شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية

هوية الکتاب

شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية

دراسة أصولية .. فقهية

سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الطبعة الرابعة

1438 ه- 2017م

حقوق الطبع محفوظة

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية ، النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

الطبعة الرابعة

1438 ه- 2017م

حقوق الطبع محفوظة

منشورات:

مؤسسة التقى الثقافية ، النجف الأشرف

ص: 2

شورى الفقهاء و القيادة الإسلامية

المجلد الأول

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)

سورة آل عمران: 159

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)

سورة الشورى: 38.

ص: 5

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *

الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *

اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ*

* * *

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ

صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ

فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ

وَلِيّاً وَحَافِظاً وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً

حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إليك يا حجة الله ودليل إرادته وتالي كتاب الله وترجمانه وبقية الله في أرضه.

إليك يا ولي المؤمنين وبوار الكافرين ومجلي الظلمة ومنير الحق والناطق بالحكمة والصدق.

إليك يا نظام الدين ويعسوب المتقين وعز الموحدين.

إليك يا مهدي الأمم وجامع الكلم وخلف السلف وصاحب الشرف وحجة المعبود وكلمة المحمود.

إليك يا وارث الأنبياء وخاتم الأوصياء ومعز الأولياء ومذل الأعداء.

إليك يا صاحب الزمان وشريك القرآن وإمام الإنس والجان.

إليك يا سيدي أهدي هذا المجهود المتواضع الذي تحدثتُ فيه عن وكلائك مراجع التقليد وعن القيادات الإسلامية، وكلي أمل ورجاء في أن تتقبله بقبول حسن وتشفع لي يوم الحشر عجل الله تعالى فرجك وسهل مخرجك وجعلنا من أنصارك وأعوانك، آمين رب العالمين.

العبد الفقير

مرتضى بن محمد الشيرازي

قم المقدسة

ص: 7

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين.

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:(... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ).(1)

وقال جل وعلا:(... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ...).(2)

وقال سبحانه: ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...).(3)

وقال عز اسمه: (... إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ...).(4)

وقال تعالى:(... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).(5)

لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة الأولى: أن العلماء لا يستوون

ص: 9


1- سورة الزمر: 9.
2- سورة المجادلة: 11.
3- سورة العنكبوت: 49.
4- سورة فاطر: 28.
5- سورة الأنبياء: 7.

مع غيرهم، وفي الآية الكريمة الثانية: أن المؤمنين والعلماء أرفع من غيرهم بدرجات(1)، وفي الآية الكريمة الثالثة: أنالآيات الربانية التي يتمضنها الكتاب الحكيم والتي هي علامات على السنن الإلهية، ودلالات قاطعة على الحقائق الكونية إنما هي آيات وعلامات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، فهم العالمون بحقائق الأشياء كما هي لا غير، وفي الآية الكريمة الرابعة: أن العلماء - والمراد العلم الحقيقي - هم الذين يتحلون بصفة التقوى والخشية من الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الكريمة الخامسة وما شابهها(2): أن مراجع الأمة في معرفة الحقائق التكوينية والتشريعية ينبغي أن يكونوا (أهل الذكر) و(المتفقهين في الدين).

وإذا رجعنا إلى الأحاديث الشريفة نجد مجموعةً كبيرة جداً منها تتحدث عن فضل العلماء وعن كونهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، كما نشاهد مجموعة أيضاً تتكلم عن أصناف العلماء وترشد الأمة إلى المقاييس الدالة على أنواعهم، كما سنعثر على روايات مستفيضة ولعلها متواترة - ولو تواتراً إجمالياً - تتطرق إلى دور الفقهاء الرئيسي في قيادة الأمة وتوجيهها.

ومن المفيد أن نذكر هنا بعض الروايات الشريفة من الطوائف الثلاث السابقة:

فعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (ساعة من عالم يتكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً).(3)

ص: 10


1- من المحتمل أن يكون المراد من الدرجات، نوعيات مختلفة وماهيات متعددة من الكمالات يمتاز بها العلماء على غيرهم ويحتمل أن يكون المراد - كما قد يكون هو الأظهر - درجات طولية من حقيقة نوعية تشكيكية واحدة.
2- كآية النفر وغيرها.
3- روضة الواعظين: ج1 ص12، عنه بحار الأنوار: ج2 ص22 ب8 ح71.

وعن الإمام السجاد أو الإمام الباقر (عليهما السلام): (متفقه في الدين أشد على الشيطان من عبادة ألف عابد).(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (فإن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، فإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلفٌ منه، وطالب العلم يستغفر له الملائكة ويدعوله من في السماء والأرض).(2)

وعنه (عليه السلام) مخاطباً ولده محمداً: (تفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء).(3)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رحم الله خلفائي، قيل: ومن خلفائك يا رسول الله؟ قال: الذين يأتون بعدي يروون سنتي ويحفظون حديثي على أمتي أولئك رفقائي في الجنة).(4)

وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه إذا جاءه طالب علم قال: (مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله).(5)

وعنه (صلى الله عليه وآله): (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فأحذروهم على دينكم).(6)

وعن علي (عليه السلام): (إياكم والجهال من المتعبدين والفجار من

ص: 11


1- بحار الأنوار: ج1 ص213 ب6 ح1، عن بصائر الدرجات.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج9 ص51 ب106 ح10174.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص384 ضمن ح5834.
4- غوالي اللئالي: ج4 ص64 ح19، نظيره عن منية المريد وجامع الأخبار وأمالي الصدوق ومعاني الأخبار وعيون أخبار الرضا (عليه السلام).
5- الخصال: ج2 ص517 ح4.
6- الكافي: ج1 ص46 باب المستأكل بعلمه ح5.

العلماء، فإنهم فتنة كل مفتون).(1)

وعنه (عليه السلام): (والعلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فقد هلك، وإن أهل النار ليتأذون من نتن ريح العالم التارك لعلمه).(2)

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): (... ورجل أتاه الله علماً فبخل به على عباد الله وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً قليلاً فذلك يلجم يومالقيامة بلجام من النار...).(3)

وعن علي (عليه السلام): (الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم مكر الله).(4)

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكماء على الملوك).(5)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في فضل العلم: (... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم).(6)

وعن الإمام الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) في فضل العلم: (... يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم).(7)

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج1 ص207 ب5 ح3.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج12 ص204 ب9 ح13888.
3- روضة الواعظين: ج1 ص11.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 90.
5- مستدرك وسائل الشيعة: ج17 ص316 ب11 ح21455.
6- الأمالي، للصدوق: ص615 المجلس90 ح1.
7- بحار الأنوار: ج1 ص171 ب1 ح24 عن أمالي الطوسي.

وعن علي (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة).(1)

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله).(2)

وعنه (صلى الله عليه وآله): (لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم إلاّ عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد).(3)وعندما نتصفح كتب الروايات نجد المئات من الروايات الشريفة الأخرى التي تتحدث عن العلماء ودورهم في تاريخ الأمم وحياة البشرية، وتركز على ضرورة التقييم الدقيق للفقهاء ومحاولة استكشاف خصائصهم وصفاتهم، باعتبارهم القادة الذين تستقيم الأمة باستقامتهم، وتنحرف بانحرافهم.

ومن هنا كان من اللازم عقد دراسات فقهية وأصولية مفصلة ومستوعبة لتلك الآيات الكريمة والروايات الشريفة لاستكشاف ذلك، ولاستكشاف نوعية العلاقة التي ينبغي أن تكون بين العلماء والأمة، ومسؤولية العلماء تجاه الأمة، والأمة تجاه العلماء، وكذلك نوعية العلاقة بين العلماء بعضهم مع بعض، على ضوء ما يستفاد من الكتاب الحكيم والسنة الشريفة والحجة الباطنة.

وهذا الكتاب محاولة بدائية متواضعة لتسليط بعض الأضواء على جانب من العلاقة بين مراجع التقليد (حفظهم الله تعالى) بعضهم مع بعض حسب المستفاد من الأدلة، وعلى جانب مختصر جداً من العلاقة بين مراجع التقليد (حفظهم الله)

ص: 13


1- الأمالي، للطوسي: ص225 المجلس 8 ح42.
2- الكافي: ج1 ص54 باب البدع والرأي والمقاييس ح2.
3- بحار الأنوار: ج1 ص205 ب4 ح28.

والأُمة كذلك، وأيضاً: تسليط الأضواء على العلاقة بين مختلف القيادات الإسلامية أو الاجتماعية مع المجاميع التي تنضوي تحت رايتها، سواءً أكانت قيادات شعبية أم عشائرية أم حزبية أم غيرها.

ولقد تم في الباب الأول من هذا الجزء الاستدلال بحكم العقل، انطلاقاً من لزوم دفع الضرر المحتمل البالغ، وكذلك الاستدلال ببرهان الدوران والترديد، وبرهان التركب من آحاد مفروضة الحجية على وجوب الاستشارة، وعلى وجوب عمل الفقيه الحاكم برأي أكثرية الفقهاء في الشؤون العامة، وعلى لزوم عمل أية قيادة في أي مستوى كانت، برأي أكثرية الأتباع أو الأعضاء في إطار أحكام الشرع، كما جرى البحث عن الآيتين الكريمتين: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1)، و (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2)، وعن مدى دلالتهما مع التطرق للعديد من الإشكالات التي تورد على الاستدلال بهما، مع ماربما يجاب به عن الإشكالات.

ثم تم التطرق لبعض الروايات الشريفة التي يمكن استظهار بعض المسائل الأساسية منها، مثل التوقيع المبارك المروي عن صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ومجموعة من الروايات الشريفة الأخرى، وأما سائر الروايات التي يمكن التمسك بها مثل: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(3) وغير ذلك، فالمرجو من المولى العلي القدير أن يوفقنا للتحدث عنها في المجلد الثاني بإذنه تعالى.

ثم جرى في الباب الثاني الحديث عن مسائل عديدة هامة، وهي: وجوب الاستشارة، ووجوب الإشارة، وحرمة المنع، ووجوب ردع المانع، ووجوب

ص: 14


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الشورى: 38.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

طلبها، ووجوب العمل بها، ووجوب الفحص عن صحة الرأي، إضافة إلى النسبة بين أدلة الشورى وأدلة التقليد، وحكم تعارض رأي أكثرية شورى الفقهاء مع أكثرية الأمة، وكون القضاء سلطة مستقلة أم لا، إلى غير ذلك، وبقيت مسائل عديدة أخرى كما بقيت ملحقات كثيرة بما ذكر سنتطرق لها في المجلد الثاني بإذنه تعالى.

وليس ما ذكر في الكتاب إلا مقتضى الصناعة حسب النظر البدوي القاصر، وأما الفتوى فهي من شأن مراجع التقليد (أدام الله ظلهم على رؤوس المسلمين). وسأكون من الشاكرين للعلماء الأعلام والفضلاء الكرام (أيدهم الله تعالى) فيما لو تفضلوا بذكر إرشاداتهم وجرحهم وتعديلهم ونقدهم لما ورد في الكتاب.

ف- (المؤمن مرآة المؤمن)(1)، و(أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي)(2)، وستكون سبباً بإذنه تعالى لإصلاح الهفوات وترميم الثغرات التي تلازم عادة أية محاولة أولى من نوعها في حقل من الحقول الفقهية والأصولية، كسائر الحقول الفكرية، خاصة إذا كان الكاتب لا يملك إلاّ بضاعة مزجاة.ولا بأس أخيراً بالإشارة إلى أن ما ذكر في الكتاب من (فتأمل، وفيه تأمل، و...) قد يكون مشيراً إلى وجود إشكال أو إشكالات على ما ذكر، وقد يكون مشيراً إلى نوع تردد في المقام.

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل هذا الكتاب مقدمةً لدراسات أعمق وأشمل، لكل ما يتعلق بالقيادة في الإسلام في زمن غيبة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، كما أسأله جل وعلا أن يجعله مقدمة لتحقيق (شورى الفقهاء) ممن جمع شرائط النيابة العامة عنه (عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه)، والله الموفق المستعان، وأن يجعله أيضاً مقدمة لتحقق

ص: 15


1- بحار الأنوار: ج71 ص268 ب16 ضمن الرقم 7.
2- الكافي: ج2 ص639 باب من يجب مصادقته ومصاحبته ح5.

شورى القيادات الإسلامية في أي مستوى كانت تلك القيادات.

ولقد تمت كتابة هذه المقدمة - بعد إكمال كتابة هذا الجزء - يوم ميلاد أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين) في عصر 13 رجب المرجب 1410 للهجرة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته الطاهرين.

قم المقدسة

ص: 16

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة المنهجية للكتاب

موضوع البحث ونطاقه

الموضوع والمحور الذي عليه تدور مباحث كتاب (شورى الفقهاء والقيادة الإسلامية) هو: وجوب التشاور أولاً، والشورى والعمل برأي الأكثرية ثانياً، في شتى مستويات القيادة الإسلامية، سواء أكانت قيادة للأمة، كقيادة الفقهاء والمراجع العظام، أم كانت قيادة لتيارات وشرائح من الأمة، كقيادة العشائر لأفرادها والأحزاب والنقابات والاتحادات لأعضائها ومختلف مؤسسات المجتمع المدني للمجاميع المنضوية تحت لوائها.

وذلك في حدود ما يصدق عليه عنوان (أمرهم) في الآية الشريفة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) فما كان أمراً للأمة وهو المسمى بالشؤون العامة وجب أخذ رأيها واستشارتها فيه والعمل برأي الأكثرية طبق الضوابط الشرعية، الآتية في الكتاب.

وما كان أمراً للعشيرة أو للحزب أو النقابة والاتحاد أو لأي تجمع إنساني آخر، سياسياً كان أم اقتصادياً أم خدمياً أم غير ذلك، وجب على القادة استشارة كافة الأعضاء، عبر السبل العقلائية والطرق السليمة، كما وجب العمل برأي

ص: 17


1- سورة الشورى: 38.

أكثريتهم في كافة أمورهم.

نعم، بعض الأدلة المطروحة في الكتاب كقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وكبرهان دفع الضرر المحتمل العقلي، عام شامل للقيادات الدينية والسياسية وغيرها وعلى شتى المستويات،وبعضها ك(فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِما)(1)، و(وَأَمَّا الحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم...)(2)، خاص بالقيادة المرجعية والفقهاء، كما سيأتي بإذن الله تعالى.

هذا إضافة إلى البحث عن مسائل أخرى عديدة مرت الإشارة لها في المقدمة الأولى.

ص: 18


1- الكافي: ج1 ص67.
2- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.

مباني البحث

اشارة

ثم إن النظريات الفقهية في قيادة المراجع العظام للأمة، مختلفة، فهناك من يرى الولاية المطلقة للفقيه، وهناك من يرفض الولاية المطلقة تماماً، وهم أكثر الفقهاء، وهناك المفصلون، والبحث في هذا الكتاب جارٍ على الأقوال كلها:

1: فبناءً على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، فإن هذا البحث يقود:

أولاً: إلى أن الولاية على فرض كونها عامة هي لجميع الفقهاء وليست لأحدهم فقط.

وثانياً: إلى عدم جواز تفرد الفقيه الواحد، بل ومجموع الفقهاء بإعمال الولاية على الناس فيما لا يرضون به، وإن كانت له أو لهم الولاية العامة، إذ هي ولاية عامة مشروطة، بمعنى أن على الفقيه الحاكم، في أي مستوى كانت حكومته، التشاور مع سائر الفقهاء أولاً، وإحراز رضا الناس بحكومته عليهم، والعمل على طبق حدود ما فوضوه إليه وفي الوقت المحدد كخمس سنين مثلاً.

2: وأما إذا لم نقل بولاية الفقيه، كما هو نظر الأكثر من الفقهاء، فإنه لايجوز بالبداهة حينئذٍ أن يفرض الفقيه نفسه على الأمة قسراً، إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) حسب القاعدة المصطيدة.

وأما إذا انتخب الناس أحد الفقهاء لإدارة شؤون بلادهم، فالأمر منوط حينئذٍ بالمبنى الذي يصار إليه في الحكومة، وأنها (وكالة) أو (إجارة) أو (جعالة) أو (إذن) أو (عقد مستأنف) أو غير ذلك، إضافة إلى أن انتخابهم له لا يلغي وجوب الاستشارة، كما لا يلغي وجوب العمل برأي أكثر المراجع الفقهاء حسب

ص: 19

بعض الأدلة المذكورة في هذا الكتاب.

نعم يقع البحث فيما لو تعارض رأي أكثرية الفقهاء مع أكثرية الأمة، وقد تم عقد فصل خاص لذلك.

كما جرى في مطاوي الكتاب بحث العديد من البحوث الأخرىالهامة ذات الصلة، والتي أشرنا إليها في مقدمة الكتاب.

ثم لا يخفى أن الأدلة المذكورة في الكتاب مختلفة، فبعضها يمكن استفادة جميع ما ذكر منه ولشتى المستويات القيادية، نظير برهان دفع الضرر البالغ المحتمل، وبعضها يستفاد منه بعض المسائل، كوجوب المشورة، أو يستفاد منه الحكم على بعض مستويات القيادة، كقيادة المراجع العظام للأمة.

وقد اتضح من ذلك كله غاية البحث وأهدافه.

معضلة البحث

ولكن المشكلة والمعضلة في البحث هي:

إما من حيث الشكل: فندرة الكتابات الإسلامية التي تتطرق لمبحث القيادة في الإسلام في زمن الغيبة، من وجهة نظر فقهية وأصولية مفصلة، وبالبحث التحليلي للآيات القرآنية والروايات الشريفة، ولحكم العقل في دائرة مستقلاته.

وأما من حيث المضمون: فإن المعضلة هي أن بحث أمر القيادة في الإسلام وعلى ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في ضمن معادلة الشورى والاستشارة، وعلى حسب شتى مستوياتها، يعدّ من أدق وأعمق وأهم البحوث التي تناط بها مصائر البلاد والشعوب الإسلامية، وبذلك تعد من (أمهات المسائل) التي يشتد الابتلاء بها في كل الأعصار، ولعل اكتشاف منظومة الفكر

ص: 20

الإسلامي الشاملة في هذا الحقل يعدّ من أهم بوابات النهوض بالأمة إلى حيث عالم الإيمان والحرية والعدل والإحسان والأخوة والتعاون والرخاء والتقدم والازدهار، لكي يعود إليها سابق مجدها المتألق، خاصة زمن حكومة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، ولكي تكون أمتنا الإسلامية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ)(1).

منهجية البحث والمخاطبون به

اعتمدنا في هذا الكتاب على المنهج العلمي التحليلي المعمق، استناداً إلى معطيات علم الأصول والفقه والتفسير، وإلى المنهج العقلي استناداً إلى مباحث الحكمة والفلسفة، إضافة إلى بعض البحث النقلي والوصفي والاستقرائي في مواطن الحاجة.

والخطاب موجه للمتخصصين في علوم الأصول والفقه والتفسير والفلسفة، وللمهتمين بمباحث القيادة في الإسلام.

هيكليته ومصادره

وقد جرى في المقدمة الأولى ذكر الهيكلية العامة للكتاب، وعناوين مباحثه الرئيسة.

ص: 21


1- سورة آل عمران: 110.

كما اعتمد الكتاب على النقل: الكتاب والسنة كمصادر أساسية للاستدلال، وعلى المصادر الأم في علوم الأصول والفقه والتفسير والحديث، إضافة إلى مصادر منوعة أخرى.

وكنت قد كتبت هذا الكتاب قبل أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، وقد طلب إليَّ بعض الأفاضل الكرام مراجعته بأكمله وإعادة النظر في كافة مطالبه؛ نظراً لتجدد الرأي في بعضها مبنىً أو بناءً، إلا أن ضيق المجال حال دون القيام بذلك بالشكل الكامل الذي كنت أرغب فيه، إضافة إلى أن موارد تجدده (مبنىً) تتضح بمراجعة ما كتب في السنوات الأخيرة، وأما (بناءً) وفي مختلف المناقشات والأدلة فإن تكثّر ما خطر بالبال منها في هذه العجالة حال دون تسجيلها جميعاً، وقد نوفق لكتابتها لاحقاً، على أنني مع ذلك سجلت الكثير منها، ولعلها تقارب المائة مورد أو أكثر.

فاقتصرت على:

1: إعادة تبويبه وترتيبه.

2: نقل الكثير من البحوث المبنوية إلى الملحق.

3: بعض التعديل لبعض مطالبه، بالإضافة أو الحذف أوالمناقشة أو تقوية الدليل أو الأدلة أو تضعيفها.

ولو سنحت الفرصة وحالفني التوفيق فساراجع الكتاب بالمزيد من إعمال النظر في الجرح والتعديل والنقد والتقويم.

النجف الأشرف

محرم 1438ه

ص: 22

الباب الأول

اشارة

وفيه أقسام:

القسم الأول

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأول: في الاستدلال بقاعدة دفع الضرر المحتمل

اشارة

مع التطرق لكون الحجج طريقية، أو طريقية - تعبدية وتأسيس الأصل في ذلك

ص: 23

ص: 24

الاستدلال بدفع الضرر البالغ المحتمل
اشارة

يمكن أن يستدل على وجوب الشورى في الشؤون العامة، بل ومطلق الأمور الخطيرة، إلاّ ما علم استثناؤه(1)، بأن دفع الضرر المحتمل البالغ واجب عقلاً.

وذلك في الأمور الخطيرة مما لا ريب فيه، اللهم إلاّ أن يكون الاحتمال لشدة ضعفه(2) ملغى في نظر العقلاء، وذلك لأن الاحتمال العقلائي للضرر فيها منجزٌ، ولذا لا يقدم العقلاء على شرب سائل محتمل المسمومية إلاّ لو زاحمه ضرر آخر أشد، ولو أقدم لكان عند العقلاء ملوماً، كما كان مستحقاً للعقاب عقلاً.

وذلك مما يستقل به العقل، وعليه بناء العقلاء، لكونه إلقاءً للنفس أو ما يتعلق بها(3) في التهلكة، وقد أرشدت الآية الشريفة إلى حرمته: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(4)، بل هو نهي مولوي على المختار.

ولأن رأي أكثرية الفقهاء والخبراء فيما يرتبط بأمورهم أقرب إلى الواقع من رأي المجتهد الواحد أو القائد أو الرئيس المنتخب - كما برهنّاه في موضع آخر - ففيها إذن دفع الضرر المحتمل.

ص: 25


1- كالتصرف في أمواله الشخصية.
2- مثل واحد بالمائة ألف وأحياناً أقل وأحياناً أكثر حسب أهمية المحتمل.
3- كالعرض والمال.
4- سورة البقرة: 195.

الشورى العامة من الأمور الخطيرةولا ريب أن ما ندعي وجوب الشورى فيه - وهي الشؤون العامة(1) - من الأمور الخطيرة، لكون تلك الأمور مما تلحق الضرر إن كان الاجتهاد فيها خاطئاً، لا بأموال وأعراض وأنفس شخص واحد أو عدة أشخاص، بل بطائفة كبيرة من الناس، وذلك مثل إصدار الأمر بالحرب، حيث يسبب ذلك قتل الكثير من الأشخاص وتلف الأموال العظيمة، وربما هتك الأعراض أيضاً، وضعف شوكة المسلمين - إن كان الاجتهاد خاطئاً - وكذا الأمر بالصلح حيث يكون سبب ضعف شوكة الإسلام والمسلمين إن كان أمراً في غير محله، وقد يسبب قتل المئات وتلف الأموال الكثيرة؛ وذلك لأنه إن كان في غير محله، يسبب تجرأ الخصم واستغلاله فرصة الصلح - ولو الموقت - لتقوية الذات والإعداد والاستعداد لهزيمة الطرف المقابل.

والصلح المفروض على أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في معركة صفين في قصة التحكيم أبرز شاهد على ذلك، حيث كان الإمام (عليه السلام) يرى الاستمرار في الحرب، إذ أنها لو استمرت ساعات أخرى فقط لانتصر (عليه السلام) على جيش معاوية، ولرجع الأشتر برأس معاوية، إلا أن (الخوارج) أصروا على (التحكيم)، وكان فيه نجاة معاوية وعسكره، ومقدمةً لاستيلائه على البلاد الإسلامية وارتكابه ما ارتكب من أفظع الجرائم وأشنع الآثام، ولذلك كان رفضه (عليه السلام) القاطع للتحكيم حتى أُكره عليه، يقول (عليه السلام): (وقد كنتُ نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ آباء المنابذين حتى صرفت رأيي إلى

ص: 26


1- أو التي ترتبط بمصير تجمع كالعشيرة أو الحزب أو النقابة أو نظائرها.

هواكم)(1)، وقد فصل في محله أن قبوله (عليه السلام) الصلح بعد انشقاق جيشه وقيام الخوارج ضده كان هو الأصلح بالعنوان الثانوي.

اتباع الرأي الواحد إلقاء للناس في التهلكة

وإذا كانت الشؤون العامة من الأمور الخطيرة، وكان رأي الأكثرية أقرب إلى الواقع من رأي الفرد الواحد - كما أثبتناه في محل آخر - كان في اتباع رأي الفرد الواحد إلقاءً للنفس والآخرين في التهلكة، وتضعيفاً لشوكة الإسلام والمسلمين، وإذلالاً لأهل الحق، وإعزازاً لأهل الباطل، وذلك لأن المصالح والمفاسد إذا كانت في المتعلقات - كما هو مسلك العدلية والمعتزلة - كان في اتباع الطريق الأكثر خطأً مفسدة أكثر، ووقوع في الندم واتباع لما يوجب الوقوع في الضرر، وفي اتباع الطريق الأقل خطأً والأكثر إصابةً والأقرب إلى مطابقة الواقع مفسدة أقل، ودفعاً للضرر المحتمل تفصيلاً والمتيقن إجمالاً؛ لكون الوقوع في الضرر في كل جزئي جزئي من المؤديات محتملاً، وفي المجموع متيقناً، لفرض كونه أقرب إلى مطابقة الواقع من غيره...

وإثبات صحة كون المصلحة في الأمر دون المتعلق، بل إثبات وقوعه في بعض الأوامر، غير ضار، فإنه خلاف الأصل، إضافة إلى عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل، لوضوح كون المصلحة في (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(2)، و(قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(3)، و(جابية خراجها وجهاد عدوها

ص: 27


1- نهج البلاغة: الخطبة 36.
2- سورة الأنفال: 61.
3- سورة البقرة: 193، وسورة الأنفال: 39.

واستصلاح أهلها وعمارة بلادها)(1)، و(إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة)(2)، و(فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك)(3)، و(وتفقد أهل الخراج بما يصلح أهله)(4)، وغير ذلك مما يرتبط بالحكم والشؤون العامة، في متعلق الأمر لا فيه نفسه.

الإشكال بأن رأي الفقيه حجة شرعاً وإن انفرد

لا يقال: (رأي الفقيه) حجة شرعاً، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فإن أصاب فرأيه منجّز وإن أخطأ فمعذّر، فرأيه لكونه دليلاً شرعياً واجب الاتباع على مقلديه، ويكون هو المؤّمن من العقاب والضرر، لا أقل من كونه جائز الاتباع لو فرض كون رأي الشورى حجة شرعية أيضاً، فيتخير المقلد بينهما إن قلنا بالتخيير في تعارض الطريقين، أو قلنا بأنهما داخلان في باب التزاحم(5)، وإلا فيتساقطان ويرجع إلى الأصل أو يجب الاحتياط، لا أنه يتعين عليه الرجوع لرأي الأكثرية؟

وهذا الإشكال عام يرد على كثير من الأدلة التي تضمنها هذا الكتاب، مما دل على حجية رأي الأكثرية، فتسقط بأجمعها عن الدلالة على المدعى بتمامه.

ص: 28


1- نهج البلاغة: الكتاب 53، كتابه لمالك الأشتر.
2- نهج البلاغة: الكتاب 53، كتابه لمالك الأشتر.
3- نهج البلاغة: الكتاب 53، كتابه لمالك الأشتر.
4- نهج البلاغة: الكتاب 53، كتابه لمالك الأشتر.
5- على المصلحة السلوكية.
الجواب:
1: أجنبية الفتوى عن الحكومة

أجنبية باب الفتوى عن الحكومة، وأدلة الحجية لا تشمل المتفرد في الشؤون العامة.

فإنه يقال: أولاً: لا نسلّم شمول أدلة الحجية لرأي الفقيه منفرداً - ولو لمقلديه - في الموضوعات والشؤون العامة، إذ إن أدلة التقليد لا يسلّم شمولها للمقام(1)، وما يشمل منها المقام(2) لا يستفاد منه حجيةرأي الفقيه الواحد في الشؤون العامة، ووجوب اتباعه وإن خالفه رأي الأكثرية، وقد فصلنا الكلام في ذلك في موضع آخر فلاحظ.

وبعبارة أخرى: حجية رأي الفقيه لمقلديه في الأحكام تستفاد من أدلة حجية الفتوى، وهي خاصة بالأحكام، فلا تنفع دلالتها على حجية رأي الفقيه منفرداً في الأحكام لإثبات حجية رأيه منفرداً في الموضوعات والشؤون العامة لمقام التباين، وأما هذه(3) فحجية رأيه فيها يستفاد من أدلة الحكومة، وهي دالة على جعل الحجية والنفوذ للفقهاء جميعاً أو مجموعاً أو للفقيه بشرط انضمام أكثرية الفقهاء إليه، كما فصلناه في موضع آخر فليلاحظ.

ثم إنه لو وجد دال على كلا القسمين كان كالثاني، فتأمل.

وإذا انتفت الحجية انتفى المؤمِّن، بل قد يقال بأن الحجية مؤمّنة من الضرر

ص: 29


1- كقوله تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، سورة التوبة: 122، فتأمل.
2- كقوله (عليه السلام): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا).
3- أي الشؤون العامة.

الأخروي لا الدنيوي، ومع احتماله احتمالاً عقلائياً لابد من الفحص، أو الاحتياط رغم قيام الدليل الاجتهادي على العدم، إلاّ إذا كان حجة عقلائية، فتأمل.

2: الترجيح مع الأكثرية

وعلى فرض الشمول فالترجيح مع الأكثرية لدى التعارض

ثانياً: سلمنا شمول أدلة الحجية لرأي الفقيه منفرداً في الشؤون العامة، لكن نقول: إن ذلك لا يستلزم وجوب بل ولا جواز اتباعه عند معارضته لرأي أكثرية الفقهاء.

وبيان ذلك يتم ضمن أمور:(1)

الأمر الأول: إن حجية ما عدا القطع ليست ذاتية، بل هي بالجعل والاعتبار، فلو لا اعتبار الشارع خبر الواحد حجة لما كانحجة كالقياس، سواء كان اعتباره بالدليل اللفظي المتواتر أم بامضاء بناء العقلاء كما في حجية الظواهر، حيث أمضى طريقتهم ومشى على طبقها أو غير ذلك.

الأمر الثاني: إن شمول أدلة الحجية لشيء لا يستلزم حجيته مطلقاً، لعدم كونه علة تامة للحجية، بل هو(2) مقتضٍ له، لوضوح كون عدم المانع شرطاً، فإن خبر الواحد - مثلاً - حجة إن لم يعارضه معارض أقوى من متواتر أو محفوف

ص: 30


1- يمكن تلخيص الجواب: بأن التخيير وكذا التساقط والرجوع إلى الأصل أو الالتزام بالاحتياط فرع التساوي وعدم الرجحان، فإذا كان رأي الأكثرية أقرب للواقع كان اللازم الأخذ به كما تطرقنا بالتفصيل لإثبات المقدم والملازمة في هذا الكتاب كما سيجيء التطرق لإثبات الفرعية وشمول أدلة الحجية للمتعارضين.
2- أي الشمول.

بالقرائن القطعية أو ذي مرجح منصوص أو مطلقاً، وكذا سائر الحجج.

الأمر الثالث: إن (نظر الفقيه) صغرى (الحجة) و(الدليل)، فيندرج في عموم ما ذكرناه في الأمر الثاني، فإذا عارضه معارض أقوى اتبع، ورأي أكثرية الفقهاء لكونه أقرب إلى الواقع حسب العقل والروايات، كما فصلناه في موضع آخر، معارض أقوى، فاللازم اتباعه كلما تعارض مع رأي الفقيه الواحد، حاكماً كان أو غيره، وسيأتي عند الجمع بين أدلة الشورى وأدلة التقليد أن أدلة الشورى حاكمة أو مخصصة لأدلة التقليد، أو هي مباينة لها إن قلنا بعدم شمول أدلة التقليد للموضوعات العامة.

الإشكال باحتمال كون رأي الفقيه حجة تعبدية

لا يقال: هذا يتم لو كان رأي الفقيه حجة من باب الطريقية، أما لو كان حجة تعبداً فلا؛ وذلك لعدم لحاظ (الأقربية للواقع) فيما كان حجيته لا بملاكها، ولم ينط اعتباره بالكشف عن الواقع؟

الجواب: بل حجيته لأماريته وطريقيته

لأنه يقال: استظهار الفقيه (أمارة) وليس (أصلاً)، بمعنى أن حجيته بملاك الكشف عن الواقع والإيصال إليه، لا أنه وظيفة الشاك في مقام العمل، سواء بالنسبة إلى نفسه أو إلى مقلده، لكونالاستظهار قسيماً للشك، والمستظهر للشاك، بل حتى لو كان مؤدى الاستظهار أصلاً كان حجيته لأماريته، وذلك لكاشفيته عنه ظناً.

وهذا الظن معتبر لبناء العقلاء على اعتبار ظن أهل الخبرة، وكون المدلول

ص: 31

أصلاً لا يستلزم كون الدال عليه أصلاً كذلك، ألا ترى (رفع ما لا يعلمون)(1) دالاً على أصل البراءة مع كونه دليلاً اجتهادياً؟ كما أن مدلول (أخوك دينك فاحتط لدينك)(2) أصل مع كونه أمارة؟ فالاستظهار كاشف نوعي عقلائي سواء كان المنكشف به حكماً واقعياً أولياً، أو ثانوياً، أو حكماً ظاهرياً.

وبعبارة أخرى: (الاجتهاد) لكاشفيته عن الواقع جعل حجة، لا أن حجيته للعجز عن تحصيل الواقع واعتباره وظيفة في مقام العمل.

نعم غاية الأمر أن تحصيل الواقع تارة يكون بالمباشرة للقادر على الاستنباط، وتارة يكون بالواسطة، فحال المقلد بالنسبة للمجتهد كحال المجتهد بالنسبة إلى الروايات وغيرها من الأدلة.

ولأجل كونه أمارة بالنسبة إليه التزموا بكون مثبتات كلامه حجة بالنسبة له، بل يدل على ذلك ملاحظة مطلق أدلة حجية رأي المجتهد لمقلده، كبناء العقلاء على الحجية، لكونه من مصاديق أهل الخبرة.

وإذا ثبت كونه أمارة فنيدرج في الأمر الثاني، حيث ذكرنا أن ما حجيته من باب الأمارية وبملاك الكشف عن الواقع يسقط عن الحجية بمعارضته بأمارة أقوى.

ص: 32


1- راجع تحف العقول: ص50.
2- وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509.
الإشكال بأن حجيته طريقية - تعبدية

لا يقال: هب أن الاجتهاد أمارة، لكن كما أن في بعض الأمارات تؤخذ بعض الخصوصيات تعبداً - كما في اشتراط العدالة في مرجع التقليد حيث لا يجود تقليد الفاسق وإن كان صادق اللهجة وأعلم من جميع الجهات مما يستلزم كون رأيه أقرب إلى الواقع، وكما في اشتراط طهارة المولد في المرجع والقاضي وهكذا - كذلك قد تكون (الوحدة) مأخوذة تعبداً في حجية رأي الفقيه ولزوم اتباعه، فينبغي اتباع الفقيه الواحد المقلَّد وإن كان رأي أكثرية الفقهاء أقرب للواقع، أو يقال: بأن (تقليد شخص) مأخوذ تعبداً في حجية آرائه في سائر المواضع، كالموضوعات والشؤون العامة، وإن كان رأي غالبية الفقهاء أقرب للواقع فيها؟ والجامع عدم جواز التبعيض في التقليد والرجوع والإتباع.

الجواب: أصالة عدم أخذ أمر زائد تعبداً

إذ يقال: الأصل عدم أخذ شيء تعبداً في حجية الأمارة، ولذا كان اعتبار العدالة وطهارة المولد والحرية والذكورة في مرجع التقليد وفي القاضي والحاكم هو المحتاج للدليل.

بل إن كثيراً من الفقهاء ألغوا في كثير من الموارد خصوصية معينة مأخوذة في الدليل - مما ظاهره اعتبارها تعبداً، أو مما يستلزم بالمفهوم عدم حجية فاقد الخصوصية، لكون الحجة هو المقيد بهذا القيد ففاقده لا دليل على حجيته - وحملوها على جهة أخرى كالتمثيل، أو بيان انطباق الكبرى على المورد، وكذا عند الدوران بين التعبدية والطريقية رجحوا الطريقية.

ص: 33

من موارد إلغاء الفقهاء الخصوصية المحتمل تعبديتها
اشارة

وهناك موارد عديدة كثيرة: نذكرها مشيرين في ضمن ذكر هذهالموارد - وبالتفصيل - إلى وجوهٍ أخرى عديدة، إجابةً عن هذا الإشكال، وإثباتاً للطريقية، كما سنذكر موارد ذكرها الفقهاء يمكننا أن ننتقل منها لإثبات المدعى:

أ: جواز قضاء القاضي بعلمه رغم نصوص الحصر بغيره

فمنها: ما أفتى به المشهور كما في المستند والجواهر والفقه وغيرها، بل عن الانتصار والغنية والخلاف ونهج الحق وظاهر السرائر: الإجماع عليه: من جواز أو وجوب قضاء القاضي بعلمه، رغم أن الشارع عيّن طرقاً معينة للقضاء.

ففي صحيح هشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض)(1)، والحصر فيها واضح.

وقال (صلى الله عليه وآله): (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن أويس: (جميع أحكام المسلمين تجري على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة جارية من أئمة الهدى)(3).

بضميمة ندرة موارد عملهم (عليهم السلام) بالعلم، فلا يصدق عليها (سنة

ص: 34


1- الكافي: ج7 ص414 باب أن القضاء بالبينات والأيمان ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص368 ب3 ح21601.
3- بحار الأنوار: ج101 ص291 ب8 ح7 عن الخصال.

جارية)، لكون السنة ما سُنّ ليمشى على طبقه، وعملهم في موارد نادرة على طبق العلم لا يثبت كونه مما سُنّ ليعمل على طبقه، لأن العمل مما لا جهة له - كما سبق بيانه - ولاحتمال كونه قضية في واقعة، فتأمل.

لا يقال: إن موارد تخالف عملهم مع البينات والأيمان ليست بالقليلة.

إذ يقال: لعل عملهم بالمخالف في تلك الموارد لعنوان ثانوي وضرورة قاضية، لا للعلم بخلافها، ولذا وجه في (الفقه) قتل علي (عليه السلام) لأعرابي كذّب الرسول (صلى الله عليه وآله) في دعواه تسليمه سبعين درهماً ثمن ناقة اشتراها (صلى الله عليه وآله) منه، بأن ذلك كان لسد باب تكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله) فتسقط مكانته عن القلوب، حسب تخطيط المشركين، فراجع.(1)

ويؤيد عدم كون عملهم (عليهم السلام) بالعلم سنةً، بل يدلّ عليه: ما رواه أبو عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إذا قام قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) حكم بحكم داود لا يسأل بيّنة).(2)

وما رواه أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود (عليه السلام) ولا يسأل بيّنة، يعطي كل نفس حقها).(3)

حيث دلا على أن الإمام الحجة (عليه السلام) هو الذي يحكم بعلمه، وأن الدنيا لا تذهب حتى يخرج فيعمل بعلمه، مما يعني أن من سبقه من الحجج (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) لم يكن يعمل بعلمه عموماً، ولا ينافي ذلك عملهم به أحياناً لعلة، هذا وتفصيل الكلام في ذلك والمناقشات في الملحق (1) فليراجع.

ص: 35


1- الفقه: كتاب القضاء ج1 ص109.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص230 ب1 ح33660.
3- الكافي: ج1 ص397 باب في الأئمة عليهم السلام أنهم إذا ظهر أمرهم... ح2.
ب: استدلال المشهور لتعين تقليد الأعلم ببناء العقلاء ليس إلا لكونه الأقرب

ومنها: ما استدل به المشهور لتعيّن تقليد الأعلم من بناء العقلاء على الرجوع إليه لا غير مع الإمكان، فإن بناء العقلاء على ذلك - إن سلّم - ليس إلاّ بملاك كونه أقرب للواقع.لا يقال: أولاً: ليس بناؤهم على ذلك محرزاً، وإلاّ لزم تعطيل المفضول في المهن والتالي باطل.

وثانياً: لو سلّم بناؤهم فلا نسلّم كون مبناه هو كونه أقرب، إذ لا تعلم أقربية فتوى الأعلم من غيره، لا دائماً ولا غالباً، لكثرة مطابقة فتوى المفضول للمشهور، أو لرأي ميت أعلم من هذا الحي، أو ميت لا يعلم أعلمية هذا الحي منه، فلا تعلم الأقربية، أو للاحتياط.

إذ يقال: أولاً: الكلام أن المشهور التزموا بكون بناء العقلاء على ذلك، لنفرع عليه أن رأي أكثرية الشورى حيث كان هو الأقرب للواقع فالواجب اتباعه على مبناهم وما التزموا به.

ثانياً: لو سلّم عدم إحراز بنائهم على الرجوع للأعلم مطلقاً، فلا يمكن إنكار بنائهم على الرجوع إليه إن أحرزت الأعلمية بالخصوص في مورد تخالف الفتويين، بأن علم كونه أعلم في هذه المسألة الخاصة ولم تعارضه فتوى ميت أعلم أو فتوى المشهور أو الاحتياط أو ما أشبه ذلك(1)، خاصة إذا كان الأمر خطيراً، ألا ترى أن المبتلى بداء خطير لو أحرز كون هذا الطبيب أعلم في خصوص هذا المرض من غيره، وكان الخطأ في التشخيص والعلاج موجباً

ص: 36


1- وهذا كله حسب المشهور، دون المنصور.

لهلاكه، ولم يكن في الرجوع إليه مانع من عسر شديد أو غيره، أتراه يراجع الطبيب المفضول في هذه المسألة؟ وألا تراه ملوماً معاتباً عند العقلاء لو راجع المفضول وهلك، ومعذوراً عندهم لو راجع الفاضل وهلك؟

وليس ذلك البناء في هذه الصورة إلاّ لكون رأيه أقرب إلى الواقع بنظرهم، لكونه أعلم من غيره، هذا وتفصيل الكلام في الملحق (2).

لا يقال: ما الدليل على كون رأي أكثرية الشورى أقرب للواقع ثبوتاً إذ لعلها كالقياس؟

إذ يقال: الدليل هو روايات الاستشارة: (من استبد برأيه هلك) (1)، و(مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (2)، و(من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (3)، وقد فصلنا الكلام حول إفادتها أقربية رأي الأكثرية للواقع، مع ذكر أدلة أخرى عقلية دالة على الأقربية في مواضع أخرى من الكتاب.

ومما سبق قبل أسطر يعلم سر توقف حجية بناء العقلاء على إمضاء الشارع أو عدم ردعه فتدبر.

ص: 37


1- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15587. وفي تتمة الحديث: (ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15582. قيل: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم.
3- الكافي: ج8 ص22. ونهج البلاغة: قصار الحكم 173.
الإشكال باشتراط العدالة و...

على أن حجية رأي الفقيه طريقية - تعبدية

لا يقال: حجية رأي الفقيه ليست طريقية محضة، وإلا لما اعتبرت فيه الذكورة والحرية وأشباهها، ولما وجب اتباع العالم العادل حتى وإن خالفه في المسألة أعلم فاسق محرز صدقه، فهي طريقية - تعبدية، فلو سلم وجود ما هو أقرب للواقع منه ودلّ الدليل على ذلك، لم يلزم بل لم يصح اتباعه، لعدم كون ملاك الحجية محض الطريقية، بل إنها مجهولة الملاك، أو يقال: إن القرب للواقع جزء المقتضي، فلعل الأقرب فاقد للجزء الآخر فلا يكون حجة، فلا يجوز العمل به، فكيف بتقديمه؟ ولذا لو سلمنا كون رأي أكثرية شورى الفقهاء أقرب للواقع فلا يستلزم ذلك حجية ووجوب أو جواز اتباع رأيهم، إذ لم يكن القرب تمام الملاك؟

جوابان عن الإشكال

فإنه يقال: يرد عليه أولاً: إن ثبوت تعبدية الدليل من جهة لا يستلزم تعبديته من جهة أخرى، إذ التعدية إسراء للحكم من موضوع إلى آخر بلا دليل، إضافة إلى أن لحاظ شيء خاص في دليلية الدليل خلاف الأصل، لكون الأصل عدم حدوث الحادث فلا يخرج عنه إلا بدليل، والدليل الدال على كون حيثية معينة ملحوظة ومأخوذة في الدليل تعبداً غير متكفل لسائر الحيثيات فيه.

ألا ترى أن اعتبار البلوغ والإسلام والإيمان وطهارة المولد في الشاهدين

ص: 38

تعبداً، (إذ لا حجية في شهادة غير المسلمين أو المؤمنين، وإن كان الظن الحاصل من قولهما أقوى، وإن كان مدعاهما أقرب للواقع، وإن كانا متحرزين عن الكذب جداً، ولم تكن البينة الأخرى من المسلمين المؤمنين كذلك) لا يستلزم إطلاقاً كون الحرية أيضاً مأخوذة فيهما تعبداً، (بأن تقدم شهادة الحرين وإن كان شهادة العبدينأقرب، وبأن لا تقبل شهادة العبدين وإن لم يعارضها شهادة حرين، كما لا تقبل شهادة الكافرين وإن لم تعارضها شهادة مؤمنين، إلا لو دخل ذلك في باب آخر كما لا يخفى)، ولذا ذهب الأشهر بل المشهور - خلافاً لأكثر العامة ولابن أبي عقيل - إلى قبول شهادة المملوك مطلقاً إلا على مولاه.(1)

ومن الواضح أننا لو شككنا في اشتراط الشهادة بالحرية وأخذها تعبداً، كان الأصل عدمها، ولا يلتزم فقيه بعكس ذلك.

كما أن من الواضح كون الشهادة طريقية - تعبدية، ولذا دلت الروايات على اعتبار ارتفاع التهمة في قبولها، بأن لا تكون بينهما عداوة دنيوية تضمنت فسقاً أم لا، وأن لا يكونا ممن يجر بشهادته نفعاً، ولذا أيضاً لم تقبل شهادة (المغفل الذي في جبلته البله، فربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا الأمور وتفاصيلها ويدخل عليه الغلط والتزوير من حيث لا يشعر)(2)، ومن الواضح أنه لولا اعتبارها من باب الكاشفية النوعية عن الواقع لما اشترط فيها ارتفاع التهمة وعدم البلاهة وشبهها المعلوم من اشتراطها الاحتراز عن مخالفة الواقع، وكذلك لوضوح كونها أمارة لا أصلاً.

ومن هنا انقدح جواب آخر عما ذكره في الكفاية: (وأما الكبرى فلأن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية لم يعلم أنه القرب من

ص: 39


1- جواهر الكلام: ج41 ص92 كتاب الشهادات.
2- جواهر الكلام: ج41 ص15 كتاب الشهادات، مزجاً مع الشرائع.

الواقع...).(1)

وثانياً: سلمنا.. لكن نقول: إن الجهل بملاك حجية قول الفقيه لا يضر بما نحن في صدده من إثبات حجية رأي شورى الفقهاء، للعلم قطعاً بوجود الملاك في أكثريتهم أيضاً، وذلك لفرض كون كل واحد من أكثرية شورى الفقهاء جامعاً لشرائط التقليد، فكلامهم حجة قطعاً، بل متعين الرجوع لأقربية رأيهم وهي جزء الملاك والمقتضي، من الفقيه الواحد المتصدي للأمور مثلاً.

وأما احتمال اعتبار الوحدة والانفراد في حجية رأي الفقيه، بمعنى كون رأي هذا الفقيه حجة بشرط لا، فمدفوع بعد غاية بعده وعدم تعقل وجه له بالعقل ثم بالأصل، وبعبارة أخرى: العدالة وشبهها معتبرة تعبداً في حجية رأي الفقيه، وأما اعتبار عدم التعدد والوحدة كذلك فلا دال عليه والأصل عدمه، وقد فصلنا الكلام حول ذلك في موضع آخر.

وربما أمكن إرجاع هذا الجواب إلى الأول.

وبما ذكرناه انقدح الجواب عن البيان الآخر للإشكال: (أن يقال أو القرب للواقع جزء الملاك...) فليتدبر.

ج: التزام المشهور بالتعدي عن المرجحات المنصوصة

ومنها: ما التزم به كثير من الفقهاء في باب التعادل والتراجيح من عدم الاقتصار على المرجحات المنصوصة، والتعدي منها إلى غيرها.

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): (ولذا ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة، بل ادعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور

ص: 40


1- كفاية الأصول: ج2 ص440 الاجتهاد والتقليد.

الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه من جماعة)(1)، فرغم اقتصار الإمام (عليه السلام) على ذكر مرجحات خاصة، وحكمه بعد فقدها بالتخيير أو التوقف، إلا أن كثيراً منهم تعدى إلى مطلق المرجح وحكم بلزوم الأخذ به وطرح المرجوح، (كالترجيح بالأضبطية والنقل باللفظ وعدم الاضطراب)، لا التخيير أو التوقف، لاستظهار كون الترجيح بمناط الأقربية للواقع ولا مدخلية لخصوص مرجح وعدم كون الترجيح تعبدياً، ووجّهوا ذكر المرجحات الخاصة دون غيرها بأنها كانت للتمثيل، أو للأهمية، أو لمعرفة السائل سائر المرجحات، أو لكثرة الابتلاء بهذه المرجحات، أو إرادة السائل تساوي الروايتين من سائر الجهات، رغم ظهور الحديث في الترتيبالخاص ثم التخيير أو التوقف، وتخالف الترتيب في الروايات لا يخل بهذا الظهور في مرحلة الإرادة الاستعمالية، لكونها منفصلة، بل والجدية إلا على بعض الوجوه، فتأمل.

وقال الشيخ (قدس سره): (ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالاً لمخالفة الواقع)(2)، ومن الواضح عدم إمكان التعدي عن مورد العلة المنصوصة مع التعبدية، لعدم كونها معممة مخصصة حينئذٍ، للجهل بالملاك الواقعي، إذ لعله عدم الريب الخاص لا المطلق.

ومما سبق من الإشكال على ما ذكره الآخوند (قدس سره) في بحث الاجتهاد والتقليد ظهر الإشكال على ما ذكره (قدس سره) هنا بقوله في جواب إشكال (ومنها أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً): (وفيه: إنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك

ص: 41


1- الرسائل: ص450 التعادل والتراجيح.
2- الرسائل: ص450 التعادل والتراجيح.

الحجية في نظر الشارع، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها كالحجر في جنب الإنسان، وكان الترجيح بها بلا مرجح وهو قبيح كما هو واضح)(1)، إذ غاية الأمر كون حجية الخبر طريقية تعبدية فترد الإشكالات الأربعة السابقة فليراجع، ومنها ما يتم ولو مع الالتزام بالتعبدية المحضة، فدقق.

وأما ما ذكره الآخوند (قدس سره) في التعادل والتراجيح إشكالاً على ما ذكره الشيخ (قدس سره) من التعدي عن مورد النص في العلة للتعليل ب- (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) بقوله: (وأما الثاني فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه...)(2)، فقد أجبنا عنه في موضع آخر عند التطرق لإشكال كون اللام في (المجمع) للعهد.

ومنه ينقدح دليل آخر على كون الأقرب للواقع واجب الاتباع، وهو هذه الرواية الشريفة.

د: كون الأصل في التعليل: التعليل بأمر ارتكازي

ومنها: ما ذكره العديد من الأصوليين: من أن الأصل في التعليل، التعليل بأمر ارتكازي لا تعبدي، وقد نقلنا ذلك عن المرحومين الآخوند والحكيم (قدس سرهما) في موضع آخر فليراجع.

وجه الدلالة: إنهم عند الدوران بين التعبدية والطريقية التزموا بالأخيرة، معتبرينها الأصل، بل إنهم لم يستثنوا ما لو كانت حجية الدليل المعلل مدلوله والحكم الذي تضمنه بعلة منصوصة، طريقية - تعبدية، بل أجروا هذه القاعدة حتى في تلك الموارد.

ص: 42


1- كفاية الأصول: ج2 ص395-396 التعادل والتراجيح.
2- كفاية الأصول: ج2 ص398.

وببيان آخر: حيث إن الحكم معلول علة، فإذا ذكرت علة للحكم في لسان الشارع ولم يكن دليل على تعبديتها وكان الأصل في التعليل الارتكازية، كان ذلك المذكور في لسانه تمام الملاك للحكم، إن كانت ارتكازيتها مقتضية لذلك، بل لا حاجة لهذا القيد مع ملاحظة ما سيأتي، فيدور الحكم مدار تحققها بدون لحاظ شيء آخر، إلا لو قام دليل على الخارج على كون شيء شرطاً أو مانعاً، فلم يكن ملاك الحكم حينئذٍ مجهولاً حتى لا يعلم بتحققه عند (دلالة غير الحجج الشرعية المعينة عليه وإن كان أقرب للواقع منها)، وحتى يتّجه كون خصوصية طريق معين مأخوذة في تحقق الحكم أو تنجيزه وتعذيره.

إلا أن يقال: هذا الدليل أخص من المدعى، أو يقال: احتمال اعتبار الشارع شيئاً شرطاً أو مانعاً حيث كان وارداً كان احتمال التعبدية وارداً وفيه: إنه مسبب عن احتمال ذلك الاعتبار والأصل عدمه.

نعم قد يقال: بأن العلل المذكورة في لسان الشرع مقتضيات وليست عللاً تامة.

وقد يجاب بوجوه، منها: إنهم التزموا بكون العلة المذكورة في لسان الشارع معممة ومخصصة، رغم كون العلل الشرعية مقتضيات لتقييدها على الأقل بالشروط العامة (كالقدرة والاختيار)، ولكون الاضطرار وشبهه مانعاً، فيحتمل أن تكون العلة التامة للحكمأمراً مركباً مما يشتمل على ما ذكره الشارع وعلى جهة تعبدية(1)، كما يحتمل أن تكون أمراً مركباً مشتملاً على ما ذكره وعلى جهات آخر ارتكازية(2)، ومع ذلك التزموا بأجمعهم بكون العلة معممة مخصصة، وكلامهم على مقتضى الأصل لرجوع الشك إلى أخذ أمر زائد على

ص: 43


1- فلا تكون العلة حينئذٍ معممة ومخصصة.
2- فتكون معممة ومخصصة إن عرفنا تلك الجهات وأحرزنا وجودها، والوجه الآخر أن احتمال التعبدية مسبب ينتفي بإجراء الأصل في سببه.

المقتضي المذكور في لسان الدليل والشرائط العامة والموانع العامة، والأصل عدمه، فلا تصل النوبة للأصل المسببي الجاري لدى الشك في تركب العلة التامة مما يشتمل على جهة ارتكازية أو تعبدية، بل جريانه لا يخل، لكونه موافقاً، أما المسببي المخالف فهو أصالة عدم كون المذكور في لسان الدليل علة تامة.

وبهذا البيان يمكن تعميم الكلام لما لم تذكر فيه العلة، ضرورة استحالة المعلول بلا علة، فلا يعقل حكم دون علة ثبوتاً، فإذا أحرزنا كون الطريق الجديد ظناً نوعياً معتبراً، وقام الظن المعتبر على كونه لا يقل طريقيته عن الأول كان قسيماً، وأما الأقربية فإن قام دليل عليها بحد الرجحان أو التعيين فبها، وإن شك جرت قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير إن لم يكن عموم أو إطلاق، فتأمل.

ه: استدلال الفقهاء لوجوب تقليد الأعلم بروايات باب القضاء

ومنها: ما ذكره الفقهاء استدلالاً لوجوب تقليد الأعلم، من الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالة على وجوب تقليده وتقديمه، كقوله (عليه السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) (1)، وقوله (عليه

السلام) في رواية داود بن الحصين: (ينظرإلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا) (2)، وقوله (عليه السلام) في عهده للأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك) (3)، رغم كون هذه الروايات مرتبطة بباب الحكومة والقضاء.

قال في (المهذب) في سياق ذكر أدلة وجوب تقليد الأعلم: (الرابع: إنه قد

ص: 44


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح1.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص301 ب92 ح50.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص159 ب12 ح33481. ونهج البلاغة: الكتب الرقم 53.

ورد الرجوع إلى الأفقه في القضاء عند اختلاف القضاة)(1).

وقال في الكفاية: (ثانيها: الأخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها، أو على اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام): اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)(2).

وذلك واضح لمن لاحظ صدر الرواية، ففي المقبولة: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال (عليه السلام): من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامناً فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف، وعلينا قد ردّ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فإن كان كل رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما...) (3).

ولو لا كشفهم الملاك في الترجيح وأنه هو القرب إلى الواقع في المقيس عليه، لما تم ذلك.

ولا يرد: ما ذكره في (الفقه) بقوله: (وفيه: إن هذه الروايات واردة في مقام الحكومة والقضاء، إن قلت: نتعدى من موردها بالمناط، إذ الملاك هو الأخذ بالواقع وكلها طرق إليه، قلت: إسراء الحكم من باب الحكومة والإمامة إلى الفتوى يحتاج إلى مناط قطعي ولا مناط هنا، إذ فرق بين باب الحكومة وباب

ص: 45


1- مهذب الأحكام: ج1 ص24.
2- كفاية الأصول: ج1 ص440.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص8.

الفتوى، فإن الحاكم جعل لفصل الخصومة ولا يحصل ذلك مع الاختلاف فلابد من الترجيح، بخلاف باب الفتوى فإنه لا يحتاج إلاّ إلى الحجة، بل احتمال خصوصية الحكومة كافٍ في عدم جواز الإسراء، بل في باب الحكومة أيضاً وجوب الرجوع إلى الأعلم محل نظر... وكيف كان فقياس باب الفتوى ببابي الحكومة والإمامة مع الفارق).(1)

وذلك لما فصلناه في الملحق (3) مع مطالب أخرى عديدة، فليراجع.

ص: 46


1- الفقه: ج1 ص67-68 كتاب الاجتهاد والتقليد.

الفصل الثاني: في الاستدلال ببرهان الدوران والترديد

اشارة

ص: 47

ص: 48

برهان الدوران والترديد
اشارة

ويمكن الاستدلال بحكم العقل على حكومة رأي أكثرية الفقهاء على رأي الفقيه الواحد حاكماً كان أم لا، في كل أمر من الأمور العامة تصدى له فقيه أو مجموعة من الفقهاء، عن طريق برهان الدوران والترديد، فنقول وبالله نستعين:

إن الأمر يدور عند تعارض آراء وقرارات المراجع، بين:

أ: نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب.

ب: نفوذ أمر أحدهم غير المعين على الجميع.

ج: نفوذ حكم أحدهم المعين.

د: نفوذ حكم أحدهم المخير

ه: نفوذ حكم الأكثرية

1: مناقشة فكرة نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب
أما الأول:

فغير صحيح، لاستلزامه الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، إذ من الواضح أن فقيهاً لو أمر بالحرب، وأمر آخر بالصلح، وقلنا بنفوذ حكم كل منهما على مقلديه، وجب على مقلدي الأول الجهاد والإعداد، وحرم ذلك على مقلدي الثاني، بل وجب عليهم إقرار الصلح، وذلك يستلزم دخول الدولة بنصف قواها إلى المعركة - أو أكثر أو أقل - مما يؤدي إلى هزيمتها أمام العدو أحياناً كثيرة، بل يستلزم سعي بعضهم للحرب وسعي بعضهم على الضد من ذلك للصلح.

ص: 49

وأوضح من ذلك ما لو حكم الفقيه الأول: بأن الأولوية للحرب مع الدولة (ألف).

والثاني: بالأولوية للحرب مع الدولة (ب).

والثالث: بالأولوية للحرب مع الدولة (ج).والرابع: (د)(1).

فهل يمكن لشخص أن يلتزم بالخيار الأول حينئذٍ (نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب)؟ مما يستلزم فتح أربع جهات عسكرية في وقت واحد أمام أربعة دول قد تتفوق كل واحدة منها على الدولة الإسلامية كماً وكيفاً؟ وألا يلزم من ذلك أكبر الضرر واختلال النظام والهرج والمرج؟

وكذا لو ارتأى فقيه اتخاذ سياسة (تصدير الثورة) ودعم الحركات التحررية بالسلاح والمال والإعلام وتفجير الداخل وحكم به، وارتأى الآخر عكس ذلك تماماً، بأن رجح إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع الدول المجاورة وغيرها، وإهمال حركات التحرر أو تحديد أو حتى ملاحقة قادتها كونها حائلة دون تحسن العلاقات مع سائر الدول وحكم به، فإن من البديهي أن نفوذ حكميهما على مقلديهما يستلزم ما ذكر من المحذورات.

ومن الثابت أن (حفظ نظام النوع) من الواجبات، وأن الإخلال بالنظام والهرج والمرج مما ردع عنه العقل والشارع، ولذا قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (وطاعتنا نظاماً للملة)(2)، وقال في المستند في كتاب القضاء: (الثالثة: القضاء واجب على أهله بحق النيابة للإمام وفي زمان الغيبة في الجملة بإجماع

ص: 50


1- وليس هذا مثالاً خيالياً، إذ إن من الواضح اختلاف الفقهاء والسياسيين حالياً في أولوية صب كل الطاقات ضد الاستعمار الأميركي أو البريطاني أو الروسي أو غيرها في كثير من الدول التي تهددها هذه الثلاثة بشكل أو بآخر.
2- بحار الأنوار: ج29 ص223.

الأمة، بل الضرورة الدينية لتوقف نظام نوع الإنسان عليه...).(1)

وأما ما ربما يقال من اندفاع الهرج والمرج واختلال النظام بتحكيم رأي الفقيه الحاكم فسيأتي الجواب عنه تفصيلاً عند التطرق للشق الثالث بإذنه تعالى.

ويمكن توضيح ما ذكرناه أكثر فأكثر بملاحظة أمرين:

الأمر الأول: إن من الواضح عدم تطابق الخارطتين الجغرافيةوالبشرية - التقليدية(2)، ذلك أن مقلدي المراجع يتوزعون في دول عديدة، حيث تضم كل دولة مقلدين لعدة مراجع، حيث لم تستطع (الحدود الجغرافية) أن تأقلم (حدود الولاء) لتحتكر كل دولة لنفسها مرجعاً خاصاً فارضة حصاراً حديدياً أمام تقليد شرائح من الشعب لمراجع آخرين، وهكذا نجد أنه كان لكل مرجعٍ مقلدون كثيرون أو عديدون في بلاد كثيرة، وكانت شعوب كل دولة ترجع إلى عدة فقهاء وإن كان ذلك بنسب متفاوته.

ولقد اشتهر الشيعة منذ القدم وعلى مر الإعصار بذلك، حيث إن فتح باب الاجتهاد لديهم وتعددية مراجع التقليد، أشهر من نار على علم، وكذلك رجوع الناس من أية قومية كانوا إلى المرجع مهما كان صنفه، فترى العربي والتركي والهندي وغيرهم يقلد مرجعاً إيرانياً (كالمقدس الأردبيلي والشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي والسيد أبي الحسن الاصفهاني قدس سرهم)، أو أفغانياً (كالآخوند الخراساني الهروي قدس سره)، وترى الإيراني والأفغاني والباكستاني والهندي والتركي وغيرهم يقلد مرجعاً عراقياً (كالعلامة الحلي والمحقق الحلي وابن سعيد الحلي وابن طاووس والشيخ المفيد قدس سرهم)، أو لبنانياً (كالشيخ البهائي والشهيد الأول والشهيد الثاني والمحقق الكركي قدس سرهم)، أو سورّيا

ص: 51


1- مستند الشيعة: كتاب القضاء، ص514.
2- وكذا الجغرافية - النفوذية، أي دوائر النفوذ للعلماء والأحزاب وغيرها حتى على من ليس مقلداً.

(كالحلبيين قدس سرهما) وغيرهم، وهكذا وهلم جراً...

كما نجد مراجع عديدين إلى جنب المرجع الأعلى لو وجد: الآخوند الخراساني، والميرزا محمد تقي الشيرازي، وصاحب العروة اليزدي، ثم السيد أبو الحسن الأصفهاني والميرزا النائيني والسيد حسين القمي، وكاشف الغطاء والمرحوم الكمباني، ثم السيد الحكيم والسيد الشاهرودي والسيد الميلاني والسيد البروجردي والسيد الخوانساري والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد الميرزا مهدي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الشيرازي والسيد إبراهيم الاصطهباناتي والسيد محمد حجة الكوهكمري (قدس الله أسرارهم)، ثم المراجع الحاضرون (حفظهم الله تعالى).

ولربما تطرقنا إلى تفصيل ذلك وإلى دراسة الحركة المرجعية طوال التاريخ في كتاب آخر إن شاء الله.

الأمر الثاني: إن كثيراً من القرارات المرتبطة بالشؤون العامة إن لم يكن كلها جميعاً لا تتحدّد في إطار مقلدي المرجع الواحد، بل تتسع تأثيراتها لتشمل مقلدي سائر المراجع سلباً أو ايجاباً.

فعلى صعيد الدولة يمكن التمثيل ب: نظام الضرائب، التأميم وعدمه، تحديد التجارة الخارجية، فرض المكوس والرسوم الجمركية، قطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع هذه الدولة أو تلك، الحرب والصلح، نظام الجندية الإجبارية.

وأما في خارج إطار الدولة، فيمثل ب: اتخاذ أسلوب العمل الثوري في مواجهة الحاكم الجائر (كما ارتآه الآخوند الخراساني صاحب الكفاية (قدس سره) في المشروطة مثلاً)، أو انتهاج سبيل الانعزال والابتعاد عن العمل السياسي (كما ارتضاه الطباطبائي اليزدي صاحب العروة (قدس سره) في تلك الحادثة)، أو اتباع

ص: 52

طريقة (التغيير الثقافي) عبر تقوية نظام الوكلاء والتركيز على بناء المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية كالمساجد والمدارس والحسينيات وغيرها، (كما سلكه السيد أبو الحسن الاصفهاني (قدس سره) عندما آلت إليه المرجعية بعد وفاة صاحبي الكفاية والعروة قدس سرهما).

وكذلك في الموقف من كل فتنة عارضة، وما أكثر أمثلتها، بل وفي السياسة العامة التي يسير عليها المرجع طوال حياته.

ومن الواضح: أن أي موقف من المواقف السابقة لا ينحصر تأثيره في مقلدي المرجع صاحب الموقف المعين، إذ إن اتخاذ أسلوب العمل الثوري في مواجهة الطاغوت في دولة ما تنجم عنه الكثير من المضاعفات والنتائج.

وبعبارة أكثر تفصيلاً: إما أن يؤدي اتخاذ أسلوب المواجهة الثورية مع الطاغوت إلى إسقاطه أو لا، وعلى التقدير الأول، إما مع تضحيات كثيرة في الأنفس وخسائر في الأموال أو لا، ثم إما مع سقوط الحكم بيده أو لا، وعلى هذين التقديرين فإما أن يقع الحكم بعد ذلك بيد الأحسن أو الأسوأ أو المساوي من بعض الوجوه أو كلها أوبالتخالف.

وعلى التقدير الثاني(1) إما أن يسبب ذلك زيادة تكبّر الحاكم الطاغوت وتجبره ودكتاتوريته وغصبه للحقوق وهدره للدماء، أو يسبب العكس، أو لا يؤثر أصلاً لا سلباً ولا إيجاباً، وعلى تقديري الزيادة وعكسها إما أن يسبب ذلك سرعة سقوطه(2) أو بطءه، وهكذا وهلم جراً.

ص: 53


1- عدم سقوط الحاكم الجائر.
2- على تقدير زيادة الضغط حسب قاعدة الضغط يولد الانفجار، وكل شيء جاوز حده انقلب ضده، وعلى تقدير العكس وإعطائه نوعاً من الحريات قد يفتح ذلك مجالاً لمزيد من التحرك السياسي والاجتماعي والثوري مما يسهم في نضج المفاهيم بشكل أسرع في أذهان الشعب، أو قد يسبب هدوء الشعب وميلهم للدعة والسكون بدل الثورة والتحدي.

ومن الواضح أنه على جميع التقادير بعد إخراج مستحيل الوقوع ومستبعده، تكون التأثيرات منعكسة على الشعب بأكمله، أو على قطاعات واسعة منه، وقد لا تكون بالضرورة مقلدة بأجمعها للمرجع متخذ القرار.

وكذلك قرار العمل الثقافي والانعزال، إذ من الواضح أن متخذي القرار يرون فيهما مجموعاً المصلحة أو المفسدة الأقل، وفي عكسهما المفسدة أو المفسدة الأكثر، وعلى جميع التقادير لا تنحصر المصلحة والمفسدة في مقلديهما.

فلو قلنا بنفوذ حكم كل فقيه على مقلديه، استلزم ذلك - مع لحاظ ما سبق من الأمرين - الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، ولو قيل بكون الدليل أخص من المدعى ضمها إليها لزوم الضرر البالغ.

هذا إضافة إلى ورود إشكال آخر على الالتزام بالشق الأول، وهو أن جعل مرجّح نفوذ حكم هذا الفقيه هو كونه مقلَّداً، بلا دليل، لعدم قيام دليل على كون النافذ حكمه هو المقلّد، فإنه لا تلازم بين الرجوع إلى شخص في التقليد وبين نفوذ أحكامه، بل الدليل على العدم، إذ أدلة ولاية الفقيه مطلقة شاملة لكل جامع للشرائط مقلَّداً كان أو غيره، فتخصيصها بما لو قلّده الشخص تخصيص بلا مخصص،هذا ولذا تجد الفقهاء يرون نفوذ حكم الحاكم بالهلال وشبهه ولو على مقلدي المرجع الآخر، فإن باب الفتوى غير باب الحكومة في مثل الهلال، كما هما غير باب الحكومة في الشؤون العامة.

ولا يخفى أن هذا الشق الأول مندرج في الشق الثالث ومن مصاديقه.

ص: 54

2: مناقشة نظرية نفوذ أمر أحدهم غير المعين
وأما الثاني:

فغير تام أيضاً، إذ أنه مستحيل إن أريد ب- (غير المعين) غير المعين في مرحلة الثبوت، إذ لا وجود للواحد المردد في الخارج، لأن كل شيء هو هو، ولا يعقل أن يكون هو أو غيره، إذ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه محال، وإلا لزم اجتماع النقيضين.

ولا معنى له إن أريد به (غير المعين في مرحلة الإثبات) مع تعيينه في مرحلة الثبوت، فيكون أحدهما الحجة واقعاً والآخر غير حجة واقعاً، إذ لا معنى للأمر باتباع شخص غير معين من مجموعة، بل هو مستحيل من الآمر الملتفت، ومن المأمور إن لم يعد إلى التخيير بينهما كما هو مفروضنا في هذا الشق.

أما من الآمر فلعدم إمكان البعث الحقيقي نحو ما لا يمكن الانبعاث إليه من الملتفت إلى ذلك، ألا ترى عدم إمكان البعث الفعلي نحو اتباع النبي لو جهل وتردد بين من هو نبي ومن ليس بنبي لمن جهله ولم يكن له طريق إلى معرفته قصوراً، وأنه لا يمكن (تنجيزه) حينئذٍ، ضرورة كون التنجز فرع الإمكان، ولا يمكن إتباع النبي المردد بين نبي وعدوِّ نبي.

أما من المأمور فكذلك، لأن الاتباع فرع إمكانه، ولا يمكن مع تردده بين الضدين أو النقيضين.

ثم إن الفرق بين هذا القسم الثاني بشقيه، وبين القسم الرابع الآتي، هو أن الحجية مجعولة في القسم الرابع لكلا الرأيين لكن لا بشرط، بمعنى جواز اتباع ذاك وذا على سبيل البدل، والواجب الجامع، فأياً منهما اتبع كان منجزاً أو

ص: 55

معذراً، وفي الشق الأول من القسم الثاني مجعول لأحدهما غير المعين ثبوتاً دون الآخر غير المعين ثبوتاً أيضاً، وأما في الشق الثاني من القسم الثاني فمجعولة لأحدهما المعين ثبوتاً وهو المنجز أو المعذّر دون الآخر.

3: مناقشة فكرة نفوذ أمر أحدهم المعين
وأما الثالث:

وهو نفوذ حكم أحدهم المعين، فيرد عليه: إنه ليس أولى من نفوذ حكم الآخرين عليه.

أ: نفوذ حكم الأعلم والمناقشات

لا يقال: الذي ينفذ حكمه هو الأعلم، لأنه الواجب تقليده.

إذ يقال: أولاً: إن باب الفتوى والتقليد غير باب الحكومة في الشؤون العامة، كما أوضحناه في موضع آخر، فلو ثبت تعين تقليد الأعلم فإنه لا ربط له بتعين الرجوع في أمر الشؤون العامة إليه.

سلمنا، لكنه لا تلازم بين كونه أعلم بالأحكام، وكونه أعلم في الموضوعات العامة، فإن النسبة من وجهٍ، كما هو أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

وثانياً: إنه غير تام مبنىً وبناءً:

أما مبنى: فلأن تقليد الأعلم غير واجب، وقد جرى الحديث عن ذلك بحمد الله في موضع آخر(1)، وعن عدم صحة سائر الأدلة التي أقيمت لنفوذ حكم

ص: 56


1- فصل المؤلف الكلام عن ذلك في كتاب (تقليد الأعلم وحجية رأي المفضول) فليراجع.

الأعلم.

وأما بناءً: فلو سلمنا وجوب تقليد الأعلم، ثم فرضنا كون الأعلم في الأحكام هو أعلم في الموضوعات والشؤون العامة(1)، ثم سلمنا أن ذلك يستلزم نفوذ حكمه هو لا غير، ثم فرضنا وجود أعلم يسلم الجميع أعلميته، وفرضنا التزام الجميع بوجوب تقليد الأعلم، صح ماذكر(2)، ولكن سيأتي عدم تحقق هذه الفروض، بل اجتماعها أشبه بوجود العنقاء، فهذا الفرض غير واقع.

سلمنا، لكنه نادر جداً، بل أندر من النادر، وهل يعقل أن يقرر الشارع أمر الحكومة على الفرد الأندر من النادر؟ ولو فرض لما أجدى في سائر الفروض، فكان لا بد من خيار آخر حينئذٍ.

ويكفي أن نشير إلى إحدى تلك الفروض فنقول:

الخلاف الصغروي في (الأعلم) مما لا ينكر، إذ الاختلاف بين الناس والفضلاء في صغرى (الأعلم) مما لا يخفى على أحد، إذ كل يدعي أن مقلَّده ومرجعه هو الأعلم، فأتباع الآخوند (قدس سره) كانوا يدعون أعلميته، وكذا أتباع اليزدي (قدس سره)، وقل مثل ذلك في النائيني والاصفهاني والعراقي (قدس سرهم) وهكذا نازلاً وصاعداً.

وليس هذا الاختلاف ناشئاً عن الهوى والتعصب، بل إنه كثيراً ما يرجع إلى:

أ: الاختلاف في (ضابط الأعلمية)، فهل هو العمق والتدقيق، أم السعة والشمول، أم غيرهما؟ فالشيخ الأنصاري (قدس سره) أدق، وصاحب الجواهر (قدس سره) أشمل، فمن الأعلم؟

ص: 57


1- ولعله فرض نادر التحقق.
2- من نفوذ حكم أحدهم المعين وهو الأعلم.

قال في (المهذب): (الأعلمية من الموضوعات العرفية ومحتملاتها في المقام أربعة: الأول: أن يكون أكثر علماً من غيره... الثاني: أن يكون أكثر استحضاراً للفروع الفقهية ومسائلها... الثالث: أقرب إصابةً إلى الواقع... الرابع: أجود فهماً وأحسن تعييناً للوظائف الشرعية..).(1)

وقال في (الأصول): (ثم إن الأقوال والاحتمالات في موضوع الأعلم متعددة:

1:فهل هو الأوسع علماً، كأن يعرف الربا والمضاربة والمعاملة السابحة حتى يتمكن من تطبيق القضية على أحدها.

2: أو الأكثر اطلاعاً على الأشباه والنظائر، كأن يعرف أن الخمس شركة أو شبيه بحق الجباية أو حق الرهانة أو غيرها منالأقوال.

3: أو الأكثر تحقيقاً، حيث لا يمكن تعدد الحق في موضوع واحد، وإن أمكن بالنسبة إلى أفراد الكلي وإلى الصحيح والأفضل، كما في (داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ)(2).

4: أو الأكثر تدقيقاً، فإنه بعد التحقيق لفهم خصوصيات الحق ومزاياه.

5: أو الأكثر ممارسةً، كمن درّس الرسائل عشر مرات في قبال من دّرسه أقل.

6: أو الأقوى معرفةً، بحيث لا يزول بتشكيك المشكك، فإن الصفات النفسية ومنها العلم قد تكون متينة، وقد تكون ركيكة، حالها حال الألوان الخارجية.

7: أو الأجود فهماً، بمعنى العرفية في فهم الأدلة، حالها حال العرفية في

ص: 58


1- مهذب الأحكام: ج1 ص32.
2- سورة الأنبياء: 78.

السلوك الاجتماعي.

8: وربما يقال: إن الأعلم من جمع الكل في قبال من فقد الكل أو بعضها أو من جمع المتعدد منها.

ولو شككنا في المراد منه، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقن.

كما أنه لو حصل أحدهما على بعضها والآخر على بعض آخر بتساوٍ لم يكن أحدهما أعلم)(1).

وقال في (الفقه): (الظاهر أن الأعلمية عبارة عن قوة الملكة وشدتها، وما ذكره المصنف وغيره من عللها أو معلولاتها، لا حقيقتها، إذ كثرة الاطلاع وجودة الفهم سببان لقوة الملكة، وحسن الاستنباط متفرع عليها)(2)، فتأمل.

ولا بأس بنقل كلام المولى أحمد النراقي (رضوان الله تعالى عليه) بطوله لما فيه من فائدة توضيح ما ادعيناه (من ندرة الاتفاق على الأعلم)، قال (قدس سره) في المستند:

(والمراد بالأعلمية: الأعلمية في الأحاديث، وفي دين الله - كمافي الروايتين - ... والأعلمية في الأحاديث تكون تارة: بأكثرية الإحاطة بها، والاطلاع عليها، وأخرى: بالأفهمية لها، وأدقية النظر، وأكثرية الغور فيها. وثالثة: بزيادة المهارة في استخراج الفروع منها، وردّ الجزئيات إلى كلياتها. ورابعة: بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها، وفهم وجوه الخلل فيها. وخامسة: بأكثرية الاطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم اللغة وقواعد العربية والنحو والصرف والبديع والبيان ونحوها. وسادسة: باستقامة السليقة ووقادة الذهن وحسن الفهم فيها، كما أشار إليه في بعض الأخبار المتقدمة بقوله: (وحسن الاختيار). وسابعة: بأكثرية الاطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في

ص: 59


1- الأصول: ج2 ص325-326.
2- الفقه: ج1 الاجتهاد والتقليد ص100.

فهم الأخبار، ومواقع الإجماعات، وأقوال العامة التي هي من المرجحات عند التعارض، وفي فهم القرآن الذي هو أيضاً كذلك.

والأعلم الذي يمكن الحكم الصريح بوجوب تقديمه هو: الأعلم بجميع تلك المراتب، أو في بعضها مع التساوي في البواقي. وإلا فيشكل الحكم بالتقديم، ومن ذلك تظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة، والله سبحانه العالم)(1).

ومن ذلك كله اتضح ما ذكرناه أكثر في سبب الاختلاف في مصداق الأعلم، وأن من أهم أسباب الاختلاف فيه هو الاختلاف - تفصيلاً أو ارتكازاً - في الضابط، وتبعض تلك المراتب السبعة وعدم اجتماعها جميعاً في فقيه غالباً، وامتلاك فقيه لبعضها في حين امتلاك فقيه آخر لبعضها الآخر وهكذا.

ب: الاختلاف في (التشخيص) عن قناعة تامة، ألا ترى الناس مختلفين في أمهر الأطباء وأعلمهم؟ وكذا في أفضل المهندسين والبنائين و.. و.. وذلك تابع في الأكثر لاختلاف التشخيص والقناعة التامة بذلك، وليس بالضرورة عن الهوى والتعصب.

ولعلماء النفس والاجتماع تحليلهم في هذا المقام، قد نتطرق له في كتاب آخر بإذن الله.وحينئذٍ إذا اختلف الناس في الأعلم، فإن قلنا بنفوذ حكم الأعلم بنظر كل جماعة، أي الأعلم الإثباتي، في حق الجميع: مقلديه ومقلدي غيره، بناءً على تسليم الكبرى من الجميع، وأن الأعلم هو واجب الاتباع، لزم نفوذ أحكام مجموعة من المراجع، ممن ادعى بعض الناس أعلميته، سواء للاختلاف في

ص: 60


1- مستند الشيعة في أحكام الشريعة، للمرحوم النراقي: كتاب القضاء والشهادات: ج2 ص522 الطبعة القديمة.

الضابط، أم للاختلاف في التشخيص بعد الاتفاق على الضابط، على كل الشعب، وهذا محال(1)، لاستلزامه في صورة الاختلاف طلب النقيضين أو الضدين من المكلف، مثلاً لو حكم أحدهم بتجنيد كل الطاقات للحرب على الجبهة الشمالية، والآخر بتجنيد كلها للحرب على الجبهة الجنوبية مثلاً، أو حكم أحدهم بالحرب والآخر بعدمها، أما إن قلنا بنفوذ حكم الأعلم الثبوتي(2) - وإن كان الإثباتي عكسه مطلقاً أو في الجملة - فيلزم المحذور الذي ذكر في الخيار الثاني وتكليف ما لا يطاق.

والكلام بعينه يجري فيما لو وجد أعلم يسلم الجميع أعلميته، ولكن لم يلتزموا بأجمعهم بوجوب تقليد الأعلم، فقلّد كثير منهم غيره، إما لاستقلال عقل المكلف بذلك، أو لفتوى الأعلم بعدم تعين تقليد الأعلم، أو لغير ذلك(3)، فههنا وفي هذه الصورة من الطبيعي أن يرى كل من الأعلم(4) وغير الأعلم نفوذ حكمه هو على مقلديه (فكيف لو رأى النفوذ على الجميع باعتباره حاكماً)، وأن يرى مقلدوا الأعلم نفوذ حكمه عليهم، ومقلدوا غيره نفوذ حكم هذا الغير عليهم، ويعود الكلام السابق فيما لو اختلف الناس في الأعلم، ولا يمكن القول بعدم صحة حكم غير الأعلم في حق مقلديه، إذ إن قوله هو الحجة عليهم شرعاً وعقلاً إما تخييراً لما توصولوا إليه بعقولهم من عدم وجوب تقليد الأعلم تعييناً، أو تعييناً بناءً على عدم جواز العدول والتبعيض، فتأمل.

كما لا يمكن الذهاب إلى أن الواجب عليه هو اتباع الأعلم، لأنه - أي المفضول حتى وإن سلّم أنه المفضول - يرى رأيه في هذه القضية هو الموافق

ص: 61


1- من الحكيم الملتفت بنحو الجد، لا أقل من كونه قبيحاً.
2- أي الأعلم في مرحلة الثبوت والواقع، سواء ثبتت أعلميته في مرحلة الإثبات والعلم أم لا.
3- ككون أقوال غير الأعلم أوفق بالاحتياط أو مطابقة للمشهور.
4- الذي ارتأى عدم تعين تقليد الأعلم فطرح نفسه للمرجعية وقلده جمع.

للموازين الفقهية ويرى رأي غيره خطأً، ولذا قال في العروة في كتاب القضاء: (مسألة 5: لابد للقاضي أن يحكم بمقتضى رأي نفسه لا رأي غيره وإن كان أعلم).

وقال في المهذب: (لأنه المناسق من الأدلة، ولأصالة عدم الاعتبار في غيره، ولكن لو اتفق رأيه مع رأي غيره من حيث تمامية الدليل لديه، لا اعتماداً على نظره يصح حينئذٍ).(1)

وقال في المستند: (الثانية عشرة: إذا كان تنازع المتخاصمين عند حاكم في أمر لاختلاف المجتهدين... يجب على الحاكم المترافع إليه الحكم في الواقعة بمقتضى رأيه وفتواه إجماعاً، لأنه حكم الله عنده وفي حق كل من يقلده أو يترافع إليه...)(2).

وقال في الفقه: (... وذلك لأنه يصدق أنه حكم بحكمهم، وأن الراد عليهم كالراد عليهم عليهم السلام).(3)

ولا يخفى جريان ما ذكر في المهذب والمستند والفقه من التعليل في أمر الحكم في الشؤون العامة فليلاحظ.

ونحن في غنى عن إثبات ذلك، إذ لم يقل المشهور بوجوب اتباع - بل حتى بجواز اتباع - المجتهد لغيره في الفتاوى(4) أو في القضاء، وأما في الحكم فقد تطرقنا ههنا لجانب من البحث، وسنتكلم عنه في مكان آخر أيضاً إن شاء الله تعالى، وسنتطرق إلى صورة حدوث التدافع أيضاً، بأن رأى الأعلم نفوذ حكمه على سائر المجتهدين ورأى غير الأعلم عدمه، أو بالعكس بأن رأى غيره نفوذ حكم

ص: 62


1- مهذب الأحكام: ج27 ص50.
2- مستند الشيعة: ج2 ص531.
3- الفقه: كتاب القضاء: ج1 ص114.
4- وقد صرنا إلى ذلك كما فصلناه في بعض الكتب.

السابق سواء أكان أعلم أو غيره!

اللهم إلا أن يقنعوا جميعاً - وهو فرض غير واقع - بلزوم تقليدالأعلم، فيرجع الكلام إلى الفرض السابق.

ب: نفوذ حكم ولي الأمر، والجواب

لا يقال: لنا أن نلتزم بأن الذي ينفذ حكمه هو (ولي الأمر)؟

فإنه يقال: (ولي الأمر) هو الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولو تعدى منهم إلى خلفائهم كان كل المراجع أولياء للأمر، لا أحدهم بعينه، إذ دليل التعدي عام يشمل كل من جمع الشرائط.

فمثلاً قوله (عليه السلام) في المقبولة: (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (1).

وقوله (عليه السلام): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) (2).

وقد فصلنا الكلام حول ذلك، والاستدلال بهذه الروايات وسائر الروايات في فصل آخر فليراجع.

ص: 63


1- وسائل الشيعة: ج27 ص126 ب11 ح33416.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.
ج: مناقشة نظرية نفوذ حكم الفقيه الحاكم

ولو قيل: بأن الذي ينفذ حكمه هو (الحاكم الفعلي) الذي تسلم أزمة أمور الدولة بيده، وهو قائد الثورة الذي أسقط الحكم السابق وأقام مقامه حكومة جديدة.

قلنا: إن (ولاية الفقيه) على القول بها لم يقيدها أحد من الفقهاء بسقوط السلطة بيده، فللفقيه الولاية شرعاً، داخل الحكم كان أم خارجه(1)، ولذا قال في (الحكومة الإسلامية): (وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة فالولاية لا تسقط، لأن الفقهاء قد ولاهم الله، فيجب على الفقيه أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع، فعليه أن يأخذ الزكاة والخمس والخراج والجزية إن استطاع لينفق كل ذلك في مصالح المسلمين، وعليه إن استطاع أن يقيم حدود الله).(2)

ومن هنا يظهر عدم صحة (وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (صلى الله عليه وآله) منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا)(3)، إن أراد من (الناس) ما يشمل سائر الفقهاء المراجع، بل هذا الكلام ينافي ما ذكره من: (لأن الفقهاء قد ولاهم الله)، مستدلاً به على عدم سقوط الولاية إن أراد سقوط ولايتهم بمجرد تولي فقيه آخر للحكم، فإذا كان الله قد ولاهم فما المسقط لولايتهم عند تصدي فقيه للحكم؟،

ص: 64


1- كما أن للمجتهد العادل القضاء، نصبته الحكومة أم نصبت قاضياً فاسقاً أو غير مجتهد، وكما أن الولاية للأب والجد والوصي - فيما لهم الولاية فيه - سواء سمحت لهم الحكومة أو غيرها بإعمال ولايتهم أم لم تسمح.
2- الحكومة الإسلامية: ص52.
3- الحكومة الإسلامية: ص49.

اللهم إلاّ لو قام دليل خاص على الاستنثاء، وأن الولاية ثابتة للفقهاء مطلقاً سواء كانوا داخل الحكم أو خارجه إلاّ في صورة وقوع الحكم بيد أحدهم، ولكن لا يوجد ما يدل على هذا التخصيص، بل الدليل على عدمه كما أوضحناه هيهنا، وفصلناه في مواضع آخر من هذا الكتاب فليراجع.

ومن هنا اتضح تمامية ما ذكره من: (وعلى الفقيه أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع...)، وكون إطلاقه وعدم تقييده بما لو وقع الحكم بيد أحد الفقهاء هو مقتضى القاعدة.

وبناءً على ذلك يكون من الواجب على الحاكم، فقيهاً كان أو غيره، السماح لسائر الفقهاء بإعمال ولايتهم، ويكون سلب قدرة الفقيه على إعمال ولايته، أو عدم السماح له بتحصيلها، صداً عن المعروف، ومنعاً للحق عن ذي الحق، وكلاهما محرم، ولو منعت الحكومة الفقيه عن ذلك كان عليه أن يعمل ولايته قدر استطاعته - كما مر من كلامه - وعليه أن يسعى ليصل إلى مقدار ما له من الولاية مما اعتبره الشرع المقدس للفقيه.

وأما لزوم الهرج والمرج، فقد فصلنا الحديث عنه في موضع آخر، وذكرنا أنه يندفع بشورى الفقهاء، ولا يصح الاستدلال بالأعم على الأخص، إضافة إلى أجوبة أخرى فليراجع.

ومما يوضح عدم تمامية ما ذكره لو أريد به تعميم الولاية ووجوب الإطاعة، أنه قد استفاد ولاية الفقيه من مجموعة روايات مطلقة، لم تقيد فيها ولايته ووجوب متابعته بسيطرته على الدولة، أو عدم سيطرة غيره من الفقهاء عليها.

فمن الروايات التي استدل بها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهم ارحم خلفائي - ثلاث مرات -، قيل: يا رسول الله

ص: 65

ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي فيعلّمونها الناس من بعدي)(1).

حيث قال: (... ولا مجال للشك في دلالة الرواية على ولاية الفقيه وخلافته في جميع الشؤون)(2)، وإذا كان ذلك، فأين التقييد بصورة توليه للحكم أو صورة عدم تولي غيره له؟ بل إن ما ذكره بعد ذلك من (والخلافة الواردة في جملة (اللهم ارحم خلفائي) لا يختلف مفهومها في شيء عن الخلافة التي تستعمل في جملة (عليخليفتي))(3)، كالصريح في نفي هذا التقييد، إذ مما لا شك فيه أن (خلافة الإمام علي عليه السلام) لا تختص بصورة توليه الحكم، أو بصورة عدم تولي غيره للحكم، فإذا كان العلماء خلفاء للرسول (صلى الله عليه وآله) كخلافة علي (عليه السلام) تماماً - على ما ذكره - فينبغي أن لا تناط خلافتهم وولايتهم بالسلطة الظاهرية أبداً، وجوداً وعدماً.

ومثل ذلك جارٍ في الرواية الأخرى التي استند إليها في إثبات ولاية الفقيه، قال الكاظم (عليه السلام): (إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصون سور المدينة لها...)(4).

قال: (قوله عليه السلام: (لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام...) تكليف للفقهاء أن يحفظوا الإسلام بعقائده وأحكامه وأنظمته...)(5).

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج27 ص92 ب8 ح33298.
2- الحكومة الإسلامية: ص61.
3- الحكومة الإسلامية: ص61.
4- الكافي: ج1 ص38 باب فقد العلماء ح3.
5- الحكومة الإسلامية: ص63.

فهل تنحصر حصنية الفقيه للإسلام - التي استفيد منها ولاية الفقيه - وكذا (تكليف الفقهاء بأن يحفظوا الإسلام بعقائده وأحكامه وأنظمته...) بالفقيه المتولي للسلطة، حتى يخرج كافة الفقهاء الذين لم تقع السلطة بأيديهم عن الحصنية، وعن التكليف بحفظ الإسلام؟! مع وجود الجمع المحلى بأل، وإلاّ يلزم من ذلك تخصيص الأكثر وبلا مخصص؟.

ونفس الكلام يجري في سائر الروايات التي استند إليها، فليراجع خاصة المقبولة ص86، ورواية أبي خديجة ص89، ورواية تحف العقول ص102، الواردة في ظرف عدم تسلم الفقيه والقاضي للسلطة.

وكيف كان، فإن سقوط الفقيه عن الولاية وعن نفوذ التصرفات بمجرد تسلم فقيه آخر للسلطة، هو المحتاج للدليل، بل نقول: إن الدليل قائم على العدم، حيث إن إطلاقات أدلة الولاية - وهي الروايات والآيات - تشمل صورتي تسلم الفقيه للحكم وعدمه، وقدذكرنا الآن بعض الروايات، وذكرنا في فصل آخر ما يمكن أن يستدل به منها، فليراجع.

ومما يدل على ذلك: أننا لا نجد ولا في رواية واحدة تعليق الولاية على صورة وقوع السلطة الظاهرية بيد الفقيه، أو اشتراطها بعدم وقوعها بيد فقيه آخر، فليلاحظ.

ص: 67

د: مناقشة نظرية نفوذ حكم السابق من الفقهاء

لا يقال: النافذ حكمه هو السابق في إصدار الحكم، كما قالوا بذلك في باب القضاء.

إذ يقال: قياس ما نحن فيه بباب القضاء باطل، وذلك لسببين.

أما أولاً: فلأن حكم الحاكم الجامع للشرائط في باب القضاء إنما ينفذ (لوجود المقتضي وانتفاء المانع)، إنما الكلام في أنه هل للحاكم الآخر (رفع) ونقض ذلك الحكم الثابت أم لا؟ فيقال: بأنه لا يجوز - خاصة في صورة الشك المصداقي واحتمال صدور حكمه صحيحاً(1) - نقض حكمه، لإطلاق قوله (عليه السلام) في المقبولة: (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا قد رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله) (2)، حيث قالوا بشمول إطلاقه لصورة الشك، وقيام العلمي على الخلاف أيضاً، وللإجماع ولفطرية وعقلائية قبح نقض حكم القاضي، ولذا نجد اتفاق الملل عليه.(3)

أما في باب حكومة الدولة فليس الكلام في أنه هل للحاكم الآخر - وكذا هل لأكثرية الفقهاء - نقض ورفع حكم الحاكم الأول في (الشؤون العامة) أم لا،

ص: 68


1- إنما قلنا (خاصة في صورة...) لأنه في صورة تغاير الاجتهادين ومخالفة حكم الأول لما هو صواب عند الثاني بحسب الأدلة الظنية، التزم البعض - ومنهم الشيخ وابن حمزة وابنا سعيد والفاضل - بجواز النقض، وإن حمله في المستند: (ص528 المسألة الخامسة من البحث الثالث) على إرادة صورة التقصير في الاجتهاد، فتأمل.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص126 ب11 ح33416.
3- ليس كلامنا الآن في صحة هذه الأدلة التي أقيمت لعدم جواز نقض حكم القاضي، إذ لا تخلو من الإيراد، بل مرادنا بيان أنها على تقدير صحتها تختص بالقاضي، ولا تشمل حاكم الدولة في شؤونها.

بل الكلام في أنه هل يحق للفقيه الجامع للشرائط أن يحكم في (الشؤون العامة) دون استشارة سائر الفقهاء،ودون اعتقاد الأكثرية بما ارتئاه، وانعقاد رأي أكثريتهم عليه، وأن من له صلاحية (الحكم) في (الشؤون العامة) هو كل فقيه فقيه منفرداً، أم شورى الفقهاء؟

وبعبارة أخرى:

(الكلام في المقتضي لنفوذ حكم الفقيه الواحد، لا الرافع بعد تسليم المقتضي، فمدعي شورى الفقهاء يدعي عدمه، ومنكرها يدعي وجوده)(1)، فلا يصح على هذا التمسك بإطلاق (الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا الراد على الله) (2)، إذ الراد على الفقيه فيما هو من شأنه، وفيما نصبه الإمام (عليه السلام) حاكماً فيه رادّ على الإمام لا في غير ذلك.

ألا ترى أن المشهور إن لم نقل الإجماع، أفتوا بأن الفقيه لا ينفذ حكمه في الموضوعات الصرفة، (ككون هذا خمراً، وتلك شاة)، وللمقلد أن يعمل بظنه هو إن كان من أهل الخبرة، أو يعمل بقول خبير في ذلك وإن خالف تشخيص الفقيه؟ ولا يعد هذا رداً على الإمام (عليه السلام)، إذ لم ينصبه حاكماً في هذا الأمر، ليكون رده كرده (عليه السلام)، وألا ترى أنه مع علم الفقيه الآخر بعدم أهلية الحاكم الأول له أن ينقض حكمه، بل قد يجب، لعدم الموضوع لحرمة النقض حينئذٍ، إذ لا يوجد مقتضٍ لنفوذ حكم الأول؟

وفيما نحن فيه، لو سلّم نصب الإمام (عليه السلام) كل واحد واحد من الفقهاء منفرداً، حاكماً في الشؤون العامة المرتبطة بكافة المقلدين وبغيرهم أيضاً، لكان المقتضي لنفوذ حكم الأول موجوداً، فيقال: لا يجوز للثاني (أو للأكثرية)

ص: 69


1- قد بحثنا في موضع آخر مفصلاً الحديث عن عدم وجود المقتضي لنفوذ حكم الواحد، وأن المقتضي هو الهيئة الاجتماعية للأكثرية، وسيأتي أيضاً بإذن الله تعالى.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص126 ب11 ح33416.

نقض حكمه، لأنه يعتبر رداً عليه، والرد عليه رد على الإمام (عليه السلام)(1).

أما لو نوقش في ذلك وادعي أن المستفاد من الأحاديث - كما تطرقنا لذلك مفصلاً في فصل آخر - نصب الإمام (عليه السلام) للفقهاء الجامعين للشرائط كافة حُكّاماً، أي نصب كلٍّ منهم (بشرط شيء)، أي بشرط انضمام الآخرين، لا (بشرط لا)، ولا (لا بشرط)، فيما كان المتعلق ارتباطياً كالشؤون العامة، فلا يكون الرد عليه وحده رداً على الإمام (عليه السلام)، لأنه ليس منصوباً من قبله منفرداً في ذلك، فحكمه من هذه الجهة كحكم أي إنسان عادي، نعم يكون رد حكم شورى الفقهاء رداً على الإمام (عليه السلام) لكونهم منصوبين من قبله (عليه السلام).

وأما ثانياً: فلأن السبب في جعل حكم السابق هو النافذ في باب القضاء، وعدم جواز نقض اللاحق له، قد يكون هو أن عدم جعل ذلك، مع لحاظ عدم إمكان أو عدم عقلائية جعل الحاكم في القضاء هو أكثرية الفقهاء، لكون القضايا التي يرجع فيها للقضاء مما لا تعد ولا تحصى، مما يستلزم لو اشترطنا ذلك تعطيل أكثر المنازعات، مستلزماً للهرج والمرج واختلال النظام، أو بقاء الخصومات وتعطل الأحكام، أما في الشؤون العامة فيمكن لمحدوديتها الإرجاع للأكثرية، وبه يرتفع اختلال النظام، فلا يتوقف الرفع على جعل الأسبق هو النافذ فتأمل، وقد فصلنا الحديث عن هذا في موضع آخر.

وأما الإجماع، فليس محققاً في مسألة حاكم الدولة، وإن ادعي في مسألة القاضي.

وكذا لا اتفاق للملل على عدم نقض حاكم الدولة الجديد لأحكام الحاكم

ص: 70


1- قد ذكرنا في موضع آخر من الكتاب المناقشة في ذلك أيضاً، وأن رد الفقيه لآخر ليس رداً للإمام لأنه - أي الردّ - منه أيضاً، فليراجع.

القديم، بل الأمر بالعكس، إذ كثيراً ما ينقض اللاحق أحكام السابق، ولا ترى الملل ولا العقل في ذلك قبحاً، كما لا اتفاق للملل على قبح نقض العقلاء أو القادر منهم لحكم الحاكم إذا ظهر لهم خطؤه.

وكذلك لا اتفاق للملل - في مرحلة المقتضي - على أن نفوذ حكم الحاكم مشروط بالوحدة، ولو كان شيء فهو في ظرف الوحدة لا بقيد الوحدة، فتدبر جيداً.

بل نجد العديد من الحكومات الشوروية بشكل أو بآخر في التاريخ منها: بعض ممالك اليونان، ومنها: مملكة سبأ، قال تعالى فيكتابه الحكيم: (قالَتْ يا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(1)،(2)، فتأمل.

نعم من القبيح عقلاً أن يكون لدولة واحدة عدة حكام عرضيين لكل منهم أن ينقض حكم الآخر متى شاء، لأنه يستلزم الهرج والمرج واختلال النظام والضرر العام كما لا يخفى، والقبح كما يرتفع - من باب التخصص والخروج الموضوعي - فيما لو كان الحاكم واحداً، سواء كان في طوله حاكم آخر أم لا، كذلك يرتفع لو كان الحاكم مجموعة (وهم الأكثرية)، إلا أنه عند الدوران بينهما يكون الثاني هو المقدم كما يوضحه هذا البرهان - برهان الدوران والترديد - ببنوده، وكذا سائر البراهين التي ذكرناها في هذا الكتاب.

هذا كله إضافة إلى أن هذا الحل (كون النافذ حكمه هو السابق في إصدار الحكم) لا ينفع لدفع الإشكال على إطلاقه، إذ ما هو الحل:

1: فيما لو تقارنت الأحكام فمن المقدم؟

2: وكذا لو تتابعت ثبوتاً، ولكن لم يعلم السابق إثباتاً.

ص: 71


1- سورة النمل: 32.
2- قد نتحدث عن الحكومات الشوروية في التاريخ في كتاب آخر إن شاء الله تعالى.

اللهم إلا أن يقال:

أ: بندرة هاتين الصورتين.

ب: أو يقال: بالتساقط عند التقارن، وعند الجهل بالمتقدم، كما في تزويج وكيلي امرأة إياها لرجلين في آن واحد أو جهل المتقدم، وكما في حكم قاضيين في آن واحد، والرجوع إلى القرعة مثلاً.

ج: أو يقال: بتخيير الأمة عندئذٍ.

د: أو يقال: بالرجوع إلى الأكثرية في هذه الصورة فقط أو غير ذلك، فتأمل.

ص: 72

ه: مناقشة فكرة نفوذ حكم من اختارته الأكثرية حاكماً

لا يقال: النافذ حكمه من (الفقهاء) هو الذي اختارته أكثرية الأمة حاكماً؟

إذ يقال:

أولاً: لا منافاة بين اختيار أكثرية الأمة لمرجع تقليد كحاكم، وبين كون إتخاذ القرار النهائي منوطاً بأكثرية معينة، ألا ترى في كل دول العالم الديمقراطي أن الأكثرية تنتخب حاكماً (رئيس جمهورية أو رئيس وزراء) ومع ذلك يكون القرار النهائي في الشؤون الخطيرة لأكثرية البرلمان أو مجلس الشعب أو ما أشبه؟!

فالدليل أخص من المدعى إذن، أي أن انتخاب أكثرية الأمة لمرجع تقليد كحاكم، لا يستلزم بالضرورة إعطاءه صلاحيات الحاكم الدكتاتوري، بل قد تكون صلاحياته هي صلاحيات الحاكم الديموقراطي، فانتخابه حاكماً لا يعني نفوذ حكمه في الشؤون العامة منفرداً ودون استشارة، وحتى مع معارضة الأكثرية له.

ثانياً: إن رأي (أكثرية الشعب) إنما يكون صحيحاً نافذاً لو كان في الإطار السليم وفي حدود الشريعة، إذ من الواضح أن الأكثرية لو ارتأت جواز السرقة وإباحة الزنا، وحرمة الصوم في رمضان للعامل مثلاً باعتبار أنه يضر باقتصاد البلد! لم يجز اتباعها، بل وجب إرشادها، وكذلك لو انتخبت الأكثرية (قاضياً) فاقداً للشروط المنصوصة من الشارع (كالاجتهاد والعدالة وطهارة المولد...) لم يصح ذلك، وكذلك لو انتخبت الأكثرية (حاكماً) فاقداً لما اشترطه الشارع فيه، (كالعدالة وطهارة المولد والذكورة والحرية وغيرها) فإنه غير صحيح.

وإذا تضح ذلك يتضح أن رأي الأكثرية ليس مشرّعاً، وليس في عرض

ص: 73

الشارع، بل في طوله، فعلينا أن نرجع للشارع أولاً لنجد أنه هل اشترط في الفقيه الحاكم اعتبار انضمام رأي أكثرية الفقهاء المراجع في الشؤون العامة، وكون قراراته نافذة إن صوبتها أكثريةالمراجع، وأنه لا حق له في الانفراد والاستبداد باتخاذ القرار، أم لم يشترط ذلك؟

فإذا كان الشرع قد اشترط ذلك وحدد صلاحية الحاكم بهذا الحد، فليس للأكثرية مخالفة الشرط، ونصب فقيه حاكماً بحيث يكون له أن يعمل ما يشاء سواء أوافقته أكثرية المراجع أم لا، ولو فعلت ذلك كان باطلاً، لمخالفته للشرع، كما لو انتخبت فاسقاً أو طفلاً حاكماً.

وعلى هذا، فلا يمكن التمسك ب(انتخاب الأكثرية للفقيه حاكماً) على صحة حاكميته في الشؤون العامة بمفرده، ونفوذ حكمه لا بشرط الاجتماع مع سائر الفقهاء، كما أنه لا يمكن العكس أيضاً، إلا لو لم يدل دليل على ولاية الفقهاء، فيكون أمر الناس بيدهم، إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم)، فلهم التفويض للأكثرية من الفقهاء، وأما التفويض لأحدهم فمنوط بمبحث حكومة أدلة الشورى على ولاية الناس على أنفسهم وسلطتهم عليها، مما يفصل في موضع آخر.

ثالثاً: ما سبق قبل صفحات من أن (ولاية الفقيه) حسب المستفاد من الروايات الدالة عليها ومن كلمات الفقهاء، غير مقيدة بما لو انتخبته أكثرية الأمة حاكماً، فلا يمكن القول بأن (النافذ حكمه من الفقهاء من اختارته أكثرية الأمة حاكماً)، بأن تقيد ولايته بالاختيار، فتأمل.

وأما تقييد ولايته في الشؤون العامة (التي تشمل مقلديه وغيرهم) بولاية سائر الفقهاء المراجع، واشتراط نفوذها بموافقة الأكثرية، فقد بيّنا وجهه واستفادته من الأخبار وغيرها في فصل آخر.

ص: 74

4: مناقشة فكرة نفوذ أمر أحدهم المخير
وأما الرابع:

(وهو نفوذ حكم أحدهم المخير) كتخيير المكلف بين خصال الكفارة، فغير تام أيضاً، لاستلزامه الهرج والمرج واختلال النظام والضرر النوعي، إذ لو اختار بعض الشعب رأي الفقيه الأول (من الحرب مع الدولة الفلانية) مثلاً، وبعضهم الآخر رأي الفقيه الثاني (من الحرب مع دولة أخرى) وهكذا، لزم الأخير بل وما قبله في الجملة، أو اختار بعضهم رأيه بالحرب وبعضهم رأي الآخر بالسلم أو الصلح، لزم الكل.

فلا مناص إلاّ من حكومة أكثرية الفقهاء

وإذا لم تصح تلك الصور السابقة بأجمعها، فلا مناص من الالتزام بالشق الخامس (نفوذ حكم الأكثرية).

لا يقال: نفوذ حكم الأكثرية ليس أولى من نفوذ حكم الأقلية؟

فإنه يقال: إن في تقديم رأي الأقلية من الفقهاء والخبراء على الأكثرية منهم، والأقلية من الناس على الأكثرية منهم، ترجيحاً للمرجوح بلا شك، لحكم الوجدان والعقل بذلك، فيما لو دار الأمر بينهما، لوضوح أن تضييع حق الأكثر رعاية لحق الأقل قبيح عقلاً وعرفاً، ولبداهة أن (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) فلو دار الأمر بين رفع اليد عن سلطة الأكثر أو سلطة الأقل، رجح الثاني دون شك، هذا بلحاظ المتعلق وفي مرحلة تزاحم المصالح والمفاسد فيها، وأما من حيث الطريق والكاشف عن الأصلح للناس،

ص: 75

فإن رأي الأكثرية من الخبراء والفقهاء أقرب للإصابة من رأي الأقلية.

هذا لو تكافأت الفئتان كيفاً، وأما إذا تخالفتا وكان الكيف مع الأقلية، بأن كان الأعلم فيهم مثلاً، فقد أجبنا في موضع آخر عن ذلك بوجوه، ومنها: أن الأكثرية من الخبراء لإحاطتها بالجوانب أقربللأصابة نوعاً من الأقلية، وقد أسهبنا الكلام عن ذلك في مواضع عديدة، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1)، والروايات الواردة حول الاستشارة، وحول إطاعة العقلاء، وقد تحدثنا عن الآية الشريفة وعن هذه الروايات بما ينفع المقام جداً، في فصل الروايات الشريفة، فليراجع.

ص: 76


1- سورة الشورى : 38.

الفصل الثالث

اشارة

الاستدلال بالتركب من آحاد مفروضة الحجية

وبصدق العناوين على القليل والكثير

ص: 77

ص: 78

الاستدلال بالتركب من آحاد كلها حجج

ويمكن أن يستدل على حجية رأي أكثرية شورى الفقهاء، بمعنى المنجزية والمعذرية، بل بمعنى الكاشفية، ويلزمه لزوماً بيّناً بالمعنى الأعم نفوذ رأيهم ولزوم الاتباع أيضاً، ب:

أن رأي الأكثرية حجة حتماً، لتركبها من آحادٍ رأي كل واحد منهم حجة قطعاً، لفرض كون أعضائها الفقهاء جامعي الشرائط، وليس انضمام رأي فقيه آخر إلى رأي الفقيه المقلَّد موهناً لحجيته أو مانعاً عن حجيته كما لا يخفى، لوضوح عدم أخذ عدم المطابقة لقول فقيه آخر شرطاً في حجية رأيه، وإذا كانت مطابقة فتوى الفقيه للقياس لا عن استناد إليه غير مسقطة لحجية رأيه فكيف بمطابقته لرأي فقيه آخر.

وإذا كان رأي الأكثرية حجة، بمعنى الكاشفية، وجب اتباعها تخييراً أو تعييناً، والأول إن اعتبرنا مزية التعدد والتعاضد والأكثرية مرجحة، والثاني إن اعتبرناها معيّنة.

لا يقال: إن هذا لا ينتج حجية رأي الأكثرية بما هي أكثرية، إذ الهيئة الاجتماعية أجنبية عن جهة الحجية، بل غاية الإنتاج كون رأي كل فقيه حجة، والهيئة الاجتماعية غير ضارة، وعلى ذلك فلا تكون مزية للأكثرية على الأقلية، بل على الواحد أصلاً.

إذ يقال: إنه على تفسير الحجية بالكاشفية فإنه لا ريب في أن الكاشفية النوعية لرأي اجتمع عليه أكثر الفقهاء، أقوى من كاشفية رأي أحدهم عن

ص: 79

الواقع، وعليها(1) يتفرع لزوم الاتباع.

الاستدلال بالصدق على القليل والكثير

ويمكن الاستدلال على الحجية بوجه آخر، هو ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره)، قال في بحث التقليد: (فإن اتفقوا فالظاهر أنه لا دليل على تعيين واحد منهم، فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم، وأدلة حجية الفتوى - كأدلة حجية الخبر - إنما تدل على حجية الفتوى بنحو صرف الوجود، الصادق على القليل والكثير، فكما أنه لو تعدد الخبر الدال على حكم معين، يكون الجميع حجة على ذلك الحكم، كما يكون البعض كذلك، ولا تختص الحجية بواحد منها معين أو مردد، كذلك لو تعددت الفتوى، ويشير إلى ذلك آيتي النفر والسؤال، بناءً على ظهورهما في التقليد، ورواية ابن مهزيار الواردة في حكم الإتمام بمكة... ومنه يظهر ضعف أخذ التعيين للمجتهد في مفهوم التقليد)(2).

وقوله: (بنحو صرف الوجود) أو بعبارة أخرى: تدل على حجية الفتوى ككلي طبيعي، الصادق على كل وأكثر وبعض الأفراد كصدقه على أحدها.

وهذا ينتج حجية الأكثرية فيما نحن فيه ككل، ما دل الدليل فيه على حجية أمر وشبهه، وإن لم ينتج الامتياز، اللهم إلا مع الضميمة.

بل قال السيد الوالد: (ولو كان يجلس في مجلس الحكم حكام على نحو الشورى، فينظرون في الأحكام ويقضون بأكثرية الآراء، فالظاهر أنه لا بأس به، لأنه أتقن من حكم القاضي الواحد، ويشمله إطلاقات الأدلة، ولا إشكال في

ص: 80


1- الكاشفية.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج1 ص12-13.

ذلك إذا كان القضاة متساوين، أو كان الأعلم في جانب الأكثرية، أما إذا كان الأعلم في جانب الأقلية فالظاهر عدم الإشكال فيه، إذ المفروض أن الأكثرية حكموا والأقلية لم تحكم، وإنما قالت في بحث تداول الآراء رأيها، وفرق بين إبداء الرأي وبين الحكم، ولم يستشكل - من يشترط الأعلمية في القاضي - في حكم غير الأعلم مع وجود الأعلم فيما إذا لم يحكم)(1).

أقول: لكن تبقى صورة ما لو حكمت الأقلية بخلاف حكمالأكثرية لاحقاً، بل يبقى الكلام حول أنه هل لها أن تحكم، أي هل يصح أو يجوز، بخلاف رأي الأكثرية؟ ويبقى أنه ماذا لو سبقت الأقلية الأكثرية في إصدار الحكم؟ وقد جرى الكلام عن ذلك في مطاوي الكتاب فراجع، كما سنشير لبعض جوانبه بعد قليل.

هذا لو وافق رأي المقلَّد رأي أكثرية الشورى، أو سكت ولم يخالف.

أما لو تخالف رأي المقلَّد ورأي الأكثرية، فهل يجوز لمقلِّد هذا الفقيه الرجوع إلى رأي الأكثرية؟

ص: 81


1- الفقه، كتاب القضاء: ج1 ص54.
الموانع المتوهمة عن الرجوع إلى رأي الأكثرية

ما ربما يتوهم مانعاً هو أحد أمور:

1: عدم جواز التبعيض في القليد.

2: عدم جواز العدول، سواء قلنا بوجوب تقليد الأعلم أم لم نقل، فلا يجوز العدول من المقلد إلى غيره.

3: وجوب تقليد الأعلم(1).

أما الثالث فقد بحثناه في موضع آخر فليراجع.

الأجوبة :

وأما الأولان، ففيهما: إن الأدلة التي أقيمت على عدم جواز التبعيض أو العدول غير تامة، بل الدليل قائم على العكس، وبعض الكلام عن ذلك(2):

إن ما ذكر دليلاً للمنع هو: أصالة عدم حجية رأي الفقيه الثاني بعد الالتزام بتقليد الفقيه الأول، وأن ذلك هو مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والاستصحاب، والإجماع.

ص: 82


1- قد تحدثنا عن بعض هذه البنود وعن بنود أخرى لم نذكرها هنا في موضع آخر من الكتاب بالتفصيل فليراجع، وليضم ما ههنا إلى ما هنالك.
2- كما فصّل المؤلف الكلام عن التبعيض في كتاب مباحث الاجتهاد والتقليد (التبعيض في التقليد)، وفصل الكلام عن عدم تعين تقليد الأعلم في كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول).
الوجوب التخييري للتقليد فطري أو عقلي وهو أعم

ويرد عليها جميعاً: إن الوجوب التخييري للتقليد - بينه وبين الاجتهاد والاحتياط - فطري أو عقلي أو شرعي، وعلى الأولين:

فالأمر واضح جلي، إذ العقل حاكم بوجوب الرجوع إلى العالم وإلى أهل الخبرة - أو مُدرك لذلك بناءً على أنه ليس إلاّ مدركاً فحسب - ولا يختلف في نظره الرجوع إلى هذا الخبير في كل المسائل، أو في بعضها والرجوع في البعض الآخر إلى آخر، أو الاستمرار في الرجوع إلى هذا الخبير أو الانتقال إلى غيره، بل هو مستقل بكفاية كل واحد من تلك الصور.

ومما يكشف عن ذلك: سيرة العقلاء وبناؤهم، ألا ترى سيرتهم قد جرت على الرجوع إلى هذا الطبيب فترة، ثم العدول لطبيب آخر، لا لأعلميته بل لمجرد أقربية مكانه إلى داره، أو لحسن أخلاقه أو لصداقته أو لمضبوطية مواعيده أو لأي سبب آخر لا مساس له بجهة الطريقية، ومما لا يدخله في دائرة باب التزاحم، أو إن أدخله فمما لا يرى العقلاء كونه مزاحماً أقوى ولا مساوياً لمصلحة الواقع المفوَّتة فرضاً بإتباع غير الأعلم.

وألا تراهم يرجعون إلى هذا الطبيب العام في مرض، ثم إلى طبيب عام آخر في مرض آخر أو في ذات المرض، بل وإن تخالفت الآراء، ولا يرون للأسبقية ميزة، إلاّ لو أوجبت تفاوتاً في جهة الطريقية.

بل إن طرح هذا التفصيل على العقلاء مثار للاستغراب إن لم يكن باعثاً على السخرية، ألا تراهم يسخرون ممن يقول: لا تراجع طبيباً جديداً لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، لأن رأي الأول حجة قطعاً أما الثاني فحجيته

ص: 83

التخييرية غير ثابتة فلا يجوز الرجوع؟!، أو من يقول: إن الأصل عدم حجية رأي الجديد، أو إن الاستصحاب يقتضي كذا...؟!

وكذلك جرى ديدنهم وبناؤهم في كافة الشؤون من الهندسة والفيزياء والكيمياء والسفر والحضر؛ ألا تراهم يسألون هذا المعلم في مسألة فيزيائية، ويقبلون منه حكمها وإن لم يفهموا برهانها، ثم يسألون آخر في مسألة أخرى، أو ينتقلون كلياً إلى آخر؟! وألا ترىالتعليل بما ذكر غريباً عليهم، نعم قد لايفعلون لعلة أخرى.

ومع وجود حكم العقل وبناء العقلاء لا مجال للاستصحاب، لوروده عليه، إذ لا شك لاحق، ولا لتلك الأصالة أو القاعدة، للورود بل للتخصص، فتأمل.

هذا مضافاً إلى ما سيأتي مختصراً من الإشكال على كل واحد من هذه الوجوه.

ص: 84

إذا كان الأمر بالتقليد شرعياً:

وأما إن كان الوجوب والأمر الدال عليه شرعياً، فلا يخلو إما أن نقول بكونه إرشادياً أو مولوياً:

فأما بناءً على الإرشادية، فالأمر كما ذكر، لعوده إلى الإرشاد لحكم العقل أو الفطرة، وحكمها كما مضى.

وأما بناءً على كون الوجوب شرعياً والأمر مولوياً فكذلك أيضاً، إذ يرد إضافة إلى ما سبق أنه ليس في ما استدل به لجواز التقليد ما يدل على عدم جواز العدول أو التبعيض، بل هي دالة على الجواز لإطلاقها أو لعمومها، ألا ترى أن آية النبأ والنفر والذكر مطلقة، والمتفاهم العرفي منها حجية كلام المنذر وأهل الذكر والعادل، سواء رجع إليه في مسائله الآخر، أم رجع إلى آخر فيها، وسواء كان هو مرجعه سابقاً أو غيره.

وهل يحق للعبد الاعتذار عن عدم سماع إنذار المنذر أو خبر العادل أو أهل الذكر بأن منذره ومخبره كان في السابق شخصاً آخر، وأن في سماع كلام هذا عدولاً أو تبعيضاً، وألا ترى بالوجدان استحقاقه للعقاب والذم لو خالف؟!(1)

ص: 85


1- فيما لو أمكنه الرجوع إلى مرجعه وتسامح أو تكاسل ولم يرجع إليه، فحينئذٍ لو تحقق ما أنذره به الخبير الآخر استحق الملامة والعقوبة ولو لم يتحقق كان متجرياً، وإنما قيدنا بذينك القيدين لأنه لو لم يمكنه الرجوع لمرجعه فلا كلام في جواز بل وجوب الرجوع لغيره واستحقاقه العقاب والملامة على المخالفة كما لو تعذر الرجوع للأعلم، ولو أمكنه الرجوع ولم يتسامح ويتكاسل بل رجع إليه وكان رأيه عدم الحرمة وعدم وجود خطر، فلا إشكال حينئذٍ لو اقتحم دنيوي أو أخروي، في عدم استحقاقه للعقاب والملامة لاتباعه رأي الخبير - وهو مرجعه - ولو كان رأيه موافقاً لرأي الآخر وخالفه استحق العقوبة لمخالفته لا لمخالفة ذلك بمعنى كفاية ذاك في استحقاقها لا بمعنى ال- (بشرط لائية).

وألا تراهم - بعد سماعهم الآيات - يتحيرون إن تخالف المنذران والمخبران وإن كان أحدهما هو المرجع لهذه الطائفة عادةً والآخر لتلك، إلاّ لو كان اطمينان بقول من يرجع إليه عادة، وهو خروج عن محل البحث، ولذا لو وجد الاطمينان بكلام الآخر دونه رجعواللآخر، فالكلام في صورة التساوي وعدم وجود مرجح آخر.

ثم هل ترى أن المنذرين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمن نزول الآيات كانوا إذا سألوا منذراً مسألة وعملوا على طبقها ألزموا أنفسهم بالرجوع إليه في كل المسائل، أو اعترض عليهم معترض بعدم الجواز؟! ويتضح ذلك أكثر بملاحظة أوامر الموالي العرفية، فلو قال المولى لعبيده: ارجعوا في معرفة أحكامي إلى وكلائي، فهل تراهم يفهمون إلا ما ذكرنا؟ وهل ترى مقبِّحاً لعبد سأل هذا الوكيل مسألة ثم سأل الآخر أخرى، أو سأل هذا مسائل ثم عدل في أسئلته إلى آخر..؟!

وهل ترى في كل الروايات ردعاً عن سؤال زرارة مثلاً لمن كان يسأل أبان أو حمران أولاً، أو عن التبعيض في سؤال من وجد من الرواة، علماً بأن الرواة لم يكونوا صرف ناقلين للروايات بل كانوا مستنبطين، وروايات باب التعادل والتراجيح وغيرها بذلك شاهدة، فعدم الردع مع كون المسألة عامة الابتلاء، بل وكون العرف غير مفرِّق، دليل قوي على الجواز.

ص: 86

إطلاق الروايات ينفي دعوى منع التبعيض أو العدول

ويجري جميع ما ذكرناه في الروايات التي استدل بها لجواز التقليد، كالتوقيع المروي عن الحجة (عليه أفضل الصلاة والسلام): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ)(1)، فإنه لا تُعَدّ استفادة ال- (بشرط لائية) نسبة للراوي الآخر الذي يراد الرجوع إليه بعد الرجوع فترة إلى راوٍ سابق، بل احتمالها، مخالفاً للفهم العرفي وللمنساق منها ولعمومها.

وألا يكون من رجع إلى راوٍ في حادثة وإلى آخر في أخرى من نوع واحد أو من ماهيتين مختلفتين ممتثلاً لهذا الحديث؟ وألا يكون راجعاً إلى رواة أحاديثهم (عليهم السلام)؟، لا شك في عدم صحة السلب هذا.

إضافة إلى أن العلة معممة ومخصصة، فإذا علل (عليه السلام) وجوب الرجوع لرواة الحديث بأنهم حججه علينا، فما المخصص لحجية كلامهم علينا بما لو لم يسبق رجوع إلى فقيه آخر في هذه المسألة أو غيرها؟ إلاّ رفع اليد عن العموم والإطلاق بلا وجه أصلاً؟.

ولا مجال للنقاش في الإطلاق باعتبار عدم ثبوت كونه في مقام البيان من هذه الجهة، وإلاّ لزم عدم تمامية أكثر الإطلاقات، ك(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا)(2)، و(أَقِمِ الصَّلاةَ)(3)، و(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْر)(4)، وغيرها، لدعوى

ص: 87


1- وسائل الشيعة: ج27 ص140ب11 ح33424.
2- سورة البقرة: 275.
3- سورة الإسراء: 78.
4- سورة النحل: 43.

كونه تعالى في مقام أصل التشريع أو لعدم إحراز كونه تعالى في مقام البيان من هذه الجهة أو تلك، (كاشتراط اللفظ والعربية وتقديم الإيجاب مثلاً، وكجزئية شيء أو شرطيته، وكون المسؤول حراً أو عبداً، طاهر المولد أو غيره، كبيراًأو صغيراً)، وقد بحثنا عن ذلك في موضع آخر، فلا داعي للتكرار.

الاستناد للإطلاق المقامي واللفظي

ونزيد هنا: إن المشهور ذهبوا إلى البراءة في الشك في الجزئية والشرطية في الأقل والأكثر الارتباطيين، قال في الكفاية: (ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح)(1)، ومنشأ الذهاب إليها إما التمسك بالإطلاق المقامي أو إرجاع الشك إلى الشك في التكليف وانحلال العلم الإجمالي، وكلا الشقين نافع في المقام، أما الأول فواضح، أما الثاني فلالتزامهم بالبراءة مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير، إذ يدور الأمر بين تعيين الأكثر أو التخيير بينه وبين الأقل، فالنسبة بين المسألتين العموم المطلق، لأعمية مسألة الدوران بين التعيين والتخيير من مسألة الدوران بين الأقل والأكثر، لشمول الأولى الدوران بين المتباينين.

الجواب عن إشكال أن المقام من الدوران بين المتباينين

ولا يستشكل بأن في صورة الدوران بين الأقل والأكثر، يكون الأكثر موضوعاً لقاعدة البراءة العقلية أو الشرعية، فلا دوران حينئذٍ، عكس المقام مما دار فيه الأمر بين المتباينين (تقليد الأول أو العدول للثاني)، وذلك لأن في المقام

ص: 88


1- كفاية الأصول: ج1 ص43 بحث الصحيح والأعم.

أيضاً يجري الإطلاق المقامي، بل ويزيد عليه بجريان الإطلاق اللفظي فلا تصل النوبة للدوران بين التعيين والتخيير، لشمول دليل الحجية للطرفين، فهو مخير حتماً، فلا موضوع للقاعدة، وأما إن لم يتم أحد الإطلاقين فقول الفقيه الثاني ليس بحجة لمن قلد أولاً غيره، والشك في الحجية موضوع عدم الحجية، فلا معنى ل(الدوران بين التعيين والتخيير) في المقام، وإلاّ لصح دعوى الدوران بين تعيين الرجوع إلى خبر الثقة أو التخييربينه وبين الرجوع إلى قول الرمال وأشباهه والأصل التعيين، فتأمل.

إضافة إلى وجود استصحاب عدم التعيين لكونه حادثاً، وهو حاكم على مقتضى الأصل عند الدوران بين التعيين والتخيير أو وارد، وذلك بعد فرض الشمول لهما ابتداءً، أو نقول باستصحاب الحجية الابتدائية لكليهما وهما مقدمان عليه(1)، لكونه مسبّباً وإن كان أصلاً عقلياً، فتدبر.

ومن هنا يظهر جواب آخر عن خصوص قاعدة الدوران، وهو النقض بمسألة: (جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد والتقليد)(2)، إذ كيف يلتزم بعدم جواز العدول عن الحي إلى الحي لقاعدة الدوران ويلتزم بجواز الاحتياط مع وجود هذه القاعدة مع أنه نوع عدول أو تبعيض؟

قال في المستمسك ذيل المسألة الحادية عشرة، تعليلاً لكلام الماتن من عدم جواز العدول من الحي إلى الحي: (ويقتضيه الأصل العقلي المتقدم، للشك في حجية فتوى من يريد العدول إليه، والعلم بحجية فتوى من يريد العدول عنه، وفي مثله يبنى على عدم حجية مشكوك الحجية).

ص: 89


1- على الأصل عند الدوران.
2- العروة الوثقى: كتاب الاجتهاد والتقليد: المسألة الرابعة.

ثم قال: (فلا مرجع إلاّ الأصل العقلي وهو أصالة التعيين عند التردد في الحجية بين التعيين والتخيير).(1)

والتزم في المسألة الرابعة بكلام الماتن أيضاً: (الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد أو التقليد).

وربما سيأتي لهذا البحث تتمة في موضع آخر بإذنه تعالى.

وأما الإجماع: فليس بتام صغرى، ولو تحقق فهو محتمل الاستناد بل معلومه.

ص: 90


1- مستمسك العروة الوثقى: ج1 ص25.
الملحق (1)

بحث عن صحة القضاء بالعلم

رغم النصوص الحاصرة بالأيمان والبينات

مما يستظهر منه طريقية الأمارات

وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره في (الفقه) بقوله: (وفي الكل ما لا يخفى، إذ الروايات الأربع تدل على عدم ذلك في الخارج لا على عدم الجواز، فإن روايتي قصة داود (عليه السلام) تدلان على أن القائم (عليه السلام) يفعل ذلك خارجاً، لا أنه يجوز له ولا يجوز لغيره).(1)

إذ يرد عليه: كفاية عدم وقوع ذلك في الخارج منهم (عليهم السلام)، لأن ما لم يقع في الخارج منهم (عليهم السلام) فليس من مصاديق (السنة)، فلا دليل على حجيته، بل الدليل على العدم، لحصر الحجة في رواية إسماعيل بن أويس: في شهادة عادلة أو يمين قاطعة أو سُنة جارية مع أئمة هدى، ومن الواضح أن عدم الدليل على حجية شيء ملاك عدم الحجية، فإذا لم يكن الأئمة (عليهم السلام) عاملون بالعلم في باب القضاء - حيث سلّم دلالتهما على عدم ذلك في الخارج - فمدعي الحجية لابد له من دليل، فكيف لو قام دليل على العدم، فالاستدلال

ص: 91


1- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد.

بالروايتين على عدم الجواز إنما هو بضميمة رواية إسماعيل، فتدلان على عدم الجواز، فلا يصح القول: (الروايات الأربع تدل على عدم ذلك في الخارج لا على عدم الجواز).

ومن كل ما ذكرناه تظهر الخدشة فيما ذكره في (المستند)بقوله: (ويمكن أن يستدل أيضاً برواية أبي حمزة: (أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ يَمِينٍ قَاطِعَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى) (1)، فإن سنتهم كانت قضاءهم بما يعلمون كما دلت عليه الأخبار(2)، لما أوضحناه من عدم صدق (سنة) جارية أو ماضية، بل عدم صدق (سنة) على عملهم بعلمهم (عليهم السلام) لندرة موارده، ولذلك كله نجد (الجواهر) و(الفقه) وغيرهما ذكروا هذه الرواية في عداد الأدلة الدالة على عدم جواز الحكم بالعلم، بل إن ادعى أن (سنتهم) كانت على عدم العمل بالعلم لندرة عملهم به لم يكن ذلك بعيداً، بل كان متحتماً، لإطلاق (السنة) عرفاً على نقيض ما كان الغالب هو نقيضه، أي على ما الغالب الجري عليه.

ورغم ذلك كله من الروايات الدالة على تعيين طرق خاصة للحكم بين الناس وعدم جواز اتباع غيرها، نجد المشهور يفتون بجواز - أو وجوب - قضاء القاضي بعلمه، وليس ذلك إلاّ لأن بناءهم على اعتبار الحجج من باب الطريقية المحضرة، وكون المركوز في أذهانهم إلغاء الخصوصية وإن أخذت في الدليل مما ظاهره التعبدية، وحمل ذكرها على التمثيل أو بيان الغالب أو بيان المورد أو كون الحصر إضافياً، أو عدم عملهم بعلمهم لضرورات معينة، وشبه ذلك، وإلاّ فلو كان بناؤهم على كون (البينة) و(اليمين) حجة لصرف التعبدية أو لهما وللطريقية لما أمكن قولهم بحجية (العلم) في الحكم مع حصر الأدلة الحجة في باب القضاء

ص: 92


1- الكافي: ج7 ص432 باب النوادر ح20.
2- المستند: كتاب القضاء والشهادات ص530 (العاشرة).

بهما.

لا يقال: لقد استدل المشهور بأدلة عديدة دالة على جواز - أو وجوب - العمل بالعلم، وهي الآيات والروايات الخاصة، لا أن الرواية حصرت الحجية في البينة واليمين وعممها الفقهاء للعلم بملاك تمحض البينة واليمين في الطريقية.

إذ يقال: إن أدلتهم لا تدل على كون (العلم) حجة في باب القضاء، وجواز أو وجوب العمل به، بل استدلوا بما يتوقف تمامية الاستدلال به على الالتزام بكون (البينة) واليمين حجة من بابالأمارية المحضة، ولنذكر بعضها:

قال في المستند: (ويدل عليه - أي على مدعى المشهور - أيضاً قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1) .. (الفاسِقُونَ)(2).. (الظالِمُونَ)(3)، فإن العالم بالحق إن سكت فيكون ممن لم يحكم بما أنزل الله، وإن حكم بغير ما يعلم فكذلك بزيادة الحكم بغير ما أنزل الله)(4).

ونقول: إن موضوع (الكافرون) هو (من لم يحكم بما أنزل الله)، وصدق هذا العنوان على شخص موقوف على كون مدخول عدم حكمه هو (ما أنزل الله)، إذ عدم الحكم بما أنزل الله هو المستلزم للكفر، لا عدم الحكم بغيره، و(ما أنزل الله) في باب القضاء هو - حد السارق وجلد الزاني وإعطاء الدين للدائن و.. - فالحد والجلد وغيرهما، وهو (ما أنزل الله) متعلق بالسارق والزاني والمدين و...إلخ، لكن ما هو الحجة على أن هذا سارق أو زان؟ الروايات السابقة تحصر

ص: 93


1- سورة المائدة: 44.
2- سورة المائدة: 45.
3- سورة المائدة: 47.
4- المستند: ص530.

الحجة في تشخيص الموضوع بالبينة واليمين، فلو قامت البينة على أنه سارق ثبت الموضوع للحد فوجب الحكم ومن لم يحكم فهو كافر، فما الدليل على أن (العلم) هو الآخر حجة شرعاً لتشخيص الموضوع في باب القضاء؟ وهل يتم ذلك إلاّ بإذعانهم أن (البينة واليمين) رغم حصر الروايات بهما، مأخوذان من باب الطريقية المحضة(1)، فيكون العلم لكونه أقوى طريقية حجة، ولو كانا مأخوذين تعبداً، لإثبات الموضوع (السارق والزاني و...الخ)، فكيف تكون هذه الآيات دليلاً لكون العلم أيضاً طريقاًلإثباته مع أن الحكم (وهو هنا: ومن لم يحكم.. فأولئك هم الكافرون) لا يتكفل بيان الموضوع (أي من هو السارق مثلاً)، ولا بيان طريق إثبات الموضوع (ما المثبت لكون هذا سارقاً)، أترى الشارع لو قال: (الخمر حرام) يكون ذلك متكفلاً لإثبات أي شيء هي الخمرة، هذا في مرحلة الثبوت، ولإثبات أن مُثبِت كون هذه خمرة هو كذا وكذا، وهذه مرحلة الإثبات؟ ولولا بداهة وارتكازية الطريقية في نظرهم لما استدلوا بهذه الأدلة بأجمعهم.

فمبنى استدلال المشهور بهذه الآيات على أن الحجج مأخوذة بعنوان الطريقية، فإذا علمنا أن هذا سارق ولم نحكم عليه بالحد انطبق (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(2)، ولو كان الدليل تعبدياً توقيفياً لما كان عدم حكمنا على من علمنا سرقته ولم يقم ذلك الدليل التعبدي عليه عدم حكم بما أنزل الله، لكون ما أنزل الله على هذا المبنى هو حد السارق الثابت سرقته بطريق خاص.

ص: 94


1- كما صرح بذلك في الجواهر أيضاً حيث قال: (مضافاً إلى ظهور كون العلم أقوى من البينة شرعاً المعلوم إرادة الكشف منها)، وقال: (فإن السارق والزاني تلبس بهذا الوصف لا من أقرّ به أو قامت عليه به البينة)، جواهر الكلام: ج40 ص88.
2- سورة المائدة: 44.

وما ذكرناه يجري بعينه في سائر الأدلة التي ذكرها المشهور، وقد استوفاها (المستند) فقال: (لأدلة وجوب الأمر بالمعروف)(1).

فهل الحكم (الوجوب) يتكفل بيان الطريق المثبت لمتعلق الموضوع (الموضوع هو الأمر بالمعروف، ومتعلقه المعروف)، فكيف تكون أدلة وجوب الأمر بالمعروف دالة على كون العلم حجة لتشخيص الموضوع، إلاّ لو كان المبنى على حجية البينة واليمين بملاك الأمارية المحضة، فيثبت متعلق الموضوع بالعلم فيحمل الوجوب عليه.

وقال: (ولعموم أدلة الحكم مع وجود الوصف المعلق عليه كقوله تعالى: (والسارق والسارقة)، و(الزاني والزانية)... وأدلة إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف ودفع الظلم عن المظلوم... وكونوا قوامين بالقسط...)(2).

ففي كل هذه عندنا موضوع هو (الضعيف، الملهوف، المظلوم،القسط) ومحمول وهو (وجوب الإعانة، والإغاثة، والدفع، والقيام)، ولا يتم الاستدلال بثبوت هذه المحمولات لموضوعاتها على حجية العلم في إثبات الموضوع إلاّ لكون البناء على أن الأثر (وهو المحمول) أثر صرف الموضوع، وكون البينة أمارة محضة، فلو ثبت الموضوع بالعلم ترتب عليه المحمول، وإلا لزم التناقض كما فصل في بحث القطع الطريقي والموضوعي، ويجري ما ذكرناه بأجمعه فيما ذكره في الجواهر والفقه من الأدلة فراجع.

