد أسهبنا الكلام عن ذلك في مواضع عديدة، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1)، والروايات الواردة حول الاستشارة، وحول إطاعة العقلاء، وقد تحدثنا عن الآية الشريفة وعن هذه الروايات بما ينفع المقام جداً، في فصل الروايات الشريفة، فليراجع.
ص: 76
الاستدلال بالتركب من آحاد مفروضة الحجية
وبصدق العناوين على القليل والكثير
ص: 77
ص: 78
ويمكن أن يستدل على حجية رأي أكثرية شورى الفقهاء، بمعنى المنجزية والمعذرية، بل بمعنى الكاشفية، ويلزمه لزوماً بيّناً بالمعنى الأعم نفوذ رأيهم ولزوم الاتباع أيضاً، ب:
أن رأي الأكثرية حجة حتماً، لتركبها من آحادٍ رأي كل واحد منهم حجة قطعاً، لفرض كون أعضائها الفقهاء جامعي الشرائط، وليس انضمام رأي فقيه آخر إلى رأي الفقيه المقلَّد موهناً لحجيته أو مانعاً عن حجيته كما لا يخفى، لوضوح عدم أخذ عدم المطابقة لقول فقيه آخر شرطاً في حجية رأيه، وإذا كانت مطابقة فتوى الفقيه للقياس لا عن استناد إليه غير مسقطة لحجية رأيه فكيف بمطابقته لرأي فقيه آخر.
وإذا كان رأي الأكثرية حجة، بمعنى الكاشفية، وجب اتباعها تخييراً أو تعييناً، والأول إن اعتبرنا مزية التعدد والتعاضد والأكثرية مرجحة، والثاني إن اعتبرناها معيّنة.
لا يقال: إن هذا لا ينتج حجية رأي الأكثرية بما هي أكثرية، إذ الهيئة الاجتماعية أجنبية عن جهة الحجية، بل غاية الإنتاج كون رأي كل فقيه حجة، والهيئة الاجتماعية غير ضارة، وعلى ذلك فلا تكون مزية للأكثرية على الأقلية، بل على الواحد أصلاً.
إذ يقال: إنه على تفسير الحجية بالكاشفية فإنه لا ريب في أن الكاشفية النوعية لرأي اجتمع عليه أكثر الفقهاء، أقوى من كاشفية رأي أحدهم عن
ص: 79
الواقع، وعليها(1) يتفرع لزوم الاتباع.
ويمكن الاستدلال على الحجية بوجه آخر، هو ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره)، قال في بحث التقليد: (فإن اتفقوا فالظاهر أنه لا دليل على تعيين واحد منهم، فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم، وأدلة حجية الفتوى - كأدلة حجية الخبر - إنما تدل على حجية الفتوى بنحو صرف الوجود، الصادق على القليل والكثير، فكما أنه لو تعدد الخبر الدال على حكم معين، يكون الجميع حجة على ذلك الحكم، كما يكون البعض كذلك، ولا تختص الحجية بواحد منها معين أو مردد، كذلك لو تعددت الفتوى، ويشير إلى ذلك آيتي النفر والسؤال، بناءً على ظهورهما في التقليد، ورواية ابن مهزيار الواردة في حكم الإتمام بمكة... ومنه يظهر ضعف أخذ التعيين للمجتهد في مفهوم التقليد)(2).
وقوله: (بنحو صرف الوجود) أو بعبارة أخرى: تدل على حجية الفتوى ككلي طبيعي، الصادق على كل وأكثر وبعض الأفراد كصدقه على أحدها.
وهذا ينتج حجية الأكثرية فيما نحن فيه ككل، ما دل الدليل فيه على حجية أمر وشبهه، وإن لم ينتج الامتياز، اللهم إلا مع الضميمة.
بل قال السيد الوالد: (ولو كان يجلس في مجلس الحكم حكام على نحو الشورى، فينظرون في الأحكام ويقضون بأكثرية الآراء، فالظاهر أنه لا بأس به، لأنه أتقن من حكم القاضي الواحد، ويشمله إطلاقات الأدلة، ولا إشكال في
ص: 80
ذلك إذا كان القضاة متساوين، أو كان الأعلم في جانب الأكثرية، أما إذا كان الأعلم في جانب الأقلية فالظاهر عدم الإشكال فيه، إذ المفروض أن الأكثرية حكموا والأقلية لم تحكم، وإنما قالت في بحث تداول الآراء رأيها، وفرق بين إبداء الرأي وبين الحكم، ولم يستشكل - من يشترط الأعلمية في القاضي - في حكم غير الأعلم مع وجود الأعلم فيما إذا لم يحكم)(1).
أقول: لكن تبقى صورة ما لو حكمت الأقلية بخلاف حكمالأكثرية لاحقاً، بل يبقى الكلام حول أنه هل لها أن تحكم، أي هل يصح أو يجوز، بخلاف رأي الأكثرية؟ ويبقى أنه ماذا لو سبقت الأقلية الأكثرية في إصدار الحكم؟ وقد جرى الكلام عن ذلك في مطاوي الكتاب فراجع، كما سنشير لبعض جوانبه بعد قليل.
هذا لو وافق رأي المقلَّد رأي أكثرية الشورى، أو سكت ولم يخالف.
أما لو تخالف رأي المقلَّد ورأي الأكثرية، فهل يجوز لمقلِّد هذا الفقيه الرجوع إلى رأي الأكثرية؟
ص: 81
ما ربما يتوهم مانعاً هو أحد أمور:
1: عدم جواز التبعيض في القليد.
2: عدم جواز العدول، سواء قلنا بوجوب تقليد الأعلم أم لم نقل، فلا يجوز العدول من المقلد إلى غيره.
3: وجوب تقليد الأعلم(1).
أما الثالث فقد بحثناه في موضع آخر فليراجع.
وأما الأولان، ففيهما: إن الأدلة التي أقيمت على عدم جواز التبعيض أو العدول غير تامة، بل الدليل قائم على العكس، وبعض الكلام عن ذلك(2):
إن ما ذكر دليلاً للمنع هو: أصالة عدم حجية رأي الفقيه الثاني بعد الالتزام بتقليد الفقيه الأول، وأن ذلك هو مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والاستصحاب، والإجماع.
ص: 82
ويرد عليها جميعاً: إن الوجوب التخييري للتقليد - بينه وبين الاجتهاد والاحتياط - فطري أو عقلي أو شرعي، وعلى الأولين:
فالأمر واضح جلي، إذ العقل حاكم بوجوب الرجوع إلى العالم وإلى أهل الخبرة - أو مُدرك لذلك بناءً على أنه ليس إلاّ مدركاً فحسب - ولا يختلف في نظره الرجوع إلى هذا الخبير في كل المسائل، أو في بعضها والرجوع في البعض الآخر إلى آخر، أو الاستمرار في الرجوع إلى هذا الخبير أو الانتقال إلى غيره، بل هو مستقل بكفاية كل واحد من تلك الصور.
ومما يكشف عن ذلك: سيرة العقلاء وبناؤهم، ألا ترى سيرتهم قد جرت على الرجوع إلى هذا الطبيب فترة، ثم العدول لطبيب آخر، لا لأعلميته بل لمجرد أقربية مكانه إلى داره، أو لحسن أخلاقه أو لصداقته أو لمضبوطية مواعيده أو لأي سبب آخر لا مساس له بجهة الطريقية، ومما لا يدخله في دائرة باب التزاحم، أو إن أدخله فمما لا يرى العقلاء كونه مزاحماً أقوى ولا مساوياً لمصلحة الواقع المفوَّتة فرضاً بإتباع غير الأعلم.
وألا تراهم يرجعون إلى هذا الطبيب العام في مرض، ثم إلى طبيب عام آخر في مرض آخر أو في ذات المرض، بل وإن تخالفت الآراء، ولا يرون للأسبقية ميزة، إلاّ لو أوجبت تفاوتاً في جهة الطريقية.
بل إن طرح هذا التفصيل على العقلاء مثار للاستغراب إن لم يكن باعثاً على السخرية، ألا تراهم يسخرون ممن يقول: لا تراجع طبيباً جديداً لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، لأن رأي الأول حجة قطعاً أما الثاني فحجيته
ص: 83
التخييرية غير ثابتة فلا يجوز الرجوع؟!، أو من يقول: إن الأصل عدم حجية رأي الجديد، أو إن الاستصحاب يقتضي كذا...؟!
وكذلك جرى ديدنهم وبناؤهم في كافة الشؤون من الهندسة والفيزياء والكيمياء والسفر والحضر؛ ألا تراهم يسألون هذا المعلم في مسألة فيزيائية، ويقبلون منه حكمها وإن لم يفهموا برهانها، ثم يسألون آخر في مسألة أخرى، أو ينتقلون كلياً إلى آخر؟! وألا ترىالتعليل بما ذكر غريباً عليهم، نعم قد لايفعلون لعلة أخرى.
ومع وجود حكم العقل وبناء العقلاء لا مجال للاستصحاب، لوروده عليه، إذ لا شك لاحق، ولا لتلك الأصالة أو القاعدة، للورود بل للتخصص، فتأمل.
هذا مضافاً إلى ما سيأتي مختصراً من الإشكال على كل واحد من هذه الوجوه.
ص: 84
إذا كان الأمر بالتقليد شرعياً:
وأما إن كان الوجوب والأمر الدال عليه شرعياً، فلا يخلو إما أن نقول بكونه إرشادياً أو مولوياً:
فأما بناءً على الإرشادية، فالأمر كما ذكر، لعوده إلى الإرشاد لحكم العقل أو الفطرة، وحكمها كما مضى.
وأما بناءً على كون الوجوب شرعياً والأمر مولوياً فكذلك أيضاً، إذ يرد إضافة إلى ما سبق أنه ليس في ما استدل به لجواز التقليد ما يدل على عدم جواز العدول أو التبعيض، بل هي دالة على الجواز لإطلاقها أو لعمومها، ألا ترى أن آية النبأ والنفر والذكر مطلقة، والمتفاهم العرفي منها حجية كلام المنذر وأهل الذكر والعادل، سواء رجع إليه في مسائله الآخر، أم رجع إلى آخر فيها، وسواء كان هو مرجعه سابقاً أو غيره.
وهل يحق للعبد الاعتذار عن عدم سماع إنذار المنذر أو خبر العادل أو أهل الذكر بأن منذره ومخبره كان في السابق شخصاً آخر، وأن في سماع كلام هذا عدولاً أو تبعيضاً، وألا ترى بالوجدان استحقاقه للعقاب والذم لو خالف؟!(1)
ص: 85
وألا تراهم - بعد سماعهم الآيات - يتحيرون إن تخالف المنذران والمخبران وإن كان أحدهما هو المرجع لهذه الطائفة عادةً والآخر لتلك، إلاّ لو كان اطمينان بقول من يرجع إليه عادة، وهو خروج عن محل البحث، ولذا لو وجد الاطمينان بكلام الآخر دونه رجعواللآخر، فالكلام في صورة التساوي وعدم وجود مرجح آخر.
ثم هل ترى أن المنذرين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمن نزول الآيات كانوا إذا سألوا منذراً مسألة وعملوا على طبقها ألزموا أنفسهم بالرجوع إليه في كل المسائل، أو اعترض عليهم معترض بعدم الجواز؟! ويتضح ذلك أكثر بملاحظة أوامر الموالي العرفية، فلو قال المولى لعبيده: ارجعوا في معرفة أحكامي إلى وكلائي، فهل تراهم يفهمون إلا ما ذكرنا؟ وهل ترى مقبِّحاً لعبد سأل هذا الوكيل مسألة ثم سأل الآخر أخرى، أو سأل هذا مسائل ثم عدل في أسئلته إلى آخر..؟!
وهل ترى في كل الروايات ردعاً عن سؤال زرارة مثلاً لمن كان يسأل أبان أو حمران أولاً، أو عن التبعيض في سؤال من وجد من الرواة، علماً بأن الرواة لم يكونوا صرف ناقلين للروايات بل كانوا مستنبطين، وروايات باب التعادل والتراجيح وغيرها بذلك شاهدة، فعدم الردع مع كون المسألة عامة الابتلاء، بل وكون العرف غير مفرِّق، دليل قوي على الجواز.
ص: 86
إطلاق الروايات ينفي دعوى منع التبعيض أو العدول
ويجري جميع ما ذكرناه في الروايات التي استدل بها لجواز التقليد، كالتوقيع المروي عن الحجة (عليه أفضل الصلاة والسلام): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ)(1)، فإنه لا تُعَدّ استفادة ال- (بشرط لائية) نسبة للراوي الآخر الذي يراد الرجوع إليه بعد الرجوع فترة إلى راوٍ سابق، بل احتمالها، مخالفاً للفهم العرفي وللمنساق منها ولعمومها.
وألا يكون من رجع إلى راوٍ في حادثة وإلى آخر في أخرى من نوع واحد أو من ماهيتين مختلفتين ممتثلاً لهذا الحديث؟ وألا يكون راجعاً إلى رواة أحاديثهم (عليهم السلام)؟، لا شك في عدم صحة السلب هذا.
إضافة إلى أن العلة معممة ومخصصة، فإذا علل (عليه السلام) وجوب الرجوع لرواة الحديث بأنهم حججه علينا، فما المخصص لحجية كلامهم علينا بما لو لم يسبق رجوع إلى فقيه آخر في هذه المسألة أو غيرها؟ إلاّ رفع اليد عن العموم والإطلاق بلا وجه أصلاً؟.
ولا مجال للنقاش في الإطلاق باعتبار عدم ثبوت كونه في مقام البيان من هذه الجهة، وإلاّ لزم عدم تمامية أكثر الإطلاقات، ك(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا)(2)، و(أَقِمِ الصَّلاةَ)(3)، و(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْر)(4)، وغيرها، لدعوى
ص: 87
كونه تعالى في مقام أصل التشريع أو لعدم إحراز كونه تعالى في مقام البيان من هذه الجهة أو تلك، (كاشتراط اللفظ والعربية وتقديم الإيجاب مثلاً، وكجزئية شيء أو شرطيته، وكون المسؤول حراً أو عبداً، طاهر المولد أو غيره، كبيراًأو صغيراً)، وقد بحثنا عن ذلك في موضع آخر، فلا داعي للتكرار.
ونزيد هنا: إن المشهور ذهبوا إلى البراءة في الشك في الجزئية والشرطية في الأقل والأكثر الارتباطيين، قال في الكفاية: (ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح)(1)، ومنشأ الذهاب إليها إما التمسك بالإطلاق المقامي أو إرجاع الشك إلى الشك في التكليف وانحلال العلم الإجمالي، وكلا الشقين نافع في المقام، أما الأول فواضح، أما الثاني فلالتزامهم بالبراءة مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير، إذ يدور الأمر بين تعيين الأكثر أو التخيير بينه وبين الأقل، فالنسبة بين المسألتين العموم المطلق، لأعمية مسألة الدوران بين التعيين والتخيير من مسألة الدوران بين الأقل والأكثر، لشمول الأولى الدوران بين المتباينين.
ولا يستشكل بأن في صورة الدوران بين الأقل والأكثر، يكون الأكثر موضوعاً لقاعدة البراءة العقلية أو الشرعية، فلا دوران حينئذٍ، عكس المقام مما دار فيه الأمر بين المتباينين (تقليد الأول أو العدول للثاني)، وذلك لأن في المقام
ص: 88
أيضاً يجري الإطلاق المقامي، بل ويزيد عليه بجريان الإطلاق اللفظي فلا تصل النوبة للدوران بين التعيين والتخيير، لشمول دليل الحجية للطرفين، فهو مخير حتماً، فلا موضوع للقاعدة، وأما إن لم يتم أحد الإطلاقين فقول الفقيه الثاني ليس بحجة لمن قلد أولاً غيره، والشك في الحجية موضوع عدم الحجية، فلا معنى ل(الدوران بين التعيين والتخيير) في المقام، وإلاّ لصح دعوى الدوران بين تعيين الرجوع إلى خبر الثقة أو التخييربينه وبين الرجوع إلى قول الرمال وأشباهه والأصل التعيين، فتأمل.
إضافة إلى وجود استصحاب عدم التعيين لكونه حادثاً، وهو حاكم على مقتضى الأصل عند الدوران بين التعيين والتخيير أو وارد، وذلك بعد فرض الشمول لهما ابتداءً، أو نقول باستصحاب الحجية الابتدائية لكليهما وهما مقدمان عليه(1)، لكونه مسبّباً وإن كان أصلاً عقلياً، فتدبر.
ومن هنا يظهر جواب آخر عن خصوص قاعدة الدوران، وهو النقض بمسألة: (جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد والتقليد)(2)، إذ كيف يلتزم بعدم جواز العدول عن الحي إلى الحي لقاعدة الدوران ويلتزم بجواز الاحتياط مع وجود هذه القاعدة مع أنه نوع عدول أو تبعيض؟
قال في المستمسك ذيل المسألة الحادية عشرة، تعليلاً لكلام الماتن من عدم جواز العدول من الحي إلى الحي: (ويقتضيه الأصل العقلي المتقدم، للشك في حجية فتوى من يريد العدول إليه، والعلم بحجية فتوى من يريد العدول عنه، وفي مثله يبنى على عدم حجية مشكوك الحجية).
ص: 89
ثم قال: (فلا مرجع إلاّ الأصل العقلي وهو أصالة التعيين عند التردد في الحجية بين التعيين والتخيير).(1)
والتزم في المسألة الرابعة بكلام الماتن أيضاً: (الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد أو التقليد).
وربما سيأتي لهذا البحث تتمة في موضع آخر بإذنه تعالى.
وأما الإجماع: فليس بتام صغرى، ولو تحقق فهو محتمل الاستناد بل معلومه.
ص: 90
بحث عن صحة القضاء بالعلم
رغم النصوص الحاصرة بالأيمان والبينات
مما يستظهر منه طريقية الأمارات
وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره في (الفقه) بقوله: (وفي الكل ما لا يخفى، إذ الروايات الأربع تدل على عدم ذلك في الخارج لا على عدم الجواز، فإن روايتي قصة داود (عليه السلام) تدلان على أن القائم (عليه السلام) يفعل ذلك خارجاً، لا أنه يجوز له ولا يجوز لغيره).(1)
إذ يرد عليه: كفاية عدم وقوع ذلك في الخارج منهم (عليهم السلام)، لأن ما لم يقع في الخارج منهم (عليهم السلام) فليس من مصاديق (السنة)، فلا دليل على حجيته، بل الدليل على العدم، لحصر الحجة في رواية إسماعيل بن أويس: في شهادة عادلة أو يمين قاطعة أو سُنة جارية مع أئمة هدى، ومن الواضح أن عدم الدليل على حجية شيء ملاك عدم الحجية، فإذا لم يكن الأئمة (عليهم السلام) عاملون بالعلم في باب القضاء - حيث سلّم دلالتهما على عدم ذلك في الخارج - فمدعي الحجية لابد له من دليل، فكيف لو قام دليل على العدم، فالاستدلال
ص: 91
بالروايتين على عدم الجواز إنما هو بضميمة رواية إسماعيل، فتدلان على عدم الجواز، فلا يصح القول: (الروايات الأربع تدل على عدم ذلك في الخارج لا على عدم الجواز).
ومن كل ما ذكرناه تظهر الخدشة فيما ذكره في (المستند)بقوله: (ويمكن أن يستدل أيضاً برواية أبي حمزة: (أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ يَمِينٍ قَاطِعَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى) (1)، فإن سنتهم كانت قضاءهم بما يعلمون كما دلت عليه الأخبار(2)، لما أوضحناه من عدم صدق (سنة) جارية أو ماضية، بل عدم صدق (سنة) على عملهم بعلمهم (عليهم السلام) لندرة موارده، ولذلك كله نجد (الجواهر) و(الفقه) وغيرهما ذكروا هذه الرواية في عداد الأدلة الدالة على عدم جواز الحكم بالعلم، بل إن ادعى أن (سنتهم) كانت على عدم العمل بالعلم لندرة عملهم به لم يكن ذلك بعيداً، بل كان متحتماً، لإطلاق (السنة) عرفاً على نقيض ما كان الغالب هو نقيضه، أي على ما الغالب الجري عليه.
ورغم ذلك كله من الروايات الدالة على تعيين طرق خاصة للحكم بين الناس وعدم جواز اتباع غيرها، نجد المشهور يفتون بجواز - أو وجوب - قضاء القاضي بعلمه، وليس ذلك إلاّ لأن بناءهم على اعتبار الحجج من باب الطريقية المحضرة، وكون المركوز في أذهانهم إلغاء الخصوصية وإن أخذت في الدليل مما ظاهره التعبدية، وحمل ذكرها على التمثيل أو بيان الغالب أو بيان المورد أو كون الحصر إضافياً، أو عدم عملهم بعلمهم لضرورات معينة، وشبه ذلك، وإلاّ فلو كان بناؤهم على كون (البينة) و(اليمين) حجة لصرف التعبدية أو لهما وللطريقية لما أمكن قولهم بحجية (العلم) في الحكم مع حصر الأدلة الحجة في باب القضاء
ص: 92
بهما.
لا يقال: لقد استدل المشهور بأدلة عديدة دالة على جواز - أو وجوب - العمل بالعلم، وهي الآيات والروايات الخاصة، لا أن الرواية حصرت الحجية في البينة واليمين وعممها الفقهاء للعلم بملاك تمحض البينة واليمين في الطريقية.
إذ يقال: إن أدلتهم لا تدل على كون (العلم) حجة في باب القضاء، وجواز أو وجوب العمل به، بل استدلوا بما يتوقف تمامية الاستدلال به على الالتزام بكون (البينة) واليمين حجة من بابالأمارية المحضة، ولنذكر بعضها:
قال في المستند: (ويدل عليه - أي على مدعى المشهور - أيضاً قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1) .. (الفاسِقُونَ)(2).. (الظالِمُونَ)(3)، فإن العالم بالحق إن سكت فيكون ممن لم يحكم بما أنزل الله، وإن حكم بغير ما يعلم فكذلك بزيادة الحكم بغير ما أنزل الله)(4).
ونقول: إن موضوع (الكافرون) هو (من لم يحكم بما أنزل الله)، وصدق هذا العنوان على شخص موقوف على كون مدخول عدم حكمه هو (ما أنزل الله)، إذ عدم الحكم بما أنزل الله هو المستلزم للكفر، لا عدم الحكم بغيره، و(ما أنزل الله) في باب القضاء هو - حد السارق وجلد الزاني وإعطاء الدين للدائن و.. - فالحد والجلد وغيرهما، وهو (ما أنزل الله) متعلق بالسارق والزاني والمدين و...إلخ، لكن ما هو الحجة على أن هذا سارق أو زان؟ الروايات السابقة تحصر
ص: 93
الحجة في تشخيص الموضوع بالبينة واليمين، فلو قامت البينة على أنه سارق ثبت الموضوع للحد فوجب الحكم ومن لم يحكم فهو كافر، فما الدليل على أن (العلم) هو الآخر حجة شرعاً لتشخيص الموضوع في باب القضاء؟ وهل يتم ذلك إلاّ بإذعانهم أن (البينة واليمين) رغم حصر الروايات بهما، مأخوذان من باب الطريقية المحضة(1)، فيكون العلم لكونه أقوى طريقية حجة، ولو كانا مأخوذين تعبداً، لإثبات الموضوع (السارق والزاني و...الخ)، فكيف تكون هذه الآيات دليلاً لكون العلم أيضاً طريقاًلإثباته مع أن الحكم (وهو هنا: ومن لم يحكم.. فأولئك هم الكافرون) لا يتكفل بيان الموضوع (أي من هو السارق مثلاً)، ولا بيان طريق إثبات الموضوع (ما المثبت لكون هذا سارقاً)، أترى الشارع لو قال: (الخمر حرام) يكون ذلك متكفلاً لإثبات أي شيء هي الخمرة، هذا في مرحلة الثبوت، ولإثبات أن مُثبِت كون هذه خمرة هو كذا وكذا، وهذه مرحلة الإثبات؟ ولولا بداهة وارتكازية الطريقية في نظرهم لما استدلوا بهذه الأدلة بأجمعهم.
فمبنى استدلال المشهور بهذه الآيات على أن الحجج مأخوذة بعنوان الطريقية، فإذا علمنا أن هذا سارق ولم نحكم عليه بالحد انطبق (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(2)، ولو كان الدليل تعبدياً توقيفياً لما كان عدم حكمنا على من علمنا سرقته ولم يقم ذلك الدليل التعبدي عليه عدم حكم بما أنزل الله، لكون ما أنزل الله على هذا المبنى هو حد السارق الثابت سرقته بطريق خاص.
ص: 94
وما ذكرناه يجري بعينه في سائر الأدلة التي ذكرها المشهور، وقد استوفاها (المستند) فقال: (لأدلة وجوب الأمر بالمعروف)(1).
فهل الحكم (الوجوب) يتكفل بيان الطريق المثبت لمتعلق الموضوع (الموضوع هو الأمر بالمعروف، ومتعلقه المعروف)، فكيف تكون أدلة وجوب الأمر بالمعروف دالة على كون العلم حجة لتشخيص الموضوع، إلاّ لو كان المبنى على حجية البينة واليمين بملاك الأمارية المحضة، فيثبت متعلق الموضوع بالعلم فيحمل الوجوب عليه.
وقال: (ولعموم أدلة الحكم مع وجود الوصف المعلق عليه كقوله تعالى: (والسارق والسارقة)، و(الزاني والزانية)... وأدلة إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف ودفع الظلم عن المظلوم... وكونوا قوامين بالقسط...)(2).
ففي كل هذه عندنا موضوع هو (الضعيف، الملهوف، المظلوم،القسط) ومحمول وهو (وجوب الإعانة، والإغاثة، والدفع، والقيام)، ولا يتم الاستدلال بثبوت هذه المحمولات لموضوعاتها على حجية العلم في إثبات الموضوع إلاّ لكون البناء على أن الأثر (وهو المحمول) أثر صرف الموضوع، وكون البينة أمارة محضة، فلو ثبت الموضوع بالعلم ترتب عليه المحمول، وإلا لزم التناقض كما فصل في بحث القطع الطريقي والموضوعي، ويجري ما ذكرناه بأجمعه فيما ذكره في الجواهر والفقه من الأدلة فراجع.
ولعل إلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) بقوله: (لكن الإنصاف أنه - أي قول ابن الجنيد - ليس بتلك المكانة من الضعف، ضرورة أن البحث في أن العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غير
ص: 95
المعصوم في جميع الحقوق أو لا، وليس في شيء من الأدلة المذكورة - عدا الإجماع منها - دلالة على ذلك) (1).
نعم بعض الأدلة التي ذكرها في (المستند) و(الفقه) قد يقال بعدم توقفها على إثبات الأمارية المحضة، فليلاحظ وليتأمل جداً.
ومن كل ما سبق يظهر: وجه النظر في ما ذكره (المستند) بقوله: (وقد يستدل بوجوه أخر غير تامة، كالإجماع المنقول، وكون العلم أقوى من البينة و... فإن في الأول عدم الحجية، وفي الثاني عدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم).(2)
إذ يرد عليه أولاً: ما ذكره في الجواهر بقوله: (مضافاً إلى ظهور كون العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها).(3)
وثانياً: إن هذا يناقض استدلاله بتلك الأدلة السابقة، إذ لو لم يمكن القياس لعدم معلومية العلة فلا يعلم كون العلم حجة في باب القضاء، لعدم العلم بكون كل الملاك الطريقية، فلا يثبت به الموضوع (السارق والزاني والمعروف والمنكر والضعيفوالملهوف والمظلوم)، فلا يترتب عليه المحمول، فكيف تكون تلك الأدلة الدالة على ثبوت المحمولات لموضوعاتها دالة على جواز أو وجوب اتباع العلم بتحقق موضوع منها، مع كون العلم في نظره لعدم معلومية العلة غير مفيد، وهل هذا إلا حكم بثبوت المحمول لما لم يعلم موضوعيته التامة له؟ وتشنيع على تارك المحمول لعدم ثبوت موضوعه - لعدم معلومية كون العلم مثبتاً له، واحتمال لحاظ خصوصية خاصة في البينة أو في ما
ص: 96
أدت إليه حسب كلامه (قدس سره) - بأن الحكم قد ثبت لموضوعه الكذائي، وخلافه فسق وكفر وحرام؟.
بل إن استثناء القائلين بعدم جواز قضاء القاضي بعلمه لصورة ما إذا علم القاضي بخطأ الشهود أو كذبهم، حيث يجوز له حينئذٍ القضاء بعلمه(1)، دليل على شدة ارتكاز الطريقية في أذهان الفقهاء حتى المنكر لها، إذ لو لم تكن الحجية بملاك الطريقية - مما يتفرع عليه عدم جواز قضاء القاضي بعلمه وإن كان العلم أقوى من البينة لعدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم كما ذكره المستند - لما جاز إسقاط البينة وطرحها للعلم بخطأها أو كذبها، إذ أن ما مناط حجيته الطريقية يسقط عن الحجية بثبوت عدم طريقيته للخطأ أو الكذب، أما ما لا تكون الطريقية ملاك حجيته - كما في البينة حسب كلامهم - فإنه لا يسقط عنها بثبوت عدم طريقيته.
اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك صحيح فيما كانت حجيته من باب التعبدية المحضة، أما ما كانت حجيته لطريقيته مع أخذ خصوصية خاصة تعبداً فيه - كاجتهاد المجتهد حيث إن حجيته لطريقيته مع أخذ العدالة تعبداً فيه - فلا، إذ بالعلم بالكذب أو الخطأ يعلم بعدم الطريقية فتسقط البينة عن الحجية لتقومها بالركنين: الطريقية والكاشفية النوعية عن الواقع مع خصوصية ما (كانت هي الباعثة لعدم جواز قياس العلم بالبينة).
ومما يوضح ذلك ما هو مقرر في باب التعادل والتراجيح من عدم كون الأصول - مما كان حجيته من باب التعبد - مرجحة لأحدالخبرين المتعارضين مما كان حجيته من باب الطريقية، لأنها لا توجب أقوائية ملاك ما طابقته، ولذا تكون الأصول عند التكافؤ من سائر الجهات مرجعاً لا مرجحاً.
ص: 97
من الأدلة على الطريقية:
التزام المشهور بوجوب تقليد الأعلم
ومن ذلك يعلم عدم صحة تسليم بنائهم وإبطال مبناهم، إذ لو لم تكن في مورد أقربية لم يكن بناؤهم عليه أيضاً، ولم يكن معنى لذاك البناء، فتأمل.
ومما سبق يظهر أن ما ذكر من لزوم تعطيل المهن، غير تام، إذ تعطيلها إنما يلزم لو بني على وجوب الرجوع للأعلم مطلقاً، سواء خالفه المشهور أم لا، وافق الاحتياط أم لا، عارض رأي ميت أعلم أم لا، مع إحراز الجميع كون هذا أعلم، ومع عدم تعذر أو تعسر رجوع الجميع إليه، أما لو انتفى أحد الشروط الثلاثة، بأن بني على وجوب الرجوع للأعلم فيما لم يخالفه المشهور ولا أعلم آخر... إلخ، فلا يلزم تعطيل مهن المفضولين، وكذا لو بني على وجوب الرجوع إليه مطلقاً لكن اختلف الناس في الأعلم، وكذا لو بني على وجوب الرجوع إليه مطلقاً ولم يختلف الناس فيه لكن تعذر أو تعسر الرجوع إليه.
لا يقال: لو صح ما ذكر من كون بنائهم على اتباع الأقرب للواقع وحجية هذا البناء، لزم حجية بنائهم على اتباع القياس، لكونه أقرب في نظرهم إلى الواقع من خبر الواحد في كثير من الأحيان، كما يظهر ذلك جلياً في مسألة دية أصابع المرأة.
ص: 98
إذ يقال: لا شك في بنائهم على اتباع الأقرب للواقع، إلا أن الشارع لكونه محيطاً بكل الجهات، عالماً بكثير مما لا تصل إليه عقولنا، قد يرى ما يتوهمه العقلاء أقرب أبعد، وما يتوهمونه أبعدأقرب، فلو انكشف لهم أن ما توهموه أقرب أبعد لتركوه، والعكس بالعكس، مما يؤكد أن الملاك عندهم على القرب والبعد، ولا محيص لنا نحن لإيماننا بالشارع وإحاطته عن قبول كون القياس أبعد عن الواقع، لإخبار الشارع بذلك (والسنة إذا قيست محق الدين)(1)، والخبر أقرب لأمره باتباعه وإن عارضه القياس.
وبذلك يعلم أن النقاش في الصغرى، وأن أي شيء أقرب للواقع ولا نقاش في أن محمول (الأقرب للواقع) الثبوتي، وكذا (ما ثبت كونه أقرب للواقع شرعاً) هو جواز الاتباع، بالمعنى الأعم.
وبعبارة أخرى: إن الملازمة التي ادعاها المستشكل غير تامة، إذ يلزم من حجية بنائهم على اتباع الأقرب لزوم اتباع ما هو أقرب واقعاً، وهو الخبر، لا ما هو أقرب في نظرهم المجرد وقبل مراجعة الشارع، وهو القياس مثلاً، مع كون الأقرب غيره مما كشف عنه الشارع.
وبعبارة ثالثة: إن بناءهم على اتباع الأقرب حجة ما لم يدل دليل على عدم كونه أقرب، فلا يكون حجية حينئذٍ من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا المحمول.
وبعبارة أخرى: بناؤهم على حجية شيء مقتضٍ للحجية، وشرطه عدم ردع الشارع.
ص: 99
إن استدلال المشهور ببناء العقلاء على وجوب الرجوع للأعلم، الذي ملاكه الأقربية للواقع جزماً، رغم إطلاقات أدلة التقليد التي لم تكن خافية عليهم قطعاً، والتي لو سلمت بأركانها الثلاثة لم يكن بدّ من رفع اليد عن بنائهم، ورغم ظهور (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا)(1)، في صحة الرجوع إلى مطلق راوي الحديث، وكون التقييد بالأعلم خلاف المنساق منها ومن أشباهها من أدلة التقليد، دليل واضح على أن بناءهم في الأمارات على الطريقية المحضة، وأن ما أحرز كونه أقرب للواقع هو اللازم اتباعه، وإن كان ظهور الدليل أو إشعاره على الأقل على جواز الرجوع إلى غيره حسب مبناهم من كون رأي الأعلم أقرب للواقع من رأي غيره، وإن كنا لا نقبل هذا المبنى على إطلاقه،ولولا شدة ارتكاز الطريقية في أذهانهم وبنائهم عليها لما رفعوا اليد عن ظهور الأدلة في جواز الرجوع إلى غير الأعلم، وتصرفوا فيه بقرينة بناء العقلاء، أو لما التجؤوا إلى عدم كون هذه المطلقات في مقام البيان من هذه الجهة، مع وضوح ظهورها عرفاً في البيان، بل ومع كون بعضها عمومات لا مطلقات، فتأمل.
ص: 100
ومما ذكرنا ظهر عدم صحة ما ذكره الآخوند (قدس سره) بقوله: (ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على مشروعية أصله، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كل حال، من غير تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطرق والأمارات على ما لا يخفى).(1)
إذ يرد عليه:
أولاً: إن أدلة التقليد ليست بأجمعها مطلقات، بل فيها عمومات، فلا يكفي نفيها في نفيها، إلا إذا أريد الأعم، فيكون الإشكال عليه أتم، وذلك مثل (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا)(2)، والجمع المحلى والمضاف مفيدان للعموم، ولسنا بحاجة إلى الإطلاق الأحوالي، إذ (الحوادث) بعمومه يشمل الحادثة المعارضة وغيرها، أو الرأي المعارض وغيره(3).
وكذا قوله (عليه السلام): (مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاء)(4) بناءً على كون الموصول للعموم، كما ذهب إليه جمع من المحققين، قال الآشتياني (قدس سره): (وإن ذكرنا في محله تبعاً للمحققين أن الموصول للعموم).(5)
ثانياً: إن قوله: (إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ) دعوى بلا
ص: 101
دليل، بل الدليل على عدمها، أترى العرف يفهمون من(يونس بن عبد الرحمن ثقة خُذ منه معالم دينك)(1) وغير ذلك، كقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2)، أصل جواز السؤال أم الإطلاق، وأن أي شخص تعنون بعنوان (أهل الذكر) يسأل منه؟
وكذا قوله (مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاء)، سواءً أقلنا بكون الموصول للعموم أم للإطلاق؟، وإخراج صورة التعارض عن شمول الآية لها، هو المحتاج للدليل على ما يفهمه العرف، ولذا يتحيرون لو تعارض كلام أهل الذكر، حيث يرون الآية دالة على الحجية وقد تعارضت الحجتان.
ولو نوقش في الآية فلا نقاش في سائر الأدلة.
إضافة إلى أن (عدم التعرض أصلاً لصورة المعارضة) إذا كان مفهومه تمامية الإطلاق من سائر الجهات ينافي ادعاء كونها بصدد بيان أصل جواز الأخذ لا غير، فتأمل.
وبعبارة أخرى: إنه إن أراد عدم الإطلاق مطلقاً، أجبنا بمخالفته للفهم العرفي، وهل تراه هو يلتزم بذلك في سائر المطلقات؟ وهل يمكن الالتزام بأن (أكرم العادل) في مقام بيان أصل جواز أو وجوب الإكرام، وكذا (من جاءني أكرمته)، أ يمكن الالتزام بعدم إطلاقه، وإن أراد عدم تحقق الإطلاق من هذه الجهة بمعنى عدم شمولها لصورة التعارض لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، ففيه: أن العرف يفهمون الشمول لذلك، لذا يتحيرون عند التعارض في العمل بأيهما، ولو لم يشملهما الدليل لما تحيّر في العمل بأيهما إذ كانا حينئذٍ
ص: 102
جميعاً غير واجبين أو غير حجة، ألا ترى أنه عند تعارض خبرين مع ورود (اعمل بخبر الواحد) لا يرى العرف عدم شمول الدليل لهما معاً، ولذا لا يطرحهما معاً، بل يرى شموله لهما، غاية الأمر أنه لتعارضهما يبحث عن المرجح لأحد الخبرين، والترجيح فرع الحجية الشأنية للطرفين - بمعنى وجود المقتضي للحجية - بمقتضى شمولأدلة الحجية لهما، فتأمل(1).
ولذا نجده نفسه (قدس سره) يلتزم بشمول أدلة حجية خبر الواحد، وكذا سائر الطرق والأمارات للمتعارضين، كما صرح بذلك في باب التعادل والتراجيح.
والذي يدل على ذلك أيضاً: تعريفهم للتعارض بأنه تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب عالم الإثبات أو تنافي مدلولي الدليلين، فلو كان دليل الحجية غير شامل لصورة التعارض لما تنافى الدليلان، بل لم يكونا دليلين أصلاً لعدم المقتضي للدليلية وهو شمول الدال لهما إلاّ أن يراد الشأنية، وما هو دليل لولا المعارضة، تجوزاً، والخلاصة أن العرف لا يرى فرقاً بين المطلقات والعمومات في شمولها للمتعارضين، والرجوع عندئذٍ إلى المرجحات، فتدبر.(2)
لا يقال: إن إثبات الإطلاق ينافي مسلك المشهور من ذهابهم إلى تقليد الأعلم.
لأنه يقال: الغرض إثبات عدم قصور مطلقات أدلة التقليد عن سائر المطلقات والعمومات من جهة كونها في مقام البيان - وهو الذي نفاه الآخوند (قدس سره) - أو وجود قدر متيقن، لعدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ولا
ص: 103
يتنافى ذلك مع الالتزام بعدم الإطلاق، لوجود قرينة على الخلاف عندهم، وهي بناء العقلاء على الرجوع للأعلم (أو الأقربية للواقع في الأعلم، أو أدلة باب القضاء كما سيأتي)، إلا أن يقال: إن ذلك موقوف على عدم كون جهة عدم تسليمهم الإطلاق عدم كون المولى في مقام البيان، أو وجود قدر متيقن، إضافة إلى عدم التزامهم بمخصصية بناء العقلاء للعمومات، لكن فيه: إنه لو سلّم ذلك - وأن جهة عدم تمامية الإطلاق عندهم عدم تحقق المقدمتين الأُوليين من مقدمات الحكمة لا عدم تحقق الثالثة - لم يضر، إذ يقال حينئذٍ إن سبب التزامهم بعدم كونه في مقام البيان هو ارتكازية بناء العقلاء على الرجوع للأعلم عندهم، مما يكون قرينةلا على الخلاف بل على عدم كون المولى في مقام البيان حسب كلامهم، فتأمل.
هذا على مسلك المشهور.
وأما إن قلنا: بوجوب الرجوع للأعلم في صورة واحدة فقط (وهي صورة نادرة)، فالأمر أوضح، إذ تسليم الإطلاق بمقدماته الثلاث لا ينافي تقديم أحد المتعارضين لوجود مزية فيه أو طرح الآخر، فتدبر، ويتضح ذلك بمراجعة باب التعادل والتراجيح من الأصول، هذا إضافة إلى عدم مضرية إثباتنا الإطلاق وتنافيه مع مسلك المشهور، إذ المضر التزامهم بالإطلاق مع حفظ مسلكهم، فتأمل.
وكون بناء المشهور ومرتكزهم غير حجة ليس بمضر فيما نحن بصدده، من إثبات صحة التمسك على وجوب اتباع رأي الأكثرية بكونه أقرب للواقع، على مبنى المشهور(1)، وأما نحن فلنا طرق أخرى تظهر من مطاوي ما سبق وسيأتي بإذن الله تعالى.
ص: 104
كما أن الغرض مما ذكرناه ليس قبول ما ذهب إليه المشهور من عدم كون المطلقات في مقام البيان ووجوب تقليد الأعلم استناداً لما ادعوه من بناء العقلاء، بل الغرض - كما سبق - إثبات صحة المدعى على مبناهم، فتدبر.
ومما ذكرنا يظهر: الكلام حول الدليل الآخر الذي تمسك للمشهور لإثبات وجوب تقليد الأعلم، وهو (إن رأي الأعلم أقرب للواقع، وكلما كان أقرب يتعين الأخذ به عقلاً)(1)، أو (إن الظن الحاصل من قول الأعلم أقرب للواقع)(2).
ولا يرد على ما نحن فيه عدم تسليم كون المعيار في باب الحجية هو (الأقربية) في نظرنا، لكون الأقربية في باب الشورى ثابتة بالدليل كما سبق، لا بنظرنا المحتمل مخالفته لما هو الأقربواقعاً مما لا يكون الكاشف عنه إلاّ الشارع المحيط بالخفيات.
كما لا يرد عدم صحة (المبنى) على ما نحن فيه، لأن الدليل لو دلّ على أن الظن الحاصل من شيء أقوى من آخر، كان اللازم اتباعه عند التعارض، لما فصّله الفقهاء في باب التعادل والتراجيح في صورة تعارض الحجتين، نعم لو لم يقم دليل على ذلك، بل قام الظن على أن الظن الكذائي أقوى من الظن الكذائي لم يصح المبنى، كما ذكره المستشكل.
ص: 105
ولا يرد ما ذكره الآخوند (قدس سره) بقوله: (وأما الكبرى فلأن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية لم يعلم أنه القرب من الواقع، فلعله يكون ما هو الأفضل وغيره سيان ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً، نعم لو كان تمام الملاك هو القرب كما إذا كان حجة بنظر العقل لتعين الأقرب قطعاً فافهم).(1)
إذ يرد عليه:
أولاً: إنه كما يحتمل أن لا يكون لزيادة القرب مدخل أصلاً في الملاك، يحتمل كذلك مدخليته، فعلى تقدير المدخلية يكون هو الحجة دون قسيمه، وعلى تقدير عدمها يكونان سيان في الحجية، فالأقرب للواقع مقطوع الحجية إذن وغيره محتملها، فيكون العقل حاكماً بضرورة الرجوع إليه دون غيره، لقاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وإنكار هذا إنكار لنفس دليله الذي أقامه على تعيّن الرجوع للأعلم من (فلابد من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعينه للقطع بحجيته والشك في حجية غيره).
