حرمة الكذب ومستثنياته

هویة الکتاب

حرمة الكذب ومستثنياته

تقريراً لأبحاث السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

المقرر: الشيخ زيد الكاظمي

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

ص: 4

اَللّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَعَلى آبائِهِ فی هذِهِ السّاعَةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلیلاً وَعَیْناً حَتّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً.

ص: 5

ص: 6

كلمة مؤسسة التقى الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بين يدي القارئ الكريم كتاب حرمة الكذب ومستثنياته، والتي ألقاها السيد مرتضى الحسيني الشيرازي ضمن أبحاثه في المكاسب المحرمة للسنة الدراسية (14341435) في الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف.

وتعرب مؤسسة التقى الثقافية عن شكرها الوافر لفضيلة الشيخ زيد الكاظمي والذي أخذ على عاتقه تقرير الدروس بجد ونشاط رغم المشاغل الكثيرة، ولجهود بقية الإخوة المساهمين، وبالأخص الفقيد السعيد السيد محمد جواد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الذي أولى اهتماماً كبيراً لإدارة ملف الكتب العلمية لوالده حفظه الله، فلله دره وعليه أجره، وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال الله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(»)(1).

التفقه في الدين مستحب نفسي وواجب عيني مقدمي في المسائل المبتلى بها وواجب كفائي في غيرها وهو أفضل أفراد الواجب التخييري: (الاجتهاد والتقليد والاحتياط)؛ من حيث كونه كمالاً في حد ذاته وإن كان في الاحتياط الحائطة على مصلحة الواقع مطلقاً أو في الجملة.

وقد قال الإمام الباقر (علیه السلام): «تَفَقَّهُوا وَإِلَّا أَنْتُمْ أَعْرَاب»(2)، وقال (صلی الله علیه و آله): «مُتَفَقِّهٌ فِي الدِّينِ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ عَابِدٍ»(3)،وقال (صلی الله علیه و آله): «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا دُخُولُهُمْ فِيالدُّنْيَا قَالَ اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ»(4) وغيرها مما

ص: 9


1- سورة التوبة: آية 122.
2- المحاسن: ج1 ص228.
3- بصائر الدرجات: ص7.
4- الكافي: ج1 ص46.

يدل على الكمال الذاتي للتفقه.

ثم بعد التفقه يأتي دور الإنذار الذي ينبغي أن يستتبعه حذرُ المنذَرين.

وكان من توفيق الله تعالى وفضله على عبده أن وفّق لإلقاء بعض البحوث الفقهية والأصولية، رغم كون البضاعة مزجاة، على ثلة طيبة من رجال الدين الأفاضل في حاضرة أمير المؤمنين (علیه السلام) النجف الأشرف.

وقد اهتم عدد من الطلاب الأفاضل بتحرير تلك البحوث وتقريرها وتحملوا في ذلك مشاقّ تحويل النص الملفوظ إلى نص مكتوب، فللّه درُّهم وعليه أجرهم، ثم إنني - بعد ذلك - راجعتها وأضفت عليها إشكالاً أو جواباً أو دليلاً أو مطلباً أو نقّحت وعدّلت وقدّمت واخّرت، حسبما ينبغي مادةً وصورةً.

ولقد كان فضيلة الحجة المفضال الشيخ زيد الكاظمي دام عزه وتوفيقه من الذين حضروا تلك الأبحاث حضور تفهُّم واستيعاب وقد قرّر هذا البحث والعديد من البحوث الأخرى بصبرٍ وأناةٍ فكان هذا المجلد حصيلة جهده ضمن جهود أخرى امتدت لسنين عديدة.

والمرجو من الله تعالى أن يتقبل منّا ومنه هذا القليل بأحسن القبول وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم أنه سميع الدعاء فعال لما يشاء.

النجف الأشرف

مرتضى الحسيني الشيرازي

ربيع الثاني/ 1438

ص: 10

مقدمة المقرر

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى:«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»(1).

الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين باعث الأنبياء والمرسلين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى أبد الآبدين.