ولعل إلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) بقوله: (لكن الإنصاف أنه - أي قول ابن الجنيد - ليس بتلك المكانة من الضعف، ضرورة أن البحث في أن العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غير

ص: 95


1- المستند: ص530.
2- المستند: ص530.

المعصوم في جميع الحقوق أو لا، وليس في شيء من الأدلة المذكورة - عدا الإجماع منها - دلالة على ذلك) (1).

نعم بعض الأدلة التي ذكرها في (المستند) و(الفقه) قد يقال بعدم توقفها على إثبات الأمارية المحضة، فليلاحظ وليتأمل جداً.

ومن كل ما سبق يظهر: وجه النظر في ما ذكره (المستند) بقوله: (وقد يستدل بوجوه أخر غير تامة، كالإجماع المنقول، وكون العلم أقوى من البينة و... فإن في الأول عدم الحجية، وفي الثاني عدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم).(2)

إذ يرد عليه أولاً: ما ذكره في الجواهر بقوله: (مضافاً إلى ظهور كون العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها).(3)

وثانياً: إن هذا يناقض استدلاله بتلك الأدلة السابقة، إذ لو لم يمكن القياس لعدم معلومية العلة فلا يعلم كون العلم حجة في باب القضاء، لعدم العلم بكون كل الملاك الطريقية، فلا يثبت به الموضوع (السارق والزاني والمعروف والمنكر والضعيفوالملهوف والمظلوم)، فلا يترتب عليه المحمول، فكيف تكون تلك الأدلة الدالة على ثبوت المحمولات لموضوعاتها دالة على جواز أو وجوب اتباع العلم بتحقق موضوع منها، مع كون العلم في نظره لعدم معلومية العلة غير مفيد، وهل هذا إلا حكم بثبوت المحمول لما لم يعلم موضوعيته التامة له؟ وتشنيع على تارك المحمول لعدم ثبوت موضوعه - لعدم معلومية كون العلم مثبتاً له، واحتمال لحاظ خصوصية خاصة في البينة أو في ما

ص: 96


1- جواهر الكلام: ج40 كتاب القضاء ص89.
2- المستند: ص530.
3- جواهر الكلام: ج40 ص88.

أدت إليه حسب كلامه (قدس سره) - بأن الحكم قد ثبت لموضوعه الكذائي، وخلافه فسق وكفر وحرام؟.

بل إن استثناء القائلين بعدم جواز قضاء القاضي بعلمه لصورة ما إذا علم القاضي بخطأ الشهود أو كذبهم، حيث يجوز له حينئذٍ القضاء بعلمه(1)، دليل على شدة ارتكاز الطريقية في أذهان الفقهاء حتى المنكر لها، إذ لو لم تكن الحجية بملاك الطريقية - مما يتفرع عليه عدم جواز قضاء القاضي بعلمه وإن كان العلم أقوى من البينة لعدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم كما ذكره المستند - لما جاز إسقاط البينة وطرحها للعلم بخطأها أو كذبها، إذ أن ما مناط حجيته الطريقية يسقط عن الحجية بثبوت عدم طريقيته للخطأ أو الكذب، أما ما لا تكون الطريقية ملاك حجيته - كما في البينة حسب كلامهم - فإنه لا يسقط عنها بثبوت عدم طريقيته.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك صحيح فيما كانت حجيته من باب التعبدية المحضة، أما ما كانت حجيته لطريقيته مع أخذ خصوصية خاصة تعبداً فيه - كاجتهاد المجتهد حيث إن حجيته لطريقيته مع أخذ العدالة تعبداً فيه - فلا، إذ بالعلم بالكذب أو الخطأ يعلم بعدم الطريقية فتسقط البينة عن الحجية لتقومها بالركنين: الطريقية والكاشفية النوعية عن الواقع مع خصوصية ما (كانت هي الباعثة لعدم جواز قياس العلم بالبينة).

ومما يوضح ذلك ما هو مقرر في باب التعادل والتراجيح من عدم كون الأصول - مما كان حجيته من باب التعبد - مرجحة لأحدالخبرين المتعارضين مما كان حجيته من باب الطريقية، لأنها لا توجب أقوائية ملاك ما طابقته، ولذا تكون الأصول عند التكافؤ من سائر الجهات مرجعاً لا مرجحاً.

ص: 97


1- ذكر هذا الاستثناء من قِبَلِهم المسالك والمستند والجواهر وغيرهم فليراجع.
الملحق (2)
اشارة

من الأدلة على الطريقية:

التزام المشهور بوجوب تقليد الأعلم

ومن ذلك يعلم عدم صحة تسليم بنائهم وإبطال مبناهم، إذ لو لم تكن في مورد أقربية لم يكن بناؤهم عليه أيضاً، ولم يكن معنى لذاك البناء، فتأمل.

ومما سبق يظهر أن ما ذكر من لزوم تعطيل المهن، غير تام، إذ تعطيلها إنما يلزم لو بني على وجوب الرجوع للأعلم مطلقاً، سواء خالفه المشهور أم لا، وافق الاحتياط أم لا، عارض رأي ميت أعلم أم لا، مع إحراز الجميع كون هذا أعلم، ومع عدم تعذر أو تعسر رجوع الجميع إليه، أما لو انتفى أحد الشروط الثلاثة، بأن بني على وجوب الرجوع للأعلم فيما لم يخالفه المشهور ولا أعلم آخر... إلخ، فلا يلزم تعطيل مهن المفضولين، وكذا لو بني على وجوب الرجوع إليه مطلقاً لكن اختلف الناس في الأعلم، وكذا لو بني على وجوب الرجوع إليه مطلقاً ولم يختلف الناس فيه لكن تعذر أو تعسر الرجوع إليه.

لا يقال: لو صح ما ذكر من كون بنائهم على اتباع الأقرب للواقع وحجية هذا البناء، لزم حجية بنائهم على اتباع القياس، لكونه أقرب في نظرهم إلى الواقع من خبر الواحد في كثير من الأحيان، كما يظهر ذلك جلياً في مسألة دية أصابع المرأة.

ص: 98

إذ يقال: لا شك في بنائهم على اتباع الأقرب للواقع، إلا أن الشارع لكونه محيطاً بكل الجهات، عالماً بكثير مما لا تصل إليه عقولنا، قد يرى ما يتوهمه العقلاء أقرب أبعد، وما يتوهمونه أبعدأقرب، فلو انكشف لهم أن ما توهموه أقرب أبعد لتركوه، والعكس بالعكس، مما يؤكد أن الملاك عندهم على القرب والبعد، ولا محيص لنا نحن لإيماننا بالشارع وإحاطته عن قبول كون القياس أبعد عن الواقع، لإخبار الشارع بذلك (والسنة إذا قيست محق الدين)(1)، والخبر أقرب لأمره باتباعه وإن عارضه القياس.

وبذلك يعلم أن النقاش في الصغرى، وأن أي شيء أقرب للواقع ولا نقاش في أن محمول (الأقرب للواقع) الثبوتي، وكذا (ما ثبت كونه أقرب للواقع شرعاً) هو جواز الاتباع، بالمعنى الأعم.

وبعبارة أخرى: إن الملازمة التي ادعاها المستشكل غير تامة، إذ يلزم من حجية بنائهم على اتباع الأقرب لزوم اتباع ما هو أقرب واقعاً، وهو الخبر، لا ما هو أقرب في نظرهم المجرد وقبل مراجعة الشارع، وهو القياس مثلاً، مع كون الأقرب غيره مما كشف عنه الشارع.

وبعبارة ثالثة: إن بناءهم على اتباع الأقرب حجة ما لم يدل دليل على عدم كونه أقرب، فلا يكون حجية حينئذٍ من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا المحمول.

وبعبارة أخرى: بناؤهم على حجية شيء مقتضٍ للحجية، وشرطه عدم ردع الشارع.

ص: 99


1- الكافي: ج1 ص57 باب البدع والرأي والمقاييس ص15.
تنبيه:

إن استدلال المشهور ببناء العقلاء على وجوب الرجوع للأعلم، الذي ملاكه الأقربية للواقع جزماً، رغم إطلاقات أدلة التقليد التي لم تكن خافية عليهم قطعاً، والتي لو سلمت بأركانها الثلاثة لم يكن بدّ من رفع اليد عن بنائهم، ورغم ظهور (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا)(1)، في صحة الرجوع إلى مطلق راوي الحديث، وكون التقييد بالأعلم خلاف المنساق منها ومن أشباهها من أدلة التقليد، دليل واضح على أن بناءهم في الأمارات على الطريقية المحضة، وأن ما أحرز كونه أقرب للواقع هو اللازم اتباعه، وإن كان ظهور الدليل أو إشعاره على الأقل على جواز الرجوع إلى غيره حسب مبناهم من كون رأي الأعلم أقرب للواقع من رأي غيره، وإن كنا لا نقبل هذا المبنى على إطلاقه،ولولا شدة ارتكاز الطريقية في أذهانهم وبنائهم عليها لما رفعوا اليد عن ظهور الأدلة في جواز الرجوع إلى غير الأعلم، وتصرفوا فيه بقرينة بناء العقلاء، أو لما التجؤوا إلى عدم كون هذه المطلقات في مقام البيان من هذه الجهة، مع وضوح ظهورها عرفاً في البيان، بل ومع كون بعضها عمومات لا مطلقات، فتأمل.

ص: 100


1- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.
مناقشة مع الآخوند في نفيه الإطلاق في أدلة التقليد
اشارة

ومما ذكرنا ظهر عدم صحة ما ذكره الآخوند (قدس سره) بقوله: (ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على مشروعية أصله، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كل حال، من غير تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطرق والأمارات على ما لا يخفى).(1)

إذ يرد عليه:

أولاً: إن أدلة التقليد ليست بأجمعها مطلقات، بل فيها عمومات، فلا يكفي نفيها في نفيها، إلا إذا أريد الأعم، فيكون الإشكال عليه أتم، وذلك مثل (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا)(2)، والجمع المحلى والمضاف مفيدان للعموم، ولسنا بحاجة إلى الإطلاق الأحوالي، إذ (الحوادث) بعمومه يشمل الحادثة المعارضة وغيرها، أو الرأي المعارض وغيره(3).

وكذا قوله (عليه السلام): (مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاء)(4) بناءً على كون الموصول للعموم، كما ذهب إليه جمع من المحققين، قال الآشتياني (قدس سره): (وإن ذكرنا في محله تبعاً للمحققين أن الموصول للعموم).(5)

ثانياً: إن قوله: (إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ) دعوى بلا

ص: 101


1- كفاية الأصول: ج2 ص439.
2- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.
3- فتأمل.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص131 باب عدم جواز تقليد غير المعصوم ح33401.
5- بحر الفوائد: ص136 بحث الاستصحاب.

دليل، بل الدليل على عدمها، أترى العرف يفهمون من(يونس بن عبد الرحمن ثقة خُذ منه معالم دينك)(1) وغير ذلك، كقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2)، أصل جواز السؤال أم الإطلاق، وأن أي شخص تعنون بعنوان (أهل الذكر) يسأل منه؟

وكذا قوله (مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاء)، سواءً أقلنا بكون الموصول للعموم أم للإطلاق؟، وإخراج صورة التعارض عن شمول الآية لها، هو المحتاج للدليل على ما يفهمه العرف، ولذا يتحيرون لو تعارض كلام أهل الذكر، حيث يرون الآية دالة على الحجية وقد تعارضت الحجتان.

ولو نوقش في الآية فلا نقاش في سائر الأدلة.

إضافة إلى أن (عدم التعرض أصلاً لصورة المعارضة) إذا كان مفهومه تمامية الإطلاق من سائر الجهات ينافي ادعاء كونها بصدد بيان أصل جواز الأخذ لا غير، فتأمل.

وبعبارة أخرى: إنه إن أراد عدم الإطلاق مطلقاً، أجبنا بمخالفته للفهم العرفي، وهل تراه هو يلتزم بذلك في سائر المطلقات؟ وهل يمكن الالتزام بأن (أكرم العادل) في مقام بيان أصل جواز أو وجوب الإكرام، وكذا (من جاءني أكرمته)، أ يمكن الالتزام بعدم إطلاقه، وإن أراد عدم تحقق الإطلاق من هذه الجهة بمعنى عدم شمولها لصورة التعارض لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، ففيه: أن العرف يفهمون الشمول لذلك، لذا يتحيرون عند التعارض في العمل بأيهما، ولو لم يشملهما الدليل لما تحيّر في العمل بأيهما إذ كانا حينئذٍ

ص: 102


1- إشارة إلى الحديث الشريف: (أَفَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي، فَقَالَ: نَعَم)، وسائل الشيعة: ج27 ص147 ب11 ح33448.
2- سورة الأنبياء: 7.

جميعاً غير واجبين أو غير حجة، ألا ترى أنه عند تعارض خبرين مع ورود (اعمل بخبر الواحد) لا يرى العرف عدم شمول الدليل لهما معاً، ولذا لا يطرحهما معاً، بل يرى شموله لهما، غاية الأمر أنه لتعارضهما يبحث عن المرجح لأحد الخبرين، والترجيح فرع الحجية الشأنية للطرفين - بمعنى وجود المقتضي للحجية - بمقتضى شمولأدلة الحجية لهما، فتأمل(1).

ولذا نجده نفسه (قدس سره) يلتزم بشمول أدلة حجية خبر الواحد، وكذا سائر الطرق والأمارات للمتعارضين، كما صرح بذلك في باب التعادل والتراجيح.

والذي يدل على ذلك أيضاً: تعريفهم للتعارض بأنه تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب عالم الإثبات أو تنافي مدلولي الدليلين، فلو كان دليل الحجية غير شامل لصورة التعارض لما تنافى الدليلان، بل لم يكونا دليلين أصلاً لعدم المقتضي للدليلية وهو شمول الدال لهما إلاّ أن يراد الشأنية، وما هو دليل لولا المعارضة، تجوزاً، والخلاصة أن العرف لا يرى فرقاً بين المطلقات والعمومات في شمولها للمتعارضين، والرجوع عندئذٍ إلى المرجحات، فتدبر.(2)

لا يقال: إن إثبات الإطلاق ينافي مسلك المشهور من ذهابهم إلى تقليد الأعلم.

لأنه يقال: الغرض إثبات عدم قصور مطلقات أدلة التقليد عن سائر المطلقات والعمومات من جهة كونها في مقام البيان - وهو الذي نفاه الآخوند (قدس سره) - أو وجود قدر متيقن، لعدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ولا

ص: 103


1- لوجوه، منها الفرق بين صورة العلم بكذب أحد الخبرين، فيكون من اختلاط الحجة باللاحجة، وعدمها.
2- قد تطرقنا ههنا لهذا البحث بشكل سريع بدائي، وتفصيل الكلام في ذلك ذكرناه في آخر الكتاب.

يتنافى ذلك مع الالتزام بعدم الإطلاق، لوجود قرينة على الخلاف عندهم، وهي بناء العقلاء على الرجوع للأعلم (أو الأقربية للواقع في الأعلم، أو أدلة باب القضاء كما سيأتي)، إلا أن يقال: إن ذلك موقوف على عدم كون جهة عدم تسليمهم الإطلاق عدم كون المولى في مقام البيان، أو وجود قدر متيقن، إضافة إلى عدم التزامهم بمخصصية بناء العقلاء للعمومات، لكن فيه: إنه لو سلّم ذلك - وأن جهة عدم تمامية الإطلاق عندهم عدم تحقق المقدمتين الأُوليين من مقدمات الحكمة لا عدم تحقق الثالثة - لم يضر، إذ يقال حينئذٍ إن سبب التزامهم بعدم كونه في مقام البيان هو ارتكازية بناء العقلاء على الرجوع للأعلم عندهم، مما يكون قرينةلا على الخلاف بل على عدم كون المولى في مقام البيان حسب كلامهم، فتأمل.

هذا على مسلك المشهور.

وأما إن قلنا: بوجوب الرجوع للأعلم في صورة واحدة فقط (وهي صورة نادرة)، فالأمر أوضح، إذ تسليم الإطلاق بمقدماته الثلاث لا ينافي تقديم أحد المتعارضين لوجود مزية فيه أو طرح الآخر، فتدبر، ويتضح ذلك بمراجعة باب التعادل والتراجيح من الأصول، هذا إضافة إلى عدم مضرية إثباتنا الإطلاق وتنافيه مع مسلك المشهور، إذ المضر التزامهم بالإطلاق مع حفظ مسلكهم، فتأمل.

وكون بناء المشهور ومرتكزهم غير حجة ليس بمضر فيما نحن بصدده، من إثبات صحة التمسك على وجوب اتباع رأي الأكثرية بكونه أقرب للواقع، على مبنى المشهور(1)، وأما نحن فلنا طرق أخرى تظهر من مطاوي ما سبق وسيأتي بإذن الله تعالى.

ص: 104


1- (بكونه) متعلق ب- (التمسك) وعلى مبنى متعلق ب (صحة).

كما أن الغرض مما ذكرناه ليس قبول ما ذهب إليه المشهور من عدم كون المطلقات في مقام البيان ووجوب تقليد الأعلم استناداً لما ادعوه من بناء العقلاء، بل الغرض - كما سبق - إثبات صحة المدعى على مبناهم، فتدبر.

ومما ذكرنا يظهر: الكلام حول الدليل الآخر الذي تمسك للمشهور لإثبات وجوب تقليد الأعلم، وهو (إن رأي الأعلم أقرب للواقع، وكلما كان أقرب يتعين الأخذ به عقلاً)(1)، أو (إن الظن الحاصل من قول الأعلم أقرب للواقع)(2).

ولا يرد على ما نحن فيه عدم تسليم كون المعيار في باب الحجية هو (الأقربية) في نظرنا، لكون الأقربية في باب الشورى ثابتة بالدليل كما سبق، لا بنظرنا المحتمل مخالفته لما هو الأقربواقعاً مما لا يكون الكاشف عنه إلاّ الشارع المحيط بالخفيات.

كما لا يرد عدم صحة (المبنى) على ما نحن فيه، لأن الدليل لو دلّ على أن الظن الحاصل من شيء أقوى من آخر، كان اللازم اتباعه عند التعارض، لما فصّله الفقهاء في باب التعادل والتراجيح في صورة تعارض الحجتين، نعم لو لم يقم دليل على ذلك، بل قام الظن على أن الظن الكذائي أقوى من الظن الكذائي لم يصح المبنى، كما ذكره المستشكل.

ص: 105


1- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ص66.
2- مهذب الأحكام: ج1 ص24.
مناقشة أخرى مع الآخوند في نفي ملاكية القرب للواقع

ولا يرد ما ذكره الآخوند (قدس سره) بقوله: (وأما الكبرى فلأن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية لم يعلم أنه القرب من الواقع، فلعله يكون ما هو الأفضل وغيره سيان ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً، نعم لو كان تمام الملاك هو القرب كما إذا كان حجة بنظر العقل لتعين الأقرب قطعاً فافهم).(1)

إذ يرد عليه:

أولاً: إنه كما يحتمل أن لا يكون لزيادة القرب مدخل أصلاً في الملاك، يحتمل كذلك مدخليته، فعلى تقدير المدخلية يكون هو الحجة دون قسيمه، وعلى تقدير عدمها يكونان سيان في الحجية، فالأقرب للواقع مقطوع الحجية إذن وغيره محتملها، فيكون العقل حاكماً بضرورة الرجوع إليه دون غيره، لقاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وإنكار هذا إنكار لنفس دليله الذي أقامه على تعيّن الرجوع للأعلم من (فلابد من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعينه للقطع بحجيته والشك في حجية غيره).

ثانياً: إن ما كانت حجيته من باب محض التعبدية لا تكون للأقربية للواقع مدخلية فيها أصلاً، سلباً أو إيجاباً، أما ما كانت حجيته تعبدية طريقية (إن ملاك حجية قول الغير تعبداً ولو على نحو الطريقية)(2)، فلا يعقل عدم مدخلية الأقربية

ص: 106


1- كفاية الأصول: ج2 ص440-441.
2- ومن الواضح كون حجية رأي الفقيه طريقية - تعبدية، أما الطريقية فلكونه كاشفاً نوعياً عن الواقع وفي ظرف الشك لا أن موضوعه الشك، أما التعبدية فلأخذ العدالة وطهارة ◄ ►المولد وأشباههما في حجية قوله.

للواقع في الحجية، لكونها جزء قوامها، فكيف لا تكون شدتها وضعفها مؤثرة في شدتها وضعفها مما يستلزم الترجيح بها عند التعارض، هذا خلف، فتأمل.

ثالثاً: إضافة إلى أنه لو صح ما ذكره، لزم بطلان دليله على تعيّن تقليد الأعلم من الدوران بين التعيين والتخيير، لوجود أصلحاكم، إذ إن مدخلية رتبة معينة من القرب للواقع في ملاك الحجية محرز (لفرض كون الملاك طريقياً - تعبدياً) ويشك في مدخلية وتأثير واعتبار مرتبة أعلى منها في ملاك الحجية، والأصل العدم فلا دوران، ولا شك في حجية ذي الطريقية الأقل، إذ يرفع بالأصل، فتأمل.

كما أن استدلالهم لوجوب تقليده بورود الأمر بالرجوع إلى الأفقه في القضاء عند اختلاف القضاة، شاهد آخر على أن مبناهم إلغاء الخصوصية ونفي التعبدية، وكون الملاك محض الطريقية المشترك بين بابي القضاء والتقليد، وسيأتي تفصيل الكلام حول هذا الدليل بإذن الله تعالى.

هذا، ولو قيل بأن وجه تحتم الرجوع إلى الأعلم هو (القطع بحجيته والشك في حجية غيره)(1)، ولم نناقش بما سبق، كان ذلك دالاً على المدعى أيضاً، من وجوب الرجوع إلى ما هو أقرب للواقع وإن لم يدل على كون الأصل الطريقية، إذ إن سبب (القطع بحجية قول الأعلم) هو أحد أمور:

1: إما لأقربيته للواقع والقطع، أو احتمال مدخليتها.

2: أو لإحراز بناء العقلاء على اتباع الأعلم وعدم إحراز اتباع غيره أو إحراز العدم.

وقد أوضحنا أن كلا الوجهين مما يدل على المدعى من لزوم اتباع الأقرب

ص: 107


1- كفاية الأصول: ج2 ص438.

للواقع، مجيبين عن الإشكالات الواردة عليها، قبل قليل.

3: إن الروايات لا تدل على أزيد من حجية قول الأعلم، لعدم إطلاقها، إذ ليست في مقام البيان.

ويرد على الوجه الأخير:

أولاً: إن الدال على حجية قول الأعلم لو كان هو الروايات ولم يلتزم بإطلاقها، لما شك حينئذٍ في حجية قول غيره، إذ عدم وجود الدليل على الحجية ملاك عدمها، فلا شك في حجية قول غيره حينئذٍ،فعلم بذلك التنافي بين الأمرين: الالتزام بالقطع بحجية قول الأعلم، والشك في حجية قول غيره، والالتزام بعدم الإطلاق في أدلة التقليد بضرس قاطع، كما قال (قدس سره): (لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا في كل حال من غير تعرض أصلاً بصورة معارضته بقول الفاضل)(1)، فلا يصح تعليل أحدهما بالآخر.

وبعبارة أخرى: لا يصح تعليل: الدوران بين التعيين والتخيير، بعدم إطلاق روايات التقليد.

وقد يناقش في ذلك بوجهين:

الأول: احتمال أن يكون منشأ الشك احتمال بناء العقلاء على حجية قول غيره وعدم إحراز بنائهم على عدم الحجية، لا إحراز عدم الإطلاق في الأخبار حتى لا يكون شك، لإحراز العدم.

الثاني: إمكان كون المراد من الشك البدوي، أي الشك الموجود قبل ملاحظة قاعدة عدم الدليل دليل العدم، فتأمل.

ص: 108


1- كفاية الأصول: ج2 ص439.

نعم لو شككنا في الإطلاق والتقييد دار الأمر بين التعيين والتخيير.

لا يقال: عدم إحراز الدليل على الحجية (للدوران بين التعيين والتخيير) أيضاً ملاك عدمها فلا شك فيها، وبعبارة أخرى: لمّا لم يحرز الدليل عليها كان الأصل عدمها.

فإنه يقال: هذا الشك مسببي فلا يجري الأصل فيه، لكون الشك في الحجية حينئذٍ مسبباً عن الشك في الإطلاق والتقييد، لتفرعها وجوداً وعدماً عليهما، فعلينا التمسك بالأصول الجارية فيهما، إن لم يكن ظن نوعي في المقام كاشف عن المرام، نعم لو قلنا بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضاد، تعارض الأصلان السببيان فتصل النوبة للمسببيين، فتأمل.

وبعبارة أخرى(1): عدم إحراز الدليل على الحجية إنما يكون ملاك عدمها لو لم يكن هناك أصل حاكم.ثانياً: سلمنا، لكن يرد عليه (مبنى): بما ذكرناه مفصلاً من تمامية الإطلاق فيها من حيث كونه في مقام البيان.

ثالثاً: سلمنا، لكن يرد عليه (بناءً): أن عدم دلالة الروايات على حجية أزيد من قول الأعلم أيضاً لا ينافي كون ملاك الحجية هو الأقرب للواقع ولزوم الرجوع إليه، بل قد يدل عليه ولو بدلالة الاقتضاء، لما قد سبق من تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في متن الواقع، فليس الحكم باتباع هذا الطريق دون ذاك عبثاً، بل لعلةٍ في مرحلة الثبوت ولكون الارتكاز والبناء على الطريقية.

وبعبارة أخرى: عدم جعل الحجية في لسان الروايات معلول علة هي عدم القرب أو عدم الأقربية بشهادة بناء العقلاء، ولذا يرون العلة في جعل الشارع قول الأعلم حجة دون غيره - لو فرض - صرف الأقربية للواقع، وأما مصلحة

ص: 109


1- اللف والنشر مشوش.

التسهيل مثلاً فتقتضي العكس، أو لا تقتضي عدم حجية قول غيره على الأقل.

تنبيه آخر:

ظهر مما ذكرنا أن المقياس في باب الحجج هو الأقربية إلى الواقع التي دلّ الدليل عليها، لا الأقربية في نظرنا، فلا يرد استلزام ذلك حجية ما توصل إليه بالرمل والجفر من الأحكام الشرعية، إذ ليست للرمل أقربية قد دل عليها الدليل، وبل ليست من الظنون النوعية العقلائية.

مناقشة القول بأن الأقربية لا توجب تعين الأخذ

ومن ذلك كله ظهر: عدم تمامية ما يقال من (أنه لا منافاة بين الطريقية وبين حجية فتوى غير الأعلم أيضاً، نظير تعارض البينتين، فإن أقربية إحداهما إلى الواقع - كما إذا كانت أعرف بالحال من الأخرى - لا يوجب تعيينها وسقوط البينة الأخرى عن الحجية مع أنهما طريقان، ولذا ذهب المشهور إلى التساقط فيهما، وليس ذلك إلاللتزاحم ووجود ملاك الحجية في كليهما، وإلاّ لما أوجبت الأمارة غير الأقرب سقوط الأقرب أيضاً كما لا يخفى).(1)

إذ يرد عليه، إضافة إلى ما سبق:

أولاً: إن الشاهد يناقض المستشهد له، إذ إن المستشهد له هو عدم المنافاة بين الطريقية وبين حجية فتوى غير الأعلم، مما يقتضي التخيير، وهو الذي يريد إثباته، لكونه في مقام إثبات عدم تعيّن الرجوع للأعلم، وأما الشاهد هو تعارض

ص: 110


1- شرح العروة الوثقى: ص174 للسيد العم (دام ظله).

البينتين الموجب للتساقط حسب ما ذكره، فقد كانت هناك منافاة بين الطريقية وبين حجية المتعارضين لسقوطهما كليهما عن الحجية بالتعارض.

لكن لا يخفى الجواب عن هذا الإشكال.

ثانياً: إن تعليله (وليس ذلك إلا للتزاحم ووجوب ملاك الحجية في كليهما) غير تام لوجهين:

أ: إن هذا ليس تزاحماً بل هو تعارض، إذ المتزاحمان متنافيان في مرحلة الامتثال لا الجعل، فالتزاحم مانع عن (التنجز) لا غير، والأمارات كلها إن تخالفت متعارضة، لكون التنافي في مرحلة الجعل.

وبعبارة أخرى: مع كون أحدهما طريقاً إلى الواقع لا يعقل كون الآخر طريقاً إليه أيضاً، لكونه ضده أو نقيضه، وإلاّ لزم تناقض الواقع أو تضاده، وتناقض أو تضاد حكم الله في الواقعة، هذا في مرحلة الثبوت، وأما في مرحلة الإثبات فكذلك للعلم الإجمالي عند تنافي الدليلين بكذب أحدهما، فكيف يوجد ملاك الحجية فيهما ثبوتاً أو إثباتاً؟ اللهم إلاّ أن يريد بملاك الحجية الشأنية والاقتضاء، فيرد عليه حينئذٍ إشكالان آخران، فليلاحظ.

نعم لو قال بحجية البينة من باب السببية، لتزاحمت البينتان، لكون كل منهما حال التزاحم أيضاً على ما كان عليه من المصلحة التامة المقتضية للإيجاب، وإنما التزاحم مانع عن التنجز، فتأمل.

ب: إن مقتضى التزاحم هو التخيير أو تعيّن أحدهما إن كان ذا ملاك آكد لا التساقط، وبذلك ظهر عدم تمامية قوله (وإلا لما...)، إذعلى التزاحم ووجود ملاك الحجية في كليهما، لا يوجب أي منهما سقوط الآخر ككل متزاحمين.

ثالثاً: إن المشهور لم يذهبوا إلى التساقط، بل إنهم ذهبوا:

أ: في صورة كون العين بيد أحدهما وأقام كل منهما بينة، إلى ترجيح بينة

ص: 111

الخارج مطلقاً، وقيل: الداخل مطلقاً، أو الخارج مطلقاً إلاّ إذا انفردت بينة الداخل بذكر السبب، أو الخارج مطلقاً إلاّ مع أعدلية بينة الداخل، ثم أكثريتها فيترجح، أو الرجوع إلى القرعة مطلقاً، أو غير ذلك من الأقوال، وليس فيها قول بالتساقط(1)، والقول الأول هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(2).

ب: وفي صورة كون العين بيدهما وأقاما البينة، يقضي بها بينهما نصفين من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية على الأشهر، بل عليه عامة من تأخر إلا من ندر(3)، وبلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن وأبي علي، بل صرح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجحات الآتية في غير هذه الصورة.(4)

وعن المسالك: (لا إشكال في الحكم بينهما نصفين، لكن اختلف في سببه، فقيل: لتساقط البينتين بسبب التساوي فيبقى الحكم كما لو لم تكن بينة، وقيل: لأن مع كل منهما مرجحاً باليد على نصفها فقدمت بينته على ما في يده، وقيل: لأن يد كل واحد على النصف وقد أقام الآخر بينة عليه فيقضي له بما في يد غريمه بناءً على تقديم بينة الخارج، فكل منهما قد اعتبرت فيما لا تعتبر فيه الأخرى، ولذا لم يلحظ ترجيح بالعدد ولا بالعدالة وهذا هو الأشهر)(5)، فليس المشهور هو التساقط.

ج: وفي صورة كون العين في يد ثالث: يقضى بأرجح البينتين عدالة، ومع التساوي في العدالة يقضى بأكثرهما عدداً، ومع التساوي يقرع بين المتداعيين

ص: 112


1- راجع المستند: كتاب القضاء والشهادات ص587-589.
2- جواهر الكلام: ج40 ص416.
3- المستند: ج2 ص590.
4- جواهر الكلام: ج40 ص410.
5- جواهر الكلام: ج40 ص410-411.

على المشهور بين الأصحاب، خصوصاً المتأخرين، بل عليهم عامتهم كما قيل(1).

وفي المسالك وغيرها نسبته إلى الشهرة، بل في الغنية الإجماع عليه، بل في الرياض نسبته إلى الأشهر، بل عامة متأخري أصحابنا(2)، والجواهر وإن ناقش في تحقق الشهرة إلا أنه لا مناقشة في عدم انعقاد الشهرة على التساقط فتدبر، هذا لو فرض وجود قول به، فتأمل.

وأما لو لم تكن العين بيد أحدهما وأقاما بينة، فظاهر عبارة الصدوقين (قدس سرهما) أن حكمه حكم يد الثالث، وقال بعض فضلائنا المعاصرين: إنه الأولى، وهو كذلك لإطلاق أكثر الأخبار المتقدمة إن لم نقل جميعها بالنسبة إلى هذه الصورة أيضاً(3).

اللهم إلاّ أن يقال بأن مقصوده (دام ظله) هو تعارض البينتين في غير الماليات، فيندفع الإشكال.

لا يقال: لو كانت الأقربية للواقع موجبة لتعيّن الأخذ بذيها، للزم في الصورتين الأوليين الترجيح بالعدد والعدالة وأشباههما، لا الحكم بترجيح بينة الخارج مطلقاً في الصورة الأولى، والتنصيف في الثانية.

فإنه يقال: إن عدم الترجيح فيهما لوجود الدليل الخاص على تقديم بينة الخارج وعلى التنصيف وهي الروايات، ومنها المستفيضة المصرحة بأن (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، حيث استفاد منها الفقهاء اختصاص قبول البينة بالمدعي، لكون التفصيل قاطعاً للشركة، وهذه الرواية وإن أشكل في دلالتها على المدعى إلاّ أن المستشكلين استندوا إلى روايات أخرى دالة على

ص: 113


1- المستند: ج2 ص591.
2- جواهر الكلام: ج40 ص424.
3- المستند: ج2 ص592.

تقديم بينة الخارج، كالتعليل المذكور في خبر منصور الذي هو بالشهرةمجبور: (لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُطْلَبَ الْبَيِّنَةُ مِنَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِلَّا فَيَمِينُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ، هَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ)(1)، وكذا الرضوي المنجبر بعمل الفقهاء.

فعدم ترجيح بينة الداخل بالعدد والعدالة إنما هو لعدم كون بينته مقبولة شرعاً حسب الروايات، لا لعدم الاعتناء بمرجحاتها بعد الفراغ عن مقبوليتها.

وبعبارة أخرى: ليست بينته بينة شرعاً.

وبعبارة أخرى: ليس هو محلاً لها، كما ليست المرأة محلاً للقضاوة، وذلك مما يكشف (إنّاً) عن كون حجيتها ههنا تعبدية لا طريقية محضة، وبملاك الكاشفية النوعية المحضة عن الواقع، ولذا التزم المولى النراقي (رضوان الله عليه) بعدم كون حجيتها من باب الظن حتى تكون بينة الداخل مقدمة فيما لو كان الظن الحاصل منها أقوى من الحاصل من بينة الخارج، كما لو كانت أكثر عدداً أو أشد عدالة.(2)

وما ادعيناه من لزوم العمل بالأقرب من المتعارضين ليس في صورة تعبد الشارع بالعمل بأحدهما غير الأقرب، ولا في صورة عدم قيام الدليل على أن هذا أقرب، بل كان الظن قائماً عليه، وبعبارة أخرى: (الأقرب في نظرنا)، بل إنما هو في صورة العلم بالطريقية المحضة أو الشك بينها وبين التعبدية، لكون الأصل الطريقية وعدم لحاظ الشارع أمراً زائداً على صرف الإيصال إلى الواقع، ولأنه مقتضى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فتأمل.

وكذا في صورة تنصيص الشارع على اتباع أحد المتعارضين، فكيف إذا

ص: 114


1- وسائل الشيعة: ب12 من أبواب كيفية الحكم ح14.
2- راجع المستند: ج2 ص587.

علله الشارع بأنه أقرب للواقع، وبأن في عدمه الضرر والوقوع في الندم، كما في الروايات الدالة على الشورى.

هذا، ويمكن إنكار الملازمة بوجه آخر، وهو أنه: قد يكون ترجيح بينة الخارج مطلقاً لكونها أقرب نوعاً إلى الواقع من بينة الداخل في نظر الشارع، وإن كانت بينة الداخل أكثر عدداً وعدالةً،بمعنى أنه رأى كون أكثر مواقع دعوى الخارج ما في يد آخر وإقامته البينة مطابقة للواقع وكون الأقل مطابقاً للداخل وإن كانت بينته أكثر وأقوى.

والفرق بين الوجهين: أن الأول مبني على الالتزام بالتعبدية في البينة، والثاني على الالتزام بالطريقية فيها.

ومن تقرير هذا الوجه الثاني يظهر أن هناك شقاً ثالثاً، يمكن به التخلص عما استشكله (المستند) على نفسه بقوله: (فلا يرد عليهم أنه إن كان بناؤهم على عدم حجيتها فهو مناف لقبولها في بعض الموارد، وإن كان على قوة الظن، فقد يكون الظن الحاصل من بينة الداخل أقوى من بينة الخارج)(1)، وهو كون البناء على حجيتها من باب أقربيتها إلى الواقع نوعاً بنظر الشارع، وإن كان الظن الحاصل من بينة الداخل - لكثرة العدد أو العدالة - أقوى.

نعم، لا يجري هذا الوجه في الصورة الثانية، وهي ما لو كانت العين بيدهما حيث حكم بالتنصيف، فتأمل.

ومما ذكرنا في جواب هذا الإشكال ظهر الجواب عن النقض بكل موارد تقديم الشارع ما يتوهم كونه غير أقرب، أو ما يكون غير أقرب واقعاً، من أول الفقه إلى آخره.

ص: 115


1- المستند: ج2 ص587.
الملحق (3)
اشارة

بحث عن الوجه في تقديم حكم الأفقه

في القضاء وفرقه عن باب الفتوى

إذ يجاب: أولاً: إن جعل الحاكم لفصل الخصومة أعم من ترجيح حكم الأفقه، إذ يتم فصلها بالحكم بترجيح قول غير الأفقه أيضاً.

وببيان آخر: فصل الخصومة يحصل بتقديم أي منهما تعييناً، لا بتقديم خصوص قول الأفقه تعييناً، فلماذا قدم قول الأفقه؟ لا مناص إلاّ بالتزام كون ذلك لأقربيته إلى الواقع، ثم ألم يكن ترجيح حكم المفضول قبيحاً عقلاً وعرفاً؟ وما ذلك إلاّ لذلك.

وقد يقال بتمامية كلامه (دام ظله)، إذ إنه لا ينكر ههنا أقربية قول الأعلم للواقع من غيره، بل يرى أن هذه الأقربية في باب الحكومة موجبة - على فرض التسليم -(1) لتعين الرجوع في القضاء للأعلم بضميمة أنه لابد في باب القضاء

ص: 116


1- إذ تلك الضميمة لا تقتضي أكثر من جعل حجة تعييناً، وضمها إلى أقربية حكم الأعلم لايجدي إلا في فرض إثبات كونها بحد الإلزام لرجحانها التام، مع عدم معارضة مصلحة كمصلحة التسهيل مثلاً، إذ يمكن فصل الخصومة بجعل الحجة التعيينية حكم من تراجع إليه المتخاصمان أو حكم السابق أو غير ذلك، ولذا قال: (بل في باب الحكومة أيضاً وجوب الرجوع للأعلم محل نظر).

لكونه مجعولاً لفصل الخصومة من جعل الحجة التعيينية لا التخييرية، وغير موجبة لذلك في باب الفتوى لعدم تلك الضميمة، فتبقى أدلة حجية فتوى المجتهد على إطلاقها المقتضية للحجية التخييرية، فتأمل.

وغير خفي أن عدم قبولنا ما ذكره غير ضار، إذ الكلام في استفادة الفقهاء الطريقية ونفي التعبدية في محتملها، وليس الكلام فيأن وجود الأقوى طريقيةً، كالأعلم، يوجب التعيين ولا غير، كما في باب الحكومة، إذ لا يمكن فيها التخيير، أو لا يستلزم إيجابه، بل يمكن إيجابه أو التخيير كما في باب الفتوى، هذا.

إضافة إلى ما سبق في (وَنَظَرَ فِي حَلالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا) (1)، و(فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّه) (2)، وما في لحوق تعليل تقديم المجمع عليه على الشاذ ب(فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لا رَيْبَ فِيه) (3)، وتعليل تقديم مخالف العامة بأن (فِيهِ الرَّشَاد) (4)، من الدلالة القوية على أن الملاك هو القرب أو الأقربية للواقع، فيكون الترجيح لأجلها أيضاً.

أما وجه دلالة سبق (ونظر...) فواضح، حيث إن الظاهر أن سؤاله: (قلت فإن كان كل رجل...) إنما هو سؤال عن تعيين (حلالنا، وحرامنا، وأحكامنا، وحكمنا، وبحكم الله) السابق في كلام الإمام (عليه السلام) فعيّنه له الإمام، وأنه ما حكم به الأعدل الأفقه، أما دلالة ما لحق فلا يخفى.

فمناط التقديم - على هذا - معلوم، وهو القرب أو الأقربية للواقع، بقرينة ما سبق وما لحق، ولكون التعبدية على خلاف الأصل، كما سبق تقريره من

ص: 117


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
4- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

وجوه عديدة.

وبذلك يظهر الكلام فيما ذكره المشكيني (قدس سره): (والأولى أن يجاب أولاً بأن التعدي عن موردها قياس فلا يتعدى عن مورد المقبولة إلى غيره من موارد القضاء فضلاً عن باب الإفتاء).(1)

كما ظهر الجواب عما ذكره في الكفاية: (لأن الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفعإلا به لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى كما لا يخفى).(2)

إذ اتضح أن هذا الفرق غير فارق لارتفاع الخصومة:

1: بتقديم قول غير الأفقه الأعدل الأصدق الأورع أيضاً.

2: أو بتقديم حكم السابق.

3: أو بالإرجاع إلى ثالث يرتضيانه.

4: أو بالقرعة بعد اختلافهما (أي الراويين).

أو بغير ذلك، فتقديم قول الأفقه الأعدل ليس إلا بملاك الأقربية للواقع، كما فصلناه قبل قليل، إلا أن يدل دليل من الخارج على جواز اتباع غير الأقرب، مما يكون لأجل مصلحة أخرى كمصلحة التسهيل، فيلتزم حينئذٍ بالتخيير، وإلاّ فمقتضى القاعدة التعيين لما سبق، ولا أقل لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ولأجل ذلك (أي للدليل الخارجي) نلتزم بعدم وجوب الرجوع للقاضي الأعلم ابتداءً(3)، بعدم تعدينا عن مورد المقبولة (اختيارهما الرجوع إلى

ص: 118


1- حاشية المشكيني على الكفاية: ج2 ص440.
2- كفاية الأصول: ج2 ص440.
3- لا يخفى أن البحث فيما سبق وسيأتي كله كبروي مع قطع النظر عن النقاش في الصغرى وأن رأي الأعلم قد لا يكون أقرب لمخالفته للمشهور أو لأعلم ميت أو ما أشبه فتدبر.

شخصين) إلى سائر موارد القضاء لأجل الدليل الخارجي، لا لما ذكره المشكيني (قدس سره) من كونه قياساً، إذ بيّنا أن الملاك في التقديم موجود بعينه فيما نحن فيه، ولئن نوقش في وجوده في موارد الفتوى فلا شك في وجوده في سائر موارد القضاء، فتأمل.

والدليل الخارجي هو إطلاق أو عموم أدلة النصب المقتضي لحجية قضاء جميع القضاة على الناس، كخبري أبي خديجة(1)، ومقبولة ابن حنظلة(2)، وخبر داود بن الحصين(3)، والنميري(4)،وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء والقضاء والاستقضاء منهم مع تفاوتهم في الفقه والعدالة وغيرها.

وفي الجواهر: (بل لعل أصل تأهل المفضول وكونه منصوباً يجري على قبضه وولايته مجرى قبل الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها، خصوصاً بعد ملاحظة نصوص النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين بالوصف المزبور، لا الأفضل منهم، وإلا لوجب القول: انظروا إلى الأفضل منكم لا رجل منكم، كما هو واضح بأدنى تأمل).(5)

ولاستلزام وجوب الرجوع للأعلم العسر والحرج عليه وعلى الناس كما لا يخفى، خصوصاً الذين يسكنون بلاداً أخرى، ولعل عموم النصب كان لأجل مصلحة التسهيل هذه.

هذا بناءً على ما ارتضيناه من جواز الرجوع إلى القاضي غير الأعلم

ص: 119


1- وسائل الشيعة: الباب 1 من أبواب صفات القاضي ح5، والباب 11 ح6.
2- وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح1، والباب 9 ح1، والباب 12 ح9 متقطعاً.
3- وسائل الشيعة: الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث20.
4- وسائل الشيعة: الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث45.
5- جواهر الكلام: ج40 ص44-45.

ابتداءً، أما على مسلك الأشهر - كما عن المسالك - بل المجمع عليه كما (حكاه المرتضى (قدس سره) في ظاهر الذريعة، والمحقق الثاني في صريح حواشي كتاب الجهاد من الشرائع)(1)، ونسبه في الجواهر إلى الأصحاب، (ومن الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلق حتى أن بعضاً منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة من الأصوليين دعوى الإجماع على تقديمه حينئذٍ لا مطلقاً فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك)(2)، وإن ناقش في تحقق الإجماع وفي نسبته للمحقق والمرتضى (قدس سرهما) فالأمر أوضح، حيث إنهم(3) نقلوا من حكم الإمام (عليه السلام) بالترجيح في مورد خاص إلى الترجيح في مورد آخر (الرجوع إلى القاضي الأعلم ابتداءً)، وكذا (تقليد الأعلم)، وما ذلك إلاّ لبنائهم على إلغاءالخصوصية ونفي التبعدية وكون الملاك أقوائية الظن والأقربية للواقع، بل إنهم صرحوا بذلك، حيث كان مستند قولهم هو (ومن أن الظن بقول الأعلم أقوى فيجب اتباعه، إذ أقوال المفتين بالنسبة للمقلد كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد في وجوب اتباع الراجح)(4)، وبالنسبة لتقليد الأعلم: (الخامس أن الظن الحاصل من قول الأعلم أقرب إلى الواقع).(5)

وأما ما استشكله في المهذب: (وفيه: إن كون اعتبار الحكم من جهة الظن الحاصل منه أول الدعوى)(6)، فقد سبق أن أجبنا عنه مفصلاً، إضافة إلى أن كلامنا الآن هو تمامية المدعى على مسلك هؤلاء.

ص: 120


1- مفتاح الكرامة: ج10 ص4 كتاب القضاء.
2- جواهر الكلام: ج40 ص45.
3- أي بعضهم.
4- جواهر الكلام: ج40 ص43، والمستند: ج2 ص521، ومهذب الأحكام: ج1 ص103.
5- مهذب الأحكام: ج1 ص24.
6- مهذب الأحكام: ج1 ص103.

كما أن استدلالهم بالأخبار كالمقبولة ورواية الحصين والنميري رغم كون موردها تراضيهما بالحكمين، ورغم كون الوارد غير عام، دليل آخر على أن مبناهم على إلغاء الخصوصية واستنباط أن ملاك الترجيح هو الأقربية للواقع، كما هي ملاك الحجية أيضاً.

مناقشات مع المستند في قوله بالحكم الظاهري

وأما ما ذكره في المستند: (والجواب عن الأول: أما أولاً: فبأنه إنما يتم على القول بأن متابعة المقلد لقول مجتهده لأجل أنه محصل للظن بالواقع، وهو ممنوع، لجواز أن يكون هذا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي وإن لم يحصل الظن به، كالتقية وشهادة الشاهدين واليمين، ولو كان بناء الفقهاء على الظنون لزم عدم سماع دعوى كنّاس على مجتهد أنه أجره للكناسة، ودعوى شرير متغلبعلى مجتهد عادل في دراهم، ولزم أن يقضى بالشاهد الواحد إذا كان مفيداً للظن، سيما إذا كان المدعي معروفاً بالصلاح والسداد، والمدعى عليه بخلافه، وحينئذٍ فلا دليل على اعتبار الظن الأقوى).(1)

فيرد عليه: أما قوله (وهو ممنوع لجواز...) ففيه:

أولاً: إن هذا خلاف الأصل، ولذا كان رفع اليد عن الحكم الواقعي هو المحتاج للدليل إثباتاً، وللسبب كالتقية ثبوتاً.

وبعبارة أخرى: نيابة حكم مناب الحكم الواقعي خلاف الأصل، فلا يرفع اليد عن عمومات الأدلة الواقعية إلا لدليل، ولا يكفي صرف الاحتمال.

ص: 121


1- المستند: ج2 ص522.

ثانياً: إضافة إلى أن الأدلة الدالة على لزوم التقليد على من ليس بمجتهد ولا محتاط، تنفي كون لزوم اتباع المجتهد(1) حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي، أترى كون الفطرة الحاكمة أو العقل الحاكم بوجوب أن يكون المرء في ما كلفه به مولاه، أو حد له حدوداً فيه من عباداته ومعاملاته، مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً، حاكمة به بملاك غير ملاك تحصيل الواقع، وترى كون كلام المقلَّد حكماً نائباً مناب الواقع؟ خاصة إذا كان مستند هذا الحكم علم المكلف بأنه ليس كالبهائم، واحتماله العقاب في ترك التعرض لتحصيل التكاليف الواقعية، بل حتى لو كان مستنده القريب حكم العقل بوجوب شكر المنعم، والبعيد احتماله العقاب ووجوب دفع الضرر المحتمل، بل حتى لو كان مستنده وجوب شكر المنعم فقط.

ولذا قال في المهذب: (كما أن هذا الوجوب طريقي محض لانفسية فيه بوجه، فيكون المناط كله على الواقع).(2)

وقال تعليقاً على ما ذكره في العروة من (مسألة2: الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا): (لما تقدم من أنه لا موضوعية للطرق الثلاثة، وإنما هي طريق محض لدرك الواقع، والاحتياط أوثقها وأقواها).(3)

وقال في (الفقه): (فإن أدلة وجوب التعلم الآتية بمعونة أن ليس المراد منها

ص: 122


1- إذ الظاهر عود (هو) في كلام (المستند) إلى مقدّر مضاف إلى (متابعة المقلد) وهو (وجوب) وعلى هذا فالظاهر أن مبناه على المصلحة السلوكية، وأما رجوعه إلى (قول المجتهد) بأن يكون قوله (صلاة الليل واجبة) مثلاً هو الحكم الآخر النائب فهو بعيد ولو كان مراداً ولم يرجع للأول ورد عليه وعلى سابقه ما ذكرناه في المتن من أدنى تغيير، ولا يخفى أننا في كلماتنا مشينا تارة على الاحتمال الأول وأخرى على الآخر، وللمرء أن يضع أيّاً منهما مكان الآخر، ويوجد احتمال ثالث هو كون قول المجتهد سبباً لإنشاء حكم ظاهري على طبقه، فتأمل.
2- مهذب الأحكام: ج1 ص3.
3- مهذب الأحكام: ج1 ص4.

إلاّ العمل على طبق الواقعيات تفيد وجوب إحدى الثلاث).(1)

ومما يوضح ما ذكرناه أن التقليد من باب رجوع الجاهل للعالم، ولا ريب أن العقل يلزمه بالرجوع إليه لإدراك الواقع، لا لأن لكلامه موضوعية أو لقسيميه، والوجدان بذلك شاهد.

كما يشهد له أن من الواضح حكم العقل بعدم جواز اتباعه لو علم المقلد خطأه، ولو كانت لكلامه موضوعية لكان قسيماً للواقع، لازم الاتباع وإن خالفه، إلا أن يقال: بموضوعية كلامه ونيابته مناب الحكم الواقعي بشرط عدم العلم بخطأه، فتأمل.

وأما الأدلة الأخرى التي أقيمت على جواز أو وجوب التقليد، فإن قيل بكونها إرشادية فالأمر كما ذكر.

وأما على المولوية، فنقول:

أما الآيات: التي استدل بها على ذلك، فالظاهر من (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)، أن المقصود معرفة المنذرين بالدين وأحكامه وحذرهم من مخالفتها، وكون الإنذار طريقاً إلى معرفة الدين لا أن يكون تفقههم سبباً لموضوعية أقوالهم ونيابتها مناب الحكم الواقعي!..

كما أن ظاهر قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(3)، هو ذلك، حيث فرع (اسألوا) على عدم العلم، فيقتضي ارتفاعه بوجود السؤال.

وبعبارة أخرى: ظاهر (اسألوا إن كنتم لا تعلمون)، اسألوا إن لم تعلموا

ص: 123


1- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ص4.
2- سورة التوبة: 122.
3- سورة النحل: 43.

الواقع لتعلموا، فالسؤال طريق للعلم (الأعم من الدقي والعرفي ومما يساوق الاطمينان) بالواقع.

وكذا قوله سبحانه: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...) (1)، فمنطوقها يدل بصريح التعليل، على أن وجوب التبين لأجل أن لا يصيب قوماً بجهالة، وعدم وجوبه في العادل لإلغاء احتمال الكذب وإصابة القوم بجهالة لضعفه.

وبعبارة أخرى: وجوب التبين في خبر الفاسق ليس من حيث هو هو، بل مخافة إصابة القوم بجهالة، وباعتبار أدائه - احتمالاً قوياً - إلى مخالفة الواقع وتسبيبه الوقوع في الندم، وأما مفهوم الوصف(2) فهو: يجوز - بالمعنى الأعم(3) - قبول خبر العادل، لعدم تلك المخافة عرفاً، وعدم ذلك التسبيب عادة، فليس قبوله بما هو هو، بل لأنه مصيب ومطابق للواقع عرفاً، واحتمال مخالفته للواقع لضعفه ملغى عقلاً، فعلة وجوب التبيّن وعدمه إذن هي مخالفة الواقع، وعدمها لكون (أن تصيبوا) بمنزلة التعليل ل(تبينوا).

وأما الروايات:

فالتوقيع الوارد عن الحجة (عليه السلام): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم وأنَا حُجَّةُ الله)(4)ظاهرة أيضاً في حجية قول الفقيه من حيث إنه كاشف عن قول الإمام الكاشف عن حكم الله، لا أن هنا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي.

أترى أن المولى لو قال لعبده: (هذا حجتي عليك) استفيد منه أن هنا

ص: 124


1- سورة الحجرات: 6.
2- ولسنا بحاجة إليه، للاكتفاء بالتعليل الصريح.
3- المستفاد من (إن جائكم عادل بنبأ فلا تتبينوا) بضميمة ظهور إرادة نفي وجوب التبين لا جوازه.
4- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.

حكماً ظاهرياً نائباً مناب الأحكام التي يصدرها المولى، وأن حجية كلامه من حيث هو هو؟ أم أن حجيته من حيث كونه موصلاً إلى تكاليف المولى وأحكامه، بحيث لو سلبت عنه هذه الجهة وصار قسيماً لكلام المولى وأحكامه لم تكن له حجية أبداً ولما وجب اتباعه قطعاً.

ويؤيده بل يدل عليه: أن الحجة ما يحتج به المولى على عبده، ولولا كون كلمات الفقهاء طريقاً موصلاً لروايات الأئمة (عليهم السلام) لما كانوا حجتهم علينا، ولما صحت إضافة الحجية لياء المتكلم، إذ لو قطع النظر عن حيثية كاشفية كلام الفقيه عن حكم المعصوم وروايته، لما كانت له رابطة به (عليه السلام) حتى تكون كلماته حجة الإمام علينا، فهذا هو الظاهر وإن أمكن دقةً غيره.

وقد يمثل بالفرض التالي: أترى يصح أن يجعل رواة الأحاديث المكذوبة - كأبي هريرة وأشباهه - مثلاً حجة الإمام علينا؟ وما ذلك إلا لعدم طريقيتها إلى أقوالهم، فلا تصح حينئذٍ هذه الإضافة (حجتي)، وفيه تأمل.

نعم التقية حكم واقعي ثانوي، نائب مناب الحكم الواقعي الأولي، فمع العلم بأن هذا اليوم من رمضان يجب الإفطار لأجلها.

ويشعر بما ذكرناه أيضاً سبق (رواة أحاديثنا) فتدبر.

كما يشعر به أو يدل عليه: قياس المساواة المذكور في كلام الإمام (عليه السلام): (إِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم وأنَا حُجَّةُ الله)(1)، مما يعني أنهم حجة الله، ومن المسلّم أن كونهم حجة علينا من حيث إنهم الطريق إلى الله والوسيلة إليه، لا مع قطع النظر عن هذه الحيثية، ولذا ورد قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ)(2)، كما أن من المسلّم أن حجية قولهم من حيث إفادتها العلم أو

ص: 125


1- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.
2- سورة الحاقة: 44.

الظن النوعي(1) بحكم الله، ولذا لا يجب اتباع حكمه (عليه السلام) لو كان الظن النوعي على الخلاف، وإن ما ذكره (عليه السلام) ليس بحكم الله، بأن كان الإمام (عليه السلام) في مقام التعليم لا الفتوى(2) حالة التقية مثلاً، فحكم بحكم موافق للعامة تقيةً ومن باب (جراب النورة)(3).

وكذا رواية ابن أبي يعفور، قال: (قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِنَّهُ لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ، وَلا يُمْكِنُ الْقُدُومُ، وَيَجِي ءُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِي، وَلَيْسَ عِنْدِي كُلُّ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي وَكَانَ عِنْدَهُ وَجِيهاً) (4).

بناءً على عدّ هذه الرواية من أدلة جواز التقليد، إذ علل (عليه السلام) الرجوع إلى ابن مسلم بسماعه من الباقر (عليه السلام) وكونه وجيهاً عنده، ومن الواضح أن العرف الملقى إليه هذا الكلام يستفيد حجية كلام ابن مسلم من حيث طريقيته لكلام الإمام وإيصاله إليه، لا أن صرف السماع يسبب موضوعية لكلامه، بحيث ينشأ حكم آخر على منواله نائباً عن الحكم الواقعي - كما ادعاه المستند - كما أن من الواضح أن (كونه وجيهاً) سبب لحصول الظن بالواقع وبكلام الإمام (عليه السلام) منه(5)، بل المتبادر إلى الذهن من كلام الإمام (عليه السلام) كونه بصدد بيان ما يكشف عن الواقع ظناً، فتأمل.

ولا يخفى شمول (فإنه سمع من أبي) لما لو سمع منه (عليه السلام) الحكم أو

ص: 126


1- لاحتمال كون أمره (عليه السلام) امتحانياً، أو كونه في مقام التعليم لا الفتوى، أو التقية أو غير ذلك.
2- فصل ذلك المؤلف في كتاب (فقه المعاريض والتورية).
3- راجع تهذيب الأحكام: ج9 ص323 ب31 ح16.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص144 ب11 ح33438.
5- وإنما قلنا الظن لا العلم، لوجود احتمال السهو والخطأ والنسيان في الراوي، كما تحتمل التقية وغيرها في الراوي والمروي عنه كما سبق.

سمع منه مستند الحكم وما يستنبط منه الحكم، ولافرق بينهما عرفاً في صحة الإسناد والاستناد، فيمكن اسناد إخبارات المجتهد الحدسية المستندة إلى إعمال قواعد العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحاكم والوارد، والتعادل والتراجيح.. إلخ، إلى الشارع، ولا يقدح انسباق سماع الحكم من (فإنه سمع...) لكونه بدوياً، ولذا لو سمع من الإمام (عليه السلام) حرمة نقض اليقين بالشك فأفتى العامي ببقاء زوجية زوجته عند شكه في طلاقها، صدق استناده في حكمه إلى الإمام (عليه السلام) لسماعه منه مستند الحكم، ولو سمع منه (عليه السلام) حجية خبر الثقة وحجية الاستصحاب وأعمل قاعدة الحكومة أو الورود (على المسلكين في تقديم خبر الواحد على الاستصحاب) ثم أفتى العامي الشاك في طلاق زوجته بانقطاع الزوجية، لإخبار ثقة بإجراء صيغة الطلاق، كان الأمر كذلك أيضاً.

وكذلك رواية الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): (شُقَّتِي بَعِيدَةٌ وَلَسْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمِمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي، قَالَ: مِنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ الْقُمِّيِّ الْمَأْمُونِ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا) (1).

حيث يشعر بل يدل عرفاً وصفه (عليه السلام) زكريا ب(المأمون على الدين والدنيا) على كونه سبب الحكم بأخذ معالم الدين منه، ومن الواضح كون مأمونية شخص على الدين والدنيا، سبباً للظن النوعي بالواقع ومطابقته لقول الإمام (عليه السلام)، وهكذا حال روايات أخر يطول بذكرها المقام.

كل ذلك إضافة إلى استلزامه على الاحتمالين الأخيرين - مما ذكرناه في الهامش - جعل حكم ظاهري عند الإصابة، وهو كما ترى، للغوية واستحقاق العقوبتين عند المخالفة، أو كون استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الظاهري لا الواقعي المطابق له، ولا يمكن إنكار الملازمة بدعوى جعل الحكم الظاهري عند

ص: 127


1- وسائل الشيعة: ج27 ص146 ب11 ح33442.

الخطأ فقط، لكونه خلاف كلامه أولاً(1)، ولأنه خلاف الأدلة والطريقة العقلائية أيضاً.

ولأن الالتزام بكون قول المجتهد حجة لكونه محصلاً للظن بالواقع يستلزم المعذرية عقلاً عند الخطأ، ولا حاجة إلى جعل حكم ظاهري عنده، إذ كون هذا الطريق غالب الإيصال للواقع كافٍ لجعله حجة، وإن لم يوصل أحياناً لغلبة هذه المصلحة على تلك المفسدة، فتأمل.

مضافاً إلى كل ذلك، استلزامه وجود ثلاثة أحكام فيما لو خالف المجتهد الحكم الواقعي الثانوي وهي: الحكم الواقعي الأولي، والواقعي الثانوي، وحكم ثالث هو ما أدى إليه رأي المجتهد لقوله: (لجواز أن يكون هذا حكماً آخر نائباً مناب الحكم الواقعي).

فمثلاً: الحكم الواقعي الأولي حرمة الدم، والثانوي وجوبه التعيني لانحصار العلاج والنجاة به، وقد أدى رأيه إلى وجوبها التخييري، لتوهمه كون النجاة به وبشرب البول مثلاً على سبيل البدل، أو نمثل: بما لو كان الحكم الواقعي وجوب التسبيحات الثلاث، والثانوي حرمتها، لضيق الوقت فرضاً أو لتعرضه لخطر إن أطال الصلاة، وكان قوله باستحبابها إما للغفلة عن ضيق الوقت أو مع الالتفات إليه والالتزام باستحبابها عند الضيق، فتأمل.

هذا وقد حقق في محله أن الحجج الشرعية إنما هي كواشف ناقصة عن الواقع، وقد أكمل الشارع كاشفيتها بأدلة حجيتها، أو هي منجزات ومعذرات وليست جعلاً للحكم.

وأما قوله (كالتقية)، ففيه: إن الحكم في مواردها واقعي ثانوي، وهو

ص: 128


1- إذ فيه تراجع عما ذكره من (القول بأن متابعة المقلد لقول مجتهده لأجل أنه محصل للظن بالواقع وهو ممنوع).

الحكم المرتب على الموضوعات بعناوينها الثانوية الطارءة كالاضطرار والإكراه غير عنوان مشكوك الحكم، وأما وجوب دفع الخمس وحرمة الخمر واستحباب صلاة الليل مثلاً على المقلد والمجتهد فهي أحكام واقعية أولية، والواجب اتباع الحكم الثانوي وإن علم بالحكم الأولي، لكون مصلحة الأول غالبة فيجب أكل الميتة للاضطرار، والصلاة مكتوفاً له، أما لو علم بخطأ المجتهد حرم اتباعه ولزم اتباع الحكم الواقعي، بأن علم مثلاً خطأ المجتهد في الاكتفاء بتسبيحة واحدة فرضاً، بل وكذا لو حصل له ظن نوعي بخطأه أو بمخالفته للحكم الواقعي، كأن أفتى حالة اضطراب شديد (بحيث لا يبني العقلاء على الاعتداد بكلمات من اعترته هذه الحالة)أو اعتماداً على كتاب ظنه الوسائل مثلاً، وبان للمقلد أنه كتاب آخر مما لا يعتمد عليه هذا الفقيه.

وأما قوله: (وشهادة الشهادين)، فقد أجبنا عنه مفصلاً فيما سبق.

وأما قوله: (ولو كان بناء الفقهاء على الظنون لزم عدم سماع...)، فيرد عليه:

أولاً: إن سماع تلك الدعوى - على فرض التسليم - إنما هو لإطلاقات أدلة سماعها، ولا منافاة بين حجية ظن نوعي وبين تقدم ظن نوعي آخر عليه، حكومةً أو وروداً أو تخصيصاً، كما لا منافاة بين حجية الظن مطلقاً، وبين تقدم بعض الظنون على البعض الآخر، وهل ترى الانسدادي إلاّ كالانفتاحي في تقديم خبر الواحد الثقة على الاستصحاب، وشهادة العدلين على إدعاء العدل الواحد؟

وبذلك اتضح عدم صحة الملازمة المذكورة في كلامه (قدس سره): (ولو كان... لزم...).

وبعبارة أخرى: بناء الفقهاء لو كان على الظنون فإنما هو بنحو المقتضي،

ص: 129

فلا محذور في عدم العمل بها إذا ابتليت بالمزاحم الأقوى، وهو إطلاقات أدلة سماع الدعوى فيما نحن فيه.

وثانياً: إن لنا إنكار سماع هذه الدعوى لو كان ظن نوعي على الخلاف، وكان بناء العقلاء على عدم السماع وعدم الاعتناء، إذ إننا لا ندعي حجية كل ظن وحجية الظنون الشخصية ما لم تصل حد الاطمينان، بل ندعي حجية الظنون النوعية، أي مطلق ما كان عليه بناء العقلاء وسيرة العرف إلاّ ما ثبت بدليل خاص خروجه كالقياس.

ففي دعوى شرير متغلب على مجتهد عادل لو كان بناء العقلاء على عدم الاعتناء يلتزم فيه، حتى صاحب المستند - على القاعدة - بعدم سماعها، كما لو وجد شرير متغلب يدعي كل يوم دعوى سخيفة على أحد المجتهدين العدول، أترى القاضي بعد تكرر عدة حوادث خلال مدة قصيرة وعدم قدرة الشرير على الإثبات، أتراه يسمع دعواه السادسة والسابعة و... ويحضر ذلك المجتهد العادل إلى المحكمة ويستحلفه ويسير معه حسب ضوابط المدعي والمدعىعليه...؟! بل الأمر كذلك حتى في المرة الواحدة مع الاطمئنان بكذبه.

ولذا قال في الجواهر:

(وبالجملة فالمدار على ما يتعارف من الخصومة بسببه، سواء كان بجزم أو ظن أو احتمال، أما ما لا يتعارف الخصومة به كاحتمال شغل ذمة زيد أو جنايته بما يوجب مالاً أو نحو ذلك مما لا يجري التخاصم به عرفاً فلا سماع للدعوى فيه).(1)

وليس استشهادنا بصغرى كلامه حتى يستشكل ب(أما العرف فإنهم يراجعون في مثل ما نفاه ويدل عليه الحضور في المحاكم ليشاهد الإنسان ذلك بأم

ص: 130


1- جواهر الأحكام: ج40 كتاب القضاء ص156.

عينيه)(1)، بل بالكبرى: و(أن ما لا يجري التخاصم به عرفاً فلا سماع للدعوى فيه).

ثالثاً: النقض بقاعدة اليد وأشباهها، فمع أن اليد أمارة الملكية بلا شك، مع ذلك تسمع دعوى الخارج الذي ادعى ملكيته لها، ويستدعى ذو اليد للمحكمة، فهل يصح لأحد أن يقول: (لو كان بناء الفقهاء على أمارية اليد، لزم عدم سماع دعوى الخارج على ذي اليد)؟

رابعاً: إن سماع الدعوى لا يعني تصديقها وقبولها، بل لا يعني إلاّ استدعاء المدعى عليه وطلب البينة من المدعي، ثم مع فقدها إحلاف المنكر ثم المدعي إن نكل، فسماعها إنما هو نوع من (الفحص) أو مقدمة له، ومن الواضح عدم المنافاة بين حجية ظن وبين كون فعليتها متفرعة على الفحص عن المعارض أو الحاكم والوارد والمخصص، ألا ترى العام رغم حجيته متوقفة حجيته الفعلية على الفحص عن المخصص وشبهه.

وأما قوله: (ولزم أن يقضى بالشاهد الواحد...) فيعلم جوابه مما سبق، إضافة إلى أن ردع الشارع عن العمل بظن معين مما لا إشكال فيه، وقد ردع هنا لحصره بالشاهدين.

وبعبارة أخرى: إن عدم العمل بهذا الظن قد يكون لعدم المقتضي، وقد يكون لوجود المانع، ولا يكون الأعم دليل الأخص،فتدبر جيداً.

هذا، ويحتمل في كلام المرحوم النراقي (قدس سره) احتمال آخر، لكن لا يلائمه التمثيل بالتقية، كما لا يصح سوق التقية والشهادة بعصى واحدة، كما لا يلائمة التصريح بالنيابة مناب الحكم الواقعي، فليدقق.

ص: 131


1- الفقه: كتاب القضاء ج1 ص196.

هذا، ويؤيد الطريقية، بل يدل عليها في باب الشهادة العديد من القيود والشروط المعتبرة في حجيتها في لسان الروايات.

ولنختم الكلام إذ طال بنا المقام، ولربما ذكرنا تفصيل ذلك وموارد أخرى عديدة دالة على أصالة الطريقية في المجلد الثاني من الكتاب بمناسبة أخرى، والله المستعان.

ص: 132

القسم الثاني: الاستدلال بالآيات الكريمة

الفصل الأول: في الاستدلال بالآية الكريمة : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)

اشارة

ص: 133

ص: 134

آية الشورى
اشارة

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).(1)

ولا ريب في دلالتها على الرجحان، لكونها صفة من صفات المؤمنين(2)، ولكون (ما عند الله) لمن اتصف بهذه الصفة وما سبقها ولحقها، بل لبداهة أن المقام مقام المدح والثناء.

أما دلالتها على الوجوب، فتتوقف على إحدى وجوه على سبيل منع الخلو:

الوجه الأول: الأصل في ما عدّ صفة للمؤمن، وجوب تحصيله

كون الأصل في ما يعدّ صفة للمؤمن أنه واجب التحصيل، لكون الصفة بمنزلة المعرِّف الذي ينتفي المعرَّف عند انتفائه، ولكونها جملة أسمية، وظاهرها

ص: 135


1- سورة الشورى: 36-39.
2- إن كان (وعلى ربهم يتوكلون) وما بعده عطفاً تفسيرياً كان عدّ الشورى من صفاتهم مستفاداً من منطوق الآية، وإلا - بأن أريد من (آمنوا) الإيمان بالمعنى الأخص وهو الإيمان بالله أو مع سائر أصول الدين - كان مستفاداً من السياق، أو يقال إنه قسيم للإيمان مطلوب ومرغوب فيه.

الاستقرار والثبوت، فتدل على كونها صفة ثابتة للمؤمنين، ولكون الظاهر هو ذلك، ولذا كان قوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(1)، دالاً على وجوب الإعراض عنه وحرمة اللغو عرفاً، إما لكونه إخباراً في مقام الإنشاء، أو لتوقف الفلاح عليه(2)، وكذا سائر الآيات، وأما عدم وجوب الخشوع في الصلاة فللدليل الخارجي، وإلاّ كان مقتضى القاعدة وجوبه.

وكان قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ)(3)، دالاً على الحرمة.

وكذا قوله تعالى: (وَالمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(4)، دالاً على وجوب التربص.

وكذا قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ... * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً * وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(5)، دالاً على الوجوب، وما علم استحبابه فذلك لقرينة من خارج.

وكذا قوله تعالى: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(6)، فتأمل.

ص: 136


1- سورة المؤمنون: 3.
2- وفيه تأمل بل تأملات.
3- سورة المائدة: 41.
4- سورة البقرة: 227.
5- سورة الفرقان: 67-73.
6- سورة الحج: 31.
إشكالات وأجوبة
اشارة

ولكن قد يورد عليه:

أولاً: النقض بكثير من الصفات المذكورة في الآيات والرواياتالشريفة للمؤمن، وهي غير واجبة التحصيل، كالصبر والخشوع في الصلاة والاكتحال والتختم باليمين وغير ذلك، فلو سلم كون الأصل في ما عدّ صفة للمؤمن وجوب التحصيل فالمجاز الغالب يقتضي الاستحباب.

وثانياً: بأن الوجوب أو الحرمة فيها مستفادة من مناسبات الحكم والموضوع، أو المتعلق، أو ارتكاز المتشرعة، أو غير ذلك، لا من صرف وقوعها وصفاً وصفةً.

وثالثاً: الحل، بأن الإيمان درجات، ولكل درجة صفات وعلائم، فأصل الإيمان واجب التحصيل وكذا صفاته غير المنفكة عنه أو مطلقاً، فتأمل، أما كمال الإيمان فلا، ولا يعلم كون هذه الصفة المذكورة في الآية الشريفة صفة أصل أم صفة كمال، فلا يمكن الالتزام بالوجوب مع الشك في موضوعه، وأيضاً: فإن كون الشيء صفة ثابتة للمؤمنين أعم من الوجوب والاستحباب.

ويمكن الإجابة عن الأول: بأنه لا مجاز أصلاً(1)، بل صرف الغلبة(2)، وعلى تقديره فيمكن الإجابة بنظير(3) ما أجابوا به من ادعى عدم ظهور الأمر في

ص: 137


1- إذ الصفة استعملت في الموضوع له، ووجوب التحصيل وعدمه في رتبة لاحقة وهي رتبة المحمول وعلى أي فقد استفيدت من الحكم العقلي (بلحاظ أنها جعلت صفة للمؤمن) لا من الوضع فلا مجاز وإن كانت مندوبة.
2- أي غلبة إرادة الندب من جعل الشيء صفة للمؤمن.
3- قلنا (نظير) إذ هناك الوجوب بالوضع وهنا بدلالة العقل.

الوجوب، لكون الندب مجازاً غالباً، فإن مجرد الغلبة لا تسبب الخروج عن الأصل في الموارد المشكوكة ما لم تبلغ حد النقل، أو التكافؤ والإجمال، ولو سلمت الغلبة في الروايات فلا تسلم في الآيات.

وعن الثالث: بكون الأصل أن تكون الصفة صفة الأصل لا صفة الكمال.

أو يقال بأن الشك في العنوان والمحصل، فاللازم الاحتياط بتحقيق تلك الصفة، وفيه نقاش صغرىً وكبرىً فتدبر.

وعن الثاني: بأن الاستدلال لم يكن بالاستقراء ليجاب بوجودوجوه أخرى، بل بالأصل لو تمّ، فلا بد من جواب آخر كالأول والثالث، إذ لا مانعة جمع بين الأصل لو تمّ وتلك الوجوه، فتأمل.

ص: 138

الوجه الثاني: دلالة السياق على الوجوب
اشارة

دلالة السياق على الوجوب، بأن يكون ما سبق وما لحق للوجوب، فيكون قرينة على وجوب المتوسط، قال تعالى: (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).(1)

المناقشة

ويرد عليه:

أولاً: إن ذلك مبني على حجية قرينة السياق، لكن المشهور العدم، فلا تعدو كونها مؤيداً، إلاّ أن تعضد بمناسبات الحكم والموضوع وشبهها.

ثانياً: لا سياق، إذ أن بعضها للاستحباب، كالتوكل والغفران والإنفاق.

وفيه: إمكان أن يقال بالوجوب في الجملة، أو في بعض المراتب.

اللهم إلا أن يقال بالشهرة على الاستحباب.

وفيه: إنها في بعض المراتب الأخرى، وفي بعض الصور، فتدبر

قال السيد الوالد (دام ظله): (وثانياً: التوكل قسمان، واجب ومستحب، فإن إيكال الأمر إلى الله سبحانه وتعالى فيما ليس من صنع الإنسان من لوازم

ص: 139


1- سورة الشورى: 36-39.

الإيمان، وقد ورد في الآيات والروايات الأمر بذلك، وألمعنا إليه في (الفقه: الواجبات والمحرمات) أماالغفران في قبال الاسترسال في المعاصي من جهة الغضب - كما هي عادة كثير من الناس حيث إنهم إذا غضبوا فعلوا المحرم بالنسبة إلى المغضوب عليه - فواجب، نعم لا يجب بالنسبة إلى القدر المحتاج إليه مما أشار إليه سبحانه بقوله: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(1)، وقوله تعالى: (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ)....).(2)، والإنفاق أيضاً على قسمين، فالواجب منه كالزكاة والخمس وشبههما، والمستحب غيره.

ولكن قد يناقش: بأن التوكل إذا كان على قسمين كان (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) مبهماً مردداً بينهما، أو كان لمطلق الرجحان فلا يتم كون السياق للوجوب، ولا يندفع ما ذكره بقوله: (ولا يستشكل بأن التوكل وغفران الذنب ليسا واجبين)(3)، نعم جوابه الأول تام.

اللهم إلاّ أن يقال بعدم إضرار استثناء فقرة أو فقرتين أو أكثر، بكون السياق للوجوب أو مع الغلبة أو المساواة أو المقاربة، أو يقال بكون ما سبق ولحق مما هو ظاهر في الوجوب قرينة على كون (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) من القسم الأول وهو (الواجب)، أو يقال بما ذكرناه من دلالة الآية عرفاً على وجوب المذكورات فيها، ومنها التوكل مطلقاً، خرج ما خرج منه بالدليل، فليتأمل.

ثم إن دلالة قرينة خارجية على كون بعض الفقرات للاستحباب لا يخرج سائر الفقرات عن ظاهرها، كما التزموا بذلك في أوامر متعددة قام الدليل الخارجي على كونها ما عدا واحداً للاستحباب، فلا يخرج ذلك الواحد عن

ص: 140


1- سورة البقرة: 194.
2- الشورى في الإسلام: ص14.
3- الشورى في الإسلام: ص13.

ظاهره بذلك، خاصة مع سبق هذه الفقرة بالصلاة ولحوقها بالزكاة الواجبتين، لكنه موقوف على ثبوت الظهور، فتدبر.

الوجه الثالث: توقف (الخير من الله) على توفر صفات منها الشورى

دلالة الآية الشريفة على أن ما عند الله خير ثابت فقط لمن تجمعت فيهم الصفات التالية، ومنها: الشورى في أمرهم، فمن لم تتوفر فيه تلك الصفات لم تكن (الخيرية من الله) له، فتدل على وجوب توفير تلك الصفات بأجمعها.

ويرد عليه: إنه ليس كل خير واجب التحصيل ومحرم الترك، وليس كل ما عند الله كذلك، فتأمل.

الوجه الرابع: (أمرهم) إنشاء بصيغة إخبار
اشارة

كون (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) إنشاءً بصيغة الإخبار.

ولكن قد يقال: بأنه خلاف الظاهر، وقد يجاب بان الأصل في كلام الشارع الإنشاء لكون الأصل في كلماته المولوية، وفيه تأمل(2).

ص: 141


1- سورة الشورى: 38.
2- قد فصلنا الكلام عن الأصل في كلام الشارع، في كتاب الأوامر المولوية والإرشادية.
دلالة الآية على مطلوبية الشورى قبل وبعد الحكم

ثم إنه لا يخفى دلالة الآية على مطلوبية الشورى، سواء قبل الوصول للحكم أم بعده؛ لكون الآية مطلقة.

وأما ما ذكره في المجمع: (وقيل: إن المعني بالآية هم الأنصار، كانوا إذا أرادوا أمراً قبل الإسلام وقبل قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) اجتمعوا وتشاوروا ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك، وقيل: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وورود النقباء عليه حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له)(1)، فلا ينفي دلالتها على مطلوبية مطلق الشورى، لكون المورد لا يخصص الوارد، وكون ذلك من قبيل المصداق فلاحظ، هذا لو لم نقل بظهورها في كونها إخباراً في مقام الإنشاء، كما سيأتي.

وقال في الصافي: (ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تيقظهم في الأمور).(2)

وأما ما قاله القمي: (يشاورون الإمام فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم) فلا ريب في أنه تفسير بالمصداق أو أجلى المصاديق، إذ لا ريب في عمومية الآية، خاصة مع وجود كلمة (بينهم)، إضافة إلى إمكان القول بعدم صدق (أمرهم شورى بينهم) على ما لو كان التشاور من طرف واحد، فتأمل.

إضافة إلى أن تخصيص (أمرهم) بأمر دينهم، فيما لو أريد خصوص المحمولات الشرعية بلا مخصص، كما سيأتي.

ص: 142


1- مجمع البيان: ج9 ص33.
2- الصافي، للفيض الكاشاني: ج25 ذيل الآية الشريفة.
دلالة الآية على عموم مطلوبية الشورى

كما لا يخفى دلالتها على عمومية مطلوبيتها في كافة الشؤون، لكون (أمر) مفرداً مضافاً، وهو مفيد للعموم أو الإطلاق، مثل قوله (عليه السلام): (كلامكم نور وأمركم رشد)(1)، أو قولنا: (أمره التقوى أو التواضع).

قال في المسالك: (إن جعلنا المفرد المضاف مفيداً للعموم كما هو رأي المحققين من الأصوليين كما أشرنا إليه سابقاً)(2).

وقال في الجواهر مثله.(3)

ويستثنى منه كلما لم يكن من شأنه المشورة فيه، ككثير من صغائر الأمور، وكثير من الأعمال اليومية.

ص: 143


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص615 زيارة جامعة لجميع الأئمة عليهم السلام.
2- المسالك: ج2 ص286 كتاب القضاء المسألة الثامنة.
3- الجواهر: ج40 ص63 كتاب القضاء المسألة الثامنة.
الاعتراض بالآيات التي تذم الأكثرية
اشارة

وربما يعترض على لزوم اتباع الأكثرية بالآيات الشريفة الواردة في ذم الأكثرية، وكونها جاهلة غير عالمة، مثل قوله تعالى: (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1).

وقوله سبحانه: (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(2).

وقوله تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(3).

وقوله سبحانه: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(4).

وقوله تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).(5)

* والجواب من وجوه:

ص: 144


1- سورة يوسف: 40.
2- سورة يوسف: 21.
3- سورة يونس: 36.
4- سورة الأنعام: 16.
5- سورة الأنعام: 111.
القدح لأكثر الناس لا لأكثر الفقهاء والخبراء

أولاً: إن الآيات الشريفة صغرى لكبرى يضمها المستدل إليها لتنتج المقصود، والكبرى هي (والذين لا يعلمون لا يجوز اتباعهم)(1)، وحينئذٍ نقول: إن أكثرية شورى الفقهاء وأكثرية أهل الخبرة خارجة خروجاً موضوعياً عن الكبرى، ومحمولياً عن الصغرى، إذ لا يصح القول بأن الأصوليين ممن لا يعلمون الأصول، أو الفقهاء ممن لا يعرفون الفقه، أو الأطباء ممن يجهلون الطب.

ولا تنافي بين كون أكثرية الناس لا يعلمون، وكون أكثرية أهل الخبرة فيما هم خبراء فيه ممن يعلمون، ولا تلازم بينهما، فلا يدل أحدهما على الآخر، ولذا لو قال: أكثر الناس لا يعرفون الصلاة، صح أن يقول: ولكن أكثرية المتدينين يعرفونها، أو أكثرية الناس لا تعرف الطب ولكن أكثرية الأطباء بل كلهم يعرفون الطب، وفي الآيات الشريفة لو فرض أن معنى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون الحق، لم يناف القول ب- (أما أكثرية علماء المسلمين بل كلهم فيعلمون الحق) في قبال الكفار، أو (أكثرية علماء الشيعة يعلمون الحق) في قبال أهل العامة.

ولأجل ما ذكرناه من كون أكثرية أهل الخبرة ممن يعلمون، لا ممن لا يعلمون، قال (عليه السلام): (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(2).

ص: 145


1- أو (والذين يتبعون الظن لا يجوز اتباعهم)، ومن الواضح كون المراد من الأوسط هو الظن غير المعتبر، وكذا (وإن تطع أكثر من في الأرض - ممن يتبعون الظن غير المعتبر شرعاً - يضلونك).
2- الكافي: ج 1 ص 68 ط دار الكتب الإسلامية طهران، ونص الرواية هكذا (... ويترك ◄ ► الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه...)

ولا تنافي - كما بيناه - بين الإرجاع لما انتخبته الأكثرية في هذهالرواية، وبين كون الأكثرية مذمومة في الآيات، لكون الأكثرية المذمومة هي الأكثرية الجاهلة، والممدوحة هي الأكثرية العالمة، لأن أكثرية أهل الخبرة هي ممن تعلم لا ممن لاتعلم.

الذم معلل باتباع الظن غير المعتبر

وثانياً: إن ذم اتباع الأكثرية معلل في بعض الآيات، فيدور الحكم مدار العلة وجوداً وعدماً، قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)(1)، فقد بيّن جل وعلا علة كون إطاعة الأكثرية مضلة بكونهم يتبعون الظن(2)، فلو كانت الأكثرية - كأكثرية الفقهاء - متبعة للعلم والعلمي أي الظن المعتبر، لما كانت مضلة، فاتباع الأكثرية الظن غير المعتبر شرعاً وعقلاً هو سبب ضلالها وإضلالها، دون ما لو اتبعت الظن المعتبر وما جعله الشارع حجة، والمفروض أن أكثرية شورى الفقهاء - لفرض كونهم عدولاً جامعين للشرائط - يتبعون اجتهاداتهم عن الطرق المجعولة شرعاً، ولذا نجد أن أتباع أكثرية الشيعة في قولهم بعصمة المعصومين الأربعة عشر يعدّ هادياً لا مضلاً، لكونه اتباعاً للعلم أو للعلمي(3)، لا للظن غير المعتبر.

ص: 146


1- سورة الأنعام: 16.
2- قال في الميزان: (فإن الجملة أعني قوله وإن هم إلا يخرصون والتي قبلها أعني قوله إن يتبعون إلا الظن واقعتان موقع التعليل لقوله وإن تطع أكثر من في الأرض)، الميزان: ج7 ص330.
3- هذا تنزلاً، وإلا فإنه من العلم بلا ريب.

وكذا قوله تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(1)، فإنه دال على مذمومية اتباع الأكثرية للظن غير المعتبر، فلو اتبعوا الظن المعتبر لما كان ذم إطلاقاً، كما أن في اتباع الفقيه الواحد لا ذم، بل الموجود هو المدح فقط، مع أن الفقيه كسائرالخبراء والمتخصصين يعتمد الظواهر والظنون النوعية.

قال السيد الوالد (دام ظله): (... إن الله لم يذم الأكثرية مطلقاً، بل ذمهم في زمان كون الأكثرية منحرفة عن سبيل الله، ولذا لم يكن الأمر كذلك فيما إذا كانت أكثرية نسبية، كما في (سبيل المؤمنين) إذا ذهبوا إلى شيء، أو كان أكثرية مطلقة، إذا كل أهل الأرض مؤمنين كما في زمان الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكما في زمان نوح (عليه السلام) بعد نجاته من السفينة حيث لم يبق إلاّ المؤمنون)(2).

فالقضية خارجية أو حينية شرطية، لا مطلقة حقيقية، بدلالة العقل، لا من باب مخصصية المورد للوارد.

وقد يعترض بأنه إذا علم بكون الأكثرية على الحق أو على الباطل فلا كلام، وليس هذا محل النزاع، أما لو جهل فإن مفاد الآية أن الأكثرية لا يتبعون إلاّ الظن غير المعتبر فليس رأيهم حجة.

والجواب: إن مرجع الضمير في (أكثرهم) و(أكثر الناس) واضح محدد، وهو أكثرية الكفار والمشركين وشبههم، ولا ريب في عدم إرادة (أكثر علماء الشيعة) أو (أكثر علماء المسلمين بما فيهم علماء الشيعة)، على أن مرجع الضمير لو جهل لما تم الإطلاق أبداً.

ص: 147


1- سورة يونس: 36.
2- الفقه: كتاب الحكم في الإسلام: ص45.
الآيات خاصة بشؤون العقائد

ثالثاً: إن الآيات مختصة بشؤون العقائد وشبهها، وهي المتعلقة ل: (لا يعلمون)، مثلاً قوله تعالى: (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1)، أي لا يعلمون كون الله غالباً على أمره(2)، وكذا قوله تعالى: (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3)، أي لايعلمون أن ذلك هو الدين القيم، وكذا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(4).

قال الطوسي (قدس سره) في التبيان: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون: صحته وصدقه لجهلهم بالله وجحدهم نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله)، و: ذلك الدين القيم ولكن أكثر لا يعلمون: صحة ما أقوله لعدولهم عن الحق والنظر والاستدلال، و: ولكن أكثر الناس لا يعلمون: صحة ذلك لكفرهم وجحدهم أنبياءه).

وقال في الميزان: (غير أن المشركين أكثرهم - ولعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم ويتعلقون بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها).(5)

وقال الفخر الرازي: (قال أصحابنا: المراد يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره، وقالت المعتزلة: المراد أنهم جهلوا أنهم يبقون كفاراً عند ظهور

ص: 148


1- سورة يوسف: 21.
2- راجع تفسير الميزان: ج11 ص112، والتفسير الكبير: ج18 ص110.
3- راجع تفسير الميزان: ج11 ص178، والتفسير الكبير: ج18 ص142.
4- سورة الأنعام: 111.
5- تفسير الميزان: ج7 ص320.

الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك)(1).

ويؤيد الاختصاص قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(2).

وقوله سبحانه: (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(3).

وقوله تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(4).

فهي غير مرتبطة بالموضوعات الخارجية والشؤون العامة مما يرتبط بإدارة الدولة ظاهراً.

وكذا قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْسَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(5) قال الفخر الرازي: (المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلاّ الظن وهم خراصون كذابون في إدعاء القطع، وكثير من المفسرين يقولون: المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلاً).(6)

وقوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ

ص: 149


1- التفسير الكبير: ج13 ص152 ذيل الآية الشريفة.
2- سورة غافر: 59.
3- سورة يوسف: 103.
4- سورة يوسف: 38.
5- سورة يونس: 66.
6- التفسير الكبير: ج13، ص163.

كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1).

وكذا الآية 17 من سورة هود، وسيأتي ذكرها.

وقوله سبحانه: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(2).

وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3).

وقوله سبحانه: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(4).

وقوله تعالى: (­بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(5).وكذا الآية 30 من سورة الروم، وكذا الآية 28 من سورة سبأ، وغير ذلك من الموارد فلتراجع.

كما أن مرجع الضمير في كثير من الآيات إنما هو لأهل الكتاب من الأمم السابقة، أو غيرهم، أو غير ذلك مما يتعلق بشؤون العقائد، كقوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(6).

ص: 150


1- سورة الأعراف: 187.
2- سورة النحل: 38.
3- سورة يوسف: 40.
4- سورة يوسف: 102-103.
5- سورة الروم: 5-6.
6- سورة المائدة: 59.

وقوله سبحانه: (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(1).

وقوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(2).

وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(3).

وقوله تعالى: (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ * وَما وَجَدْنا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى...).(4)

وقوله سبحانه: (فَإِذا جاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(5).

وقوله تعالى: (وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لايَعْلَمُونَ)(6).

ص: 151


1- سورة المائدة: 103.
2- سورة الأنعام: 37.
3- سورة الأنعام: 111.
4- سورة الأعراف: 101-103.
5- سورة الأعراف: 131.
6- سورة الأنفال: 34.

وقوله سبحانه: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(1).

وقوله تعالى: (أَلا إِنَّ للهِ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(2).

وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(3).

وقوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(4).

وقوله سبحانه: (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(5).

وقوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(6).

ص: 152


1- سورة التوبة: 7-8.
2- سورة يونس: 55.
3- سورة هود: 17.
4- سورة يوسف: 38.
5- سورة الرعد: 1.
6- سورة النحل: 101.

وقوله سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ).(1)ولنقف على هذا العدد وعلى غرار ذلك سائر الآيات الشريفة، فراجع سورة الفرقان: الآيات 41-44 و50، والشعراء: الآيات 1-8 والآية 68 مع ملاحظة ما سبقها ولحقها، وكذا الآية 103، وكذا 121، وكذا 139، وكذا 158، وكذا 174، وكذا 190، وكذا 223، وكذا سورة النمل: الآية 61، والقصص: الآية 13 و57، وسورة الروم: الآية 42، وسورة سبأ: 41، ويس: 7، والصافات: 71، إلى غير ذلك من الموارد، فلتراجع.

ص: 153


1- سورة الأنبياء: 24.
ليست الآيات في مقام البيان

رابعاً: ما ذكره لي بعض كبار أساتذة بحث الخارج: من أن هذه الآيات لا إطلاق فيها، لعدم كونها في مقام البيان حسب مبناه (دام ظله) من أن مطلقات القرآن ليست في مقام البيان، بل في مقام أصل التشريع أو شبهه، فتأمل.

ليس أكثر الفقهاء أكثر الناس

خامساً: ما ذكره لي أيضاً أستاذ آخر من كبار أساتذة الخارج: من أن الآيات ذكرت أن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يصدق (أكثر الناس)، وهو الموضوع في الآية على أكثرية الفقهاء أو أكثرية الأطباء مثلاً، فهل يقال لأكثرية الفقهاء أكثر الناس، أو أكثرية البشرية أو ما أشبه؟ فالخروج موضوعي حسب نظره، خاصة إذا لاحظنا أن أكثر الفقهاء مثلاً لا يشكلون واحداً بالمائة ألف من الناس، فكيف يصدق عليهم أكثر الناس؟ إنما الصادق قسيمه.

ومرجع هذا الجواب إلى الجواب الأول، فتدبر.

ص: 154

الآيات مخصصة بمثل (سبيل المؤمنين)

سادساً: إنها مخصّصة بمثل (سبيل المؤمنين) في قوله تعالى: (وَيَتَّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ)(1)، ومثل (خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ)(2)، ولكن ذلك بناء على أن المراد ب- (سبيل المؤمنين) الأعم من السبيل الذي عليه مشهورهم أو أكثرهم.

لكن قد يقال: بأن المراد به السبيل الثبوتي الواقعي، ولا يعلم أن سبيل أكثرهم هو هو.

وقد يجاب: بأن الموضوعات والمتعلقات الثبوتية لا طريق إليها إلاّ الحجج، ومنها الشهرة بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وقول أكثر الفقهاء بأمر.

وقد يردّ - إضافة إلى الإشكال في المبنى -: بأن المرتكز في الأذهان من (سبيل المؤمنين) ما هم عليه من أصول الدين والمذهب، ولا يعم الرأي في الأحكام الشرعية، فكيف بالشؤون العامة، فتأمل.

وتحقيق المراد بالآية قد نتطرق له في بحث لاحق إذا وفقنا الله تعالى.

ص: 155


1- سورة النساء: 115.
2- غوالي اللئالي: ج4 ص133.

ص: 156

الفصل الثاني: في الاستدلال بالآية الكريمة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)

اشارة

مع التطرق للعديد من الإشكالات والأجوبة عنها

ص: 157

ص: 158

آية (وشاورهم)
اشارة

قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم:

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1).

ربما يستدل بهذه الآية الكريمة على وجوب الاستشارة في الأمور التي تتعلق بالأمة والشؤون العامة، بل وعلى وجوب الاستشارة في كل أمر يتعلق بمجموعة مما يعدّ أمراً لهم، بل وعلى وجوب الشورى والعمل برأي المشيرين أو أكثريتهم فيما عدّ من أمورهم، إما استناداً إلى الآية الكريمة بمفردها، أو بضميمة الروايات الكثيرة الدالة على لزوم (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) مما أفردنا له فصلاً خاصاً من فصول الكتاب.

ثم إنه إذا ثبت وجوب الاستشارة، ثبتت حرمة المنع، ووجوب ردع المانع، ووجوب السعي والطلب وشبهه، مما طرحناه في فصل آخر.

وإذا تمّ الاستدلال على إحدى تلك المسائل أفاد وجوب الاستشارة، ووجوب الشورى على المتصدين للشؤون العامة وأمور الأمة، سواءً أكانوا فقهاء أم غيرهم.

فإذا كنا من القائلين بولاية الفقيه العامة، أفاد الاستدلال بالآية أو

ص: 159


1- سورة آل عمران: 159

نظائرها(1) مما سبق أو يأتي، أن على الفقيه الاستشارة من سائر الفقهاء والخبراء، بل ومن عامة الأمة، عبر السبل والطرق المختلفة، في شؤون الحكم والأمور العامة، بنحو الوجوب، بل وجب عليهالعمل برأي أكثرية شورى الفقهاء وأكثرية الخبراء من أهل الحل والعقد، وأكثرية الناس بما يصدق عليه بالحمل الشايع الصناعي: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2)، إذا تمت دعوى صحة سلب (كونهِ شاوَرَهم) إذا خالف مقتضى مشورة أكثريتهم، أو تم الاستدلال بالآية الأخرى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(3)، أو تم الاستدلال بالآية بضميمة روايات: (أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ أَطَاعَ الْعُقَلاء)(4)، و: (اسْتَشِرِ الْعَاقِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْوَرِعَ فَإِنَّهُ لا يَأْمُرُ إِلاّ بِخَيْرٍ وَإِيَّاكَ وَالْخِلافَ فَإِنَّ خِلافَ الْوَرِعِ الْعَاقِلِ مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا)(5)، وغيرها مما سيأتي في فصل الأحكام السبعة.

كما أنه سيأتي أن وجه وجوب العمل بالأكثرية حينئذٍ مع القول بولاية الفقيه العامة هو حكومة أدلة الشورى والاستشارة على أدلة الولاية.

واما إذا لم نكن ممن يرى ولاية الفقيه، فإن الآية تفيد وجوب الاستشارة والمشورة والشورى على كل متصدٍ للحكم بالحق، كما لو كانوا عدول المؤمنين، أو كانوا ممن رضيت أكثرية الناس بحكومتهم، على المسالك المختلفة.

بل يستفاد أيضاً وجوب الاستشارة والمشورة على المتصدي للحكم بالباطل، بالأولوية، أو لبداهة تعدد المطلوب في كونه حاكماً بالحق وباجتماع الشروط فيه، وكونه حاكماً بالمشورة والشورى لا الاستبداد.

ص: 160


1- ك- (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، والروايات والعقل كما فصلناها في أبوابها.
2- سورة آل عمران: 159
3- سورة الشورى: آية 38.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص186.
5- المحاسن: ج2 ص602.

وتفصيل البحث عن ذلك بمناقشاته يتم ضمن التطرق للإشكالات التي أوردت أو يمكن أن تورد على الاستدلال بهذه الآية الكريمة، فنقول وبالله نستعين:

الإشكال الأول: عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى فلا تجب على غيره

ربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الاستشارة ووجوب اتباع الأكثرية: بعدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بمبدأي الاستشارة والاتباع، مما يستكشف منه ب- (برهان الإنّ) عدم وجوبها عليه، وإلاّ لما تركها في أحيان كثيرة، فلا مناص من ارتكاب التجوز بحمل الأمر على الاستحباب، لأجل هذه القرينة المقامية، لكون فعل المعصوم (عليه السلام) حجة فيصلح صارفاً للأمر عن معناه الحقيقي.

وإذا لم يستفد من هذه الآية وجوب الاستشارة والشورى على الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يستفد منها وبطريق أولى وجوبها على الآخرين، لكون النبي (صلى الله عليه وآله) مخاطباً بها، فإذا وجبت على الآخرين دونه لزم خروج المورد وتخصيصه، وهو قبيح لا يجوز على الحكيم ارتكابه.

ويمكن الجواب بوجوه عديدة:

ص: 161

الجواب الأول: الأدلة قائمة على عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى

الدليل قائم على عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى في العديد من الشؤون العامة(1)، وقد وردت بذلك روايات عديدة.

بحث إجمالي عن حجية روايات عمله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشورى:

وهذه الروايات وغيرها مما سيأتي يمكن إثبات حجيتها بإثبات تواتر مضمونها، أو بإثبات تواترها الإجمالي، وإلاّ فلا تكون أكثر من روايات مستفيضة نقلها الأصحاب، فلا تتعدى كونها مؤيدة لا دليلاً.

روايتها في تفسير القمي

نعم يمكن تصحيح أكثر الروايات التي نقلناها في هذا الباب، باعتبار ذكرها في تفسير علي بن إبراهيم القمي (قدس سره) على بعض المسالك الرجالية.

قال في معجم رجال الحديث: ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم الذين روى عنهم في تفسيره، مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، فقد قال في مقدمة تفسيره: (ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا

ص: 162


1- مع ضميمة أنه لا دليل على العدم في غيرها مما لا وجه آخر له كالوحي السماوي أو كتفويض الناس الأمر في تلك الحادثة المعينة إليه (صلى الله عليه وآله) أو غير ذلك مما سيأتي، لوضوح أن الشورى خاصة بغير موارد الوحي الإلهي، وأن تفويض الأمة الأمر إليه في حادثةٍ يعود إليها - إلى الشورى - في الحقيقة.

من مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم)، فإن في هذا الكلام دلالة ظاهرة على أنهلا يروى في كتابه هذا إلاّ عن ثقة، بل استفاد صاحب الوسائل في الفائدة السادسة - في كتابه في ذكر شهادة جمع كثير من علمائنا بصحة الكتب المذكورة وأمثالها وتواترها وثبوتها عن مؤلفيها وثبوت أحاديثها عن أهل بيت العصمة عليهم الصلاة والسلام - إن كل من وقع في أسناد روايات علي بن إبراهيم المنتهية إلى المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) قد شهد علي بن إبراهيم بوثاقته، قال: (وقد شهد علي بن إبراهيم أيضاً بثبوت أحاديث تفسيره وأنها مروية عن الثقات عن الأئمة عليهم الصلاة والسلام).

أقول: إن ما استفاده (قدس سره) في محله، فإن علي بن إبراهيم يريد بما ذكره إثبات صحة تفسيره، وأن رواياته ثابتة وصادرة عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم بلا واسطة كما زعمه بعضهم).(1)

أقول: الظاهر من عبارة علي بن إبراهيم أمران:

ألف: إن كل ما ذكره وأخبر به في كتابه قد انتهى إليه من مشايخه الثقات، سواء ذكر سلسلة السند أم لا، لمكان الاطلاق، إذ لم يقيد توثيق مشايخه الذين روى عنهم بالمذكور اسمه في كتابه، ولذا قال البعض بأن مراسيله كالصحاح.

ب: إن إخباراته كلها تنتهي إلى المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وقد استفاد ذلك صاحب الوسائل أيضاً على ما يظهر من عباراته، اللهم إلا أن يكون مراده بالأحاديث المعنى الاصطلاحي لا اللغوي، وفيه: أنه تقييد لعبارة القمي بدون جهة، إذ قد عبّر (قدس سره): (ذاكرون ومخبرون)، فتأمل.

ص: 163


1- معجم رجال الحديث: ج1 ص49-50.

وعلى هذا فلا موجب لتخصيص التوثيق بمسانيده دون مراسيله، مع ظهور عبارته في توثيق الكل، هذا كبرى.

وأما صغرى: فروايات الاستشارة المنقولة في كتابه المذكور ههنا، إن كانت من تتمة ما نقله بسنده كانت صحيحة بلا إشكال،لكونها مسانيد قد ذكر مشايخه فيها، وإن كانت كلاماً مستقلاً كانت مراسيل، واحتجنا في إثبات صحتها إلى هذه المقدمة التي قدمناها.

ولتحقيق حال الصغرى لا بأس بالتطرق إلى كل واحدة واحدة منها(1):

فأما الرواية المذكورة في ضمن تفسير سورة الأنفال ص258 من الجزء الأول، فقد ذكر في أول السورة ص254: (فحدثني أبي عن فضالة بن أيوب، عن أبان بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال (عليه السلام): .. وقال: نزلت يوم بدر...)، فإن كان (وقال) تكملة كلام أبي عبد الله (عليه السلام)، وكذا (فإنها نزلت...)، وكذا (... فقال (كما أخرج)...) كانت الرواية مسندة، والرواة موثقين توثيقاً خاصاً في الكتب الرجالية، وعاماً بتوثيق علي بن إبراهيم، وإلا كانت مرسلة، واحتجنا إلى تلك المقدمة لإثبات حجيتها.

وأما الرواية الأخرى المذكورة ضمن تفسير سورة الأحزاب ص177 من الجزء الثاني، فالظاهر إرسالها.

وأما رواية: (لما قتل (صلى الله عليه وآله) النضر بن حارث..) المذكورة في ج2 ص270، فالكلام فيها هو الكلام في الأولى.

وأما الرواية المذكورة ضمن تفسير سورة آل عمران ج1 ص126،

ص: 164


1- سنذكر نصوص هذه الروايات مع بحثها الدلالي بعد تمامية هذا البحث السندي إن شاء الله تعالى.

فكالثانية.

وأما الرواية المذكورة في ج1 ص126، فكالثانية أيضاً.

والمذكورة في ص270 وهي كالأولى.

والظاهر للملاحظ أن هذه الروايات كلها من تفسير علي بن إبراهيم، وليست من روايات تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن قاسم بن حمزة بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ويمكن توضح ذلك أكثر بمراجعة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة): الجزء الرابع ص304 - 305، ذيل الحديث عن تفسير القمي، حيث ذكر الضابط في التفريق بين تفسير علي بن إبراهيم وبين ما نقله تلميذه، فليراجعمع إشارته ص308 إلى عدم قصور تفسير أبي الجارود في الاعتبار عن تفسير علي بن إبراهيم، هذا.

وجه آخر: حجية مراسيل الثقات في التاريخ بل مطلقاً

ويمكن تصحيح هذه الروايات حتى مع قطع النظر عن شمول توثيق علي بن إبراهيم لها، وكذا غيرها، إذ لنا أن نلتزم بصحة المراسيل في القضايا التاريخية بل مطلقاً إن روى ذلك الثقة، مع عدم إحراز كونه ممن يروى عن الضعفاء بحيث يخلّ بالوثوق النوعي، لبناء العقلاء على ذلك.

ألا ترى كافة العقلاء من كل الأديان في كل الأزمان يستندون في أكثر رواياتهم التاريخية إلى قول الثقة في ذلك الموضوع، مع كونها مراسيل عادةً، بحيث لو دعاهم داع إلى تركها وعدم الاعتماد عليها عدّوه بعيداً عن الصواب، خارجاً عن ديدن العقلاء وسيرتهم، وذلك بشرط عدم المعارض، ومنه ما يوهن

ص: 165

المضمون، وكلاهما جارٍ في المسانيد أيضاً(1).

وفي خصوص المسلمين نجد كثرة الاعتماد من الشيعة والسنة على كتب التفسير والتاريخ في بيان شأن نزول الآية وتأويلها وقصص القرآن، وكذا في بيان حالات المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وقصصهم ومحاجتهم وغير ذلك، يرشد إلى ذلك الذهن العرفي الفطري الخالي عن تشكيكات بعض الأصوليين والرجاليين.

وخلاصة القول:

إن بناء العقلاء وسيرتهم وارتكازهم على ذلك.ولذلك قال في تنقيح المقال(2): (الرابعة: قد نص الشهيد (رحمه الله) في غاية المراد بأن مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة معتمدة، وأقول: أراد بالثقات من وثقوه ولم ينصوا بأنه يروي عن الضعفاء وحينئذٍ فتعتدل جملة من المراسيل لعدم قصور هذه الشهادة من التوثيقات الرجالية فلا تذهل).

وسبب عدم القصور مع كون ذلك اجتهاداً من الشهيد (رحمه الله) رجوعه إلى بناء العقلاء وشبهه، وإلاّ فليس حدس المجتهد حجة لغيره.

ولعل المتتبع يعثر على موارد عديدة اعتمد فيها الفقهاء والأصوليون على أقوال بعض المفسرين ومراسيلهم:

منها ما ذكره في الرسائل حيث قال(3): (ويرد عليه أولاً: إن الاستدلال إن كان بظاهر الآية فظاهرها بمقتضى السياق إرادة علماء أهل الكتاب، كما عن ابن

ص: 166


1- فصّل المؤلف الكلام عن ذلك في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة).
2- تنقيح المقال: ج3 ص99 الفائدة التاسعة من خاتمة الكتاب.
3- الرسائل، للشيخ الأنصاري: ص82.

عباس ومجاهد والحسن وقتادة)، فتأمل.

ويمكن تأييد المدعى بما نقله الشيخ الأعظم (قدس سره) عن جمهور الأصوليين بقوله في الرسائل(1): (بل حكي هذا القول عن جمهور الأصوليين معللين ذلك بأن الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغني عنه بحكم العقل)، وذلك القول هو تقديم الناقل على المقرر، لأقوائية الظن الحاصل من رواية الثقة الذي لا يروي عن الضعفاء عادةً من الظن الحاصل بهذه الغلبة، فتأمل.

هذا، كما أن لمن يرى حجية قول اللغوي دون اعتبار العدالة أن يلتزم بحجية ما ذكر.

هذا، وسيأتي منّا إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب بحث مفصل حول حجية ما ذكر، مع التطرق إلى أدلة منكري ومثبتي حجية قول اللغوي، وكذا الشهرة ونقضها وإبرامها بالمقدار الذي ينفع في بحثنا هذا، فلينتظر والله المستعان.

وسنذكر ههنا بعض الروايات الواردة حول عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى مما أشرنا إليه إجمالاً، مع التطرق لمدى دلالتها على المدعى:

ص: 167


1- الرسائل، للشيخ الأنصاري: ص473.
الرواية الأولى: في معركة بدر الكبرى: الخروج لحرب النفير

ما ورد في قصة بدر الكبرى(1): بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عيناً له على العير اسمه عدي، فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره أين فارق العير، نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بنفير المشركين من مكة، فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزّت، ولم نخرج على أهبة الحرب.

وفي حديث أبي حمزة، قال أبو بكر: أنا عالم بهذا الطريق، فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على بدر يوم كذا وكذا، كأنا فرسان رهان.

فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس فجلس، ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو

ص: 168


1- مغازي الواقدي: ج1، ص48، والامتاع لابن هشام: ص74، والسيرة للمقريزي: ج2، ص253، نقلاً عن هامش بحار الأنوار: ج19، ص217، وتفسير القمي: ج1، ص258، والطبرسي أيضاً ومصادر أخرى كثيرة فراجع الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: ج3، ص174-177.

إسرائيل لموسى (عليه السلام): (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون)(1) ولكنا نقول: (امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون).

فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً على قوله ذلك، ثم قال:(أشيروا عليّ أيها الناس)، وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع آباءنا ونساءنا، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ماشئت وأترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله أن يريك ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة، ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: سيروا على بركة الله، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرحيل وخرج إلى بدر وهو بئر ...

ص: 169


1- سورة المائدة: 24.
الرواية الثانية: في معركة الأحزاب: المقام بالمدينة

ما ذكره في الإرشاد(1) في غزوة الأحزاب: (فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتماع الأحزاب عليه وقوة عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فأجمع رأيهم على المقام بالمدينة، وحرب القوم إن جاؤوا إليهم على أنقابها).

الرواية الثالثة: وفي الأحزاب أيضاً: حفر الخندق

ما ذكره في تفسير القمي(2) في غزوة الأحزاب أيضاً: (فلم يزل يسير معهم حي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه وعباس بن مرداس في بني سليم، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان: يا

ص: 170


1- إرشاد المفيد ص51، وفي السيرة لابن هشام أيضاً، وبحار الأنوار: ج20 ص251.
2- تفسير القمي: ج2 ص177 ذيل آية (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جائتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها...) سورة الأحزاب9: ، وذكره في بحار الأنوار: ج20 ص217، وراجع الامتاع، وذكره الإرشاد: ص51، والسيرة لابن هشام.

رسول الله إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة، قال: فما نصنع؟ قال: نحفر خندقاً يكونبيننا وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم من المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة، فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أشار بصواب...).

الرواية الرابعة: وفي الأحزاب: الصلح على ثلث ثمار المدينة
اشارة

ما ذكره في الإرشاد في غزوة الأحزاب أيضاً(1): وأقبلت الأحزاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهال المسلمين أمرهم وارتاعوا من كثرتهم وجمعهم، فنزلوا في ناحية من الخندق وأقاموا بمكانهم بضعاً وعشرين يوماً وليلة، لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصي، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضعف قلوب أكثر المسلمين من حصارهم لهم، ووهنهم في حربهم، بعث إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان يدعوهما إلى صلحه والكف عنه والرجوع بقومهما عن حربه، على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة، واستشار سعد بن عبادة فيما بعث به إلى عيينة والحارث، فقال: يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به، لأن الله أمرك فيه بما صنعت، والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي، فقال (صلى الله عليه وآله): (لم يأتني وحي به ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس

ص: 171


1- بحار الأنوار: ج20، ص251-252، والإرشاد: ص51-52.

واحدة وجاؤوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)، فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعرف الله ولا نعبده ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلاّ قرى أو بيعاً، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما بنا إلى هذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه فإن الله تعالى لم يخذل نبيه ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده).

وسنذكر في طي صفحات الكتاب مواضع أخرى استشار فيها النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه فأعطوه أصواتهم، وفوضوا إليه الأمر تارة، ولم يفعلوا ذلك، فعمل (صلى الله عليه وآله) بآرائهم رغم علمه (صلى الله عليه وآله) بخطئهم تارة أخرى.

إشكال: لعل عمله برأي الأكثرية كان اضطراراً

إن قلت: لعل استشارته (صلى الله عليه وآله) وكذا عمله برأي الأكثرية كان من باب الاضطرار، كي لا يخالفوه وكي يجلب ودّهم ومحبتهم، ولتوقعهم ذلك منه حسب عاداتهم، كما قيل في تعليل: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1)، ويؤيده ما جاء في خبر أبي حمزة: (فكان صلى الله عليه وآله يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة...)، وما جاء من: (ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: سيروا).

ص: 172


1- سورة آل عمران: 159.
الأجوبة:
العمل لا جهة له، والأصل عدم الاضطرار

قلت: أولاً: العمل لا جهة له من حيث الاضطرار وعدمه، وأصالة عدم الاضطرار محكمة، فلا يقتصر في التزام الإباحة بالمعنى الأعم على صورة تحقق وجوده، والتخوف أعم من الاضطرار ومن عدم إطاعتهم له، فتأمل.

الأصل في قوله وفعله (صلى الله عليه وآله) الحجية

ثانياً: الأصل في قول وفعل وتقرير المعصوم (عليه السلام) الحجية ولزوم الإتباع، من غير حاجة إلى نفي احتمال مثل الاضطرار بالأصل، فتأمل.

لو كان اضطراراً لكان في غيره أولى

كون ذلك منه (صلى الله عليه وآله) اضطراراً للجهات المذكورة مع لحاظ وجودها في غيره، بل بشكل أقوى وأولى، يستلزم ثبوت الحكم موجبة كلية، إذ لا يخلو ظرف من ذلك في الشؤون العامة.

وفيه: إن ملاكات الأحكام ليست بأيدينا، وإن ما ذكر داخل في مباحث (مقاصد الشريعة) و(تنقيح المناط) فتأمل(1).

وبناءً عليه نقول: بكفاية الموجبة الجزئية في رفع السالبة الكلية، وهي عدم

ص: 173


1- فصل المؤلف الكلام حول ذلك في (مبادئ الاستنباط: مقاصد الشريعة).

جواز اتباع الفقيه لرأي الغير، بل يكفي وضوح أن الاضطرار من العناوين الثانوية الحاكمة على الأولية، وقد فصلنا الحديث عن هذا في موضع آخر.

وقد يورد على الأولين: بدلالة القرائن المقامية على خلاف الأصل، ولكن على المدعي الإثبات، وعلى تقديره فهو غير ضار بتمسكنا بالآية الشريفة كما فصلناه، فليراجع.

الظاهر أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يعمل برأيه حتى وافقته الأكثرية

والأولى في الجواب أن يقال: إن الظاهر من الرواية أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو الخروج، لكنه (صلى الله عليه وآله) لم يعمل به إلاّ بعد استشارة الناس واستقرار رأي الأكثرية على الظاهر من إرادته (صلى الله عليه وآله) الخروج وطلب العير وحرب النفير، وذلك لقرائن عديدة في نفس الرواية:

منها: أنه (صلى الله عليه وآله) أمر أبا بكر وعمر بالجلوس عندما أبديا التحذر والتثبيط، وجزى مقداد خيراً عندما أبدى التأهب والاستعداد لكل تضحية.

ومنها: (فكان صلى الله عليه وآله يتخوف ... وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة).

ومنها: (ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله).

ومع ذلك لم يقدم (صلى الله عليه وآله) إلا بعد الاستشارة، وإشارة الأكثرية بذلك.

ولكن قد يورد عليه: إن عدم إقدامه (صلى الله عليه وآله) على حسب مقتضى نظره (وهو الخروج) أعم من المدعى، إذ قد يكون عدم الإقدام قبلهما(1)

ص: 174


1- الاستشارة وإشارة الأكثرية بالخروج.

اضطراراً، وقد يكون لوجوبهما أو الأول منهما، فلا يمكن الاستدلال بذلك على أحد الوجهين إلاّ بضميمة مثل أن الظاهر أن ذلك كان امتثالاً ل: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْر)(1) أو ما هو بمنزلته فتأمل، كما أن عمله (صلى الله عليه وآله) بعدها على طبقها في العديد من الروايات المذكورة قد يكون استناداً إليهما وقد يكون لا كذلك.

رواية القمي في صلح الحديبية

وقد يستدل للإشكال السابق: بصحيحة أو موثقة علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن ابن سنان(2)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قضية صلح الحديبية: (... فلما أكثروا عليه قال: إنلم تقبلوا الصلح فحاربوهم، فمروا نحو قريش وهم مستعدون للحرب وحملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) هزيمة قبيحة ومروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا علي خذ السيف واستقبل قريشاً، فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) سيفه وحمل على قريش، فلما نظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) تراجعوا وقالوا: يا علي بدا لمحمد فيما أعطانا، قال: لا، فرجع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستحيين وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل الله

ص: 175


1- سورة آل عمران: 159.
2- هو عبد الله بن سنان، قال في تنقيح المقال: ج3، ص99 في الفائدة السادسة: (وإذا وردت رواية عن ابن سنان فإن كان المروي عنه الصادق (عليه السلام) بلا واسطة أو بتوسط... فالمراد به عبد الله لا محمد وإن كانا أخوين..).

فيكم (إذ تستغيثون...)(1)... فاعتذروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وندموا على ما كان منهم وقالوا: الله أعلم ورسوله فاصنع ما بدا لك).(2)

وفيه: إن هذه الرواية إن دلت على اضطراره (صلى الله عليه وآله) لقبول رأي القوم وثبت كونهم الأكثرية(3)، لما أفادت إلاّ عمله على طبق رأي الأكثرية أو الأقلية في هذا المورد اضطراراً، ولا تصلح دليلاً على أنه كلما عمل برأي الأكثرية المخالفة لرأيه كان اضطراراً.

هذا، إضافة إلى أنه لا يعلم كون ذلك عملاً برأيهم من باب الاضطرار أو غيره، بل الظاهر أنه كان تعجيزاً لهم، ولو كان (صلى الله عليه وآله) عاملاً برأيهم لجهز كل الجيش وأمر علياً (عليه السلام) بالاشتراك معهم في الهجوم، إضافة إلى ظهور قول علي (عليه السلام): (لا) في جواب سؤالهم: (يا علي بدا لمحمد فيما أعطانا)، في ذلك فيكون المورد من صغريات عدم عمله بالأكثرية، فيدخل في الشق الآتي مع أجوبته الخمسة باستثناء الرابع والخامس، فتأمل.

الإشكال بأنه o وافق على الصلح في الحديبية دون مشورة

كما أنه يمكن الاستدلال بها على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية لإجابته (صلى الله عليه وآله) إلى الصلح في حادثة الحديبية دون استشارته أصحابه، حيث ورد: (فوافوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا محمد إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وأمر العرب، على أن ترجع من عامك هذا، فإن العرب قد تسامعه بمسيرك، فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلتنا العرب واجترأت

ص: 176


1- سورة الأنفال: 9.
2- بحار الأنوار: ج20 ص351، وتفسير القمي: ج2 ص312.
3- وكلاهما محل تأمل.

علينا، ونخلي لك البيت في القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنا، فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك، وقالوا له: وترد إلينا كل ما جاءك من رجالنا ونرد إليك من جاءنا من رجالك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من جائكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه، ولكن على أن المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام)، فقبلوا ذلك، فلما أجابهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الصلح أنكر عليه عامة أصحابه).(1)

والجواب:

أما عن الشق الثاني:

أجوبة خمسة عن الإشكال

فأولاً: ما سيأتي من الجواب الثالث من عدم مجال للشورى والاستشارة فيما ورد فيه نص من الباري جل وعلا، وذلك قطعي إما للانصراف أو للتخصيص، والمقام صغرى هذه الكبرى لعدة قرائن وأدلة:

ألف: ما ذكره المفيد (قدس سره) في الإرشاد: (ولما رأى سُهيل بن عمرو توجه الأمر عليهم ضرع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك، وأن يجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) كاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطه).(2)

ص: 177


1- بحار الأنوار: ج20 ص 349-350، وراجع تفسير القمي: ج2 ص311.
2- بحار الأنوار: ج20 ص358 نقلاً عن إرشاد المفيد.

ب: ما ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره: (ونزلت في بيعة الرضوان: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)(1)، اشترط عليهم أن لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً يفعله ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به)(2)، وسيأتي استثناء ما أوحى به الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) وكلِّ ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أمر به من باب ولايته (صلى الله عليه وآله) من وجوب الاستشارة والشورى.

ج: ما ذكره أيضاً في قوله: (الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء)(3)، هم الذين أنكروا الصلح واتهموا رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4) الظاهر في علمهم بأن قرار الصلح من الباري عز وجل، ولذا عبّر ب(الظانين بالله) لا ب(الظانين برسوله) فتأمل.

ولعل المتتبع يجد قرائن أخرى على ما ذكرناه.

وثانياً وثالثاً: ما سيأتي من الجواب الرابع والخامس استنتاج عدم وجوب الشورى عليه (صلى الله عليه وآله) وعلى غيره، من عدم عمله (صلى الله عليه وآله) في هذا المورد وشبهه برأي الأكثرية وعدم استشارته لها.

ورابعاً: قد يقال بكون إجابته (صلى الله عليه وآله) للصلح غير منجزيته له، وما عليه (صلى الله عليه وآله) الاستشارة فيه صورةالمنجزية لا ما يسبقها من الحديث والتفاوض، والذي يدل على الصغرى وأنه لم يكن للصلح قبل التوقيع والكتابة

ص: 178


1- سورة الفتح: 18.
2- بحار الأنوار: ج20 ص 354 نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم، وراجع تفسير القمي: ج2 ص315.
3- سورة الفتح: 6.
4- بحار الأنوار: ج20 ص 354 نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم، وراجع تفسير القمي: ج2 ص315.

اعتبار في مرحلة منجزيته وفعليته، ما ورد: (.. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنا لم نقض (أو لم نرض) بالكتاب بعد)(1) فتأمل.

وخامساً: لقد أجاز (صلى الله عليه وآله) للأكثرية باتباع رأيها كما سبق من (إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم...)، فتأمل.

الإشكال بأن عمله o كان على طبق الشورى لا استناداً إليها

إن قلت: ما الدليل على عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من حيث هي هي، ولأنها حجة حتى في الموارد التي عمل (صلى الله عليه وآله) على طبقها، إذ قد يكون عمله (صلى الله عليه وآله) على طبقها لا استناداً إليها، بل لموافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) ولعلمه بمطابقتها للواقع في تلك الصور، فلا يدل عمله على طبقها على حجيتها حال الجهل بمطابقتها للواقع، فكيف بحال الاطمينان العرفي - الحاصل للفقيه مثلاً - بمخالفتها للواقع.

بل إن عمله (صلى الله عليه وآله) بها حال موافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) لايدل على حجيتها حتى في هذه الصورة أيضاً، إذ يكون عمله حينئذٍ برأيه (صلى الله عليه وآله) لا برأي الأكثرية وإن كانت على وفقه، إذ أن مطابقة غير الحجة للحجة لا يوجب صيرورتها حجة، وذلك كما لو طابق القياس والاستحسان إحدى الحجج، بأن دل الخبر على شيء ووافقه القياس، فهل يستلزم ذلك حجية القياس؟ وكذلك مطابقة مجهول الحجية (علماً بأن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية - حيث لا نعلم أن عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى في تلك

ص: 179


1- بحار الأنوار: ج20 ص 334.

الموارد من حيث هي هي لتكون حجة، أو لا) لمعلوم الحجية فإنه لا يصيره حجة، كما لو طابقت الشهرة أو الإجماع المنقول الكتاب أوالسنة في مسألة أو في مسائل عديدة - كما هو كذلك - أيدل ذلك على حجيتهما؟ فالعمل على طبق شيء غير العمل بالشيء.

ومما يشهد لكون عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى في موارد عمله على طبقها إنما كان من باب موافقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) وأن عمله كان على طبقها لا بها، ما ورد في الحديث السابق: (فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال أشار بصواب)، ومما يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله): (الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه)، و: (ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله).

الأجوبة:
الظاهر بقرائن عديدة عمله o استناداً إليها

قلت: أولاً: ظاهر تلك الروايات عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى واستناد عمله (صلى الله عليه وآله) إليها حيث ورد: (فأشار سلمان الفارسي (رحمه الله) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخندق فأمر بحفره)، حيث إن الفاء للتفريع، فقد فرع أمره (صلى الله عليه وآله) بحفر الخندق على إشارة سلمان، علماً بأن الأكثرية الساحقة أيدت أطروحة سلمان، حتى قال بعضهم: هذه والله حيلة فارسية، ومن الواضح أن أمره (صلى الله عليه وآله) لا يتفرع على الباطل وما ليس بحجة، إلا أن يقال: بأن الأصل في الفاء الترتيب لا التفريع، ولا ظهور في غيره، فتأمل(1).

ص: 180


1- إذ الظاهر عرفاً في مثل المقام، وبمناسبات الحكم والموضوع، التفريع.

وورد: (... واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان... فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال أشار بصواب، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحفره من ناحية أحد إلى راتج)، حيث ظاهر (الفاء) التفريع، وظاهره الاستناد، ألا ترى أن الإمام (عليه السلام) لو قاس أمامه قائس فقال: (القياس يقتضي كونالأصبع الرابعة للمرأة كسائر الأصابع) فقال عليه السلام فرضاً: (فحكمي هو أن الدية أربعون) أفلم يكن هذا الكلام المصدر بفاء التفريع والمطابق للقياس دليلاً على حجية القياس واستناده في حكمه إليه؟

هذا، ولكن الظاهر التفرع في الرواية الثانية على قول جبرئيل، نعم في رواية الثمالي (رحمه الله) المذيلة بفاء التفريع: (ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله) تفرع أمره بالسير على إشارة(1) الأصحاب، حيث انعقدت الأكثرية على طلب العير وحرب النفير، إذ وافق الأنصار على ذلك وهم أكثر الناس كما ورد: (ثم قال أشيروا عليّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم)، ولقد كان رأي سعد تجسيداً لرأي كافة الأنصار لكونه رئيسهم، وكون حالتهم حالة قبلية، كما لا يخفى على من راجع التاريخ.

ثم إن ما ذكر بأكمله جواب الشق الثاني من الإشكال: (بل إن علمه...) ويمكن جعله جواباً للشق الأول أيضاً بعدم القول بالفصل بين (صحة الاستناد إليها حال العلم بمطابقتها للواقع) وبين (صحة الاستناد إليها حال الجهل به)، فإن من أوجب أو صحح الاستناد إليها أوجبه أو صححه مطلقاً، ومن حرّم حرّم مطلقاً، ويتضح هذا مما سبق من أن (الاستناد) لللاحجة غير واقع شرعاً، ولا صحيح ولا نافع حتى لو طابق الحجة، إذ لو طابقها كان الاستناد إليها لا إليه،

ص: 181


1- والأدق: عطف أمره بالسير على فرحه (صلى الله عليه وآله) المتفرع على كلام سعد، الكاشف عن رأي أكثريتهم أو المفوض أمر أكثريتهم إليه، هذا إن كانت النسخة (وقال) أما إن كانت (فقال) فالأمر أوضح.

فإذا استند النبي (صلى الله عليه وآله) للشورى حال مطابقتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) كانت حجة مطلقاً، للإجماع المركب.

دليل آخرعلى الملازمة:

إذا صح الاستناد للشورى حال المطابقة لرأيه (صلى الله عليه وآله) وحال العلم بالمطابقة للواقع، صح الاستناد إليها حال الجهلبالمطابقة للواقع، وحال الظن الشخصي بالخلاف أيضاً، ألا ترى أن خبر الواحد إن صح الاستناد إليه مع العلم بمطابقته للواقع، صح مع الجهل ومع الظن بالخلاف، لإناطة حجيته بالظن النواعي الثابت حتى مع الظن بالخلاف.

وفيه: أن الشورى وكذا خبر الواحد إذا علمنا بمطابقتها الواقع فهما حينئذٍ حجة ذاتية، لمكان العلم، وفي الواقع الحجة هو ذلك العلم لا غير، وهذا لا يستلزم حجيتهما مع الجهل، إذ الحجة الذاتية مفقودة، والحجية الجعلية في الشورى لا دليل عليها.

ويمكن دفع الإشكال: بالتفريق بين صورتين بوجه لا يخلو من دقة، وهو: بأن الشورى مثلاً، لو أفادت العلم بالواقع كانت حجة ذاتاً، وصح الاستناد إليها، ولكن لم ينتج ذلك حجيتها في غير صورة إفادة العلم، أما لو أفاد العلم بالواقع شيء آخر وطابقته الشورى أو أي ظن آخر لم يثبت اعتباره حتى الآن، فهل يصح الاستناد إلى ذلك الظن غير المعتبر لصرف تطابق مضمونه مع ما أفاد العلم؟ كلا: إذ تطابق مضمون ما ليس بحجة مع ما هو حجة لا يصيّره حجة.

وهنا نقول: لو شاهدنا الاستناد والحال هذه كشف ذلك (إنّاً) عن الحجية، وكونه ظناً معتبراً المستلزم لحجيته مطلقاً.

وللتوضيح نقول: لو أفاد القياس العلم كان حجة ذاتاً، لمكان العلم، وفي

ص: 182

الواقع الحجة هو ذلك العلم، أما لو أفاد التواتر أو الكتاب الحكم قطعاً وطابقه القياس فلا يكون هذا القياس حجة، بل الحجة هو ذاك، ولا يصح الاستناد إليه، أي للقياس بل المستند هو ذاك.

والسبب أن الحجية لا تسري من موضوع (مفيد العلم أو الظن المعتبر) إلى موضوع آخر (كالقياس وكالوهم)، فلا يصح الاستناد إلى القياس إذاً، أترى يصح القول بأن (الوهم) حجة لمطابقته (الظن النوعي)، كما لو قام خبر على شيء وحصل للفقيه الظن الشخصي بالخلاف، (وكلامنا بناءً عدم تقيد حجية الخبر بعدم ظن شخصي على الخلاف) كما هو المشهور، مما يعني أن (وهمه) على الوفاق، أفهل يصح جعل هذا الوهم مستنداً ودليلاً، بأن يقول الفقيه: ومن الأدلة الوهم الحاصل على كذا، لأن هذا الوهم مطابق للدليل وللظن المعتبر؟! وهل ترى يصح القول (توهم الفقيه فأمر بكذا) أم يقال:(قام خبر واحد عنده على كذا مثلاً، فأمر به)؟!، فلو ثبت استناد الشارع والحال هذه، إلى أمر دل على حجيته.

وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن علم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالواقع لم يكن مستنداً لكلام الناس ولانعقاد رأي الأكثرية، ومع ذلك فظاهر الرواية استناده في عمله إلى رأي الأكثرية، فيمكننا ببرهان (الإنّ) اكتشاف حجية الشورى من صحة الاستناد إليها، بل فعلية استناد النبي (صلى الله عليه وآله) إليها، ولو لم تكن حجة لما استند إليها، ولما فرع أمره عليها وإن طابق مضمونها الحجة، وهي رأيه (صلى الله عليه وآله).

فالمدار كل المدار على (الاستناد) و(التفريع)، فتأمل.

ص: 183

عمله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشورى رغم مخالفتها لرأيه

وثانياً: ظاهر خبر الإرشاد: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يرى رأياً آخر، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله) وقف عند رأي الشورى، عندما رآها ترتئي غير رأيه (صلى الله عليه وآله)، بل ذلك صريح الخبر: (.. بعث إلى قائدي غطفان يدعوهما إلى صلحه... فاستشار سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي)، فقال (صلى الله عليه وآله): (لم يأتني وحي به، ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال سعد... فقال (صلى الله عليه وآله): الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه) .

فرأي النبي (صلى الله عليه وآله): (ولكني رأيت)، لكنه عدل عنه إلى رأي الأكثرية حيث كان سعد ينطق باسمها، وقد عبّر عن رأيها: (قد كنا نحن وهؤلاء القوم...) وأوصاهم بالسير على طبق رأيهم: (فكونوا على ما أنتم عليه).

العمل برأي الأكثرية مع عدم وجود النص

وثالثاً: سلمنا، لكن هنالك روايات أُخر صريحة في عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية رغم علمه بخطئهم وعدم مطابقتها للواقع(1).

ص: 184


1- هذا مع عدم وجود النص، وإلا فلا قيمة لرأي الكثيرة في قبال النص.
الرواية الخامسة: العدول عن الحكم بالقتل إلى أخذ الفداء موافقة لرأي الأكثرية
اشارة

ما ورد في تفسير آية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(1).

ففي كتاب علي بن إبراهيم(2): (لما قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) النضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، قالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك، أتجذ أصلهم، فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآيات، فأطلق لهم ذلك وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، وأقله ألف درهم...

وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فيه المشركين والأثخان في القتل أحدب إلينا من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم وأضرب أعناقهم، ومكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان أضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال أبو

ص: 185


1- سورة الأنفال: 67 - 68.
2- بحار الأنوار: ج19 ص241، نقلاً عن تفسير القمي: ج1 ص270 وغيره.

بكر: أهلك وقومك استأن بهم واستبقهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وقال أبو جعفر الباقر (عليهما السلام) كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية، والأوقية أربعون مثقالاً).

وجاء في الخرائج(1): (من معجزاته (صلى الله عليه وآله) أنه لما كانت وقعة بدر قتل المسلمون من قريش سبعين رجلاً وأسروا منهم سبعين، فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل الأسارى وحرق الغنائم، فقال جماعة من المهاجرين: إن الأسارى هم قومك وقد قتلنا منهم سبعيناً، فأطلق لنا أن نأخذ الفداء من الأسارى والغنائم فنقوى بها على جهادنا، فأوحى الله إليه: إن لم تقتلوا يقتل منكم في العام المقبل في مثل هذا اليوم عدد الأسارى، فأنزل الله: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا)(2)، فلما كان في العام المقبل وقُتل من المسلمين سبعون بعدد الأسارى قالوا: يا رسول الله قد وعدتنا النصر فما هذا الذي وقع بنا؟ ونسوا الشط ببدر فأنزل الله: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يعني ما كانوا أصابوا من قريش ببدر وقبلوا الفداء من الأسرى (قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(3) يعني بالشرط الذي شرطوه على أنفسهم أن يقتل منهم بعدد الأسارى إذا هو أطلق لهم الفداء منهم والغنائم فكان الحال في ذلك على حكم الشرط).

وجاء في تفسير القمي(4) ذيل الآية الكريمة: (فلما دخلوا المدينة قال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا

ص: 186


1- بحار الأنوار: ج20 ص77.
2- سورة الأنفال: 67.
3- سورة آل عمران: 165.
4- بحار الأنوار: ج20 ص66، وتفسير القمي: ج1 ص126.

النصر؟ فأنزل الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ)(1) الآية، وذلك أن يوم بدر قُتل من قريش سبعون، وأسر منهم سبعون، وكان الحكم في الأسارى القتل، فقامت الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله هبهم لنا ولا تقتلهم حتى نفاديهم، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء أن يأخذوا من هؤلاء ويطلقوهم على أن يستشهد منهم في عام قابل بقدر مايأخذون منه الفداء، فأخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الشرط فقالوا: قد رضينا به نأخذ العام الفداء من هؤلاء ونتقوى به ويقتل منها في عام قابل بعدد من نأخذ منهم الفداء وندخل الجنة، فأخذوا منهم الفداء وأطلقوهم، فلما كان في هذا اليوم وهو يوم أُحُد قُتل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعون، فقالوا: يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا النصر؟ فأنزل الله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) إلى قوله: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) بما اشترطتم يوم بدر).

وقال الطوسي (قدس سره) في التبيان(2) ذيل الآية: (والمعنى: ما كان لنبي أن يحبس كافراً للفداء والمنّ حتى يثخن في الأرض... وقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) يعني تريدون الفداء.. وهذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر الإسلام، فلما كثر المسلمون قال تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(3).

وقال في مجمع البيان في ذيل الآية ما يقارب ذلك فراجع.

وقال الطباطبائي في الميزان في ذيل الآية(4) (وقد اختلف المفسرون في تفسير الآيات بعد اتفاقهم على أنها إنما نزلت بعد وقعة بدر تعاتب أهل بدر وتبيح لهم

ص: 187


1- سورة آل عمران: 165.
2- التبيان: ج5 ص156، حسب الطبعة المحققة والمصححة للعاملي.
3- سورة محمد : 4.
4- الميزان: ج10 ص134.

الغنائم).

أما تفاسير العامة فقد روى أكثرهم هذه الرواية: (... فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، أو ما يقرب منها: (أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة).(1)

فمع أن الرسول (صلى الله عليه وآله) (حكم بقتل الأسارى وحرف الغنائم) كما في الخرائج، و(كان الحكم في الأسارى القتل) كما فيتفسير القمي، و (كره أخذ الفداء) كما في تفسيره أيضاً، مع ذلك نزل (صلى الله عليه وآله) عند رأي الأكثرية حيث (خافت الأنصار أن يقتل الأسارى) وقالوا: (فخذ يا رسول الله منهم الفداء فلما طلبوا ذلك وسألوه نزلت: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى)(2) فأطلق لهم ذلك) - كما مر في الخرائج - و(فقامت الأنصار فقالوا: يا رسول الله هبهم لنا ولا تقتلهم حتى نفاديهم، فنزل جبرائيل فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء..) كما مر في تفسير القمي.