ثانياً: إن ما كانت حجيته من باب محض التعبدية لا تكون للأقربية للواقع مدخلية فيها أصلاً، سلباً أو إيجاباً، أما ما كانت حجيته تعبدية طريقية (إن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية)(2)، فلا يعقل عدم مدخلية الأقربية
ص: 106
للواقع في الحجية، لكونها جزء قوامها، فكيف لا تكون شدتها وضعفها مؤثرة في شدتها وضعفها مما يستلزم الترجيح بها عند التعارض، هذا خلف، فتأمل.
ثالثاً: إضافة إلى أنه لو صح ما ذكره، لزم بطلان دليله على تعيّن تقليد الأعلم من الدوران بين التعيين والتخيير، لوجود أصلحاكم، إذ إن مدخلية رتبة معينة من القرب للواقع في ملاك الحجية محرز (لفرض كون الملاك طريقياً - تعبدياً) ويشك في مدخلية وتأثير واعتبار مرتبة أعلى منها في ملاك الحجية، والأصل العدم فلا دوران، ولا شك في حجية ذي الطريقية الأقل، إذ يرفع بالأصل، فتأمل.
كما أن استدلالهم لوجوب تقليده بورود الأمر بالرجوع إلى الأفقه في القضاء عند اختلاف القضاة، شاهد آخر على أن مبناهم إلغاء الخصوصية ونفي التعبدية، وكون الملاك محض الطريقية المشترك بين بابي القضاء والتقليد، وسيأتي تفصيل الكلام حول هذا الدليل بإذن الله تعالى.
هذا، ولو قيل بأن وجه تحتم الرجوع إلى الأعلم هو (القطع بحجيته والشك في حجية غيره)(1)، ولم نناقش بما سبق، كان ذلك دالاً على المدعى أيضاً، من وجوب الرجوع إلى ما هو أقرب للواقع وإن لم يدل على كون الأصل الطريقية، إذ إن سبب (القطع بحجية قول الأعلم) هو أحد أمور:
1: إما لأقربيته للواقع والقطع، أو احتمال مدخليتها.
2: أو لإحراز بناء العقلاء على اتباع الأعلم وعدم إحراز اتباع غيره أو إحراز العدم.
وقد أوضحنا أن كلا الوجهين مما يدل على المدعى من لزوم اتباع الأقرب
ص: 107
للواقع، مجيبين عن الإشكالات الواردة عليها، قبل قليل.
3: إن الروايات لا تدل على أزيد من حجية قول الأعلم، لعدم إطلاقها، إذ ليست في مقام البيان.
ويرد على الوجه الأخير:
أولاً: إن الدال على حجية قول الأعلم لو كان هو الروايات ولم يلتزم بإطلاقها، لما شك حينئذٍ في حجية قول غيره، إذ عدم وجود الدليل على الحجية ملاك عدمها، فلا شك في حجية قول غيره حينئذٍ،فعلم بذلك التنافي بين الأمرين: الالتزام بالقطع بحجية قول الأعلم، والشك في حجية قول غيره، والالتزام بعدم الإطلاق في أدلة التقليد بضرس قاطع، كما قال (قدس سره): (لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا في كل حال من غير تعرض أصلاً بصورة معارضته بقول الفاضل)(1)، فلا يصح تعليل أحدهما بالآخر.
وبعبارة أخرى: لا يصح تعليل: الدوران بين التعيين والتخيير، بعدم إطلاق روايات التقليد.
وقد يناقش في ذلك بوجهين:
الأول: احتمال أن يكون منشأ الشك احتمال بناء العقلاء على حجية قول غيره وعدم إحراز بنائهم على عدم الحجية، لا إحراز عدم الإطلاق في الأخبار حتى لا يكون شك، لإحراز العدم.
الثاني: إمكان كون المراد من الشك البدوي، أي الشك الموجود قبل ملاحظة قاعدة عدم الدليل دليل العدم، فتأمل.
ص: 108
نعم لو شككنا في الإطلاق والتقييد دار الأمر بين التعيين والتخيير.
لا يقال: عدم إحراز الدليل على الحجية (للدوران بين التعيين والتخيير) أيضاً ملاك عدمها فلا شك فيها، وبعبارة أخرى: لمّا لم يحرز الدليل عليها كان الأصل عدمها.
فإنه يقال: هذا الشك مسببي فلا يجري الأصل فيه، لكون الشك في الحجية حينئذٍ مسبباً عن الشك في الإطلاق والتقييد، لتفرعها وجوداً وعدماً عليهما، فعلينا التمسك بالأصول الجارية فيهما، إن لم يكن ظن نوعي في المقام كاشف عن المرام، نعم لو قلنا بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضاد، تعارض الأصلان السببيان فتصل النوبة للمسببيين، فتأمل.
وبعبارة أخرى(1): عدم إحراز الدليل على الحجية إنما يكون ملاك عدمها لو لم يكن هناك أصل حاكم.ثانياً: سلمنا، لكن يرد عليه (مبنى): بما ذكرناه مفصلاً من تمامية الإطلاق فيها من حيث كونه في مقام البيان.
ثالثاً: سلمنا، لكن يرد عليه (بناءً): أن عدم دلالة الروايات على حجية أزيد من قول الأعلم أيضاً لا ينافي كون ملاك الحجية هو الأقرب للواقع ولزوم الرجوع إليه، بل قد يدل عليه ولو بدلالة الاقتضاء، لما قد سبق من تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في متن الواقع، فليس الحكم باتباع هذا الطريق دون ذاك عبثاً، بل لعلةٍ في مرحلة الثبوت ولكون الارتكاز والبناء على الطريقية.
وبعبارة أخرى: عدم جعل الحجية في لسان الروايات معلول علة هي عدم القرب أو عدم الأقربية بشهادة بناء العقلاء، ولذا يرون العلة في جعل الشارع قول الأعلم حجة دون غيره - لو فرض - صرف الأقربية للواقع، وأما مصلحة
ص: 109
التسهيل مثلاً فتقتضي العكس، أو لا تقتضي عدم حجية قول غيره على الأقل.
ظهر مما ذكرنا أن المقياس في باب الحجج هو الأقربية إلى الواقع التي دلّ الدليل عليها، لا الأقربية في نظرنا، فلا يرد استلزام ذلك حجية ما توصل إليه بالرمل والجفر من الأحكام الشرعية، إذ ليست للرمل أقربية قد دل عليها الدليل، وبل ليست من الظنون النوعية العقلائية.
ومن ذلك كله ظهر: عدم تمامية ما يقال من (أنه لا منافاة بين الطريقية وبين حجية فتوى غير الأعلم أيضاً، نظير تعارض البينتين، فإن أقربية إحداهما إلى الواقع - كما إذا كانت أعرف بالحال من الأخرى - لا يوجب تعيينها وسقوط البينة الأخرى عن الحجية مع أنهما طريقان، ولذا ذهب المشهور إلى التساقط فيهما، وليس ذلك إلاللتزاحم ووجود ملاك الحجية في كليهما، وإلاّ لما أوجبت الأمارة غير الأقرب سقوط الأقرب أيضاً كما لا يخفى).(1)
إذ يرد عليه، إضافة إلى ما سبق:
أولاً: إن الشاهد يناقض المستشهد له، إذ إن المستشهد له هو عدم المنافاة بين الطريقية وبين حجية فتوى غير الأعلم، مما يقتضي التخيير، وهو الذي يريد إثباته، لكونه في مقام إثبات عدم تعيّن الرجوع للأعلم، وأما الشاهد هو تعارض
ص: 110
البينتين الموجب للتساقط حسب ما ذكره، فقد كانت هناك منافاة بين الطريقية وبين حجية المتعارضين لسقوطهما كليهما عن الحجية بالتعارض.
لكن لا يخفى الجواب عن هذا الإشكال.
ثانياً: إن تعليله (وليس ذلك إلا للتزاحم ووجوب ملاك الحجية في كليهما) غير تام لوجهين:
أ: إن هذا ليس تزاحماً بل هو تعارض، إذ المتزاحمان متنافيان في مرحلة الامتثال لا الجعل، فالتزاحم مانع عن (التنجز) لا غير، والأمارات كلها إن تخالفت متعارضة، لكون التنافي في مرحلة الجعل.
وبعبارة أخرى: مع كون أحدهما طريقاً إلى الواقع لا يعقل كون الآخر طريقاً إليه أيضاً، لكونه ضده أو نقيضه، وإلاّ لزم تناقض الواقع أو تضاده، وتناقض أو تضاد حكم الله في الواقعة، هذا في مرحلة الثبوت، وأما في مرحلة الإثبات فكذلك للعلم الإجمالي عند تنافي الدليلين بكذب أحدهما، فكيف يوجد ملاك الحجية فيهما ثبوتاً أو إثباتاً؟ اللهم إلاّ أن يريد بملاك الحجية الشأنية والاقتضاء، فيرد عليه حينئذٍ إشكالان آخران، فليلاحظ.
نعم لو قال بحجية البينة من باب السببية، لتزاحمت البينتان، لكون كل منهما حال التزاحم أيضاً على ما كان عليه من المصلحة التامة المقتضية للإيجاب، وإنما التزاحم مانع عن التنجز، فتأمل.
ب: إن مقتضى التزاحم هو التخيير أو تعيّن أحدهما إن كان ذا ملاك آكد لا التساقط، وبذلك ظهر عدم تمامية قوله (وإلا لما...)، إذعلى التزاحم ووجود ملاك الحجية في كليهما، لا يوجب أي منهما سقوط الآخر ككل متزاحمين.
ثالثاً: إن المشهور لم يذهبوا إلى التساقط، بل إنهم ذهبوا:
أ: في صورة كون العين بيد أحدهما وأقام كل منهما بينة، إلى ترجيح بينة
ص: 111
الخارج مطلقاً، وقيل: الداخل مطلقاً، أو الخارج مطلقاً إلاّ إذا انفردت بينة الداخل بذكر السبب، أو الخارج مطلقاً إلاّ مع أعدلية بينة الداخل، ثم أكثريتها فيترجح، أو الرجوع إلى القرعة مطلقاً، أو غير ذلك من الأقوال، وليس فيها قول بالتساقط(1)، والقول الأول هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(2).
ب: وفي صورة كون العين بيدهما وأقاما البينة، يقضي بها بينهما نصفين من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية على الأشهر، بل عليه عامة من تأخر إلا من ندر(3)، وبلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن وأبي علي، بل صرح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجحات الآتية في غير هذه الصورة.(4)
وعن المسالك: (لا إشكال في الحكم بينهما نصفين، لكن اختلف في سببه، فقيل: لتساقط البينتين بسبب التساوي فيبقى الحكم كما لو لم تكن بينة، وقيل: لأن مع كل منهما مرجحاً باليد على نصفها فقدمت بينته على ما في يده، وقيل: لأن يد كل واحد على النصف وقد أقام الآخر بينة عليه فيقضي له بما في يد غريمه بناءً على تقديم بينة الخارج، فكل منهما قد اعتبرت فيما لا تعتبر فيه الأخرى، ولذا لم يلحظ ترجيح بالعدد ولا بالعدالة وهذا هو الأشهر)(5)، فليس المشهور هو التساقط.
ج: وفي صورة كون العين في يد ثالث: يقضى بأرجح البينتين عدالة، ومع التساوي في العدالة يقضى بأكثرهما عدداً، ومع التساوي يقرع بين المتداعيين
ص: 112
على المشهور بين الأصحاب، خصوصاً المتأخرين، بل عليهم عامتهم كما قيل(1).
وفي المسالك وغيرها نسبته إلى الشهرة، بل في الغنية الإجماع عليه، بل في الرياض نسبته إلى الأشهر، بل عامة متأخري أصحابنا(2)، والجواهر وإن ناقش في تحقق الشهرة إلا أنه لا مناقشة في عدم انعقاد الشهرة على التساقط فتدبر، هذا لو فرض وجود قول به، فتأمل.
وأما لو لم تكن العين بيد أحدهما وأقاما بينة، فظاهر عبارة الصدوقين (قدس سرهما) أن حكمه حكم يد الثالث، وقال بعض فضلائنا المعاصرين: إنه الأولى، وهو كذلك لإطلاق أكثر الأخبار المتقدمة إن لم نقل جميعها بالنسبة إلى هذه الصورة أيضاً(3).
اللهم إلاّ أن يقال بأن مقصوده (دام ظله) هو تعارض البينتين في غير الماليات، فيندفع الإشكال.
لا يقال: لو كانت الأقربية للواقع موجبة لتعيّن الأخذ بذيها، للزم في الصورتين الأوليين الترجيح بالعدد والعدالة وأشباههما، لا الحكم بترجيح بينة الخارج مطلقاً في الصورة الأولى، والتنصيف في الثانية.
فإنه يقال: إن عدم الترجيح فيهما لوجود الدليل الخاص على تقديم بينة الخارج وعلى التنصيف وهي الروايات، ومنها المستفيضة المصرحة بأن (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، حيث استفاد منها الفقهاء اختصاص قبول البينة بالمدعي، لكون التفصيل قاطعاً للشركة، وهذه الرواية وإن أشكل في دلالتها على المدعى إلاّ أن المستشكلين استندوا إلى روايات أخرى دالة على
ص: 113
تقديم بينة الخارج، كالتعليل المذكور في خبر منصور الذي هو بالشهرةمجبور: (لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُطْلَبَ الْبَيِّنَةُ مِنَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِلَّا فَيَمِينُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ، هَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ)(1)، وكذا الرضوي المنجبر بعمل الفقهاء.
فعدم ترجيح بينة الداخل بالعدد والعدالة إنما هو لعدم كون بينته مقبولة شرعاً حسب الروايات، لا لعدم الاعتناء بمرجحاتها بعد الفراغ عن مقبوليتها.
وبعبارة أخرى: ليست بينته بينة شرعاً.
وبعبارة أخرى: ليس هو محلاً لها، كما ليست المرأة محلاً للقضاوة، وذلك مما يكشف (إنّاً) عن كون حجيتها ههنا تعبدية لا طريقية محضة، وبملاك الكاشفية النوعية المحضة عن الواقع، ولذا التزم المولى النراقي (رضوان الله عليه) بعدم كون حجيتها من باب الظن حتى تكون بينة الداخل مقدمة فيما لو كان الظن الحاصل منها أقوى من الحاصل من بينة الخارج، كما لو كانت أكثر عدداً أو أشد عدالة.(2)
وما ادعيناه من لزوم العمل بالأقرب من المتعارضين ليس في صورة تعبد الشارع بالعمل بأحدهما غير الأقرب، ولا في صورة عدم قيام الدليل على أن هذا أقرب، بل كان الظن قائماً عليه، وبعبارة أخرى: (الأقرب في نظرنا)، بل إنما هو في صورة العلم بالطريقية المحضة أو الشك بينها وبين التعبدية، لكون الأصل الطريقية وعدم لحاظ الشارع أمراً زائداً على صرف الإيصال إلى الواقع، ولأنه مقتضى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فتأمل.
وكذا في صورة تنصيص الشارع على اتباع أحد المتعارضين، فكيف إذا
ص: 114
علله الشارع بأنه أقرب للواقع، وبأن في عدمه الضرر والوقوع في الندم، كما في الروايات الدالة على الشورى.
هذا، ويمكن إنكار الملازمة بوجه آخر، وهو أنه: قد يكون ترجيح بينة الخارج مطلقاً لكونها أقرب نوعاً إلى الواقع من بينة الداخل في نظر الشارع، وإن كانت بينة الداخل أكثر عدداً وعدالةً،بمعنى أنه رأى كون أكثر مواقع دعوى الخارج ما في يد آخر وإقامته البينة مطابقة للواقع وكون الأقل مطابقاً للداخل وإن كانت بينته أكثر وأقوى.
والفرق بين الوجهين: أن الأول مبني على الالتزام بالتعبدية في البينة، والثاني على الالتزام بالطريقية فيها.
ومن تقرير هذا الوجه الثاني يظهر أن هناك شقاً ثالثاً، يمكن به التخلص عما استشكله (المستند) على نفسه بقوله: (فلا يرد عليهم أنه إن كان بناؤهم على عدم حجيتها فهو مناف لقبولها في بعض الموارد، وإن كان على قوة الظن، فقد يكون الظن الحاصل من بينة الداخل أقوى من بينة الخارج)(1)، وهو كون البناء على حجيتها من باب أقربيتها إلى الواقع نوعاً بنظر الشارع، وإن كان الظن الحاصل من بينة الداخل - لكثرة العدد أو العدالة - أقوى.
نعم، لا يجري هذا الوجه في الصورة الثانية، وهي ما لو كانت العين بيدهما حيث حكم بالتنصيف، فتأمل.
ومما ذكرنا في جواب هذا الإشكال ظهر الجواب عن النقض بكل موارد تقديم الشارع ما يتوهم كونه غير أقرب، أو ما يكون غير أقرب واقعاً، من أول الفقه إلى آخره.
ص: 115
بحث عن الوجه في تقديم حكم الأفقه
في القضاء وفرقه عن باب الفتوى
إذ يجاب: أولاً: إن جعل الحاكم لفصل الخصومة أعم من ترجيح حكم الأفقه، إذ يتم فصلها بالحكم بترجيح قول غير الأفقه أيضاً.
وببيان آخر: فصل الخصومة يحصل بتقديم أي منهما تعييناً، لا بتقديم خصوص قول الأفقه تعييناً، فلماذا قدم قول الأفقه؟ لا مناص إلاّ بالتزام كون ذلك لأقربيته إلى الواقع، ثم ألم يكن ترجيح حكم المفضول قبيحاً عقلاً وعرفاً؟ وما ذلك إلاّ لذلك.
وقد يقال بتمامية كلامه (دام ظله)، إذ إنه لا ينكر ههنا أقربية قول الأعلم للواقع من غيره، بل يرى أن هذه الأقربية في باب الحكومة موجبة - على فرض التسليم -(1) لتعين الرجوع في القضاء للأعلم بضميمة أنه لابد في باب القضاء
ص: 116
لكونه مجعولاً لفصل الخصومة من جعل الحجة التعيينية لا التخييرية، وغير موجبة لذلك في باب الفتوى لعدم تلك الضميمة، فتبقى أدلة حجية فتوى المجتهد على إطلاقها المقتضية للحجية التخييرية، فتأمل.
وغير خفي أن عدم قبولنا ما ذكره غير ضار، إذ الكلام في استفادة الفقهاء الطريقية ونفي التعبدية في محتملها، وليس الكلام فيأن وجود الأقوى طريقيةً، كالأعلم، يوجب التعيين ولا غير، كما في باب الحكومة، إذ لا يمكن فيها التخيير، أو لا يستلزم إيجابه، بل يمكن إيجابه أو التخيير كما في باب الفتوى، هذا.
إضافة إلى ما سبق في (وَنَظَرَ فِي حَلالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا) (1)، و(فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّه) (2)، وما في لحوق تعليل تقديم المجمع عليه على الشاذ ب(فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لا رَيْبَ فِيه) (3)، وتعليل تقديم مخالف العامة بأن (فِيهِ الرَّشَاد) (4)، من الدلالة القوية على أن الملاك هو القرب أو الأقربية للواقع، فيكون الترجيح لأجلها أيضاً.
أما وجه دلالة سبق (ونظر...) فواضح، حيث إن الظاهر أن سؤاله: (قلت فإن كان كل رجل...) إنما هو سؤال عن تعيين (حلالنا، وحرامنا، وأحكامنا، وحكمنا، وبحكم الله) السابق في كلام الإمام (عليه السلام) فعيّنه له الإمام، وأنه ما حكم به الأعدل الأفقه، أما دلالة ما لحق فلا يخفى.
فمناط التقديم - على هذا - معلوم، وهو القرب أو الأقربية للواقع، بقرينة ما سبق وما لحق، ولكون التعبدية على خلاف الأصل، كما سبق تقريره من
ص: 117
وجوه عديدة.
وبذلك يظهر الكلام فيما ذكره المشكيني (قدس سره): (والأولى أن يجاب أولاً بأن التعدي عن موردها قياس فلا يتعدى عن مورد المقبولة إلى غيره من موارد القضاء فضلاً عن باب الإفتاء).(1)
كما ظهر الجواب عما ذكره في الكفاية: (لأن الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفعإلا به لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى كما لا يخفى).(2)
إذ اتضح أن هذا الفرق غير فارق لارتفاع الخصومة:
1: بتقديم قول غير الأفقه الأعدل الأصدق الأورع أيضاً.
2: أو بتقديم حكم السابق.
3: أو بالإرجاع إلى ثالث يرتضيانه.
4: أو بالقرعة بعد اختلافهما (أي الراويين).
أو بغير ذلك، فتقديم قول الأفقه الأعدل ليس إلا بملاك الأقربية للواقع، كما فصلناه قبل قليل، إلا أن يدل دليل من الخارج على جواز اتباع غير الأقرب، مما يكون لأجل مصلحة أخرى كمصلحة التسهيل، فيلتزم حينئذٍ بالتخيير، وإلاّ فمقتضى القاعدة التعيين لما سبق، ولا أقل لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.
ولأجل ذلك (أي للدليل الخارجي) نلتزم بعدم وجوب الرجوع للقاضي الأعلم ابتداءً(3)، بعدم تعدينا عن مورد المقبولة (اختيارهما الرجوع إلى
ص: 118
شخصين) إلى سائر موارد القضاء لأجل الدليل الخارجي، لا لما ذكره المشكيني (قدس سره) من كونه قياساً، إذ بيّنا أن الملاك في التقديم موجود بعينه فيما نحن فيه، ولئن نوقش في وجوده في موارد الفتوى فلا شك في وجوده في سائر موارد القضاء، فتأمل.
والدليل الخارجي هو إطلاق أو عموم أدلة النصب المقتضي لحجية قضاء جميع القضاة على الناس، كخبري أبي خديجة(1)، ومقبولة ابن حنظلة(2)، وخبر داود بن الحصين(3)، والنميري(4)،وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء والقضاء والاستقضاء منهم مع تفاوتهم في الفقه والعدالة وغيرها.
وفي الجواهر: (بل لعل أصل تأهل المفضول وكونه منصوباً يجري على قبضه وولايته مجرى قبل الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها، خصوصاً بعد ملاحظة نصوص النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين بالوصف المزبور، لا الأفضل منهم، وإلا لوجب القول: انظروا إلى الأفضل منكم لا رجل منكم، كما هو واضح بأدنى تأمل).(5)
ولاستلزام وجوب الرجوع للأعلم العسر والحرج عليه وعلى الناس كما لا يخفى، خصوصاً الذين يسكنون بلاداً أخرى، ولعل عموم النصب كان لأجل مصلحة التسهيل هذه.
هذا بناءً على ما ارتضيناه من جواز الرجوع إلى القاضي غير الأعلم
ص: 119
ابتداءً، أما على مسلك الأشهر - كما عن المسالك - بل المجمع عليه كما (حكاه المرتضى (قدس سره) في ظاهر الذريعة، والمحقق الثاني في صريح حواشي كتاب الجهاد من الشرائع)(1)، ونسبه في الجواهر إلى الأصحاب، (ومن الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلق حتى أن بعضاً منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة من الأصوليين دعوى الإجماع على تقديمه حينئذٍ لا مطلقاً فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك)(2)، وإن ناقش في تحقق الإجماع وفي نسبته للمحقق والمرتضى (قدس سرهما) فالأمر أوضح، حيث إنهم(3) نقلوا من حكم الإمام (عليه السلام) بالترجيح في مورد خاص إلى الترجيح في مورد آخر (الرجوع إلى القاضي الأعلم ابتداءً)، وكذا (تقليد الأعلم)، وما ذلك إلاّ لبنائهم على إلغاءالخصوصية ونفي التبعدية وكون الملاك أقوائية الظن والأقربية للواقع، بل إنهم صرحوا بذلك، حيث كان مستند قولهم هو (ومن أن الظن بقول الأعلم أقوى فيجب اتباعه، إذ أقوال المفتين بالنسبة للمقلد كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد في وجوب اتباع الراجح)(4)، وبالنسبة لتقليد الأعلم: (الخامس أن الظن الحاصل من قول الأعلم أقرب إلى الواقع).(5)
وأما ما استشكله في المهذب: (وفيه: إن كون اعتبار الحكم من جهة الظن الحاصل منه أول الدعوى)(6)، فقد سبق أن أجبنا عنه مفصلاً، إضافة إلى أن كلامنا الآن هو تمامية المدعى على مسلك هؤلاء.
ص: 120
كما أن استدلالهم بالأخبار كالمقبولة ورواية الحصين والنميري رغم كون موردها تراضيهما بالحكمين، ورغم كون الوارد غير عام، دليل آخر على أن مبناهم على إلغاء الخصوصية واستنباط أن ملاك الترجيح هو الأقربية للواقع، كما هي ملاك الحجية أيضاً.
وأما ما ذكره في المستند: (والجواب عن الأول: أما أولاً: فبأنه إنما يتم على القول بأن متابعة المقلد لقول مجتهده لأجل أنه محصل للظن بالواقع، وهو ممنوع، لجواز أن يكون هذا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي وإن لم يحصل الظن به، كالتقية وشهادة الشاهدين واليمين، ولو كان بناء الفقهاء على الظنون لزم عدم سماع دعوى كنّاس على مجتهد أنه أجره للكناسة، ودعوى شرير متغلبعلى مجتهد عادل في دراهم، ولزم أن يقضى بالشاهد الواحد إذا كان مفيداً للظن، سيما إذا كان المدعي معروفاً بالصلاح والسداد، والمدعى عليه بخلافه، وحينئذٍ فلا دليل على اعتبار الظن الأقوى).(1)
فيرد عليه: أما قوله (وهو ممنوع لجواز...) ففيه:
أولاً: إن هذا خلاف الأصل، ولذا كان رفع اليد عن الحكم الواقعي هو المحتاج للدليل إثباتاً، وللسبب كالتقية ثبوتاً.
وبعبارة أخرى: نيابة حكم مناب الحكم الواقعي خلاف الأصل، فلا يرفع اليد عن عمومات الأدلة الواقعية إلا لدليل، ولا يكفي صرف الاحتمال.
ص: 121
ثانياً: إضافة إلى أن الأدلة الدالة على لزوم التقليد على من ليس بمجتهد ولا محتاط، تنفي كون لزوم اتباع المجتهد(1) حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي، أترى كون الفطرة الحاكمة أو العقل الحاكم بوجوب أن يكون المرء في ما كلفه به مولاه، أو حد له حدوداً فيه من عباداته ومعاملاته، مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً، حاكمة به بملاك غير ملاك تحصيل الواقع، وترى كون كلام المقلَّد حكماً نائباً مناب الواقع؟ خاصة إذا كان مستند هذا الحكم علم المكلف بأنه ليس كالبهائم، واحتماله العقاب في ترك التعرض لتحصيل التكاليف الواقعية، بل حتى لو كان مستنده القريب حكم العقل بوجوب شكر المنعم، والبعيد احتماله العقاب ووجوب دفع الضرر المحتمل، بل حتى لو كان مستنده وجوب شكر المنعم فقط.
ولذا قال في المهذب: (كما أن هذا الوجوب طريقي محض لانفسية فيه بوجه، فيكون المناط كله على الواقع).(2)
وقال تعليقاً على ما ذكره في العروة من (مسألة2: الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا): (لما تقدم من أنه لا موضوعية للطرق الثلاثة، وإنما هي طريق محض لدرك الواقع، والاحتياط أوثقها وأقواها).(3)
وقال في (الفقه): (فإن أدلة وجوب التعلم الآتية بمعونة أن ليس المراد منها
ص: 122
إلاّ العمل على طبق الواقعيات تفيد وجوب إحدى الثلاث).(1)
ومما يوضح ما ذكرناه أن التقليد من باب رجوع الجاهل للعالم، ولا ريب أن العقل يلزمه بالرجوع إليه لإدراك الواقع، لا لأن لكلامه موضوعية أو لقسيميه، والوجدان بذلك شاهد.
كما يشهد له أن من الواضح حكم العقل بعدم جواز اتباعه لو علم المقلد خطأه، ولو كانت لكلامه موضوعية لكان قسيماً للواقع، لازم الاتباع وإن خالفه، إلا أن يقال: بموضوعية كلامه ونيابته مناب الحكم الواقعي بشرط عدم العلم بخطأه، فتأمل.
وأما الأدلة الأخرى التي أقيمت على جواز أو وجوب التقليد، فإن قيل بكونها إرشادية فالأمر كما ذكر.
وأما على المولوية، فنقول:
أما الآيات: التي استدل بها على ذلك، فالظاهر من (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)، أن المقصود معرفة المنذرين بالدين وأحكامه وحذرهم من مخالفتها، وكون الإنذار طريقاً إلى معرفة الدين لا أن يكون تفقههم سبباً لموضوعية أقوالهم ونيابتها مناب الحكم الواقعي!..
كما أن ظاهر قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(3)، هو ذلك، حيث فرع (اسألوا) على عدم العلم، فيقتضي ارتفاعه بوجود السؤال.
وبعبارة أخرى: ظاهر (اسألوا إن كنتم لا تعلمون)، اسألوا إن لم تعلموا
ص: 123
الواقع لتعلموا، فالسؤال طريق للعلم (الأعم من الدقي والعرفي ومما يساوق الاطمينان) بالواقع.
وكذا قوله سبحانه: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...) (1)، فمنطوقها يدل بصريح التعليل، على أن وجوب التبين لأجل أن لا يصيب قوماً بجهالة، وعدم وجوبه في العادل لإلغاء احتمال الكذب وإصابة القوم بجهالة لضعفه.
وبعبارة أخرى: وجوب التبين في خبر الفاسق ليس من حيث هو هو، بل مخافة إصابة القوم بجهالة، وباعتبار أدائه - احتمالاً قوياً - إلى مخالفة الواقع وتسبيبه الوقوع في الندم، وأما مفهوم الوصف(2) فهو: يجوز - بالمعنى الأعم(3) - قبول خبر العادل، لعدم تلك المخافة عرفاً، وعدم ذلك التسبيب عادة، فليس قبوله بما هو هو، بل لأنه مصيب ومطابق للواقع عرفاً، واحتمال مخالفته للواقع لضعفه ملغى عقلاً، فعلة وجوب التبيّن وعدمه إذن هي مخالفة الواقع، وعدمها لكون (أن تصيبوا) بمنزلة التعليل ل(تبينوا).
وأما الروايات:
فالتوقيع الوارد عن الحجة (عليه السلام): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم وأنَا حُجَّةُ الله)(4)ظاهرة أيضاً في حجية قول الفقيه من حيث إنه كاشف عن قول الإمام الكاشف عن حكم الله، لا أن هنا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي.
أترى أن المولى لو قال لعبده: (هذا حجتي عليك) استفيد منه أن هنا
ص: 124
حكماً ظاهرياً نائباً مناب الأحكام التي يصدرها المولى، وأن حجية كلامه من حيث هو هو؟ أم أن حجيته من حيث كونه موصلاً إلى تكاليف المولى وأحكامه، بحيث لو سلبت عنه هذه الجهة وصار قسيماً لكلام المولى وأحكامه لم تكن له حجية أبداً ولما وجب اتباعه قطعاً.
ويؤيده بل يدل عليه: أن الحجة ما يحتج به المولى على عبده، ولولا كون كلمات الفقهاء طريقاً موصلاً لروايات الأئمة (عليهم السلام) لما كانوا حجتهم علينا، ولما صحت إضافة الحجية لياء المتكلم، إذ لو قطع النظر عن حيثية كاشفية كلام الفقيه عن حكم المعصوم وروايته، لما كانت له رابطة به (عليه السلام) حتى تكون كلماته حجة الإمام علينا، فهذا هو الظاهر وإن أمكن دقةً غيره.
وقد يمثل بالفرض التالي: أترى يصح أن يجعل رواة الأحاديث المكذوبة - كأبي هريرة وأشباهه - مثلاً حجة الإمام علينا؟ وما ذلك إلا لعدم طريقيتها إلى أقوالهم، فلا تصح حينئذٍ هذه الإضافة (حجتي)، وفيه تأمل.
نعم التقية حكم واقعي ثانوي، نائب مناب الحكم الواقعي الأولي، فمع العلم بأن هذا اليوم من رمضان يجب الإفطار لأجلها.
ويشعر بما ذكرناه أيضاً سبق (رواة أحاديثنا) فتدبر.
كما يشعر به أو يدل عليه: قياس المساواة المذكور في كلام الإمام (عليه السلام): (إِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم وأنَا حُجَّةُ الله)(1)، مما يعني أنهم حجة الله، ومن المسلّم أن كونهم حجة علينا من حيث إنهم الطريق إلى الله والوسيلة إليه، لا مع قطع النظر عن هذه الحيثية، ولذا ورد قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ)(2)، كما أن من المسلّم أن حجية قولهم من حيث إفادتها العلم أو
ص: 125
الظن النوعي(1) بحكم الله، ولذا لا يجب اتباع حكمه (عليه السلام) لو كان الظن النوعي على الخلاف، وإن ما ذكره (عليه السلام) ليس بحكم الله، بأن كان الإمام (عليه السلام) في مقام التعليم لا الفتوى(2) حالة التقية مثلاً، فحكم بحكم موافق للعامة تقيةً ومن باب (جراب النورة)(3).
وكذا رواية ابن أبي يعفور، قال: (قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِنَّهُ لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ، وَلا يُمْكِنُ الْقُدُومُ، وَيَجِي ءُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِي، وَلَيْسَ عِنْدِي كُلُّ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي وَكَانَ عِنْدَهُ وَجِيهاً) (4).
بناءً على عدّ هذه الرواية من أدلة جواز التقليد، إذ علل (عليه السلام) الرجوع إلى ابن مسلم بسماعه من الباقر (عليه السلام) وكونه وجيهاً عنده، ومن الواضح أن العرف الملقى إليه هذا الكلام يستفيد حجية كلام ابن مسلم من حيث طريقيته لكلام الإمام وإيصاله إليه، لا أن صرف السماع يسبب موضوعية لكلامه، بحيث ينشأ حكم آخر على منواله نائباً عن الحكم الواقعي - كما ادعاه المستند - كما أن من الواضح أن (كونه وجيهاً) سبب لحصول الظن بالواقع وبكلام الإمام (عليه السلام) منه(5)، بل المتبادر إلى الذهن من كلام الإمام (عليه السلام) كونه بصدد بيان ما يكشف عن الواقع ظناً، فتأمل.
ولا يخفى شمول (فإنه سمع من أبي) لما لو سمع منه (عليه السلام) الحكم أو
ص: 126
سمع منه مستند الحكم وما يستنبط منه الحكم، ولافرق بينهما عرفاً في صحة الإسناد والاستناد، فيمكن اسناد إخبارات المجتهد الحدسية المستندة إلى إعمال قواعد العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحاكم والوارد، والتعادل والتراجيح.. إلخ، إلى الشارع، ولا يقدح انسباق سماع الحكم من (فإنه سمع...) لكونه بدوياً، ولذا لو سمع من الإمام (عليه السلام) حرمة نقض اليقين بالشك فأفتى العامي ببقاء زوجية زوجته عند شكه في طلاقها، صدق استناده في حكمه إلى الإمام (عليه السلام) لسماعه منه مستند الحكم، ولو سمع منه (عليه السلام) حجية خبر الثقة وحجية الاستصحاب وأعمل قاعدة الحكومة أو الورود (على المسلكين في تقديم خبر الواحد على الاستصحاب) ثم أفتى العامي الشاك في طلاق زوجته بانقطاع الزوجية، لإخبار ثقة بإجراء صيغة الطلاق، كان الأمر كذلك أيضاً.
وكذلك رواية الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): (شُقَّتِي بَعِيدَةٌ وَلَسْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمِمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي، قَالَ: مِنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ الْقُمِّيِّ الْمَأْمُونِ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا) (1).
حيث يشعر بل يدل عرفاً وصفه (عليه السلام) زكريا ب(المأمون على الدين والدنيا) على كونه سبب الحكم بأخذ معالم الدين منه، ومن الواضح كون مأمونية شخص على الدين والدنيا، سبباً للظن النوعي بالواقع ومطابقته لقول الإمام (عليه السلام)، وهكذا حال روايات أخر يطول بذكرها المقام.
كل ذلك إضافة إلى استلزامه على الاحتمالين الأخيرين - مما ذكرناه في الهامش - جعل حكم ظاهري عند الإصابة، وهو كما ترى، للغوية واستحقاق العقوبتين عند المخالفة، أو كون استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الظاهري لا الواقعي المطابق له، ولا يمكن إنكار الملازمة بدعوى جعل الحكم الظاهري عند
ص: 127
الخطأ فقط، لكونه خلاف كلامه أولاً(1)، ولأنه خلاف الأدلة والطريقة العقلائية أيضاً.
ولأن الالتزام بكون قول المجتهد حجة لكونه محصلاً للظن بالواقع يستلزم المعذرية عقلاً عند الخطأ، ولا حاجة إلى جعل حكم ظاهري عنده، إذ كون هذا الطريق غالب الإيصال للواقع كافٍ لجعله حجة، وإن لم يوصل أحياناً لغلبة هذه المصلحة على تلك المفسدة، فتأمل.
مضافاً إلى كل ذلك، استلزامه وجود ثلاثة أحكام فيما لو خالف المجتهد الحكم الواقعي الثانوي وهي: الحكم الواقعي الأولي، والواقعي الثانوي، وحكم ثالث هو ما أدى إليه رأي المجتهد لقوله: (لجواز أن يكون هذا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي).
فمثلاً: الحكم الواقعي الأولي حرمة الدم، والثانوي وجوبه التعيني لانحصار العلاج والنجاة به، وقد أدى رأيه إلى وجوبها التخييري، لتوهمه كون النجاة به وبشرب البول مثلاً على سبيل البدل، أو نمثل: بما لو كان الحكم الواقعي وجوب التسبيحات الثلاث، والثانوي حرمتها، لضيق الوقت فرضاً أو لتعرضه لخطر إن أطال الصلاة، وكان قوله باستحبابها إما للغفلة عن ضيق الوقت أو مع الالتفات إليه والالتزام باستحبابها عند الضيق، فتأمل.
هذا وقد حقق في محله أن الحجج الشرعية إنما هي كواشف ناقصة عن الواقع، وقد أكمل الشارع كاشفيتها بأدلة حجيتها، أو هي منجزات ومعذرات وليست جعلاً للحكم.
وأما قوله (كالتقية)، ففيه: إن الحكم في مواردها واقعي ثانوي، وهو
ص: 128
الحكم المرتب على الموضوعات بعناوينها الثانوية الطارءة كالاضطرار والإكراه غير عنوان مشكوك الحكم، وأما وجوب دفع الخمس وحرمة الخمر واستحباب صلاة الليل مثلاً على المقلد والمجتهد فهي أحكام واقعية أولية، والواجب اتباع الحكم الثانوي وإن علم بالحكم الأولي، لكون مصلحة الأول غالبة فيجب أكل الميتة للاضطرار، والصلاة مكتوفاً له، أما لو علم بخطأ المجتهد حرم اتباعه ولزم اتباع الحكم الواقعي، بأن علم مثلاً خطأ المجتهد في الاكتفاء بتسبيحة واحدة فرضاً، بل وكذا لو حصل له ظن نوعي بخطأه أو بمخالفته للحكم الواقعي، كأن أفتى حالة اضطراب شديد (بحيث لا يبني العقلاء على الاعتداد بكلمات من اعترته هذه الحالة)أو اعتماداً على كتاب ظنه الوسائل مثلاً، وبان للمقلد أنه كتاب آخر مما لا يعتمد عليه هذا الفقيه.
وأما قوله: (وشهادة الشهادين)، فقد أجبنا عنه مفصلاً فيما سبق.
وأما قوله: (ولو كان بناء الفقهاء على الظنون لزم عدم سماع...)، فيرد عليه:
أولاً: إن سماع تلك الدعوى - على فرض التسليم - إنما هو لإطلاقات أدلة سماعها، ولا منافاة بين حجية ظن نوعي وبين تقدم ظن نوعي آخر عليه، حكومةً أو وروداً أو تخصيصاً، كما لا منافاة بين حجية الظن مطلقاً، وبين تقدم بعض الظنون على البعض الآخر، وهل ترى الانسدادي إلاّ كالانفتاحي في تقديم خبر الواحد الثقة على الاستصحاب، وشهادة العدلين على إدعاء العدل الواحد؟
وبذلك اتضح عدم صحة الملازمة المذكورة في كلامه (قدس سره): (ولو كان... لزم...).
وبعبارة أخرى: بناء الفقهاء لو كان على الظنون فإنما هو بنحو المقتضي،
ص: 129
فلا محذور في عدم العمل بها إذا ابتليت بالمزاحم الأقوى، وهو إطلاقات أدلة سماع الدعوى فيما نحن فيه.
وثانياً: إن لنا إنكار سماع هذه الدعوى لو كان ظن نوعي على الخلاف، وكان بناء العقلاء على عدم السماع وعدم الاعتناء، إذ إننا لا ندعي حجية كل ظن وحجية الظنون الشخصية ما لم تصل حد الاطمينان، بل ندعي حجية الظنون النوعية، أي مطلق ما كان عليه بناء العقلاء وسيرة العرف إلاّ ما ثبت بدليل خاص خروجه كالقياس.
ففي دعوى شرير متغلب على مجتهد عادل لو كان بناء العقلاء على عدم الاعتناء يلتزم فيه، حتى صاحب المستند - على القاعدة - بعدم سماعها، كما لو وجد شرير متغلب يدعي كل يوم دعوى سخيفة على أحد المجتهدين العدول، أترى القاضي بعد تكرر عدة حوادث خلال مدة قصيرة وعدم قدرة الشرير على الإثبات، أتراه يسمع دعواه السادسة والسابعة و... ويحضر ذلك المجتهد العادل إلى المحكمة ويستحلفه ويسير معه حسب ضوابط المدعي والمدعىعليه...؟! بل الأمر كذلك حتى في المرة الواحدة مع الاطمئنان بكذبه.
ولذا قال في الجواهر:
(وبالجملة فالمدار على ما يتعارف من الخصومة بسببه، سواء كان بجزم أو ظن أو احتمال، أما ما لا يتعارف الخصومة به كاحتمال شغل ذمة زيد أو جنايته بما يوجب مالاً أو نحو ذلك مما لا يجري التخاصم به عرفاً فلا سماع للدعوى فيه).(1)
وليس استشهادنا بصغرى كلامه حتى يستشكل ب(أما العرف فإنهم يراجعون في مثل ما نفاه ويدل عليه الحضور في المحاكم ليشاهد الإنسان ذلك بأم
ص: 130
عينيه)(1)، بل بالكبرى: و(أن ما لا يجري التخاصم به عرفاً فلا سماع للدعوى فيه).
ثالثاً: النقض بقاعدة اليد وأشباهها، فمع أن اليد أمارة الملكية بلا شك، مع ذلك تسمع دعوى الخارج الذي ادعى ملكيته لها، ويستدعى ذو اليد للمحكمة، فهل يصح لأحد أن يقول: (لو كان بناء الفقهاء على أمارية اليد، لزم عدم سماع دعوى الخارج على ذي اليد)؟
رابعاً: إن سماع الدعوى لا يعني تصديقها وقبولها، بل لا يعني إلاّ استدعاء المدعى عليه وطلب البينة من المدعي، ثم مع فقدها إحلاف المنكر ثم المدعي إن نكل، فسماعها إنما هو نوع من (الفحص) أو مقدمة له، ومن الواضح عدم المنافاة بين حجية ظن وبين كون فعليتها متفرعة على الفحص عن المعارض أو الحاكم والوارد والمخصص، ألا ترى العام رغم حجيته متوقفة حجيته الفعلية على الفحص عن المخصص وشبهه.