وبعد:

كانت ولازالت مدينة النجف الأشرف هي الأساس المعطاء والبحر الغيداق الذي ينتهل منه عطاشى العلم والمعرفة, وتلك الشجرة الباسقة المثمرة التي أصلّها الله تعالى وجعلها ثابتة متفرعة في سماء الكمال والحكمة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ فقد شرفت هذه المدينة بوجود الذات الأقدس لأمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام), باب مدينة العلم وسر الحكمة, هذا من جهة.ومن جهة أخرى أنه تعالى قد أردف هذه النعمة الكبرى بوجود الحوزة الغراء فيها والتي مابرحت مناراً للعلم والتقى ومصباحاً يستضئ به الكون من خلال عطاء مراجعها وعلمائها وأساتذتها الكرام.

ص: 11


1- سورة إبراهيم: 24 - 25.

وكان لنا أيضا قبس من ذلك النور؛ إذ شرفنا اللطيف الكريم بالحضور في هذه الجامعة البيضاء والحديقة الغناء ولسنوات متتالية منتهلين منها ومستنيرين بنورها الوضاء؛ فإنه وخلال سنوات متعددة وفقنا لحضور أبحاث الخارج - فقهاً وأصولاً وتفسيراً - لسماحة الأستاذ السيد مرتضى الحسيني الشيرازي (دام ظله).

كما وتلطف علينا بمنة أخرى - ومننه لا تحصى - وهي تقريرات درسه المبارك ولعدة سنوات متتالية، وكانت من هذه الدروس و التقريرات موضوعة مهمة جداً وهي مسألة الكذب والأدلة عليه ومستثنياته، وفعلاً فقد أجاد السيد الأستاذ حفظه الله مرة أخرى في البحث والاختيار والانتصار من خلال التعميق والتأصيل والتفاعل مع القرآن والسنة - وبقية الأدلة -

لبيان حيثيات هذا الموضوع الحيوي فكان هذا الكتاب المبارك مع رديفيه (الكذب في الإصلاح) و(التورية موضوعاً وحكماً) فلله دره من فكر ويراع مابرح يجود على طلاب العلم والحقيقة في المدينة المشرفة وحوزتها المباركة.

وهنا إذ اشكر الله تعالى على كل هذه النعم المتواترة المستوسقة, موصولاً ذلك الشكر لسيدنا الأستاذ لما أولاه لنا من الرعاية والثقة, أسأله تعالى أن يوفقنا لخدمة هذا الدين العظيم ويثبتنا على ولاية أمير المؤمنين (عليه صلوات الله) ويحشرنا مع محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم في: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم(»)(1).

زيد الكاظمي

النجف الاشرف

أيام الزيارة الفاطمية الكبرى1438ه

ص: 12


1- سورة الشعراء: 88 - 89.

الفصل الأول: حرمة الكذب الأدلة والمناقشات

اشارة

ص: 13

ص: 14

حرمة الكذب

الكلام يدور حول مبحث من أهم مباحث المكاسب المحرمة، وهو حرمة الكذب واستماعه ومستثنياته، وسوف يتضمن البحث مجموعة مسائل، كلها مورد ابتلاء شديد.

والمسائل هي:

حرمة الكذب واستماعه

اشارة

المسألة الأولى: حرمة الكذب.

المسألة الثانية: هل استماع الكذب حرام أو لا؟

ثم إنه بعد الفراغ عن كون الكذب حراماً، فهناك ما هو خارج عن مسألة حرمة الكذب إما موضوعاً وتخصصاً، أو حكماً وتخصيصاً.

وهي أربعة عشر أموراً:

أربعة عشرة مسألة مستثناة، أو مدعى استثناؤها، من حرمة الكذب

المسألة الأولى: الكذب هزلاً

ما لو كذب هازلاً، كما لو قال عن رجل آخر دميم: ما أجمله، إنشاءً؛ أو قال: جاء ذو الجمال البارع، إخباراً؛ فهل هذا الكلام هو من الكذب المحرم؟ إخباراً كان أم إنشاءً، وانتقاصا ًكان أم لا؟

ص: 15

المسألة الثانية: الكذب مزاحاً

ما لو كذب مازحاً، - وما أكثر ذلك بين المؤمنين - فهل الكذب مزاحاً محرم مطلقاً؟ أو فيما لو لم يقم القرينة خاصة؟

المسألة الثالثة: الكذب في الوعد

من المستثنيات - وهي مسألة شديدة الابتلاء - فهي: الكذب في الوعد، لا خلف الوعد، فإن عنونة هذا الاستثناء(1) بخلف الوعد لا تخلو من مسامحة؛ وذلك أن خلف الوعد ليس من مقولة الكلام فليس من مقولة الكذب أو الصدق، وإنما هو مسألة مستقلة برأسها، وهي أنه: هل يجوز خلف الوعد أو لا؟

توضيحه: إنه تارة يقول للآخر: (سأعطيك غداً ديناراً)، وهو ناوٍ ألا يعطيه، فهذا هو الكذب في الوعد وهو مورد بحثنا في المقام.