وقد اتضح من هذا البيان أنه (صلى الله عليه وآله) نزل - بإذن الله - على رأي الأكثرية مع مخالفتها لرأيه (صلى الله عليه وآله) وللحكم الإلهي الأولي في الحادثة، ومن الواضح أن رأيه وأن حكم الله هو الصائب. وإن أخذ الفداء بدل الاثخان سبب ضرراً عظيماً عليهم، بل لعله كاد يسبب زوال الإسلام، ولذا (لما كان يوم أحُد وقُتل من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) سبعون، قالوا: يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا وقد كنتَ تعدنا النصر)، فأنزل الله(3): (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ

ص: 188


1- راجع أحكام القرآن والخازن والكشاف والمنار وروح المعاني ذيل الآية الكريمة.
2- سورة الأنفال: 67.
3- تفسير القمي: ج1 ص126 وص270 ذيل آية (وإذا غدوت من أهلك تبوّء) بعدة ◄ ► صفحات، وراجع بحار الأنوار: ج20 ص66.

قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها)، وهما سبعون قتيلاً من المشركين ببدر وفداء سبعين أيضاً (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) من أين ورد هذا البلاء العظيم علينا في هذه الحرب، حرب أحُد، (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1)، فأنتم السبب في حلوله بكم لاختياركم الفداء في حرب بدر...).

إشكال الاضطرار والجواب عنه صغروياً

إن قلت: لعل الرسول (صلى الله عليه وآله) عمل برأي الأكثرية ههنا - رغم مخالفتها للواقع وللحكم الوارد في الحادثة - من باب الاضطرار وخوف الفتنة، فعمله بها كان بالعنوان الثانوي لا الأولي؟

قلت: كلا، إذ مضافاً إلى ما سبق وإلى ظهور (فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: إن الله قد أباح لهم الفداء...) - كما في تفسير القمي - في الإباحة بالعنوان الأولي لا الثانوي الاضطراري، كظهور (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(2) الواردة بعد اقتراب بعض الشباب سراً إلى زوجاتهم في ليالي شهر رمضان، في الحلية بالعنوان الأولي لا الثانوي.

مضافاً إلى ذلك: يدل على عدم كون عمله برأيها للاضطرار أن أكثرية الأصحاب عند ما رأت كراهة النبي (صلى الله عليه وآله) لأخذ الفداء، فوضوا الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله) كما مر في رواية علي بن إبراهيم(3): (وروي أن النبي صلى

ص: 189


1- سورة آل عمران: 165.
2- سورة البقرة: 187.
3- وذكره الطوسي في التبيان: ذيل الآية 68 من الأنفال.

الله عليه وآله كره أخذ الفداء...)(1)، ومع تفويضهم الأمر له (صلى الله عليه وآله) هل يبقى اضطرار أو أي عنوان ثانوي آخر؟ فعمله برأيهم الواقعي - إذ أن طلبهم الإثخان فيما بعد كان احتراماً للنبي (صلى الله عليه وآله) ونزولاً عند رغبته - ولا اضطرار، دليل على صحة اتباع الأكثرية وإن خالف رأيها الواقع في الموضوعات المستنبط والشؤون العامة، والحاصل اندراج الأمر في باب التزاحم والأهم والمهم، فتأمل.

إن قلت: تحليل الله أخذ الفداء فيما بعد أعم من (حلية الشورى والعمل بالأكثرية على خلاف الحكم في الموضوع المستنبط)، إذ لا مانعة جمع بين تحليله سبحانه وتعالى له وحرمتها، كما أن تحليله الرفث إلى النساء ليلة الصيام فيما بعد لا يعني حلية ما ارتكبه الشباب قبل نزول آية الحل، إذ أن عملهم كان حراماً بلا شك، فنزول الحكم على طبق رأي الأكثرية لا يستلزم جواز الشورى.

قلت: فرق بين الأمرين، إذ أن مخالفة الحكم محرمة لا طلب تغييره.

فالوطي مع التحريم محرم، أما طلب تحليله فليس بمحرم،وفيما نحن فيه لو كانت الأكثرية تخالف الحكم بأن لا تقتل الأسرى وبأن تأخذ الفداء خلافاً لحكم الله ورسوله، كانت قد فعلت محرماً، إذ لا شورى قبال النص، ولكنها طلبت تغيير الحكم، (.. فقال جماعة من المهاجرين: إن الأسارى هم قومك وقد قتلنا منهم سبعيناً فأطلق لنا أن نأخذ الفداء من الأسارى) كما مر في رواية الخرائج، فقد طلبوا تغيير الحكم (فاطلِق لنا...) أي اجعله طِلقاً جائزاً، ومر مثله أيضاً في خبر علي بن إبراهيم، (فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت (­ما كانَ لِنَبِيٍّ)(2) فأطلق لهم ذلك)، وكذا في خبره الآخر: (فقالوا يا رسول الله هبهم لنا

ص: 190


1- قد سبق مراراً أن سعد بن معاذ كان يجسد رأي الأنصار وهم الأكثرية، وكان رأيه يعكس رأيهم حيث كان له تفويض مطلق من قبيلته.
2- سورة الأنفال: 67.

ولاتقتلهم) واستجاب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لطلب الأكثرية بالشرط الذي قبلوه (على أن يستشهد منهم في القابل بقدر ما يأخذون من الفداء..) في تفسير القمي و (...(قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) يعني بالشرط الذي شرطوه على أنفسهم أن يقتل منهم بعدد الأسارى) في الخرائج، فأطلق لهم كل ذلك رغم أن طلبهم في غير محله، وكان الأصلح ما حكم به الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أولاً من الإثخان في الأرض.(2)

وجوه عدم تمامية الاستدلال بالرواية الخامسة

ولكن الظاهر عدم إمكان الاستدلال بهذه الآية الشريفة برواياتها على المدعى، إذ:

أولاً: إن ظاهر تلك الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله) حكمدون استشارة المسلمين في الأمر ودون إخبارهم بذلك، ولذا اعترض الكثيرون عليه (صلى الله عليه وآله) بعد صدور الحكم حيث ورد (فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله .... فقال جماعة)، و (كان الحكم... فقامت الأنصار).

ثانياً: إن رأي الأكثرية لو كان لازم الاتباع لما كان للاشتراط معنى ومحل، وظاهر تلك الروايات جعله (صلى الله عليه وآله) قبول اقتراحهم ورأيهم دائراً مدار

ص: 191


1- سورة آل عمران: 165.
2- نعم من أخذ منهم الفداء قبل تغيير الحكم فعل محرماً، لكن هذا فرض لا خارجية له، نعم أخذ بعض الأسرى قبل تغيير الحكم فالعقاب كان على أخذهم الأسرى قبل الإباحة، على ما يهدي إليه سياق الكلام في الآية الأولى، كما يشهد به أيضاً قوله في الآية الثانية: (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) سورة الأنفال: 68، أي في أخذكم وإنما كانوا أخذوا عند نزول الآيات الأسرى دون الفداء وليس العقاب على استباحة الفداء أو أخذه كما احتمله الميزان: ج10ص135، وراجع بقية كلامه، إذ يدفع بعض الإشكالات المتوهمة على استدلالنا بالآية.

الشرط وجوداً وعدماً.

ثالثاً: إن استجابته جل وعلا لطلب الأكثرية غير دال على حجية رأيها وصحة اتباعه، ولا بنحو الموجبة الجزئية، إذ هو كما لو استجاب لطلب الأقلية، أو لطلب فرد واحد، مؤمن أو كافر، فاسق أو عادل، بشرط أو بدونه، ولله الولاية المطلقة، فكما له السلب له الإيجاب، وكما لا يدل الأول على عدم الحجية لنا لا يدل الثاني على ثبوتها في حقنا.

بل نقول ذلك بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) فاستجابتهم لطلب الأكثرية - لو فرض - لا يكون دليلاً على حجيتها، بل وجواز اتباعها موجبة جزئية، إذ لعله من باب الولاية فتأمل، إذ الأصل في فعل المعصوم (عليه السلام) كقوله وتقريره الحجية، والأصل عدم كونه من باب الولاية الخاصة.

ولا يخفى أن ذكرنا لموارد عمله (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية في صدر البحث لم يكن لإثبات حجيتها ولزوم اتباعها استناداً إلى عمله (صلى الله عليه وآله) إذ العمل لا جهة له، والصغرى لا تنتج كبرى كلية، بل كان لدفع إشكال عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بمبدأ الاستشارة ومبدأ اتباع الأكثرية المستلزم - حسب الإشكال - لصرف الآية عن ظاهرها، فتأمل.

ص: 192

الرواية السادسة: عمله برأي الأكثرية في الخروج من المدينة
اشارة

استشارته(1) (صلى الله عليه وآله) وعمله برأي الأكثرية رغم مخالفتها لرأيه في القضية التالية: (وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يومئذٍ سبعمائة والمشركين ألفين، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن استشار أصحابه، وكان رأيه (صلى الله عليه وآله) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمي الضعفاء من فوق البيوت، فأبوا إلاّ الخروج إليهم، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع، فقال: ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم).(2)

وقال الواقدي: (فقال (عليه السلام): أشيروا عليّ، ورأى أن لا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، يا رسول الله إن مدينتنا عذراء، ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو منها قط إلاّ أصاب منها، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناهم، فكان رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع رأيه، وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة، وقال رجال من أهل التيه وأهل السن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا

ص: 193


1- أي من الموارد التي عمل فيها (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية رغم علمه بخطئها وإضرارها.
2- بحار الأنوار: ج20 ص93 عن إعلام الورى.

جرأة منهم علينا، فقال حمزة: والذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة، وكان يقول: كان حمزة يومالجمعة صائماً ويوم السبت صائماً فلاقاهم وهو صائم، وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ثم جاؤونا وقد قادوا الخيل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا فيجرّؤهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويضعوا الأرصاد والعيون علينا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو يكون الأخرى فهي الشهادة، لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني و رقّ عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله أن يرزقني الشهادة، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك، فقُتل بأحُد شهيداً، فقال كل منهم مثل ذلك، فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ثم صلّى العصر ولبس السلاح وخرج، وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي (صلى الله عليه وآله) خوفاً من تبييت المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا...).(1)

ص: 194


1- بحار الأنوار: ج20 ص124.

فرغم أن النبي (صلى الله عليه وآله) (رأى أن لا يخرج من المدينة)، و (فكان رأي رسول الله صلى الله عليه وآله مع رأيه)، و (كان رأيه صلى الله عليه وآله أن يقاتل الرجال على أفواه السكك...)، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله) اتبع رأي الأكثرية عندما خالفته، رغم أنه كان يرى في رأيها خطر الهزيمة، (فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة).

إن قلت: كان رأي الأكثرية موافقاً له (صلى الله عليه وآله) إذ (وكانذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار)؟

قلت: لعله يستظهر أن الأكثرية كانت في الجانب المخالف (فأبوا إلا الخروج إليهم)، (فقام فتيان أحداث...)، و(قال رجال من أهل التيه والسن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج)، الظاهرة في أن الأكثرية الساحقة للأوس والخزرج كانت ترى الخروج من المدينة، (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...)، و (فقال كل منهم مثل ذلك فقال صلى الله عليه وآله: إني أخلاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج...).

فقوله: (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار) إما محمول على مجموعة منهم، كخمسة أو عشرة مثلاً منهم، كعلي (عليه السلام) من هذا الجانب، وعبد الله بن أبيّ من ذلك الجانب، وآخر من الجانب الثالث، حيث يطلق على تركيبة من هذا القبيل (الأكابر)، وفيه ما لا يخفى.

وأما أن رأي (الأكابر...) تغير عندما رأوا حماسة الشباب من جانب، وعزيمة وإصرار أهل السن من جانب آخر، وحججهم القوية من جانب ثالث، (وقال الرجال من أهل التيه وأهل السن... إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا) و (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...) و.. الخ.

ص: 195

ومن الواضح رغم كل الأدلة، أن رأي الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الأرجح والمطابق للواقع، وقد انكشف هذا (أي قول الرسول (صلى الله عليه وآله): إني أخاف عليكم الهزيمة) للأصحاب، حيث هزموا هزيمة كبيرة، وقُتل الكثير منهم، منهم حمزة (عليه السلام)، وكاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقتل لولا التدخل الإلهي الخارجي الإعجازي وبطولات أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، ولذا نجدهم في غزوة الأحزاب أجمعت على اتباع رأي النبي (صلى الله عليه وآله) من البقاء في المدينة.

وقد ورد في بيان شأن نزول آية (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍقَدِيرٌ)(1)، أقوال:

منها: (إن ذلك مخالفتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخروج من المدينة للقتال يوم أحُد، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها)(2)،(3).

وليس الاستشهاد ب (شأن نزول هذه الآية) حتى يقال: إنه مختلف فيه(4)، بل الاستشهاد بما أجمعوا على القول به: (وكان النبي صلى الله عليه وآله دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها) فتأمل، إذ قد يكون (وكان النبي صلى الله عليه وآله) من تتمة هذا القول، لا تتمة ناقل الأقوال.

ص: 196


1- سورة آل عمران: 165.
2- مجمع البيان: ج2 ص533 ذيل الآية الكريمة، وقد ذكرت أغلب التفاسير هذه الأقوال الثلاثة.
3- علماً بأن القول الثاني في شأن نزولها أيضاً نافع لما نحن فيه وهو (وثانيها أن ذلك باختيارهم الفداء من الأسرى يوم بدر وكان الحكم فيهم القتل وشرط عليهم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم قالوا رضينا...) المجمع: ص533 وغيره، كما سبق تفصيله حول مسألة الفداء.
4- قد ذكرنا أجوبة أخرى في مواضع أخرى من الكتاب، فلتراجع.
الإشكال باختصاص موارد المشورة بالحروب والجواب
اشارة

إن قلت: كل الموارد المذكورة مختصة بالحرب وشؤونه، ففي أول مورد استشارهم (صلى الله عليه وآله) في أصل محاربة قريش: (فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير...)، وكذا استشارته (صلى الله عليه وآله) في أمر الخندق، وفي أمر المقام بالمدينة أو الخروج منها في غزوة الأحزاب، وهكذا.. ومن الواضح أن (الأفعال) ليس لها (إطلاق) أو (عموم) لتدل على حكم عام، وليس لها معقد لفظي يستدل بإطلاقه أو عمومه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استشارة النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه المواضع دون غيرها يكون قرينة على أن (شاورهم)(1) مختصة بشؤون الحرب؟

قلت(2): لو كان الاستدلال بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وجوب الاستشارة مطلقاً، تمّ ما ذكر من عدم عموم له، ولكن الاستدلال إنما هو بالآية الكريمة، وبإطلاق (الأمر) فيها، والمفرد المحلى يفيد الإطلاق أو العموم، كما سيجيء مفصلاً، فهو ك(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(3) المفيد للعموم، وذكر فعله (صلى الله عليه وآله) واستشارته في موارد عديدة إنما كان لدفع إشكال أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يعمل بالشورى فيستكشف منه (إنّاً) عدم وجوبها عليه بنحو الإطلاق... إلخ، فتأمل.

هذا، إضافة إلى إمكان (تنقيح المناط)، إذ كل ملاك يوجد في شؤون

ص: 197


1- لا يخفى أن بحث العام والخاص المتخالفين أو المتوافقين في الوجودين اللفظيين لا في وجودين أحدهما لفظي والآخر عيني وإن اتفقا حكماً، إلا أننا عممنا البحث لوحدة الملاك والدليل.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة البقرة: 275.

الحرب مجوز للعمل برأي الأكثرية على خلاف رأي القائد، يوجد في سائر الموضوعات المستنبطة، (كالمعاهدات الدولية وأشباهها) خاصة إذا كانت الشورى في الحرب حجة مع علم النبي(صلى الله عليه وآله) بمخالفتها للواقع مع ما يترتب على اتباعها من الأضرار الكبيرة (كما في الخروج من المدينة في غزوة أحُد) بل قد تدعى الأولوية القطعية، لكون الدماء هي أصعب في نظر الإسلام من بقية الموضوعات، فإذا ثبت حكم فيها ثبت في غيرها بالأولوية القطيعة، فتأمل.

ص: 198

استشارته o في هذه الموارد غير مقيِّد للآية

وأما ما ذكر من: (ومن جهة أخرى فإن استشارة..).

ففيه: إنه ينحل إلى شقين: استشارته (صلى الله عليه وآله) في هذه المواضع، وعدم استشارته في غيرها.

أما الشق الأول:

فيرد عليه: إنه لا يكون قرينة على عدم وجوب الشورى إلاّ في هذه الموارد، إذ من المسلم(1) أن المتخالفين بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد يخصص ويقيد أحدهما بالآخر، ك- (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً العالم) عكس المثبتين، إذ لا تخالف وتنافي ولا بدوي بينها عرفاً، ولذا تجد أنه لا تنافي بين الروايتين الشريفتين:

(لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه) (2).

و: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه) (3).

قال المحقق الآشتياني (قدس سره) في بحر الفوائد: (لا إشكال فيما أفاده (قدس سره) من إناطة الاستصحاب على الأخبار على مجرد عدم العلم في مورده، من غير فرق بين حصول الظن بأحد الطرفين وعدمه، ولا كلام في ذلك عند أكثر القائلين به من باب الأخبار، لحصر ناقض اليقين في الأخبار في اليقين، والنهي

ص: 199


1- بحر الفوائد بحث الاستصحاب ص10.
2- نهج الحق: ص435.
3- وسائل الشيعة: ج14 ص572 ب90 ضمن الرقم 19843.

عن النقض بالشك في بعضها لا يعارضه)(1).

والسر في قوله: (لا يعارضه) هو ما ذكرناه من أنهما مثبتان (لا تنقض اليقين بالشك) و(لا تنقض اليقين)، أي لا تنقض اليقين بالشك وبالظن على الخلاف، أي بمطلق عدم اليقين على الخلاف، هذا لو لم نقل بكون الظاهر منه (أي من الشك) خلاف اليقين بقرينة المقابلة، فتأمل.

ثم حتى لو سلمنا التنافي في المثبتين فدلالة العام أو المطلق مقدمة إذ اللقب (زيداً في المثال) وما يمنزلته، كالحادثة المعينة التي استشار فيها (صلى الله عليه وآله) في ما نحن فيه، لا مفهوم له، وحتى لو قلنا بالمفهوم له أو أن المورد (في الشورى) من قبيل مفهوم الوصف وقلنا بحجيته فرضاً، فعند التعارض يقدم المنطوق على المفهوم بشهادة العرف.

بل يمكن التزام عدم انعقاد مفهوم أصلاً مع وجود العام، كما التزم الشيخ (قدس سره) بنظيره في بحث خبر الواحد في آية النبأ، من عدم انعقاد مفهوم للجملة الشرطية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(2) مع عموم التعليل، إذ يدور الأمر بين تخصيصه وبين رفع اليد عن المفهوم، ولا شك أن الثاني أولى عرفاً، فتأمل.

أما الشق الثاني:

وهو (عدم استشارته في غيرها)، فالجواب عنه ما سيأتي مفصلاً من الجواب الثاني والثالث والرابع عن الشبهة الأصلية.

ص: 200


1- إذ قد أوضحنا أن الخروج من المدينة الذي انعقدت عليه الشورى كان سبب هزيمة المسلمين لو لا التدخل الإعجازي وقتل العشرات منهم، وسنوضح كونه معصية عبر إثبات عدم انحصار الإيصال للحق به.
2- سورة الحجرات: 6.
إشكالات وأجوبة
الإشكال الأول :

إن قلت: الرواية دالة في ذيلها على مخالفته (صلى الله عليه وآله) للأكثرية، (قالوا: نرجع، قال: ما كن لنبي...).

قلت: قد ذكرنا في موضع آخر أن الشورى واتباع الأكثرية إنما هي فيما لم يرد فيه حكم من الله، والظاهر وروده ههنا، (ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم)، وذلك إما للانصراف أو للتخصيص، وأحدهما(1) على سبيل البدل قطعي.

إن قلت: الظاهر اضطراره للخروج حيث ورد (فأبوا إلاّ الخروج إليهم)، (فلما أبوا إلاّ الخروج).

قلت: الظاهر بقرينة خبر علي بن إبراهيم السابق وقرائن أخرى كثيرة أن الأصحاب كانوا ينقادون لكلام النبي (صلى الله عليه وآله) رغم مخالفته لآرائهم، إن لم يقبل منهم كلامهم - إلاّ في النادر - فلم يكن هنالك اضطرار لهذه ظاهراً، فتأمل.

إن قلت: لقد عنفهم الله على ذلك: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(2).

قلت: التعنيف كان لأجل أخذ الأسرى(3) مع كون الحكم فيهم القتل،

ص: 201


1- أو نظيرهما، كالحكومة بل الورود.
2- سورة آل عمران: 165.
3- تقدمت الإشارة إلى ذلك قبل صفحات.

وقد سبق حرمة مخالفة الأكثرية للنص، وحرمة اتباع رأي الأكثرية قبال النص، أو فيما لا يحق لهم التصرف قبل وروده، أو كان لأجل المعارضة بعد نزول الحكم.

بحث عن احتمال ردعه o عن الشورى

ولا دليل على الردع عن (مطلق الشورى)، والردع عن المتفصل بفصل خاص (كالشورى بعد النص) لا يكون ردعاً عن الجنس، كما هو واضح، غاية الأمر أن يكون (الردع عن الشورى بعد النص) مخصصاً لعموم (شاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1)، هذا إن لم نقل بالانصراف أو بالتخصص والخروج الموضوعي لمواضع ورود النص عن دائرة الشورى المطلوبة للمولى.(2)

إن قلت: ربما استشهد (صلى الله عليه وآله) وخفي علينا استشهاده.

قلت: أولاً: أصالة العدم محكمة، وليس هذا أصلاً مثبتاً، إذ الأثر (وهو صحة اتباع الشورى) ليس أثراً لهذا الأصل، بل هو أثر اتباع النبي (صلى الله عليه وآله) لرأي الأكثرية خارجاً، وتقريره لها وفعله على طبقها، وهذا الأصل يرفع المانع فليس مثبتاً، وذلك كما أن أصالة عدم التخصيص والتقييد والتجوّز - الجارية بعد الفحص عن قرينة المجاز - حجة ولا تعد مثبتة، لأن الأثر أثر المقتضي (وهو العموم والإطلاق مثلاً)، والأصل يرفع المانع فقط، فيترتب على المقتضي أثره.

ومن الثابت في محله أن رفع المانع ليس جزء المقتضي إذ الشرط - ومنه عدم

ص: 202


1- سورة آل عمران: 159.
2- مآل هذا إلى التخصيص فليلاحظ.

المانع - متمم فاعلية الفاعل أو قابلية القابل لا غير.

ثانياً: سلمنا، لكن نقول: حتى لو عدمنا الأصل، إن المورد - لو صحّ كلام المستشكل بأنه (صلى الله عليه وآله) اتبع رأي الأكثرية ليثبت بطلانها - لأهميته ينطبق عليه أنه مما لو كان لبان، إذ ورود تصريح من النبي (صلى الله عليه وآله) بالردع عن الشورى مع ارتكازها في أذهانهم (حسب زعم المستشكل إذ هذا ملزوم أن تكون بحيث لم يمكنه الردع عنها إلاّ بعد إثبات خطأها عملياً) ومع كونها عام الابتلاء، لا يمكن عدم وصوله إلينا.

وإن شئت قلت: بناء العقلاء في موارد كهذه على العدم، ألا ترى أنهم يبنون على عدم وجود شرط زائد في الصلاة رغم احتمال وجوده عقلاً(1)، إذ أن عدم ثبوت نص بعد الفحص مع أهمية المورد - والشورى وعدمها هامة لعمومية تأثير نتائجها على كل الأفراد، ولانسحابها على كل الموضوعات المستنبطة - دليل عقلائي على العدم.

إن قلت: لعله (صلى الله عليه وآله) اكتفى بالردع العملي.

قلت: أولاً: الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، ولا يكفي الوقوع في التهلكة باتباع مؤداها في عدم حجيتها ثبوتاً ولا إثباتاً، فإن غالب الظنون النوعية قد تؤدي للهلكة أحياناً كالظن الناشيء من قول الطبيب بأن علاج هذا المرض كذا وكذا، فلا يكون مجرد الوقوع في الخطأ رادعاً ليقال بالاكتفاء بالردع العملي، نعم قد يكون كذلك في الجملة.

ثانياً: إضافة إلى عدم كفايته في الرادعية - على تقدير تسليم أصل رادعيته - عن ما هو مرتكز للناس بشدة.

ثالثاً: لو سلم كلا الأمرين السابقين فإنما نلتزم بكون الردع العملي رادعاً

ص: 203


1- وذلك استناداً إلى المعبر عنه بالإطلاق المقامي حتى إن فرض عدم تحقق اللفظي.

عن اتباع رأي الأكثرية في خصوص صورة معارضتها لنص كلام النبي (صلى الله عليه وآله) لا غير لكون المورد هو ذاك وعدم وجود جهة إطلاق للعمل.

رابعاً: إضافة إلى أن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله) لرأي الأكثرية لو كان لإثبات بطلانها لما مدح الله المؤمنين بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(1)، ولما أمر نبيه ب(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2).

هل المدح على الشورى إن طابقت الواقع؟

إن قلت: إن المدح على (الشورى) إذا طابقت الواقع؟

قلت: أولاً: القيد منفي بالإطلاق(3).

ولو ادعي عدم الإطلاق لعدم تمامية مقدمات الحكمة، لعدم كون المولى في مقام البيان.

قلنا: إنه منقوض بكل المطلقات، فمثلاً (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(4)، و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(5)، و(تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(6).. إلخ، يجري فيها الإشكال بعينه، والجواب الجواب.

ص: 204


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.
3- الصحيح: ممدوحيتها وممدوحية اتباعها، فيما لو طابق رأيها الواقع بنظر الأكثرية (المطابقة للواقع بحسب الظن المعتبر لدى كل واحد من الأكثرية) كما سيأتي.
4- سورة البقرة: 275.
5- سورة المائدة: 1.
6- سورة النساء: 29.

والأولى أن يقال: إن وزان (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(1) وزان ما لو قال (أمرهم اتباع المجتهد العادل) الدال على حجية رأي المجتهد مطلقاً، علم بالمطابقة أو لا، وكذا (شاوِرْهُمْ)(2) وزانه وزان (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(3)، و(اسأل أهل الخبرة) الدال على حجيته من باب الظن النوعي، فتأمل.

إضافة إلى أن التقييد بهذا القيد (إذا طابقت الواقع) مردد بين غير الممكن للمكلف عادة، وبين غير الممكن وقوعاً باستحالته من الحكيم، إذ المقصود منه: إما المطابقة للواقع في علم الله، وإما المطابقة له باعتقاد كل أو أحد أعضاء الشورى أو الخارج عنها، وإما المطابقة للواقع بنظر الأكثر.

فإن كان الأول، فهو غير مقدور، إذ معرفة المطابقة له في علم الله غير مقدور للمكلف عادة، فيكون مطلوبية الشورى بهذا القيد لغواً.

وإن كان الثاني بشقوقه الثلاثة،فيلزم نقض الغرض، إذ لو اشترط في حسن الشورى ومطلوبيتها مطابقتها للواقع باعتقاد كل أعضاء الشورى لزم الحمل على الفرد النادر،أو باعتقادهم جميعاً وباعتقاد كل الخارجين عنها أيضاً لزم الحمل على ما لا تحقق له ظاهراً أبداً،اللهم إلاّ الأندر من النادر،فيلزم أن لا تكون حسنة على الإطلاق(4) لتخالف الاعتقادات، وهذا خلف.

ولو اشترط في حسن اتباعها مطابقتها للواقع في اعتقاد بعض دون بعض، لزم الترجيح بلا مرجح(5)، أو بما يوجب النزاع دائماً، ولزم نقض الغرض

ص: 205


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة النحل: 43.
4- أو شبهة.
5- فصلنا الجواب عن وجوه المرجحات المحتملة في موضع آخر.

والتهافت(1)، فيتعين الثالث قهراً.

أما (التهافت): فقد اتضح في موضع آخر أن حسن الشورى من باب الطريقية للواقع (أو مع الموضوعية جميعاً) كما يشهد بذلك الروايات: (ما ضل من استشار) (2)، و (من استبد برأيه هلك)(3) كما فصلناه في موضع آخر فراجع، فلو لم يجب أو لم يحسن اتباعها إلاّ عند الظن الشخصي بالوفاق، أو عند عدم الظن الشخصي بالخلاف لزم تقديم الظن الشخصي - فيما لم يكن علمي على الخلاف وإلاّ وقع التعارض بينه وبينها - على رأي الشورى، مع أن المستفاد من روايات الشورى كونها حجة من باب الظن النوعي وأقربيته اللواقع من الرأي الشخصي، بل والنوعي أيضاً، كما سيأتي، أي أنها مقدمة عليه عند التعارض، وهذا هو التهافت.

وأما (نقض الغرض): فلأن مطلوبية الشورى باعتبار تأليف القلوب وشبهه (على الموضوعية)، والأقربية للواقع (على الطريقية)، فلو لم تكن ممدوحة عند مخالفة اعتقاد الفرد القائد أو الرئيس لرأي أكثرية أهل الشورى، بأن تحتّم عليه الرجوع لرأيه، لزم نقض الغرض من تأليف القلوب وأغلبية الوصول للحق، وقد فصلنا هذا الكلام مع دفع الشبهات عنه في موضع آخر.

وأما (لزوم الترجيح بلا مرجح): فهو باعتبار الغير لا باعتبار واجد الظن الشخصي، بل باعتباره أيضاً إن لم يكن رأيه هو الأغلب وصولاً للواقع، فيكون ترجيحاً بلا مرجح أو ترجيحاً للمرجوح.

ص: 206


1- لا يخفى ترتب هذه المحاذير إلاّ في صورة اعتبار مطابقتها للواقع في نظر الأكثرية فالمدح على اتباع الشورى إن طابق رأيها الواقع بنظر الأكثرية.
2- غرر الحكم: ص442 فوائد المشاورة ح10074، وفي مستدرك الوسائل: ج8 ص341 ب20 ح9609: (ما عطب من استشار).
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15587.

بل إن كان رأيه هو الأغلب إيصالاً للواقع لزم الإرجاع إليه والمدح على ذلك، لا على اتباع رأي الشورى، وقد ذكرنا في موضع آخر تفصيلاً أقربية رأي الشورى للواقع من رأي الفرد ولو كان هو الأعلم في الشؤون العامة.

وخامساً: إن الاستشهاد على قسمين، فقد يستشهد لبطلان الرأي نفسه، وقد يستشهد لبطلان مستنده، أي بما هو كبرى كلية كحجية خبر الواحد أو الإجماع المنقول أو الشهرة أو أكثرية الشورى، والثاني هو النافع للمدعي وعليه إثباته.

وكذا التعنيف والتقريع ينقسم للقسمين أيضاً، وذلك كاستشهاد فقيه بأدلة لإبطال رأي فقيه آخر، فهو - على تقدير تمامية استشهاده - دليل على عدم صحة خصوص هذا الرأي من ذاك الفقيه، لا على عدم حجية أصل اجتهاده له ولمقلديه، وعدم كون اجتهاده مستنداً شرعياً، فتأمل.

ص: 207

الجواب الثاني: لا دليل على مخالفته o للأكثرية

سلمنا عدم قيام الدليل على عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى، لكن لا دليل على عدم عمله بالشورى ومخالفته لرأي الأكثرية رغم انعقادها على خلافه (صلى الله عليه وآله) في الشؤون العامة.(1)

إن قلت: عدم الدليل كاف في العدم، ولا حاجة لإحراز العدم بدليل وجودي، ثم استصحاب عدم موافقته لرأي الأكثرية محكم.

قلت: أما قولك: (عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى كاف في عدم وجوب الشورى وعدم حجيتها) فغير صحيح، إذ أن عدم الدليل على عمل المعصوم (عليه السلام) بما له ظاهر لا يوجب الخدشة في ظهوره، فمثلاً لو ورد (أكرموا العلماء) الظاهر في وجوب الإكرام متعلقاً بكل العلماء (لأنه جمع محلى) ولم يقم الدليل على إكرام الرسول (صلى الله عليه وآله) لكل العلماء أو لبعضهم، أفهل يعد ذلك (عدم قيام الدليل على التصرف الخارجي للرسول صلى الله عليه وآله) صارفاً للأمر عن ظهوره في إرادة الوجوب، وللجمع المحلى عن ظهوره في إرادة العموم؟ نعم (قيام الدليل) على عدم إكرامه لأي من العلماء يعدّ قرينة على عدم إرادة الوجوب من (أكرموا)، بل قد يقال بأن قيام الدليل على عدم إكرامه لبعضهم قرينة على عدم إرادة العموم من (العلماء)(2)، فتأمل، وسيأتي وجهه في الجواب الرابع.

ص: 208


1- فيما لم يرد فيه أمر إلهي خاص.
2- وفيه ما لا يخفى.

وفيما نحن فيه: مجرد عدم قيام دليل على استشارة الرسول (صلى الله عليه وآله) أو عمله بالشورى في الشؤون العامة، لا يصلحصارفاً للأمر الظاهر في الوجوب، (شاوِرِْهُمْ)(1)، (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(2) عن ظهوره، إلا أن يتمسك بأنه مما لو كان لبان، فتأمل، وقد تطرقنا لذلك في موضع آخر.

وبعبارة أخرى: لو كان التمسك لوجوب الشورى وحجيتها بعدم الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى صح ما ذكر، لوضوح أن عدم الدليل على عدم فعل ليس دليلاً على وجوبه وحجيته بالبداهة.

أما لو كان التمسك لوجوبها وحجيتها بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، فيصح القول: (عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) على طبق الآية لا يصلح مانعاً من دلالتها على الوجوب).

بعبارة أخرى: كلما تمّ المقتضي ولم يحرز المانع، ثبت إرادة المعنى الحقيقي، والمانع هنا هو الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى، وليس بمحرز، بل الاستصحاب يقتضي عدمه وبناء العقلاء على أنه (كلما شك في المعارض بعد الفحص، نزل منزلة العدم).

الجواب عن استصحاب عدم أخذه برأي الأكثرية ونظائره

وأما استصحاب عدم موافقته لرأي الأكثرية، ففيه: أنه معارض باستصحاب عدم مخالفته لرأي الأكثرية، لكونهما وجوديين مسبوقين بالعدم ولو الأزلي منه.

إن قلت: نستصحب عدم أخذه برأي الأكثرية وعدم اتباعه لها، لكون

ص: 209


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الشورى: 38.

استصحابي عدم الموافقة وعدم المخالفة محكومين به، لأن الموافقة صفة الأخذ، أو إنها مستلزمة له ومنتزعة منه، والمخالفة صفة عدمه، ومع وجود الأصل الجاري في الحاكم (وهو الموصوف أو الملزوم لتقدمه رتبة على الصفة) لا تصل النوبة للأصل فيالمحكوم، وهذا الأصل السببي (أصالة عدم أخذه برأي الأكثرية) لا معارض له.

وفيه: مضافاً إلى معارضته بأصل سببي آخر وهو أصالة عدم أخذه بالرأي المخالف للأكثرية، إنه مع وجود الدليل على وجوب فعل وهو صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، لا مجال لاستصحاب عدم الأخذ أو غيره، إذ من الواضح أن استصحاب عدم فعل لا يصلح مانعاً عن انعقاد الظهور، أترى أنه يصح الاستدلال على عدم وجوب صلاة الليل أو الجمعة أو السواك على النبي (صلى الله عليه وآله) مثلاً بأننا حيث لا نعلم أنه قام بها أو لا - فرضاً - نستصحب العدم فيثبت عدم وجوبها عليه!

والحاصل: إن الاستصحاب في رتبة لاحقة، وليس عقلائياً بناء الظهورات أو تمامية الدلالات للظواهر على استصحاب عدم فعل من كان لا بد من امتثاله لو تمت الدلالة! بل إن العمل (وعدمه) لا جهة له، فكيف باستصحابه؟

إن قلت: لنا أن نستصحب عدم أخذه برأي الأكثرية من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي لم يأخذ (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية لعدم انعقاد الأكثرية على خلافه (صلى الله عليه وآله).

قلت: لو تنزلنا عما سبق من عدم صلاحية أصالة عدم العمل به أو أصالة عدم وجود موضوعه في الصارفية عن الظهور، وقلنا بجريانه هنا، فالجواب: إن هذا الكلام على خلاف المدعى أدل، إذ ما يصلح ناقضاً لوجوب الشورى هو وجود الموضوع (انعقاد رأي الأكثرية) وعدم ترتيب الرسول (صلى الله عليه وآله)

ص: 210

المحمول (الحجية ووجوب الاتباع) عليه، لا عدم وجود الموضوع، أفهل ترى (عدم وجوب التصديق) عند عدم وجود مخبر ناقضاً لوجوبه عند وجوده؟ فلقد علل عدم أخذه برأي الأكثرية في كثير من الموارد بعدم وجود رأي لها معاكس لرأي الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا في الحقيقة وجه آخر لدفع إشكال عدم عمله برأي الأكثرية، كما سيجيء مفصلاً بإذن الله تعالى.

الجواب عن إشكال: لو كان o عاملاً بالشورى لبان

إن قلت: لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) عاملاً بالشورى لبان؟

قلت: أولاً: قد ذكر المؤرخون والمفسرون موارد عديدة عمل فيها النبي (صلى الله عليه وآله) برأي الأكثرية، وهي مضافاً إلى اعتبار سند بعضها، يمكن دعوى تواترها الإجمالي، ويظهر ذلك لمن راجع كتب التفسير والحديث، فتأمل.

وثانياً: لو سلمنا عدم ثبوت حتى مورد واحد عمل فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى، لكن عمله بها ليس مما لو كان لبان حتى يستدل بعدم البينونة والظهور على عدم الكون والوجود ببرهان الإنّ، إذ إن الاستشارة والمشورة لم تكن شيئاً غريباً ملفتاً للنظر، إذ كانت قد جرت عليها عادة كثير من القبائل، فكانت المشورة طبيعية خاصة وأن الأصحاب كانوا متواجدين باستمرار في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فلم تكن الاستشارة محتاجة إلى مقدمات وضوابط وتشريفات، فاستشارته (صلى الله عليه وآله) لا تعدو وقائعه (صلى الله عليه وآله) وحروبه حيث لم ترد فيها إلاّ روايات بين مرسلة وصحيحة لا تبلغ واقعة منها عادة حد التواتر، وإن أمكن دعوى التواتر الإجمالي في أصلها وفي بعض قضاياها فقط.

وحينئذ فنسأل: قول المستشكل: (لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) عاملاً

ص: 211

بالشورى لبان) مراده من التالي البينونة والظهور التواتري، أو البينونة والظهور المتداول في سائر الحوادث المهمة وغير المهمة؟

فإن قال بالأول: أنكرنا الملازمة، بدليل أكثر وقائع الرسول (صلى الله عليه وآله) سواء في الموضوعات الصرفة أو الشؤون العامة أو الأحكام حيث لا (بينونة تواترية) فيها، كما لا يخفى.

وإن قال بالثاني: منعنا بطلان التالي، إذ البينونة المتعارفة في سائر الوقائع موجودة هنا في الموارد التي ذكرناها وبعض غيرها، ويمكن بمراجعة البحار وغيره معرفة صدق الدعوى.

والأمر بحاجة إلى مزيد بحث وتحقيق وتثبت، ولعل الله تعالى يقيض من يتتبع الأمر أكثر، والله العالم المسدد.

ص: 212

الجواب الثالث: (شاورهم) منصرف إلى غير موارد النص الإلهي

سلمنا قيام الدليل على عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى أحياناً كثيرة، لكن قد يجاب بأنه: من الواضح أن لا شورى في قبال نص الآيات القرآنية الكريمة، سواء في الأحكام أو في الموضوعات، فيكون (وَشاوِرْهُم)(1) منصرفاً إلى غير ذلك أو مخصصاً به، وفي كثير من الأحيان كانت الآيات المباركات تنزل بأمر معين من الله في الموضوع الخارجي.

نماذج عديدة من ورد النص الإلهي

فمن ذلك مثلاً ما ورد في تفسير النعماني، قال(2): (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذكر الناسخ والمنسوخ، ومنه أن الله تبارك وتعالى لما بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) أمره في بدء أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(3)، فبعثه الله بالدعوة فقط، وأمره أن

ص: 213


1- سورة آل عمران: 159.
2- بحار الأنوار: ج19 ص175.
3- سورة الأحزاب: 45 - 48.

لايؤذيهم، فلما أرادوه بما همّوا به من تبييت أمره الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّاللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(1)، فلما أمر الناس بالحرب جزعوا وخافوا، فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)(2)، إلى قوله سبحانه: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(3)، فنسخت آية القتال آية الكف.

فلما كان يوم بدر وعرف الله تعالى حرج المسلمين أنزل على نبيه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(4)، فلما قوي الإسلام وكثر المسلمون أنزل الله تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(5)، فنسخت هذه الآية، الآية التي أذن لهم فيها أن يجنحوا، ثم أنزل الله سبحانه في السورة: (فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ)(6) إلى آخر الآية.

ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأُمة فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل عشرة من المشركين فقال: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا

ص: 214


1- سورة الحج: 39.
2- سورة النساء: 77.
3- سورة النساء: 78.
4- سورة الأنفال: 61.
5- سورة محمد: 35.
6- سورة التوبة: 5.

مِائَتَيْنِ)(1) إلى آخر الآية، ثم نسخها سبحانه فقال: (الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(2) إلى آخر الآية، فنسخ بهذه الآية ما قبلها،فصار من فرّ من المؤمنين في الحرب إن كانت عدّة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فاراً من الزحف، وإن كانت العدة رجلين لرجل كان فاراً من الزحرف.

وساق الحديث إلى قوله (عليه السلام): ونسخ قوله سبحانه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(3) يعني اليهود حين هادنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رجع من غزوة تبوك أنزل الله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)(4) إلى قوله سبحانه: (وَهُمْ صاغِرُونَ)(5) فنسخت هذه الآية تلك الهدنة.

وقد وردت روايات عديدة في جزئيات ما ذكر في هذه الرواية:

فمنها: ما جاء في أنوار التنزيل(6): ( (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(7) بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتال، حتى هاجر، فأنزلت وهي أول آية نزلت في

ص: 215


1- سورة الأنفال: 65.
2- سورة الأنفال: 66.
3- سورة البقرة: 83.
4- سورة التوبة: 29.
5- سورة التوبة: 29.
6- نقلاً عن بحار الأنوار: ج19 ص158.
7- سورة الحج: 39.

القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية...).

وفي المناقب: (لما كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)(1)، وقلد في عنقه سيفاً - وفي رواية: لم يكن له غمد - فقال له: حارب بهذا قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله).(2)

ومنها: ما ذكره الطبرسي في المجمع(3)، في قوله تعالى: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ)(4)، قال الكلبي: إن أبا سفيان لما رجع إلى مكة يوم أحُد واعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) موسم بدر الصغرى وهي سوق يقوم في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد قال للناس: أخرجوا إلى الميعاد، فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فحرض النبي (صلى الله عليه وآله) المؤمنين فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله بأس العدو، ولم يوافهم أبو سفيان ولم يكن قتال يومئذٍ، وانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمن معه سالمين (لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) أي إلا فعل نفسك، (وَحَرِّضِ اْمُؤْمِنِينَ) على القتال، أي وحثّهم عليه (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يمنع شدة الكفار وعسى من الله موجب، (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي أشدّ نكاية في الأعداء منكم، (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(5) أي عقوبة.

وقيل: التنكيل: الشهرة بالأمور الفاضحة، وفي قوله تعالى: (وَلا

ص: 216


1- سورة الحج: 39.
2- بحار الأنوار: ج19 ص172.
3- مجمع البيان: ج3 ص83-104.
4- سورة النساء: 48.
5- سورة النساء: 48.

تَهِنُوا)(1) قيل: (نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحُد).

وفي المجمع(2) في قوله تعالى: (فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ)(3)، اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة، فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا، فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال الآخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهمالآية، عن مجاهد والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر (عليهما السلام).

وفي المجمع أيضاً(4) في قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ)(5): (قال ابن عباس: نزلت في أموال كفار أهل القرى وهم قريضة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع، جعلها الله لرسوله (صلى الله عليه وآله) يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلا قسمتها، فنزلت الآية).

ففي كل هذه الموارد نجد أن (النص) من الله كان يأتي بحكم معين، فلم يتحقق موضوع الشورى إذن، حيث نجد في الرواية الأولى: (فبعثه الله بالدعوة فقط وأمره أن لا يؤذيهم) في مكة رغم أن المسلمين كانوا يتحرقون شوقاً لقتال المشركين، (وكانوا يأتونه بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتال ) - كما في رواية أنوار التنزيل السابقة -، ونجد (فلما أرادوه بما هموا به من تبييت أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال) وهكذا إلى

ص: 217


1- سورة آل عمران: 139.
2- مجمع البيان: ج3 ص76، بحار الأنوار: ج19 ص144 ب8 عن مجمع البيان.
3- سورة النساء: 88.
4- مجمع البيان: ج9 ص260.
5- سورة الحشر: 6 و7.

آخر ما ورد في الروايات التي نقلناها قبل قليل وفي غيرها.

والحاصل: أن موضوعها غير متحقق، إذ موضوعها ما لم يرد فيه نص من الله تعالى، ومن الواضح أن رفع المحمول لرفع الموضوع لا يثبت رفعه عند وجوده، وإلاّ لما كانت لنا حجة إطلاقاً، ولما كان لنا محمول أصلاً.

وهناك موارد أخرى عديدة ورد فيها النص من الله تعالى، فراجع البحار: المجلد 19، الصفحات 145 و146 و150 و151 و156 و214 و311، والمجلد 20، الصفحات 18 و64 وغيرها.

ولقد كان ذلك - أي أن موضوع الشورى هو ما لم يرد فيه نص، مع قطع النظر عن كونه بديهياً ومن ضروريات المذهب(1) - مركوزاً في أذهان المسلمين، ولذا نجد في قصة بعث النبي (صلى اللهعليه وآله) إلى قائدي غطفان داعياً لهما إلى الصلح، سعد بن عبادة يقول: (يا رسول الله إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك به فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي، فقال (صلى الله عليه وآله) لم يأتني وحي به ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة... فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما...الخ)(2).

فصريح قوله هو: (إن كان هذا الأمر لابد لنا من العمل به لأن الله أمرك...)، و(وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي)، فموضوع (لابد لنا من العمل به) هو أمر الله، وموضوع (كان لنا فيه رأي) هو: اختيار النبي (صلى الله عليه وآله) وترجيحه أحد الطرفين دون قضائه بأحدهما، إذ حينئذٍ يتحتم أيضاً إعمال رأيه (صلى الله عليه وآله) فإنه لا موضوع للشورى مع قضائه (صلى الله عليه وآله) إذ يقول تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ

ص: 218


1- بل ومن ضروريات الدين ظاهراً.
2- سبق نقله عن إرشاد المفيد، وفي بحار الأنوار: ج20 ص252 عنه.

لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(1)، وكذا لو أعمل (صلى الله عليه وآله) ولايته في أمر، فلا اختيار في رده حينئذٍ.

وإليك نماذج أخرى من ورود النص:

منها: قوله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(2)، قال في المجمع: (نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنهم هموا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إنهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) وهم أن يغزوهم فنزلت الآية، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة).(3)

ومنها: نصب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهماالسلام): (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(4)، فشورى السقيفة - إضافة إلى أنها لم تكن شورى الأكثرية، بل كانت شورى عدد قليل جداً من المسلمين مدعومة بالإرهاب، كما أثبت ذلك المؤرخون، على ما ذكر تفصيله في العبقات والغدير وغيرهما فليراجع -، باطلة لكونها في مقابل النص القاطع من النبي (صلى الله عليه وآله) عن الله يوم الغدير.

ولذا ورد في سورة (المعارج): (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ

ص: 219


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة الحجرات: 7.
3- مجمع البيان: المجلد الخامس الجزء التاسع ص133.
4- سورة المائدة: 67.

لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(1)، حيث قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام، فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله): (والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله)، فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله: سأل سائل بعذاب واقع).(2)

إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع.

السرّ في كثرة ورود النصوص الإلهية

والسر في كثرة ورود النصوص منه تعالى واضح:

أما في الأحكام الشرعية وأصول المذهب (كالإمامة) فلا يحتاج إلى البيان، إذ الشريعة من الله تعالى، والمقنن هو جل وعلا، ولا يمكن إرجاعه للبشر على ما هو مبين في محله، إذ إرجاعه للبشر مع ملاحظة عدم إحاطتهم بجهات التشريع وعدم معرفتهم بالمصالحوالمفاسد الواقعية الفعلية والمستقبلية، الجسمية منها والروحية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، لا بأصلها أحياناً كثيرة، ولا بتزاحماتها والأرجح منها أحياناً كثيرة أيضاً، ومع ملاحظة تحكم الأهواء فيهم والشهوات والقوة الغضبية والحقد والحسد وغيرها، يعد أكبر ظلم للمجتمع البشري، ولذا كانت سنته تعالى إرسال الرسل وسنّ الطرق والشرائع، والرسل

ص: 220


1- سورة المعارج: 1- 2.
2- مجمع البيان: المجلد الخامس ص352، وراجع (الغدير) لمعرفة مختلف المصادر.

هم الحجة الظاهرة إلى جانب الحجة الباطنة.

أما في الموضوعات، فلكون النبي (صلى الله عليه وآله) في مرحلة تأسيس دين عالمي، ولولا أوامره تعالى ونواهيه وتسديده في الشؤون العامة لكثير من الخاصة لما قام للإسلام عود، ولا ارتفع له عمود، ولذهب أدراج الرياح.

نماذج من تفويض الأصحاب أصواتهم للنبي o

هذا إضافة إلى أن الأصحاب كانوا كثيراً ما يعطون أصواتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) ويخولونه اتخاذ القرار وتعيين الأفضل، لما كانوا يعلمونه من رجاحة عقله، ورزانة رأيه، بل وعصمته وارتباطه بالوحي.

ولنذكر هنا بعض النماذج لذلك:

فمنها ما ذكره في البحار(1) في قصة استشارته (صلى الله عليه وآله) في طلب العير وحرب النفير:

(.. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أنّ ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوش جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُناقاعِدُونَ)(2)، ولكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً على قوله ذلك ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين

ص: 221


1- بحار الأنوار: ج19 ص217، وذكره في الامتاع: ص74، والسيرة: ج2 ص253، نقلاً عن هامش بحار الأنوار.
2- سورة المائدة: 24.

بايعوه بالعقبة قالوا: إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، ثم أنت في ذمتنا ونمنعك مما نمنع آباءنا ونساءنا، فكان (صلى الله عليه وآله) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال: نعم، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله أن يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: سيروا على بركة الله، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده).

فلقد أعلن سعد (الناطق بلسان أكثرية المسلمين وهم الأنصار(1)) أنه والأنصار طوع إرادته (صلى الله عليه وآله) في الأموال والأنفس يتصرف فيها كيف يشاء بما يشاء، وأنه (صلى الله عليه وآله) مطاع في أي أمر يأمره، وهل هناك تفويض أعلى وأرقى من ذلك؟

* وفي البحار(2): وعن مجمع البيان(3) في آية (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ)(4): (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بني النضير: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولا يقسم لكم شيء من الغنيمة، ولا نشاركهم فيها، فنزلت: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ

ص: 222


1- الأوس والخزرج.
2- بحار الأنوار: ج19 ص162.
3- مجمع البيان: ج9 ص260-261.
4- سورة الحشر: 6 و7.

خَصاصَةٌ)(1)، فلقد أبدوا مطلق التفاني وغاية الإيثار وتخلوا عن حقوقهم، لأن في ذلك رضى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

* وجاء في الامتاع للمقريزي(2): (فلما غنم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعى الأنصار كلها الأوس والخزرج، فحمد الله وأثنى عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء عليّ من بني نضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار)، وقسم ما أفاء الله عليه على المهاجرين دون الأنصار إلاّ رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف الأنصاري، وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق وكان سيفاً له ذِكر).

وهذا الخبر يطابق مضمون سابقه مع زيادة.

* وجاء في السيرة والكامل في التاريخ والطبري وغيرها(3): (قال محمد بن إسحاق: فأقام أبو العاص بمكة على شركه، وأقامت زينب عند أبيها (صلى الله عليه وآله) بالمدينة قد فّرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بمال له وأموال لقريش أبضعوا بها معه، وكان رجلاً مأموناً، فلمّا فرغ من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سريّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فأصابوا ما معه

ص: 223


1- سورة الحشر: 9.
2- الامتاع: ص182.
3- نقلاً عن بحار الأنوار: ج19 ص352 وص354، وذكره في ص349 مختصراً.

وأعجزهم هو هارباً، فخرجت السرية بما أصابت من ماله حتى قدمت به على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرج أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب منزلها فاستجار بها فأجارته، وإنما جاء في طلب ماله الذي أصابته تلك السرية، فلما كبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاة الصبح وكبّر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الصبح، فلما سلّم من الصلاة أقبل عليهم فقال: (أيها الناس هل سمتعم ما سمعت)؟ قالوا: نعم، قال (صلى الله عليه وآله): (أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم)، ثم انصرف فدخل على ابنته زينب فقال: (أي بنية أكرمي مثواه، وأحسني قراه، ولا يصلنّ إليك فإنك لا تحلين له)، ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا ماله، فقال لهم: (إن هذا الرجل منا بحيث علمتم وقد أصبتم له مالاً فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتهم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به)، فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه، فردوا عليه ماله ومتاعه حتى أنّ الرجل كان يأتي بالحبل ويأتي الآخر بالشنة ويأتي الآخر بالأدواة والآخر بالشظاظ حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره، ولم يفقد منه شيئاً، ثم احتمل إلى مكة فلما قدمها أدّى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان بضع معه بشيء حتى إذا فرغ من ذلك قال لهم: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً لقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفاً أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم وأذهب بها، فإذا سلمها الله لكم وأداها إليكم فإني أشهدكم أني قد أسلمت واتبعت دين محمد (صلى الله عليه وآله) ثم خرج سريعاً حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة).

ص: 224

وأيّ تفويض أقوى من هذا؟ فالمال حقهم وقد صرح بذلك الرسول (صلى الله عليه وآله): (وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به)، لكنهم جميعاً يتنازلون عن حقهم لمجرد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يحب ذلك، (فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك...).

محتملات وجوه عدم عمل النبي o بالشورى

وعليه: فعدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى في غير ما ثبت ورود نص قرآني خاص به، وفي غير ما ثبت تاريخياً إعطاء الأصحاب آراءهم له، مردد بين كونه:

1: لعدم وجوب الشورى رأساً، وكون آية (وَشَاوِرْهُمْ)(1) للندب.

2: وبين ورود أمر خاص قرآني أو غير قرآني كالحديث القدسي في ذلك المورد.

3: أو كون أمره من باب إعمال الولاية في ذلك المورد، مما يخرجه من موضوع الشورى، إذ سبق أن موضوعها ما لم يرد فيه نص قرآني وشبهه، ولم ينقل الرواة ذلك أو لم يصل نقلهم إلينا، أو لم يذكر النبي (صلى الله عليه وآله) لهم ذلك، لأجله لم يستشر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه.

4: وبين إعطاء الأصحاب أصواتهم له بقرينة مقالية أو حالية.(2)

ص: 225


1- سورة آل عمران: 159.
2- للتوضيح لا بأس بأن نشير إلى أن من المقرر (أن العمل مجمل من حيث الجهة التي وقع عليها) والمراد أن العمل بما هو هو مجمل وباحتفافه بقرائن حالية أو مقالية يخرج عن الإجمال، فلو صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رأس الساعة العاشرة مثلاً ركعتين، فهذا العمل مجمل الجهة، إذ لا يعلم أن هاتين الركعتين كانتا واجبتين عليه أم لا؟ وعلى تقدير الوجوب هل ◄ ►وجبتا عليه بالنذر أو بالقسم أو بالعنوان الأولي، وعلى تقدير عدم الوجوب فهل هما من النوافل ذات الأسباب الخاصة (كما في صلاة الاستخارة والزيارة) أم لا (بأن كانت من النوافل المبتدئة)، وهكذا وهلم جراً، ولا بأس بأن نذكر بعض الأمثلة لهذه القاعدة: فمنها: ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس الله سره) في بحث خبر الواحد بقوله: (... إنما المعلوم من حالهم) أمر مجمل، وهو (أنهم عملوا بأخبار وطرحوا أخباراً، فلعل وجه عملهم بما عملوا كونه متواتراً أو محفوفاً عندهم، بخلاف ما طرحوا، على ما يدعيه السيد...) [الرسائل: عند ذكر الإجماع المنعقد على حجية خبر الواحد، ص94] وقال: (... لأن العمل مجمل من أجل الجهة التي وقع عليها) [أوثق الوسائل في شرح الرسائل: للمرحوم الميرزا موسى التبريزي (قدس سره): ص165]. وقال المرحوم التبريزي في (الأوثق) انتصاراً للشيخ (قدس سره): (... نعم يرد على الوجهين أن جهة عمل الفقهاء بأخبار الآحاد مختلفة، لأن جماعة ومنهم الشهيد في الذكرى قد عملوا بمطلق الظن، وظاهرهم اعتبار الأخبار أيضاً من هذه الجهة، نعم ظاهر المشهور اعتبارها من باب الظنون الخاصة، ولا ريب أن إجماعهم على اعتبارها مع اختلاف جهة عملهم بها بل ومع إجمالها أيضاً لا يفيد اعتبارها من باب الظنون الخاصة كما هو المقصود في المقام) [أوثق الوسائل في شرح الرسائل، للمرحوم الميرزا موسى التبريزي (قدس سره): ص165]. وقال الشيخ (قدس سره) أيضاً: (وأما ثانياً فلأن ما ذكر من الاتفاق لا ينفع حتى في الخبر الذي علم اتفاق الفرقة على قبوله والعمل به، لأن الشرط في الاتفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين معلوماً، أ لا ترى أنه لو اتفق جماعة يعلم رضا الإمام (عليه السلام) بعملهم على النظر إلى امرأة، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم، وأُماً لآخر، وبنتاً لثالثة، وأم زوجة لرابع، وبنت زوجة لخامس، وهكذا، فهل يجوز لغيرهم ممن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتفاق الجماعة الكاشف عن رضى الإمام (عليه السلام) بل لو رأى شخص الإمام ينظر لامرأة فهل يجوز لعاقل التأسي به؟ وليس هذا كله إلا من جهة أن الفعل لا دلالة فيه على الوجه الذي يقع عليه، فلابد في الاتفاق العملي من العلم بالجهة والحيثية التي اتفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثية، ومرجع هذا إلى وجوب إحراز الموضوع في الحكم الشرعي المستفاد من الفعل، ففيما نحن فيه إذا علم بأن بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة، وبعضهم من حيث كونه ظاناً بصدوره قاطعاً بحجية هذا الظن، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ولا العلم بحجية الظن الحاصل منه، أو علمنا بخطأ من يعمل به لأجل مطلق الظن، أو احتملنا خطأه، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعاً للمجمعين) [الرسائل: ص101-102]، وقد نقلناه بطوله لمزيد◄ ► الفائدة. ومنها: ما ذكره المرحوم التبريزي في (الأوثق) في بحث الاستصحاب: (وتوضيحه أن العمدة في دعوى خروج العدميات من محل النزاع، هو ما ادعاه صاحب الرياض من الإجماع، ولا ريب أن هذه الدعوى إنما نشأت من ملاحظة عمل العلماء بالأصول العدمية أصولاً وفروعاً، ولا ريب أن العمل من حيث كونه من قبيل الأفعال لا ظهور له في الجهة التي وقع عليها، لإجماله من هذه الجهة، كما قرر في الإجماع التقييدي، وحينئذٍ نقول: إن المدعى في المقام حجية الاستصحابات العدمية بمعنى كون ثبوت العدم في الزمان الثاني مستنداً إلى ثبوته في الزمان الأول، كما هو المأخوذ في مفهوم الاستصحاب، وهذا غير ثابت من عمل العلماء، لأن غاية ما يستفاد من جهة عملهم حكمهم بثبوت الأعدام عند الشك في ثبوتها، وأما كون ذلك من جهة استصحاب العدم بالمعنى الذي عرفته أو لأجل قواعد أخرى موافقة في المؤدّى له، مثل قاعدة الشك في المانع مع احراز المقتضي حيث يحكمون بعدم المانع في مواردها، وقاعدة كون عدم الدليل دليل العدم، وقاعدة البراءة ونحوها، فلا دلالة لعملهم على تعيين أحد هذين الأمرين، فيحتمل أن يكون بناؤهم على العدم في مباحث الألفاظ مثل أصالة عدم النقل والاشتراك و أصالة عدم قرينة المجاز أو التخصيص أو التقييد أو نحو ذلك، لأجل كون عدم الدليل دليلاً ظنياً على العدم، والظن معتبر في مباحث الألفاظ عندهم، ويحتمل كون العمل بالظواهر ونفي قرينة المجاز والتخصيص والتقييد لأجل قاعدة إحراز المقتضي والشك في المانع، وكذا نفي الأحكام الكليّة المشكوك فيها لأجل قاعدة البراءة، وكذلك البناء على عدم النسخ لأجل ظهور الكلام في الاستمرار أو قضاء العادة بذلك... إلخ)، [أوثق الوسائل: أوائل بحث الاستصحاب ص441]. وقال الشيخ (رحمه الله): (...نعم قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، كقاعدة قبح التكليف من دون بيان ، أو عدم الدليل دليل العدم ، أو ظهور الدليل الدال على الحكم في استمراره أو عمومه أو إطلاقه أو نحو ذلك، و هذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب) [الرسائل: أوائل بحث الاستصحاب ص323]. ومنها ما ذكره الآخوند الخراساني (قدس سره) في حاشية الرسائل بقوله: (وأما الاستقراء فعلى تقدير تسليم أن الشارع قد حكم في جميع موارد الشك في البقاء من جهة الرافع، لا يوجب ذلك القطع بلزوم العمل على طبق الحالة السابقة، لاحتمال أن يكون ذلك لأجل لزوم العمل على وفق المقتضي عند الشك في الرافع) [حاشية الرسائل، للآخوند (قدس سره): ص178 عند التعليق على قول الشيخ (قدس سره): (لنا على ذلك وجوه، الأول ظهور كلمات جماعة...) (ص329 من الرسائل)، وهذه الموارد وإن أمكنت المناقشة في بعضها إلا أن ذلك من ◄ ►جهة أخرى لا من جهة الكبرى الكلية: (العمل مجمل من أجل الجهة التي وقع عليها)، فليتدبر جيداً.

ص: 226

ص: 227

إذا عرفت ذلك نقول:

إن عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على تقدير ثبوته - مردد بين المانع عن ظهور الأمر فيما هو ظاهر فيه(1)، وبين غير المانع، إذ لو كان وجهه الأول كان مانعاً عن إرادة الوجوب من (شَاوِرْهُمْ)(2)، ولو كان وجهه الثاني أو الثالث بشقوقه لم يكن مانعاً، إذ في الثاني والثالث عدم الاستشارة لعدم تحقق موضوعها أو منصرفها، وهو (ما لم يرد فيه نص إلهي) و (ما لم يكن من باب الولاية)، ومن الواضح أن انتفاء الحكم لانتفاء الموضوع لا يعنيإذا عرفت ذلك نقول:

إن عدم عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على تقدير ثبوته - مردد بين المانع عن ظهور الأمر فيما هو ظاهر فيه(3)، وبين غير المانع، إذ لو كان وجهه الأول كان مانعاً عن إرادة الوجوب من (شَاوِرْهُمْ)(4)، ولو كان وجهه الثاني أو الثالث بشقوقه لم يكن مانعاً، إذ في الثاني والثالث عدم الاستشارة لعدم تحقق موضوعها أو منصرفها، وهو (ما لم يرد فيه نص إلهي) و (ما لم يكن من باب الولاية)، ومن الواضح أن انتفاء الحكم لانتفاء الموضوع لا يعنيانتفاءه مع وجود الموضوع، فلا يصلح مانعاً عن ظهور الأمر في الوجوب مع تحقق الموضوع، وأما الأخير فليس مانعاً أيضاً، إذ ليس معارضاً حتى يكون مانعاً، إذ لا مانعة جمع بين وجوب العمل برأي الأكثرية وبين العمل برأيه (صلى الله عليه وآله) عند تفويض الأكثرية الرأي إليه، بل هذا صغرى ذاك، لأنه عمل برأي الأكثرية حقيقة، غاية الأمر أن العمل برأيها الإجمالي ههنا، إذ لا رأي تفصيلي لها قبل التفويض، إذ أن رأيها هو ما يرتئيه (صلى الله عليه وآله)، أو برأيها الثانوي مع تخليها عن رأيها الأولي لأجله (صلى الله عليه وآله).

وإذا تردد الشيء - عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى - بين المانعية واللا مانعية، كان الأصل عدم المانعية، والمانعية موقوفة على إثبات سائر الاحتمالات.

إن قلت: لنا أصل حاكم وهو أصالة عدم ورود أمر إلهي خاص، وأصالة

ص: 228


1- إذ لو كان عدم عمله (صلى الله عليه وآله) لعدم وجوبها ثبوتاً وأمكن نفي سائر الاحتمالات، وخليت الآية مع هذا الاحتمال في عدم عمله بالشورى، كان عدم العمل إثباتاً قرينة صارفة عرفاً للأمر عن ظهوره في الوجوب، فتأمل.
2- سورة آل عمران: 159.
3- إذ لو كان عدم عمله (صلى الله عليه وآله) لعدم وجوبها ثبوتاً وأمكن نفي سائر الاحتمالات، وخليت الآية مع هذا الاحتمال في عدم عمله بالشورى، كان عدم العمل إثباتاً قرينة صارفة عرفاً للأمر عن ظهوره في الوجوب، فتأمل.
4- سورة آل عمران: 159.

عدم كونه من باب الولاية، وأصالة عدم إعطاء أصحابه آراءهم له (صلى الله عليه وآله).

قلت: أولاً: الأصل مثبت.

وثانياً: حيث إن هذا الأصل الحاكم معارض بمثله، وهو أصالة عدم كون عدم عمله قرينة على كون الأمر للندب، لذا تصل النوبة للأصل المحكوم السابق الذكر، فتأمل.

إن قلت: محتمل القرينية المتصل مخل بالظهور، إذ كلما كان الكلام محفوفاً أو مقروناً بحال أو مقال يصلح لأن يكون قرينة لإرادة خلاف الظاهر منه، يرتفع الظهور عنه ويصير من المجملات، وذلك مثل الإنشاء المتعقب لجمل متعددة، وكالأمر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.

قلت: أولاً: لا دليل على ذلك، والموارد مختلفة بنظر العرف، ومما يشهد بأن (الموارد مختلفة بنظر العرف - إضافة إلى الوجدان وظهور ذلك لمن تتبع فهم العرف في الموارد المختلفة -: ما نقله المرحوم الآشتياني عن الشيخ (رضوان الله تعالى عليهما) في بحث الاستصحاب، حيث أورد على الاستدلال بالصحيحة الأولى لزرارة (رحمه الله): (بأن سبق اليقين وإن لم يكن قرينة للعهد فلا إشكال في كونه صالحاً لأن يعتمد المتكلم عليه، ويريد العهد من اللام في اليقينلا الجنس، وقد تقرر في مسألة حجية الظواهر وفاقاً لشيخنا الأستاذ العلامة أن كلما كان الكلام محفوفاً أو مقروناً بحال أو مقال لا يصلح...) إلخ، فأجاب الشيخ (قدس سره): (بأن ما تقرر في محله ليس قضية دائمة، بل ربما يتخلف من جهة خصوص المقام، ونحن نجد بالوجدان ظهور اللام في الجنس في خصوص المقام ولو مع ملاحظة سبق ذكر اليقين).(1)

ص: 229


1- بحر الفوائد في شرح الفرائد، للمرحوم الآشتياني (قدس سره): بحث الاستصحاب ص26.

ثانياً: سلمنا، لكن (الموجود المحتمل للقرينية) ههنا ليس متصلاً، إذ موارد عدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى كانت قبل آن نزول الآية أو بعده لا معه، فمحتمل القرينية منفصل إذن، واحتمال وقوع حادثة في آن نزول الآية لم يعمل فيها النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى، مدفوع بالأصل، وبأنه بعيد إلى الغاية، والاتصال هو المحتاج للإحراز، لأن الأثر (وهو سقوط الظهور عن الحجية) متفرع عليه.

إلا أن يجاب بأن الحالة العامة له (صلى الله عليه وآله) كانت عدم العمل، والآيات نزلت والحال هذه، فالقرينة المقامية حافة عامة، فتأمل.

وإن قلت: إن أصالة عدم الاتصال معارضة بأصالة عدم الانفصال.

قلت: إذن يتعارضان فيتساقطان، فلا محرز للاتصال الذي يترتب الأثر عليه.

ص: 230

الجواب الرابع: وجوب الشورى مردد بين الموضوعية والطريقية

إن وجوب الشورى - على تقديره - مردد بين الموضوعية والطريقية، وعلى كلا التقديرين لا يكون عدم عمل النبي (صلى الله عليه وآله) بالشورى - على فرض تسليمه - دليلاً على عدم الوجوب.

الموضوعية وباب التزاحم

فإن كان للموضوعية، فعدم عمله (صلى الله عليه وآله) بها لعلّه لباب التزاحم.

بيان ذلك: إن وجوب الشورى إن كان من باب الموضوعية (بأن لم يكن من باب الأقربية للواقع، بل لوجود مصلحة في نفس الشورى والاستشارة، مع قطع النظر عن الواقع والإيصال إليه مثل: تأليف القلوب، وإظهار الاعتماد عليهم و...، كما أن اعتبار العدالة في باب الفتوى مثلاً مأخوذ من باب الموضوعية، إذ حتى لو علم بعدم كذب الفاسق في استنباطه - أي في إخباره أن هذا هو ما استنبطه مستفرغاً وسعه - لا يجوز تقليده، وكذا في باب الشهادة)، فربما يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من باب التزاحم لا لعدم وجوبها (كما في كل واجدي الملاك مع أهمية أحد الملاكين) بأن عارضها ذو ملاك أقوى، فعمل (صلى الله عليه وآله) به وتركها.

فمثلاً: قد يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى من باب دوران

ص: 231

الأمر بين العمل بالشورى، وبين حفظ بيضة الإسلام كما في بعض الحروب، كما كان عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أهل مكة، وعفو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة مع أنهم بغاة حكمهم القتل ونظائره: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْمِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ)(1) من هذا الباب (أي من باب التزاحم) وأرجحية ملاك العفو ومصلحته على ملاك القتل، وكما كان أمر النبي والأئمة (عليه وعليهم السلام) بالعمل بالظواهر في باب القضاء وأضرابه وعملهم بها من هذا الباب لتزاحم مصلحة الواقع بمصحلة (ضرب القانون) و(كونهم للناس أسوة).

الطريقية والحجة الأقوى

وإن كان للطريقية فعدم عمله (صلى الله عليه وآله) لوجود الحجة الأقوى الأقرب.

وأما إن كان وجوبها من باب الطريقية بملاك أقربية رأي الأكثرية إلى الواقع من رأي الفرد، فكذلك لا يكون عدم عمله (صلى الله عليه وآله) بها دليلاً على عدم حجيتها ووجوبها، إذ في باب الطرق الشرعية يقدم الأقوى على الأضعف، سواء كان المناط في الحجية الظن النوعي مطلقاً، أو مع عدم الظن الشخصي بالخلاف، أو كان المناط الظن الشخصي، كخبر الواحد والاستصحاب بناءً على كونه حجة لا من باب التعبد على بعض المسالك(2)، فتأمل، وكتعارض خبرين

ص: 232


1- سورة المائدة: 33.
2- قال في بحر الفوائد في شرح الفرائد: ص65 من بحث التعادل والتراجيح: (الأصل سواء كان شرعياً محضاً أو عقلياً كذلك تعليقي بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي، وإن قيل باعتبار ◄ ►الأصل من باب الظن فإنه لم يعهد على هذا القول أيضاً توهم معارضة الأصل للدليل الاجتهادي).

لأحدهما مرجح صدوري أو جهتي أو مضموني حسب ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره)، وقيل: إنه المشهور من الترجيح بملاك الأقربية للواقع، والتعدي عن المرجحات المنصوصة.

وحينئذٍ نقول: من المسلّم أن ما يراه الرسول (صلى الله عليه وآله) مطابق للواقع مائة في المائة، والشورى غالبة المطابقة، ومن الواضح ترجح دائم المطابقة على غالبها ولزوم اتباعه دونه.

إشكالات وأجوبة

إن قلت: فللفقيه الحق إذن بمخالفة رأي الأكثرية واتباع رأيه في الموضوعات العامة، لأنه يرى رأيه الأقرب مطابقة للواقع؟

قلت: كلا، إذ سيجيء مفصلاً إثبات أن رأي الشورى أقرب للواقع، وأن الظن النوعي الحاصل منها أقوى من الحاصل من استنباط المستنبط.

إن قلت: لو كان رأي النبي (صلى الله عليه وآله) دائم المطابقة فلا يصح إيجاب الشورى غير دائمة المطابقة عليه.

قلت: الملازمة صحيحة، والإشكال وارد لو قلنا بأن وجوبها عليه (صلى الله عليه وآله) من باب الطريقية الصرفة حيث يقال: كيف أوجبها الله عليه مع دائمة مطابقة رأيه وغالبية مطابقتها، أما لو التزمنا بوجوبها عليه من باب الموضوعية أو من باب الموضوعية والطريقية(1) فلا، إذ ليس الملحوظ في ما ليس حجيته ووجوبه

ص: 233


1- المراد لحاظ الجهتين (مصلحة سلوك الطريق ومصلحة المؤدّى) عند جعل الحجية ولزوم الاتباع.

من باب الطريقية الصرفة، الواقع إطلاقاً أو بمفرده حتى يكون الأمر باتباع غير دائم المطابقة، قبيحاً ونقضاً للغرض.

وأما أن وجوبها علينا هل هو من باب الطريقية، أو الموضوعية، أو من باب لحاظ الجهتين، فسيجيء إن شاء الله تعالى.

بعبارة أخرى: لا تعد أقربية إحدى الحجتين إلى الواقع مرجحة له على الآخر، فيما لو كان الآخر حجة من باب الموضوعية(1)، ولذا تجد الفقهاء لا يرجحون في باب التعارض بالأصل، (إلا لو كانوا قائلين بحجيته من باب الظن النوعي، حيث يتقوى به حينئذٍ الخبر الموافق له فيكون أقرب إلى الحق والواقع(2) فلا مانع حينئذٍ منالترجيح به، إلا لزوم تخصيص أخبار التخيير بما إذا لم يكن هناك أصل على طبق أحدهما وهو إخراج لأكثر موارد الأخبار)، إذ بناء على حجيته من باب التعبد لا تشمله الكلية المستفادة من الروايات الواردة في الترجيح من الترجيح بما يوجب نفي الريب الإضافي (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(3)، حيث علل (عليه السلام) الأخذ بالمشهور به، وكذلك قوله (عليه السلام): (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (4)، ومن ترجيح الخبر المخالف للعامة معللاً ب(ما خالف العامة ففيه الرشاد وأن الحق فيما خالفهم)(5) وأن ما وافقهم فيه التقية، إلى آخر الروايات، الظاهر كل ذلك في الترجيح بمناط الأقربية.

ص: 234


1- الجامع هو أن ما لا تكون حجيته من باب الطريقية لا يقوى ما حجيته من بابها ولا يوجب وهن حجيته ما يكون أقرب إلى الواقع منه على تقدير كونه حجة من باب الطريقية.
2- قال الشيخ (قدس سره): (فلابد من التزام عدم الترجيح بها (أي بالأصول) وأن الفقهاء إنما رجحوا بأصالة البراءة والاستصحاب في الكتب الاستدلالية من حيث بنائهم على حصول الظن النوعي بمطابقة الأصل...) الرسائل: ص73 س2.
3- مقبولة عمر بن حنظلة، الكافي: ج1 ص67 ح10.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص167 ب12 ح33506.
5- مرفوعة زرارة، غوالي اللئالي: ج4 ص133 ح229.
الجواب الخامس: عدم وجوب الشورى عليه o لا ينفي وجوبها على المسلمين

سلمنا عدم وجوب الشورى على الرسول (صلى الله عليه وآله) لكن ذلك لاينفي وجوبها على سائر المسلمين، بل لا ينفي استفادة وجوبها من نفس آية: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1)، وإن خرج النبي (صلى الله عليه وآله) المخاطب بها عن الحكم.

بيان ذلك يتم في ضمن أمرين:

1: الأصل في الأوامر القرآنية عمومها للكل وإن وردت بصيغة خطاب للنبي o

الأمر الأول: إن الأوامر والنواهي القرآنية الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) بصيغة المخاطب المفرد، الأصل فيها أن تكون عامة لكل المسلمين غير مختصة بالنبي (صلى الله عليه وآله) إلا ما ثبت من الخارج اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله) به، والدليل على ذلك ما ثبت بالإجماع وبالضرورة من اشتراك المسلمين مع النبي (صلى الله عليه وآله) في الأحكام جميعاً إلا ما قام الدليل الخارجي على أنه من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله) كوجوب السواك، ووجوب صلاة الليل، وصحة

ص: 235


1- سورة آل عمران: 159.

هبة المؤمنة نفسها له (صلى الله عليه وآله): (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ)(1) (صلى الله عليه وآله)، والزيادة على الأربع... إلخ.

وعلى هذا فكل ما لم ينص على إخراجه من هذا العموم وكونه من المختصات، داخل في العموم، لما قرر في بحث الألفاظ من (الأصول) من أن العام المخصص وإن كان بالمتصل، له ظهور في الباقي، وعلى ذلك بناء العقلاء في كل عام أو مطلق خصص أو قيد، ويتضح هذا بملاحظة أن المولى لو أمر عبده بإكرام العلماء واستثنى زيداً بقرينة متصلة أو منفصلة، فهل يصح للعبد أن يتعلل لعدم إكرامه الآخرين بعدم انعقاد ظهور للعام في الباقي، بعد ثلم ظهوره في المعنى الموضوع له؟ وكذا لو استثنى مجموعة من العلماء بل أصنافاً منهم؟.

هذا إضافة إلى أن المتتبع للآيات الكريمة يجد جريان سنة الله جل وعلا في كثير من الموارد على إنزال حكم عام وقاعدة شاملة لكل المسلمين، ولكن بصيغة خطاب موجه للنبي (صلى الله عليه وآله)، إذ أن الخطاب يحتاج إلى طرف، وكثيراً ما يحسن في الحكمة كونطرف الخطاب أحد المأمورين وعدم توجيه الخطاب لجميعهم، وذلك إما لأفضليته، أو لشدة العناية به، أو لكونه هو الشاغل لمركز القيادة، أو لكونه هو المأمور بتبليغ الحكم للمسلمين، أو لكونه هو المصداق الأجلى أو الفعلي، أو غير ذلك من المصالح والحِكَم.

وإليك بعض الأمثلة من القرآن الحكيم:

قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(2)، فمع أن جهاد الكفار والمنافقين واجب على الجميع، وجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) بالذات، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وبصيغة المفرد (جاهِدِ).

ص: 236


1- سورة الأحزاب: 50.
2- سورة التوبة: 73.

وقال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالمُنافِقِينَ...)(1).

وقال تعالى: (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(2)، فهل وجوب اتباع ما يوحى إليه (صلى الله عليه وآله) من ربه مختص به؟

وقال سبحانه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(3).

وقال تعالى: (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ)(4).

وقال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ)(5). نعم الهبة مختصة به للدليل الخارجي وكذا الفيء المعين.

وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ)(6)، فمع أن وجوب القول للأزواجوالبنات ونساء المؤمنين وأمرهم بالحجاب حكم عام لكل قادر على الأمر بالمعروف، مع ذلك وجه الله تعالى الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ).

وكذلك: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(7) ، و:

ص: 237


1- سورة الأحزاب: 1.
2- سورة الأحزاب: 2.
3- سورة الأحزاب: 3.
4- سورة الأحزاب: 48.
5- سورة الأحزاب: 50.
6- سورة الأحزاب: 59.
7- سورة التوحيد: 1.

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(1) ، و: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(2).

وكذلك: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ)(3) ، و:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ)(4) ، و:(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(5) ، و: (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ).(6)

وقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها).(7)

وقوله سبحانه: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ).(8)

وقوله سبحانه: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ).(9)

وقوله تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ)(10)، إلى غير ذلك من

ص: 238


1- سورة الناس: 1.
2- سورة الكافرون: 1 - 2.
3- سورة سبأ: 22.
4- سورة سبأ: 24.
5- سورة سبأ: 25.
6- سورة سبأ: 30، وكذا لاحظ بقية آيات هذه السورة، وتوجد من هذه القبيل في الآيات مواضع كثيرة، كسورة الملك: 23 و24 و26 و27، وسورة التوبة: 51، وسورة الجن: 20 و21 و22 و25... إلخ.
7- سورة الأنفال: 61.
8- سورة النساء: 102.
9- سورة الأعراف: 205.
10- سورة التوبة: 55.

الآيات.

ومما يشهد على أن ورود الخطابات القرآنية بصيغة المفرد المخاطب إنما هو لإحدى العلل السابقة وأشباهها ولا إشعار فيه - أي في وروده هكذا - بأي اختصاص بالنبي (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق الآيات التالية:

1: قوله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).(1)

2: قوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ).(2)

3: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ

ص: 239


1- سورة الأنفال: 60-61.
2- سورة التوبة: 4-6.

وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).(1)

4: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ...).(2)

ففي الآية الرابعة توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) منباب أن الخطاب يحتاج لطرف أو لغير ذلك.

وفي الآية الأولى تغيير الخطاب من الجمع إلى المفرد (وَأَعِدُّوا... فَاجْنَحْ)(3) مع أن الحكمين عامان لكل المسلمين، إذ كما يجب عليه (صلى الله عليه وآله) الجنوح إلى السلم، يجب عليهم أيضاً، وقد يكون لأجل كونه هو الشاغل للمركز القيادي وأن بيده الأمر فوجه الأمر بالجنوح إلى السلم إليه لأن نسبته إلى القائد أولى، أما الإعداد للحرب فهو شأن عامة المسلمين بعد صدور القرار بالحرب أو قبله فلذا وجه الخطاب لهم.

وكذا في الآية الثانية: (...عاهَدْتُّمْ... فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ... فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ... وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ)(4) مع أن المشرك لو أجاره المسلم ليسمع كلام الله كان كذلك.

ومثل ذلك يقال في الآية الثالثة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ... يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ...) (5).

والغرض من هذا البحث ليس إثبات الصغريات وبيان النكتة في تغيير

ص: 240


1- سورة التحريم: 8-9.
2- سورة الطلاق: 1.
3- سورة الأنفال: 60-61.
4- سورة التوبة: 4-6.
5- سورة التحريم: 8-9.

السياق (إذ قد يناقش في بعضها وقد تكون هناك نكات أخرى أدق وأنسب) بل إثبات أن توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ليس لأجل اختصاصه بالحكم (إلا لو ثبت خارجاً ذلك، ولو من باب عدم تحقق الموضوع في غيره، مثلاً لو قلنا فرضاً بعدم معقولية كون اتخاذ قرار السلم بيد غير القائد العام فقط فيكون توجيه الخطاب له (صلى الله عليه وآله) من باب عدم تحقق الموضوع في غيره) بل لأجل نكتة خاصة مما ذكر ومن غيرها.

ولذا نجد الفقهاء لا يستفيدون من الخطابات الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) أنها مختصة به حكماً غير شاملة لغيره.

فمثلاً: استدلال البعض على حجية خبر الواحد بآية: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُلِلْمُؤْمِنِينَ)(1)، حيث مدح الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق بالله عز وجل، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً).(2) وجه الاستشهاد: أن الكلام حول النبي (صلى الله عليه وآله) وأن (يؤمن للمؤمنين) صفته، مع ذلك استدل بها على حسن أن يؤمن كل شخص للمؤمنين، فإذا حسن وجب.

وبعض الفقهاء - كالشيخ (قدس سره) مثلاً - وإن لم يقبل دلالة الآية على المدعى، إلا أن ذلك كان من جهات أخرى لا من جهة اختصاص الحكم بالنبي (صلى الله عليه وآله) لأنه جعل صفته في الآية، ولذا لم يستشكل على الاستشهاد بهذا الإشكال، كما لم يستشكل الخراساني في حاشيته على الرسائل، ولا الآشتياني، ولا صاحب الأوثق: التبريزي، (قدس سرهم) مع أن هذا الإشكال لو

ص: 241


1- سورة التوبة: 61.
2- الرسائل: ص82.

كان صحيحاً عندهم وكانوا يرون اختصاص حكم الخطابات الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) به لكان أحرى بالذكر وأوجه في الجواب.

وتسرية الحكم من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غيره مع توجه الخطاب له (صلى الله عليه وآله) إما من جهة ما ذكرناه وبرهنا عليه بتتبع الآيات، وإما من جهتين أخريين ذكرهما الميرزا محمد حسن الآشتياني (رحمه الله) في بحر الفوائد عند الحديث حول الآية الكريمة.

قال: إن تسرية الحكم من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غيره إما من جهة دلالة الآية على حسن التصديق بقول مطلق من غير فرق بين النبي (صلى الله عليه وآله) وغيره، وإما من جهة ما دل على حسن المتابعة والأسوة للنبي (صلى الله عليه وآله).(1)

والفرق بين الوجوه الثلاثة:

أن في الأول: اللفظ الموجه للنبي (صلى الله عليه وآله) دال بنفسه على عموم الحكم، منتهى الأمر مجازاً.وفي الثاني(2): التعميم من باب تنقيح المناط أو لمناسبة الحكم والموضوع.

وفي الثالث: التعميم لا بدلالة نفس اللفظ، ولا بتنقيح المناط، بل بدلالة عمومات لزوم التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله) كقوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)(3)، فتأمل.

ص: 242


1- بحر الفوائد: حجيبة خبر الواحد ص159.
2- وهو أول وجهي الآشتياني (قدس سره).
3- سورة الأحزاب: 21.
ثمرة عمومية خطابات القرآن في المقام

إذا ثبتت المقدمة الأولى فنقول: آية (شَاوِرْهُمْ)(1) وإن كان الخطاب فيها موجهاً للنبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنها عامة لكل قائد، بل لكل مسلم فيما أنيط به من أمر، إذ قلنا: إن اختصاص حكم بالنبي (صلى الله عليه وآله) هو المحتاج للإثبات، بالضرورة والإجماع، فإن لم يثبت الاختصاص فإنه داخل تحت عموم: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2)، وفي إطلاق الإجماع أو في معقده، بل الأمر من الضروريات.

إن قلت: أصالة الحقيقة تقتضي أن يكون المخاطب بالحكم هو المختص به؟

قلت: أولاً: أصالة الحقيقة لا تقتضي ذلك، بل تقتضي صرف ثبوت الحكم له ساكتة عن غيره، ويثبت حكم الغير بأدلة اشتراك الأحكام.

ثانياً: لو سلمنا أن أصالة الحقيقة تقتضي ذلك، نقول: لا مناص عن رفع اليد عنها لغلبة المجاز غلبة عظيمة عليه، إذ أثبتنا أن أغلب خطابات القرآن الكريم الموجهة بصيغة المفرد المخاطب للرسول (صلى الله عليه وآله) ليس الحكم فيها مختصاً به، والنادر(3) منها اختص به (صلى الله عليه وآله).

هذا إن لم نقل بالتفكيك بين الإرادتين الجدية والاستعمالية، وأنه لا مجاز في مرحلة الاستعمال، بل القرينة العامة من الضرورة وغيرها تتصرف في الإرادة

ص: 243


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الأحزاب: 21.
3- مثل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) سورة المزمل: 1 - 3، إن قلنا بوجوب قيام الليل عليه (صلى الله عليه وآله). و: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) سورة الأحزاب: 52، إلى غير ذلك.

الجدية، فالخطاب مستعمل فيما هوالموضوع له.

إذن (شَاوِرْهُمْ)(1) وإن كان الخطاب فيها موجهاً للنبي (صلى الله عليه وآله) لنكتة ما من النكات السابقة الذكر، إلا أنه حكم عام شامل للجميع.

2: استثناء الفرد الواحد لا يخل بظهور العام

الأمر الثاني: من الثابت أصولياً أن استثناء فرد واحد لا يخل بظهور العام، فلو فرض أن الشورى أو حتى الاستشارة لم تكن واجبة على النبي (صلى الله عليه وآله) بدليل العمل الخارجي له (صلى الله عليه وآله) أو بأي دليل آخر، فليست النسبة بين (شَاوِرْهُمْ)(2) و (وعدم وجوب الشورى عليه صلى الله عليه وآله) هي التباين حتى يحمل الأمر على الاستحباب، لكون عدم (العمل) نصاً في عدم الوجوب، والأمر ظاهراً، بل النسبة هي العموم المطلق، إذ سبق في المقدمة الأولى إثبات أن (شاورهم) حكم عام، فهو يساوي (شاوروهم)، ومن الواضح أن لا تنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد، إذ هما من موارد الجمع المقبول لعدم تحقق التعارض بينهما: (يأتي عنكما الخبران المتعارضان بأيهما نعمل) (3) والذي هو الموضوع للتساقط كأصل أولي، وللترجيح أو التخيير كأصل ثانوي، دلت عليه الروايات، فلا مانعة جمع بين عدم وجوبها عليه (صلى الله عليه وآله) ووجوبها على كافة المسلمين، ولا يلزم من استثناء فرد كالنبي (صلى الله عليه وآله) عملياً عدم ثبوت الحكم لسائر الأفراد.

ص: 244


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة آل عمران: 159.
3- انظر مستدرك الوسائل: ج17 ص303 ب9 ح21413 وفيه: (يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ).

وإن شئت قلت: الأمر دائر بين التخصيص ومجاز آخر، وكلما دار الأمر بينهما قدم التخصيص، فإن عدم وجوب الشورى على النبي (صلى الله عليه وآله) يوجب ارتكاب مجاز في (شَاوِرْهُمْ) إمابحمل الأمر على الندب، أو بإبقائه على ظاهره من الوجوب وتخصيصه بغير الفرد المستثنى، وهو (النبي صلى الله عليه وآله)، والثاني هو المتعين، وذلك لوهن ظهور العام في العموم بالنسبة لظهور الأمر في الوجوب، يدل على ذلك: (ما من عام إلا وقد خص) وأن التخصيص في العمومات أكثر بكثير من التجوز في الأوامر.

هذه إضافة إلى فهم العرف المحكم فيما يلقى إليه من كلام الشارع، فمثلاً لو أمر المولى كبير عبيده بقوله: (احترم الضيوف) أو (ابنِ مدينة)، وكان دأب المولى إصدار حكم عام لكل العبيد ولكن بصيغة خطاب موجه إلى كبير العبيد لنكتة، فاحترم يعني احترموا، وابنِ يعني ابنوا، ثم قامت قرينة خارجية على عدم وجوب الاحترام والبناء على كبيرهم لسبب ما، أ ترى (احترم) ينزل على الاستحباب أم يبقى على ظاهره من الوجوب وتعتبر القرينة الخارجية دليلاً على استثناء كبير العبيد من الحكم العام؟ وأترى العبيد معذورين لو تركوا احترام الضيوف وبناء المدينة، متعللين بقيام قرينة خارجية على عدم وجوب ذلك على كبير العبيد؟ فتأمل.

الإشكال بقبح تخصيص المورد والجواب

إن قلت: تخصيص المورد مستهجن، فالأمر ليس للوجوب.

قلت: الجواب عن هذا الإشكال من وجوه:

الوجه الأول: إن هذا ليس من تخصيص المورد، بيان ذلك: (إن إخراج مصداق من مصاديق متعلق التكليف كان هو مورد نزول التكليف) يسمى

ص: 245

بتخصيص المورد.

وبعبارة أخرى: إخراج فرد من محمول كبرى وردت في مورد هذا الفرد، أما إخراج فرد من المخاطبين بالتكليف مع كونه طرف خطاب المولى فخارج عن (تخصيص المورد) موضوعاً، إذ (المورد) يعني مورد نزول الحكم ومورد ثبوت المحمول، ولا يطلق على المخاطب أنه (مورد) لنزول الحكم أو (مورد) للخطاب. وفي آية الشورى لو نزلت في مورد خاص لم يعمل بها (صلى الله عليه وآله) في ذلك المورد مع دلالة الآية على الوجوب، يلزم حينئذٍ تخصيصالمورد، لا ما لو دلت على الوجوب واستثني منها طرف الخطاب. وفيه: ما لا يخفى.

الوجه الثاني: سلمنا أنه أيضاً من تخصيص المورد، لكن نقول إن (تخصيص المورد) ليس مما نهى الشارع عنه حتى يكون له إطلاق أو عموم، وحتى يتمسك في المصاديق المشكوكة بالإطلاق أو بالعموم، بل هو قاعدة مستندة إلى الارتكازات العرفية وبناء العقلاء، وحينئذٍ فالقبح لا يدور مدار عنوان (تخصيص المورد)، بل هو دائر مدار الاستهجان العرفي، وفي حدود دائرة بناء العقلاء، وأننا عند الرجوع إلى العرف لا نجدهم يستهجنون استثناء المخاطب من حكم عام للجميع وإن كان بصيغة خطاب موجه له، إذا كان دأب المولى توجيه خطاباته العامة باسم فرد خاص، كما سبق إيضاحه قبل قليل، ولا أقل من الشك في ذلك وأنه مستهجن أم لا، ومشكوك القرينية(1) لا يصلح صارفاً لما له ظاهر إذا كان منفصلاً، بل وحتى لو كان متصلاً على كلامٍ، وقد سبق ذلك في موضع آخر.

وقد التزم الفقهاء والأصوليون بتخصيص المورد في موارد عديدة، نذكر في الملحق رقم (4) بعضها، مع بعض البحوث الهامة حولها فراجع.

ص: 246


1- وهو استثناؤه (صلى الله عليه وآله) من الوجوب.
الإشكال الثاني: النبي o إنما يتبع الوحي لا الأكثرية
اشارة

وربما يورد على الاستدلال ب- (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1) على لزوم اتباع الشورى، بأن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما يتبع الوحي لا آراء الأكثرية، فإذا لم تكن الشورى ملزمة له لم تكن ملزمة لغيره، بل إن اتباعه للأكثرية على هذا محرم، وذلك لقوله تعالى: (­إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(2)، فحكمه تابع لما أراه الله لا لما أراه الناس.

وقوله سبحانه: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(3).

وقوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ...)(4).

وقوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).(5)

ومن جهة أخرى كيف يكون للمؤمنين الخيرة من أمرهم مع قوله تعالى:

ص: 247


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة النساء: 105.
3- سورة النجم: 3-4.
4- سورة يونس: 15.
5- سورة الأعراف: 203.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(1)، وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِوَرَسُولِهِ).(2)

الأجوبة:

أولاً: إن هذا الإشكال على فرض تسليمه مختص بآية (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) دون غيرها من الأدلة ك(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(4)، و: (أَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْكُم )(5)، على ما فصلنا الاستدلال بها في مواضع أخرى.

ثانياً: ما سبق تفصيلاً من الجواب عن نظير هذا الإشكال، بأن تمامية هذا الإشكال في الآية موقوف على عدم كون خطاب (وَشَاوِرْهُمْ)(6) عاماً جيء به بلسان خاص، كما هو كثير في القرآن الكريم كما فصلناه سابقاً، ومنه قوله سبحانه: (أَقِم الصَّلاةَ)(7)، و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد)(8)... الخ، وقد استثني منه النبي (صلى الله عليه وآله) بدليل الآيات السابقة استناداً إلى أن مثل (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما

ص: 248


1- سورة الأحزاب: 36.
2- راجع الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: الجزء 25 ص220.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة الشورى: 38.
5- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج2 ص470.
6- سورة آل عمران: 159.
7- سورة الإسراء: 78.
8- سورة الإخلاص: 1.

يُوحى إِلَيَّ)(1) دليل على عدم اتباعه الأكثرية في الموضوعات والشؤون العامة، أما لو قلنا بأن الخطاب عام وقد استثنى (صلى الله عليه وآله) منه لخصوصية فيه (وهي علمه المطلق المحيط وعصمته وكونه متصلاً بالله تعالى) وقلنا بعدم قبح استثناء المورد، كما في قول المولى لكبير عبيده الذياعتاد أن يوجه الخطاب إليه مع كون الأمر عاماً له ولغيره: (إذهب للدفاع عن المدينة) مما كان الأمر له ولغيره من العبيد، ثم استثناه المولى بالخصوص، فإنه - على ذلك كله - لا يستلزم استثناؤه (صلى الله عليه وآله) استثناء الباقين، ولا صرف ظاهر الأمر (شاورهم) عن ظهوره في الوجوب كما فصلناه سابقاً، فليراجع وليتأمل.

إتباع الأكثرية فيما لم ينزل فيه وحي، إتباع لما يوحى إليه

ثالثاً: إن اتباع الأكثرية في الشؤون العامة وفيما لم ينزل فيه وحي بخصوصه، اتباع لما يوحى إليه، إذ قد أوحي إليه ب- (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(2) و(أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(3) - بناءً على تمامية الاستدلال بهما أو بالآية الأخيرة - واتباعها حكم بين الناس بما أراه الله، إذ قد أراها له، واتباعها المأمور به في الآية ليس نطقاً عن الهوى، وذلك لأن ما أوحى الله به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قسمان، أوحى إليه بجزئيّه، وقسم أوحى إليه بكليّه، وفي كليهما فإن الاتباع اتباع للوحي، فقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِباتُ)(4) دليل بعمومه على حلية السكر والدابوعة مثلاً، فقوله (صلى الله عليه وآله) بحليتهما قول بما أوحي إليه وإن لم

ص: 249


1- سورة الأنعام: 50.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة الشورى: 38.
4- سورة المائدة: 4.

يرد في هذين الموردين وحي جزئي وخاص، وإكرامه لهذا الضعيف وإحسانه لهذا الفقير وإلقائه هذه الخطبة وأكله لهذه اللقمة اتباع لما أوحي إليه من الكلي لا الجزئي، إذ لم يرد في كل مورد جزئي وحي خاص، كما يدل عليه قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)(1)، وغير ذلك.

وفي موارد الاستشارة أيضاً كذلك، فقد أمر أمراً كلياًبالاستشارة في الموضوعات العامة، فاستشارته (صلى الله عليه وآله) لهم واتباعهم اتباع لما يوحى إليه من الكلي وليس اتباعاً للهوى.

والذي يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأي رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار).(2)

والروايات الدالة على كون سيرته (صلى الله عليه وآله) القضاء بالبينة أو بالشاهد واليمين مطلقاً كثيرة، فليراجع كتاب القضاء من الوسائل وغيره، وكذلك الروايات الدالة على كون الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فقط هو الحاكم بما هو الواقع مطلقاً، كما كان يحكم داود (عليه السلام).

فحكمه (صلى الله عليه وآله) بالبينة واليمين رغم كونها قد تكون مخالفة للواقع، بل قد يكثر فيها ذلك، ليس اتباعاً للهوى، بل هو اتباع للوحي الدال على لزوم الحكم على طبق البينة واليمين، فكما أن البينة قد تكون مخالفة للواقع ومع ذلك يلزم اتباعها، كذلك رأي الأكثرية قد يكون مخالفاً للواقع ومع ذلك يلزم اتباعه، وفي الصورتين كان الاتباع اتباعاً لكلي دل الوحي على لزوم اتباعه.

وأما عدم كون الخيرة للمؤمنين، فإنما هو معلق على (إِذا قَضَى اللهُ

ص: 250


1- سورة النور: 62.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص232 ب2 ح33663.

وَرَسُولُه أَمْراً)(1)، فلو لم يقض (صلى الله عليه وآله) بأمر بل أرجعه إليهم وطلب رأيهم كان لهم ذلك، هذا إضافة إلى أن قضاء الرسول (صلى الله عليه وآله) أمراً كما أنه قد يكون متفرعاً على قيام البينة في الخصومات، كذلك قد يكون متفرعاً على رأي أكثرية الناس في الموضوعات، وكما أن له (صلى الله عليه وآله) أن يخالف البينة ويعمل على طبق علمه، ولا يعني ذلك عدم حجيتها لولا المانع - للتزاحم بين مصلحة الواقع ومصلحتها - كذلك له أن يخالف رأي الأكثرية ولا يعني ذلك عدم الحجية، لولا المانع وكون علمه مقدماً لو كانت مصلحة الواقع أقوى من المصلحة السلوكية وشبهها.

وأما قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)(2)، فكما أن حكمه بالبينة حكم بما أراه الله، لكونه مأموراً بالعمل بها، وليس حكماً بما أراه الناس، كذلك لو تمت الأدلة الدالة على لزوم اتباع الأكثرية في الموضوعات العامة - كما فصلناه في محله - كان حكمه بها حكماً بما أراه الله، لكونه مأموراً بالعمل بها، وليس حكماً بما أراه الناس مبائناً لما أراه الله.

ص: 251


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة النساء: 105.
الجواب عن إشكال: ما المصلحة في الارجاع للأكثرية مع وجوده o

ومما سبق اتضح الجواب عن (ثم وما هي المصلحة في إرجاع أمر المسلمين إلى الشورى وبينهم الرسول (صلى الله عليه وآله) والوحي متواتر يقضي كل حاجة، فلماذا يكلف حامل الوحي أن يستوحي المؤمنين في الأمر، هل في أمر الرسالة وهو وحي يوحى، أم أمر المرسل إليهم ويكفيهم أمر الرسالة أوامر الأحكام ب(إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ)(1) أم أمر القيادة السياسية وهو مما أراه الله)(2).

إذ ينقض برجوع النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه إلى البينة في قضائه، وبإرجاع أمور المسلمين في خصوماتهم إلى البينة، رغم أن بينهم الرسول (صلى الله عليه وآله) والوحي متواتر يقضي كل حاجة، ورغم علم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالحق عبر طرق أخرى، كعمود النور على ما في الروايات الشريفة، وكذا رجوعه (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى سائر القواعد كاليد والسوق وغيرها.

والحل: بأن المصلحة في ضرب القانون والتأسي به (صلى الله عليه وآله) وتربيتهم على ذلك، كما في مسألة تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) وغيرها (جرياً للسنة)، إضافة إلى المصلحة في تأليف قلوبهم، وما ذكرته الآية الشريفة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(3)، والإرجاع إنما هو في الشؤون العامة لا في أصل

ص: 252


1- الفرقان: ج25 ص221.
2- سورة الأنعام: 57.
3- سورة آل عمران: 159.

القيادة، وإرائة الله له قد سبق توضيح المراد منها، كما سبق عدم المنافاة بين الإرجاع وبين كون الحكم لله وكونه وحياً يوحى، إضافة إلى أنه إن كان المراد نفي الإمكان فواضح البطلان، أو نفي الوقوع فعدم المعرفة بالمصلحةغير نافٍ لوجودها والدليل قائم كما قدمناه، وليس ذلك إلاّ كقول القائل: ما المصلحة في إرجاعه (صلى الله عليه وآله) إلى الأيمان والبينات: (إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات...) (1)، مع علمه بواقع الأمر، وقد أراه الله ذلك، أو مع التنزل له أن يريه.

ص: 253


1- وسائل الشيعة: ج27 ص232 ب2 ح33663.
الإشكال الثالث: السيرة العملية ليست على الشورى، والإجماع على عدم الوجوب
اشارة

وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى: بأن مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب، وإلا لذكروها في ضمن الواجبات.

إضافة إلى أن السيرة العملية للفقهاء لم تكن على الاستشارة والشورى، بل على التفرد بالرأي، يشهد لذلك حكمهم في باب الهلال، وفي التصرف في أموال القصر واليتامى ... الخ، بل لم نجد مخالفاً في المسألة، بل إن الإجماع منعقد على عدم وجوبها مما يكشف (لطفاً أو دخولاً أو حدساً أو تشرفاً ، على الاختلاف في وجه حجية الإجماع) عن رأي المعصوم (عليه السلام) ويشهد لدعوى الإجماع هذه أن الإجماع منعقد على حجية رأي كل فقيه لمقلديه، وعدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي سائر الفقهاء.

الجواب :

والجواب عن عدم فهم الفقهاء الوجوب من (وَشَاوِرْهُمْ)(1) من وجوه عديدة:

أما ما ذكر من (أن مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب) فيكون فهمهم

ص: 254


1- سورة آل عمران: 159.

قرينة على عدم إرادة الوجوب منها، فيرد عليه:

أولاً: إن الفقهاء لم يتطرقوا لهذه المسألة (وجوب الشورى) لااثباتاً ولا نفياً حتى يقال إنهم لم يفهموا الوجوب منها.(1)

قولك: (وإلا لذكروا وجوبها في ضمن الواجبات).

فيه: أ: لم يفرد الفقهاء عادة للواجبات والمحرمات كتاباً حتى يستقصوا فيه كل الواجبات وكل المحرمات، فيكون عدم ذكرهم لوجوب الشورى في ضمن التعداد دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب استناداً لمفهوم الحصر أو الإطلاق المقامي، بل إنهم يذكرون كل واجب في بابه (من الصلاة والصوم والحج و...) وهذا كعدم ذكرهم لاستحبابها مع التزامهم به، أو بأي حكم تكليفي من الأحكام الخمسة، حيث لا يكون عدم الذكر في أي واحد منها دليلاً على الالتزام به.

ب: ولو فرض إفرادهم كتاباً لذلك أو كونهم في كتبهم الفقهية في مقام استقصاء جميع الواجبات وجميع المحرمات، فنقول: اللقب لا مفهوم له، فإثبات وجوب الصلاة لا ينفي وجوب عنوان آخر، وفيه: إن الاستثناء - على الفرض - لمقام الحصر والإطلاق المقامي حينئذٍ.

ج: عدم الذكر(2) لا يستلزم الحكم بالعدم(3)، إذ إن عدم الذكر يكون

ص: 255


1- لا بأس بذكر مثال واحد لذلك، قال الآخوند (قدس سره) في الكفاية: (ومعه) أي مع انحلال العلمي (لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه، ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال) كفاية الأصول: ج2 باب الانسداد ص116، وقال في (الوصول) دمجاً مع العبارة: (ولا إجماع على عدم وجوبه، فإن كثيراً من الفقهاء لم يتعرضوا لهذه المسألة أصلاً فكيف يمكن دعوى الإجماع)، الوصول إلى كفاية الأصول: ج3 ص375.
2- أي عدم ذكر وجوب الشورى في كتبهم.
3- الفرق بين هذا والسابق على سابقه أن ذاك كان لعدم كونهم في مقام الاستقصاء، وهذا ◄ ►لإحدى الجهات الأربع المذكورة، ويمكن جعلهما واحداً بلحاظ كون عدم الذكر لإحدى الجهات الخمس.

لإحدى وجوه أربع؛ إذ قد يكون لاعتقاد عدم الوجوب اجتهاداً، وقد يكون للغفلة عن المسألة، وقد يكون للعثور على قرينة تصرف الأمر عن ظاهره(1)، وقد يكون لخروجها عن موضع الابتلاء، كماسيأتي توضيحه(2).

ومن الواضح أن عدم الذكر للوجه الثالث من هذه الوجوه الأربعة يكون دليلاً(3) على عدم الوجوب دون سائر الوجوه:

أما الوجه الأول: فلعدم حجية فتوى المجتهد على غيره إلاّ لو تعاضدت فتاوى المجتهدين بحيث بلغت حدّ الإجماع، فتأمل، لكونه مستنداً أو محتمله، وسيأتي توضيحه.

وأما الوجه الثاني: فواضح، إذ الغفلة عن ذكر شيء في عداد الواجبات أو غيرها لا يدل على عدم اعتبارهم إياه واجباً أو غيره، وإلا لزم بناءً على ذلك خلوه عن الأحكام الخمسة عندهم عند عدم ذكره، وهو بيّن الفساد، بل تستحيل دلالته على ذلك، لأن عدم الاعتبار فرع الالتفات الذي لا يجتمع مع الغفلة، لكون التقابل بينهما تقابل التضاد إن قلنا بكونها وجودية، أو تقابل العدم والملكة إن قلنا بكونها عدمية.

وأما الوجه الرابع: فواضح أيضاً، إذ عدم ذكر حكم ما هو خارج عن محل الابتلاء أعم من كونه واجباً أو مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً.

بل إن عدم الذكر للوجه الثالث أيضاً لا يكون دليلاً على عدم دلالة الآية على الوجوب، إذ أن ما يصلح لصرفها عن ظاهرها هو: عثورهم على قرينة

ص: 256


1- وهذا أخص من الأول مطلقاً، وقد أفرد بالذكر لاختصاصه بالحكم الآتي.
2- وقد فصلنا في موضع آخر قاعدة (إن العمل لا جهة له) فليراجع.
3- إن ظهرت لنا تلك القرينة.

تصرف الأمر عن ظاهره، بحيث لو وصلت بأيدي سائر المجتهدين تلك القرينة لكانت حجة حتى عندهم، بأن يتم سندها ويحرز دلالتها وجهتها وعدم المعارض لها عندهم، والأصل عدم تحقق هذه القيود لكونها وجودية، بل نحن في غنى عن هذا الأصل لأن عدم إحراز الحجية (أي حجية تلك القرينة عندنا أيضاً وتمامية صارفيتها) كاف في عدم الحجية وعدم الصارفية، ولا يحتاج في عدم الحجية إلى إحرازها وجداناً أو تعبداً بالاستصحاب، وقد يقال: بأنه حدث خلط بين مرحلة الثبوت والإثبات، فالأصح القول بذلك عند التردد في كونه لأي من الوجوه لا إجرائه مع فرض كونعدم الذكر للوجه الثالث، فتأمل.

إضافة إلى أن الأصح القول: بأن عدم إحراز معارض ما هو ظاهر في الوجوب أو غيره كاف في البناء على ذلك الظهور، فهو ككل ظاهر احتمل فيه وجود قرينة على خلافه ولم يعثر على شيء بعد الفحص، وقد سبق ذكر هذا ببيان آخر، هذا إضافة إلى أن لنا أصلاً آخر سابقاً وهو أصالة عدم وجودها، فتأمل.

موارد كثيرة هامة لم يتطرق لها الفقهاء بالذكر

ولعل المتتبع يعثر على كثير من الموارد التي لم يتطرق لها أكثر الفقهاء بالذكر(1)، مما يوجه بأحد الوجوه الأربعة المذكورة، مع خامسها المذكور قبلها.

منها: الآية الشريفة: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(2).

ومنها: الآية الشريفة: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ

ص: 257


1- أو شبه المستغرق منهم في بعضها.
2- سورة الحشر: 7.

إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(1)، حيث لم يبحث عن أصل الحرمة وعن حدودها، فهل اليأس عن إحياء ميتة منه أم لا، انصرافاً أو غيره.

ومنها: حدود هجر كتاب الله: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(2) أو حتى أصله.

وكذا هجر المؤمن الوارد فيه روايات كثيرة، ففي صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا هجرة فوق ثلاث) (3) حيث لم يتطرق الكثيرلحرمته أو كراهته أو حدوده.

ومنها: مسألة هبة الحقوق الشرعية.

ومنها: آية نهر السائل: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(4).

ومنها: آية التنازع: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا)(5)، خاصة مع كثرة المصاديق المشكوكة وعموم الابتلاء.

ومنها: آية (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)(6)، فهل هو حرام أو مكروه؟ وهل النهي مولوي أو إرشادي؟.

ومنها: آية منع الماعون: (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ * وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(7)، فهل منعه حرام مطلقاً أو في صورة كون البناء عليه (أي منع الجميع محرم أو خصوص المجموع) أو عدم الحرمة مطلقاً أو المراد به خصوص الواجب منه

ص: 258


1- سورة يوسف: 87.
2- سورة الفرقان: 30.
3- الكافي: ج2 ص344 باب الهجرة ح2.
4- سورة الضحى: 10.
5- سورة الأنفال: 46.
6- سورة النساء: 32.
7- سورة الماعون: 6 - 7.

كالزكاة.

ومنها: آية المنة: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(1)، فهل هي مكروهة أو محرمة مطلقاً أو فيما استلزمت الإيذاء أو الإهانة أو الهتك وشبه ذلك.

ومنها: آية (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً)(2).

ومنها: المراء والجدال: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3).

ومنها: كفران النعمة.

ومنها: التكبر بأقسامه.

ومنها: القعود مع فاعل المنكر، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِالظَّالِمِينَ)(4).

ومنها: إفشاء السر، ففي صحيحة زرارة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): (المجالس بالأمانة) (5).

ومنها التفريق بين الأحبة، كما في رواية ابن سنان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) وحدودها.

ومنها: الفخر.

ومنها: تعيير المؤمن.

ومنها: التجسس، (وَلا تَجَسَّسُوا)(6) وحدوده.

ص: 259


1- سورة المدثر: 6.
2- سورة الإسراء: 37، سورة لقمان: 18.
3- سورة العنكبوت: 46.
4- سورة الأنعام: 18.
5- الكافي: ج2 ص660 باب المجالس بالأمانة ح1.
6- سورة الحجرات: 12.

ومنها: التعصب للأمور الجاهلية، كالقومية والاقليمية والعرقية، ففي صحيح هشام، عن الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) (1).

ومنها العُجب، ففي صحيح الثمالي، عن السجاد (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (.. وثلاث مهلكات، هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه) (2).

ومنها: ظن السوء بالمؤمنين.

ومنها: طلب الرئاسة.

ومنها: آية (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)(3).

ومنها: تسمية غير علي (عليه السلام) بأمير المؤمنين.

ومنها: السخرية، (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)(4).ومنها: الرد على العلماء: (الراد عليهم كالراد علينا) (5)، ومعناه، وهل هو حرام مطلقاً أو في بعض الصور، أو عدم الحرمة مطلقاً.

ومنها: الخشية من الكفار وغيرهم: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(6).

ومنها: حب الدنيا.

ص: 260


1- الكافي: ج2 ص308 باب العصبية ح2.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص102 ب23 ح245.
3- سورة آل عمران: 137، وسورة النحل: 36.
4- سورة الحجرات: 11.
5- انظر الكافي: ج7 ص412 باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح5، وفيه: (فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّهِ قَدِ اسْتَخَفَّ وَ عَلَيْنَا رَدَّ وَ الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ).
6- سورة المائدة: 44.

ومنها: إيواء العصاة.

ومنها: إيذاء الجار.

ومنها: اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ)(1).

ومنها: التوكل على الله، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)(2).

ومنها: الهجرة، (قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(3).

ومنها: التعاون على البر والتقوى، (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى)(4).

ومنها: الصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم)، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(5).ومنها: الإصلاح بين الأخوين، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(6).

ومنها: الصبر والمصابرة، (اصْبِرُوا وَصابِرُوا)(7).

ومنها: التدبر في القرآن الكريم، (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(8).

ومنها: رعاية الترتيب.

ص: 261


1- سورة آل عمران: 118.
2- سورة آل عمران: 122.
3- سورة النساء: 97.
4- سورة المائدة: 2.
5- سورة الأحزاب: 56.
6- سورة الحجرات: 10.
7- سورة محمد: 24.
8- سورة آل عمران: 200.

ومنها: بهت أهل البدع، فقد ورد في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كي لا يطعموا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس..) (1).

ومنها: التبشير، (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(2).

ومنها: العفو والإعراض عن الجاهلين، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(3).

إلى موارد أخرى عديدة.(4)

وأغلب هذه الموارد رغم أهميتها البالغة الشديدة الأكيدة لم يتطرق لها مشهور الفقهاء إلا القليل منهم أو النادر(5)، ولا يعد ذلك دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب أو الحرمة من الآيات والروايات الواردة مواردها، بل عدم الذكر إما للغفلة، أو لعدم كونهم في مقامالاستقصاء، أو عدم القدرة نتيجة الابتلاء بمزاحمات أخرى، أو لوضوح الأمر فيها لديهم، أو لغير ذلك كالاكتفاء بذكر كبرياتها في محالها، أو لغير ذلك، أو لمجموع ذلك في مجموع الموارد، وبعضها المذكور في علم الأخلاق لم يبحث عنه من جهة حكمه الشرعي عادة وبالاستناد إلى دليله من الآيات والروايات كما لا يخفى.

ص: 262


1- الكافي: ج2 ص375 باب مجالسة أهل المعاصي ح4.
2- سورة الزمر: 17 - 18.
3- سورة الأعراف: 199.
4- يراجع لمعرفة التفصيل الإجمالي لهذه الموارد كتاب (الواجبات) و(المحرمات) من موسوعة (الفقه) ولمعرفة تفصيلها تلاحظ مواضعها من الموسوعة.
5- في آيات الأحكام أو في مواضع متفرقة من كتب الفقه.

ومما يؤيد ما ذكرناه هنا - من أن عدم الذكر يحتمل وجوهاً عديدة - وما سنذكره في الجواب الثاني والثالث: ما ذكره الشيخ الأنصاري في الرسائل، قال (قدس سره) في بحث الاستصحاب منه: (... وحيث إن المختار عندنا هو الأول ذكرناه في الأصول العملية المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقلياً، ولذا لا يتمسك أحد هؤلاء بخبر من الأخبار... وأول من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس وشاع بين من تأخر عنهم)(1)، وقال: (... لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة إلى زمان متأخري المتأخرين مع أن بعض هؤلاء...)(2).

ثم قال (قدس سره) بعد ثلاث صفحات: (... وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل، بناءً على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة لقصور دلالتها عندهم، ببعض ما أشرنا إليه سابقاً، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل)(3).

فرغم أن الأكثر على كونه حكماً عقلياً (لكن ظاهر كلمات الأكثر...) ورغم أن (المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة) رغم ذلك استند والد الشيخ البهائي ثم الشيخ الأنصاري (قدس سرهما) إلى الأخبار على خلافالمشهور، واعتبراها دالة على المراد، ولم يكن إعراض المشهور عن الاستدلال بها قرينة نوعية على عدم حجيتها، ولا مانعاً عن استظهار فقيه آخر الحجية منها، وذلك لأسباب عديدة منها: احتمال كون

ص: 263


1- الرسائل: بحث الاستصحاب ص319.
2- الرسائل: ص344.
3- الرسائل: ص347-348.

إعراضهم عنها لغفلتهم عنها، ولعدم تمامية سندها لديهم، أو لعدم تمامية دلالتها عندهم، كما قال (قدس سره): (... بناءً على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكور لقصور...)، ومنها: عدم كون اجتهاد الفقيه حتى لو عضدته الشهرة حجة على فقيه آخر كما أوضحناه... بل آل الأمر إلى انعقاد شهرة المتأخرين على خلاف شهرة المتقدمين، كما يشهد به قوله (قدس سره): (وشاع بين من تأخر عنهم)، وكما يشهد به تتبع آراء الفقهاء بعد الشيخ (قدس الله سرهم).

د: هذا إضافة إلى أنه ليس بناء الفقهاء على اعتبار من لم يتطرق لوجوب شيء، قائلاً بالوجوب ولا قائلاً باللاوجوب، وكذا لا يعتبرون من لم يتطرق لمسألة ادعى فيها البعض أو المشهور الحرمة قائلاً بالحرمة أو عدمها.

ليست الشهرة ظناً معتبراً ليحتج بها

ثانياً: سلمنا بأن المشهور فهموا عدم الوجوب، لكن الشهرة ليست ظناً معتبراً باعتراف المشهور، فلو جعل عدم فهمهم الوجوب من الآية قرينة صارفة للظاهر عن ظهوره كان في ذلك مخالفة المشهور(1)، فموافقة المشهور في (عدم دلالة الآية على الوجوب) لأنهم ارتأوا ذلك مخالفة للمشهور في الواقع، فالفرار من مخالة المشهور (بالتزام عدم وجوبها) مستلزم للوقوع في مخالفته، فلو لم يكن هذا ذا محذور لم يكن ذاك أيضاً.

لا يقال: الشهرة الفتوائية جابرة وكاسرة حسب رأي المشهور، فالضعيف المنجبر بعمل الفقهاء حجة، والصحيح المعرض عنه من قبل الأصحاب ليس

ص: 264


1- إذ لا تعدو الشهرة أن تفيد ظناً شخصياً بالخلاف، وما حجيته من باب الظن النوعي (كظواهر الألفاظ) لا يرفع اليد عن ظهوره مع الظن الشخصي بالخلاف.

بحجة.

لأنه يقال: الشهرة جابرة للسند وكاسرة له لا للدلالة.

قال الشيخ (قدس سره) في الرسائل: (وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة، فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور، بناءً على أن ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، ولذا لا يتأملون في العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة إذا عارضها الشهرة، فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر لا عمومه وإطلاقه، فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص، نعم ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن، أو إذا حصل الظن غير المعتبر على خلافها، لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كل زمان).(1)

هذا لو أغمضنا النظر عن المناقشة في مستند مبنى المشهور على ما استظهره الشيخ من ادعاء أن ما دل من الدليل على حجية خبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، إذ لا وجه لهذه الدعوى مع عموم أدلة حجية خبر الواحد لمعارض المشهور، إذ الوجه إما الانصراف أو التخصيص أو أخبار مرجحات باب التعارض.

أما الأول: ففيه: أنه لو كان فهو بدوي(2)، إضافة إلى أن بناء العقلاء على الحجية مطلقاً.

ص: 265


1- الرسائل: ص44 عند الحديث عن عدم اعتبار الظن الشخصي في حجية الظواهر.
2- وللانصراف مناشئ سبعة، ذكرها المؤلف في كتاب البيع، فليراجع.

وأما الثاني: ففيه: أن النسبة بين أدلة حجية الخبر وأدلة حجية الشهرة - على فرضها - هي العموم من وجه.

وأما الثالث: ففيه: أنها مختصة بحسب لسانها بباب تعارضالأخبار لا تعارض خبر وشهرة، أو ظاهر آية وشهرة، والمقام منه، إضافة إلى النقض بجريان ما ذكر بالنسبة للدلالة أيضاً بادعاء أن أدلة حجية الظواهر منصرفة عما لو خالفها المشهور أو مخصصة بغير صورة مخالفتهم.

نعم، غاية الأمر أنه يقع التعارض بينهما لا أن المقتضي لحجية الخبر المعارض للمشهور غير موجود، إضافة إلى أن بناء العقلاء على حجية خبر الواحد الجامع للشرائط اذا عارضته الشهرة الفتوائية في كل العلوم والصناعات، نعم قد يقدمون الشهرة ولكن لا من باب عدم المقتضي لحجية خبر الواحد حينئذٍ، بل من باب ابتلائه بالمعارض الأقوى، وكذا بناؤهم على حجية الظواهر وإن خالفها فتوى المشهور، ويظهر ذلك لمن رجع إلى الخبراء في كل علم وفن، حيث يتمسكون بظواهر الألفاظ وإن فهم منها المشهور غير ذلك.

وقال في أوثق الوسائل في شرح الرسائل: (.. إنه لا معنى لدعوى الإجماع على دلالة الألفاظ والظهورات العرفية، لجواز مخالفة هذا الإجماع بلا إشكال لمن ثبت عنده خلافه...)(1).

ومن الواضح فيما نحن فيه أن الآية (وَشَاوِرْهُمْ) قطعية الصدور، ظنية الدلالة، فالشهرة لا تضعف السند لقطعيته ولا الدلالة لأن محل الجبر والكسر هو السند لا غير، على المشهور.

ص: 266


1- أوثق وسائل الشيعة: ص152 بحث حجية خبر الواحد، آية النبأ.
وعلى فرض اعتبارها فلا بد من ملاحظة سائر الأدلة

ثالثاً: سلمنا أن الشهرة ظن خاص معتبر، لكون نقول: إن مقتضى القاعدة هو ملاحظة الدليل الذي أقامه الفقيه أو الفقهاء، ثم البحث عن سنده ودلالته وعدمها، ومدى دلالته - على تقدير الدلالة - ومعارضاته، ووجود مخصص أو حاكم أو وارد عليه، فلو ترجح عنده أحد الطرفين كان رأيه حجة، سواء وافق رأي الفقيه أو الفقهاء الذين أقاموا الدليل أم خالف، وذلك هو مقتضى فتح باب الاجتهاد ومقتضى حجية رأي الفقيه كما لا يخفى، إضافة إلى كونه من ضروريات الفقه، إذ من الضروري عدم وجوب (تعبد) الفقيه برأي فقيه آخر، أو رأي مشهور الفقهاء، وعدم وجوب قبوله أدلة الفقهاء الآخرين تعبداً، ووجوب التعبد برأي الفقيه منحصر في المقلّد، وفي صورة انسداد باب العلم والعلمي مع عدم سلوكه طريق الاجتهاد أو الاحتياط.

وحينئذٍ فالشهرة وإن كانت (ظناً معتبراً) إلاّ أن ذلك لا يعني كونها علة تامة لوجوب القبول، بل غاية ما في الباب: أنها مقتضٍ له، فلا يصح للفقيه الاعتماد عليها دون البحث عن المعارض وعن مدى دلالتها وعن الحاكم(1) أو الوارد عليها.

وللتوضيح نقول:

أدلة حجية خبر الواحد مثلاً إنما تصنع المقتضي لوجوب القبول وللحجية لا العلة التامة، ولذا قد يسقط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته لظاهر

ص: 267


1- فصّل المؤلف جريان (الحكومة) في اللبيات والعقليات إضافة للألفاظ، في كتاب (الحكومة والورود).

الكتاب بنحو التباين (كما في أخبار الجبر والتفويض والغلو) أو العموم من وجه في مادة الاجتماع، أو عند معارضته بخبر آخر له مرجح صدوري أو حتى مرجح جهتي(1)،على وجهٍ.

فإذا كان الحال هذا في خبر الثقة الذي ذهب الأكثر إلى حجيته، فما هو الحال فيما ذهب الأكثر إلى عدم حجيته؟ ولأجل ذلك نجد أن العلماء في العمل بدليل مّا، اشترطوا (الفحص) عن معارضاته، ومنعوا العمل بالدليل (سواء في ذلك الظواهر أو أخبار الآحاد أو الاستصحاب مثلاً بناءً على أماريته) قبل ذلك، وهل الشهرة مستثناة من هذه القاعدة بحيث لو عثر فقيه على الشهرة الفتوائية أغناه ذلك عن البحث عن سائر الأدلة الموافقة والمخالفة، وبحيث لو عثر عليها أفتى على طبقها؟

إضافة إلى أن المشهور أن (القطع)(2) لا غير حجة ذاتية يستحيل تخلف الحجية عنه، فإن الحجية ذاتية للقطع - وعندنا ذاتية للعلم فقط - بذاتي باب البرهان، حيث تنتزع من حاق ذات القطع بلا ضميمة خارجية، ولو انفكت عن القطع لزم التناقض وغيره من المحاذير، على ما هو مذكور في بحث القطع... أما غير القطع (العلم عندنا) فحجيته غيرية جعلية، يمكن تخلفها عنه، بل يتحتم إن ابتلى بالمعارض الأقوى، إذا توضح ذلك اتضح أن انعقاد الشهرة على شيء (كعدم وجوب الشورى فرضاً) لا يلغى اجتهاد المجتهد، ولا يعني عدم صحة استظهار فقيه الوجوب على خلاف رأي المشهور، ولذا جرت طريقة معظم الفقهاء على عدم الاستدلال بالشهرة وجعلها مؤيدة لا غير(3)، وعلى ردّها

ص: 268


1- أي جهوي، وهو الصحيح.
2- فصّل المؤلف عدم كون الحجية ذاتية للقطع بل هي ذاتية للعلم في كتب عديدة، منها (الحجة معانيها ومصاديقها) و(الأوامر المولوية والإرشادية).
3- لا يخفى أن مرجع هذا إلى عدم حجية الشهرة عندهم.

بوجدان الخلاف ومعارضة النصوص.(1)

نماذج من انقلاب الشهرة

ولأجل ذلك كله نجد على كر الأعصار قولاً مشهوراً وقولاً لغير المشهور، بل نجد المشهور في مسألة يخالفون - بعضاً أو كلاً - المشهور في مسألة أو مسائل أخرى، بنحو التفريق.(2)

ولأجل ذلك كله نجد انقلاب الشهرة على الوفاق في موارد عديدة، إلى شهرة على الخلاف في الأعصار اللاحقة:

فمن ذلك:

حكمهم إلى زمان المحقق الثاني (قدس سره) بأن بيع المعاطاة إنما يفيد مجرد الإباحة، خلافاً للمفيد (قدس سره) حيث حكم بلزومه، وإذ وصلت النوبة للمحقق الثاني (قدس سره) حكم بإفادته للملك المتزلزل واستقرت الفتوى بعده على ذلك(3)، وقال الشيخ (قدس سره) في المكاسب: (والمشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة، بل لم نجد قائلاً به إلى زمان المحقق الثاني).(4)

ومن ذلك انعقاد شهرة القدماء إلى زمان والد الشهيد الثاني (قدس سره) على تنجس البئر بالملاقاة، وأن المقدر في المنزوحات هو المطهر، ولكن استقرت الشهرة

ص: 269


1- ومرجع هذا إلى أن حجيتها على القول به منوط بعدم المعارض الأقوى وكونها مقتضية لوجوب القبول لا علة تامة له، إذ معارضة النصوص الشهرة فرع حجيتها، وإلا لما تعارضا إذ لا تعارض بين الحجة واللاحجة حتى يقدم أحدهما على الآخر بالمرجحات.
2- بهذا القيد أجبنا عن إشكال قد يخطر بالبال فتدبر جيداً.
3- أوثق وسائل الشيعة: ص116 بحث الإجماع المنقول.
4- المكاسب، البيع: ص83.

الفتوائية بعده على عدم تنجسه بالملاقاة وأن النزح مستحب.(1)

ومن ذلك ما سبق من انعقاد الشهرة إلى زمان الشيخ البهائي (قدس سره) على عدم دلالة أخبار الاستصحاب على حجيته، أو على عدم الاستدلال بها، ثم انقلبت لتنعقد على اعتبارها هي الدليل (أو أحد الأدلة) على حجيته، فتأمل.

وكذا انعقادها عند القدماء على كون الاستصحاب من الأمارات ثم اعتبارها من الأصول، فتأمل.وقد ذكر أحد كبار الأساتيذ موردين آخرين هما:

1: مسألة نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه، حيث كانت الشهرة على النجاسة ثم انقلبت إلى الطهارة.

2: ومسألة كون (البراءة) أصلاً أو أمارة، حيث كانت الشهرة في السابق على كونها أمارة.

الجواب عن أن سيرة الفقهاء العملية لم تكن على الشورى، بوجوه :

وأما ما ذكر من (أن السيرة العملية للفقهاء لم تكن على الاستشارة والشورى، بل على التفرد بالرأي، يشهد لذلك حكمهم في باب الشورى وفي التصرف في أموال القصر والتيامى).

فيرد عليه، إضافة إلى جريان بعض ما ذكر سابقاً ههنا بل وغيره أيضاً(2):

ص: 270


1- أوثق وسائل الشيعة: ص116.
2- إذ أولاً: العمل لا جهة له، وقد مضى الحديث عنه كبرى، وسيأتي تفصيله صغرى إن شاء الله تعالى. وثانياً: عدم حجية السيرة إلا لو ثبت اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام). وثالثاً: على فرض كونها حجة يجري الجواب الثالث السابق بطوله فليراجع.

أولاً: إن على مدعي هذه الدعوى الإثبات، وذكر عشرة موارد أو مائة مورد لا يكفي، إذ الاستقراء الناقص ليس حجة، والحدس من عدم استشارة مجموعة من الفقهاء على كون السيرة العملية لجميعهم على عدم الاستشارة والشورى، غير صحيح، إذ الاستقراء إذا كان مستلزماً عادة للحدس بجريان الحكم في سائر الموارد يكون حجة، أما لو لم يكن مستلزماً عادة فليس بحجة وإن حدس منه الغير، نظير ما ذكره الفقهاء في حجية الإجماع من باب الحدس بقول المعصوم (عليه السلام) فليراجع.

لا يقال: عدم الدليل على عدم عمل الفقهاء بالشورى كافٍ في عدم وجوبها.

إذ يقال: قد سبق مفصلاً الجواب عن هذا الإشكال عند الاعتراض بأن عدم الدليل على عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) كافٍفي عدم الوجوب، فليراجع.

ثانياً: النقض بموارد استشارتهم وهي كثيرة، وبموارد عملهم بالشورى مما قد يظهر للمتتبع في قصص العلماء وتواريخهم، وقلة هذه الموارد لا تدل على عدم العمل في أكثر الموارد، إذ لعل سبب القلة هو كونها من السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم كون أمر الشؤون العامة - كالصلح والحرب والمعاهدات الدولية - بأيديهم، فتأمل.

ثالثاً: إن السيرة ليست بحجة إلاّ لو أحرز اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام) وإمضائه لها.

وأما ما ذكر من (ويشهد لذلك حكمهم في باب الهلال و...):

ففيه: أنه لا شهادة له على خلاف ما ندعيه وتوضيح ذلك:

ص: 271

بحث عن الأمور الحسبية وأنها من شؤون (القضاة) دون (الولاة)

إننا لا ندعي وجوب الشورى في أمثال الحكم بالهلال والتصرف في الأمور الحسبية بالمعنى الأخص، بل إننا ندعي وجوبها في أمثال المعاهدات الدولية والحرب والصلح وما أشبه ذلك.

والسر في ذلك:

أن (ثبوت الهلال) من الموضوعات الصرفة التي يكون المرجع فيه أهل الخبرة، ولو رجع فيه إلى الفقيه فإنما هو من حيث إنه خبير لا من حيث إنه فقيه، كالرجوع إليه في تعيين ما هو القمار، وأي نوع يصدق عليه الخمر، ولذا نجد أنهم ذكروا أن شخصاً لو رأى هلال رمضان مثلاً وجب عليه الصوم وإن لم يثبت الهلال عند الفقيه ولم يحكم به، وكذا لو حكم الفقيه بهلال رمضان استناداً إلى شاهدين أو شهود أحرز الشخص كذبهم، لم ينفذ حكمه في حقه، بل لو حكم بهلال رمضان استناداً إلى شهود عدول مع رؤية الشخص هلال شعبان قبل (27) ليلة لا ينفذ حقه، إذ الشهر لا ينقص عن 28 يوماً وقد رآه قبل 27 ليلة، فتأمل، والمدعى هو وجوب الشورى في الموضوعات المستنبطة.

وأما: التصرف في الأمور الحسبية فتفصيل القول فيه:

إن الأمور الحسبية هي - كما قال السيد الوالد في (الفقه) -: (الأمور التي لا ولي لها بالخصوص، كتولي الأوقاف العامة، وإدارة شؤون القصّر والغيّب بالنسبة إلى أموالهم وما يتعلق بهم، كإجراء النفقة على زوجة المجنون، والحجر على السفيه والمفلس، وإجازة تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم وأمثال

ص: 272

ذلك)(1)، و(لا إشكال في جواز تصدي الفقيه لها، وللجواز مسلكان: الأول: إنه من باب المعروف الذي علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج، ألا ترىأنه لا يعقل أن يكون الشارع معطلاً للميت الذي لا ولي له حتى ينتن، أو أن يخلي سبيل المجنون والسفيه والصغير حتى يفسدوا، فإنه خلاف الحكمة القطعية... الثاني: إن هذه الأمور من فروع القضاء المأذون فيه شرعاً للفقيه الجامع للشرائط، كما نرى من رجوع هذه الأمور في هذه الأزمنة وما قبلها إلى الحاكم والقضاة، بل قد ادعى إطباق التواريخ على أنه كان كذلك في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم الصلاة والسلام) فإن القاضي المنصوب من قبلهم كان بيده هذه الأمور، كما أن الوالي كان بيده الأمور السياسية، كما سيأتي توضيحه في الأمر السادس، وعليه فحيث ثبت في الأمر الرابع جواز القضاوة للفقيه كان من فروعه جواز تصديه للأمور الحسبية، وهذا المسلك أقوى في النظر).(2)

إذا تمهد ذلك: فنقول: أما على المسلك الثاني فالأمور الحسبية خارجة تخصصاً عن أدلة الشورى، فلها خروج موضوعي عنها، فكيف يكون جريان سيرة الفقهاء على عدم العمل بالشورى فيها دليلاً على عدم عملهم بالشورى فيها لو تحقق موضوعها؟ وهل يكون عدم محمول في موضوع دليلاً على عدمه في موضوع آخر؟

بيان الخروج التخصصي: إن الأمور الحسبية - على المسلك الثاني - داخلة في باب القضاء والقضاة، أما موضوع الشورى فهو (الشؤون العامة المرتبطة بالسياسات وتدبير المدن).

وبعبارة أخرى: ما كان الأمر والحكم فيه إلى (الولاة) لا (القضاة) فهو

ص: 273


1- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ص136.
2- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ص136-137.

موضوع الشورى إن ثبتت، وإن لم تثبت فهو موضوع نفوذ حكم الحاكم الواحد مباشرة أو بالتوكيل إن جوزناه(1)، وما كان الأمر فيه إلى القضاة لا الولاة فليس بموضوع لها.

ومن الواضح - عرفاً - أن للقضاة شؤوناً تختص بهم، وللولاة شؤوناً كذلك، وعلى ذلك جرت كافة الدول في كل الأزمنة.

والمدعى وجوب الشورى فيما يرتبط بالولاة، (أي في الشؤون العامة المرتبطة بسياسة المدن أو ما يسمى ب"الحكومة")، لا فيمايرتبط بالقضاة، فلا يكون عدم عملهم بالشورى فيما يرتبط بالقضاة - كالأمور الحسبية على المسلك الثاني - دليلاً على عدم وجوبها فيما يرتبط بالولاة، ولا على عدم عملهم بها فيه.

ويشهد لذلك تعريف المشهور للقضاء، قال الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (رضوان الله تعالى عليه): (القضاء لغةً وعرفاً: ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق، كما في المسالك والتنقيح وكشف اللثام وغيرها، بل في الأول منها نسبة تعريفه بذلك إليهم)(2)، وقال في المستند: (هو ولاية حكم خاص، أو حكم خاص في واقعة مخصوصة على شخص مخصوص بإثبات ما يوجب عقوبة دنيوية شرعاً أو حق من حقوق الناس بعد التنازع فيه أو بنفي واحد منهما).(3)

وبهذا يتضح فرقه وبينونته موضوعاً عن موضوع الشورى (وهو ما يرتبط

ص: 274


1- لا إشكال في التوكيل في إجراء الحكم، إنما الكلام في التوكيل في إصداره.
2- جواهر الكلام: ج40 ص 8 - 9، كتاب القضاء، ورياض المسائل: ج2 ص385 كتاب القضاء.
3- مستند الشيعة: ج2 ص514 كتاب القضاء.