وأما قوله: (ولزم أن يقضى بالشاهد الواحد...) فيعلم جوابه مما سبق، إضافة إلى أن ردع الشارع عن العمل بظن معين مما لا إشكال فيه، وقد ردع هنا لحصره بالشاهدين.
وبعبارة أخرى: إن عدم العمل بهذا الظن قد يكون لعدم المقتضي، وقد يكون لوجود المانع، ولا يكون الأعم دليل الأخص،فتدبر جيداً.
هذا، ويحتمل في كلام المرحوم النراقي (قدس سره) احتمال آخر، لكن لا يلائمه التمثيل بالتقية، كما لا يصح سوق التقية والشهادة بعصى واحدة، كما لا يلائمة التصريح بالنيابة مناب الحكم الواقعي، فليدقق.
ص: 131
هذا، ويؤيد الطريقية، بل يدل عليها في باب الشهادة العديد من القيود والشروط المعتبرة في حجيتها في لسان الروايات.
ولنختم الكلام إذ طال بنا المقام، ولربما ذكرنا تفصيل ذلك وموارد أخرى عديدة دالة على أصالة الطريقية في المجلد الثاني من الكتاب بمناسبة أخرى، والله المستعان.
ص: 132
ص: 133
ص: 134
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).(1)
ولا ريب في دلالتها على الرجحان، لكونها صفة من صفات المؤمنين(2)، ولكون (ما عند الله) لمن اتصف بهذه الصفة وما سبقها ولحقها، بل لبداهة أن المقام مقام المدح والثناء.
أما دلالتها على الوجوب، فتتوقف على إحدى وجوه على سبيل منع الخلو:
كون الأصل في ما يعدّ صفة للمؤمن أنه واجب التحصيل، لكون الصفة بمنزلة المعرِّف الذي ينتفي المعرَّف عند انتفائه، ولكونها جملة أسمية، وظاهرها
ص: 135
الاستقرار والثبوت، فتدل على كونها صفة ثابتة للمؤمنين، ولكون الظاهر هو ذلك، ولذا كان قوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(1)، دالاً على وجوب الإعراض عنه وحرمة اللغو عرفاً، إما لكونه إخباراً في مقام الإنشاء، أو لتوقف الفلاح عليه(2)، وكذا سائر الآيات، وأما عدم وجوب الخشوع في الصلاة فللدليل الخارجي، وإلاّ كان مقتضى القاعدة وجوبه.
وكان قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ)(3)، دالاً على الحرمة.
وكذا قوله تعالى: (وَالمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(4)، دالاً على وجوب التربص.
وكذا قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ... * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً * وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(5)، دالاً على الوجوب، وما علم استحبابه فذلك لقرينة من خارج.
وكذا قوله تعالى: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(6)، فتأمل.
ص: 136
ولكن قد يورد عليه:
أولاً: النقض بكثير من الصفات المذكورة في الآيات والرواياتالشريفة للمؤمن، وهي غير واجبة التحصيل، كالصبر والخشوع في الصلاة والاكتحال والتختم باليمين وغير ذلك، فلو سلم كون الأصل في ما عدّ صفة للمؤمن وجوب التحصيل فالمجاز الغالب يقتضي الاستحباب.
وثانياً: بأن الوجوب أو الحرمة فيها مستفادة من مناسبات الحكم والموضوع، أو المتعلق، أو ارتكاز المتشرعة، أو غير ذلك، لا من صرف وقوعها وصفاً وصفةً.
وثالثاً: الحل، بأن الإيمان درجات، ولكل درجة صفات وعلائم، فأصل الإيمان واجب التحصيل وكذا صفاته غير المنفكة عنه أو مطلقاً، فتأمل، أما كمال الإيمان فلا، ولا يعلم كون هذه الصفة المذكورة في الآية الشريفة صفة أصل أم صفة كمال، فلا يمكن الالتزام بالوجوب مع الشك في موضوعه، وأيضاً: فإن كون الشيء صفة ثابتة للمؤمنين أعم من الوجوب والاستحباب.
ويمكن الإجابة عن الأول: بأنه لا مجاز أصلاً(1)، بل صرف الغلبة(2)، وعلى تقديره فيمكن الإجابة بنظير(3) ما أجابوا به من ادعى عدم ظهور الأمر في
ص: 137
الوجوب، لكون الندب مجازاً غالباً، فإن مجرد الغلبة لا تسبب الخروج عن الأصل في الموارد المشكوكة ما لم تبلغ حد النقل، أو التكافؤ والإجمال، ولو سلمت الغلبة في الروايات فلا تسلم في الآيات.
وعن الثالث: بكون الأصل أن تكون الصفة صفة الأصل لا صفة الكمال.
أو يقال بأن الشك في العنوان والمحصل، فاللازم الاحتياط بتحقيق تلك الصفة، وفيه نقاش صغرىً وكبرىً فتدبر.
وعن الثاني: بأن الاستدلال لم يكن بالاستقراء ليجاب بوجودوجوه أخرى، بل بالأصل لو تمّ، فلا بد من جواب آخر كالأول والثالث، إذ لا مانعة جمع بين الأصل لو تمّ وتلك الوجوه، فتأمل.
ص: 138
دلالة السياق على الوجوب، بأن يكون ما سبق وما لحق للوجوب، فيكون قرينة على وجوب المتوسط، قال تعالى: (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).(1)
ويرد عليه:
أولاً: إن ذلك مبني على حجية قرينة السياق، لكن المشهور العدم، فلا تعدو كونها مؤيداً، إلاّ أن تعضد بمناسبات الحكم والموضوع وشبهها.
ثانياً: لا سياق، إذ أن بعضها للاستحباب، كالتوكل والغفران والإنفاق.
وفيه: إمكان أن يقال بالوجوب في الجملة، أو في بعض المراتب.
اللهم إلا أن يقال بالشهرة على الاستحباب.
وفيه: إنها في بعض المراتب الأخرى، وفي بعض الصور، فتدبر
قال السيد الوالد (دام ظله): (وثانياً: التوكل قسمان، واجب ومستحب، فإن إيكال الأمر إلى الله سبحانه وتعالى فيما ليس من صنع الإنسان من لوازم
ص: 139
الإيمان، وقد ورد في الآيات والروايات الأمر بذلك، وألمعنا إليه في (الفقه: الواجبات والمحرمات) أماالغفران في قبال الاسترسال في المعاصي من جهة الغضب - كما هي عادة كثير من الناس حيث إنهم إذا غضبوا فعلوا المحرم بالنسبة إلى المغضوب عليه - فواجب، نعم لا يجب بالنسبة إلى القدر المحتاج إليه مما أشار إليه سبحانه بقوله: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(1)، وقوله تعالى: (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ)....).(2)، والإنفاق أيضاً على قسمين، فالواجب منه كالزكاة والخمس وشبههما، والمستحب غيره.
ولكن قد يناقش: بأن التوكل إذا كان على قسمين كان (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) مبهماً مردداً بينهما، أو كان لمطلق الرجحان فلا يتم كون السياق للوجوب، ولا يندفع ما ذكره بقوله: (ولا يستشكل بأن التوكل وغفران الذنب ليسا واجبين)(3)، نعم جوابه الأول تام.
اللهم إلاّ أن يقال بعدم إضرار استثناء فقرة أو فقرتين أو أكثر، بكون السياق للوجوب أو مع الغلبة أو المساواة أو المقاربة، أو يقال بكون ما سبق ولحق مما هو ظاهر في الوجوب قرينة على كون (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) من القسم الأول وهو (الواجب)، أو يقال بما ذكرناه من دلالة الآية عرفاً على وجوب المذكورات فيها، ومنها التوكل مطلقاً، خرج ما خرج منه بالدليل، فليتأمل.
ثم إن دلالة قرينة خارجية على كون بعض الفقرات للاستحباب لا يخرج سائر الفقرات عن ظاهرها، كما التزموا بذلك في أوامر متعددة قام الدليل الخارجي على كونها ما عدا واحداً للاستحباب، فلا يخرج ذلك الواحد عن
ص: 140
ظاهره بذلك، خاصة مع سبق هذه الفقرة بالصلاة ولحوقها بالزكاة الواجبتين، لكنه موقوف على ثبوت الظهور، فتدبر.
دلالة الآية الشريفة على أن ما عند الله خير ثابت فقط لمن تجمعت فيهم الصفات التالية، ومنها: الشورى في أمرهم، فمن لم تتوفر فيه تلك الصفات لم تكن (الخيرية من الله) له، فتدل على وجوب توفير تلك الصفات بأجمعها.
ويرد عليه: إنه ليس كل خير واجب التحصيل ومحرم الترك، وليس كل ما عند الله كذلك، فتأمل.
ثم إنه لا يخفى دلالة الآية على مطلوبية الشورى، سواء قبل الوصول للحكم أم بعده؛ لكون الآية مطلقة.
وأما ما ذكره في المجمع: (وقيل: إن المعني بالآية هم الأنصار، كانوا إذا أرادوا أمراً قبل الإسلام وقبل قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) اجتمعوا وتشاوروا ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك، وقيل: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وورود النقباء عليه حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له)(1)، فلا ينفي دلالتها على مطلوبية مطلق الشورى، لكون المورد لا يخصص الوارد، وكون ذلك من قبيل المصداق فلاحظ، هذا لو لم نقل بظهورها في كونها إخباراً في مقام الإنشاء، كما سيأتي.
وقال في الصافي: (ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تيقظهم في الأمور).(2)
وأما ما قاله القمي: (يشاورون الإمام فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم) فلا ريب في أنه تفسير بالمصداق أو أجلى المصاديق، إذ لا ريب في عمومية الآية، خاصة مع وجود كلمة (بينهم)، إضافة إلى إمكان القول بعدم صدق (أمرهم شورى بينهم) على ما لو كان التشاور من طرف واحد، فتأمل.
إضافة إلى أن تخصيص (أمرهم) بأمر دينهم، فيما لو أريد خصوص المحمولات الشرعية بلا مخصص، كما سيأتي.
ص: 142
كما لا يخفى دلالتها على عمومية مطلوبيتها في كافة الشؤون، لكون (أمر) مفرداً مضافاً، وهو مفيد للعموم أو الإطلاق، مثل قوله (عليه السلام): (كلامكم نور وأمركم رشد)(1)، أو قولنا: (أمره التقوى أو التواضع).
قال في المسالك: (إن جعلنا المفرد المضاف مفيداً للعموم كما هو رأي المحققين من الأصوليين كما أشرنا إليه سابقاً)(2).
وقال في الجواهر مثله.(3)
ويستثنى منه كلما لم يكن من شأنه المشورة فيه، ككثير من صغائر الأمور، وكثير من الأعمال اليومية.
ص: 143
وربما يعترض على لزوم اتباع الأكثرية بالآيات الشريفة الواردة في ذم الأكثرية، وكونها جاهلة غير عالمة، مثل قوله تعالى: (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1).
وقوله سبحانه: (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(2).
وقوله تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(3).
وقوله سبحانه: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(4).
وقوله تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).(5)
* والجواب من وجوه:
ص: 144
أولاً: إن الآيات الشريفة صغرى لكبرى يضمها المستدل إليها لتنتج المقصود، والكبرى هي (والذين لا يعلمون لا يجوز اتباعهم)(1)، وحينئذٍ نقول: إن أكثرية شورى الفقهاء وأكثرية أهل الخبرة خارجة خروجاً موضوعياً عن الكبرى، ومحمولياً عن الصغرى، إذ لا يصح القول بأن الأصوليين ممن لا يعلمون الأصول، أو الفقهاء ممن لا يعرفون الفقه، أو الأطباء ممن يجهلون الطب.
ولا تنافي بين كون أكثرية الناس لا يعلمون، وكون أكثرية أهل الخبرة فيما هم خبراء فيه ممن يعلمون، ولا تلازم بينهما، فلا يدل أحدهما على الآخر، ولذا لو قال: أكثر الناس لا يعرفون الصلاة، صح أن يقول: ولكن أكثرية المتدينين يعرفونها، أو أكثرية الناس لا تعرف الطب ولكن أكثرية الأطباء بل كلهم يعرفون الطب، وفي الآيات الشريفة لو فرض أن معنى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون الحق، لم يناف القول ب- (أما أكثرية علماء المسلمين بل كلهم فيعلمون الحق) في قبال الكفار، أو (أكثرية علماء الشيعة يعلمون الحق) في قبال أهل العامة.
ولأجل ما ذكرناه من كون أكثرية أهل الخبرة ممن يعلمون، لا ممن لا يعلمون، قال (عليه السلام): (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(2).
ص: 145
ولا تنافي - كما بيناه - بين الإرجاع لما انتخبته الأكثرية في هذهالرواية، وبين كون الأكثرية مذمومة في الآيات، لكون الأكثرية المذمومة هي الأكثرية الجاهلة، والممدوحة هي الأكثرية العالمة، لأن أكثرية أهل الخبرة هي ممن تعلم لا ممن لاتعلم.
وثانياً: إن ذم اتباع الأكثرية معلل في بعض الآيات، فيدور الحكم مدار العلة وجوداً وعدماً، قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)(1)، فقد بيّن جل وعلا علة كون إطاعة الأكثرية مضلة بكونهم يتبعون الظن(2)، فلو كانت الأكثرية - كأكثرية الفقهاء - متبعة للعلم والعلمي أي الظن المعتبر، لما كانت مضلة، فاتباع الأكثرية الظن غير المعتبر شرعاً وعقلاً هو سبب ضلالها وإضلالها، دون ما لو اتبعت الظن المعتبر وما جعله الشارع حجة، والمفروض أن أكثرية شورى الفقهاء - لفرض كونهم عدولاً جامعين للشرائط - يتبعون اجتهاداتهم عن الطرق المجعولة شرعاً، ولذا نجد أن أتباع أكثرية الشيعة في قولهم بعصمة المعصومين الأربعة عشر يعدّ هادياً لا مضلاً، لكونه اتباعاً للعلم أو للعلمي(3)، لا للظن غير المعتبر.
ص: 146
وكذا قوله تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(1)، فإنه دال على مذمومية اتباع الأكثرية للظن غير المعتبر، فلو اتبعوا الظن المعتبر لما كان ذم إطلاقاً، كما أن في اتباع الفقيه الواحد لا ذم، بل الموجود هو المدح فقط، مع أن الفقيه كسائرالخبراء والمتخصصين يعتمد الظواهر والظنون النوعية.
قال السيد الوالد (دام ظله): (... إن الله لم يذم الأكثرية مطلقاً، بل ذمهم في زمان كون الأكثرية منحرفة عن سبيل الله، ولذا لم يكن الأمر كذلك فيما إذا كانت أكثرية نسبية، كما في (سبيل المؤمنين) إذا ذهبوا إلى شيء، أو كان أكثرية مطلقة، إذا كل أهل الأرض مؤمنين كما في زمان الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكما في زمان نوح (عليه السلام) بعد نجاته من السفينة حيث لم يبق إلاّ المؤمنون)(2).
فالقضية خارجية أو حينية شرطية، لا مطلقة حقيقية، بدلالة العقل، لا من باب مخصصية المورد للوارد.
وقد يعترض بأنه إذا علم بكون الأكثرية على الحق أو على الباطل فلا كلام، وليس هذا محل النزاع، أما لو جهل فإن مفاد الآية أن الأكثرية لا يتبعون إلاّ الظن غير المعتبر فليس رأيهم حجة.
والجواب: إن مرجع الضمير في (أكثرهم) و(أكثر الناس) واضح محدد، وهو أكثرية الكفار والمشركين وشبههم، ولا ريب في عدم إرادة (أكثر علماء الشيعة) أو (أكثر علماء المسلمين بما فيهم علماء الشيعة)، على أن مرجع الضمير لو جهل لما تم الإطلاق أبداً.
ص: 147
ثالثاً: إن الآيات مختصة بشؤون العقائد وشبهها، وهي المتعلقة ل: (لا يعلمون)، مثلاً قوله تعالى: (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1)، أي لا يعلمون كون الله غالباً على أمره(2)، وكذا قوله تعالى: (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3)، أي لايعلمون أن ذلك هو الدين القيم، وكذا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(4).
قال الطوسي (قدس سره) في التبيان: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون: صحته وصدقه لجهلهم بالله وجحدهم نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله)، و: ذلك الدين القيم ولكن أكثر لا يعلمون: صحة ما أقوله لعدولهم عن الحق والنظر والاستدلال، و: ولكن أكثر الناس لا يعلمون: صحة ذلك لكفرهم وجحدهم أنبياءه).
وقال في الميزان: (غير أن المشركين أكثرهم - ولعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم ويتعلقون بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها).(5)
وقال الفخر الرازي: (قال أصحابنا: المراد يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره، وقالت المعتزلة: المراد أنهم جهلوا أنهم يبقون كفاراً عند ظهور
ص: 148
الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك)(1).
ويؤيد الاختصاص قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(2).
وقوله سبحانه: (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(3).
وقوله تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(4).
فهي غير مرتبطة بالموضوعات الخارجية والشؤون العامة مما يرتبط بإدارة الدولة ظاهراً.
وكذا قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْسَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(5) قال الفخر الرازي: (المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلاّ الظن وهم خراصون كذابون في إدعاء القطع، وكثير من المفسرين يقولون: المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلاً).(6)
وقوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ
ص: 149
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1).
وكذا الآية 17 من سورة هود، وسيأتي ذكرها.
وقوله سبحانه: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(2).
وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3).
وقوله سبحانه: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(4).
وقوله تعالى: (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(5).وكذا الآية 30 من سورة الروم، وكذا الآية 28 من سورة سبأ، وغير ذلك من الموارد فلتراجع.
كما أن مرجع الضمير في كثير من الآيات إنما هو لأهل الكتاب من الأمم السابقة، أو غيرهم، أو غير ذلك مما يتعلق بشؤون العقائد، كقوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(6).
ص: 150
وقوله سبحانه: (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(1).
وقوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(2).
وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(3).
وقوله تعالى: (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ * وَما وَجَدْنا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى...).(4)
وقوله سبحانه: (فَإِذا جاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(5).
وقوله تعالى: (وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لايَعْلَمُونَ)(6).
ص: 151
وقوله سبحانه: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(1).
وقوله تعالى: (أَلا إِنَّ للهِ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(2).
وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(3).
وقوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(4).
وقوله سبحانه: (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(5).
وقوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(6).
ص: 152
وقوله سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ).(1)ولنقف على هذا العدد وعلى غرار ذلك سائر الآيات الشريفة، فراجع سورة الفرقان: الآيات 41-44 و50، والشعراء: الآيات 1-8 والآية 68 مع ملاحظة ما سبقها ولحقها، وكذا الآية 103، وكذا 121، وكذا 139، وكذا 158، وكذا 174، وكذا 190، وكذا 223، وكذا سورة النمل: الآية 61، والقصص: الآية 13 و57، وسورة الروم: الآية 42، وسورة سبأ: 41، ويس: 7، والصافات: 71، إلى غير ذلك من الموارد، فلتراجع.
ص: 153
رابعاً: ما ذكره لي بعض كبار أساتذة بحث الخارج: من أن هذه الآيات لا إطلاق فيها، لعدم كونها في مقام البيان حسب مبناه (دام ظله) من أن مطلقات القرآن ليست في مقام البيان، بل في مقام أصل التشريع أو شبهه، فتأمل.
خامساً: ما ذكره لي أيضاً أستاذ آخر من كبار أساتذة الخارج: من أن الآيات ذكرت أن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يصدق (أكثر الناس)، وهو الموضوع في الآية على أكثرية الفقهاء أو أكثرية الأطباء مثلاً، فهل يقال لأكثرية الفقهاء أكثر الناس، أو أكثرية البشرية أو ما أشبه؟ فالخروج موضوعي حسب نظره، خاصة إذا لاحظنا أن أكثر الفقهاء مثلاً لا يشكلون واحداً بالمائة ألف من الناس، فكيف يصدق عليهم أكثر الناس؟ إنما الصادق قسيمه.
ومرجع هذا الجواب إلى الجواب الأول، فتدبر.
ص: 154
الآيات مخصصة بمثل (سبيل المؤمنين)
سادساً: إنها مخصّصة بمثل (سبيل المؤمنين) في قوله تعالى: (وَيَتَّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ)(1)، ومثل (خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ)(2)، ولكن ذلك بناء على أن المراد ب- (سبيل المؤمنين) الأعم من السبيل الذي عليه مشهورهم أو أكثرهم.
لكن قد يقال: بأن المراد به السبيل الثبوتي الواقعي، ولا يعلم أن سبيل أكثرهم هو هو.
وقد يجاب: بأن الموضوعات والمتعلقات الثبوتية لا طريق إليها إلاّ الحجج، ومنها الشهرة بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وقول أكثر الفقهاء بأمر.
وقد يردّ - إضافة إلى الإشكال في المبنى -: بأن المرتكز في الأذهان من (سبيل المؤمنين) ما هم عليه من أصول الدين والمذهب، ولا يعم الرأي في الأحكام الشرعية، فكيف بالشؤون العامة، فتأمل.
وتحقيق المراد بالآية قد نتطرق له في بحث لاحق إذا وفقنا الله تعالى.
ص: 155
ص: 156
مع التطرق للعديد من الإشكالات والأجوبة عنها
ص: 157
ص: 158
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم:
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1).
ربما يستدل بهذه الآية الكريمة على وجوب الاستشارة في الأمور التي تتعلق بالأمة والشؤون العامة، بل وعلى وجوب الاستشارة في كل أمر يتعلق بمجموعة مما يعدّ أمراً لهم، بل وعلى وجوب الشورى والعمل برأي المشيرين أو أكثريتهم فيما عدّ من أمورهم، إما استناداً إلى الآية الكريمة بمفردها، أو بضميمة الروايات الكثيرة الدالة على لزوم (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) مما أفردنا له فصلاً خاصاً من فصول الكتاب.
ثم إنه إذا ثبت وجوب الاستشارة، ثبتت حرمة المنع، ووجوب ردع المانع، ووجوب السعي والطلب وشبهه، مما طرحناه في فصل آخر.
وإذا تمّ الاستدلال على إحدى تلك المسائل أفاد وجوب الاستشارة، ووجوب الشورى على المتصدين للشؤون العامة وأمور الأمة، سواءً أكانوا فقهاء أم غيرهم.
فإذا كنا من القائلين بولاية الفقيه العامة، أفاد الاستدلال بالآية أو
ص: 159
نظائرها(1) مما سبق أو يأتي، أن على الفقيه الاستشارة من سائر الفقهاء والخبراء، بل ومن عامة الأمة، عبر السبل والطرق المختلفة، في شؤون الحكم والأمور العامة، بنحو الوجوب، بل وجب عليهالعمل برأي أكثرية شورى الفقهاء وأكثرية الخبراء من أهل الحل والعقد، وأكثرية الناس بما يصدق عليه بالحمل الشايع الصناعي: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2)، إذا تمت دعوى صحة سلب (كونهِ شاوَرَهم) إذا خالف مقتضى مشورة أكثريتهم، أو تم الاستدلال بالآية الأخرى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(3)، أو تم الاستدلال بالآية بضميمة روايات: (أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ أَطَاعَ الْعُقَلاء)(4)، و: (اسْتَشِرِ الْعَاقِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْوَرِعَ فَإِنَّهُ لا يَأْمُرُ إِلاّ بِخَيْرٍ وَإِيَّاكَ وَالْخِلافَ فَإِنَّ خِلافَ الْوَرِعِ الْعَاقِلِ مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا)(5)، وغيرها مما سيأتي في فصل الأحكام السبعة.
كما أنه سيأتي أن وجه وجوب العمل بالأكثرية حينئذٍ مع القول بولاية الفقيه العامة هو حكومة أدلة الشورى والاستشارة على أدلة الولاية.
واما إذا لم نكن ممن يرى ولاية الفقيه، فإن الآية تفيد وجوب الاستشارة والمشورة والشورى على كل متصدٍ للحكم بالحق، كما لو كانوا عدول المؤمنين، أو كانوا ممن رضيت أكثرية الناس بحكومتهم، على المسالك المختلفة.
بل يستفاد أيضاً وجوب الاستشارة والمشورة على المتصدي للحكم بالباطل، بالأولوية، أو لبداهة تعدد المطلوب في كونه حاكماً بالحق وباجتماع الشروط فيه، وكونه حاكماً بالمشورة والشورى لا الاستبداد.
ص: 160
وتفصيل البحث عن ذلك بمناقشاته يتم ضمن التطرق للإشكالات التي أوردت أو يمكن أن تورد على الاستدلال بهذه الآية الكريمة، فنقول وبالله نستعين:
ربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الاستشارة ووجوب اتباع الأكثرية: بعدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بمبدأي الاستشارة والاتباع، مما يستكشف منه ب- (برهان الإنّ) عدم وجوبها عليه، وإلاّ لما تركها في أحيان كثيرة، فلا مناص من ارتكاب التجوز بحمل الأمر على الاستحباب، لأجل هذه القرينة المقامية، لكون فعل المعصوم (عليه السلام) حجة فيصلح صارفاً للأمر عن معناه الحقيقي.
وإذا لم يستفد من هذه الآية وجوب الاستشارة والشورى على الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يستفد منها وبطريق أولى وجوبها على الآخرين، لكون النبي (صلى الله عليه وآله) مخاطباً بها، فإذا وجبت على الآخرين دونه لزم خروج المورد وتخصيصه، وهو قبيح لا يجوز على الحكيم ارتكابه.
ويمكن الجواب بوجوه عديدة:
ص: 161
الدليل قائم على عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى في العديد من الشؤون العامة(1)، وقد وردت بذلك روايات عديدة.
وهذه الروايات وغيرها مما سيأتي يمكن إثبات حجيتها بإثبات تواتر مضمونها، أو بإثبات تواترها الإجمالي، وإلاّ فلا تكون أكثر من روايات مستفيضة نقلها الأصحاب، فلا تتعدى كونها مؤيدة لا دليلاً.
نعم يمكن تصحيح أكثر الروايات التي نقلناها في هذا الباب، باعتبار ذكرها في تفسير علي بن إبراهيم القمي (قدس سره) على بعض المسالك الرجالية.
قال في معجم رجال الحديث: ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم الذين روى عنهم في تفسيره، مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، فقد قال في مقدمة تفسيره: (ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا
ص: 162
من مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم)، فإن في هذا الكلام دلالة ظاهرة على أنهلا يروى في كتابه هذا إلاّ عن ثقة، بل استفاد صاحب الوسائل في الفائدة السادسة - في كتابه في ذكر شهادة جمع كثير من علمائنا بصحة الكتب المذكورة وأمثالها وتواترها وثبوتها عن مؤلفيها وثبوت أحاديثها عن أهل بيت العصمة عليهم الصلاة والسلام - إن كل من وقع في أسناد روايات علي بن إبراهيم المنتهية إلى المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) قد شهد علي بن إبراهيم بوثاقته، قال: (وقد شهد علي بن إبراهيم أيضاً بثبوت أحاديث تفسيره وأنها مروية عن الثقات عن الأئمة عليهم الصلاة والسلام).
أقول: إن ما استفاده (قدس سره) في محله، فإن علي بن إبراهيم يريد بما ذكره إثبات صحة تفسيره، وأن رواياته ثابتة وصادرة عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم بلا واسطة كما زعمه بعضهم).(1)
أقول: الظاهر من عبارة علي بن إبراهيم أمران:
ألف: إن كل ما ذكره وأخبر به في كتابه قد انتهى إليه من مشايخه الثقات، سواء ذكر سلسلة السند أم لا، لمكان الاطلاق، إذ لم يقيد توثيق مشايخه الذين روى عنهم بالمذكور اسمه في كتابه، ولذا قال البعض بأن مراسيله كالصحاح.
ب: إن إخباراته كلها تنتهي إلى المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وقد استفاد ذلك صاحب الوسائل أيضاً على ما يظهر من عباراته، اللهم إلا أن يكون مراده بالأحاديث المعنى الاصطلاحي لا اللغوي، وفيه: أنه تقييد لعبارة القمي بدون جهة، إذ قد عبّر (قدس سره): (ذاكرون ومخبرون)، فتأمل.
ص: 163
وعلى هذا فلا موجب لتخصيص التوثيق بمسانيده دون مراسيله، مع ظهور عبارته في توثيق الكل، هذا كبرى.
وأما صغرى: فروايات الاستشارة المنقولة في كتابه المذكور ههنا، إن كانت من تتمة ما نقله بسنده كانت صحيحة بلا إشكال،لكونها مسانيد قد ذكر مشايخه فيها، وإن كانت كلاماً مستقلاً كانت مراسيل، واحتجنا في إثبات صحتها إلى هذه المقدمة التي قدمناها.
ولتحقيق حال الصغرى لا بأس بالتطرق إلى كل واحدة واحدة منها(1):
فأما الرواية المذكورة في ضمن تفسير سورة الأنفال ص258 من الجزء الأول، فقد ذكر في أول السورة ص254: (فحدثني أبي عن فضالة بن أيوب، عن أبان بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال (عليه السلام): .. وقال: نزلت يوم بدر...)، فإن كان (وقال) تكملة كلام أبي عبد الله (عليه السلام)، وكذا (فإنها نزلت...)، وكذا (... فقال (كما أخرج)...) كانت الرواية مسندة، والرواة موثقين توثيقاً خاصاً في الكتب الرجالية، وعاماً بتوثيق علي بن إبراهيم، وإلا كانت مرسلة، واحتجنا إلى تلك المقدمة لإثبات حجيتها.
وأما الرواية الأخرى المذكورة ضمن تفسير سورة الأحزاب ص177 من الجزء الثاني، فالظاهر إرسالها.
وأما رواية: (لما قتل (صلى الله عليه وآله) النضر بن حارث..) المذكورة في ج2 ص270، فالكلام فيها هو الكلام في الأولى.
وأما الرواية المذكورة ضمن تفسير سورة آل عمران ج1 ص126،
ص: 164
فكالثانية.
وأما الرواية المذكورة في ج1 ص126، فكالثانية أيضاً.
والمذكورة في ص270 وهي كالأولى.
والظاهر للملاحظ أن هذه الروايات كلها من تفسير علي بن إبراهيم، وليست من روايات تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن قاسم بن حمزة بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ويمكن توضح ذلك أكثر بمراجعة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة): الجزء الرابع ص304 - 305، ذيل الحديث عن تفسير القمي، حيث ذكر الضابط في التفريق بين تفسير علي بن إبراهيم وبين ما نقله تلميذه، فليراجعمع إشارته ص308 إلى عدم قصور تفسير أبي الجارود في الاعتبار عن تفسير علي بن إبراهيم، هذا.
ويمكن تصحيح هذه الروايات حتى مع قطع النظر عن شمول توثيق علي بن إبراهيم لها، وكذا غيرها، إذ لنا أن نلتزم بصحة المراسيل في القضايا التاريخية بل مطلقاً إن روى ذلك الثقة، مع عدم إحراز كونه ممن يروى عن الضعفاء بحيث يخلّ بالوثوق النوعي، لبناء العقلاء على ذلك.
ألا ترى كافة العقلاء من كل الأديان في كل الأزمان يستندون في أكثر رواياتهم التاريخية إلى قول الثقة في ذلك الموضوع، مع كونها مراسيل عادةً، بحيث لو دعاهم داع إلى تركها وعدم الاعتماد عليها عدّوه بعيداً عن الصواب، خارجاً عن ديدن العقلاء وسيرتهم، وذلك بشرط عدم المعارض، ومنه ما يوهن
ص: 165
المضمون، وكلاهما جارٍ في المسانيد أيضاً(1).
وفي خصوص المسلمين نجد كثرة الاعتماد من الشيعة والسنة على كتب التفسير والتاريخ في بيان شأن نزول الآية وتأويلها وقصص القرآن، وكذا في بيان حالات المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وقصصهم ومحاجتهم وغير ذلك، يرشد إلى ذلك الذهن العرفي الفطري الخالي عن تشكيكات بعض الأصوليين والرجاليين.
إن بناء العقلاء وسيرتهم وارتكازهم على ذلك.ولذلك قال في تنقيح المقال(2): (الرابعة: قد نص الشهيد (رحمه الله) في غاية المراد بأن مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة معتمدة، وأقول: أراد بالثقات من وثقوه ولم ينصوا بأنه يروي عن الضعفاء وحينئذٍ فتعتدل جملة من المراسيل لعدم قصور هذه الشهادة من التوثيقات الرجالية فلا تذهل).
وسبب عدم القصور مع كون ذلك اجتهاداً من الشهيد (رحمه الله) رجوعه إلى بناء العقلاء وشبهه، وإلاّ فليس حدس المجتهد حجة لغيره.
ولعل المتتبع يعثر على موارد عديدة اعتمد فيها الفقهاء والأصوليون على أقوال بعض المفسرين ومراسيلهم:
منها ما ذكره في الرسائل حيث قال(3): (ويرد عليه أولاً: إن الاستدلال إن كان بظاهر الآية فظاهرها بمقتضى السياق إرادة علماء أهل الكتاب، كما عن ابن
ص: 166
عباس ومجاهد والحسن وقتادة)، فتأمل.
ويمكن تأييد المدعى بما نقله الشيخ الأعظم (قدس سره) عن جمهور الأصوليين بقوله في الرسائل(1): (بل حكي هذا القول عن جمهور الأصوليين معللين ذلك بأن الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغني عنه بحكم العقل)، وذلك القول هو تقديم الناقل على المقرر، لأقوائية الظن الحاصل من رواية الثقة الذي لا يروي عن الضعفاء عادةً من الظن الحاصل بهذه الغلبة، فتأمل.
هذا، كما أن لمن يرى حجية قول اللغوي دون اعتبار العدالة أن يلتزم بحجية ما ذكر.
هذا، وسيأتي منّا إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب بحث مفصل حول حجية ما ذكر، مع التطرق إلى أدلة منكري ومثبتي حجية قول اللغوي، وكذا الشهرة ونقضها وإبرامها بالمقدار الذي ينفع في بحثنا هذا، فلينتظر والله المستعان.
وسنذكر ههنا بعض الروايات الواردة حول عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى مما أشرنا إليه إجمالاً، مع التطرق لمدى دلالتها على المدعى:
ص: 167
ما ورد في قصة بدر الكبرى(1): بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عيناً له على العير اسمه عدي، فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره أين فارق العير، نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بنفير المشركين من مكة، فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزّت، ولم نخرج على أهبة الحرب.
وفي حديث أبي حمزة، قال أبو بكر: أنا عالم بهذا الطريق، فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على بدر يوم كذا وكذا، كأنا فرسان رهان.
فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس فجلس، ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو
ص: 168
إسرائيل لموسى (عليه السلام): (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون)(1) ولكنا نقول: (امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون).
فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً على قوله ذلك، ثم قال:(أشيروا عليّ أيها الناس)، وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع آباءنا ونساءنا، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ماشئت وأترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله أن يريك ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة، ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: سيروا على بركة الله، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرحيل وخرج إلى بدر وهو بئر ...
ص: 169
ما ذكره في الإرشاد(1) في غزوة الأحزاب: (فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتماع الأحزاب عليه وقوة عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فأجمع رأيهم على المقام بالمدينة، وحرب القوم إن جاؤوا إليهم على أنقابها).
ما ذكره في تفسير القمي(2) في غزوة الأحزاب أيضاً: (فلم يزل يسير معهم حي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه وعباس بن مرداس في بني سليم، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان: يا
ص: 170
رسول الله إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة، قال: فما نصنع؟ قال: نحفر خندقاً يكونبيننا وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم من المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة، فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أشار بصواب...).
ما ذكره في الإرشاد في غزوة الأحزاب أيضاً(1): وأقبلت الأحزاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهال المسلمين أمرهم وارتاعوا من كثرتهم وجمعهم، فنزلوا في ناحية من الخندق وأقاموا بمكانهم بضعاً وعشرين يوماً وليلة، لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصي، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضعف قلوب أكثر المسلمين من حصارهم لهم، ووهنهم في حربهم، بعث إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان يدعوهما إلى صلحه والكف عنه والرجوع بقومهما عن حربه، على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة، واستشار سعد بن عبادة فيما بعث به إلى عيينة والحارث، فقال: يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به، لأن الله أمرك فيه بما صنعت، والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي، فقال (صلى الله عليه وآله): (لم يأتني وحي به ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس
ص: 171
واحدة وجاؤوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)، فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعرف الله ولا نعبده ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلاّ قرى أو بيعاً، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما بنا إلى هذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه فإن الله تعالى لم يخذل نبيه ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده).
وسنذكر في طي صفحات الكتاب مواضع أخرى استشار فيها النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه فأعطوه أصواتهم، وفوضوا إليه الأمر تارة، ولم يفعلوا ذلك، فعمل (صلى الله عليه وآله) بآرائهم رغم علمه (صلى الله عليه وآله) بخطئهم تارة أخرى.
إن قلت: لعل استشارته (صلى الله عليه وآله) وكذا عمله برأي الأكثرية كان من باب الاضطرار، كي لا يخالفوه وكي يجلب ودّهم ومحبتهم، ولتوقعهم ذلك منه حسب عاداتهم، كما قيل في تعليل: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1)، ويؤيده ما جاء في خبر أبي حمزة: (فكان صلى الله عليه وآله يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة...)، وما جاء من: (ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: سيروا).
ص: 172
قلت: أولاً: العمل لا جهة له من حيث الاضطرار وعدمه، وأصالة عدم الاضطرار محكمة، فلا يقتصر في التزام الإباحة بالمعنى الأعم على صورة تحقق وجوده، والتخوف أعم من الاضطرار ومن عدم إطاعتهم له، فتأمل.
ثانياً: الأصل في قول وفعل وتقرير المعصوم (عليه السلام) الحجية ولزوم الإتباع، من غير حاجة إلى نفي احتمال مثل الاضطرار بالأصل، فتأمل.
كون ذلك منه (صلى الله عليه وآله) اضطراراً للجهات المذكورة مع لحاظ وجودها في غيره، بل بشكل أقوى وأولى، يستلزم ثبوت الحكم موجبة كلية، إذ لا يخلو ظرف من ذلك في الشؤون العامة.
وفيه: إن ملاكات الأحكام ليست بأيدينا، وإن ما ذكر داخل في مباحث (مقاصد الشريعة) و(تنقيح المناط) فتأمل(1).
وبناءً عليه نقول: بكفاية الموجبة الجزئية في رفع السالبة الكلية، وهي عدم
ص: 173
جواز اتباع الفقيه لرأي الغير، بل يكفي وضوح أن الاضطرار من العناوين الثانوية الحاكمة على الأولية، وقد فصلنا الحديث عن هذا في موضع آخر.
وقد يورد على الأولين: بدلالة القرائن المقامية على خلاف الأصل، ولكن على المدعي الإثبات، وعلى تقديره فهو غير ضار بتمسكنا بالآية الشريفة كما فصلناه، فليراجع.
والأولى في الجواب أن يقال: إن الظاهر من الرواية أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو الخروج، لكنه (صلى الله عليه وآله) لم يعمل به إلاّ بعد استشارة الناس واستقرار رأي الأكثرية على الظاهر من إرادته (صلى الله عليه وآله) الخروج وطلب العير وحرب النفير، وذلك لقرائن عديدة في نفس الرواية:
منها: أنه (صلى الله عليه وآله) أمر أبا بكر وعمر بالجلوس عندما أبديا التحذر والتثبيط، وجزى مقداد خيراً عندما أبدى التأهب والاستعداد لكل تضحية.
ومنها: (فكان صلى الله عليه وآله يتخوف ... وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة).
ومنها: (ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله).
ومع ذلك لم يقدم (صلى الله عليه وآله) إلا بعد الاستشارة، وإشارة الأكثرية بذلك.
ولكن قد يورد عليه: إن عدم إقدامه (صلى الله عليه وآله) على حسب مقتضى نظره (وهو الخروج) أعم من المدعى، إذ قد يكون عدم الإقدام قبلهما(1)
ص: 174
اضطراراً، وقد يكون لوجوبهما أو الأول منهما، فلا يمكن الاستدلال بذلك على أحد الوجهين إلاّ بضميمة مثل أن الظاهر أن ذلك كان امتثالاً ل: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْر)(1) أو ما هو بمنزلته فتأمل، كما أن عمله (صلى الله عليه وآله) بعدها على طبقها في العديد من الروايات المذكورة قد يكون استناداً إليهما وقد يكون لا كذلك.
وقد يستدل للإشكال السابق: بصحيحة أو موثقة علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن ابن سنان(2)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قضية صلح الحديبية: (... فلما أكثروا عليه قال: إنلم تقبلوا الصلح فحاربوهم، فمروا نحو قريش وهم مستعدون للحرب وحملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) هزيمة قبيحة ومروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا علي خذ السيف واستقبل قريشاً، فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) سيفه وحمل على قريش، فلما نظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) تراجعوا وقالوا: يا علي بدا لمحمد فيما أعطانا، قال: لا، فرجع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستحيين وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل الله
ص: 175
فيكم (إذ تستغيثون...)(1)... فاعتذروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وندموا على ما كان منهم وقالوا: الله أعلم ورسوله فاصنع ما بدا لك).(2)
وفيه: إن هذه الرواية إن دلت على اضطراره (صلى الله عليه وآله) لقبول رأي القوم وثبت كونهم الأكثرية(3)، لما أفادت إلاّ عمله على طبق رأي الأكثرية أو الأقلية في هذا المورد اضطراراً، ولا تصلح دليلاً على أنه كلما عمل برأي الأكثرية المخالفة لرأيه كان اضطراراً.
هذا، إضافة إلى أنه لا يعلم كون ذلك عملاً برأيهم من باب الاضطرار أو غيره، بل الظاهر أنه كان تعجيزاً لهم، ولو كان (صلى الله عليه وآله) عاملاً برأيهم لجهز كل الجيش وأمر علياً (عليه السلام) بالاشتراك معهم في الهجوم، إضافة إلى ظهور قول علي (عليه السلام): (لا) في جواب سؤالهم: (يا علي بدا لمحمد فيما أعطانا)، في ذلك فيكون المورد من صغريات عدم عمله بالأكثرية، فيدخل في الشق الآتي مع أجوبته الخمسة باستثناء الرابع والخامس، فتأمل.
كما أنه يمكن الاستدلال بها على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية لإجابته (صلى الله عليه وآله) إلى الصلح في حادثة الحديبية دون استشارته أصحابه، حيث ورد: (فوافوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا محمد إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وأمر العرب، على أن ترجع من عامك هذا، فإن العرب قد تسامعه بمسيرك، فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلتنا العرب واجترأت
ص: 176
علينا، ونخلي لك البيت في القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنا، فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك، وقالوا له: وترد إلينا كل ما جاءك من رجالنا ونرد إليك من جاءنا من رجالك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من جائكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه، ولكن على أن المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام)، فقبلوا ذلك، فلما أجابهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الصلح أنكر عليه عامة أصحابه).(1)
أما عن الشق الثاني:
فأولاً: ما سيأتي من الجواب الثالث من عدم مجال للشورى والاستشارة فيما ورد فيه نص من الباري جل وعلا، وذلك قطعي إما للانصراف أو للتخصيص، والمقام صغرى هذه الكبرى لعدة قرائن وأدلة:
ألف: ما ذكره المفيد (قدس سره) في الإرشاد: (ولما رأى سُهيل بن عمرو توجه الأمر عليهم ضرع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك، وأن يجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) كاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطه).(2)
ص: 177
ب: ما ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره: (ونزلت في بيعة الرضوان: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)(1)، اشترط عليهم أن لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً يفعله ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به)(2)، وسيأتي استثناء ما أوحى به الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) وكلِّ ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أمر به من باب ولايته (صلى الله عليه وآله) من وجوب الاستشارة والشورى.