وتارة أخرى: تنعقد نيته حين الوعد على الإعطاء والوفاء إلا أنه حين يحين وقت الوفاء(2) - وهو الغد - يخلف وعده ولا يعطيه، فإن هذا هو المسمى ب(الخلف بالوعد) فإن نفس عدم إعطاء المال هو خلف للوعد.

وعليه فههنا مسألتان مستقلتان:

الأولى: الكذب في الوعد.

الثانية: والخلف في الوعد، والمشهور حرمة الكذب في الوعد، وعدم

ص: 16


1- كما في المكاسب وغيره، وقد صرح في المكاسب بعدم كون خلف الوعد من مقولة الكلام.
2- أو حتى لو كانت نيته منذ البداية عدم الإعطاء، فإنه يكون كاذباً حينئذٍ أي كاذباً في وعده، ثم إنه حين يأتي موعد الوفاء فلا يفي فيكون قد أخلف الوعد أيضاً، والأول حرام دون الثاني على المشهور إلا إذا كان في ضمن عقد لازم.

حرمة خلف الوعد، وسيأتي.

المسألة الرابعة: المبالغة والإغراق

المبالغة، ويلحق بها الإغراق(1)، فهل المبالغة في الكلام كذب موضوعاً؟ ثم لو كانت داخلة موضوعاً، فهل هي مستثناة حكماً؟ أو هناك تفصيل في المقام كما هو المستظهر؟ - سيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله -، ومثاله أن يردع الوالد ابنه مرتين عن الذهاب إلى مكان معين, ثم يخبر عن ذلك: بأنه قد ردعه عشرين مرة، فهل هذا كذب وجائز أو لا؟

وأما الإغراق، فهو المبالغة الشديدة جداً، كأن يقول في المثال السابق: إنني قد ردعته من الذهاب ألف مرة.

المسألة الخامسة: دعوى نسبية الصدق والكذب

دعوى: إن الصدق والكذب نسبي بالنسبة إلى الأفراد من حيث اختلاف الأنظار، فهل هي دعوى صحيحة في حد ذاتها؟

ثم على فرض صحتها فهل تعد مخرجاً لجواز الكذب؟

المسألة السادسة: المغالطة

فهل هي كذب موضوعاً؟ وعلى فرض كونها كذباً، فهل تعد من مستثنيات الكذب؟

المسألة السابعة: التورية

التورية(2)، فهل هي كذب أو لا؟ لوجود نقاش طويل في ذلك، ثم إنها لو

ص: 17


1- والمعنون في كلامهم عادة هو: المبالغة.
2- أفرز هذا المبحث عن هذا الكتاب لتشعب موضوعه.

كانت داخلة في الكذب موضوعاً - وهو قول المشهور بل ادعى بعض الأعلام أن: (التورية ليست بكذب إجماعاً ونصوصاً)(1) - فهل هي مستثناة منه حكماً أو لا؟ كما ارتضاه صاحب الجواهر(2).

المسالة الثامنة: الكذب في الإصلاح

الكذب لإصلاح ذات البين وفي سبيل الاصلاح(3)، والمعروف أنه جائز، إلا أن المشكلة في المقام: إنّ الإصلاح حكم لا اقتضائي؛ لاستحبابه(4)، والكذب اقتضائي؛ لأنه حرام، فكيف يتقدم اللااقتضائي على الاقتضائي؟ أي كيف يتقدم ويترجح المستحب على الحرام فيكون الكذب في الإصلاح جائزاً بل راجحاً؟

المسألة التاسعة: الكذب عند الاضطرار

الكذب في الاضطرار، ومن مصاديقه: التقية.