بالولايات)، إذ أن القضاء هو (ولاية الحكم شرعاً بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين) أما منصب الحكومة مما يرتبط بالوالي فهو: (ولاية ترتبط بالشؤون العامة كالجهاد والمعاهدات)، ولا ترتبط ب- (جزئيات القوانين الشرعية) كالحكم على هند بأنها زوجة خالد، وبأن هذه الدار ملك لزيد، ولا شك في ظهور، ولا أقل من انصراف جزئيات القوانين الشرعية إلى غير الشؤون العامة، كما هو الظاهر، كما أنها ولاية (وتؤثر على أو تلزم عامة المكلفين أو أكثرهم أو جماعة كبيرة منهم)(1) وليست كالقضاء الذي هو (على أشخاص معينين)، فالإنفاق على زوجة زيد المجنون وتجهيز الميت الفلاني ولاية على أشخاص معينين في قضايا جزئية شخصية مما يرتبط بالقضاء، أما إصدار الحكم بالجهاد أو الأمر بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع دولة أو عقدالتحالف معها فهو (ولاية على العموم) مما يرتبط بالولاة، ويتضح الأمر أكثر بملاحظة تعريف المستند السابق.

وبعبارة جامعة:

في القضاء في الأمور الحسبية توجد(2) ثلاثة أمور، بناء على هذا التعريف:

أ: حكم الشارع بلزوم الإنفاق والتجهيز والحجر على المفلس أو السفيه.

ب: تشخيص الموضوع الجزئي (وأن زيداً مجنون، وفلاناً ميت لا متكفل له، وفلاناً مفلس أو سفيه).

ج: إنشاء الحكم على الموضوع الجزئي عند تشخيصه، والتصدي لذلك، والأخيران مرتبطان بالقاضي بناءً على كون الأمور الحسبية من شؤونه.

أما في الولاية فتوجد الأمور التالية:

ص: 275


1- هذا التعريف شرح الإسم كما لا يخفى وليس بالحد ولا بالرسم.
2- أعم من السبق والمقارنة.

أ: حكم الشارع بالحرب والجهاد إن كانت فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وبالصلح إن كانت في الصلح المصلحة، وكذا في المعاهدات الدولية وسائر الشؤون.

ب: تشخيص الموضوع الكلي(1)، وأن الظروف ظروف حرب فالجهاد، أو ظروف سلم فالصلح، وأن الوضع الحالي صغرى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(2)، أو صغرى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ)(3)، و: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ)(4) - مثلاً -، وكذا في المعاهدات الدولية، وكذا في السياسة الداخلية العامة للدولة.

هذا في الأدلة العرضية، وأما الأدلة الطولية فكذا أيضاً، فهلتفرض المكوس (الضرائب) على البضائع المستوردة لجريان قاعدة (لا ضرر)(5)، أم لا، لعدم دخولها تحت عنوان ثانوي، وذلك تبعاً لتشخيصه أن استيرادها دون ضرائب يحطم الصناعة الوطنية أم لا، وإذا كان يحطم فهل هناك طرق أخرى - غير فرض المكوس - للحيلولة دون التحطيم أم لا.

ومن الواضح أن (زيداً مجنون وفلاناً ميت لا متكفل له) موضوع جزئي شخصي، أما أن الظروف ظروف حرب أو ظروف صلح أو أن الاستيراد دون

ص: 276


1- ليس المراد بالكلية الكلية المنطقية كما لا يخفى.
2- سورة الأنفال: 61.
3- سورة آل عمران: 139.
4- سورة البقرة: 193، وسورة الأنفال: 39.
5- وذلك بعد وقوع التزاحم بين مصداقَيها وتقديم أحدهما على الآخر، فمثلاً منع التجار عن الاستيراد مستلزم للضرر عليهم وعلى كافة من يشتري بضائعهم لكون الإنتاج المحلي مرتفع القيمة مع كيفية غير جيدة، وعدم المنع مستلزم لضرر على الصناعة الوطنية بتحطيمها، فيتزاحم الضرران ويكون الأقوى مرفوعاً بلا ضرر.

ضريبة يحطم الاقتصاد، فموضوع كلي نوعي.

ج: إنشاء حكم عام، أي إصدار أمر عام عند تشخيص الموضوع الكلي، فعند تشخيص أن الظروف ظروف حرب يصدر الوالي الحكم بالجهاد، وهذا الأمر يتعلق بعموم المكلفين، عكس الأمر بالحجر على المفلس مثلاً مما يتعلق بأفراد لا غير.

وبذلك كله اتضحت البينونة التامة بين (القضاء) و (الولاية) موضوعاً في مثالي: وجوب الجهاد عند تربص العدو غير المندفع إلاّ بذلك على عامة المكلفين، ووجوب التسليم عند ثبوت كون الدار ملكاً للغير على من بيده الدار، هذا كله على تعريف المشهور للقضاء.

وأما بناء على التعريف الآخر للقضاء الذي ارتضاه غير المشهور، وهو ما نقله في الجواهر حيث قال: (وفي الدروس: ولاية شريعة على الحكم والمصالح العامة من قبل الإمام (عليه السلام) ولعله أولى من الأولى، ضرورة أعمية مورده من خصوص إثبات الحقوق كالحكم بالهلال ونحوه وعموم المصالح)(1):

فالفرق بين (الولاية) و (القضاء) بعد ثبوت انصراف عموم المصالح إلى غير ما يرتبط بالوالي، وإلاّ لكان التعريف غير طارد، لأن (الهلال) وأمثاله وإن كان يتعلق حكم القاضي فيه بنوع المكلفين، إلا أن الفرق بينهما هو أن ما تعلق بنوع المكلفين مما يرتبط بتدبير المدن وسياسة العباد على الوجه العام مرتبط بالوالي، وما يتعلق بنوعهم مما يرتبط بالشرعيات كالهلال وشبهها، أو بتدبير المدن على الوجه الخاص مرتبط بالقاضي.

هذا إضافة إلى الجواب السابق من أن الهلال من الموضوعات الصرفة، وعدم تعين الرجوع إلى القاضي أو الفقيه فيه، وأنه يكفي فيه الرؤية أو شهادة

ص: 277


1- جواهر الكلام: كتاب القضاء ص9، وقد ذكر هذا التعريف مفتاح الكرامة أيضاً أول كتاب القضاء المجلد العاشر.

شاهدين عند الشخص أو الشياع، إلى جانب كفاية حكم القاضي أو الفقيه، فلو ثبت عنده الهلال - بالرؤية أو الشاهدين - كفى وإن لم يثبت للفقيه، ولو ثبت عند الفقيه وأحرز هو عدمه - لعلمه بكذب الشهود - لم يتبعه، نعم لو ثبت عند الفقيه ولم يثبت عنده شيء وجب عليه العمل بقوله، كعمل كل شخص بقول خبير لم يثبت عنده خلاف قوله.

هذا مضافاً إلى أن الفرق بينهما أيضاً باعتبار الغاية، إذ غاية القضاء (قطع المنازعة) كما ذكره السيد العاملي (رضوان الله عليه) في مفتاح الكرامة(1)، أما غاية الولاية والوالي بما هو وال فليس ذلك، وإن كان ذلك جزء الغاية البعيدة له، إذ بنصبه للقاضي يهدف قطع المنازعات، إلاّ أن المقصود أولاً وبالذات من الحاكم والوالي ليس هو قطع المنازعات الشخصية أو الجزئية.

على أن الفرق بين (القاضي) و (الوالي) من الواضحات عند العرف، وأن لكل منهما مجالاً وعملاً محدداً، ووجود بعض المصاديق المشكوكة - لو فرض - والمرددة بين كونها للقاضي أو الوالي لا يضر بتمايزهما ثبوتاً أو اثباتاً ولو في الجملة، فلو فرض ثبوت حكم أو سلبه عن ذلك المردد لا يكون دليلاً على جريانه في غيره.

وأما على المسلك الثاني: فكذلك أيضاً، إذ أن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، سواء كان الجزئي حقيقياً أو إضافياً، فإن ثبوتحكم للأخص لا يكون دليلاً على ثبوته للأعم، ومحمول الأخص (كالمتعجب للإنسان) لا يلزم أن يكون محمولاً على الأعم أيضاً (كالحيوان)، إلا لو تحقق الأعم في ضمنه.

وبعبارة أخرى: ثبوت حكم أو سلبه - أو أي محمول آخر - لنوع مندرج تحت جنس لا يدل على ثبوته لنوع آخر وإن اندرج تحت نفس الجنس، وهو

ص: 278


1- مفتاح الكرامة: أول كتاب القضاء.

واضح بل هو من البديهيات.

وحينئذٍ فلو قلنا: باندراج الأمور الحسبية تحت (المعروف)، وقلنا: باندراج الشؤون العامة المرتبطة بالسياسات (كالحرب والسلم - أي الجهاد - والمعاهدات الدولية وشبهها) تحته أيضاً(1)، فهما نوعان مندرجان تحت جنس واحد، أو لا أقل من أنهما صنفا نوع، (إذ الجهاد والمعاهدات الدولية وما أشبهها أمر، وإجراء نفقة زوجة المجنون والمفلس وإجازة تجهيز الأموات وما أشبه أمر آخر بالصنف أو بالنوع)، فكيف يكون محمول(2) أحد الجزئيين الإضافيين دالاً بثبوته له على ثبوته للجزئي الإضافي الآخر؟

ص: 279


1- أما لو لم نقل باندراج الشؤون العامة تحت المعروف فالأمر أوضح إذ يكونان حينئذٍ متباينين فكيف يستدل بالسيرة على عدم أحدهما على عدم وجوب الآخر؟
2- المحمول هو (استقرار سيرة الفقهاء على التفرد بالرأي وعدم الاستشارة في الأمور الحسبية).
أدلة عدم وجوب الشورى في الأمور الحسبية

وأما وجه عدم قولنا بوجوب الشورى في الأمور الحسبية فهي:

أولاً: لانصراف أدلة الشورى عنها، أترى أن الآية الكريمة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1) شاملة لاستشارته (صلى الله عليه وآله) ولاستشارة سائر الحكام المنصوبين من قبله (صلى الله عليه وآله) في إجراء النفقة على زوجة المجنون؟ والحجر على السفيه والمفلس؟ وإجازة تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم؟ وما أشبه ذلك، وهل يستفيد العرف من هذه الآية أن على الحاكم أن يشاور المسلمين في تلك الجزئيات؟

وكذلك الرواية الشريفة: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (2) - وسيأتي الاستدلال بها تفصيلاً - هل يفهم العرف من (الحوادث الواقعة): شخصاً جُنَّ فيرجع في نفقة زوجته إلى رواية أحاديثهم؟ وأية سنخية بين كونه راوياً للحديث وكونه ولياً على نفقة زوجة المجنون وشبهه أو مرجعاً فيه؟ فكيف بما لو قلنا باستفادة الرجوع إلى مجموع رواة الحديث (أي شورى رواته) من هذه الرواية، فهل يفهم العرف الرجوع إلى مجموع أو أكثر أو شورى أو حتى رواة الحديث في هذه المسألة وأشباهها؟ فتأمل، خاصة لو قلنا بأن هذه الأمور واجب كفائي على عامة عدول المؤمنين، وأن الفقيه أحد مصاديق من يجب عليه القيام بها، فيجوز تصديه لها، لا أن يتعين التصدي لها وينحصر فيه، كما التزم به العديد من الأعاظم.

ص: 280


1- سورة آل عمران: 159.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.

وكذلك سائر أدلة الشورى التي ذكرناها في محالها.

ثانياً: لاستلزامها (أي الشورى) في الأمور الحسبية العسر والحرج لو لم تستلزم تعطل أكثر المصالح، ذلك أن استشارة أي فقيهلكل الفقهاء(1) أو لأكثرهم أو حتى لمجموعة منهم في دفن كل ميت وإجراء نفقة زوجة كل غائب أو مجنون أو مسجون والحجر على كل مفلس أو سفيه مستلزم بلا شك للعسر والحرج على الفقيه وعلى سائر الفقهاء، والحرج مرفوع بحديث الرفع، سواء قلنا إن مفاده نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - كما هو مبنى الآخوند (قدس سره) - أو مفاده نفي الحكم الناشئ من قبله العسر والحرج - كما هو مبنى الشيخ (قدس سره) - إذ على كلا الرأيين تجري هنا قاعدة نفي الحرج، بل وعلى سائر الأقوال(2).

هذا إن لم نقل بأنه مستلزم لتعطل أكثر هذه الأحكام، إضافة إلى أنه(3) قد يعد عملاً غير عقلائي.

ومن الواضح أن استشارة الفقيه سائر الفقهاء في الأمور العامة (كالحرب والصلح وأشباهها) ليس مستلزماً للعسر والحرج لقلتها، ولا يعد عملاً غير عقلائي، بل سيأتي إثبات أن العقل يقتضيه.

ثالثاً: ولا أقل من القول بعدم وجوب الشورى في الأمور الحسبية، لاستقرار سيرة الفقهاء على عدم الشورى فيها، أو لظهور أدلتها في ذلك، فلو سلم وجود هذه السيرة وحجيتها فلا بأس بالتزام التخصيص في أدلة الشورى، وأنها قد خرج منها أمثال الهلال والحجر... الخ.

ص: 281


1- وكذا استشارة الفقيه أو غيره ممن يقوم بالأمور الحسبية للمسلمين.
2- ككون (لا) ناهية في قاعدة (لا ضرر)، كما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني.
3- أي استشارة الفقيه سائر الفقهاء في كل مسألة مسألة جزئية من مسائل الحجر وإجراء النفقة وتجهيز الميت وأشباهها.
عدم عمل الفقهاء بالشورى أعم من الالتزام بعدم الوجوب

رابعاً: سلمنا استقرار سيرة الفقهاء على عدم العمل بالشورى، لكن نقول: عدم عملهم بها لا يكون دليلاً على التزامهم بعدم وجوبها، إذ كان عدم عملهم بها غالباً من باب السالبة بانتفاء الموضوع، ومن الواضح أن عدم الحكم بثبوت محمول لعدم موضوعه لا يستلزم إطلاقاً عدم الحكم بثبوته عند وجود موضوعه، وكذا عدم العمل بمحمول لعدم تحقق موضوعه لا يدل إطلاقاً على عدم الالتزام بعدم وجوب هذا المحمول عند وجود موضوعه، أرأيت لو أن فقيهاً لم يعمل بقاعدة (الإنفاق على الزوجة) لعدم تزوجه، أيكون عدم عمله وعدم إنفاقه لعدم زوجته دليلاً على التزامه بعدم وجوب الإنفاق عند تحقق الموضوع؟ وذلك في غاية الوضوح. نعم مما لا شك فيه أن كثيراً من الفقهاء لا يلتزم بوجوبها حتى في الشؤون العامة، لكن الكلام حول إثبات أن أكثر الفقهاء على ذلك، هذا بيان الكبرى.

وأما بيان الصغرى (أي عدم عملهم بالشورى كان غالباً من باب السالبة بانتفاء الموضوع) فهو: أن (الصلح والحرب) و (المعاهدات الدولية) و (السياسة الداخلية العامة للدولة مثلاً: تصفية المعارضة والقضاء عليها أو استمالتها أو اتباع سياسة اللاعنف معها، وفرض الضرائب، والتأميم.. الخ) لم يكن تحت تصرف الفقهاء، وكان اتخاذ القرار فيها خارجاً عن مقدورهم، لأن الدولة كانت بيد غيرهم، فعدم استشارة الفقهاء على طول التاريخ في الشؤون العامة على فرض تسليم ذلك، إنما كان دائماً أو غالباً لعدم تحقق الموضوع، نعم لو كانت الدولة طوال التاريخ بأيدي الفقهاء ثم انفرد كل فقيه برأيه في الشؤون العامة ولم يعمل

ص: 282

بالشورى، كان هذا دليلاً على التزامهم بعدم وجوبها، ولصحت دعوى استقرار طريقتهم على عدم الاستشارة مع تحقق الموضوع.

لا يقال: حكم مجموعة من الفقهاء ولم يستشيروا، كالمجلسيين(قدس سرهما) والبهائي (قدس سره) والطوسي (قدس سره) والعلامة (قدس سره).

إذ يقال: أولاً: لم يكن الحكم بأيديهم ليحولوه إلى حكومة شوروية، بل كانوا يعيشون في دول ملوكية كان أحدهم وزيراً فيها، والآخر مشيراً لا غير، فلم يكن الأمر بيدهم ولم يكن بمقدورهم ذلك، ليكون عدم عملهم بالشورى دليلاً على عدم التزامهم بوجوبها.

ثانياً: سلمنا التزام هؤلاء بعدم وجوب الشورى، لكن المدعى هو انعقاد سيرة الفقهاء على عدم الوجوب، وأين هذا من التزام عدد من الفقهاء بعدمه؟ وهل يكون التزام عدة فقهاء بحكم صارفاً للظاهر عن ظهوره؟ هذا كله إضافة إلى ما فصلناه من عدم الحجية لعملهم، فليراجع.

الجواب عن دعوى الإجماع على عدم وجوبها

وأما ما ذكر: من (أن الإجماع منعقد على عدم وجوبها، مما يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) لطفاً أو دخولاً... الخ).

فيرد عليه: إضافة إلى ما ذكر في رد ما ذكر من (أن الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب) و (السيرة العملية للفقهاء...) إذ يجري أكثر ما ذكر هناك ههنا:

أولاً: لا إجماع في الشؤون العامة على عدم وجوب الاستشارة فيها أو الشورى، لبداهة عدم تعرض الأكثر لهذه المسألة أصلاً، فكيف يدعى إجماعهم على العدم؟

ص: 283

ثانياً: الإجماع المنقول ليس بحجة.

ثالثاً: الإجماع وإن كان محصلاً فليس بحجة ههنا، لأنه محتمل الاستناد، بل معلوم الاستناد، والإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجة، فكيف بمعلومه على المبنى المشهور، بيان ذلك أنه مستند أو محتمل الاستناد للأدلة الدالة على وجوب التقليد، حيث استظهروا منها أن كل مقلد عليه أن يرجع إلى مجتهد واحد(1)، وأنه لا يحق له الرجوعإلى رأي الغير وإن كان هو أكثرية الفقهاء (مما يعبر عنه بالمشهور أحياناً، والأشهر أحياناً أخرى).

وأدلتهم(2) على وجوب التقليد هي: السيرة والإجماع، وأنه من ضروريات الدين، والكتاب كآية النفر والذكر والنبأ وغيرها، والروايات كما دل عليه الإرجاع لآحاد الأصحاب والثقات والعلماء والتوقيع الوارد وغيرها، وسيأتي بإذن الله تعالى التكلم حول هذه الأدلة مفصلاً، وأنه هل لها دلالة على حرمة أو مرجوحية تقليد أكثرية الفقهاء في كل الوقائع أم لا؟

وكذلك مستند أو محتمل الاستناد إلى الأدلة الدالة على وجوب تقليد الأعلم، ومنها الإجماع المنقول، وبناء العقلاء، والأخبار كمقبولة ابن حنظلة وداوود بن الحصين، وقاعدة الدوران بين التعيين والتخيير، وسيأتي بإذن الله تعالى التطرق لها والبحث عن صحتها، ثم مدى دلالتها على تقدير صحتها وسلامتها، وكذلك مستند أو محتمل الاستناد لأدلة عدم جواز التبعيض في التقليد.

هذا إضافة إلى جريان ما ذكره الآخوند الخراساني (رضوان الله عليه) هنا، قال في حاشية الرسائل: (لا يخفى وهن دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة التي لها

ص: 284


1- بناء على وجوب تقليد الأعلم، بل وعلى مجرد عدم جواز التبعيض في التقليد.
2- الفقه: ج1 ص8 كتاب الاجتهاد والتقليد.

مدارك مختلفة، إذ معه لا يكشف الاتفاق - على تقدير تحققه - عن رأي المعصوم (عليه السلام) فكيف مع وقوع الخلاف حسبما تقدم منه الاعتراف)(1) فليتدبر.

لكن ذلك كله ينفي دعوى الحرمة(2)، وكان البحث عن الوجوب، فتدبر.

وأما ما ذكر: من الشهادة بقوله: (ويشهد لدعوى الإجماع هذه أن الإجماع منعقد على حجية رأي كل فقيه على مقلديه وعدم حجية رأي فقيه آخر على مقلدي سائر الفقهاء)، ففيه: إن الإجماع وإن انعقدعلى الشق الأول، إلاّ أن ما يضرنا على تقدير قطع النظر عن الجوابين السابقين وغيرهما، هو انعقاد الإجماع على الشق الثاني(3)، إذ لو قلنا بحجية(4) رأي كل فقيه على مقلديه فكما لا يستلزم عدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي الأول كذا لا يستلزم عدم حجية مجموعة فقهاء (وهم الأكثرية) على مقلدي الفقيه الأول.

هذا لو قلنا بالحجية (اللا بشرطية)، أما لو قلنا بحجية رأي كل فقيه على مقلديه بنحو ال- (بشرط لائية) بمعنى حجية رأيه دون سائر الفقهاء على مقلديه، فهذا هو الشق الثاني (الإجماع منعقد على... عدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي الفقيه الأول)، وفيه إضافة إلى المناقشة في الكبرى المناقشة في الصغرى أيضاً، وأن لا إجماع على عدم الحجية، وتفصيله سيأتي عند التطرق لأدلة جواز الشورى على تقدير عدم القول بوجوبها، وجواز رجوع مقلد فقيه إلى رأي الشورى وإن خالفه رأي مقلَّده، لعدم دلالة أي واحد من أدلة التقليد على ال- (بشرط لائية)،

ص: 285


1- حاشية الرسائل: ص178 تعليقاً على ما ذكره الشيخ (قدس سره) في الرسائل ص329 عند قوله: (لنا على ذلك وجوه، الأول: ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه).
2- حرمة العمل برأي الأكثرية.
3- بل الإجماع على الشق الأول ضار بمن يرى ملزمية رأي الأكثرية ووجوب إتباعها دون من يرى التخيير.
4- أي أصل الحجية الأعم من التعيينية والتخييرية.

وسيأتي ذلك بعونه تعالى، وإثبات جواز التبعيض في التقليد وجواز العدول.

هذا، إضافة إلى أن الإجماع(1) على تقدير تسليمه وتسليم حجيته دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتقين، وهو ما لو لم تعارض فتوى المقلد فتوى أكثرية الفقهاء، إلا أن يثبت له معقد لفظي، فتأمل.

ص: 286


1- على لزوم تقليد المرجع المقلَّد وعدم جواز العدول عنه أو التبعيض وتقليد الأكثرية في هذا الشأن العام أو غيره.
الإشكال الرابع: (شاورهم) وردت في سياق المستحبات فالمشورة مستحبة
اشارة

ومما قد يعترض به على دلالة الآية الكريمة: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1) وعلى الوجوب: أنها قد وردت في سياق المستحبات، فيكون السياق قرينة مقامية على صرف الظاهر عن ظهوره.

الجواب:
1: ليس السياق سياق المستحبات

أولاً: (كونها في سياق المستحبات) دعوى بلا دليل، إذ ما هو المثبت لكون (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(2) للاستحباب، بل الدليل على عدمه، لكون الأمر ظاهراً في الوجوب لا يرفع اليد عنه إلا بالدليل، فما هو الصارف ل(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) عن ظهوره؟ حتى يكونا مستحبين فيكون (شاور) في سياق المستحبات؟ وهل الاستحسان يصلح صارفاً للظواهر؟

ولذا قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: (وقوله: (شَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه...).

ص: 287


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة آل عمران: 159.

ويؤيده ما جاء في الميزان: (وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكمويشاوركم في الأمر، وأن يتوكل علينا إذا عزم)، وقال: (وقد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم...).(1)

وفي روح المعاني: (... لأنه (صلى الله عليه وآله) أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر.. ثم أمر (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك بالتوكل على الله والانقطاع إليه).(2)

وأما ما ذكره في مجمع البيان من: (وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء وحثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضاً فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيهم عن الفظاظة في القول والغلظة والجفاء في الفعل، ودعاهم إلى التوكل عليه وتفويض الأمر إليه)(3) حيث عبّر ب(الترغيب) مما يظهر منه أن (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ)(4) للندب.

ففيه: إن كلمة (ترغيب) لا ظهور لها في استفادته (قدس سره) الندب، إذ أنه (قدس سره) يستخدمها في الواجبات بلا عناية، مثلاً قوله بعد صفحة: ((إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ... وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)(5)، ظاهر المراد، وتضمنت الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير من معصية الله التي يستحق بها الخذلان، مع إيجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن

ص: 288


1- الميزان: ج4 ص56.
2- روح المعاني: ج2 ص108.
3- مجمع البيان: المجلد الأول، الجزء الثاني ص527.
4- سورة آل عمران: 159.
5- سورة آل عمران: 160.

يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا)(1)، فقد استخدم (ترغيب) متعلقة بطاعة الله، إضافة إلى أنه يستخدم (إيجاب) و(ترغيب) بنحو واحد.

إضافة إلى كون كلمة (ترغيب) في حدّ نفسها ظاهرة في الجامع بين الوجوب والندب، ولا ظهور لها في أحد النوعين، فتأمل.

بل إن الظاهر من كلامه (قدس سره): الوجوب لجعله الترغيب مقابلاً للنهي (وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء... ونهيهم عن الفظاظة في القول) فبقرينة المقابلة يعرف أن المراد بالترغيب ما يقابل النهي وهو الأمر والوجوب، ولاستفادته الحرمة من (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(2) مع كون اللين مقابل الفظاظة وتفرع (اعف .. استغفر .. شاور) عليه، وكون مقابل مناط النهي - وهو الانفضاض من حوله (صلى الله عليه وآله) - مناطاً للتحريض على اللين المتفرع عليه (اعف.. استغفر.. شاور).

ولنفرض ظهور كلمة (ترغيب) في الندب، لكن الواضح أن الظاهر القرآني(3) لو تعارض مع ظاهر آخر قدّم عليه، فكيف إذ كان الظاهر الآخر غير حجة(4)، كما فيما نحن فيه، إذ ظاهر كلمة (ترغيب) مستند إلى اجتهاده (قدس سره) غير الحجة على مجتهد آخر، بل من الواضح أن الظاهر القرآني لو تعارض مع صريح كلام مجتهد لا يسقط الظاهر عن ظهوره، ولا يكون كلامه قرينة صارفة أبداً، كما هو أوضح من أن يبيّن.

ص: 289


1- مجمع البيان: ج2 ص528.
2- سورة آل عمران: 159.
3- وهو هنا صيغة الأمر في (اعف) و(استغفر) و(شاور) و(ليتوكل).
4- حيث لا تتعارض الحجة مع اللاحجة فيتمسك بها بلا تعارض.
2: والسياق لا يصلح صارفاً للظواهر عن ظهورها

ثانياً: سلمنا أن (اعف) و(استغفر) من المستحبات، لكن نقول: لا يكون السياق قرينة صالحة لصرف صيغة الأمر عن ظهورها، إذ أن الظهور السياقي لايزاحم الظهور اللفظي.

قال الميرزا محمد حسن الآشتياني (قدس سره) عند التكليم على دلالة آية النفر على حجية خبر الواحد: (.. فإن ظهور السياق على تقدير تسليمه ليس من الظهورات اللفظية حتى يزاحم ظهور اللفظ، فضلاً عن أن يصير متقدماً عليه وقرينة صارفة له).(1)

ولذا نجد أن سيرة الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) كانت على التمسك بالظهور اللفظي، حيث إنهم كانوا يحملون الأمر بشيء معين على ظهوره رغم وقوعه في سياق أوامر أخرى دلّ الدليل الخارجي على كونها للندب.

ويتضح هذا أكثر عند ملاحظة الروايات الشريفة قبل تقطيعها، حيث كان الأئمة (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام) يذكرون الواجبات والمستحبات في سياق واحد وبصيغة الأمر، وكان الفقهاء يحملون ما دلت قرينة خارجية حالية أو مقالية على أنه للندب، على الندب دون غيره.

كما يتضح أكثر عند معرفة أن قدامى الفقهاء كالشيخ الطوسي (رحمه الله) كانوا يجعلون فهم الأصحاب الندب من أمر أو أوامرَ واقعةٍ في سياق أوامر عديدة أخرى، قرينة على أن ظاهرها غير مراد وأنها للندب.

وذلك هو مقتضى القاعدة على مسلك المشهور، حيث إنهم ذهبوا لكون

ص: 290


1- بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج1 ص155 بحث حجية خبر الواحد.

الأمر حقيقة في الوجوب مجازاً في الندب، مع ضميمة ذكر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) في كثير من الأحيان المستحبات في سياق الواجبات، وقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة على نحو ذلك:

قوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(1).

وقوله عز وجل (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ).(2)

وقوله تعالى: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3)، مع أن النكاح بإذن أهلهن مستحب واعطائهن أجورهن واجب.

وقوله سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(4)، حسب أكثر المفسرين من أن المراد من الصدقة، الصدقة المفروضة(5)، فتأمل.

وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ

ص: 291


1- سورة المزمل: آخر آية.
2- سورة النساء: 6.
3- سورة النساء: 25.
4- سورة التوبة: 103.
5- ليراجع مجمع البيان: الجزء الخامس من المجلد الثالث: ص68.

وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).(1)

وقوله سبحانه: (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(2)، مع أن ردّها واجب والتحية بالأحسن مستحب، هذا على بعض التفاسير في معنى الآية الكريمة(3).

وقوله تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(4)، مع أن إقامة الصلاة واجبة وذكر الله قياماً وقعوداً وعلى الجنب مستحب، هذا حسب التفسير المعروف للآية الكريمة.(5)

وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).(6)

وقوله تعالى: (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ ما

ص: 292


1- سورة النساء: 36.
2- سورة النساء: 86.
3- يراجع مجمع البيان: ص85 المجلد الثاني الجزء الثالث، حيث قوى (قدس سره) هذا المعنى من أن كليهما للمسلمين.
4- سورة النساء: 103.
5- راجع مجمع البيان: تفسير الآية الكريمة.
6- سورة الأنفال: 45-46.

يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ).(1)

وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)(2)، حسب بعض التفاسير.(3)

وقوله تعالى: (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ).(4)وإن كان الاستدلال ببعض هذه الآيات الكريمة على المدعى لا يخلو عن تأمل،فتأمل.

وهناك آيات أخرى يعثر عليها المتتبع دالة على المقصود.

ص: 293


1- سورة الأحزاب: 32-34.
2- سورة الأحزاب: 70.
3- ليراجع مجمع البيان: الجزء الثامن من المجلد الرابع: ص373.
4- سورة لقمان: 17-19.
الإشكال الخامس: المراد ب (الأمر) أمر الحرب
اشارة

وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى في الشؤون العامة بأن الأمر في الآية الكريمة: (وَشاوِرْهُمْ في الأَمْر)(1)، هو الحرب، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام..(2)، وقال ابن عباس: ((وشاورهم في الأمر) في أمر الحرب).(3)

فالآية الكريمة وردت في مورد الحرب والجهاد بعد وقعة أحُد، فيكون المورد قرينة على أن الواجب هو المشاورة في أمر الحرب فقط، لا في سائر الشؤون العامة، فالألف واللام إنما هي للعهد الحضوري أو الذهني، أي الشبيه به.

الجواب:
1: الأصل في اللام انها للجنس

أولاً: إن الأصل في اللام أنها للجنس دون العهد، كما سنفصل الكلام عنه، ولنبدأ بذكر بعض كلمات المفسرين حيث ذكروا معنى آخر أعم، إما بنحو الترديد بينه وبين الأخص، أو بنحو التعيين، ولنذكر بعض عباراتهم:

ص: 294


1- سورة آل عمران: 159.
2- روح المعاني: المجلد الثاني الجزء 5 ص106.
3- تفسير ابن عباس: ص59.

قال الشيخ الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان: ((وَشَاوِرْهُمْ فيالأَمْرِ)(1) أي استخرج آراءهم وأعلم ما عندهم، واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال)(2)، فلم يقيد (استخرج آرائهم) ب(آرائهم في شؤون الحرب) وقوله (واختلفوا في..) دال على المطلب كما لا يخفى، إذ أن الأقوال التي ذكرها (رحمه الله) لا تختص بالمشورة في شؤون الحرب.

وقال الشيخ الطوسي (قدس سره) في تبيانه: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(3) أمر من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) أن يشاور أصحابه، يقال: شاورت الرجل مشاورة وشواراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة)(4)، فلم يقيد ب(.. أن يشاور أصحابه في أمر الحرب).

وقد استظهر السيد الطباطبائي (قدس سره) عمومية (الأمر)، قال في الميزان:

(وقد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - وهو تعالى فاعله لا محالة - واللفظ وإن كان مطلقاً لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلاّ لغى التشريع، على أن تعقيبه بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(5) لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم).(6)

ص: 295


1- سورة آل عمران: 159.
2- مجمع البيان: ج4 المجلد الثاني ص428.
3- سورة آل عمران: 159.
4- التبيان: ج3 ص31.
5- سورة آل عمران: 159.
6- الميزان: ج4 ص56-57.

ونقل العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) في تفسير الآية ماهذا نصه: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (1) أي في أمر الحرب، إذ الكلام فيه أو فيما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة).(2)

قال في روح المعاني: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (3) أي في الحرب، أخرجه ابن أبي حاتم... أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة وإليه ذهب جماعة).(4)

وقال في الكشاف: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (5) يعني في أمر الحرب ونحوه مما لا ينزل عليك فيه وحي تستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم، وعن الحسن (رضي الله عنه) قد علم الله أنه ما به إليه حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده..).(6)

وقال في المنار: ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (7) العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس).(8)

ص: 296


1- سورة آل عمران: 159.
2- بحار الأنوار: ج20 ص35، نقلاً عن أنوار التنزيل: ج1 ص239-240.
3- سورة آل عمران: 159.
4- روح المعاني: المجلد الثاني الجزء الخامس.
5- سورة آل عمران: 159.
6- الكشاف: ج1 ص474.
7- سورة آل عمران: 159.
8- المنار: ج4 ص199.

وقال في (الجواهر في تفسير القرآن الكريم): ((وَشَاوِرْهُمْ فيالأَمْرِ) (1) أمر الحرب وفي كل ما يصح أن يشاور فيه).(2)

وقال في (مدارك التنزيل وحقائق التأول): ((وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (3) أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي)(4).

والمستفاد من كلام ابن أثير في تفسيره أنه يرى عموم (الأمر) وعدم اختصاصه بالحرب فليراجع.(5)

إذن لم يستفد مشهور المفسرين بل كلهم إلا ابن عباس اختصاص (الأمر) بالحرب على نحو التعيين، بل ذكروه إما مردداً بينه وبين الأعم (كما مرّ من روح المعاني وأنوار التنزيل) أو ذكروا الأعم معيناً (كما مرّ من الكشاف والمنار والميزان ومدارك التنزيل وتفسير ابن كثير والجواهر) أو أطلقوا (كما مرّ من مجمع البيان والتبيان) الظاهر منه إرادة الأعم.

وأما ما ذكره بعضهم من وجه الاحتمال الأول (وهو التخصيص بالحرب) ب- (وهو المناسب للمقام، إذ الكلام فيه) فسيأتي الجواب عنه.

ص: 297


1- سورة آل عمران: 159.
2- الجواهر في تفسير القرآن الكريم للطنطاوي.
3- سورة آل عمران: 159.
4- مدارك التنزيل وحقائق التأويل: ج1 ص290 من المطبوع بهامش تفسير الخازن.
5- تفسير ابن كثير: ج1 ص420.
المشهور: كلما ترددت اللام بين العهد والجنس، كانت للجنس

ولو لم يحصل من مجموع ذلك الاطمينان بأن (الأمر) في الآية الشريفة أعم، وأنه لا وجه لتخصيصه بالحرب، فنقول: مقتضى القاعدة في ما لو تردد المفرد المحلى بأل بين كونه للعهد (كما استفاده ابن عباس) أو لغيره (كما استفاده الآخرون) هو: الرجوع إلى الأصل، والأصل في اللام أنها للجنس والمحتاج للقرينة هو العهد كما ذكره الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية عند الاستدلال بالصحيحة الأولى لزرارة على الاستصحاب.(1)

وكما بنى عليه المرحوم الشيخ الأنصاري وتلميذه المرحوم الآشتياني (قدس سرهما) قال المرحوم الآشتياني في بحث الاستصحاب: (فنقول: إن قضية ظاهر اللام إذا لم تكن هناك قرينة الإشارة إلى الجنس سواء كان بالوضع أو بغيره فمقتضاها كون اللام في اليقين للجنس لا للعهد.

هذا، ولكن أورد عليه بإيرادات:

أحدها: أن اللام إنما يكون ظاهراً في الجنس حيث لم يكن هناك عهد وهو موجود في المقام من حيث سبق ذكر يقين الوضوء مع كونه منكراً، فلا معنى للقول بظهورها في الجنس.

ثانيها...: ثم قال: (وأجاب الأستاذ العلامة عن الإيرادين، أما عن الأول فبان ما قرع سمعك من أن اللام ظاهر في الجنس حيث لا عهد ليس معناه مجرد سبق ذكر ما يصلح للإشارة إليه، بل ما إذا كان هناك قرينة على العهد بحيث يفهم عرفاً، لا يقال ذكر علماء البيان وغيرهم أن المذكور سابقاً إذا كان منكراً

ص: 298


1- كفاية الأصول: ج2 ص284.

يفهم منه عرفاً العهد، كما في قوله تعالى: (وَعَصَى فِرْعَونُ الرَّسُولَ)(1) المسبوق بلفظ(رسول) المنكر، وجعلوا هذا هو الميزان لتعيين اللام فيما تردد أمره بين العهد والجنس).(2) حيث ظهر منه التزام الشيخ (قدس سره) بأن اللام ظاهرة في الجنس مطلقاً حتى لو سبق ذكر ما يصلح للإشارة إليه(3) (مما يجعلها صالحة لإرادة العهد)، وأنها تكون للعهد في صورة واحدة فقط هي ما إذا كان هناك قرينة على العهد بحيث يفهم عرفاً.

كما ظهر منه التزام عموم علماء أهل البيان بل وغيرهم أيضاً بأن اللام - فيما تردد أمره بين العهد والجنس - إنما تكون للعهد إذا سبقها منكر يفهم منه عرفاً العهد(4)، وفيما نحن فيه - أي في الآية الكريمة (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) (5) - من الواضح عدم سبق منكر فتكون للجنس على ما قاله علماء البيان.

ومن ذلك (أي من التزام علماء البيان بأنها للجنس) ومن غيره - على ما فصل في محله من بحث الألفاظ - يعلم النظر فيما التزم الآخوند (قدس سره) في بحث الألفاظ من أن اللام للتزيين(6)، ويعلم أن ما التزمه في بحث الاستصحاب من أن

ص: 299


1- سورة المزمل: 16.
2- بحر الفوائد: ص26 بحث الاستصحاب.
3- وقد علله الآخوند (قدس سره) في الكفاية ج2 ص284 بقوله: (وسبق فإنه على يقين... إلخ، لا يكون قرينة عليه مع كمال الملائمة مع الجنس أيضاً فافهم)، وليس غرضنا قبول هذا الكلام منه ومن الشيخ (قدس سره) وأن اللام ظاهرة في الجنس حتى مع سبق منكر، بل نقل التزامهما بظهور اللام في الجنس، وقبولنا لهذا المبنى في الجملة (وإن لم نقبله فيما لو سبق منكر فرضاً).
4- الظاهر أن (يفهم) في كلامهم خبر لا صفة ل- (منكراً)، لكنه غير ضار بنا في المقام كما لا يخفى، لعدم وجود هذه القرينة ههنا، سواء كان خبراً أو صفةً، والمقياس عندهم وجود قرينة يفهم منها العهد عرفاً، والنقاش في كون سبق المنكر كذلك نقاش في الصغرى لا يضر بالقياس.
5- سورة آل عمران: 159.
6- كفاية الأصول: ج1 ص380.

اللام ظاهرة في الجنس هو الذي ينبغي أن يلتزم به.

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): (واللام وإن كان ظاهراً فيالجنس إلا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور...).(1)

ولقد حمل كثير من الفقهاء (اللام) على الجنس وعمموها لكل المصاديق، في موارد أضعف مما نحن فيه بكثير، حيث كانت (ال) مسبوقة بمنكر أو معرَّف مذكور من قبل حيث يكون احتمال العهد الذكري قوياً إن لم يكن متعيناً - كما قال بعض - وقد أشرنا إلى بعضها في الملحق رقم (5)، فراجع.

ص: 300


1- الرسائل: ص330 الصحيحة الأولى لزرارة.
الجواب عن أن القدر المتيقن من (الأمر) هو أمر الحرب

ومن ذلك كله ظهر اندفاع الإيراد على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى في كافة الشؤون العامة بأن (الأمر) مفرد محلى بأل وهو لا يفيد العموم، فما تدل عليه الآية أمر مهمل قدره المتيقن هو شؤون الحرب، أو لا نلتزم حتى بذلك أيضاً.

بحث عن أن المطلق كالعام في الدلالة على الشمول

إذ يرد على هذا الإشكال - إضافة إلى كل ما سبق -: إن المطلق كالعام في إفادة العموم، فيما لو لم يكن هناك عهد، ولو كان عهد فالعام كالمطلق أيضاً في الدلالة على تلك الأفراد المعهودة ك- (أكرم العلماء) فيما كانوا معهودين ذكراً أو ذهناً أو حضوراً.

والحَكَم في ذلك العرف، ألا ترى أن الشارع لو قال: (أوف بالعقد) أو (أوفوا بالعقد) بدل (أَوْفُوا بِالْعُقُود)(1) استفادوا منه وجوب الوفاء بكل العقود إلا ما خرج بالدليل، إما لعدم عدّ الشارع إياه عقداً كنكاح الشغار وبيع المسلم الخمر والخنزير(2)، أو لاعتباره عقداً جائزاً كالمعاطاة على بعض الأقوال، والهبة لغير ذي الرحم قبل التلف أو التصرف حسب ما هو مفصل في محله؟

ولذا نجد أن العرف يستفيد من (وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)(3)

ص: 301


1- سورة المائدة: 1.
2- عدم التسمية بالعقد أو البيع بناء على الصحيح أما على الأعم فهو عقد أو بيع باطل.
3- سورة البقرة: 177.

العموم، مع أن المفرد المضاف أضعف في الدلالة على العموم - بنظر الأصوليين - من سائر ما يفيد العموم.

قال المرحوم الآشتياني (قدس سره): (... فإن لفظة كل ونحوه أقوى دلالة على العموم من النكرة في سياق النفي، وهي أقوى دلالة عليه من الجمع المحلى، وهو أقوى دلالة عليه من الجمع المضاف، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المحلى، وهو أقوى دلالة عليه من المفرد المضاف)(1).

وفيه: أنه لا يجد العرف في الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)(2)، فرقاً بين (أماناتهم) و(عهدهم) في الشمول والعموم، وإن قيل: بأن دلالة الأول بالوضع والثاني بالعقل(3).

وكذا بين الآيتين الكريمتين: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(4)، و: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(5).

وكذا بين الآيتين الكريمتين: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا)(6)، و: (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(7)، هل يجد العرف فرقاً من هذه الجهة (أي الدلالة على العموم قوةً وضعفاً) بين صلاة وصلوات والمال وأموالكم؟

وكذا قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(8)، وفي الآية

ص: 302


1- بحر الفوائد: ص53 بحث التعادل والتراجيح.
2- سورة المؤمنون: 8.
3- لانطباق الطبيعي على كافة أفراده، أو لغير ذلك.
4- سورة المؤمنون: 2.
5- سورة المؤمنون: 9.
6- سورة الكهف: 46.
7- سورة الأنفال: 28.
8- سورة المؤمنون: 96.

الكريمة: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(1)، هل دلالة اجلدوا الزاني والزانية مأة جلدة على العموم أضعف؟

وكذلك قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)(2) هل لو قال جل وعلا: (ذروا البيوع) استفاد العرف منه عمومية أقوى؟

أو لو قال تعالى في آية: (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(3): (تجاهدون في سبيل الله بمالكم) كان أضعف من جهة العموم؟

وكذا هل يرى العرف فرقاً بين (ربّ تجاوز عن المسيء وعن المسيئين) من ناحية الدلالة على العموم؟ أو أكرم المحسن وأكرم المحسنين؟ ولو قيل بكون صيغة الجمع في بعض الموارد السابقة كان بلحاظ عموم المسند إليه، كان ذلك على المدعى أدل.

والظاهر تمامية ما ذُكر سواء أوجدت مناسبات الحكم والموضوع في الموردين أم لا. ولذا نجد أن العديد من الفقهاء استفادوا العموم من (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(4) كما استفادوا من (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(5).

ويتضح ذلك بمراجعة حواشي المكاسب، ومنها حاشية المرحوم الأصفهاني(6)، فتأمل، وكذا حاشية الميرزا علي الإيرواني(7) وغيرهما،

ص: 303


1- سورة النور: 2.
2- سورة الجمعة: 9.
3- سورة الصف: 11.
4- سورة البقرة: 275.
5- سورة المائدة: 1.
6- حاشية الكمباني على المكاسب: ص25.
7- حاشية الإيرواني على المكاسب: ص77.

وبمراجعة (الفقه) كتاب البيع عند التحدث عن هذه الآية الشريفة، حيث قال: (ثم كما للآية إطلاق أفرادي، كذلك لها إطلاق أحوالي من جهة الاحتياج إلى الصيغة أو العربية... إلخ)(1)، وعند التحدث عن (آية التجارة)(2) وعند الحديث عن (الناسمسلطون)(3).

ولذا نجد أن العرف عند تعارض العام والمطلق لا يرى تقديم العام على المطلق فيما لو تعارضا بالعموم من وجه (رغم كل ما قاله بعض الأصوليين في تعارض الأحوال)، فمثلاً (أكرم اليتامى) و(أهن الفاسق)، أو العكس (أكرم اليتيم) و(أهن الفساق)، أترى العرف يعطي مادة الاجتماع في الأولين ل- (أكرم) وفي الأخيرين ل- (أهن)؟، وكذا: (أكرم النحاة) و(أهن الصرفي)، وعكسه (أكرم النحوي) و(أهن الصرفيين) وكذا بعكس كلٍّ من (أكرم) و(أهن)؟

ومن الواضح أن الاستدلالات العقلية(4) والبراهين النظرية لا تجدي في الظهورات، ولعل إلى ما ذكرنا يشير السيد الحكيم (قدس سره) في تعليقته على الكفاية بقوله: فتأمل، حيث قال: (نعم لو كان العام المعارض للمطلق متصلاً به أمكن تقديمه على المطلق، لصلاحية كونه قرينة على التقييد، فتأمل).(5)

ولذا قال الآخوند الخراساني (قدس الله سره) في كفايته: (منها ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الأمر بينهما، من كون ظهور العام في العموم تنجيزياً بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنه معلق على عدم البيان، والعام يصلح بياناً فتقديم العام حينئذٍ

ص: 304


1- الفقه: كتاب البيع ج1 ص66، وراجع الصفحات (68-70) إشكالاً وجواباً.
2- الفقه: كتاب البيع ج1 ص73- 74.
3- الفقه: كتاب البيع ج1 ص94- 95.
4- كما يقال إن عدم البيان يصنع المقتضي للمطلق، لكن بيان العدم في العام مانع... إلخ، وقد تطرقنا لذلك في موضع آخر وكالدور الذي ذكره الشيخ (قدس سره).
5- حقائق الأصول: ج2 ص578.

لعدم تمامية مقتضى الإطلاق معه، بخلاف العكس، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه، إلا على وجه دائر، ومن أن التقييد أغلب من التخصيص، وفيه: أن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد قيل ما من عام إلاّ وقد خص غير مفيد(1) ولابدفي كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر فتدبر)(2)، ومزيد التحقيق في ذلك في الملحق رقم (9) فراجع.

ومن كل ذلك اتضح أن الإشكال: ((الأمر) مفرد محلى بأل وهو لا يفيد العموم فما تدل عليه الآية أمر مهمل فنقول إن قدره المتيقن هو شؤون الحرب أو لا نلتزم حتى بذلك أيضاً) غير وارد حتى على مسلك سلطان العلماء (قدس سره) ومن تبعه، إذ المطلق على هذا المبنى يفيد العموم بسبب جريان مقدمات الحكمة(3)، وقد أثبتنا أن دلالته على العموم ليست بأضعف من دلالة العام عليه بنظر العرف، وتطرقنا لنقد أدلة من ادعى ذلك، فليراجع.

ص: 305


1- قد يكون وجه عدم الإفادة: منع كون التقييد بالمقديات المنفصلة - وهو محل الكلام - أغلب من التخصيص، وقد يكون باعتبار أن الأغلبية ما لم تسبب الظهور النوعي لأحد الطرفين في قبال الآخر غير كافية في ترجيح أحد شيئين كانت حجيتهما من باب الظن النوعي، فالاستناد إليها في إثباته دوري، إلا أن يقال بتخالف مرحلتي الإثبات والثبوت في طرفي الدور، فتأمل جداً، أو يقال: إن صرف الأغلبية لا توجب إلاّ قوة الاحتمال، أما الظهور فيحتاج للإثبات، بأن تبلغ الأكثرية حداً يكون لأحد الطرفين بها ظهور عرفاً، وبتعبير آخر: حيث إن الأعم لا يكون دليل الأخص فالأغلبية لا تدل على الظهور النوعي وعلى الرجحان.
2- كفاية الأصول: ج2 ص403-404.
3- بل سننقل من السيد الوالد (قدس سره) كلاماً ينفع في المقام فلينتظر.
الجواب عن إشكال عدم جريان مقدمات الحكمة في (الأمر)

وأما الخدشة في جريان مقدمات الحكمة هنا(1) إذاً ما هو المثبت لكون المولى في مقام البيان.

فيرد عليها:

أولاً: النقض بكل الموارد الأخرى حيث تمسك الفقهاء بالمطلقات في أشباه هذا المورد: (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2)، و: (حَرَّمَ الرِّبا)(3)، و: (ذَرُوا الْبَيْعَ)(4)، و: (أَقِمِ الصَّلاةَ)(5)، حيث يتمسك بإطلاقه على نفي شرط أو جزء زائد شك فيه، فتأمل(6).

وكذا جميع العمومات حيث يتمسك بإطلاقها الأحوالي والأزماني، (وَأَنْكِحُوا الأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)(7)، و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(8)، إلخ.

ولذا التزم العديد من الأصوليين بأنه عند الشك في الإطلاق إذا كان ناشئاً

ص: 306


1- قد تطرقنا لجريان المقدمة الثالثة (عدم وجود القرينة على الخلاف) عند التكلم قبل صفحتين تقريباً على كلام الشيخ (قدس سره) في حديث تعارض العام والمطلق.
2- سورة البقرة: 275.
3- سورة البقرة: 275.
4- سورة الجمعة: 9.
5- سورة هود: 114.
6- المتمسك به ههنا هو الإطلاق المقامي لا اللفظي، فتدبر.
7- سورة النور: 32.
8- سورة المائدة: 1.

من الشك في أن المتكلم في مقام أصل التشريع، أو أنه في مقام بيان تمام مراده، فاللازم التمسك بالإطلاق، لقيام سيرة العقلاءعلى ذلك وقد أمضاها الشارع.

وكذلك إذا شك في السعة والضيق كان مقتضى القاعدة إرادة الأوسع، استناداً إلى وجود أصل عام يقضي بكون الشارع المقدس في كل مورد استخدم فيه مطلقاً فإنه في مقام البيان وضرب القاعدة والقانون، والخروج منه بقدر ما ثبت فيه التقييد.

وثانياً: الحل بما ذكره الآخوند (قدس سره) حيث قال: (بقي شيء، وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبعد كونه لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز والغفلة عن وجهه فتأمل جيداً)(1).

وقال في (مهذب الأحكام): (إن ظاهر الكلام أن يكون في مقام البيان مطلقاً إلاّ إذا دلت قرينة على الخلاف)، جواباً عن الإشكال ب(أن الإطلاقات والعمومات الدالة على الرجوع إلى العلماء والسؤال عنهم ليست في مقام البيان من هذه الجهة).(2)

ومن الواضح أنه لا قدر متيقن في مقام التخاطب في الآية الكريمة، والمراد به أن يكون بعض أفراد الطبيعة بحيث يعلم المخاطب تفصيلاً كونه مراداً إما

ص: 307


1- كفاية الأصول: ج1 ص387-388.
2- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ج1 ص24.

بخصوصه وإما في ضمن الجميع، مع كون تيقنه لذلك بنفس إلقاء الخطاب لا بشيء آخر من التدبر والتفكر(1).

هذا إن قلنا: بكون (عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب أو مطلقاً) من مقدمات الحكمة وإشتراط تحقق الإطلاق به، وإلا بأن قلنا بأن وجود القدر المتيقن لا يضر بانعقاد الإطلاق والتمسك به، وقلنا بالاكتفاء بإثبات كونه في مقام البيان، إذ أن معناه كونه في مقام بيان ما تعلقت به إرادته حقيقة المتوقف على نصب قرينة على المراد إن أراد قسماً خاصاً من المطلق - على كلا المسلكين: المعظم والسطان(2) - وليس تيقن إرادة بعض الأفراد وإن كان نابعاً من الكلام الملقى إلى المخاطب، وتيقن إجزائها في مقام الامتثال قرينةً على التقييد وانحصار متعلق الأمر أو النهي به، وإلاّ لما جاز التمسك بالمطلقات في غير موارد ورودها، لكونها من أظهر مصاديق وجود القدر المتيقن(3)، فالأمر أوضح كما لا يخفى.

ولتكميل الفائدة نذكر هنا ما ذكره السيد الوالد (مد ظله) في (الأصول) حيث قال: (الظهور في المطلق كسائر الظهورات بين مشتركين أو مجازين أو أحدهما لا يحتاج إلا إلى عدم القرينة على الخلاف، أما قولهم باحتياجه إلى مقدمات الحكمة من كون المولى في مقام البيان وعدم نصب القرينة وعدم القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيرد عليه بالإضافة إلى أن الثالث من مصاديق الثاني، وأنه لا شأن لليقين في مباحث الظهورات، عدم الاحتياج إلى الأول فيه، خاصة

ص: 308


1- قال في المحاضرات: ج5 ص371: (هو أن يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنه مراده جزماً) في قبال القدر المتيقن الخارجي من جهة القرائن غير الناشئة من الخطاب.
2- فهو وإن لم يقل بكون استعمال المطلق في المقيد مجازاً، إلا أنه (قدس سره) لقوله بظهور المطلق في الإطلاق إن لم تنصب قرينة على التقييد مستنداً إلى مقدمات الحكمة يلزمه توقف إرادة التقييد من الحكيم الملتفت، على نصب القرينة عليه.
3- بل والقدر المتيقن في مقام التخاطب، فتأمل.

بعد كون ظاهر كلام الحكيم كافياً في وجوب العمل به).(1)

ولا يخفى أن الكلام حول مقدمات الحكمة والتعرض لكل الأقوال ونقدها مبنى وبناءً خارج عن هذا البحث، ولذا اكتفينا بهذا القدر، والله الموفق المستعان.

2: خصوصية المورد لا تخصص الوارد

وثانياً: من المقرر في محله - وعليه بناء الأصوليين والفقهاء - أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، وعليه بناء العقلاء أيضاً، ألا ترى أن طبيباً لو رأى مريضاً يأكل حامضاً فقال له: (لا تأكل الحامض) يستفاد منه النهي عن مطلق الحامض لا خصوص الرمان الحامض رغم كونه هو المورد؟

فورود (شاوِرْهُمْ)(2) في مورد الحرب لا يخصص الوارد (الأَمْرِ)، ومن ذلك يعلم عدم صحة مستند من تمسك لاحتمال إرادة خصوص الحرب من (الأمر) ب(وهو المناسب للمقام)(3)، و(إذ الكلام فيه)(4)، فإذا علمنا مستند الذين ادعوا تخصيصها بالحرب، حيث صرحوا ب- (لأن الكلام فيه)، (وهو المناسب للمقام) وبيّنا عدم صحته، لم يبق للتعويل على هذا الاحتمال وجه.

3: سياق الآية شاهد بعدم الاختصاص بالحرب

وثالثاً: إن سياق الآية الكريمة شاهد بعدم اختصاص (الأمر) بالحرب، بيان ذلك:

ص: 309


1- الأصول: الجزء الخامس ص67 ط الأولى.
2- سورة آل عمران: 159.
3- روح المعاني، كما سبق نقله عنه
4- أنوار التنزيل، كما سبق نقله عنه.

إنه قال تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1)، حيث فرع سبحانه وتعالى هذه الثلاثة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) على (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)، فمشاورته (صلى الله عليه وآله) لهم رحمة من الله أوجبت لينه (صلى الله عليه وآله) المتفرع عليه استشارته (صلى الله عليه وآله).

قال الطباطبائي في الميزان: (وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم)(2)، (والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق والتقدير: وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منّا لنت لهم وإلاّ لانفضوا من حولك، والله أعلم).(3)

وفي روح المعاني: (والباء متعلقة ب"لنت")(4)، أي لنت برحمة من الله، فالباء سببية وقال، فيه أيضاً: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ) مترتب على ما قبله).(5)

ومن الواضح أن استشارته في كل الشؤون العامة متفرع على لينه المتفرع على رحمة الله تعالى، وليست الاستشارة في شؤون الحرب فقط متفرعة على اللين المتفرع على الرحمة.

إضافة إلى أن قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ

ص: 310


1- سورة آل عمران: 159.
2- الميزان: ج4 ص56.
3- الميزان: ج4 ص56، وذكر ما يقرب منه روح المعاني: ج2 ص105.
4- روح المعاني: ج2 ص105.
5- روح المعاني: ج2 ص106.

حَوْلِكَ)(1) الوارد في مقام بيان سبب كون لينه (صلى الله عليه وآله) رحمة من الله، إذ لولا لينه (صلى الله عليه وآله) لانفضوا من حوله مما يؤدي إلى ضعف شوكة الرسول (صلى الله عليه وآله) وشوكة المؤمنين الخلّص وشوكة الدين، ومما يؤدي إلى هلاكهم لانفضاضهم عنه (صلى الله عليه وآله)، يقتضي استشارتهم في كل الأمور العامة التي من شأنهم استشارتهم فيها(2) لا خصوص أمر الحرب، إذ كيف يكوناستشارتهم في أمر الحرب (ليناً) منه (صلى الله عليه وآله) دون سائر الشؤون العامة؟

ويؤيد ما ذكرناه من أن مقتضى (الرحمة) و(اللين) هو الاستشارة في كل الشؤون العامة لا في شؤون الحرب فقط، ما ذكره الخازن في تفسيره وغيره من: (أن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم).(3)

هذا إضافة إلى أن ما وقع قبل (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(4) الذي عطف (شاورهم) عليه، ليس مختصاً بأمر الحرب، إذ العفو عنهم والاستغفار لهم عام يشمل كل شيء، إلا ما ثبت من الخارج استثناؤه كموارد الحدود الشرعية وشبهها(5)، رغم أن الآية وردت بأجمعها في ظرف الحرب لا خصوص قطعة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(6) فيكون ذلك قرينة عرفية على عدم اختصاص

ص: 311


1- سورة آل عمران: 159.
2- هذا القيد احتراز عن (الأمور العامة التي ورد النص الإلهي الخاص فيها)، كما في نصب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام خليفة ووصياً، وكسائر موارد ورود النص، وقد سبق تفصيل هذا القيد حيث ذكرنا أن (موضوع الشورى) هو (ما لم يرد فيه نص خاص من الله جل وعلا) كما أنه احتراز عن أمر آخر سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
3- تفسير الخازن: ج1 ص290.
4- سورة آل عمران: 159.
5- على أن أمر العفو فيها أيضاً بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) وولي الأمر إذا رأى المصلحة في ذلك.
6- سورة آل عمران: 159.

(وَشاوِرْهُمْ) بأمر الحرب.

ومما يدل على عموم العفو والاستغفار، القاعدة المقررة في محلها، من أن (حذف المتعلق يفيد العموم)، حيث حذف في الآية الكريمة متعلق العفو والاستغفار ولم يقل تعالى: (فاعف عنهم في المسألة الفلانية) ولذا نجد الشيخ الطبرسي (قدس سره) حملها على العموم وجعل احتمال التخصيص معنوناً بعنوان (قيل)، قال في المجمع:

((فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بينك وبينهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(1) بينهم وبيني، وقيل: معناه فاعف عنهم فرارهم من أحُد واستغفر لهم منذلك الذنب)(2)، ولو استفاد خصوص العفو عن الفرار في أحُد لجعله هو التفسير للآية وجعل التعميم (قولاً).

4: تتميم الاستدلال بعدم القول بالفصل وتنقيح المناط

ورابعاً: سلمنا أن (أل) في (الأمر) للعهد، فلا تدل الآية إلاّ على وجوب الاستشارة في الحرب، لكن يمكن تتميم المطلب وإثبات وجوب الاستشارة في كل الشؤون العامة بأمرين:

أولهما: عدم القول بالفصل، ذلك أن من لم يوجب الاستشارة لم يوجبها مطلقاً، ومن أوجبها أوجبها مطلقاً(3)، فلا قائل بالفصل بين وجوب الاستشارة في الحرب وبين غيرها من الشؤون العامة، وعدم القول بالفصل حجة ودليل على

ص: 312


1- سورة آل عمران: 159.
2- مجمع البيان: ج2 ص527.
3- المقصود من (مطلقاً) هنا: الحرب وغيره من الشؤون العامة.

مسلك العديد من الفقهاء، وسيأتي ذلك عند الجواب عن شبهة أخرى تورد على الآية.

ثانيهما: تنقيح المناط، إذ أن المناط الموجود في الحرب المسبب لوجوب الشورى، موجود بعينه في سائر الشؤون العامة، خاصة مع ارتباطه بالدماء، لكنه لا يكون حجة إلاّ لو كان مناطاً قطعياً، وسيأتي بإذن الله الكلام عن ذلك.

ص: 313

الإشكال السادس: (عزمت) أي على ما أدى إليه رأيك
اشارة

وربما يعترض على الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الشورى:

بأن الآية الكريمة هي (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(1)، حيث لم يقل سبحانه وتعالى (فإذا عزمتم) بل نسب العزم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أن رأي الشورى غير ملزم، وأن القرار النهائي ليس بيد الشورى بل في يد الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو مطلق القائد بناءً على التعميم.

والجواب:
1: عموم الخطابات

أولاً: قد سبق مفصلاً بيان أن الخطابات القرآنية الموجهة للنبي (صلى الله عليه وآله) بصيغة المفرد - في غير الثابت بالدليل الخاص اختصاصه به - لا تختص به (صلى الله عليه وآله) بل تشمله وغيره، فهي حكم عام بصيغة خطاب خاص، وشمولها لغيره إما من باب كون خطاب المفرد وإرادة الجمع مجازاً غالباً على الحقيقة في الاستعمالات القرآنية، إن لم نقل بالوضع التعييني(2) أو من باب (لَقَدْ كانَ لَكُمْ

ص: 314


1- سورة آل عمران: 159.
2- ولا يخفى أن غلبة المجاز لو لم تصل إلى حد الوضع التعييني مستلزمة لعدم ظهور اللفظ في أحد المعنيين واحتياج الأمر إلى قرينة.

فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(1) أو من باب تنقيح المناط،فليتأمل.

ويؤيد ما ذكر ما قاله في مجمع البيان: (وفي الآية أيضاً ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء، وحثّهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضاً فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيههم عن الفظاظة في القول والجفاء في الفعل، ودعائهم إلى التوكل عليه وتفويض الأمر إليه)(2)، فمع أن الخطاب كله موجه للنبي (صلى الله عليه وآله): (اعف، استغفر، شاور، توكل) مع ذلك قال (في الآية أيضاً ترغيب للمؤمنين..).

وقال في الميزان: وقوله (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(3)، إنما سيق ليكون إمضاءً لسيرته (صلى الله عليه وآله) فإنه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحُد).(4)

فإذا كانت سيرته (صلى الله عليه وآله) الاستشارة وجبت علينا، بضميمة (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(5)، إذن قوله تعالى (فَإِذا عَزَمْتَ) بمنزلة قوله: (فإذا عزمتم) إن لم يكن هو معناه، ويؤيده قوله تعالى: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(6)، أترى التوكل على الله مختصاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) أم على جميع المسلمين التوكل عليه تعالى؟(7) فلو كان المراد من (إِذا عَزَمْتَ)

ص: 315


1- حيث إنه دليل خارجي على اشتراكنا معه (صلى الله عليه وآله) في كل حكم ثبت عليه إلا ما خرج بالدليل.
2- مجمع البيان: ج2 ص527.
3- سورة آل عمران: 159.
4- الميزان: ج4 ص56.
5- سورة الأحزاب: 21.
6- سورة آل عمران: 159.
7- حتى لو كان عموم الحكم لا من باب الوضع التعييني لمفردات القرآن في الجمع بل من باب المجاز المشهور أو من باب عمومات الأسوة.

المفرد و(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) الجمع، لزم التفكيك في السياق الواحد، وهو خلاف الظاهر وخلاف بناء العقلاء في كيفية تلقي الكلام الواحد.(1)

وقد سبق بيان سبب توجه العام بصيغة خطاب للمفرد، وههنا السبب إما لصرف أن الخطاب يحتاج لطرف، أو لأن توجيه الخطاب للقائد أولى وأنسب، ولذا قال: (وشاورهم) ولم يقل (وشاوروهم) مع عمومية الحكم لغيره (صلى الله عليه وآله) لما سبق وسيأتي. ومنه أنه (صلى الله عليه وآله) إذا كان عليه الاستشارة في الأمر كان على قادة الجيوش أو الأمم ممن هو أدنى منه منزلة أن يستشيروا في الأمر بالأولوية، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى.

ف- (عزمت) واقع في سياق (فتوكل) من جهة و(شاورهم) من جهة أخرى، فمع توجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ب- (شاورهم) بصيغة المفرد مع عمومية الحكم لكل القادة فمن الطبيعي أن يكون الأنسب نسبة العزيمة له أيضاً.

وبعبارة أخرى: إذا كانت هناك عناية في توجيه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) في (شَاوِرْهُم) مع عمومية الحكم، فمقتضى نفس العناية أن يقول تعالى: ( فَإِذا عَزَمْتَ) فليتأمل.

ولكن لا تخفى وجوه التأمل في هذا الجواب، فتدبر.

ص: 316


1- وغير خفي صلاحية المقام لصيغة الجمع وأن تفرع على قوله تعالى: (عزمت) إذ بعد العزم (سواء على ما ارتآه أو ارتأوه) يصح، وينبغي أمر الكل بالتوكل، والمراد بالمفرد هو ذاك أو أنه منزل عليه.
2: متعلق (عزمت) محذوف وهو: (على العمل برأي الأكثرية)

ثانياً: سلمنا أن التاء في (عزمت) خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) حقيقة بلا تعميم لها يجعلها منزلة منزلة (عزمتم)، لكن نقول: لا دلالة في ذلك أيضاً على عدم ملزمية رأي الشورى وعدم كون القرار النهائي بيدها.

بيان ذلك: بأن المتعلق حيث كان محذوفاً في الآية الشريفة، فالإشكال يتم لو كان معنى (فإذا عزمت) هو: فإذا عزمت ووطنت نفسك في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك - على ما ذكره البيضاوي في تفسيره(1)، وبعبارة أخرى: فإذا عزمت على تنفيذ رأيك.

أما لو كان معنى (فإذا عزمت) هو: فإذا عزمت على تنفيذ رأي الشورى (بعبارة أخرى على تنفيذ ما أدت إليه الاستشارة)(2)، فلا يتم الإشكال، بل يتقوى المدعى من وجوب الشورى ولزوم الأخذ برأيها.

وقد يدعى أن الظاهر هو المعنى الثاني، إذ هذا هو ما يفهمه العرف فتأمل، إضافة إلى قرينية فاء التفريع: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ)(3) بدعوى أن ظاهرها تفريع عزيمته (صلى الله عليه وآله) على الاستشارة، ولو كان المراد هو المعنى الأول (فإذا عزمت على تنفيذ رأيك) لما كان معنى لتفريع (عزمت) على رأيك على (شاوِرْهُمْ)، ولما كان ربط بين الجملتين، بل كان لمجرد الترتيب الزمني،

ص: 317


1- نقله عنه بحار الأنوار: ج20 ص35، وكما ذكره الطنطاوي في الجواهر: ج2 ص166.
2- بعبارة ثالثة: (فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه وكن واثقاً بمعونته وتأييده لك فيه ولا تتكل على حولك وقوتك... الخ. المنار: ج4 ص205).
3- سورة آل عمران: 159.

ولذا قال في روح المعاني: (فَإِذا عَزَمْتَ) أي إذا عقدتقلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء)(1).

وأما جعل (تَوَكَّلْ) قرينة على المعنى الثاني بأن يقال المعنى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ) على تنفيذ رأيك المخالف للشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي أقدم على تنفيذه متوكلاً على الله ولا تخف مخالفتهم، ففيه: أن (توكل) لا قرينية له، إذ ينسجم مع المعنى الأول أيضاً بأن يكون المراد: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ) على تنفيذ رأي الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي أقدم على تنفيذه متوكلاً على الله ولا تخف مخالفة من عارض رأي الأكثرية، بل قد يكون معناها (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تردد في تنفيذ رأي الأكثرية لأنها مخالفة لرأيك، وإن رأيتها على خطأ مما قد يوجب الضرر(2) على حسب ما ترى (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإذا عزمت فأقدم متوكلاً على الله.

وقد فسّر البعض الآية بنحو آخر فقال: (إن العزم على الفعل وإن كان بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله تعالى، فلابد للمؤمن من الإتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته).(3)

ص: 318


1- روح المعاني: ج2 ص107، ذيل الآية الكريمة.
2- حيث إن من الطبيعي أن من يؤمر باتباع رأي (كرأي الأكثرية) مما كان مخالفاً لرأيه مما يراه خطأ مضراً، يستحسن أن يوصى بالإقدام وتفويض الأمر لله والاعتماد عليه، إذ هو الكافي الضار النافع.
3- تفسير المنار: ج4 ص405.
3: أو هو مردد، والأصل عدم إفادة المانع

وثالثاً: سلمنا عدم ظهور الآية في المعنى الثاني، لكن نقول: إن معناها يتردد حينئذٍ بين المعنى الأول والمعنى الثاني(1) ومعنى ثالث ذكره الخازن في تفسيره وهو: (فَإِذا عَزَمْتَ) يعني على المشاورة(2)، فإذا تردد بين هذه المعاني الثلاثة تردد بين ما يفيد عدم ملزمية رأي الشورى (وهو المعنى الأول) وبين ما لا يفيد ذلك (المعنى الثاني والثالث)، وإذا تردد الشيء بين إفادة معنى وعدمه كان الأصل عدم إفادته ذلك المعنى، إلا أن يقال: إن الدوران هنا ليس بين (الإفادة وعدمها)(3) حتى يكون الأمر دائراً بين الوجود والعدم فيكون الأصل العدم، بل الإفادة واللا إفادة محكومتان بأصل سببي، حيث يدور الأمر بين كون معنى الآية (فإذا عزمت) على رأيك، أو (فإذا عزمت) على رأي الشورى، أو (فإذا عزمت) على المشاورة(4)، وهذه المعاني الثلاثة كلها وجودية فتتساقط الأصول فيها.

لكن نقول: لا نحتاج إلى إحراز عدم الإفادة حتى نحتاج للأصل بل يكفينا

ص: 319


1- وعبارة الكشاف أيضاً مجملة تنطبق على كلا الوجهين، قال في ذيل الآية الكريمة: (فإذا عزمت): (أي إذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى) فهل هذا الشيء هو رأي الشورى أو رأيه عند التخالف؟ العبارة قابلة الانطباق عليهما، لكن قد يقال بظهورها في رأيه (صلى الله عليه وآله) لا رأيها ((فتوكل على الله)) في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور). الكشاف: ج1 ص475.
2- الخازن: ج1 ص290 ذيل الآية الكريمة.
3- أي (الإفادة) كعنوان وجودي.
4- حيث إن معنى الآية لو كان الأول أفاد عدم الملزمية، أما لو كان الثاني أو الثالث لم يفده، (الإفادة متفرعة على معنى الآية).

عدم إحراز الإفادة(1)، (إفادة (فَإِذا عَزَمْتَ) عدم ملزميةرأي الشورى المتوقفة على تمامية المعنى الأول)، إذ بمجرد عدم ثبوت الإفادة لعدم ثبوت المعنى الأول (لتردد الآية بين المعاني الثلاثة) لا يتم الإشكال.

لا يقال: تمامية الاستدلال موقوف على إحراز المعنى الثاني.

إذ يقال: كلا، إذ الاستدلال على حجية رأي الشورى ولزوم تنفيذ رأيها إذا تمّ بجملة (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2) وحدها، سواء وجدت (فإذا عزمت) أم لا، دلت أم لا، كان إجمال (فإذا عزمت) غير مانع عن حجية الظاهر، إلا أن يتمسك بسراية إجمال المتصل، وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى عند التطرق للفرق بين (الشورى) و(الاستشارة).

ولعل التدبر في معنى (عزم) لغةً يوضح دفع الإشكال، قال في لسان العرب مادة (عزم):

(عزم على الأمر يعزم عزماً ومعزماً وعُزماً وعَزيماً وعزيمةً وعزمةً واعتزمه واعتزم عليه: أراد فعله)(3)، إذن معنى (فَإِذا عَزَمْتَ) هكذا: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ) أي فإذا أردت فعل الأمر (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)، وأي دلالة بل أي إشعار في هذا المعنى على ما ذكره المستشكل من أن الشورى غير ملزمة وأن عزمت يعني على تنفيذ رأيك؟

وقال في مجمع البيان: ((فَإِذا عَزَمْتَ) أي فإذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه)(4).

ص: 320


1- أو عدم إحراز المعنى الأول.
2- سورة آل عمران: 159.
3- لسان العرب: ج12 ص399 مادة (عزم).
4- مجمع البيان: ج2 ص527.

وقال في روح المعاني: (أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة، كما تؤذن به الفاء).(1)

4: المخرج على فرض ظهور (عزمت) في العزم على تنفيذ رأيه

رابعاً: سلمنا ظهور الآية في المعنى الأول، (فإذا عزمتَ) أي على تنفيذ رأيك(2)، لكن نقول:

إنه لا يخلو من أن نقول بأن الشورى غير الاستشارة لغةً، أو نقول باتحاد المعنى لغةً وأن الفرق بينهما ب- (كون الشورى ما كان القرار فيه للأكثرية، أو ما التزم فيه بقرار الأكثرية، والاستشارة مجرد استعلام المستشار دون ملزمية ما أشار به عليه) اصطلاحي، فإن قلنا بالأول (وأن الاستشارة ما لا يُلزم) فنقول: الآية دلت ب(وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(3) على وجوب الاستشارة عليه (صلى الله عليه وآله) وب(فَإِذا عَزَمْتَ) على عدم وجوب الالتزام بمقتضاها عليه (صلى الله عليه وآله).

وأما بالنسبة لنا فإذا دلت ب(وَشاوِرْهُمْ) على وجوبها علينا - لما سبق من عمومية الخطاب - فيجب علينا العمل بمقتضاها والالتزام برأي الأكثرية لها، لعدم القول بالفصل (بين وجوب الاستشارة ووجوب الالتزام بمؤداها)، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى، وعليه: فلا تكون تاء (عزمت) شاملة لنا أيضاً كما شملتنا (وشاورهم)، للدليل الخارجي وهو عدم القول بالفصل، فتأمل.

وإن قلنا بالثاني: (وأن الاستشارة لها نفس معنى الشورى لغة: ما كان القرار فيه للأكثرية)، فتكون نفس مادة (شاورهم) لكونها نصاً أو أظهر، قرينة

ص: 321


1- روح المعاني: ج2 ص107.
2- ولعله الأظهر عرفاً، بل قد دلت عليه بعض الروايات، فتأمل.
3- سورة آل عمران: 159.

على أن ­(فَإِذا عَزَمْتَ) المراد به المعنى الثاني السابق الذكر - وهو: (فَإِذا عَزَمْتَ) على تنفيذ رأي الشورى - فيتقوى ما ادعيناه.

فلا يقال: إن قرينية (شاورهم) على المراد من (عزمت) ليس أولى من العكس فتأمل، أو يقال: بأنه يدور الأمر حينئذٍ بين التخصيص والمجاز، والأول مقدم حسب ما التزم به معظمالأصوليين، وذلك لأنه يدور الأمر بين إخراج (شاور) عن المعنى الموضوع له (وهو الشورى أي استعلام الآراء مع الالتزام برأي الأكثرية) وبين إبقائه على ظاهره وإبقاء (عزمت) على ظاهره في كونه خطاباً للنبي (صلى الله عليه وآله) فيجب على الكل الشورى بكلا شقيها إلا النبي (صلى الله عليه وآله) في الشق الثاني، فإن له العزم على خلاف مقتضاها دوننا، إذ لا يشملنا (فعزمت) حينئذٍ، وقد سبق أن تخصيص المورد لا بأس به، فتأمل.

خامساً: ولو سلم ذلك فليس نافياً إلا لوجوب الاتباع دون وجوب الاستشارة، إلا بناءً على الاتحاد فيقع التهافت بين الفقرتين، وهو من مبعداته كما لا يخفى.

ص: 322

الملحق (4)

موارد التزم فيها الفقهاء بتخصيص المورد

منها: ما ذكره الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية(1) عند الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة على حجية الاستصحاب(2)، حيث دار الأمر بين توجيه الشيخ (قدس سره) بأن المراد من (ولا ينقض اليقين بالشك): لا ينقض اليقين بالبراءة (بسبب البناء على الأكثر وإتيان ركعة واحدة منفصلة) بالشك فيها (لو بنى على الأقل، أو على الأكثر دون ركعة احتياط) فلا تدل على الاستصحاب، وبين جعلها دالة على الاستصحاب فيكون المعنى في المورد (أي لا تنقض اليقين بعدم الرابعة بالشك فيها)، حيث التزم بالثاني، وأجاب عن إشكال مخالفة (دلالتها على الاستصحاب) للمذهب في المورد، حيث إن مقتضى المذهب عند الشك بين الثالثة والرابعة: البناء على الأكثر وإتيان ركعة مفصولة، (المخالف للاستصحاب، إذ مقتضاه عدم إتيان الرابعة والإتيان بركعة موصولة)، أجاب عن الإشكال: بأننا نلتزم بدلالتها على الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشك ونخرج المورد(3) من إطلاق (لا تنقض)، إذ قام الدليل الخارجي على وجوب إتيانها مفصولة، فتقيد به إطلاق (لا تنقض).

ص: 323


1- كفاية الأصول: ج2 ص295.
2- سنذكر الصحيحة عند ذكر كلام العراقي (قدس سره).
3- الوارد هو (لا تنقض اليقين بالشك) والمورد هو (الشك بين الثالثة والرابعة).

وإليك نص عبارته(1): (ويمكن الذب عنه) أي عن إشكال مخالفة الكبرى (لا تنقض) للمذهب في هذا المورد (بأن الاحتياط كذلك) أي بإتمام الصلاة وإتيان ركعة مفصولة (لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة) فتدل على الاستصحاب (بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه) أي باقتضاء اليقين بالعدم أي بالاستصحاب (غاية الأمر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض) إذ ظاهر إطلاق كلمة (لا ينقض) إتيانها موصولة، إذ الإتيان بها مفصولة نقض لليقين بعدم الرابعة بالشك فيها (وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره) حيث نقيد عموم (لا تنقض) بغير هذا المورد للدليل الخارجي (وأن المشكوكة لابد أن يؤتى بها مفصولة، فافهم).(2)

فقد التزم بدلالة الرواية على الاستصحاب مع لزوم تخصيص المورد(3) بالدليل الخارجي، حيث لا يعمل في موارد الشك في الصلاة بالاستصحاب، بل يعمل بعكسه، وستتضح هذه النكتة أكثر عند التطرق - بعد قليل بإذن الله تعالى - لاستدلال المشهور على نفوذ حكم الحاكم بالهلال بقوله (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام)(4).

ومنها: إلتزام العراقي (قدس سره) في (نهاية الأفكار) بتخصيص المورد عند الاستدلال على الاستصحاب بصحيحة زرارة الثالثة وهي (إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبنى عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات) حيث التزم

ص: 324


1- كفاية الأصول: ج2 ص295. وعبارة الآخوند (قدس سره) جعلت بين ( ).
2- الشرح المزجي اقتبس أكثره من كتاب (الوصول إلى كفاية الأصول) ج5 ص52.
3- الوارد هو (لا تنقض اليقين بالشك) والمورد هو (الشك بين الثالثة والرابعة).
4- وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035.

بصحة أن يقال بإعمال أصالة الجهة (أصالة صدور الخبر لبيان الحكم الواقعي) في الكبرى (لا ينقض اليقين بالشك) فتدل على حجية الاستصحاب وبالتزام التقية في تطبيق الكبرى على الصغرى، (إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع)، ف(التصرف ممحض في تطبيق القاعدة التي استشهد بها لحكم المورد لا في أصل كبرى حرمة النقض...)، و(على ذلك فلا قصور في الأخذ بما تقتضيه الصحيحةمن الظهور في الاستصحاب الموجب للزوم البناء على الأقل، غاية الأمر من جهة مخالفته للمذهب يصار إلى التقية في تطبيق (لا تنقض) على المورد(1))(2)، فلم يكن عنده مانع من الالتزام بكون المورد خارجاً عن حكم الكبرى ومحمولها، اللازم من القول بصدور الكبرى لبيان قاعدة الاستصحاب، مع أن الأمر كان دائراً بين حمل الكبرى على التقية فلا تدل على حجية الاستصحاب بلا محذور، وبين إعمال أصالة الجهة فيها لتدل على حجيته وحمل (تطبيق الكبرى على الصغرى) على التقية مع لزوم تخصيص المورد.(3)

وهو (قدس سره) وإن تراجع عن هذا الوجه أخيراً والتزم بوجه آخر قال في ص62: (فالأولى حمل الرواية على وجه آخر...) إلا أن ذلك لمحذور آخر وهو اختلال ركن الاستصحاب أعني الشك اللاحق (ذكره في ص59) لا لمحذور (تخصيص المورد) فراجع.

ومنها: التزام المشهور في بحث (حكم الحاكم بالهلال) بتخصيص المورد(4)، حيث استدلوا بقول الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله الخليفة

ص: 325


1- إذ من الواضح أن المذهب في الشك في ركعات الصلاة على خلاف الاستصحاب من لزوم البناء على الأكثر.
2- نهاية الأفكار القسم الأول من الجزء الرابع، تقريرات البروجردي (قدس سره): ص57-58.
3- ليس غرضنا الالتزام بكلامه، بل الاستدلال به على التزامه (قدس سره) بتخصيص المورد عند دوران الأمر بين أحد تصرفين وأحد خلافي الظاهر.
4- نسب ذلك إلى (الأصحاب) نهاية الأفكار: ج4 ص58.

العباسي المنصور عن عيد الفطر حيث قد شهد عنده (أي المنصور) بعض برؤية الهلال: (ذاك إلى الإمام إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه) (1)، استدلوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال حيث التزموا بكون الكبرى صادرة لبيان الحكم الواقعي وكون المورد خارجاً منها للتقية (أي التزموا بالتقية في تطبيق الكبرى على الصغرى) إذ المورد كان مورد حكم المنصور بأنه عيد حتى اضطر الإمام (عليه السلام) للإفطار ذلك اليوم مع علمه بأنه من رمضان.

إن قلت: لم يكن للمشهور مناص من الالتزام بتخصيص المورد.

قلت: لو كانت الكبرى قطعية من حيث جهة الصدور لصح ذلك، ومن الواضح عدم قطعيتها وإمكان حملها على التقية، بل لقد كان الأمر دائراً بين حمل الكبرى على التقية بلا محذور، وبين حمل (التطبيق) على التقية مع استلزامه لتخصيص المورد، فترجيحهم للثاني على الأول يدل على أن (تخصيص المورد) ليس بتلك المثابة من القبح والاستهجان في كل مورد، بل ليس مستهجناً على الإطلاق في الارتكاز العرفي في بعض الموارد.

ومما يوضح ما ذكرناه سابقاً - في أول الوجه الثاني - وحالاً من أن بناء العقلاء ومرتكز العرف ليس على قبح تخصيص المورد مطلقاً، وأنهم يلتزمون بأصالة الظهور وإن لزم منه خروج المورد: أن الكبرى لو لم يكن لها محمل إلا التقية حملوها عليها، أما لو كان لها محمل آخر بأن احتملوا فيها الإشارة إلى أمر واقعي لم يحملوها على التقية، بل حملوها على بيانه، وجعلوا التقية في التطبيق، فمثلاً في قول الأحنف بن قيس عندما أمره معاوية أن يلعن علياً (عليه الصلاة والسلام) على المنبر وأجبره على ذلك فصعد المنبر وقال: (أمرني معاوية أن ألعن علياً ألا فالعنوه) أترى العقلاء الملتفتين إلى معتقد الأحنف يرجعون الضمير

ص: 326


1- راجع وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035.

في (العنوه) إلى علي (عليه السلام) ويحملوه على التقية، أم أنهم يرجعونه إلى معاوية ويحملون تطبيقه على المورد على التقية؟ ولذا تراهم يعدون هذه الكلمة من ذلك الصحابي دليلاً على ذكائه، ولذا التفت معاوية إلى النكتة، ولو كانت التقية في الكبرى فأية دلالة في ذاك على الذكاء؟ فتأمل.

وكذلك في الرواية: (ذاك إلى الإمام...) لو احتمل العقلاء غير التقية في الكبرى، كما هو كذلك إذ يحتمل صدوره لبيان الحكم الواقعي وتكون التقية في التطبيق، ألا تراهم يعدون ذلك من الذكاء حيث ذكر (عليه السلام) حكماً واقعياً ولكن بلسان موهم (إذ مراده (عليه السلام) من (الإمام) هو الإمام المعصوم (عليه السلام) أو مطلق العادل مع أن العبارة قابلة للانطباق على الإمام الجائر وهو المنصور) وإلا فلِمَ لَمْ يقل الإمام (عليه السلام) مخاطباً للمنصور (ذاك إليك)، ولو كانتالتقية في أصل الكبرى لم يكن فرق بين العبارتين (ذاك إلى الإمام) و(ذاك إليك) على الإطلاق، مع أن العقلاء يجدون الفرق بيّناً، حيث يجدون الأولى من الذكاء والثانية من القصور، وما ذاك الاّ لأن للعبارة الأولى منفذاً للحكيم إلى بيان أمر معتقد به دون الثانية.

فإن قلت: إن الكبرى ههنا لو حملت على التقية لزمت اللغوية فيما دل على وجوب تصديق العادل، إذ وجوب التصديق إنما هو للتعبد بالأثر(1)، ومع

ص: 327


1- التزم الشيخ (قدس سره) في الرسائل بهذه الدعوى (وجوب التصديق إنما هو بلحاظ التعبد بالأثر، ولذا فرع عليها لغوية وجوب التصديق عندما لا يكون أثر)، قال في الرسائل، في بحث التعادل والتراجيح ص468: (فإن قلت: إن الأصل في الخبرين الصدور فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر من أضعفهما دلالة، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة متقدماً على الترجيح بحسب الصدور. قلت: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة، ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقية على تقدير الصدور لم يشمله أدلة التعبد بخبر العادل) وصرّح بهذه الدعوى في موضع آخر لا يحضرني الآن.

حملها على التقية لا أثر له، إذ لا حكم، لذا اضطر المشهور لحملها على بيان الحكم الواقعي المستلزم لتخصيص المورد، وهذا لا يجري في الآية، إذ حملها على الاستحباب لا يلزم منه محذور اللغوية أو شبهه حتى نضطر لحملها على الوجوب المستلزم لتخصيص المورد.

قلت: فيه - لو سلمنا المبنى وأن وجوب التصديق إنما هو للتعبد بالأثر -: أن (الأثر) أعم عرفاً من:

1: مدلول الجمل الإنشائية المتعلق بفعل المكلف بالفعل.(1)

2: ومن مدلولها غير المتعلق بفعله فعلاً، كالأوامر المشروطة بشرط لم يتحقق للمكلف، ك- (حج إن استطعت)، وكما فيما لم يتحقق موضوع التكليف في المكلف (الزوجة واجبة النفقة لمن لم يتزوج)، وكما فيما تحقق المقتضي مع شروطه إلا أنه لم يفقد المانع.

3: ومن مدلول الجمل الخبرية غير المتعلق بفعل المكلف، سواء كان له أثر قلبي أم لا، كمطلق الأخبار التاريخية، مثل أنرباعية الرسول (صلى الله عليه وآله) كسرت في أحُد، وأن فلاناً (كعمرو العاص) كان في جيش معاوية، وفلاناً (كعمار وأويس) في جيش علي (عليه السلام)... أفهل ترى أن وجوب تصديق خبر العادل منحصر في القسم الأول، فلو أخبر عادل كزرارة بالقسم الثاني لم يجب على فاقد الشرط والموضوع وواجد المانع تصديق وجود هكذا إنشاء وهكذا حكم (حج إن استطعت، وتجب النفقة على الزوجة، ويحرم شرب الخمر لمن وجده ومنعه مانع عن شربه، ويحرم النكاح بمن ارتضعت معه عشر رضعات...)؟(2)، لأن وجوب تصديق العادل إنما هو للتعبد بالأثر والأثر مختص بالقسم الأول؟،

ص: 328


1- مثلاً مدلول (صلّ) وجوب الصلاة المتعلق بفعل المكلف.
2- ولنفرض جميع ما ذكر مما قام عليه خبر واحد لا غير، ولا مناقشة في الأمثال.

ولو أخبر عادل بالقسم الثالث أهل ترى أنه لا يجب عقد القلب عليه والاعتقاد به (كالاعتقاد بانحراف عمرو بن العاص وباستقامة عمار، وبغض الأول قلباً وحب الثاني كذلك؟(1)، وكذلك هل يلتزم أحد - مع ورود نص صحيح السند فرضاً بكسر رباعيته (صلى الله عليه وآله) وشج رأسه يوم أحُد - بعدم إمكان الاعتماد على هذا الخبر، لأن أدلة حجية الخبر لا تشمل ما لا يتعلق بفعل المكلف؟

من ذلك يعرف أن (الأثر) أعم من الأثر العملي والقلبي وصرف التصديق، فلو حملنا الكبرى على التقية، في رواية (ذلك إلى الإمام)(2)، دخلت في القسم الأخير، فلم تلزم اللغوية، إذ نتعبد بصدور الخبر كتعبدنا بكل ما تضمن خبراً لا إنشاءً، ونلتزم به ككل مطلب تاريخي يتعلق بالمعصومين (عليهم الصلاة والسلام) أو بغيرهم.

وإن أبيت إلا عن اختصاص الأثر بغير القسم الثالث نقول: إن خبر الصادق (عليه السلام) والمنصور، وقوله (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام)(3) حتى لو حملت كبراه على التقية فإنه مما له أثر متعلقبفعل المكلف، إذ لو ثبتت تقيته (عليه السلام) بهذا الخبر وأشباهه الذي تشمله أدلة حجية الخبر لو كان ذا أثر، ثبت جواز الإفطار في رمضان عند التقية.

إن قلت: جواز الإفطار عند التقية مما لا ريب فيه مع قطع النظر عن هذا الخبر.

قلت: فليكن، إذ كون أثر الخبر مما لا ريب فيه لا يسبب عدم حجيته وعدم شمول أدلة التعبد بخبر الواحد له، أرأيت أن خبر الواحد القائم على

ص: 329


1- لو نوقش في وجوب ذلك فلا نقاش في صحة العقد وصحة الاستناد إلى قوله وإسناد ذلك إلى الشارع.
2- وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035.
3- وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035.

وجوب الصلاة، ليس بحجة لأن وجوبها قطعي، وأن خبر الواحد القائم على وجوب الشهادة والقائم على حجيتها ليس بحجة لأن القرآن صرح به: (وأقيموا الشهادة لله)(1)، (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)(2)، وأن خبر الواحد في موارد بناء العقلاء المسلم ليس بحجة و... و...؟!

إضافة إلى (الأثر) هو جواز نقل الكلام - كلام الإمام (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام إن صام صمنا معه وأن أفطر أفطرنا معه)(3) إلى الآخرين، ناسباً ذلك إلى الإمام (عليه السلام)، ولولا حجية خبر الواحد لما جاز ذلك.

هذا إضافة إلى أن (التعبد بالأثر) ليس عبارة الشارع حتى يضرنا عدم صدق (الأثر) - فرضاً - على القسم الثالث، والروايات والآيات الدالة على حجية خبر العادل شاملة لكل خبر، وكذا بناء العقلاء ليس مخصوصاً بالقسم الأول، نعم في القسم الأول بناؤهم على التصديق به والعمل على طبقه، وفي القسم الثاني والثالث على التصديق دون العمل به، في الثاني من باب عدم تحقق الشرط أوالموضوع، وفي الثالث لأنه لا ربط له بالعمل.

ومن ذلك كله اتضح عدم تمامية كلام الشيخ (قدس سره): (... لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ولذا لو تعين حمل...) إذ الحمل على التقية ليس إلغاءً، لأن لها أثراً عملياً (جواز الإفطار وجواز النقل مسنداً للإمام عليه السلام)، سلمنا لكن الأثر القلبي (التصديق بوقوع الحادثة) كافٍ لوجود بناء العقلاء في هذه

ص: 330


1- سورة الطلاق: 2.
2- سورة البقرة: 282.
3- راجع وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035. وفيه: (ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ صُمْتَ صُمْنَا وَ إِنْ أَفْطَرْتَ أَفْطَرْنَا)، ويمكن أن يكون الخطاب في (صمتَ) للإمام الذي سبق ذكره في الكلام فالمخاطب ذهني. ويمكن أن يكون للجائر فالمخطاب خارجي فتكون جملة مستقلة غير متفرعة على قوله (ذاك إلى الإمام) ويكون معناه التقية، فتأمل.

الصورة أيضاً، ولعدم مخصص لعمومات حجية خبر العادل.

هذا كله إضافة إلى عدم لزوم اللغوية فيما دلّ على وجوب تصديق العادل، إذ غاية الأمر الإلتزام بعدم شمول تلك الأدلة له، لاستلزام الشمول اللغوية ولا يلزم منه محذور - هذا لمن لم يرتض ما ذكرناه سابقاً - فليتدبر.

ومنها: التزام كثير بتخصيص المورد حيث استدلوا باستشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك بحديث الرفع المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والكلام في هذا المورد عين الكلام في المورد السابق - التزام المشهور في رواية: (ذاك إلى الإمام)(1) - بحذافيره.

ومنها: استدلال بعض الأصوليين على حجية خبر الواحد بالآية الكريمة: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(2) حيث مدح الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق بالله جل ذكره، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً.(3)

وجه ارتباط استدلالهم بالآية بما نحن فيه (من دعوى التزام الفقهاء تخصيص المورد في موارد عديدة) هو: أنهم استدلوا بها على حجية خبر الواحد وتصديقه فيما يقوله بمعنى (حمل إخباره من حيث إنه لفظ دال على معنى يحتمل مطابقته للواقع وعدمها على كونهمطابقاً للواقع(4) مع ترتيب آثار الواقع عليه)، مع أن المورد خارج من هذا المعنى قطعاً، إذ تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك المنافق الذي كان ينم عليه عندما أخبره بعدم نميمته عليه (صلى الله عليه وآله) كان -

ص: 331


1- وسائل الشيعة: ج10 ص132 ب57 ح13035.
2- سورة التوبة: 61.
3- الرسائل: ص82 بحث حجية خبر الواحد.
4- بمعنى عقد اقلب عليه وتصديقه بالجنان.

أي التصديق - بمعنى قسيم لهذا المعنى تماماً، إذ إن هذا المعنى (حمل إخبار ذلك المنافق على كونه مطابقاً للواقع) مستحيل في حقه (صلى الله عليه وآله) إذ يستلزم تكذيب الله تعالى في إخباره للرسول (صلى الله عليه وآله) بنمامية ذلك المنافق عليه، وأما ترتيب آثار الواقع عليه فهو غير واقع ومستلزم لتال فاسد سيأتي ذكره، وذلك المعنى هو (إظهار القبول فقط).

ومما يزيد توضيح ما ذكرناه: رواية القسامة (...فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسَامَةً) أنه قال قولاً (وَقَالَ لَكَ قَوْلاً) قال لم أقله (فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ...) (1)، إذ المراد من (فصدّقه) هو المعنى الثاني (أي أظهر القبول)(2)، ومن (كذّبهم) هو الشق الثاني(3) من المعنى الأول (أي لا ترتب أثر مطابقة قولهم للواقع) إلاّ لو دخل في باب البينة كما هو واضح. وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح، بل ترجيح المرجوح لو كان كلاهما بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني ففي كلا الطرفين (القسامة والمتهم) يجب إظهار القبول ولا يصح الحمل على كونه مطابقاً للواقع بترتب الأثر إلا لو حصل له العلم من أحدهما أو دخل في عنوان آخر كما هو واضح، فتأمل.

والتحقيق:

هو التفصيل: فلا يصح تصديقه بمعنى عقد القلب على ما ادعاه (مع معارضته بالخمسين) إلا لو حصل الاطمئنان بقوله، كما لا يصح تصديقه بمعنى ترتيب الآثار من جهة ويصح من جهة أخرى،فباعتبار أثر لزوم تعزيرهم مثلاً لا

ص: 332


1- الكافي: ج8 ص147 حديث محاسبة النفس ح125.
2- لا عقد القلب على ما يقول وترتيب آثار (صدقه) كتعزيرهم لاتهامهم مؤمناً.
3- دون الشق الأول فله أو عليه عقد القلب على ما يقولون، ودون المعنى الثاني، إذ لا يصح إظهار الرد لهم بشكل أولى، فتأمل.

يصح تصديقه (المستلزم لكونهم قد اتهموه بالباطل)، وباعتبار(1) أثر عدم سبّه لله أو للمعصومين (عليهم الصلاة والسلام) (في فرض ما لو ادعت القسامة أن قوله كان سب الله أو المعصوم فرضاً أو إيذاء مؤمن بقوله) ينبغي تصديقه فلا يقتل أو يعزر، وكذا باعتبار أثر بقاء عدالته وشبهها، إلاّ لو حصل الاطمئنان من كلامهم كما لا يخفى، وينبغي تصديقه بمعنى إظهار القبول.

وأما فيهم فيصح تصديقهم بمعنى عقد القلب على ما ادعوه، وكذا بمعنى أثر عدم تعزيرهم دون أثر سبه (صلى الله عليه وآله) وكذا بمعنى إظهار القبول منهم، وكذا لا يصح بلحاظ أثر العدالة، فتأمل.

ولا يخفى أن تخصيص المورد في المقام كان بلحاظ بعض الآثار لا كلها، فليتدبر.

ويمكن النقاش في صحة وجواز عقد القلب على الباطل وعدم عقده على الحق، ويمكن الالتزام بالتفصيل بين الأصول وغيرها، أو الالتزام بالتفصيل بين الأصول والأحكام وما يستلزم عدم عقد القلب فيه تكذيب المعصوم (عليه السلام) وبين غير ذلك، وتفصيل هذا البحث يذكر في محله إن شاء الله تعالى.

ومنها: ما ذكره في (الفقه) عند الاستدلال بالأدلة السمعية الدالة على جواز التقليد بالمعنى الأعم: (الثالثة: قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(2)، وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه ذمّ متبعي الآباء لأنهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، فتدل بالمفهوم على أن الشخص إذا كان يعلم شيئاً ويهتدي جاز تقليده ومن المعلوم أن الفقهاء يعلمون الأحكام

ص: 333


1- لا يخفى أن الإضافة في (أثر لزوم) بيانية دونها في (أثر عدم...) وكذا هي بيانية في (أثر بقاء...).
2- سورة المائدة: 104.

ويهتدون إليها فيجوز تقليدهم، ومثل هذه الآية في الدلالة الآية الرابعة وهي قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَناأَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(1)، وأما الإشكال في الآيتين بأنهما في أصول الدين ولا يجوز التقليد في أصول الدين فغير تام، إذ إطلاقها كاف للاستدلال وإن كان خرج من الإطلاق أصول الدين).(2)

وجه ربط هذا الكلام بما نحن فيه يتضح بتمهيد مقدمة، وهي: إن المفهوم يبنى ويصب على ما يبنى ويصب عليه المنطوق، والتعاكس بينهما بالسلب والإيجاب لا غير، ففي المفهوم يتحفظ على الموضوع والمحمول والشروط والجهات... إلخ، لكن بإدخال حرف السلب (إن كان المنطوق موجباً) وحذفه (إن كان سالباً) على المفهوم، فمثلاً: مفهوم الشرط لقوله: (أكرم في الدار الفلانية العلماء العدول إن جاؤوك يوم الخميس حاملين معهم كتاباً) هو: (لا تكرم في الدار الفلانية العلماء العدول إن لم يجيؤوك يوم الخميس حاملين معهم كتاباً) وليس مفهوم الجملة السابقة (لا تكرم في الدار الأخرى) ولا (لا تكرم في الدار الفلانية التجار) ولا (العلماء الفساق)(3) ولا (إن قاموا)(4) ولا (يوم الجمعة) ولا (حاملين معهم قلماً)، فإنها بين مفهوم لقب ووصف أو شرط في غير محل المنطوق.

ص: 334


1- سورة البقرة: 170.
2- الفقه: ج1 ص10 كتاب الاجتهاد والتقليد.
3- الكلام في مفهوم الشرط لا الوصف فليس مفهوم الشرط (لا تكرم في الدار الفلانية العلماء الفساق إن لم يجيؤوك...) نعم الوصف بناء على حجيته له هذا المفهوم، فيدخل في الضابط الآنف الذكر.
4- إلا لو كان القيام في ضمن المجيء لا غير، ولو كان القيام لا في ضمنه فعدم الوجوب لعدم الشرط (وهو المجيء) لا للقيام.

إذا اتضح ذلك يتضح أن مورد المنطوق هو مورد المفهوم بعينه (وهو أصول الدين) فقوله: (... إذ إطلاقها كاف للاستدلال وإن كان خرج من الإطلاق أصول الدين) استدلال بالمفهوم على جواز التقليد مع خروج المورد منه وهو أصول الدين، فتدبر، إذ حتى لو لم يقبل هذا المبنى فإن المستدل صرّح به (إطلاقها كافٍ) أي أنها تشمل أصول الدين وغيره (وإن خرج من الإطلاق أصول الدين).

ومنها: ما ذكره بعض عند الاستدلال بالصحيحة الثانية لزرارة في باب الاستصحاب، حيث التزم بخروج المورد، فراجع.

ولعل المتتبع المتأمل يجد مواضع كثيرة التزموا فيها بخروج المورد، والله المستعان.

ص: 335

الملحق (5)

موارد حَمَلَ الفقهاءُ اللامَ فيها على الجنس

رغم وجود ما يصلح مقرّباً لكونها للعهد

فمنها مثلاً: قوله (عليه الصلاة والسلام) في صحيحة زرارة الأولى: (لا، حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ حَتَّى يَجِي ءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَإِلاّ فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ وَلا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ، وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ) (1)، فمع سبق يقين الوضوء استفاد الفقهاء من (اليقين) العموم لغيره أيضاً.

قال الشيخ (قدس سره): (إلا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيداً عن اللفظ مع احتمال... لكن الإنصاف أن الكلام مع ذلك لا يخلو من ظهور).(2)

وقال الآخوند (قدس سره): (مع أنه لا موجب لاحتماله) - أي احتمال اختصاص قضية (لا تنقض) باليقين والشك في باب الوضوء - (إلا احتمال كون اللام في (اليقين) للعهد إشارة إلى اليقين في (فإنه على يقين من وضوئه) مع أن الظاهر أنه للجنس كما هو الأصل فيه وسبق، فإنه على يقين إلخ، لا يكون قرينة

ص: 336


1- تهذيب الأحكام: ج1 ص8 ب1 ح11.
2- الرسائل: ص330.

عليه مع كمال الملائمة مع الجنس أيضاً، فافهم)(1) فتأمل.ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الثانية: (لأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً) (2)، والكلام فيها كالكلام في سابقتها.

والقول بأن (يقين) في الصغرى أو ما هو بمنزلتها ليس المراد به يقين الوضوء، (إذ إنه مبني على أن يكون (من وضوئه) متعلقاً ب- (اليقين) وليس ببعيد أن يكون متعلقاً بالظرف ويكون المعنى فإنه على يقين من طرف وضوئه)(3)، حتى يرجع (اليقين) في (ولا ينقض اليقين أبداً بالشك) إلى يقين خاص وهو اليقين الوضوئي، فلا يكون (اليقين) مسبوقاً بمنكر خاص حتى يستدل به على المدعى (من أن اللام اعترت جنساً مع سبق منكر خاص)(4)، خلاف الظاهر وخلاف المنساق إلى الأذهان العرفية، ومجرد عدم البعد غير كاف، وكون اليقين وأشباهه متعدياً بالباء لا يوجب تقدير محذوف تعلق به (من وضوئه)(5) حتى يكون (يقين) غير متخصص بشيء فلا يكون (اليقين) مسبوقاً بما هو أخص منه(6)، لأنه يتعدى ب- (من) أيضاً خاصة في أمثال هذا المورد (مثلاً: علمت مما جرى شيئاً كثيراً، هذا هو القدر المتيقن منه، تيقنت من صدق الكلام...إلخ).

قال في لسان العرب: (يَقِنَ الأمر يَقْناً ويَقَناً وأيقنه وأيقن به وتيقنه واستيقنه

ص: 337


1- كفاية الأصول: ج2 ص284.
2- تهذيب الأحكام: ج1 ص421 ب22 ح8.
3- حاشية الآخوند (قدس سره) على الرسائل: ص180.
4- أو حتى يرجع إلى يقين مجرد من كل شيء دال على الطبيعي بما هو طبيعي، لكن هذا يفيد التعميم والجنس.
5- إشارة إلى الجواب عن إشكال المرحوم الكمباني (قدس سره) في نهاية الدراية: ج3 ص20.
6- فلا تكون (ال) المسبوقة بمنكر أخص دالة على الأعم لتكون شاهداً على المدعى.

واستيقن به وتيقنت بالأمر واستيقنت به، كله بمعنى واحد، وأنا على يقين منه).(1)

بل قد يقال: بلزوم تعدي اليقين ب- (من) ههنا، وفي كل مورد مما كان اليقين مسبباً عنه، فمثلاً: (أيقنت أو تيقنت بالله تعالى من النظر إلى نظام الخلقة أو من النظر إلى المخلوقات) فاليقين متعلق بالله ناشئ من النظر، وفيما نحن فيه كذلك أيضاً، إذ اليقين متعلق بالطهارة - التي هي شرط صحة الصلاة - ناشئاً من اليقين بالوضوء، ف- (فإنك كنت على يقين من وضوئك) أي على يقين (بالطهارة) ناشئ من الوضوء، فتأمل.

إضافة إلى أن العرف والارتكاز يؤيدان تعلق (من وضوئه) باليقين، لا بمتعلق محذوف، خاصة في هذه الرواية (الصحيحة الأولى) حيث لا توجد عبارة (كون) وشبهها في الجملة، (فإنه على يقين من وضوئه)، أما في الرواية الثانية: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت) فإن الأولى جعل (من طهارتك) متعلقاً بمحذوف صفة ليقين - لو لم نقل بتعلقه بيقين مباشرة - لأنه المنساق عرفاً، إذ يرون كونه متعلقاً أو صفة ليقين، ولأن الضمير يعود إلى أقرب شيء إليه، إلا أن يقال التقدير خلاف الأصل، فتأمل.

هذا إضافة إلى أن الأصل في الحال والوصف والتمييز وأشباهها أن تكون جهات تقييدية لا لبيان المورد، فذلك الاحتمال مخالف للأصل، فتأمل.

ولنكتف بهذا القدر، إذ أن خوض غمار الإشكالات والأقوال في هذه المسألة وتحقيقها ليس هنا محل ذكره.

ص: 338


1- لسان العرب: ج13 ص457 مادة (يقن).
الملحق (6)

بحث عن تعارض المطلق والعام

أما ما ذكره الشيخ الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه) من: (ومنها تعارض الإطلاق والعموم، فيتعارض تقييد المطلق وتخصيص العام، ولا إشكال في ترجيح التقييد، على ما حققه سلطان العلماء من كونه حقيقة، لأن الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان، والعام بيان، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضى الإطلاق، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العام للعموم، فإذا رفعنا المانع عن العموم بالأصل والمفروض وجود المقتضي له ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضي للإطلاق، فإن العمل بالتعليقي موقوف على طرح التنجيزي لتوقف موضوعه على عدمه، فلو كان طرح التنجيزي متوقفاً على العمل بالتعليقي ومسبباً عنه لزم الدور، بل هو يتوقف على حجة أخرى راجحة عليه، فالمطلق دليل تعليقي والعام دليل تنجيزي، وأما على القول بكونه مجازاً فالمعروف في وجه تقديم التقييد كونه أغلب من التخصيص، وفيه تأمل).(1)

فربما يورد عليه بايرادات عديدة، لابد قبل ذكرها من تمهيد مقدمة توضيحية وهي:

إن سلطان العلماء (رضوان الله تعالى عليه) ذهب إلى أن المطلق موضوع للماهية المهملة، فظهوره في الإطلاق ليس مستنداً إلى الوضع، بل إلى مقدمات الحكمة وعدم بيان القيد فيما كان المقام مقام البيان، ولازم هذا القول أن يكون استعمال

ص: 339


1- الرسائل: ص457 بحث التعادل والتراجيح.

المطلق في المقيد حقيقة، لأنه لم يستعمل في غير الموضوع له، إذ لم يكن موضوعاً للمدلول بشرط الإطلاق والإرسال... إلخ.أما المعظم(1) فذهبوا إلى كون الإطلاق والانتشار والإرسال جزءً من مدلوله، حيث إن اللفظ يدل عليه بالدلالة الوضعية اللفظية، فهو موضوع للماهية بشرط الإرسال، ولذا التزموا بكون التقييد مجازاً كالتخصيص.

إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول:

أما على مسلك المعظم فدعوى أقوائية العام من المطلق (المسبب لتقديم التقييد على التخصيص) غير تامة، إذ العرف لا يرى ذلك والموارد مختلفة كما سبق بيانه(2)، والدليل المذكور له غير تام على ما أشار إليه الشيخ (قدس سره) بقوله: (فتأمل)، وقد ذكرنا وجهه في الهامش المذكور قبل قليل على كلام الآخوند (قدس سره) خاصة مع انطباق الوجه الأول (منع كون التقييد بالمقيدات المنفصلة أغلب من التخصيص) على ما نحن فيه، حيث إن الآية الكريمة (وشاورهم في الأمر)(3) غير مقترنة بمعارض متصل، إذ ما يمكن أن يفرض

ص: 340


1- نسب هذا القول إلى المشهور الشيخ (قدس سره) في الرسائل فلاحظ، وكذا نسبه إلى المعظم المرحوم الآشتياني (قدس سره) في بحر الفوائد ص55، من بحث التعادل والتراجيح، وقال في نهاية الأفكار: (بخلاف المشهور فإنه يغنيهم قضية وضع اللفظ للمعنى الإطلاقي عن التشبث بقرينة الحكمة) نهاية الأفكار: مباحث الألفاظ، الجزء 2ص563، و(نقول: بأنه على مسلك المشهور من وضع الألفاظ للطبيعة المطلقة لابد بمقتضى الوضع من الحمل على الإطلاق والإرسال عند عدم القرينة على التقييد من دون احتياج إلى التمسك بقضية مقدمات الحكمة) نهاية الأفكار: ج2 ص567، أما (المحاضرات) فقد نسب ذلك إلى القدماء حيث قال: (وأما بناء على نظرية القدماء من أن الألفاظ موضوعة للماهية اللا بشرط القسمي يعني أن الإطلاق والسريان مأخوذ في المعنى الموضوع له...) محاضرات في أصول الفقه: ج5 ص373-374.
2- ولا دليل لغوي ولا نص من واضع اللغة على أن (العام) موضوع لمفيد الظهور الأقوى و(المطلق) موضوع للأضعف.
3- سورة آل عمران: 159.

معارضاً لها - كعمومات وإطلاقات أدلة التقليد، وكذا عموما وإطلاقات (الناس مسلطون)(1) وغيرها - منفصل.

وأما النقاش في مبنى المشهور باحتمال الاشتراك اللفظي - بلتعينه كما هو ظاهر التلخيص - فمدفوع بأن الاشتراك خلاف الأصل، وبالنقض بالجمع المحلى بأل، إذ يستعمل كل منهما (المفرد والجمع) في المعاني الستة كثيراً، وعلى مدعي الفرق الإثبات، وبأن المتبادر إلى أذهان العرف العموم والإرسال فما عداه مجاز، وقد سبق توضيحه.

أما القول باستلزام ذلك المجاز في أكثر المطلقات. فيرد عليه:

أولاً: إمكان القول بعدم استلزام ذلك المجاز، وذلك إذا كان المراد الاستعمالي منه هو المطلق، وكان التقييد في مرحلة الإرادة الجدية دون الاستعمالية، كما أشار إليه السيد الخوئي (مد ظله) في المحاضرات.(2)

ولا فرق في ذلك بين كون القرينة متصلة أو منفصلة، إذ مع كونها متصلة لو كانت الإرادة الاستعمالية مطابقة للجدية لزم المجاز، دون ما لو لم يتطابقا، بأن أراد في استعماله المطلق وكان القيد للإرادة الجدية.

وبذلك ظهر ما في قوله (مد ظله): (فلابد من التفصيل بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة، فإن الأولى تستلزم المجاز لا محالة، حيث إن الإطلاق والسريان لا يجتمع مع التقييد والتضييق، وأما الثانية فلا تستلزم ذلك...)(3)، إذ عدم اجتماعها إنما هو فيما إذا كانا في مقام واحد لا في مقامين، بأن كان أحدهما في مقام الإرادة الاستعمالية والآخر في مقام الجدية، هذا كله في مقام الثبوت كما هو ظاهر كلامه أيضاً، فليراجع.

ص: 341


1- لكن أمور الناس ليست أمراً له ليكون مسلطاً عليها، فتدبر.
2- المحاضرات: ج5 ص363.
3- المحاضرات: ج5 ص374.

هذا إضافة إلى أنه يرد عليه التناقض بين كلاميه(1)، اللهم إلا أن يكون كلامه السابق(2) محمولاً على اللاحق ومقيداً به، وعدم كونه في مقام البيان التام هناك، وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: على فرض تسليم استلزام ذلك المجاز في أكثر المطلقات فنقول: إنه لا بأس به كما في العام تماماً، إذ لا أقل من تقييده بالقيود العامة، فتدبر.

فاتضح أن الإشكال ((الأمر) مفرد محلى بأل وهو لا يفيد العموم فما تدل عليه الآية أمر مهمل) غير وارد على مسلك المشهور، من كون الإطلاق والانتشار جزء من مدلول المطلق فالمدلول ليس مهملاً، ولو شك في الإطلاق - على هذا المبنى - فإنه يحرز بأصالة الحقيقة،لكون التقييد مجازاً حسب المشهور.

وأما على مسلك سلطان العلماء ومن تبعه فكذلك أيضاً، إذ يرد على ما ذكره الشيخ (قدس سره) من وجه تقديم التقييد على التخصيص:

أولاً: إن العلية التامة لكل من العام والمطلق موقوفة على الأصل، إما لإثبات المقتضي أو لرفع المانع، ضرورة أن الوضع ليس علة تامة للظهور وكشف المراد الجدي، فكما أن الإطلاق يتوقف على نفي (القرينة على الخلاف) أي نفي التقييد ولو بالأصل، كذلك العموم(3) يتوقف على نفي المخصص ولو بالأصل، فكلا الظهورين تعليقي، فكما أن رفع المانع عن العموم بالأصل (أصالة عدم وجود المخصص) يثبت إرادة العموم، كذلك إجراء الأصل (أصالة عدم وجود مقيد) في جانب المطلق (مما يسبب تمامية المقتضي) يثبت إرادة الإطلاق.

لا يقال: التمسك بالعموم في الفرض لا يتوقف على رفع الإطلاق، حيث إنه لا مقتضي لوجوده حتى يستند في رفعه إلى العموم، فلا دور.

ص: 342


1- وهما المذكوران ص363 وص374 وقد نقلناها إجمالاً فيراجع تفصيلاً.
2- المذكور ص363 (بل لو كان موضوعاً للمطلق بمعنى اللا بشرط القسمي..).
3- أي كشف إرادة المتكلم للعموم نوعاً - من العام - موقوف على عدم ورود مخصص.

فإنه يقال: (عدم المقتضي للإطلاق) موقوف على شمول العام لتلك الأفراد (مما هو مادة اجتماعهما) وإرادة المتكلم لها(1)، وشمولهلها موقوف على عدم المقتضي للإطلاق.(2)

فقوله: (التمسك بالعموم في الفرض لا يتوقف على رفع الإطلاق، حيث إنه لا مقتضي لوجوده) مخدوش.

لوضوح توقفه عليه، إذ عدم المقتضي للإطلاق فرع إثبات إرادة العموم المتوقف عليه، فليتدبر جيداً، وبعبارة موجزة: إرادة العموم موقوفة على عدم إرادة الإطلاق (في المتعارضين) وبالعكس.

وثانياً: إن التمسك باستحالة الدور لإثبات كون التوقف من أحد الطرفين فقط غير صحيح، إلا لو كان الطرفان واقعين، والتوقف لأحدهما على الآخر ثابتاً مع لحاظ النسبة بينهما، وتوقف الآخر على الأول مشكوكاً - بالنظر إلى ذاته، وإلا فبالنظر إلى توقف الأول عليه مقطوع العدم - كما في علية المعلول لعلته والمخلوق لخالقه، أما إثبات توقف أحدهما على الآخر بالخصوص دون العكس بأن في العكس لزوم الدور فهذا هو المتوقف على ذاك فقط فمصادرة، وفيما نحن فيه (عام ومطلق متعارضان بالعموم من وجه) توقف العمل بالمطلق على طرح العام ليس أولى من العكس، كما أوضحناه قبل قليل، فليس توقفه عليه ثابتاً حتى مع لحاظ النسبة بينهما واحتمال العكس، وعكسه وبالنظر إلى ذاته مشكوكاً، فكلاهما بالنظر إلى ذاتهما على حد سواء في التوقف، فكيف يلاحظ الشيخ (قدس سره) توقف هذا (أي المطلق) على ذاك (أي العام) بالخصوص ليكون

ص: 343


1- إذ لو لم يشملها لجرت مقدمات الحكمة وتم المقتضي للإطلاق من عدم وجود مقيد.
2- إذ لو تم المقتضي للإطلاق وجرت مقدمات الحكمة لما شملها العام حقيقة، ولما أرادها المتكلم لحكيم، وإلا لزم تهافت الإرادتين، والحديث في باب التعارض لا التزاحم حتى يقال بالإمكان بل الوقوع كما لا يخفى.

العكس مستلزماً للدور، فلا يتوقف ذاك على هذا، مع أن لنا أن نعكس الأمر بأن نلاحظ توقف ذاك على هذا، فنقول: العكس مستلزم للدور فلا عكس فالمطلق مقدم؟

ومما سبق ظهر ما في قوله (قدس سره): (لأن الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان والعام بيان) إذ كون العام بياناً - لأنه وإن كان موضوعاً للعموم إلا أنه ليس علة تامة لكشف المراد الجدي - موقوف على كونه كاشفاً عن المراد الجدي، وكونه كاشفاً عنه موقوف على عدم بيانية المطلق له، وعدم كون الإطلاق مراداً جدياًله من المطلق، فكل منهما ما لم يكشف عن المراد الجدي ليس بياناً للآخر، وكشفه موقوف على عدم شمول الآخر لمادة اجتماعهما.

ثالثاً: إن كلامه (قدس سره) ينقض بالمتعارضين (إذا كانا مطلقين تعارضا بالعموم من وجه مثلاً) مع لحاظ النسبة بينهما، لجريان نفس كلامه - مع بعض التغيير - فيهما، إذ يقال: (إن العمل بهذا المطلق موقوف على طرح الآخر، لتوقف موضوعه على عدمه، فلو كان طرح الثاني متوقفاً على العمل بالأول ومسبباً عنه لزم الدور) فتأمل.

ورابعاً: إن هذا الاستدلال منه (قدس سره) دوري، إذ يريد (قدس سره) إثبات تقدم العام على المطلق باستلزام الدور لو تقدم المطلق على العام، مع أن استلزام الدور في تقدم المطلق على العام موقوف على تقدم العام على المطلق، إذ لو لم يتقدم عليه لما كان في العكس وحده استلزام الدور، فتأمل.

ومن كل ما سبق يعلم أن الحق أن لا أقوائية للعام على المطلق، بل قد يكون كذلك وقد يتساويان، والعرف هو المرجع.

ص: 344

القسم الثالث: الاستدلال بالروايات الشريفة

الفصل الأول: في الاستدلال بالتوقيع الشريف

اشارة

(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا...)

ص: 345

ص: 346

التوقيع الشريف
اشارة

ويمكن أن يستدل على أن القيادة والولاية فيما يتعلق بالشؤون العامة، هي لشورى الفقهاء وليست للفقيه الواحد، بالتوقيع الشريف الآتي، إذا تمّ استظهار دلالته على أن للفقيه الولاية(1)، أو قلنا بأن الفقيه هو القدر المتيقن من الولاية(2).

الاستدلال ب (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا...)

ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، في كتاب الاحتجاج، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف): (...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...)(3).

ونقله الشيخ الصدوق في (كمال الدين) عن محمد بن محمد بن عصام الكليني، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب في باب ذكر

ص: 347


1- وإلا فسيكون من السالبة بانتفاء الموضوع.
2- وهذا مبنى آخر كما لا يخفى، فيقال: بناء على نظرية القدر المتيقن، إن القدر المتيقن ولايته إنما هو إذا انضم إليه أكثرية الفقهاء وليس الفقيه الواحد.
3- الاحتجاج: ج2 ص469.

التوقيعات الواردة عن القائم (عليه الصلاة والسلام) (1).

وفي كتاب الغيبة للشيخ (قدس سره) عن جماعة، عن جعفر بنمحمد بن قولويه، وأبي غالب الزراري وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني ... الخ(2).

بحث عن سند الرواية :

وقد وثق المامغاني إسحاق بن يعقوب قائلاً: (ويستفاد من توقيعه (عليه السلام) هذا جلالة الرجل وعلو رتبته وكونه هو الراوي غير ضائر بعد تسالم المشايخ على نقله)(3)، وقال في نتائج التنقيح: (إسحاق بن يعقوب: حسن كالصحيح)(4)، وفي قاموس الرجال: (إنه أخ الكليني).

وقد ذكر لي بعض كبار الفقهاء تعليلاً كان يراه كافياً لتوثيق إسحاق بن يعقوب - وقد يكون كلامه تنقيحاً لما ذكره المامغاني - نذكره مع إضافة منّا:

إن إسناد إسحاق بن يعقوب هذه الرواية إلى الإمام (عليه الصلاة والسلام) بما تتضمنه من توثيق للبعض وتضعيف لبعض آخر، حيث سأل عن عمه جعفر وعن العمري ومحمد بن علي بن مهزيار الأهوازي ومحمد بن شاذان وأبي الخطاب وأصحابه، وحيث كانت المرحلة مرحلة الفصل بين الطالح والصالح، وحيث كثر مدّعو الارتباط بالإمام (عليه الصلاة والسلام) وكان الإمام (عليه السلام) بصدد الفرز بين من يرتبط به ممن لا يرتبط، لكون المرحلة مصيرية ولكونها

ص: 348


1- كمال الدين: ج2 ص483 ب45 ح4 الطبعة الثانية لدار الكتب الإسلامية.
2- الغيبة، للطوسي: ص290 ف4.
3- تنقيح المقال: ج1 ص122، إسحاق بن يعقوب الرقم 727.
4- ص14، من المجلد الأول.

منعطفاً خطيراً، وبما تضمنته الرواية من تعيين المرجع في الحوادث الواقعة بضابطة كلية مع احتمال وجود قيود خاصة أخرى في المرجع، وبما تضمنته من توثيق عرفي لإسحاق بن يعقوب، حيث قال (عليه السلام): (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك ووقاكمن أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا... والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى)(1) حيث تعتبر هذه العبارة توثيقاً عرفاً، إضافة إلى ظهور عطف (وعلى من اتبع الهدى) في كونه عطفاً للعام على الخاص، وظهور (ثبتك) في كونه على الحق، وكذا (وقاك)، مع وضوح أن الرواية لو كانت كذباً لأنكرها عليه وكلاء الإمام وشيعته، ولما نقلها الكليني وأضرابه عنه، أو لشككوا في الرواية على الأقل، ألا ترى أن شخصاً لو ادعى رسالة من مرجع تقليد كبير جداً تتضمن مسائل حياتية هامة - فكيف بمن أسندها للإمام (عليه السلام) - ثم سكت أصحاب المرجع عنه بل نقل بعضهم (ممن هو دون الكليني بكثير) ذلك عنه لمتعدد من الناس، ثم نقلها أتباع المرجع من الفقهاء وغيرهم على امتداد الأزمان، ألا يوجب ذلك عرفاً الاطمينان بالصدور، كل ذلك يدل على وثاقته.

ولذا قال في (منتهى المقال) بعد نقل بعض التوقيع: (وفي (الوسيط): قد يستفاد مما يتضمنه علو رتبة الرجل فتدبره، قلت: هو الظاهر ولا يضر كونه هو الراوي بعد اعتناء المشايخ به ورواية جماعة المشايخ له).

وقد يكون من مؤيدات جلالة إسحاق بن يعقوب رواية الكليني عنه، وأمره أشهر من أن يذكر، ورواية سعد بن عبد الله عنه أيضاً (في كمال الدين الباب 45 الحديث 6: الصدوق، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن إسحاق بن يعقوب ص486) الذي قال فيه النجاشي: (سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي أبو القاسم شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها)، وقال فيه الشيخ: (سعد بن عبد

ص: 349


1- الاحتجاج: ج2 ص469.

الله القمي جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة).(1)

أما الطبرسي والكليني فأمرهما أشهر من أن يذكر.

وأما محمد بن محمد بن عصام(2) الكليني فهو من مشايخ الصدوق (قدس سره) في (الفقيه) و(التوحيد) و(العيون)، وقد ترضىعليه في المشيخة في طريقه إلى محمد بن يعقوب الكليني(3)، وهو طريق الصدوق إلى الكليني أيضاً(4).

هذا إضافة إلى أن هذه الرواية مجبورة بما يقرب من الشهرة الروائية ويشترك معها في المناط، عند من يراها جابرة، لروايتها في الاحتجاج للطبرسي، وكمال الدين للصدوق، وفي كتاب الغيبة للشيخ بسند صحيح، كما رواها الراوندي في الخرائج، ومن المتأخرين العلامة المجلسي في البحار، والحر العاملي في الوسائل، والشيخ في المكاسب متلقياً إياها بالقبول، وآخرون كثيرون.

كما أنها مجبورة بالشهرة الفتوائية، إذ عليها الفتوى والعمل ظاهراً، قال الشيخ: (لكن المسألة لا تخلو عن إشكال وإن كان الحكم به مشهورياً)(5)، فتأمل.

وقال الزنجاني: (وظاهر الأصحاب الاعتماد على هذا التوقيع وعليه العمل).(6)

وقد استدل الشيخ (قدس سره) في المكاسب بهذه الرواية حيث قال: (أما وجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور المذكورة فيدل عليه مضافاً إلى... التوقيع

ص: 350


1- راجع معجم رجال الحديث: ج8 ص74 الرقم548.
2- والظاهر أنه هو محمد بن محمد بن عاصم.
3- معجم رجال الحديث: ج17 الرقم 11703.
4- مستدركات علم الرجال: محمد بن محمد بن عاصم.
5- المكاسب: ص154.
6- الجامع في الرجال، للشيخ موسى الزنجاني: ص232.

المروي في إكمال الدين وكتاب الغيبة واحتجاج الطبرسي الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب...)، فقد جعل هذا التوقيع دليلاً لا مؤيداً، ثمّ إنه لاحظ النسبة بين هذا التوقيع وبين العمومات الظاهرة في إذن الشارع في كل معروف لكل أحد، وقدمه عليها حكومة، فقال: (ثم إن النسبة بينهما وإن كانت عموماً من وجه إلاّ أن الظاهر حكومة هذا التوقيع عليها وكونها بمنزلة المفسر... وعلى تقدير تسليم التنزل عن ذلك فالمرجع بعد تعارض العمومين...)، ومن الواضح كون الحكومة والتعارض فرعيالحجية.(1)

ولعل استدلاله به لما ذكرناه كلاً أو بعضاً.

كما أن معظم محشي المكاسب سكتوا عن المناقشة في الرواية سنداً، فتأمل.

وقد يعضد مضمونها برواية أحمد بن إسحاق، وعبد العزيز بن المهتدي، وعلي بن المسيب الهمداني - وسيأتي -، والحسن بن علي بن يقطين، وبمقبولة عمر بن حظلة، وبسائر الروايات الواردة في هذا الشأن.

وقال في أوثق الوسائل: (وكذا رواه الكشي في رجاله بسند عال صحيح).(2)

وهذه الوجوه وإن كانت لا تخلو عن بعض المناقشات، لكن في مجموعها الكفاية، إذ إنها تورث الاطمئنان النوعي بالصدور.

ص: 351


1- راجع المكاسب: ص154، من الطبعة الكبيرة المتداولة.
2- الأوثق: ص163، بحث التمسك بالأخبار في حجية خبر الواحد.
فقه الحديث
اشارة

ولنبدأ الآن بفقه الحديث، مما يرتبط بما نحن بصدده:

أ: (الحوادث)
اشارة

جمع محلى وهو مفيد للعموم، كما حقق في (الأصول)، والمراد بها ما يرتبط بالشرع منها، وبعبارة أخرى: (الحادثة من حيث الحكم الشرعي)، وذلك بقرينة الحكم والموضوع حيث يضيق المحمول: (ارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) دائرة الموضوع، كما في قولك: (ارجع إلى الطبيب في ما يلم بك) حيث يضيق الطبيب - وهو جزء المحمول واقعاً - دائرة ما يلم بك، فيخصصه بالجانب الطبي، فالرواة هم المرجع في الحادثة من بُعدها الشرعي، لا أنهم المرجع في مسائل الطب والهندسة مثلاً، من حيث هي مسائل طبية أو هندسية، فهم المرجع في المسألة الطبية من بُعدها الشرعي ومن حيث اشتمالها عليه، فيكون ذلك من قبيل (ضيق فم الركية).

ويمكن إبقاء الحوادث على إطلاقها الأحوالي، واعتبار ضمير (فيها) بما دل من القرينة المقامية راجعاً إلى محذوف مضاف للحوادث، وربما يأتي في تفصيل الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

والحوادث: جمع حادثة، مصدرها الحدوث، وهو كون شيء لم يكن،

ص: 352

وحدث أمر أي وقع، والحديث الجديد من الأشياء(1)، وإذا تم الأخير يخرج أمثال حكم الشك بين الثالثة والرابعة والتزوج بالغائب عنها زوجها - على تفصيل في المسألة - إلا أن يقال: إن الخروج لوسلم فليس لعدم كونها حادثة واقعة، بل لمعلومية الحكم(2)، فلو جهل شخص الحكم وحدثت له في هذه الحادثة شمله: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا...)، فإنه شيء لم يكن، بل هو جديد له وإن لم يكن جديداً في كلّيه الطبيعي.

الإشكال بانصرافها للموضوعات الجديدة الحدوث أو خروج غيرها موضوعياً

إلاّ أن يقال: بالانصراف إلى الموضوعات الجديدة الحدوث، بل قد يقال: بالخروج الموضوعي لغيرها، حيث إن موضوعات الأحكام هي الكليات الطبيعية لا الجزئيات الخارجية، فما كان كلّيه الطبيعي حادثاً (كالبنوك، والتأمين، والسفر بالطائرة وشبهها، في القصر والإتمام وتصويت النساء في الانتخابات) كان من موضوع هذه الرواية، أما ما كان كليه الطبيعي ذا مصاديق سابقة (كالشكيات، والغائب عنها زوجها، ونجاسة ملاقي أطراف الشبهة المحصورة...إلخ)، وورد الحكم سابقاً على كليه وابتلى الشخص بجزئية حدثت له، فلا تشمله هذه الرواية، للخروج الموضوعي، لكون الموضوع في هذه الرواية على ذاك المبنى هو الكلي الطبيعي للحوادث الواقعة، وليس هذا الكلي حادثاً، إذ حدوثه يكون بحدوث أول فرد.

ص: 353


1- لسان العرب: ج2 ص131-133 مادة (حدث).
2- إذ (الحوادث الواقعة) مقيد ارتكازاً ب(المجهول حكمها) وللّغوية لولا التقييد إن أريد من (فيها) في حكمها.

وبعبارة أخرى: المراد من (الحوادث) ما حدث أصله، لا ما حدث فرد من أفراده، إضافة إلى ما في وقوع هذا الجواب جواباً عن مسائل أشكلت على إسحاق بن يعقوب، وليس ما ورد الحكم على كليه وابتلى الشخص بجزئيه من المسائل المشكلة حتى يسألها من الإمام (عليه السلام) في عداد تلك المسائل.

الأجوبة:
اشارة

وفيه: أولاً: إن كون الموضوع هو الكلي الطبيعي أو الفرد والجزئي لا يرتبط بهذا التفريق فيما نحن فيه، إذ ذاك النزاع يعود إلى أن متعلق التكليف هو الفرد بخصوصياته، بمعنى أن الوجوب مثلاً منبسط على الجامع وعلى الخصوصيات، أو متعلق بالجامع الموجود في الأفراد، بمعنى أنه هو المطلوب، والمشخصات لوازمه ومقارناته، وهذا تابع لتحقق الغرض بأي منها.

وبذلك ظهر أن القول بالكلي الطبيعي لا يستلزم القول بعدم تعلق الحكم بالفرد وعدم اتصافه به، بل يستلزم تعلقه بالفرد من حيث الجامع لا من هذا الحيث وحيث الخصوصيات معاً، فالفرد بوجوده السعي متعلق التكليف لا بحدّه. وعليه: فلا تصح دعوى الخروج الموضوعي، وتبقى دعوى الانصراف لكن عهدتها على مدعيها.

وإذا أردنا تطبيق ذلك على ما نحن فيه نقول: إن (الحوادث الواقعة) - بناءً على مسلك الكلي الطبيعي - متعلقة للتكليف ب- (ارجعوا) بما هي حادثة واقعة، لا بما هي مشتملة على مشخصات ولوازم فردية وجودية لكل حادثة، كما أن (المرأة) بما هي امرأة موضوع (تجنب النظر إليها) لا بلوازمها الوجودية كالحيز والزمان، فلو فرض انفكاكها عنها كان التكليف باقياً لا محالة.

ص: 354

فليس كون متعلق التكاليف الكلي الطبيعي دليلاً على أن المراد من الحوادث ما حدث أصله(1)، كما ليس كون متعلقها الفرد دليلاً على أن المراد منها ما حدث فرده.

وبذلك ظهر أن التفريق بلا فارق وبلا دليل، وأنه تخصيص بلا مخصص، فينبغي القول بأن المراد إما ما كان أصله حادثاً أو ما كان مصداقه حادثاً،فتأمل.

وثانياً: إن ذلك يستلزم خروج كافة ما يحدث للفرد أو للمجتمع أو للدولة مما كانت له مصاديق سابقة ورد الحكم على كليّها، كالحرب والصلح مع دولة معينة والمعاهدات الدولية وأن زيداً مبتدع أم لا (كالشلمغاني)، و(أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الذي ادعى النيابة عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كذباً فخرج التوقيع بلعنه)(2)، وأن هذه النظرية بدعة أم لا (كنظرية فرويد في خلقة الإنسان)، و(نظرية الولاية المطلقة للفقيه)، وأنها مطابقة لأصول الإسلام أم لا، إلى غير ذلك مما يندرج تحت (وَأَعِدُّوا)(3)، و:(وَإِنْ جَنَحُوا)(4)، و:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ)(5)، و:(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(6)، و:(بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)(7)، و:(وَأْمُرْ

ص: 355


1- إذ يقال وأما الحوادث الواقعة: أي وأما الكليات الطبيعية الحادث أصلها أو الحادث فردها، ويقال على المسلك الآخر: وأما الحوادث الواقعة أي وأما الأفراد (أو الكليات الطبيعية بما هي متخصصة بالخصوصيات الفردية) الحادث كليها الطبيعي أو الحادث كل واحد منها.
2- كلمة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): ص233.
3- سورة الأنفال: 60.
4- سورة الأنفال: 61.
5- سورة المائدة: 44 و45 و47.
6- سورة البقرة: 80.
7- سورة الحج: 8.

بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(1)، إلخ، على تأمل في اندراج بعض الأمثلة.

هذا مع أن كون أمثال هذه الأمور من (الحوادث الواقعة) عرفاً بل من أوضح مصاديقها مما لا ينبغي الارتياب فيه.

ثالثاً: بل قد يقال بأن المتبادر عرفاً من الحوادث الأفراد لا الأصل، فكما يطلق على أول فرد تحدث بحدوثه الطبيعة حادث، كذلك يطلق على ثاني فرد حادث، والأصح القول بالشمول للاثنين لكونه جمعاً محلى ولا مخصص.

شمول الرواية للحادث أصله أو فرده و...

وبما ذكر يتضح أن الرواية تشمل أموراً ثلاثة:

أ: ما كان أصله حادثاً.

ب: وما كان فرده حادثاً مع الجهل بحكم كليه (كالشاك بين الثلاث والأربع، والمصلي تماماً موضع القصر وبالعكس).