ج: ما ذكره أيضاً في قوله: (الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء)(3)، هم الذين أنكروا الصلح واتهموا رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4) الظاهر في علمهم بأن قرار الصلح من الباري عز وجل، ولذا عبّر ب(الظانين بالله) لا ب(الظانين برسوله) فتأمل.
ولعل المتتبع يجد قرائن أخرى على ما ذكرناه.
وثانياً وثالثاً: ما سيأتي من الجواب الرابع والخامس استنتاج عدم وجوب الشورى عليه (صلى الله عليه وآله) وعلى غيره، من عدم عمله (صلى الله عليه وآله) في هذا المورد وشبهه برأي الأكثرية وعدم استشارته لها.
ورابعاً: قد يقال بكون إجابته (صلى الله عليه وآله) للصلح غير منجزيته له، وما عليه (صلى الله عليه وآله) الاستشارة فيه صورةالمنجزية لا ما يسبقها من الحديث والتفاوض، والذي يدل على الصغرى وأنه لم يكن للصلح قبل التوقيع والكتابة
ص: 178
اعتبار في مرحلة منجزيته وفعليته، ما ورد: (.. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنا لم نقض (أو لم نرض) بالكتاب بعد)(1) فتأمل.
وخامساً: لقد أجاز (صلى الله عليه وآله) للأكثرية باتباع رأيها كما سبق من (إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم...)، فتأمل.
إن قلت: ما الدليل على عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من حيث هي هي، ولأنها حجة حتى في الموارد التي عمل (صلى الله عليه وآله) على طبقها، إذ قد يكون عمله (صلى الله عليه وآله) على طبقها لا استناداً إليها، بل لموافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) ولعلمه بمطابقتها للواقع في تلك الصور، فلا يدل عمله على طبقها على حجيتها حال الجهل بمطابقتها للواقع، فكيف بحال الاطمينان العرفي - الحاصل للفقيه مثلاً - بمخالفتها للواقع.
بل إن عمله (صلى الله عليه وآله) بها حال موافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) لايدل على حجيتها حتى في هذه الصورة أيضاً، إذ يكون عمله حينئذٍ برأيه (صلى الله عليه وآله) لا برأي الأكثرية وإن كانت على وفقه، إذ أن مطابقة غير الحجة للحجة لا يوجب صيرورتها حجة، وذلك كما لو طابق القياس والاستحسان إحدى الحجج، بأن دل الخبر على شيء ووافقه القياس، فهل يستلزم ذلك حجية القياس؟ وكذلك مطابقة مجهول الحجية (علماً بأن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية - حيث لا نعلم أن عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى في تلك
ص: 179
الموارد من حيث هي هي لتكون حجة، أو لا) لمعلوم الحجية فإنه لا يصيره حجة، كما لو طابقت الشهرة أو الإجماع المنقول الكتاب أوالسنة في مسألة أو في مسائل عديدة - كما هو كذلك - أيدل ذلك على حجيتهما؟ فالعمل على طبق شيء غير العمل بالشيء.
ومما يشهد لكون عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى في موارد عمله على طبقها إنما كان من باب موافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) وأن عمله كان على طبقها لا بها، ما ورد في الحديث السابق: (فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال أشار بصواب)، ومما يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله): (الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه)، و: (ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله).
قلت: أولاً: ظاهر تلك الروايات عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى واستناد عمله (صلى الله عليه وآله) إليها حيث ورد: (فأشار سلمان الفارسي (رحمه الله) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخندق فأمر بحفره)، حيث إن الفاء للتفريع، فقد فرع أمره (صلى الله عليه وآله) بحفر الخندق على إشارة سلمان، علماً بأن الأكثرية الساحقة أيدت أطروحة سلمان، حتى قال بعضهم: هذه والله حيلة فارسية، ومن الواضح أن أمره (صلى الله عليه وآله) لا يتفرع على الباطل وما ليس بحجة، إلا أن يقال: بأن الأصل في الفاء الترتيب لا التفريع، ولا ظهور في غيره، فتأمل(1).
ص: 180
وورد: (... واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان... فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال أشار بصواب، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحفره من ناحية أحد إلى راتج)، حيث ظاهر (الفاء) التفريع، وظاهره الاستناد، ألا ترى أن الإمام (عليه السلام) لو قاس أمامه قائس فقال: (القياس يقتضي كونالأصبع الرابعة للمرأة كسائر الأصابع) فقال عليه السلام فرضاً: (فحكمي هو أن الدية أربعون) أفلم يكن هذا الكلام المصدر بفاء التفريع والمطابق للقياس دليلاً على حجية القياس واستناده في حكمه إليه؟
هذا، ولكن الظاهر التفرع في الرواية الثانية على قول جبرئيل، نعم في رواية الثمالي (رحمه الله) المذيلة بفاء التفريع: (ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله) تفرع أمره بالسير على إشارة(1) الأصحاب، حيث انعقدت الأكثرية على طلب العير وحرب النفير، إذ وافق الأنصار على ذلك وهم أكثر الناس كما ورد: (ثم قال أشيروا عليّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم)، ولقد كان رأي سعد تجسيداً لرأي كافة الأنصار لكونه رئيسهم، وكون حالتهم حالة قبلية، كما لا يخفى على من راجع التاريخ.
ثم إن ما ذكر بأكمله جواب الشق الثاني من الإشكال: (بل إن علمه...) ويمكن جعله جواباً للشق الأول أيضاً بعدم القول بالفصل بين (صحة الاستناد إليها حال العلم بمطابقتها للواقع) وبين (صحة الاستناد إليها حال الجهل به)، فإن من أوجب أو صحح الاستناد إليها أوجبه أو صححه مطلقاً، ومن حرّم حرّم مطلقاً، ويتضح هذا مما سبق من أن (الاستناد) لللاحجة غير واقع شرعاً، ولا صحيح ولا نافع حتى لو طابق الحجة، إذ لو طابقها كان الاستناد إليها لا إليه،
ص: 181
فإذا استند النبي (صلى الله عليه وآله) للشورى حال مطابقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) كانت حجة مطلقاً، للإجماع المركب.
إذا صح الاستناد للشورى حال المطابقة لرأيه (صلى الله عليه وآله) وحال العلم بالمطابقة للواقع، صح الاستناد إليها حال الجهلبالمطابقة للواقع، وحال الظن الشخصي بالخلاف أيضاً، ألا ترى أن خبر الواحد إن صح الاستناد إليه مع العلم بمطابقته للواقع، صح مع الجهل ومع الظن بالخلاف، لإناطة حجيته بالظن النواعي الثابت حتى مع الظن بالخلاف.
وفيه: أن الشورى وكذا خبر الواحد إذا علمنا بمطابقتها الواقع فهما حينئذٍ حجة ذاتية، لمكان العلم، وفي الواقع الحجة هو ذلك العلم لا غير، وهذا لا يستلزم حجيتهما مع الجهل، إذ الحجة الذاتية مفقودة، والحجية الجعلية في الشورى لا دليل عليها.
ويمكن دفع الإشكال: بالتفريق بين صورتين بوجه لا يخلو من دقة، وهو: بأن الشورى مثلاً، لو أفادت العلم بالواقع كانت حجة ذاتاً، وصح الاستناد إليها، ولكن لم ينتج ذلك حجيتها في غير صورة إفادة العلم، أما لو أفاد العلم بالواقع شيء آخر وطابقته الشورى أو أي ظن آخر لم يثبت اعتباره حتى الآن، فهل يصح الاستناد إلى ذلك الظن غير المعتبر لصرف تطابق مضمونه مع ما أفاد العلم؟ كلا: إذ تطابق مضمون ما ليس بحجة مع ما هو حجة لا يصيّره حجة.
وهنا نقول: لو شاهدنا الاستناد والحال هذه كشف ذلك (إنّاً) عن الحجية، وكونه ظناً معتبراً المستلزم لحجيته مطلقاً.
وللتوضيح نقول: لو أفاد القياس العلم كان حجة ذاتاً، لمكان العلم، وفي
ص: 182
الواقع الحجة هو ذلك العلم، أما لو أفاد التواتر أو الكتاب الحكم قطعاً وطابقه القياس فلا يكون هذا القياس حجة، بل الحجة هو ذاك، ولا يصح الاستناد إليه، أي للقياس بل المستند هو ذاك.
والسبب أن الحجية لا تسري من موضوع (مفيد العلم أو الظن المعتبر) إلى موضوع آخر (كالقياس وكالوهم)، فلا يصح الاستناد إلى القياس إذاً، أترى يصح القول بأن (الوهم) حجة لمطابقته (الظن النوعي)، كما لو قام خبر على شيء وحصل للفقيه الظن الشخصي بالخلاف، (وكلامنا بناءً عدم تقيد حجية الخبر بعدم ظن شخصي على الخلاف) كما هو المشهور، مما يعني أن (وهمه) على الوفاق، أفهل يصح جعل هذا الوهم مستنداً ودليلاً، بأن يقول الفقيه: ومن الأدلة الوهم الحاصل على كذا، لأن هذا الوهم مطابق للدليل وللظن المعتبر؟! وهل ترى يصح القول (توهم الفقيه فأمر بكذا) أم يقال:(قام خبر واحد عنده على كذا مثلاً، فأمر به)؟!، فلو ثبت استناد الشارع والحال هذه، إلى أمر دل على حجيته.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن علم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالواقع لم يكن مستنداً لكلام الناس ولانعقاد رأي الأكثرية، ومع ذلك فظاهر الرواية استناده في عمله إلى رأي الأكثرية، فيمكننا ببرهان (الإنّ) اكتشاف حجية الشورى من صحة الاستناد إليها، بل فعلية استناد النبي (صلى الله عليه وآله) إليها، ولو لم تكن حجة لما استند إليها، ولما فرع أمره عليها وإن طابق مضمونها الحجة، وهي رأيه (صلى الله عليه وآله).
فالمدار كل المدار على (الاستناد) و(التفريع)، فتأمل.
ص: 183
وثانياً: ظاهر خبر الإرشاد: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يرى رأياً آخر، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله) وقف عند رأي الشورى، عندما رآها ترتئي غير رأيه (صلى الله عليه وآله)، بل ذلك صريح الخبر: (.. بعث إلى قائدي غطفان يدعوهما إلى صلحه... فاستشار سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي)، فقال (صلى الله عليه وآله): (لم يأتني وحي به، ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال سعد... فقال (صلى الله عليه وآله): الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه) .
فرأي النبي (صلى الله عليه وآله): (ولكني رأيت)، لكنه عدل عنه إلى رأي الأكثرية حيث كان سعد ينطق باسمها، وقد عبّر عن رأيها: (قد كنا نحن وهؤلاء القوم...) وأوصاهم بالسير على طبق رأيهم: (فكونوا على ما أنتم عليه).
وثالثاً: سلمنا، لكن هنالك روايات أُخر صريحة في عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية رغم علمه بخطئهم وعدم مطابقتها للواقع(1).
ص: 184
ما ورد في تفسير آية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(1).
ففي كتاب علي بن إبراهيم(2): (لما قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) النضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، قالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك، أتجذ أصلهم، فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآيات، فأطلق لهم ذلك وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، وأقله ألف درهم...
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فيه المشركين والأثخان في القتل أحدب إلينا من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم وأضرب أعناقهم، ومكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان أضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال أبو
ص: 185
بكر: أهلك وقومك استأن بهم واستبقهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وقال أبو جعفر الباقر (عليهما السلام) كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية، والأوقية أربعون مثقالاً).
وجاء في الخرائج(1): (من معجزاته (صلى الله عليه وآله) أنه لما كانت وقعة بدر قتل المسلمون من قريش سبعين رجلاً وأسروا منهم سبعين، فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل الأسارى وحرق الغنائم، فقال جماعة من المهاجرين: إن الأسارى هم قومك وقد قتلنا منهم سبعيناً، فأطلق لنا أن نأخذ الفداء من الأسارى والغنائم فنقوى بها على جهادنا، فأوحى الله إليه: إن لم تقتلوا يقتل منكم في العام المقبل في مثل هذا اليوم عدد الأسارى، فأنزل الله: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا)(2)، فلما كان في العام المقبل وقُتل من المسلمين سبعون بعدد الأسارى قالوا: يا رسول الله قد وعدتنا النصر فما هذا الذي وقع بنا؟ ونسوا الشط ببدر فأنزل الله: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يعني ما كانوا أصابوا من قريش ببدر وقبلوا الفداء من الأسرى (قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(3) يعني بالشرط الذي شرطوه على أنفسهم أن يقتل منهم بعدد الأسارى إذا هو أطلق لهم الفداء منهم والغنائم فكان الحال في ذلك على حكم الشرط).
وجاء في تفسير القمي(4) ذيل الآية الكريمة: (فلما دخلوا المدينة قال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا
ص: 186
النصر؟ فأنزل الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ)(1) الآية، وذلك أن يوم بدر قُتل من قريش سبعون، وأسر منهم سبعون، وكان الحكم في الأسارى القتل، فقامت الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله هبهم لنا ولا تقتلهم حتى نفاديهم، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء أن يأخذوا من هؤلاء ويطلقوهم على أن يستشهد منهم في عام قابل بقدر مايأخذون منه الفداء، فأخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الشرط فقالوا: قد رضينا به نأخذ العام الفداء من هؤلاء ونتقوى به ويقتل منها في عام قابل بعدد من نأخذ منهم الفداء وندخل الجنة، فأخذوا منهم الفداء وأطلقوهم، فلما كان في هذا اليوم وهو يوم أُحُد قُتل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعون، فقالوا: يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا النصر؟ فأنزل الله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) إلى قوله: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) بما اشترطتم يوم بدر).
وقال الطوسي (قدس سره) في التبيان(2) ذيل الآية: (والمعنى: ما كان لنبي أن يحبس كافراً للفداء والمنّ حتى يثخن في الأرض... وقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) يعني تريدون الفداء.. وهذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر الإسلام، فلما كثر المسلمون قال تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(3).
وقال في مجمع البيان في ذيل الآية ما يقارب ذلك فراجع.
وقال الطباطبائي في الميزان في ذيل الآية(4) (وقد اختلف المفسرون في تفسير الآيات بعد اتفاقهم على أنها إنما نزلت بعد وقعة بدر تعاتب أهل بدر وتبيح لهم
ص: 187
الغنائم).
أما تفاسير العامة فقد روى أكثرهم هذه الرواية: (... فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، أو ما يقرب منها: (أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة).(1)
فمع أن الرسول (صلى الله عليه وآله) (حكم بقتل الأسارى وحرف الغنائم) كما في الخرائج، و(كان الحكم في الأسارى القتل) كما فيتفسير القمي، و (كره أخذ الفداء) كما في تفسيره أيضاً، مع ذلك نزل (صلى الله عليه وآله) عند رأي الأكثرية حيث (خافت الأنصار أن يقتل الأسارى) وقالوا: (فخذ يا رسول الله منهم الفداء فلما طلبوا ذلك وسألوه نزلت: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى)(2) فأطلق لهم ذلك) - كما مر في الخرائج - و(فقامت الأنصار فقالوا: يا رسول الله هبهم لنا ولا تقتلهم حتى نفاديهم، فنزل جبرائيل فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء..) كما مر في تفسير القمي.
وقد اتضح من هذا البيان أنه (صلى الله عليه وآله) نزل - بإذن الله - على رأي الأكثرية مع مخالفتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) وللحكم الإلهي الأولي في الحادثة، ومن الواضح أن رأيه وأن حكم الله هو الصائب. وإن أخذ الفداء بدل الاثخان سبب ضرراً عظيماً عليهم، بل لعله كاد يسبب زوال الإسلام، ولذا (لما كان يوم أحُد وقُتل من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) سبعون، قالوا: يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا وقد كنتَ تعدنا النصر)، فأنزل الله(3): (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
ص: 188
قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها)، وهما سبعون قتيلاً من المشركين ببدر وفداء سبعين أيضاً (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) من أين ورد هذا البلاء العظيم علينا في هذه الحرب، حرب أحُد، (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1)، فأنتم السبب في حلوله بكم لاختياركم الفداء في حرب بدر...).
إن قلت: لعل الرسول (صلى الله عليه وآله) عمل برأي الأكثرية ههنا - رغم مخالفتها للواقع وللحكم الوارد في الحادثة - من باب الاضطرار وخوف الفتنة، فعمله بها كان بالعنوان الثانوي لا الأولي؟
قلت: كلا، إذ مضافاً إلى ما سبق وإلى ظهور (فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء...) - كما في تفسير القمي - في الإباحة بالعنوان الأولي لا الثانوي الاضطراري، كظهور (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(2) الواردة بعد اقتراب بعض الشباب سراً إلى زوجاتهم في ليالي شهر رمضان، في الحلية بالعنوان الأولي لا الثانوي.
مضافاً إلى ذلك: يدل على عدم كون عمله برأيها للاضطرار أن أكثرية الأصحاب عند ما رأت كراهة النبي (صلى الله عليه وآله) لأخذ الفداء، فوضوا الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله) كما مر في رواية علي بن إبراهيم(3): (وروي أن النبي صلى
ص: 189
الله عليه وآله كره أخذ الفداء...)(1)، ومع تفويضهم الأمر له (صلى الله عليه وآله) هل يبقى اضطرار أو أي عنوان ثانوي آخر؟ فعمله برأيهم الواقعي - إذ أن طلبهم الإثخان فيما بعد كان احتراماً للنبي (صلى الله عليه وآله) ونزولاً عند رغبته - ولا اضطرار، دليل على صحة اتباع الأكثرية وإن خالف رأيها الواقع في الموضوعات المستنبط والشؤون العامة، والحاصل اندراج الأمر في باب التزاحم والأهم والمهم، فتأمل.
إن قلت: تحليل الله أخذ الفداء فيما بعد أعم من (حلية الشورى والعمل بالأكثرية على خلاف الحكم في الموضوع المستنبط)، إذ لا مانعة جمع بين تحليله سبحانه وتعالى له وحرمتها، كما أن تحليله الرفث إلى النساء ليلة الصيام فيما بعد لا يعني حلية ما ارتكبه الشباب قبل نزول آية الحل، إذ أن عملهم كان حراماً بلا شك، فنزول الحكم على طبق رأي الأكثرية لا يستلزم جواز الشورى.
قلت: فرق بين الأمرين، إذ أن مخالفة الحكم محرمة لا طلب تغييره.
فالوطي مع التحريم محرم، أما طلب تحليله فليس بمحرم،وفيما نحن فيه لو كانت الأكثرية تخالف الحكم بأن لا تقتل الأسرى وبأن تأخذ الفداء خلافاً لحكم الله ورسوله، كانت قد فعلت محرماً، إذ لا شورى قبال النص، ولكنها طلبت تغيير الحكم، (.. فقال جماعة من المهاجرين: إن الأسارى هم قومك وقد قتلنا منهم سبعيناً فأطلق لنا أن نأخذ الفداء من الأسارى) كما مر في رواية الخرائج، فقد طلبوا تغيير الحكم (فاطلِق لنا...) أي اجعله طِلقاً جائزاً، ومر مثله أيضاً في خبر علي بن إبراهيم، (فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت (ما كانَ لِنَبِيٍّ)(2) فأطلق لهم ذلك)، وكذا في خبره الآخر: (فقالوا يا رسول الله هبهم لنا
ص: 190
ولاتقتلهم) واستجاب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لطلب الأكثرية بالشرط الذي قبلوه (على أن يستشهد منهم في القابل بقدر ما يأخذون من الفداء..) في تفسير القمي و (...(قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) يعني بالشرط الذي شرطوه على أنفسهم أن يقتل منهم بعدد الأسارى) في الخرائج، فأطلق لهم كل ذلك رغم أن طلبهم في غير محله، وكان الأصلح ما حكم به الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أولاً من الإثخان في الأرض.(2)
ولكن الظاهر عدم إمكان الاستدلال بهذه الآية الشريفة برواياتها على المدعى، إذ:
أولاً: إن ظاهر تلك الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله) حكمدون استشارة المسلمين في الأمر ودون إخبارهم بذلك، ولذا اعترض الكثيرون عليه (صلى الله عليه وآله) بعد صدور الحكم حيث ورد (فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله .... فقال جماعة)، و (كان الحكم... فقامت الأنصار).
ثانياً: إن رأي الأكثرية لو كان لازم الاتباع لما كان للاشتراط معنى ومحل، وظاهر تلك الروايات جعله (صلى الله عليه وآله) قبول اقتراحهم ورأيهم دائراً مدار
ص: 191
الشرط وجوداً وعدماً.
ثالثاً: إن استجابته جل وعلا لطلب الأكثرية غير دال على حجية رأيها وصحة اتباعه، ولا بنحو الموجبة الجزئية، إذ هو كما لو استجاب لطلب الأقلية، أو لطلب فرد واحد، مؤمن أو كافر، فاسق أو عادل، بشرط أو بدونه، ولله الولاية المطلقة، فكما له السلب له الإيجاب، وكما لا يدل الأول على عدم الحجية لنا لا يدل الثاني على ثبوتها في حقنا.
بل نقول ذلك بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) فاستجابتهم لطلب الأكثرية - لو فرض - لا يكون دليلاً على حجيتها، بل وجواز اتباعها موجبة جزئية، إذ لعله من باب الولاية فتأمل، إذ الأصل في فعل المعصوم (عليه السلام) كقوله وتقريره الحجية، والأصل عدم كونه من باب الولاية الخاصة.
ولا يخفى أن ذكرنا لموارد عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية في صدر البحث لم يكن لإثبات حجيتها ولزوم اتباعها استناداً إلى عمله (صلى الله عليه وآله) إذ العمل لا جهة له، والصغرى لا تنتج كبرى كلية، بل كان لدفع إشكال عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بمبدأ الاستشارة ومبدأ اتباع الأكثرية المستلزم - حسب الإشكال - لصرف الآية عن ظاهرها، فتأمل.
ص: 192
استشارته(1) (صلى الله عليه وآله) وعمله برأي الأكثرية رغم مخالفتها لرأيه في القضية التالية: (وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يومئذٍ سبعمائة والمشركين ألفين، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن استشار أصحابه، وكان رأيه (صلى الله عليه وآله) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمي الضعفاء من فوق البيوت، فأبوا إلاّ الخروج إليهم، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع، فقال: ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم).(2)
وقال الواقدي: (فقال (عليه السلام): أشيروا عليّ، ورأى أن لا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، يا رسول الله إن مدينتنا عذراء، ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو منها قط إلاّ أصاب منها، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناهم، فكان رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع رأيه، وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة، وقال رجال من أهل التيه وأهل السن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا
ص: 193
جرأة منهم علينا، فقال حمزة: والذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة، وكان يقول: كان حمزة يومالجمعة صائماً ويوم السبت صائماً فلاقاهم وهو صائم، وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ثم جاؤونا وقد قادوا الخيل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا فيجرّؤهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويضعوا الأرصاد والعيون علينا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو يكون الأخرى فهي الشهادة، لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني و رقّ عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله أن يرزقني الشهادة، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك، فقُتل بأحُد شهيداً، فقال كل منهم مثل ذلك، فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ثم صلّى العصر ولبس السلاح وخرج، وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي (صلى الله عليه وآله) خوفاً من تبييت المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا...).(1)
ص: 194
فرغم أن النبي (صلى الله عليه وآله) (رأى أن لا يخرج من المدينة)، و (فكان رأي رسول الله صلى الله عليه وآله مع رأيه)، و (كان رأيه صلى الله عليه وآله أن يقاتل الرجال على أفواه السكك...)، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله) اتبع رأي الأكثرية عندما خالفته، رغم أنه كان يرى في رأيها خطر الهزيمة، (فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة).
إن قلت: كان رأي الأكثرية موافقاً له (صلى الله عليه وآله) إذ (وكانذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار)؟
قلت: لعله يستظهر أن الأكثرية كانت في الجانب المخالف (فأبوا إلا الخروج إليهم)، (فقام فتيان أحداث...)، و(قال رجال من أهل التيه والسن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج)، الظاهرة في أن الأكثرية الساحقة للأوس والخزرج كانت ترى الخروج من المدينة، (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...)، و (فقال كل منهم مثل ذلك فقال صلى الله عليه وآله: إني أخلاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج...).
فقوله: (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار) إما محمول على مجموعة منهم، كخمسة أو عشرة مثلاً منهم، كعلي (عليه السلام) من هذا الجانب، وعبد الله بن أبيّ من ذلك الجانب، وآخر من الجانب الثالث، حيث يطلق على تركيبة من هذا القبيل (الأكابر)، وفيه ما لا يخفى.
وأما أن رأي (الأكابر...) تغير عندما رأوا حماسة الشباب من جانب، وعزيمة وإصرار أهل السن من جانب آخر، وحججهم القوية من جانب ثالث، (وقال الرجال من أهل التيه وأهل السن... إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا) و (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...) و.. الخ.
ص: 195
ومن الواضح رغم كل الأدلة، أن رأي الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الأرجح والمطابق للواقع، وقد انكشف هذا (أي قول الرسول (صلى الله عليه وآله): إني أخاف عليكم الهزيمة) للأصحاب، حيث هزموا هزيمة كبيرة، وقُتل الكثير منهم، منهم حمزة (عليه السلام)، وكاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقتل لولا التدخل الإلهي الخارجي الإعجازي وبطولات أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، ولذا نجدهم في غزوة الأحزاب أجمعت على اتباع رأي النبي (صلى الله عليه وآله) من البقاء في المدينة.
وقد ورد في بيان شأن نزول آية (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍقَدِيرٌ)(1)، أقوال:
منها: (إن ذلك مخالفتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخروج من المدينة للقتال يوم أحُد، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها)(2)،(3).
وليس الاستشهاد ب (شأن نزول هذه الآية) حتى يقال: إنه مختلف فيه(4)، بل الاستشهاد بما أجمعوا على القول به: (وكان النبي صلى الله عليه وآله دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها) فتأمل، إذ قد يكون (وكان النبي صلى الله عليه وآله) من تتمة هذا القول، لا تتمة ناقل الأقوال.
ص: 196
إن قلت: كل الموارد المذكورة مختصة بالحرب وشؤونه، ففي أول مورد استشارهم (صلى الله عليه وآله) في أصل محاربة قريش: (فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير...)، وكذا استشارته (صلى الله عليه وآله) في أمر الخندق، وفي أمر المقام بالمدينة أو الخروج منها في غزوة الأحزاب، وهكذا.. ومن الواضح أن (الأفعال) ليس لها (إطلاق) أو (عموم) لتدل على حكم عام، وليس لها معقد لفظي يستدل بإطلاقه أو عمومه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استشارة النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه المواضع دون غيرها يكون قرينة على أن (شاورهم)(1) مختصة بشؤون الحرب؟
قلت(2): لو كان الاستدلال بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وجوب الاستشارة مطلقاً، تمّ ما ذكر من عدم عموم له، ولكن الاستدلال إنما هو بالآية الكريمة، وبإطلاق (الأمر) فيها، والمفرد المحلى يفيد الإطلاق أو العموم، كما سيجيء مفصلاً، فهو ك(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(3) المفيد للعموم، وذكر فعله (صلى الله عليه وآله) واستشارته في موارد عديدة إنما كان لدفع إشكال أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يعمل بالشورى فيستكشف منه (إنّاً) عدم وجوبها عليه بنحو الإطلاق... إلخ، فتأمل.
هذا، إضافة إلى إمكان (تنقيح المناط)، إذ كل ملاك يوجد في شؤون
ص: 197
الحرب مجوز للعمل برأي الأكثرية على خلاف رأي القائد، يوجد في سائر الموضوعات المستنبطة، (كالمعاهدات الدولية وأشباهها) خاصة إذا كانت الشورى في الحرب حجة مع علم النبي(صلى الله عليه وآله) بمخالفتها للواقع مع ما يترتب على اتباعها من الأضرار الكبيرة (كما في الخروج من المدينة في غزوة أحُد) بل قد تدعى الأولوية القطعية، لكون الدماء هي أصعب في نظر الإسلام من بقية الموضوعات، فإذا ثبت حكم فيها ثبت في غيرها بالأولوية القطيعة، فتأمل.
ص: 198
وأما ما ذكر من: (ومن جهة أخرى فإن استشارة..).
ففيه: إنه ينحل إلى شقين: استشارته (صلى الله عليه وآله) في هذه المواضع، وعدم استشارته في غيرها.
فيرد عليه: إنه لا يكون قرينة على عدم وجوب الشورى إلاّ في هذه الموارد، إذ من المسلم(1) أن المتخالفين بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد يخصص ويقيد أحدهما بالآخر، ك- (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً العالم) عكس المثبتين، إذ لا تخالف وتنافي ولا بدوي بينها عرفاً، ولذا تجد أنه لا تنافي بين الروايتين الشريفتين:
(لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه) (2).
و: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه) (3).
قال المحقق الآشتياني (قدس سره) في بحر الفوائد: (لا إشكال فيما أفاده (قدس سره) من إناطة الاستصحاب على الأخبار على مجرد عدم العلم في مورده، من غير فرق بين حصول الظن بأحد الطرفين وعدمه، ولا كلام في ذلك عند أكثر القائلين به من باب الأخبار، لحصر ناقض اليقين في الأخبار في اليقين، والنهي
ص: 199
عن النقض بالشك في بعضها لا يعارضه)(1).
والسر في قوله: (لا يعارضه) هو ما ذكرناه من أنهما مثبتان (لا تنقض اليقين بالشك) و(لا تنقض اليقين)، أي لا تنقض اليقين بالشك وبالظن على الخلاف، أي بمطلق عدم اليقين على الخلاف، هذا لو لم نقل بكون الظاهر منه (أي من الشك) خلاف اليقين بقرينة المقابلة، فتأمل.
ثم حتى لو سلمنا التنافي في المثبتين فدلالة العام أو المطلق مقدمة إذ اللقب (زيداً في المثال) وما يمنزلته، كالحادثة المعينة التي استشار فيها (صلى الله عليه وآله) في ما نحن فيه، لا مفهوم له، وحتى لو قلنا بالمفهوم له أو أن المورد (في الشورى) من قبيل مفهوم الوصف وقلنا بحجيته فرضاً، فعند التعارض يقدم المنطوق على المفهوم بشهادة العرف.
بل يمكن التزام عدم انعقاد مفهوم أصلاً مع وجود العام، كما التزم الشيخ (قدس سره) بنظيره في بحث خبر الواحد في آية النبأ، من عدم انعقاد مفهوم للجملة الشرطية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(2) مع عموم التعليل، إذ يدور الأمر بين تخصيصه وبين رفع اليد عن المفهوم، ولا شك أن الثاني أولى عرفاً، فتأمل.
وهو (عدم استشارته في غيرها)، فالجواب عنه ما سيأتي مفصلاً من الجواب الثاني والثالث والرابع عن الشبهة الأصلية.
ص: 200
إن قلت: الرواية دالة في ذيلها على مخالفته (صلى الله عليه وآله) للأكثرية، (قالوا: نرجع، قال: ما كن لنبي...).
قلت: قد ذكرنا في موضع آخر أن الشورى واتباع الأكثرية إنما هي فيما لم يرد فيه حكم من الله، والظاهر وروده ههنا، (ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم)، وذلك إما للانصراف أو للتخصيص، وأحدهما(1) على سبيل البدل قطعي.
إن قلت: الظاهر اضطراره للخروج حيث ورد (فأبوا إلاّ الخروج إليهم)، (فلما أبوا إلاّ الخروج).
قلت: الظاهر بقرينة خبر علي بن إبراهيم السابق وقرائن أخرى كثيرة أن الأصحاب كانوا ينقادون لكلام النبي (صلى الله عليه وآله) رغم مخالفته لآرائهم، إن لم يقبل منهم كلامهم - إلاّ في النادر - فلم يكن هنالك اضطرار لهذه ظاهراً، فتأمل.
إن قلت: لقد عنفهم الله على ذلك: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(2).
قلت: التعنيف كان لأجل أخذ الأسرى(3) مع كون الحكم فيهم القتل،
ص: 201
وقد سبق حرمة مخالفة الأكثرية للنص، وحرمة اتباع رأي الأكثرية قبال النص، أو فيما لا يحق لهم التصرف قبل وروده، أو كان لأجل المعارضة بعد نزول الحكم.
ولا دليل على الردع عن (مطلق الشورى)، والردع عن المتفصل بفصل خاص (كالشورى بعد النص) لا يكون ردعاً عن الجنس، كما هو واضح، غاية الأمر أن يكون (الردع عن الشورى بعد النص) مخصصاً لعموم (شاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1)، هذا إن لم نقل بالانصراف أو بالتخصص والخروج الموضوعي لمواضع ورود النص عن دائرة الشورى المطلوبة للمولى.(2)
إن قلت: ربما استشهد (صلى الله عليه وآله) وخفي علينا استشهاده.
قلت: أولاً: أصالة العدم محكمة، وليس هذا أصلاً مثبتاً، إذ الأثر (وهو صحة اتباع الشورى) ليس أثراً لهذا الأصل، بل هو أثر اتباع النبي (صلى الله عليه وآله) لرأي الأكثرية خارجاً، وتقريره لها وفعله على طبقها، وهذا الأصل يرفع المانع فليس مثبتاً، وذلك كما أن أصالة عدم التخصيص والتقييد والتجوّز - الجارية بعد الفحص عن قرينة المجاز - حجة ولا تعد مثبتة، لأن الأثر أثر المقتضي (وهو العموم والإطلاق مثلاً)، والأصل يرفع المانع فقط، فيترتب على المقتضي أثره.
ومن الثابت في محله أن رفع المانع ليس جزء المقتضي إذ الشرط - ومنه عدم
ص: 202
المانع - متمم فاعلية الفاعل أو قابلية القابل لا غير.
ثانياً: سلمنا، لكن نقول: حتى لو عدمنا الأصل، إن المورد - لو صحّ كلام المستشكل بأنه (صلى الله عليه وآله) اتبع رأي الأكثرية ليثبت بطلانها - لأهميته ينطبق عليه أنه مما لو كان لبان، إذ ورود تصريح من النبي (صلى الله عليه وآله) بالردع عن الشورى مع ارتكازها في أذهانهم (حسب زعم المستشكل إذ هذا ملزوم أن تكون بحيث لم يمكنه الردع عنها إلاّ بعد إثبات خطأها عملياً) ومع كونها عام الابتلاء، لا يمكن عدم وصوله إلينا.
وإن شئت قلت: بناء العقلاء في موارد كهذه على العدم، ألا ترى أنهم يبنون على عدم وجود شرط زائد في الصلاة رغم احتمال وجوده عقلاً(1)، إذ أن عدم ثبوت نص بعد الفحص مع أهمية المورد - والشورى وعدمها هامة لعمومية تأثير نتائجها على كل الأفراد، ولانسحابها على كل الموضوعات المستنبطة - دليل عقلائي على العدم.
إن قلت: لعله (صلى الله عليه وآله) اكتفى بالردع العملي.
قلت: أولاً: الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، ولا يكفي الوقوع في التهلكة باتباع مؤداها في عدم حجيتها ثبوتاً ولا إثباتاً، فإن غالب الظنون النوعية قد تؤدي للهلكة أحياناً كالظن الناشيء من قول الطبيب بأن علاج هذا المرض كذا وكذا، فلا يكون مجرد الوقوع في الخطأ رادعاً ليقال بالاكتفاء بالردع العملي، نعم قد يكون كذلك في الجملة.
ثانياً: إضافة إلى عدم كفايته في الرادعية - على تقدير تسليم أصل رادعيته - عن ما هو مرتكز للناس بشدة.
ثالثاً: لو سلم كلا الأمرين السابقين فإنما نلتزم بكون الردع العملي رادعاً
ص: 203
عن اتباع رأي الأكثرية في خصوص صورة معارضتها لنص كلام النبي (صلى الله عليه وآله) لا غير لكون المورد هو ذاك وعدم وجود جهة إطلاق للعمل.
رابعاً: إضافة إلى أن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله) لرأي الأكثرية لو كان لإثبات بطلانها لما مدح الله المؤمنين بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(1)، ولما أمر نبيه ب(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2).
إن قلت: إن المدح على (الشورى) إذا طابقت الواقع؟
قلت: أولاً: القيد منفي بالإطلاق(3).
ولو ادعي عدم الإطلاق لعدم تمامية مقدمات الحكمة، لعدم كون المولى في مقام البيان.
قلنا: إنه منقوض بكل المطلقات، فمثلاً (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(4)، و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(5)، و(تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(6).. إلخ، يجري فيها الإشكال بعينه، والجواب الجواب.
ص: 204
والأولى أن يقال: إن وزان (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(1) وزان ما لو قال (أمرهم اتباع المجتهد العادل) الدال على حجية رأي المجتهد مطلقاً، علم بالمطابقة أو لا، وكذا (شاوِرْهُمْ)(2) وزانه وزان (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(3)، و(اسأل أهل الخبرة) الدال على حجيته من باب الظن النوعي، فتأمل.
إضافة إلى أن التقييد بهذا القيد (إذا طابقت الواقع) مردد بين غير الممكن للمكلف عادة، وبين غير الممكن وقوعاً باستحالته من الحكيم، إذ المقصود منه: إما المطابقة للواقع في علم الله، وإما المطابقة له باعتقاد كل أو أحد أعضاء الشورى أو الخارج عنها، وإما المطابقة للواقع بنظر الأكثر.
فإن كان الأول، فهو غير مقدور، إذ معرفة المطابقة له في علم الله غير مقدور للمكلف عادة، فيكون مطلوبية الشورى بهذا القيد لغواً.
وإن كان الثاني بشقوقه الثلاثة،فيلزم نقض الغرض، إذ لو اشترط في حسن الشورى ومطلوبيتها مطابقتها للواقع باعتقاد كل أعضاء الشورى لزم الحمل على الفرد النادر،أو باعتقادهم جميعاً وباعتقاد كل الخارجين عنها أيضاً لزم الحمل على ما لا تحقق له ظاهراً أبداً،اللهم إلاّ الأندر من النادر،فيلزم أن لا تكون حسنة على الإطلاق(4) لتخالف الاعتقادات، وهذا خلف.
ولو اشترط في حسن اتباعها مطابقتها للواقع في اعتقاد بعض دون بعض، لزم الترجيح بلا مرجح(5)، أو بما يوجب النزاع دائماً، ولزم نقض الغرض
ص: 205
والتهافت(1)، فيتعين الثالث قهراً.
أما (التهافت): فقد اتضح في موضع آخر أن حسن الشورى من باب الطريقية للواقع (أو مع الموضوعية جميعاً) كما يشهد بذلك الروايات: (ما ضل من استشار) (2)، و (من استبد برأيه هلك)(3) كما فصلناه في موضع آخر فراجع، فلو لم يجب أو لم يحسن اتباعها إلاّ عند الظن الشخصي بالوفاق، أو عند عدم الظن الشخصي بالخلاف لزم تقديم الظن الشخصي - فيما لم يكن علمي على الخلاف وإلاّ وقع التعارض بينه وبينها - على رأي الشورى، مع أن المستفاد من روايات الشورى كونها حجة من باب الظن النوعي وأقربيته اللواقع من الرأي الشخصي، بل والنوعي أيضاً، كما سيأتي، أي أنها مقدمة عليه عند التعارض، وهذا هو التهافت.
وأما (نقض الغرض): فلأن مطلوبية الشورى باعتبار تأليف القلوب وشبهه (على الموضوعية)، والأقربية للواقع (على الطريقية)، فلو لم تكن ممدوحة عند مخالفة اعتقاد الفرد القائد أو الرئيس لرأي أكثرية أهل الشورى، بأن تحتّم عليه الرجوع لرأيه، لزم نقض الغرض من تأليف القلوب وأغلبية الوصول للحق، وقد فصلنا هذا الكلام مع دفع الشبهات عنه في موضع آخر.
وأما (لزوم الترجيح بلا مرجح): فهو باعتبار الغير لا باعتبار واجد الظن الشخصي، بل باعتباره أيضاً إن لم يكن رأيه هو الأغلب وصولاً للواقع، فيكون ترجيحاً بلا مرجح أو ترجيحاً للمرجوح.
ص: 206
بل إن كان رأيه هو الأغلب إيصالاً للواقع لزم الإرجاع إليه والمدح على ذلك، لا على اتباع رأي الشورى، وقد ذكرنا في موضع آخر تفصيلاً أقربية رأي الشورى للواقع من رأي الفرد ولو كان هو الأعلم في الشؤون العامة.
وخامساً: إن الاستشهاد على قسمين، فقد يستشهد لبطلان الرأي نفسه، وقد يستشهد لبطلان مستنده، أي بما هو كبرى كلية كحجية خبر الواحد أو الإجماع المنقول أو الشهرة أو أكثرية الشورى، والثاني هو النافع للمدعي وعليه إثباته.
وكذا التعنيف والتقريع ينقسم للقسمين أيضاً، وذلك كاستشهاد فقيه بأدلة لإبطال رأي فقيه آخر، فهو - على تقدير تمامية استشهاده - دليل على عدم صحة خصوص هذا الرأي من ذاك الفقيه، لا على عدم حجية أصل اجتهاده له ولمقلديه، وعدم كون اجتهاده مستنداً شرعياً، فتأمل.
ص: 207
سلمنا عدم قيام الدليل على عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى، لكن لا دليل على عدم عمله بالشورى ومخالفته لرأي الأكثرية رغم انعقادها على خلافه (صلى الله عليه وآله) في الشؤون العامة.(1)
إن قلت: عدم الدليل كاف في العدم، ولا حاجة لإحراز العدم بدليل وجودي، ثم استصحاب عدم موافقته لرأي الأكثرية محكم.
قلت: أما قولك: (عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى كاف في عدم وجوب الشورى وعدم حجيتها) فغير صحيح، إذ أن عدم الدليل على عمل المعصوم (عليه السلام) بما له ظاهر لا يوجب الخدشة في ظهوره، فمثلاً لو ورد (أكرموا العلماء) الظاهر في وجوب الإكرام متعلقاً بكل العلماء (لأنه جمع محلى) ولم يقم الدليل على إكرام الرسول (صلى الله عليه وآله) لكل العلماء أو لبعضهم، أفهل يعد ذلك (عدم قيام الدليل على التصرف الخارجي للرسول صلى الله عليه وآله) صارفاً للأمر عن ظهوره في إرادة الوجوب، وللجمع المحلى عن ظهوره في إرادة العموم؟ نعم (قيام الدليل) على عدم إكرامه لأي من العلماء يعدّ قرينة على عدم إرادة الوجوب من (أكرموا)، بل قد يقال بأن قيام الدليل على عدم إكرامه لبعضهم قرينة على عدم إرادة العموم من (العلماء)(2)، فتأمل، وسيأتي وجهه في الجواب الرابع.
ص: 208
وفيما نحن فيه: مجرد عدم قيام دليل على استشارة الرسول (صلى الله عليه وآله) أو عمله بالشورى في الشؤون العامة، لا يصلحصارفاً للأمر الظاهر في الوجوب، (شاوِرِْهُمْ)(1)، (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2) عن ظهوره، إلا أن يتمسك بأنه مما لو كان لبان، فتأمل، وقد تطرقنا لذلك في موضع آخر.
وبعبارة أخرى: لو كان التمسك لوجوب الشورى وحجيتها بعدم الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى صح ما ذكر، لوضوح أن عدم الدليل على عدم فعل ليس دليلاً على وجوبه وحجيته بالبداهة.
أما لو كان التمسك لوجوبها وحجيتها بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، فيصح القول: (عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) على طبق الآية لا يصلح مانعاً من دلالتها على الوجوب).
بعبارة أخرى: كلما تمّ المقتضي ولم يحرز المانع، ثبت إرادة المعنى الحقيقي، والمانع هنا هو الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى، وليس بمحرز، بل الاستصحاب يقتضي عدمه وبناء العقلاء على أنه (كلما شك في المعارض بعد الفحص، نزل منزلة العدم).
وأما استصحاب عدم موافقته لرأي الأكثرية، ففيه: أنه معارض باستصحاب عدم مخالفته لرأي الأكثرية، لكونهما وجوديين مسبوقين بالعدم ولو الأزلي منه.
إن قلت: نستصحب عدم أخذه برأي الأكثرية وعدم اتباعه لها، لكون
ص: 209
استصحابي عدم الموافقة وعدم المخالفة محكومين به، لأن الموافقة صفة الأخذ، أو إنها مستلزمة له ومنتزعة منه، والمخالفة صفة عدمه، ومع وجود الأصل الجاري في الحاكم (وهو الموصوف أو الملزوم لتقدمه رتبة على الصفة) لا تصل النوبة للأصل فيالمحكوم، وهذا الأصل السببي (أصالة عدم أخذه برأي الأكثرية) لا معارض له.
وفيه: مضافاً إلى معارضته بأصل سببي آخر وهو أصالة عدم أخذه بالرأي المخالف للأكثرية، إنه مع وجود الدليل على وجوب فعل وهو صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، لا مجال لاستصحاب عدم الأخذ أو غيره، إذ من الواضح أن استصحاب عدم فعل لا يصلح مانعاً عن انعقاد الظهور، أترى أنه يصح الاستدلال على عدم وجوب صلاة الليل أو الجمعة أو السواك على النبي (صلى الله عليه وآله) مثلاً بأننا حيث لا نعلم أنه قام بها أو لا - فرضاً - نستصحب العدم فيثبت عدم وجوبها عليه!
والحاصل: إن الاستصحاب في رتبة لاحقة، وليس عقلائياً بناء الظهورات أو تمامية الدلالات للظواهر على استصحاب عدم فعل من كان لا بد من امتثاله لو تمت الدلالة! بل إن العمل (وعدمه) لا جهة له، فكيف باستصحابه؟
إن قلت: لنا أن نستصحب عدم أخذه برأي الأكثرية من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي لم يأخذ (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية لعدم انعقاد الأكثرية على خلافه (صلى الله عليه وآله).
قلت: لو تنزلنا عما سبق من عدم صلاحية أصالة عدم العمل به أو أصالة عدم وجود موضوعه في الصارفية عن الظهور، وقلنا بجريانه هنا، فالجواب: إن هذا الكلام على خلاف المدعى أدل، إذ ما يصلح ناقضاً لوجوب الشورى هو وجود الموضوع (انعقاد رأي الأكثرية) وعدم ترتيب الرسول (صلى الله عليه وآله)
ص: 210
المحمول (الحجية ووجوب الاتباع) عليه، لا عدم وجود الموضوع، أفهل ترى (عدم وجوب التصديق) عند عدم وجود مخبر ناقضاً لوجوبه عند وجوده؟ فلقد علل عدم أخذه برأي الأكثرية في كثير من الموارد بعدم وجود رأي لها معاكس لرأي الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا في الحقيقة وجه آخر لدفع إشكال عدم عمله برأي الأكثرية، كما سيجيء مفصلاً بإذن الله تعالى.
إن قلت: لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) عاملاً بالشورى لبان؟
قلت: أولاً: قد ذكر المؤرخون والمفسرون موارد عديدة عمل فيها النبي (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية، وهي مضافاً إلى اعتبار سند بعضها، يمكن دعوى تواترها الإجمالي، ويظهر ذلك لمن راجع كتب التفسير والحديث، فتأمل.
وثانياً: لو سلمنا عدم ثبوت حتى مورد واحد عمل فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى، لكن عمله بها ليس مما لو كان لبان حتى يستدل بعدم البينونة والظهور على عدم الكون والوجود ببرهان الإنّ، إذ إن الاستشارة والمشورة لم تكن شيئاً غريباً ملفتاً للنظر، إذ كانت قد جرت عليها عادة كثير من القبائل، فكانت المشورة طبيعية خاصة وأن الأصحاب كانوا متواجدين باستمرار في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فلم تكن الاستشارة محتاجة إلى مقدمات وضوابط وتشريفات، فاستشارته (صلى الله عليه وآله) لا تعدو وقائعه (صلى الله عليه وآله) وحروبه حيث لم ترد فيها إلاّ روايات بين مرسلة وصحيحة لا تبلغ واقعة منها عادة حد التواتر، وإن أمكن دعوى التواتر الإجمالي في أصلها وفي بعض قضاياها فقط.
وحينئذ فنسأل: قول المستشكل: (لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) عاملاً
ص: 211
بالشورى لبان) مراده من التالي البينونة والظهور التواتري، أو البينونة والظهور المتداول في سائر الحوادث المهمة وغير المهمة؟
فإن قال بالأول: أنكرنا الملازمة، بدليل أكثر وقائع الرسول (صلى الله عليه وآله) سواء في الموضوعات الصرفة أو الشؤون العامة أو الأحكام حيث لا (بينونة تواترية) فيها، كما لا يخفى.
وإن قال بالثاني: منعنا بطلان التالي، إذ البينونة المتعارفة في سائر الوقائع موجودة هنا في الموارد التي ذكرناها وبعض غيرها، ويمكن بمراجعة البحار وغيره معرفة صدق الدعوى.
والأمر بحاجة إلى مزيد بحث وتحقيق وتثبت، ولعل الله تعالى يقيض من يتتبع الأمر أكثر، والله العالم المسدد.
ص: 212
سلمنا قيام الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى أحياناً كثيرة، لكن قد يجاب بأنه: من الواضح أن لا شورى في قبال نص الآيات القرآنية الكريمة، سواء في الأحكام أو في الموضوعات، فيكون (وَشاوِرْهُم)(1) منصرفاً إلى غير ذلك أو مخصصاً به، وفي كثير من الأحيان كانت الآيات المباركات تنزل بأمر معين من الله في الموضوع الخارجي.
فمن ذلك مثلاً ما ورد في تفسير النعماني، قال(2): (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذكر الناسخ والمنسوخ، ومنه أن الله تبارك وتعالى لما بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) أمره في بدء أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(3)، فبعثه الله بالدعوة فقط، وأمره أن
ص: 213
لايؤذيهم، فلما أرادوه بما همّوا به من تبييت أمره الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّاللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(1)، فلما أمر الناس بالحرب جزعوا وخافوا، فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)(2)، إلى قوله سبحانه: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(3)، فنسخت آية القتال آية الكف.
فلما كان يوم بدر وعرف الله تعالى حرج المسلمين أنزل على نبيه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(4)، فلما قوي الإسلام وكثر المسلمون أنزل الله تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(5)، فنسخت هذه الآية، الآية التي أذن لهم فيها أن يجنحوا، ثم أنزل الله سبحانه في السورة: (فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ)(6) إلى آخر الآية.
ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأُمة فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل عشرة من المشركين فقال: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا
ص: 214
مِائَتَيْنِ)(1) إلى آخر الآية، ثم نسخها سبحانه فقال: (الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(2) إلى آخر الآية، فنسخ بهذه الآية ما قبلها،فصار من فرّ من المؤمنين في الحرب إن كانت عدّة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فاراً من الزحف، وإن كانت العدة رجلين لرجل كان فاراً من الزحرف.
وساق الحديث إلى قوله (عليه السلام): ونسخ قوله سبحانه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(3) يعني اليهود حين هادنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رجع من غزوة تبوك أنزل الله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)(4) إلى قوله سبحانه: (وَهُمْ صاغِرُونَ)(5) فنسخت هذه الآية تلك الهدنة.
وقد وردت روايات عديدة في جزئيات ما ذكر في هذه الرواية:
فمنها: ما جاء في أنوار التنزيل(6): ( (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(7) بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتال، حتى هاجر، فأنزلت وهي أول آية نزلت في
ص: 215
القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية...).
وفي المناقب: (لما كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)(1)، وقلد في عنقه سيفاً - وفي رواية: لم يكن له غمد - فقال له: حارب بهذا قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله).(2)
ومنها: ما ذكره الطبرسي في المجمع(3)، في قوله تعالى: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ)(4)، قال الكلبي: إن أبا سفيان لما رجع إلى مكة يوم أحُد واعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) موسم بدر الصغرى وهي سوق يقوم في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد قال للناس: أخرجوا إلى الميعاد، فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فحرض النبي (صلى الله عليه وآله) المؤمنين فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله بأس العدو، ولم يوافهم أبو سفيان ولم يكن قتال يومئذٍ، وانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمن معه سالمين (لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) أي إلا فعل نفسك، (وَحَرِّضِ اْمُؤْمِنِينَ) على القتال، أي وحثّهم عليه (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يمنع شدة الكفار وعسى من الله موجب، (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي أشدّ نكاية في الأعداء منكم، (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(5) أي عقوبة.
وقيل: التنكيل: الشهرة بالأمور الفاضحة، وفي قوله تعالى: (وَلا
ص: 216
تَهِنُوا)(1) قيل: (نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحُد).
وفي المجمع(2) في قوله تعالى: (فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ)(3)، اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة، فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا، فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال الآخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهمالآية، عن مجاهد والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر (عليهما السلام).
وفي المجمع أيضاً(4) في قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ)(5): (قال ابن عباس: نزلت في أموال كفار أهل القرى وهم قريضة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع، جعلها الله لرسوله (صلى الله عليه وآله) يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلا قسمتها، فنزلت الآية).
ففي كل هذه الموارد نجد أن (النص) من الله كان يأتي بحكم معين، فلم يتحقق موضوع الشورى إذن، حيث نجد في الرواية الأولى: (فبعثه الله بالدعوة فقط وأمره أن لا يؤذيهم) في مكة رغم أن المسلمين كانوا يتحرقون شوقاً لقتال المشركين، (وكانوا يأتونه بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتال ) - كما في رواية أنوار التنزيل السابقة -، ونجد (فلما أرادوه بما هموا به من تبييت أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال) وهكذا إلى
ص: 217
آخر ما ورد في الروايات التي نقلناها قبل قليل وفي غيرها.
والحاصل: أن موضوعها غير متحقق، إذ موضوعها ما لم يرد فيه نص من الله تعالى، ومن الواضح أن رفع المحمول لرفع الموضوع لا يثبت رفعه عند وجوده، وإلاّ لما كانت لنا حجة إطلاقاً، ولما كان لنا محمول أصلاً.
وهناك موارد أخرى عديدة ورد فيها النص من الله تعالى، فراجع البحار: المجلد 19، الصفحات 145 و146 و150 و151 و156 و214 و311، والمجلد 20، الصفحات 18 و64 وغيرها.
ولقد كان ذلك - أي أن موضوع الشورى هو ما لم يرد فيه نص، مع قطع النظر عن كونه بديهياً ومن ضروريات المذهب(1) - مركوزاً في أذهان المسلمين، ولذا نجد في قصة بعث النبي (صلى اللهعليه وآله) إلى قائدي غطفان داعياً لهما إلى الصلح، سعد بن عبادة يقول: (يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي، فقال (صلى الله عليه وآله) لم يأتني وحي به ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة... فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما...الخ)(2).
فصريح قوله هو: (إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك...)، و(وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي)، فموضوع (لابد لنا من العمل به) هو أمر الله، وموضوع (كان لنا فيه رأي) هو: اختيار النبي (صلى الله عليه وآله) وترجيحه أحد الطرفين دون قضائه بأحدهما، إذ حينئذٍ يتحتم أيضاً إعمال رأيه (صلى الله عليه وآله) فإنه لا موضوع للشورى مع قضائه (صلى الله عليه وآله) إذ يقول تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
ص: 218
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(1)، وكذا لو أعمل (صلى الله عليه وآله) ولايته في أمر، فلا اختيار في رده حينئذٍ.
وإليك نماذج أخرى من ورود النص:
منها: قوله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(2)، قال في المجمع: (نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنهم هموا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إنهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) وهم أن يغزوهم فنزلت الآية، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة).(3)
ومنها: نصب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهماالسلام): (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(4)، فشورى السقيفة - إضافة إلى أنها لم تكن شورى الأكثرية، بل كانت شورى عدد قليل جداً من المسلمين مدعومة بالإرهاب، كما أثبت ذلك المؤرخون، على ما ذكر تفصيله في العبقات والغدير وغيرهما فليراجع -، باطلة لكونها في مقابل النص القاطع من النبي (صلى الله عليه وآله) عن الله يوم الغدير.
ولذا ورد في سورة (المعارج): (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ
ص: 219
لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(1)، حيث قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام، فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله): (والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله)، فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله: سأل سائل بعذاب واقع).(2)
إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع.
والسر في كثرة ورود النصوص منه تعالى واضح:
أما في الأحكام الشرعية وأصول المذهب (كالإمامة) فلا يحتاج إلى البيان، إذ الشريعة من الله تعالى، والمقنن هو جل وعلا، ولا يمكن إرجاعه للبشر على ما هو مبين في محله، إذ إرجاعه للبشر مع ملاحظة عدم إحاطتهم بجهات التشريع وعدم معرفتهم بالمصالحوالمفاسد الواقعية الفعلية والمستقبلية، الجسمية منها والروحية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، لا بأصلها أحياناً كثيرة، ولا بتزاحماتها والأرجح منها أحياناً كثيرة أيضاً، ومع ملاحظة تحكم الأهواء فيهم والشهوات والقوة الغضبية والحقد والحسد وغيرها، يعد أكبر ظلم للمجتمع البشري، ولذا كانت سنته تعالى إرسال الرسل وسنّ الطرق والشرائع، والرسل
ص: 220
هم الحجة الظاهرة إلى جانب الحجة الباطنة.
أما في الموضوعات، فلكون النبي (صلى الله عليه وآله) في مرحلة تأسيس دين عالمي، ولولا أوامره تعالى ونواهيه وتسديده في الشؤون العامة لكثير من الخاصة لما قام للإسلام عود، ولا ارتفع له عمود، ولذهب أدراج الرياح.
هذا إضافة إلى أن الأصحاب كانوا كثيراً ما يعطون أصواتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) ويخولونه اتخاذ القرار وتعيين الأفضل، لما كانوا يعلمونه من رجاحة عقله، ورزانة رأيه، بل وعصمته وارتباطه بالوحي.
ولنذكر هنا بعض النماذج لذلك:
فمنها ما ذكره في البحار(1) في قصة استشارته (صلى الله عليه وآله) في طلب العير وحرب النفير:
(.. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أنّ ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوش جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُناقاعِدُونَ)(2)، ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً على قوله ذلك ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين
ص: 221
بايعوه بالعقبة قالوا: إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، ثم أنت في ذمتنا ونمنعك مما نمنع آباءنا ونساءنا، فكان (صلى الله عليه وآله) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله أن يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده).
فلقد أعلن سعد (الناطق بلسان أكثرية المسلمين وهم الأنصار(1)) أنه والأنصار طوع إرادته (صلى الله عليه وآله) في الأموال والأنفس يتصرف فيها كيف يشاء بما يشاء، وأنه (صلى الله عليه وآله) مطاع في أي أمر يأمره، وهل هناك تفويض أعلى وأرقى من ذلك؟
* وفي البحار(2): وعن مجمع البيان(3) في آية (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ)(4): (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بني النضير: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولا يقسم لكم شيء من الغنيمة، ولا نشاركهم فيها، فنزلت: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ
ص: 222
خَصاصَةٌ)(1)، فلقد أبدوا مطلق التفاني وغاية الإيثار وتخلوا عن حقوقهم، لأن في ذلك رضى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
* وجاء في الامتاع للمقريزي(2): (فلما غنم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعى الأنصار كلها الأوس والخزرج، فحمد الله وأثنى عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء عليّ من بني نضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار)، وقسم ما أفاء الله عليه على المهاجرين دون الأنصار إلاّ رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف الأنصاري، وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق وكان سيفاً له ذِكر).
وهذا الخبر يطابق مضمون سابقه مع زيادة.
* وجاء في السيرة والكامل في التاريخ والطبري وغيرها(3): (قال محمد بن إسحاق: فأقام أبو العاص بمكة على شركه، وأقامت زينب عند أبيها (صلى الله عليه وآله) بالمدينة قد فّرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بمال له وأموال لقريش أبضعوا بها معه، وكان رجلاً مأموناً، فلمّا فرغ من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سريّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فأصابوا ما معه
ص: 223
وأعجزهم هو هارباً، فخرجت السرية بما أصابت من ماله حتى قدمت به على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرج أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب منزلها فاستجار بها فأجارته، وإنما جاء في طلب ماله الذي أصابته تلك السرية، فلما كبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاة الصبح وكبّر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الصبح، فلما سلّم من الصلاة أقبل عليهم فقال: (أيها الناس هل سمتعم ما سمعت)؟ قالوا: نعم، قال (صلى الله عليه وآله): (أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم)، ثم انصرف فدخل على ابنته زينب فقال: (أي بنية أكرمي مثواه، وأحسني قراه، ولا يصلنّ إليك فإنك لا تحلين له)، ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا ماله، فقال لهم: (إن هذا الرجل منا بحيث علمتم وقد أصبتم له مالاً فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتهم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به)، فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه، فردوا عليه ماله ومتاعه حتى أنّ الرجل كان يأتي بالحبل ويأتي الآخر بالشنة ويأتي الآخر بالأدواة والآخر بالشظاظ حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره، ولم يفقد منه شيئاً، ثم احتمل إلى مكة فلما قدمها أدّى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان بضع معه بشيء حتى إذا فرغ من ذلك قال لهم: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً لقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفاً أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم وأذهب بها، فإذا سلمها الله لكم وأداها إليكم فإني أشهدكم أني قد أسلمت واتبعت دين محمد (صلى الله عليه وآله) ثم خرج سريعاً حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة).
ص: 224
وأيّ تفويض أقوى من هذا؟ فالمال حقهم وقد صرح بذلك الرسول (صلى الله عليه وآله): (وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به)، لكنهم جميعاً يتنازلون عن حقهم لمجرد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يحب ذلك، (فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك...).
وعليه: فعدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى في غير ما ثبت ورود نص قرآني خاص به، وفي غير ما ثبت تاريخياً إعطاء الأصحاب آراءهم له، مردد بين كونه:
1: لعدم وجوب الشورى رأساً، وكون آية (وَشَاوِرْهُمْ)(1) للندب.
2: وبين ورود أمر خاص قرآني أو غير قرآني كالحديث القدسي في ذلك المورد.
3: أو كون أمره من باب إعمال الولاية في ذلك المورد، مما يخرجه من موضوع الشورى، إذ سبق أن موضوعها ما لم يرد فيه نص قرآني وشبهه، ولم ينقل الرواة ذلك أو لم يصل نقلهم إلينا، أو لم يذكر النبي (صلى الله عليه وآله) لهم ذلك، لأجله لم يستشر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه.
4: وبين إعطاء الأصحاب أصواتهم له بقرينة مقالية أو حالية.(2)
ص: 225
ص: 226
ص: 227
إذا عرفت ذلك نقول:
إن عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على تقدير ثبوته - مردد بين المانع عن ظهور الأمر فيما هو ظاهر فيه(1)، وبين غير المانع، إذ لو كان وجهه الأول كان مانعاً عن إرادة الوجوب من (شَاوِرْهُمْ)(2)، ولو كان وجهه الثاني أو الثالث بشقوقه لم يكن مانعاً، إذ في الثاني والثالث عدم الاستشارة لعدم تحقق موضوعها أو منصرفها، وهو (ما لم يرد فيه نص إلهي) و (ما لم يكن من باب الولاية)، ومن الواضح أن انتفاء الحكم لانتفاء الموضوع لا يعنيإذا عرفت ذلك نقول:
إن عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على تقدير ثبوته - مردد بين المانع عن ظهور الأمر فيما هو ظاهر فيه(3)، وبين غير المانع، إذ لو كان وجهه الأول كان مانعاً عن إرادة الوجوب من (شَاوِرْهُمْ)(4)، ولو كان وجهه الثاني أو الثالث بشقوقه لم يكن مانعاً، إذ في الثاني والثالث عدم الاستشارة لعدم تحقق موضوعها أو منصرفها، وهو (ما لم يرد فيه نص إلهي) و (ما لم يكن من باب الولاية)، ومن الواضح أن انتفاء الحكم لانتفاء الموضوع لا يعنيانتفاءه مع وجود الموضوع، فلا يصلح مانعاً عن ظهور الأمر في الوجوب مع تحقق الموضوع، وأما الأخير فليس مانعاً أيضاً، إذ ليس معارضاً حتى يكون مانعاً، إذ لا مانعة جمع بين وجوب العمل برأي الأكثرية وبين العمل برأيه (صلى الله عليه وآله) عند تفويض الأكثرية الرأي إليه، بل هذا صغرى ذاك، لأنه عمل برأي الأكثرية حقيقة، غاية الأمر أن العمل برأيها الإجمالي ههنا، إذ لا رأي تفصيلي لها قبل التفويض، إذ أن رأيها هو ما يرتئيه (صلى الله عليه وآله)، أو برأيها الثانوي مع تخليها عن رأيها الأولي لأجله (صلى الله عليه وآله).
وإذا تردد الشيء - عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى - بين المانعية واللا مانعية، كان الأصل عدم المانعية، والمانعية موقوفة على إثبات سائر الاحتمالات.
إن قلت: لنا أصل حاكم وهو أصالة عدم ورود أمر إلهي خاص، وأصالة
ص: 228
عدم كونه من باب الولاية، وأصالة عدم إعطاء أصحابه آراءهم له (صلى الله عليه وآله).
قلت: أولاً: الأصل مثبت.
وثانياً: حيث إن هذا الأصل الحاكم معارض بمثله، وهو أصالة عدم كون عدم عمله قرينة على كون الأمر للندب، لذا تصل النوبة للأصل المحكوم السابق الذكر، فتأمل.
إن قلت: محتمل القرينية المتصل مخل بالظهور، إذ كلما كان الكلام محفوفاً أو مقروناً بحال أو مقال يصلح لأن يكون قرينة لإرادة خلاف الظاهر منه، يرتفع الظهور عنه ويصير من المجملات، وذلك مثل الإنشاء المتعقب لجمل متعددة، وكالأمر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.
قلت: أولاً: لا دليل على ذلك، والموارد مختلفة بنظر العرف، ومما يشهد بأن (الموارد مختلفة بنظر العرف - إضافة إلى الوجدان وظهور ذلك لمن تتبع فهم العرف في الموارد المختلفة -: ما نقله المرحوم الآشتياني عن الشيخ (رضوان الله تعالى عليهما) في بحث الاستصحاب، حيث أورد على الاستدلال بالصحيحة الأولى لزرارة (رحمه الله): (بأن سبق اليقين وإن لم يكن قرينة للعهد فلا إشكال في كونه صالحاً لأن يعتمد المتكلم عليه، ويريد العهد من اللام في اليقينلا الجنس، وقد تقرر في مسألة حجية الظواهر وفاقاً لشيخنا الأستاذ العلامة أن كلما كان الكلام محفوفاً أو مقروناً بحال أو مقال لا يصلح...) إلخ، فأجاب الشيخ (قدس سره): (بأن ما تقرر في محله ليس قضية دائمة، بل ربما يتخلف من جهة خصوص المقام، ونحن نجد بالوجدان ظهور اللام في الجنس في خصوص المقام ولو مع ملاحظة سبق ذكر اليقين).(1)
ص: 229
ثانياً: سلمنا، لكن (الموجود المحتمل للقرينية) ههنا ليس متصلاً، إذ موارد عدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى كانت قبل آن نزول الآية أو بعده لا معه، فمحتمل القرينية منفصل إذن، واحتمال وقوع حادثة في آن نزول الآية لم يعمل فيها النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى، مدفوع بالأصل، وبأنه بعيد إلى الغاية، والاتصال هو المحتاج للإحراز، لأن الأثر (وهو سقوط الظهور عن الحجية) متفرع عليه.
إلا أن يجاب بأن الحالة العامة له (صلى الله عليه وآله) كانت عدم العمل، والآيات نزلت والحال هذه، فالقرينة المقامية حافة عامة، فتأمل.
وإن قلت: إن أصالة عدم الاتصال معارضة بأصالة عدم الانفصال.
قلت: إذن يتعارضان فيتساقطان، فلا محرز للاتصال الذي يترتب الأثر عليه.
ص: 230
إن وجوب الشورى - على تقديره - مردد بين الموضوعية والطريقية، وعلى كلا التقديرين لا يكون عدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على فرض تسليمه - دليلاً على عدم الوجوب.
فإن كان للموضوعية، فعدم عمله (صلى الله عليه وآله) بها لعلّه لباب التزاحم.
بيان ذلك: إن وجوب الشورى إن كان من باب الموضوعية (بأن لم يكن من باب الأقربية للواقع، بل لوجود مصلحة في نفس الشورى والاستشارة، مع قطع النظر عن الواقع والإيصال إليه مثل: تأليف القلوب، وإظهار الاعتماد عليهم و...، كما أن اعتبار العدالة في باب الفتوى مثلاً مأخوذ من باب الموضوعية، إذ حتى لو علم بعدم كذب الفاسق في استنباطه - أي في إخباره أن هذا هو ما استنبطه مستفرغاً وسعه - لا يجوز تقليده، وكذا في باب الشهادة)، فربما يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من باب التزاحم لا لعدم وجوبها (كما في كل واجدي الملاك مع أهمية أحد الملاكين) بأن عارضها ذو ملاك أقوى، فعمل (صلى الله عليه وآله) به وتركها.
فمثلاً: قد يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من باب دوران
ص: 231
الأمر بين العمل بالشورى، وبين حفظ بيضة الإسلام كما في بعض الحروب، كما كان عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أهل مكة، وعفو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة مع أنهم بغاة حكمهم القتل ونظائره: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْمِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ)(1) من هذا الباب (أي من باب التزاحم) وأرجحية ملاك العفو ومصلحته على ملاك القتل، وكما كان أمر النبي والأئمة (عليه وعليهم السلام) بالعمل بالظواهر في باب القضاء وأضرابه وعملهم بها من هذا الباب لتزاحم مصلحة الواقع بمصحلة (ضرب القانون) و(كونهم للناس أسوة).
وإن كان للطريقية فعدم عمله (صلى الله عليه وآله) لوجود الحجة الأقوى الأقرب.
وأما إن كان وجوبها من باب الطريقية بملاك أقربية رأي الأكثرية إلى الواقع من رأي الفرد، فكذلك لا يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بها دليلاً على عدم حجيتها ووجوبها، إذ في باب الطرق الشرعية يقدم الأقوى على الأضعف، سواء كان المناط في الحجية الظن النوعي مطلقاً، أو مع عدم الظن الشخصي بالخلاف، أو كان المناط الظن الشخصي، كخبر الواحد والاستصحاب بناءً على كونه حجة لا من باب التعبد على بعض المسالك(2)، فتأمل، وكتعارض خبرين
ص: 232
لأحدهما مرجح صدوري أو جهتي أو مضموني حسب ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره)، وقيل: إنه المشهور من الترجيح بملاك الأقربية للواقع، والتعدي عن المرجحات المنصوصة.
وحينئذٍ نقول: من المسلّم أن ما يراه الرسول (صلى الله عليه وآله) مطابق للواقع مائة في المائة، والشورى غالبة المطابقة، ومن الواضح ترجح دائم المطابقة على غالبها ولزوم اتباعه دونه.
إن قلت: فللفقيه الحق إذن بمخالفة رأي الأكثرية واتباع رأيه في الموضوعات العامة، لأنه يرى رأيه الأقرب مطابقة للواقع؟
قلت: كلا، إذ سيجيء مفصلاً إثبات أن رأي الشورى أقرب للواقع، وأن الظن النوعي الحاصل منها أقوى من الحاصل من استنباط المستنبط.
إن قلت: لو كان رأي النبي (صلى الله عليه وآله) دائم المطابقة فلا يصح إيجاب الشورى غير دائمة المطابقة عليه.
قلت: الملازمة صحيحة، والإشكال وارد لو قلنا بأن وجوبها عليه (صلى الله عليه وآله) من باب الطريقية الصرفة حيث يقال: كيف أوجبها الله عليه مع دائمة مطابقة رأيه وغالبية مطابقتها، أما لو التزمنا بوجوبها عليه من باب الموضوعية أو من باب الموضوعية والطريقية(1) فلا، إذ ليس الملحوظ في ما ليس حجيته ووجوبه
ص: 233
من باب الطريقية الصرفة، الواقع إطلاقاً أو بمفرده حتى يكون الأمر باتباع غير دائم المطابقة، قبيحاً ونقضاً للغرض.
وأما أن وجوبها علينا هل هو من باب الطريقية، أو الموضوعية، أو من باب لحاظ الجهتين، فسيجيء إن شاء الله تعالى.
بعبارة أخرى: لا تعد أقربية إحدى الحجتين إلى الواقع مرجحة له على الآخر، فيما لو كان الآخر حجة من باب الموضوعية(1)، ولذا تجد الفقهاء لا يرجحون في باب التعارض بالأصل، (إلا لو كانوا قائلين بحجيته من باب الظن النوعي، حيث يتقوى به حينئذٍ الخبر الموافق له فيكون أقرب إلى الحق والواقع(2) فلا مانع حينئذٍ منالترجيح به، إلا لزوم تخصيص أخبار التخيير بما إذا لم يكن هناك أصل على طبق أحدهما وهو إخراج لأكثر موارد الأخبار)، إذ بناء على حجيته من باب التعبد لا تشمله الكلية المستفادة من الروايات الواردة في الترجيح من الترجيح بما يوجب نفي الريب الإضافي (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(3)، حيث علل (عليه السلام) الأخذ بالمشهور به، وكذلك قوله (عليه السلام): (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (4)، ومن ترجيح الخبر المخالف للعامة معللاً ب(ما خالف العامة ففيه الرشاد وأن الحق فيما خالفهم)(5) وأن ما وافقهم فيه التقية، إلى آخر الروايات، الظاهر كل ذلك في الترجيح بمناط الأقربية.
ص: 234
سلمنا عدم وجوب الشورى على الرسول (صلى الله عليه وآله) لكن ذلك لاينفي وجوبها على سائر المسلمين، بل لا ينفي استفادة وجوبها من نفس آية: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1)، وإن خرج النبي (صلى الله عليه وآله) المخاطب بها عن الحكم.
بيان ذلك يتم في ضمن أمرين:
الأمر الأول: إن الأوامر والنواهي القرآنية الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) بصيغة المخاطب المفرد، الأصل فيها أن تكون عامة لكل المسلمين غير مختصة بالنبي (صلى الله عليه وآله) إلا ما ثبت من الخارج اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله) به، والدليل على ذلك ما ثبت بالإجماع وبالضرورة من اشتراك المسلمين مع النبي (صلى الله عليه وآله) في الأحكام جميعاً إلا ما قام الدليل الخارجي على أنه من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله) كوجوب السواك، ووجوب صلاة الليل، وصحة
ص: 235
هبة المؤمنة نفسها له (صلى الله عليه وآله): (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ)(1) (صلى الله عليه وآله)، والزيادة على الأربع... إلخ.
وعلى هذا فكل ما لم ينص على إخراجه من هذا العموم وكونه من المختصات، داخل في العموم، لما قرر في بحث الألفاظ من (الأصول) من أن العام المخصص وإن كان بالمتصل، له ظهور في الباقي، وعلى ذلك بناء العقلاء في كل عام أو مطلق خصص أو قيد، ويتضح هذا بملاحظة أن المولى لو أمر عبده بإكرام العلماء واستثنى زيداً بقرينة متصلة أو منفصلة، فهل يصح للعبد أن يتعلل لعدم إكرامه الآخرين بعدم انعقاد ظهور للعام في الباقي، بعد ثلم ظهوره في المعنى الموضوع له؟ وكذا لو استثنى مجموعة من العلماء بل أصنافاً منهم؟.
هذا إضافة إلى أن المتتبع للآيات الكريمة يجد جريان سنة الله جل وعلا في كثير من الموارد على إنزال حكم عام وقاعدة شاملة لكل المسلمين، ولكن بصيغة خطاب موجه للنبي (صلى الله عليه وآله)، إذ أن الخطاب يحتاج إلى طرف، وكثيراً ما يحسن في الحكمة كونطرف الخطاب أحد المأمورين وعدم توجيه الخطاب لجميعهم، وذلك إما لأفضليته، أو لشدة العناية به، أو لكونه هو الشاغل لمركز القيادة، أو لكونه هو المأمور بتبليغ الحكم للمسلمين، أو لكونه هو المصداق الأجلى أو الفعلي، أو غير ذلك من المصالح والحِكَم.
وإليك بعض الأمثلة من القرآن الحكيم:
قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(2)، فمع أن جهاد الكفار والمنافقين واجب على الجميع، وجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) بالذات، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وبصيغة المفرد (جاهِدِ).
ص: 236
وقال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالمُنافِقِينَ...)(1).
وقال تعالى: (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(2)، فهل وجوب اتباع ما يوحى إليه (صلى الله عليه وآله) من ربه مختص به؟
وقال سبحانه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(3).
وقال تعالى: (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ)(4).
وقال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ)(5). نعم الهبة مختصة به للدليل الخارجي وكذا الفيء المعين.
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ)(6)، فمع أن وجوب القول للأزواجوالبنات ونساء المؤمنين وأمرهم بالحجاب حكم عام لكل قادر على الأمر بالمعروف، مع ذلك وجه الله تعالى الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ).
وكذلك: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(7) ، و:
ص: 237
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(1) ، و: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(2).
وكذلك: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ)(3) ، و:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ)(4) ، و:(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(5) ، و: (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ).(6)
وقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها).(7)
وقوله سبحانه: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ).(8)
وقوله سبحانه: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ).(9)
وقوله تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ)(10)، إلى غير ذلك من
ص: 238
الآيات.
ومما يشهد على أن ورود الخطابات القرآنية بصيغة المفرد المخاطب إنما هو لإحدى العلل السابقة وأشباهها ولا إشعار فيه - أي في وروده هكذا - بأي اختصاص بالنبي (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق الآيات التالية:
1: قوله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).(1)
2: قوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ).(2)
3: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ
ص: 239
وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).(1)
4: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ...).(2)
ففي الآية الرابعة توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) منباب أن الخطاب يحتاج لطرف أو لغير ذلك.
وفي الآية الأولى تغيير الخطاب من الجمع إلى المفرد (وَأَعِدُّوا... فَاجْنَحْ)(3) مع أن الحكمين عامان لكل المسلمين، إذ كما يجب عليه (صلى الله عليه وآله) الجنوح إلى السلم، يجب عليهم أيضاً، وقد يكون لأجل كونه هو الشاغل للمركز القيادي وأن بيده الأمر فوجه الأمر بالجنوح إلى السلم إليه لأن نسبته إلى القائد أولى، أما الإعداد للحرب فهو شأن عامة المسلمين بعد صدور القرار بالحرب أو قبله فلذا وجه الخطاب لهم.
وكذا في الآية الثانية: (...عاهَدْتُّمْ... فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ... فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ... وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ)(4) مع أن المشرك لو أجاره المسلم ليسمع كلام الله كان كذلك.
ومثل ذلك يقال في الآية الثالثة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ... يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ...) (5).
والغرض من هذا البحث ليس إثبات الصغريات وبيان النكتة في تغيير
ص: 240
السياق (إذ قد يناقش في بعضها وقد تكون هناك نكات أخرى أدق وأنسب) بل إثبات أن توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ليس لأجل اختصاصه بالحكم (إلا لو ثبت خارجاً ذلك، ولو من باب عدم تحقق الموضوع في غيره، مثلاً لو قلنا فرضاً بعدم معقولية كون اتخاذ قرار السلم بيد غير القائد العام فقط فيكون توجيه الخطاب له (صلى الله عليه وآله) من باب عدم تحقق الموضوع في غيره) بل لأجل نكتة خاصة مما ذكر ومن غيرها.
ولذا نجد الفقهاء لا يستفيدون من الخطابات الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) أنها مختصة به حكماً غير شاملة لغيره.
فمثلاً: استدلال البعض على حجية خبر الواحد بآية: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُلِلْمُؤْمِنِينَ)(1)، حيث مدح الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق بالله عز وجل، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً).(2) وجه الاستشهاد: أن الكلام حول النبي (صلى الله عليه وآله) وأن (يؤمن للمؤمنين) صفته، مع ذلك استدل بها على حسن أن يؤمن كل شخص للمؤمنين، فإذا حسن وجب.
وبعض الفقهاء - كالشيخ (قدس سره) مثلاً - وإن لم يقبل دلالة الآية على المدعى، إلا أن ذلك كان من جهات أخرى لا من جهة اختصاص الحكم بالنبي (صلى الله عليه وآله) لأنه جعل صفته في الآية، ولذا لم يستشكل على الاستشهاد بهذا الإشكال، كما لم يستشكل الخراساني في حاشيته على الرسائل، ولا الآشتياني، ولا صاحب الأوثق: التبريزي، (قدس سرهم) مع أن هذا الإشكال لو
ص: 241
كان صحيحاً عندهم وكانوا يرون اختصاص حكم الخطابات الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) به لكان أحرى بالذكر وأوجه في الجواب.
وتسرية الحكم من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غيره مع توجه الخطاب له (صلى الله عليه وآله) إما من جهة ما ذكرناه وبرهنا عليه بتتبع الآيات، وإما من جهتين أخريين ذكرهما الميرزا محمد حسن الآشتياني (رحمه الله) في بحر الفوائد عند الحديث حول الآية الكريمة.
قال: إن تسرية الحكم من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غيره إما من جهة دلالة الآية على حسن التصديق بقول مطلق من غير فرق بين النبي (صلى الله عليه وآله) وغيره، وإما من جهة ما دل على حسن المتابعة والأسوة للنبي (صلى الله عليه وآله).(1)
والفرق بين الوجوه الثلاثة:
أن في الأول: اللفظ الموجه للنبي (صلى الله عليه وآله) دال بنفسه على عموم الحكم، منتهى الأمر مجازاً.وفي الثاني(2): التعميم من باب تنقيح المناط أو لمناسبة الحكم والموضوع.
وفي الثالث: التعميم لا بدلالة نفس اللفظ، ولا بتنقيح المناط، بل بدلالة عمومات لزوم التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله) كقوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)(3)، فتأمل.
ص: 242
إذا ثبتت المقدمة الأولى فنقول: آية (شَاوِرْهُمْ)(1) وإن كان الخطاب فيها موجهاً للنبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنها عامة لكل قائد، بل لكل مسلم فيما أنيط به من أمر، إذ قلنا: إن اختصاص حكم بالنبي (صلى الله عليه وآله) هو المحتاج للإثبات، بالضرورة والإجماع، فإن لم يثبت الاختصاص فإنه داخل تحت عموم: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2)، وفي إطلاق الإجماع أو في معقده، بل الأمر من الضروريات.
إن قلت: أصالة الحقيقة تقتضي أن يكون المخاطب بالحكم هو المختص به؟
قلت: أولاً: أصالة الحقيقة لا تقتضي ذلك، بل تقتضي صرف ثبوت الحكم له ساكتة عن غيره، ويثبت حكم الغير بأدلة اشتراك الأحكام.
ثانياً: لو سلمنا أن أصالة الحقيقة تقتضي ذلك، نقول: لا مناص عن رفع اليد عنها لغلبة المجاز غلبة عظيمة عليه، إذ أثبتنا أن أغلب خطابات القرآن الكريم الموجهة بصيغة المفرد المخاطب للرسول (صلى الله عليه وآله) ليس الحكم فيها مختصاً به، والنادر(3) منها اختص به (صلى الله عليه وآله).
هذا إن لم نقل بالتفكيك بين الإرادتين الجدية والاستعمالية، وأنه لا مجاز في مرحلة الاستعمال، بل القرينة العامة من الضرورة وغيرها تتصرف في الإرادة
ص: 243
الجدية، فالخطاب مستعمل فيما هوالموضوع له.
إذن (شَاوِرْهُمْ)(1) وإن كان الخطاب فيها موجهاً للنبي (صلى الله عليه وآله) لنكتة ما من النكات السابقة الذكر، إلا أنه حكم عام شامل للجميع.
الأمر الثاني: من الثابت أصولياً أن استثناء فرد واحد لا يخل بظهور العام، فلو فرض أن الشورى أو حتى الاستشارة لم تكن واجبة على النبي (صلى الله عليه وآله) بدليل العمل الخارجي له (صلى الله عليه وآله) أو بأي دليل آخر، فليست النسبة بين (شَاوِرْهُمْ)(2) و (وعدم وجوب الشورى عليه صلى الله عليه وآله) هي التباين حتى يحمل الأمر على الاستحباب، لكون عدم (العمل) نصاً في عدم الوجوب، والأمر ظاهراً، بل النسبة هي العموم المطلق، إذ سبق في المقدمة الأولى إثبات أن (شاورهم) حكم عام، فهو يساوي (شاوروهم)، ومن الواضح أن لا تنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد، إذ هما من موارد الجمع المقبول لعدم تحقق التعارض بينهما: (يأتي عنكما الخبران المتعارضان بأيهما نعمل) (3) والذي هو الموضوع للتساقط كأصل أولي، وللترجيح أو التخيير كأصل ثانوي، دلت عليه الروايات، فلا مانعة جمع بين عدم وجوبها عليه (صلى الله عليه وآله) ووجوبها على كافة المسلمين، ولا يلزم من استثناء فرد كالنبي (صلى الله عليه وآله) عملياً عدم ثبوت الحكم لسائر الأفراد.
ص: 244
وإن شئت قلت: الأمر دائر بين التخصيص ومجاز آخر، وكلما دار الأمر بينهما قدم التخصيص، فإن عدم وجوب الشورى على النبي (صلى الله عليه وآله) يوجب ارتكاب مجاز في (شَاوِرْهُمْ) إمابحمل الأمر على الندب، أو بإبقائه على ظاهره من الوجوب وتخصيصه بغير الفرد المستثنى، وهو (النبي صلى الله عليه وآله)، والثاني هو المتعين، وذلك لوهن ظهور العام في العموم بالنسبة لظهور الأمر في الوجوب، يدل على ذلك: (ما من عام إلا وقد خص) وأن التخصيص في العمومات أكثر بكثير من التجوز في الأوامر.
هذه إضافة إلى فهم العرف المحكم فيما يلقى إليه من كلام الشارع، فمثلاً لو أمر المولى كبير عبيده بقوله: (احترم الضيوف) أو (ابنِ مدينة)، وكان دأب المولى إصدار حكم عام لكل العبيد ولكن بصيغة خطاب موجه إلى كبير العبيد لنكتة، فاحترم يعني احترموا، وابنِ يعني ابنوا، ثم قامت قرينة خارجية على عدم وجوب الاحترام والبناء على كبيرهم لسبب ما، أ ترى (احترم) ينزل على الاستحباب أم يبقى على ظاهره من الوجوب وتعتبر القرينة الخارجية دليلاً على استثناء كبير العبيد من الحكم العام؟ وأترى العبيد معذورين لو تركوا احترام الضيوف وبناء المدينة، متعللين بقيام قرينة خارجية على عدم وجوب ذلك على كبير العبيد؟ فتأمل.
إن قلت: تخصيص المورد مستهجن، فالأمر ليس للوجوب.