ج: وما كان فرده حادثاً مع جهل كونه صغرى أية كبرى، بأن كانت الكبريات معلومة، وكان الشك في تطبيق الكبرى على الصغرى(2)، كما لو حدثت حرب وأمكن الصلح وجهل كونها صغرى كبرى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)(3)، و: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ)(4)، أو

ص: 356


1- سورة الأعراف: 199.
2- فالسؤال تارة يكون عن حكم الموضوع الحادث وتارة عن موضوعية الموضوع.
3- سورة محمد: 35.
4- سورة البقرة: 193.

كبرى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(1)، وكما لو حدث (الجمرك) مثلاً بأسلوبه العصري وجهل كونه مندرجاً تحت قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، و(يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(2)، فهو حرام وتعدِّ على الغير، أو تحت عنوان (لا ضرر) بأقسامه الثلاثة: لا ضرر الدولة والأمة والتجار، مع تغليب الأولين، أو تحت قاعدتي (فارق التجارة) و(فارق التضخم)(3)، وقد فصل الحديث عن هذه السيد الوالد (دام ظله) في بعض كتبه، ومنها كتاب (من أوليات الدولة الإسلامية) فليراجع. ولئن تردد في شمول الرواية للثاني - ولو للانصراف أو احتماله مثلاً - فلا مجال للتردد في شمولها للأول والثالث.

هذا، والحوادث - وهي جمع حادثة - تشمل لمكان عمومها ما حدث للفرد وما حدث للنوع، ومثال ما حدث للنوع فيما نحن فيه: المعاهدات الدولية والحرب، وما حدث للفرد كتوكيله شخصاً في أمر ومعاهدته مع شخص، كما تشمل ما يتطلب الرجوع إلى راوٍ واحد على سبيل البدل، وما يتطلب الرجوع إلى مجموعة منهم أو إلى جميعهم، لتوقف معرفة الحكم أو القدرة على تنفيذه أحياناً على الرجوع لمجموعة منهم أو إلى جميعهم، وسنفصل هذا فيما سيأتي بإذنه تعالى.

وأما ما ذكر في الذيل فيرد عليه: أنه قد يكون السؤال لكي يعيّن الإمام (عليه السلام) له المرجع العام في كل الأمور، فأجابه (عليه السلام) بكونه راوي الحديث، وكونها مسائل أشكلت عليه، لا يستلزم كون كل بنودها الثلاثة(4) مشكلة.

ص: 357


1- سورة الأنفال: 61.
2- سورة الأعراف: 157.
3- بأن تأخذ الدولة فارق التضخم فقط.
4- كون أصلها مشكلاً أو فردها من حيث حكمه الكلي أو الفرد من حيث كونه صغرى و لأية كبرى.
الإشكال على إفادة (الحوادث) للعموم، باحتمال عهديتها

وأما الإشكال على إفادة (الحوادث) العموم ب- (أن الجمع المحلى باللام إنما يفيد العموم حيث لا عهد، ولم يعلم أن المسؤول عنه أي شيء عبّر عنه بالحوادث الواقعة، فكيف يؤخذ فيها بالعموم، ويحتمل إرادة الفروع المتحددة كما يحتمل إرادة الحوادث التي هي علائم الظهور وأنها ما هي).(1)

الأجوبة:
اشارة

فيرد عليه:

لا يناسب العهد، التعليل ب (فإنهم حجتي عليكم)

أولاً: أما احتمال إرادة (الحوادث) التي هي علائم الظهور، وأنها ما هي، فمدفوع بأن ذلك لا يناسب التعليل ب(فإنهم حجتي عليكم)، إذ لا مناسبة بين تحديد علائم الظهور وبين احتجاج الإمام (عليه السلام) عليهم، إذ الحجة ما يحتج به المولى (أو مطلق الشخص) على عبده أو غيره، فبأي شيء من علائم الظهور يحتج الإمام (عليه السلام) على أي شيء؟ خاصة إذا كان معنى الحجية المنجزية والمعذرية، فذكر علائم الظهور منجز أو معذر لأي شيء؟(2) خاصة مع إضافة الحجة لياء المتكلم وإسنادها إليه.

ولكن فيه: إن الحجية أعم من دائرة الإنشاء، إذا لم يرد بها المنجزية أو

ص: 358


1- حاشية الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني على المكاسب: ص214.
2- وكذا إذا كان معناها جعل المماثل.

لزوم الاتباع، فإنشاء المولى حجة في ثبوت التكليف واستحقاق العقاب على المخالفة، وإخباره حجة في ثبوت المخبر به، وليست الحجة أخص من الدليل، بل إما مساوية أو أعم، (الأعمية بناءً على الفرق اصطلاحاً بين الأصل والدليل)، إذ المراد بها الكاشف، وليست الحجية صفة علائم الظهور في الرواية، بل الحجة صفة رواة الحديث وكلامهم، فقولهم: إن كذا علامة للظهور حجة ودليل فيثبت المؤدى بكلامهم، وسيأتي تفصيل الكلام حول معنى ومدى سعة مدلول كلمة الحجية إن شاء الله تعالى.

نعم الأنسب بالحجة بل منصرفها الحجة على الأحكام (أي أحكام الموضوعات العامة أو الخاصة).

إضافة إلى أنه لا مقتضي لعدم الإجابة على السؤال على علائم الظهور بالإرجاع إلى رواة الحديث، بل المقتضي للإجابة موجود، ولذا نجده (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يجيب على ذلك كلما سئل، أو يتطرق لذلك حتى دون سؤال، فراجع رسالته الأولى إلى المفيد(1)، ورسالته الثانية له(2)، وذكره علامات عديدة لابن المهزيار(3)،وموارد أخرى.(4)

إضافة إلى بُعد هذا الاحتمال من مساق الكلام ومن لحن الحديث، خاصة مع فصل هذه القطعة عن (وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله) بفاصلة (وأما قول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يقتل) إضافة إلى استبعاد التعبير عن علائم الظهور ب(الحوادث الواقعة) مجردة، فإنها علائم على الحوادث الواقعة وليست بها، فتأمل، ولعل مجموع ما ذكر يفيد الاطمئنان بأنه ليس المراد من الحوادث الواقعة

ص: 359


1- كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: ص154.
2- كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: ص160.
3- كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: ص520-522.
4- كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: ص564.

علائم الظهور.

وأما احتمال إرادة الفروع المتجددة فلو سلم، فإنه لا ينفي مرجعية الفقهاء في الأمور العامة، إذ لا نحتاج في إثبات المدعي إلى إثبات ولاية الفقيه، بل يكفي وجوب الرجوع والاستفتاء في كل موضوع حادث وفرع متجدد إلى الفقيه، ووجوب الالتزام بالفتوى.

وفيه تأمل لا يخفى، والأولى الجواب بأن الأنسب ب(الحوادث الواقعة) هو ما يحدث من أمر وما ينوب من خطب، وليس الفرع الفقهي المتجدد.

خصوصية السؤال لا تخل بعمومية العلة

ثانياً: كون السؤال خاصاً لا يضر بعموم حكمه (عليه السلام) ولا يكون اللام في (الحوادث) للجنس كما هو الأصل فيها؛ وذلك لمكان التعليل حيث إن (فإنهم حجتي عليكم) (1) تعليل، والعلة معممة ومخصصة، فلا تختص الحجية بهذا المورد.

ولذا قال في الأوثق: (لأن عموم العلة يقتضي كونهم حجة مطلقاً، سواء كان ذلك في الفتوى أم القضاء أم الرواية، فتثبت لهم بذلك الولاية في الأمور العامة سيما منصب القضاء والإفتاء).(2)

وقال في مهذب الأحكام: (ومقتضى فطرة الأنام أن الفقيه الجامع للشرائط بمنزلة الإمام (عليه السلام) إلا ما اختص به المعصوم، وذلك يقتضي سعة الولاية إلا ما خرج بالدليل، كما يقتضيها إطلاق قوله (عليه السلام): (فإنهم حجتي

ص: 360


1- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424 عن كمال الدين.
2- الأوثق: ص163.

عليكم...))(1).

وقال في الجواهر في كتاب الزكاة: (قلت: إطلاق أدلة حكومته خصوصاً رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف وروحي له الفداء) يصيره من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم...) إلخ.(2)

وقال في المحاكمة في القضاء: ج1 ص48: (ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الحديث: (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(3)، فلو كانت الحجية مقيدة بالفتوى والقضاء لكان للإمام (عليه السلام) التقييد، فيستكشف من ذلك حجية قول الفقيه في جميع شؤون الرعية التي يحتاجون فيها إلى الرئيس والزعيم، فالرواية لا قصور فيها للدلالة على ولاية الفقيه في الجهات العامة، بل نقول بنص العبارة: إنه لو لم تسبق الشبهة في الأذهان من بعض الأكابر لكان المتبادر عن الرواية ما قلناه ولفهم ذلك كل من نظر فيها).

ومما يوضح ذلك أن العبد لو سأل مولاه عند مرض ابنه بالسل والبرص ووجع العين جميعاً مثلاً: (هل أراجع الطبيب الفلاني لعلاج هذه الأمراض؟) فقال: (الأمراض الحادثة لابني راجع فيها هذا الطبيب، فإنه خبير أو فإن معلوماته واسعة أو فإنه مدقق متثبت(4) أو فإنه حجة) أ ترى وجوب أو جواز الرجوع مختصاً بهذه الأمراض،أم ترى أن التعليل يقتضي وجوب أو جواز الرجوع إليه مطلقاً، حتى لو كانت اللام للعهد الذكري قطعاً، وذلك لمكان

ص: 361


1- راجع المهذب: ج1 ص121، ذيل المسألة الثامنة والستين.
2- نقلناه عن مهذب الأحكام: ج1 ص122.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424 عن كمال الدين.
4- إلا أن يقال: إنه لو شك في خبرويته أو تثبته في سائر الأمراض كان التمسك بهذا الكلام تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، إلا أن يجاب: بصحة التمسك بإطلاق (فإنه خبير..) في إثبات كونه خبيراً في سائر المجالات فتأمل، إذ قد يقال بعدم كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة فتأمل، وما ذكر يجري في (فإنه حجة) أو (فإنه حجتي) وفيه ما لا يخفى.

عموم التعليل؟ وذلك رغم احتمال إرادته (فإنه حجة في خصوص هذه الأمراض المعهودة)، إذ العقلاء يتمسكون بالإطلاق ههنا، وإلا لما أمكن التمسك بتعليل في غير مورد المعلل له أبداً، فلو قال: (أكرم علماء هذا البلد لأنهم عدول) لم يمكن التمسك بعموم التعليل لوجوب إكرام العدول من علماء سائر البلدان، لاحتمال إرادة خصوص عدول البلد المعتضد بسبق خصوص هؤلاء، وكذا لو قال: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) فتأمل، والأوضح من هذا ما لو قال بعد سؤال سائل عن إخبار معين لزيد: (إنه حجتي عليك).

والأصح التفصيل: بين الأفراد والأنواع، والمقام من الأنواع(1)، فلا عموم، وبين ما احتمل فيه عقلائياً مدخلية خصوص المورد وغيره، خاصة مع لحاظ أن الغالب في علل الشارع انها حِكَم، فتأمل.

هذا، ومما يؤكد عمومية التعليل وكون راوي الحديث حجته (عليه السلام) علينا مطلقاً، أنه (عليه السلام) قرنه ب- (وأنا حجة الله) على ما في (الاحتجاج)(2)، أو (وأنا حجة الله عليكم) على ما في (غيبة الطوسي) (3)، أو (وأنا حجة الله عليهم) على ما في (كمال الدين) (4)، حيث يستفاد منه أن وزان حجية الفقيه علينا وزان حجية الإمام (عليه السلام) علينا حسب كتاب الغيبة، أو وزان حجية الفقيه على العوام وزان حجية الإمام عليه السلام عليه، حسب كمال الدين.

ويعتضد هذا المضمون بقوله (عليه السلام): (الراد عليهم كالرادعلينا،

ص: 362


1- فإن الفروع المتجددة نوع، والموضوعات العامة نوع آخر، وعلائم الظهور نوع ثالث وهكذا، فلو كان المسؤول عنه بعض أفراد أحد الأنواع لما عمت العلة للنوع الآخر إلا مع الاستناد إلى دليل خارج كارتكازية التعميم وشبهه.
2- الاحتجاج: ج2 ص469.
3- الغيبة، للطوسي: ص290 ف4.
4- كمال الدين: ج2 ص483 ب45.

والراد علينا الراد على الله) (1).

وقال في الأوثق: (ويؤكده قوله (عليه السلام): (وأنا حجة الله عليهم)(2) لأن المنساق منه التنظير في كون الرواة بمنزلته في كل ما يرجع فيه إليه)(3).

هذا، ولعل استفادة العرف عمومية الحجية من هذا الحديث - خاصة مع ملاحظة ما ذكرناه - مما لا ينبغي إنكاره(4).

ومما يقوى ما ذكرناه أنه يستشم من ذكر (رواة الحديث) بيان الملاك والسبب في كونهم المرجع وكونهم حجته علينا، بل قد يقال بدلالته على ذلك عرفاً، ألا ترى أن المولى لو قال لعبده وقد سأله عن حكم مسائل قانونية مثلاً: (المسائل القانونية ارجع فيها إلى العارف بالقانون، فإنه حجتي عليك) ألا يستفاد من ذلك حجية قول العارف بالقانون مطلقاً في كافة المسائل القانونية؟ وهكذا يكون (راوي الحديث) هو المرجع في كافة ما يرتبط بجهة كونه راوياً للحديث.

وإذا تم ذلك نقول: إن مرجعية راوي الحديث في (الحوادث الواقعة) ليست لصرف كونه راوياً للحديث، ومن حيث روايته له مجردة عن الاستنباط والاجتهاد، لوضوح أنه من هذا الحيث لا يمكن أن يكون المرجع في الحوادث الواقعة، ولا يمكنه معرفة حكمهم (عليهم السلام) إذ بدون معرفة الناسخ والمنسوخ والحاكم والمحكوم والوارد والمورود عليه والعام والخاص والمطلق والمقيد والمزاحم والمعارض وكافة المرجحات السندية والدلالية والمضمونية لا يمكنه تمييز الحديث الصحيح من السقيم، أو الراجح من الأرجح، أو تمييز المراد بالإرادة الجدية من

ص: 363


1- انظر الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10 وفيه: (فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّهِ وَ عَلَيْنَا رَدَّ وَ الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ).
2- كمال الدين: ج2 ص483 ب45.
3- الأوثق: ص163.
4- لكن في دائرة (الحوادث الواقعة) فتأمل.

المراد بصرف الإرادة الاستعمالية، كما لايمكنه معرفة أن الصغرى مندرجة تحت أية كبرى، إلى سائر الجهات، وقد ورد في الحديث الشريف: (سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) سائل عن أحاديث البدع فقال: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهده...)(1).

إذن راوي الحديث بما هو مجتهد هو المرجع، ولذا ورد في الحديث الشريف: (همّة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية)(2)، وورد: (العلماء تحزنهم الدراية والجهال تحزنهم الرواية)(3)، كما ورد (أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا)(4)، ولا فرق في ذلك بين البند الأول والثالث الآنف الذكر وغيرهما، أي بين ما كان أصل الفرع حادثاً متجدداً، وبين ما كان فرده حادثاً وجهل حكمه أو شك في إندراجه تحت أية كبرى، أو علم حكمه وشك في وجود مزاحم أو معارض له.

فقد تلخص أن جهة مرجعيته في (الحوادث) المذكورة في السؤال هي (كونه راوي الحديث من حيث اجتهاده) وهذه متحققة في كل تلك الموارد.

وقد يمكن الاستدلال على عمومه بأن حذف المتعلق يفيد العموم، ومتعلق (حجتي) محذوف، إذ لم يذكر أنه حجتي في الفروع المتجددة، أو في علائم الظهور، أو غيرهما، وسبق مورد خاص لا يصلح لتقييد عموم التعليل ولا لتحديد المتعلق، وكما كان حذف المتعلق في (وأنا حجة الله عليهم أو عليكم) مفيداً للعموم، كذلك هو مفيد له فيما قرن به وجرى مجراه وسيق بسياقه، فتأمل.

ص: 364


1- تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص136.
2- بحار الأنوار: ج2 ص160 ب21 ح13.
3- بحار الأنوار: ج2 ص161 ب21 ح14.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص117 ب9 ح33360.
سبق ما يصلح لإرادة العهد، غير مخل بأصالة العموم والجنس

ثالثاً: إذا قيل بكون الأصل في الألف واللام الجنس والعموم كما لا يبعد(1)، وكما هو المتبادر عرفاً بلا قرينة، وشك في وجود أمر سابق خاص، تكون (الحوادث الواقعة) عهدياً ذكرياً بلحاظه فلا تفيد العموم، فالجمع باق على مقتضى الأصل، وتكون (أل) للجنس لا للعهد، خاصة إذا قلنا بكون سبق ذكر أمر أعم من كون اللاحق للعهد الذكري كما في: (فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبداً بالشك) (2) كما فصلناه في موضع آخر.

خاصة فيما لو كان السابق مذكوراً في كلام شخص كالسائل، واللاحق المحلى بأل مذكوراً في كلام آخر كالمجيب، إذ ليس بالنادر عدول المجيب عن خصوص أسئلته إلى ضرب قاعدة كلية، بل قد يكون متعارفاً، إلا أن يقال: إن محتمل القرينية المتصل مسقط للكلام عن الظهور، فتأمل.

القرائن المقامية وبداهة عدم السؤال عن المرجعية في المسائل الشرعية

رابعاً: ما ذكره الشيخ (قدس سره) لإثبات عمومية الحوادث وعدم تخصيصها بالمسائل الشرعية، من: (أن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف، مما لم يكن يخفى على مثل

ص: 365


1- وقد تحدثنا في موضع آخر من الكتاب حول كون الأصل في اللام الجنس المفيد للعموم، والأمر في خصوص الجمع المحلى أوضح.
2- تهذيب الأحكام: ج1 ص8 ب1 ح11.

إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامة إلى رأي واحد ونظره، فإنه يحتمل أن يكون الإمام (عليه السلام)قد وكله في غيبته إلى شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمن).(1)

ونضيف إلى كلامه (قدس سره) احتمال أن يكون (عليه السلام) قد اعتبر قيوداً جديدة في المرجع في المصالح العامة لأهميتها.

ولا يرد عليه ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) بقوله: (والثالث منها مدفوع بوقوع مثل ذلك عمن هو أجل من إسحاق بن يعقوب بمراتب، فهذا أحمد بن إسحاق المعدود من الوكلاء والسفراء والأبواب، فقد سأل أبا الحسن الهادي (عليه السلام) وقال: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ، فَقَالَ لَهُ: الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي...)(2)، وأضاف السيد الحكيم (قدس سره) إلى ذلك: (ولذا صدر السؤال عن ذلك من جماعة كعبد العزيز بن المهتدي، سألت الرضا (عليه السلام) فقلت: إِنِّي لا أَلْقَاكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَعَمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي، فَقَالَ: (خُذْ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)(3)، وكعلي بن المسيب الهمداني...)(4).

وذلك للفرق بأن مرجعية شخص معين أمر مجهول، ولعل الأظهر أن السؤال كان عن ذلك، وبعبارة أخرى: تعين أحد الوكلاء المعروفين للرجوع إليه أو ترجيحه على غيره كان هو المسؤول عنه(5)، ولا شك في حسن السؤال عنه،

ص: 366


1- المكاسب: ص154، وتبعه الآشتياني في بحر الفوائد: ص162.
2- حاشية الاصفهاني: ص214، والحديث في الكافي: ج1 ص329 باب في تسمية من رآه ح1.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص148 ب11 ح
4- نهج الفقاهة: ص301.
5- وهناك احتمال ثالث هو: احتمال السائل وجود شخص آخر مجهول له غير الوكلاء والأصحاب المعروفين ينكشف له بالسؤال ورابع وخامس وسادس هو ما ذكرناه بقولنا (ليطمئن قلبه أو لتطمئن قلوب الآخرين وقد يكون للتعريف...) وربما أمكن القول باشتراك بعض هذه بين الموردين فتأمل.

إذ قد يكون جاهلاً بالراجح منهم، بل حتى لو كان يرى رجحان أحدهم فلا شك في حسن السؤال إذ قد يكون الراجح في نظر الإمام (عليه السلام) غيره لمعرفتهبالخفايا(1)، وقد يكون السؤال (ليطمئن قلبه)، وقد يكون لتطمئن قلوب الآخرين، وقد يكون للتعريف بشخصية المرجع إليه من باب تساؤل العارف ليسمع الآخرون.

وكل هذه الوجوه مصحح للسؤال عن شخص المرجع، ولو من أجلاء القدر، ولو من مثل أحمد بن إسحاق، بل مصححية بعضها كاف لبطلان توحيد المسألتين، حيث قال (قدس سره): (مدفوع بوقوع مثل ذلك...)، وأين هذا من السؤال عن المسائل الشرعية، بناءً على إرادتها من (الحوادث الواقعة) الذي يعد كون المرجع فيها هو راوي الحديث من بديهيات الإسلام؟.

واحتمال كون السؤال في التوقيع أيضاً عن مرجعية شخص خاص في المسائل الشرعية مدفوع بعدم وجود مجال له مع نصب الإمام (عليه السلام) نائباً خاصاً كان هو طريقه (عليه السلام) إلى الشيعة، ومع إرسال إسحاق رسالته إلى الإمام (عليه السلام) عبره، عكس السؤال من الإمام الهادي والإمام الرضا (عليهما السلام) في الروايتين السابقتين، إذ لم يكن لهما نائب خاص يعرفه الأعلام بالمرجعية المطلقة، فتأمل.

ص: 367


1- وقد يكون الأرجح لخصوص هذا، شخص معيّن.
مناقشات مع المحققين الأصفهاني والشهيدي

وأما ما ذكره الكمباني (قدس سره) من: (وبالجملة بمثل هذا ونحوه صار وجوب الرجوع إلى الرواة الثقات من بديهيات الإسلام).(1)

ففيه: إن ذلك كان بديهياً في زمان السؤال، وهو زمان الغيبة، بل الظاهر أنه كان بديهياً حتى في زمن الصادقين (عليهما السلام) إن لم نقل بكونه بديهياً قبل ذلك - فلا يمكن خفاؤه على أحمد بن إسحاق حتى يسأل الإمام (عليه السلام): (من أعامل..)(2)، والحاصل: إنه كيف يعلل صحة السؤال عن أمر بديهي بأن هذا الأمر كان غير بديهي ثم صار ببركة رواية أحمد بن إسحاق وأشباهها من الروايات التي كان أكثرها قبل زمان السؤال بديهياً مع سبقها وسبق معلولها عليه؟

وأما ما ذكره الشهيدي بقوله: (بأنه من المحتمل قوياً أن يكون اللام في (الحوادث) للعهد على الحوادث التي سأل إسحاق عن حكمها، فإفادته للعموم تتبع إرادة العموم منه في السؤال، وهي غير معلومة، إذ ليست عبارة السؤال بأيدينا فلعلها مختصة ببعض الحوادث، بأن كان السؤال عن حوادث مخصوصة قد تعرض لها في السؤال).(3)

فيرد عليه: إضافة إلى ما سبق من عموم التعليل وغيره، أن من المستبعد سؤاله عن حوادث مخصوصة واختصاص الجواب بمرجعية رواة الحديث بها،

ص: 368


1- حاشية الأصفهاني: ص214.
2- مع كون السؤال عن الرجوع للرواة الثقات كما هو مبنى الاصفهاني.
3- هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، للشهيدي: ص331، شرح ص154.

كيف وقد أجابه الإمام (عليهالسلام) بجواب عام وأرجعه إلى رواة الحديث، مع أنه (عليه السلام) قد تطرق قبل هذه الفقرة وبعدها للإجابة عن كل سؤال سؤال طرحه إسحاق، سواءكانت أسئلة شخصية كالسؤال عن العمري وابن مهزيار وابن نعيم...إلخ، عن الصلحاء منهم كالعمري وابن نعيم، أو الطلحاء كالأجدع، أو شرعية كالخمس والفقاع، أو عقائدية كظهور الفرج وقول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يُقتل وعلة الغيبة، ولم يرجع (عليه السلام) الإجابة في شيء من ذلك إلى آخرين، لكنه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أرجع هنا إلى ضابط عنواني عام، فيما يفهمه العرف وهو (رواة حديثنا).

وإضافة إلى أنه (عليه السلام) لم يرجع في سائر أجوبته على المسائل بمختلف أنواعها في سائر الرسائل، بل أجاب عن كل واحدة واحدة بالخصوص، فراجع مسائل الأسدي والحميري(1) وغيرهما(2)، فتأمل(3).

وعلى أي، فإن المرجح أنه سأل عن حكم (الحوادث الواقعة) ككبرى كلية، وعن المرجع العام فيها لا عن صغرياتها، (بأن ذكر عدة حوادث معينة سائلاً عن حكمها بالخصوص فأرجعه الإمام (عليه السلام) فيها بخصوصها إلى رواة الحديث، على أن السؤال لو كان عن حوادث خاصة والمرجع فيها فالظاهر أن الإمام (عليه السلام) أضرب عن الإجابة عليها بخصوصها إلى إعطاء الضابطة الكلية.

ويؤيده ضمير الجمع في (ارجعوا) حيث قد يستظهر منه أن السؤال كان

ص: 369


1- ويتضح ذلك أكثر بمراجعة مسائل الحميري حيث افتتح كلامه ب: (فقهاؤنا قالوا إنا محتاجون إلى أشياء تسأل لنا عنها)، ثم سأل أسئلة خاصة أجابه الإمام (عليه السلام) على كل واحدة منها.
2- راجع كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: ص163-199 وكذا ما يلحقها.
3- لوضوح صحة الإرجاع لرواة الحديث لو كان السؤال عن حوادث واقعة خاصة (كوقفٍ معين يراد بيعه أو غير ذلك) وعدم توقف الأمر على الجواب عن حكم المسألة بالخصوص أو الإرجاع لشخص خاص.

(إلى من نرجع في الحوادث الواقعة)، والتأمل فيه كسابقه.

ومما يؤكد كون السؤال عن المرجع في الحوادث الواقعة ككبرى كلية، لا عن وقائع خاصة أو عن علائم الظهور مثلاً، مثيلات هذه الرواية الشريفة.

ومنها: سؤال أحمد بن إسحاق، حيث سأل أبا الحسن الهادي (عليه السلام): (من أعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟) فقال (عليه السلام): (العمري ثقتي فما أدى إليك عني، فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فأسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون) (1).

فمن وحدة المضمون(2) يكشف وحدة المسئول عنه، وحيث إن سؤاله كان شخصياً هنا وحيث لم تكن غيبة أرجعه الإمام (عليه السلام) لشخص خاص، وحيث كانت الغيبة وحيث يستظهر أن السؤال كان نوعياً، أي إلى من نرجع في الحوادث الواقعة كما سبق وكما يظهر من (ارجعوا) أجاب الإمام (عليه السلام) بإرجاعهم إلى مطلق رواة الحديث.

والأمر في عموم (الحوادث) للشؤون العامة، بعدُ لا يزال بحاجة إلى مزيد من التأمل والتفكر، والله العالم.

ص: 370


1- الكافي: ج1 ص329 باب في تسمية من رآه ح1.
2- بناء على شمول (الحوادث الواقعة) للموضوعات والأحكام، وعموم (عمن أخذ) لهما، وكون المراد من (من أقبل) في الأحكام والموضوعات، فتأمل.
ب: (الواقعة)
اشارة

الظاهر أنه مفسر لا مخرج، أي إنه قيد توضيحي لا احترازي، وقد يقال: بأنه احترازي إذ (الواقعة: الداهية، والواقعة: النازلة من صروف الدهر)(1)، كما في لسان العرب، وقال في مجمع البحرين: (الواقعة: النازلة الشديدة)(2)، قد يقال بعدم تمامية ذلك، إذ وقوع (الواقعة) صفة ل(الحوادث) غير أفرادها بالذكر فهي ظاهرة بمفردها في الداهية والنازلة، ولكنها إذا وقعت صفةً للحوادث تكون بسعتها بمعنى مجرد الوقوع والحدوث، وقد يؤيد ذلك بالفهم العرفي.

والثاني(3) مرجح لما اخترناه سابقاً، وأشكلنا به على الكمباني (قدس سره) إذ علائم الظهور لا توصف عادة بالحوادث الواقعة، بل يقال علائم الظهور، وقد يجاب بصحة وصفها بها، إذ منها الخسف بالبيداء والصيحة في السماء وخروج السفياني... إلخ، لكن يبعد كون السؤال والجواب عن مثل الخسف بالبيداء، وأنه ارجعوا فيه إذا حدث إلى رواة أحاديثنا، اللهم إلا مع التجوز بتقدير مثل (عناوين)(4) بذلك.

ثم إنه لو صح الثاني كان شمول (الحوادث الواقعة) للحوادث غير الواقعة (أي غير الخطيرة) بالأولوية، إذ لو جاز الرجوع لرواة الحديث في الخطيرة جاز في غيرها بطريق أولى، لكن لا أولوية في الوجوب الظاهر (أرجعوا) فيه، فتأمل.

ص: 371


1- لسان العرب: ج8 ص403 مادة (وقع).
2- مجمع البحرين: ج4 ص408 مادة (وقع).
3- أي على الاحترازية.
4- أي (وأما عناوين الحوادث الواقعة وأسماؤها) أو (وأما الحوادث الواقعة ما هي؟) فارجعوا في معرفة ما جعل علامة منها للظهور.

كما أن الثاني مؤيد لما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) من (أن المراد بالحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لابد من الرجوع فيهاعرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس)(1)، لا أن المراد بها الفروع المتجددة، على ما احتمله الكبماني (قدس سره)(2)، وذهب إليه الإيرواني (قدس سره)(3)، فإن أكثرها مما لا يصدق عليها الداهية والنازلة من صروف الدهر، إلا أن يراد بها بعضها، وهو خلاف القاعدة.

نعم قد يعارض كلام الشيخ بظهور (فإنهم حجتي) في التكليف، لا في الرجوع في الأمر نفسه كما هو ظاهر كلامه، فتأمل.(4)

الجواب عن توهم اختصاص (الحوادث الواقعة) بمثل الحرب

وقد يقال: إن (الحوادث الواقعة) ظاهرة في أمثال الحرب والمعاهدات الدولية وأشباهها لا غير.

لكن فيه:

أولاً: إنه يستلزم خروج الحوادث الإيجابية(5)، والاختصاص بالحوادث السلبية فقط، (إذ هي المعبر عنها بالداهية والنازلة والنازلة الشديدة) فقط، إلا أن يقال بكونه من باب التغليب أو لشدة العناية أو يقال بالملاك بل بمعممية التعليل، فتأمل.

ص: 372


1- المكاسب: ص154.
2- حاشية الكمباني على المكاسب: ص214.
3- حاشية الإيرواني على المكاسب: ص156.
4- سيأتي إن شاء الله تعالى وجهه ولا يخفى أن المعارضة (على تقدير تسليم ظهور حجتي في التكليف واختصاص الحجية بها) إنما تتم على تقدير كون المراد من (ارجعوا فيها ارجاعها بذاتها لراوي الحديث لا إرجاع حكمها.
5- كأمر الصلح أو المعاهدات الدولية مثلاً، فتأمل.

وثانياً: ما سبق من تغاير حالتي وقوعها صفة ومستقلة، ولذا قال في الميزان: (والواقعة صفة توصف بها كل حادثة).(1)

والصفة كالموصوف لكونها اسماً مجردة عن الزمان(2)، فهي تشمل إذن كل حادثة وقعت أو هي واقعة الآن أو ستقع، ف- (الحوادث الواقعة) في ثبوت حكم (ارجعوا) لها لم يؤخذ فيها الزمان، أي إنها (لا بشرط) بالنسبة له، فالرجوع في ظرف حدوث أية حادثةٍ لازم، وإن كان ظرف الحدوث لاحقاً لظرف صدور الرواية، وذلك لبداهة أن القضية الحقيقية هي كذلك، وأن الرواية منها وليست قضية خارجية.

وجعل الماضي مدلولاً لها بقرينة السياق أو غيره(3) ليس أولى من جعل المستقبل مدلولاً، إضافة إلى أن (المشتق) حقيقة في المتلبس بلحاظ حال التلبس، ماضياً كان أم مضارعاً، فمهللاً ومكبراً ومستبشراً في (جاء علي (عليه السلام) مهللاً ومكبراً)، و(ستفتح البلدة مستبشراً) حقيقة بلحاظ حال المجيء والفتح(4)، و(الحوادث) متصفة ب(الواقعة) حقيقة في ظرف حصولها، ماضياً كان أم حالاً أم مستقبلاً، كما أن (الحادثة) تصدق على كل حادث في ظرفه، ولذا كان كل من (وقعت حادثة كذا) و(ستقع الحادثة الفلانية) حقيقة بلا كلام، وبذلك كله ظهر

ص: 373


1- الميزان: ج19 ص115 في تفسير سورة الواقعة.
2- قال في الكفاية: (ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ومنه الصفات الجارية على الذوات)، كفاية الأصول: ج1 ص67.
3- كدعوى كونه جزءاً لها أي مدلولاً عليه بالدلالة التضمنية، كما هو ظاهر كلام المحقق العراقي (قدس سره) الآتي.
4- قال (قدس سره) في كفاية الأصول: (خامسها أن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق، ضرورة أن مثل كان زيد ضارباً أمس أو سيكون ضارباً غداً حقيقة إذا كان متلبساً بالضرب في الأمس في المثال الأول، ومتلبساً به في الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاظ التلبس وإن مضى زمانه في أحدهما ولم يأت بعد في الآخر كان حقيقة بلا خلاف ولا ينافيه...الخ) كفاية الأصول: ج1 ص66.

اندفاع ما نسب إلى المحقق العراقي (قدس سره) من (أن لفظة (الواقعة) تنحل إلى (التي وقعت) فيصبح المعنى هكذا: وأما الحوادث التي وقعت فارجعوا فيها، وهذه مجهولة).(1)

إضافة إلى النقض بأسماء الفاعل والمفعول وغيرها المذكورةفي الروايات موضوعاً لمحمولات شرعية، المستلزم تمامية ما ذكره لعدم دلالتها على ثبوت المحمولات إلاّ لما مضى من الموضوعات، لانحلال (القاتل) مثلاً إلى (الذي قتل) السابق على ظرف صدور الرواية، وكون الدلالة على ما سيقع بعدم الفصل وشبهه لا بالدليل اللفظي، وهو واضح البطلان.

هذا، إضافة إلى أننا لو سلمنا ما ذكره فلنا أن نتمم الباقي بالالتزام بعدم الفصل بين كون ظرف وقوع الواقعة ماضياً أو مضارعاً، إذ لا قائل بالفصل أصلاً، بل لا ريب في إلغاء خصوصية الزمان قطعاً، إضافة إلى عمومية العلة ومعمميتها.

ص: 374


1- المحاكمة في القضاء، للشيخ الخاقاني (قدس سره): ص48.
ج: (فارجعوا)

الرجوع في كل شيء بحسبه، وسيتضح أكثر عند التعرض لمفردة (فيها).

وخطاب (ارجعوا) يشمل الموجودين والمعدومين زمن الخطاب بإطلاقه، أو لضرورة الاشتراك في الأحكام، ووضوح كون القضية حقيقية.

وهو موجه لمن وقعت الحادثة له أو لمن يرتبط به، (فالواقعة أي الواقعة لكم أو لمن يتعلق بكم كما في الولي وغيره) بالبداهة أو لمناسبة الحكم والموضوع، ولا معنى لكون من لا ترتبط به الحادثة إطلاقاً(1) مأموراً بالرجوع في حكمها إلى راوي الحديث.

و(الحادثة) قد تقع لفرد، وقد تقع لجمع، وقد تقع لدولة، وقد تقع لشعب، والمخاطب ب- (ارجعوا) هو من وقعت له وشبهه، وقد يمثل لذلك بالمرأة الغائب عنها زوجها، وبتنازع شخصين أو أشخاص، وبمعاهدات الدولة، وبالحرب والسلم، والضرائب والجواز والجنسية، وكافة قوانين الدولة المبتدعة، وكذا بظهور البدع أو المبتدع أو احتمالهما وعامة الفتن، فليس على غير المبتلى بها - ممن لا تشمله عرفاً أنه قد حدثت له حادثة وواقعة - الرجوع، نعم عليه الإرجاع من باب إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقدمة الواجب.

وهل يشمل الخطاب ب(بارجعوا) الرواة أنفسهم، كما لو حدثت حادثة لراوٍ أو لرواة يجهلون حكمها، أو تنازع راويان أو أكثر في أمر، أم لا؟ لا يبعد الشمول للإطلاق، ويؤكده أن السائل حيث كان هو من رواة الأحاديث على

ص: 375


1- ولو من جهة كونه مسؤولاً عنها مثلاً، فكيف لو كان ممن يؤتمر بأمره.

الظاهر، وحيث شمله (ارجعوا) أمكن الجزم بشمول هذا الخطاب لهم، أو للملاك، إذ الرجوع في الأحكام للجهل بها، وفي النزاعات لحلها، وفي الموضوعات للقيام بالشأناللائق بها، كما أن صحة الاحتجاج موجودة هنا، كما يصدق عليه أنه من هذا الحيث (في هذه المسألة الخاصة التي يجهل حكمها مثلاً) غير راوٍ للحديث، فعليه أن يرجع لراويه(1).

وبذلك ظهر شمول هذا الخطاب لراوي الحديث المتصدي لأمر معين، كإدارة شؤون الدولة، مثلاً إذا حدثت له حادثة كالحرب والمعاهدة وشبههما وجهل حكمها أو الأصلح لها، كما إذا تحير في أن حكمها كذا أو كذا، كمواجهة فئةٍ الحكومة بحركة مسلحة ودار الأمر بين أن يكون الأصلح المقابلة بالمثل وقتلهم أو سجنهم أو العفو عنهم، بل قد يقال بشمول الرواية للمتصدي وغيره حتى إذا كان يرى أن حكمها كذا لمكان الإطلاق، وفيه: أن الظاهر أن السؤال عن حال من يجهل الحكم أو الموضوع لا العالم، إضافة إلى لزوم أن يعمل العالم بعلمه لا أن يرجع إلى غيره، وقد أجبنا عن الأخير في بعض الكتب بالتفصيل فليراجع(2).

ولو حدث خلاف ونزاع بينه وبين راوٍ آخر في الأصلح، فهل تشملهما الرواية ويكون مفادها وجوب رجوعهما في هذه الحادثة إلى سائر الرواة؟ الإطلاق يقتضي الشمول.

وأما شمول الخطاب للأمة فيما إذا تنازع راويان (سواء كانا متصديين معاً للحكم مثلاً، أو أحدهما دون الآخر، أو مع عدم تصدي كليهما)، بأن يرجعوا في أمرهم إلى سائر الرواة، فغير بعيد، بل متعين، لكونه صغرى هذه الكبرى،

ص: 376


1- كما لو قال المولى - المفروض مولويته للمرجعين وللمُرجَع إليهم -: ارجعوا في الأمراض الحادثة إلى الأطباء أو إلى أطباء البلدة الكذائية، شمل ذلك - إطلاقاً أو ملاكاً - طبيباً حدثت له حادثة مرضية يجهل حكمها.
2- مباحث الاجتهاد والتقليد.

وكونه من الحوادث الواقعة عرفاً قطعاً، خاصة في شؤون الأُمة والدولة مما يعد من الأمور الخطيرة، فعلى الأُمة حينئذٍ الرجوع إلى سائر الرواة في تشخيص الأمر والحكمية بينهما، وسيأتي هذا بإذنه جل وعلا، وقد يستفاد ذلك من إطلاق الأدلة لرجوع المجتهدين المتنازعين إلى القاضي، فتأمل.

د: (فيها)

حيث إن ذات الحادثة لا معنى للرجوع فيها إلى الفقيه، لكونه مستلزماً لطلب الحاصل أو لتحصيل الحاصل، أو لأن الكلام سيكون لغواً(1)، لابدّ من تقدير (أمر) مثلاً أي (ارجعوا في أمرها) والرجوع في أمر كل حادثة هو بحسبها، ففي النزاع حله وفصل الخصومة، وفي الفروع المتحددة حكمها، وفي الفتن طريقة مواجهتها وكيفيتها، وفي شؤون الحرب والسلم اتخاذ القرار بشأنها وإدارتها وهكذا، وذلك لأن حذف المتعلق مفيد للعموم، والمذكور هنا هو متعلق المتعلق وحذفه مفيد للعموم نسبةً لحالات متعلق المتعلق، كما لو قال: (ارجع في الله إلى العالم الفلاني، أو اسأل عن الله زيداً العالم، المراد بهما أمر الله وشأنه من صفاته ومن عجائب صنعه.. إلخ، أو قال: أما النفس فارجع فيها إلى الروايات، أو أما الإسلام أو الدين الكذائي فارجع فيه إلى الكتاب الكذائي)، نعم مناسبات الحكم والموضوع قد تعين أمراً خاصاً وجهةً معينةً.

وببيان آخر: ليس الأمر دائراً بين مقدرين أحدهما قسيم للآخر حتى يلزم في تقدير خصوص أحدهما الترجيح بلا مرجح، بل أحدهما مقسم للآخر،

ص: 377


1- إذ لا معنى للرجوع في نفس ماهية الحادثة الواقعة أو في نفس وجودها إلى الراوي للحديث، ولذلك التجأ البعض إلى تقدير كلمة (حكم) أي في حكمها، فالرجوع على هذا تشريعي لا تكويني، فلا طلب للحاصل.

والجنس معلوم تقديره، والخصوصية مشكوكة والأصل عدمها، إلا أن يقال: إن الجنس موجود بوجود فصله ومتحد معه والتركيب اتحادي لا انضمامي فلا يجري الأصل في الخصوصية، وفيه ما لا يخفى، إضافة إلى أن الفهم العرفي على تقدير الأعم(1) إضافة إلى إجراء قاعدة (إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات هو الأولى)، والأقرب إلى الإرجاع في نفس الحادثة الواقعة الإرجاع في كافة ما يتعلق بها مما يمكن الإرجاع فيه، وممامن شأن الراوي الرجوع فيه إليه، أي إرجاع أمرها إليهم.

وبذلك يتضح اندفاع ما ذكره السيد الحكم (قدس سره) من أن (وجه عدم المنافاة أنه لابد من ارتكاب التقدير على كل حال، إذ الحادثة الواقعة لا معنى لإيكال نفسها إلى الغير لأنه تحصيل الحاصل، فالمراد إما إيكال حكمها أو إيكال الشأن اللازم فيها إليه، وتعيّن الثاني غير ظاهر)(2)، كما يرد عليه: أن تحصيل الحاصل إنما يلزم لو أريد من ارجعوا الإيجاد، وبطلانه بيّن، فلا مجال لدعوى لزوم تحصيل الحاصل، فتأمل.

وأما إشكال الأصفهاني(3) (قدس سره) فهو وارد على مثل الشيخ (قدس سره) ممن يرى الرجوع في نفس الحوادث الواقعة لراوي الحديث، لا على ما ذكرناه من الرجوع في أمرها اللائق بها إليه (أي في كل ما يتعلق بها مما... إلخ)، إذ على هذا لا (يلزم سكوت الخبر عن الرجوع إلى الرواة في المسائل الشرعية، لأنه رجوع إليهم في حكم الوقائع لا نفسها)، لكون حكم الحادثة من أمورها وشؤونها، فلاحظ.

ص: 378


1- ولعل لما ذكرنا قال في الأوثق: ص163: (إن ظاهر الأمر بالرجوع في الحوادث الواقعة إلى الرواة هو الرجوع إليهم في معرفة حكمها بالاستفتاء أو في الحكومة بالقضاء).
2- نهج الفقاهة: ص301.
3- حاشية الأصفهاني على المكاسب: ص214 س18.
ه: (رواة حديثنا)
اشارة

هنا أمران:

الأول: إأأن الرجوع إليهم يصدق مع الرجوع إلى أي واحد منهم، كما يصدق على الرجوع إلى مجموعهم أو المتعدد منهم.

والثاني: إن مرجعيتهم قد يكون للهيئة الاجتماعية دخل فيها وقد لا يكون، أو بعبارة أخرى: المرجع قد يكون الفرد (لا بشرط) وقد يكون الجماعة، وهي الفرد (بشرط)، وذلك بحسب مرحلة الثبوت.

صدق الرجوع إلى الفقهاء بالرجوع إلى مجموعة منهم

أما الأمر الأول: فهو دليل على جواز الرجوع لأكثرية الفقهاء وتحكيمها، إذ لو وجب الكلي تخير المكلف بين مصاديقه، وكان التخيير بين مصاديقه عقلياً، فإذا وجب الرجوع وكانت له مصاديق (منها الرجوع إلى هذا ومنها الرجوع إلى ذلك ومنها الرجوع للمتعدد ومنها الرجوع للمجموع) ثبت جواز كل منها، إلا أن يقوم دليل على الإخراج وحرمة البعض، أو وجوب أحدها معيناً.(1)

وأما صدق الرجوع مع الرجوع للمتعدد أو للمجموع فواضح، ألا ترى أن المولى لو قال لعبده: ارجع إلى الأطباء أو المهندسين، ورجع إلى العديد منهم أو إلى جميعهم فيما اتفقوا فيه أو لم يعلم خلافهم له، صدق أنه رجع إليهم،

ص: 379


1- وبما ذكرناه يثبت أن المقتضي لجواز الرجوع للأكثرية موجود، وأما المانع وهو الأدلة الدالة على وجوب الرجوع للأعلم مثلاً، فقد تحدثنا عنه مفصلاً في موضع آخر من الكتاب، فليراجع.

كما لو رجع إلى أحدهم مع عدم مخالفة غيره له أو جهله بالمخالفة، بل إنه يصدق عليه أنه رجع إليهم لو اختلفوا وعمل في مورد الاختلاف برأي أكثريتهم، فإنه يصدقبالحمل الشائع أنه راجع الأطباء والمهندسين ورجع إليهم، بل حتى مع الرجوع للواحد ومخالفة غيره له، بناءً على المختار من شمول أدلة الحجية للمتعارضين، كما فصلناه في آخر الكتاب، وكيف يصدق على من رجع إلى واحد من الفقهاء مثلاً أنه قد (رجع إلى رواة الحديث) ولا يصدق على من رجع إليهم جميعاً؟، والعرف ببابك، وقد فصلنا الحديث حول هذا في موضع آخر من الكتاب.

وأما (باع القوم دوابهم) فلخصوصية المورد، وللقرينة المقامية لعدم إمكان بيع كل منهم كل الدواب عرفاً وشرعاً(1)، ولذا لو أمكن بيع جميعهم جميع الدواب (بمعنى أن يبيع هذا كلها وذاك كلها وهكذا) صدق (باع القوم دوابهم) قطعاً، وكذا لو أمكن بيع الجميع أكثر الدواب.

ولذا نجد صدق (زار القوم العلماء) أو (أكرم القوم الأطباء) أو (أهان القوم الفساق) أو (أطعم المكيّون ضيوفهم) مع زيارة كل واحد من القوم جميع العلماء، وإكرام كل واحد منهم جميع الأطباء وهكذا، كما يصدق مع زيارة كل واحدٍ من القوم واحداً من العلماء وهكذا، فعدم صدق العنوان في ذاك المثال إنما هو لعدم إمكان هذا المصداق ثبوتاً، ولو أمكن ثبوتاً صدق إثباتاً بلا شك.

وبعبارة أخرى: الصدق إما لكون المتعلق هو صرف الوجود الصادق على القليل والكثير، أو هو الكلي الطبيعي الصادق عليهما كذلك، كما فصلناه في

ص: 380


1- إذ لو تم البيع الأول لغى الثاني، وإلا كان تحصيلاً للحاصل، ولو تقارنت البيوع وقلنا فرضاً بأن المؤثر المجموع، بمعنى أن يكون كل عقد جزء العلة، أو قلنا فرضاً - وفرض المحال ليس بمحال -: بكون كل عقد تمام العلة وتواردها جميعاً على معلول واحد، صدق حينئذٍ (باع القوم دوابهم) قطعاً، فعدم صدق المحمول إنما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

موضع آخر.

مدخلية الهيئة الاجتماعية في الرجوع للفقهاء

وأما الأمر الثاني: فنقول إن هنا صورتين:

الأولى: أن يرجع كل الناس أو يريدوا الرجوع في الحوادثالواقعة إلى راوٍ واحد.

الثانية: أن يتعدد من رجع الناس إليه أو يريدوا الرجوع للمتعدد.

بحث عن مخالفة الرجوع لأحد الرواة فقط لمقتضى الرواية

أما الصورة الأولى: فقد يقال: بأن في ذلك مخالفة لمقتضى الحديث، إذ لا يصدق (ارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)، بل هو رجوع إلى أحد رواة الحديث وإعراض عن سائر الرواة.

فقد يجاب:

أولاً: بأن الغرض تحصيل الحجة على الحكم الشرعي في الحادثة الواقعة وهو حاصل بالرجوع إلى الواحد.

وثانياً: أن المتفاهم العرفي من ذلك هو كفاية الواحد، كما لو قال المولى: (ارجعوا إلى الأطباء) فرجعوا إلى واحد بأجمعهم في جميع ،الأمراض فإنهم يعدون ممتثلين عرفاً.

وقد يرد على الأول: هذا إضافة إلى أن ذاك الكلام على فرض تماميته تمسك بالعام في الشبهة المصداقية(1) ومصادرة، إذ كون الغرض تحصيل الحجة

ص: 381


1- صدق (ارجعوا) مع الرجوع للواحد.

على الحكم الشرعي على فرض تسليم أنه الغرض ولا غرض غيره لا يثبت أن الراوي بمفرده حجة في الحوادث الواقعة، وكفاية الرجوع للواحد فرع كونه الحجة لا بشرط، ولا دليل عليه.

وبعبارة أخرى: إنه لا محرز لحصول الغرض بذاك فقط لا بشرط، بل لعل التعدد شرط كما في الذكورة(1) في مرجع التقليد، ولا مجال لإجراء الأصل لكون الشك في العنوان والمحصّل، فتأمل.

وقد يرجّح الاشتراط أنه لو كفى الرجوع لأحدهم لقال:(فارجعوا فيها إلى أحد رواة حديثنا)، وفيه: إن كلا الاستعمالين عرفي.

هذا إضافة إلى إمكان أن يكون الغرض قائماً بأمرين معاً: تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، وجعل المنصب لرواة الحديث مجموعاً أو جميعاً بشرط الانضمام، كما فصل في موضع آخر(2)، بل ذلك هو مبنى استظهار القائلين بولاية الفقيه، والنقاش معهم الآن، إذ استفادوا من الرواية النصب والمنصب، وذلك كما لو قال الموصي: ارجعوا إلى هؤلاء الخمسة في تنفيذ وصيتي، أو قال المالك: ارجعوا لهؤلاء الثلاثة في بيع الدار، أو قال القيّم: شؤون ابني مرتبطة في غيابي بأخويّ(3)، مع أنه من الممكن ثبوتاً الاكتفاء بأحدهم.

ص: 382


1- وكذا الحياة، بل حتى العدالة لو فرض فاسق صادق اللهجة محتاط في الاجتهاد وانحصار جهة فسقه باستماع الغيبة مثلاً، فتأمل.
2- وأما إجراء الأصل لنفي كون الغرض زائداً على تحصيل الحجة فهو مثبت، فلا يثبت كفاية الواحد للمرجعية، إضافة إلى الإشكال في المبنى كما ذكرناه في المتن.
3- وكذا يحتمل كون الغرض من إيجاب الرجوع لهم جميعاً أو جعل المنصب لهم جميعاً، وعدم كفاية رجوع الكل إلى واحد فقط، قائماً بذلك وبأمر آخر - وإن لم يكن له دخل في جهة الطريقية والأقربية للواقع في هذه الحادثة الخاصة التي رجع فيها إليه - وذلك كإيجاد حالة التنافس الموجبة للرقي والإزدهار لقوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) سورة المطففين: 26، أو لم يكن له دخل فيها مطلقاً كصيرورته (أي الرجوع للمتعدد من الفقهاء وكونهم في ◄ ► الحلبة وفي مجرى الأمور لا خارجها) سبباً لحفظ الدولة مثلاً، أو لحفظ الثغر وشبهه، حيث إن من الطبيعي أن يكون إسهام من رُجع إليه أكبر من إسهام من أُعرض عنه، هذا إن لم يتخذ هذا الأخير الموقف السلبي، وقد فصلنا هذا في موضع آخر من الكتاب إضافة إلى كونه مسلّماً في علم الاجتماع والنفس، وقد ورد في الحديث الشريف، فتأمل.

هذا إضافة إلى أن الغرض فيما لو كانت الحادثة فرعاً متجدداً (أصلاً أو لهذا الشخص) هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي لا في غير ذلك، وبعبارة أخرى: لو رجع في حكمها إليه كان الغرض تحصيل الحجة، لا فيما لو رجع في سائر شؤونها إليه، إذ مفادها حينئذٍ الولاية وأشباهها وهي مجعولة للكل، فلا يحق لأحدهم الإنفراد.

ويرد على الثاني: إن فهم ذلك عرفاً من أمثال (ارجعوا إلى الأطباء) إنما هو للقرينة الخارجية، لا لصدق (ارجعوا إلى الأطباء)بالرجوع إلى واحد، والقرينة هي الارتكاز وإحراز الملاك ومعلومية الغرض، إذ يعلم أن تمام الغرض في مثل ذلك يتحقق بالرجوع إلى الواحد، وأن اللازم صرف استرشاد الطبيب لا غير، ولذا لو احتمل عدم كونه تمام الغرض بأن احتمل كون التعدد دخيلاً في تمامية المصلحة والغرض، وأن الواحد غير وافٍ به(1)، أو احتمل كونه جعلاً للمنصب أيضاً، فتنتفي القرينة الخارجية حينئذٍ، فلا مقتضي لصرف اللفظ (ارجعوا إلى الأطباء) عن ظاهره، وحمله على كفاية الرجوع إلى الواحد منهم، ولا يصدق عرفاً ذلك، ولا يعدون ممتثلين لو لم يرجعوا للآخرين، أو لمقدار منهم يصدق عليه (الأطباء).

هذا، ولا يستلزم ما ذكرناه وجوب الرجوع إلى كل الرواة في الحوادث الواقعة، بأن يجب الرجوع إلى كل مجتهد راوٍ للحديث، بل الواجب الرجوع إلى

ص: 383


1- أو احتمل كونه محققاً لغرض ملزم آخر - وإن لم يكن له دخل في جهة الطريقية والأقربية للواقع في هذه المسألة أو الحادثة الخاصة التي رجع فيها إليه - كعدم فرار الأطباء للخارج مثلاً لو أهمل أمرهم ورجع الناس لأحدهم فقط.

مقدار من الرواة بحيث يصدق عرفاً أنهم قد رجعوا إلى رواة الحديث، ولا ر يب أن الرجوع للمعروفين منهم(1) كافٍ في الصدق، بل هو أظهر المصاديق إن لم نقل بأنه القدر المتيقن، وفيه تأمل من جهات، فتأمل.

رجوع كل مجموعة لمرجعها في الشؤون العامة مستلزم للهرج والمرج و...

وأما الصورة الثانية: وهي أن يتعدد من يرجع إليه، بأن ترجع جمهرة إلى هذا، وجمهرة إلى ذاك وهكذا، وحينئذٍ يكفي لكل مجموعة أن ترجع في شؤونها الخاصة بها للمرجع، ولكن لا يكفي بل لا يصح ولا يجوز عقلاً رجوع كل مجموعة في الشؤون العامة الشاملة لها ولسائر المجموعات إلى مرجعها، وذلك لما فصلناه فيفصل آخر(2) من استلزامه الضرر والإضرار، والهرج والمرج واختلال النظام، إن وجب على كل مجموعة العمل برأي مرجعها، كما لو رأى أحدهم وجوب إقامة العلاقات مع الدولة الكذائية، والآخر وجوب قطعها وهدمها، أو رآى أحدهم وجوب سوق الناس للجبهة القتالية ولو جبراً، ورأى الآخر وجوب كف الناس عنها ولو جبراً.

ثم إنه وإن لم يلزم اختلال النظام أحياناً لقاهرية أحد الرواة(3)، إلا أن جواز قاهرية أحد الرواة لسائر الرواة ولمقلديهم أول الكلام، بل لا شك في حرمته وبداهة كونه خلاف أدلة السلطنة بل أدلة ولاية الفقيه نفسها، إذ جعلت لكل الجامعين للشرائط لا لأحدهم فقط، إضافة إلى أن استلازم تشريع حجية

ص: 384


1- كالرجوع إلى مراجع التقليد في الشؤون العامة.
2- فراجعه إذ يتم ما ذكر ههنا وتدفع عنه الإشكالات به.
3- بل نقول: إن الاختلال والضرر لازمان مطلقاً وإن لم تبد معالمه في المدى القريب.

آرائهم جميعاً ونفوذ كل واحد على مقلديه اختلال النظام والضرر النوعي ولو أحياناً، كافٍ لإبطال الملزوم.

فلا يرد أنه غير كافٍ لأنه أخص، وذلك لأن استلزام تشريع أمر للهرج والمرج في الجملة كاف لقبحه(1).

هذا إضافة إلى ما سبق مما ذكرناه في الصورة الأولى من مخالفة الرجوع للواحد بشرط لا لمقتضى الحديث وحرمته، ومن أنه ليست القاهرية من الأدلة ومن مسوغات مخالفة مقتضى الحديث من النصب أو الإرجاع العام.

ص: 385


1- وإن كان يندفع أحياناً بالقاهرية أو غيرها، كالتوافق والإجماع.
بحث عن جواز قاهرية أحد الفقهاء للآخرين:

إضافة إلى أن تشريع وجوب اتباع كل مجموعة لمقلّدها ونفوذ حكمه في حقها بل حتى جواز ذلك إما أن يقترن بتشريع جواز قاهرية أحدهم لكل من يرجع إلى سائر الرواة، أو يقترن بتحريم ذلك؟

وعلى الأول: يلزم تشريع المتضادين وجعلهما، لكونه جعلاً للحكم وجعلاً لجواز أو وجوب الردع والمنع عنه، أو فقل: لكونه جعلاً لأحد الضدين وللازم الآخر.

توضيحه: إن عدم الوجوب لازم لجواز القاهرية (أي عدم وجوب اتباع المجموعة لرأي مقلدها لازم لجواز قاهرية الآخر لهذه المجموعة على اتباع آرائه) فكيف يوجب عليهم اتباع مرجعهم، ويوجب أو حتى يجوّز للغير قهرهم على ضده؟

وفيه تأمل:

إذ أولاً: عدم الوجوب لازم للقاهرية فعلاً لا لجوازها، إذ بها يتحقق الاضطرار لا به.

وفيه: إنه عرفاً كذلك(1) بنفس تشريع الجواز، إلا أن يتمسك بالوجه الآتي.

وثانياً: إن التفكيك بين الأحكام الظاهرية مما صرح كثير بإمكانه بل بوقوعه، كما في المختلفين اجتهاداً أو تقليداً أو تشخيصاً للموضوع الخارجي في

ص: 386


1- أي عدم وجوب اتباع مرجعهم عليهم، لازم لنفس تجويز قاهرية المرجع أو القائد الآخر لهم على خلافه، فكيف يجتمع مع إيجاب اتباع مرجعهم عليهم؟

أنها زوجته مثلاً أم لا، (للاختلاف في عدد الرضعات معها، أو للاختلاف في أن العقد عليها تم أم لا، والطلاق وقع أم لا) وكان الرجل جازماً بوقوع العقد أو عدم الطلاق، وهي جازمة بالعكس، فله أو عليه دفع نفقتها وسائر شؤون الزوجية، وعليها الامتناع، فجواز قاهريته لها لم يستلزم جواز التمكين عليها،ولا الهرج والمرج، ولا تنافي بين الحكمين لعدم وحدة المتعلق.

وفيه تأمل من وجوه:

منها: أن التفكيك بين الأحكام الظاهرية في القضايا الشخصية مما لا يستلزم الهرج والمرج واختلال انظام وضعف شوكة الإسلام والمسلمين، ولو فرض استلزامه ذلك أحياناً فحله بالرجوع إلى القاضي المنصوب لحل وفصل الخصومات، وأما القضايا النوعية فلا ريب في استلزام جعل رأي كل مرجع نافذاً وتجويز قهر كل مرجع الآخرين عليه - على ما فرض في الصورة الأولى - لتلك المحاذير، إذ يقع النزاع كثيراً ما المستلزم للفشل وذهاب الريح، وجعل القاضي فاصلاً غير نافع غالباً في الشؤون العامة(1).

ثم إنه إذا لم يمكن إثبات الاستحالة ثبوتاً كفى إثبات عدم جواز القاهرية للأصل وللأدلة المتعددة على ما فصلناه في محله، في إبطال الاحتمال الأول، إذ تكون تلك الأدلة قرينة على عدم إرادة الاحتمال الأول من (...فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (2)، أو يقال: بعدم سنخية مثله(3) عرفاً مع تجويز القاهرية، أو

ص: 387


1- والواقع الخارجي شاهد إذ متى شوهد رجوع مرجعين فيما اختلفا فيه من الشأن العام إلى القضاة؟ بل قد يقال: إنه مستلزم للغوية ذلك التشريع (تشريع نفوذ رأي كل مرجع...الخ) إذ لا يخلو مورد من موارد الشؤون العامة من اختلاف الاجتهادات فتأمل، إضافة إلى أن التفكيك بين الأحكام الظاهرية خلاف القاعدة، لا يصار إليه إلا بدليل، وهو مفقود في المقام، بل سبق أن الدليل على خلافه وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى
2- الاحتجاج: ج2 ص469.
3- أي مثل قوله عليه السلام: (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا).

فقل: إنه يدل عرفاً على نفي تجويزها، فتأمل.

وبذلك ظهر أنه لا يجري هنا ما ربما يذكر في فروع الأحوال الشخصية، من أنه لو كان البائع - مثلاً - مقلداً لمن يقول بصحة المعاطاة أو العقد الفارسي، والمشتري مقلداً لمن يقول بالبطلان، حيث يرى السيد الوالد (دام ظله) والمرحوم الجد (قدس سره) وغالبمعاصريهم(1) الصحة بالنسبة لمن يرى صحتها، لعدم كون التلازم بين الصحة والفساد واقعاً، ملازماً لتلازمهما ظاهراً، وأما الخصومة فبدوية ترتفع بالمراجعة إلى الحاكم كسائر الموارد.(2)

إذ إن عدم التلازم ثبوتاً في الأحوال الشخصية تام، لكن لا دليل عليه في الشؤون العامة، إضافة إلى الفارق بينهما: بأن الخصومة في الأحوال الشخصية تندفع بتعيين القاضي مرجعاً للخصومات دون الشؤون العامة.

بيانه: إن تلك الأمثلة المذكورة وأشباهها من الأحوال الشخصية الأعم الأغلب بل شبه المستغرق فيها عدم وقوع النزاع بين الطرفين من جهة تغاير الاجتهادين للطرفين، إما للجهل بالحكم(3) أو للجهل بالموضوع(4) أو للغفلة أو للامبالاة، يدل على ذلك مراجعة المحاكم من صدر الإسلام حتى الآن، فكم تجد

ص: 388


1- منهم آيات الله العظام السيد الخوئي، والسيد الكلبايكاني، والسيد الطباطبائي، والسيد الشريعتمداري، راجع حاشية العروة، ص8 من الطبعة الثانية لدار الكتب الإسلامية.
2- الفقه: ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد: ص245-246 بتصرف.
3- وما أكثر من يجهل اشتراط مقلَّده للعربية أو اللفظ أو البلوغ أو غيرها، وما أكثر ما يقع التعامل بين من يشترط أمراً ومن لا يشترطه اجتهاداً أو تقليداً، خاصة المعاطاة، وخاصة معاملة الصغار.
4- كما في الجاهل أنها ارتضعت معه إحدى عشرة رضعة مثلاً، أو الجاهل موضوعاً أن هذا المال المعطى له ربا (حيث يرى هو اجتهاداً أو تقليداً عدم مصححية الضميمة الحقيرة لأخذ الزائد على القرض) ولم يدر أن هذا المال هو عين ذلك المأخوذ رباً، أو من اشترى بضاعة كان قد اشتراها البائع سابقاً بالفارسية أو بالمعاطاة وإن تم العقد بينهما بالعربية أو باللفظ، أو أقرض من يرى صحة الإقراض بزيادة بضميمة واقترض من لا يرى ذلك جاهلاً بأن الزيادة ملكه وأن له التقاص فتأمل، والأمثلة كثيرة جداً.

متنازعين في أشباه تلك الأمثلة؟ ولو وجدت موارد وإن كانت عديدة بل وإن بلغت الألوف فإنها ليست بالغة واحداً بالمائة بل واحداً بالألف من موارد تعامل المختلفَين اجتهاداً أو تقليداً في مختلف أنواع المعاملات بالمعنى الأعم.

ومن الواضح - على هذا المبنى - عدم قبح تجويز الشارع لكلطرف أن يعمل بمقتضى رأيه أو رأي مقلده، مما لا يستلزم نزاعاً إلا الأقل من القليل بالنسبة لمجموع الموارد، مما ليست إلاّ كالاستثناء من جميع موارد جعل حكم كلي مع جعل الحكومة لفصل الخصومة في تلك الموارد المستثناة.

وأما جعل حكم يستلزم النزاع في كل أو أغلب أو كثير من موارده ثم إرجاع كل تلك النزاعات إلى القضاة خلاف الحكمة، فتشريع عمل كل مرجع في الشؤون العامة بمقتضى رأيه ليعمل على طبق رأي القاضي أخيراً قبيح مستلزم للضرر(1)، ولذا لو فرض في جميع أو أكثر أو كثير من موارد اختلاف المجتهدين في الأحوال الشخصية ووقوع تعامل بين مقلديهما أو مقلديهم التفكيك بين الأحكام الظاهرية ثم إرجاع المقلدين إلى القضاة - بسبب عدم الجهل بالحكم والموضوع وعدم الغفلة واللا مبالاة فرضاً - كان تشريع أن يعمل كل برأي مقلده ليقع التنازع دوماً أو كثيراً ما ثم ليرجع إلى القضاة قبيحاً عقلاً، فتأمل.

وفيما نحن فيه: تشريع وجوب عمل كل فئة برأي مرجعها في الشؤون العامة من الحوادث الواقعة، حيث لم يمكن لما سبق من استلزامه الهرج والمرج والضرر... إلخ، لا يمكن دفع الإشكال بأن ذلك كله مندفع بالمراجعة إلى الحاكم لما مضى من لغوية - أو لا أقل من قبح - إرجاع كل فئة إلى مرجعها وإيجابه عليهم، ليحدث التنازع في أكثر الموارد إن لم نقل في كلها، (لكون الفقهاء المتنازعين وكثير من أتباعهم ملتفتين إلى الحكم والموضوع عادة في الشأن العام)،

ص: 389


1- إذ لا يخفى ما فيه من إتلاف الوقت والمال والأعصاب والصفاء والتآخي... إلخ، وفي ذلك الضرر والحرج.

وليرجعوا بعد ذلك إلى القاضي(1)، إضافة إلى كون هذا مساوقاً لنفي عموم مرجعية الرواة في الحوادث الواقعة ونفي الولاية إلا في الجملة.

اللهم إلا أن يقال: بأن الحوادث الواقعة لشمولها الشؤون العامة والفروع المتجددة صغرى وكبرى، فلا يلزم من استثناء الشؤونالعامة اللغوية في تشريع رجوع كل جمع لكل فقيه، بل ولا القبح، وأما المرجعية فتنحصر - بناءً على هذا - بغير الشؤون العامة أو بغير ما اختلفوا فيه، لاستلزامه فيها هذه المحاذير.

وفيه تأمل من وجوه، فمنها: أن المحاذير لم تنشأ من خصوص دعوى شمول الرواية للحوادث الواقعة مما يرتبط بكل الأمة، ولا يمكن فيه التفكيك حتى ترتفع بتخصيص الرواية بغيرها، بل هي ناشئة من دعوى وجوب رجوع كل جماعة إلى مقلَّدها في الشؤون العامة، وهذه الدعوى يلتزم بها الكثير من الفقهاء مع قطع النظر عن هذه الرواية الشريفة، فلو حملت الرواية ونظائرها على إرادة هذا المعنى أو الشمول له لزم المحذور(2)، دون ما لو حملت على إرادة الرجوع لكل الرواة أو لمجموعة منهم (وهي الأكثرية) على ما فصلناه في محله، أو حملت على إرادة الأعم من الرجوع للواحد وللمتعدد حسب اختلاف الموارد من كونه شأناً عاماً أو كونه فرعاً فقهياً خاصاً، فتأمل.

وعلى الثاني: فالقاهرية محرمة، وللكل أو على الكل اتباع مرجعه، فيلزم تجويز بل إيجاب ما يقتضي الهرج والمرج والإخلال بالنظام، وإن لم يلزم وقوع ذلك خارجاً دائماً، ألا ترى قبح أن يأمر الشارع أو يجوّز ظلم زيد عمراً وإن لم يستطع زيد ذلك وعلمنا أنه لن يقع منه أبداً؟ إذ أن قبح وحسن التشريع ليس

ص: 390


1- إضافة إلى الإشكال في نفس كفاية مرجعية القاضي لحل الخلاف، إذ يقع الاختلاف فيه، إضافة إلى كثرة كون التداعي من الجانبين، فتأمل.
2- كما يلزم المحذور من التزام أولئك الفقهاء بوجوب رجوع كل مقلد إلى مرجعه في الشؤون العامة إذا كانت ارتباطية، بكافة المقلدين أو أكثرهم.

معلولاً لوقوع الشيء المأمور به أو المنهي عنه خارجاً وعدمه، فكيف إذا كان قادراً عليه؟ وكيف إذا صدر منه أحياناً وإن لم يصدر منه دائماً.

وأما الرجوع للواحد - أي تشريع الرجوع لأحدهم المعين خاصة - فمع قطع النظر عن خروجه عن الفرض، فقد سبق رده في الصورة الأولى، إضافة إلى ما ذكرناه مفصلاً حول هذا الشق في مواضع أخرى من الكتاب.

وأما التساقط والرجوع إلى الأصل فليس بصحيح أيضاً، وقد فصلنا الحديث مبنى وبناءً في موضع آخر من الكتاب، ونزيد هنا: أنه أيضاً لا يحل المشكل، إذ الأصل أيضاً مختلف فيه، فقد يراهالبعض التخيير (وينقسم هؤلاء عملياً إلى من يأخذ بهذا الطرف ومن يأخذ بذاك الطرف) وآخر البراءة، وثالث الاشتغال.

وأما العمل برأي الجميع، فواضح عدم إمكانه.

وأما الإجماع التام والاتفاق بين جميع الفقهاء على مختلف الشؤون والأمور العامة، فقليل تحققه بل نادر، ولو حملت الرواية عليه بأن يجب الرجوع إليهم إن اتفقوا، أي بأن تكون مرجعيتهم مقيدة بالإجماع، لزم تخصيص الأكثر، فلم يبق إلاّ الرجوع للأكثرية، وقد فصلنا في موضع آخر من الكتاب كونها موجبة للأقربية إلى الواقع، وموافقتها للعقل والنقل، ونزيد هنا: أن هذا يؤيد بقوله (عليه السلام): (يد الله مع الجماعة)(1)، حيث إن المراد ليس الكل لعدم التحقق إلا نادراً جداً بل الأكثر، فتأمل.

وأما الإيراد على هذه الرواية وأشباهها بأن المراد بالجماعة جماعة الحق، وكذا سائر الإيرادات، فقد تطرقنا لها في موضع آخر من الكتاب فليراجع.

وإجمال بعض القول: إن جماعة الفقهاء وأكثريتهم كجماعة الشيعة

ص: 391


1- وسائر الروايات التي تفيد هذا المضمون/ راجع نهج البلاغة: الخطبة 127.

وأكثريتهم، وكجماعة أهل الخبرة فيما هم خبراء فيه، من مصاديق هذا الحديث عرفاً(1) ولفظاً، لمكان الإطلاق لكونه مفرداً محلى بأل، إضافة إلى مؤيدية الاعتبار له، إضافة إلى مطابقته مضموناً لرواية (خذ بما اشتهر بين أصحابك) (2) وغيرها، إلى غير ذلك.

وأما الرجوع للأقلية فترجيح للمرجوح، وقد فصَّل ذلك أيضاً في فصل آخر.

و: (فإنهم)

تعليل لوجوب الرجوع، والظاهر من هذا عمومية الحجية لقولهم ولفعلهم وتقريرهم فيما دلاّ عليه عرفاً، كما لو دلاّ على نظره وكونهما استناداً إليه(3)، وإن قيل بعدم حجية الأخيرين من غير المعصوم، بل وصفاتهم الاختيارية أيضاً كما سنبينه(4)، وذلك لأن (حذف المتعلق مفيد للعموم) إذ لم تخصص الحجية ب(فإن قولهم أو فإن تقريرهم أو عملهم)، كما أن العرف لا يستفيد تخصيصها بالقول أو العمل أو غيرهما خاصة مع ملاحظة ما ذكرناه في كلمة (فيها)، إذ قد يكون الرجوع في أمر الحادثة والشأن اللائق بها مستلزماً للقول، وقد يكون للتصرف والعمل، وقد يكون للتقرير.

وبعبارة أخرى: إن المعنى الحقيقي حيث تعذر، إذ لا معنى لإرادة كون

ص: 392


1- فهم جماعة الحق وهم الذين يد الله معهم.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص303 ب9 ح21413.
3- فيستدل بفعله أو تقريره على عدم اعتبار ما لا نعلم حرمته أو جوازه أو وجوبه مثلاً حراماً، إلا إذا احتمل عقلائياً كونه لعنوان ثانوي كالاضطرار.
4- أي يحتج على سائر الأنام باعتبار تحليهم بصفات خاصة إذا كانت اختيارية، على جوازها أو رجحانها.

ذوات الفقهاء حجة المعصومين (عليهم السلام) على الناس، والذات هي الروح والنفس والبدن ولا معنى لحجيتها، وجب الحمل على أقرب المجازات، وهو كل ما عدا الذات مما يمكن اعتباره حجة، قولاً كان أو فعلاً أو تقريراً.

هذا، ويمكن التقدير بنحوين:

الأول: (فإن) قول (هم) وفعل (هم) وتقرير (هم) حجتي عليكم، وبعبارة أخرى: (فإن) قول وفعل وتقرير (هم حجتي عليكم).

الثاني: (فإنهم حجتي قولاً وفعلاً وتقريراً ونظراً وفصلاً للخصومة ومطالبةً بالخمس مثلاً وصفةً ... إلخ)، وقد يوجه بالوصف بحال المتعلق بأن يقال: فإن ذاتهم حجة باعتبار القول والعمل والتقرير، وباعتبار الصفات أيضاً.

ز: (حجتي)
اشارة

قد يقال: إن الحجية في الأخبار والرأي لا فيما عداهما، فتخرج الأمور العامة عن دائرة هذا الحديث.

ص: 393

مناقشات مع الأصفهاني والإيرواني :

قال الأصفهاني: (مضافاً إلى أن مفاد الحجية صحة الاحتجاج بالشخص أو بالشيء في مقام المؤاخذة على مخالفة ما قامت عليه الحجة(1)، فيناسب قيام الدليل على حكم شرعي سواء كان إخبار الراوي أو رأي المجتهد ونظره، وأما مطلق النظر كنظر الفقيه في بيع مال اليتيم فلا معنى لاتصافه بالحجية، فإن البيع الواقع عن مصلحة بنظره صحيح نافذ، لا أنه حجة له أو لغيره على أحد، فما في طي كلامه (قدس سره) من أنه يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر وإن كان صحيحاً في الجملة، إلا أنه لا دخل له بكل رأي ونظر، كما لا يخفى على أهل النظر فتبصّر).(2)

وقال الإيرواني: (الحجية تكون في تبليغ أمر فيختص مدلولها في المقام بتبليغ الأحكام الشرعية، ولا يشمل التصرفات الشخصية في الأموال والنفوس، أو تصدي المصالح العامة من الحكومة وفصل الخصومة أو إجراء الحدود، فإن كل ذلك أجنبي عن مفهوم الحجية التي هي من الاحتجاج، فإن الله تعالى يحتج على العباد ببعث الأنبياء، والأنبياء بنصب الخلفاء، والخلفاء باستنابة الفقهاء في تبليغ الأوامر والنواهي، والتصرفات ليس من محل الاحتجاج، فالتوقيع الشريف أجنبي عما هو المدعى، ومنه يظهر عدم صلاحيته للاستدلال به على نيابة الفقيه في الأمور المزبورة ويختص مدلوله بالفتوى).(3)

ص: 394


1- أو ما اقتضته الحجة، والمراد واحد، فتأمل.
2- حاشيته على المكاسب: ص214.
3- حاشية المكاسب للإيرواني (قدس سره): ص156.

وقبل الشروع في بيان ما يرد عليهما سنذكر مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تدل أو تؤيد كون الحجية أعم مما ذكراه (قدس سرهما).قال أمير المؤمنين مولى الموحدين (عليه السلام): (فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ)(1).

وقال (عليه السلام): (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ)(2).

وقال (عليه السلام): (وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ... وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهِمْ)(3).

وقال (عليه السلام): (وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)(4).

وقال (عليه السلام): (وَ اعْذِرُوا مَنْ لا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا)(5).

وقال (عليه السلام): (وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَ دَلالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ)(6).

وقال (عليه السلام): (وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا

ص: 395


1- نهج البلاغة: الخطبة 64.
2- نهج البلاغة: الخطبة 3 (الشقشقية).
3- نهج البلاغة: الخطبة 22.
4- نهج البلاغة: الخطبة 86.
5- نهج البلاغة: الخطبة 87.
6- نهج البلاغة: الخطبة 91 (الأشباح).

يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ)(1).وقال (عليه السلام): (بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ)(2).

وقال (عليه السلام): (وَ إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لا ضِيَاءُ حُجَّةٍ)(3).

وقال (عليه السلام): (فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ)(4).

وقال (عليه السلام): (وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ)(5).

وقال (عليه السلام): (ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ... وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ... ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ)(6).

وقال (عليه السلام): (وَقَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الآخَرِ)(7).

ص: 396


1- نهج البلاغة: الخطبة 110.
2- نهج البلاغة: الخطبة 144 (مبعث الرسل).
3- نهج البلاغة: الخطبة 176.
4- نهج البلاغة: الخطبة 183.
5- نهج البلاغة: الكتاب 14.
6- نهج البلاغة: الكتاب 53 (عهده لمالك الأشتر).
7- نهج البلاغة: الكتاب 55.

وقال (عليه السلام): (وَالْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ)(1).

وقال (عليه السلام): (أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَظُهُورِ الْفَلَجِ)(2).

وقال (عليه السلام): (يا أَيُّها النّاسُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلهِ سُبْحانَهُ حُجَّةٌ فيأَرْضِهِ أَوْكَدُ مِنْ نَبِيّنا مُحَمَّدٍ صلوات الله عليه وآله)(3).

وقال الصادق (عليه السلام): (مَا مِنْ عَبْدٍ إلاّ وَ لِلَّهِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، إِمَّا فِي ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، وَإِمَّا فِي نِعْمَةٍ قَصَّرَ عَنْ شُكْرِهَا)(4).

وقال (عليه السلام): (لِكَيْلا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّهِ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ)(5).

وقال (عليه السلام): (لَمْ تَخْلُو الأَرْضُ مُنْذُ كَانَتْ مِنْ حُجَّةٍ عَالِمٍ يُحْيِي فِيهَا مَا يُمِيتُونَ مِنَ الْحَقِّ)(6).

وقال علي (عليه السلام): (اللَّهُمَّ إِنَّهُ لابُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ... لِئَلَّا يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أُولَئِكَ ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ أَوْ مُكْتَتِمٍ خَائِفٍ يَتَرَقَّبُ إِنْ غَابَ عَنِ النَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ فَلَمْ يَغْلِبْ عَنْهُمْ مَبْثُوثُ عِلْمِهِمْ وَ آدَابُهُمْ)(7).

وقال الإمام الباقر والصادق والرضا (عليهم الصلاة والسلام): (إِنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ إِلاّ بِإِمَامٍ حَيٍّ يَعْرِفُونَهُ).(8)

ص: 397


1- نهج البلاغة: قصار الحكم 3.
2- نهج البلاغة: الخطبة 185.
3- غرر الحكم: ص110 ف3 في التأسي ح1961.
4- تنبيه الخواطر: ص403.
5- الكافي: ج1 ص168.
6- بحار الأنوار: ج23 ص37 عن كمال الدين.
7- بحار الأنوار: ج23 ص54، عن الغيبة للنعماني.
8- بحار الأنوار: ج23 ص30، والاختصاص: ص2.
ويرد على الإيرواني:

في قوله: (الحجية تكون في تبليغ أمر)، إضافة إلى ما سنورده على الأصفهاني: أن (الحجية) أعم من التبليغ(1)، إذ يتصف بهابالحمل الشائع الصناعي (النظر) أيضاً فيمن اعتبر الشارع نظره نافذاً، كالنظر في أموال القصّر والغيّب والأيتام والنظر في أموال الابن والبنت، لكون الحجية من الاحتجاج كما ذكره، وكما يحتج الله على العباد ببعث الأنبياء(2) يحتج بنظر من له النظر كالإمام والأب على مخالفه وممانعه، فلو أدى نظر الإمام (عليه السلام) إلى أصلحية زيد بن عمروٍ لقيادة الجيش أو لحكومة البصرة مثلاً كان نظره حجة وصح الاحتجاج على من خالف ذلك وولى عمرواً مثلاً، أو من خالفه بأن لم ينقد له.

كما يتصف بها (التصرف)، وهو عبارة أخرى عن الفعل، ولذا اشتهر أن قول المعصوم وفعله وتقريره حجة، ولذا أيضاً يحتج المولى جل وعلا بشرب شخص الخمر عليه(3)، فشربه حجة عليه، كما يحتج بصلاة وصوم وجهاد آخر على من لم يصلّ ولم يصم ولم يجاهد.

كما يتصف بها (الحق) أيضاً، إذ يصح الاحتجاج بكون الحق لعلي (عليه السلام) في الخلافة على غاصبها، وبحق زيد في الأرض التي سبق إليها، وقام بتحجيرها على من أراد الحيلولة دون تصرفه فيها أو حال دون ذلك.

كما تتصف بها (الولاية والقيمومة) أيضاً.

ص: 398


1- مما يوضح ذلك الحديث الأول والخامس والثالث، إذ المراد بحجتهم قتل عثمان، والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والسادس عشر والسابع عشر، والظاهر أن الإطلاق بلا عناية.
2- مع أن بعث الأنبياء بما هو هو لا يحتج به، بل بالانذار والتبشير المترتب عليه.
3- بأنه لا يصلح لإدارة شركته مثلاً.

بل قد يقال: بأنه يتصف بها (ذات الشيء ووجوده) أيضاً، و(أشهد أن علياً حجة الله) يعني أن ذاته وقوله وفعله وتقريره وحقه وولايته و... يحتج بها الله كلها على العباد(1).

هذا بعض الكلام، وسنذكر بعض التفصيل في ذيل الإشكال على الكمباني (قدس سره) الآتي.

ويرد على الأصفهاني:

ويرد على الأصفهاني:(2)

أولاً: أن (الحجة) أعم من ذلك، بل قد يراد بها الكاشف، أو لازم الاتباع، أو الأوسط في القياس، أو غير ذلك(3)، ونظر الفقيه لازم الاتباع، كما يقع أوسط في القياس، كما أنه كاشف نوعي عن المصلحة أو المفسدة الثبوتية في المتعلق وعن الحكم الشرعي فيه، فتأمل.

وذلك لأنه وإن صح أن للحجة معاني متعددة، إلا أن قوله (عليه السلام): (حجتي عليكم) ظاهر في ما يحتج به علينا، لا الكاشف أو لازم الاتباع، لقرينة

ص: 399


1- إضافة إلى أن مراده إن كان أن الحجية هي تبليغ أمر فليس بعث الأنبياء ونصب الخلفاء واستنابة الفقهاء حجة، بل مستلزم للحجة، إذ الحجة عنده تبليغ الأوامر والنواهي إلا أن يريد أن الحجة هو قول النبي (صلى الله عليه وآله) بنصب الخليفة مثلاً، وفيه: أنه خلاف ظاهر كلامه أولاً، وغير صحيح ثانياً، لكون نفس النصب مما يتحج به الله على العباد، فالقول حجة على النصب والنصب حجة على العبد، فتأمل. وإن كان مراده أن الحجية أو الحجة ما يستلزم تبليغ أمر، ففيه: أولاً: إن التبليغ حجة أيضاً. وثانياً: إن تصدي الفقيه مستلزم للتبليغ، فتأمل.
2- لا يخفى أن تطرقنا في طي كلماتنا هنا إلى إشكالات بنائية ومبنائية عليه، فليدقق.
3- فصّل المؤلف الكلام عن معاني الحجية في كتاب (الحجة.. معانيها ومصاديقها) حيث ذكر لها معاني عشرة، فراجع.

(عليكم).

ثانياً: إن كون مفاد الحجية هو ذلك لا يقتضي انحصارها في قيام الدليل على حكم شرعي، بل تشمل مطلق النظر حتى نظر الفقيه في بيع مال اليتيم(1)، لانطباق مفادها عليه، إذ يصح الاحتجاج بنظر الفقيه (الذي تشمله كلمة الشيء) في قوله: (الاحتجاج بالشخص أو الشيء) في مقام المؤاخذة على مخالفة الآخرين مقتضى هذا النظر وما أدى إليه وهو البيع في المثال، فلو أدى نظر الفقيه إلى بيع مال اليتيم الفلاني لم يحق لأحد مخالفته وممانعته، ولو خالفه ومانعه صح احتجاج المولى بنظر الفقيه على مخالفة زيد له مثلاً لبيعه(2)،وجازت له عقوبته إن حال دون ذلك، وكان متجرياً إن توهم (أي زيد) أن عمله الكذائي حائل.

ولعل منشأ الاشتباه الخلط بين المقتضي والمقتضى، ومورد البحث هو أن الأول موصوف بالحجية لا الثاني، وبذلك يظهر ما في قوله: (وأما مطلق النظر كنظر الفقيه في بيع مال اليتيم فلا معنى لاتصافه بالحجية، فإن البيع الواقع عن مصلحة بنظره صحيح نافذ لا أنه حجة له أو لغيره على أحد) إذ الحجة هو النظر لا البيع، والمدعى هو كون نظر الفقيه حجة(3)، كما أن نظر مسلّم الولاية والقيمومة كالأب حجة.

ص: 400


1- وحتى نظره بأن الأصلح لتولّي هذا المحافظة زيد ولتلك عمرو... وهكذا.
2- يتضح هذا بملاحظة من له النظر في أمر (كالقيم والمتولي وشبههما) فلو أراد الأب بيع مال ابنه أو تزويجه بالشروط المقررة، لم يجز لأحد مخالفته ومنعه، لكونه منعاً عما هو حقه، وصح احتجاج المولى على هذا المخالف المانع بأن حق النظر للأب فلماذا خالفته ومانعته، ولماذا حلت دون البيع والزواج مثلاً، وقد أدى إليه نظر الأب؟
3- إذ قد علل (قدس سره) عدم اتصاف نظر الفقيه بالحجية بأن البيع الواقع بنظره لا يوصف بها، والبيع مسبب والنظر سبب، وليس عدم اتصاف الأول بشيء مسبباً لعدم اتصاف الثاني به، كما يتصف الخبر بالخبرية ولا يتصف المخبر عنه بها، وكما يتصف الدال على وجوب الصلاة مثلاً بالدليلية ولا يتصف وجوبها بها، وهذا واضح.

وعليه: ف(إنهم حجتي عليكم) يشمل القول والنظر وغيرهما، أي فإن قولهم ونظرهم و... حجتي عليكم، كما سبق بيان التعميم.

وبذلك ظهر أن الحجية أعم(1)، إذ يحتج برأي الفقيه بأصلحية هذا من ذاك في مورد حجيته فيه وبناءً عليه، (كأصلحية هذا لإدارة هذا الوقف أو هذا اليتيم، أو للتصدي لمنصب القضاء وذاك لمنصب الوزارة والآخر لقيادة الجيش وهكذا) على مخالفه وممانعه، وكذا يحتج بولايته على مخالف مقتضاها(2)، إذ يحتج بأن له إقامة الحدودمثلاً على من يحول دون ذلك أو من يريد هو إقامتها دون إذنه، وبمطالبته الخمس على مانع الإعطاء، وبفصله للخصومة على من لم يلتزم به من الطرفين، كما لو قضى بالدار لهذا فلم يسلمها ذاك له، فإنه محاسَب ومخالِف لمقتضى الحجة.

بل نقول: إنه يحتج بفعله - كبيعه مال اليتيم - على من يحول دون ترتيب الآثار، وبهذا ظهر أن البيع أيضاً يتصف بالحجية، حسب تعريف الكمباني (قدس سره) إذ يصح الاحتجاج ببيع من له البيع في مقام المؤاخذة على مخالفة ترتيب الآثار الذي اقتضته الحجية، إلا أن يقال: بأنه من الوصف بحال المتعلق فتأمل، وكذا كافة الأحكام الوضعية فإنها تتصف بالحجية أيضاً، إذ يحتج بملكه على من تصرف فيه بلا مسوغ، وهكذا.

بل نقول: إنه قد يحتج بذات الشخص أو الشيء(3)، فنفس وجود الإمام

ص: 401


1- يوضح الأعمية الحديث الثالث عشر والسادس عشر، إذ حجيتهما (عليهما السلام) في كل تلك الجهات، ويوضحه أكثر جعله حجة على الإمام (عليه السلام)، وكذا الحديث السادس والثامن والتاسع عشر وكذا الأحاديث الدالة على أن علياً (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) حجج الله، وسيأتي.
2- يوضحه أحاديث عديدة، منها الثالث عشر والسادس عشر والواحد والعشرون وغيرها، فتأمل.
3- يوضحه الحديث الثالث عشر والسادس عشر، كما يرشد إليه الحديث العشرون لمكان ◄ ►التعليل، إذ إن نفس وجود الحجة (عليه السلام) حافظ للأولياء عن التفرق، كما أن قوله وفعله أيضاً حافظان، ويتضح هذا بمراجعة تاريخ العظما والقادة، ومن أظهر الأمثلة له: وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاة الإمام الصادق (عليه السلام) حيث تكونت فرقة الإسماعيلية وغيرها، ووفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث تكونت الواقفية، وغيبة الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) وهكذا، وكذا الحديث الثاني والسادس والعاشر.

(عليه السلام) حجة وإن لم يتصرف ولم يتكلم، إذ نفس وجوده يحتج به على الجائر الحاكم، إذ كيف يتولى المنصب مع وجود من له المنصب؟ كما يحتج به على الأُمة، إذ كيف لم تسع الأمة لإعطائه حقه؟ وكيف ولّت من ليس أهلاً؟ إلاّ أن يقال: بإرجاع ما سبق إلى الحكم التكليفي أو الوضعي، فتأمل.

وببعض ما ذكرناه يظهر أن الأصح تبديل الحكم بالجعل، بأن يقال: (فيناسب قيام الدليل على جعل شرعي)(1)، ليشمل جعل الولاية والقيمومة وشبهها، إلا أن يعد جعلها حكماً شرعياً، فتأمل.

هذا، إضافة إلى أن قوله: (فيناسب قيام الدليل على حكم شرعي)(2) يستلزم خروج إقامة رواية الحديث دليلاً على أصل من أصول الدين، وعلى ما يتعلق بها، مع وضوح شمول (الحجة) لما دل عليها(3)، كما يصح الاحتجاج بالعقل في مقام المؤاخذة(4) على مخالفة ما قامت عليه الحجة (وهي العقل) كوجود الله وكوجوب شكر المنعم وقبح الظلم، إلا أن يريد من (فيناسب...) ذلك، لكنه خلاف الظاهر.

ص: 402


1- وإن كان هذا أخص أيضاً من معناها.
2- بل وما قبله بناءً على عدم تعميمه المخالفة للجوانحية.
3- يوضحه الحديث الثامن والعاشر والخامس عشر والسادس عشر والثامن عشر والتاسع عشر وغيرها، فتأمل.
4- لا يخفى لزوم تعميم المخالفة للمخالفة الجوانحية أيضاً، إذ لا شك في صحة احتجاج المولى جل وعلا على عبده بمخالفته مقتضى عقله وعدم تسليمه وجود إله عادل واحد... إلخ، ولو كان مراده الأخص ورد عليه هذا الإيراد.

وقد يستشكل على تخصيصه مفاد الحجية بصحة الاحتجاج في مقام المؤاخذة على المخالفة، بأن (الحجة) أعم من ذلك، إذ تشمل الدليل ولو لم يكن في ذلك المقام، ولذا يصح إطلاق (الحجة) بلا عناية على دليل إقامه شخص على وحدانية الله أو عدالته أو تجرده أو أزليته وأبديته وإن لم يكن في مقام المؤاخذة على مخالفة ما قامت عليه الحجة؛ فإن تجرده تعالى مثلاً مما لا يرتبط بالمؤاخذة، كما أن الشخص قد يكون طالباً للفهم فقط غافلاً عن أي مقام آخر، كما أن الشخص قد يكون مؤمناً مذعناً ويريد الحصول على أدلة جديدة، أو يريد الاجتهاد في أصول الدين وإن كان مقلداً قاطعاً، فإنها حجة ودليل وإن لم يكن الملقي والسامع في مقام المؤاخذة على المخالفة، وكذلك يصح إطلاق (الحجة) على أن المعاد جسماني أو روحاني، أو على تجسم الأعمال وعدمه، ولا يجدي تعميم المخالفة للنظرية لدفع الصدق حتى مع عدمها، كما فيما مضى، بل وكذا تطلق الحجة على مطلق أي دليل على مطلب طبي أو فيزيائي أو هندسي، ويكثر في الاستعمالات بلا عناية وفي كل العلوم: لي عليك حجة قوية أو حجتك واهية، مما لا ربط له بمقام المؤاخذة، أو لم يخطر ببال المحتج ذلك أبداً.

ومما يدل على ذلك أيضاً: أن الحجة تسند إلى العبد أيضاً كماتسند إلى المولى، وهذا معروف في الأصول، إذ يحتج العبد على مولاه بالطرق التي نصبها وإن خالفت الواقع، ومن الواضح كون ذلك في مقام براءة الذمة وتبرأتها لا في مقام المؤاخذة على مخالفة ما قامت عليه الحجة، وإن أمكن بوجهٍ إرجاعه إليه، لكنه غير عرفي، كما لا ينفي صحة ما هو مصبّه.

ومما يدل على أعمية (الحجة) من الحكم والولاية والنفوذ وغيرها أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لو قال وهو يريد الخروج من المدينة مثلاً: (ارجعوا في الحوادث الواقعة إلى علي (عليه السلام) فإني قد جعلته حجة عليكم)، ألا يدل ذلك عرفاً على كونه بمنزلته، وأن له (عليه السلام) ما كان له (صلى الله عليه وآله) مما

ص: 403

يرتبط بالحوادث وحلها وفصلها، وأنه نصب من قبله لتولي كافة شؤون الحوادث الواقعة، لا مجرد الاحتجاج في مقام المؤاخذة؟ وهذا إضافة إلى كونه المتفاهم العرفي من كلمة (حجة) تدل عليه القرينة المقامية، وهي موجودة فيما نحن فيه إذ أن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أرجع في غيبته الحوادث إلى الرواة، وكان السؤال حينها، والظاهر كونه سؤالاً عن المرجع فيها حين غيابه.

هذا، ومما يوضح ما ذكرنا الحديث السادس وكذا الثامن، إذ حجيتهم له على خلقه مطلقة، تشمل ما ذكرناه في المتن من مطلق ما يتعلق بأصول الدين وفروعه، وكذا العاشر إذ حجية القرآن ليست مختصة بآيات الأحكام بل كله حجة: أحكاماً وأصولاً وقصصاً وآداباً، فتأمل. وكذا الرابع عشر والسادس عشر، وكذا العشرون، لمكان التعليل وللذيل - وذيل هذا الحديث مؤيد لما ذكرناه في الحديث العاشر - وكذا الواحد والعشرون، إذ الاحتجاج بالشخص أو الشيء في مقام المؤاخذة لا يتوقف على كون الإمام حياً ولا على معرفته، بل يكفي في صحتها صرف التبليغ، وما ذلك إلا لجهة القيمومة والإشراف والتوجيه وسدّ الثغور قدر المستطاع والولاية لا أقل من الأعمية للكل، وهذا دليل أيضاً على أعمية (الحجية) من الأحكام الشرعية كما سبق، فتأمل.

ص: 404

ح: (حجتي عليكم)

يمكن الاستدلال بشبه الجملة هذه على حجية رأي أكثرية الفقهاء ووجوب اتباعها، بمثل ما استدللنا به ذيل قطعة (رواة حديثنا) مع أدنى تغيير، بل قد يكون الاستدلال بهذه أوضح بملاحظة ما ذكرناه في معنى (الحجية).

ونقول هنا: إن المستفاد عرفاً من جعل المنصب لعدة أشخاص(1)، إن سلمنا أنها تدل على جعل المنصب، هو لزوم العمل بالأكثرية إن تعذر الإجماع، خاصة فيما كانت موارد الإجماع فيه قليلة بل نادرة مما يستلزم تقييده بالإجماع خروج الأكثر، بل إن ذلك هو المستفاد عرفاً حتى وإن لم يكن مفاد الرواية جعل المنصب، بل مجرد إيجاب الرجوع إليهم كحكم تكليفي، وقد أجبنا عن إشكال عدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين في آخر الكتاب.

هذا كله إضافة إلى مرجحية (العدد)، كما فصلناها في موضع آخر، بل يكفي القول بأن للوجود مراتب، وكون متعلق الأوامر هو صرف الوجود الأقوى صدقاً على الأكثر منه على الأقل من أفراد المتعلق أو المأمور به.

وأما نفوذ حكم السابق منهم، فقد تحدثنا عن إبطاله في موضع آخر فراجع، ونزيد هنا: أنه مخالف لمقتضى (وأمرهم شورى بينهم)(2) ونظائرها، كما أن دليل دفع الضرر البالغ المحتمل الذي فصلناه في موضع آخر، ينفيه.

ونضيف: أن ذلك أيضاً مستلزم للهرج والمرج واختلال النظام، إذ نفوذ

ص: 405


1- مع عدم إمكان نفوذ قول وتصرف كل منهم، لاستلزامه الضرر واختلال النظام وغيرهما، كما فصلناه ذيل (رواة أحاديثنا)، وفي مكان آخر من هذا الكتاب فليراجع، بل قد يمكن الاستغناء عن هذه النقطة في الاستدلال.
2- سورة الشورى: 38.

حكم عدة أشخاص في موارد متعددة، كلٌ في موردٍ كان هو السابق فيه، مع ما بين الموارد من التأثير والتأثر، مستلزم لذلك.

ومما يوضحه:

أن عدم وجود سياسة عامة للدولة يؤدي إلى أكبر الفساد والخلل والضرر، فمثلاً لو رأى أحدهم الجهاد مع دولة، ثم حدثت مشاكل وتوتر مع دولة أخرى، فاتخذ آخر قراره سابقاً الآخرين بالجهاد معها أيضاً، واتخذ ثالث قراره بحظر استيراد السلاح مثلاً من الخارج قبل أن يبت الآخرون فيه، وسبق رابع إلى اتخاذ قرار بتصفية المعارضة الداخلية أو بالتسامح معها - مما يترك آثاره السلبية والإيجابية على القرار الأول أو الثاني أو الثالث فرضاً - قبل أن يتخذ الآخرون في ذلك قراراً، وسارع خامس لحكم قراره بإعطاء الحكم الذاتي لأقلية معينة أو عدمه، مما يؤثر سلباً وإيجاباً على الجهاد مع تلك الدولة أو على سائر القرارات، وهكذا.

أو قرر أحدهم إقامة علاقات تجارية مع الدول الفلانية، وقرر الآخر إمداد الدولة المحاربة لتلك الدولة بالسلاح مما يعقّد أمر القرار الأول، أو قرر أحدهم زيادة إنتاج النفط والآخر غلق مضيق معين لغرض آخر مستلزم ضمناً عدم القدرة على زيادة إنتاجه.

إلا أن يقال: إن حكم السابق نافذ بجميع لوازمه وملازماته.

وفيه: إنه مستلزم لانحصار الولاية ونفوذ التصرفات به تقريباً، إضافة إلى أن نفوذ حكم السابق في الشؤون العامة قد لا يعد عقلائياً.

وأما في المرافعات فليس نفوذ حكم السابق مستلزماً لتلك المحاذير، بل نفوذ سائر الأحكام بعده أيضاً هو المستلزم لتلك المحاذير، ونفوذ حكم السابق وعدم محل لحكم اللاحق هو ما اقتضته روايات باب الترافع، مثل صحيحة أبي خديجة: (...وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ قَضَايَانَا فَاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ فَإِنِّي قَدْ

ص: 406

جَعَلْتُهُ قَاضِياً فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ)(1).

وصحيحته الأخرى قال: (َ بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِلَى أَصْحَابِنَا فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: إِيَّاكُمْ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَكُمْ خُصُومَةٌ أَوْ تَدَارَى فِي شَيْ ءٍ مِنَ الأَخْذِ وَالْعَطَاءِ أَنْ تَحَاكَمُوا إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ الْفُسَّاقِ،اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ رَجُلًا قَدْ عَرَفَ حَلَالَنَا وَحَرَامَنَا، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ قَاضِياً...)(2).

ومقبولة ابن حنظلة: (قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَان ... قَالَ: يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً...) (3).

وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله إن شاء الله تعالى.

ص: 407


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص2 باب من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ح3216.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص139 ب11 ح33421.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
ط: (وأنا حجة الله)
اشارة

القياس قياس المساواة، وينتج: (إنهم حجج الله)، إذ (حجة الحجة حجة) كما أن (مساوِ المساوي مساوٍ).

ولا يخفى ما في هذا القياس من قوة التأكيد وشدة التنزيل، ثم لا يخفى أن الإنتاج حسب قواعد الشكل الأول، إن أدرجناه فيه، سيكون مع تضمين مقدمة مطوية: (إنهم حجة الله).

ولكن لا يتم هذا على نسخة: (وأنا حجة الله عليهم)(1).

ثم إنه يبقى أنه لو فرضنا تمامية دلالة التوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) (2)، على مرجعية الفقهاء في الأمور العامة وكافة الحوادث الواقعة، فيبقى مبحثان:

ص: 408


1- كمال الدين: ج2 ص483 ب45 ح4.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.

هل للفقيه قهر الناس لو أعرضوا عن الفقهاء؟

الأول: إنه لو لم يرجع الناس في (الحوادث الواقعة) والشؤون العامة إلى الفقهاء، فهل للفقهاء - لو أمكنهم - قسر الناس على ذلك، والحكم عليهم رغماً عنهم؟

قد يقال: بعدم جواز قسرهم؛ فإنه خلاف الأصل، بل خلاف أدلة (سلطنة الناس على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم)، ولو كان جائزاً لورد ولو في رواية واحدة التصريح أو حتى التلميح بذلك، ومع أنه أمر في غاية الأهمية فكيف تهمله الروايات لو كان جائزاً صحيحاً؟

نعم غاية الأمر: عصيان الناس بذلك، لكنه أمر، وجواز جبرهم أمر آخر.

وأما ادعاء الدلالة الالتزامية لروايات (العلماء حكام على الناس) (1) وشبهها على جواز جبرهم على قبول حكومتهم، فغير بيّنة ولا مبينة، بل ليس ذلك لازماً بيّناً بالمعنى الأخص ولا بالمعنى الأعم، ولا لازماً غير بيّن.

إضافة إلى أنه لم يرد في التواريخ ولا الروايات أن الرسول والأمير (عليهما السلام) جبرا الناس على القبول بحكومتهما، بل الأمر بالعكس تماماً، إذ كان الناس هم الذين ضغطوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) أشدّ الضغط ليقبل الحكومة الظاهرية، وكما قال (عليه السلام): (فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسنَانِ وَشُقَّ عِطْفَاي...)(2)، كما تشهد التواريخ بأن أهل المدينة هم الذين طلبوا بل ألحوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقدوم إليهم والحكم عليهم وبايعوه على

ص: 409


1- غرر الحكم: ص47 فضل العلماء ح205.
2- نهج البلاغة: الخطبة 3، مبايعة علي (عليه السلام).

ذلك.

ويؤكد ذلك أن الحدود والتعزيرات وردت على أمور خاصة (كشرب الخمر والزنا) ولم يرد في آية أو رواية ولا ذكَر فقيه أن عدم القبول بحكومة الفقهاء مستوجب للحد أو التعزير!إضافة إلى ما في جبر الناس على القبول بالحكومة من المفاسد التي لا تعد ولا تحصى.

مضافاً إلى أن سيرة المتشرعة المتصلة بزمن المعصومين (عليهم السلام) كانت على العدم(1)، فتأمل(2).

هذا كله مع قطع النظر عما التزمه كثير من الفقهاء بسقوط حتى الحدود في زمن الغيبة، فكيف بمثل أمر الحكومة، ثم كيف بمثل جبر الناس على قبولها؟

رضا الناس بالفقيه لا يلغي وجوب المشورة والشورى

الثاني: أن الناس لو رضوا بالفقهاء حكاماً ورجعوا إليهم في (الحوادث الواقعة)، وجب على الفقهاء استشارتهم، أو ذوي الحجى وأهل الخبرة منهم، والعمل برأي أكثرية الفقهاء أو المجتهدين أو عدول المؤمنين أو مطلق المؤمنين أو مطلق الناس، على ما بحثناه في فصل آخر.

وذلك جمعاً بين أدلة الإرجاع للفقهاء وأدلة الاستشارة وأدلة الشورى، التي فصلنا الكلام عنها في فصول أخرى.

ويكون حاصل الأدلة كالآتي:

ص: 410


1- أي عدم الجبر.
2- إذ قد يقال بكونها غالباً من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فتأمل.

فروايات الإرجاع تفيد وجوب الرجوع لرواة الأحاديث الفقهاء، وآية الاستشارة والشورى تفيد فيما تفيد أن على رواة الحديث الفقهاء الاستشارة والعمل بالشورى حين إذ رجع الناس إليهم، فهي - أي روايات الشورى - حاكمة على روايات الإرجاع، إما لكونها كالمفسر لها ببيان نحو حكومتهم إذا رجع الناس إليهم، وإما لكونها تعرضت لما لم تتعرض له أدلة الإرجاع من حيثياته، على حسب الضابط الآخر للحكومة(1)، فتأمل.

كما وجب على الفقهاء تحري الأصلح لهم والأرفق بهم والأسهل عليهم، فيما إذا وجدت بدائل وخيارات عديدة.

بل عليهم أيضاً ترجيح الأرفق بهم إذا أراده الناس، وإن كان في القسيم الآخر المصلحة الأكثر لهم؛ فإنه مقتضى (الناس مسلطون) وأدلة الشورى.

نعم إذا كان في الأرفق بهم فساد أعظم، دار الأمر بين المتزاحمين، فيرجع إلى قواعد باب التزاحم، وترجيح الأهم على المهم.

ص: 411


1- فصّل المؤلف الكلام عن ضابط الحكومة في كتاب (الحكومة والورود) من مباحث التعارض، وهو موجود على موقع مؤسسة التقى الثقافية أيضاً.

ص: 412

الفصل الثاني: في الاستدلال بمجموعة من الروايات الشريفة

اشارة

الواردة حول الاستشارة واتباع المشير

ص: 413

ص: 414

الروايات الآمرة بالاستشارة وباتباع ذوي الرأي
اشارة

ويمكن الاستدلال بمجموعة مستفيضة بل متواترة من الروايات الشريفة الآمرة بالاستشارة، أو المرشدة والمحرّضة عليها، أو الناهية عن مخالفة مقتضاها، أو المبينة لعظيم فوائدها وجسيم أخطار إهمالها، أو الآمرة صريحاً باتباع ذوي الرأي، وسنقتصر هنا على ذكر أربع عشرة منها:

1: عن أبي عبد الله الجاموراني(1)، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن الصندل، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأخر إلاّ بخير، وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا).(2)

2: وعنه، عن الحسن بن علي، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب). (3)

3: وعنه، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن الحسين بن علي، عن المعلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أما إنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور

ص: 415


1- وهو محمد بن أحمد الجاموراني.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595.

وأقربها إلى الله). (1)

4: عن علي بن أحمد بن موسى، عن محمد بن هارون، عن عبد الله بن موسى، عن عبد العظيم الحسني، عن علي بن محمد الهادي، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (خاطر بنفسه من استغنى برأيه). (2)

5: أحمد بن محمد البرقي، في (المحاسن)، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قيل: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم). (3)

6: وعن عدة من أصحابنا، عن علي بن أسباط، عن عبد الملك بن سلمة، عن السري بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: (لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير). (4)

7: وعن أبيه، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر). (5)

8: وعن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لن يهلك امرؤ عن مشورة). (6)

9: وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك، ومن

ص: 416


1- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15589.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15583.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15584.
6- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15585.

شاور الرجال شاركها في عقولها).(1)

10: وعنه (عليه السلام): (ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقعالخطأ).(2)

11: وعنه (عليه السلام): (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني).(3)

12: وعنه (عليه السلام): (لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة).(4)

13: وعنه (عليه السلام): (... ولا شرف كالعلم، ولا عز كالحلم، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة).(5)

14: وعنه (عليه السلام): (والاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه).(6)

ص: 417


1- نهج البلاغة: قصار الحكم، الرقم 161 وهي مذكورة أيضاً في غرر الحكم: ص266 و284، وفي ربيع الأبرار باب العقل والفطنة للزمخشري.
2- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم 173، وهي مذكورة أيضاً في تحف العقول: ص90، وروضة الكافي: ص19، ومن لا يحضره الفقيه: ج4 ص278، ودستور معالم الحكم، للقضاعي: ص28، وغرر الحكم للآمدي.
3- نهج البلاغة الخطبة 216 (ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين) أواخر الخطبة المذكورة في روضة الكافي: ص352.
4- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم 54، ومذكورة أيضاً في تحف العقول: ص 201 و89 و94، وفي روضة الكافي: ص17، وفي الأمالي: ص193، وفي غرر الحكم وفي البصائر والذخائر وغيرها.
5- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم 113، وهي موجودة في المصادر السابقة أيضاً.
6- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم211، وهذه مذكورة في تحف العقول: ص98، وروضة الكافي: ص16، وأدب الدنيا والدين: ص 162 و273 و275، وسراج الملوك: ◄ ►ص185، وغرر الحكم، ودستور معالم الحكم: ص15، ومطالب السؤول: ج1 ص162، ونهاية الأرب: ج6 ص85، والنهاية في غريب الحديث: ج3 ص421، والآداب السلطانية: ص15، هذا ولا يخفى أننا اعتمدنا في معرفة مصادر هذه الأحاديث الشريفة على كتاب مصادر نهج البلاغة للسيد عبد الزهراء الخطيب، فشكر الله سعيه.
بحث سندي إجمالي عن حجية الروايات

وهذه الروايات وإن كان بعضها ضعيف السند، كما فيما رواه الجاموراني، حيث وصفوه بأنه ضعيف(1)، وقال الحلي: ضعفه القميون، في مذهبه ارتفاع(2)، وقد استثناه ابن الوليد من نوارد الحكمة، وكذا رواية عبد العظيم الحسني الضعيفة بمحمد بن هارون.

إلاّ أن بعضها معتبر أولاً، كما سيأتي تفصيله، وبعضها مذكور في (نهج البلاغة) وهو حجة(3).

ثم إنه تكفينا الشهرة الروائية لهذه الروايات، كما يتضح من المصادر التي ذكرناها في الهامش، بل من تعدد هذه الأحاديث وكثرتها وكثرة الكتب المنقولة فيها، خاصة مع كون بعضها من أمهات الكتب المعتمدة للشيعة وللفقهاء طوال التاريخ، كالكافي والفقيه والوسائل ونهج البلاغة وتحف العقول، يحصل الوثوق النوعي بصدورها، بل القطع بصدورها إجمالاً عن المعصوم (عليه السلام)، فهي متواترة بالتواتر الإجمالي، بل بعضها كروايات الاستشارة، متواترة بالتواتر المضموني أيضاً، نعم التواتر الإجمالي لا ينفع إلاّ في القدر المتيقن، أي القاسم

ص: 418


1- رجال ابن داود: ص313 تحت كنية أبي عبد الله الجاموراني.
2- رجال العلامة: ص257 تحت اسم محمد بن أحمد الجاموراني الرقم 59.
3- كما ذهب إليه بعض الأصوليين استناداً إلى قوة مضمونه وإلى قوة ناقله، كما فصلنا الحديث عنه في بعض البحوث.

المشترك بين كل الروايات، وأما المضموني فلا يحرز به الإطلاق أو العموم لو كان عليهما المدار إلاّ لو كانا منه.

ومما يؤيد ما ذكرناه، ما ذكره الشيخ (رضوان الله تعالى عليه) حيث قال: (هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار والمستدل بها للاستصحاب، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابروالتعاضد)(1)، هذا رغم أن روايات الاستصحاب التي ذكرها (5 روايات) لا تبلغ ربع روايات الاستشارة، وليست مذكورة في كل تلك الأمهات من الكتب.

وكلامه (قدس سره) على القاعدة، لأن الظن النوعي والاطمينان الحاصل من مجموعة أخبار (وإن كان الدال منها غير صحيح والصحيح غير دال) أقوى من الظن النوعي الحاصل من خبر واحد صحيح، يشهد لذلك العرف والوجدان، ولا فرق بين الظن المستند إلى لفظ واحد أو الظن المستند إلى عدة ألفاظ يكون مجموعها سبباً ل- (الظن النوعي) بالمراد، لبناء العقلاء على ذلك، ولكون هذا الظن ناشئاً من تعاضد الاحتمالات مستندة إلى اللفظ فتندرج في (الظن اللفظي)، ولشمول أدلة حجية الظواهر للقسمين، فتأمل.

ولأجل ذلك كله نجد الآخوند الخراساني (قدس سره) يقول في بحث خبر الواحد: (ومن المعلوم عدم انحصار أسباب الوثوق بالصدور بوثاقة الراوي، بل هي - أي أسباب الوثوق بالصدور - يكون في الأخبار المدونة في الكتب المعتبرة، سيما الكتب الأربعة التي عليها المدار في الأعصار والأمصار وما يحذو حذوها في الاعتبار كثيرة جداً، منها: وجود الخبر في غير واحد من الأصول المعتبرة المتداولة في الأعصار السابقة، ومنها: تكرره ولو في أصل واحد بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة، ومنها: وجوده في أصل معروف الانتساب إلى من أجمع على

ص: 419


1- الرسائل: ص334 بحث الاستصحاب.

تصديقه: كزرارة ونظرائه، وعلى تصحيح ما يصح عنه: كصفوان بن يحيى وأشباهه، ومنها: كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع بين السلف الوثوق بها والاعتماد عليها ولو لم يكن مؤلفوها من الإمامية، إلى غير ذلك مما لا يخلو عن أكثرها الكتب التي ألفت ليكون مرجعاً للأنام في الأحكام، ويشهد على ذلك، أي على كون العبرة على الوثوق بالصدور مطلقاً أنه كان المتعارف بين القدماء...).(1)

ومن ذلك يظهر: اندفاع توهم أن انضمام اللا حجة لا يولدحجة، لكون فاقد الشيء غير معطيه، واجتماع الفواقد لا يسبب الوجود؛ إذ إن الخبر غير سليم السند أو غير تام الدلالة فاقد إذا كان (بشرط لا)، وواجد إذا اعتبر (بشرط شيء)، ألا ترى الآحاد والأجزاء فاقدة للهيئة الاجتماعية إذا كانت منفصلة و(بشرط لا)، وواجدة لها إذا كانت متصلة و(بشرط شيء)، فلا يقال: كيف تنتج الفواقد - وهي الأجزاء - الهيئة الاجتماعية أو الأثر الخارجي المعين المعلول للمجموع بما هو مجموع؟

وأما أن الخبر (بشرط شيء) واجد للظهور، فلأن الظهور وليد الدلالة بدرجة خاصة، أو فقل: وليد العلاقة الحاصلة بين لفظ أو جملة ألفاظ بمكتنفاتها، أو بدونها مع معناها أو معانيها، وهي معلولة للوضع التعييني والتعيّني(2)، والقرائن الحالية والمقالية في مرحلة الإثبات، فلا ينحصر في خبر واحد جامع للشرائط، بل قد يكون وليد أخبار عديدة متعاضدة متجابرة، وللمنكر أو المتردد أن يراجع العرف وسيرة العقلاء.

ومن المقرر في محله أن طريقة الشارع في محاوراته التي قصد بها تفهيم

ص: 420


1- حاشية الرسائل للآخوند الخراساني: ص70 بحث الظن، هامش قوله (وأما السنة فطوائف من الأخبار).
2- مع العلم بهما لا بصرف تحققهما.

مخاطبيه ليست أمراً مخترعاً مغايراً لطريق أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم.

ومن الواضح كون الأصل في المحاورات هو التفهيم والتفهم ولا يخرج عنه إلاّ بدليل.

ويشهد لما ذكرناه: ما ذكروه في مقياس المتواتر، والذي قد يتشكل من آحاد كلها غير حجة فلاحظ، هذا كبرىً، وأما صغرىً فلا ينبغي الريب في أن تلك الأحاديث التي ذكرناها حول الاستشارة لم تكن بغير قصد التفهيم، وهل يمكن حمل: (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل)(1) و(من لا يسشتر يندم)(2) و(قيل يا رسول الله ماالحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم)(3) على غير قصد التفهيم؟

ولا بأس بالتطرق الآن لبيان تمامية سند بعض الروايات السابقة فنقول، وبالله الاستعانة:

ص: 421


1- الكافي: ج8 ص355 خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام ح550.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15584.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15582.
سند الرواية الخامسة: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم
اشارة

أما الرواية الخامسة: فهي عن أحمد بن محمد البرقي، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، وتفصيل بعض القول فهم:

أحمد بن محمد البرقي:

قال فيه النجاشي (قدس سره): (أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن علي البرقي أبو جعفر أصله كوفي... وكان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء واعتمد المراسيل)(1).

أقول: وأما هذه الرواية فمعتبرة لأن من روى عنهم معتمد عليهم كما سيجيء.

وقال ابن داوود: (كان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، صنف كثيراً، أقول: وذكرته في الضعفاء لطعن الغضائري فيه(2) ويقوى عندي

ص: 422


1- رجال النجاشي: ص55، أحمد بن محمد.
2- لا يخفى أن طعن الغضائري لا يعتد به، لإفراطه في الطعن في أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والعلماء (رضوان الله عليهم) كما حقق في محله، قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسائله: (لكن سند الرواية - أي رواية الخصال - ضعيف بالقاسم بن يحيى لتضعيف العلامة له في المختلف، وإن ضعف ذلك باستنادة إلى تضعيف ابن الغضايري المعروف عدم قدحه فتأمل)، الرسائل: ص334 بحث الاستصحاب، والشاهد في اعترافه (قدس سره) ب(المعروف عدم قدحه)، كما أن الظاهر رجوع قوله (فتأمل) إلى تطبيق الكبرى على الصغرى لا إليها. بل إن المامقاني (قدس سره) قد ناقش في الصغرى أيضاً حيث قال: (.. وفيه: إن ابن الغضائري لم يطعن فيه، بل رد الطعن عنه بنقل طعن القميين عليه، ورده بأن الطعن ليس فيه بل في ◄ ►من يروي عنه كما سمعت)، تنقيح المقال: ج1 ص83 الرقم 496.

ثقته مشي أحمد بن محمد بن عيسىفي جنازته حافياً حاسراً تنصلاً مما قذفه به).(1)

وقد عده السيد الخوئي (دام ظله) في (المعجم) ممن يثبت بقوله: (الحسن والوثاقة)، قال عند تعداد ما تثبت به الوثاقة والحسن:

(2: نص أحد الأعلام المتقدمين: ومما تثبت به الوثاقة أو الحسن أن ينص على ذلك أحد الأعلام، كالبرقي وابن قولويه والكشي والصدوق والمفيد والنجاشي والشيخ وأضرابهم، وهذا أيضاً لا إشكال فيه وذلك من جهة الشهادة وحجية خبر الثقة)(2).

فقد علل ثبوت الوثاقة بتوثيق البرقي وأمثاله، ب(حجية خبر الثقة)، الظاهر منه أنه يرى البرقي وابن قولويه إلخ، صغرى (خبر الثقة)، ولكن لا يخفى الفرق بين (الشهادة) و(حجية خبر الثقة) من حيث كونهما وجهين بشروط مختلفة، كحجية قول الرجالي، فلا ينبغي سوقهما بعصا واحدة، فإن للشهادة شروطاً غير معتبرة في خبر الثقة، فالأولى الإتيان ب(أمر) بدل (الواو).

وقال المامقاني في أبواب الهمزة من نتائج التنقيح (496: أحمد بن محمد بن خالد البرقي: ثقة على الأقوى).(3)

ولقد أسهب العلامة المامقاني في الحديث عن البرقي (قدس سرهما) وتوثيقه، فليراجع.(4)

ص: 423


1- رجال علي بن داود الحلي: ص43 رقم 122 من القسم الأول.
2- معجم رجال الحديث: ج1 ص41.
3- التنقيح: ج1 ص10.
4- التنقيح: ج1 ص82 الرقم 496.
جعفر بن محمد الأشعري

وأما جعفر بن محمد الأشعري، فقد يعد ثقة باعتبار رواية (محمد بن أحمد بن يحيى) عنه.

قال الوحيد (قدس سره): (روى عنه محمد بن أحمد بن يحيى، ولم تستثن روايته من رجاله، وفيه دليل على ارتضائه وحسن حاله بل مشعر إلى وثاقته).(1)

وقال النجاشي (قدس سره): (وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمد بن موسى الهمداني أو ما رواه عن رجل أو... قال أبو العباس بن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله، وتبعه أبو جعفر بن بابويه على ذلك...).(2) وليس جعفر الأشعري مما استثناه.

ويمكن عده ثقة باعتبار رواية (إبراهيم بن هاشم) عنه(3)، حيث يحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم الذي روى عنهم في تفسيره(4)، كما سبق ذكر ذلك.

هذا وقد ذكره ابن داود في القسم الأول من رجاله.

وأما المامقاني فقد ذكر في باب الجيم من نتائج التنقيح (1846: جعفر بن محمد الأشعري: حسن).(5)

ص: 424


1- معجم رجال الحديث: ج4 ص100 الرقم 2237، وراجع ج1 ص74.
2- رجال النجاشي: ص246 محمد بن أحمد بن يحيى.
3- المعجم: ج4 ص99 الرقم 2237.
4- المعجم: ج1 ص49.
5- تنقيح المقال: ج1 ص27.
ابن القداح

وأما ابن القداح، فهو (عبد الله بن ميمون القداح)، فقد قال فيه النجاشي: (عبد الله بن ميمون بن الأسود القداح... كان ثقة له كتب منها...).(1)

وقال فيه ابن داود الحلي: (... ممدوح ثقة).(2)

وذكره السيد الخوئي (دام ظله) في معجمه ودافع عنه، فليراجع.(3)

وقال المامقاني (قدس سره) في أبواب العين من نتائج التنقيح: (7088: عبد الله بن ميمون الأسود القداح: ثقة)(4)، وقال في التنقيح: (وقد وثقه في البلغة والمشتركاتين والحاوي وغيرها... وعلى كل حال، فإخراج الرجل من برج الوثاقة إلى برج الموثقية بمثل هذه الرواية في قبال شهادة النجاشي وغيرها مما لا يليق بالفاضل المجلسي).(5)

ص: 425


1- رجال النجاشي: ص148 عبد الله بن ميمون بن الأسود القداح.
2- رجال ابن داود: ص124 الرقم 910 من القسم الأول.
3- المعجم: ج10 ص354 الرقم 7185.
4- تنقيح المقال: ج1 ص92.
5- التنقيح: ج2 ص220 الرقم 7088.
سند الرواية الثامنة: من استبد برأيه هلك
اشارة

وأما الرواية الثامنة: فهي عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، وتفصيل بعض القول فيهما:

عثمان بن عيسى

عثمان بن عيسى، ثقة أو موثق.. قال العلامة المامقاني (قدس الله نفسه الزكية): (عثمان بن عيسى أبو عمرو الرواسي العامري الكلابي.. وتنقيح المقال أن المتحصل في الرجل أقوال:

أحدها: إنه ضعيف ...

ثانيها: إنه موثق معتمد، وهو الذي نص عليه الفاضل المجلسي في الوجيزة، وهو ظاهر العلامة في التحرير، حيث قال: ورجال السند كلهم ثقات وإن كان فيه عثمان بن عيسى وهو واقفي انتهى، وصاحب الذخيرة بل نسبه المحقق محمد بن صاحب المعالم إلى المعروف بن المتأخرين حيث قال: المعروف بين المتأخرين عد الحديث المشتمل عليه موثقاً انتهى، وحجة هذا القول أن وقفه لا شك فيه لكن وثاقته تستفاد من أمور: فمنها: ما أشار إليه في الذخيرة بقوله: عثمان بن عيسى واقفي إلاّ أنه نقل الكشي قولاً: بأنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، وأقروا له بالعلم والفقه، وصرح الشيخ في العدة بعمل الأصحاب بروايته على وجه يؤذن بالاتفاق والعلامة (رحمه الله) حسّن طريق الصدوق إلى سماعة وفيه عثمان بن عيسى... وعد بعضهم رواياته من الصحاح، بل هو ظاهر المحقق في المعتبر... ومنها: أن الأجلة الثقات قد أكثروا

ص: 426

من الرواية عنه كما سنعددهم عند الكلام في التمييز ولو لم يكن موثقاً معتمداً لما أكثروا من الرواية عنه، ومنها: إنا لم نقف على أحد من فقهائنا السابقين تأمّل في رواية من رواياته في موضع من المواضع بسببه... ومنها:... إن رواياته مقبولة بل مفتى بها وإن أهل الرجال ربما ينقلون عنه ويعتمدون عليه كما مر في أسامة بن حفصوغيره..

ثالثها: إنه ثقة... وقد تلخص مما ذكرنا كله أن الأظهر كون حديث الرجل من الموثق كالصحيح، لأنّ رجوعه عن الوقف وتوبته لا ينبغي التأمل فيه...).(1)

وقال السيد الخوئي (دام ظله) في المعجم: (... ولكنه مع ذلك كان ثقة بشهادة ابن قولويه والشيخ وعلي بن إبراهيم وابن شهر آشوب المؤيدة بدعوى بعضهم أنه من أصحاب الإجماع).(2)

سماعة بن مهران

وأما سماعة بن مهران فهو ثقة أيضاً.

قال النجاشي (قدس سره): (سماعة بن مهران بن عبد الله الحضرمي... روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) ومات بالمدينة، ثقةٌ ثقةٌ...).(3)

وقال في التنقيح: (.. ثم اعلم أن الذي يظهر من مجموع كلماتهم أن في سماعة قولين: أحدهما: إنه واقفي... ثانيهما: إنه اثنى عشري ثقة، وهو ظاهر النجاشي حيث وثّقه مكرراً ولم يتعرض لوقفه مع ما علم من طريقته من عدم الاقتصار على توثيق من هو واقفي أو فطحي أو نحوهما، بل يصرح بالانحراف

ص: 427


1- تنقيح المقال في علم الرجال: ج2 247-249، باب عثمان، الرقم 7800.
2- معجم رجال الحديث: ج11 ص120 الرقم 7610.
3- رجال النجاشي: ص138 سماعة بن مهران.

والوثاقة جميعاً... أما وثاقته فلشهادة النجاشي بها المؤيدة بتوثيق جمعٍ ممن سلّم وقفه كالعلامة في الخلاصة والمحقق في المعتبر والفاضل المجلسي في الوجيزة والمحقق البحراني في البلغة والطريحي والكاظمي في المشتركاتين وغيرهم)(1)، ثم تطرق لإثبات كونه إمامياً بوجوه ومؤيدات عديدة لم نذكرها لطولها فليراجع، ثم قال: (فالحقالحقيق بالاتباع وثاقة الرجل وعدم وقفه).(2)

وقال في المعجم: (... بقي الكلام في أمرين: الأول: لا إشكال في وثاقة سماعة بن مهران وحجية روايته، بناءً على ما هو الصحيح من حجية خبر الثقة وإن لم يكن عادلاً، وأما بناءً على اختصاص الحجية بخبر العادل فربما يتوهم عدم حجية روايته من جهة وقفه، ولذلك ذكره العلامة وابن داود في القسم الثاني... وظاهر النجاشي من تكرير كلمة ثقة وعدم التعرض لوقفه، عدم وقفه، وهذا هو الظاهر فإن سماعة من أجل الرواة ومعاريفهم فلو كان واقفياً لشاع وذاع، كيف ولم يتعرض لوقفه البرقي والكشي وابن الغضايري ولم ينسب القول به إلى غير الصدوق (قدس سره) ويؤيد عدم وقفه...).(3)

ص: 428


1- تنقيح المقال: ج2 ص67 الرقم 5271.
2- تنقيح المقال: ج2 ص68.
3- معجم رجال الحديث: ج8 ص298-299 الرقم 5546.
الاستدلال بالروايات السابقة على الارشادية والمولوية
اشارة

والاستدلال بهذه الروايات تارة يكون بناءً على القول بأنها أو بعضها إرشادية، وأخرى يكون بناءً على القول بكونها مولوية، وذلك على حسب الخلاف الموجود في ملاك المولوية والإرشادية، فإن كان ملاك كون الأمر إرشادياً: ما لزم من إعمال المولوية فيه اللغوية، أو كان الملاك ما لزم من أعمالها محذور عقلي كالدور والتسلسل، كما في أوامر طاعة المولى حيث يلزم من كون (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) مولوياً، التسلسل لحدوث أمر جديد وهكذا، أو الدور، فيكون الأمر فيما نحن فيه مولوياً، إذ لا يلزم من الأمر بالاستشارة اللغوية أو الدور أو التسلسل.

وأما لو كان ملاك الإرشادية: ما ورد في مورد المستقلات العقلية، فالروايات إرشادية لاستقلال العقل بمضمونها، وأما لو كان ملاكها ما كان لفائدة دنيوية فإرشادي، فإن بعضها يكون كذلك دون الآخر.

والتحقيق: إن ملاك المولوية هو: ما صدر من المولى بما هو مولى مُعملاً مقام مولويته.(1)

وأما إن كان ملاك الإرشادية: أن كل مورد حكم به العقل بالاستقلال (كقبح الظلم وحسن الإحسان والعدل) فهور إرشادي، فيكون الأمر فيما نحن فيه إرشادياً، إذ العقل مستقبل بحسن الاستشارة وتحري الآراء والاعتضاد بالمستشارين، وقد يرشد إليه لحن الروايات، فتأمل.

وهناك أقوال أخرى في ملاك المولوية والإرشادية فلتلاحظ.

ص: 429


1- فصّل ذلك المؤلف في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).

أما على القول بأنها إرشادية، كما هو الظاهر من بعضها، كقوله: (قيل: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأيواتباعهم) (1)، وقوله (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(2)، وقوله (عليه السلام): (وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (3)، فواضح، إذ يكون التمسك حينئذٍ بحكم العقل المرشد إليه بهذه الروايات، فلا يضر حينئذٍ ضعف سندها، إذ ليس الاستدلال بها بل بقسيمها، ومن البديهي حكم العقل بمضمون هذه الروايات.

وأما إن قلنا بكونها مولوية، باستظهار المولوية من بعض ما ورد فيها من الأمر أو النهي، وبكون بعض تلك الجمل إنشائية بصيغة الإخبار أو أنها إخبار ملزومها الإنشاء أو لازمها، فنقول:

أولاً: ليس كل الروايات ضعيفة، بل فيها المعتبر سنداً كما مر، وكما يظهر للمتتبع في سائر الأخبار.

وثانياً: لو فرض ضعف الكل (كل بانفراده) كانت كثرتها وتعددها وشهرتها شهرة عظيمة روائية موجبة للاطمئنان - إن لم نقل للقطع - بصدورها ولو بنحو التواتر الإجمالي أو تواتر المضمون.

وثالثاً: سلمنا، لكن نقول: إن استدلالنا حينئذٍ بحكم العقل المستقل بكون الاستشارة حسنة، وأن المستشير أقل وقوعاً في الخطأ من غيره، ويكون ذكر الروايات حينئذٍ للتأييد ولجلاء الحكم العقلي أكثر فأكثر.

أما تقريب الاستدلال بها فمن وجوه:

ص: 430


1- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 باب استحباب مشاورة التقي العاقل ح15594.
الوجه الأول: أولوية لزوم الأخذ بآراء المشيرين من لزوم الأخذ برأي الواحد

لو لزم الأخذ برأي المشير العاقل الناصح وإلا لزم العطب ومفسدة الدين والدنيا والهلاك - كما ورد في بعض الروايات - لزم الأخذ برأي المشيرين المتعددين (وهم الأكثرية) بالأولوية، إذ أن احتمال العطب والمفسدة بمخالفة رأي أكثرية المشيرين الناصحين أكبر من احتماله بمخالفة رأي الناصح المشير الواحد، واحتمال الخطأ في رأي الأخير أكبر من احتماله في رأي عدة ناصحين ممن أشاروا بشيء، وعليه فعلى الفقيه الحاكم وعلى عامة الشعب الالتزام برأي أكثرية شورى الفقهاء.

لا يقال: إنها لا تشمل صورة تعارض المستشارين(1) حتى يقدم رأي الأكثرية على الأقلية؟

ص: 431


1- كما لا تشمل صورة تعارض مستشارين اثنين.
تصنيف الروايات السابقة إلى أربع طوائف

إذ يقال: الروايات السابقة وغيرها تنقسم إلى أربع طوائف:

الطائفة الأولى: ما أرشد فيه أو أمر فيه باستشارة رجل عاقل له دين وورع كالرواية الثالثة.

الطائفة الثانية: ما أمر فيه باستشارة العاقل الناصح أو الورع كالأولى والثانية.

الطائفة الثالثة: ما أرشد فيه أو أمر فيه باستشارة ذوي الرأي والرجال كالرواية الخامسة والتاسعة.

الطائفة الرابعة: ما حذف فيه المتعلق، كالرابعة والسادسة والسابعة والثامنة والحادية عشرة وما بعدها.

ففي الطائفة الأولى: وهي ما كان المتعلق منكراً، ك(أن يستشيروا رجلاً عاقلاً) فاستشارته وإن كانت (لا بشرط) بالنسبة للأكثر، إلاّ أن صورة التعارض خارجة موضوعاً عنها.

وفيه: شمول العموم البدلي لهما(1)، وصدق العنوان عليهما بالحمل الشائع، فتأمل.

وفي الطائفة الثانية: وهي ما كان المتعلق مفرداً محلى بأل، ك(اسْتَشِرِ الْعَاقِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْوَرِعَ فَإِنَّهُ لا يَأْمُرُ إِلاّ بِخَيْرٍ، وَإِيَّاكَ وَالْخِلَافَ فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْوَرِعِ الْعَاقِلِ مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا)(2)، فإن كانت اللام للجنس - كما هو الأصل فيها - فتشمل استشارة الواحد والمتعدد، فإن قلنا بشمول أدلة الحجية وشبهها

ص: 432


1- أي المشيرين إذا تعارض رأياهما.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.

للمتعارضين فإما أن نقول بالتخيير في صورة التكافؤ، والترجيح في صورة التراجح، ونقول بكون الأكثرية من المرجحات كما فصلنا الحديث عن ذلك في موضع آخر، وإما أن نقول بغير ذلك، فعلى الأول يمكن الاستدلال بهذه الروايات، وعلى الثاني لا، وكذا لو قلنا بعدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين.

ولا يلزم من عدم شمول الطائفة الثانية لهما استثناء الأكثر كما لا يخفى، (كما قد يقال بأنه يلزم من عدم شمول الطائفة الثالثة)، كي يقال بأن ذلك دليل على عدم إمكان القول بعدم الشمول، على أنه لا يقاوم دعوى إشكال الاستحالة، فتدبر.

والكلام بعينه جار في الطائفة الرابعة: وهي ما حذف فيه متعلق المشورة أي المستشار.

تنبيه:

لا يخفى أن حديث التعارض جارٍ في ما أمر فيه بالاستشارة والاتباع معاً وفي غيره بناءً على العينيّة بينهما أو التلازم، وإلاّ فلا معنى للتعارض(1) إطلاقاً.

وأما الطائفة الثالثة: وهي ما كان المتعلق جمعاً محلى بأل، ك(مشاورة ذوي الرأي وإتباعهم)، ف:

أما على المولوية فلا ينبغي الريب في شمولها لها، لإطلاقها، مثل: رواية ابن القداح السابقة (قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (2)، ورواية سماعة: (لن يهلك امرؤ عن مشورة) (3)، إذ أن من الواضح أن ذوي الرأي يكونون عادة مختلفي الرأي، وقلما اتفقوا على رأي، فحمل هذه الروايات على صورة الاتفاق

ص: 433


1- أي بلحاظ مقام الامتثال.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15585.

حمل على فرد نادر(1)، فلا مناص من إرجاع الضمير في (واتباعهم) إلى الأكثرية، كما أن من الواضح أن اتباع رأي الأكثرية أقرب إلى (الظهيرية) في قوله (عليه السلام): (ولا ظهير كالمشاورة)(2) من اتباع رأي الأقلية،فتأمل.

ومن هنا ظهر أننا حتى لو قلنا في بحث تعارض الخبرين مثلاً:بعدم شمول أدلة حجية خبر الواحد للخبرين المتعارضين مما يستلزم تساقطهما، فإنه لا مناص لنا من القول هنا - في الطائفة الثالثة - بشمول أدلة حسن الشورى لما تعارضت فيه الآراء، وإلا لزم حملها على الفرد النادر، إلاّ لو كان دليل عدم الشمول عقلاً مستنداً إلى الاستحالة.(3) ولكن على الاستحالة فلابد من الالتزام بأن هذه الروايات قد جعلت الحجية لأكثرية الآراء، وإن كان اللسان ظاهراً في جعلها للجميع، لأنه لابد من رفع اليد عنه لتلك الاستحالة، وأما الحمل على جعل الحجية للأكثرية فلئلا يلزم لغوية هذه الروايات.

اللهم إلا أن تخصص هذه الروايات(4) بما لو استشار فرداً واحداً، وهو خلاف الظاهر، بل لا وجه له في بعضها أصلاً.

وأما على الإرشادية: فالعقل لا يرى بُداً من اتباع رأي أكثرية المستشارين عند دوران الأمر بين اتباع الأقلية والأكثرية، كما فصلناه في فصل الاستدلال بالعقل.