قلت: الجواب عن هذا الإشكال من وجوه:
الوجه الأول: إن هذا ليس من تخصيص المورد، بيان ذلك: (إن إخراج مصداق من مصاديق متعلق التكليف كان هو مورد نزول التكليف) يسمى
ص: 245
بتخصيص المورد.
وبعبارة أخرى: إخراج فرد من محمول كبرى وردت في مورد هذا الفرد، أما إخراج فرد من المخاطبين بالتكليف مع كونه طرف خطاب المولى فخارج عن (تخصيص المورد) موضوعاً، إذ (المورد) يعني مورد نزول الحكم ومورد ثبوت المحمول، ولا يطلق على المخاطب أنه (مورد) لنزول الحكم أو (مورد) للخطاب. وفي آية الشورى لو نزلت في مورد خاص لم يعمل بها (صلى الله عليه وآله) في ذلك المورد مع دلالة الآية على الوجوب، يلزم حينئذٍ تخصيصالمورد، لا ما لو دلت على الوجوب واستثني منها طرف الخطاب. وفيه: ما لا يخفى.
الوجه الثاني: سلمنا أنه أيضاً من تخصيص المورد، لكن نقول إن (تخصيص المورد) ليس مما نهى الشارع عنه حتى يكون له إطلاق أو عموم، وحتى يتمسك في المصاديق المشكوكة بالإطلاق أو بالعموم، بل هو قاعدة مستندة إلى الارتكازات العرفية وبناء العقلاء، وحينئذٍ فالقبح لا يدور مدار عنوان (تخصيص المورد)، بل هو دائر مدار الاستهجان العرفي، وفي حدود دائرة بناء العقلاء، وأننا عند الرجوع إلى العرف لا نجدهم يستهجنون استثناء المخاطب من حكم عام للجميع وإن كان بصيغة خطاب موجه له، إذا كان دأب المولى توجيه خطاباته العامة باسم فرد خاص، كما سبق إيضاحه قبل قليل، ولا أقل من الشك في ذلك وأنه مستهجن أم لا، ومشكوك القرينية(1) لا يصلح صارفاً لما له ظاهر إذا كان منفصلاً، بل وحتى لو كان متصلاً على كلامٍ، وقد سبق ذلك في موضع آخر.
وقد التزم الفقهاء والأصوليون بتخصيص المورد في موارد عديدة، نذكر في الملحق رقم (4) بعضها، مع بعض البحوث الهامة حولها فراجع.
ص: 246
وربما يورد على الاستدلال ب- (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1) على لزوم اتباع الشورى، بأن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما يتبع الوحي لا آراء الأكثرية، فإذا لم تكن الشورى ملزمة له لم تكن ملزمة لغيره، بل إن اتباعه للأكثرية على هذا محرم، وذلك لقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(2)، فحكمه تابع لما أراه الله لا لما أراه الناس.
وقوله سبحانه: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(3).
وقوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ...)(4).
وقوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).(5)
ومن جهة أخرى كيف يكون للمؤمنين الخيرة من أمرهم مع قوله تعالى:
ص: 247
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(1)، وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِوَرَسُولِهِ).(2)
أولاً: إن هذا الإشكال على فرض تسليمه مختص بآية (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) دون غيرها من الأدلة ك(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(4)، و: (أَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْكُم )(5)، على ما فصلنا الاستدلال بها في مواضع أخرى.
ثانياً: ما سبق تفصيلاً من الجواب عن نظير هذا الإشكال، بأن تمامية هذا الإشكال في الآية موقوف على عدم كون خطاب (وَشَاوِرْهُمْ)(6) عاماً جيء به بلسان خاص، كما هو كثير في القرآن الكريم كما فصلناه سابقاً، ومنه قوله سبحانه: (أَقِم الصَّلاةَ)(7)، و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد)(8)... الخ، وقد استثني منه النبي (صلى الله عليه وآله) بدليل الآيات السابقة استناداً إلى أن مثل (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما
ص: 248
يُوحى إِلَيَّ)(1) دليل على عدم اتباعه الأكثرية في الموضوعات والشؤون العامة، أما لو قلنا بأن الخطاب عام وقد استثنى (صلى الله عليه وآله) منه لخصوصية فيه (وهي علمه المطلق المحيط وعصمته وكونه متصلاً بالله تعالى) وقلنا بعدم قبح استثناء المورد، كما في قول المولى لكبير عبيده الذياعتاد أن يوجه الخطاب إليه مع كون الأمر عاماً له ولغيره: (إذهب للدفاع عن المدينة) مما كان الأمر له ولغيره من العبيد، ثم استثناه المولى بالخصوص، فإنه - على ذلك كله - لا يستلزم استثناؤه (صلى الله عليه وآله) استثناء الباقين، ولا صرف ظاهر الأمر (شاورهم) عن ظهوره في الوجوب كما فصلناه سابقاً، فليراجع وليتأمل.
ثالثاً: إن اتباع الأكثرية في الشؤون العامة وفيما لم ينزل فيه وحي بخصوصه، اتباع لما يوحى إليه، إذ قد أوحي إليه ب- (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(2) و(أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(3) - بناءً على تمامية الاستدلال بهما أو بالآية الأخيرة - واتباعها حكم بين الناس بما أراه الله، إذ قد أراها له، واتباعها المأمور به في الآية ليس نطقاً عن الهوى، وذلك لأن ما أوحى الله به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قسمان، أوحى إليه بجزئيّه، وقسم أوحى إليه بكليّه، وفي كليهما فإن الاتباع اتباع للوحي، فقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِباتُ)(4) دليل بعمومه على حلية السكر والدابوعة مثلاً، فقوله (صلى الله عليه وآله) بحليتهما قول بما أوحي إليه وإن لم
ص: 249
يرد في هذين الموردين وحي جزئي وخاص، وإكرامه لهذا الضعيف وإحسانه لهذا الفقير وإلقائه هذه الخطبة وأكله لهذه اللقمة اتباع لما أوحي إليه من الكلي لا الجزئي، إذ لم يرد في كل مورد جزئي وحي خاص، كما يدل عليه قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)(1)، وغير ذلك.
وفي موارد الاستشارة أيضاً كذلك، فقد أمر أمراً كلياًبالاستشارة في الموضوعات العامة، فاستشارته (صلى الله عليه وآله) لهم واتباعهم اتباع لما يوحى إليه من الكلي وليس اتباعاً للهوى.
والذي يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأي رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار).(2)
والروايات الدالة على كون سيرته (صلى الله عليه وآله) القضاء بالبينة أو بالشاهد واليمين مطلقاً كثيرة، فليراجع كتاب القضاء من الوسائل وغيره، وكذلك الروايات الدالة على كون الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فقط هو الحاكم بما هو الواقع مطلقاً، كما كان يحكم داود (عليه السلام).
فحكمه (صلى الله عليه وآله) بالبينة واليمين رغم كونها قد تكون مخالفة للواقع، بل قد يكثر فيها ذلك، ليس اتباعاً للهوى، بل هو اتباع للوحي الدال على لزوم الحكم على طبق البينة واليمين، فكما أن البينة قد تكون مخالفة للواقع ومع ذلك يلزم اتباعها، كذلك رأي الأكثرية قد يكون مخالفاً للواقع ومع ذلك يلزم اتباعه، وفي الصورتين كان الاتباع اتباعاً لكلي دل الوحي على لزوم اتباعه.
وأما عدم كون الخيرة للمؤمنين، فإنما هو معلق على (إِذا قَضَى اللهُ
ص: 250
وَرَسُولُه أَمْراً)(1)، فلو لم يقض (صلى الله عليه وآله) بأمر بل أرجعه إليهم وطلب رأيهم كان لهم ذلك، هذا إضافة إلى أن قضاء الرسول (صلى الله عليه وآله) أمراً كما أنه قد يكون متفرعاً على قيام البينة في الخصومات، كذلك قد يكون متفرعاً على رأي أكثرية الناس في الموضوعات، وكما أن له (صلى الله عليه وآله) أن يخالف البينة ويعمل على طبق علمه، ولا يعني ذلك عدم حجيتها لولا المانع - للتزاحم بين مصلحة الواقع ومصلحتها - كذلك له أن يخالف رأي الأكثرية ولا يعني ذلك عدم الحجية، لولا المانع وكون علمه مقدماً لو كانت مصلحة الواقع أقوى من المصلحة السلوكية وشبهها.
وأما قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)(2)، فكما أن حكمه بالبينة حكم بما أراه الله، لكونه مأموراً بالعمل بها، وليس حكماً بما أراه الناس، كذلك لو تمت الأدلة الدالة على لزوم اتباع الأكثرية في الموضوعات العامة - كما فصلناه في محله - كان حكمه بها حكماً بما أراه الله، لكونه مأموراً بالعمل بها، وليس حكماً بما أراه الناس مبائناً لما أراه الله.
ص: 251
ومما سبق اتضح الجواب عن (ثم وما هي المصلحة في إرجاع أمر المسلمين إلى الشورى وبينهم الرسول (صلى الله عليه وآله) والوحي متواتر يقضي كل حاجة، فلماذا يكلف حامل الوحي أن يستوحي المؤمنين في الأمر، هل في أمر الرسالة وهو وحي يوحى، أم أمر المرسل إليهم ويكفيهم أمر الرسالة أوامر الأحكام ب(إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ)(1) أم أمر القيادة السياسية وهو مما أراه الله)(2).
إذ ينقض برجوع النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه إلى البينة في قضائه، وبإرجاع أمور المسلمين في خصوماتهم إلى البينة، رغم أن بينهم الرسول (صلى الله عليه وآله) والوحي متواتر يقضي كل حاجة، ورغم علم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالحق عبر طرق أخرى، كعمود النور على ما في الروايات الشريفة، وكذا رجوعه (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى سائر القواعد كاليد والسوق وغيرها.
والحل: بأن المصلحة في ضرب القانون والتأسي به (صلى الله عليه وآله) وتربيتهم على ذلك، كما في مسألة تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) وغيرها (جرياً للسنة)، إضافة إلى المصلحة في تأليف قلوبهم، وما ذكرته الآية الشريفة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(3)، والإرجاع إنما هو في الشؤون العامة لا في أصل
ص: 252
القيادة، وإرائة الله له قد سبق توضيح المراد منها، كما سبق عدم المنافاة بين الإرجاع وبين كون الحكم لله وكونه وحياً يوحى، إضافة إلى أنه إن كان المراد نفي الإمكان فواضح البطلان، أو نفي الوقوع فعدم المعرفة بالمصلحةغير نافٍ لوجودها والدليل قائم كما قدمناه، وليس ذلك إلاّ كقول القائل: ما المصلحة في إرجاعه (صلى الله عليه وآله) إلى الأيمان والبينات: (إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات...) (1)، مع علمه بواقع الأمر، وقد أراه الله ذلك، أو مع التنزل له أن يريه.
ص: 253
وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى: بأن مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب، وإلا لذكروها في ضمن الواجبات.
إضافة إلى أن السيرة العملية للفقهاء لم تكن على الاستشارة والشورى، بل على التفرد بالرأي، يشهد لذلك حكمهم في باب الهلال، وفي التصرف في أموال القصر واليتامى ... الخ، بل لم نجد مخالفاً في المسألة، بل إن الإجماع منعقد على عدم وجوبها مما يكشف (لطفاً أو دخولاً أو حدساً أو تشرفاً ، على الاختلاف في وجه حجية الإجماع) عن رأي المعصوم (عليه السلام) ويشهد لدعوى الإجماع هذه أن الإجماع منعقد على حجية رأي كل فقيه لمقلديه، وعدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي سائر الفقهاء.
والجواب عن عدم فهم الفقهاء الوجوب من (وَشَاوِرْهُمْ)(1) من وجوه عديدة:
أما ما ذكر من (أن مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب) فيكون فهمهم
ص: 254
قرينة على عدم إرادة الوجوب منها، فيرد عليه:
أولاً: إن الفقهاء لم يتطرقوا لهذه المسألة (وجوب الشورى) لااثباتاً ولا نفياً حتى يقال إنهم لم يفهموا الوجوب منها.(1)
قولك: (وإلا لذكروا وجوبها في ضمن الواجبات).
فيه: أ: لم يفرد الفقهاء عادة للواجبات والمحرمات كتاباً حتى يستقصوا فيه كل الواجبات وكل المحرمات، فيكون عدم ذكرهم لوجوب الشورى في ضمن التعداد دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب استناداً لمفهوم الحصر أو الإطلاق المقامي، بل إنهم يذكرون كل واجب في بابه (من الصلاة والصوم والحج و...) وهذا كعدم ذكرهم لاستحبابها مع التزامهم به، أو بأي حكم تكليفي من الأحكام الخمسة، حيث لا يكون عدم الذكر في أي واحد منها دليلاً على الالتزام به.
ب: ولو فرض إفرادهم كتاباً لذلك أو كونهم في كتبهم الفقهية في مقام استقصاء جميع الواجبات وجميع المحرمات، فنقول: اللقب لا مفهوم له، فإثبات وجوب الصلاة لا ينفي وجوب عنوان آخر، وفيه: إن الاستثناء - على الفرض - لمقام الحصر والإطلاق المقامي حينئذٍ.
ج: عدم الذكر(2) لا يستلزم الحكم بالعدم(3)، إذ إن عدم الذكر يكون
ص: 255
لإحدى وجوه أربع؛ إذ قد يكون لاعتقاد عدم الوجوب اجتهاداً، وقد يكون للغفلة عن المسألة، وقد يكون للعثور على قرينة تصرف الأمر عن ظاهره(1)، وقد يكون لخروجها عن موضع الابتلاء، كماسيأتي توضيحه(2).
ومن الواضح أن عدم الذكر للوجه الثالث من هذه الوجوه الأربعة يكون دليلاً(3) على عدم الوجوب دون سائر الوجوه:
أما الوجه الأول: فلعدم حجية فتوى المجتهد على غيره إلاّ لو تعاضدت فتاوى المجتهدين بحيث بلغت حدّ الإجماع، فتأمل، لكونه مستنداً أو محتمله، وسيأتي توضيحه.
وأما الوجه الثاني: فواضح، إذ الغفلة عن ذكر شيء في عداد الواجبات أو غيرها لا يدل على عدم اعتبارهم إياه واجباً أو غيره، وإلا لزم بناءً على ذلك خلوه عن الأحكام الخمسة عندهم عند عدم ذكره، وهو بيّن الفساد، بل تستحيل دلالته على ذلك، لأن عدم الاعتبار فرع الالتفات الذي لا يجتمع مع الغفلة، لكون التقابل بينهما تقابل التضاد إن قلنا بكونها وجودية، أو تقابل العدم والملكة إن قلنا بكونها عدمية.
وأما الوجه الرابع: فواضح أيضاً، إذ عدم ذكر حكم ما هو خارج عن محل الابتلاء أعم من كونه واجباً أو مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً.
بل إن عدم الذكر للوجه الثالث أيضاً لا يكون دليلاً على عدم دلالة الآية على الوجوب، إذ أن ما يصلح لصرفها عن ظاهرها هو: عثورهم على قرينة
ص: 256
تصرف الأمر عن ظاهره، بحيث لو وصلت بأيدي سائر المجتهدين تلك القرينة لكانت حجة حتى عندهم، بأن يتم سندها ويحرز دلالتها وجهتها وعدم المعارض لها عندهم، والأصل عدم تحقق هذه القيود لكونها وجودية، بل نحن في غنى عن هذا الأصل لأن عدم إحراز الحجية (أي حجية تلك القرينة عندنا أيضاً وتمامية صارفيتها) كاف في عدم الحجية وعدم الصارفية، ولا يحتاج في عدم الحجية إلى إحرازها وجداناً أو تعبداً بالاستصحاب، وقد يقال: بأنه حدث خلط بين مرحلة الثبوت والإثبات، فالأصح القول بذلك عند التردد في كونه لأي من الوجوه لا إجرائه مع فرض كونعدم الذكر للوجه الثالث، فتأمل.
إضافة إلى أن الأصح القول: بأن عدم إحراز معارض ما هو ظاهر في الوجوب أو غيره كاف في البناء على ذلك الظهور، فهو ككل ظاهر احتمل فيه وجود قرينة على خلافه ولم يعثر على شيء بعد الفحص، وقد سبق ذكر هذا ببيان آخر، هذا إضافة إلى أن لنا أصلاً آخر سابقاً وهو أصالة عدم وجودها، فتأمل.
ولعل المتتبع يعثر على كثير من الموارد التي لم يتطرق لها أكثر الفقهاء بالذكر(1)، مما يوجه بأحد الوجوه الأربعة المذكورة، مع خامسها المذكور قبلها.
منها: الآية الشريفة: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(2).
ومنها: الآية الشريفة: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ
ص: 257
إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(1)، حيث لم يبحث عن أصل الحرمة وعن حدودها، فهل اليأس عن إحياء ميتة منه أم لا، انصرافاً أو غيره.
ومنها: حدود هجر كتاب الله: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(2) أو حتى أصله.
وكذا هجر المؤمن الوارد فيه روايات كثيرة، ففي صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا هجرة فوق ثلاث) (3) حيث لم يتطرق الكثيرلحرمته أو كراهته أو حدوده.
ومنها: مسألة هبة الحقوق الشرعية.
ومنها: آية نهر السائل: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(4).
ومنها: آية التنازع: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا)(5)، خاصة مع كثرة المصاديق المشكوكة وعموم الابتلاء.
ومنها: آية (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)(6)، فهل هو حرام أو مكروه؟ وهل النهي مولوي أو إرشادي؟.
ومنها: آية منع الماعون: (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ * وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(7)، فهل منعه حرام مطلقاً أو في صورة كون البناء عليه (أي منع الجميع محرم أو خصوص المجموع) أو عدم الحرمة مطلقاً أو المراد به خصوص الواجب منه
ص: 258
كالزكاة.
ومنها: آية المنة: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(1)، فهل هي مكروهة أو محرمة مطلقاً أو فيما استلزمت الإيذاء أو الإهانة أو الهتك وشبه ذلك.
ومنها: آية (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً)(2).
ومنها: المراء والجدال: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3).
ومنها: كفران النعمة.
ومنها: التكبر بأقسامه.
ومنها: القعود مع فاعل المنكر، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِالظَّالِمِينَ)(4).
ومنها: إفشاء السر، ففي صحيحة زرارة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): (المجالس بالأمانة) (5).
ومنها التفريق بين الأحبة، كما في رواية ابن سنان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) وحدودها.
ومنها: الفخر.
ومنها: تعيير المؤمن.
ومنها: التجسس، (وَلا تَجَسَّسُوا)(6) وحدوده.
ص: 259
ومنها: التعصب للأمور الجاهلية، كالقومية والاقليمية والعرقية، ففي صحيح هشام، عن الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) (1).
ومنها العُجب، ففي صحيح الثمالي، عن السجاد (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (.. وثلاث مهلكات، هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه) (2).
ومنها: ظن السوء بالمؤمنين.
ومنها: طلب الرئاسة.
ومنها: آية (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)(3).
ومنها: تسمية غير علي (عليه السلام) بأمير المؤمنين.
ومنها: السخرية، (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)(4).ومنها: الرد على العلماء: (الراد عليهم كالراد علينا) (5)، ومعناه، وهل هو حرام مطلقاً أو في بعض الصور، أو عدم الحرمة مطلقاً.
ومنها: الخشية من الكفار وغيرهم: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(6).
ومنها: حب الدنيا.
ص: 260
ومنها: إيواء العصاة.
ومنها: إيذاء الجار.
ومنها: اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ)(1).
ومنها: التوكل على الله، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)(2).
ومنها: الهجرة، (قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(3).
ومنها: التعاون على البر والتقوى، (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى)(4).
ومنها: الصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم)، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(5).ومنها: الإصلاح بين الأخوين، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(6).
ومنها: الصبر والمصابرة، (اصْبِرُوا وَصابِرُوا)(7).
ومنها: التدبر في القرآن الكريم، (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(8).
ومنها: رعاية الترتيب.
ص: 261
ومنها: بهت أهل البدع، فقد ورد في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كي لا يطعموا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس..) (1).
ومنها: التبشير، (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(2).
ومنها: العفو والإعراض عن الجاهلين، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(3).
إلى موارد أخرى عديدة.(4)
وأغلب هذه الموارد رغم أهميتها البالغة الشديدة الأكيدة لم يتطرق لها مشهور الفقهاء إلا القليل منهم أو النادر(5)، ولا يعد ذلك دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب أو الحرمة من الآيات والروايات الواردة مواردها، بل عدم الذكر إما للغفلة، أو لعدم كونهم في مقامالاستقصاء، أو عدم القدرة نتيجة الابتلاء بمزاحمات أخرى، أو لوضوح الأمر فيها لديهم، أو لغير ذلك كالاكتفاء بذكر كبرياتها في محالها، أو لغير ذلك، أو لمجموع ذلك في مجموع الموارد، وبعضها المذكور في علم الأخلاق لم يبحث عنه من جهة حكمه الشرعي عادة وبالاستناد إلى دليله من الآيات والروايات كما لا يخفى.
ص: 262
ومما يؤيد ما ذكرناه هنا - من أن عدم الذكر يحتمل وجوهاً عديدة - وما سنذكره في الجواب الثاني والثالث: ما ذكره الشيخ الأنصاري في الرسائل، قال (قدس سره) في بحث الاستصحاب منه: (... وحيث إن المختار عندنا هو الأول ذكرناه في الأصول العملية المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقلياً، ولذا لا يتمسك أحد هؤلاء بخبر من الأخبار... وأول من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس وشاع بين من تأخر عنهم)(1)، وقال: (... لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة إلى زمان متأخري المتأخرين مع أن بعض هؤلاء...)(2).
ثم قال (قدس سره) بعد ثلاث صفحات: (... وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل، بناءً على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة لقصور دلالتها عندهم، ببعض ما أشرنا إليه سابقاً، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل)(3).
فرغم أن الأكثر على كونه حكماً عقلياً (لكن ظاهر كلمات الأكثر...) ورغم أن (المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة) رغم ذلك استند والد الشيخ البهائي ثم الشيخ الأنصاري (قدس سرهما) إلى الأخبار على خلافالمشهور، واعتبراها دالة على المراد، ولم يكن إعراض المشهور عن الاستدلال بها قرينة نوعية على عدم حجيتها، ولا مانعاً عن استظهار فقيه آخر الحجية منها، وذلك لأسباب عديدة منها: احتمال كون
ص: 263
إعراضهم عنها لغفلتهم عنها، ولعدم تمامية سندها لديهم، أو لعدم تمامية دلالتها عندهم، كما قال (قدس سره): (... بناءً على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكور لقصور...)، ومنها: عدم كون اجتهاد الفقيه حتى لو عضدته الشهرة حجة على فقيه آخر كما أوضحناه... بل آل الأمر إلى انعقاد شهرة المتأخرين على خلاف شهرة المتقدمين، كما يشهد به قوله (قدس سره): (وشاع بين من تأخر عنهم)، وكما يشهد به تتبع آراء الفقهاء بعد الشيخ (قدس الله سرهم).
د: هذا إضافة إلى أنه ليس بناء الفقهاء على اعتبار من لم يتطرق لوجوب شيء، قائلاً بالوجوب ولا قائلاً باللاوجوب، وكذا لا يعتبرون من لم يتطرق لمسألة ادعى فيها البعض أو المشهور الحرمة قائلاً بالحرمة أو عدمها.
ثانياً: سلمنا بأن المشهور فهموا عدم الوجوب، لكن الشهرة ليست ظناً معتبراً باعتراف المشهور، فلو جعل عدم فهمهم الوجوب من الآية قرينة صارفة للظاهر عن ظهوره كان في ذلك مخالفة المشهور(1)، فموافقة المشهور في (عدم دلالة الآية على الوجوب) لأنهم ارتأوا ذلك مخالفة للمشهور في الواقع، فالفرار من مخالة المشهور (بالتزام عدم وجوبها) مستلزم للوقوع في مخالفته، فلو لم يكن هذا ذا محذور لم يكن ذاك أيضاً.
لا يقال: الشهرة الفتوائية جابرة وكاسرة حسب رأي المشهور، فالضعيف المنجبر بعمل الفقهاء حجة، والصحيح المعرض عنه من قبل الأصحاب ليس
ص: 264
بحجة.
لأنه يقال: الشهرة جابرة للسند وكاسرة له لا للدلالة.
قال الشيخ (قدس سره) في الرسائل: (وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة، فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور، بناءً على أن ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، ولذا لا يتأملون في العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة إذا عارضها الشهرة، فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر لا عمومه وإطلاقه، فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص، نعم ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن، أو إذا حصل الظن غير المعتبر على خلافها، لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كل زمان).(1)
هذا لو أغمضنا النظر عن المناقشة في مستند مبنى المشهور على ما استظهره الشيخ من ادعاء أن ما دل من الدليل على حجية خبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، إذ لا وجه لهذه الدعوى مع عموم أدلة حجية خبر الواحد لمعارض المشهور، إذ الوجه إما الانصراف أو التخصيص أو أخبار مرجحات باب التعارض.
أما الأول: ففيه: أنه لو كان فهو بدوي(2)، إضافة إلى أن بناء العقلاء على الحجية مطلقاً.
ص: 265
وأما الثاني: ففيه: أن النسبة بين أدلة حجية الخبر وأدلة حجية الشهرة - على فرضها - هي العموم من وجه.
وأما الثالث: ففيه: أنها مختصة بحسب لسانها بباب تعارضالأخبار لا تعارض خبر وشهرة، أو ظاهر آية وشهرة، والمقام منه، إضافة إلى النقض بجريان ما ذكر بالنسبة للدلالة أيضاً بادعاء أن أدلة حجية الظواهر منصرفة عما لو خالفها المشهور أو مخصصة بغير صورة مخالفتهم.
نعم، غاية الأمر أنه يقع التعارض بينهما لا أن المقتضي لحجية الخبر المعارض للمشهور غير موجود، إضافة إلى أن بناء العقلاء على حجية خبر الواحد الجامع للشرائط اذا عارضته الشهرة الفتوائية في كل العلوم والصناعات، نعم قد يقدمون الشهرة ولكن لا من باب عدم المقتضي لحجية خبر الواحد حينئذٍ، بل من باب ابتلائه بالمعارض الأقوى، وكذا بناؤهم على حجية الظواهر وإن خالفها فتوى المشهور، ويظهر ذلك لمن رجع إلى الخبراء في كل علم وفن، حيث يتمسكون بظواهر الألفاظ وإن فهم منها المشهور غير ذلك.
وقال في أوثق الوسائل في شرح الرسائل: (.. إنه لا معنى لدعوى الإجماع على دلالة الألفاظ والظهورات العرفية، لجواز مخالفة هذا الإجماع بلا إشكال لمن ثبت عنده خلافه...)(1).
ومن الواضح فيما نحن فيه أن الآية (وَشَاوِرْهُمْ) قطعية الصدور، ظنية الدلالة، فالشهرة لا تضعف السند لقطعيته ولا الدلالة لأن محل الجبر والكسر هو السند لا غير، على المشهور.
ص: 266
ثالثاً: سلمنا أن الشهرة ظن خاص معتبر، لكون نقول: إن مقتضى القاعدة هو ملاحظة الدليل الذي أقامه الفقيه أو الفقهاء، ثم البحث عن سنده ودلالته وعدمها، ومدى دلالته - على تقدير الدلالة - ومعارضاته، ووجود مخصص أو حاكم أو وارد عليه، فلو ترجح عنده أحد الطرفين كان رأيه حجة، سواء وافق رأي الفقيه أو الفقهاء الذين أقاموا الدليل أم خالف، وذلك هو مقتضى فتح باب الاجتهاد ومقتضى حجية رأي الفقيه كما لا يخفى، إضافة إلى كونه من ضروريات الفقه، إذ من الضروري عدم وجوب (تعبد) الفقيه برأي فقيه آخر، أو رأي مشهور الفقهاء، وعدم وجوب قبوله أدلة الفقهاء الآخرين تعبداً، ووجوب التعبد برأي الفقيه منحصر في المقلّد، وفي صورة انسداد باب العلم والعلمي مع عدم سلوكه طريق الاجتهاد أو الاحتياط.
وحينئذٍ فالشهرة وإن كانت (ظناً معتبراً) إلاّ أن ذلك لا يعني كونها علة تامة لوجوب القبول، بل غاية ما في الباب: أنها مقتضٍ له، فلا يصح للفقيه الاعتماد عليها دون البحث عن المعارض وعن مدى دلالتها وعن الحاكم(1) أو الوارد عليها.
وللتوضيح نقول:
أدلة حجية خبر الواحد مثلاً إنما تصنع المقتضي لوجوب القبول وللحجية لا العلة التامة، ولذا قد يسقط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته لظاهر
ص: 267
الكتاب بنحو التباين (كما في أخبار الجبر والتفويض والغلو) أو العموم من وجه في مادة الاجتماع، أو عند معارضته بخبر آخر له مرجح صدوري أو حتى مرجح جهتي(1)،على وجهٍ.
فإذا كان الحال هذا في خبر الثقة الذي ذهب الأكثر إلى حجيته، فما هو الحال فيما ذهب الأكثر إلى عدم حجيته؟ ولأجل ذلك نجد أن العلماء في العمل بدليل مّا، اشترطوا (الفحص) عن معارضاته، ومنعوا العمل بالدليل (سواء في ذلك الظواهر أو أخبار الآحاد أو الاستصحاب مثلاً بناءً على أماريته) قبل ذلك، وهل الشهرة مستثناة من هذه القاعدة بحيث لو عثر فقيه على الشهرة الفتوائية أغناه ذلك عن البحث عن سائر الأدلة الموافقة والمخالفة، وبحيث لو عثر عليها أفتى على طبقها؟
إضافة إلى أن المشهور أن (القطع)(2) لا غير حجة ذاتية يستحيل تخلف الحجية عنه، فإن الحجية ذاتية للقطع - وعندنا ذاتية للعلم فقط - بذاتي باب البرهان، حيث تنتزع من حاق ذات القطع بلا ضميمة خارجية، ولو انفكت عن القطع لزم التناقض وغيره من المحاذير، على ما هو مذكور في بحث القطع... أما غير القطع (العلم عندنا) فحجيته غيرية جعلية، يمكن تخلفها عنه، بل يتحتم إن ابتلى بالمعارض الأقوى، إذا توضح ذلك اتضح أن انعقاد الشهرة على شيء (كعدم وجوب الشورى فرضاً) لا يلغى اجتهاد المجتهد، ولا يعني عدم صحة استظهار فقيه الوجوب على خلاف رأي المشهور، ولذا جرت طريقة معظم الفقهاء على عدم الاستدلال بالشهرة وجعلها مؤيدة لا غير(3)، وعلى ردّها
ص: 268
بوجدان الخلاف ومعارضة النصوص.(1)
ولأجل ذلك كله نجد على كر الأعصار قولاً مشهوراً وقولاً لغير المشهور، بل نجد المشهور في مسألة يخالفون - بعضاً أو كلاً - المشهور في مسألة أو مسائل أخرى، بنحو التفريق.(2)
ولأجل ذلك كله نجد انقلاب الشهرة على الوفاق في موارد عديدة، إلى شهرة على الخلاف في الأعصار اللاحقة:
فمن ذلك:
حكمهم إلى زمان المحقق الثاني (قدس سره) بأن بيع المعاطاة إنما يفيد مجرد الإباحة، خلافاً للمفيد (قدس سره) حيث حكم بلزومه، وإذ وصلت النوبة للمحقق الثاني (قدس سره) حكم بإفادته للملك المتزلزل واستقرت الفتوى بعده على ذلك(3)، وقال الشيخ (قدس سره) في المكاسب: (والمشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة، بل لم نجد قائلاً به إلى زمان المحقق الثاني).(4)
ومن ذلك انعقاد شهرة القدماء إلى زمان والد الشهيد الثاني (قدس سره) على تنجس البئر بالملاقاة، وأن المقدر في المنزوحات هو المطهر، ولكن استقرت الشهرة
ص: 269
الفتوائية بعده على عدم تنجسه بالملاقاة وأن النزح مستحب.(1)
ومن ذلك ما سبق من انعقاد الشهرة إلى زمان الشيخ البهائي (قدس سره) على عدم دلالة أخبار الاستصحاب على حجيته، أو على عدم الاستدلال بها، ثم انقلبت لتنعقد على اعتبارها هي الدليل (أو أحد الأدلة) على حجيته، فتأمل.
وكذا انعقادها عند القدماء على كون الاستصحاب من الأمارات ثم اعتبارها من الأصول، فتأمل.وقد ذكر أحد كبار الأساتيذ موردين آخرين هما:
1: مسألة نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه، حيث كانت الشهرة على النجاسة ثم انقلبت إلى الطهارة.
2: ومسألة كون (البراءة) أصلاً أو أمارة، حيث كانت الشهرة في السابق على كونها أمارة.
وأما ما ذكر من (أن السيرة العملية للفقهاء لم تكن على الاستشارة والشورى، بل على التفرد بالرأي، يشهد لذلك حكمهم في باب الشورى وفي التصرف في أموال القصر والتيامى).
فيرد عليه، إضافة إلى جريان بعض ما ذكر سابقاً ههنا بل وغيره أيضاً(2):
ص: 270
أولاً: إن على مدعي هذه الدعوى الإثبات، وذكر عشرة موارد أو مائة مورد لا يكفي، إذ الاستقراء الناقص ليس حجة، والحدس من عدم استشارة مجموعة من الفقهاء على كون السيرة العملية لجميعهم على عدم الاستشارة والشورى، غير صحيح، إذ الاستقراء إذا كان مستلزماً عادة للحدس بجريان الحكم في سائر الموارد يكون حجة، أما لو لم يكن مستلزماً عادة فليس بحجة وإن حدس منه الغير، نظير ما ذكره الفقهاء في حجية الإجماع من باب الحدس بقول المعصوم (عليه السلام) فليراجع.
لا يقال: عدم الدليل على عدم عمل الفقهاء بالشورى كافٍ في عدم وجوبها.
إذ يقال: قد سبق مفصلاً الجواب عن هذا الإشكال عند الاعتراض بأن عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) كافٍفي عدم الوجوب، فليراجع.
ثانياً: النقض بموارد استشارتهم وهي كثيرة، وبموارد عملهم بالشورى مما قد يظهر للمتتبع في قصص العلماء وتواريخهم، وقلة هذه الموارد لا تدل على عدم العمل في أكثر الموارد، إذ لعل سبب القلة هو كونها من السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم كون أمر الشؤون العامة - كالصلح والحرب والمعاهدات الدولية - بأيديهم، فتأمل.
ثالثاً: إن السيرة ليست بحجة إلاّ لو أحرز اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام) وإمضائه لها.
وأما ما ذكر من (ويشهد لذلك حكمهم في باب الهلال و...):
ففيه: أنه لا شهادة له على خلاف ما ندعيه وتوضيح ذلك:
ص: 271
إننا لا ندعي وجوب الشورى في أمثال الحكم بالهلال والتصرف في الأمور الحسبية بالمعنى الأخص، بل إننا ندعي وجوبها في أمثال المعاهدات الدولية والحرب والصلح وما أشبه ذلك.
والسر في ذلك:
أن (ثبوت الهلال) من الموضوعات الصرفة التي يكون المرجع فيه أهل الخبرة، ولو رجع فيه إلى الفقيه فإنما هو من حيث إنه خبير لا من حيث إنه فقيه، كالرجوع إليه في تعيين ما هو القمار، وأي نوع يصدق عليه الخمر، ولذا نجد أنهم ذكروا أن شخصاً لو رأى هلال رمضان مثلاً وجب عليه الصوم وإن لم يثبت الهلال عند الفقيه ولم يحكم به، وكذا لو حكم الفقيه بهلال رمضان استناداً إلى شاهدين أو شهود أحرز الشخص كذبهم، لم ينفذ حكمه في حقه، بل لو حكم بهلال رمضان استناداً إلى شهود عدول مع رؤية الشخص هلال شعبان قبل (27) ليلة لا ينفذ حقه، إذ الشهر لا ينقص عن 28 يوماً وقد رآه قبل 27 ليلة، فتأمل، والمدعى هو وجوب الشورى في الموضوعات المستنبطة.
وأما: التصرف في الأمور الحسبية فتفصيل القول فيه:
إن الأمور الحسبية هي - كما قال السيد الوالد في (الفقه) -: (الأمور التي لا ولي لها بالخصوص، كتولي الأوقاف العامة، وإدارة شؤون القصّر والغيّب بالنسبة إلى أموالهم وما يتعلق بهم، كإجراء النفقة على زوجة المجنون، والحجر على السفيه والمفلس، وإجازة تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم وأمثال
ص: 272
ذلك)(1)، و(لا إشكال في جواز تصدي الفقيه لها، وللجواز مسلكان: الأول: إنه من باب المعروف الذي علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج، ألا ترىأنه لا يعقل أن يكون الشارع معطلاً للميت الذي لا ولي له حتى ينتن، أو أن يخلي سبيل المجنون والسفيه والصغير حتى يفسدوا، فإنه خلاف الحكمة القطعية... الثاني: إن هذه الأمور من فروع القضاء المأذون فيه شرعاً للفقيه الجامع للشرائط، كما نرى من رجوع هذه الأمور في هذه الأزمنة وما قبلها إلى الحاكم والقضاة، بل قد ادعى إطباق التواريخ على أنه كان كذلك في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم الصلاة والسلام) فإن القاضي المنصوب من قبلهم كان بيده هذه الأمور، كما أن الوالي كان بيده الأمور السياسية، كما سيأتي توضيحه في الأمر السادس، وعليه فحيث ثبت في الأمر الرابع جواز القضاوة للفقيه كان من فروعه جواز تصديه للأمور الحسبية، وهذا المسلك أقوى في النظر).(2)
إذا تمهد ذلك: فنقول: أما على المسلك الثاني فالأمور الحسبية خارجة تخصصاً عن أدلة الشورى، فلها خروج موضوعي عنها، فكيف يكون جريان سيرة الفقهاء على عدم العمل بالشورى فيها دليلاً على عدم عملهم بالشورى فيها لو تحقق موضوعها؟ وهل يكون عدم محمول في موضوع دليلاً على عدمه في موضوع آخر؟
بيان الخروج التخصصي: إن الأمور الحسبية - على المسلك الثاني - داخلة في باب القضاء والقضاة، أما موضوع الشورى فهو (الشؤون العامة المرتبطة بالسياسات وتدبير المدن).
وبعبارة أخرى: ما كان الأمر والحكم فيه إلى (الولاة) لا (القضاة) فهو
ص: 273
موضوع الشورى إن ثبتت، وإن لم تثبت فهو موضوع نفوذ حكم الحاكم الواحد مباشرة أو بالتوكيل إن جوزناه(1)، وما كان الأمر فيه إلى القضاة لا الولاة فليس بموضوع لها.
ومن الواضح - عرفاً - أن للقضاة شؤوناً تختص بهم، وللولاة شؤوناً كذلك، وعلى ذلك جرت كافة الدول في كل الأزمنة.
والمدعى وجوب الشورى فيما يرتبط بالولاة، (أي في الشؤون العامة المرتبطة بسياسة المدن أو ما يسمى ب"الحكومة")، لا فيمايرتبط بالقضاة، فلا يكون عدم عملهم بالشورى فيما يرتبط بالقضاة - كالأمور الحسبية على المسلك الثاني - دليلاً على عدم وجوبها فيما يرتبط بالولاة، ولا على عدم عملهم بها فيه.
ويشهد لذلك تعريف المشهور للقضاء، قال الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (رضوان الله تعالى عليه): (القضاء لغةً وعرفاً: ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق، كما في المسالك والتنقيح وكشف اللثام وغيرها، بل في الأول منها نسبة تعريفه بذلك إليهم)(2)، وقال في المستند: (هو ولاية حكم خاص، أو حكم خاص في واقعة مخصوصة على شخص مخصوص بإثبات ما يوجب عقوبة دنيوية شرعاً أو حق من حقوق الناس بعد التنازع فيه أو بنفي واحد منهما).(3)
وبهذا يتضح فرقه وبينونته موضوعاً عن موضوع الشورى (وهو ما يرتبط
ص: 274
بالولايات)، إذ أن القضاء هو (ولاية الحكم شرعاً بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين) أما منصب الحكومة مما يرتبط بالوالي فهو: (ولاية ترتبط بالشؤون العامة كالجهاد والمعاهدات)، ولا ترتبط ب- (جزئيات القوانين الشرعية) كالحكم على هند بأنها زوجة خالد، وبأن هذه الدار ملك لزيد، ولا شك في ظهور، ولا أقل من انصراف جزئيات القوانين الشرعية إلى غير الشؤون العامة، كما هو الظاهر، كما أنها ولاية (وتؤثر على أو تلزم عامة المكلفين أو أكثرهم أو جماعة كبيرة منهم)(1) وليست كالقضاء الذي هو (على أشخاص معينين)، فالإنفاق على زوجة زيد المجنون وتجهيز الميت الفلاني ولاية على أشخاص معينين في قضايا جزئية شخصية مما يرتبط بالقضاء، أما إصدار الحكم بالجهاد أو الأمر بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع دولة أو عقدالتحالف معها فهو (ولاية على العموم) مما يرتبط بالولاة، ويتضح الأمر أكثر بملاحظة تعريف المستند السابق.
وبعبارة جامعة:
في القضاء في الأمور الحسبية توجد(2) ثلاثة أمور، بناء على هذا التعريف:
أ: حكم الشارع بلزوم الإنفاق والتجهيز والحجر على المفلس أو السفيه.
ب: تشخيص الموضوع الجزئي (وأن زيداً مجنون، وفلاناً ميت لا متكفل له، وفلاناً مفلس أو سفيه).
ج: إنشاء الحكم على الموضوع الجزئي عند تشخيصه، والتصدي لذلك، والأخيران مرتبطان بالقاضي بناءً على كون الأمور الحسبية من شؤونه.
أما في الولاية فتوجد الأمور التالية:
ص: 275
أ: حكم الشارع بالحرب والجهاد إن كانت فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وبالصلح إن كانت في الصلح المصلحة، وكذا في المعاهدات الدولية وسائر الشؤون.
ب: تشخيص الموضوع الكلي(1)، وأن الظروف ظروف حرب فالجهاد، أو ظروف سلم فالصلح، وأن الوضع الحالي صغرى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(2)، أو صغرى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ)(3)، و: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ)(4) - مثلاً -، وكذا في المعاهدات الدولية، وكذا في السياسة الداخلية العامة للدولة.
هذا في الأدلة العرضية، وأما الأدلة الطولية فكذا أيضاً، فهلتفرض المكوس (الضرائب) على البضائع المستوردة لجريان قاعدة (لا ضرر)(5)، أم لا، لعدم دخولها تحت عنوان ثانوي، وذلك تبعاً لتشخيصه أن استيرادها دون ضرائب يحطم الصناعة الوطنية أم لا، وإذا كان يحطم فهل هناك طرق أخرى - غير فرض المكوس - للحيلولة دون التحطيم أم لا.
ومن الواضح أن (زيداً مجنون وفلاناً ميت لا متكفل له) موضوع جزئي شخصي، أما أن الظروف ظروف حرب أو ظروف صلح أو أن الاستيراد دون
ص: 276
ضريبة يحطم الاقتصاد، فموضوع كلي نوعي.
ج: إنشاء حكم عام، أي إصدار أمر عام عند تشخيص الموضوع الكلي، فعند تشخيص أن الظروف ظروف حرب يصدر الوالي الحكم بالجهاد، وهذا الأمر يتعلق بعموم المكلفين، عكس الأمر بالحجر على المفلس مثلاً مما يتعلق بأفراد لا غير.