ص: 434


1- هذا في غير ما كان من الطائفة الرابعة والثانية.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15586.
3- إذ مع القول باستحالة شمول أدلة الحجية للمتعارضين كيف يلتزم بالشمول، للزوم الحمل على الفرد النادر من القول بعدمه؟.
4- المقصود الرواية الخامسة ونظائرها.
الوجه الثاني:أقربية الإصابة في رأي المشيرين من رأي الواحد

إذا كان في اتباع رأي المشير الناصح (أقربية للواقع)، سواء في الشؤون الدينية أم الدنيوية، حيث قال (عليه السلام): (فإنه لا يأمر إلا بخير) (1)، وقال: (بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله) (2)، وقال: (مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله) (3)، وإذا كان في مخالفته الأبعدية عن الواقع بل (مفسدة في الدين والدنيا) (4)، و: (فإن في ذلك العطب) (5)، فماذا ترى في اتباع عدة مشيرين ناصحين، وكيف بمخالفة مجموعة منهم؟

وأما في صورة تخالف النصائح وتناقض آراء المشيرين فاتباع رأي أكثرية الناصحين هو المحتم، كما فصلناه في موضع آخر، وسنفصله عند التطرق للمقبولة والمرفوعة والتوقيع المبارك، ونزيد هنا: إن السر في كون اتباع الناصح المشير رشداً ويمناً وخيراً وأقرب إلى الله هو أنه يرى ما لا يراه المستشير، كما ورد عنه (عليه

السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (6)، ولذا ورد: (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله) (7)، إذ أن كل عقل يرى جهة ويقترح اقتراحاً فيكون باجتماعها الكمال والتكامل، وقدورد عنه (عليه السلام):

ص: 435


1- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595.
6- الكافي: ج8 ص22 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة ح4.
7- في غرر الحكم: ص52 أعقل الناس ح385: (أعقل الناس من أطاع العقلاء).

(والعقل حفظ التجارب)(1)، ومن الواضح أن العقول المتعددة لها تجارب تفوق تجارب إحداها، وقال (عليه السلام): (ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(2)، وإذا كان لأجل ذلك ورد الأمر باتباع الناصح الواحد، ففيما تعدد الناصحون المشيرون وتخالفت آراؤهم وكانت الأكثرية على رأي معين فإن اتباعها أولى وألزم لأقوائية الملاك المصرح به في الروايات، فتأمل.

وأما سائر الروايات، فلعل دلالتها على المدعى تامة أيضاً:

فقوله (عليه السلام): (من لا يستشر يندم) (3)، وقوله (عليه السلام): (لن يهلك امرؤ عن مشورة) (4)، وقوله (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك) (5)، وقوله (عليه

السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(6)، وتعليله (عليه السلام) قوله: (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل) بقوله: (فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطِيء) (7)، مما يعني أن المقالة بالحق والمشورة بالعدل تقي من الخطأ، وقوله (عليه السلام): (الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه) (8)، وقوله (صلى الله عليه وآله) في جواب ما الحزم؟ (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (9)، ونظائر هذه الكلمات دالة - مطابقةً أو التزاماً - على أن (الانفراد بالرأي) ورأي الشخص بذاته أبعد عن الصواب،وموجب للوقوع في الخطأ، بل

ص: 436


1- نهج البلاغة: الكتاب 31.
2- نهج البلاغة: قصار الحكم، الرقم 161.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15584.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15585.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
6- وسائل الشيعة: ج12 ص46 ب25 ح15606.
7- بحار الأنوار: ج27 ص251 ب13 ح14.
8- بحار الأنوار: ج66 ص410 ب38 ح125.
9- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.

موجب للهلاك والندم، أما (الاستشارة) فهي (عين الهداية).

ومن الواضح أن حمل هذه الرواية وأشباهها على صورة اتفاق المشيرين، فيما من شأنه استشارة عدة أشخاص، كما في الخطيرة، أو حتى فيما ليس من شأنه الاستشارة من عديدين وكفاية الاستشارة من واحد عرفاً، كما في شراء دار مثلاً، ومع ذلك استشار من عدة احتياطاً وتثبتاً، خلاف الظاهر، لكونه تخصيصاً بلا دليل، بل إنه تخصيص الأكثر وهو قبيح على الحكيم، إذ الغالب اختلاف المشيرين، بل قد يقال بأنه حمل على فرد نادر كما سبق، فتأمل.

وكذا حملها وأشباهها على صورة استشارة واحد فقط، بأن يكون معنى الرواية (الاستشارة من واحد عين الهداية) أما الاستشارة من عدة فليس عينها، وكذا (لن يهلك امرؤ عن مشورة من واحد) ولكنه يهلك عن استشارة المتعدد، وكذا (من استقبل وجوه الآراء التي يذكرها شخص واحد عرف مواقع الخطأ) أما من استقبل وجوه آراء متعددين فلا، فخلاف الظاهر جداً.

الاعتراض بعدم دلالة الروايات على لزوم الاتباع

وأما الاعتراض على الاستدلال بهذه الروايات على لزوم الأخذ برأي الأكثرية، بأنها تدل على أن الاستشارة توجب معرفة جهات الخطأ والخلل، ومعرفة الطريقة الأفضل، وأن تقليب وجوه الآراء يوجب الحفظ عن الهلاك، ولا تدل على لزوم الأخذ برأي أكثرية المشيرين وإن كان ما توصل إليه بعد الاستشارة وبعد تقليب وجوه الآراء مخالفاً لرأي الأكثرية؟ ولذا قال (عليه السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (1)، فصرف تحري آراء الآخرين

ص: 437


1- وسائل الشيعة: ج12 ص46 ب25 ح15606.

يوجب معرفة مواقع الخطأ ويسبب البعد عن الهلاك من غير توقف على اتباع أكثريتها؟فيرد عليه - إضافة إلى ما سبق في مكان آخر:

مقيدية روايات الاتباع لمطلقات الاستشارة

أولاً: إن كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) صريح في أن (الحزم) - وهو يعني ضبط الأمر وإتقانه وإحكامه مما يستلزم طبيعياً قلة الخطأ والاشتباه فيه - في (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (1) لا في صرف المشاورة، وكذلك قوله: (وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (2)، فالمشاورة والاتباع أقرب للواقع ولضبط الأمر من المشاورة وحدها، وإن كانت الأخيرة أقرب للواقع من الانفراد بالرأي، وكذلك ما ورد في روايات أخرى ذكرنا بعضها هنا وبعضها في موضع آخر، فأمثال هذه الرواية تقيد تلك المطلقات.

لا يقال: النسبة بين رواية الحزم(3) وأشباهها(4) ورواية (من استبقل)(5) وأشباهها(6) نسبة المطلق والمقيد، وحيث إنهما مثبتان فلا تقيد رواية (من استقبل) برواية الحزم؟ فالنتيجة هو التخيير وكون المقيد هو الفرد الأفضل لا المتعين؟

ص: 438


1- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
4- مما رتبت فيه الإصابة والأقربية للواقع والهداية على المشاورة والاتباع.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص46 ب25 ح15606.
6- مما رتب فيه كل ذلك على مجرد الاستشارة.

إذ يقال: إضافة إلى ما فصلناه في موضع آخر من البحث المبنائي من أن المطلق والمقيد المثبتين يقيد أحدهما الآخر كالمتخالفين، نقول إنه: كلما كان (العنوان) و(الغاية) معينة، وذكر في مكان (محصّل) لذلك العنوان أو لتلك الغاية، وفي مكان آخر ذكر (محصل أخص) لزم إيجاد المحصل الأخص، ألا ترى أن (الصلاة)عنوان معين، فلو اقتصر في حديث على ذكر بعض شرائطها (كالطهارة والاستقبال) وذكر في آخر الشرائط مع إضافة (كالستر والاستقرار)، كان اللازم الاتيان بجميع القيود لإحراز العنوان، ولإحراز الغاية (النور الخاص)، فتأمل(1).

وفيما نحن فيه (الغاية) هي (معرفة مواقع الخطأ وعدم الهلاك)، وقد ذكر في رواية (من استقبل)(2) قيد واحد، وفي رواية الحزم(3) قيدان أو مقومان لمعرفة الخطأ وعدم الهلاك، وإنما لا يكون المقيد المثبت مقيداً للمطلق المثبت، إذا لم يكن هناك (عنوان) تعلق به الأمر، أو غاية صرح بها الآمر، بل كان المطلق بنفسه متعلق الأمر والنهي، وكذا المقيد ك- (اعتق رقبة) أو (اعتق رقبة مؤمنة).

ويؤيد ما ذكرناه تصريحه (عليه السلام) ب(فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب) (4) وب(وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (5).

والأصح أن يقال: بأن المستفاد من الروايات وجود غايتين: أولاهما

ص: 439


1- للمناقشة في المثال إذ الصلاة ليست من دائرة العنوان والمحصل، بل مثل (فاطهروا) على ما ذكره الشيخ.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص46 ب25 ح15606.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15595.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.

معرفة مواقع الخطأ، وثانيتهما: التوقي منه، ورواية (من استقبل...) (1) وأشباهها تتكفل بالغاية الأولى، أما روايات (الحزم..) (2) وأشباهها فتتكفل بالغاية الثانية، فلا يكفي إحراز الأولى عن الثانية، فتدبر وتأمل.

الآمر بالاستشارة آمر باتباع الأكثرية عرفاً

ثانياً: إن الأمر ب(الاستشارة) عرفاً، أمر باتباع رأي المشير أو المشيرين، أو أكثريتهم إن اختلفوا، ولو أنكر هذا على إطلاقه فلا مجال لإنكاره فيما لو كان المأمور بالاستشارة عامياً غير قادر على التشخيص والمحاكمة بين مختلف الأقوال وأدلتها، وسيأتي ما يوضح ذلك. ألا ترى أن المولى لو أمر عبده باستشارة خمسة من الأشخاص فيما ألّم به من الأمور والدواهي، كان عليه اتباع رأي أكثريتهم عند التعارض فيما لو لم يجعل المولى الترجيح مع أحدهم.

والذي يدل على كون الأمر بالاستشارة أمراً باتباع الأكثرية عرفاً، قوله (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(3)، حيث جعل (عليه السلام) (ومن شاور) عدلاً وقسيماً ومقابلاً ل(من استبد)، ومن الواضح أن المستبد يطلق على العامل برأيه دون رأي سائر العقلاء، فتكون الاستشارة لو لم نقل بكونها حقيقة في اتباع رأي الأكثرية، مجازاً فيه، إذ أريد بها لازمها معها، بقرينة المقابلة وبقرينة الفهم العرفي، فتأمل.

ص: 440


1- وسائل الشيعة: ج12 ص46 ب25 ح15606.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
لزوم إتباع غير الفقيه لأكثرية الفقهاء

ثالثاً: سلمنا، لكن نقول: إن هناك فرقاً بين ما لو كان المستشير من أهل الخبرة وما لم يكن، فإن كان من أهل الخبرة كان بمقدرته تقليب وجوه الآراء وتقييم وجهات النظر المختلفة والنظر في أدلتها وشواهدها وتمحيصها، فإذا حصل له (الظن) على خلاف رأي المشيرين فإنه حينئذٍ يرى الرأي المخالف - وإن كانت عليه الأكثرية - باطلاً لا يحق له اتباعه، فتأمل(1)، وظنه حجة ف(عليه) اتباعه حسب هذا المبنى، و(له) اتباعه حسب مبنى آخر.

أما من لم يكن من أهل الخبرة فليس بمقدرته ذلك - إلاّ فيما لم يكن بحاجة إلى خبروية بأن كان العرف العام قادراً على التشخيص(2)، فلا يحصل له الظن وإذا حصل فإنه ليس بمعتبر، أترى العامي عند اختلاف الأطباء في ماهية المرض قادراً على التشخيص من استماع أقوالهم وأدلتهم وشواهدهم، (اللهم إلا إذا أصبح مجتهداً متجزئاً في المسألة) خاصة إذا كانت المسائل دقيقة عميقة ترجع إلى أصول ومباني عديدة؟

هذا، ولو حصل له الظن بأحد الأطراف فليس بحجة، إذ الأصل في الظن عدم الحجية، ولا دليل على حجية ظن غير أهل الخبرة فيما يحتاج إلى الخبرة، بل إن بناء العقلاء على عدم حجيته، ولو اتبع ظنه ولمّا يبلغ مرتبة الاجتهاد

ص: 441


1- إذ قد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب وفصلنا أكثر في بعض الكتب الأخرى جواز عمل المجتهد ومطلق أهل الخبرة برأي المشهور، حيث يكون كلا الرأيين (رأيه هو ورأي المشهور) حجة بمعنى المنجزية والمعذرية، أو جعل المماثل بل والكاشف وجائز الاتباع أو واجبه وجوباً تخييرياً، بل ذكرنا جواز العمل برأي المجتهد الآخر ما دام لم يقطع بالخلاف.
2- لا يخفى أن الاستثناء هنا منقطع وبنحو الخروج الموضوعي.

المتجزي، فعطب، كان ملوماً مستحقاً للعقاب.

وعلى هذا فلو استشار مَن لا خبرة له عدة خبراء فيما يحتاجإلى الخبروية، توقف نجاته من الهلاك والعطب - حسب هذه الروايات - على اتباعهم، ولو اختلفوا فعلى اتباع رأي أكثريتهم، إذ ليس بمقدوره أن (يعرف مواقع الخطأ) لعدم خبرويته، ولو فرض حصول الظن له لم يكن حجة.

ولو نوقش فيما ذكرناه على إطلاقه، لم يكن محل للنقاش في (المجتهد= الخبير في الفقه) و(المقلد)، إذ إنه لا يمكنه معرفة مواقع خطأ استدلال الفقهاء باستماعه إلى أدلتهم وردودها، وهل ترى العامي يفهم حجية (بل حتى معنى) الأصل المثبت، والشك السببي والمسببي، ومقام الفتوى ومقام التعليم، والتعارض والتزاحم في مقام الجعل أو الامتثال، والحكم الواقعي والظاهري، وأشباه ذلك؟ ولو فهم فهل يمكنه المحاكمة بينها؟ إذاً لكان مجتهداً لا مقلداً، هذا صغرى، وأما كبرى: فلو فرض حصول الظن له بأحد الأطراف فمما لا شك فيه أن ظنه ليس بحجة.

إذا تمهد ذلك فنقول:

إذا كان أمر (الشؤون العامة) و(الموضوعات المستنبطة) بيد الفقيه وكان على المقلدين اتباعهم فيها، (بمعنى أنهم لو أفتوا بالجهاد وجب، وبالصلح ثبت، وبالمعاهدة مع تلك الدولة لزمت...إلخ)، فلو فرض اختلاف الفقهاء في تلك الشؤون وأفتى أحدهم بالحرب والآخر بالصلح فإن ظن المقلد بأحد الجوانب ليس بحجة، ولو حصلت له من المحاكمة بين أدلة القولين المعرفة الظنية بمواقع الخطأ لهما، إذن فالمقلد خارج - عقلاً وعرفاً - ما دام مقلداً، وما دام ليس من أهل الخبرة بالموضوعات المستنبطة والشؤون العامة بجانبيها الشرعي عن كبرى (جواز الأخذ بما أدى إليه نظره بعد استشارة الخبراء أو التحاكم إليهم)، أما كبرى

ص: 442

(استشارتهم أو التحاكم إليهم، ثم الالتزام - لكونه من غير أهل النظر - بما أدت إليه آراء أكثريتهم حسب، والمستفاد من إطلاق كلامه (صلى الله عليه وآله): (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم)(1) واستناداً إلى أرجحية اتباع أكثرية أهل الخبرة وغير ذلك) فلا موجب للخروج عنها، إلاّ ما ربما يقال من وجوب رجوعالمقلد إلى مقلّده تعييناً، وقد ناقشناه في موضع آخر.

نعم: المجتهد داخل في الكبرى الأولى لقدرته على المحاكمة والتمحيص كما لا يخفى، ولحجية ظنه نوعاً، ولبناء العقلاء على حجية رأي الخبير والمجتهد لنفسه، وإن كان مشهور الخبراء بخلافه، إلا أنه يمكن استثناء الشؤون العامة، كما فصلناه في مواضع أخرى فليراجع وليتأمل.

لا يقال: العامي قد يكون خبيراً في بعض الشؤون العامة، كالسياسة والاقتصاد إذا كان متخصصاً فيها؟

إذ يقال: لا تكفي الخبروية في الموضوع لتشخيص كونه مندرجاً تحت أية قاعدة فقهية، وتحت أي حكم شرعي، أو تحت أية آية أو رواية من المتخالفات التي يحتمل اندراج الصغريات والموضوعات تحتها.

فمثلاً: قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(2)، وقوله: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)(3)، فأيهما المرجع؟ وهل كلتاهما قضية حقيقية أو خارجية أو بالاختلاف؟

ص: 443


1- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
2- سورة الأنفال: 60.
3- سورة محمد: 34.
الوجه الثالث : شمول روايات لزوم الاتباع حتى للفقيه

ويمكن بيان الاستدلال بهذه الروايات بنحو آخر يتلخص بأمور(1):

أولاً: إن هذه الروايات بإطلاقها شاملة لما لو كان المستشير من أهل الخبرة (ومجتهداً) أو غيره(2)، وعلى التقدير الثاني شاملة لما لو حصل له الظن بأحد الطرفين أو لا، ولما لو كان قادراً على التشخيص لوضوح أدلة الطرفين وكونها بحيث لو نُبّه عليها العامي لأدركها بفطرته وأمكن له الحكم عليها، وما لو لم يكن قادراً عليه، وذلك لوضوح أن (من استبد برأيه هلك) (3)، و(لن يهلك امرؤ عن مشورة) (4)، و(من لا يستشر يندم) (5)، و(مشاورة ذوي الرأي واتباعهم)(6) لا يختص ببعض الصور.

بل بعض الروايات شامل بظاهره لأهل الخبرة والمجتهد فيما اجتهد فيه من الموضوعات، بالفعل(7) فلاحظ قوله (عليه السلام): (خاطر بنفسه من استغنى برأيه) (8)، و:(من استبد برأيه هلك)(9)،وكذا (من استقبل وجوه الآراء عرف

ص: 444


1- لو تم هذا الجواب كان مما يحل به التعارض (على فرضه) بين أدلة الشورى والتقليد، إذ يكون مخصصاً لأدلة التقليد بغير الشؤون العامة.
2- والكلام كله عن الموضوعات لا الأحكام كما لا يخفى.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15585.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15584.
6- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.
7- أي حتى لو تكوَّن له رأي بالفعل وأدى إليه نظره.
8- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص388 ح5834.
9- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.

مواقع الخطأ) (1)، و(الاستشارة عين الهداية) (2)، ولا تقيدها (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به) (3)، إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، ولظهور أنه الفرد الأجلى وأن مزيد العناية به، بل لعل ظاهر (ما لا قبل له به) ما لا طاقة له به لا ما لا رأي له فيه.

ثانياً: إن الخبير والمجتهد وكذا العامي فيما لو قدر على التشخيص، بإمكانهم (معرفة مواقع الخطأ) بالاستشارة وبالنظر في حجج المشيرين، ولكن التوقي من الخطأ والعطب والهلاك لا يكون إلا باتباع رأي المشيرين (وأكثريتهم إن اختلفوا)، كما أوضحنا وجوهه سابقاً، لصراحة بعض الروايات الآنفة في ذلك.

أما العامي غير القادر على التشخيص فليس له إلا الاتباع، وليس بإمكانه التشخيص حتى بالاستشارة، لعدم قدرته على تشخيص مواقع الخطأ في الاستدلال، لو فرض تصوره وفهمه للحجج والأدلة، والالتزام بخروج من تكوّن له رأي بعد الاستشارة عن عموم روايات: (من استبد برأيه هلك)(4)، و(خاطر بنفسه من استغنى برأيه) (5)، مما يأبى عنه لسانها، مع أنه يستلزم خروج الكثير، بل قد يقال باستلزامه خروج الأكثر المعلوم قبحه - إذ تخصيص الأكثر مستهجن - إذ الغالب في الناس تكوّن رأي لهم بعد المشورة، سلمنا لكن الأدلة الصريحة في الشورى ك(أمرهم شورى بينهم)(6) حاكمة، وقد فصلناه في فصل خاص.

ص: 445


1- الكافي: ج8 ص22 خطبة الوسيلة ح4.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15588.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص41 ب22 ح15591.
6- سورة الشورى: 38.
توقف الاستنباط في الشؤون العامة على الفقاهة والخبروية

ثالثاً: إن (الموضوعات المستنبطة) و(الشؤون العامة) مما ليس باستطاعة عموم الناس حتى الخبراء تشخيصها ومعرفة وجوه الاستدلال وضروبه فيها، ذلك أنها مما يحتاج لجانبين خبروي وفقهي، لكونها موضوعات خارجية مترددة بين عدة كبريات شرعية، وكذا بين كونها من مصاديق العناوين الأولية أو أنها داخلة تحت أحد العناوين الثانوية.

فمثلاً (الرسوم الجمركية) مما لا يمكن الحكم عليها إلاّ لو توفرت للمرء خبروية اقتصادية ومعرفة فقهية معاً، حيث إن الحكم بحليتها موقوف على لحاظ عدة أمور:

1: التضخم والتنزل في البلدين.

2: الفارق التجاري بين البلدين، وتفاوت حجم العرض والطلب فيهما، مما يخول التاجر حقاً طبيعياً متعارفاً عليه في الاسترباح حسب كمية الطلب شدة وضعفاً.

3: إضافة إلى روايات تحريم المكوس بإطلاقها أو عمومها أو غير ذلك.

4: قاعدة (لا ضرر) وتعارض لا ضررين: (اللا ضرر الشخصي) على هذا التاجر، و (اللا ضرر النوعي) على الاقتصاد الوطني(1)، بل تعارض لا ضررين نوعيين، بأن كان استيراد البضائع الخارجية (الرخيصة)(2) بلا رسوم وبيعها بقيم مخففة ذا نفع نوعي لعموم الناس، ولكنه ذو ضرر نوعي على كافة

ص: 446


1- واللاضرر على الحكومة الشرعية.
2- كبضائع الصين الآن.

منتجي البضائع الوطنية، وعكسه بالعكس، ثم المعادلة بينهما وتشخيص أن هذا ربح موقت وذاك خسارة استراتيجية أم العكس، وكذا لو تعارض ضرران نوعيان لجهتين أو شعبين، كما لو كان الطرفان هما البلدانالمصدِّر والمستورد وكانت الرسوم تضر بأحدهما وتنفع الآخر مع كونهما بلدين إسلاميين.

وهنا نقول: ألا يتوقف تشخيص البند الرابع وكذا الثالث على الاجتهاد؟ ثم ملاحظة نسبته مع البنود الثلاثة الأخرى؟ وهل يتيسر ذلك لعامة الناس؟ أم أنه مما يجب أن يرجعوا فيه إلى الفقهاء الخبراء؟

ولا يخفى أن تمامية ما ذكر ههنا يستلزم عدم حجية رأي المجتهد غير الخبير فيما له جانبان فقهي وخبروي اقتصادي أو سياسي أو غيره، بل الحجة هو رأي أكثرية المجتهدين الخبراء.

وقد يجاب بكون الإمام (عليه السلام) قد جعل الفقهاء حكاماً دون تقييد بهذا القيد.

وقد يردّ بأنه قد ذكر في بعض الروايات هذا القيد، كقوله (صلى الله عليه وآله): (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) (1)، فإنه لا يطلق على غير الخبير أنه من ذوي الرأي فيما يحتاج إلى الخبروية، بل لا يطلق عليه (العاقل) حينئذٍ، وهو الوارد في عدد من الروايات، أولاً.

وثانياً: على فرض تسليم عدم الذكر، فإنما هو لارتكازيته وكون بناء العقلاء عليه، وليس الإطلاق بحيث يصلح أن يكون رادعاً،فتأمل.

وربما سنتطرق لهذا البحث بالتفصيل في المجلد الثاني بإذنه تعالى.

ثم إنه إذا رجع عامة الشعب إلى مراجعهم واختلفوا في الرأي - فحيث لا يمكن التفكيك كما أسلفناه أول هذا البرهان وفي فصل آخر - فحيث إن تجنبه

ص: 447


1- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.

مواطن الخطأ غير ممكن له بصرف الاستشارة واستعراض آراء مختلف الفقهاء مشفوعة بأدلتهم، فلا مناص لهم عقلاً وحسب تلك الروايات - كما بيناه في الأمر الثاني - من الرجوع إلى رأي أكثرية المراجع المقلَّدين، فتكون هي الملزمة النافذة.

الوجه الرابع: صدق الاستبداد على مخالف الأكثرية، و(من استبد برأيه هلك)

ويمكن الاستدلال بهذه الروايات بطريق آخر(1) هو:

أن إيقاع النفس في التهلكة حرام، وحيث إن الاستبداد إيقاع للنفس فيها، لصريح قوله (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك)(2)، وغير ذلك من الروايات فهو محرم، ولا ريب في صدق (الاستبداد) فيمن حكّم رأيه على خلاف رأي الأكثرية.

نعم بقرينة (هلك) وبمناسبات الحكم والموضوع يمكن دعوى انصراف هذه الرواية وأشباهها - دون غيرها - إلى الاستبداد في الأمور الخطيرة، لعدم استلزام الاستبداد في غيرها الهلاك، ولا شك في كون الشؤون العامة من الأمور الخطيرة، بل من أجلى مصاديقها.

اللهم إلا أن يدعى - بقرينة وحدة اللسان في أمثال هذه الرواية، وفي (فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (3)، و: (من لا يستشر يندم) (4)

ص: 448


1- وقد تطرقنا لهذا الطريق بوجه آخر بشكل مفصل ضمن بيان الأدلة العقلية على وجوب اتباع الأكثرية.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15584.

وأشباهها - إن المراد من (الهلاك) الأعم من المعنى الحقيقي والمجازي، فيشمل ما لو اشترى داراً أو عقد على امرأة دون استشارة حيث يعبر عن ابتلائه بالمصائب والمشاكل ب(الهلاك) توسعاً، إذ الهلاك في كل شيء بحسبه، فتأمل.

نعم لا وجه لدعوى انصراف بعض الروايات الأخرى، كقوله: (مفسدة في الدين والدنيا) للأمور الخطيرة، وقد يقال: بأن أمور الآخرة بما فيها تشخيص موضوعاتها المترتبة عليها أحكامها، كلهاخطيرة؛ فإن المعاصي حتى صغيرها خطير، والمقصر في المقدمات ومنها تشخيص موضوع المحرم أو الواجب عاص، فتأمل.

ثم إنه لا يخفى عدم إضرار هذا المعنى الأعم - على فرض الصيرورة إليه - بالمدعى، إذ لا مانعة جمع بين كون التحرز عن (الهلاك المجازي) مستحباً وكونه عن (الهلاك الحقيقي) واجباً.

ص: 449

بحث عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى

إلا أن يقال: إنه يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو محال.

وفيه أولاً: أما مبنى، فبعدم المحالية، إذ ليست علقة اللفظ بالمعنى علقة الفاني في المفني فيه حتى لا يعقل فناء شيء في شيئين كما ذكره الآخوند (قدس سره)، بل إن الألفاظ مشيرة للمعاني، وحديث الفناء مما لا دليل عليه، بل هو (أي فناء شيء في شيء) من المحالات عقلاً إن قصد به المعنى الحقيقي دون التنزيل، ومن الواضح إمكان إشارة شيء واحد إلى أكثر من أمر بتعدد الاعتبارات، فإن دلالة اللفظ على المعنى أمر اعتباري مجعول وليست ذاتية له، وكما يمكن اعتباره دالاً على معنى، يمكن اعتباره دالاً على آخر أيضاً طولاً أو عرضاً.

بل حتى لو كانت الدلالة ذاتية للألفاظ، إذ ما المانع من انتزاع ذاتيين بذاتي باب البرهان من شيء واحد من جهات متعددة؟ أ لا ترى (زيداً) مثلاً ينتزع منه الإمكان باعتبار(1)، والفردية باعتبار، والمعلولية باعتبار، والحدوث باعتبار، والماهية باعتبار، بناءً على أصالة الوجود، أو الوجود بناءً على أصالتها، إضافة إلى أنه يمكن تصويره بنظير (متمم الجعل)، فتأمل.

وأما بناءً: فلو قبلنا استحالته نقول:

ثانياً: بأن المستحيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى على أن يكون كل منهما أو منها مدلولاً مطابقياً وتمام المراد والمستعمل فيه اللفظ، لا فيما كان كل

ص: 450


1- أي بلحاظ.

منهما أو منها بعض المدلول والمستعمل فيه على نحو الدلالة التضمنية.(1)

وثالثاً: إن (الجامع) ولو الانتزاعي أو الاعتباري منه كافٍ، فاللفظ مستعمل فيه لا في معنيين، ألا ترى أن الجامع بين الركوع والذكر والنية وغيرها ليس أمراً حقيقياً، بل إنه أمر اعتباري، لكون بعض أجزائها من مقولة الفعل، وبعضها من مقولة الوضع، وبعضها من مقولة الكيف، ولا جامع بينها لكونها أجناساً عالية، وقد استعمل الشارع والمتشرعة والناس (الصلاة) في ذلك الجامع(2)، وألا ترى (المخلوق) و(المعلول) وكذا (الجنس العالي) دالاً على الأجناس العالية العشرة مع عدم وجود جامع حقيقي بينها، لعدم وجود جنس لها، بل الجامع أمر اعتباري أو انتزاعي فقط؟!

هذا، إضافة إلى أننا لا نحتاج إلى الجامع بين الوجوب والاستحباب (أو موضوعيها) لتثبيت المدعى، إذ قوله (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك) (3)، لو شمل الأمور الخطيرة وغيرها، بأن شمل ما يصدق عليه عرفاً أنه (تهلكة) كالقتل والمرض الشديد وتحطيم الاقتصاد الوطني و... فتكون الرواية مبينة للموضوع وأن الاستبداد سبب للهلاك، ومن الواضح أن (الهلاك) و(التهلكة) موضوع للحرمة فيكون الاستبداد محرماً إلا فيما كان الهلاك مجازياً، فتأمل.

ومما يرشد إلى ما ذكرناه من حكم العقل باتباع الأكثرية: الفرض التالي، وهو أنه لو فرضنا عشرة أشخاص في غابة خطرة بحيث لو تفرقوا لهلكوا جميعاً، لتوقف دفع خطر الحيوانات عنهم على اجتماعهم وتعاضدهم، ووصلوا إلى مفترق طرق ثم ارتأى سبعة منهم مثلاً أن هذا الطريق آمن وذاك مهلك، وثلاثة ارتأوا العكس ولم يكن بإمكانهم التفرق أو المكوث هناك لأدائه إلى هلاكهم

ص: 451


1- لا يخفى أن هذا الجواب منقح للجواب الأول وقد يعد مبنائياً.
2- إن لم ينكر الجامع البسيط ويدعى كونها موضوعة للمجموع دالة على كل جزء بالتضمن.
3- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم 500.

جميعاً(1)، ودار الأمر بين الطريقين، ألا ترى العقل يقبح اتباعالأكثرية هنا للأقلية في سلوك الطريق الذي تراه الأقلية آمناً، ويوجب اتباع الأقلية للأكثرية في طريقهم وإن أوجب باعتقادهم الهلاك(2)؟ وألا ترى أن الشخص الحادي عشر لو فرض وجوده سيرجح اتباع طريق الأكثرية، بل حتى وإن أمكن التفكيك بأن لم يكن في تفرقهم هلاكهم جميعاً، حيث انتخبت الأقلية طريقاً والأكثرية طريقاً آخر؟(3)، فتأمل.

ومما يرشد إلى ما ذكرنا أيضاً: ما التزم به الكثير من الفقهاء من كون الشهرة الفتوائية جابرة للرواية الضعيفة السند، وكون الشذوذ كاسراً ومضعفاً للرواية الصحيحة السند، وما ذلك إلا باعتبار أقربية نظرهم إلى الواقع من آراء الأقلية، وكون إعراضهم أو استنادهم كاشفاً عن جهة رجحان أو خلل في الرواية وإن خفي علينا ذلك.

ص: 452


1- هذا المثال ينطبق على ما نحن فيه من شورى المراجع تماماً، فراجع الأمر الأول والأمر الثاني المذكورين سابقاً.
2- لكن قد يقال: إن ذلك لكونه من باب التزاحم والمقام باب التعارض، وفيه: إن مقامنا منه أيضاً، إذ توجد الجهتان معاً، فلنفس الأقلية والأكثرية من جهة تخالف مصالحهم ومن سواهم، فالتزاحم، ولهما ولغيرهما من جهة الكاشفية عن الواقع، فالتعارض.
3- وهذا المثال ينطبق على ما نحن فيه أيضاً لدوران أمر الشعب بين اتباع رأي أكثرية شورى الفقهاء أو الأقلية.

الفصل الثالث: في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة

اشارة

ص: 453

ص: 454

المقبولة والمرفوعة
اشارة

ومما يرشد إلى ما ذكرنا أيضاً من أقربية رأي أكثرية الفقهاء، وأكثرية أهل الخبرة مطلقاً، للإصابة ولزوم إتباعها لذلك، قوله (عليه السلام) في المرفوعة:

(خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَ دَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ، فَقَالَ (عليه السلام): خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ) (1).

وفي المقبولة، قال: (يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا، وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لا رَيْبَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الأُمُورُ ثَلاثَةٌ: أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ، وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ، وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): حَلالٌ بَيِّنٌ وَحَرَامٌ بَيِّنٌ وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ)(2).

الاستدلال بالمقبولة

فقد أمر الإمام (عليه السلام) في المرفوعة بالأخذ ب- (ما اشتهر بين أصحابك)، وردع عن الأخذ ب(الشاذ النادر)، وأما في المقبولة فقد أمر بالأخذ ب- (المجمع عليه) وأنه (يؤخذ به) و(يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك).

ص: 455


1- مستدرك الوسائل: ج17 ص303 ب9 ح21413.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

ولنبدأ بالكلام عن المقبولة:

فإن المجمع عليه لا ريب فيه

فقد أمر الإمام (عليه السلام) بالأخذ ب(المجمع عليه)، والمفسر بالمشهور، لقرينة المقابلة في صريح كلامه (عليه السلام)(1).

(فإن المجمع عليه لا ريب فيه) والمراد ب(لا ريب فيه): عدم الريب الإضافي لا الحقيقي، كما سيأتي تفصيله، فالمجمع عليه أقل ريباً، مما يعني أنه أقرب للواقع من غيره، ولذلك أمرنا بالتمسك به.

الأجوبة عن أن اللام في (المجمع عليه) للعهد

لا يقال: إن اللام في (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) للعهد، فتدل الرواية على نفي الريب عن خصوص (الخبر المجمع عليه) لا مطلق ما لا ريب إضافي فيه وإن كان اجتهاداً واستنباطاً.

إذ يقال: أولاً: الأصل في اللام الجنس، كما فصلناه في موضع آخر.

ثانياً: إن ظاهر التعليل هو التعليل بكبرى ارتكازية لا تعبدية، وتخصيص الكبرى ب(الرواية المجمع عليها) يخرجها عن الارتكازية إلى التعبدية، واحتمال خصوصية في الخبر والرواية موجبة لترجيحه بالشهرة دون غيره يدفع بالأصل(2).

ومن ذلك يظهر أن سبق (الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك) غير

ص: 456


1- فتأمل.
2- فصّلنا في موضع آخر بين الأنواع والأفراد، كما فصلنا الكلام في بعض الكتب حول أن الأصل في علل الشارع أنها حِكَم، فلا بد من ضم ما هنالك إلى ما ذكرناه ههنا.

مضر وغير موجب لعهدية اللام في (فإن المجمع عليه)، ألا ترى أن الطبيب أو المولى إذا قال للمريض أو لعبده - إرشاداً على الأول ومولوية على الثاني -: (لا تأكل الرمان الحامض فإن الحامض كذا وكذا)، لا يسبب سبق الحامض حمل (فإن الحامض) على خصوص الرمان، بل العرف يرى اللام للجنس لاللعهد رغم سبق معهود، ولذا نجد أنه لو أكل برتقالاً حامضاً لامه العقلاء على ذلك، ولم يقبلوا منه تعلله بأن اللام للعهد.

هذا إضافة إلى ما سبق مفصلاً عند الكلام حول الآية الكريمة: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)(1)، من أن سبق معهود لا يسبب حمل اللام على العهد فيما كان المقام مقام تعليل، وفيما ذكر المحلى بأل في ضمن العلة، نعم لو لم يكن المقام مقام التعليل يكون السبق سبباً لكون اللام للعهد، كما في (أَرْسَلْنا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(2)، ولذا لا تحمل اللام على العهد عرفاً لو وقع (الرسول) ضمن علة، كما لو قال تعالى (أرسلنا إلى فرعون رسولاً لأن رحمتنا تقتضي إرسال الرسول، أو لأن الرسول سبب لهداية بعض، ولاتمام الحجة على بعض آخر)، ولو كان تأمل في محلى بأل وقع علة لما وقع، فلا مجال له في محلى جعل علة للأمر أو النهي كما فيما نحن فيه، (فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، وكما في قول المولى: (انصر زيداً إذا ظُلم) أو (انصر هذا الرجل المظلوم فإن المظلوم تجب نصرته) إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثالثاً: سلمنا أن اللام للعهد، إلاّ أن الحكم هنا (وهو الترجيح) منصوص العلة: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، والعلة معممة ومخصصة، لدوران الحكم

ص: 457


1- سورة آل عمران: 159
2- سورة المزمل: 15 - 16.

مدارها، فينتقل من هذا الموضوع (الخبر) إلى موضوع آخر كالاجتهاد مثلاً لمعممية العلة، كما يتعدى من الخمر إلى النبيذ لعلة الإسكار، واحتمال خصوصية في (الخبر) ولحاظ جانبي الموضوعية والطريقية يدفع بالأصل، كما في (لا تشرب الخمر) لأن الخمر مسكر، فتأمل.

بحث عن أن المراد من (لا ريب فيه) الحقيقي أو الإضافي

لا يقال: ليست العلة هي عدم الريب الإضافي وإن كان فيه ألف ريب، (لتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها، مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الروات وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) موجبة لكون الرواية مما يطمئن بصدورها بحيث يصح أن يقال عرفاً: إنها مما لا ريب فيها كما لا يخفى، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمينان بالصدور، لا إلى كل مزية ولو لم توجب إلاّ أقريبة ذي المزية إلى الواقع من المعارض الفاقد لها).(1)

مناقشات تفصيلية لدعوى الآخوند أن اللاريب حقيقي

فإنه يقال:(2)

أولاً: إن هذه الدعوى عهدتها على مدعيها، خاصة وأن الشهرة روائية لا فتوائية، ونقل المشهور لرواية أعم من الالتزام بصدورها أو دلالتها، وكونها لا ريب فيها في نفسها؛ ولذا رووا روايات ضعافاً كثيرة في كتبهم حيث لم يكن

ص: 458


1- كفاية الأصول: ج2 ص398.
2- غير خفي أن بعض هذه الأجوبة وارد عليه (قدس سره) وبعضها على تطبيق كلامه على المقام، فليلاحظ.

مبناهم على نقل صحاح السند فقط، بل كان على نقل مختلف الروايات، كما رووا ما فيه التقية وغيره (أي مختل الجهة وغيره)، فصرف الشهرة الروائية لا توجب نفي الريب الحقيقي عن الرواية سنداً ودلالةً وجهةً، بل غايته النسبي والإضافي.

ثانياً: إن المرجحات الصدورية لو وجب الأخذ بها فليس ذلك إلاّ لإفادتها أقوائية كون المضمون هو حكم الله، وذلك لأن صدور الحكم عن الإمام (عليه السلام) ملحوظ طريقاً إلى كشف أحكام الله الواقعية، وحجية كلماتهم (عليهم السلام) إنما هي بلحاظ كونهم الوسيلة إلى الله والطريق إليه، ولذا قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ * لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(1)، وقالسبحانه: (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ)(2).

ولذا لو انفكا لم يعمل به حتى في صورة القطع بالصدور، فكيف في صورة الترجيح فقط، فلو قطعنا بصدور خبر وشككنا في كون مضمونه حكم الله، إما لاحتمال التقية أو لاحتمال كون الأمر صورياً أو إرادة معنى آخر كنايةً أو ما أشبه ذلك، لما وجب علينا العمل به إلاّ لو دل دليل أو أصل على نفي تلك الاحتمالات مما يرجع بالآخرة إلى قيام حجة على تمامية المضمون وكاشفيته عن حكم الله، أما لو لم تقم حجة على كون هذا المضمون حكماً إلهياً لما وجب العمل به.(3)

ولا يخفى أن مرادنا من المضمون هو (مدلول الدليل وهو حكم الله) لا ما اصطلح عليه الشيخ (قدس سره) في بحث المرجحات المضمونية(4)، فتأمل.

ص: 459


1- سورة الحاقة: 44-47.
2- سورة العنكبوت: 18.
3- قد يكون الأفضل التمثيل بما إذا علمنا بالصدور وعلمنا بأنه صدر تقية أو صورياً أو غير ذلك.
4- الرسائل: ص451 التعادل والتراجيح.

هذا لو قطعنا النظر عن عدم تمامية جعل المرجح المضموني قسيماً للصدوري والدلالي، إذ احتمال الاشتباه في التعبير يعني احتمال ذكره العام خاصاً والمطلق مقيداً أو بالعكس (بأن تكون اللام للعهد فيتوهمها للجنس فيعبر بكلمة كل أو بالجمع المحلى، أو بالعكس) أو إبدال المشترك اللفظي بأحد معنييه أو معانيه مما تبادر إلى ذهنه أنه المراد (كإبدال القرء بالحيض أو بالطهر) أو التقديم والتأخير (كإبدال ما ضرب زيداً إلاّ عمروٌ ب: ما ضرب عمروٌ إلا زيداً) وهكذا، ومن الواضح أن معنى هذا الاحتمال (احتمال الاشتباه) هو إما احتمال عدم الصدور - عدم صدور هذه الكلمة الخاصة الدالة على حكم خاص، واحتمال صدور غيرها مما يدل على حكم آخر أعم أو أخص أو مباين - أو احتمال عدم الدلالة.

فمورد الرجحان هو الصدور أو الدلالة، وإن كان محل المرجح هو المتن - كما في مثال النقل باللفظ والمعنى - أو الخارج كما فيالشهرة الفتوائية التي ترجح صدور ما طابقته من الخبرين لا مضمونه دون صدوره، وكذا سائر ما يمكن فرضه من المرجحات المضمونية، فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر وجه الإشكال فيما ذكره الشيخ (قدس سره) من: (وإما أن يكون من حيث المضمون بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع)(1)، وقد علق عليه الآخوند (قدس سره) بقوله: (لا يخفى أنه يمكن أن يجعل هذا أيضاً من موارد مرجح الصدور، بداهة أن كون مضمون الخبر أقرب في النظر إلى الواقع يوجب أقربية صدوره كأفصحية لفظه، بل هو أولى بذلك كما لا يخفى، فتدبر جيداً).(2)

ص: 460


1- الرسائل: ص462 التعادل والتراجيح.
2- حاشية الآخوند على الرسائل: ص281، قبل عنوان (في المرجحات السندية) وقد يكون الأولى إضافة (أو دلالته) كما في بعض الأمثلة مما سبق.

ولأجل ما ذكرناه يقدم المرجح الدلالي على المرجح الصدوري، وذلك لكون كاشفية الخاص مثلاً عن حكم الله أقوى من كاشفية العام عنه في مادة الاجتماع، لأنه نص أو أظهر بالنسبة له، وقوة سند العام بل قطعيته لا تنفع في تقديمه، لعدم إفادتها قطعية كون هذا المضمون حكم الله(1)، ولولا لحاظ طريقية مرجحات الصدور لأقوائية كون هذا المضمون هو حكم الله لما تم ذلك.

وقولنا (كلما كان السند أقوى أفاد أقوائية المضمون) ليس على نحو العلة التامة كي لا يمكن التخلف ويستشكل به على(2) تقديم الأرجح دلالة على المقطوع صدوراً، بل يعني أن الخبرين لو تساويا دلالة وجهة، أو دلالة فقط - على المسلكين - كان المرجح الصدوري سبباً لأقوائية كون مضمونه هو حكم الله، أما مع أقوائية أحدهما دلالةً فليس موجباً لتلك الأقوائية، فسببيته مشروطة بفقد المرجح الدلالي،إذ هو مقتض لا غير، أو يقال بكونه جزء العلة والجزء الآخر هو تساويهما دلالة.

والخلاصة: إن الوثوق بالصدور لا موضوعية له، بل إنما لوحظ طريقاً للوثوق بكون مضمون الصادر هو حكم الله، للشواهد الآنفة الذكر ولغيرها، فليتدبر جيداً.

وإذا كان كذلك لزم التعدي منها إلى كل ما هو أقرب للواقع وإن كان بسبب التعدد، كتظافر أكثرية أهل الخبرة على أمر.

ورابعاً: سلمنا أن الشهرة الروائية في نفسها مما لا ريب فيها، لا أنها لا ريب فيها بالإضافة، وسلمنا أنها لا ريب فيها صدوراً لا مطلقاً، (فإنه المترقب

ص: 461


1- وبعبارة أخرى: المدار في معرفة الحكم على المراد الجدي لا الاستعمالي، والخاص أقوى في المراد الجدي من العام، فيكشف عن حكم الله تعالى غير تارك لأقوائية العام سنداً مجالاً ليتقدم عليه.
2- أو العكس: أي يستشكل بتقديم الأرجح عليه.

من الشهرة في الرواية ونفي الريب من جميع الجهات مخصوص بالمشهور رواية وفتوى وعملاً، وهو غير مفروض في المقبولة والمرفوعة ولا في غيرهما)(1)، وسلمنا أن اللا ريبية الصدورية ليس ملحوظة من حيث سببيتها للاّريبية المضمونية، لكن نقول: إن تحيّث العلة بحيثية عند لحاظها باعتبار المورد ومنسوبة إليه لخصوصية فيه، لا يخرجها عن المعممية.

وبيان ذلك يظهر بالمثال التالي: فلو قال المولى لعبده: (لا تكرم زيداً لأنه لا ينصر المظلوم)، وكان المترقب من زيد لكونه ثرياً نصرته بالمال، فهل تختص العلة بكل من لا ينصره بالمال ممن من شأنه ذلك فقط، أم أنها تعمم الحكم لمطلق من لا ينصره سواء لم ينصره بالمال أم باللسان ممن من شأنه تلك النصرة وتترقب منه.

وبعبارة أخرى: خصوصية المورد لا تخصص الوارد، فكون زيد مترقباً منه النصرة المالية لا يخصص الوارد: (فإنه لا ينصر المظلوم) حتى يتقيد الحكم بصورة معينة.

وكذا لو قال: (أكرمه فإنه خدوم) أو (فإنه ناصرنا)(2)، وكانت حيثيات وأنواع الخدمة أو النصرة مختلفة(3)، بل حتى لو لم يكنيجمعها إلاّ جامع انتزاعي كالضرب بالسيف في خدمة مولاه، وهبة المال، وعدم احترام من أهان المولى وعدم الترويج له، وكونه مطأطأ رأسه في حضوره - وكان المترقب منه أحد تلك الأقسام لعدم تأتي سائرها منه فرضاً - فإنه لا جامع حقيقي بين الوجود والعدم، وبين مقولتي الفعل والوضع).

ص: 462


1- نهاية الدراية: ج3 ص174.
2- قد يكون الأولى التمثيل ب: (أكرم زيداً لأن العالم يكرم) وكان عالماً بالطب، لانطباقه على المورد أكثر.
3- وكان قد اتصف بواحد منها فقط.

وفيما نحن فيه: تسليم كون الشهرة الروائية مما لا ريب فيها في نفسها صدوراً، لا يسبب تخصيص الوارد: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) ب: (خصوص ما لا ريب فيه في نفسه صدوراً) باعتبار أن المورد كذلك.

وبعبارة أخرى: تحيث هذه العلة بهاتين الحيثيتين إنما هو بلحاظها منسوبة للمورد وملحوظة بالنسبة إليه، لا في حد ذاتها، ولو سبب ذلك خروجها عن العموم لخرجت جل العلل لو لم نقل كلها عن المعممية واختصت بواجد خصوصية المورد.

هذا، وقد سبق الجواب عن احتمال كون اللام للعهد، ولكن الأمر هين، إذ الكلام ههنا من حيث خصوصية المورد وأن المترقب من الرواة كذا، لا من حيث الألف واللام، إضافة إلى عدم احتمال كون اللام للعهد باعتبار أقوائية الصدور، إذ المعهود المذكور هو الخبر فقط، وأقوائية الصدور مورد لا غير.

هذا، إضافة إلى لزوم أن يلتزما - الآخوند والكمباني (قدس سرهما) - بالتعدي عن مورد الرواية إلى خصوص المرجحات الصدورية الداخلية لا مطلقاً حتى لو كانت خارجية، لكون المورد مرجحاً لا ريب فيه في نفسه وصدورياً داخلياً، فما وجه التقييد في التعدي بالأولين دون الأخير؟

وخامساً:(1) إن دعوى إرادة عدم الريب صدوراً من (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) مما لا وجه لها، بل الظاهر إرادة عدم الريب مطلقاً صدوراً ودلالةً وجهةً إن كان على الكل الإجماع، وإلاّ ففيما كان الإجماع عليه، لعدم التقييد أولاً، وبقرينة أمره (عليه السلام)بالأخذ بالمشهور معللاً إياه ب (أن المجمع عليه لا ريب فيه)، ومن الواضح لزوم الأخذ بخبر متفرع على عدم الريب فيه من

ص: 463


1- هذا الجواب مقدم رتبة على الجواب الرابع، لفرض تسليم أن الشهرة الروائية مما لا ريب فيها صدوراً فقط لا مطلقاً.

الجهات الثلاث ولا يصح تفريع لزوم الأخذ على قوة السند فقط، إلا أن يقال: بكون سائر الجهات مفروغاً عنها مفروضة التساوي أو مقطوع عنها النظر، فتأمل.

ومنه يظهر: وجه النظر فيما ذكره الآخوند (قدس سره) بقوله معلقاً على قول الشيخ (قدس سره): (لا ريب أن المشهور بهذا المعنى ليس قطعي المتن والدلالة)(1): (لا يخفى أن حيثية الدلالة أجنبية عما هو مفروض المقام، إذ الكلام إنما هو من حيث خصوص الترجيح بين الخبرين بالسند لا الدلالة ولا الأعم منهما)(2).

إذ يرد عليه: إن أجنبية الدلالة عن مفروض الشيخ في المقام - لو سلم ذلك - لا يستلزم أجنبيتها عن الرواية الشريفة، وليس في الرواية تخصيص بأن الكلام في المرجحات السندية كما لا يخفى، خاصة وأن الحاكمين إنما استندا إلى روايتين في حكمهما لتمامية السند والدلالة والجهة عندهما، وكون رجوع العامي إليهما بعد الفراغ عن ذلك، ولذا حكم كل على طبق رواية فالأمر بالأخذ بالرواية المشهورة أمر بالأخذ بحكم من استند إلى الرواية المشهورة لكونه مورد السؤال، بل قد صرح (عليه السلام) بحكمه أولاً حيث قال: (... فليرضوا به حَكَماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه) (3)، إضافة إلى ظهور كلام السائل في الأعمية من سند الحديثين أو دلالتهما أو جهتهما، ومما يشهد به أيضاً ورود كلمة (نظر في حلالنا وحرامنا) وجعل الإمام (عليه السلام) الترجيح بالفقاهة المعتبرة في استنباط الدلالة كالسند بل بشكل أقوى، فتأمل.

وقد يقال: إن السياق ظاهر في كون الترجيح بالشهرة من حيث السند لا

ص: 464


1- الرسائل: ص450.
2- حاشية الآخوند على الرسائل: ص273.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

غير، خاصة مع ذكر (قد رواهما الثقات عنكم) (1)، واعتباره تفسيراً ل(مشهورين)، فتأمل.

وحيث إن عدم الريب الحقيقي صدوراً وجهةً ودلالةً غير ممكن إرادته، وإلا لما أمكن فرضهما مشهورين، كان المراد عدم الريب الإضافي، فيكون مناط الترجيح ما لو كان أحدهما أقل ريباً من الآخر، فتأمل.

وبعبارة أخرى: (الريب) في (لا ريب) إما أن يراد به الأعم من البطلان القطعي(2) والظني والشكي والوهمي مطلقاً (أي صدوراً ودلالةً وجهةً)، أو الأعم من الثلاثة مطلقاً أيضاً، أو الأعم منها صدوراً فقط.

والأول: مساوق للقطع بالصحة، وإرادته ممتنعة، للقطع(3) بعدم حصول القطع بالصحة من الشهرة الروائية، ولامتناع فرضهما مشهورين، لامتناع تعارض دليلين قطعيين من جميع الجهات ولامتناع الحكم مع شهرتهما بالرجوع إلى المرجحات الأُخر.

والثاني: مساوق للظن بالصحة، وحيث تعذر المعنى الحقيقي وكان هذا أقرب المجازين تعين حمله عليه، إضافة إلى ما سبق من كون التقييد ب(لا ريب فيه صدوراً) خلاف الأصل.

ببيان آخر: (لا ريب فيه) له إطلاقان من جهتين (شكاً ووهماً، صدوراً ودلالةً) والخروج عن الإطلاق الأول لدليل لا يستلزم الخروج عن الإطلاق الثاني بلا دليل، كما هو واضح.

ولا يرد (ولا يمكن إرادته من الخبر وإلاّ لم يعقل فرض الشهرة في الطرفين مع أنه مفروض في المقبولة والمرفوعة، لكنه إنما أريد من نفي الريب بقول مطلق

ص: 465


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- هذا من باب الأولوية لا لشمول (لا ريب) له.
3- هذا الوجه لعدم الوقوع، والأخيران للامتناع.

نفيه من حيث الصدور فإنه المترقب...)(1)، إن كان مرجع الضمير في (إرادته) هو الاحتمالالثاني لا الأول مما ذكرناه من الاحتمالات الثلاثة.

وذلك: لأن تعارض ما كان حجيتهما من باب الظن النوعي غير عزيز، فكون الشهرة الروائية موجبة لنفي الريب مطلقاً (صدوراً ودلالةً) بالمعنى الثاني(2)، يعني أنها توجب الظن بالصحة، فلو كان المراد الظن الشخصي لما أمكن فرض مشهورين متخالفين، لعدم إمكان اجتماع ظنين شخصيين على الخلاف، أما لو كان المراد الظن النوعي فلا مانع من فرض الشهرة في الطرفين، ألا ترى أن المولى لو قال: (خبر الواحد العدل المؤمن الضابط...إلخ) حجة، كان للعبد أن يسأل: وماذا لو تعارض خبران بتلك الصفة عامان من وجه أو متباينان كلاهما موافق أو مخالف لهم؟

وبعبارة أخرى: لو كان المراد من (لا ريب) اللا ريب الشخصي لم يمكن ذلك الفرض، لا ما لو أريد النوعي.

وبعبارة ثالثة: إن كون (المجمع عليه لا ريب فيه) إنما هو بنحو المقتضي لا العلية التامة، بمعنى أن الشهرة الروائية تقتضي نفي الريب لا أنها علة تامة له، إذ من الواضح تقيد هذه القضية بعدم المانع، كقولك النار محرقة، المقيد بعدم العازل كالرطوبة المانعة عن الإحراق، وخبر الواحد حجة أو الظواهر حجة المقيدين بعدم المانع عن الحجية - كوجود معارض أقوى ووجود قرينة على الخلاف - فلو تعارضا كان العلم بكذب أحدهما إجمالاً مانعاً عن لا ريبيتهما، فيكون في كليهما ريب، ولذا أرجع الإمام (عليه السلام) إلى سائر المرجحات عند ذلك حيث ينفى الريب بها.

ص: 466


1- نهاية الدراية: ج3 ص174.
2- إذ يعني (لا شك فيه) وإن كان الوهم على خلافه.

ألا ترى أن الصحيح الأعلائي التام الدلالة لا ريب فيه، مع صحة السؤال عن صورة معارضته لآخر، ومع تقيد حجيته بعدم وجود متواتر قطعي الدلالة أو ظنيها وكونها أظهر من ذلك الصحيح، على خلافه؟

ويمكن جعل ما ذكر في: (وبعبارة ثالثة) جواباً آخر عن كلام الأصفهاني (قدس سره) بناءً على كون مرجع الضمير هو الاحتمال الأول، بأن أريد: لا ريب فيه حتى وهماً، إذ لا شك في أن نفيالريب عنه نفي حكمي لا حقيقي، أي هو بمنزلة القطع في ترتب الآثار، وإذا كان المراد ذلك بنحو الاقتضاء لم يكن مانع من فرض التعارض.

سادساً: إن تخصيص (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) باللا ريبية صدوراً، يخرج التعليل عن كونه تعليلاً بأمر ارتكازي إلى التعليل بأمر تعبدي، وهو خلاف الأصل، لكون الأصل في التعليل الارتكازية، لما ذكره السيد الحكيم (قدس سره): (لأن الغرض من التعليل التنبيه على وجه الحكم بحسب ما عند المخاطب، فلو كان تعبدياً لم يترتب عليه الغرض المذكور)(1) أو لغيره.

وقد التزم بهذا الأصل الآخوند (قدس سره) بنفسه في مواضع، منها عند الاستدلال بصحيحة زرارة(2)، حيث ضعّف احتمال اختصاص (ولا ينقض اليقين بالشك أبداً) باليقين والشك في باب الوضوء، ب(فإنه ينافي ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعاً)(3)، كما قال قبل ذلك: (إنه لا ريب في ظهور قوله (عليه السلام): وإلا فإنه على يقين.. إلخ، عرفاً في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه، وأنه (عليه السلام) بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله (عليه السلام): (لا) في جواب (فإن حرك في جنبه..) الخ، وهو اندراج اليقين

ص: 467


1- حقائق الأصول: ج2 ص402.
2- تهذيب الأحكام: ج1 ص8 ب1 ح11.
3- كفاية الأصول: ج2 ص284.

والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب).(1)

وأما كون التخصيص بالصدور موجباً لتعبدية التعليل فلأن العقل والعرف لا يريان خصوصية في الصدور ليكون اللا ريب فيه فقط موجباً لأرجحيته دون الدلالة ووجه الصدور، بل إنهم إما أن يرون اللا ريبية الحقيقية أو الإضافية موجبة للترجيح مطلقاً أو لا مطلقاً، فليتدبر.

هذا، وقد تحدثنا عن تعبدية التعليل أو ارتكازيته في مكان آخر من هذا الكتاب فليراجع.(2)

هذا تمام الكلام في جملة: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه).

ص: 468


1- كفاية الأصول: ج2 ص282.
2- لا يخفى أن بعض هذه الإشكالات الستة وارد على كلام الآخوند (قدس سره) بلحاظ ما ذكره الكمباني (قدس سره) دفاعاً عنه، فتأمل.
الاستدلال ب (وإنما الأمور ثلاثة)

وأما الجملة الأخرى من المقبولة: (وإنما الأمور ثلاثة...)(1)، فيمكن الاستدلال بها على المدعى أيضاً(2)، إذ إن الإمام (عليه السلام) اعتبر (المشهور): (أمراً بيناً رشده)، و(الشاذ): (أمراً بينّاً غيّه)، حيث عقب قوله (ينظر إلى ما كان من...، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ.. فإن المجمع عليه لا ريب فيه) بقوله: (وإنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب...)(3)، حيث إن ظاهره إن لم يكن صريحه تطبيق (أمر بين رشده) على (المجمع عليه بين أصحابك)، ولذا حكم في (الأمر البيّن رشده) بالاتباع وفي (المجمع عليه) بالأخذ، وكذا في (الأمر البين غيه) بالاجتناب، وفي (الشاذ) بالترك، مع أنه القسمة حاصرة، فلا يخرج المجمع عليه والشاذ عن الأقسام الثلاثة، وحيث إن المجمع عليه ليس أمراً مشكلاً لأنه (عليه السلام) صرح بكونه لا ريب فيه، ولأن المشكل حكمه الرد إلى الله، أما المجمع عليه فقد جعل حكمه (الأخذ)، كما أنه ليس أمراً بيِّناً غيُّه، وإلا لحكم عليه بالاجتناب لا بالأخذ، فهو إذن (أمر بيّن رشده).

ومن الواضح أن (المجمع عليه) لو لم يكن أقرب إلى الواقع صدوراً وجهةً

ص: 469


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- الاستدلال إما بلحاظ اعتبار إرادة الشهرة الاصطلاحية من المقبولة بقرينة المقابلة بالشاذ وفرض تعارض الروايتين المشهورتين، وفيه: ما لا يخفى، وإما بلحاظ ادعاء كون ما نحن بصدده من مصاديق (أمر بيّن رشده فيتبع) بالأدلة التي أقيمت في هذا الكتاب عقلاً ونقلاً، فيكون مرجعه إليها.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

ودلالةً لما كان أمراً بيناً رشده، ولما كان حلالاً بيناً، ولو لم يكن (الشاذ) أبعد عنه لما كان أمراً بيناً غيّه، أو (أمراً مشكلاً) حسب احتمال، ولما كان حراماً بيناً، أو (شبهات بين ذلك)علىاحتمال، ولما نهينا عن الأخذ به، إلاّ أن يستشكل بما سبق، فليلاحظ.

إلى هنا انتهينا من الحديث عن المقبولة، فلنعطف الكلام إلى:

ص: 470

الحديث عن المرفوعة
اشارة

فنقول: إن الإمام (عليه السلام) في المرفوعة قدم الترجيح بالشهرة والشذوذ على الترجيح بصفات الراوي، مما يعني أن الرواية المشهورة تقدم وإن كانت أضعف سنداً على الرواية الشاذة رغم صحة سندها، وذلك كله يعني أن الظن النوعي الحاصل من (الشهرة) أقوى من الظن النوعي الحاصل من (الصحة والحسن والممدوحية) حسب الضوابط المذكورة في الأصول والدراية، وأن (المشهور) أقرب إلى الواقع من غيره، وإن كانت له سائر المرجحات.

و(المقبولة) وإن قدمت الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة والشذوذ فتأمل(1)، إلا أن عمل الفقهاء على العكس، ف(المرفوعة وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح، فإن طريقتهم مستمرة على تقديم المشهور على الشاذ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميت مقبولة إلاّ أن عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذة من حيث الرواية حيث لم يوجد مروية في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ولم يحكها إلاّ ابن أبي جمهور عن العلامة مرفوعاً إلى زرارة).(2)

ولئن تردد في ترجيح المشهور رواية على الشاذ، لكون نقل المشهور رواية أعم من التزامهم بصحتها، فلا إشكال في ترجيحه إذا وافقته الشهرة الفتوائية، بل إن المشهور التزموا بمرجحية الفتوائية وإن تجردت عن الروائية.

ص: 471


1- إذ الترجيح بالصفات ترجيح لأحد الحَكَمين على الآخر، لا لإحدى الروايتين على الأخرى في مقام التعارض.
2- الرسائل: ص447 التعادل والتراجيح.
مناقشة مع الشيخ :

ومن هنا يظهر: ما في كلام الشيخ (قدس سره): (ولا دليل على الترجيح بالشهرة العملية)(1)، وما ذكره بعد ثلاث صفحات عند استدلاله للتعدي عن المرجحات المنصوصة ب: (ومنها: تعليله الأخذ بالمشهور بقوله: فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، حيث قال: (فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذ، بأن في الشاذ احتمالاً لا يوجد في المشهور، ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالاً لمخالفة الواقع)(2)، فكيف لا يوجد دليل على الترجيح بالشهرة العملية مع التزامه (قدس سره) ب: (التعدي عن مورد النص)، فإن التعدي لا يختص بالجهة التي أرادها (قدس سره) و(الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالاً لمخالفة الواقع)، هذا مع أقوائية الشهرة العملية من الشهرة الروائية، باعتبار أن نقل المشهور للرواية أعم من التزامهم بصحتها سنداً وبدلالتها متناً، أما الشهرة العملية (ومورد الكلام فيها في بحث التعادل والتراجيح هو ما لو وجدت رواية أفتى المشهور على طبقها وهو المسمى بالضعيف المنجبر بعمل الفقهاء به) والتزامهم بمؤدى الرواية، فإنه يعني عرفاً التزامهم بصحتها سنداً ودلالتها متناً، على عكس الشهرة الفتوائية، فتأمل.

هذا، ولو سلمنا عدم الأقوائية بل وعدم المساواة، فلا أقل من أن الشهرة العملية توجب أقلية الاحتمال، فتندرج في عموم العلة، فكيف لا يوجد دليل على الترجيح بها؟

ص: 472


1- الرسائل: ص448 التعادل والتراجيح.
2- الرسائل: ص450.
المصباح: الشهرة بمعنى الوضوح

لا يقال: (إن الشهرة بمعنى الوضوح، ومنه قولهم شهر فلان سيفه، وسيف شاهر، فمعنى كون الروايتين مشهورتين أنهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب وعلم صدروهما عن المعصوم (عليه السلام)، وظهر بما ذكرناه عدم صحة الاستدلال بما في المرفوعة منقوله (عليه السلام): (خذ بما اشتهر بين أصحابك) على الترجيح بالشهرة الاصطلاحية)(1).

ولنا أن نستدل على ما ذكره (دام ظله) بما ذكره في لسان العرب قال: (... الجوهري: الشهرة وضوح الأمر... وقال أبو العباس: إنما سمي شهراً لشهرته وذلك أن الناس يشهرون دخوله وخروجه، ومثله قال الزجاج.. والشهر القمر سمي بذلك لشهرته وظهوره...)(2).

وقال في مجمع البحرين: (... والشهر والمشهور: المعروف وشهر سيفه أي سله)(3).

ويؤيده حلول المشهور محل المجمع عليه في المقبولة في كلام الإمام (عليه السلام) والراوي.

ولا يرد عليه: تأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالصفات في المقبولة، فلو لم يكن المراد الشهرة الاصطلاحية كان اللازم العكس، إذ اللازم ترجيح الواضح على غيره، وذلك(4) الترجيح بالصفات فيها ترجيح لأحد الحَكَمين على

ص: 473


1- مصباح الأصول: ج3 ص413.
2- لسان العرب: ج4 ص431-432 مادة شهر.
3- مجمع البحرين، للطريحي: ج3 ص357 مادة شهر.
4- بيان عدم الورود.

الآخر، لمكان إضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمين، والترجيح بالشهرة ترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى.

مناقشات مع مصباح الأصول

فإنه يقال: من الممكن أن يلتزم بأن المراد من الشهرة في (المرفوعة) هو المعنى العرفي المتداول حالياً، والمراد في(الأصول) أيضاً عادة من (اشتهر) و(المشهور) هو (المعروف)(1).

أولاً: للأصل العقلائي في عدم نقل الألفاظ، فإن (المشهور) يعني المعروف في متفاهم الناس وليس (الواضح)، ويؤكده كلام مجمع البحرين: (الشهير والمشهور المعروف)، والمعروف أعم من كونه (قد رواهما جميع الأصحاب) وأعم من كونه (علم بصدورهما عن المعصوم عليه السلام)، إضافة إلى أنه ليس له أن يحتج بكلام اللغوي، لأنه يراه أهل خبرة في الاستعمال دون الوضع، نعم المختار خلافه.

وثانياً: لمقابلته بالشذوذ والندرة في الرواية، حيث يراد بالشذوذ ما يقابل الشهرة بالمعنى المستعمل في العرف الخاص والعام، قال في لسان العرب: (شذّ عنه يَشذّ، ويشذ شذوذاً: انفرد عن الجمهور وندر، فهو شاذ.. وجاؤوا شذاذاً أي قلالاً... وشذاذ الناس متفرقوهم... وشذ الرجل إذ انفرد عن أصحابه، وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ)(2)، وقال في مجمع البحرين: (وفي القاموس: نوادر الكلام ما شذ وخرج من الجمهور.. والندرة: القلة)(3)، فتأمل.

ص: 474


1- أو المعروف لدى الأكثر.
2- لسان العرب: ج3 ص494-495 مادة شذذ.
3- مجمع البحرين: ج3 ص490 مادة ندر.

وثالثاً: إن الشهرة لو كانت بمعنى (الوضوح) ولو كان (معنى كون الروايتين مشهورتين أنهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب وعلم بصدورهما عن المعصوم عليه السلام)، لما كان مجال للترجيح بالأعدلية والأوثقية بعد فرض كون الروايتين مشهورتين، إذ مع فرض كونهما واضحتين معلومتي الصدور عن المعصوم لا يصح الإرجاع إلى الترجيح بالأعدلية والأوثقية وسائر المرجحات السندية(1)، بل يجري ذلك حتى لو أريد من الوضوح مرتبة الاطمئنان أيضاً.

ورابعاً: إن تقديم ما علم صدوره من المعصوم (عليه السلام) علىغيره أو حتى ما اطمئن بصدوره، من البديهيات المفروغ عنها، فلا يمكن أن يكون مورد السؤال والجواب ذلك، ولو تم ما ذكره كان إطلاق السؤال - وبقرينة الجواب أيضاً بناءً على كون معنى الشهرة ما ذكره - يشمل ما علم صدور أحدهما أو صدور كليهما، ولا تحير في ما لو علم صدور أحدهما فكيف يسأل عنه أو يصرف الجواب إليه؟ كما أنه لا تحير فيما لو علم بصدورهما من حيث السند، فكيف يقع الجواب بالترجيح السندي(2)، هذا.

وخامساً: إن ما ورد في كتب اللغة من كون الشهرة بمعنى الوضوح، لو سلم إرادته هنا فهو أعم من العلم والاطمئنان النوعي، فلا داعي للقول إن معنى كون الرواتين مشهورتين هو العلم بصدورهما عن المعصوم (عليه السلام)، ويبعد توجيهه بكون مراده من العلم الأعم من الظن النوعي.

هذا، ثم إنه إذا كان المراد من الشهرة الوضوح، بل وكذا لو أريد معناها الاصطلاحي، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على حجية رأي الأكثرية إلاّ بإثبات كون المراد ب- (ما) الأعم من الرواية، وفيه ما لا يخفى، أو إثبات كون الملاك في ترجيح أحد الخبرين هو صرف الشهرة، لقاعدة ارتكازية التعليل وغير

ص: 475


1- هذا الجواب مقتبس من (دروس في علم الأصول) الحلقة الثالثة، الجزء الثاني ص403.
2- وهذا الأخير كان مفاد الجواب الثالث، وأما ما سبقه فهو الجواب الرابع.

ذلك، كما مر مفصلاً، ومع كون المراد من الشهرة الوضوح فارتكازية التعليل أوضح.

وإثبات أن أكثرية الفقهاء من مصاديق المشهور بمعنى (الواضح) يتم بما مر وسيجيء مفصلاً، ومنه أن اجتهاد الواحد الجامع للشرائط إذا كان من مصاديق الواضح (لوضوح حجيته ببناء العقلاء وغيره) كان اجتهاد المتعدد من مصاديقه بشكل أولى، وليتأمل في ما سبق ذكره، والله الهادي.

ومما يؤيد كون رأي الأكثرية أقرب إلى الواقع: ما ذكره صاحب الجواهر (رضوان الله تعالى عليه) في كتاب القضاء، حيث حكم بجواز التشريك بين القاضيين في الجهة الواحدة على جهة الاجتماع على الحكم الواحد، مشبهاً إياه بالوصيين والوكيلين، وعلله ب: (للأصل ولأنه أضبط وأوثق للحكم خصوصاً بناء على ما هو الحقعندنا من أن المصيب واحد)(1)، وقال في مفتاح الكرامة: (وكونه في معنى قصر ولايتهما بما يتفقان عليه فيكون أوثق وأضبط)(2)، وسنتكلم حول هذا الفرع بالتفصيل في موضع آخر إن شاء الله.

لا يقال: ما ذكر ههنا - من حجية الشهرة، والترجيح بها عند التعارض، وكون ما انعقدت عليه أقرب للواقع من غيره - يناقض ما ذكر سابقاً من عدم كون الشهرة ظناً معتبراً، في الجواب الثاني عن إشكال عدم فهم الفقهاء من الآية الكريمة الوجوب؟

إذ يقال: إن ما ذكر هناك هو عدم حجية الشهرة على المجتهد والخبير، ولذا جرت سيرة العقلاء على اتباع اجتهادهم لو كانوا من أهل الخبرة وإن خالفهم المشهور، وعليه بناؤهم، وما ذكر هنا هو حجية الشهرة لغير الخبير ولغير المجتهد، بل نقول: إن المقصود إثباته هنا: حجية قسم خاص من الشهرة وهو الشهرة في

ص: 476


1- جواهر الكلام: ج40 ص60 كتاب القضاء.
2- مفتاح الكرامة: ج10 ص12 كتاب القضاء.

الشؤون العامة لا في الأحكام.

ولكن قد يناقش بأن رأي الأكثرية لو كان أقرب للواقع من رأي المجتهد المنفرد - للروايات ولحكم العقل كما فصلناه في فصولٍ أخرى - لزم عدم حجية رأي غيرها مطلقاً، سواء كان مجتهداً أم غيره.

إلا أن يقال: بأنه لا تلازم بين كون رأيها أقرب للواقع، وبين عدم حجية رأي كل فقيه لنفسه، ألا ترى حجية رأي غير الأعلم لنفسه - على بعض المباني بل كلها، لكون الخلاف في حجية رأي غير الأعلم لغيره وجواز تقليده وعدمه مع وجود الأعلم لا لنفسه - مع كون رأي الأعلم - خاصة مع تحقيقه في تلك المسألة وعدم مخالفته لأعلم آخر في عصر آخر - أقرب للواقع، وعلى ذلك بناء العقلاء وسيرتهم، ولذا يرون رأي الخبير حجة لنفسه وإن عارضه خبير أعلم في الطب والهندسة وسائر الشؤون.

وعلى ذلك تكون الأدلة الدالة على حجية ظن المجتهد لنفسهشاملة(1) لما لو انعقدت الأكثرية على خلافه، ولا مانع منه ثبوتاً، لإمكان وجود مصلحة في ذلك، وكون الأصل في الأدلة الطريقية لا يعني عدم حجية رأيه لمحكوميته - أي الأصل - بعموم الدليل، إلاّ أن يصرف عنه صارف، ويتضح ذلك أكثر لو التزمنا بأن الحجية تعني جعل حكم ظاهري على طبق مؤدى الدليل، أو تعني المنجزية والمعذرية.

وعليه فلا مدفع لذلك إلاّ القول باستثناء انعقاد الأكثرية في الشؤون العامة على خلاف رأي الفقيه من أدلة حجية نظره(2)، وأن الأكثرية حينئذٍ هي المتبع استناداً إلى مثل (وأمرهم شورى بينهم)(3)، وقاعدة (الضرر البالغ) وغيرهما

ص: 477


1- بناءً على شمول أدلة الحجية للمتعارضين.
2- لو قلنا: بأن أدلة حجية نظره شاملة للموضوعات أو للموضوعات العامة.
3- سورة الشورى: 38.

مما أسهبنا الكلام عنه في فصوله الخاصة فليراجع.

وحاصل الجواب: إن الشهرة ليست حجة إلاّ لو كانت في الموضوعات والأمور العامة، ومن الحِكَم في ذلك وجود حق الناس ههنا، فتدبر وتأمل.

ومن هنا يتضح: أن ما فرضناه من عشرة أشخاص في غابة وحكم العقل باتباع الشخص الحادي عشر للأكثرية، إنما هو فيما لو لم يكن خبيراً أدى ظنه إلى كون الطريق الفلاني آمناً، وفيما لم يكن عامياً قادراً على التشخيص وفهم الأدلة ومعارضاتها ومزاحماتها، بحيث يكون متجزياً، وإلاّ جاز له اتباع رأيه عقلاً، وأما وجوب اتباع ما أدى إليه ظنه عقلاً، فمحل تأمل، فتأمل والله العالم الهادي.

تنبيه:

الروايات التي ذكرت في هذا الفصل والفصل السابق، إن كانتإرشاداً إلى حكم العقل فهذا الدليل عقلي، وإن لم تكن فنقلي باعتبارها، وإن كان عقلياً باعتبار ما ذكر من استقلال العقل وبناء العقلاء على مؤداها، كما أنه تضمن براهين عديدة على المدعى ذكرت في طي البرهان العام، فليراجع.

ص: 478

الفصل الرابع: في ملخص النسبة

اشارة

بين أدلة الشورى والحكومة وأدلة التقليد

ص: 479

ص: 480

ملخص النسبة بين الأدلة
اشارة

لابد لمعرفة النسبة بين أدلة التقليد وأدلة الشورى من تحديد المراد بهما وحدودهما، أي تنقيح الموضوعين، كما لا بد من ملاحظة كل دليل دليل من أدلة التقليد، ونسبته لأدلة الشورى واحدة واحدة، فنقول:

(التقليد) تارة يراد به المعنى الأخص، وأخرى المعنى الأعم، فإن أريد به المعنى الأخص كان مبايناً للشورى، وإلا كان أعم مطلقاً منها.

والمعنى الأخص: هو تقليد المجتهد الجامع للشرائط في الأحكام الشرعية من تكليفية ووضعية، والأعم: هو مطلق الرجوع - أي رجوع الجاهل - لأهل الخبرة في أي موضوع أو محمول، ومنه الأحكام الشرعية.

وأما (الشورى) فإن أريد بها الشورى في الموضوعات أو في الموضوعات العامة كما هو ظاهر قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) فالأمر كما ذكر.

وإن أريد بها الشورى في كل شيء موضوعاً أو محمولاً، كانت مباينة للتقليد بالمعنى الأعم، وأعم منه بالمعنى الأخص، وعلى المباينة لا تنافي ولا تعارض لكونهما من واديين وفي موضوعين، وعلى الأخصية تخصص أدلة الشورى أدلة التقليد، لكونها أخص منها مطلقاً، فلا تنافي ولا تعارض أيضاً، إذ الجمع بينهما عرفي، فيتقدم الخاص على العام في مرحلة الإرادة الجدية إن كان منفصلاً عنه، وفي مرحلة الإرادة الاستعمالية والظهور نفسه إن كان متصلاً، والمقام من المنفصل.

ولو فرض أن المراد بالشورى الأعم، والتقليد يراد به الأخص، بأن تكون

ص: 481


1- سورة الشورى: 38.

الشورى للأعم من الموضوعات والأحكام، ويكون التقليد للأحكام خاصة، خرجت منها الأحكام، فتبقى الموضوعات فيدائرتها.

وأما تفصيل الأدلة

الأدلة التي استدل بها على وجوب التقليد(1) ولزوم اتباع الجاهل للعالم هي:

1: بناء العقلاء على رجوع الجاهل للعالم والمجتهد عالم.

2: حكم العقل.

3: الآيات الكريمة.

4: الروايات الشريفة.

5: السيرة.

6: الإجماع.

أما بناء العقلاء:

ففيه أولاً: إنه لا نسلم بناء العقلاء على تعيّن تقليد الخبير الواحد (ومنه المجتهد) واتباعه مع مخالفة أكثرية الخبراء له، سواء التقليد بالمعنى الأخص أم الأعم، بل بناؤهم إما على التخيير أو على تعين الرجوع لأكثرية الخبراء إن أحرزوا التخالف وكون رأي الأكثر كذا(2).

ص: 482


1- وجوباً تخييرياً بينه وبين الاجتهاد أو الاحتياط.
2- مع قيد: ولم يكن الأمر مما يتسامحون فيه عادة.

وقد يتوهم وجود مانع عن ذلك في مرحلة البقاء إذا قلد مجتهداً ثم حدث أن خالفت الأكثرية رأيه، ولكن سبق تفصيل الحديث حول عدم دلالة أي واحد من أدلة التقليد أو غيرها على عدم جواز العدول أو التبعيض، فلا دليل على كون التقليد حدوثاً علةً لوجوب البقاء على تقليد من قلده بقاءً، كما قد مضى في موضع آخر كون الأكثريةعبارة عن رأي أكثرية الخبراء فهم خبير مع زيادة الانضمام.

إلا أن يورد: بأن البناء على اتباع الأعلم وإن عارضته أكثرية الخبراء.

وفيه: إضافة إلى ما سبق تفصيلاً من النقاش المبنائي، وأنه لا دليل على تعين تقليد الأعلم مع معارضته لغيره، حتى وإن لم تكن الأكثرية موافقة للمفضول، فكيف لو كانت موافقة له، أو كانت هي محل التقليد مع كونها معارضة لرأي الأعلم، فليراجع:

أن معارضة الأكثرية(1) له مع علمهم بأعلميته موهنة لحجية قوله، إن لم تكن مسقطة للاطمئنان به، بل حتى مع ادعائهم عدم أعلميته، بل حتى مع قطعهم النظر عن وجوده ومخالفته، أو مع عدم علمهم بذلك، ولذا قال (عليه السلام): (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(2).

وكيف يصح دعوى بناء العقلاء في الموضوعات على الاكتفاء باجتهاد الواحد مع التفاتهم - إجمالاً أو تفصيلاً - إلى ما ذكرناه بالتفصيل من أن في العمل باجتهاد الواحد الحدسي في الأمور الخطيرة الدنيوية ضرراً محتملاً احتمالاً عقلائياً، وفي العمل برأي الأكثرية دفعاً للضرر المحتمل وكون رأي الأكثرية أقرب إلى الواقع نوعاً، فليراجع تفصيله فيما سبق، حيث استندنا في إثبات ذلك إلى الروايات وإلى العقل، كما سبق ذكر أجوبة أخرى عن مسألة الأعلم، كما سبق

ص: 483


1- أي أكثرية الخبراء.
2- فتأمل.

ذكر موانع أخرى عن لزوم اتباع الأكثرية مع أجوبتها.

ولئن بنى العقلاء في الأحكام على صحة الرجوع للأعلم وعدم تعين الرجوع للمشهور المخالف له (إذا علموا بالمخالفة) فلمصلحة التسهيل أو شبهها، أو استناداً إلى ما ظهر من الشارع من صحة الاكتفاء بتقليد الواحد (أعلم أو غيره)، فإن مثل تلك المصلحة لا توجد في تقليد الواحد وإن كان أعلم إذا خالف رأي المشهور في الموضوعات والشؤون العامة، للضرر البالغ الدنيوي في صورة الخلاف، كما لا يظهر من الأدلة الاكتفاء فيها برأي الواحد، بلظاهر آية: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) وغيرها عدم الاكتفاء بالواحد.

وثانياً: إنه على تقدير تسليمه، فإن (وأمرهم شورى)(2) و(شاورهم في الأمر)(3) مضيق لدائرته أو ملغٍ له، ككل آية أو رواية عارضت بالتباين(4) أو بالعموم من وجه أو بالعموم والخصوص المطلق، بناءً للعقلاء كما في القياس وشروط البيع وغير ذلك.

وعليه: فالواجب اتباع أحد الخبراء على سبيل البدل في غير ما كانت فيه الشورى (كشؤون الحكم وشبهه) - مما هو ظاهر الآيتين أو منصرفهما - وانعقدت عليه الأكثرية، وأما فيه مع الانعقاد فيجب اتباعها، وقد سبق تفصيل الكلام عن ذلك عند التطريق للآيتين الشريفتين.

وبعبارة أخرى: الآيتان الشريفتان مبينتان فيما تبينانه لكيفية الحكومة، أي لوجوب الاستشارة ولكون الحاكمية بيد الأكثرية، أو لكون الحاكم أحدهم بشرط انضمام الأكثر.

ص: 484


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة الشورى: 38.
3- سورة آل عمران: 159.
4- غير خفي أن التباين مستلزم للإلغاء مطلقاً أو في مادة الاجتماع، وغيره موجب للتضييق.

وعليه: فالأدلة الثلاثة (أدلة التقليد والحكومة والشورى) تتسلسل هكذا:

* أدلة التقليد: تقتضي(1) لزوم اتباع الخبير.

* وأدلة الحكومة(2) بناءً على تماميتها: تقتضي اتباع حكم الحاكم - لا مطلق الخبير - في شؤون الحكم، وقد سبق أنها حاكمةعليها(3) لكونها ناظرة إليها، أو أنها مخصصة لأنها أخص منها مطلقاً، ووجه الحكومة: إما كونها(4) ناظرة لها ومفسرة ومبينة لحدود المراد منها، وإما للزوم اللغوية في تشريعها لولا ذلك، وإما لكونها متعرضة لما لا تتعرض له أدلة التقليد من حيثياتها، على حسب المباني الثلاثة في تعريف الحكومة، فتأمل(5).

إضافة إلى انعقاد الإجماع على تقدم الحكم على الفتوى.

وفيه: إنه(6) مع الحكومة من وجه، فتدبر.

إضافة إلى أن الضرورة الداعية لتشكيل الحكومة - وهي توقف نظام النوع عليها - هي المقتضية لنفوذ حكم الحاكم، فرداً كان أو جماعة وهيئة، وإلاّ للزم نقض الغرض، إضافة إلى الأولوية من باب القضاء.

* وأما أدلة الشورى: فهي ناطقة بأن على الحاكم أن يستشير ويتبع الأكثرية.

وبتعبير أدق: أدلة الحكومة وأدلة الشورى تفيدان جميعاً(7) أن الحكومة

ص: 485


1- هذا بناء على التفسير الأعم للتقليد وإلا كانت أجنبية عن أدلة الحكومة والشورى تماماً.
2- ك(فإني قد جعلته عليكم حاكماً) و(مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)
3- أدلة الحكومة على أدلة الرجوع للخبير.
4- أي أدلة الحكومة، وكذا أدلة الشورى بالنسبة إلى أدلة التقليد.
5- فصّل المؤلف المباني في (الحكومة) في مباحث (التعارض: التعادل والترجيح) وهي موجودة على موقع (مؤسسة التقى الثقافية) حالياً.
6- أي الحكم.
7- أي كل منها يفيد ولو انفرد عن الآخر.

لكل الفقهاء لا لأحدهم، أو لأحدهم مشروطاً بإمضاء الأكثرية، على ما فصلناه عند الاستدلال بالروايات(1) وفي مواضع أخرى، فليراجع.

هذا كله فيما لو قلنا بشمول أدلة التقليد وحجية رأي الفقيه للموضوعات، كما هو مقتضى استنادنا في حجية رأيه إلى بناء العقلاء فيما لو كان خبيراً بها، لا فيما لو استندنا إلى الروايات والآيات، إذ ظاهرها جعل الحجية له في الأحكام فقط، ولو لكونظاهر مقام الشارع بما هو مشرع ذلك، وعلى هذا قالوا: بعدم حجية آرائه في الموضوعات بما هو فقيه، لا بما هو خبير، فيكون دليل التقليد على هذا الأخير أجنبياً عن دليل الحكومة، لاختصاصها بالموضوعات والشؤون العامة، وكذا عن أدلة الشورى بناءً على ظهورها في الموضوعات أو انصرافها إليها كونها القدر المتيقن منها.

هذا كله مضافاً إلى أن الروايات الدالة على أن في التفرد الهلكة، وفي الشورى والاستشارة النجاة - كما فصلناها في فصولها - رادعة عن العمل ببناء العقلاء على اتباع الواحد فيما فيه الشورى وفي شؤون الحكومة لو فرض عمومه(2) حتى لهذه الصورة.

وأما العقل:

فإن حكم بالاتباع(3) حتى عند التعارض ولم يحكم بالتساقط وعدم شمول دليل الحجية لكليهما - كما يراه بعض الأصوليين - فإن حكمه خاص بما لو لم تعارضه الأكثرية، أما لو عارضته فإنه حاكم بتقديم الأكثرية بعد تنقيح حال

ص: 486


1- ك(وأما الحوادث الواقعة...) وروايات أخرى عديدة، وهي من أدلة الحكومة.
2- بناء العقلاء.
3- اتباع رأي المقلّد والخبير.

الصغرى وأن رأيها الأقرب للإصابة، وذلك لكون الأدلة معتبرة من باب الطريقية وكون رأيها هو الأقرب للواقع عقلاً وروايةً، على ما مر تفصيله، كما سبق ذكر أدلة عقلية عديدة على المدعى.

وإن حكم بالتساقط، وهو غير تام لكن لعله المشهور، فنقول: إنه مقتضى القاعدة الأولية على مبناهم، أما القاعدة الثانوية فهي الترجيح - بناء على التعدية(1) - بالمرجحات المنصوصة، فإن منها الشهرة، أو بمطلق المرجح بناءً على التعدي عن المرجحاتالمنصوصة، والعدل منه إن لم يكن من المنصوصة، لكننا في غنى عن طرق هذا الباب للاكتفاء بصريح حكم العقل بأن التساقط إنما هو مع التكافؤ - إذا قلنا به حينئذٍ ولم نقل بالتخيير عقلاً - وأما مع وجود المرجح لأحد الطرفين فهو الراجح المتعين الأخذ به والآخر الساقط.

وأما الآيات:

فأوضحها دلالة: آية الذكر: ­(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2)، وآية النفر: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(3).

فتارة نقول: باختصاصها وظهورها أو انصرافها(4) إلى المحمولات الشرعية

ص: 487


1- أي من باب الأخبار إلى باب الموضوعات، فهذا غير التعدية من المنصوصة إلى غيرها.
2- سورة الأنبياء: 7.
3- سورة التوبة: 122.
4- آية الذكر ليست ظاهرة في خصوص ما ذكر، لكون المورد لا يخصص الوارد، إلا أنه لا تبعد دعوى الانصراف بقرينة (أهل الذكر) ومناسبات الحكم والموضوع وكون شأنهم غير الموضوعات.

والأمور الاعتقادية، فتكون أجنبية عن دائرة الشورى في الحكم وهي الموضوعات العامة(1).

وتارة نقول: بأنها أعم، فتكون حينئذٍ النسبة بينها وبين أدلة الشورى هي العموم والخصوص المطلق، فتكون مقدمة عليها ومخصصة لها، وذلك لظهور أو انصراف (وأمرهم شورى بينهم)(2)، و(شاورهم في الأمر)(3) إلى الموضوعات إذ لا ريب في عدم معرفة الناس بملاكات الأحكام وتزاحماتها ومقتضياتها و... فلا يمكن الإرجاع إليهم في جعل الأحكام، كما فصلنا ذلك في موضع آخر،ولعدم صدق (أمرهم) على الأحكام، إذ هو أمر الله.

نعم قد يدعى كون (اسئلوا أهل الذكر)(4) وشبهها شاملة للموضوعات والأحكام والعقائد، وكون (وشاورهم)(5) و(أمرهم شورى)(6) شاملة للموضوعات والأحكام، باعتبار صحة إضافة الحكم لله لكونه جاعله، وللإنسان لكونه القابل والمتعلق له، فيصدق (أمرهم) حينئذٍ عليهم، حيث يضاف الأمر للفاعل ولموضوعه، أي من تعلق به، وحيث إن الشورى ليست في جعل الحكم الشرعي بالبداهة فتكون في استكشافه، بأن تتشكل لجنة من الفقهاء مثلاً لدراسة الأدلة التي أقيمت أو يمكن أن تقام لاستنباط حكم معين ومدى صحتها، فالشورى في كشف ولكشف الطريق الموصل لأحكام الله لا فيها.

أقول: بناءً على هاتين الدعويين أيضاً فإن أدلة الشورى مخصصة لها أيضاً،

ص: 488


1- هذا بناءً على اختصاص الشورى بالموضوعات، كما سبق وسيأتي في المتن.
2- سورة الشورى: 38.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة الأنبياء: 7.
5- سورة آل عمران: 159.
6- سورة الشورى: 38.

لأنها مع ذلك أخص(1) إن لم تكن حاكمة.

ولكن سبق الإشكال في الدعوى الأولى، وكما لا يخفى البعد في الدعوة الثانية، فإنها بعيدة عن الأذهان العرفية تماماً، فتأمل.

ولو فرض تساوي الطرفين(2) كانت أدلة الشورى حاكمة على ما بيناه في موضع آخر، وفي خصوص الآيتين نقول: إن أحداهما أجنبي عن الأخرى، إذ آية الذكر تفيد السؤال لتحصيل العلم حتى لو فرض إرادة الموضوعات منها أو كان المراد الأعم، فكيف لو كانت خاصة بالأحكام، وآية الشورى تفيد المشورة للعمل، فالموضوعان والغايتان متباينتان مختلفتان تماماً، إذ مآلهما إلى (اسأل لتعلم)و(تشاور لتعمل)، فتأمل.

وأما الروايات:

فمنها: ما هو ظاهر في الاختصاص بغير الموضوعات، كرواية الحسن بن علي بن يقطين عن الإمام الرضا (عليه السلام)، ورواية علي بن المسيب الهمداني عنه (عليه السلام)، وحسنة عبد العزيز بن المهتدي عنه (عليه السلام)، وقول الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب، وذلك لظهور كلمة (الافتاء) في ذلك، وكذا صحيحة أحمد بن إسحاق عن الإمام الهادي (عليه السلام) لمكان (عني)، إلى غير ذلك من الروايات.

وحينئذٍ فإن قلنا: باختصاص أدلة الشورى بالموضوعات فلا تعارض بين

ص: 489


1- إذ لا مجال للشورى في العقائد كما لا يخفى، و(اسألوا أهل الذكر) أعم لأنها تشملها، إلا أن توجه الشورى في العقائد بما وجهت به في الأحكام، ولا يخفى ما فيه.
2- بالذهاب إلى كونهما - التقليد والشورى - المراد بهما الأعم.

الطائفتين، لأجنبية كل منهما عن الأخرى.

ولو قيل: بعمومية أدلة الشورى للأحكام والموضوعات - وهو خلاف التحقيق - كانت روايات التقليد مخصصة لروايات الشورى فتختص بالموضوعات، ولا مجال حينئذٍ للقول بالحكومة(1) كما قلنا بها في السابق، كما لا يخفى.

ومنها: ما يشمل بظاهره الموضوعات والأحكام، كالتوقيع المروي عن صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إن عدّ من أدلة التقليد ولم نقل بظهوره عرفاً في خصوص الموضوعات، أو على العكس: اختصاصه بخصوص المحمولات كما ارتآه بعض، وقد مر تفصيل الحديث عن ذلك في محله، فليراجع.

فإن قلنا: باختصاص أدلة الشورى بالموضوعات كانت مخصصة له إن لم نقل بالحاكمية، ولو قيل بالعمومية التزمنا بالحاكمية، فيكون حاصل أدلة التقليد وأدلة الشورى، بناءً على عمومهما معاً للأحكام والموضوعات: وجوب الرجوع لأهل الخبرة -وهذا حاصل أدلة التقليد - ووجوب كون ذلك بالرجوع إلى أكثريتهم ومشهورهم لا لأحدهم، ولكن سبق أن ظاهر أدلة الشورى أو منصرفها الموضوعات أو خصوص العامة منها، وظاهر أدلة التقليد أو منصرفها هو الأحكام، فلسنا بحاجة حتى إلى تكلف الجمع بحمل أدلة الشورى على الموضوعات وتلك على المحمولات، فتدبر جداً.

أما لو قلنا: باختصاص التوقيع بخصوص الأحكام كما ذهب إليه جمع، فحكمه حكم الطائفة السابقة.

ولو قلنا: باستفادة حجية رأي الأكثرية ولزوم الشورى من نفس التوقيع المبارك، كما فصلناه في فصل الروايات، فلا مجال لتوهم التنافي بين أدلة الشورى

ص: 490


1- بأن يقال بحكومة أدلة الشورى على أدلة التقليد، حتى على هذا الفرض (أعمية الشورى) إذ يلزم لغوية أدلة التقليد حينئذٍ، فالأمر بالعكس تماماً مما سبق.

وهذا التوقيع كما لا يخفى، إذ يكون من صغرياتها(1).

وأما السيرة:

حيث يقال بأن السيرة على اتباع الواحد وأن اتباع المتعدد أو الأكثرية خلاف السيرة، ففيه:

أولاً: لا سيرة في الموضوعات العامة على اتباع الفقيه الواحد ومطلق الخبير الواحد فيما لو عارضته أكثرية الخبراء وعُلم ذلك، أو لا إحراز لذلك على الأقل.

وثانياً: مع عدم تحقق الموضوع لا مجال لدعوى السيرة على هذا الطرف أو ذاك، إذ لم تقع السلطة إلاّ نادراً بأيدي الفقهاء، فكيف يدعى بأن السيرة على اتباع الواحد؟، وهذا كالقول بكون ركوب الطائرة أو مراجعة البنك خلاف السيرة، إذ فيه أن عدم السيرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وأما تحقق بعض المصاديق فإنه لا تتحقق به السيرة، إضافة إلى عدم اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام).

وثالثاً: إن تحقق السيرة في الشؤون العامة مما يرتبط بالحكم، على اتباع الواحد رغم معارضة الأكثرية له - لو سلمت - ليستحجة، لقوة احتمال أن تكون السيرة على اتباع الفقيه الحاكم الواحد أو غيره ناشئة من الاضطرار أو الخوف من المعارضة أو الجهل بأن لهم غير ذلك، أو غير ذلك، ومع ذاك الاحتمال لا يمكن استكشاف رأي المعصوم (عليه السلام) منها، إضافة إلى احتمال كونها ناشئة من قلة الاهتمام، نظير ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) في البيع

ص: 491


1- أو يكون مساوياً لها.

المعاطاتي خاصة مع ملاحظة معارضتها للدليل، فتأمل.

ورابعاً: إن عدم السيرة على الشورى على فرضها (أي لو فرض تحقق الموضوع لها، ومع ذلك لم تكن السيرة عليها)، ليس دليل حرمتها، بل هو دليل عدم الوجوب، بل لا يدل ذلك على أكثر من عدم الوجوب التعييني لاتباع الأكثرية.

وخامساً: إنها على فرض تحققها في المقام والالتزام بحجيتها كبرىً، ليست بحجة ههنا، لمعارضتها بالأدلة الكثيرة التي أقيمت على خلافها، فلتراجع.

وأما الإجماع:

فإنه محتمل الاستناد، بل مستند إلى الأدلة الكثيرة على جواز التقليد بالمعنى الأعم، ثم إنه على فرض حجيته فهو لبّي، قدره المتيقن في غير صورة التعارض مطلقاً، أو في غير صورة معارضة المشهور والأكثرية وانعقاد الشورى على غير ما أدى إليه رأي المقلَّد في الشأن العام، هذا مع قطع النظر عما سبق من أن أدلة التقليد بالمعنى الأخص خاصة بالأحكام، بل حتى لو كان له معقد مطلق فهو مخصص بالأدلة التي سبقت، والله العالم.

ص: 492

الباب الثاني

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأول: في الاستدلال على مسائل سبع وهي:

اشارة

1: وجوب الإشارة.

2: حرمة المنع.

3: وجوب ردع المانع.

4: وجوب سعي المشير لتطبيق محتواها.

5: وجوب طلبها.

6: وجوب العمل على طبقها.

7: وجوب الفحص عن صحة الرأي.

ص: 493

ص: 494

في وجوب الإشارة وحرمة المنع ووجوب ردع المانع ومسائل أخرى

ههنا مسائل وأحكام سبعة:

وهي: وجوب الإشارة، عدم جواز منع المشير منها، وجوب ردع الأمة مانعها، وجوب سعي المشير لتطبيق محتواها، وجوب طلبها، وجوب العمل على طبقها.

وأيضاً - وهي سابقة رتبة على بعض المسائل السابقة -: وجوب الفحص عن صحة رأي وتشخيص وموقف الفقيه من الحوادث الواقعة، أو عدم الصحة قصوراً أو تقصيراً بما ينافي العدالة أو لا.(1)

ويمكن أن يستدل لذلك بأدلة عديدة:

الدليل الأول: إنها من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و...

اشارة

إن ذلك من صغريات (الدعوة إلى الخير) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(إرشاد الجاهل والضال) و(حفظ حدود الله) و(الإنذار).

ص: 495


1- لا يخفى أننا تعرضنا لبعض هذه المسائل في مواضع أخر من الكتاب وبالتفصيل وبأدلة أخرى.
إشارة للأدلة على الكبرى

أما الكبرى: فواضحة، إذ يدل عليها صريح الكتاب: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)(1)، و: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)، و:(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ)(3)، وآيات أخرى كثيرة، إضافة إلى متواتر الروايات والعقل والإجماع، بل قد يدعى ضرورة ذلك.

هذا، ومن الثابت أن وجوب واستحباب الدعوة والأمر والنهي والإرشاد والحفظ والتحذير تابع لوجوب أو استحباب المتعلق، وكذا في الإباحة والكراهة والحرمة ما لم يطرء عنوان ثانوي، اللهم إلاّ في الحفظ، فقد يقال بوجوب حفظ الحدود مطلقاً، وضعية كانت أو تكليفية بأقسامه الخمسة، فتأمل(4)، وحفظ كل

ص: 496


1- سورة آل عمران: 104.
2- سورة التوبة: 122.
3- سورة التوبة: 112، وهذه جملة خبرية في مقام الإنشاء أو بقوته بل يرى العديد من الأصوليين ومنهم الآخوند (قدس سره) أقوائية الجملة الخبرية من الإنشائية.
4- يدل على تعميم الحدود للوضعية والتكليفية وكونها جميعاً واجباً حفظها، قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة: 230، وحدود الله هي: إعطاء النفقة وإطاعة الزوج في التمكين والخروج. وقوله سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ... * تِلْكَ حُدُودُ اللهِ...) سورة النساء: 12-13، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ ◄ ►اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) سورة النساء: 14، وليس تعدي حدود الله مختصاً بشيء معين، بل كل ما حدّه الله مشمول للآية، فمن جلس على مسند الخلافة بغير حق فقد تعدى حدّ الله، ومن أكل في دار من ذكرتهم الآية كان في حدّ الله، ومالكية الزوج لنصف ما تركته الزوجة إن لم يكن لها ولد من حدود الله، وحقه في الرجوع إليها في العدة الرجعية من حدود الله، وحق التحجير من حدوده، و(كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له) - بحار الأنوار: ج69 ص250 عن الكافي - من حدوده، و(لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من الله) - بحار الأنوار: ج72 ص135 - من حدوده، وهكذا، فتأمل. وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى... جعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً) الكافي: ج1 ص59، وعن الإمام الصادق عليه السلام: (ما من شيء إلا وله حد كحدود داري هذه، فما كان في الطريق فهو من الطريق وما كان في الدار فهو من الدار)، بحار الأنوار: ج2 ص170 عن المحاسن، هذا. ووجه التأمل يتضح بملاحظة هذا الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): (... نعم أنا أقول إنه ليس شيء مما خلق الله صغيراً وكبيراً إلا وقد جعل الله له حداً، إذا جوز به ذلك الحد فقد تعدى حد الله فيه، فقال: فما حدّ مائدتك هذه؟ قال: تذكر اسم الله حين توضع، وتحمد الله حين ترفع وتقم ما تحتها...)، بحار الأنوار: ج2 ص171 عن المحاسن. وفيه: انه إن أريد من الحفظ حفظه عن الاندثار وعن أن يطمس ويمحى وجب، فتأمل. هذا بالنسبة للحد، وأما (الحفظ) فليس (الحفظ) في الآية الشريفة مخصصاً بحدّ معين من حدود الله، بل يشمل كافة الحدود، لكونه جمعاً مضافاً وهو مفيد للعموم، ولا ريب في دلالته على ذلك عرفاً، فتولية الخلافة لمن هو أهل لها - أي لأمير المؤمنين علي عليه السلام - من حدود الله الواجب على الأمة حفظها، والعدل شخصياً كان أو نوعياً حد واجب الحفظ، وجهاد المشركين حد وهكذا وهلم جراً، وهل ظاهره وجوب حفظ كل واحد لكل واحد من الحدود، أو الحفظ المجموع للمجموع؟ الظاهر الثاني كما لو أمر الجيش بالمرابطة على ثغرات الحصن.

شيء بحسبه، فحفظالدين مثلاً بالدعوة الحسنة إليه: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(1)، وبجهاد العدو وبحفظ الإمام (عليه السلام) والذبّ عنه، ثم بحفظ رواة حديثه وبنصب الوصي (عليه

ص: 497


1- سورة النحل: 125.

السلام): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(1)، وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنما المستحفظون لدين الله هم الذين أقاموا الدين ونصروه وحاطوه من جميع جوانبه وحفظوه على عباد الله ورعوه)(2)، وعنه (عليه السلام): (ست من قواعد الدين: إخلاص اليقين، ونصح المسلمين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت،والزهد في الدنيا).(3)

إشارة لكون الأحكام السبعة صغريات الأدلة السابقة

وأما الصغرى: فإن الإشارة إلى الحاكم بسعة الصدور بالعفو عن المعارضة أو بتخفيف العقوبة من الإعدام إلى السجن مثلاً، لقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)(4)، و: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(5)، و: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا)(6)، أو لكون العفو عنهم موجباً لقوة الإسلام وتحبيبه إلى القلوب، والعقوبة موجبة لهوان المسلمين، أو ارتداد طائفة منهم، هي دعوى إلى (الخير) وأمر ب- (المعروف) وحفظ ل- (حدود الله) دون ريب.

والخير والمعروف وحدود الله وإن كانت اسماً لمعنوناتها ولمصاديقها الخارجية الواقعية لا المتوهمة، إلاّ أن ما دل على كون هذا المصداق من مصاديق ذلك العنوان لو كان ظناً معتبراً كان حجة منقحاً للموضوع.

ص: 498


1- سورة المائدة: 3.
2- غرر الحكم: ص85 قواعد الدين ح1399.
3- غرر الحكم: ص85 قواعد الدين ح1394.
4- سورة النور: 22.
5- سورة آل عمران: 159.
6- سورة البقرة: 109.

ولو فرض كون العقوبة كذلك، بأن كان العفو يوجب مزيداً من جرأة العدو وشراسته وسبباً لانتهازه الفرصة لتجميع قواه وإعدادها لضرب المسلمين، كانت الإشارة بها أمراً بالمعروف وحفظاً للحد .. الخ، وكذا الإشارة بالحرب أو بالصلح وبإجراء معاهدة دولية معينة وعدمه وهكذا.

وحيث ثبت كون ما نحن فيه صغرى لكبرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير... إلخ، ثبتت المسائل الخمس جميعاً، فتجب الإشارة ولا يجوز منع المشير منها، لكونه منعاً للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عنهما، ووجب سعي المشير لتطبيقمحتواها لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلباً ولساناً ويداً، لكونه مصداقاً لحفظ لحدود الله، ووجب طلبها ووجب العمل على طبقها.

وجميع ما ذكرناه من الأحكام الخمسة في غير المجتهد واضح، وإنكار ذلك - بأن لم يلزم على العامي الائتمار بالمعروف والسؤال عنه، ولم يجب على غيره أمره به والسعي لتطبيق المأمور به .. إلخ - مساوق لإنكار الكبرى، وليس اعتقاد العامي كون ما يفعله من المنكر معروفاً وما يتركه من المعروف منكراً مسوغاً لجواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يجب تنبيهه وإرشاده، ولو بقي على اعتقاده وجب الحض أو الردع العملي، ولو لم نقل بوجوب ذلك في المعاصي الشخصية كشارب الخمر أو البول جهلاً بالموضوع، وتارك الصوم جهلاً بأن هذا الوقت شهر رمضان(1)، لم يكن لنا مناص من القول بالوجوب في المعاصي

ص: 499


1- وجه القول بالوجوب أمور، منها: شمول أدلة النهي عن المنكر لها (للمعاصي الشخصية) لكون الحكم تابعاً للموضوع، والأسماء والعناوين عناوين لمسمياتها الثبوتية، وجهله البسيط أو المركب لا يغير من الواقع شيئاً، والعنوان محقق بنظر الآمر والناهي إلا ما دلت السيرة القطعية أو الإجماع على عدمه، ومنه الجاهل القاصر في غير ما علم من الشرع كراهة وقوعه، وللكلام عن ذلك مجال آخر، وربما فصلنا الحديث عن هذا في بحث آخر.

الاجتماعية وما يتعدى إلى الغير، فمن يريد قتل زيد المؤمن متوهماً أنه كافر، يجب الحيلولة دون ذلك، إما بتنبيهه قولاً إلى خطأه أو بتنبيه الطرف الآخر أو الدفاع عملاً(1) مع قطع النظر عن العناوين الثانوية، وكذا من يريد منع الناس حقوقهم بتوهم أنها له أو للدولة، كشيوعي أو متأثر بالشيوعية يرى ملكية الدولة للشركات الكبرى وللمعادن وغيرها، وذلك لكون الأحكام تابعة للعناوين الواقعية لا المتوهمة، وليس المنكر والمعروف مقيداً بكونه كذلك في نظر الفاعل والتارك.

وكذا يعلل ذلك بكونه مقدمة للواجب، إضافة إلى حكم العقلوبناء العقلاء وأهل الملل على ذلك(2)، وكذا يدل عليه ما دل على وجوب حفظ حدود الله، إضافة إلى أن عدم ذلك يؤدي إلى انهدام الدين.

ص: 500


1- ليس البحث في من يجب عليه ذلك، وأنه حاكم الشرع أو عدول المؤمنين أو مطلق الناس وجوباً كفائياً، بل البحث عن أصل الوجوب وإن كان ثابتاً في هذا المورد على الكل.
2- وذلك في الجملة مما لا ريب فيه، إلا أن الكلام في الإطلاق.

الحكم فيما لو كان الاختلاف في المعروف والمنكر اجتهادياً

اشارة

وأما لو كان الاختلاف في المنكر والمعروف اجتهادياً، وكان هذا العامي مقلداً لمن يرى أن الخمسة عشرة رضعة هي المحرمة، فتزوج من ارتضعت معه ثلاث عشرة رضعة مثلاً، وذاك مجتهداً أو مقلداً لمن يرى نشرها بعشرة.

فالقول بعدم وجوب النهي في هذه الصورة وأشباهها، إنما هو لدعوى انصراف أدلة النهي عن مثلها، وللسيرة، أو لما دلّ على حجية نظر الفقيه منجزاً أو معذراً.

أما الاختلاف في الأمور العامة، كمن اجتهد أو قلّد من يرى ملكية الدولة للأنفال مثلاً، أو حرمة بعض الشعائر الحسينية مثلاً، فلا انصراف لأدلة الأمر والنهي(1)، ولو شك فالأصل العدم، والمرجععمومات وجوب الأمر والنهي.

ص: 501


1- ولا يخفى أننا لو قلنا بجواز التبعيض في التقليد وجواز العدول من مقلَّد إلى آخر - على ما بيّناه في موضع آخر - لم يكن شك في جواز الأمر والنهي حسب ما يراه معروفاً ومنكراً، أما الوجوب فهو على هذا المبنى أقرب كما لا يخفى، لانتفاء ما يتوهم مانعاً - وهو وجوب الالتزام برأي مرجع تقليده - قطعاً، نعم هناك مانع آخ هو: جواز عدم العدول والتبعيض والالتزام برأي مقلده، ولو تم كان مانعاً عن شمول أدلة الأمر والنهي بما هي ملزمة تعييناً، فتأمل. وأما على ذاك المبنى فيقال: إضافة إلى ما ذكر من السيرة ومن عمومات الأمر والنهي الحاكمة على أدلة التقليد لناظريتها إليها وكونها مفسرة لها، فتأمل، ولا أقل من التعارض في مادة الاجتماع والتساقط فيرجع إلى الأصل، وهو عدم مانعية رأي فقيه من وجوب الإشارة على الفقيه الآخر أو من جوازها فتأمل، إن عدم جواز العدول أو التبعيض على المقلد لا يلازم عدم جواز ردع المجتهد الآخر له لكونه يرى ما جوزه الآخر أو أوجبه منكراً وما حرمه معروفاً، وذلك لأن التفكيك بين الأحكام الظاهرية غير عزيز، فلا يكون ذلك دليلاً على خلاف ما ادعيناه، فلتدبر. قد يقال بكون هذا تاماً بالنسبة للمجتهد، إذ قيام الدليل على كون آراء المجتهد الآخر ◄ ►حجة لنفسه ومقلديه مع قيامه على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يوجبه بأحد الوجوه الثلاثة، أما بالنسبة للمجتهد ومقلده فلا، إذ تكون أدلة حجية فتواه منقحة لموضوع أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمل.

وكذا السيرة على العكس(1)، ولذا نجد أن بعض الفقهاء حيث كان يرى حرمة الدخول في النار في عاشوراء أو التطبير حاول التأثير على الجميع بل والمنع، والأكثر حيث رأوا جواز بل رجحان الأخير (بل رأى بعضهم وجوبه لكونه شعيرة من شعائر الله ولكونه رمز التشيع وبه إعزاز الحق وأهله) أفتوا بذلك، وسعوا للتنفيذ ولإقناع الجميع، وكذا الأمر بالنسبة إلى (الحزب) حيث اخلتفوا اجتهاداً بين موجب ومجوز ومحرم، وحيث رآه المحرِّم منكراً يجب النهي عنه وردع حتى مقلدي الآخرين عنه، والموجب معروفاً يجب الأمر به، وحيث سعى كل لتطبيق مؤدى اجتهاده حتى في حق مقلدي الآخرين، وكذا الأمر في إباحة الغناء ولو عملاً - بمعنى إخراج ما يعرض في الراديو والتلفزيون عن الغناء موضوعاً بدعوى عدم الصدق العرفي - وهكذا، والأمثلة كثيرة قديماً وحديثاً.

إضافة إلى شمول قوله تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(2) لما نحن فيه، إذ (الصلح) أو (الشعائر) أو (المعاهدة) مثلاً (برّ) في نظره، و(الغناء) و(الحرب) و(التأميم) إثم وعدوان في نظره، فعليه الحض والمنع، وليست معذورية الآخر وخطأه سبباً لعدم وجوب الحض والمنع على من يرى الأمر بالعكس، إذ المعذورية رافعة للعقاب(3) لا لوجوب أمر ونهي من يراه مخطئاً، ولا دليل على كون الأمر والنهي لدفع العقاب عن المأمور والمنهي فقط بحيث لو ارتفع ارتفع وجوبهما، فيكون كمن تصور حيواناً عن بعد غزالاً

ص: 502


1- بل ويكفي عدم ثبوت السيرة على العدم (عدم الأمر والنهي) وإن لم تثبت على العكس (والأمر والنهي).
2- سورة المائدة: 2.
3- وهذا هو القدر المتيقن منها.

وهو إنسان فأراد رميه(1)، فإنهمعذور، لا أن خطأه واستفراغه الوسع في تحصيل الواقع رافع للتكليف عمن يرى أنه إنسان محقون الدم(2)، ولا أقل من عدم وجود دليل على ذلك، وكذا الأمر في الشبهة الحكمية.

ويدل على ذلك: بناء العقلاء وسيرتهم، ولذا نجد أنه لو رجع قريب من أقرباء الطبيب أو مطلقاً إلى طبيب آخر، ورأى الطبيب الأول خطأه في التشخيص مما يؤدي إلى هلاك المريض بنظره، سعى لصرفه عن أدوية الآخر، ولو لم يسع لذلك كان إما لشكه أو لتكاسله ولا مبالاته، ولذا نجد أنه لو مات المريض بأدوية الطبيب الآخر، عاتبه العقلاء وعنفوه، ولو مات بأدوية الأول لم يكن(3) عند العقلاء ملوماً إن لم يكن مقصراً متهاوناً متسرعاً، وإلا كان العتاب على التهاون لا على الصرف عن رأي الآخر باجتهاده الذي استفرغ فيه وسعه.

ويقرب مما ذكرناه: ما نجده في فرع مشابه لما نحن فيه، وهو (ما لو كان المتصدي لتفريغ ذمة الغير هو المتبرع أو الولي كالولد الأكبر إذا أراد تفريغ ذمة والده الميت من الصلاة والصيام) أنه (لا مناص من أن يفرغ ذمة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمته وجوباً أو استحباباً)(4).

وأما التعليل المذكور لعدم إجزاء إتيان الوكيل أو الوصي بما هو الصحيح عندهما(5)، فهو على فرض تسليم تماميته لا يجري فيما نحن فيه كما لا يخفى(6)،

ص: 503


1- وكذا لو تصور إنساناً، أسداً مفترساً، وجب على الآخر ردعه، ولو ردعه فلم يرم فبان أسداً كاسراً كان الرادع معذوراً عن العقلاء، وإن كان الأول لو رمى فبان إنساناً كان معذوراً أيضاً.
2- وأما (الراد عليهم الراد علينا) فقد أجبنا عنه في موضع آخر.
3- الطبيب الأول الذي تدخل.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص383.
5- راجع المصدر السابق، والمقصود عنه الوكيل والوصي.
6- إذ ليس مراجع التقليد وكلاء بعضهم عن بعض في البت في الحوادث الواقعة، كي يقال ◄ ►بكون أحدهم وجوداً تنزيلياً عن الآخر وإن عمل الوكيل عمل للموكل بالتسبيب... إلخ.

ويظهر ذلك أكثر بملاحظة ما ذكره (دام ظله) بعد صفحة حيث قال: (ولا يمكن قياس الوصي والوكيلبالمتبرع والولي، فإن التكليف من الابتداء متوجه إليهما وجوباً أو استحباباً فلا مناص من مراعاة نظرهما)(1).

هذا، وتمامية الكلام في هذا الفرع تستلزم بالأولوية تماميته فيما نحن فيه، بل حتى لو لم نقل به هنا قلنا به هناك، لما سبق تفصيله.

هل حجية نظر الفقيه مانعة من الأحكام السبعة؟

وأما في المجتهد: فقد يتوهم أن اجتهاده مانع دون الأحكام الخمسة السابقة، لأنه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ولكون فتاواه أحكاماً ظاهرية في حقه، أو حكماً مماثلاً أو أنها منجزة ومعذرة، على الأقوال.

والجواب(2): إن وجود أجر له لا ينافي ما ذكر، إذ الأجر على النية والجهد للوصول إلى الحق، لا على نفس العمل الذي أدّت إليه الفتوى(3)، نظير العقوبة في التجري ولا مانعة جمع، إذ ربما يثاب المرء على الموصل لما يجب على الآخرين الردع عنه، أو على نفسه على القول الآخر، كما في من يريد قتل نبي أو مؤمن بتوهم كونه شخصاً آخر واجب القتل، لكونه منقاداً مطيعاً متقلداً قيد العبودية له تعالى.

وبعبارة أخرى: يكفي في وجوب النهي عن المنكر كون المعصية فعلية وإن لم تكن فاعلية بالقيد الذي ذكرناه، وبذلك يثبت وجوب الإشارة ووجوب سعي

ص: 504


1- التنقيح: ج1 ص384.
2- ولا يخفى أنه يجري فيه بعض ما ذكرناه بالنسبة للعامي قبل أسطر: (وذلك لكون الأحكام...).
3- أو على نفس الفتوى من حيث هي، لا من حيث سبقها بالنية الخالصة والجهد.

المشير لتطبيق محتواها.

وأما الثلاثة الأخرى، فإجمال القول فيها: إنه قد يقال في خصوص عدم جواز منع المشير منها بأن ذلك مقتضى فتح باب الاجتهاد وكونهم رواة للحديث منصوبين مراجع، وهل يجوز لراوٍللحديث منع راوٍ آخر منه، لمجرد تخالفهما في الاستنباط مع عمومية الحجية لهما، والبحث هنا حسب القاعدة الأولية، وقد نتطرق لهذا في موضع آخر بإذنه تعالى.

وأما وجوب طلبها، فتدل عليه آية: (وَشاوِرْهُمْ)(1) وغيرها مما سبق أو يأتي، إن لم يستفد منها الأكثر وهو وجوب العمل حسب ما أدت إليه الإشارة.

وحديث الحكم الظاهري مدفوع إضافة إلى ما في المتن وما في الهامش الآتي، بأن الاستشارة قبل إصدار الحكم والوصول إلى رأي فلا تعارض أصلاً بينها وبين حجية الحكم الظاهري، وذلك ككافة ما يلاحظه الفقيه أثناء عملية الاستنباط من ملاحظة المرجحات السندية والدلالية... إلخ، هذا ولو دلت الآية على وجوب اتباع مؤدى الاستشارة كان مؤداها هو الحكم الظاهري بأحد إطلاقاته.

كون الفتوى حكماً ظاهرياً لا يمنع الأحكام السبعة

وكون الفتوى حكماً ظاهرياً(2) وإن فسرناه بالمماثل - أي بجعل المماثل -

ص: 505


1- سورة آل عمران: 159.
2- ولا يخفى أن هذا مبنى على تسليم كون فتوى الفقيه في الحوادث الواقعة مما يرتبط بكل الأمة حجة لا بشرط، وإلا بأن رجح كون فتواه حجة لا بشرط في الأحكام الشرعية والشؤون الخاصة فقط، أما الشؤون العامة فلا حجية لرأي فقيه منفرداً لاستلزامه الهرج والمرج والضرر في ذلك - كما فصلنا ذلك في عدة مواضع من هذا الكتاب - بل المرجع المجموع من حيث المجموع أو الأكثرية، كان هذا إشكالاً آخر وهو مبنائي، إذ يعود لإنكار كون فتواه فيها حكماً ◄ ►ظاهرياً وعدم كونها حجة على مسلك ارتضيناه في معنى الحجية.

لايمنع وجوب الإشارة ووجوب السعي للتطبيق على المجتهد الآخر(1)، لكون الحكم الظاهري نافذاً في حق الأول دونه،وعلى هذا الأخير العمل وفق ما اقتضته حجته، وعلى ذلك بناء العقلاء وسيرتهم(2)، ولذا نجد الفقهاء قديماً وحديثاً يعترض أحدهم على الآخر في موقفه من (الحوادث الواقعة)، ويحاول تغييره أو تغيير الموقف العام، ويكفينا للتمثيل أن نذكر السيد الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى، والشيخ الآخوند الخراساني صاحب كفاية الأصول (قدس سرهما) في قصة الثورة المشروطة، وقد يمثل بالسيد الرضي والسيد المرتضى (قدس سرهما) في التعامل مع السلاطين، بل ومع غير المسلمين من الشعراء والأدباء وغيرهم.

والأمثلة كثيرة تطلب من مظانها، وقد سبق بعضها.

سكوت الأدلة عن صورة التعارض

ولنا أن نجيب أيضاً: بأن الأدلة الدالة على حجية رأي الفقيه - باعتباره عالماً أو خبيراً - لا تدل على أزيد من حجيتها لنفسه ولمتبعه، ولا دلالة فيها أصلاً على حكم مورد تخالف الاجتهادين(3) ومانعية حجية فتوى الفقيه لنفسه ولمن اتبعه عن

ص: 506


1- لا يخفى أن هذا مبني على كون المجعول في موارد الطرق والأمارات الحكم المماثل، وأما لو قلنا بأن المجعول هو الكاشفية والطريقية بمعنى متممية الكشف بإلغاء احتمال الخلاف بل إمضاء ذلك، فالجواب أيضاً واضح، وسيأتي تفصيله بعد قليل (ونعود فنقول...) وكذا لو قلنا بأن الحجية لا تعني إلا المنجزية والمعذرية.
2- يستثنى ترك ذلك تقية أو جبناً وما شاكل ذلك، وهو واضح وعدم إضراره بما نحن بصدده أوضح.
3- المقصود: من حيث مانعية حجية رأي هذا عن وجوب إشارة ذاك عليه بما يراه، لا من ◄ ► حيث حجية فتواه لنفسه، إذ قد يقال بعدم شمول أدلة الحجية لمورد تخالف الاجتهادين كما ارتضاه السيد الخوئي (مد ظله) وتعرضنا له بالتفصيل في موضع آخر من الكتاب، فكلامنا هنا بعد الفراغ عن تسليم كون كلا الفتويين حجة اقتضاءً وفعليةً.

وجوب عمل سائر الفقهاء والخبراء بمقتضى اجتهادهم ووجوب إشارتهم حسب ما يشخصونه من المعروف والمنكر.

أما آية الذكر: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(1)، فهي دالة على وجوب أن يسأل العالم من لا يعلم، ولا ربط لها بما نحن فيه من حكم تخالف شخصين من أهل الذكر في الفتوى.وأما آية النفر: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)، فهي دالة على إنذار من يعلم من لا يعلم، أو من يعلم معانداً، فهي أجنبية عن مورد الكلام، ولو فرض دلالتها على وجوب إنذار من يعلم من يعلم مخالفاً اجتهاداً، كانت دليلاً على ما ارتضيناه.

وأما آية النبأ: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(3)، فهي مختصة مفهوماً بالحسي، على ما ارتضاه جمع، ولو فرض شمولها للحدسي(4) فهي ظاهرة فيمن أخبر من لا يعلم - بالمعنى الأعم من العلم أو العلمي - أو منصرفة إليه قطعاً، وإلا لغى الاجتهاد ووجب أن يقبل كل مجتهد رأي كل مجتهد أخبره باجتهاده! إضافة إلى أن المجتهد ذا الرأي المخالف من (من تبين) فهو ممتثل قهراً ولا يشمله التعليل، فتأمل.

ص: 507


1- سورة النحل: 43، وسورة الأنبياء: 7.
2- سورة التوبة: 122.
3- سورة الحجرات: 6.
4- كما بينا وجهه في بعض البحوث.

فهذه الآيات جميعاً مبنية للعلقة بين الجاهل والعالم، لا العالم ونظيره، فتدبر.

وكذا الآيات والروايات الدالة على حجية ظواهر الكتاب ووجوب العمل بها والأحاديث الدالة على حجية سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأخذ بروايات الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)(1)، بناء على دلالتها.

وكذا الأدلة الدالة على جواز التقليد بالمعنى الأعم، مثل رواية علي بن المسيب الهمداني، قال (قلت للرضا عليه السلام: شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال (عليه السلام): من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا).

ورواية الحسين بن علي بن يقطين، وحسنة عبد العزيز بنالمهتدي، وصحيحة أحمد بن إسحاق، والتوقيع المبارك(2)، وغير ذلك من الروايات الدالة على وجوب الرجوع في الفتوى إلى رواة الشيعة، الظاهرة أو الصريحة في العلقة بين الجاهل والعالم.

وكذا الطائفة الثانية من الأخبار الدالة على جواز الإفتاء، الملازم عرفاً لجواز الأخذ به وتقليد الغير له، مثل قول الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)(3).

فجواز الإفتاء أو وجوبه لا يدل على عدم وجوب الإشارة عليه بخطأه في رأي وردعه عنه، بأية واحدة من الدلالات الثلاث، خاصة مع لحاظ جواز أو وجوب ذلك للآخر أيضاً، إضافة إلى كون العلقة كما سبق.

ص: 508


1- وقد فصّلها السيد العم (دام ظله) في شرح العروة الوثقى: ص11-15 فليراجع.
2- راجع شرح العروة الوثقى، للسيد العم: ص25-26.
3- راجع شرح العروة الوثقى، للسيد العم: ص30.

وهكذا الأمر في الطائفة الثالثة أيضاً(1).

هذا، وخلاصة القول:

إن حجية فتوى الفقيه إن كانت تعبدية تأسيسية فلا يستفاد من أدلتها المنع عن الإشارة أو الردع كما فصلناه، وإن كانت إمضائية وكانت الروايات إرشاداً لحكم العقل وطريقة العقلاء فكذلك أيضاً، كما سيجيء تفصيله في (ونعود فنقول...)، ويمكن أيضاً على الإرشادية كشف حكم العقل ببرهان الإنّ من بعض الروايات، فتأمل.

هذا، وإذا ضممنا جميع ما ذكر إلى متواتر الروايات المفيدة لتحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً، استفدنا جواباً آخر سنذكره بعد ذكر بعض الروايات الشريفة:

قال (عليه السلام): (...يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُبْهَمَاتِ عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًىوَثِيقَاتٍ وَأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ).(2)

و: (وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْ ءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ... وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْ ءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ... كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَ لَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُم... وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً...).(3)

و: (أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا...).(4)

ص: 509


1- راجع شرح العروة الوثقى، للسيد العم: ص31.
2- نهج البلاغة: الخطبة 88.
3- نهج البلاغة: الخطبة 147.
4- نهج البلاغة: الخطبة 48.

و: (أَجْوَرُ الناسِ مَنْ عَدَّ جَوْرَهُ عَدْلاً مِنْهُ).(1)

و: (لَتَحْمِلُنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ)(2).

وروايات كثيرة جداً حول العالم غير العامل بعلمه، أو الظالم أو المبتدع.

هذا ولا تلازم بين كون الشيء منكراً وقاعياً وبين العلم بكونه كذلك، كما لا تلازم بين كون الشخص مبتدعاً وبين علمه بذلك، أو ظالماً أو تحمله ذنوب السفهاء وبين العلم، ضرورة عدم التلازم بين الثبوت والإثبات، كما لا تلازم بين العدالة ابتداءً واستمراراً، وسيأتي تفصيل ذلك بأجمعه بإذنه تعالى.وإذا تم ذلك وجبت الإشارة وغيرها عقلاً، وهذا طريق آخر سيأتي إفراده بالاستدلال، خاصة بملاحظة الروايات الكثيرة الدالة على: (من استبد برأيه هلك) (3)، و(ما خاب من استشار)(4)، و(أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله) ... إلى غير ذلك مما سبق التطرق له مما يشمل الخطأ القصوري والتقصيري والمتعمد، حيث إن حجية رأي الفقيه منوطة بالعدالة، وهي غير محرزة إلاّ بالتتبع في ما يتخذه من الرأي والموقف قبال (الحوادث الواقعة) وسيأتي ذلك.

ص: 510


1- غرر الحكم: ص455 ذم الظلم ح10388.
2- بحار الأنوار: ج2 ص22 ح63، ونصها: (عن الحارث بن المغيرة، قال: لقيني أبو عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة ليلاً فقال لي: يا حارث.. فقلت: نعم، فقال: أما لتحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم ثم مضى، قال: ثم أتيته فاستأذنت عليه فقلت: جعلت فداك لم قلت: لتحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم؟ فقد دخلني من ذلك أمر عظيم، فقال: نعم ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهونه مما يدخل به علينا الأذى والعيب عند الناس أن تأتوه فتأنبوه وتعظوه وتقولوا له قولاً بليغاً؟ فقلت له: إذا لا يقبل منا ولا يطيعنا؟ قال: فقال: فإذاً فاهجروه عند ذلك واجتنبوا مجالسته).
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي ح15587.
4- راجع غرر الحكم: ص442 فوائد المشاورة ح10074 وفيه (ما ضل من استشار)، وفي مستدرك الوسائل: ج8 ص341 ب20 ح9609: (ما عطب من استشار).
نظر الفقيه طريق عقلائي لا يمنع الأحكام السبعة

ونعود فنقول: إن الأمارات المعتبرة شرعاً طرق عقلائية يعمل بها العقلاء في أمورهم وقد أمضاها الشارع(1)، ومن الأمارات التي أمضاها الشارع رأي الخبير المعبر عنه ب(الفتوى) لو كان الخبير خبيراً في شؤون الدين جامعاً للشرائط(2)، ومن البيّن أن العقلاء لا يرون مانعية حجية رأي هذا الخبير لنفسه ولمتبعيه عن جواز أو جوب ردع سائر الخبراء له عن معتقده فيما لو رأوا فيه هلاكه، فكيف بما لو كانت مصائرهم مرهونة به مما كان في تطبيق معتقده هلاكهم أجمع، أرأيت لو جاءنا نبأ من بلد ناءٍ بأن أحد الخبراء رأىعدم توجه خطر على البلاد من جهة خاصة، وكان محرزاً عند سائر الخبراء أو عند بعضهم توجه الخطر، فسكتوا فداهمهم العدو أو السيل أو غير ذلك فأهلكهم جميعاً أو أخرب بلادهم، أترى العقلاء يعذرون الساكتين وهل تراهم - لو وصلهم النبأ قبل توجه الخطر - يرون أن على سائر الخبراء السكوت وعدم الإشارة والنصح لمجرد كون أحد خبرائهم - وإن كان بيده الأمر وكان له المنصب - يرى ذلك؟ ولعل إطلاق الرواية التالية يشمل ذلك:

فعن الحارث بن المغيرة، قال: (لقيني أبو عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة ليلاً فقال لي: يا حارث، فقلت: نعم، فقال: أما لتحملن ذنوب

ص: 511


1- راجع مصباح الأصول: ج2 ص104، حيث نقل ذلك عن المحقق النائيني (قدس سره) وراجع تهذيب الأصول: ج2 ص134، وقال في مصباح الأصول ص98: (هذا مضافاً إلى أن غالب الأمارات بل جميعها طرق عقلائية لا تأسيسية من قبل الشارع...).
2- الظاهر عدم اشتراط الجامعية للشرائط في تحقق الموضوع (أي صدق الفتوى) بل هي شرط لحجيتها واعتبارها شرعاً.

سفهائكم على علمائكم ثم مضى، قال: ثم أتيته فاستأذنت عليه فقلت: جعلت فداك، لم قلت: لتحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم؟ فقد دخلني من ذلك أمر عظيم، فقال: نعم ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهونه مما يدخل به علينا الأذى والعيب عند الناس أن تأتوه فتأنبوه وتعظوه وتقولوا له قولا بليغا؟ فقلت له: إذاً لا يقبل منا ولا يطيعنا؟ قال: فقال: فإذاً فاهجروه عند ذلك واجتنبوا مجالسته) (1).

وإذا تم ذلك ثبت ستة من المسائل السبع السابقة فليتدبر، خاصة وجوب طلب الإشارة، والإشارة، ووجوب ردع الأمة مانعها، لكونها سبباً لانكشاف الأمر أكثر فأكثر، ومعرفة كل أو غالب ما خفي من جوانبه وزواياه، ف- (الاستشارة عين الهداية) (2)، و(أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله)، وقد مر تفصيل ذلك.

كما يمكن رفع اليد عن الحكم الواقعي يمكن رفعها عن الحكم الظاهري :

ويمكن الإجابة عن الإشكال بنحو آخر، هو: إن (الحكمالواقعي) إذا أمكن رفع الشارع اليد عنه(3) فيما لو جعلت الحجية للأمارات وأوجب التعبد بها مع أنها قد تؤدي إلى خلاف الواقع(4)، وذلك لما في الاحتياط من العسر الشديد

ص: 512


1- بحار الأنوار: ج2 ص22 ب8 ح63 عن السرائر، وشبهه في الكافي: ج8 ص162 حديث الناس يوم القيامة ح169.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15588.
3- برفع اليد عن مرتبة التنجز.
4- وذلك رغم بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه من المصلحة أو المفسدة لعدم قصور في مقتضيات الأحكام وملاكاتها في موارد قيام الأمارة والأصل على خلافها، ومع أنه كان يمكن المحافظة عليه بإيجاب الاحتياط.

والحرج الأكيد، فكيف لا يمكن رفع اليد عن (الحكم الظاهري) حتى وإن كان بمعنى جعل المماثل؟ وإذا أمكن رفع اليد عما في الواقع من المصلحة والمفسدة فكيف لا يمكن رفع اليد عما لا مصلحة فيه ولا مفسدة(1)؟ بل إن كانت ففي غالبية تأديته للواقع(2)، حيث كان جعله حجة لمصلحة التحفظ عليه، وكيف لا يمكن رفع اليد عنه إن كان الأمر - في موارد التعارض - باتباع رأي الأكثرية موجباً لأغلبية المطابقة للواقع(3)، وكانت حجية رأيها سبباً للتحفظ عليه بما لا يصل إليه جعل فتوى أحدهم حجة في مورد التعارض.

وتمامية ما ذكرناه تعني: أن فتوى الفقيه تتوقف حجيتها له ولمقلديه على الاستشارة، وملاحظة آراء الآخرين في الشؤون العامة، إذ لا ريب في أقربية رأي المستشير إلى مطابقة الواقع من غيره، ولكون الاجتهاد استفراغاً للوسع، وليس من لم يلاحظ آراء الآخرين مستفرغاً له، وإذا كان الفقيه في المسألة الأصولية أو الفقهية الواحدة يختلف حاله كثيراً بملاحظة أقوال سائر الفقهاء والأصوليين وعدمها عند الافتاء، ويكون غير مستفرغٍ للوسع إن لم يلاحظ آراء العديد من الفقهاء خاصة في المسائل الخطيرة كالفروج والدماء، أوفي المسائل الصعبة المتشابكة المتكثرة الاحتمالات أو خفية الوجه، فكيف بالشؤون العامة وعظم خطرها وعدم قدرة الواحد على استيعاب واستقصاء منافعها ومضارها للحكم على ضوء التعادل والترجيح في ذلك، فيكون حال من لم يستشر ولم يلاحظ

ص: 513


1- اللهم إلا مصلحة سلوكية على القول بها، وهي غير نافعة كما أوضحناه.
2- وهذا على التفسير الآخر للحكم الظاهري.
3- قد بيّنا تمامية المقدم في مواضع عديدة من هذا الكتاب، كما أثبتنا الملازمة في مواضع عديدة أيضاً. ولا يخفى أن ما ذكر من (أن الحكم الواقعي إذا أمكن رفع اليد عنه... إلخ) إشارة لمرحلة الثبوت، وما ذكرناه سابقاً من (بناء العقلاء وسيرة الفقهاء ونعود فنقول:...) إشارة إلى مرحلة الإثبات، وكذا ما سيأتي من مثال القطع، هذا.

آراء سائر الفقهاء كحال من أفتى دون ملاحظة تمام الأدلة وما له دخل في الاستنباط، فتأمل.

وكيف لا يمكن الأمر بالإشارة والاستشارة لمن كانت فتواه حكماً ظاهرياً في حقه وحق مقلديه، مع لحاظ كونها بالغة ما بلغت غير بالغة مرتبة القطع، لكون حجيته ذاتية وحجيتها مجعولة، ولا يمنع القطع من حكم العقل والعقلاء وشهادة صريح الوجدان بوجوب الإشارة، بل الردع لمن قطع في الشؤون بما نراه ضاراً بالأُمة، بل لو قطع في موضوع جزئي كما لو قطع بكون هذا الشخص كافراً حربياً مع كونه مسلماً أو ذمياً - حسب ما نراه - لم يمنع ذلك من وجوب تنبيهه والإشارة له بذلك، ومحاولة رفع جهله المركب، وإلاّ وجب الحيلولة عملاً دون قتله.

وأما (الراد عليهم الراد علينا) ففيه إضافة إلى ما ذكرناه في مكان آخر: أن الإشارة قبل الإفتاء ليست رداً، بل إن الإشارة وبيان الوجوه المختلفة وإيراداتها ومؤيداتها بعد الإفتاء ليست رداً أيضاً، إذ الرد هو الإنكار والمخالفة قولاً أو عملاً، أما ابداء الاحتمال المخالف وذكر أدلته مما قد يؤدي إلى تغير رأي المفتي مع التسليم له، إن كان المشير غير مجتهد، أو مجتهداً يرى ولاية الفقيه الحاكم عليه، - وفي هذا يكون التسليم عملاً أما رأياً فلا، كما لا يخفى - إن ثبت على رأيه، فليس رداً عرفاً وعقلاً، بل هو تعاون على البر، ومقربية إلى الواقع، بل قد جرت السيرة من الفقهاء والطلاب على إبداء احتمال الخلاف والاستشهاد له.