وبذلك كله اتضحت البينونة التامة بين (القضاء) و (الولاية) موضوعاً في مثالي: وجوب الجهاد عند تربص العدو غير المندفع إلاّ بذلك على عامة المكلفين، ووجوب التسليم عند ثبوت كون الدار ملكاً للغير على من بيده الدار، هذا كله على تعريف المشهور للقضاء.
وأما بناء على التعريف الآخر للقضاء الذي ارتضاه غير المشهور، وهو ما نقله في الجواهر حيث قال: (وفي الدروس: ولاية شريعة على الحكم والمصالح العامة من قبل الإمام (عليه السلام) ولعله أولى من الأولى، ضرورة أعمية مورده من خصوص إثبات الحقوق كالحكم بالهلال ونحوه وعموم المصالح)(1):
فالفرق بين (الولاية) و (القضاء) بعد ثبوت انصراف عموم المصالح إلى غير ما يرتبط بالوالي، وإلاّ لكان التعريف غير طارد، لأن (الهلال) وأمثاله وإن كان يتعلق حكم القاضي فيه بنوع المكلفين، إلا أن الفرق بينهما هو أن ما تعلق بنوع المكلفين مما يرتبط بتدبير المدن وسياسة العباد على الوجه العام مرتبط بالوالي، وما يتعلق بنوعهم مما يرتبط بالشرعيات كالهلال وشبهها، أو بتدبير المدن على الوجه الخاص مرتبط بالقاضي.
هذا إضافة إلى الجواب السابق من أن الهلال من الموضوعات الصرفة، وعدم تعين الرجوع إلى القاضي أو الفقيه فيه، وأنه يكفي فيه الرؤية أو شهادة
ص: 277
شاهدين عند الشخص أو الشياع، إلى جانب كفاية حكم القاضي أو الفقيه، فلو ثبت عنده الهلال - بالرؤية أو الشاهدين - كفى وإن لم يثبت للفقيه، ولو ثبت عند الفقيه وأحرز هو عدمه - لعلمه بكذب الشهود - لم يتبعه، نعم لو ثبت عند الفقيه ولم يثبت عنده شيء وجب عليه العمل بقوله، كعمل كل شخص بقول خبير لم يثبت عنده خلاف قوله.
هذا مضافاً إلى أن الفرق بينهما أيضاً باعتبار الغاية، إذ غاية القضاء (قطع المنازعة) كما ذكره السيد العاملي (رضوان الله عليه) في مفتاح الكرامة(1)، أما غاية الولاية والوالي بما هو وال فليس ذلك، وإن كان ذلك جزء الغاية البعيدة له، إذ بنصبه للقاضي يهدف قطع المنازعات، إلاّ أن المقصود أولاً وبالذات من الحاكم والوالي ليس هو قطع المنازعات الشخصية أو الجزئية.
على أن الفرق بين (القاضي) و (الوالي) من الواضحات عند العرف، وأن لكل منهما مجالاً وعملاً محدداً، ووجود بعض المصاديق المشكوكة - لو فرض - والمرددة بين كونها للقاضي أو الوالي لا يضر بتمايزهما ثبوتاً أو اثباتاً ولو في الجملة، فلو فرض ثبوت حكم أو سلبه عن ذلك المردد لا يكون دليلاً على جريانه في غيره.
وأما على المسلك الثاني: فكذلك أيضاً، إذ أن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، سواء كان الجزئي حقيقياً أو إضافياً، فإن ثبوتحكم للأخص لا يكون دليلاً على ثبوته للأعم، ومحمول الأخص (كالمتعجب للإنسان) لا يلزم أن يكون محمولاً على الأعم أيضاً (كالحيوان)، إلا لو تحقق الأعم في ضمنه.
وبعبارة أخرى: ثبوت حكم أو سلبه - أو أي محمول آخر - لنوع مندرج تحت جنس لا يدل على ثبوته لنوع آخر وإن اندرج تحت نفس الجنس، وهو
ص: 278
واضح بل هو من البديهيات.
وحينئذٍ فلو قلنا: باندراج الأمور الحسبية تحت (المعروف)، وقلنا: باندراج الشؤون العامة المرتبطة بالسياسات (كالحرب والسلم - أي الجهاد - والمعاهدات الدولية وشبهها) تحته أيضاً(1)، فهما نوعان مندرجان تحت جنس واحد، أو لا أقل من أنهما صنفا نوع، (إذ الجهاد والمعاهدات الدولية وما أشبهها أمر، وإجراء نفقة زوجة المجنون والمفلس وإجازة تجهيز الأموات وما أشبه أمر آخر بالصنف أو بالنوع)، فكيف يكون محمول(2) أحد الجزئيين الإضافيين دالاً بثبوته له على ثبوته للجزئي الإضافي الآخر؟
ص: 279
وأما وجه عدم قولنا بوجوب الشورى في الأمور الحسبية فهي:
أولاً: لانصراف أدلة الشورى عنها، أترى أن الآية الكريمة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1) شاملة لاستشارته (صلى الله عليه وآله) ولاستشارة سائر الحكام المنصوبين من قبله (صلى الله عليه وآله) في إجراء النفقة على زوجة المجنون؟ والحجر على السفيه والمفلس؟ وإجازة تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم؟ وما أشبه ذلك، وهل يستفيد العرف من هذه الآية أن على الحاكم أن يشاور المسلمين في تلك الجزئيات؟
وكذلك الرواية الشريفة: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (2) - وسيأتي الاستدلال بها تفصيلاً - هل يفهم العرف من (الحوادث الواقعة): شخصاً جُنَّ فيرجع في نفقة زوجته إلى رواية أحاديثهم؟ وأية سنخية بين كونه راوياً للحديث وكونه ولياً على نفقة زوجة المجنون وشبهه أو مرجعاً فيه؟ فكيف بما لو قلنا باستفادة الرجوع إلى مجموع رواة الحديث (أي شورى رواته) من هذه الرواية، فهل يفهم العرف الرجوع إلى مجموع أو أكثر أو شورى أو حتى رواة الحديث في هذه المسألة وأشباهها؟ فتأمل، خاصة لو قلنا بأن هذه الأمور واجب كفائي على عامة عدول المؤمنين، وأن الفقيه أحد مصاديق من يجب عليه القيام بها، فيجوز تصديه لها، لا أن يتعين التصدي لها وينحصر فيه، كما التزم به العديد من الأعاظم.
ص: 280
وكذلك سائر أدلة الشورى التي ذكرناها في محالها.
ثانياً: لاستلزامها (أي الشورى) في الأمور الحسبية العسر والحرج لو لم تستلزم تعطل أكثر المصالح، ذلك أن استشارة أي فقيهلكل الفقهاء(1) أو لأكثرهم أو حتى لمجموعة منهم في دفن كل ميت وإجراء نفقة زوجة كل غائب أو مجنون أو مسجون والحجر على كل مفلس أو سفيه مستلزم بلا شك للعسر والحرج على الفقيه وعلى سائر الفقهاء، والحرج مرفوع بحديث الرفع، سواء قلنا إن مفاده نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - كما هو مبنى الآخوند (قدس سره) - أو مفاده نفي الحكم الناشئ من قبله العسر والحرج - كما هو مبنى الشيخ (قدس سره) - إذ على كلا الرأيين تجري هنا قاعدة نفي الحرج، بل وعلى سائر الأقوال(2).
هذا إن لم نقل بأنه مستلزم لتعطل أكثر هذه الأحكام، إضافة إلى أنه(3) قد يعد عملاً غير عقلائي.
ومن الواضح أن استشارة الفقيه سائر الفقهاء في الأمور العامة (كالحرب والصلح وأشباهها) ليس مستلزماً للعسر والحرج لقلتها، ولا يعد عملاً غير عقلائي، بل سيأتي إثبات أن العقل يقتضيه.
ثالثاً: ولا أقل من القول بعدم وجوب الشورى في الأمور الحسبية، لاستقرار سيرة الفقهاء على عدم الشورى فيها، أو لظهور أدلتها في ذلك، فلو سلم وجود هذه السيرة وحجيتها فلا بأس بالتزام التخصيص في أدلة الشورى، وأنها قد خرج منها أمثال الهلال والحجر... الخ.
ص: 281
رابعاً: سلمنا استقرار سيرة الفقهاء على عدم العمل بالشورى، لكن نقول: عدم عملهم بها لا يكون دليلاً على التزامهم بعدم وجوبها، إذ كان عدم عملهم بها غالباً من باب السالبة بانتفاء الموضوع، ومن الواضح أن عدم الحكم بثبوت محمول لعدم موضوعه لا يستلزم إطلاقاً عدم الحكم بثبوته عند وجود موضوعه، وكذا عدم العمل بمحمول لعدم تحقق موضوعه لا يدل إطلاقاً على عدم الالتزام بعدم وجوب هذا المحمول عند وجود موضوعه، أرأيت لو أن فقيهاً لم يعمل بقاعدة (الإنفاق على الزوجة) لعدم تزوجه، أيكون عدم عمله وعدم إنفاقه لعدم زوجته دليلاً على التزامه بعدم وجوب الإنفاق عند تحقق الموضوع؟ وذلك في غاية الوضوح. نعم مما لا شك فيه أن كثيراً من الفقهاء لا يلتزم بوجوبها حتى في الشؤون العامة، لكن الكلام حول إثبات أن أكثر الفقهاء على ذلك، هذا بيان الكبرى.
وأما بيان الصغرى (أي عدم عملهم بالشورى كان غالباً من باب السالبة بانتفاء الموضوع) فهو: أن (الصلح والحرب) و (المعاهدات الدولية) و (السياسة الداخلية العامة للدولة مثلاً: تصفية المعارضة والقضاء عليها أو استمالتها أو اتباع سياسة اللاعنف معها، وفرض الضرائب، والتأميم.. الخ) لم يكن تحت تصرف الفقهاء، وكان اتخاذ القرار فيها خارجاً عن مقدورهم، لأن الدولة كانت بيد غيرهم، فعدم استشارة الفقهاء على طول التاريخ في الشؤون العامة على فرض تسليم ذلك، إنما كان دائماً أو غالباً لعدم تحقق الموضوع، نعم لو كانت الدولة طوال التاريخ بأيدي الفقهاء ثم انفرد كل فقيه برأيه في الشؤون العامة ولم يعمل
ص: 282
بالشورى، كان هذا دليلاً على التزامهم بعدم وجوبها، ولصحت دعوى استقرار طريقتهم على عدم الاستشارة مع تحقق الموضوع.
لا يقال: حكم مجموعة من الفقهاء ولم يستشيروا، كالمجلسيين(قدس سرهما) والبهائي (قدس سره) والطوسي (قدس سره) والعلامة (قدس سره).
إذ يقال: أولاً: لم يكن الحكم بأيديهم ليحولوه إلى حكومة شوروية، بل كانوا يعيشون في دول ملوكية كان أحدهم وزيراً فيها، والآخر مشيراً لا غير، فلم يكن الأمر بيدهم ولم يكن بمقدورهم ذلك، ليكون عدم عملهم بالشورى دليلاً على عدم التزامهم بوجوبها.
ثانياً: سلمنا التزام هؤلاء بعدم وجوب الشورى، لكن المدعى هو انعقاد سيرة الفقهاء على عدم الوجوب، وأين هذا من التزام عدد من الفقهاء بعدمه؟ وهل يكون التزام عدة فقهاء بحكم صارفاً للظاهر عن ظهوره؟ هذا كله إضافة إلى ما فصلناه من عدم الحجية لعملهم، فليراجع.
وأما ما ذكر: من (أن الإجماع منعقد على عدم وجوبها، مما يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) لطفاً أو دخولاً... الخ).
فيرد عليه: إضافة إلى ما ذكر في رد ما ذكر من (أن الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب) و (السيرة العملية للفقهاء...) إذ يجري أكثر ما ذكر هناك ههنا:
أولاً: لا إجماع في الشؤون العامة على عدم وجوب الاستشارة فيها أو الشورى، لبداهة عدم تعرض الأكثر لهذه المسألة أصلاً، فكيف يدعى إجماعهم على العدم؟
ص: 283
ثانياً: الإجماع المنقول ليس بحجة.
ثالثاً: الإجماع وإن كان محصلاً فليس بحجة ههنا، لأنه محتمل الاستناد، بل معلوم الاستناد، والإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجة، فكيف بمعلومه على المبنى المشهور، بيان ذلك أنه مستند أو محتمل الاستناد للأدلة الدالة على وجوب التقليد، حيث استظهروا منها أن كل مقلد عليه أن يرجع إلى مجتهد واحد(1)، وأنه لا يحق له الرجوعإلى رأي الغير وإن كان هو أكثرية الفقهاء (مما يعبر عنه بالمشهور أحياناً، والأشهر أحياناً أخرى).
وأدلتهم(2) على وجوب التقليد هي: السيرة والإجماع، وأنه من ضروريات الدين، والكتاب كآية النفر والذكر والنبأ وغيرها، والروايات كما دل عليه الإرجاع لآحاد الأصحاب والثقات والعلماء والتوقيع الوارد وغيرها، وسيأتي بإذن الله تعالى التكلم حول هذه الأدلة مفصلاً، وأنه هل لها دلالة على حرمة أو مرجوحية تقليد أكثرية الفقهاء في كل الوقائع أم لا؟
وكذلك مستند أو محتمل الاستناد إلى الأدلة الدالة على وجوب تقليد الأعلم، ومنها الإجماع المنقول، وبناء العقلاء، والأخبار كمقبولة ابن حنظلة وداوود بن الحصين، وقاعدة الدوران بين التعيين والتخيير، وسيأتي بإذن الله تعالى التطرق لها والبحث عن صحتها، ثم مدى دلالتها على تقدير صحتها وسلامتها، وكذلك مستند أو محتمل الاستناد لأدلة عدم جواز التبعيض في التقليد.
هذا إضافة إلى جريان ما ذكره الآخوند الخراساني (رضوان الله عليه) هنا، قال في حاشية الرسائل: (لا يخفى وهن دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة التي لها
ص: 284
مدارك مختلفة، إذ معه لا يكشف الاتفاق - على تقدير تحققه - عن رأي المعصوم (عليه السلام) فكيف مع وقوع الخلاف حسبما تقدم منه الاعتراف)(1) فليتدبر.
لكن ذلك كله ينفي دعوى الحرمة(2)، وكان البحث عن الوجوب، فتدبر.
وأما ما ذكر: من الشهادة بقوله: (ويشهد لدعوى الإجماع هذه أن الإجماع منعقد على حجية رأي كل فقيه على مقلديه وعدم حجية رأي فقيه آخر على مقلدي سائر الفقهاء)، ففيه: إن الإجماع وإن انعقدعلى الشق الأول، إلاّ أن ما يضرنا على تقدير قطع النظر عن الجوابين السابقين وغيرهما، هو انعقاد الإجماع على الشق الثاني(3)، إذ لو قلنا بحجية(4) رأي كل فقيه على مقلديه فكما لا يستلزم عدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي الأول كذا لا يستلزم عدم حجية مجموعة فقهاء (وهم الأكثرية) على مقلدي الفقيه الأول.
هذا لو قلنا بالحجية (اللا بشرطية)، أما لو قلنا بحجية رأي كل فقيه على مقلديه بنحو ال- (بشرط لائية) بمعنى حجية رأيه دون سائر الفقهاء على مقلديه، فهذا هو الشق الثاني (الإجماع منعقد على... عدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي الفقيه الأول)، وفيه إضافة إلى المناقشة في الكبرى المناقشة في الصغرى أيضاً، وأن لا إجماع على عدم الحجية، وتفصيله سيأتي عند التطرق لأدلة جواز الشورى على تقدير عدم القول بوجوبها، وجواز رجوع مقلد فقيه إلى رأي الشورى وإن خالفه رأي مقلَّده، لعدم دلالة أي واحد من أدلة التقليد على ال- (بشرط لائية)،
ص: 285
وسيأتي ذلك بعونه تعالى، وإثبات جواز التبعيض في التقليد وجواز العدول.
هذا، إضافة إلى أن الإجماع(1) على تقدير تسليمه وتسليم حجيته دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتقين، وهو ما لو لم تعارض فتوى المقلد فتوى أكثرية الفقهاء، إلا أن يثبت له معقد لفظي، فتأمل.
ص: 286
ومما قد يعترض به على دلالة الآية الكريمة: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1) وعلى الوجوب: أنها قد وردت في سياق المستحبات، فيكون السياق قرينة مقامية على صرف الظاهر عن ظهوره.
أولاً: (كونها في سياق المستحبات) دعوى بلا دليل، إذ ما هو المثبت لكون (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(2) للاستحباب، بل الدليل على عدمه، لكون الأمر ظاهراً في الوجوب لا يرفع اليد عنه إلا بالدليل، فما هو الصارف ل(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) عن ظهوره؟ حتى يكونا مستحبين فيكون (شاور) في سياق المستحبات؟ وهل الاستحسان يصلح صارفاً للظواهر؟
ولذا قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: (وقوله: (شَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه...).
ص: 287
ويؤيده ما جاء في الميزان: (وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكمويشاوركم في الأمر، وأن يتوكل علينا إذا عزم)، وقال: (وقد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم...).(1)
وفي روح المعاني: (... لأنه (صلى الله عليه وآله) أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر.. ثم أمر (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك بالتوكل على الله والانقطاع إليه).(2)
وأما ما ذكره في مجمع البيان من: (وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء وحثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضاً فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيهم عن الفظاظة في القول والغلظة والجفاء في الفعل، ودعاهم إلى التوكل عليه وتفويض الأمر إليه)(3) حيث عبّر ب(الترغيب) مما يظهر منه أن (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ)(4) للندب.
ففيه: إن كلمة (ترغيب) لا ظهور لها في استفادته (قدس سره) الندب، إذ أنه (قدس سره) يستخدمها في الواجبات بلا عناية، مثلاً قوله بعد صفحة: ((إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ... وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)(5)، ظاهر المراد، وتضمنت الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير من معصية الله التي يستحق بها الخذلان، مع إيجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن
ص: 288
يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا)(1)، فقد استخدم (ترغيب) متعلقة بطاعة الله، إضافة إلى أنه يستخدم (إيجاب) و(ترغيب) بنحو واحد.
إضافة إلى كون كلمة (ترغيب) في حدّ نفسها ظاهرة في الجامع بين الوجوب والندب، ولا ظهور لها في أحد النوعين، فتأمل.
بل إن الظاهر من كلامه (قدس سره): الوجوب لجعله الترغيب مقابلاً للنهي (وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء... ونهيهم عن الفظاظة في القول) فبقرينة المقابلة يعرف أن المراد بالترغيب ما يقابل النهي وهو الأمر والوجوب، ولاستفادته الحرمة من (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(2) مع كون اللين مقابل الفظاظة وتفرع (اعف .. استغفر .. شاور) عليه، وكون مقابل مناط النهي - وهو الانفضاض من حوله (صلى الله عليه وآله) - مناطاً للتحريض على اللين المتفرع عليه (اعف.. استغفر.. شاور).
ولنفرض ظهور كلمة (ترغيب) في الندب، لكن الواضح أن الظاهر القرآني(3) لو تعارض مع ظاهر آخر قدّم عليه، فكيف إذ كان الظاهر الآخر غير حجة(4)، كما فيما نحن فيه، إذ ظاهر كلمة (ترغيب) مستند إلى اجتهاده (قدس سره) غير الحجة على مجتهد آخر، بل من الواضح أن الظاهر القرآني لو تعارض مع صريح كلام مجتهد لا يسقط الظاهر عن ظهوره، ولا يكون كلامه قرينة صارفة أبداً، كما هو أوضح من أن يبيّن.
ص: 289
ثانياً: سلمنا أن (اعف) و(استغفر) من المستحبات، لكن نقول: لا يكون السياق قرينة صالحة لصرف صيغة الأمر عن ظهورها، إذ أن الظهور السياقي لايزاحم الظهور اللفظي.
قال الميرزا محمد حسن الآشتياني (قدس سره) عند التكليم على دلالة آية النفر على حجية خبر الواحد: (.. فإن ظهور السياق على تقدير تسليمه ليس من الظهورات اللفظية حتى يزاحم ظهور اللفظ، فضلاً عن أن يصير متقدماً عليه وقرينة صارفة له).(1)
ولذا نجد أن سيرة الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) كانت على التمسك بالظهور اللفظي، حيث إنهم كانوا يحملون الأمر بشيء معين على ظهوره رغم وقوعه في سياق أوامر أخرى دلّ الدليل الخارجي على كونها للندب.
ويتضح هذا أكثر عند ملاحظة الروايات الشريفة قبل تقطيعها، حيث كان الأئمة (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام) يذكرون الواجبات والمستحبات في سياق واحد وبصيغة الأمر، وكان الفقهاء يحملون ما دلت قرينة خارجية حالية أو مقالية على أنه للندب، على الندب دون غيره.
كما يتضح أكثر عند معرفة أن قدامى الفقهاء كالشيخ الطوسي (رحمه الله) كانوا يجعلون فهم الأصحاب الندب من أمر أو أوامرَ واقعةٍ في سياق أوامر عديدة أخرى، قرينة على أن ظاهرها غير مراد وأنها للندب.
وذلك هو مقتضى القاعدة على مسلك المشهور، حيث إنهم ذهبوا لكون
ص: 290
الأمر حقيقة في الوجوب مجازاً في الندب، مع ضميمة ذكر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) في كثير من الأحيان المستحبات في سياق الواجبات، وقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة على نحو ذلك:
قوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(1).
وقوله عز وجل (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ).(2)
وقوله تعالى: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3)، مع أن النكاح بإذن أهلهن مستحب واعطائهن أجورهن واجب.
وقوله سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(4)، حسب أكثر المفسرين من أن المراد من الصدقة، الصدقة المفروضة(5)، فتأمل.
وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ
ص: 291
وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).(1)
وقوله سبحانه: (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(2)، مع أن ردّها واجب والتحية بالأحسن مستحب، هذا على بعض التفاسير في معنى الآية الكريمة(3).
وقوله تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(4)، مع أن إقامة الصلاة واجبة وذكر الله قياماً وقعوداً وعلى الجنب مستحب، هذا حسب التفسير المعروف للآية الكريمة.(5)
وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).(6)
وقوله تعالى: (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ ما
ص: 292
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ).(1)
وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)(2)، حسب بعض التفاسير.(3)
وقوله تعالى: (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ).(4)وإن كان الاستدلال ببعض هذه الآيات الكريمة على المدعى لا يخلو عن تأمل،فتأمل.
وهناك آيات أخرى يعثر عليها المتتبع دالة على المقصود.
ص: 293
وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى في الشؤون العامة بأن الأمر في الآية الكريمة: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْر)(1)، هو الحرب، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام..(2)، وقال ابن عباس: ((وشاورهم في الأمر) في أمر الحرب).(3)
فالآية الكريمة وردت في مورد الحرب والجهاد بعد وقعة أحُد، فيكون المورد قرينة على أن الواجب هو المشاورة في أمر الحرب فقط، لا في سائر الشؤون العامة، فالألف واللام إنما هي للعهد الحضوري أو الذهني، أي الشبيه به.
أولاً: إن الأصل في اللام أنها للجنس دون العهد، كما سنفصل الكلام عنه، ولنبدأ بذكر بعض كلمات المفسرين حيث ذكروا معنى آخر أعم، إما بنحو الترديد بينه وبين الأخص، أو بنحو التعيين، ولنذكر بعض عباراتهم:
ص: 294
قال الشيخ الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان: ((وَشَاوِرْهُمْ فيالأَمْرِ)(1) أي استخرج آراءهم وأعلم ما عندهم، واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال)(2)، فلم يقيد (استخرج آرائهم) ب(آرائهم في شؤون الحرب) وقوله (واختلفوا في..) دال على المطلب كما لا يخفى، إذ أن الأقوال التي ذكرها (رحمه الله) لا تختص بالمشورة في شؤون الحرب.
وقال الشيخ الطوسي (قدس سره) في تبيانه: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) أمر من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) أن يشاور أصحابه، يقال: شاورت الرجل مشاورة وشواراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة)(4)، فلم يقيد ب(.. أن يشاور أصحابه في أمر الحرب).
وقد استظهر السيد الطباطبائي (قدس سره) عمومية (الأمر)، قال في الميزان:
(وقد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - وهو تعالى فاعله لا محالة - واللفظ وإن كان مطلقاً لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلاّ لغى التشريع، على أن تعقيبه بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(5) لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم).(6)
ص: 295
ونقل العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) في تفسير الآية ماهذا نصه: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (1) أي في أمر الحرب، إذ الكلام فيه أو فيما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة).(2)
قال في روح المعاني: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (3) أي في الحرب، أخرجه ابن أبي حاتم... أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة وإليه ذهب جماعة).(4)
وقال في الكشاف: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (5) يعني في أمر الحرب ونحوه مما لا ينزل عليك فيه وحي تستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم، وعن الحسن (رضي الله عنه) قد علم الله أنه ما به إليه حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده..).(6)
وقال في المنار: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (7) العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس).(8)
ص: 296
وقال في (الجواهر في تفسير القرآن الكريم): ((وَشَاوِرْهُمْ فيالأَمْرِ) (1) أمر الحرب وفي كل ما يصح أن يشاور فيه).(2)
وقال في (مدارك التنزيل وحقائق التأول): ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (3) أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي)(4).
والمستفاد من كلام ابن أثير في تفسيره أنه يرى عموم (الأمر) وعدم اختصاصه بالحرب فليراجع.(5)
إذن لم يستفد مشهور المفسرين بل كلهم إلا ابن عباس اختصاص (الأمر) بالحرب على نحو التعيين، بل ذكروه إما مردداً بينه وبين الأعم (كما مرّ من روح المعاني وأنوار التنزيل) أو ذكروا الأعم معيناً (كما مرّ من الكشاف والمنار والميزان ومدارك التنزيل وتفسير ابن كثير والجواهر) أو أطلقوا (كما مرّ من مجمع البيان والتبيان) الظاهر منه إرادة الأعم.
وأما ما ذكره بعضهم من وجه الاحتمال الأول (وهو التخصيص بالحرب) ب- (وهو المناسب للمقام، إذ الكلام فيه) فسيأتي الجواب عنه.
ص: 297
ولو لم يحصل من مجموع ذلك الاطمينان بأن (الأمر) في الآية الشريفة أعم، وأنه لا وجه لتخصيصه بالحرب، فنقول: مقتضى القاعدة في ما لو تردد المفرد المحلى بأل بين كونه للعهد (كما استفاده ابن عباس) أو لغيره (كما استفاده الآخرون) هو: الرجوع إلى الأصل، والأصل في اللام أنها للجنس والمحتاج للقرينة هو العهد كما ذكره الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية عند الاستدلال بالصحيحة الأولى لزرارة على الاستصحاب.(1)
وكما بنى عليه المرحوم الشيخ الأنصاري وتلميذه المرحوم الآشتياني (قدس سرهما) قال المرحوم الآشتياني في بحث الاستصحاب: (فنقول: إن قضية ظاهر اللام إذا لم تكن هناك قرينة الإشارة إلى الجنس سواء كان بالوضع أو بغيره فمقتضاها كون اللام في اليقين للجنس لا للعهد.
هذا، ولكن أورد عليه بإيرادات:
أحدها: أن اللام إنما يكون ظاهراً في الجنس حيث لم يكن هناك عهد وهو موجود في المقام من حيث سبق ذكر يقين الوضوء مع كونه منكراً، فلا معنى للقول بظهورها في الجنس.
ثانيها...: ثم قال: (وأجاب الأستاذ العلامة عن الإيرادين، أما عن الأول فبان ما قرع سمعك من أن اللام ظاهر في الجنس حيث لا عهد ليس معناه مجرد سبق ذكر ما يصلح للإشارة إليه، بل ما إذا كان هناك قرينة على العهد بحيث يفهم عرفاً، لا يقال ذكر علماء البيان وغيرهم أن المذكور سابقاً إذا كان منكراً
ص: 298
يفهم منه عرفاً العهد، كما في قوله تعالى: (وَعَصَى فِرْعَونُ الرَّسُولَ)(1) المسبوق بلفظ(رسول) المنكر، وجعلوا هذا هو الميزان لتعيين اللام فيما تردد أمره بين العهد والجنس).(2) حيث ظهر منه التزام الشيخ (قدس سره) بأن اللام ظاهرة في الجنس مطلقاً حتى لو سبق ذكر ما يصلح للإشارة إليه(3) (مما يجعلها صالحة لإرادة العهد)، وأنها تكون للعهد في صورة واحدة فقط هي ما إذا كان هناك قرينة على العهد بحيث يفهم عرفاً.
كما ظهر منه التزام عموم علماء أهل البيان بل وغيرهم أيضاً بأن اللام - فيما تردد أمره بين العهد والجنس - إنما تكون للعهد إذا سبقها منكر يفهم منه عرفاً العهد(4)، وفيما نحن فيه - أي في الآية الكريمة (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (5) - من الواضح عدم سبق منكر فتكون للجنس على ما قاله علماء البيان.
ومن ذلك (أي من التزام علماء البيان بأنها للجنس) ومن غيره - على ما فصل في محله من بحث الألفاظ - يعلم النظر فيما التزم الآخوند (قدس سره) في بحث الألفاظ من أن اللام للتزيين(6)، ويعلم أن ما التزمه في بحث الاستصحاب من أن
ص: 299
اللام ظاهرة في الجنس هو الذي ينبغي أن يلتزم به.
وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): (واللام وإن كان ظاهراً فيالجنس إلا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور...).(1)
ولقد حمل كثير من الفقهاء (اللام) على الجنس وعمموها لكل المصاديق، في موارد أضعف مما نحن فيه بكثير، حيث كانت (ال) مسبوقة بمنكر أو معرَّف مذكور من قبل حيث يكون احتمال العهد الذكري قوياً إن لم يكن متعيناً - كما قال بعض - وقد أشرنا إلى بعضها في الملحق رقم (5)، فراجع.
ص: 300
ومن ذلك كله ظهر اندفاع الإيراد على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى في كافة الشؤون العامة بأن (الأمر) مفرد محلى بأل وهو لا يفيد العموم، فما تدل عليه الآية أمر مهمل قدره المتيقن هو شؤون الحرب، أو لا نلتزم حتى بذلك أيضاً.
إذ يرد على هذا الإشكال - إضافة إلى كل ما سبق -: إن المطلق كالعام في إفادة العموم، فيما لو لم يكن هناك عهد، ولو كان عهد فالعام كالمطلق أيضاً في الدلالة على تلك الأفراد المعهودة ك- (أكرم العلماء) فيما كانوا معهودين ذكراً أو ذهناً أو حضوراً.
والحَكَم في ذلك العرف، ألا ترى أن الشارع لو قال: (أوف بالعقد) أو (أوفوا بالعقد) بدل (أَوْفُوا بِالْعُقُود)(1) استفادوا منه وجوب الوفاء بكل العقود إلا ما خرج بالدليل، إما لعدم عدّ الشارع إياه عقداً كنكاح الشغار وبيع المسلم الخمر والخنزير(2)، أو لاعتباره عقداً جائزاً كالمعاطاة على بعض الأقوال، والهبة لغير ذي الرحم قبل التلف أو التصرف حسب ما هو مفصل في محله؟
ولذا نجد أن العرف يستفيد من (وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)(3)
ص: 301
العموم، مع أن المفرد المضاف أضعف في الدلالة على العموم - بنظر الأصوليين - من سائر ما يفيد العموم.
قال المرحوم الآشتياني (قدس سره): (... فإن لفظة كل ونحوه أقوى دلالة على العموم من النكرة في سياق النفي، وهي أقوى دلالة عليه من الجمع المحلى، وهو أقوى دلالة عليه من الجمع المضاف، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المحلى، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المضاف)(1).
وفيه: أنه لا يجد العرف في الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)(2)، فرقاً بين (أماناتهم) و(عهدهم) في الشمول والعموم، وإن قيل: بأن دلالة الأول بالوضع والثاني بالعقل(3).
وكذا بين الآيتين الكريمتين: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(4)، و: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(5).
وكذا بين الآيتين الكريمتين: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا)(6)، و: (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(7)، هل يجد العرف فرقاً من هذه الجهة (أي الدلالة على العموم قوةً وضعفاً) بين صلاة وصلوات والمال وأموالكم؟
وكذا قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(8)، وفي الآية
ص: 302
الكريمة: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(1)، هل دلالة اجلدوا الزاني والزانية مأة جلدة على العموم أضعف؟
وكذلك قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)(2) هل لو قال جل وعلا: (ذروا البيوع) استفاد العرف منه عمومية أقوى؟
أو لو قال تعالى في آية: (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(3): (تجاهدون في سبيل الله بمالكم) كان أضعف من جهة العموم؟
وكذا هل يرى العرف فرقاً بين (ربّ تجاوز عن المسيء وعن المسيئين) من ناحية الدلالة على العموم؟ أو أكرم المحسن وأكرم المحسنين؟ ولو قيل بكون صيغة الجمع في بعض الموارد السابقة كان بلحاظ عموم المسند إليه، كان ذلك على المدعى أدل.
والظاهر تمامية ما ذُكر سواء أوجدت مناسبات الحكم والموضوع في الموردين أم لا. ولذا نجد أن العديد من الفقهاء استفادوا العموم من (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(4) كما استفادوا من (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(5).
ويتضح ذلك بمراجعة حواشي المكاسب، ومنها حاشية المرحوم الأصفهاني(6)، فتأمل، وكذا حاشية الميرزا علي الإيرواني(7) وغيرهما،
ص: 303
وبمراجعة (الفقه) كتاب البيع عند التحدث عن هذه الآية الشريفة، حيث قال: (ثم كما للآية إطلاق أفرادي، كذلك لها إطلاق أحوالي من جهة الاحتياج إلى الصيغة أو العربية... إلخ)(1)، وعند التحدث عن (آية التجارة)(2) وعند الحديث عن (الناسمسلطون)(3).
ولذا نجد أن العرف عند تعارض العام والمطلق لا يرى تقديم العام على المطلق فيما لو تعارضا بالعموم من وجه (رغم كل ما قاله بعض الأصوليين في تعارض الأحوال)، فمثلاً (أكرم اليتامى) و(أهن الفاسق)، أو العكس (أكرم اليتيم) و(أهن الفساق)، أترى العرف يعطي مادة الاجتماع في الأولين ل- (أكرم) وفي الأخيرين ل- (أهن)؟، وكذا: (أكرم النحاة) و(أهن الصرفي)، وعكسه (أكرم النحوي) و(أهن الصرفيين) وكذا بعكس كلٍّ من (أكرم) و(أهن)؟
ومن الواضح أن الاستدلالات العقلية(4) والبراهين النظرية لا تجدي في الظهورات، ولعل إلى ما ذكرنا يشير السيد الحكيم (قدس سره) في تعليقته على الكفاية بقوله: فتأمل، حيث قال: (نعم لو كان العام المعارض للمطلق متصلاً به أمكن تقديمه على المطلق، لصلاحية كونه قرينة على التقييد، فتأمل).(5)
ولذا قال الآخوند الخراساني (قدس الله سره) في كفايته: (منها ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الأمر بينهما، من كون ظهور العام في العموم تنجيزياً بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنه معلق على عدم البيان، والعام يصلح بياناً فتقديم العام حينئذٍ
ص: 304
لعدم تمامية مقتضى الإطلاق معه، بخلاف العكس، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه، إلا على وجه دائر، ومن أن التقييد أغلب من التخصيص، وفيه: أن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد قيل ما من عام إلاّ وقد خص غير مفيد(1) ولابدفي كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر فتدبر)(2)، ومزيد التحقيق في ذلك في الملحق رقم (9) فراجع.
ومن كل ذلك اتضح أن الإشكال: ((الأمر) مفرد محلى بأل وهو لا يفيد العموم فما تدل عليه الآية أمر مهمل فنقول إن قدره المتيقن هو شؤون الحرب أو لا نلتزم حتى بذلك أيضاً) غير وارد حتى على مسلك سلطان العلماء (قدس سره) ومن تبعه، إذ المطلق على هذا المبنى يفيد العموم بسبب جريان مقدمات الحكمة(3)، وقد أثبتنا أن دلالته على العموم ليست بأضعف من دلالة العام عليه بنظر العرف، وتطرقنا لنقد أدلة من ادعى ذلك، فليراجع.
ص: 305
وأما الخدشة في جريان مقدمات الحكمة هنا(1) إذاً ما هو المثبت لكون المولى في مقام البيان.
فيرد عليها:
أولاً: النقض بكل الموارد الأخرى حيث تمسك الفقهاء بالمطلقات في أشباه هذا المورد: (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2)، و: (حَرَّمَ الرِّبا)(3)، و: (ذَرُوا الْبَيْعَ)(4)، و: (أَقِمِ الصَّلاةَ)(5)، حيث يتمسك بإطلاقه على نفي شرط أو جزء زائد شك فيه، فتأمل(6).
وكذا جميع العمومات حيث يتمسك بإطلاقها الأحوالي والأزماني، (وَأَنْكِحُوا الأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)(7)، و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(8)، إلخ.
ولذا التزم العديد من الأصوليين بأنه عند الشك في الإطلاق إذا كان ناشئاً
ص: 306
من الشك في أن المتكلم في مقام أصل التشريع، أو أنه في مقام بيان تمام مراده، فاللازم التمسك بالإطلاق، لقيام سيرة العقلاءعلى ذلك وقد أمضاها الشارع.
وكذلك إذا شك في السعة والضيق كان مقتضى القاعدة إرادة الأوسع، استناداً إلى وجود أصل عام يقضي بكون الشارع المقدس في كل مورد استخدم فيه مطلقاً فإنه في مقام البيان وضرب القاعدة والقانون، والخروج منه بقدر ما ثبت فيه التقييد.
وثانياً: الحل بما ذكره الآخوند (قدس سره) حيث قال: (بقي شيء، وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبعد كونه لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز والغفلة عن وجهه فتأمل جيداً)(1).
وقال في (مهذب الأحكام): (إن ظاهر الكلام أن يكون في مقام البيان مطلقاً إلاّ إذا دلت قرينة على الخلاف)، جواباً عن الإشكال ب(أن الإطلاقات والعمومات الدالة على الرجوع إلى العلماء والسؤال عنهم ليست في مقام البيان من هذه الجهة).(2)
ومن الواضح أنه لا قدر متيقن في مقام التخاطب في الآية الكريمة، والمراد به أن يكون بعض أفراد الطبيعة بحيث يعلم المخاطب تفصيلاً كونه مراداً إما
ص: 307
بخصوصه وإما في ضمن الجميع، مع كون تيقنه لذلك بنفس إلقاء الخطاب لا بشيء آخر من التدبر والتفكر(1).
هذا إن قلنا: بكون (عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب أو مطلقاً) من مقدمات الحكمة وإشتراط تحقق الإطلاق به، وإلا بأن قلنا بأن وجود القدر المتيقن لا يضر بانعقاد الإطلاق والتمسك به، وقلنا بالاكتفاء بإثبات كونه في مقام البيان، إذ أن معناه كونه في مقام بيان ما تعلقت به إرادته حقيقة المتوقف على نصب قرينة على المراد إن أراد قسماً خاصاً من المطلق - على كلا المسلكين: المعظم والسطان(2) - وليس تيقن إرادة بعض الأفراد وإن كان نابعاً من الكلام الملقى إلى المخاطب، وتيقن إجزائها في مقام الامتثال قرينةً على التقييد وانحصار متعلق الأمر أو النهي به، وإلاّ لما جاز التمسك بالمطلقات في غير موارد ورودها، لكونها من أظهر مصاديق وجود القدر المتيقن(3)، فالأمر أوضح كما لا يخفى.
ولتكميل الفائدة نذكر هنا ما ذكره السيد الوالد (مد ظله) في (الأصول) حيث قال: (الظهور في المطلق كسائر الظهورات بين مشتركين أو مجازين أو أحدهما لا يحتاج إلا إلى عدم القرينة على الخلاف، أما قولهم باحتياجه إلى مقدمات الحكمة من كون المولى في مقام البيان وعدم نصب القرينة وعدم القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيرد عليه بالإضافة إلى أن الثالث من مصاديق الثاني، وأنه لا شأن لليقين في مباحث الظهورات، عدم الاحتياج إلى الأول فيه، خاصة
ص: 308
بعد كون ظاهر كلام الحكيم كافياً في وجوب العمل به).(1)
ولا يخفى أن الكلام حول مقدمات الحكمة والتعرض لكل الأقوال ونقدها مبنى وبناءً خارج عن هذا البحث، ولذا اكتفينا بهذا القدر، والله الموفق المستعان.
وثانياً: من المقرر في محله - وعليه بناء الأصوليين والفقهاء - أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، وعليه بناء العقلاء أيضاً، ألا ترى أن طبيباً لو رأى مريضاً يأكل حامضاً فقال له: (لا تأكل الحامض) يستفاد منه النهي عن مطلق الحامض لا خصوص الرمان الحامض رغم كونه هو المورد؟
فورود (شاوِرْهُمْ)(2) في مورد الحرب لا يخصص الوارد (الأَمْرِ)، ومن ذلك يعلم عدم صحة مستند من تمسك لاحتمال إرادة خصوص الحرب من (الأمر) ب(وهو المناسب للمقام)(3)، و(إذ الكلام فيه)(4)، فإذا علمنا مستند الذين ادعوا تخصيصها بالحرب، حيث صرحوا ب- (لأن الكلام فيه)، (وهو المناسب للمقام) وبيّنا عدم صحته، لم يبق للتعويل على هذا الاحتمال وجه.
وثالثاً: إن سياق الآية الكريمة شاهد بعدم اختصاص (الأمر) بالحرب، بيان ذلك:
ص: 309
إنه قال تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1)، حيث فرع سبحانه وتعالى هذه الثلاثة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) على (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)، فمشاورته (صلى الله عليه وآله) لهم رحمة من الله أوجبت لينه (صلى الله عليه وآله) المتفرع عليه استشارته (صلى الله عليه وآله).
قال الطباطبائي في الميزان: (وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم)(2)، (والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق والتقدير: وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منّا لنت لهم وإلاّ لانفضوا من حولك، والله أعلم).(3)
وفي روح المعاني: (والباء متعلقة ب"لنت")(4)، أي لنت برحمة من الله، فالباء سببية وقال، فيه أيضاً: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ) مترتب على ما قبله).(5)
ومن الواضح أن استشارته في كل الشؤون العامة متفرع على لينه المتفرع على رحمة الله تعالى، وليست الاستشارة في شؤون الحرب فقط متفرعة على اللين المتفرع على الرحمة.
إضافة إلى أن قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ
ص: 310
حَوْلِكَ)(1) الوارد في مقام بيان سبب كون لينه (صلى الله عليه وآله) رحمة من الله، إذ لولا لينه (صلى الله عليه وآله) لانفضوا من حوله مما يؤدي إلى ضعف شوكة الرسول (صلى الله عليه وآله) وشوكة المؤمنين الخلّص وشوكة الدين، ومما يؤدي إلى هلاكهم لانفضاضهم عنه (صلى الله عليه وآله)، يقتضي استشارتهم في كل الأمور العامة التي من شأنهم استشارتهم فيها(2) لا خصوص أمر الحرب، إذ كيف يكوناستشارتهم في أمر الحرب (ليناً) منه (صلى الله عليه وآله) دون سائر الشؤون العامة؟
ويؤيد ما ذكرناه من أن مقتضى (الرحمة) و(اللين) هو الاستشارة في كل الشؤون العامة لا في شؤون الحرب فقط، ما ذكره الخازن في تفسيره وغيره من: (أن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم).(3)
هذا إضافة إلى أن ما وقع قبل (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(4) الذي عطف (شاورهم) عليه، ليس مختصاً بأمر الحرب، إذ العفو عنهم والاستغفار لهم عام يشمل كل شيء، إلا ما ثبت من الخارج استثناؤه كموارد الحدود الشرعية وشبهها(5)، رغم أن الآية وردت بأجمعها في ظرف الحرب لا خصوص قطعة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(6) فيكون ذلك قرينة عرفية على عدم اختصاص
ص: 311
(وَشاوِرْهُمْ) بأمر الحرب.