ص: 514

الدليل الثاني: الروايات الكثيرة المتنوعة

اشارة

الروايات الشريفة وهي كثيرة جداً، وتواترها الإجمالي محرز لا ريب فيه، إضافة إلى صحة سند بعضها(1)، فمنها:

فلا تكفوا عن مقالة بحق

1: قوله (عليه السلام): (فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاّ أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي)(2)، وهي واضحة في النهي عن عدم الإشارة(3) بالعدل، أو المقالة بحق(4).

والمراد من الكف الترك، لا خصوص منع النفس وصرفها، ولو بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، وعدم وجود خصوصية في ما هو أخص من مطلق

ص: 515


1- كما تطرقنا لذلك في موضع آخر فليراجع، وذكرنا أيضاً روايات أخرى لم نذكرها ههنا، كما ذكرنا هنا بعض ما لم نذكره هناك.
2- نهج البلاغة: الخطبة 216، وروضة الكافي: ص352.
3- وكيفية استتباع ذلك لسائر المسائل قد بيّناه سابقاً.
4- نعم المعصوم (عليه السلام) ليس فيه احتمال الخطأ، كما قال (عليه السلام): (إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني). ولكن الإمام (عليه السلام) يبين حكم سائر الولاة.

الترك، معللاً ذلك باحتمال الخطأ في المشار عليه(1) - في غير المعصوم - الدال على أن علة وجوب الإشارةاحتمال الخطأ، فكيف في صورة العلم به، فتأمل.

لا يقال: تفيد الرواية وجوب الإشارة عند العلم بالخطأ وما هو الحق أو العدل أو ما هو بمنزلته، وأما صورة احتمال الخطأ فخارج عن مدلولها المطابقي أو الالتزامي، غاية الأمر وجوب الفحص لكونها أمراً خطيراً ولو كانت بدوية، فتأمل.

وأما عدم الكون فوق الخطأ وعدم الأمان منه فهو - في غير المعصوم - في المشار عليه لا في المشير، أي إنه محتمل للخطأ في فعله، أما أن المشير محتمل أو عالم فهو أمر آخر.

إذ يقال: دلالته عرفاً عليه لكون مساق الكلام نفياً للبناء على الصحة في كل ما يقوم به الحاكم، إضافة إلى الإطلاق في الرواية.

وبعبارة أخرى، المفاد: حيث يآمن الخطأ من نفسه فعليهم المقالة بالحق والمشورة بالعدل، وهو أعم من صورتَي العلم بالخطأ أو قيام العلمي عليه، أما في صورة الشك، أي شك المشير فحيث احتمل الخطأ في المشار إليه وجب الفحص، فتأمل.

وكون المتعلق (المشورة بالعدل والمقالة بالحق) لا يدل إلا على لزوم الإشارة بما لو قامت لديه الحجة على أنه عدل أو حق أي ما هو عدل وحق إثباتاً، ولا يرتهن الأمر بالعدل والحق الثبوتيين وفي نفس الأمر حتى يقال بعدم علم أحد من المجتهدين بأن ما يراه حقاً هو الحق ثبوتاً كي يشمله هذا الخطاب، وذلك لأنه وإن كانت الأسماء أسماء لمسمياتها الواقعية والأحكام متعلقة بالعناوين الثبوتية فالنهي عن ترك ما هو مصداق (المشورة بعدل) ثبوتاً، إلا أنه

ص: 516


1- هذا الاحتمال - بالنظر إلى عصمة الإمام عليه السلام - منتفٍ، ولذا قال عليه السلام: (إلا أن يكفي...).

حيث كان العلم والعلمي طريقين عقلائيين لإحراز المعنونات والمتعلقات، كان المحمول ثابتاً لكل ما قامت الحجة على أنه من أفراد الموضوع، فمن قامت عنده الحجة يرى الواقع هو هذا فيرتب المحمول، وإلا لم يستقر حجر على حجر، ولم يثبت محمول لموضوع، بل إن قصر الأمر على العلم لا وجه له لما بيّن مفصلاً في وجه حجية العلمي، كما أن حصر (الخطأ) في ما هو مسلّم الخطأ وما هو بالضرورة خطأ غير تام وبعيد عن بناء العقلاء وطريقتهم، كما لا يخفى.

روايات: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم و...

2: ومنها قوله (عليه السلام): (أعقل الناس من أطاع العقلاء)(1)، إرشاد إلى ما في إطاعتهم من العقل والسداد والعقال عن الخطأ والزلل، ونظيرها:

3: قول الصادق (عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام): (قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم).(2)

وليس المراد من (أعقل الناس من أطاع العقلاء) و(مشاورة ذوي الرأي واتباعهم) إطاعة العقلاء فيما لو أجمعوا، لكون ذلك حملاً له على الفرد النادر، بل:

ألف: الأعم منه.

ب: ومما ارتضاه أكثريتهم ومشهورهم فيما لم يكفِ فيه عرفاً استشارة الواحد.

ج: ومما ارتضاه أحدهم فيما كفى فيه عرفاً ذلك.

ص: 517


1- غرر الحكم: ص52 أعقل الناس ح385.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15582.

كما يظهر ذلك بوضع (من أطاع الأطباء) مثلاً مكان الموضوع، وبملاحظة (حشر مع الناس عيد) حيث إن المراد حشر مع أكثريتهم ومشهورهم لا جميعهم.

وحديث عدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين قد أشكلنا عليه في موضع آخر من الكتاب مفصلاً.

4: وقول الإمام الكاظم (عليه صلوات المصلين): (يا هشام... مشاورة العاقل الناصح يمن وبركة ورشد وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإياك والخلاف، فإن في ذلك العطب).(1)

5: وقال (صلى الله عليه وآله): (الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره).(2)

6: وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا أشار عليك العاقل الناصح فاقبل، وإياك والخلاف عليه فإن فيه الهلاك).(3)

7: وقال (صلى الله عليه وآله): (استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا).(4)

8: وقال علي (عليه السلام): (شاور ذوي العقول تأمن الزلل والندم).(5)

9: وقال الصادق (عليه السلام): (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع)، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (أما إنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله، بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله).(6)

10: وعنه (عليه السلام): (استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلاّ

ص: 518


1- بحار الأنوار: ج1 ص154 ب4 ح29 عن تحف العقول.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص342 ب20 ح9610.
3- بحار الأنوار: ج72 ص105 ب48 ح41.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص19 ب9 ح15531.
5- غرر الحكم: ص442 شاور هؤلاء ح10078.
6- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15596.

بخير، وإياك والخلاف فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا).(1)

11: وقال الصادق (عليه السلام): (استشر في أمرك الذين يخشون ربهم).(2)12: وقال (صلى الله عليه وآله): (من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله قد أذن ذلك)(3).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة من طرق الخاصة.

وقد ذكرنا قسماً آخر منها في موضع آخر من الكتاب، وأما روايات العامة في ذلك فكثيرة لا داعي لذكرها الآن.

وإذا كان العقل والحزم، وإطاعة العقلاء(4)، وكان الرشد فيها(5)، وكانت الرفعة فيها(6)..

ص: 519


1- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص41 ب22 ح15592، عن المحاسن. والحديث صحيح أو موثق، رواه أحمد بن محمد البرقي في المحاسن، عن موسى بن القاسم، عن جده معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أما البرقي فقد قال عنه ابن داوود في رجاله: (كان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل صنف كثيراً، أقول: وذكرته في الضعفاء لطعن الغضائري فيه، ويقوى عندي ثقته مشي أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً تنصلاً مما قذفه به) رجال علي بن داوود: ص43 باب الهمزة رقم 122، ونقل في القسم الثاني ص229، توثيق الفهرست والنجاشي له، وراجع النجاشي: ص55، وأما طعن ابن الغضائري فغير ضائر لمطعانيته، وقد تحدثنا عن البرقي أكثر فيما سبق فليراجع، وأما موسى بن القاسم فقد قال عنه ابن داوود ص194: (موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب عربي بجلي كوفي ثقة كما في الفهرست... ثقة ثقة واضح الحديث حسن الطريقة)، وقال عنه النجاشي ص289: (ثقة ثقة جليل واضح الحديث حسن الطريقة)، وأما معاوية بن وهب فقد قال عنه النجاشي 293 (عربي صميم ثقة حسن الطريقة)، وقال عنه ابن داوود ص191 الرقم 1590: (ثقة صحيح).
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص62 ب31 ح254.
4- كما في الحديث الثاني والثالث.
5- كما في الحديث الرابع والسابع.
6- كما في الحديث التاسع.

وكان في خلافها العطب(1)، والهلاك(2)، والندم(3)، والزلل(4)، والخذلان(5)، ومفسدة الدين والدنيا(6)، كان اتباعهم في الأمور الخطيرة واجباً عقلاً دون ريب(7).

هذا، ويستفاد من قوله: (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم...)، و(أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره) أن الاستشارة أمر مغاير للعمل بمقتضاها، لظهور العطف في بينونة المعطوف عن المعطوف عليه، وبُعد كونه تفسيرياً، فلا يكفي على هذا إثبات وجوب الاستشارة - كما سبق في آية (وَشَاوِرْهُمْ)(8) - بنفسه لإثبات وجوب الاتباع ووحدة الحكم غير وحدة الموضوع، فينبغي في الآية الشريفة الرجوع إلى الأجوبة الأخرى غير دلالة لفظ (شاورهم)(9)، فليلاحظ.

ص: 520


1- كما في الحديث الرابع.
2- كما في الحديث السادس.
3- كما في الحديث السابع.
4- كما في الحديث الثامن.
5- المستفاد من مفهوم الحديث التاسع.
6- كما في الحديث العاشر، ولا يخفى أن الزلل والندم والخذلان في الحديثين الثامن والتاسع رتبت على عدم المشورة لا على عدم الاتباع، فتأمل.
7- كما ثبت بما ذكرناه بعض المسائل الأخرى، كوجوب طلب الإشارة وغيرها، لأن فيها توقياً عن إلقاء النفس في التهلكة.
8- سورة آل عمران: 159.
9- كبرهان الغرض وأن في عدم الاتباع نقضاً له واللازم العرفي وشبه ذلك.

وينبغي التنبيه على أمور:

الجمع بين ما دل على استشارة واتباع العاقل وما دل على إطاعة العقلاء :

الأول: إن بعض الروايات (كالثانية والثالثة والثامنة والحادية عشرة) ظاهرة في الإرشاد أو الإلزام ب(إطاعة العقلاء) واستشارتهم، وأن الحزم ورفع الزلل والندم في ذلك، وبعضها (كالرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والتاسعة والعاشرة) ظاهرة في الاكتفاء باستشارة واتباع (العاقل الواحد).

فربما يقال: بعدم التعارض وصحة الاكتفاء بكل منهما لكونهما مثبتين، كما في (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة)، وكون كل عاقل في (العقلاء) مصداقاً مبائناً للآخر لا صفةً كما في مؤمنة، غير ضائر بعد إمكان إرجاع ذلك إلى الوصف وشبهه، حالاً أو شرطاً، كأن يقال: (العاقل منضماً إلى عاقل آخر أو أكثر واجبة استشارته، أو العاقل إذا انضم، أو العاقل المنضم إليه) أو بعد ادعاء وحدة الملاك، فيكون استشارة الأكثر من الواحد هو الفرد الأكمل، وعليه يحمل، فليس العمل بما دل على الواحد إلغاءً لما دلّ على الأكثر، بل هو مقدم عليه، لكون ظهور ما دلّ على الأكثر في الوجوب أضعف من ظهور ما دلّ على الواحد في الكفاية، فيحمل الأكثر على الفرد الأكمل.

والجواب:

أولاً: إن المراد من عدم مقيدية ذي الوصف لفاقده ليس هو كفاية إتيان

ص: 521

فاقد الوصف في امتثال الأمر بذي الوصف، بل المراد كفاية إتيان فاقد الوصف في إسقاط الأمر المتعلق به وعدم حمل الفاقد على الواجد المستلزم لعدم كفاية الفاقد فليدقق، نعم يلزم حمل الواجد على الأفضلية لا الوجوب، ولو أريد به غير ما ذكرناه كانمردوداً.

وثانياً: إن دلالة (استشر العاقل) وشبهه على عدم لزوم استشارة الأكثر إنما هو بمفهوم الوصف، ودلالة (استشر العقلاء) على لزوم الأكثر بالمنطوق، وهو مقدم عليه.

وثالثاً: إذا كان الحزم في استشارة ذي الرأي وإطاعته (الرواية الخامسة) فهو في استشارة وإطاعة المتعدد أولى وأقوى (الرواية الثالثة) كما هو واضح، وإذا كان العطب في مخالفة العاقل الواحد وكذا الهلاك والندم والخذلان ومفسدة الدين والدنيا (الروايات: 4 و6 و7 و9 و10) كان كل ذلك في مخالفة المتعدد والأكثرية أقوى وأشد وألزم.

وبعبارة أخرى: التعليل المذكور - أو ما هو بمنزلته - في تلك الروايات يستلزم وجوب استشارة الأكثر من الواحد في الأمور الخطيرة، والشؤون العامة منها، لنفس العلة، إذ في عدم استشارة الأكثر العطب والهلاك و... إلخ، أما في غيرها فليس فيه ذلك عرفاً.

ورابعاً: إن المراد ب- (العاقل) الجنس والطبيعة في مقابل غيره، لا الفرد، فهو منطبق على الكثير والقليل، فتأمل.

ص: 522

الإشكال بظهور بعضها في الاكتفاء بنفس المشاورة

الثاني: إن ظاهر بعض الروايات السابقة (كالثامنة والحادية عشرة) أن نفس المشاورة مؤمّنة من الزلل والندم، فلا تدل على لزوم الاتباع.

وفيه:

أولاً: دعوى(1) أن المشاورة أو الاستشارة لا تعني صرف سؤال الآخرين عن آرائهم، بل تعني الإطاعة والاتباع أيضاً، فلا يقال لمن سأل عدةً آراءهم ثم خالفهم: إنه عمل عن مشورة.

وفيه: إن الظاهر أن الاستشارة لغةً وعرفاً تطلق على صرف استعلام الآراء، وأما المثال فعدم الصدق إنما هو إذا أخذت (مِن) نشوية، أما إذا كان المراد من (مَن عمل عن مشورة) البعدية(2) صدق الإطلاق عرفاً.

وثانياً: إن ترتيب الأمن من الزلل والندم في الرواية الثامنة على المشاورة، ترتيب على جزء المقتضي وبعض العلة لا تمامها، بقرينة سائر الروايات حيث رتّب الأمن منهما ونظائرهما على المشاورة والإطاعة، فوزانها وزان ما رتب فيه دخول الجنة ووجوبها على الصلاة في بعض الروايات، كقول الإمام الصادق (عليه السلام): (هَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَاتُ مَنْ أَقَامَهُنَّ وَحَافَظَ عَلَى مَوَاقِيتِهِنَّ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ يُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ)(3)، وغيرها كثير، وكذا ما رتّب فيه دخولها على غيرها فيما لو ضم إليها ما رتّب فيه دخولها على

ص: 523


1- لا يخفى أننا تطرقنا لهذا البحث سابقاً فليلاحظ ما ذكر ههنا مع ما ذكر هنالك.
2- أي عمل بعد مشورة.
3- الكافي: ج3 ص267 باب من حافظ على صلاته أو ضيعها ح2.

غيرها أيضاً.

وكونها عللاً على سبيل البدل بعيد، ولو فرض ذلك فيها لميصح فيما نحن فيه، بدلالة واضح لسان الروايات السابقة.

وثالثاً: عدم بعد إرادة الاستشارة المتبوعة بالإطاعة من الرواية، بقرينة قوله (عليه السلام): (استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا) (1)، حيث إن الظاهر كون (ولا تعصوه فتندموا) عطفاً تفسيرياً بقرينة ترتيب (ترشدوا) على (استرشدوا) وظهور تقدير (واتبعوه) بعد (استرشدوا العاقل) بقرينة الذيل، فالمراد بالمشاورة الاتباع مجازاً في الكلمة بإرادة اللاحق أو أنه مقدر، فتأمل.

هذا، ولكن ورد في بعض الروايات تعليل لزوم الاستشارة بمعرفة مواقع الخطأ، الكاشف عن كونها لمعرفة الصحيح من الباطل، لا للاتباع، وإن لم يتضح له وجه الأمر وصحة المشورة، وفي بعضها التصريح بكون اختيار أحد الآراء للمستشير، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية: (اضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب)(2)، وقوله (عليه السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(3)، وقوله (عليه السلام): (ما استنبط الصواب بمثل المشاورة)(4)، إضافة إلى حكم العقل فيمن استشار واقتنع بخلاف رأي المشير بلزوم اتباعه رأيه إن كان هو من أهل الخبرة، نعم لو توقف كان عليه الاتباع.

ص: 524


1- وسائل الشيعة: ج12 ص19 ب9 ح15531.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص384 ح5834.
3- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم173.
4- غرر الحكم: ص442 فوائد المشاورة ح10065.

والجواب:

أولاً: على تقدير تمامية دلالتها على المدعى فهي معارضة بالروايات السابقة وما بمضمونها وهي المقدمة، حيث لا يبعد دعوى قطعية صدور البعض منها لا أقل من الاطمينان إن لم نقل بتواتر مضمونها، هذا إن لم نقل بحكومتها عليها على حسب بعض تفسيرات الحكومة(1)، بل وعلى التفسير بالناظرية مما أفاد توسعة الموضوع، فتدبر.

وثانياً: إن مقتضى جمعها مع الأدلة التي مضت على لزوم اتباع الأكثرية يقتضي تخصيص هذه الروايات بصورة تعارض آراء المشيرين وتكافئها وعدم وجود مرجح لبعضها، بل ظاهر أولها صورة التعارض، أو صرفها إلى غير الشؤون العامة مما لا تجب فيه الاستشارة واتباع الأكثرية، بل ما ذكر في محله من الدليل على كون رأي الأكثرية أقرب للواقع يكون منقحاً لموضوع الرواية الأولى ولمتعلق الثانية، فتأمل.

وأما ما ذكر من حكم العقل، فقد أجبنا عنه بالتفصيل في مكان آخر، فليراجع.

وثالثاً: ظاهر بعضها صورة العلم(2)، فيخصص به لزوم الاتباع بكونه في غيرها ويستثنى منه الشورى العامة لحكومة أدلتها.

رابعاً: بل قد يقال: بأنه لا تنافي بين الطائفتين من الروايات، إذ يكمل بعضها بعضاً، إذ أن المستشير يعرف مواقع الخطأ بالمشورة أي بسببها، فيتجنبها

ص: 525


1- ك- (أن يتعرض أحد الدليلين لما لا يتعرض له الدليل الآخر من حيثياته)، يراجع مباحث الأصول (الحكومة والورود) للمؤلف.
2- قوله (عليه السلام): (عرف مواقع الخطأ).

فيكون متبعاً لها، ويستنبط الصواب بسببها فيتبعه، ويكون بذلك متبعاً لها.

إطلاق الروايات وشمولها حتى لما لو لم يقتنع المستشير

الثالث: الظاهر إطلاق تلك الروايات وشمولها لما لو لم يقتنع برأي المشير، إضافة إلى عدم الحاجة للتحذير والتهديد على المخالفة فيما لو اقتنع، وإنما يكون لهما مورد فيما لو لم يقتنع، ضرورة أن قوله (عليه السلام): (وإياك والخلاف عليهم فإن فيه الهلاك) (1)، و: (إياك والخلاف، فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا)(2)، الخ.

ظاهر في من لم ير رأيهم، خاصة مع تكرار ذكر (الورع.. العاقل.. الناصح) في التعليل المشعر بأن مخالفته هو الملاك إثباتاً في ترتب المفسدة، وبتعبير آخر: الحكم معلل، والعلة معممة ومخصصة، إضافة إلى ظهور (فإنه لا يأمر إلا بخير) (3) في تأسيس كبرى كلية، وأن ما يأمر به خير، وإن لم يفهم المستشير وجهها، وفي الردع عن مخالفته لتوهم عدم الصحة.

ص: 526


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص344 ب21 ح9617.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42 ب22 ح15594.

الدليل الثالث: العقل المستند إلى النقل

اشارة

ويدل على وجوب الإشارة ووجوب ردع الأُمة لمن يمنعها، حاكماً كان أم محكوماً، فقيهاً أو غيره: العقل، وتقريره أن العلماء(1) على أقسام (2):

فمنهم: من هو خارج موضوعاً عن العلماء، لكنه متظاهر بالعلم، قد غرّ جمعاً وخدعهم وأوهمهم أنه عالم، وحينئذٍ يكون إطلاق العالم عليه مجازاً.

وقد يكون الخروج الموضوعي عن (العلم الحق) أو (الحقيقي) فيكون داخلاً في أحد القسمين اللاحقين.

قال علي (عليه صلوات المصلين): (وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ، وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلالٍ(3)، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ

ص: 527


1- حيث إن الحديث عن شورى الفقهاء خصصنا الحديث في المتن بهم، وأما في غيرهم فيجري ما ذكرناه مع تغيير ما وبشكل أوضح.
2- لكي تكون القسمة حاصرة حصراً استقرائياً ولئلا تتداخل الأقسام ينبغي القول على وجه التقريب: أن المسمى بالعالم أو المدعى عالميته قد لا يكون عالماً وقد يكون والأول إما لكونه لا يعرف شيئاً (مطلقاً كان يدعي علماً لا يعرف منه شيئاً إطلاقاً أو يدعى ذلك له) أو بحيث يصح في عرف العقلاء إطلاق العالم عليه أو لكونه جاهلاً مركباً لقصور أو تقصير أو لكونه عالماً بالباب دون المسألة (حيث يطلق عليه العلم بالفقه مثلاً وإن جهل العديد من المسائل) أو بعلم دون آخر هو غير عالم باعتبار تلك المسألة وذلك العالم الآخر وعالم بالقياس إلى الباب والعلم الأول.
3- فهو جاهل مركب، وكلامه عليه السلام في بعض مقاطعه يحتمل الجاهل المركب والعالم الضال المضل، فالمراد ب(وليس به) إما النفي حقيقة أو تنزيلاً.

غُرُورٍ وَقَوْلِ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَالْجَرَائِمِ، يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان)(1).

وقال (عليه السلام): (إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ رَجُلَانِ رَجُلٌ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ... وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً... قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَ اكْتَثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ... فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ.. لا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ وَ لا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ)(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): (إياكم وأهل الدفاتر ولا يغرنكم الصحفيون)(3).

هذا، وقد يكون الرجل عالماً من جهة، جاهلاً من جهة أخرى: (علمين كانت الجهتان أو مسألتين) فربما يكون المتصدي للأمر (أو المتصدون له) أفقه الفقهاء فقهاً وأصولاً، لا سياسةً واقتصاداً، أو فقيهاً في مسألة سياسية جاهلاً بأخرى، فهو خارج موضوعاً في هذا الباب أو المسألة.

ولا فرق فيما نحن بصدده من وجوب الإشارة ووجوب ردع مانعها - كما سنوضحه - من التزام البعض بكون الحكومة للفقيه بالغلبة، (بمعنى أن من قهر

ص: 528


1- نهج البلاغة: الخطبة 87، والعوالم: ص367 عنه.
2- نهج البلاغة: الخطبة 17.
3- مستدرك الوسائل: ج17 ص311 ب10 ح21438.

فهو ولي الأمر!)، أو له بشرط انتخاب أكثرية الأمة له أو لشورى الفقهاء.

ومنهم: من ينحرف عن الصواب ويقع في الخطأ في موارد عديدة مع كونه عالماً عادلاً، لكونه منه قصوراً لا تقصيراً، ووقوع ذلك لكل العلماء - باستثناء المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) - فيصغير المسائل وكبيرها مما لا ريب فيه، ولو فرض مستثنى من ذلك بأن لا يقع في الخطأ قصوراً، سهواً أو جهلاً، أو خطأً أو نسياناً أو اضطراراً، إلى غير ذلك، فهو نادر جداً ثبوتاً، ولا محرز له اثباتاً، قال (صلى الله عليه وآله): (زَلَّةُ الْعَالِمِ كَانْكِسَارِ السَّفِينَةِ تَغْرِقُ وَتُغْرِق).(1)

ومنهم: من يكون كذلك تقصيراً: بما يسقط العدالة، كالكبائر والإصرار على الصغائر أو لا، والعلل متعددة، نذكر منها: الدخول في الدنيا والعصبية وحب المدح وقلة الحياء من الله وحب الرئاسة واستنكاف أن يقول (لا أعلم) فيفتي بما لا يعلم، إلى غير ذلك.

قال (صلى الله عليه وآله): (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم).(2)

وقال الصادق (عليه السلام): (من حرم الخشية لا يكون عالماً وإن شق الشعر في متشابهات العلم، قال الله عز وجل (إنّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(3)، وآفة العلماء ثمانية: الطمع، والبخل، والرياء، والعصبية، وحب المدح، والخوض فيما لم يصلوا إلى حقيقته، والتكليف في تزئين الكلام بزوائد الألفاظ، وقلة الحياء من الله، والافتخار، وترك العمل بما علموا)(4).

ص: 529


1- بحار الأنوار: ج2 ص58 ب11 ح39.
2- الكافي: ج1 ص46 كتاب فضل العلم الباب 13 الحديث 5. ومستدرك الوسائل: ج13 ص124 ب35 ح8 بسند صحيح. وفيه: (على أديانكم).
3- سورة فاطر: 28.
4- بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18 عن مصباح الشريعة.

وقال (صلى الله عليه وآله): (من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض)(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): (أخوف من أخاف على أمتي الأئمة المضلون)(2).وقال عليه السلام: (... فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم)(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): (من طلب العلم لأربع دخل النار، ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو يأخذ به من الأمراء).(4)

وقال علي (عليه السلام): (والناس منقوصون مدخولون إلا من عصم الله، سائلهم متعنت ومجيبهم متكلف، يكاد أفضلهم رأياً يرده عن فضل رأيه الرضا والسخط، ويكاد أصلبهم عوداً تنكؤه اللحظة وتستحيله الكلمة الواحدة)(5).

وجوب الفحص عن كون المتصدي عالماً حقاً أولاً

وإذا كان كذلك لزمت الدقة ووجب الفحص:

أولاً: عن كونه عالماً أو متظاهراً بالعلم، وأنه ممن يهيؤ للمهمات حشواً رثاً من رأيه أم لا، وأنه يحمل الكتاب على آرائه أم لا، وقد لا يستطاع ذلك إلا بطول المدة وشدة الفحص والتحقيق وسؤال العديد من أهل الخبرة ومن ذوي

ص: 530


1- مستدرك الوسائل: ج17 ص243 ب4 ح21234.
2- نهج الفصاحة. ومثله في بحار الأنوار: ج28 ص48 ب2 ح12.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص167 ب1 ح7642.
4- بحار الأنوار: ج2 ص38 ب9 ح61.
5- نهج البلاغة: قصار الحكم 343.

الأذواق المختلفة والخطوط المتعددة لتنكشف بذلك معايبه ومثالبه، ولتعرف بذلك جهاته وهل أنه ممن (يقول أقف عن الشبهات وفيها وقع، ويقول أعتزل الشبهات وبينها اضطجع) أم لا؟ ولا يكتفي بالتعديل من جهة واحدة، فلرب جارح من جهة أخرى، نظير ما يصنع في علم الرجال حيث لا يكتفي بتعديل معدل للراوي، بل يبحث عن جارحه، بل قد يقال بالأولوية هنا، إذ الراوي يرجع إليه في مسألة فقهية أو في عدة مسائل بل حتى في العشرات منها، أما الإمام والقائد والمرجع فإنالشخص يرجع إليه في كل شؤونه أصولاً وفروعاً وحباً وبغضاً وأدباً وسلوكاً، وبتعبير آخر: يقلده دينه، بل الأمر آكد في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والضلالات والبدع وعلماء السوء.

وهل ترى أن اتباع (علي محمد الباب) و(كسروي) ومن تبعه من بعده، و(محمد بن عبد الوهاب) و(الشلمغاني) من قبل، وكذا الواقفية والفطحية وغيرهم، معذورون لصرف توثيق من كان يعتقد بأولئك لهم أو كونهم ثقات سابقاً؟

واستثناء الجاهل القاصر غير الملتفت إلى احتمال انحراف من يتبعه أو الذي لا سبيل له إلى التحقيق والفحص والسؤال غير ضار بما نحن بصدده من وجوب الفحص على الملتفت، كما في كافة التكاليف حتى ما ينبغي اعتقاده في أصول الدين.

كما يلزم الفحص عن كونه عالماً في هذه المسألة بالخصوص أو هذا العلم أم لا، فلا يكتفى مثلاً بكونه فقهياً متبحراً وأصولياً متعمقاً في الرجوع إلى آرائه في السياسة والاقتصاد مثلاً.

ص: 531

وجوب الفحص عن علة اتخاذ القائد موقفاً أو رأياً وعن احتمال خطأه

ولزم ثانياً: الفحص والتنقيب - على تقدير إحراز دخوله موضوعاً في العلماء - عن علة رأيه أو موقفه في (الحوادث الواقعة) مثلاً؟ فهل أن إصرار هذا الفقيه الحاكم مثلاً على الاستمرار في الحرب نابع من العصبية وهيجان القوة الغضبية(1) أم لا؟ وهل أن اقتراب هذا العالم من السلطان الجائر وتعاونه معه - في أي حد كان التعاون ابتداءً من التزاور وإعطاء بعض التسهيلات الحكومية إزاءها، وانتهاءً إلى تأييد الدولة الجائرة - نابع من تشخيص واقعي للمصلحة، أم سببه (الدخول في الدنيا) كما سبق في الحديث الشريف عنه (صلى الله عليه وآله)، أو سببه الطمع وحب المدح وحب الرئاسة، كما في الحديث الآخر، أو سببه الخوف والرعب في غير محلهما؟ وهل محاربته لعالم آخر أو للفئة الأخرى نابعة من الحسد(2)، وقد جعل الدين غطاءً أو ستاراً أم لا؟ وهكذك وهلم جراً.

ولزم ثالثاً: الفحص(3) عما لو كان رأيه وموقفه من الحوادث الواقعة نابعاً من خطأ قصوري، جهلاً أو نسياناً أو سهواً أو غفلةً، أو أنه نابع من الاضطرار والإجبار والإكراه مما يشترك مع الخطأ القصوري في المعذورية، وأن تشخصيه

ص: 532


1- كما مر في الحديث الشريف: أن من آفة العلماء العصبية والتعصب، انظر بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18 وفيه: (آفةُ عُلَمَاءِ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ: الطَّمَعُ وَ الْبُخْلُ وَ الرِّيَاءُ وَ الْعَصَبِيَّةُ وَ حُبُّ الْمَدْحِ وَ الْخَوْضُ فِيمَا لَمْ يَصِلُوا إِلَى حَقِيقَتِهِ وَ التَّكَلُّفُ فِي تَزْيِينِ الْكَلَامِ بِزَوَائِدِ الْأَلْفَاظِ وَ قِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ وَ الِافْتِخَارُ وَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا). وورد: (يَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْيِهِ الرِّضَاءُ وَ السُّخْطُ) بحار الأنوار: ج2 ص56 ب11 ح32.
2- حيث قيل: (تسعة أعشار الحسد في العلماء)، وورد (آفة العلم الحسد)، من لا يحضره الفقيه: ج4 ص371 باب النوادر ح5762.
3- كما تلزم الإشارة وسائر ما ذكر.

مثلاً ضرورة حرب هجومية ضد دولة مجاورة نابع من تضخيم متعمد أو غير متعمد لقنواته المعلوماتية عن حجم القوة العسكرية للعدو وإعداداته للهجوممثلاً وعن نواياه الخفية، أو عن تحريف في النقل وغير ذلك، وكذا العكس، وكذا هل أن تشخيصه ضرورة التحالف مع دولة ما نابع عن معلومات صحيحة عن ثقل تلك الدولة الواقعي في موازين القوى العالمية والمحلية، وأرجحية التحالف معها على التحالف مع دولة أخرى معادية لها، وعن مدى التزامها ببنود الاتفاق ووفائها به أم لا؟ وهل أن (لوبياً) معيناً ومحاور قوى خاصة قد صنعت أجواء خاصة وولدت ضغوطاً معينة أم لا؟ وهكذا.

ولا يكتفى بإحراز العدالة ابتداءً ولا باستصحابها

وأما إحراز عدالته ابتداءً، فلا تكفي لدفع الخطأ القصوري، إذ لا علقة بينهما أصلاً، كما لا يخفى، وأما الانحراف المتعمد فإن الإحراز الابتدائي غير كاف، بل لابد من إحراز استدامة الموقف على التحقيق في كل حادثة واقعة اتخذ فيها موقفاً، إلا أن يكتفى في الإحراز باستصحابها.

ولكن يرد عليه:

إنه قد يقال بعدم جريانه في الأمور الخطيرة مع احتمال الخلاف وإمكان الفحص، ألا ترى أن من كان ممره على منطقة آمنة ثم احتمال احتمالاً عقلائياً مجيء سيل أو كمون عدو أو مفترس، فإنه لا يسلكه إلاّ بعد الفحص، ولو سلكه فذهب به السيل أو قتله العدو أو المفترس لم يكن معذوراً بل كان ملوماً؟ وهل ترى إحدى الدولتين المتحاربتين تبقى عساكرها في مواقعها لاستصحاب إبقاء تلك الدولة الأخرى عسكرها في موضعه السابق، أم تفحص وتبحث؟ ولو فعل

ص: 533

ذلك قائد أحد الجيشين معتمداً على استصحاب بقاء جيش العدو في مواضعه أو في بلده فغزي في عقر داره من طريق وثغر آخر، ألا يكون ملوماً مستحقاً للعقاب عند كافة العقلاء، وهل يعده أحدهم معذوراً؟ والأمثلة كثيرة والوجدان بها شاهد.

هذا، ولو قيل بجريانه في الأمور الأخروية في مثل تلك الصورة لم يمكن القول به في الأمور الدنيوية في مثلها، وبناءالعقلاء بذلك شاهد، وإجمال الكلام في ذلك:

هو أنه قد يقال: بجريان الاستصحاب في الأمر الخطير الأخروي مع قوة احتمال الخلاف وإمكان الفحص، كما لو احتمل قوياً ارتضاع زوجته الصغيرة ممن يوجب ارتضاعها منها الحرمة كزوجته الكبيرة أو أمه مثلاً، إلا أن يقال بلزوم الفحص مع قوة الاحتمال، بل والاحتمال البدوي لما علم من الشارع من شدة الاحتراس والاحتياط في الفروج والدماء، بل وكذا العقلاء، فتأمل. وكما لو استصحب عدالته للصلاة خلفه أو لترتيب سائر ما يتوقف على العدالة من الشرعيات فلا عقوبة حينئذٍ لو بان الخلاف.

ولعل السر في ذلك كون الشريعة مبنية على التسهيل، أو كفاية مؤمّن مثل أدلة الاستصحاب من العقوبة الأخروية أو غير ذلك مما لا يجري في الشؤون الدنيوية، كما في مثال الطريق والجيش السابق في المتن، وهل تكون أدلة الاستصحاب مؤمّنة من خطر القتل أو هجوم العدو وهي تشريعية وتلك تكوينية؟ وتأمينها من العقوبة الأخروية لا يدفع الآثار التكوينية الخارجية للشيء، ومصلحة التسهيل - إن تمت في الشريعة - لا يراها العقلاء في شؤونهم الدنيوية الخطيرة، إذ هي نقض للغرض وترجيح للمرجوح عقلاً قطعاً في قبال إلزامه بالفحص لدفع الضرر المحتمل هذا، وذلك واضح على كلا مبنيي كون الدليل على الاستصحاب، بناء العقلاء أو الروايات، لانصراف الأخيرة عن

ص: 534

الخطيرة الدنيوية.

وحيث استلزم رأي الفقيه في الحوادث الواقعة ضرراً كبيراً دنيوياً - في النفس أو المال أو العرض بالمعنى الأعم - إن لم يكن نابعاً حقيقة عن تشخيصه للواقع(1)، بل عن أحد العلل السابقة الذكر في القسم الثالث من أقسام العلماء، وحيث احتملت تلك العلل احتمالاً عقلائياً كما أرشدت إليه الأحاديث السابقة: (آفة العلماء ثمانية)(2)...وما ورد في حسد العلماء.. (ومن طلب العلم لأربع)(3)... إلخ، وجب عند العقل والعقلاء الفحص عن سبب موقفه وأنه الهوى وأشباهه أم الورع والعقل؟

وبتعبير آخر: وجب الفحص عن عدالته حينئذٍ وعدمها، واستصحابها على فرضه غير كاف كما مرّ ، إلاّ لدفع العقوبة الأخروية، كما لو استصحب عدالته فصلى خلفه، أو استصحبها فدفع له المال فيما لو نذر دفعه لفقير عادل، أو استصحبها في الشاهدين فحكم على مقتضى شهادتهما أو غير ذلك من الأمثلة، لا الضرر الدنيوي الذي لا مؤمّن منه!.

هذا، إضافة إلى كون هذا الاستصحاب مثبتاً، إذ معلولية هذا الرأي للتشخيص المجرد عن الغضب والحسد و... لازم عقلي أو عادي لإبقاء العدالة.

وفيه: إنه قد يقال بكون اللازم الذي يراد إثباته هو جواز الاتباع، كما تستصحب العدالة لإثبات جواز الاقتداء، فتأمل(4).

إذ قد يقال بأن جوازه متفرع على صدور الرأي مجرداً عن منافيات العدالة المتفرع عليها، فهو لازم شرعي للازم العقلي.

ص: 535


1- بل قد أدخلنا سابقاً حتى هذه الصورة في لزوم الفحص، وسيأتي مزيد بيان له أيضاً بإذنه تعالى.
2- بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18 عن مصباح الشريعة.
3- بحار الأنوار: ج2 ص38 ب9 ح61.
4- إذ جواز الاتباع على فرضه لا يدفع إلاّ العقوبة الأخروية، ولا يدفع الضرر الدنيوي.

وفيه: إنه قد يقال بخفاء الواسطة أو بترتب اللوازم الشرعية للّوازم العقلية مطلقاً، فتأمل.

كما يجب الفحص في علم الرجال يجب الفحص عن حال الأحياء

وقد يمكن الاستدلال على بعض صور المسألة، وهي ما لو اتُهم الفقيه في رأيه وموقفه من الحوادث الواقعة، بل لو احتمل عقلائياً كونه عن غضب أو هوى.. إلخ، بالمناط المحقق في علم الرجال الموجب للبحث عن الجارح، ولو في من كانت عدالته محرزة فيزمن ثم وجد جارح أو احتمل وجوده احتمالاً عقلائياً في الزمان اللاحق الذي صدرت فيه عن الراوي الرواية.

هذا، وأما كونه منصوباً حاكماً في الحوادث الواقعة فلا يدفع وجوب الفحص عن خطأه القصوري والتقصيري، إذ غيره أيضاً منصوب حاكماً فيها كما بيّناه في محله، كما لا يدفع وجوب الإشارة عليه بخطأه وتنبيهه إليه، كما لا يسبب جواز منع المشير منها ولا عدم وجوب طلبها ولا عدم وجوب ردع الأُمة مانعها، وأما وجوب سعي المشير لتطبيق محتواها ففيه تفصيل تطرقنا له في موضع آخر، ونقول هنا: إن استلزام ذلك للهرج والمرج واختلال النظام غير تام، إذ كما يرتفع ذلك بنصب الواحد وتحريم مخالفة الآخرين مقتضى حكمه، يرتفع بنصب الجميع وتحريم مخالفة الأقلية رأي الأكثرية، ولا يكون اللازم الأعم دليلاً على أحد الملزومين، إضافة إلى أن السعي نحو ذلك لو كان باللتي هي أحسن لا بالقوة والعنف لم يستلزم ذلك، فتأمل.

لا يقال: إنه لو كان المنصوب كل واحد منهم بحيث ينفذ حكم أيّ منهم استقلالاً - كما في وكيلي شخص في معاملة جعل لكل منهما الحق في البيع استقلالاً - لم يستلزم منصوبية الآخر وجوب فحصه، بل لو فحص وبان له الخطأ

ص: 536

لم يكن له المخالفة.

إذ يقال: إن هذا قد يمكن الالتزام به في القضايا الشخصية وموارد القضاء الفردي دون الشؤون العامة والأمور النوعية، كما بيّناه في مكان آخر فليراجع، إضافة إلى ما فصلناه في موضع آخر من أن النصب لهم جميعاً في الشؤون العامة بشرط الانضمام لا (لا بشرطه) فراجع أيضاً.

أو نقول: غيره أيضاً مكلف بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وكونه منصوباً لا يستلزم كون الحق ما حكم به لبطلان التصويب، فإذا رأى بطلانه كان له ردّه.

إضافة(1) إلى أن منصوبيته مشروطة بالعدالة ومع الشك فيها - فيما احتمل الانحراف المتعمد أي تقصيراً - لا مجال للتمسكبمنصوبيته لدفع وجوب الفحص، لكون الشك فيها شكاً فيها، واستصحاب المنصوبية مسببي، واستصحاب العدالة قد مرّ الكلام فيه، بل يجري نظيره في استصحاب المنصوبية.

إضافة إلى أن بناء العقلاء على ما ذكرناه في الشؤون الخطيرة حتى في المنصوب، ألا تراهم لو نصبوا خبيراً لإرشادهم إلى الطريق الآمن في متاهة عظيمة، يلزمون أنفسهم أو سائر خبرائهم فيما لو احتملوا احتمالاً عقلائياً خطأ هذا المنصوب قصوراً أو تعمده تقصيراً بالفحص والتحقيق عن صواب ما أشار به وخطئه، وتراهم لو احتملوا ذلك يحققون عن سبب إشارته إلى هذا الطريق الخاص وأنه محض رأي أم نابع عن عصبية - في موارد احتمالها كما لو احتمل إرادته هلاك القوم أثر معاقبتهم له في أمر ما قبل قليل - أو غضب أو هوى أو عجلة... إلخ.

كما أن الخبير الآخر لو رأى خطأه ولم يشر ولم ينبه فهلكوا كان ملوماً معاقباً، ولو أراد الإشارة والتنبيه فمنعه مانع فهلكوا كان ملوماً مذموماً، وكذا لو

ص: 537


1- هذا على تقدير تماميته أخص من المدعى، وقد ذكرنا سابقاً وجهاً آخر للزوم الفحص عن خطئه قصوراً كان أو تقصيراً فليراجع.

لم يطلبها الخبير المنصوب مع احتماله خطأه قصوراً وأن في القوم من يحتمل معرفته بالطريق وأن استشارته يحتمل كونها منجية من الهلاك، فهلكوا(1) كان ملوماً، وكذا لو لم يردع القوم مانع الإشارة فهلكوا كانوا ملومين مذمومين(2).

ولو لم يسع الخبير الذي يرى خطأ الطريق الذي دلّ عليه الخبير المنصوب، لحمل الناس على سلوك الطريق الآخر الذي يراه منجياً، كان أيضاً ملوماً مذموماً.

ولا فرق في ذلك بين المنصوبين من قبل العقلاء، والمنصوب من قبل حجة الله، لما سبق قبل صفحة(3) تقريباً، ولفرض عدمعصمته(4)، إذ الكلام في مراجع التقليد(5)، ولكون الدال على النصب - كقوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(6) - دالاً على تنزيله منزلة الحاكم العرفي في نفوذ حكمه لا أكثر، فيكون مثله، وليس الحاكم العرفي لو أخطأ أو احتمل خطأه في القضايا الخطيرة بحيث يحكم العقل بلزوم اتباعه ويبني العقلاء على لزوم طاعته وعدم الفحص عن خطئه وعدم الردع عنه بل الأمر بالعكس تماماً.

وكون رأيه حجة لنفسه ولمن تبعه لا يمنع وجوب الفحص والإشارة ووجوب ردع مانعها... إلخ، كما بيّناه.

ولا يخفى عدم الفرق في جميع ما ذكرناه بين ما لو التزمنا بولاية الفقيه الواحد، وهو الأعلم أو من بيده السلطة مثلاً، أو بولاية كل الفقهاء ونفوذ حكم

ص: 538


1- وقد ورد في الحديث الشريف إرشاداً: (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
2- من الواضح استثناء غفلتهم قصوراً عن ذلك الاحتمال، كما في كل تكليف غفل عنه قصوراً.
3- عند قولنا: (إذ غيره أيضاً ...).
4- أي المنصوب وهو الفقيه.
5- وحيث إن ولايته مقيدة بالعدالة جرى هنا ما ذكرناه سابقاً فليراجع.
6- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.

الأكثرية، فيجب على سائر المجتهدين والخبراء الفحص وتجب الإشارة ويحرم منعها ويجب طلبها... إلخ، لجريان بعض الأدلة السابقة، فتدبر.

الاستدلال بمجموع الأحكام السابقة على لزوم العمل بالأكثرية

وقد يقال: إن مجموع ما ذكر من وجوب الإشارة ووجوب الاستشارة وحرمة منعها ووجوب سعي المشير لتطبيق محتواها(1) يدل بالدلالة الالتزامية عرفاً على وجوب الالتزام برأي الأكثرية.

وبتعبير آخر: إن وجوب الإشارة ووجوب طلبها مقدمة طبيعية للعمل برأي الأكثرية، فيكون إرادتها (الإشارة وسائر ما ذكر) إرادة له بالالتزام العرفي. إذ هي تؤدي إلى ذلك عادة، فيكون طلبها طلبها، فالمرجع القائد - مثلاً - لو استشار في شؤونه العامة سائر المراجعوأشاروا عليه أدّى بلورة الآراء وتبادل وجهات النظر إلى وجود أكثرية اقتناعاً أحياناً، كما يؤدي ضغطهم العملي وإعمال الفقيه قاعدة (الأهم والمهم) إلى ذلك أحياناً أخرى، حيث يرى عدم العمل بآرائهم مشتملاً على ضرر أكبر من ضرر العمل بما يرى أنه الأصلح لو خلى وطبعه.

وبعبارة أخرى: ضرر العمل بما أدى إليه نظره لكونه مخالفاً لآراء أكثرية الفقهاء أكبر من ضرر العمل بما أدت إليه آراؤهم وإن كان يرى حسب تشخيصه الخاص الضرر في مؤدّى نظرهم بما هو هو.

وبعبارة ثالثة: العمل برأيه راجح في حدّ ذاته، مرجوح بالنظر إلى مخالفتهم له بحد الحرمة، فمثلاً: هو يرى الحرب وهم يرون الصلح، فهل يا ترى لو استشار ابتداءً واستدامةً يلتزم بما رآه مع رؤيته مخالفة الأكثرية لها مع ما يرى من

ص: 539


1- ينبغي إفراد هذا بالبحث، فإنه أقرب لإثبات المدعى وإن احتاج إلى توسيط أمر أو أكثر، فتدبر.

ضعف شوكته وقلّة قدرته بمخالفتهم لها ودعوتهم للصلح مما يستلزم هزيمته في الحرب لو أقدم عليها(1)، فإنه لو تجرد عن سيطرة القوة الغضبية والعصبية - كما مر من كون العصبية آفة للعلماء(2) وغير ذلك - لمال عنها وعدل.

ويمكن التمثيل لذلك بما مرّ أوائل الكتاب من عدوله (صلى الله عليه وآله) عن رأيه إلى رأي الأكثرية في تلك المعركة، مع ما استلزمه اتباع آرائهم من الضرر، وقد مر تفصيله ولسنا بحاجة إلى إثبات صحة السند، لكون ما عمله (صلى الله عليه وآله) على فرضه مطابقاًللقاعدة العقلية.(3)

كما يؤدّي إلى ذلك أحياناً أخرى محاولته كسب الأكثرية إلى جانبه، حيث وجب عليه طلب إشارتهم وحرم عليه منعهم منها، ووجب عليهم الإشارة عليه، وحيث رأى ما في انعقاد الأكثرية ضدّه من الضرر.

هذا، ولكن لا يخفى ما فيما ذكرناه من أوجه التأمل، منها: كون النسبة بين ما ادعيناه من وجوب اتباع الأكثرية وبين الدليل عموماً من وجه، وعدم

ص: 540


1- أو يستلزم زلزلة شخصيته الاعتبارية وضعف هيمنته على الناس المستلزم لتشكيكهم في بعض مبانيه الأخرى الأساسية لديه، أو ضعف تأثيره على الناس فيما كان بصدد التأثير عليهم وتوجيههم في ميادين شتى، أو يستلزم انفضاض الفقهاء عنه وترجيحهم لغيره عليه، كما حدث ذلك أو عكسه في زمن المرحومين الخراساني والطباطبائي (قدس سرهما) وفي زمن المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس سره) حيث انفضوا عن غيره إليه مع كونه أحد تسعين مرجعاً طبعوا رسائلهم العملية بعد وفاة الطباطبائي (قدس سره) وكما حدث في زماننا مما يرى بالعيان ولا حاجة للبيان.
2- بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18 عن مصباح الشريعة.
3- لا يخفى كثرة أمثلة اتباع العقلاء - بمن فيه سادتهم - لرأي الآخرين وترك ما أدى إليه رأيهم بل وقطعوا به لكون ضرر مخالفتهم أكثر ولو مع قطع النظر عن مسألة الأكثرية، مثلاً حادثة التحكيم في قصة صفين مع كونها بضرر الإسلام وحيلة من معاوية حيث اضطر الإمام (عليه السلام) إلى قبول ذلك نظراً لضغط الخوارج وترتب أضرار أكبر لو خالفهم (عليه الصلاة والسلام).

التلازم بينهما لا عقلاً ولا عرفاً.

وقد يقال: إن أمر الفقيه حيث دار بين الاحتمالات الثلاثة المتقدمة، وحيث كان المحتمل من الأمور الهامة، وجب عقد مجلس شورى من الفقهاء واتباع أكثريتهم، لكون تلك الثلاثة في أكثرية الفقهاء أضعف بكثير من الواحد(1).

ويؤيده(2): أن نفس وجود الفقهاء في (مجلس شورى) له الاعتبار الرسمي والعرفي - مما يخولهم سلطة اعتبارية في الحكومة أقوى مما لو لم يكونوا فيه - ادعى لردع أحدهم عن اتخاذ موقف خاطئ قصوراً(3) وتقصيراً(4)، إذ من المسلّم أن من يرى نداً في قبالهيحاول سدّ نواقصه وجبرها وتحسين عمله كماً وكيفاً حسب قانون التنافس(5): (فَاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ)(6) ، و: (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(7)، و: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(8).

ومما يوضح ذلك: أن الفقيه في المسائل الشرعية - لو انفرد بالنظر والتأمل - يختلف حاله عما لو طرح المسألة في مجمع علمي يشترك فيه فحول العلماء،

ص: 541


1- قد تكلمنا حول هذا الدليل في موضع آخر من الكتاب بشكل مفصل، لكن دون التطرق للاحتمالات المطروحة هنا، فليراجع.
2- ما ذكر ههنا يعد أحد المقربات لما ذكرناه في محله مفصلاً، من أن طريقية الشورى للواقع أقوى بنسبة معتنى بها عقلاً وعرفاً من طريقية رأي الواحد له، فليضم هذا لذاك، فتأمل.
3- التوقي عن الخطأ القصوري ينم - إلى حد ما - عن شدّة التثبت والاحتياط وكثرة التحقيق والفحص مما لو تركه لم يعد خطأ تقصيرياً، فتأمل.
4- خاصة مع ملاحظة قاعدة (التدافع)، قال تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً).
5- وبداهة ذلك تتضح بملاحظة كل متنافسين في أي حقل من الحقول.
6- سورة البقرة: 148. وسورة المائدة: 48.
7- سورة المطففين: 26.
8- سورة آل عمران: 133.

وتطرقوا لها بالمناقشة والإشكال والجواب والأخذ والرد، من جهتين:

من جهة: بذله مزيداً من الدقة والفكر والوقت والجهد في تحقيق المسألة وتنقيحها، وذلك أمر طبيعي وبديهي.

ومن جهة: استفادته من الآخرين في جرح وتعديل ما يراه، ولربما انصرف عن معتقده إلى معتقد الآخر، أو قال بالتفصيل، أو تردد(1).

ومعرفة هذه الجهة كافية للحكم في الشؤون العامة بما في الإشارة والاستشارة من الفائدة الكبيرة في بذل كل منهم جهده لتقديم الأطروحة الأكثر تكاملاً والأنفع للعباد والبلاد، وفي بذل قصارى جهده لتنجنب الخطأ والنقص في النظرية أو التطبيق(2)، وبكونها لازمة وإن لم تكفِ للحكم بوجوب اتباع أكثرية الفقهاء إلاّ من الطريق الذي تطرقنا له تفصيلاً في أماكن أخرى من الكتاب.

ص: 542


1- والمثال الذي يمكن ذكره لنظير (المجمع العلمي) هو: ما تداول في الحوزات من عقد مجلس بحث علمي يسمى ب(الكمباني) عادة، حيث يتشكل من عدة علماء متقاربي المستوى، أو يتشكل من أستاذ الخارج ومن أبرز تلاميذه وأكثرهم ذكاءً وتفوقاً.
2- قد تكلمنا حول هذا الدليل في موضع آخر من الكتاب بشكل مفصل، فليراجع.

الفصل الثاني: في بيان وجوب الاستشارة والاتباع

اشارة

حتى لو لم ير سائر الفقهاء ذلك ومسائل أخرى

ص: 543

ص: 544

وجوب الاستشارة والاتباع مطلقاً وعدمه

هل تجب استشارة الفقيه الذي لا يرى وجوبها أو يرى حرمة الحكومة؟

إذا لم ير بعض الفقهاء أو أكثرهم جواز تولي أمر الحكومة، أو رأوا ذلك ولم يروا كونها شورى، بل رأوا صحة تولي الفقيه الواحد، فهل على الفقيه الحاكم أو الفقهاء الحاكمين إذا كانوا ممن يرون وجوب الشورى استشارتهم واتباع رأي الأكثرية حينئذٍ أم لا؟

وجهان:

الأول: الوجوب تكليفاً، لإطلاقات الأدلة، وعدم اعتقاده بوجوب استشارة الفقيه الحاكم منه لا يغير حكم من يعتقد بالوجوب، وذلك كمن رأى أنَّ لزيد عليه حقاً مثلاً ولم يرَ زيد ذلك فإن عليه إيصاله إليه، أو رأى اجتهاداً عمل زيد منكراً أو بدعةً أو ضاراً بالإسلام والمسلمين ولم يره زيد كذلك اجتهاداً، فإن عليه النهي(1)، إذ على كل أن يعمل بوظيفته.

وعدم نفوذ حكمه وضعاً، إن لم يستشر أو استشار ولم يشيروا لكون انضمام آراء الأكثرية إليه شرط نفوذ الرأي، وذلك كما لو وكل أحدهم خمسة أشخاص على سبيل الاجتماع بأن يكون الرأي لأكثريتهم أو لكلهم أو لأحدهم مشروطاً بانضمام الآخرين بعضاً أو كلاً.

وقد يمثل لذلك بالولي إذا لم يعتقد هو بولاية نفسه موضوعاً، بأن لم يكن

ص: 545


1- فيما علم من الشرع إرادة عدم وقوعه.

يعتقد بكونه جداً لهذا الطفل، أو حكماً(1)، فلا ينفذ حكم غيره دون إذنه، وكذا لو كان أولياء متعددون لم ير أحدهم كونه ولياً موضوعاً أو اجتهاداً، فتأمل.

ويؤيده عدم اختصاص أكثر الحِكَم المذكورة في روايات الاستشارة بغير الصور المذكورة في السؤال، وعدم تحقق بعضها فيها غير ضار بعد كونها حكمة.

الثاني: عدم الوجوب تكليفاً، لانصراف الأدلة عن مثل هذه الصورة، وقد يلتزم في مسألة تغاير الاجتهادين في المعروف والمنكر بعدم الوجوب، للانصراف أيضاً، وهل يلتزم أحد بوجوب ردع من يرى اجتهاداً محرمية الرضعات العشر، لمن تزوج من ارتضعت معه عشر رضعات، لكونه يرى اجتهاداً أو تقليداً عدم نشرها للحرمة؟ وهل له أن يردعه لساناً فإن لم ينفع فباليد؟

اللهم إلا أن يقال: بأن ذلك إن تم في أدلة المنكر فلا يتم في أدلة البدعة والإضرار بالإسلام والمسلمين، ومطلق ما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج، حيث يمكن أن يدعى أن بناء العقلاء أيضاً على ذلك، فمن رأى اجتهاداً أو تقليداً أن في ما يعمله الآخر - كإجراء معاهدة دولية مثلاً - الضرر البالغ على الدولة والأُمة، كان عليه عقلاً وعقلائياً الردع القولي والعملي إن استطاع، وإن كان رأي الآخر أن في العدم الضرر البالغ، وقد سبق أن المستفاد من الروايات وغيرها أن في ترك الشورى والاستشارة ضرراً خطيراً(2).

ونفوذ الحكم وضعاً، فيما لو تعذرت الاستشارة، أو استشار ولم يشيروا، دون ما لو لم يستشر تشهياً، وذلك لكون توقف النفوذ على الحكم بالشورى من

ص: 546


1- كما لو لم يكن يرى الولاية للجد على البكر.
2- لا يخفى أن ما ذكر من الاستشهاد (بالرضعات، والضرر البالغ بإجراء المعاهدات) أجنبي عن المدعى تماماً، بل هو دليل على صورة أخرى غير المقام (وهي ما لو لم يرَ الفقيه الحاكم الاستشارة والشورى فهل على سائر الفقهاء الردع...).

باب تعدد المطلوب، فإن تعذَّرَ حكمُ الفقيه بالشورى، لا بتقصير منه، وجب حكمه ونفذ دونها، وذلك كما لو تعذر الفقيه حيث يجب على آحاد المؤمنين القيام بشؤون الحسبة، وما يلزم من تركه الهرج والمرج واختلال النظام، كما فصلناه في موضع آخر.

وقد يستند في ذلك إلى قاعدة الميسور، إذ يجب استشارة سائرالفقهاء، فإن تعذر وجب استشارة الباقين، وكذا يتوقف النفوذ على موافقة الأكثرية، فإن تعذر توقف على ما بقي، كما لو جعل المولى الولاية لمجموعة ثم مات بعضهم أو تعذر الوصول إليه فينفذ رأي الباقين.

وفيه: إن الأمر تابع لنحو جعله الولاية، لكن المنصرف منها إثباتاً الارتباطية والعدم عند العدم، فتدبر.

أما قاعدة الميسور، فإن الاستدلال بها مبني على البحث مبنىً في عمومية رواياتها للأفراد والأجزاء، أو كونها للأفراد فقط بقرينة المورد في بعضها، وعلى اختصاصها بغير ما علمت ارتباطيته، أو عمومها لما لم تعلم ارتباطيته، أو حتى لما علمت أيضاً(1)، كما أن الظاهر دلالة روايات القاعدة على عدم سقوط الميسور عما كان للمعسور من الحكم وجوباً أو ندباً، وهذا ظاهر ما يثبت الحكم بلسان إثبات الموضوع، أو ينفي انتفاءه بلسان عدم انتفاء موضوعه.

أما إذا لم يستشر تشهياً، فالظاهر عدم نفوذ حكمه مع تقييد ولايته بها(2)، وكون الغبطة والمصلحة فيها، والمفسدة في عدمها على ما فصلنا الكلام فيه، فهو

ص: 547


1- نعم لا يلزم من دعوى التعميم خصوص إشكال لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ هو فيما لو أريد كل من المعنيين بالدلالة المطابقية على أن يكون كل منهما تمام المدلول، دون ما لو أريد كل منهما بالدلالة التضمنية بأن يكون كل منهما بعضه، هذا إضافة إلى عدم المانع منه لو كان جامع اعتباري أو انتزاعي، و(شيء) و(الميسور) و(ما) تصلح جامعاً كما لا يخفى.
2- بل مجعوليتها للجميع بوزان واحد، لا له بشرط أو بدونه.

أولى مما لو تصرف الولي في أموال المولى عليه دون غبطة أو مع المفسدة، والأصل عدم ولايته بدونها، والقدر المتيقن بل المنصرف من أدلة الولاية ونفوذ التصرف ما كان معها، لو لم نقل بقيام الدليل على ذلك، إضافة إلى شمول (لا ضرر) للمقام، فتأمل.

وبعبارة أخرى: الظاهر من الأحاديث التي ذكرناها، كالمقبولة وكالتوقيع المبارك، كون الولاية لمجموعهم، كما لو أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة إلى مصر حكاماً حيث يكون الظاهر عدمنفوذ حكم أحدهم دون انضمام الآخرين، وقوله: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (1)، و(فارجعوا فيها) (2) كقول الملاك (من جمع من الشرائط كذا وكذا من أولادي فله الولاية على عبيدي وبيوتي)، حيث تكون لكل من جمع الشرائط الولاية ولا ينفذ تصرف أحدهم دون الانضمام، كما هو المستفاد عرفاً من هذا الكلام، وقد فصلنا الكلام في موضع آخر، وقاعدة الميسور لا تجري مع تعمد ترك المقدور، بل في صورة التعذر أو التعسر فقط.

وربما يحتمل عدم وجوب استشارة كل الفقهاء بل يكفي استشارة البعض، لاندفاع الضرر المحتمل احتمالاً عقلائياً بذلك، وصدق: (من شاور الرجال شاركها في عقولها)(3) وغير ذلك من الروايات، بذلك.

وفيه: ظهور الضمير في (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4) وفي (وَشَاوِرْهُمْ)(5) في الرجوع إلى كل المؤمنين، فإن تعذر - كما هو كذلك أحياناً -

ص: 548


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587.
4- سورة الشورى: 38.
5- سورة آل عمران: 159.

وجب استشارة كافة من ترجع إليهم الأمة أمورها فتكون استشارتهم استشارة الأمة لكونهم وكلاءها(1).

والحاصل: إن الظاهر كون الضمير في (بينهم) راجعاً إلى ما رجع إليه الضمير في (أمرهم) في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2)، فأمر المؤمنين شورى بين أولئك المؤمنين لا بين بعضهم،ولا يتحقق ذلك باستشارة بعض من يمثل الأمة، نعم للأمة أن تنتخب مجموعة تفوض إليها رأيها، وتكون هي المستشارة للفقيه الحاكم، فتكون أكثريتها المحكمة، ويشترط فيها ما يشترط في حاكم الشرع من الشرائط، فتصدق الآيتان الشريفتان.

ص: 549


1- قد يكون الأولى التعبير ب- (ظهور الضمير في الرجوع إلى كل المؤمنين) والرجوع إليهم، كما يصدق بالرجوع إليهم مباشرة يصدق بالرجوع إلى أهل الحل والعقد ممن فوضت الأمة إليهم أمرها، فلا يرد كون ذاك تكليفاً بما هو نادر الوقوع، فتأمل.
2- سورة الشورى: 38.

مسائل عديدة أخرى:

وهل لمن رشحته الأمة عدم القبول؟

الظاهر ذلك في صورة وجود من به الكفاية، إلا إذا قيل بكون الجامعية للشرائط مع انتخاب الأمة علة تامة لثبوت المنصب، وأن كونه حاكماً حكم غير قابل للإسقاط وليس بحق(1)، حتى وإن وجد غيره.

والاحتمال الآخر: كون انضمام رضاه إلى ذينك جزء العلة لثبوت المنصب، لكونه الأصل في الكفائي، والعدم في صورة الانحصار، وهو الأقرب.

وإذا قبل فهل له بعد ذلك الاستقالة؟

مبني على كونها حقاً فهي قابلة للإسقاط، أو حكماً فلا تقبل، كولاية الأب والجد على الابن غير القابلة للإسقاط، لكن التحقيق الفرق بين الترك وبين الإسقاط، فإن الحقوق منها ما لا يقبل الإسقاط لكنه يقبل الترك(2)، والاستقالة ترك وليست إسقاطاً، فتأمل.

وإن اعتبرنا ذلك عقداً جديداً بين الأُمة والحاكم كان تابعاً لما يشترط في ضمن العقد ولو ارتكازاً.

ص: 550


1- راجع تفصيل الفرق بين الحق والحكم في (فقه الحقوق موضوعاً وحكماً) للمؤلف.
2- فصل المؤلف الفرق بين الإسقاط والترك في (مسألة في الحق والحكم) وهي موجودة في موقع (مؤسسة التقى الثقافية) ضمن مباحث البيع.

ثم إنه لو لم يتصد الفقهاء للحكومة ولم يعينوا أحداً لها، سقط اعتبار إذنهم، لما مرّ في موضع آخر من حكم العقل بالحاجة للحكومة، وتوقف نظام النوع عليها، فلو تعذر الفاضل وجبالمفضول، ووجهه ما سبق من كون حكومة الفقيه من باب تعدد المطلوب، وللأولوية مما ذكروه في كتاب النكاح من سقوط اعتبار إذن الولي إن غاب أو سجن، وكان على الأمة انتخاب أحد عدول المؤمنين بأكثرية الآراء، لكون الناس مسلطين على أموالهم وأنفسهم، فلهم انتخاب من شاؤوا، وقد خرجت صورة وجود الفقيه وتيّسر تسلمه للحكم - إذ لا سلطة لهم، بناءً على ولاية الفقيه المنجزة(1)، لانتخاب غيره - فبقي الباقي على مقتضى الأصل، هذا لكن ذلك لا يفيد المنصب لمن انتخبوه، بل يكون كما بحثناه في موضع آخر، مبيناً على أنه وكالة أو جعالة أو إذن أو عقد مستأنف أو غير ذلك.

ثم إنه لو كان المستند توقف نظام النوع، أفاد حكومته بهذا المقدار لا أكثر، فليس له التصرف كما يتصرف الحكام العرفيون من حيث سعة الدائرة، فتدبر.

ولو لم يشترك أكثرية الناس في الانتخابات، فإن أدى ذلك إلى تعطل الحكومة - أية حكومة(2) - وزوالها كان محرماً، لكونه سبباً لاختلال النظام والهرج والمرج، ووجب على الفقيه وغيره نهيهم عن المنكر لساناً، ثم فرض الانتخاب إن أمكن ولم يترتب محذور أهم، وإن لم يؤد إلى تلك المحاذير بأن شكلت الأقلية حكومة فلا حرمة لعدم اشتراك الأكثرية في الانتخابات، ونفذت أحكامها(3) ووجبت إطاعتها - ما دامت الأكثرية غير متصدية لتشكيل حكومة أخرى - ولكن

ص: 551


1- في مقابل الولاية التعليقية للفقيه كما سبق إيضاحه.
2- إذ لا بد للناس من أمير بر أو فاجر.
3- أي الأقلية.

نفوذ الأحكام ووجوب الطاعة إنما هو في حدود ما يدفع اختلال النظام والهرج والمرج، فتأمل.

وهذه المسألة كنظائرها مما مر وسيجيء، بحاجة إلى تحقيق أكثر وتأمل وتدبر أكبر، نوكله إلى الجزء الثاني، والله المستعان.

ص: 552

الفصل الثالث: الولاية لكل مجتهد أو للمؤهل

اشارة

لا للمجتهد الحاكم أو المقلَّد فحسب

ص: 553

ص: 554

الولاية لكل الفقهاء

الولاية - على فرضها - لكل مجتهد جامع للشرائط لا للحاكم أو المقلّد فقط

مسألة: المستظهر من الأدلة على ولاية الفقيه - بناءً على تماميتها - كون الولاية لكل مجتهد جامع للشرائط، لا للمجتهد الحاكم ولا للمجتهد المقلَّد فقط، بمعنى أن المقتضي في كل مجتهد تام، ولا تتوقف فعليته إلاّ على رضا الناس به، فتكون ولايته نظير (قاضي التحكيم) الذي يتوقف على رجوع المتنازعين له على القول بنفوذ قضائه.

وبعبارة أخرى: الولاية لكل مجتهد جامع للشرائط، ومن جملتها رضى الناس به حاكماً في الشؤون العامة، أو في هذا الشأن العام خاصة، وانتخابهم له، كما فصلناه في موضعه وفصله السيد الوالد في (الشورى في الإسلام) وغيره، ولنشر إلى احداها إشارة:

قوله (عليه السلام): (فَارْضَوْا بِهِ حَكَماً.. فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً)(1)، إذ لا تلازم بين الحكمين التكليفي والوضعي، فيجب عليهم الرضا به، لكنهم لو لم يرضوا فلا فعلية لولايته، وذلك نظير الوصية العهدية (مقابل الوصية التمليكية)، فلو أوصى بأن تعطى هذه الدار لزيد أو توقف مسجداً، وكانت ثلث ماله أو أقل، وجب على الورثة ذلك، لكنهم لو لم يفعلوا فإنها لا تنتقل إلى ملكيته، وتفصيل الأخذ والرد موكول لمحل آخر.

ص: 555


1- الكافي: ج7 ص412 باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح5.

ولو لم نعتبر هذا الشرط (الرضا) كانت الولاية بالفعل لجميع المجتهدين، فإن تعذر أو تعسر كانت لأكثريتهم، فلابد لهم من مجلس يتداولون فيه الأمور العامة بما يصدق عليه: (أمرهم شورى بينهم)(1) و: (شاورهم في الأمر) (2).

وعليه: فالولاية ليست لخصوص من صدق عليه أنه مرجع تقليد، على الظاهر.

وجه الاستظهار: إطلاق أدلة ولاية الفقيه وعدم وجود المقيد بكونه مقلَّداً، نعم التقليد قد يكون دليلاً على رضاهم به قائداً في الشؤون العامة، لكنه لا إطلاق له، فلا بد من محرز ولو بكون ارتكاز الناس في بعض الاعصار أو البلاد أو ارتكاز بعضهم على ذلك.

أما إطلاقها فظاهر، إذ الأدلة التي استدل بها على ولاية الفقيه هي:

مقبولة عمر بن حنظلة وفيها: (انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً).(3)

وكذا حديث: (اللهم ارحم خلفائي)(4)، وحديث: (العلماء ورثة الأنبياء)(5)، وحديث: (الفقهاء حصون الإسلام)(6)، وحديث: (الفقهاء أمناء الرسل)(7)، والتوقيع المبارك(8)، وحديث: (العلماء حكام على

ص: 556


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.
3- الكافي: ج7 ص412 ح5.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص420 ح5919.
5- الكافي: ج1 ص32 ح2.
6- الكافي: ج1 ص38 ح3.
7- الكافي: ج1 ص46 ح5.
8- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.

الناس)(1)، وحديث: (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماءبالله)(2)، وغيرها.

وكل هذه الأحاديث - على تقدير تمامية دلالتها - تدل على ثبوت الولاية والحكومة على سبيل البدل أو الاجتماع أو غير ذلك، لكل من روى الحديث، ونظر في الحلال والحرام، ولكل عالم وفيقه، وأن المنصوب من قبلهم مطلق المجتهد، ولا دليل على تخصيص هذه الولاية بمن قلده الناس، كما لا دليل على تخصيصها بالمجتهد المتصدي أو الحاكم وإن كان جامعاً للشرائط، خاصة مع كون المقبولة بياناً في موضع الحاجة الفعلية، ولو كان الرجوع إلى المقلَّد شرطاً لكان الإطلاق إغراءً بالجهل.

إلاّ أن يقال: إن محل الحاجة كان شأن القضاء فقط لا الحكم، لعدم القدرة مع تسلط طغاة بني أمية والعباس.

وفيه: إنه لا إطلاق له، إضافة إلى أن القضايا الحقيقية - والمقام منها - لا تشترط في إطلاقها الحاجة الفعلية الزمنية.

إضافة إلى وضوح كون غير المقلَّد أيضاً حصناً للإسلام، ووارثاً للأنبياء، وأميناً للرسل، وغير ذلك.

مضافاً إلى عدم تحقق التقليد - بالشكل الفعلي - زمن صدور هذه الروايات، بل كان كل شخص يرجع لأي راوٍ للحديث ممن نظر في الحلال والحرام إذا اطمئن به، حتى يقال بانصراف الروايات إلى (مراجع التقليد) بالمعنى الأخص المتداول في ما بعد تلك الأعصار.

إضافة إلى ما قلناه في موضع آخر من أجنبية التقليد عن الحكم، كأجنبيته عن القضاء، والفقيه - على تقدير تمامية الأدلة - له مناصب ثلاثة: الإفتاء

ص: 557


1- جامع أحاديث الشيعة: ج25 ص18 ح27.
2- تحف العقول: ص238.

والقضاء والولاية، فلمن له الإفتاء الولاية(1)، لا أنها لمن استفتاه الناس فقط، كما أن لمن له القضاء الإفتاء، لا لمن استقضاه الناس، كما أن لمن له الولاية الإفتاء والقضاء، لا لمن استولاه الناس فقط.

وليست حكومة أحد المجتهدين دليلاً على ارتضاء الناس له كما هو واضح، كما أنه ليس تقليد الناس لأحد مستلزماً لارتضائهم إياهوالياً، كما هو واضح خارجاً، كما أن تقليدهم لشخص غير مستلزم لرجوعهم إليه في القضاء، نعم - وكما سبق - فإنه قد يكون ارتكاز بعض الناس أو أكثرهم في بعض البلاد أو أكثرها، في بعض الأمصار أو أكثرها على ذلك، فمن كان ارتكازه على ذلك كان تقليده لمرجعٍ نوع انتخاب له، ليكون المرجع في الشؤون العامة أيضاً.

ولعدم التلازم بين أهليته للإفتاء وأهليته لإدارة الحكومة أو لإدارة هذا الشأن العام أو ذاك خاصة، فقد يكون محققاً مدققاً في الأحكام الشرعية غير عالم بشؤون الحكم والسياسة، كما قد يكون حاكماً ومتصدياً لكن من غير أن يكون أهل خبرة حقاً فيما تصدى له.

وبناءً على ذلك يمكن أن يكون مراجع التقليد خمسة مثلاً، ويكون اختيار الناس لخمسة آخرين ممن جمع الشرائط لإدارة شؤونهم، ولعله فرض نادر أو بعيد لكنه ممكن، كما يمكن أن يكون المجتهدون الحكام خمسة يمسكون بمقاليد الحكم لكن يكون رأي الناس مع غيرهم.

ص: 558


1- الولاية الشأنية أو الفعلية، على ما فصلناه في محله.
انتخاب الفقهاء حسب التخصصات

ومما سبق من أن المعتبر في الحاكم جامعيته للشرائط إضافة إلى رضى الأمة، يظهر أنه يجوز للأمة - جوازاً بالمعنى الأعم - انتخاب مجموعة من الفقهاء لتشكيل شورى الحكومة على أن يكون رأي أحدهم نافذاً في الاقتصاديات لكونه أخبر بها، والآخر في السياسيات، والثالث في شؤون الحرب والسلم، وهكذا، ويجب على كل منهم الاستشارة من جميع الفقهاء أو أكثرهم أو مجموعة من الفقهاء تنتخبهم الأمة أو ينتخبهم هو إن فوضت الأمة إليه ذلك، واتباع آراء أكثريتهم؛ وذلك جمعاً بين أدلة ثلاثة وهي:

1: دليل اشتراط رضى الله وأن المنصوب من قبله هو المجتهد الجامع للشرائط بناءً على ولاية الفقيه(1).

2: ودليل اعتبار رضى الأمة، إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم)، ولقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أن يختاروا لأنفسهم...) (2) ،(3).

3: ودليل الشورى، لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4) وغيره.

وأما إن لم يكن المستشارون مجتهدين، فلا يلزم اتباع أكثريتهم، وإلاّ لزم تحكيم من ليس منصوباً من قبله جل وعلا، إلاّ لو لم نقل بولاية الفقيه مطلقاً فيشترط رضا الناس والشورى، وأن لا يكون المستشار أو المنتخَب ممن علم عدم رضا الله تعالى به، ككونه ظالماً جائراً، أو كونه ملحداً كافراً، أو شبه ذلك.

ص: 559


1- أو كل مؤمن عدل أو كل مؤمن أو كل مكلف أهل، بناءً على عدم ولاية الفقيه.
2- مستدرك الوسائل: ج6 ص14 ب5 ح6309.
3- على بحثٍ في هذين الدليلين فصلناهما في مبحث آخر.
4- سورة الشورى: 38.
الولاية لأهل الخبرة من المؤمنين

بل لعامة المكلفين المؤهلين، لا للمجتهد خاصة

وهناك احتمالان، بل أقوال(1) أخرى:

منها: كون الولاية(2) لأهل الخبرة من المؤمنين وإن لم يكونوا مجتهدين، إن انتخبتهم الأمة، بناءً على اشتراط رضاها واعتباره، أو دون انتخاب إن لم نعتبر رضاها.

ومنها: أن الولاية للمؤمنين وإن لم يكونوا مجتهدين ولا من أهل الخبرة، وهنا مسلكان:

الأول: إن الولاية لهم إذا انتخبهم الناس(3)، فهي ولاية مشروطة.

الثاني: الولاية لهم لا بهذا القيد، أي الولاية للمؤمنين إذا تصدوا لإحقاق الحق وإقامة العدل وكانوا مؤهلين لذلك حقاً، شرط إحراز صلاحيتهم لذلك.

ومنها: أنه لا ولاية لأحد على أحد، بل مجرد صحة وجواز أو وجوب القيام بإدارة شؤون الحكم ومصالح العباد والبلاد وإقامة العدل وإحقاق الحق وإبطال الباطل لأي شخص مؤهل أو جهة مؤهلة لذلك شرط رضا الناس به (وبها) أو ذلك للمؤمن المؤهل لذلك، أو للمؤمن العادل المؤهل لذلك مع رضا الناس.

ص: 560


1- قال ببعضها بعض الأعلام أو الكثير منهم.
2- الظاهر أن الأدلة اللاحقة بناء على تماميتها دليل على صحة القيام بأمر الحكومة للمؤمن فقط لا على ثبوت الولاية بمعنى أن له تسيير الأمور بالعدل فقط لا الولاية، فيكون نظير ما يسمى اليوم بحكومة تصريف أعمال مع فوارق، فتدبر.
3- فعليهم الاستعانة بأهل الخبرة حينئذٍ.
الأدلة على أن لكل مؤمن بل لكل مؤهل

التصدي بشروط للحكومة، لا الفقيه فقط

وهذا الاحتمال الأخير يستند إلى الأدلة التالية(1):

أولاً: بعض الآيات والروايات الشريفة التي يستفاد منها صحة الحكم بالعدل والقسط من كل مؤمن، كقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(2)، وهذه الآية وإن لم يكن المراد بها (الحكومة) وما هو من شأن الوالي، لكونها ظاهرة في المنازعات لمكان (بَيْنَ النَّاسِ)، أعم من كونها فردية واجتماعية وعقائدية نظراً لمورد الآية(3)، إلاّ أنها تشمل بعض شؤون الحاكم لكون فض الفتن الاجتماعية من شأنه، مع صدق (حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) عليها، لكنها أخص من المدعى.

والظاهر كون الحكم بين الناس للكل، إذ الخطاب عام، ولمسبوقيته ب- (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الظاهر في عدم التخصص بفئة معينة، فلا وجه لما ذكره الفخر الرازي: (قوله: ( وَإِذا حَكَمْتُمْ...) كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم)(4)، نعم القضية الشرطية كما لا تتكفل وجود مقدمها لا تتكفل شروطه، فلا يجدي التمسك بكون الخطاب للكل إلاّ مع ضميمة الإطلاق بعد ثبوت أصل الجواز، فتدبر.

وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا

ص: 561


1- وربما عدت بعضها دليلاً على أحد الاحتمالين الأولين فلاحظ.
2- سورة النساء: 58.
3- الميزان: ج5 ص378.
4- التفسير الكبير: ج10 ص142، ذيل الآية الشريفة.

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا)(1)، واللام في (لله) للغاية، فالمأمور هو المؤمنون كافة، والمأمور به هو القوامية بكلأمر خير وبكل معروف لأجل الله، لا خصوص القوامية في الشهادة، لكون حذف المتعلق مفيداً للعموم، والجملة اللاحقة من باب ذكر الخاص بعد العام، والوالي العادل قائم بالخير والمعروف لله، فلا يشترط فيه الاجتهاد، ولا يستفاد من الآية ولايته، بل مجرد أداء وظيفة وواجب وهو القيام لله بإحقاق الحق وإقامة العدل.

وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لله وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ)(2)، وهذه الآية أوضح دلالة من سابقاتها، فوجب على جميع المؤمنين القيام في الناس بالقسط المتوقف على جواز ذلك لهم، فلهم جميعاً (القيام بالقسط) بل عليهم ذلك، فإن شأن الحكومة العادلة القيام بالقسط وقد أمر الجميع بذلك، وحيث لا يمكن الاجتماع وجبت الاستنابة والانتخاب، اللهم إلا أن يدعى أنه واجب كفائي فإذا قام به من به الكفاية سقط عن الآخرين.

وعلى أي، فلا يضر ذلك بالمقصود هنا، إذ المقصود أن للكل صلاحية القيام بالقسط في الناس، بل على الكل ذلك، فالولاية - إن تم الاستدلال - للكل لا للبعض، وإن لم يتم الاستدلال فالحكومة - لا الولاية - للكل، أي جائزة للكل، أي لكل مؤهل، نعم مع قيام البعض بالقسط تسقط ولاية الآخرين عليه، أي على ما قد قاموا به، أو صلاحية التصدي له إذا كان مما قد مضى من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وتبقى على سائر الأمور الآتية وعلى ما تصدوا له في علته المبقية إن لم يؤد إلى الهرج والمرج واختلال النظام، ولا يحقّ لأولئك منع

ص: 562


1- سورة المائدة: 8.
2- سورة النساء: 135.

هؤلاء من التصدي.

وهذا كله لو لم نقل أن الحكومة هي وكالة أو شبهها، وإلاّ فالأمر على حسب شرائط الموكلين - وهم الأُمة - وذلك قد فصلناه في فصل آخر، فراجع.

ثم إن الوالي الحاكم العادل قائم بالقسط، بعكس الحاكم الجائر، فالحاكم إذا أثقل كاهل الأُمة بالضرائب بالباطل ومنع الناس من التجارة ومن السفر والإقامة ومن تملُّك سائر المسلمين الدار والعقار في مختلف بلاد الإسلام بذريعة أنه - أي المسلم غير المتجنس -أجنبي، ومن الزواج بامرأة مسلمة من بلدة أخرى، وسلَب الناس حرية إبداء الرأي، وصادر أموال الناس ومنعهم من حيازة المباحات و... و... كان قائماً بالجور، وإلاّ كان قائماً بالقسط والعدل.

وأما احتمال كون القوامية بالقسط مشترطة بالإذن، بحيث لولاه لما كان قياماً بالقسط، فبعيد جداً، نعم لو كان الإذن شرطاً كان قيامه بالحكم غصباً محرماً، لا أن تلك الأعمال لم تكن قياماً بالقسط، وبالجملة خصوصيات الفاعل أمر - وهو القائم بالقسط - وماهية المتعلق أمر آخر، ولا مدخل لأحدهما في الآخر إلاّ في النادر مما دل عليه الدليل.

كما قد يستدل على عموم الولاية أو عموم جواز التصدي بمفهوم قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1)، (... الظَّالِمُونَ)(2)، (... الْفاسِقُونَ)(3).

وقول علي (عليه السلام): (الحكم حكمان، حكم الله وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(4).

ص: 563


1- سورة المائدة: 44.
2- سورة المائدة: 45.
3- سورة المائدة: 47.
4- الكافي: ج7 ص407 باب أصناف القضاة ح2.

وقول الإمام الباقر (عليه السلام): (الحكم حكمان، حكم الله وحكم الجاهلية، وقد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(1)، وأشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية).(2)

قال في الجواهر: (إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالة على أن المدار الحكم بالحق الذي هو عند محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، وأنه لا ريب في اندراج من سمع منهم (عليهم السلام) أحكاماً خاصة وحكم فيها بين الناس وإن لم يكن لهمرتبة الاجتهاد والتصرف)(3).

وقال أيضاً: (إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة والصريحة في الإذن بالحكم بالحق والعدل وهو الذي عندهم، وشيعتهم أجمع نواب عنهم في ذلك، لأن المدار على الحكم بين الناس بحكمهم).(4)

وقال أيضاً: (فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد عن منصب القضاء بما علمه خالية عن الدليل، بل ظاهر الأدلة خلافها، بل يمكن دعوى القطع بخلافها، ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناءً على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم جواز نصب الغير)(5).

وقوله: (لا يقتضي...) ظاهر في أنه يرى المقام من المطلق والمقيد المثبتين، وأنه لا يقيد أحدهما الآخر.

ص: 564


1- سورة المائدة: 50.
2- وسائل الشيعة: الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث8.
3- الجواهر: ج40 ص16 كتاب القضاء، ولا يخفى أن كلامه هذا في القضاء، وقد ذكرناه هنا لجريانه بعينه ههنا كما لا يخفى.
4- الجواهر: ج40 ص30.
5- الجواهر: ج40 ص18.

وقال أيضاً: (اللهم إلاّ أن يقال بأن النصوص دالة على الإذن منهم (عليهم السلام) لشيعتهم المتمسكين بحبلهم الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك، فإنهم العلماء وشيعتهم المتعلمون، وباقي الناس غثاء).(1)

وثانياً: ادعاء أن الحكام والولاة الذين نصبهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) لم يكونوا كلهم من المجتهدين.

وثالثاً: بل قد يقال بشمول بعض أدلة ولاية الفقيه (أو أدلة جواز تصدي الفقيه، لا ولايته) لبعض المؤمنين غير المجتهدين، لصدق العالم والفقيه وراوي الحديث على المقلد المطّلع.

ورابعاً(2): إن جميع الآيات المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص والأمر بالمعروف والنهيعن المنكر قد وجهت الخطاب إلى عامة المؤمنين، دون فئة خاصة منهم كالمجتهدين، قال تعالى: (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ المُؤْمِنينَ)(3)، ولا ريب أن في حكومة الحق حفظ حدود الله، بل هي أهم ما تحفظ به الحدود، وقد جعل الحفظ صفة للمؤمنين، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقال سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(4).

ص: 565


1- الجواهر: ج40 ص17.
2- والرابع أعم من الأول مضموناً ومتعلقاً، إذ الأول كان عن أمر الحكومة خاصة، نعم بعض الآيات هنا خاصة ببعض الأحكام فقط.
3- سورة التوبة: 112.
4- سورة آل عمران: 104.

وقال: (وَأَقيمُوا الصَّلاةَ)(1)، و: (وَأَنْفِقُوا في سَبيلِ الله)(2)، و: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(3)، و: (وَجاهِدُوا في سَبيلِهِ)(4)، و: (وَ جاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهادِهِ)(5)، و: (الزَّانِيَةُ وَ الزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(6)، و: (وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(7)، و: (وَأَقيمُوا الشَّهادَةَ لله)(8)، و: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(9)، و: (أَنْ أَقيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فيهِ)(10)، و: (وَ لَكُمْ فِيالْقِصاصِ حَياةٌ)(11)، إلى غير ذلك.

قال العلامة الطباطبائي: (ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس، ولا يرضى لعباده الكفر ولم يرد إقامته إلاّ منهم بأجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير مزية في ذلك لبعضهم، ولا اختصاص منهم ببعضهم)(12).

وقد استثنى زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) حيث الحكومة

ص: 566


1- سورة النساء: 77.
2- سورة البقرة: 195.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة المائدة: 35.
5- سورة الحج: 78.
6- سورة النور: 2.
7- سورة المائدة: 38.
8- سورة الطلاق:2.
9- سورة آل عمران: 103.
10- سورة الشورى: 113.
11- سورة البقرة: 179.
12- الميزان: ج4 ص122-123.

لهما، ثم قال: (ولكن على أي حال، أمر الحكومة إلى المسلمين من غير إشكال، والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي سنة الإمامة دون الملوكية والامبراطورية، والسير فيهم بحافظة الأحكام من غير تغيير، والتولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم، والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) مضافة إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..) سورة الأحزاب 21).(1).

وغير خفي أن الكلام عن زمن غيبة الإمام (عليه السلام).

وقد استدل الشهيد (قدس سره) في القواعد على جواز تولي الآحاد مع تعذر الحكام، آحاد التصرفات الحكمية كدفع ضرورة اليتيم، بعموم قوله تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى )(2).

وقوله (عليه السلام): (والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)(3).

وقوله: (كل معروف صدقة)(4)، (5).وغير خفي أن مقتضى أدلته(6) جواز تولي الآحاد - كل الآحاد على سبيل البدل ككل واجب كفائي، أو الآحاد التي انتخبتها الأمة إن تمّ الدليل على اعتبار رضاها، أو غير ذلك حسب ما يستفاد من جمع الأدلة، مع تعذر الحكام، أو مع

ص: 567


1- الميزان: ج4 ص124-125.
2- سورة المائدة: 2.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص107 ف7 ح1.
4- الكافي: ج4 ص26 باب فضل المعروف ح1.
5- المكاسب: ص155 بحث ولاية عدول المؤمنين.
6- بل وغيرها أيضاً مما سبق.

وجود الفقيه الجامع للشرائط وعدم تمامية أدلة ولاية الفقيه - كافة شؤون الحكومة لشمول عموم: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى )(1) لذلك، لوضوح أن مثل إجراء معاهدة دولية تكون لنفع المسلمين هو تعاون على البر والتقوى، إلى غير ذلك من الأمثلة.

مناقشة الأدلة والردود

اشارة

وربما يورد على الوجه الأول:

إن الآيات وإن كانت ظاهرة في كون القيام بالقسط والحكم بالعدل واجباً كفائياً لكل مؤمن، إلا أن روايات ولاية الفقيه - إذا قلنا بتماميتها - دالة على كون الحكومة للفقيه الجامع للشرائط، فهي مخصصة لها ومقيدة لإطلاقاتها.

نعم من لم تتم عنده أدلة ولاية الفقيه يسلم الإطلاق عنده عن المخصص، وكذا لو تمت عنده ولكن ذهب إلى ما ذهب إليه بعض الأصوليين من عدم مقيدية أحد المثبتين للآخر، ك- (أكرم العلماء) و(أكرم العلماء العدول) حيث يكتفي بإكرام مطلق العالم، ويكون إكرامه امتثالاً ل- (أكرم العلماء) ويحمل ذو الوصف على الاستحباب، وكذا ما نحن فيه، إذ تدل بعض الأدلة على وجوب التصدي للحكم بالعدل لكل مؤمن، وبعضها على وجوبه - أو كونه منصباً - للمجتهد الجامع للشرائط، وذلك عكس ما لو قلنا بمقيدية أحد المثبتين للآخر عرفاً، وكون ظهور المقيد في الإلزام بالقيد والوجوب التعييني أقوىمن ظهور المطلق في الإطلاق والوجوب التخييري المقتضي هذا الأخير لحمل المقيد على الاستحباب لو كان هو الأقوى.

ص: 568


1- سورة المائدة: 2.
وحدة المطلوب أو تعدده؟

وقد يقال: إن الظاهر وحدة الحكم وكون الأمر بالمقيد من باب وحدة المطلوب، بل قد يدعى إطلاق ذلك فيكون إكرام العالم حينئذٍ غير مسقط حتى ل- (أكرم العالم) لأن الفرض حمله على (أكرم العالم العادل)، وأنه المراد به، فلا يكون امتثالاً ل (أكرم العالم)، فكيف ب- (أكرم العالم العادل)؟ وعليه فعند تعذر إكرام العالم العادل يسقط الوجوب عن العالم الفاسق، ألا ترى المولى لو قال لعبده: اشتر اللحم، ثم قال: اشتر لحم الغنم، فاشترى غيره كان له عقابه، وكذا لو قال: استأجر طباخاً أو مهندساً، ثم قال: استأجر طباخاً رجلاً أو مهندساً دارساً في الجامعة الكذائية أو غير ذلك، فاستأجر امرأة طباخة، أو مهندساً دارساً في جامعة أخرى، ذمه العقلاء واستحق العقاب، ويؤكد وجوب الحمل والتقييد ملاحظة تدريجية الأحكام وورود المطلقات أولاً ثم بيان القيود بالتدريج(1).

لكن يرد عليه: أن الظاهر في المقام هو العكس، وهو تعدد المطلوب، لوضوح أنه لا يسقط الأمر بإقامة العدل والقسط بعدم قيام الفقيه به، نعم مع ثبوت أدلة ولايته ومع القول بتعدد المطلوب والقول بأن المطلوب الثاني واجب في ضمن واجب(2)، لا يجوز للغير القيام به مع إرادته التصدي، أما لو قلنا بتعدد المطلوب وقلنا بأن المطلوب الثاني مستحب في واجب(3) فيجوز للغير التصدي.

والتحقيق: أنه إما أن يعلم بوحدة الحكم ووحدة المطلوب، وإما أن يعلم

ص: 569


1- بل الأمر كذلك.
2- المطلوب الأول إقامة العدل، والمطلوب الثاني كونه عبر الفقيه.
3- كاستحباب إقامة صلاة الفريضة في المسجد.

بتعددهما، وإما أن يشك:

فإن علم بالوحدة، فلا ريب في مقيدية أحد المثبتين للآخر، فينبغي حمل المطلق على المقيد والالتزام بعدم حصول امتثال المطلق بإتيان فاقد القيد، لأن المراد الجدي منه لم يكن إلاّ المقيد، لكن انفصل عنه، سبقاً أو لحوقاً، لوجهٍ أو حكمةٍ.

وإن علم بالتعدد، فلا مجال للقول بحمل أحدهما على الآخر، ويجزي إتيان فاقد القيد في امتثال المطلق لا المقيد، اللهم إلاّ لو علمت الارتباطية بين المطلوبين فلا يجزي حتى عن نفسه، (فقد تعدد المطلوب واتحد الحكم، فتأمل)(1)، أو لو علم أنه بنحو الواجب في الواجب، كما سبق (فقد تعدد المطلوب والحكم).

وإن شك في وحدة الحكم والمطلوب وتعددهما، كان مقتضى تدرجية نزول الأحكام حمل أحدهما على الآخر والتقييد به، ثم هو مقتضى قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير.

التفصيل بين العنوان والمحصل وغيره

إلا أن يقال: بتفصيل آخر، وهو أن الشك إن كان في العنوان والمحصل فلا مجال للحمل على الاستحباب وغيره، بل لا بد من الإتيان بواجد القيد، وإن لم يكن فإن سبق صدور المطلق كان ورود المقيد فيما بعد سبباً للشك في تعلق تكليف جديد(2)..

ص: 570


1- إذ مآل الارتباطية إلى وحدة المطلوب، فتأمل.
2- بالاستحباب لكن احتمال تعلق تكليف جديد يشمل احتمال وجوب جديد أيضاً من باب تعدد المطلوب، فالاحتمالات ثلاثة لا اثنين كما هو ظاهر المتن.

أو حدوث تضييق جديد(1)، (بناءً على تعدد المطلوب أو على وحدته وحمل المطلق على المقيد)(2)، والأصل عدمهما، لكنهما متعارضان كتعارض المسبب عنهما، فإن أصالة عدم التعدد معارضة بأصالة عدم التوحد، كما أن أصالة عدم حمل هذا على ذاكمعارضة بأصالة عدم إرادة خلاف الظاهر من ذاك، فالمرجع قاعدة الدوران إذن.

وإن تأخر المطلق فقد يقال باستظهار عدم حمل المطلق على المقيد، فيكون للندب، إلاّ أن يقال بكون السابق قرينة على تقيد اللاحق بالقيد السابق.

والصحيح: التفصيل بين مقام الفتوى فلا يحمل المطلق على المقيد، ومقام التعليم فيحمل سابقاً كان المطلق أم لاحقاً، وحيث إن الأصل فيهم (عليهم السلام) هو الثاني كان المقام الأول هو المحتاج للدليل فتأمل(3).

مضافاً إلى ظهور بعض روايات ولاية الفقيه في الانحصار، لظهور (نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) (4) في المجتهد، ومن المستبعد جداً كون هذا القيد غير لازم التحقق بالنظر إلى سياق الكلام، إلا أن يناقش في ظهوره في المجتهد، فتأمل.

ص: 571


1- للوجوب.
2- اللف والنشر مرتب.
3- راجع تفصيل المؤلف حول مقام الفتيا ومقام التعليم في (فقه المعاريض والتورية) و(مباحث الاجتهاد).
4- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
بحث حول دلالة الآيات والروايات على الولاية العامة

وربما يدعى انصراف الآيات عن الحكومة والولاية العامة، لكنه إن صح في مثل (إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ)(1) لمكان (بين)، فإنه لا يصح في مثل (كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ) (2)، أو يقال بمخصَّصية آيات القوامية بالقسط، ك: (كونوا قوامين بالقسط) بروايات (العلماء حكام على الناس) (3) وشبهها، لكونها أخص منها مطلقاً، إن لم نقل بحكومتها عليها، لتطرقها إلى ما لم تتطرق له من الحيثيات أو لغير ذلك.

هذا إن قلنا بتمامية سند ودلالة (العلماء حكام على الناس)، بأن استظهرنا كون العلماء أعم من الأئمة (عليهم السلام)، وأن المراد من الحكام الأعم من الحاكمية في الأحكام الشرعية، وأنه ليس منصرفه الحكومة المعنوية أو الفكرية أو الأخلاقية، وأن المراد منه (بشرط لا) بمعنى أن المراد (العلماء حكام على الناس) ولا يحق لغيرهم الحكومة عليهم، وأن القضية إنشائية وليست خبرية، فإن تمّ ذلك كله تمّ الاستدلال بها من باب الحكومة، لكن بعضها قد يناقش فيه، فتأمل جداً.

بل قد يقال: بأجنبية بعض الآيات والروايات عن المدعى أصلاً، ففي آية (وَإِذا حَكَمْتُمْ...)(4) لأن المقدم في القضية الشرطية لا يتكفل بيان من له الحكم

ص: 572


1- سورة النساء: 58.
2- سورة النساء: 135.
3- مستدرك الوسائل: ج17 ص321 ب11 ح21471.
4- سورة النساء: 58.

ولا تحقق الشروط من عدمه، فهو مثل (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)(1)، وكذا في رواية (الحكم حكمان...) (2)، لأنتصدي غير المجتهد - أو غير الجامع للشرائط - هو بنفسه حكم الجاهلية، لأن نفس التصدي للحكم لمن لم يثبت مشروعية ذلك له، صغرى هذه الكبرى، إضافة إلى كون المراد من المفهوم: فمن لم يخطئ ممن له التصدي للحكم فقد حكم بحكم الله، وذلك للقرينة العقلية، ولا يعلم كون المؤمن مطلقاً ممن له التصدي، ولكن لا يخفى التأمل فيما ذكر(3)، فتأمل.

وعلى أية حال، فإذا تمت أدلة ولاية الفقيه فالمدار أولاً يكون هو الحكم بالحق من شخص خاص هو الفقيه أو مجموعة الفقهاء أو كلهم - وإن لم ينفِ ذلك اشتراط شروط خاصة فيهم كرضا الناس على ما ذكرناه في موضع آخر -، ثم بفقده تصل النوبة إلى ولاية عدول المؤمنين، بل مطلقهم لو كانت الآيات السابقة هي المستند(4).

وبذلك يظهر الجواب عن الوجه الرابع أيضاً.

ص: 573


1- سورة البقرة: 237.
2- الكافي: ج7 ص407 باب أصناف القضاة ح2.
3- لظهور أن الكلام في الرواية عن المتعلَّق والحكم لا عن الحاكم.
4- إذ الخطاب فيها موجه للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) الأعم من العدول.
الاجتهاد خفيف المؤونة زمن المعصومين (عليهم السلام)

ويرد على الوجه الثاني: كون الاجتهاد خفيف المؤونة في تلك الأزمنة، فلا يبعد كونهم - أي من ولاهم النبي (صلى الله عليه وآله) - مجتهدين ولو متجزئين، والاحتمال غير كافٍ في إثبات المدعى.

إضافة إلى أن الكلام في جواز تولي غير المجتهد الحكم دون إذن خاص من النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) بأن يكون استناداً للأدلة العامة الدالة على الولاية، فلو فرض عدم كونهم مجتهدين لكن حيث كانت ولايتهم بإذن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) فلا يمكن الاستدلال بها على المقام، أي لا يصح الاستدلال بتولي غير المجتهد مع إذن خاص على صحة التولي دونه، اللهم إلاّ أن يثبت ببعض الأدلة السابقة ونظائرها الإذن العام دون مقيد، أو يصار إلى عدم الفصل، فتأمل.

هل يصدق راوي الحديث أو الفقيه على المقلد؟

ويرد على الوجه الثالث: بعد أنه لا ريب في صدق راوي الحديث على المقلد الراوي للحديث، لكون الرواية أمراً حسياً، أنه إن سلم صدق العالم على المقلد المطلع(1) - كما لا يبعد - فإنه لا يصدق عليه (الفقيه)، فإن الفقه ليس بالرواية بل بالدراية، فتأمل.

إضافة إلى أنه يرد عليه ما ورد - ويرد - على الوجه الأول والرابع، من مقيدية المقبولة لا باعتبار كلمة (رواة حديثنا)، إذ الفرض تسليم الأعمية، بل

ص: 574


1- أي المطلع على الروايات والفتاوى، فتأمل.

باعتبار الإرجاع في (الحوادث الواقعة) إليهم مع معلومية توقف ذلك على الاجتهاد، إذ لا يمكن معرفة حكم الحادثة الواقعة إلا بعد معرفة مختلف الكليات التي يمكن أن تنطبق عليها، ومعرفة تزاحمها أو تعارضها ومرجحاتها إلى غير ذلك، بل هذا جارٍ في مثل العالم في صورة إرجاع الحادثة الواقعة إليه.

إلاّ أن يجاب: بأن لزوم أخذ الحكم والانطباق من الفقيه لا يلازم مرجعيته في الموضوع نفسه، بل قد تكون الولاية في الموضوع الخاص كالوقف، أو العام كالحكومة لشخص أو أشخاص، لكن يجب عليهم الرجوع في معرفة الحكم كلما جهل إلى الفقيه، وأين هذا من ولاية الفقيه؟ وتفصيله عند التطرق لهذه المقبولة فراجع.

وكذا رواية: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (1) وغيرها، إن تمت دلالتها(2)، فتأمل جداً(3).

أصالة عدم مشروعية الرجوع لغير الفقيه

ثم إنه لو لم تتم دلالة (المقبولة) أو غيرها على تقييد الولاية وجواز تولي الحكم بالمجتهد، فإن احتمال كون مطلوبيته مختصة بالفقيه أو الإمام (عليه السلام) غير مصحح للرجوع إلى أصالة عدم المشروعية - أي أصالة عدم مشروعية الرجوع لغير الفقيه وإن كان راوياً للحديث أو كان من المؤمنين العدول، كما ادعاه الشيخ (قدس سره)(4) - إذ لا مجال للأصل مع وجود الإطلاقات والعمومات

ص: 575


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- وسيأتي تفصيله عند التطرق لهذه الرواية الشريفة في المجلد الثاني بإذنه تعالى.
3- إذ قد يقال مثلاً بأن (جعلته عليكم حاكماً) إنما هو في شأن القضاء لا غير، أو غير ذلك.
4- المكاسب: ص155.

الكثيرة التي ذكرت في الوجه الأول والرابع، وهي المخرجة عن الأصل الأولي الحاكم بعدم صحة أي تصرف في مال الغير ونفسه وحقه.

لا يقال: إنه مع احتمال كون مطلوبيته مشروطة بالإذن يحتمل أن لا يكون (قياماً بالقسط والعدل) ولا (معروفاً) ولا (حفظاً لحدود الله) فلا يمكن التمسك بتلك المطلقات والعمومات، لكونه فرع إحراز الموضوع.

لأنه يقال: إنه لا ريب في صدق تلك العناوين على من حكمفعدل عرفاً، غاية الأمر في فرض عدم الإذن عدم مشروعية قيامه بالأمر وحفظه للحدود وحكمه بما أنزل الله، إذ كان هذا الحق لغيره، وهذه المطلقات والعمومات تدل على المشروعية ولا مقيد لها.

وبالجملة، الإذن وعدمه دخيلان في الحكم لا الموضوع، فإن كانت معصية ففاعلية لا فعلية، ولا ريب في صحة أن يقال: (القيام بالقسط وحفظ حدود الله والحكم بما أنزل الله واجب على الفئة الفلانية ومحرم على الفئة الكذائية مع وجود الفئة الأولى وعدم إذنها أو مطلقاً) والعمومات متكفلة بعدم اختصاص الإذن بفئة خاصة.

مناقشة مع المحقق الإيرواني

ومما ذكرناه ظهر وجه الإشكال على ما ذكره المحقق الإيرواني (قدس سره) في فرع آخر، قال: (فإن لم يحتمل اختصاص التكليف به بأشخاص معينة أو طائفة خاصة كالعدول مثلاً تولاه كل أحد بلا ما يرجح بعضاً على بعض، وإن احتمل ذاك تولاه خصوص أولئك الأشخاص وتلك الطائفة المحتملة، لأنها المتيقن من مشروعية ذلك الفعل... نعم إن لم يقطع ببقاء التكليف كان الأصل البراءة ولم

ص: 576

يجر دليل (كل معروف صدقة) حينئذٍ لعدم إحراز موضوع المعروف، وكون الفعل من كل أحد معروفاً أول الكلام).(1)

بحث عن صدق (المعروف) على الحكم بالعدل مطلقاً

إذ يرد عليه: إنه لا ريب في صدق (المعروف) عرفاً على (الحكم بالعدل في الناس) وإنقاذ الإسلام والمسلمين من الهلكة، بإجراء معاهدة دولية مثلاً، وإطلاق حريات التجارة والصناعة وغيرها للناس، ولذا لا يقول أحد بأن أدلة الأمر بالمعروف تقتصر دلالتها على أمر الحكام الظلمة بتسليم الحكم إلى أهله، وأنه لا يستفادمنها وجوب أمر الحكام بحفظ الثغور قبال هجمات الكفار، وأمرهم بمنع اللصوص والقتلة والتصدي لهم وبحفظ النظام، وأمرهم بإغاثة المسلمين المعتدى عليهم في دولة كافرة مجاورة، وغير ذلك، بدعوى عدم كون ذلك معروفاً عند عدم الإذن لغير جامع الشرائط بالتصدي للحكم، أو عدم العلم بكون ذلك معروفاً عند احتمال اشتراط تولي أشخاص معينين(2).

وكذا لا يمكن أن يقال باستفادة وجوب ردع الحاكم الفاسق عن إجرائه معاهدة دولية مع دولة كافرة تكون تلك المعاهدة مقدمة لسيطرتهم، أو عن تعاونه مع عصابات المهربين للمخدرات وغيرها، وعن تمهيده السبيل للفئات الضالة المنحرفة إسلامية أم غيرها كالوهابية والشيوعية، لتغلغلها داخل البلاد... إلخ، من أدلة وجوب النهي عن المنكر، من حيث أن منشأ كونه منكراً كونه ممن ليس له تصدي الحكم لا كون ما قام به(3) ضاراً بالإسلام والمسلمين.

ص: 577


1- حاشية المكاسب للإيرواني: ص158.
2- لكن إنتاج هذا في الجملة لا بالجملة، فتدبر.
3- أو ما تعلقت به إرادته.

وإذا كان كذلك كان مقابله وهو النافع للإسلام والمسلمين معروفاً، لكونهما ضدين لا ثالث لهما مطلقاً في الأفعال أو في غير المباح منها.

وعليه: فلا مجال للقول بكفاية عدم تحقق أحد القيدين: (كونه ممن له الأمر شرعاً، مع كون الفعل مطلوباً) في كونه منكراً، واشتراط تحققهما في كونه معروفاً، إلاّ بلحاظ تعدد الجهة، فيكون واجد أحدهما معروفاً من جهته منكراً من الجهة الأخرى، فتأمل.

ولو فرض تسليم عدم صدق (المعروف)، كفى صدق (حفظ حدود الله) و(القيام بالقسط) و(كونه حكماً بما أنزل الله) فإذا صدق الموضوع شملت الإطلاقات الجميع، فلا معنى للقدر المتيقن.

اللهم إلا أن يقال: إن ما سبق مبني على أن يراد من (المعروف) و(العدل) و(الحدود) العرفي منه في لسان هذه الأدلة، أما لو قيل بالحقيقة الشرعية فيها - وهو بعيد - أو قيل بإرادة المعروف والعدل الواقعي كما هو مقتضى كون الأسماء أسماءلمسمياتها الثبوتية، فلا يعلم مع احتمال المنع كونه معروفاً وعدلاً واقعاً، إذ كما يحتمل المنع لكونه معروفاً وعدلاً مزاحماً بالأقوى يحتمل عدم كونه معروفاً وعدلاً وتخطئة الشارع للعرف في توهمه ذلك، فلا إحراز للموضوع، فتأمل.

مناقشة مع المحقق الأصفهاني (قدس سره)

وأما قول الكمباني (قدس سره): (والتحقيق أن المعروف والإحسان ونحوهما عنوان للواجبات والمستحبات)، فإن أراد به جعله لهما شرعاً ففيه: إن الظاهر عدم ذلك، فلا حقيقة شرعية، وإن أراد مساواة المعروف للواجبات والمستحبات فغير بعيد، فتأمل.

ولتحقيق هذا البحث مجال آخر، ويمكن الاستفادة أيضاً من التحقيق حول

ص: 578

(الطيبات والخبائث)، فليراجع الجواهر كتاب الأطعمة والأشربة ج36 ص238، وكذا (المستند) و(الفقه) وغيرهما.

مناقشة مع الشيخ (قدس سره)

هذا، إضافة إلى بداهة صحة التصرف في مال الغير ونفسه وحقه بإذنه، فلمن انتخبته الأُمة ذلك، وبهذا ظهر عدم ورود كلام الشيخ (قدس سره) على ما ذكرناه حيث قال: (فمجرد كون التصرف معروفاً لا ينهض في تقييد ما دل على عدم ولاية أحد على أحد أو نفسه، ولهذا لا يلزم عقد الفضولي على المعقود له بمجرد كونه معروفاً ومصلحةً، ولا يفهم من أدلة المعروف ولاية للفضولي على المعقود عليه، لأن المعروف هو التصرف في المال أو النفس على الوجه المأذون فيه من المالك أو العقل أو الشرع من غير جهة نفس أدلة المعروف) (1)، إذ قد اعتبرنا رضى الأمة في تولي آحاد المؤمنين للحكم، نعم خصوص هذا الدليل غير دال على الولاية بل الوكالة وشبهها، أما ما سبقه فدال على الولاية كما لا يخفى وكذا ما لحقه، فتأمل.

إضافة إلى وضوح ضرورة وجود الحكومة والاحتياج المبرمإليها، كما ذكره أول المكاسب، فليست مطلوبية الحكومة إذن مختصة بوجود الإمام أو الفقيه وقدرتهما على التصدي بحيث لو تعذرا كانت الحكومة غير مطلوبة، ولذا ورد: (لابد للناس من أمير بر أو فاجر)(2)، و: (حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم)(3)، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة جداً، ومع حكم العقل بذلك لتوقف نظام

ص: 579


1- المكاسب: ص155.
2- نهج البلاغة: الخطبة 40.
3- راجع غرر الحكم: ص464 ف9 في الفتنة ح10672 وفيه: (والٍ ظلومٌ غشوم خير من فتنة تدوم). وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص322: (سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم).

النوع عليها، لا مجال لهذا الاحتمال أصلاً، ولا يبعد عدم إرادة الشيخ (قدس سره) من قوله: (نعم لو احتمل كون مطلوبيته مختصة بالفقيه أو الإمام...) ما يشمل الحكومة، نعم ذلك خاص بما يتوقف عليه حفظ النظام ودفع الهرج والمرج والضرر، فلا يدل على جواز الأكثر مما تتصدى له الحكومات عادة.

فالقيام بأمر الحكومة وإن كان مطلوباً أولاً وبالذات من الفقيه إذا تمت أدلة ولاية الفقيه، إلاّ أنه مطلوب عند تعذره من غيره قطعاً في تلك الحدود(1)، فنظارته شرط مع إمكانه، لا شرط مطلق كما ذكره الشيخ (قدس سره).

ولذا قال الشهيد (قدس سره) في القواعد: (وهل يجوز أخذ الزكوات والأخماس من الممتنع وتفريقها في أربابها، وكذا بقية وظائف الحكام غير ما يتعلق بالدعاوي، فيه وجهان: وجه الجواز ما ذكرناه، ولأنه لو منع من ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال وهي مطلوبة لله تعالى، وقال بعض متأخري العامة: (إن القيام بهذه المصالح أهم من ترك تلك الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ويصرفونها إلى غير مستحقها)، فإن تُوقّع إمام يصرف ذلك في وجهه حفظ المتمكن تلك الأموال إلى حين تمكنه من صرفها إليه، وإن يئس من ذلك كما في هذا الزمان تعين صرفه على الفور في مصارفه لما في إبقائه من التغرير وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه مع مسيس حاجتهم إليه، ولو ظفر بأموال مغصوبة حفظها لأربابهاحتى يصل إليهم، ومع اليأس يتصدق بها عنهم وعند العامة تصرف في المصارف العامة).(2)

والحق ان هذا البحث بحاجة إلى مزيد من التحقيق والتدبر والتأمل، وليس ما ذكر وافياً بالمطلب، ولعلنا نوفق لذلك في وقت آخر، والله الهادي.

ص: 580


1- أي حدود ما يدفع الهرج والمرج.. إلخ.
2- المكاسب: ص155.

الفصل الرابع: في حكم تخالف رأي أكثرية شورى الفقهاء مع أكثرية الأمة

اشارة

ص: 581

ص: 582

تخالف آراء الفقهاء مع الأمة على المباني في الحكومة

اشارة

إذا تخالف رأي الفقيه الحاكم أو أكثرية شورى الفقهاء مع رأي أكثرية الأمة فأيهما المقدم؟

ذلك منوط بالمبنى في منشأ ولاية الحاكم أو سلطته:

الحكومة وكالة أو جُعالة أو إِذن

فإن قلنا: بكون حكومة الحاكم نوعاً من (الوكالة)، حيث توكله الأُمة في إدارة شؤونها، كان الرأي للأمة، إذ لا رأي للوكيل مع معارضته للأصيل، وأما مع مخالفة بعض الأمة للحاكم فالرأي له وإن كان وكيلاً عن المجموع، كي لا يلزم اختلال النظام.

ولكن ذكرنا في موضع آخر ما يبعد كون الحكومة وكالة وقد يكون منه: نفوذ حكمه على الأقلية المعارضة في مسألة معينة وإن انتخبته كحاكم، رغم كونه وكيلاً عنها كغيرها، مع أن الوكيل لا ينفذ حكمه على الموكل أو على الموكلين أو على بعضهم دون قبولهم، وكذا نفوذ حكمه على الأقلية التي لم تنتخبه رغم عدم توكليها إياه وانتخابها له.

وكذا قد يكون منه (أن أكثرية الوكلاء يشرعون لا كل الوكلاء)(1)، اللهم إلا أن يقال: بكون توكيل الأمة لهم على هذا النحو، بأن يكون نفوذ حكم

ص: 583


1- الفقه: كتاب القضاء ص8.

الوكلاء مشروطاً بانعقاد أكثريتهم عليه لا كلهم، كما هو كذلك خارجاً(1) وارتكازاً، فتأمل.

وأما تصحيح تقدم رأي الوكيل عند التعارض بالاشتراط،فخلاف مقتضى الوكالة، إلا إذا كان شرطاً في ضمن عقد آخر.

ونظير الوكالة: (الإذن)، إذ قد يقال: إن الأمة أذنت لشخص بأداء مسؤوليات معينة؛ إذ يضعفه ما يضعفها.

وأما إن قلنا: بأنها (جعالة) فلا يرد إلا أوسط الإشكالات الثلاثة السابقة، ولكن يرد عليه: أن الجعالة عقد لازم لا يحق لأحد الطرفين فسخه، مع أن الرئاسة مما يحق فيها للأمة إقالة الحاكم، كما له حق أن يستقيل إلا أن يلتزم بالعدم، نعم ذهب بعض الفقهاء إلى أن الجعالة على قسمين: إيقاع فلا إلزام فيه، وعقد فهو ملزم، وعلى أية حال فالحكومة عرفاً ليست جعالة.

الحكومة عقد مستقل

وإن قلنا: بكونها عقداً مستقلاً بين الأمة والحاكم - وهو عقد معتبر عند العقلاء فتشمله أدلة لزوم الوفاء بالعقد - كان على طبق ما تعوقد عليه، فإن تم ولو ارتكازاً على أن يكون الأمر للأمة عند التعارض مطلقاً، أو في الجملة في بعض الأمور ووفق ضوابط(2)، كان لها، وإلا كان له.

كما أن مدة ولايته تابعة لما تعوقد عليه، كما لأحد الطرفين الفسخ بالشرط.

ولا يلزم من التعاقد على أن يقدم رأي أكثرية الأمة أو أكثرية أهل الحل

ص: 584


1- أي في ديموقراطيات عالم اليوم.
2- كما في ديموقراطيات عالم اليوم.

والعقد الذين ارتضتهم الأمة، الهرج والمرج واختلال النظام، كما نرى ذلك(1) في كل الحكومات الديموقراطية التي يحق لأكثرية الأمة فيها نقض ورفض ما قرره الحاكم، إضافة إلى أن ذلك لا يحدث إلاّ نادراً، وعلى أي فإنه يمكن دفعه بضوابط خاصة.

بحث حول أن الحكومة منصب منجز أو معلّق

وإن قلنا: بكونها منصباً من قبل المعصوم (عليه السلام) واستظهرنا كونه منجزاً غير مشروط بشيء، كان رأي أكثرية شورى الفقهاء هو المقدم، وكلا الأمرين قد استظهرهما جمع من قوله (عليه السلام): (فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً)(2)، و: (مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الأُمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِ)(3).

وكما هو ظاهر كلمة (قيّم) في قول الرضا (عليه السلام) في خبر الفضل بن شاذان: (فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ قَيِّماً يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْفَسَادِ وَيُقِيمُ فِيهِمُ الْحُدُودَ وَالْأَحْكَام)(4)، وقوله (عليه السلام) فيه: (وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إِمَاماً قَيِّماً أَمِيناً...)(5)، إن قلنا بشمولها للفقهاء وعدم اختصاصها بالأئمة (عليهم السلام).

وقول علي (عليه السلام): (ومكان القيم بالأمر مكان النظام(6) من الخرز، يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره

ص: 585


1- عدم اللزوم.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
3- تحف العقول: ص237.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص101 ب 34 ح1.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص101 ب 34 ح1.
6- قد يقال بإشعار أو دلالة (مكان النظام...) على نفوذ كلمته ولو عند التعارض فتأمل.

أبداً).(1)

وقد يقال: بأن (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (2) خاصة بالقضاء، كما يظهر من صدر الرواية، وأن معنى (قيّم) لغة القائم بالأمر، فلا دلالة فيه على جعل المنصب، قال في لسان العرب (وقيّم الأمر: مقيمه، والقيّم: السيد وسائس الأمر، وقيم القوم: الذي يقومهم ويسوسأمرهم)(3).

وقد يجاب باستفادة المنصبية منه عرفاً، كما في قولك: قيم الصغار وشبهه، بل ولغةً، لقوله: (الذي يقومهم ويسوس أمرهم) الظاهر منه ذو المنصب الذي ينفذ كلامه على غيره، إذ هذا شأن المقوم والسائس، وإلا لما كان مقوِّماً بل مقوَّماً، ولما كان سائساً بل مسوساً، وكذا ظاهر كلمة السيد، وبأن تقديم أكثرية الفقهاء لا يتوقف على المنصب، بل يكفي دلالتها على نفوذ حكمه والنفوذ أعم من المنصبية.

ولكن (القيّم) قد حددت مسؤوليته ب- (يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام) (4)، وليس الكلام عن ذلك، بل الكلام عن تشخيص الموضوع في الشأن العام، وأن أكثرية الفقهاء لو رأت في المعاهدة الدولية أو إشعال نار الحرب الفساد للبلاد، ورأى أكثرية الناس وأهل الخبرة فيها الصلاح للبلاد وفي عكسها الفساد فأيهما المقدم؟

لا دلالة للرواية على ذلك، بل التمسك بها تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ثم إن كونه قيّماً لا ينفي اشتراط شروط ك(شَاوِرْهُمْ)(5) وكون

ص: 586


1- نهج البلاغة: الخطبة 146.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
3- لسان العرب: ج12 ص502 مادة قوم.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص101 ب 34 ح1.
5- سورة آل عمران: 159.

الأمر شورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1)، في إعماله قيمومته بل في تنجزها وفعليتها، فتأمل.

وقد يستدل أيضاً بقوله (عليه السلام): (وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم)(2)، إذ مقتضى الوفاء بالبيعة الإطاعة وتنفيذ الأوامر، إضافة إلى الالتزام بالأصل وعدم العزل، وقد أجبنا عنه في مبحث آخر.

كما أن قوله: (والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم) له إطلاق، فيشمل: حالة التكاسل والتثاقل وحالة اجتهادهم بخلاف رأي الحاكم(3)، ورؤيتهم أمره ودعوته غير صحيحة، إلاّ أن يقال بالانصراف للأول، ويدل عليه قوله: (والنصيحة في المشهد والمغيب) حيث يشمل حالتي وضوح الأمر وتخالف الاجتهاد، فتأمل.

أو يقال: بأن هذا بيان لحقه (عليه السلام) بما هو منصوب من قبل الله وإمام معصوم، لا بما هو حاكم، وحينئذٍ فالإطلاق مسلّم لا ريب فيه.

كما قد يستدل أو يؤيد بما عن دعائم الإسلام، عنه (عليه السلام): (ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله وطاعتهم واجبة ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم) (4)، وقد يجاب: بأنه مغاير لمحل البحث تماماً، فتدبر.

هذا، كما قد يعضد بأن اشتراط رضى الناس - على القول به - مختص

ص: 587


1- سورة الشورى: 38.
2- نهج البلاغة الخطبة 34.
3- ذكرنا في فصل آخر أنه لا شك في نفوذ رأي الإمام بما هو إمام، إنما الكلام في الحاكم بما هو حاكم فراجع.
4- دعائم الإسلام: ج2 ص527 كتاب آداب القضاة ح1876.

بأصل ولايته لا في أحكامه بعد ولايته، إذ ذلك هو مقتضى المنصبية، وللزوم الهرج والمرج لولاه، كما هو الحال في القاضي.

ولكن يرد عليه: أما (إذ ذلك مقتضى المنصبية) ففيه: أن ثبوت المنصب أعم من نفوذ الحكم مطلقاً، أي ولو لم يرض الطرف الآخر به، إذ قد يكون المنصب ثابتاً مع كون نفوذ الحكم مشترطاً بالرضا، إذ ليس جعل المنصب علة تامة لنفوذ الحكم، إذ كما يكون نفوذه مقيداً بالغبطة مثلاً، كما في ولي النكاح، كذلك قد يكون مقيداً بالرضا، وذلك كما في ولي البكر الرشيدة قول(1)، حيث التزم باشتراط رضاها في نفوذ تزويجه، استناداً إلى موثقة صفوان، قال: (اسْتَشَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ لِابْنِأَخِيهِ، فَقَالَ: افْعَلْ وَيَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا، فَإِنَّ لَهَا فِي نَفْسِهَا نَصِيباً، قَالَ: فَاسْتَشَارَ خَالِدُ بْنُ دَاوُدَ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فَقَالَ: افْعَلْ، وَيَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا فَإِنَّ لَهَا فِي نَفْسِهَا حَظّا) (2)، ولا يخفى ما في تعليل هذه الرواية - والعلة معممة ومخصصة - من الدلالة على اشتراط نفوذ حكم الفقيه في الأمة برضاها، لأن لهم في أنفسهم حظاً ونصيباً، بل الحكم هنا أولى، فتأمل.

ولكن قد يقال: إن احتمال كون نفوذ الحكم لذي المنصب مقيداً بالرضا مدفوع بالأصل، إضافة إلى أن المدار ليس على كلمة (المنصب)، لعدم ورودها في الروايات بل على كلمة (حاكماً) و(مجاري الأمور) وشبهها، ومن الواضح أن ظاهرها كون الأمر للفقيه ونفوذ حكمه وإن لم ترتضه الأمة على ما هو شأن(3) الحاكم ومن بيده مجرى الأمر.

ص: 588


1- للمفيد والحلبيين وظاهر الوسائل والمنسوب إلى المسالك والحدائق وشرح المفاتيح.
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص379 ب32 ح10.
3- سيأتي الجواب عن ذلك.

إلا أن يقال: بكون (أمرهم شورى بينهم)(1) حاكمة على أدلة المنصب، كما فصلناه في موضع آخر، فتكون الآية دليلاً على اشتراط نفوذ حكمه بالمشورة وموافقة الأكثرية، بل وكذا قوله: ( وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2)، لوجوه منها كون ( فَإِذا عَزَمْتَ ) بمعنى إذا عزمت على ما اقتضته المشورة، كما في قولك: استشر الطبيب فإذا عزمت فتوكل على الله، الظاهر في العزم على ما أشار إليه الطبيب، إلا أن يورد بأن (فإذا عزمت) غير ظاهر في لزوم العزم ووجوبه، وإن كان متعلق العزم هو ما ارتضته أكثرية المشيرين، وذلك لأن تعليق أمر (كالتوكل) على أمر (كالعزم) لا يدل على وجوب تحقيق المقدم وإن وقعت الجملة عقيب أمر، كما في قولك: اذهب إلى السوق فإن اشتريت اللحم فادخره، حيث لا يدل على وجوب شراء اللحم،وكذا قوله تعالى: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ)(3)، وكما في قوله تعالى: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)(4) فتأمل، وراجع تمام الكلام في مبحث الآية الشريفة.

نعم يقال بكونه ظاهراً في وجوب تحقيق المقدم عرفاً، وبملاحظة الجملة كلها، أو يقال بلزوم نقض الغرض من وجوب الاستشارة لو لم تتبع، ولغير ذلك(5).

وكذا قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(6)، إذ لو نفذ أمر الفقيه أو

ص: 589


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة الجمعة: 9.
5- قد سبق ما يتنقح به المقام أكثر فليراجع وليتأمل.
6- سورة آل عمران: 159.

مجموعة الفقهاء مطلقاً لم يكن أمر الأمة شورى بينهم، بل كان أمر الأمة بيد الفقيه أو شورى الفقهاء، فإنه لو كان الحكم شورى بين الفقهاء ونفذ حكمهم مطلقاً لم يكن أمر الأمة شورى بين الأمة بل بين الفقهاء، والظاهر عود ضمير (بينهم) إلى نفس ما عاد إليه ضمير (وأمرهم)، وكونه شورى بينهم يتحقق بانتخابهم مجموعة من الفقهاء - لاشتراط رضا الله - للتشاور ورضا المنتخبين إجمالاً أو تفصيلاً بما انتهى إليه، فإن لم يرضوا بحكم وأنفذه الفقهاء لم يصدق أن (أمرهم) كان (شورى بينهم) في هذه المسألة.

وعليه تكون آية الشورى ونظائرها حاكمة على روايات ولاية الفقيه أو الفقهاء(1)، بل لو قيل بالعكس(2) لكانت النتيجة واحدة، فتأمل جداً.

أو يتمسك بسائر الأدلة على اعتبار رضا الناس، كما سيأتي تفصيله بعد ملاحظة النسبة بينها وبينها بدعوى إباء لسانها عن التخصيص أو انصراف أدلة الولاية لغير صورة رفض الناس،بدعوى أن الأمر كذلك وضعاً (فلا ولاية لو لم يرضوا)، وإن تغاير مع حكمه التكليفي (بأن وجب عليهم الرجوع إليه) كما أوضحنا الانفكاك في موضع آخر.

أو يقال: بأن المنصب والحكومة إن اشترط في ثبوته أو فعليته رضا الناس كما بيّنا ذلك في موضع آخر، اشترط في نفوذ الحكم ذلك أيضاً، لكون الفرع أولى بكونه تحت الاختيار بعد كون الأصل تحته، كما في الوكيل والوصي، فتأمل.

أو يقال: بأن منصب الحكومة مجعول لواحد (أو لمجموعة تصدق عليهم الشورى) ممن جمع الشرائط على سبيل البدل، فللأمة أن ترجع في كل واقعة إلى

ص: 590


1- فلهم الولاية في دائرة الشورى وفي إطارها ومنبثقه عنها ومحدودة بها.
2- حكومة روايات ولاية الفقهاء على آية الشورى، أو فقل: أدلة الولاية منقحة لموضوع الشورى، فالشورى تكون بين أهل الولاية فيما لهم الولاية فيه.

أحدهم (أو هذه المجموعة دون تلك)، كما في القاضي وكما في مرجع التقليد على ما التزمنا به من جواز التبعيض في التقليد، وكما في الحجج المتعددة المجعولة في المورد الواحد المستلزمة للتخيير، وقد تحدثنا تفصيلاً حول كل ذلك في مواضع أخرى من الكتاب، فليراجع.

أما الهرج والمرج فلا يلزم من اشتراط نفوذ حكمهم برضا الأمة الهرج والمرج، كما لا يخفى وقد سبق، والقياس على القاضي مع الفارق جداً، هذا.

مناقشة مع السيد الوالد (قدس سره)

وقال السيد الوالد: (أما وجوب المشورة في أمور الناس بعد مجيئه إلى الحكم، فلأن للحاكم بقدر تخويل الناس له الصلاحية، ففي غيره يحتاج إلى إذنهم، والحاصل أن ما كان من شأن الناس يحتاج إليها ابتداءً واستدامةً.

إن قلت: أليس مرجع التقليد منصوباً من قبلهم (عليهم السلام) فاتباعه الواجب.

قلت:

أولاً: اختيار هذا المرجع دون ذاك بيد الناس، كاختيار إمام الجماعة والقاضي وما أشبه.

وثانياً: إذا كان هناك مراجع اختارهم الناس... فلا حق له لتنفيذرأيه على مقلديه بالقسر، سواء القسر الظاهر أو المغلف، إذ انتخاب المقلدين له في هيئة للحكومة ليس معناه تخويلهم له الصلاحية المطلقة لتصرفه في أموالهم ودمائهم وأنفسهم، بل بقدر ما يرى المقلدون، فإذا رأى هو الحرب والمقلدون السلم فلا حق له في إدخال الناس في الحرب، وقوله (عليه السلام): (فإذا حكم بحكمنا) لا دلالة فيه على نفوذ رأيه إذا لم ير المقلدون أنه بحكمهم (عليهم الصلاة والسلام)،

ص: 591

والمراد بالمقلدين له أو بالمراجع الأكثرية، لأن دليل الشورى حاكم على دليل التقليد، وإلاّ لم يبق لدليل الشورى مجال، كما ذكروا في العناوين الثانوية الحاكمة على العناوين الأولية).(1)

وقد يورد عليه: إن الجواب الأول جواب عن إشكال آخر، إذ الكلام عن نفوذ حكمه بعد ثبوت المنصب لا عن أصل ثبوت المنصب له حتى يقال بكونه بيد الناس، واشتراط ثبوته له برضاهم، فعلى تقدير تسليم الاشتراط لا يدل على عدم النفوذ بعد الانتخاب، إلا أن يتمم بما ذكرناه قبل صفحة: (أو يقال بأن المنصب والحكومة إن اشترط...).

ولكن قد يورد عليه بأن الإمام (عليه السلام) على هذا قد جعل أحدهم - وهو الجامع للشرائط ومنها انتخاب الأمة - حاكماً له ما للحاكم من النفوذ حتى وإن عارضته الأكثرية، فأيّ منهم انتخبته الأمة كان له ما للحاكم بجعل الإمام (عليه السلام)، وقد تحدثنا في موضع آخر(2) عن كون مقتضى جعله حاكماً تنزيله منزلة الحكام العرفيين.

إلا أن يناقش بأنه لا يعلم كون الحكام العرفيين كذلك.

وبعبارة أخرى: الحكام أنواع والحكومات مختلفة، والعقلاء مختلفون ولا إجماع منهم، بل ولا أكثرية، على شرعية تقدم رأي الحاكم وإن اختلفت معه أكثرية أهل الحل والعقد، أو أهل الخبرة، أو الأمة في تشخيص الموضوع في الشأن العام، وكانوا قادرين علىردعه - أي ردع الحاكم -، نعم قد يكون جري العرف العام على الخضوع للحاكم وإن اختلفوا معه، لكنه فعل والفعل لا جهة له، فلعله للخوف أو لعدم القدرة على الرفض والمعارضة أو غير ذلك، وليس لأنهم يرون شرعية حكمه ولزوم إطاعته، وعلى فرضه فقد يقال بانصراف روايات

ص: 592


1- الشورى في الإسلام: ص21-22.
2- عند الحديث عن رواية (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) وسيأتي في الجزء الثاني بإذنه تعالى.

جعل الولاية على فرض تماميتها، عن صورة تشخيص الأكثرية الموضوع على خلاف ما شخصه الولي، فتأمل.

ثم إن قوله: (إذ انتخاب المقلدين...) مبني على أن تكون الحكومة وكالةً أو جعالةً أو عقداً جديداً مشترطاً فيه ولو ارتكازاً كون الرأي للأمة عند التعارض دون العكس، حتى يكون للفقيه من الصلاحية بقدر ما أعطي، أما بناءً على كونها منصباً من قبل المعصوم (عليه السلام) كما هو المقرر في الإشكال - وسلمه في الجواب حيث لم يرده وكما هو مبناه (دام ظله) خارجاً، فليس معطي الصلاحية هو الأمة حتى تتبع سعةً وضيفاً إرادتها، بل هو الإمام (عليه السلام)، إلاّ أن يجاب بما ذكرناه قبل صفحتين: (إذ قد يكون المنصب ثابتاً مع كون نفوذ الحكم مشترطاً بالرضا...) مذيلاً بما ذكرناه قبل صفحة: (إلا أن يقال بكون (وشاورهم في الأمر) (1) دليلاً على اشتراط...) وشبهه مما ذكرناه في بحث آخر.

وأما قوله: (وقوله عليه السلام: (فإذا حكم بحكمنا) لا دلالة له على نفوذ رأيه إذا لم ير المقلدون أنه حكمهم عليهم السلام)، فقد يناقش: بأن ظن المقلد بأن هذا حكمهم وذاك ليس بحكمهم ليس بحجة في قبال ظن المجتهد، اللهم إلا أن يحصل لهم القطع وهو حجة ذاتاً، لكنه نادر، أو يكونوا من أهل الخبرة في الشؤون العامة فيكون ظنهم ظن الخبير وهو حجة، إذ مرجع البحث في أن هذا - كعقد معاهدة دولية - حكمهم أم لا، إلى أن فيه مصلحة الأمة أم لا، وظن الخبير في هذا حجة، فإذا توضح المقدم اتضح التالي(2)، وأن الحكم بإجراء المعاهدة مثلاً حكمهم (عليهم السلام) إن كان ذا مصلحة، أم لا إن لميكن.

ولكن قد ينقض(3) بالقاضي، حيث ينفذ حكمه في المتحاكمين مطلقاً، أي

ص: 593


1- سورة آل عمران: 159.
2- في القول - مثلاً - كلما كان في هذا مصلحة كان الحكم بإيجابه حكمهم (عليهم السلام).
3- ما ذكره من (لا دلالة له...) وما ذكرناه دفاعاً عنه من (أو يكونوا من ...).

وإن رأى المحكوم عليه خطأه، قال السيد الوالد: (واللازم على المترافعين تنفيذ حكمه إلا في صورة القطع، وذلك لأنه يصدق أنه حكم بحكمهم وأن الراد عليهم كالراد عليهم، عليهم السلام)(1).

إذ يرد عليه نفس ما ذكره هنا بقوله: (وقوله عليه السلام: (فإذا حكم بحكمنا) لا دلالة له على نفوذ رأيه إذا لم ير المقلدون أن حكمهم عليهم السلام)(2)، فما الفارق بين البابين (الحكم في الشؤون العامة) و(القضاء)، إذ في كليهما لا يرى المقلد والمحكوم عليه أن هذا مما يصدق عليه (حكمنا)(3)، وربما لأجل ذلك كان (دام ظله) في كتاب (الحكم في الإسلام) قد ألحق باب الحكومة بباب القضاء في نفوذ حكم الحاكم فيه أيضاً، وإن لم يره المحكوم صحيحاً، استناداً إلى نفس هذه الرواية الشريفة(4).

والحاصل: إن هذه الرواية الشريفة: (فإذا حكم بحكمنا) دالة على وحدة الحكم في البابين، بناءً على فرض شمولها لهما، فإن قلنا بأن (حكمنا) يصدق وإن لم يره - علماً أو علمياً - المحكوم عليه (حكمهم عليهم السلام)، لزم على الشعب في باب الحكومة والدولة، وعلى المترافعين في باب القضاء التسليم، وإلاّ لم يجب في كلا البابين.

اللهم إلاّ أن يكون الالتزام بالنفوذ في باب القضاء بأدلة أخرى لا يمكن تعديتها للمقام، أو إذا أمكن فبتنقيح المناط الظني، ككونهموضوعاً لأجل فصل الخصومات، وأن فصلها موقوف على جعل حكم القاضي نافذاً مطلقاً حتى إن

ص: 594


1- الفقه، كتاب القضاء: ج1 ص114.
2- الشورى في الإسلام: ص22.
3- كما يمكن في باب القضاء تطبيق ما ذكرناه في باب الحكومة (إذ مبنى البحث في أن...) بأن نقول: (إذ مبنى الحكم بأن هذه الدار لزيد هو الاعتقاد بعدالة الشاهدين مثلاً، وظن المقلد بعدم عدالتهما كظنه بعدالتهما حجة، لكون موضوعاً خارجياً يتساوى فيه ظن المقلد والمجتهد).
4- الفقه الحكم في الإسلام: ص93.

رأى المحكوم عليه خطأه، عكس الشؤون العامة إذ أن فصلها لا يكون بجعل نفوذ حكم الحاكم مطلقاً حتى إن رأى أكثر الناس خطأه، بل جعله كذلك مستلزم للفساد.

وكصحيحة أبي خديجة: (انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه) (1).

والأخرى: (اجعلوا بينكم رجلاً ممن عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضياً)(2)، مع تلك الضميمة(3).