ومما يدل على عموم العفو والاستغفار، القاعدة المقررة في محلها، من أن (حذف المتعلق يفيد العموم)، حيث حذف في الآية الكريمة متعلق العفو والاستغفار ولم يقل تعالى: (فاعف عنهم في المسألة الفلانية) ولذا نجد الشيخ الطبرسي (قدس سره) حملها على العموم وجعل احتمال التخصيص معنوناً بعنوان (قيل)، قال في المجمع:
((فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بينك وبينهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(1) بينهم وبيني، وقيل: معناه فاعف عنهم فرارهم من أحُد واستغفر لهم منذلك الذنب)(2)، ولو استفاد خصوص العفو عن الفرار في أحُد لجعله هو التفسير للآية وجعل التعميم (قولاً).
ورابعاً: سلمنا أن (أل) في (الأمر) للعهد، فلا تدل الآية إلاّ على وجوب الاستشارة في الحرب، لكن يمكن تتميم المطلب وإثبات وجوب الاستشارة في كل الشؤون العامة بأمرين:
أولهما: عدم القول بالفصل، ذلك أن من لم يوجب الاستشارة لم يوجبها مطلقاً، ومن أوجبها أوجبها مطلقاً(3)، فلا قائل بالفصل بين وجوب الاستشارة في الحرب وبين غيرها من الشؤون العامة، وعدم القول بالفصل حجة ودليل على
ص: 312
مسلك العديد من الفقهاء، وسيأتي ذلك عند الجواب عن شبهة أخرى تورد على الآية.
ثانيهما: تنقيح المناط، إذ أن المناط الموجود في الحرب المسبب لوجوب الشورى، موجود بعينه في سائر الشؤون العامة، خاصة مع ارتباطه بالدماء، لكنه لا يكون حجة إلاّ لو كان مناطاً قطعياً، وسيأتي بإذن الله الكلام عن ذلك.
ص: 313
وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى:
بأن الآية الكريمة هي (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(1)، حيث لم يقل سبحانه وتعالى (فإذا عزمتم) بل نسب العزم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أن رأي الشورى غير ملزم، وأن القرار النهائي ليس بيد الشورى بل في يد الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو مطلق القائد بناءً على التعميم.
أولاً: قد سبق مفصلاً بيان أن الخطابات القرآنية الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) بصيغة المفرد - في غير الثابت بالدليل الخاص اختصاصه به - لا تختص به (صلى الله عليه وآله) بل تشمله وغيره، فهي حكم عام بصيغة خطاب خاص، وشمولها لغيره إما من باب كون خطاب المفرد وإرادة الجمع مجازاً غالباً على الحقيقة في الاستعمالات القرآنية، إن لم نقل بالوضع التعييني(2) أو من باب (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
ص: 314
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(1) أو من باب تنقيح المناط،فليتأمل.
ويؤيد ما ذكر ما قاله في مجمع البيان: (وفي الآية أيضاً ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء، وحثّهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضاً فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيههم عن الفظاظة في القول والجفاء في الفعل، ودعائهم إلى التوكل عليه وتفويض الأمر إليه)(2)، فمع أن الخطاب كله موجه للنبي (صلى الله عليه وآله): (اعف، استغفر، شاور، توكل) مع ذلك قال (في الآية أيضاً ترغيب للمؤمنين..).
وقال في الميزان: وقوله (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(3)، إنما سيق ليكون إمضاءً لسيرته (صلى الله عليه وآله) فإنه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحُد).(4)
فإذا كانت سيرته (صلى الله عليه وآله) الاستشارة وجبت علينا، بضميمة (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(5)، إذن قوله تعالى (فَإِذا عَزَمْتَ) بمنزلة قوله: (فإذا عزمتم) إن لم يكن هو معناه، ويؤيده قوله تعالى: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(6)، أترى التوكل على الله مختصاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) أم على جميع المسلمين التوكل عليه تعالى؟(7) فلو كان المراد من (إِذا عَزَمْتَ)
ص: 315
المفرد و(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) الجمع، لزم التفكيك في السياق الواحد، وهو خلاف الظاهر وخلاف بناء العقلاء في كيفية تلقي الكلام الواحد.(1)
وقد سبق بيان سبب توجه العام بصيغة خطاب للمفرد، وههنا السبب إما لصرف أن الخطاب يحتاج لطرف، أو لأن توجيه الخطاب للقائد أولى وأنسب، ولذا قال: (وشاورهم) ولم يقل (وشاوروهم) مع عمومية الحكم لغيره (صلى الله عليه وآله) لما سبق وسيأتي. ومنه أنه (صلى الله عليه وآله) إذا كان عليه الاستشارة في الأمر كان على قادة الجيوش أو الأمم ممن هو أدنى منه منزلة أن يستشيروا في الأمر بالأولوية، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى.
ف- (عزمت) واقع في سياق (فتوكل) من جهة و(شاورهم) من جهة أخرى، فمع توجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ب- (شاورهم) بصيغة المفرد مع عمومية الحكم لكل القادة فمن الطبيعي أن يكون الأنسب نسبة العزيمة له أيضاً.
وبعبارة أخرى: إذا كانت هناك عناية في توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) في (شَاوِرْهُم) مع عمومية الحكم، فمقتضى نفس العناية أن يقول تعالى: ( فَإِذا عَزَمْتَ) فليتأمل.
ولكن لا تخفى وجوه التأمل في هذا الجواب، فتدبر.
ص: 316
ثانياً: سلمنا أن التاء في (عزمت) خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) حقيقة بلا تعميم لها يجعلها منزلة منزلة (عزمتم)، لكن نقول: لا دلالة في ذلك أيضاً على عدم ملزمية رأي الشورى وعدم كون القرار النهائي بيدها.
بيان ذلك: بأن المتعلق حيث كان محذوفاً في الآية الشريفة، فالإشكال يتم لو كان معنى (فإذا عزمت) هو: فإذا عزمت ووطنت نفسك في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك - على ما ذكره البيضاوي في تفسيره(1)، وبعبارة أخرى: فإذا عزمت على تنفيذ رأيك.
أما لو كان معنى (فإذا عزمت) هو: فإذا عزمت على تنفيذ رأي الشورى (بعبارة أخرى على تنفيذ ما أدت إليه الاستشارة)(2)، فلا يتم الإشكال، بل يتقوى المدعى من وجوب الشورى ولزوم الأخذ برأيها.
وقد يدعى أن الظاهر هو المعنى الثاني، إذ هذا هو ما يفهمه العرف فتأمل، إضافة إلى قرينية فاء التفريع: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ)(3) بدعوى أن ظاهرها تفريع عزيمته (صلى الله عليه وآله) على الاستشارة، ولو كان المراد هو المعنى الأول (فإذا عزمت على تنفيذ رأيك) لما كان معنى لتفريع (عزمت) على رأيك على (شاوِرْهُمْ)، ولما كان ربط بين الجملتين، بل كان لمجرد الترتيب الزمني،
ص: 317
ولذا قال في روح المعاني: (فَإِذا عَزَمْتَ) أي إذا عقدتقلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء)(1).
وأما جعل (تَوَكَّلْ) قرينة على المعنى الثاني بأن يقال المعنى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ) على تنفيذ رأيك المخالف للشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي أقدم على تنفيذه متوكلاً على الله ولا تخف مخالفتهم، ففيه: أن (توكل) لا قرينية له، إذ ينسجم مع المعنى الأول أيضاً بأن يكون المراد: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ) على تنفيذ رأي الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي أقدم على تنفيذه متوكلاً على الله ولا تخف مخالفة من عارض رأي الأكثرية، بل قد يكون معناها (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تردد في تنفيذ رأي الأكثرية لأنها مخالفة لرأيك، وإن رأيتها على خطأ مما قد يوجب الضرر(2) على حسب ما ترى (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإذا عزمت فأقدم متوكلاً على الله.
وقد فسّر البعض الآية بنحو آخر فقال: (إن العزم على الفعل وإن كان بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله تعالى، فلابد للمؤمن من الإتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته).(3)
ص: 318
وثالثاً: سلمنا عدم ظهور الآية في المعنى الثاني، لكن نقول: إن معناها يتردد حينئذٍ بين المعنى الأول والمعنى الثاني(1) ومعنى ثالث ذكره الخازن في تفسيره وهو: (فَإِذا عَزَمْتَ) يعني على المشاورة(2)، فإذا تردد بين هذه المعاني الثلاثة تردد بين ما يفيد عدم ملزمية رأي الشورى (وهو المعنى الأول) وبين ما لا يفيد ذلك (المعنى الثاني والثالث)، وإذا تردد الشيء بين إفادة معنى وعدمه كان الأصل عدم إفادته ذلك المعنى، إلا أن يقال: إن الدوران هنا ليس بين (الإفادة وعدمها)(3) حتى يكون الأمر دائراً بين الوجود والعدم فيكون الأصل العدم، بل الإفادة واللا إفادة محكومتان بأصل سببي، حيث يدور الأمر بين كون معنى الآية (فإذا عزمت) على رأيك، أو (فإذا عزمت) على رأي الشورى، أو (فإذا عزمت) على المشاورة(4)، وهذه المعاني الثلاثة كلها وجودية فتتساقط الأصول فيها.
لكن نقول: لا نحتاج إلى إحراز عدم الإفادة حتى نحتاج للأصل بل يكفينا
ص: 319
عدم إحراز الإفادة(1)، (إفادة (فَإِذا عَزَمْتَ) عدم ملزميةرأي الشورى المتوقفة على تمامية المعنى الأول)، إذ بمجرد عدم ثبوت الإفادة لعدم ثبوت المعنى الأول (لتردد الآية بين المعاني الثلاثة) لا يتم الإشكال.
لا يقال: تمامية الاستدلال موقوف على إحراز المعنى الثاني.
إذ يقال: كلا، إذ الاستدلال على حجية رأي الشورى ولزوم تنفيذ رأيها إذا تمّ بجملة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2) وحدها، سواء وجدت (فإذا عزمت) أم لا، دلت أم لا، كان إجمال (فإذا عزمت) غير مانع عن حجية الظاهر، إلا أن يتمسك بسراية إجمال المتصل، وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى عند التطرق للفرق بين (الشورى) و(الاستشارة).
ولعل التدبر في معنى (عزم) لغةً يوضح دفع الإشكال، قال في لسان العرب مادة (عزم):
(عزم على الأمر يعزم عزماً ومعزماً وعُزماً وعَزيماً وعزيمةً وعزمةً واعتزمه واعتزم عليه: أراد فعله)(3)، إذن معنى (فَإِذا عَزَمْتَ) هكذا: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ) أي فإذا أردت فعل الأمر (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)، وأي دلالة بل أي إشعار في هذا المعنى على ما ذكره المستشكل من أن الشورى غير ملزمة وأن عزمت يعني على تنفيذ رأيك؟
وقال في مجمع البيان: ((فَإِذا عَزَمْتَ) أي فإذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه)(4).
ص: 320
وقال في روح المعاني: (أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة، كما تؤذن به الفاء).(1)
رابعاً: سلمنا ظهور الآية في المعنى الأول، (فإذا عزمتَ) أي على تنفيذ رأيك(2)، لكن نقول:
إنه لا يخلو من أن نقول بأن الشورى غير الاستشارة لغةً، أو نقول باتحاد المعنى لغةً وأن الفرق بينهما ب- (كون الشورى ما كان القرار فيه للأكثرية، أو ما التزم فيه بقرار الأكثرية، والاستشارة مجرد استعلام المستشار دون ملزمية ما أشار به عليه) اصطلاحي، فإن قلنا بالأول (وأن الاستشارة ما لا يُلزم) فنقول: الآية دلت ب(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(3) على وجوب الاستشارة عليه (صلى الله عليه وآله) وب(فَإِذا عَزَمْتَ) على عدم وجوب الالتزام بمقتضاها عليه (صلى الله عليه وآله).
وأما بالنسبة لنا فإذا دلت ب(وَشاوِرْهُمْ) على وجوبها علينا - لما سبق من عمومية الخطاب - فيجب علينا العمل بمقتضاها والالتزام برأي الأكثرية لها، لعدم القول بالفصل (بين وجوب الاستشارة ووجوب الالتزام بمؤداها)، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى، وعليه: فلا تكون تاء (عزمت) شاملة لنا أيضاً كما شملتنا (وشاورهم)، للدليل الخارجي وهو عدم القول بالفصل، فتأمل.
وإن قلنا بالثاني: (وأن الاستشارة لها نفس معنى الشورى لغة: ما كان القرار فيه للأكثرية)، فتكون نفس مادة (شاورهم) لكونها نصاً أو أظهر، قرينة
ص: 321
على أن (فَإِذا عَزَمْتَ) المراد به المعنى الثاني السابق الذكر - وهو: (فَإِذا عَزَمْتَ) على تنفيذ رأي الشورى - فيتقوى ما ادعيناه.
فلا يقال: إن قرينية (شاورهم) على المراد من (عزمت) ليس أولى من العكس فتأمل، أو يقال: بأنه يدور الأمر حينئذٍ بين التخصيص والمجاز، والأول مقدم حسب ما التزم به معظمالأصوليين، وذلك لأنه يدور الأمر بين إخراج (شاور) عن المعنى الموضوع له (وهو الشورى أي استعلام الآراء مع الالتزام برأي الأكثرية) وبين إبقائه على ظاهره وإبقاء (عزمت) على ظاهره في كونه خطاباً للنبي (صلى الله عليه وآله) فيجب على الكل الشورى بكلا شقيها إلا النبي (صلى الله عليه وآله) في الشق الثاني، فإن له العزم على خلاف مقتضاها دوننا، إذ لا يشملنا (فعزمت) حينئذٍ، وقد سبق أن تخصيص المورد لا بأس به، فتأمل.
خامساً: ولو سلم ذلك فليس نافياً إلا لوجوب الاتباع دون وجوب الاستشارة، إلا بناءً على الاتحاد فيقع التهافت بين الفقرتين، وهو من مبعداته كما لا يخفى.
ص: 322
موارد التزم فيها الفقهاء بتخصيص المورد
منها: ما ذكره الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية(1) عند الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة على حجية الاستصحاب(2)، حيث دار الأمر بين توجيه الشيخ (قدس سره) بأن المراد من (ولا ينقض اليقين بالشك): لا ينقض اليقين بالبراءة (بسبب البناء على الأكثر وإتيان ركعة واحدة منفصلة) بالشك فيها (لو بنى على الأقل، أو على الأكثر دون ركعة احتياط) فلا تدل على الاستصحاب، وبين جعلها دالة على الاستصحاب فيكون المعنى في المورد (أي لا تنقض اليقين بعدم الرابعة بالشك فيها)، حيث التزم بالثاني، وأجاب عن إشكال مخالفة (دلالتها على الاستصحاب) للمذهب في المورد، حيث إن مقتضى المذهب عند الشك بين الثالثة والرابعة: البناء على الأكثر وإتيان ركعة مفصولة، (المخالف للاستصحاب، إذ مقتضاه عدم إتيان الرابعة والإتيان بركعة موصولة)، أجاب عن الإشكال: بأننا نلتزم بدلالتها على الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشك ونخرج المورد(3) من إطلاق (لا تنقض)، إذ قام الدليل الخارجي على وجوب إتيانها مفصولة، فتقيد به إطلاق (لا تنقض).
ص: 323
وإليك نص عبارته(1): (ويمكن الذب عنه) أي عن إشكال مخالفة الكبرى (لا تنقض) للمذهب في هذا المورد (بأن الاحتياط كذلك) أي بإتمام الصلاة وإتيان ركعة مفصولة (لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة) فتدل على الاستصحاب (بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه) أي باقتضاء اليقين بالعدم أي بالاستصحاب (غاية الأمر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض) إذ ظاهر إطلاق كلمة (لا ينقض) إتيانها موصولة، إذ الإتيان بها مفصولة نقض لليقين بعدم الرابعة بالشك فيها (وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره) حيث نقيد عموم (لا تنقض) بغير هذا المورد للدليل الخارجي (وأن المشكوكة لابد أن يؤتى بها مفصولة، فافهم).(2)
فقد التزم بدلالة الرواية على الاستصحاب مع لزوم تخصيص المورد(3) بالدليل الخارجي، حيث لا يعمل في موارد الشك في الصلاة بالاستصحاب، بل يعمل بعكسه، وستتضح هذه النكتة أكثر عند التطرق - بعد قليل بإذن الله تعالى - لاستدلال المشهور على نفوذ حكم الحاكم بالهلال بقوله (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام)(4).
ومنها: إلتزام العراقي (قدس سره) في (نهاية الأفكار) بتخصيص المورد عند الاستدلال على الاستصحاب بصحيحة زرارة الثالثة وهي (إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبنى عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات) حيث التزم
ص: 324
بصحة أن يقال بإعمال أصالة الجهة (أصالة صدور الخبر لبيان الحكم الواقعي) في الكبرى (لا ينقض اليقين بالشك) فتدل على حجية الاستصحاب وبالتزام التقية في تطبيق الكبرى على الصغرى، (إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع)، ف(التصرف ممحض في تطبيق القاعدة التي استشهد بها لحكم المورد لا في أصل كبرى حرمة النقض...)، و(على ذلك فلا قصور في الأخذ بما تقتضيه الصحيحةمن الظهور في الاستصحاب الموجب للزوم البناء على الأقل، غاية الأمر من جهة مخالفته للمذهب يصار إلى التقية في تطبيق (لا تنقض) على المورد(1))(2)، فلم يكن عنده مانع من الالتزام بكون المورد خارجاً عن حكم الكبرى ومحمولها، اللازم من القول بصدور الكبرى لبيان قاعدة الاستصحاب، مع أن الأمر كان دائراً بين حمل الكبرى على التقية فلا تدل على حجية الاستصحاب بلا محذور، وبين إعمال أصالة الجهة فيها لتدل على حجيته وحمل (تطبيق الكبرى على الصغرى) على التقية مع لزوم تخصيص المورد.(3)
وهو (قدس سره) وإن تراجع عن هذا الوجه أخيراً والتزم بوجه آخر قال في ص62: (فالأولى حمل الرواية على وجه آخر...) إلا أن ذلك لمحذور آخر وهو اختلال ركن الاستصحاب أعني الشك اللاحق (ذكره في ص59) لا لمحذور (تخصيص المورد) فراجع.
ومنها: التزام المشهور في بحث (حكم الحاكم بالهلال) بتخصيص المورد(4)، حيث استدلوا بقول الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله الخليفة
ص: 325
العباسي المنصور عن عيد الفطر حيث قد شهد عنده (أي المنصور) بعض برؤية الهلال: (ذاك إلى الإمام إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه) (1)، استدلوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال حيث التزموا بكون الكبرى صادرة لبيان الحكم الواقعي وكون المورد خارجاً منها للتقية (أي التزموا بالتقية في تطبيق الكبرى على الصغرى) إذ المورد كان مورد حكم المنصور بأنه عيد حتى اضطر الإمام (عليه السلام) للإفطار ذلك اليوم مع علمه بأنه من رمضان.
إن قلت: لم يكن للمشهور مناص من الالتزام بتخصيص المورد.
قلت: لو كانت الكبرى قطعية من حيث جهة الصدور لصح ذلك، ومن الواضح عدم قطعيتها وإمكان حملها على التقية، بل لقد كان الأمر دائراً بين حمل الكبرى على التقية بلا محذور، وبين حمل (التطبيق) على التقية مع استلزامه لتخصيص المورد، فترجيحهم للثاني على الأول يدل على أن (تخصيص المورد) ليس بتلك المثابة من القبح والاستهجان في كل مورد، بل ليس مستهجناً على الإطلاق في الارتكاز العرفي في بعض الموارد.
ومما يوضح ما ذكرناه سابقاً - في أول الوجه الثاني - وحالاً من أن بناء العقلاء ومرتكز العرف ليس على قبح تخصيص المورد مطلقاً، وأنهم يلتزمون بأصالة الظهور وإن لزم منه خروج المورد: أن الكبرى لو لم يكن لها محمل إلا التقية حملوها عليها، أما لو كان لها محمل آخر بأن احتملوا فيها الإشارة إلى أمر واقعي لم يحملوها على التقية، بل حملوها على بيانه، وجعلوا التقية في التطبيق، فمثلاً في قول الأحنف بن قيس عندما أمره معاوية أن يلعن علياً (عليه الصلاة والسلام) على المنبر وأجبره على ذلك فصعد المنبر وقال: (أمرني معاوية أن ألعن علياً ألا فالعنوه) أترى العقلاء الملتفتين إلى معتقد الأحنف يرجعون الضمير
ص: 326
في (العنوه) إلى علي (عليه السلام) ويحملوه على التقية، أم أنهم يرجعونه إلى معاوية ويحملون تطبيقه على المورد على التقية؟ ولذا تراهم يعدون هذه الكلمة من ذلك الصحابي دليلاً على ذكائه، ولذا التفت معاوية إلى النكتة، ولو كانت التقية في الكبرى فأية دلالة في ذاك على الذكاء؟ فتأمل.
وكذلك في الرواية: (ذاك إلى الإمام...) لو احتمل العقلاء غير التقية في الكبرى، كما هو كذلك إذ يحتمل صدوره لبيان الحكم الواقعي وتكون التقية في التطبيق، ألا تراهم يعدون ذلك من الذكاء حيث ذكر (عليه السلام) حكماً واقعياً ولكن بلسان موهم (إذ مراده (عليه السلام) من (الإمام) هو الإمام المعصوم (عليه السلام) أو مطلق العادل مع أن العبارة قابلة للانطباق على الإمام الجائر وهو المنصور) وإلا فلِمَ لَمْ يقل الإمام (عليه السلام) مخاطباً للمنصور (ذاك إليك)، ولو كانتالتقية في أصل الكبرى لم يكن فرق بين العبارتين (ذاك إلى الإمام) و(ذاك إليك) على الإطلاق، مع أن العقلاء يجدون الفرق بيّناً، حيث يجدون الأولى من الذكاء والثانية من القصور، وما ذاك الاّ لأن للعبارة الأولى منفذاً للحكيم إلى بيان أمر معتقد به دون الثانية.
فإن قلت: إن الكبرى ههنا لو حملت على التقية لزمت اللغوية فيما دل على وجوب تصديق العادل، إذ وجوب التصديق إنما هو للتعبد بالأثر(1)، ومع
ص: 327
حملها على التقية لا أثر له، إذ لا حكم، لذا اضطر المشهور لحملها على بيان الحكم الواقعي المستلزم لتخصيص المورد، وهذا لا يجري في الآية، إذ حملها على الاستحباب لا يلزم منه محذور اللغوية أو شبهه حتى نضطر لحملها على الوجوب المستلزم لتخصيص المورد.
قلت: فيه - لو سلمنا المبنى وأن وجوب التصديق إنما هو للتعبد بالأثر -: أن (الأثر) أعم عرفاً من:
1: مدلول الجمل الإنشائية المتعلق بفعل المكلف بالفعل.(1)
2: ومن مدلولها غير المتعلق بفعله فعلاً، كالأوامر المشروطة بشرط لم يتحقق للمكلف، ك- (حج إن استطعت)، وكما فيما لم يتحقق موضوع التكليف في المكلف (الزوجة واجبة النفقة لمن لم يتزوج)، وكما فيما تحقق المقتضي مع شروطه إلا أنه لم يفقد المانع.
3: ومن مدلول الجمل الخبرية غير المتعلق بفعل المكلف، سواء كان له أثر قلبي أم لا، كمطلق الأخبار التاريخية، مثل أنرباعية الرسول (صلى الله عليه وآله) كسرت في أحُد، وأن فلاناً (كعمرو العاص) كان في جيش معاوية، وفلاناً (كعمار وأويس) في جيش علي (عليه السلام)... أفهل ترى أن وجوب تصديق خبر العادل منحصر في القسم الأول، فلو أخبر عادل كزرارة بالقسم الثاني لم يجب على فاقد الشرط والموضوع وواجد المانع تصديق وجود هكذا إنشاء وهكذا حكم (حج إن استطعت، وتجب النفقة على الزوجة، ويحرم شرب الخمر لمن وجده ومنعه مانع عن شربه، ويحرم النكاح بمن ارتضعت معه عشر رضعات...)؟(2)، لأن وجوب تصديق العادل إنما هو للتعبد بالأثر والأثر مختص بالقسم الأول؟،
ص: 328
ولو أخبر عادل بالقسم الثالث أهل ترى أنه لا يجب عقد القلب عليه والاعتقاد به (كالاعتقاد بانحراف عمرو بن العاص وباستقامة عمار، وبغض الأول قلباً وحب الثاني كذلك؟(1)، وكذلك هل يلتزم أحد - مع ورود نص صحيح السند فرضاً بكسر رباعيته (صلى الله عليه وآله) وشج رأسه يوم أحُد - بعدم إمكان الاعتماد على هذا الخبر، لأن أدلة حجية الخبر لا تشمل ما لا يتعلق بفعل المكلف؟
من ذلك يعرف أن (الأثر) أعم من الأثر العملي والقلبي وصرف التصديق، فلو حملنا الكبرى على التقية، في رواية (ذلك إلى الإمام)(2)، دخلت في القسم الأخير، فلم تلزم اللغوية، إذ نتعبد بصدور الخبر كتعبدنا بكل ما تضمن خبراً لا إنشاءً، ونلتزم به ككل مطلب تاريخي يتعلق بالمعصومين (عليهم الصلاة والسلام) أو بغيرهم.
وإن أبيت إلا عن اختصاص الأثر بغير القسم الثالث نقول: إن خبر الصادق (عليه السلام) والمنصور، وقوله (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام)(3) حتى لو حملت كبراه على التقية فإنه مما له أثر متعلقبفعل المكلف، إذ لو ثبتت تقيته (عليه السلام) بهذا الخبر وأشباهه الذي تشمله أدلة حجية الخبر لو كان ذا أثر، ثبت جواز الإفطار في رمضان عند التقية.
إن قلت: جواز الإفطار عند التقية مما لا ريب فيه مع قطع النظر عن هذا الخبر.
قلت: فليكن، إذ كون أثر الخبر مما لا ريب فيه لا يسبب عدم حجيته وعدم شمول أدلة التعبد بخبر الواحد له، أرأيت أن خبر الواحد القائم على
ص: 329
وجوب الصلاة، ليس بحجة لأن وجوبها قطعي، وأن خبر الواحد القائم على وجوب الشهادة والقائم على حجيتها ليس بحجة لأن القرآن صرح به: (وأقيموا الشهادة لله)(1)، (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)(2)، وأن خبر الواحد في موارد بناء العقلاء المسلم ليس بحجة و... و...؟!
إضافة إلى (الأثر) هو جواز نقل الكلام - كلام الإمام (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام إن صام صمنا معه وأن أفطر أفطرنا معه)(3) إلى الآخرين، ناسباً ذلك إلى الإمام (عليه السلام)، ولولا حجية خبر الواحد لما جاز ذلك.
هذا إضافة إلى أن (التعبد بالأثر) ليس عبارة الشارع حتى يضرنا عدم صدق (الأثر) - فرضاً - على القسم الثالث، والروايات والآيات الدالة على حجية خبر العادل شاملة لكل خبر، وكذا بناء العقلاء ليس مخصوصاً بالقسم الأول، نعم في القسم الأول بناؤهم على التصديق به والعمل على طبقه، وفي القسم الثاني والثالث على التصديق دون العمل به، في الثاني من باب عدم تحقق الشرط أوالموضوع، وفي الثالث لأنه لا ربط له بالعمل.
ومن ذلك كله اتضح عدم تمامية كلام الشيخ (قدس سره): (... لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ولذا لو تعين حمل...) إذ الحمل على التقية ليس إلغاءً، لأن لها أثراً عملياً (جواز الإفطار وجواز النقل مسنداً للإمام عليه السلام)، سلمنا لكن الأثر القلبي (التصديق بوقوع الحادثة) كافٍ لوجود بناء العقلاء في هذه
ص: 330
الصورة أيضاً، ولعدم مخصص لعمومات حجية خبر العادل.
هذا كله إضافة إلى عدم لزوم اللغوية فيما دلّ على وجوب تصديق العادل، إذ غاية الأمر الإلتزام بعدم شمول تلك الأدلة له، لاستلزام الشمول اللغوية ولا يلزم منه محذور - هذا لمن لم يرتض ما ذكرناه سابقاً - فليتدبر.
ومنها: التزام كثير بتخصيص المورد حيث استدلوا باستشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك بحديث الرفع المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والكلام في هذا المورد عين الكلام في المورد السابق - التزام المشهور في رواية: (ذاك إلى الإمام)(1) - بحذافيره.
ومنها: استدلال بعض الأصوليين على حجية خبر الواحد بالآية الكريمة: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(2) حيث مدح الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق بالله جل ذكره، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً.(3)
وجه ارتباط استدلالهم بالآية بما نحن فيه (من دعوى التزام الفقهاء تخصيص المورد في موارد عديدة) هو: أنهم استدلوا بها على حجية خبر الواحد وتصديقه فيما يقوله بمعنى (حمل إخباره من حيث إنه لفظ دال على معنى يحتمل مطابقته للواقع وعدمها على كونهمطابقاً للواقع(4) مع ترتيب آثار الواقع عليه)، مع أن المورد خارج من هذا المعنى قطعاً، إذ تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك المنافق الذي كان ينم عليه عندما أخبره بعدم نميمته عليه (صلى الله عليه وآله) كان -
ص: 331
أي التصديق - بمعنى قسيم لهذا المعنى تماماً، إذ إن هذا المعنى (حمل إخبار ذلك المنافق على كونه مطابقاً للواقع) مستحيل في حقه (صلى الله عليه وآله) إذ يستلزم تكذيب الله تعالى في إخباره للرسول (صلى الله عليه وآله) بنمامية ذلك المنافق عليه، وأما ترتيب آثار الواقع عليه فهو غير واقع ومستلزم لتال فاسد سيأتي ذكره، وذلك المعنى هو (إظهار القبول فقط).
ومما يزيد توضيح ما ذكرناه: رواية القسامة (...فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسَامَةً) أنه قال قولاً (وَقَالَ لَكَ قَوْلاً) قال لم أقله (فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ...) (1)، إذ المراد من (فصدّقه) هو المعنى الثاني (أي أظهر القبول)(2)، ومن (كذّبهم) هو الشق الثاني(3) من المعنى الأول (أي لا ترتب أثر مطابقة قولهم للواقع) إلاّ لو دخل في باب البينة كما هو واضح. وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح، بل ترجيح المرجوح لو كان كلاهما بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني ففي كلا الطرفين (القسامة والمتهم) يجب إظهار القبول ولا يصح الحمل على كونه مطابقاً للواقع بترتب الأثر إلا لو حصل له العلم من أحدهما أو دخل في عنوان آخر كما هو واضح، فتأمل.
والتحقيق:
هو التفصيل: فلا يصح تصديقه بمعنى عقد القلب على ما ادعاه (مع معارضته بالخمسين) إلا لو حصل الاطمئنان بقوله، كما لا يصح تصديقه بمعنى ترتيب الآثار من جهة ويصح من جهة أخرى،فباعتبار أثر لزوم تعزيرهم مثلاً لا
ص: 332
يصح تصديقه (المستلزم لكونهم قد اتهموه بالباطل)، وباعتبار(1) أثر عدم سبّه لله أو للمعصومين (عليهم الصلاة والسلام) (في فرض ما لو ادعت القسامة أن قوله كان سب الله أو المعصوم فرضاً أو إيذاء مؤمن بقوله) ينبغي تصديقه فلا يقتل أو يعزر، وكذا باعتبار أثر بقاء عدالته وشبهها، إلاّ لو حصل الاطمئنان من كلامهم كما لا يخفى، وينبغي تصديقه بمعنى إظهار القبول.
وأما فيهم فيصح تصديقهم بمعنى عقد القلب على ما ادعوه، وكذا بمعنى أثر عدم تعزيرهم دون أثر سبه (صلى الله عليه وآله) وكذا بمعنى إظهار القبول منهم، وكذا لا يصح بلحاظ أثر العدالة، فتأمل.
ولا يخفى أن تخصيص المورد في المقام كان بلحاظ بعض الآثار لا كلها، فليتدبر.
ويمكن النقاش في صحة وجواز عقد القلب على الباطل وعدم عقده على الحق، ويمكن الالتزام بالتفصيل بين الأصول وغيرها، أو الالتزام بالتفصيل بين الأصول والأحكام وما يستلزم عدم عقد القلب فيه تكذيب المعصوم (عليه السلام) وبين غير ذلك، وتفصيل هذا البحث يذكر في محله إن شاء الله تعالى.
ومنها: ما ذكره في (الفقه) عند الاستدلال بالأدلة السمعية الدالة على جواز التقليد بالمعنى الأعم: (الثالثة: قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(2)، وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه ذمّ متبعي الآباء لأنهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، فتدل بالمفهوم على أن الشخص إذا كان يعلم شيئاً ويهتدي جاز تقليده ومن المعلوم أن الفقهاء يعلمون الأحكام
ص: 333
ويهتدون إليها فيجوز تقليدهم، ومثل هذه الآية في الدلالة الآية الرابعة وهي قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَناأَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(1)، وأما الإشكال في الآيتين بأنهما في أصول الدين ولا يجوز التقليد في أصول الدين فغير تام، إذ إطلاقها كاف للاستدلال وإن كان خرج من الإطلاق أصول الدين).(2)
وجه ربط هذا الكلام بما نحن فيه يتضح بتمهيد مقدمة، وهي: إن المفهوم يبنى ويصب على ما يبنى ويصب عليه المنطوق، والتعاكس بينهما بالسلب والإيجاب لا غير، ففي المفهوم يتحفظ على الموضوع والمحمول والشروط والجهات... إلخ، لكن بإدخال حرف السلب (إن كان المنطوق موجباً) وحذفه (إن كان سالباً) على المفهوم، فمثلاً: مفهوم الشرط لقوله: (أكرم في الدار الفلانية العلماء العدول إن جاؤوك يوم الخميس حاملين معهم كتاباً) هو: (لا تكرم في الدار الفلانية العلماء العدول إن لم يجيؤوك يوم الخميس حاملين معهم كتاباً) وليس مفهوم الجملة السابقة (لا تكرم في الدار الأخرى) ولا (لا تكرم في الدار الفلانية التجار) ولا (العلماء الفساق)(3) ولا (إن قاموا)(4) ولا (يوم الجمعة) ولا (حاملين معهم قلماً)، فإنها بين مفهوم لقب ووصف أو شرط في غير محل المنطوق.
ص: 334
إذا اتضح ذلك يتضح أن مورد المنطوق هو مورد المفهوم بعينه (وهو أصول الدين) فقوله: (... إذ إطلاقها كاف للاستدلال وإن كان خرج من الإطلاق أصول الدين) استدلال بالمفهوم على جواز التقليد مع خروج المورد منه وهو أصول الدين، فتدبر، إذ حتى لو لم يقبل هذا المبنى فإن المستدل صرّح به (إطلاقها كافٍ) أي أنها تشمل أصول الدين وغيره (وإن خرج من الإطلاق أصول الدين).
ومنها: ما ذكره بعض عند الاستدلال بالصحيحة الثانية لزرارة في باب الاستصحاب، حيث التزم بخروج المورد، فراجع.
ولعل المتتبع المتأمل يجد مواضع كثيرة التزموا فيها بخروج المورد، والله المستعان.
ص: 335
موارد حَمَلَ الفقهاءُ اللامَ فيها على الجنس
رغم وجود ما يصلح مقرّباً لكونها للعهد
فمنها مثلاً: قوله (عليه الصلاة والسلام) في صحيحة زرارة الأولى: (لا، حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ حَتَّى يَجِي ءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَإِلاّ فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ وَلا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ، وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ) (1)، فمع سبق يقين الوضوء استفاد الفقهاء من (اليقين) العموم لغيره أيضاً.
قال الشيخ (قدس سره): (إلا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيداً عن اللفظ مع احتمال... لكن الإنصاف أن الكلام مع ذلك لا يخلو من ظهور).(2)
وقال الآخوند (قدس سره): (مع أنه لا موجب لاحتماله) - أي احتمال اختصاص قضية (لا تنقض) باليقين والشك في باب الوضوء - (إلا احتمال كون اللام في (اليقين) للعهد إشارة إلى اليقين في (فإنه على يقين من وضوئه) مع أن الظاهر أنه للجنس كما هو الأصل فيه وسبق، فإنه على يقين إلخ، لا يكون قرينة
ص: 336
عليه مع كمال الملائمة مع الجنس أيضاً، فافهم)(1) فتأمل.ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الثانية: (لأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً) (2)، والكلام فيها كالكلام في سابقتها.
والقول بأن (يقين) في الصغرى أو ما هو بمنزلتها ليس المراد به يقين الوضوء، (إذ إنه مبني على أن يكون (من وضوئه) متعلقاً ب- (اليقين) وليس ببعيد أن يكون متعلقاً بالظرف ويكون المعنى فإنه على يقين من طرف وضوئه)(3)، حتى يرجع (اليقين) في (ولا ينقض اليقين أبداً بالشك) إلى يقين خاص وهو اليقين الوضوئي، فلا يكون (اليقين) مسبوقاً بمنكر خاص حتى يستدل به على المدعى (من أن اللام اعترت جنساً مع سبق منكر خاص)(4)، خلاف الظاهر وخلاف المنساق إلى الأذهان العرفية، ومجرد عدم البعد غير كاف، وكون اليقين وأشباهه متعدياً بالباء لا يوجب تقدير محذوف تعلق به (من وضوئه)(5) حتى يكون (يقين) غير متخصص بشيء فلا يكون (اليقين) مسبوقاً بما هو أخص منه(6)، لأنه يتعدى ب- (من) أيضاً خاصة في أمثال هذا المورد (مثلاً: علمت مما جرى شيئاً كثيراً، هذا هو القدر المتيقن منه، تيقنت من صدق الكلام...إلخ).
قال في لسان العرب: (يَقِنَ الأمر يَقْناً ويَقَناً وأيقنه وأيقن به وتيقنه واستيقنه
ص: 337
واستيقن به وتيقنت بالأمر واستيقنت به، كله بمعنى واحد، وأنا على يقين منه).(1)
بل قد يقال: بلزوم تعدي اليقين ب- (من) ههنا، وفي كل مورد مما كان اليقين مسبباً عنه، فمثلاً: (أيقنت أو تيقنت بالله تعالى من النظر إلى نظام الخلقة أو من النظر إلى المخلوقات) فاليقين متعلق بالله ناشئ من النظر، وفيما نحن فيه كذلك أيضاً، إذ اليقين متعلق بالطهارة - التي هي شرط صحة الصلاة - ناشئاً من اليقين بالوضوء، ف- (فإنك كنت على يقين من وضوئك) أي على يقين (بالطهارة) ناشئ من الوضوء، فتأمل.
إضافة إلى أن العرف والارتكاز يؤيدان تعلق (من وضوئه) باليقين، لا بمتعلق محذوف، خاصة في هذه الرواية (الصحيحة الأولى) حيث لا توجد عبارة (كون) وشبهها في الجملة، (فإنه على يقين من وضوئه)، أما في الرواية الثانية: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت) فإن الأولى جعل (من طهارتك) متعلقاً بمحذوف صفة ليقين - لو لم نقل بتعلقه بيقين مباشرة - لأنه المنساق عرفاً، إذ يرون كونه متعلقاً أو صفة ليقين، ولأن الضمير يعود إلى أقرب شيء إليه، إلا أن يقال التقدير خلاف الأصل، فتأمل.
هذا إضافة إلى أن الأصل في الحال والوصف والتمييز وأشباهها أن تكون جهات تقييدية لا لبيان المورد، فذلك الاحتمال مخالف للأصل، فتأمل.
ولنكتف بهذا القدر، إذ أن خوض غمار الإشكالات والأقوال في هذه المسألة وتحقيقها ليس هنا محل ذكره.
ص: 338
بحث عن تعارض المطلق والعام
أما ما ذكره الشيخ الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه) من: (ومنها تعارض الإطلاق والعموم، فيتعارض تقييد المطلق وتخصيص العام، ولا إشكال في ترجيح التقييد، على ما حققه سلطان العلماء من كونه حقيقة، لأن الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان، والعام بيان، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضى الإطلاق، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العام للعموم، فإذا رفعنا المانع عن العموم بالأصل والمفروض وجود المقتضي له ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضي للإطلاق، فإن العمل بالتعليقي موقوف على طرح التنجيزي لتوقف موضوعه على عدمه، فلو كان طرح التنجيزي متوقفاً على العمل بالتعليقي ومسبباً عنه لزم الدور، بل هو يتوقف على حجة أخرى راجحة عليه، فالمطلق دليل تعليقي والعام دليل تنجيزي، وأما على القول بكونه مجازاً فالمعروف في وجه تقديم التقييد كونه أغلب من التخصيص، وفيه تأمل).(1)
فربما يورد عليه بايرادات عديدة، لابد قبل ذكرها من تمهيد مقدمة توضيحية وهي:
إن سلطان العلماء (رضوان الله تعالى عليه) ذهب إلى أن المطلق موضوع للماهية المهملة، فظهوره في الإطلاق ليس مستنداً إلى الوضع، بل إلى مقدمات الحكمة وعدم بيان القيد فيما كان المقام مقام البيان، ولازم هذا القول أن يكون استعمال
ص: 339
المطلق في المقيد حقيقة، لأنه لم يستعمل في غير الموضوع له، إذ لم يكن موضوعاً للمدلول بشرط الإطلاق والإرسال... إلخ.أما المعظم(1) فذهبوا إلى كون الإطلاق والانتشار والإرسال جزءً من مدلوله، حيث إن اللفظ يدل عليه بالدلالة الوضعية اللفظية، فهو موضوع للماهية بشرط الإرسال، ولذا التزموا بكون التقييد مجازاً كالتخصيص.
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول:
أما على مسلك المعظم فدعوى أقوائية العام من المطلق (المسبب لتقديم التقييد على التخصيص) غير تامة، إذ العرف لا يرى ذلك والموارد مختلفة كما سبق بيانه(2)، والدليل المذكور له غير تام على ما أشار إليه الشيخ (قدس سره) بقوله: (فتأمل)، وقد ذكرنا وجهه في الهامش المذكور قبل قليل على كلام الآخوند (قدس سره) خاصة مع انطباق الوجه الأول (منع كون التقييد بالمقيدات المنفصلة أغلب من التخصيص) على ما نحن فيه، حيث إن الآية الكريمة (وشاورهم في الأمر)(3) غير مقترنة بمعارض متصل، إذ ما يمكن أن يفرض
ص: 340
معارضاً لها - كعمومات وإطلاقات أدلة التقليد، وكذا عموما وإطلاقات (الناس مسلطون)(1) وغيرها - منفصل.
وأما النقاش في مبنى المشهور باحتمال الاشتراك اللفظي - بلتعينه كما هو ظاهر التلخيص - فمدفوع بأن الاشتراك خلاف الأصل، وبالنقض بالجمع المحلى بأل، إذ يستعمل كل منهما (المفرد والجمع) في المعاني الستة كثيراً، وعلى مدعي الفرق الإثبات، وبأن المتبادر إلى أذهان العرف العموم والإرسال فما عداه مجاز، وقد سبق توضيحه.
أما القول باستلزام ذلك المجاز في أكثر المطلقات. فيرد عليه:
أولاً: إمكان القول بعدم استلزام ذلك المجاز، وذلك إذا كان المراد الاس