وقد يجاب عما ذكره (دام ظله) حلاً: بأن (بحكمنا) إشارة إلى كون حكمه مستنداً للأدلة، رأى المقلد صدقه أم لا، في قبال ما لو كان مستنداً للأهواء، لا إلى كون هذا العنوان (حكمنا) صادقاً عند المقلد، أي إن معنى (فإذا حكم بحكمنا) ليس فإذا حكم بما هو حكمنا عند المقلد والمحكوم عليه، بل: فإذا حكم بحكمنا حسب ما استنبطه من الأدلة، ولذا قال السيد الوالد: (لأنا نقول: معنى حكم بحكمنا، الحكم الصادر عن الأدلة المستندة إليهم، لا معرفة أنه حكمهم (عليهم السلام) واقعاً).(4)

إلا أن يقال: بكون الأسماء والعناوين موضوعة للمعنون الثبوتي، لا لما يرى ويعتقد أنه المعنون، بل الرؤية والاعتقاد كاشف، وحينئذٍ فلا يجب على المقلد القبول مع رؤيته عدم انطباق رأي الفقيه على المعنون الثبوتي وهو (حكمنا)، فإنه يرى رأيه المرآة للواقع لا رأي الفقيه.

وفيه: إنه إن كان المقصود المقلد غير الخبير في الشؤون العامة، فظنه غير

ص: 595


1- الكافي: ج7 ص412 باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح4.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص303 ب92 ح53. المستند: ج2 ص516 كتاب القضاء والشهادات.
3- سبق (وإن فصلها موقوف...).
4- الفقه: ج1 ص 256 كتاب الاجتهاد والتقليد.

معتبر عقلائياً ولا شرعياً، وإن كان المقصود المقلد الخبير بها فيرد عليه: ظهور هذا الحديث وأشباهه في كونالكاشف عن (حكمنا) المعتبر شرعاً هو نظر الفقيه، فتكون هذه الأحاديث مخصصة بل حاكمة على ما دل على أن رأي الخبير حجة، نعم يبقى أنه لا بد من لحاظ نسبتها مع مثل: (أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1).

وبعبارة أخرى: يمكن ادعاء ظهور (فإذا حكم بحكمنا) (2) في الحكم المستند للأدلة عرفاً، كما في قول المولى لعبيده: (إني جعلت زيداً حاكماً عليكم فإذا حكم بحكمي فأطيعوه)، فإذا استند زيد في معرفة حكمه إلى الطرق التي وضعها المولى لم يكن للعبيد الاعتذار عن عدم الاتباع بعدم معلومية كونه (حكمه) لديهم.

إضافة إلى أن التفسير الآخر يستلزم تخصيص لزوم الاتباع بصورة علم المقلد أو قيام علمي لديه على أنه (حكمهم)، وهو خلاف المنساق من الحديث وإطلاقه، ومستلزم لتخصيص الكثير أو الأكثر، وخلاف مقتضى جعله حاكماً، إلاّ أن يجاب الأول بأنه لا يلزم تخصيص الأكثر إلاّ لو اشترطنا الموافقة، أما لو اشترطنا فقط صورة عدم قيام علمي للناس على الخلاف فلا، وأما جواب الأخير(3) فواضح، فتأمل

ثم إن عدم بقاء مجال لدليل الشورى أعم من الحكومة، إذ الأمر في المخصص أيضاً كذلك، وكذا الوارد، إلا أن يقصد بذلك الناظرية، فتدبر.

وقد يورد عليه أيضاً: النقض بكل موارد تخالف اجتهاد مجتهد مع حكم الحاكم الجامع للشرائط، أو مع حكم أكثرية شورى الفقهاء، إذ لا يرى هذا المجتهد ما حكم به الحاكم (حكمهم عليهم السلام) على ما ذكره، اللهم إلا أن يلتزم

ص: 596


1- سورة الشورى: 38.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
3- كونه خلاف مقتضى جعله حاكماً.

في ثاني الموردين بل وأولهما أيضاً بعدم النفوذ.

هذا، ويمكن القول بعدم النفوذ إلاّ إذا لزم الهرج والمرج واختلال النظام، أو ترتب محذور أهم، فتأمل.

ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن الضمير في (حَكَم) من قوله (عليه السلام): (فإذا حكم بحكمنا) (1) يرجع إلى الحاكم الجامع للشرائط، المذكور بعضها في صدر الرواية وبعضها في أدلة أخرى، (كالذكورة والعدالة وغيرها) ومنها موافقة الأكثرية، حسب ما دل على ذلك مما ذكرناه بالتفصيل، فلا يلزم الالتزام بحكم من فقد أحدها، إضافة إلى الإشكال في أصل الاستدلال بالرواية على المقام لكونها في شؤون القضاء.

وهل يمكن الاستدلال ب- (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) لتقديم رأي الأكثرية فيما يتعلق بها على رأي الفقيه أو شورى الفقهاء؟

الظاهر العدم، لكون (الناس مسلطون) (2) محكوماً ل- (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (3)، و(مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) (4) وشبهها.

ص: 597


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- بحار الأنوار: ج2 ص272 ب33 ح7.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص315 ب11 ح21454.

مناقشة مع بعض الأعلام:

طبع ولاية الأمر يقتضي الإطاعة

وأما ما قيل من: (وكما أن الوجدان يلزمنا بإطاعة الإمام المنصوب يلزمنا بإطاعة الإمام المنتخب أيضاً، فإن طبع ولاية الأمر إذا كانت عن حق يقتضي الإطاعة، وإلا لما تم الأمر وحصل النظام والشرع أيضاً بإمضائه للانتخاب يلزمنا بالإطاعة).(1)

فقد يورد عليه: صغرى بعدم ثبوت كونه ولاية للأمر، إذ قد يكون وكالة الأمر أو عقداً جديداً عليه، نعم مع تمامية أدلة ولاية الفقيه ربما يتم ذلك.

وكبرىً أن جعل هذه الولاية لو كان بيد الأمة استقلالاً أو كانت فعليتها مشترطة بالانتخاب - على ما هو مقتضى الانتخاب(2) - كان تابعاً سعةً وضيقاً لكيفية جعلها وحدوده كما سبق فليراجع.

إضافة إلى ما سبق من أن الولاية أعم، كما في البكر الرشيدة، فليس طبع مطلق ولاية الأمر ما ذكر.

وأما قوله: (وإلا لما تم الأمر وحصل النظام) فيرد عليه ما سبق تفصيلاً(3).

ص: 598


1- (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية): ج1ص575.
2- ولذا عبر ب(الإمام المنتخب).
3- ومنه: انه أعم من المدعى، فان تمام الأمر وحصول النظام لا يتوقف على الإطاعة الاستبدادية بل يتمُّان بالإطاعة الشورية أيضاً، فيمكن جعل حق الطاعة مشروطاً باستشارته وبعمله برأي الأكثرية (ضمن ضوابط) فإذا أخذ برأيها وجبت طاعته.

وأما الإمضاء فهو أعم، كما في إمضاء الشارع للوكالة، فهو تابع لكيفية الممضى ونوعه، فإن كان الانتخاب وكالة أو جعالة أوولاية مقيدة وقد أمضاه الشارع كذلك فلا تلزم الإطاعة، وإن كان ولاية مطلقة لمن جمع الشرائط (أو لمن جمعوا الشرائط) لزمت، وإن كان عقداً جديداً فعلى حسب ما تعوقد عليه.

وأما قوله: (ولكن إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، وقد يكون بالاستنابة بأن يكون النائب وجوداً تنزيلياً للمنوب عنه، وكان العمل عمل المنوب عنه، وقد يكون بإحداث الولاية والسلطة المستقلة للغير مع قبوله، والأول ليس عقداً، والثاني عقد جائز على ما ادعوه من الإجماع، وأما الثالث فلا دليل على جوازه(1)، بل إطلاق قوله تعالى: (اَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) يقتضي لزومه).(3)

ففيه: إن قوله: (فلا دليل على جوازه) إن أراد به الجواز مقابل الحرمة ففيه: أن الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة، والحرمة هي المحتاجة للدليل، ثم إن الدليل هو (الناس مسلطون) والأصل هو ذلك. فتأمل(4).

وإن أراد الجواز مقابل اللزوم، ففيه: أن إيجاد السلطة للغير على النفس إن أمكنت وصحت شرعاً كان نوعها على حسب ما أوجده، فإن أوجدها لازمةً لزمت، أو جائزةً جازت، وأما ( اَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(5) ففيه: أنها على حسب ما وقعت عليه، فإن وقعت جائزة (كالوكالة) أو لازمة (كالبيع) كان الوفاء به

ص: 599


1- هل الجواز في مقابل اللزوم أو في مقابل الحرمة؟
2- سورة المائدة: 1.
3- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: ج1 ص575-576.
4- لما فصلناه في كتاب البيع من البحث عن مفاد (الناس مسلطون) كدليل على جواز نقل الحق وإسقاطه.
5- سورة المائدة: 1.

بحسبه، فلا يصح الاستدلال ب- (أوفوا بالعقود) على كون العقد في حد ذاته لازماً أو جائزاً، نعم لو قيل بانصراف العقود (أو كون العهد فيها ذلك) إلى اللازمة وجبت، لكنه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حينئذٍ.

وأما قوله: (وسيرة العقلاء أيضاً استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها بحيث يذمون الناقض لها).(1)

ففيه: إن السيرة غير ثابتة في حالة مخالفة حكم الحاكم، لما يرونه الصالح مع قدرتهم على النقض، بل هم يذمون حينئذٍ الموافق، والسيرة الموجودة إنما هي حالة عدم القدرة على التخلف أو ترتب محذور أهم عليه، وهي غير مفيدة كما لا يخفى، وعلى الأقل نقول: بأن القدر المتيقن منها هو ذلك فقط.

ص: 600


1- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: ج1 ص576.

الفصل الخامس: في عزل الأمة للحاكم أو انعزاله بفقد الشرائط قهراً وفروع أخرى

اشارة

ص: 601

ص: 602

عزل الحاكم وانعزاله القهري

اشارة

مسألتان:

الأولى: للأمة عزل الحاكم أو شورى الفقهاء الحاكمين عن الحكومة أم لا؟

الثانية: هل ينعزل الحاكم بفقدانه للشرائط قهراً؟

المسألة الأولى:
اشارة

هل للأمة عزل الفقيه الحاكم أو شورى الفقهاء؟

ج: هنالك رأيان في هذه المسألة:

أدلة القول بأنه لا يحق للأمة عزل الفقيه أو شورى الفقهاء

قد يقال بالعدم وذلك:

1: لقوله (عليه السلام): (ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار).(1)

2: وقوله (عليه السلام): (وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم).(2)

3: وقول أبي عبد الله (عليه السلام): (من فارق جماعة المسلمين ونكث

ص: 603


1- نهج البلاغة: الخطبة 173.
2- نهج البلاغة: الخطبة 34.

صفقة الإمام جاء إلى الله أجذم).(1)

4: وللزوم الهرج والمرج لو كان نصب الحاكم وعزله بيد الأمة، ولكون الفقيه منصوباً من قبل الإمام (عليه السلام) حسب روايات عديدة، والعزل بيد من بيده النصب.

المناقشات :

وقد يورد على الاستدلال بالرواية الأولى: بعد ضعف السند على بعض المباني، بأن عدم الرجوع كان شرطاً ارتكازياً في ضمن عقد البيعة، إذ كان مبنى البيعة على ثبوتها مدة الحياة ما دام قائماً بشرائط الإمامة، فلا يدل على عدم جواز الرجوع لو لم يشترط ذلك، أو اشترط صحة الرجوع، كما هو الشرط الارتكازي في انتخابات عالم اليوم.

هذا، وقد يقال: بأنه (عليه السلام) قال: (ثم ليس للشاهد أن يرجع)، ولم يقل: (ثم ليس لأكثرية أهلها أن يرجعوا)، فلا يدل نفي ذاك على نفي هذا.

وقد يجاب: بكون كلامه (عليه السلام) مطلقاً، إذ ليس للشاهد أن يرجع سواء كان من أهل الحل والعقد، أم لا، وسواء انضم إليه أكثرية أهلها أم لا، اللهم إلاّ إذا ثبت وجود مقيد لهذا الإطلاق، فليس للشاهد أن يرجع إلاّ إذا انضم إليه الأكثرية.

لكن قد يقال: بأن الرواية ليست في مقام البيان من جهة رجوع أكثرية أهل الحل والعقد وعدمه، بل ظاهرها مخالفة الأفراد بعد اجتماع أهل الحل والعقد.

كما قد يجاب: بأن جواب الإمام (عليه السلام) جدلي، أي مبني على إلزام

ص: 604


1- الكافي: ج1 ص405 باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين ح5.

القوم بما التزموا به؛ وذلك لوضوح أن الإمامة عندنا بنصب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، إذ إنه (صلى الله عليه وآله) نصب الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بأمر الله تعالى، وإرادة الحكومةوالسلطة الزمنية من الإمامة خلاف الظاهر.

والحاصل: أن كلام الإمام (عليه السلام) عن الإمامة من باب الإلزام لا غير، لوضوح أنه يرى الإمامة بالنص الإلهي الصريح، فكلامه (عليه السلام) إنه على مبناكم فالأمر كذا.

وأما الرواية الثانية فقد يورد على الاستدلال بها: إضافة إلى ما سبق(1)، بأن الاستدلال بها يتوقف على إثبات كون الوفاء بالبيعة حقاً له (عليه السلام) بما هو حاكم، وأنّ كونه حاكماً هو تمام الملاك حتى يكون الوفاء بالبيعة حقاً لكل حاكم بما هو حاكم لا بما هو إمام منصوب معصوم، لكنه لا يعدو كونه تنقيح مناط، لأن نص كلام الإمام هو (واما حقي عليكم...) فتعدية هذا الحق إلى غيره مبني على تنقيح مناطه، وأن هذا الحق كان له بما هو حاكم لا بما هو إمام، ولا دليل عليه، بل الثابت أن هذا الحق كان له بما هو إمام حينئذٍ، ولا دليل على الأكثر من ذلك.

هذا كله إضافة إلى أنه بمادته (الوفاء) دال على الابتناء على حسب ما تعوقد عليه، فإنه لو فرض أنهم بايعوا على شرط كذا أو إلى زمن كذا، فما دام الشرط والزمن فيصدق الوفاء والنقض، وأما خارجهما فلا يصدق الوفاء على الاستمرار، ولا النقض على عدمه.

وأما الرواية الثالثة فيرد على الاستدلال بها: استظهار إرادة الإمام المعصوم (عليه السلام) بإرادة الإمام المعهود، بل يكفي احتماله فيكون الإمام مجملاً مردداً بين الأخص والأعم، والأخص متيقن فيؤخذ به فقط، إضافة إلى ظهور كون الناكث مخالفاً لأكثرية المسلمين وجماعتهم، لكون (ونكث صفقة الإمام)

ص: 605


1- من الشرط الارتكازي.

عطفاً تفسيرياً ل- (من فارق جماعة المسلمين)، أو هو من عطف الخاص على العام أو أنه متفرع عليه، دون ما لو كان موافقاً لها.

أدلة القول بأن للأمة حق عزل الفقيه الحاكم

وقد يلتزم بأن للأُمة ذلك استناداً إلى:

1: قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)(1)، حيث يشمل بإطلاقه أمر الحكم، فيكون نصب الحاكم كعزله مما تدخله الشورى.

2: وقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر)(2)، قال السيد الوالد: (وهنا إشكالات: الأول: أن هذه الآية لا تدل على الشورى في تعيين الحاكم، بل على الشورى على نفس الحاكم، فمن أين وجوب الشورى في الأول... والجواب عن الأول: أن الآية تدل بالملاك الأولوي على الشورى في تعيين الحاكم بعد أن لم يكن المنصوب عن الله حاضراً، كما في الحال الحاضر حيث غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فهل يمكن وجوب الشورى في الأمور العامة وعدم وجوبها في تعيين القيادة التي هي الأصل، والأولوية بعد وضوحها عرفاً وهم الملقى إليهم الكلام...).(3)

ولكن ذلك متوقف إما على كون الاستشارة بمعنى الشورى، أو على استلزامها للشورى والحكم حسب الأكثرية، وقد جرى تفصيل الكلام عن ذلك لدى الحديث عن آية: (وَشَاوِرْهُمْ) فراجع.

ص: 606


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.
3- الشورى في الإسلام: ص15-16.

ثم إن الروايات السابقة إن تمت سنداً ودلالةً كانت مخصصة ل- (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(1) حيث إن (أمرهم) يشمل كل الشؤون العامة وهي كثيرة، ومنها نصب الحاكم وكذا عزله، والروايات السابقة مختصة بالعزل.

3: وقد يستند إلى قاعدة السلطنة أيضاً، إذ الحكومة تصرف في أموال الناس وأنفسهم وحقوقهم، فليس للحاكم أن يحكم إلاّ ما دام الرضا والإذن موجوداً، ولا يخفى كونها محكومة للروايات السابقة على فرض تماميتها.

4: وقد يدعى التلازم بين كون حدوث الحكومة بالانتخاب وكون بقائها كذلك، والأصح ابتناء ذلك على نوع العقد وكيفية التعاقدوالشروط المصرح بها أو الضمنية التي بني عليها الانتخاب.

5: وقد يستند إلى وحدة الملاك بين باب الحكومة وباب القضاء، حيث للرجل أن يرجع في مجموعة من قضاياه إلى قاضٍ معين، ثم يعدل عنه في قضاياه اللاحقة إلى قاض آخر، بل قد يقال بأن لسان البابين واحد، لوحدة اللسان في (فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(2) في مقبولة عمر بن حنظلة، و(قاضياً)(3) في مشهورة أبي خديجة، فتأمل.

وذلك هو مقتضى نصب مجموعة يجب الرجوع إلى أحدهم على سبيل البدل، أو إلى المتعدد منهم ممن تصدق عليه الشورى على سبيل البدل أيضاً، إذ يكون المكلف حينئذٍ بالخيار في الرجوع إلى أي واحدٍ أو أية مجموعة كانت، وكما أن التخيير ابتدائي كذلك هو استمراري على ما بحث في مبحث (هل التخيير استمراري) في الأصول، وأما ما ذكر من الوجه للتعيين فقد سبق رده.

ولعل لأجل ما ذكر جميعاً أو بعضاً، قال السيد الوالد: (أما مدة بقاء

ص: 607


1- سورة الشورى: 38.
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص2 باب من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ح3216.

الرئيس في منصبه وسائر الخصوصيات فترجع إلى رضاية الأمة، كما أن الرئيس يعزل بمجرد خروجه عن الأهلية، كما ذكروه في باب التقليد، كذلك بانتهاء مدته لفقده حينئذٍ شرط رضاية الأمة).(1)

وقد يقال: بأن المبحث كله مبني على المبنى المختار في الحكومة: فإن الحكومة إن كانت وكالة انعزل الحاكم بعزل الأمة كما لا يخفى، وأولى منه لو كانت إذناً، ولو كان جعالة فعلى حسبها، وإن كانت عقداً مستأنفاً كان إمكان عزله وعدمه تابعاً لما بني عليه العقد من الشرط، وإن كانت منصباً كان الأمر للأمة أيضاً، بناءً على جعل هذا المنصب لمتعدد اقتضاءً قد وجب على الأمة الرجوع إلى أحدهم على سبيل البدل فبه كانت فعليته، كما في القاضي، وقد فصلنا الكلام عنه في فصل آخر.

ولكن مما يبعد كون الحكومة وكالة عدم نفوذ حكم الوكيل علىالموكل أو على أحد الموكلين إلاّ برضاهم، بينما تنفذ حكومة الحاكم على المحكومين في بعض الأمور وإن لم يرضوا، (وإن كان لهم عزله حينئذٍ ولكن ضمن ضوابط أيضاً، كما في بعض دول عالم اليوم حيث للرئيس حق النقض لأحكام مجلس الأمة أو البرلمان وإن انعقدت عليه الأكثرية ما لم تبلغ حداً معيناً أو مطلقاً، كما لهم عزله وفق ضوابط، لكنه مادام غير معزول فحكمه في عدد من القضايا نافذ)، كما أن من المبعِّدات أنه لا تنفذ أحكام الوكيل على أحد موكليه وإن وافقته أكثرية الموكلين بينما تنفذ أحكام منتخب الأكثرية على الأقلية أيضاً، وقد بحثنا ذلك وغيره في موضع آخر.

ص: 608


1- الفقه: كتاب الحكم في الإسلام: ص42.
المسألة الثانية: انعزال الفقيه الحاكم بفقده لبعض الشرائط

إذا فقد الحاكم أو شورى الحكام الشرائط المعتبرة في الحاكم، كالعدالة والأمانة(1)، والاجتهاد بناءً على اشتراطه، أو فقد رضا الناس بناءً على اشتراطه أيضاً، فإنه سينعزل قهراً، ويدل عليه إضافة إلى الأولوية القطعية من باب الإفتاء والقضاء، العديد من الروايات(2).

منها: قوله (عليه السلام) في مشهورة أبي خديجة: (إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق) (3)، إذ لا فرق بين كونه فاسقاً أو صيرورته كذلك، لصدق التحاكم إلى الفاسق عند الرجوع في قضية مستأنفة إلى من صار فاسقاً وإن كان عادلاً قبل ذلك، ولصدق (السلطان الجائر) عليه إذا تحوّل ظالماً، فيشمله قوله (عليه السلام): (...وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السطان الجائر)(4)، وذلك لبداهة أن صحة التحاكم وجوازه متفرع على كونه ذا ولاية أو ذا صلاحية للقضاء أو للحكومة شرعاً.

وكذلك قوله (عليه السلام): (اجعلوا بينكم رجلاً من قد عرف حلالنا

ص: 609


1- عطفاً للخاص على العام.
2- ولا يخفى أن الروايات الآتية يستدل ببعضها على اشتراط (العدالة) وببعضها على اشتراط (الاجتهاد) أو غيرهما، بقاءً.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص303 ب92 ح53.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص139 ب11 ح33421.

وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً وإياكم...)(1)، حيث إنمن لم يعرف الحلال والحرام أو كان فاسقاً غير مجعول حدوثاً واستمراراً، ويرد عليه أن الرواية مختصة بباب القضاء ظاهراً.

وكذلك قوله في مقبولة عمر بن حنظلة: (فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يؤخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال تعالى: (يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (2)، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً...)(3).

والرواية صريحة في الحكم التكليفي، والاستدلال بهذه الرواية كسابقها لصدق (الطاغوت) بالحمل الشائع الصناعي على من تلبس به بالفعل وإن كان في الماضي عادلاً، ولصدق الجاهل بالفعل على من كان قد عرف أحكامهم (عليهم السلام) إلا أنه نسيها بعد ذلك.

وكذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام): (اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي)(4)، وهذا هو الأصل، وحيث إن الحكومة لنبي أو وصيه فله أن يعين غيره نائباً عنه، ولكنه يحتاج إلى دليل، فإذا وجد دلّ على الولاية له بحسب الحدود التي قررها النبي أو الوصي (عليهما السلام).

ص: 610


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص303 ب92 ح53.
2- سورة النساء: 60.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
4- الكافي: ج7 ص406 باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه السلام ح1.

وقول الإمام الحسين (عليه السلام): (ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه).(1)

وقول الإمام الحسن (عليه السلام) في حضور معاوية: (إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وليسالخليفة من سار بالجور)(2).

ولا فرق في هذه الرواية وما سبقها وما سيأتي بين الحدوث والبقاء.

وقول الإمام الحسين (عليه السلام) في جواب أهل الكوفة: (فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله)(3).

وقول الإمام الباقر (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: (لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ظالم ليس من الله، وإن كانت الرعية عند الله بارة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها ظالمة مسيئة).(4)

وقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لها فرض من الله عز وجل وطاعتهم واجبة، ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم، وولاية أهل الجور واتباعهم والعاملون لهم في معصية الله غير جائزة لمن دعوه إلى خدمتهم والعمل لهم وعونهم ولا القبول منهم)(5).

ص: 611


1- مستدرك الوسائل: ج17 ص315 ب11 ح21454.
2- بحار الأنوار: ج44 ص88 ب20 ح2 عن الخرائج والجرائج.
3- الإرشاد للمفيد: ج2 ص39.
4- الكافي: ج1 ص376 باب فيمن دان الله عزوجل بغير إمام ح4.
5- مستدرك الوسائل: ج17 ص240 ب1 ح21228.

وكذلك رواية تحف العقول(1)، وغيرها روايات كثيرة جداً فليراجع.

وقوله تعالى: (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبِيلاً)(2)، وإثبات الحكومة للحاكم المسلم بعد كفره جعل سبيل لهم عليهم، وكذاقوله (صلى الله عليه وآله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) (3)، وقد استدل بهما في الجواهر على اشتراط الإسلام في القاضي.

كما قد يستدل: بأية النبأ على اعتبار العدالة حدوثاً وبقاءً بالأولوية، بتقريب أن الحكومة أهم من النبأ، فإذا كان قبول الخبر مشروطاً بالعدالة، كانت الحكومة مشروطة بها بطريق أولى، كما استدل بذلك على اعتبار العدالة في القاضي(4).

كما قد يستدل: بالأولوية من باب صلاة الجماعة المعتبر فيها العدالة حدوثاً وبقاءً.

كما قد يستدل بقوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ)(5)، ولا ريب في أن تحكيم الحاكم الجائر أو الفاسق ركوناً للذين ظلموا، بضميمة قوله تعالى: (فَأُولئِكَ هُمُ الظّالمِوُنَ)(6).

والبحث المستوعب في هذا المقام مما يطول به الكلام، فلنكتف بهذا المقدار.

ص: 612


1- تحف العقول: ص332.
2- سورة النساء: 141.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص334 باب ميراث أهل المل ح5719.
4- الفقه: كتاب القضاء: ج1 ص15.
5- سورة هود: 113.
6- سورة البقرة: 229، وسورة الحجرات: 11.

فروع عديدة

هل أحكام الفقيه نافذة لو ظهر فقده للشرائط لاحقاً؟

لو سقط الحاكم عن العدالة أو الاجتهاد أو سائر الشرائط ثبوتاً، وظهر ذلك بعد مدة من الزمان، فالظاهر أن كل أحكامه في فترة فقدانه للشرائط غير نافذة، لأن الظاهر أن هذه الشروط واقعية لا علمية، لكون ظاهر تعليق أمرٍ على عنوانٍ كونه بوجوده الواقعي شرطاً، وكون توهم وجوده جهلاً مركباً، وذلك لكون الأسماء مجعولة لمسمياتها الثبوتية، وللأولوية من باب القضاء.

ولا مجال للاستصحاب، لظهور أدلة شرطية ما اشترط في الحدوث والبقاء فركنه الأول مختل.

ولو علم هو بفقدانه الشرائط ومع ذلك حكم، فقد فعل محرماً، والظاهر استحقاقه للتعزير - كتصرف كل شخص في مال غيره ونفسه دون إذنه - كما أن الظاهر ضمانه ما تلف بحكمه من نفس أو مال أو حق، نعم للحاكم اللاحق الإمضاء كما في كل فضولي وكل ولي.

وإن لم يعلم هو بالفقدان وعلم المحكوم له، كان عليه الضمان أو قراره.

ص: 613

هل يجوز عصيان أمر الفقيه قبل عزله إذا علم بفقده للشرائط؟

ثم إنه لو علم بعض أعضاء الحكومة بفقدانه الشرائط، سواءً حدوثاً أو بقاءً، وسواء مع علمه هو بفقدانه الشرائط أم جهله وتوهمه وجدانه لها، فهل لهم الإعراض عن أوامره، أم تجب عليهم إطاعته ما دام لم يعزل رسمياً؟ فلو أمره بإجراء معاهدة دولية أو نقضها أو شن حرب أو إقامة صلح أو غير ذلك فهل عليه الامتثال أم يحرم؟ وهل على من علم من الأمة ذلك المخالفة، أم تجب عليه الإطاعة؟

قد يدعى بوجوب الإطاعة والامتثال، للزوم الهرج والمرج واختلال النظام لولا ذلك، إذ ليس هناك حاكم تجمع الأمة على عدالته وسائر الصفات المشترطة فيه إلاّ نادراً جداً.

والأصح: عدم وجوبها، لأن الأدلة دلت على ولاية الجامع للشرائط، وهذا الحاكم ليس جامعاً للشرائط بنظر هذا العالم بفقده للشرائط، ولشمول قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)(1)، بعد شمول مثل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)(2).

ونظير هذه المسألة ما قاله الفقهاء في باب القضاء فيمن علم أن حكم القاضي باطل لاستناده مثلاً إلى شاهدين علم هذا الشخص فسقهما، فإن له أن لا يرتب الأثر، بل عليه أن يرتب آثار ما علم، فلو علم بأنها زوجة زيد وقد

ص: 614


1- سورة النساء: آية 60.
2- سورة المائدة: آية 45.

حكم الحاكم بعدمها لم يكن له تزويجها، ولو علم بأنها زوجته وحكم الحاكم بعدم الزوجية كان عليه دفع مهرها ونفقتها، وهكذا.

وكذا ما قاله الفقهاء فيما لو علم القاضي خطأ حكمه موضوعاً، كما إذا عرف فسق الشاهدين، أو حكماً كما لو قطع بخطأ استدلاله،فإن النقض واجب في هاتين الصورتين، لقوله تعالى: (وَمَنْ لم يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ(1) ... هُمُ الظّالِمُونَ (2) ... هُمُ الْفاسِقُونَ) (3)، ولأنه منكر استند إليه، فالواجب إزالته، فإن المنكر وإن وجب على كل أحد إزالته إلا أن فاعله أولى بإزالته شرعاً وعقلاً، كما ذكروا ذلك في مسألة تنجيس الإنسان المسجد حيث إنه أولى بالإزالة وإن وجب على الجميع(4).

وكذا ما لو علم المجتهد الآخر خطأ الحاكم الأول، فإن له النقض، وقد ادعي على ذلك الإجماع.

هذا كله في صدق العلم، وغالب الأدلة مشتركة مع صورة قيام العلمي، فتدبر.

ص: 615


1- سورة المائدة: آية 44.
2- سورة المائدة: آية 45.
3- سورة المائدة: آية 47.
4- الفقه: كتاب القضاء: ج1 ص118.
هل مطلق ما يوجب الهرج والمرج حرام

وأما لزوم الهرج والمرج واختلال النظام، فقد يورد عليه:

مضافاً إلى أخصية الدليل من المدعى جداً، إذ ليس كلما لم يمتثل بعض أفراد الأُمة أو بعض أعضاء الحكومة أمر الحاكم لزم الهرج والمرج واختلال النظام في حده القبيح عقلاً:

إنه لا دليل على حرمة ما يوجبها مطلقاً(1)، خاصة إذا كان به التوصل إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل - فيما لو كانت مصلحته أهم من مصلحة عدم إخلال النظام على ما هو مقتضى باب التزاحم - وإلاّ لوجب على كل حاكم بالحق أن يتخلى عن حكمه إذا ثارت ضده مجموعة من البغاة حيث إن مواجهته لهم - خاصة إذا كانوا أقوياء - مستلزم للهرج والمرج واختلال النظام ولو في بعض المناطق، ولحرم السعي لتولي الحاكم العادل شؤون البلاد لاستلزام تبدل الحكومة عادة الهرج والمرج واختلال النظام كما في ثورة المختار وثورة زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، ولكان سعي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لإقامة الحكومة الإسلامية بما استلزم من أكثر من ثمانين حرباً واختلال نظام دولة المشركين غير صحيح، ومن البديهي صحته كتاليه، ولكانت مواجهة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمعاوية في صفين غير صحيحة، ولكان عليه أن يسلم له مقاليد الحكم لئلا يلزم الهرج والمرج واختلال النظام! ولا يخفى التأمل في إطلاق دعوى التلازم، والفيصل أهم المتزاحمين، فتدبر.

مضافاً إلى أن تسليم وجوب الإطاعة لئلا يلزم الهرج والمرج واختلال

ص: 616


1- إلا ما كان مقدمة للحرام كإراقة الدماء وهتك الأعراض وسرقة الأموال وما أشبه ذلك.

النظام مستلزم للغوية الآيات والروايات الدالة على النهي عن التحاكم إلى أئمة الجور والركون إليهم وإطاعتهم أو تقييدها بها،

وفيه: إن تقييدها بما هو الظاهر فيما لو كانت أهم حسب موازين باب التزاحم.

فإن قيل: بعدم استلزام ذلك الهرج والمرج.

قلنا: بعدم استلزامه له أيضاً في مسألتنا.

وبعبارة أخرى: جميع الأدلة الدالة على عدم جواز الركون إلى أئمة الجور وعدم جواز التحاكم للطاغوت وعدم جواز اتباعه... تدل على عدم جواز إطاعة من علم فقده للشرائط بقاءً.

مضافاً إلى أن الأمر بإطاعة من علم فسقه أو فقدانه لسائر الشرائط مستلزم لتجرّيه أكثر فأكثر، كما نجده في الخلفاء الجائرين الذين روّج علماء السنة لوجوب إطاعتهم مطلقاً، كما أن الأمر بعدم إطاعته مستلزم - ولو في الجملة - لارتداعه عن المنكر، فلو علم الحاكم أن الأُمة لا تطيعه فيما لو أعلن الحرب على دولة أخرى ظلماً مثلاً، لما أعلنها لعلمه بهزيمته حينئذٍ، ولو لم تطعه الأمة - لفسقه - في أي شيء، لاضطر إما إلى إصلاح نفسه أو الاستقالة.

بل إطاعة هذا الحاكم محرمة، وإن كان ما أمر به بمصلحة الأمة في رأي المأمور به أيضاً، وذلك لنص مقبولة عمر بن حنظلة في الموضوعية في نظير المسألة، والتعميم إما للملاك أو لعموم التعليل: (.. قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (1).

ص: 617


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10. والآية في سورة النساء: 60.

وبذلك كله يعلم أن الأصل الأولي هو وجوب السعي لإزالة حكم من علم فسقه وظلمه لأنه حاكم بالجور، حتى وإن لم نقل بأن الولي المنصوب من قبل الإمام (عليه السلام) غيره بأن لم تتم لدينا أدلة ولاية الفقيه أو ولاية عدول المؤمنين، إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل وأمراً بالمعروف - لساناً ويداً - ونهياً عن المنكر، فيكون حكم من غصب حكومة الفقيه العادل المنصوب من قبل الإمام (عليه السلام) بناءً على القول بها، أو من اعتلى سدة الحكومة بقهر الناس وجبرهم، حكم من غصب حكومة الإمام (عليه السلام)(1)، وكما يجب علىالمسلمين كفايةً ردع غير ولي الطفل وغير القيّم على الوقف، إذا نصب نفسه ولياً وقيماً، يجب الردع بالأولوية لمن نصب نفسه ولياً على المسلمين وهو غير جامع للشرائط التي اشترطها الإمام (عليه السلام).

نعم الثورة ضد الحكومة الجائرة حيث كانت من الشؤون العامة، كان اللازم الاستشارة فيها والعمل طبقاً للشورى، لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2) ولغيره، وإذن الفقيه لأن الشأن العام منوط بإذن الفقيه، على بعض المسالك فإنه ولي على ما لا ولي له.

وذلك كله بعد مناقشة أدلة القائلين بحرمة القيام ضد الحكومات الجائرة زمن الغيبة، استناداً إلى مثل (وَكَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً فِي مَكْرُوهِنَا)(3)، مما يستدعي النظر في تلك الأدلة وجرحها وتعديلها عقد مبحث خاص ليس هذا محله.

ولنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: ومما يؤيد أو يدل على ما ذكرناه من انعزال الحاكم قهراً بفقده للشرائط، الإطلاق الموجود في كلمات الفقهاء في باب القضاء - بعد وحدة الملاك في البابين بل أولويته في باب الحكومة وبعد استفادة

ص: 618


1- في أصل الحرمة لا في شدتها ودرجتها كما هو واضح.
2- سورة الشورى: 38.
3- الصحيفة السجادية: ص20.

الحكم في كلا البابين من رواية: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (1) وشبهها - قال في الشرائع: (إذا حدث ما يمنع الانعقاد انعزل وإن لم يشهد الإمام بعزله كالجنون والفسق ولو حكم لم ينفذ حكمه)، وتبعه على ذلك الجواهر(2) والمسالك(3) وغيرهما، وهذا شامل بإطلاقه لما لو علم كل أهل الخبرة ذلك أو بعضهم، وكذا لو علمت كل الأمة بذلك أو بعضها.

المرجع هو القضاء لدى اتهام الفقيه الحاكم بما يسقطه عن العدالة

هذا، ولو اتهم الحاكم أو بعض أعضاء شورى الحكومة بما يسقطه عن العدالة، واختلف فيه أهل الخبرة، كان المرجع هو القاضي، لشمول إطلاقات أدلة القضاء لذلك، لكونها دعوى مقتضاها عدم ولاية هذا عليه وعلى الأُمة وعدم نفوذ تصرفاته، كما لو ادعى المولى عليه عدم مراعاة الولي للغبطة مثلاً.

وأدلة القضاء - كما ذكرها المستند - هي: (توقف نظام نوع الإنسان عليه، ولأن الظلم من طبائع هذه الأشخاص واختلاف نفوسهم المجبولة على محبة الترفع والتغلب وإرادة العلو والفساد في الأرض، ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، وأن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض، فلابد من حاكم بينهم ينتصف من الظالم للمظلوم ويردعه عن ظلمه، ولما يترتب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللأمر به في الكتاب والسنة، قال الله سبحانه: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ)(4)،

ص: 619


1- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
2- الجواهر: ج40 ص61 كتاب القضاء.
3- مسالك الأفهام: ج2 ص286.
4- سورة ص: 26.

وقال تعالى شأنه: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله)(1). وفي رواية معلى بن خنيس: (وأمرت الأئمة أن يحكموا بالعدل وأمر الناس أن يتبعوهم)(2) وغير ذلك من الأخبار).(3)

وهذه الأدلة - كما ترى - شاملة بإطلاقها أو بملاكها وبالأولوية، لما نحن فيه.

هذا، وقد تطرق الفقهاء في كتاب القضاء لمبحث ما لو ادعىفسق الحاكم ورجوعهما إلى حاكم آخر، فليراجع.(4)

حكم تغاير الاجتهاد في صلاحية هذا الفقيه للحكم

وقد ذكرنا في مسألة أخرى (مسألة فصل السلطات) ما ينفع المقام هذا.

ولو تغاير الاجتهاد بأن كان أكثرية الفقهاء يرون للعدالة معنى أعم، وكان هذا الفقيه يرى لها معنى أخص(5)، أو كانوا لا يرون اشتراط الاجتهاد في الحاكم وكان يرى ذلك، فهل عليه وعلى مقلديه الاتباع إن انتخب حاكم أو انتخبت شورى لا تتصف بالعدالة بالمعنى الأخص أو الاجتهاد أم لا؟

قد يقال: بالعدم، إذ لا يراه هذا من (العلماء بالله) ، أو (الأمناء على

ص: 620


1- سورة النساء: 105.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص3 باب من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ح3217.
3- المستند: ج2 ص514 كتاب القضاء.
4- المستند: ج2 ص529.
5- الأعم كاعتبارها ملكه، والأخص كاعتبارها الاستقامة على جادة الشرع، ومن جهةٍ الأمر بالعكس، فتدبر.

حلاله وحرامه) (1) مثلاً، حتى يترتب عليه المحمول الذي ذكره الإمام (عليه السلام) وهو كون مجاري الأمور بيده، أو لا يراه (ممن نظر في حلالنا وحرامنا) (2) ليكون هو المجعول حاكماً، فليست وظيفته الإطاعة، وإن كان للحاكم إلزامه بها حيث يرى نفسه جامعاً للشرائط منصوباً من قبل الإمام (عليه السلام)، أو مختاراً من قبل الناس، فعليه الإطاعة فيما اضطر إليه فقط، وفيما لزم من عدمها اختلال النظام أو ترتب محذور أهم.

وقد يقال: بأن للإمام (عليه السلام) أن يجعل حكم أحد المتخالفين في الاجتهاد نافذاً على الآخر - كما في المجتهدين المترافعين إلى قاضٍ - فإذا فعل كان معنى ذلك إلغاء حجية ظنه في هذه الصورة هذا من حيث الإمكان.

لكن البدائل والخيارات الثبوتية أكثر، كما فصلناها في فصل آخر، ومنها: أنه يدور الأمر بين جعل رأي أكثرية الفقهاء في تشخيص الموضوع العام حجة أو أقليتهم في صورة التخالف، فلابد من جعل أحدهما الحجة اللازم الاتباع - وإلاّ لزم اختلال النظام ونقض الغرض من جعل القاضي والحاكم الذي هو فصل الخصومات وبت الأمر وإدارة شؤون الأمة - وأيهما جعل كان ظن الآخر غير حجة وغير متبع، وقد فصلنا في موضع آخر أن الأولى بالحجية ثبوتاً والدال عليه العقل والنقل إثباتاً هو تقديم رأي الأكثرية، لكونه ترجيحاً للراجح، فتأمل.

وقد يقال: برفع الأمر إلى القاضي، كما ذكرناه في المسألة السابقة، حيث إن بناء العقلاء في نزاع الحاكم والمحكوم وسيرتهم على ذلك، فتأمل.

ص: 621


1- مستدرك الوسائل: ج17 ص315 ب11 ح21454. وفيه: (قَالَ: وَأَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ الْعُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَسَعُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ فَأَنْتُمْ الْمَسْلُوبُونَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ، وَمَا سُلِبْتُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَفَرُّقِكُمْ عَنِ الْحَقِّ وَاخْتِلَافِكُمْ فِي السُّنَّةِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَة).
2- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
لو فقد بعض الشرائط ثم عادت فهل تعود له الولاية؟

هذا، ولو فقد الحاكم بعض الشرائط كالعدالة مثلاً، ثم رجع عادلاً، فهل تعود ولايته أم لا؟ وجهان:

وجه العدم: الاستصحاب بسقوطه عن المنصب فعوده يحتاج للدليل.

ووجه العود: إطلاقات أدلة النصب حالة وجود الشرائط، كما لو قال: (أكرم العدول)، ففسق أحدهم ثم رجع عادلاً، إذ تشمله بعد العود العمومات والإطلاقات، ولا مجال مع الدليل للأصل، والزمان وإن كان ظرفاً للنصب بالنسبة للشخص الواحد فهناك نصب واحد ممتد بامتداد الزمان ما دام عادلاً، لا أفراد متعددة منه، إلاّ أنه بفسقه ارتفع هذا الفرد وبعوده عادلاً تحقق مرة أخرى لتحقق الموضوع،كما في كل محمول تحقق تمام موضوعه في زمن ثم ارتفع ثم عاد كما في المفتي وغيره.

هذا لو لم نشترط رضاية الأمة في فعلية التولي، وإلا فإن اشترط أو ارتكز أحد الطرفين فيها فوجهان، من كون الزمان ظرفاً للرضا بالولاية، أو مفرّداً، وعلى الثاني استفادة الإطلاق من الرضا أم لا، فتأمل.

وهذه البحوث بحاجة إلى تحقيق وتدبر، ولقد كان طرحها في هذا الجزء أشبه بالاستطراد، إذ إنه معقود لبحث أصل مبحث الشورى دون مختلف فروعها، وسنفصل الحديث عن ذلك في الجزء الثاني من الكتاب، فيما لو وفقنا الله تعالى لذلك.

ص: 622

ص: 623

الفصل السادس: في استقلال القوة القضائية

اشارة

ص: 624

ص: 625

استقلال القضاء

اشارة

هل القضاء سلطة مستقلة عن (شورى الفقهاء) أو (الفقيه الحاكم) أم لا؟

لابد لتحقيق ذلك من التطرق لمسائل ثلاث:

الأولى: هل تسمع دعوى أحد الرعية على الحاكم إذا اشتكى عليه ظلماً شخصياً أو نوعياً، وهل للقاضي - سواء كان نصبه بيد الفقيه أم لا - الحكم على الحاكم إذا ادعى عليه أحد الرعية أم لا؟

ويجري البحث في القاضي والسلطة القضائية أيضاً: من سماع الشكوى عليه وعليها، ومن حكم قاض آخر عليه أو عليها، وحيث طرح الفقهاء مبحث سماع الدعوى على القاضي، نطرحه كما طرحوه، ويستفاد منه في مبحث سماع الدعوى على الحاكم؛ نظراً لاشتراك غالب الأدلة.

الثانية: إن نصب القاضي هل هو بيد الفقيه الحاكم أو مرجع التقليد أم لا؟ وهل هو محتاج إلى إذنه، أم أن كل مجتهد جامع للشرائط له القضاء بين الناس وأحكامه نافذة.

الثالثة: هل له أن يعزله مطلقاً، أو فيما كان له وجه ولم يكن اقتراحاً وتشهياً؟ أم ليس له عزله مطلقاً؟

ص: 626

المسألة الأولى: سماع الدعوى على القاضي والحاكم

المشهور في القاضي على سماع الدعوى عليه مطلقاً.

قال في الجواهر ممزوجاً مع الشرائع: (لو ادعى أحد الرعية على القاضي سُمِعت، كما تُسمع على غيره، لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة منافاة ذلك لرئاسة القضاة، بعد حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) مع يهودي مجلس القضاء، وحضور عمر مع زيد بن ثابت، والمنصور مع جمال، فإن كان هناك إمام رافعه إليه، وإن لم يكن وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك الولاية لاندراجه حينئذٍ في المولى عليه من الحاضرين في تلك الولاية، وإن كان في ولايته وكان له خليفة رافعه إلى خليفته).(1)

وقال في (الفقه): (إذا ادعى أحد من الرعية على القاضي سمعت الدعوى بلا إشكال ولا خلاف، كما يظهر من إرسالهم المسألة إرسال المسلمات، وذلك لإطلاق الأدلة، ولا يتوهم أنه مناف لهيبة القاضي، إذ احترام هيبة الحق أولى من احترام هيبة القاضي... ولعل المسالك والجواهر وغيرهما حيث ذكروا في المقام حضور عمر مع زيد بن ثابت، والمنصور مع الجمال، أرادوا بيان أنه كذلك عند العامة أيضاً، كما أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) مع زوجته حضرا عند القاضي، ومع محمد بن الحنيفية تحاكما، وكذلك ورد الحضور مع الخصم بالنسبة إلى بعض الأئمة عليهم السلام).(2)

ص: 627


1- الجواهر: ج40 ص158 كتاب القضاء المقصد الثاني المسألة الرابعة.
2- الفقه: كتاب القضاء: ج1 ص200.
أدلة القائلين بعد سماع الدعوى ومناقشتها

وأما النادر فذهبوا إلى عدم سماع الدعوى، فقد احتج المحقق الأردبيلي (قدس سره) على عدم سماع البينة مطلقاً: بأن القاضي أمين الإمام، وفتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الأحكام والطعن في الحكام فلا يقبلون القضاء.

ويرد عليه: بعد أن سماع الدعوى أمر وإقامة البينة وسماعها أمر آخر، وأن مجرد سماع الدعوى بأن يستمع القاضي له ويباشر التحقيق وإحضار المدعى عليه.. إلخ، لا يستلزم المحذور الذي ذكره، فإنه لا تسقط عدالته بذلك، ولا تلغى أو تجمد أحكامه بمجرد ذلك، وأما سماع البينة عليه فعلى القاعدة، أن القاضي الجامع للشرائط أمين الإمام، والبينة تثبت فسقه، فليس جامعاً للشرائط ليكون أمين الإمام، فالبينة حاكمة أو واردة على قاعدة (القاضي أمين الله)، لكون القاضي الجامع للشرائط أميناً والبينة منقحة للموضوع، هذا فيما لو قامت بينة على فسقه كما هو ظاهر كلامه، لا في صورة صرف الدعوى عليه بذلك، وأما فيها فالأمر كما مر في (الجواهر) و(الفقه) بل من الواضح أنه في هذه الصورة لا يلزم المحذور الذي ذكره.

هذا إضافة إلى أنه لا يمتنع على أمين الإمام تعمد الانحراف، كما في الواقفية وكثير من أصحاب المعصومين (عليهم السلام) كبني فضال والشلمغاني وغيرهم، ومرجع هذا إلى وضوح عدم التلازم بين حدوث الأمانة وبقائها، وليس جعله أمينه إلا دليلاً على كونه أميناً لا على بقائه كذلك، إلاّ لو دل دليل على العلة المبقية أيضاً، ولا يجدي الاستصحاب مع وجود الدعوى في نفي لزوم الفحص، فتأمل.

هذا مضافاً إلى أخصية الدليل من المدعى، إذ لا مانعة جمع بين الأمانة

ص: 628

وبين كونه مشتبهاً في الحكم أو في مستنده، إذ على فرض تسليم إحراز عدم تعمد الانحراف والحكم بالباطل مطلقاً لفرض كونه أميناً، فلا يحرز عدم السهو والخطأ، ومن الواضح أن الدعوى على القاضي أو الحاكم على أقسام: منها: اشتباهه في الحكم،ومنها: تعمده الحكم بالباطل، ومنها: غيرهما، وإطلاقات أدلة سماع الدعوى تشملهما، ودليله لو تم أفاد استثناء الثاني فيبقى الأول.

هذا كله في المنصوب بالخصوص المستكشف أمانته بالخصوص من ذلك النصب، وأما المنصوب بالنصب العام فالأمر فيه أوضح بل أولى.

وأما قوله: فتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الأحكام.

ففيه: أنه إن أريد عدم إجراء الأحكام الحقة ثبوتاً فهو أول الكلام، إذ النزاع في أن هذا الحكم حق أو جور، على أنه لا يستلزمه، وإن أريد عدم إجراء الأحكام المحتمل حقيتها أو التي يراها هذا القاضي حقةً فلا بأس فيه، فانه مؤقت ريثما يحقق في حال القاضي، على أنه يمكن إحالة أمر المترافعين - الذين رفع أحدهما الدعوى على القاضي - إلى قاض آخر.

وبعبارة أخرى: إن فتح هذا الباب غير موجب لما ذكره، إذ بعد سماع الدعوى والتحقيق إن ثبت بطلانها ثبت كونه قاضياً جامعاً للشرائط فينفذ حكمه على المترافعين، وإن ثبت صحتها فغاية الأمر بعد سماع الدعوى وثبوتها الرجوع إلى حاكم آخر وهو من يعينه المدعي أو من يتراضيان به، حكم بالحكم السابق أو غيره بعدئذٍ.

وأما لزوم التسلسل صغرى، بأن ينقل المحكوم عليه الدعوى إلى الحاكم الآخر وهكذا، فنادر الوقوع أو غير واقع أبداً، إضافة إلى الالتزام بعدم سماعها لو خرجت عن الحد المتعارف فينقطع التسلسل.

مضافاً إلى ما التزم به (المستند) في نظير المسألة حيث قال: (ثم في جميع الدعاوي المذكورة إن كان هناك حاكم يقبله الخصمان يتحاكمان إليه، وإلا

ص: 629

فيكون كسائر الدعاوي التي لا حكم فيها، فلا تسلط لمن عليه الإثبات على خصمه بل يعمل بالأصل حتى يظهر الأمر)، فتأمل.

وأما قوله: بأن فتح هذا الباب موجب للطعن في الحكام وتفسيقهم فلا يقبلون القضاء(1).

فيرد عليه: بعد أنه مزاحَم بأن إغلاقه موجب لتضييع كثير من الحقوق وكونه موجباً لتجري الحكام، عدم ترتب المحذور الذي ذكره - وهو: فلا يقبلون القضاء - على فتح هذا الباب، كما نشاهد ذلك في فتح هذا الباب في الأزمنة السابقة (كما تكشف عنه قصص الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام زين العابدين (عليه السلام) وغيرهم، وكذا في الجهة الأخرى قصص عمر والمنصور وغيرهما) وكذا ما نشهده في هذه الأزمنة في العديد من الدول، مضافاً إلى إمكان رفع المحذور بأن يؤخذ الإقرار من كلا المترافعين قبل الحكم على عدالة القاضي، فتأمل.

مضافاً إلى ما ذكره المرحوم النراقي (قدس سره) من أنه: (يمكن سد باب تفسيق ساير الحكام بتعزير المدعي حيث أهان العلماء، مع أن العدول والحاكم الآخر أيضاً أمناء الله، فإن كان الحاكم الأول أميناً لا يقدحون فيه ولا يضر القدح، بل ذلك موجب لسعي القضاة في الاجتناب عن العيوب أو سترها فهو أيضاً مصلحة تامة)(2).

ثم إن للمدعي أن يدعي أنه لم يهن العلماء، بل ادعى ما قام عليه العلمي وهو البينة، أو ادعى ما اطمأن به، ولم يكن القصد إلا إحقاق الحق وإبطال

ص: 630


1- يمكن تقسيم هذا الكلام إلى شطرين: 1- فتح هذا الباب موجب للطعن في الحكام وتفسيقهم وهو غير صحيح في نفسه، 2- إنه غير صحيح لاستلزامه عدم قبوله القضاء، وإن كان صريحه هو الشق الثاني، وقد أجبنا عن كليهما.
2- المستند: ج2 ص529 كتاب القضاء، المسألة السابعة.

الباطل بمعونة أصالة الصحة، فإن عدّ هذا إهانة موضوعاً فليس بمحرم حكماً، بل جايز أو واجب، نعم لو كان المراد هو أنه ادعى دون بيّنة بل بمجرد دعوى الاطمئنان ولم يستطع الإثبات وكان في مظان التهمة تمّ ذلك، فتأمل.

وقد احتج لعدم السماع بدون البينة: بلزوم الفساد.

وفيه: أنه أي فساد يلزم؟ إذ غاية ما يتوهم لزوم هتك حرمة القاضي والحاكم! وفيه: أنه إن ثبت بعد التحاكم ما ادعى عليه كان هتكه في محله، ولم تكن له عند الله حرمة، وإن ثبت عدمه كان له في ذلك رفعه، إضافة إلى النقض بالدعوى على العلماء غير القضاة، وعلى أئمة الجماعة مثلاً، بل على كل مؤمن، بل في عدم السماع الفساد لاستلزامه ضياع الحقوق.

ص: 631

المسألة الثانية: هل نصب القاضي بيد الفقيه الحاكم؟

فالظاهر أن نصب القاضي ليس بيد الفقيه الحاكم أو مجلس شورى الفقهاء الحكام أو مراجع التقليد، وليس محتاجاً إلى إذن أحدهم، بل لكل من جمع الشرائط أن يقضي بين الناس، وذلك لعمومية أدلة النصب الدالة على جعل هذا المنصب لكل من جمع شرائط الفتوى - بل لغيره أيضاً في الجملة على مبنى - كروايتي أبي خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة، وخبر داود بن الحصين، وخبر النميري، ومرسلة الفقيه، والمروي في الفقه الرضوي، والمروي في تحف العقول، وكل ما استدل به أو أيد به ثبوت الإذن من المعصومين (عليهم السلام) للفقيه بالقضاء.(1)

وهذه الأدلة المستدل بها على ثبوت منصب القضاء للفقيه، هي الأدلة المستدل بها على ثبوت منصب الحكومة والولاية العامة له، فليس القضاة في طول الحكام، وليست ولايتهم مكتسبة منهم، فليس نصبهم بيدهم، بل ولاية القضاة في عرض ولاية الحكام، كلتاهما مكتسبتان من الإمام المعصوم (عليه السلام) بهذه الأدلة العامة، فالفقيه منصوب قاضياً بهذه الروايات، رضي به الفقيه الحاكم أم لا، كالعكس، للإطلاق.

وذلك كله نظير ما قاله صاحب الجواهر في (الفتوى)، فإن ما ذكره فيها يجري في (الحكم) مع أدنى تغيير، قال(2):

ص: 632


1- راجع المستند: ج2 ص516 كتاب القضاء، المطلب الأول، البحث الأول، المسألة الثالثة، والجواهر: ج40 ص31-33.
2- الجواهر: ج40 ص21-23 كتاب القضاء.

(وقد يظهر من الروضة اعتبار جميع هذه الشرائط في الفتوى أيضاً، وهو مبني على انحصار دليل قبولها بدليل قبول الحكم، فيعتبر فيها حينئذ ما يعتبر فيه. لكن لا يخفى عليك ما فيها، ضرورة منع انحصار دليلها في ذلك، بل هو العقل بعد كون الفتوى الصحيحة مماأنزل الله ومن القسط والعدل والحق وغير ذلك مما وجب على الناس قبوله عقلاً ونقلاً، فجميع ما دل على الأمر بالمعروف والأخذ بما أنزل الله والقيام بالعدل دال عليه، وإن فقد شرط منصب القضاء بعدم الكتابة مثلاً أو بالعمى أو بالذكورة أو نحو ذلك مما لا مدخلية لاندراج فتواه فيما عرفت قطعاً، كما هو واضح بأدنى التفات. ومن هنا كانت شرائط الفتوى غير شرائط القضاء، كما لا يخفى على من لاحظ كتب أصحابنا في الأصول والفروع. بل مما ذكرنا يظهر أن قبول الفتوى بعد اندراجها في الحق والعدل والقسط ونحو ذلك لا يحتاج إلى إذن من الامام (عليه السلام) بل الكتاب والسنة بل والعقل متطابقة على وجوب الأخذ بها، وحينئذ فدليل التقليد غير دليل القضاء. نعم قد يستفاد من دليل الثاني أن الفتوى بكلي الواقعة المخصوصة من الحق ومما أنزل الله ومن حكمهم ومن العدل والقسط ونحو ذلك، ضرورة التلازم بين كون الحكم بالخصوصية كذلك وبين كون الحكم الشرعي في كلي تلك الخصوصية الذي هو فتوى المجتهد كذلك. وبذلك ظهر لك أن دليل التقليد حينئذ هو جميع ما في الكتاب والسنة من الأمر بأخذ ما أنزل الله تعالى والقيام بالقسط والعدل ونحو ذلك، واختلاف المجتهدين بسبب اختلاف الموازين التي قررها صاحب الشرع لمعرفة الأحكام غير قادح في كون الجميع مما أنزل الله تعالى شأنه من الحكم، فإن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم كما هو مقرر في محله) (1).

وقال في الجواهر أيضاً: (وكيف كان فمع عدم حضور الإمام (عليه السلام) كما في هذا الزمان، ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت الجامع للصفات

ص: 633


1- جواهر الكلام: ج40 ص21-23 كتاب القضاء.

المشترطة في الفتوى المذكورة في كتب الأصول وبعض كتب الفروع بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه) (1)، وقال بعد استعراضه روايات أبي خديجة وابن حنظلة وداود بن الحصين والنميري وغيرها: (فهو حينئذ مأذون منهم ومنصوب من قبلهم في الحكم بين الناس بحكمهم، لا أن هذا الشرط ساقط في زمن الغيبة، كما توهمه عبارة المسالك، بل ظاهر خبر أبي خديجة الاكتفاءبتجزي الاجتهاد في الحكومة، لصدق معرفة شي ء من قضائهم) (2).

أدلة الاحتياج إلى النصب ومناقشاتها

ولكن قال في (الفقه): (نعم ينبغي أن يتكلم في أنه إذا كان فقيه مبسوط اليد مستول على البلاد ينصب الولاة والقضاة ويجبي الأموال ويقوم بشؤون الحرب والسلم إلى غير ذلك من الشؤون العامة للأُمة، فهل يحق لمتخاصمين أن يتحاكما إلى مجتهد آخر ليس منصوباً للقضاء من جانب الفقيه المبسوط اليد؟ احتمالان: من إطلاق أدلة التحاكم إلى الجامع للشرائط فأي تأثير بعد ذلك لمبسوط اليد، ومن أن مثل ذلك يوجب الهرج والمرج وأن الإذن بالرجوع إلى كل جامع للشرائط لا يشمل المقام، لانصرافه عما إذا كان حكم قائم بإذنهم (عليهم السلام). وإن شئت قلت: إن إعطاءهم الولاية العامة للفقيه المستولي يلازم عرفاً شمول إذنهم الإذن العام لكل جامع للشرائط في حال استيلاء الفقيه، وإلا جاز أن يقاطع الناس قاضي الفقيه المستولي وينصرفوا إلى قاض آخر، وفي ذلك تضعيف لمقام الدولة الشرعية، وهذا وإن كان أقرب للاعتبار خصوصاً مع ملاحظة أن المستولي حاله حال الإمام المبسوط اليد؛ لأنهم حجتهم على الناس

ص: 634


1- جواهر الكلام: ج40 ص31.
2- جواهر الكلام: ج40 ص33 - 34.

كما أن الأئمة (عليهم السلام) حجة الله مما يدل على الولاية العامة في كل الشؤون إلا ما خرج بالدليل وليس المقام مما خرج، إلا أن الجزم به بحاجة إلى تتبع أكثر وتأمل أعمق).(1)

رد إشكال الهرج والمرج

ويرد على ما ذكره من (إيجابه الهرج والمرج):

أولاً: عدم لزوم الهرج والمرج، وكما لم يوجبه في حال تصديالسلطان الجائر لا يوجبه في حال تصدي الفقيه العادل، وهل هو إلاّ كرجوع الناس إلى من أحبوا من الأطباء، أو إلى أي خبير في أي حقل، فإذا صح أن لا حق للناس في الرجوع إلى أي طبيب أو مهندس أو محام أو إمام جماعة أو حتى مرجع تقليد بل إلى الذي تعينه الدولة - كما هو كذلك في بعض الدول اليوم - صح أن لا حق لهم في الرجوع إلى أي قاض، بل إلى القاضي الذي تعينه الدولة، وكما لا يلزم الهرج والمرج من رجوع الناس إلى أي طبيب أو محام أو مهندس أو إمام جماعة أو مرجعٍ - وإن ادعى ذلك البعض - بشهادة العصور السابقة، حيث لم يكن الطبيب أو المهندس أو غيرهما مقيداً بإجازة الدولة ولم يلزم الهرج والمرج، كذلك لا يلزم من رجوعهم إلى أي قاضٍ.

نعم للدولة كسائر الجهات وكعامة المكلفين في كلا الموردين، فيما إذا لم يكن مدعي الطب طبيباً أو القاضي أهلاً، أن ترشد الناس إلى ذلك، لعمومات الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل.

وهل لها منعهما؟ احتمالان:

ص: 635


1- الفقه: كتاب القضاء: ج1 ص33.

من: (الناس مسلطون) فلكل أن يرجع لمن شاء ولا يحق لأحد منعه(1)، ولظهور الروايات في أن تعيين القاضي الجامع للشرائط بيد المترافعين: (اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا) (2)، (انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكماً) (3) إلى غير ذلك، الظاهر في أن تشخيص الموضوع (كونه جامعاً للشرائط) بيدهما، كما هو كذلك في كل الموضوعات التي رتب الشارع عليها أحكاماً ومحمولات، بل المقبولة (انظروا...) صريحة في ذلك، وكما هو كذلك في مرجع التقليد.

ومن: أن شأن الحاكم ذلك، فروايات الحكومة حاكمة على ما ذكر من وجهي الاحتمال الأول.وفيه: إنه قد يستشكل بكونه شأنه، فإنه أول الكلام بل هو مصادرة، أو يقال بأن ظاهر ونص تلك الروايات - أي روايات: (أجعلوا بينكم)، و(انظروا).. إلخ - مقيد ومبين لدائرة حدود اختيارات الحاكم، فتأمل.

أو يجاب: بأن روايات (الحكومة) ليست إلاّ تلك العمومات ك: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (4) أو (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله)(5) ونظائرهما، وهي شاملة للفقيه الحاكم والمحكوم عليه، وللقاضي الحاكم والمحكوم عليه بوزان واحد، فإذا جاز للحاكم أو القاضي المنصوب منع الآخر بدعوى عدم الصلاحية جاز للفقيه المحكوم والقاضي غير المنصوب منع الحاكم والقاضي المنصوب بدعوى عدم الصلاحية!.

ص: 636


1- إلا فيما علم من الشارع كراهة وقوعه مطلقاً كإراقة دم البريء.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص303 ب92 ح53.
3- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
4- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10.
5- مستدرك الوسائل: ج17 ص315 ب11 ح21454.

وقد يقال: بأن للفقيه الحاكم عند تشخيصه عدم صلاحية هذا القاضي للقضاء أن يرفع دعوى عليه إلى قاض آخر، وهي دعوى مسموعة، ويكون الحكم ما حكم به القاضي الآخر، فيكون الأمر في هذه المسألة كعكسها وهي ما لو ادعى قاض أو غيره على حاكم أو من رشح نفسه للحكومة فقدانه للشرائط، هذا.

ثانياً: عدم حرمة كلما استلزم مطلق الهرج والمرج، بل المحرم(1) الهرج والمرج المستلزم لدرجة خاصة من اختلال النظام، كما مر في موضع آخر، وإلاّ لكان لقائل أن يقول بعدم جواز حكم أي فقيه بالهلال مثلاً مع وجود الفقيه الحاكم؟ وأن يقول بعدم صحة اعتراض أي فقيه أو أي خبير على الدولة لاستلزام كليهما نوعاً من الهرج والمرج؟ وأن يقول بعدم جواز تأسيس أية شركة إلا بإذن الدولة، كما هو في قانون بعض الدول مستدلين بنفس هذا الدليل؟ وهكذا وهلّم جراً، مما يؤدي إلى الدكتاتورية وإلى تكريس بعض مبادئ الاشتراكية.

هذا، ووجود حكم قائم بإذنهم (عليهم السلام) لا ينافي الإذن العاملكل جامع للشرائط بالقضاء.

ودعوى الانصراف غير تامة، ولا أقل من كونه بدوياً، إضافة إلى ما سبق من أن الدليل الدال على الإذن للفقيه بالحكومة ونصبه لها هو نفس الدليل الدال على الإذن له بالقضاء ونصبه له، وهو ظاهر في أن لكل فقيه منصبين: الحكومة والقضاء، سواء وصل إلى السلطة أم لا، وكما لا يسقط سائر الفقهاء عن منصب الحكومة بتسلم أحدهم للسلطة - المقتضي لكون الحكم شورى بين الفقهاء كما سبق أن ذكرناه - كذلك لا يسقطون عن منصب القضاء الدالة أدلته على فعليته لهم مع جمع الشرائط، ولا دليل على أن منها نصب أحدهم، ولو كان

ص: 637


1- إضافة إلى ما ورد بعنوانه في الآيات والروايات.

مبسوط اليد، للآخر.

وأما قوله: (وإن شئت قلت..).

ففيه:

أولاً: إن ذلك أول الكلام، إذ الكلام في نفس دعوى إعطاء الولاية العامة بحيث تشمل ساير المجتهدين، إذ لا يعلم من الأدلة الدالة على إعطائه منصب الحكومة(1) - والدالة على أعطائه منصب القضاء كالمقبولة وخبري أبي خديجة وغيرها - كون ولايته بحيث لا إذن لغيره في التصدي للقضاء مع وجوده، بل سيأتي ظهور الأدلة في العدم، فتأمل.

وثانياً: إن الإمام (عليه السلام) أعطى الولاية العامة للفقيه لا للفقيه المستولي، فإنه لا يوجد حتى دليل واحد على ذلك، بل الأدلة على العدم(2)، فلا يمكن دعوى استلزامه لما ذكره من اللازم، وإلا بأن ادعي إعطاء الولاية للفقيه المستولي فقط لزم استثناء الأكثر شبه المستغرق إن أريد به كل الصور، وأما دعوى إعطائها للكل في صورة عدم استيلاء أحدهم وللمستولي في صورة استيلاء أحدهم فعارية عن الدليل، بل الدليل على خلافها كما فصلناه في موضع آخر.

وثالثاً: استلزام ذلك لعدم كون الفقيه الحاكم منصوباً للقضاء بما هو جامع للشرائط، بل بما هو منصوب من قبل نفسه - إن صح ذلك - فيلزم الالتزام إما بعدم صحة كونه قاضياً، أو كونه قاضياً منصوباً من قبل نفسه، وكلاهما كما ترى، فتأمل.

ص: 638


1- على فرض القول بدلالتها على ذلك.
2- فصلناها في فصل آخر.
وأما قوله: (وإلا جاز... وفي ذلك تضعيف لمقام الدولة الشرعية)

ففيه:

أولاً: إنه لا تلازم بين عدم جواز مقاطعة قاضي الفقيه المستولي وبين عدم نصب سائر الفقهاء بالإذن العام، ولا بين الجواز والنصب، فيلتزم بنصب سائر الفقهاء وبجواز رجوع الناس إليهم لا إلى حدّ الإعراض المطلق عن قاضي الفقيه، وبعبارة أخرى: هذا الدليل أخص من المدعى.

وثانياً: إنه لا دليل على حرمة تضعيف الدولة الشرعية إذا كان بالحق؛ وهل ذلك إلا كإعراض الناس عن تقليد أحد الفقهاء أو عن الرجوع إلى أحد القضاة - في زمان عدم استيلاء الفقيه على الحكم - المستلزم لتضعيف مقام هذا الفقيه أو القاضي، وهل يلتزم أحد بذلك؟

فإذا كان المنصوبون من قبل الإمام (عليه السلام) للقضاء متعددين، كان الناس مخيرين في الرجوع لأي واحد شاؤوا، وليس للفقيه أن يلزمهم بالرجوع لمن عينه ككل واجب تخييري، وهذا القدر من التضعيف على فرضه لا بأس به، وهل هو إلا كإعراض الناس عن شراء بضائع الدولة وإقبالهم على شراء بضائع التجار؟ وهل يلتزم بحرمة ذلك لأنه تضعيف للدولة؟ وكذا الأمر في أشباهه وهو كثير؛ وهل يحق للفقيه الحاكم أن ينتخب أحد أفراد الواجب التخييري ثم يجبر الناس على انتخابه بدعوى أن في عدمه تضعيفاً للدولة الشرعية؟

وثالثاً: إن هذا الدليل إن تم يستلزم عدم صحة الإذن العام لكل جامع للشرائط لتولي القضاء، لا عدم الوقوع، والصحة إجماعية، فتأمل.

ص: 639

وأما قوله: (خصوصاً مع ملاحظة...)

ففيه: ما سبق من كون الحجية لهم جميعاً، لأن الأدلة عامة، وكون حجيتهم على الناس في عرض حجية القضاة عليهم، إضافة إلى أن كون شخصٍ حجة لمولى من الموالي، أعم من ثبوت ما له من الحقوق والأحكام الوضعية، له(1) مع بُعد كونه في مقام بيانها.

إضافة إلى أن المقام مما خرج لعمومات وإطلاقات الإذن بتولي القضاء لكل من جمع الشرائط، هذا.

أما المشهور: فظاهر إطلاقاتهم أن لكل من جمع الشرائط أن يقضي بين الناس دون حاجة لإذن الفقيه الحاكم.

قال في الشرايع: (ومع عدم حضور الإمام (عليه السلام) ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت الجامع للشرائط المشترطة في الفتوى، لقول أبي عبد الله (عليه السلام): فاجعلوه بينكم قاضياً فإني جعلته قاضياً فتحاكموا إليه).

وتبعه الجواهر(2)، والمسالك(3)، وغيرهما.

ص: 640


1- لذا كان الأولى الاستدلال ب(فإني قد جعلته عليكم حاكماً) الدال على أن له كل ما هو من شأن الحاكم ومنه نصب القضاة، وفيه: أنه لم يثبت أنه من شأنه ومن حقه عرفاً منع المتحاكمين من اختيار قاضٍ آخر.
2- جواهر الكلام: ج40 ص31.
3- مسالك الأفهام: ج2 ص284.
المسألة الثالثة: هل للفقيه الحاكم عزل القاضي؟

فإن قلنا: باحتياج الفقيه الذي يريد تولي القضاء إلى إذن الفقيه الحاكم، كما احتمله أو قربه السيد الوالد (دام ظله) وقلنا: بأن للفقيه الحاكم أن يعزل قاضيه اقتراحاً - أي دون أن يفقد أحد الشرائط المعتبرة في القاضي ودون أن تقتضي المصلحة ذلك - كما ارتضاه (الجواهر) و(الفقه)، فيعزله لمجرد وجود بديلٍ مساوٍ له مثلاً، فإنه مخير بينهما استمراراً كتخيره ابتداءً، فالموازنة بين الحاكم أو (شورى الحكومة) وبين القاضي أيضاً محفوظة، إذ للحاكم أن يعزل القاضي، وللقاضي بل لأي واحد من أفراد الأمة أن يرفع دعوى على الحاكم فيما إذا حاد عن الصراط، فيترافعان إلى قاضٍ آخر، إذ قد سبق سماع الدعوى على القاضي، كما ارتضاه (الجواهر) و(الفقه) أيضاً.

نعم الغالب في الحكومات إساءة استغلال ذلك، ومصادرة مثل هذا الحق فإن الحاكم يستأثر بالتدريج بكل السلطات، وتكون بيده أدوات الترغيب والترهيب فلا يجرؤ أحد بمرور الزمان على الشكاية على من بيده الأمر، لذا كان اللازم وضع ضمانات وضوابط لضمان ذلك.

وأما لو قلنا: بعدم احتياج الفقيه في القضاء إلى إذن الفقيه الحاكم، كما هو المشهور، وقلنا: بأن له أن يعزل قاضيه الذي نصبه هو اقتراحاً، كما هو المنصور، فإن حفظ التوازن بين الحاكم والقاضي أوضح، إذ للحاكم أن يعزل من نصبه هو للقضاء(1) لا سائر الفقهاء القضاة الذين لم ينصبهم هو.

ص: 641


1- عزله عن المنصب الرسمي وإلاّ فله أن يقضي إذا تروفع إليه.

وعلى هذا فالقضاء سلطة مستقلة عن سلطة الحكومة، إذ كل من جمع الشرائط له أن يتولى القضاء وليس للحاكم عزل من لمينصبه هو منهم، وكما تسمع دعوى القاضي على الحاكم تسمع دعوى الحاكم على القاضي.

وأما لو قلنا: بعدم احتياج الفقيه في القضاء إلى إذن الفقيه الحاكم، وقلنا: بعدم صحة عزله لقاضيه اقتراحاً كما انتخبه الشرايع وبعض آخر، فاستقلال القوة القضائية عن الحاكم أو شورى الفقهاء أوضح، فإن دعوى كل منهما على الآخر مسموعة، وليس له أن يعزل من نصبه اقتراحاً، بل إذا كانت المصلحة في ذلك، فإن ادعى القاضي عليه أنه عزله اقتراحاً سمعت الدعوى وترافعا إلى قاضٍ آخر، فلا يتيسر لهذا أن يحيد عن الحق، كما لا يسهل على ذاك.

ص: 642

ص: 643

خاتمة

اشارة

في بيان عدم استلزام شمول أدلة الحجية للمتعارضين الجمع بين الممتناقضين أو المتضادين

ص: 644

ص: 645

أدلة حجية المتعارضين وعدم التضاد والتناقض

حيث قد سبق كثيراً في الكتاب الاستناد إلى شمول أدلة الحجية للمتعارضين، وإدعاء عدم محالية ذلك، كان من المحبذ التطرق لذلك مستوعباً فنقول:

قال السيد الخوئي (مد ظله) في التنقيح: (ويرد على التمسك بالإطلاق، أنا ذكرنا غير مرة أن إطلاق أدلة الحجية لا يشمل المتعارضين، ولا مجال فيها للتمسك بالإطلاق، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية، كما إذا ورد خبران دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته، أو قامت بينة على طهارة شيء والأخرى على نجاسته، فإنه لا يشمل أدلة اعتبار الخبر أو البينة أو غيرهما من الحجج والأمارات شيئاً منها، وسرّه أن شمولها لكلا المتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين، وشمولها لأحدهما المعين دون الآخر بلا مرجح، ولأحدهما المخير، أعنى أحدهما لا بعينه، لا دليل عليه، لأن مفاد أدلة الاعتبار إنما هي الحجية التعيينية لا حجية هذا أو ذاك. إذاً مقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين، اللهم إلا أن يقوم دليل على ترجيح أحدهما أو على التخيير كالأخبار العلاجية، وهو مختص بالخبرين المتعارضين ولا دليل عليه في سائر الدليلين المتعارضين، والمقام من هذا القبيل، فإطلاقات أدلة التقليد غير شاملة لفتويي الأعلم وغيره مع المعارضة، بل لابد من الحكم بتساقطهما كما في غير المقام).(1)

ص: 646


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص137.

وربما يورد عليه بوجوه:

الوجه الأول:

الأول: النقض(1) في الشبهات الموضوعية، بمن قامت عنده البينة على نجاسة شيء، فوظيفته الاجتناب عنه، كما أن من لم تقمعنده البينة على نجاسته وظيفته الحكم بطهارته، حسب قاعدة الطهارة، لتحقق موضوعها بالوجدان وهو الشك في الطهارة، وقد التزم بذلك في التنقيح(2)، فكما يستحيل اعتبار المتضادين أو المتناقضين يستحيل الاعتبار وعدم الاعتبار، ولا فرق بين وجود دليل واحد يستلزم بعمومه الجمع بين الضدين أو النقيضين وبين وجود دليلين يدل أحدهما على أحد النقيضين أو الضدين والآخر على الآخر.

ولو قيل: إن الاعتبار بالنسبة إلى شخص وهو من قامت عنده البينة، وعدم الاعتبار بالنسبة إلى شخص آخر وهو من لم تقم(3)، أو بالنسبة إلى جزء دون آخر.

قلنا: الجواب الجواب، إذ نقول حجية رأي الأعلم واعتباره لمقلده أو للآخذ بقوله، واعتبار ذاك الآخر لمقلده.

ولا يلزم من شمول أدلة الحجية لكليهما الجمع بين الضدين أو المتناقضين، إذ هذا يتم لو التزمنا بوجوب تقليد العامي لجميع المجتهدين، وهو واضح البطلان، أما لو التزمنا بوجوب تقليد العامي مجتهداً واحداً في المسألة المعينة، فلا يلزم من اعتبار الرأيين الجمع بين المتضادين، لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الامتثال، إذ لم يعتبرا في حق شخص واحد، بل اعتبر كل في حق مقلِّد، ولا يلزم من اعتبار الوجوب في حق شخص وهو مقلد زيد مثلاً، واعتبار الحرمة في حق آخر وهو مقلد عمرو مثلاً، التضاد، كما لا يخفى لعدم وحدة المتعلق.

ص: 647


1- لا يخفى أن هذا الجواب متضمن للجواب الحلي أيضاً وسيأتي بعد أسطر.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص43.
3- وذلك مستلزم لكون أحد الحكمين واقعياً والآخر ظاهرياً فتأمل (وسيأتي وجهه).

فكما أن اعتبار الطهارة في حق زيد وعدم اعتبارها في حق زيد نفسه مستلزم للتناقض، دون اعتبارها في حق زيد وعدم اعتبارها في حق عمرو، ولو لتبدل الموضوع على ما ذكره (دام ظله)(1) كذلك اعتبار الحرمة وهي فتوى المرجع الأول، واعتبار الوجوب وهي فتوى المرجع الثاني، في حق شخص واحد أو في حقشخصين.

هذا مع وضوح أنَّ من ادعى شمول إطلاقات أدلة الحجية لصورة التعارض لم يدع حجيتهما معاً وبشرط شيء في حق الشخص الواحد، بل أراد حجية رأي هذا لمقلده فقط، وذاك لمقلده فقط، هذا بناءً على عدم جواز العدول أو التبعيض في التقليد، أما بناءً على جوازهما فالأمر كذلك، إذ لم يقل باعتبار كلا الرأيين ولزوم اتباعهما في زمن واحد بل في زمنين، ففي زمن تقليد هذا رأيه حجة، وفي زمن الأخذ برأي الآخر رأيه هو الحجة.

ولا يرد ما ذكره في المصباح بقوله: (لا يقال: يمكن تقييد الحجية في كل منها بالأخذ به، ونتيجة ذلك هو التخيير وجواز الأخذ بأي منها شاء المكلف، فإنه يقال: كلا، فإن لازمه أن لا يكون شيء من المتعارضين حجة في فرض عدم الأخذ بهما أصلاً، فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع فيتمسك بالبراءة لو لم يكن في البين دليل آخر من عموم أو إطلاق أو أصل مثبت، للتكليف، ولا يلتزم القائل بالتخيير بذلك، ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل، فإنه لو تمت الأخبار الدالة على التخيير في تعارض الخبرين فهي بنفسها تدل على لزوم الأخذ بأحدهما، وعند تركه يؤاخذ بمخالفة الواقع، نظير الشبهات قبل الفحص التي لا تجري البراءة فيها، وهذا بخلاف ما إذا استفيد التخيير من تقييد دليل الاعتبار فإن مفاده بناءً على التقييد ليس إلا حجية كل من المتعارضين في صورة الأخذ بواحد منها ولا تعرض له لوجوب الأخذ

ص: 648


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج1 ص43.

وعدمه).(1)

إذ يرد عليه:

أولاً: إن دلالة أدلة التخيير على لزوم الأخذ بأحدهما لا يرفع الإشكال، إذ إن حجية كل منهما لو قيد بالأخذ به فإنها سترتفع بعدم الأخذ بها، وجب الأخذ أو لم يجب، فليس وجوب الأخذ فارقاً بين ما لو ثبت التخيير بالدليل وما استفيد من تقييد دليل الاعتبار.

وبعبارة أخرى: لو لم يأخذ بأحدهما فعل محرماً تكليفاً، أما وضعاً فكلاهما ليس بحجة لفرض كون الحجية مقيدة بالأخذ، ولا يلتزم هو (دام ظله) بذلك (كما لم يكن القائل بالتخيير فيما لو استفيدمن تقييد دليل الاعتبار ملتزماً بذلك)، أتراه يلتزم في موارد التخيير الثابت بالدليل - بناءً على تمامية الأخبار الدالة على التخيير في تعارض الخبرين(2) - بعدم حجية كلا الخبرين، وإن كان يستحق العقاب بتركهما؟.

هذا إضافة إلى أسوئية الأمر ههنا: إذ كيف يستحق العقاب على مخالفة ما ليس بحجة (سواء قلنا إن الحجية بمعنى جعل المماثل، أو بمعنى المنجزية والمعذرية، أو بمعنى الكاشفية والطريقية وجعل ما ليس بعلم علماً على ما مسلكه)(3)، مع كون وجوب الأخذ بأحد الخبرين طريقياً، فإذا لم يكونا حجة يعني أنهما ليسا بطريقين ولا كاشفين، وكيف يكون ترك الأخذ بما ليس بطريق ولا كاشف محرماً مستحقاً عليه العقاب، اللهم إلا أن يلتزم بالوجوب النفسي وهو كما ترى، فتأمل.(4)

ص: 649


1- مصباح الأصول: ج3 ص366-367.
2- إذ إن كلامه (مد ظله) في هذا الفرض وعلى هذا المبنى.
3- التنقيح: ج1 ص243.
4- وجهه: إمكان أن يلتزم بحرمة التسبيب لعدم الحجية (أي يحرم عدم الأخذ بها المسبب ◄ ►لعدم الحجية فتأمل، وقد يقال في وجهه أمر آخر).

ثانياً: سلمنا رفعه للإشكال، لكن نقول: ههنا أيضاً - أي في صورة استفادة التخيير من تقييد دليل الاعتبار - لنا دال على لزوم الأخذ بأحدهما، وإن لم يكن الدليل اللفظي الدال على حجية كل في صورة الأخذ به، دالاً على لزوم الأخذ:

وهو: العلم الإجمالي بأن أحدهما طريق، ولو لم يبتل بالمعارض لكان اللازم الأخذ به، والعلم بأن في تركهما المخالفة القطعية، فتأمل(1).

أو نقول: بناء العقلاء على لزوم الأخذ بأحدهما، (إذ لا شك في كون بنائهم على لزوم الأخذ بقول أحد الخبيرين إذا تعارضا لا طرحهما والرجوع إلى أصل البراءة أو الاشتغال مثلاً، لا أقل منمسلمية بنائهم على ذلك عن تعارض الأعلم وغيره، فتأمل).(2)

ثالثاً: إن المحذور الثبوتي الذي ذكره لا يرتفع فيما لو دل الدليل الخارجي على لزوم الأخذ بأحدهما فيما لو تمت دلالة الأخبار على التخيير، كما ادعاه إذ نعود فنسأل في صورة وجود الدال على لزوم الأخذ بأحدهما فهل أحدهما المأخوذ به حجة مطلقاً، أم مقيداً بترك الآخر، أم مقيداً بالأخذ به؟ فإن كان حجة مطلقاً لزم التعبد بالمتناقضين أو المتضادين على ما ذكره، وإن كان حجة بشرط ترك الآخر لزم اتصاف كل منهما بصفة الحجية عند ترك الأخذ بهما، فيعود محذور التعبد بالمتناقضين على ذكره أيضاً، وإن كان حجة بشرط الأخذ به لزم أن لا يكون شيء من المتعارضين حجة في فرض عدم الأخذ بهما أصلاً كما ذكره

ص: 650


1- إذ قد يقال باحتمال كون غيرهما طريقاً، أو يقال بعدم منجزيته فيما لو كان المتعلق أمرين متعارضي الطريقية فتأمل.
2- إذ لو سلم بناؤهم في هذه الصورة، فهو على تقليد الأعلم لا على لزوم الأخذ بأحدهما، إلا أن يقال: إن لزوم تقليد الأعلم يستفاد من بنائهم، وتعميم الحجية يستفاد من إطلاقات أدلة التقليد، وبضمها مع عدم إمكان الجمع يستفاد لزوم الأخذ بأحدهما، فتأمل.

أيضاً، ومن الواضح أنه لا يمكنه الالتزام بحجية أحدهما بعينه لما ذكره أيضاً من لزوم الترجيح بلا مرجح، فراجع المصباح(1)، وكلما أجاب به عن هذا الإشكال نجيب به على إشكاله على ما نحن فيه، فليدقق.

وبعبارة أخرى: حجية كل منهما مشروطة بترك الآخر أو بالأخذ به أولاً... إلخ.

الوجه الثاني:

الوجه الثاني: إن الحجية إن كانت بمعنى المنجزية والمعذرية كما التزمه الآخوند (قدس سره) فلا يلزم من التعبد بالمتعارضين وجعلهما حجة الجمع بين الضدين أو النقيضين والتعبد بهما، إذ لا مانعة جمع بين كون كلا الرأيين المتعارضين - مثلاً - معذرين فيما لو أخطأ، فكلاهما للعبد أن يعتذر بهما عن المخالفة(2)، وكون أحدها منجزاً والآخر معذراً لو أصاب أحدهما، وكونهما معذرين يتصور حتى في حق الشخص الواحد في المورد الواحد، أما كون أحدهما منجزاً والآخر معذراً في حق الشخصين - وهما مقلدا المرجعين -فواضح، أما كونهما معاً في حق شخص واحد بل وفي مسألة واحدة أيضاً فيمكن تصويره أيضاً بأن تكون المنجزية واحتجاج المولى على العبد واستحقاقه العقاب مشروطة بعدم سلوك الآخر أو مشروطة بالأخذ به، والإشكال عليه مندفع بما سبق.

وإن كانت بمعنى جعل المماثل:

فكذلك أيضاً إذ لا مانع(3) من جعل حكمين ظاهريين على طبق مؤدى الأمارة لشخصين أو جعل الحكم المماثل في حق من أصاب ومقلده وعدم جعل شيء في حق من أخطأ أو بالعكس (بأن يجعل حكم على طبق مؤدى الأمارة إن خالفت الواقع ولا يجعل شيء إن أصابته) (ومن هنا قالوا إن ظنية الطريق لا تنافي

ص: 651


1- المصباح: ج3 ص336-337.
2- وقد التزم في التنقيح بذلك في صورة عدم العلم بالمخالفة، فراجع ص166.
3- أي لا يلزم المانع الذي ذكره (دام ظله) من الجمع بين الضدين أو النقيضين.

قطعية الحكم).(1)

وإن كانت الحجية بمعنى جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً، أعني جعل الطريقية إلى الواقع، على ما هو مسلكه(2) والذي يكون أثره تنجيز الواقع على تقديل المصادفة والتعذير عنه على تقدير الخطأ(3) فالأمر أيضاً كذلك، أي لا يستحيل جعل المتعارضين حجة ولا يستلزم ذلك الجمع بين الضدين أو النقيضين، إذ أي جمع بين الضدين أو النقيضين في جعل هذا طريقاً إلى الواقع ونازلاً منزلة العلم في حق مقلد زيد، وجعل ذاك طريقاً إلى الواقع ونازلاً منزلة العلم في ترتيب الآثار في حق مقلد عمرو؟

وكما لا تستلزم حجية رأي كلِّ فقيه لنفسه - على هذا المبنى وعلى سائر المباني، حتى في صورة تعارض آراء الفقهاء والمجتهدين - الجمع بين النقيضين أو الضدين، لا في مرحلة الامتثال ولا في مرحلة الجعل، كذلك لا تستلزم حجية رأي كل فقيه لمقلده ذلك، بل هو أولى لتبعية حجية رأي الفقيه لمقلده، لحجية رأيه لنفسه، ولجعل الشارع الطريقية للواقع لآرائه، فتأمل.

ولا يريد القائل بشمول أدلة الحجية للفتويين المتعارضتين أزيدمن ذلك، أي حجية رأي كل فقيه لمقلده، وجواز تقليد كل شخص لأي مجتهد ابتداءً، أو ابتداءً واستمراراً، ولا مانعة جمع بين الاعتبارين، كما لا مانعة جمع بين اعتبار هذه الدار ملكاً لزيد وتلك لعمرو، واعتبار هذه ملكاً لزيد دون عمرو.

بل لنا أن نقول: إن كونهما حجة في حق الشخص الواحد في المورد الواحد لا يستلزم محذوراً، بيانه: إن تنزيل ما ليس بعلم منزلة العلم، إنما هو بلحاظ الأثر، فإذا كانت الآثار متعددة أمكن التنزيل بلحاظ هذا الأثر وعدمه بلحاظ

ص: 652


1- التنقيح: ج1 ص243-244.
2- التنقيح: ج1 ص166.
3- التنقيح: ج1 ص166.

ذاك، أو تنزيل هذا بلحاظ الأثر وتنزيل ذاك بلحاظ ذاك، فيمكن جعل الفتويين حجة لزيد مثلاً بمعنى تنزيلهما منزلة العلم، فتنزل هذه الفتوى بالحرمة منزلة العلم بها في المنجزية(1)، وتلك منزلة العلم بالوجوب في المعذرية، لو كانت الأولى مصيبة في نفس الأمر والثانية مخطئة، أو ينزل كلاهما منزلته في المعذرية(2) لو كانتا مخطئتين في متن الواقع، ولا تلزم اللغوية من التنزيلين، إذ قد تكون لمصلحة التسهيل والتوسعة على المكلفين، أو لغير ذلك من المصالح، إذ في تنزيلهما منزلة العلم وتسويغ الرجوع إلى المتساويين في العلمية أو إلى الأعلم وغيره تسهيلاً وتوسعةً لا تخفى على الناظر، ولا منافاة بين التنزيلين والاعتبارين إذ اعتبار هذه الصلاة - كالجمعة مثلاً - واجبة، لتنزيل الفتوى بها منزلة العلم بها، بلحاظ المنجزية مثلاً، واعتبار تلك - كالظهر مثلاً - واجبة بلحاظ المعذرية، ولا تنافي بين الاعتبارين في مرحلة الجعل، كما اعترف به (دام ظله)(3)، ولا في مرحلة الامتثال إن التزمنا بكون اتباع أحد القولين مسقطاً للآخر عن الحجية والجعل التنزيلي بأن كانت حجية كل منها مشروطة بالأخذ به، والخلاصة: تعدد الأثر ينتج إمكان التعبد بها جعلاً، وعدم إمكان الجمع امتثالاًينتج التخيير، ومشروطية كلِّ بالأخذ به، وبعبارة أخرى: يوجب رفع اليد عن إطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى كل منها،فتأمل جداً.(4)

الوجه الثالث: إن الدليل الذي أقامه - وهو لزوم الجمع بين الضدين أو النقيضين، على فرض تسليمه - أعم من المدعى ومما يضاده.

ص: 653


1- وحينئذٍ تكون منجزية هذا ومعذرية ذاك مشروطة بالأخذ به لاستحالة كونها مطلقة.
2- والمعذريتان وإن لم تتعددا نوعاً، إلا أنها متعددتان شخصاً لاستحالة صدور الواحد الشخصي من علتين مستقلتين اجتماعاً وتبادلاً وتعاقباً.
3- مصباح الأصول: ج2 ص108.
4- هذا المبحث يرتبط من وجه، ببحث اجتماع الأمر والنهي، وحيث إنه واد عميق نتركه لمحله.

بيان ذلك: إن محالية الجمع يقتضي أحد أمرين على سبيل البدل، أحدهما: عدم شمول دليل الحجية للمتعارضين، وثانيهما: شموله لهما ورفع اليد عن إطلاقهما المقتضي للتعيين.

وبعبارة أخرى: إن محذور الجمع بين الضدين والنقيضين يرتفع بكل واحد منهما، ولا يكون اللازم الأعم دليلاً على أحد الملزومين بعينه،إذ الاستحالة لازمة للشمول مع الإطلاق وترتفع بارتفاع الشمول كما ترتفع بارتفاع الإطلاق.

وبعبارة أدق: لا يستلزم بطلان ومحالية اللازم المتفرع على مجموع الموصوف والصفة عدم خصوص الموصوف، بل يتم مع عدم خصوص الصفة، (الموصوف: الحجية)، و(الصفة: إطلاقها)، وقد صرّح هو أيضاً بوجود هذين الإطلاقين، أي إطلاق أدلة الحجية لشمولها هذه الفتيا وتلك، وإطلاق آخر من جهة أخرى وهو حجية كل منهما أخذ بالآخر أم لم يؤخذ به، كما صرح بعدم إمكان الأخذ بإطلاقها من كلتا الجهتين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين(1)، ومن الواضح ارتفاع المحذور برفع اليد عن أيهما كما أوضحناه قبل قليل، بل نقول إن الإطلاق من الجهة الأولى لكونه غير مستلزم للجمع بينهما، بل لعدم وجود التعارض بين ما شملهما هذا الإطلاق لا مقتضي لرفع اليد عنه، وإنما يجب أن يرفع اليد عن الإطلاق الثاني، لكون التعارض والتهافت ناشئاً من قبله، إذ به يوجد التعارض، وبعدمه يرتفع، ومن المسلم أن التساقط على فرض تسليمه فرع التعارض، فإذا كان التعارض في جهة خاصة وناشئاًمن قبلها وهو جود الإطلاق الثاني، كان التساقط في تلك الجهة.

وبذلك اتضح عدم تمامية ما ذكره في التنقيح من: (أن الحجية في المتعارضين إذا كان بالإطلاق، فلوجود إطلاق من جهة أخرى، أي حجية كل

ص: 654


1- التنقيح: ج1 ص139.

منهما، أخذ بالآخر أم لم يؤخذ به، يكون رفع المعارضة بينها منحصراً في أحد صور هي:

1: رفع اليد عن كلا الإطلاقين في أحدهما والالتزام بهما في الآخر، أي الالتزام بحجية أحد المتعارضين دون الآخر رأساً.

2و3: الالتزام بكلا الإطلاقين في أحدهما، وبالإطلاق الأول فقط في الآخر، أي أن تكون حجية أحدهما - كفتوى الأعلم - مطلقة وحجية الأخرى - كفتوى غير الأعلم - مقيدة، وبالعكس.

4: الالتزام بالإطلاق الأول في الاثنين، ورفع اليد عن الإطلاق الثاني في كليهما، أي الالتزام بحجية كل منهما مقيدة بما إذا لم يؤخذ بالآخر مثلاً، وحيث إن شيئاً من ذلك لا مرجح له، فلا يمكننا التمسك بالإطلاق في شيء من المتعارضين لا في أصل الحجية ولا في إطلاقها، وتقييدها وهو معنى التساقط كما قدمناه)(1) انتهى مع تلخيص وإضافة توضيحية.

إذ إن التعارض إذا كان ناشئاً من الإطلاق الثاني كان الالتزام بغير الصورة الرابعة ترجيحاً بلا مرجح لا بها، فإن الإطلاق الأول لا مقتضي لرفع اليد عنه، لعدم طرو التعارض من قبله، ورفع اليد عن الإطلاق الثاني في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فلا محيص عن رفع اليد عنه فيهما، إذ الالتزام به فيها مستلزم للتعبد بالمتناقضين أو المتضادين على ما ذكره.

ومما يؤيد ذلك بل يدل عليه: ما إذا ورد (أكرم العلماء) مثلاً، وعلمنا خارجاً أن زيداً وصديقه مثلاً لا يشملهما حكم واحد أبداً، ومثله ما لو كان المكلف عاجزاً عن الجمع، فدار الأمر بين الحكم بعدم وجوب إكرامهما للتساقط، وبين التحفظ على الوجوب في كليهما ورفع اليد (عن) إطلاقهما في

ص: 655


1- التنقيح: ج1 ص139.

التعيين - وهو الإطلاق الثاني - فإنهيتعين حينئذٍ الأخير، وهو يقتضي الحكم بوجوب كل منهما تخييراً(1)، وهذا ما التزم به السيد الخوئي (دام ظله) وأضاف: (ومعه لا مقتضي في المقام لرفع اليد عن حجية فتوى الأعلم وغيره أعني الحكم بتساقطهما، بل لابد من الأخذ بالحجية في كلتا الفتويين ورفع اليد عن إطلاقهما المقتضي للتعيين، وهذا ينتج حجية كل منهما على وجه التخيير).

وأما ما ذكره (دام ظله) من الجواب عن هذا الإشكال ب: (ويرده أن موارد التعارض بين الدليلين التي منها المقام لا يمكن قياسها بما إذا كان لكل من الدليلين نص وظاهر، وأمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر من كل منهما على نص الآخر، فإن القياس مع الفارق، إذ في تلك الموارد لا مقتضي لرفع اليد عن كلا الوجوبين، بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب ويطرح ظاهرهما في التعيين، فتكون النتيجة هي الوجوب التخييري كما مر، وأما في أمثال المقام التي ليس للدليلين فيها نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والإطلاق فلا مناص عن الحكم بتساقطهما، فإن الحجية في المتعارضين إذا كانت بالإطلاق).(2)

فيرد عليه:

عدم تمامية بل عدم وجود الفرق الذي ذكره بين ما نحن فيه وبين الدليل الواحد، بالإضافة إلى أفراد موضوعه كما إذا ورد (أكرم العلماء) ... إلخ، إذ إن أصل شمول (أكرم العلماء) لهذا الفرد كزيد في المثال، وذاك كصديقه، إنما هو بالظهور والعموم لا بالنص، إذ إن العام نص في العموم لا في هذا الفرد وذاك(3)، ولذا كان الخاص مقدماً عليه لكون الخاص نصاً في الفرد، والعام ظاهراً فيه كما صرحوا بذلك أجمعين، كما أن المطلق نص في الإطلاق لا في

ص: 656


1- التنقيح: ج1 ص138.
2- التنقيح: ج1 ص138-139.
3- فعلى الأول دلالته بالمطابقة وعلى الثاني بالتضمن.

الفرد، وكما أن الكل نص فيه لا في الجزء، ففي الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراد موضوعه ليس لنا نص وظاهر، أي نص فيوجوب إكرام زيد وظهور في كونه تعيينياً، بل لنا ظاهران، ظهور في شمول أكرم العلماء لزيد، وظهور في كونه تعينياً، أي غير مقيد بترك الأخذ والعمل بالآخر، فكما ترفع اليد - في مورد الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراده فيما لو علم عدم شمول الحكم الواحد لزيد وصديقه المستلزم للتعارض لو تحفظنا على كلا الإطلاقين على الوجوب والتعيين - عن الظهور الثاني لا الأول، كذا فيما نحن فيه.

وبتعبير أدق: ما نحن فيه صغرى هذه الكبرى، التي سلم رفع اليد فيها عن الظهور في التعيين، لا عن أصل الوجوب، وهو الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراده، إذ إن عنوان (العالم) و(الفقيه) وغيرهما من العناوين الواردة في الروايات يكون الفقيهان فردين لتلك العناوين التي هي موضوعات للحجية ولزوم الأخذ والاتباع، وحيث نعلم عدم إمكان شمول هذا الحكم للفقيهين المختلفين في الفتوى يدور الأمر بين رفع اليد عن أصل حجية قولهما، وبين التحفظ على ذلك ورفع اليد عن الإطلاق في التعيين، فهذه إذاً صغرى الكبرى التي ذكرها من الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراد موضوعه... إلخ.

وهو قد سلم شمول هذه العناوين للفقيهين في صورة عدم الاختلاف، وكذا في صورة عدم العلم بالاختلاف، وأنكر شمولها لهما في صورة العلم بالاختلاف للمانع الذي ذكرناه عنه أول البحث، ولذا قال: (ولا مانع من أن تشمل إطلاقات أدلة الحجية فتوى كل من المجتهدين المتساويين)(1) أي في صورة عدم العلم بالخلاف، وأكثر صراحة من ذلك ما ذكره قبل ذلك بصفحات ذيل المسألة 12 فليراجع(2).

ص: 657


1- التنقيح: ج1 ص166.
2- التنقيح: ج1 ص159 فصاعداً.

والغرض من ذكر هذا الكلام: بيان أنه يرى لتلك العناوين عموماً أو إطلاقاً، ويرى حجية تلك الأدلة اللفظية، مثل (أكرم العلماء) في المثال، إلا أنه منع عن شمولها لصورة العلم بالمخالفة لمانع، فنقول له: عدم إمكان شمول الحكم للفردين يستلزم دورانالأمر بين الحكم بعدم الحجية إطلاقاً،عدم الإطلاق الأول، وبين التحفظ على الحجية في كليهما ورفع اليد عن إطلاقهما في التعيين، والثاني هو المتعين حسب الضابط الذي ذكره في أفراد موضوع الدليل الواحد، فليتدبر جيداً.

والخلاصة:

أنا نقول: قوله: (بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب...) إن أريد كون الدليل الواحد المذكور في عبارته سابقاً نصاً في وجوب هذا الفرد، ففيه: أنه ظاهر فيه لا نص، ومع كونه ظاهراً إذا قدم الإطلاق الأول على الثاني كان ما نحن فيه منه، وإن أريد كونه نصاً في طبيعي الوجوب المراد منه الطبيعة المهملة، ففيه: أن أدلة الحجية كذلك أيضاً نص في طبيعيها، فما الفارق؟

ومن ذلك كله ظهر عدم تمامية ما ذكره أخيراً: (وحيث إن شيئاً من ذلك لا مرجح له...).

ومما يدل أيضاً على ما ذكرنا (من أن التعارض إذا كان ناشئاً من الإطلاق الثاني...) ما التزمه هو (دام ظله) في باب التعادل والتراجح في المتعارضين بالعموم من وجه(1) حيث التزم فيما لو كان العموم في كل منهما مستفاداً من الإطلاق بسقوط الروايتين في مادة الاجتماع - بلا رجوع إلى المرجحات - لا غير، معللاً ذلك بعدم التعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما، لكون اللفظ موضوعاً للمهية المهملة المعبر عنه باللابشرط المقسمي، ولا تنافي بين الحكم بوجوب إكرام

ص: 658


1- مصباح الأصول: ج3 ص429-430.

العالم على نحو الإهمال وحرمة إكرام الفاسق كذلك، وحيث إن الإطلاق - وهو خارج عن مدلول اللفظ - فيهما مستلزم للجمع بين الضدين، أي أن التعارض ناشٍ منه لا من الدليلين بما هما مع قطع النظر عن الدال الخارجي على الإطلاق وهو مقدمات الحكمة، نرفع اليد عنهما، إذ رفع اليد عن أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

ولا يخفى أن ما التزمه هنا من سقوط ما نشأ التعارض من قبله لا غير، يجري بعينه فيما نحن فيه من شمول أدلة الحجيةللمتعارضين، لو قيل بأن الشمول والعموم بالإطلاق، حيث نشأ التعارض من الإطلاق الثاني لا الأول، فكيف يقال بأن الصورة الرابعة - وهي رفع اليد عن الإطلاق الثاني في كليهما دون الإطلاق الأول فيهما - ترجيح بلا مرجح، مع انطباق الملاك المذكور في المصباح على ما نحن فيه مما ذكره في التنقيح(1)، بل رفع اليد عن كلا الإطلاقين بلا مرجح وبلا مقتض، بل مع مقتضي العدم كما لا يخفى.

وأما فيما لو كان العموم في كل منهما - أي العامين من وجه - بالوضع، فملخص كلامه(2): إنه حيث كان حجية الكلام مما يتعدد بتعدد المدلول دون تعدد الدال، أمكن التفكيك باعتبار المدلول، فلو سقط بعض المدلول (وهو مادة الاجتماع) عن الحجية - ولا وجه لسقوطه إلا التعارض كما لا يخفى - لم يكن وجه لسقوط بعضه الآخر (وهو مادة الافتراق)، وما ذلك إلا لعدم نشوء التعارض من قبله، ومبنى هذا الكلام كما ترى يجري بعينه فيما نحن فيه - لو كان شمول أدلة حجية فتوى الفقيه بالوضع - حيث كان التعارض ناشئاً من إطلاق حجية كل من الفتويين أخذ بالآخر أو لا مثلاً، وهذا هو الإطلاق الثاني، لا من

ص: 659


1- والخلاصة أن الأخذ بالعامين من وجه في مادة الافتراق دون الاجتماع ليس بلا مرجح، إذ التعارض في الثانية دون الأولى فكذا في الإطلاقين.
2- مصباح الأصول: ج3 ص428-429.

الإطلاق الأول(1)، وهو شمول دليل الحجية للاثنين مهملاً، أي أصل حجية كل منهما لا الحجية المطلقة لكل منهما.

ومن الواضح عدم جريان ما ذكره في الدلالة الالتزامية، حيث تسقط بسقوط المطابقية على مبناه من تبعيتها للمطابقية ثبوتاً وإثباتاً، تبعية المعلول لعلته فيما نحن فيه، وذلك لعدم تبعية الإطلاق الثاني للأول، وعدم كونه لازماً له كما لا يخفى، إذ مع تمامية الأول يمكن أن يوجد الثاني - لو تمت مقدمات الحكمة فيه ولم يوجد مانع كاستلزامها الجمع بين الضدين أو النقيضين - ويمكن أن لا يوجد لولم تقم ووجد مانع، فتدبر.(2)

هذا إضافة إلى أن الشمول لمورد الافتراق إن كان بالنص، فلمورد الاجتماع كذلك، وإن كان بالظهور كما هو الحق، فلمورد الاجتماع كذلك، فيدخل ما نحن فيه تحت كبراه المذكورة في التنقيح: (ويرده أن موارد التعارض بين الدليلين التي منها المقام لا يمكن قياسها بما إذا كان لكل من الدليلين نص وظاهر وأمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر من كل منهما على نص الآخر، فإن القياس مع الفارق، إذ في تلك الموارد لا مقتضي لرفع اليد عن كلا الوجوبين، بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب ويطرح ظاهرهما في التعيين، وتكون النتيجة هو الوجوب التخييري كما مر، وأما في أمثال المقام التي ليس الدليلان فيهما نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والإطلاق، فلا مناص من الحكم بتساقطهما...)(3)، وبذلك ظهر التناقض بين كلاميه، فدقق.

ص: 660


1- المذكور في التنقيح: ج1 ص139 السطر الأول.
2- هذا ولنا إشكالات عديدة على أصل ما التزمه في العامين من وجه (من ص427 إلى 430) أضربنا عنها لعدم ارتباطها بما نحن فيه.
3- التنقيح: ج1 ص138.

الوجه الرابع:

إن العرف والوجدان حاكمان بعدم التساقط في صورة التعارض، بل بالرجوع إلى المرجح إن كان، وإلا فالتخيير، ألا ترى أن من أضاع الطريق في مَسبعة، أو حتى في مكان عادي، فدلّه خبير على طريق، وآخر على آخر، ألا تراه إن فقد المرجح يرى التخيير بين الطريقين لا التساقط والرجوع إلى الأصل، كما أنه لا يسلك الطريق الثالث، وإن احتمل بدواً بلا قيام أمارة عليه كونه موصلاً، ولو كان المولى قد أمره سلوك ما أخبره به أي عبد من عبيده فأخبره كل بطريق، ألا تراه إن سلك أحدهما معذوراً، دون ما لو سلك الثالث؟ وألا يرى نفسه إن سلك أحدهما بريء الذمة دون ما لو سك الثالث؟ وكذا لو أمره بإعطاء الدرهم لأحوج فقير أخبره عنه أحد مواليه، فأخبره مولى أن هذا هو الأحوج، وآخر أن ذاك هوالأحوج، أتراه يحق له إعطاؤه لثالث، يحتمل بدواً أحوجيته؟

وبذلك ظهر أيضاً ما في التزامه بعدم الإشكال في الالتزام بالثالث بعد سقوط المتعارضين عن الحجية بالنسبة للمدلول المطابقي للمعارضة(1)، بل يمكن أن يكشف إنَّاً من عدم جواز سلوك الثالث وجداناً وعرفاً ولو مع احتماله بدواً، إن المتعارضين غير متساقطين، فتدبر، وبذلك يكون العرف والوجدان هو المرجح للالتزام بالصورة الرابعة من صوره الآنفة الذكر(2).

ص: 661


1- مصباح الأصول: ج3 ص370.
2- وبعبارة أخرى: الأمر يدور بين كون عدم إمكان الإطلاق الثاني دليلاً على عدم الشمول أصلاً، أو الشمول قرينة مُقامية على عدم الإطلاق الثاني، والعرف والوجدان يحكمان الثاني، أي يرون شمول دليل الحجية للاثنين ورفع اليد عن إطلاقهما الثاني.

الوجه الخامس:

النقض بما لو تبدل رأي المجتهد، فعليه أن يلتزم بعدم حجية كلا الرأيين، إذ شمول أدلة الحجية لهما مستلزم للتناقض أو التضاد على ما ذكره، فتأمل(1)، وبما لو تناقض رأي أعلم هذا الزمان مع أعلم زمان سابق، أو مع مطلق من كان فقيهاً، فلو لم يلزم التناقض في مرحلة الامتثال - لتعدد الزمان أو المكلف، مما يكون جواباً أيضاً عن شمول دليل الحجية للمتقارنين - لزم في مرحلة الجعل، لكون موضوع الأحكام الكلي الطبيعي والزمان ظرف، فتأمل. اللهم إلاّ أن يلتزم بكلا النقضين، فتأمل.

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين..

ص: 662


1- إذ قد يجوز له اتباع الرأي الأول - لعدم العلم بأنه سيوجد له رأي مخالف - فتندرج هذه الصورة في صورة الجهل بالمخالفة (الأعم من السالبة بانتفاء الموضوع) التي التزم فيها يجواز التقليد.

ص: 663

المصادر

القرآن الكريم

نهج الفصاحة

نهج البلاغة

* 1: التفاسير

تفسير علي بن إبراهيم القمي

التبيان

التفسير الكبير

تفسير ابن عباس

تفسير ابن أثير

تفسير ابن كثير

تفسير الخازن

الجواهر في تفسير القرآن الكريم

روح المعاني

الكشاف

الميزان في تفسير القرآن

الفرقان في تفسير القرآن

المنار

مدارك التنزيل وحقائق التأول

مجمع البيان

ص: 664

* 2: كتب الحديث

بحار الأنوار

تحف العقول

عوالم العلوم والمعارض والأحوال

غرر الحكم

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة

مستدرك الوسائل

* 3: الكتب الفقهية:

مستند الشيعة في أحكام الشريعة

مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة

مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام

المكاسب

حاشية الإيرواني على المكاسب

حاشية الأصفهاني على المكاسب

حاشية المكاسب لليزدي

هداية الطالب إلى أسرار المكاسب

العروة الوثقى

مستمسك العروة الوثقى

التنقيح في شرح العروة الوثقى

شرح العروة الوثقى

نهج الفقاهة

الاجتهاد والتقليد (الفقه)

الحكم في الإسلام (الفقه)

الواجبات والمحرمات (الفقه)

ص: 665

البيع (الفقه)

القضاء (الفقه)

مهذب الأحكام

المحاكمة في القضاء

دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية

* 4: الكتب الأصولية

الرسائل

حاشية الآخوند على الرسائل

بحر الفوائد في شرح الفرائد

أوثق الوسائل في شرح الرسائل

كفاية الأصول

حاشية المشكيني على الكفاية

الوصول إلى كفاية الأصول

نهاية الدراية

نهاية الأفكار

حقائق الأصول

محاضرات في أصول الفقه

مصباح الأصول

دروس في علم الأصول

الأصول

* 5:

الكتب الرجالية واللغوية

رجال علي بن داود

رجال النجاشي

رجال الكشي

الفهرست

ص: 666

تنقيح المقال في علم الرجال الجامع في الرجال

معجم رجال الحديث

لسان العرب

مجمع البحرين

* 6: كتب إسلامية مختلفة

الإرشاد

الحكمة الإسلامية

الذريعة إلى تصانيف الشيعة

الشورى في الإسلام

شورى در قرآن وحديث

الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)

مصادر نهج البلاغة

كلمة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

بالإضافة إلى الكتب المنقول عنها بالواسطة مثل:

أنوار التنزيل

الاحتجاج

دعائم الإسلام

روضة الكافي

الفقيه

دستور معالم الحكم

البصائر

الذخائر

النهاية في غريب الحديث

تنبيه الخواطر

ص: 667

أحكام القرآن

مكارم الأخلاق

قرب الاسناد

الصافي

عيون أخبار الرضا عليه السلام

إكمال الدين وإتمام النعمة

أدب الدنيا والدين

سراج الملوك

مطالب السؤول

نهاية الأرب

شرح المفاتيح

تفسير النعماني

منية المريد

علل الشرائع

الغيبة

المناقب

الدر المنثور

نوارد الراوندي

مقاتل الطالبيين

الامتاع لابن هشام

السيرة لابن هشام

السيرة للمقريزي

إثبات الهداة

أمالي الصدوق

أمالي الطوسي

علل الشرائع

روضة الواعظين

ص: 668

الخصالمغازي الواقدي

غوالي اللئالي

إعلام الورى

الاختصاص

كنز الكراجكي

كتاب سليم بن قيس الهلالي

المحاسن

صحيفة الرضا عليه السلام

بصائر الدرجات

معاني الأخبار

قرب الإسناد

ص: 669

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية (عليها السلام)، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

8. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

9. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء (عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيد نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

13. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع..

14. دروس في أصول الكافي، الجزء الأول، كتاب العقل والجهل،

ص: 670

مخطوط.

15. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة(كونوا مع الصادقين)، مطبوع.

16. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

17. توبوا إلى الله، مطبوع.

18. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

19. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

20. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

21. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

22. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

23. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

24. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

25. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

26. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

27. فقه المكاسب المحرمة - الكذب موضوعاً وحكماً، قيد الطبع.

28. فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، قيد الطبع.

29. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، قيد الطبع.

30. فقه المكاسب المحرمة - حرمة اللهو واللعب واللغو، قيد الطبع.

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

32. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.

ص: 671

33. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.

34. الأصول مباحث القطع، مجلدان، مخطوط.

35. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

36. فقه الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات درس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

37. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

38. التبعيض في التقليد، مخطوط.

39. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

40. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

41. الحجة معانيها ومصاديقها، مطبوع.

42. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

43. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

44. المبادئ و الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

45. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

46. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

47. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

48. نسبية النصوص والمعرفة.. الممكن والممتنع، مطبوع.

49. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

ص: 672

50. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

51. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

52. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

53. الحوار الفكري، مطبوع.

54. نقد بعض مباني الفلسفة والعرفان.

55. بحوث تمهيدية في فقه الحقوق.

56. مباحث الأصول: الحكومة والورود.

57. كتاب البيع.

58. كتاب التعارض.

59. مدخل إلى علم العقائد: نقد النظرية الحسية.

60. المعاريض والتورية.

61. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف.

62. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة.

ص: 673

الفهرس

الإهداء... 7

المقدمة... 9

المقدمة المنهجية للكتاب... 17

موضوع البحث ونطاقه... 17

مباني البحث... 19

معضلة البحث... 20

منهجية البحث والمخاطبون به... 21

هيكليته ومصادره... 21

* الباب الأول... 23

* القسم الأول... 23

* الفصل الأول : في الاستدلال بقاعدة دفع الضرر المحتمل

مع التطرق لكون الحجج طريقية، أو طريقية - تعبدية وتأسيس الأصل في ذلك... 23

الاستدلال بدفع الضرر البالغ المحتمل... 25

الشورى العامة من الأمور الخطيرة... 26

اتباع الرأي الواحد إلقاء للناس في التهلكة... 27

* الإشكال بأن رأي الفقيه حجة شرعاً وإن انفرد... 28

ص: 674

الجواب:... 29

1: أجنبية الفتوى عن الحكومة... 29

2: الترجيح مع الأكثرية... 30

* الإشكال باحتمال كون رأي الفقيه حجة تعبدية... 31

الجواب: بل حجيته لأماريته وطريقيته... 31

* الإشكال بأن حجيته طريقية - تعبدية... 33

الجواب: أصالة عدم أخذ أمر زائد تعبداً... 33

من موارد إلغاء الفقهاء الخصوصية المحتمل تعبديتها... 34

أ: جواز قضاء القاضي بعلمه رغم نصوص الحصر بغيره... 34

ب: استدلال المشهور لتعين تقليد الأعلم ببناء العقلاء ليس إلا لكونه الأقرب... 36

* الإشكال باشتراط العدالة و... على أن حجية رأي الفقيه طريقية - تعبدية... 38

جوابان عن الإشكال... 38

ج: التزام المشهور بالتعدي عن المرجحات المنصوصة... 40

د: كون الأصل في التعليل: التعليل بأمر ارتكازي... 42

ه: استدلال الفقهاء لوجوب تقليد الأعلم بروايات باب القضاء... 44

* الفصل الثاني: في الاستدلال ببرهان الدوران والترديد... 47

برهان الدوران والترديد... 49

1: مناقشة فكرة نفوذ أمر كل فقيه على مقلديه فحسب... 49

2: مناقشة نظرية نفوذ أمر أحدهم غير المعين... 55

3: مناقشة فكرة نفوذ أمر أحدهم المعين... 56

أ: نفوذ حكم الأعلم والمناقشات... 56

ب: نفوذ حكم ولي الأمر، والجواب... 63

ج: مناقشة نظرية نفوذ حكم الفقيه الحاكم... 64

د: مناقشة نظرية نفوذ حكم السابق من الفقهاء... 68

ه: مناقشة فكرة نفوذ حكم من اختارته الأكثرية حاكماً... 73

4: مناقشة فكرة نفوذ أمر أحدهم المخير... 75

ص: 675

لا مناص إلاّ من حكومة أكثرية الفقهاء... 75

* الفصل الثالث الاستدلال بالتركب من آحاد مفروضة الحجية

وبصدق العناوين على القليل والكثير... 77

الاستدلال بالتركب من آحاد كلها حجج... 79

الاستدلال بالصدق على القليل والكثير... 80

الموانع المتوهمة عن الرجوع إلى رأي الأكثرية... 82

الأجوبة:... 82

الوجوب التخييري للتقليد فطري أو عقلي وهو أعم... 83

إذا كان الأمر بالتقليد شرعياً... 85

إطلاق الروايات ينفي دعوى منع التبعيض أو العدول... 87

الاستناد للإطلاق المقامي واللفظي... 88

الجواب عن إشكال أن المقام من الدوران بين المتباينين... 88

الملحق (1) :

بحث عن صحة القضاء بالعلم رغم النصوص الحاصرة بالأيمان والبينات

مما يستظهر منه طريقية الأمارات... 91

الملحق (2) :

من الأدلة على الطريقية: التزام المشهور بوجوب تقليد الأعلم... 98

تنبيه:... 100

مناقشة مع الآخوند في نفيه الإطلاق في أدلة التقليد... 101

مناقشة أخرى مع الآخوند في نفي ملاكية القرب للواقع... 106

مناقشة القول بأن الأقربية لا توجب تعين الأخذ... 110

الملحق (3) :

بحث عن الوجه في تقديم حكم الأفقه في القضاء وفرقه عن باب الفتوى... 116

مناقشات مع المستند في قوله بالحكم الظاهري... 121

ص: 676

* القسم الثاني: الاستدلال بالآيات الكريمة... 133

* الفصل الأول : في الاستدلال بالآية الكريمة:... (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)... 133

آية الشورى... 135

الوجه الأول: الأصل في ما عدّ صفة للمؤمن، وجوب تحصيله... 135

إشكالات وأجوبة... 137

الوجه الثاني: دلالة السياق على الوجوب... 139

المناقشة... 139

الوجه الثالث: توقف (الخير من الله) على توفر صفات منها الشورى... 141

الوجه الرابع: (أمرهم) إنشاء بصيغة إخبار... 141

دلالة الآية على مطلوبية الشورى قبل وبعد الحكم... 142

دلالة الآية على عموم مطلوبية الشورى... 143

الاعتراض بالآيات التي تذم الأكثرية... 144

القدح لأكثر الناس لا لأكثر الفقهاء والخبراء... 145

الذم معلل باتباع الظن غير المعتبر... 146

الآيات خاصة بشؤون العقائد... 148

ليست الآيات في مقام البيان... 154

ليس أكثر الفقهاء أكثر الناس... 154

الآيات مخصصة بمثل (سبيل المؤمنين)... 155

* الفصل الثاني : في الاستدلال بالآية الكريمة :... (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)

مع التطرق للعديد من الإشكالات والأجوبة عنها... 157

آية (وشاورهم)... 159

* الإشكال الأول: عدم عمله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشورى فلا تجب على غيره... 161

* الجواب الأول:

الأدلة قائمة على عمله (صلى الله عليه وآله) بالشورى... 162

ص: 677

بحث إجمالي عن حجية روايات عمله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشورى... 162

روايتها في تفسير القمي... 162

وجه آخر: حجية مراسيل الثقات في التاريخ بل مطلقاً... 165

خلاصة القول... 166

الرواية الأولى: في معركة بدر الكبرى: الخروج لحرب النفير... 168

الرواية الثانية: في معركة الأحزاب: المقام بالمدينة... 170

الرواية الثالثة: وفي الأحزاب أيضاً: حفر الخندق... 170

الرواية الرابعة: وفي الأحزاب: الصلح على ثلث ثمار المدينة... 171

إشكال: لعل عمله برأي الأكثرية كان اضطراراً... 172

الأجوبة:... 173

1: العمل لا جهة له، والأصل عدم الاضطرار... 173

الأصل في قوله وفعله (صلى الله عليه وآله) الحجية 173

لو كان اضطراراً لكان في غيره أولى... 173

الظاهر أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يعمل برأيه حتى وافقته الأكثرية... 174

رواية القمي في صلح الحديبية... 175

الإشكال بأنه o وافق على الصلح في الحديبية دون مشورة... 176

أجوبة خمسة عن الإشكال... 177

الإشكال بأن عمله o كان على طبق الشورى لا استناداً إليها... 179

الأجوبة:... 180

الظاهر بقرائن عديدة عمله o استناداً إليها... 180

دليل آخرعلى الملازمة... 182

عمله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشورى رغم مخالفتها لرأيه... 184

العمل برأي الأكثرية مع عدم وجود النص... 184

الرواية الخامسة: العدول عن الحكم بالقتل إلى أخذ الفداء موافقة لرأي الأكثرية... 185

إشكال الاضطرار والجواب عنه صغروياً... 189

وجوه عدم تمامية الاستدلال بالرواية الخامسة... 191

الرواية السادسة: عمله برأي الأكثرية في الخروج من المدينة... 193

ص: 678

الإشكال باختصاص موارد المشورة بالحروب والجواب... 197

استشارته o في هذه الموارد غير مقيِّد للآية... 199

بحث عن احتمال ردعه o عن الشورى... 202

هل المدح على الشورى إن طابقت الواقع؟... 204

* الجواب الثاني:

لا دليل على مخالفته o للأكثرية... 208

الجواب عن استصحاب عدم أخذه برأي الأكثرية ونظائره... 209

الجواب عن إشكال: لو كان o عاملاً بالشورى لبان... 211

* الجواب الثالث:

(شاورهم) منصرف إلى غير موارد النص الإلهي... 213

نماذج عديدة من ورد النص الإلهي... 213

السرّ في كثرة ورود النصوص الإلهية... 220

نماذج من تفويض الأصحاب أصواتهم للنبي... o 221

محتملات وجوه عدم عمل النبي o بالشورى... 225

* الجواب الرابع:

وجوب الشورى مردد بين الموضوعية والطريقية... 231

الموضوعية وباب التزاحم... 231

الطريقية والحجة الأقوى... 232

إشكالات وأجوبة... 233

* الجواب الخامس:

عدم وجوب الشورى عليه o لا ينفي وجوبها على المسلمين... 235

الأصل في الأوامر القرآنية عمومها للكل وإن وردت بصيغة خطاب للنبي. o... 235

ثمرة عمومية خطابات القرآن في المقام... 243

استثناء الفرد الواحد لا يخل بظهور العام... 244

الإشكال بقبح تخصيص المورد والجواب... 245

* الإشكال الثاني: النبي o إنما يتبع الوحي لا الأكثرية... 247

ص: 679

الأجوبة:... 248

إتباع الأكثرية فيما لم ينزل فيه وحي، إتباع لما يوحى إليه... 249

الجواب عن إشكال: ما المصلحة في الارجاع للأكثرية مع وجوده. o... 252

* الإشكال الثالث :

السيرة العملية ليست على الشورى، والإجماع على عدم الوجوب... 254

الجواب :... 254

موارد كثيرة هامة لم يتطرق لها الفقهاء بالذكر... 257

ليست الشهرة ظناً معتبراً ليحتج بها... 264

وعلى فرض اعتبارها فلا بد من ملاحظة سائر الأدلة... 267

نماذج من انقلاب الشهرة... 269

الجواب عن أن سيرة الفقهاء العملية لم تكن على الشورى، بوجوه... 270

بحث عن الأمور الحسبية وأنها من شؤون (القضاة) دون (الولاة)... 272

أدلة عدم وجوب الشورى في الأمور الحسبية... 280

عدم عمل الفقهاء بالشورى أعم من الالتزام بعدم الوجوب... 282

الجواب عن دعوى الإجماع على عدم وجوبها... 283

* الإشكال الرابع:... 287

(شاورهم) وردت في سياق المستحبات فالمشورة مستحبة... 287

الجواب:... 287

1: ليس السياق سياق المستحبات... 287

2: والسياق لا يصلح صارفاً للظواهر عن ظهورها... 290

* الإشكال الخامس:... 294

المراد ب- (الأمر) أمر الحرب... 294

الجواب:... 294

1: الأصل في اللام أنها للجنس... 294

المشهور: كلما ترددت اللام بين العهد والجنس، كانت للجنس... 298

الجواب عن أن القدر المتيقن من (الأمر) هو أمر الحرب... 301

ص: 680

بحث عن أن المطلق كالعام في الدلالة على الشمول... 301

الجواب عن إشكال عدم جريان مقدمات الحكمة في (الأمر)... 306

2: خصوصية المورد لا تخصص الوارد... 309

3: سياق الآية شاهد بعدم الاختصاص بالحرب... 309

4: تتميم الاستدلال بعدم القول بالفصل وتنقيح المناط... 312

* الإشكال السادس:... 314

(عزمت) أي على ما أدى إليه رأيك... 314

والجواب:... 314

1: عموم الخطابات... 314

2: متعلق (عزمت) محذوف وهو: (على العمل برأي الأكثرية)... 317

3: أو هو مردد، والأصل عدم إفادة المانع... 319

4: المخرج على فرض ظهور (عزمت) في العزم على تنفيذ رأيه... 321

الملحق (4) :

موارد التزم فيها الفقهاء بتخصيص المورد... 323

الملحق (5) :

موارد حَمَلَ الفقهاءُ اللامَ فيها على الجنس... 336

رغم وجود ما يصلح مقرّباً لكونها للعهد... 336

الملحق (6) :

بحث عن تعارض المطلق والعام... 339

* القسم الثالث: الاستدلال بالروايات الشريفة... 345

* الفصل الأول: في الاستدلال بالتوقيع الشريف :

(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا...) 345

ص: 681

التوقيع الشريف... 347

بحث عن سند الرواية... 348

فقه الحديث... 352

أ: (الحوادث)... 352

الإشكال بانصرافها للموضوعات الجديدة الحدوث أو خروج غيرها موضوعياً... 353

الأجوبة:... 354

شمول الرواية للحادث أصله أو فرده و... 356

الإشكال على إفادة (الحوادث) للعموم، باحتمال عهديتها... 358

الأجوبة:... 358

لا يناسب العهد، التعليل ب- (فإنهم حجتي عليكم)... 358

خصوصية السؤال لا تخل بعمومية العلة... 360

سبق ما يصلح لإرادة العهد، غير مخل بأصالة العموم والجنس... 365

القرائن المقامية وبداهة عدم السؤال عن المرجعية في المسائل الشرعية... 365

مناقشات مع المحققين الأصفهاني والشهيدي... 368

ب: (الواقعة)... 371

الجواب عن توهم اختصاص (الحوادث الواقعة) بمثل الحرب... 372

ج: (فارجعوا)... 375

د: (فيها)... 377

ه: (رواة حديثنا)... 379

صدق الرجوع إلى الفقهاء بالرجوع إلى مجموعة منهم... 379

مدخلية الهيئة الاجتماعية في الرجوع للفقهاء... 381

بحث عن مخالفة الرجوع لأحد الرواة فقط لمقتضى الرواية... 381

رجوع كل مجموعة لمرجعها في الشؤون العامة مستلزم للهرج والمرج و... 384

بحث عن جواز قاهرية أحد الفقهاء للآخرين... 386

و: (فإنهم)... 392

ز: (حجتي)... 393

مناقشات مع الأصهاني والإيرواني... 394

ص: 682

ويرد على الإيرواني:... 398

ويرد على الأصفهاني... 399

ح: (حجتي عليكم)... 405

ط: (وأنا حجة الله)... 408

هل للفقيه قهر الناس لو أعرضوا عن الفقهاء؟... 409

رضا الناس بالفقيه لا يلغي وجوب المشورة والشورى... 410

* الفصل الثاني : في الاستدلال بمجموعة من الروايات الشريفة

الواردة حول الاستشارة واتباع المشير... 413

الروايات الآمرة بالاستشارة وباتباع ذوي الرأي... 415

بحث سندي إجمالي عن حجية الروايات... 418

سند الرواية الخامسة: (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم)... 422

أحمد بن محمد البرقي... 422

جعفر بن محمد الأشعري... 424

ابن القداح... 425

سند الرواية الثامنة: (من استبد برأيه هلك)... 426

عثمان بن عيسى... 426

سماعة بن مهران... 427

الاستدلال بالروايات السابقة على الإرشادية والمولوية... 429

الوجه الأول: أولوية لزوم الأخذ بآراء المشيرين من لزوم الأخذ برأي الواحد... 431

تصنيف الروايات السابقة إلى أربع طوائف... 432

تنبيه:... 433

الوجه الثاني: أقربية الإصابة في رأي المشيرين من رأي الواحد... 435

الاعتراض بعدم دلالة الروايات على لزوم الاتباع... 437

مقيدية روايات الاتباع لمطلقات الاستشارة... 438

الآمر بالاستشارة آمر باتباع الأكثرية عرفاً... 440

لزوم إتباع غير الفقيه لأكثرية الفقهاء... 441

ص: 683

الوجه الثالث : شمول روايات لزوم الاتباع حتى للفقيه... 444

توقف الاستنباط في الشؤون العامة على الفقاهة والخبروية... 446

الوجه الرابع: صدق الاستبداد على مخالف الأكثرية، و(من استبد برأيه هلك)... 448

بحث عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى... 450

* الفصل الثالث : في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة... 453

المقبولة والمرفوعة... 455

الاستدلال بالمقبولة... 455

فإن المجمع عليه لا ريب فيه... 456

الأجوبة عن أن اللام في (المجمع عليه) للعهد... 456

بحث عن أن المراد من (لا ريب فيه) الحقيقي أو الإضافي... 458

مناقشات تفصيلية لدعوى الآخوند أن اللاريب حقيقي... 458

الاستدلال ب- (وإنما الأمور ثلاثة)... 469

الحديث عن المرفوعة... 471

مناقشة مع الشيخ... 472

المصباح: الشهرة بمعنى الوضوح... 473

مناقشات مع مصباح الأصول... 474

تنبيه:... 478

* الفصل الرابع : في ملخص النسبة بين أدلة الشورى والحكومة وأدلة التقليد... 479

ملخص النسبة بين الأدلة... 481

وأما تفصيل الأدلة... 482

أما بناء العقلاء... 482

وأما العقل... 486

وأما الآيات... 487

وأما الروايات... 489

وأما السيرة... 491

ص: 684

وأما الإجماع... 492

* الباب الثاني... 493

* الفصل الأول : في الاستدلال على مسائل سبع وهي:... 493

في وجوب الإشارة وحرمة المنع... 495

ووجوب ردع المانع ومسائل أخرى... 495

* الدليل الأول:

إنها من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و... 495

إشارة للأدلة على الكبرى... 496

إشارة لكون الأحكام السبعة صغريات الأدلة السابقة... 498

الحكم فيما لو كان الاختلاف في المعروف والمنكر اجتهادياً... 501

هل حجية نظر الفقيه مانعة من الأحكام السبعة؟... 504

كون الفتوى حكماً ظاهرياً لا يمنع الأحكام السبعة... 505

سكوت الأدلة عن صورة التعارض... 506

نظر الفقيه طريق عقلائي لا يمنع الأحكام السبعة... 511

كما يمكن رفع اليد عن الحكم الواقعي يمكن رفعها عن الحكم الظاهري... 512

* الدليل الثاني:

الروايات الكثيرة المتنوعة... 515

فلا تكفوا عن مقالة بحق... 515

روايات: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم و... ... 517

وينبغي التنبيه على أمور:... 521

الجمع بين ما دل على استشارة واتباع العاقل وما دل على إطاعة العقلاء... 521

الإشكال بظهور بعضها في الاكتفاء بنفس المشاورة... 523

والجواب:... 525

إطلاق الروايات وشمولها حتى لما لو لم يقتنع المستشير... 526

ص: 685

* الدليل الثالث:

العقل المستند إلى النقل... 527

وجوب الفحص عن كون المتصدي عالماً حقاً أولاً... 530

وجوب الفحص عن علة اتخاذ القائد موقفاً أو رأياً وعن احتمال خطأه

ولا يكتفى بإحراز العدالة ابتداءً ولا باستصحابها... 533

كما يجب الفحص في علم الرجال يجب الفحص عن حال الأحياء... 536

الاستدلال بمجموع الأحكام السابقة على لزوم العمل بالأكثرية... 539

* الفصل الثاني : في بيان وجوب الاستشارة والاتباع

حتى لو لم ير سائر الفقهاء ذلك ومسائل أخرى... 543

وجوب الاستشارة والاتباع مطلقاً وعدمه... 545

هل تجب استشارة الفقيه الذي لا يرى وجوبها أو يرى حرمة الحكومة؟... 545

مسائل عديدة أخرى... 550

* الفصل الثالث : الولاية لكل مجتهد أو للمؤهل لا للمجتهد الحاكم أو المقلَّد فحسب... 553

الولاية لكل الفقهاء... 555

انتخاب الفقهاء حسب التخصصات... 559

الولاية لأهل الخبرة من المؤمنين بل لعامة المكلفين المؤهلين، لا للمجتهد خاصة... 560

الأدلة على أن لكل مؤمن بل لكل مؤهل التصدي بشروط للحكومة، لا الفقيه فقط... 561

مناقشة الأدلة والردود... 568

وحدة المطلوب أو تعدده؟... 569

التفصيل بين العنوان والمحصل وغيره... 570

بحث حول دلالة الآيات والروايات على الولاية العامة... 572

الاجتهاد خفيف المؤونة زمن المعصومين (عليهم السلام)... 574

هل يصدق راوي الحديث أو الفقيه على المقلد؟... 574

أصالة عدم مشروعية الرجوع لغير الفقيه... 575

مناقشة مع المحقق الإيرواني... 576

ص: 686

بحث عن صدق (المعروف) على الحكم بالعدل مطلقاً... 577

مناقشة مع المحقق الأصفهاني (قدس سره)... 578

مناقشة مع الشيخ (قدس سره)... 579

* الفصل الرابع : في حكم تخالف رأي أكثرية شورى الفقهاء مع أكثرية الأمة... 581

تخالف آراء الفقهاء مع الأمة على المباني في الحكومة... 583

الحكومة وكالة أو جُعالة أو إِذن... 583

الحكومة عقد مستقل... 584

بحث حول أن الحكومة منصب منجز أو معلّق... 585

مناقشة مع السيد الوالد (قدس سره)... 591

مناقشة مع بعض الأعلام... 598

طبع ولاية الأمر يقتضي الإطاعة... 598

* الفصل الخامس : في عزل الأمة للحاكم أو انعزاله بفقد الشرائط قهراً... 601

وفروع أخرى... 601

المسألة الأولى:... 603

عزل الحاكم وانعزاله القهري... 603

أدلة القول بأنه لا يحق للأمة عزل الفقيه أو شورى الفقهاء... 603

المناقشات :... 604

أدلة القول بأن للأمة حق عزل الفقيه الحاكم... 606

المسألة الثانية:... 609

انعزال الفقيه الحاكم بفقده لبعض الشرائط... 609

فروع عديدة... 613

هل أحكام الفقيه نافذة لو ظهر فقده للشرائط لاحقاً؟... 613

هل يجوز عصيان أمر الفقيه قبل عزله إذا علم بفقده للشرائط؟... 614

هل مطلق ما يوجب الهرج والمرج حرام... 616

ص: 687

المرجع هو القضاء لدى اتهام الفقيه الحاكم بما يسقطه عن العدالة... 619

حكم تغاير الاجتهاد في صلاحية هذا الفقيه للحكم... 620

لو فقد بعض الشرائط ثم عادت فهل تعود له الولاية؟... 622

* الفصل السادس : في استقلال القوة القضائية... 624

استقلال القضاء... 626

المسألة الأولى: سماع الدعوى على القاضي والحاكم... 627

أدلة القائلين بعد سماع الدعوى ومناقشتها... 628

المسألة الثانية: هل نصب القاضي بيد الفقيه الحاكم؟... 632

أدلة الاحتياج إلى النصب ومناقشاتها... 634

رد إشكال الهرج والمرج... 635

المسألة الثالثة: هل للفقيه الحاكم عزل القاضي؟... 641

* خاتمة : في بيان عدم استلزام شمول أدلة الحجية للمتعارضين... 644

الجمع بين الممتناقضين أو المتضادين... 644

أدلة حجية المتعارضين وعدم التضاد والتناقض... 646

* المصادر... 664

كتب أخرى للمؤلف... 670

* الفهرس... 674

ص: 688

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.