المسألة العاشرة: الكذب في الحرب

الكذب في الحرب، ولكن: هل يستثنى مطلقاً أو في الجملة؟

أي: هل الكذب في الحرب جائز وإن لم تكن ثمة حاجة إليه، أو إن الحاجة والمصلحة والضرورة في الحرب هي المسوغة لهذا النوع من الكذب؟ فيكون هذا المورد مستثنى دون غيره فيكون من صغريات سابقه؟

ص: 18


1- مهذب الأحكام: ج16 ص154.
2- الجواهر: ج23 ص127 الطبعة الحديثة.
3- أفرز هذا المبحث أيضاً عن هذا الكتاب، لأهميته وحيويته من جهة وتشعب موضوعه من جهة أخرى.
4- نعم بعض الإصلاح واجب ولكن المشكلة في الإصلاح المستحب.

ثم إن الحرب قد تكون حرباً عسكرية، وقد تكون سياسية أو دبلوماسية أو إعلامية أو ثقافية، وعليه: فهل الاستثناء يشمل كل هذه الموارد المتعددة، أو يقتصر فيه على القدر المعروف المذكور عادة وهو الحرب العسكرية؟اقتصر الفقهاء - فيما وجدنا - على الحرب العسكرية(1)، وعلى أي حال فان الحكم بالتضييق أو التوسعة تابع للأدلة في المقام.

المسألة الحادية عشرة والثانية عشرة: الكذب على الزوجة والأولاد

وهاتان بالحقيقة مسألتان، حيث هناك روايات تصرح بجواز كذب الزوج في وعده لزوجته، ولكن هل جواز الكذب - بناءً على القول به - يشمل الأولاد أو الإخوة أو الأم، كذلك؟!

فهل كل هذه الموارد مستثناة من الأصل أم هو خاص بالزوجة؟

المسألة الثالثة عشرة: الكذب بشأن أهل البدع

وذلك استناداً إلى روايات عديدة.

منها: ما جاء في الكافي الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ»(2).

فهل هذا المورد من موارد الاستثناء؟ وهل هو ثابت على إطلاقه أو لا؟

ص: 19


1- ولعل ذلك لشدة الابتلاء بمسألة الحاجة للكذب في الحروب العسكرية وعدم الابتلاء بالسياسات المتطورة في عالمنا الحاضر والتي ابتنت على الكذب والخداع.
2- الكافي الشريف: ج2 ص374.

المسألة الرابعة عشرة: الكذب في القصص المخترعة

المسألة الأخيرة المستثناة هي: الكذب في القصص المخترعة، كمن يخترع قصصاً لأبنائه كي يخيفهم من خطر مّا ولو لجهةٍ حَسَنةٍ(1)، وكما في القصص البوليسية أو الروايات التاريخية كمن يروي القصص المخترعة المتخيلةعما جرى في صدر الإسلام، كما يروونها في الطريقة العلمية الحديثة فإنهم يرممون نواقص النص التمثيلي بما يحدسون أنه قد حصل(2)، فإن كاتب النص - أو ما يصطلح عليه بالسيناريست - يتوقع ويحدس كثيراً من الأحداث، فيكتبها لاعتقاده - أو حتى لا لاعتقاده - أن الأمر قد جرى على هذا المنحى، فهل ما اخترعه كذب وحرام أو لا؟

هذه هي مسائل أربعة عشرة، وسنبحث منها ههنا المسألة الأولى، ثم نبحث في المستثنيات عن المسائل: الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة.

ثم سنفرد جزءاً آخر مستقلاً للمسألة السابعة(3)، وجزءاً ثالثاً للمسألة الثامنة وهي: الكذب في الإصلاح، ولعلنا نوفق لاحقاً لبحث المسألة التاسعة إلى الرابعة عشرة(4).

ص: 20


1- كأن يخترع قصة شخص اصطدم بسيارة في الشارع لتخويف أولاده من خروجهم إلى الشارع، لأجل الحفاظ عليهم.
2- كما في الأفلام الإسلامية والمسلسلات التاريخية.
3- في رسالة مستقلة تحت عنوان (رسالة في التورية موضوعاً وحكماً).
4- انتقل سماحة السيد الأستاذ حفظه الله من مبحث الكذب إلى مسالة أخرى من مسائل المكاسب المحرمة في بحثه الخارج، فلم يتسن له بحث هذه المسائل. (المقرر)

حرمة الكذب بقول مطلق

ومورد البحث والنقاش هو: حرمة الكذب بقول مطلق لبداهة حرمته في الجملة، إنما الكلام في وجود دليل على حرمته بقول مطلق، حتى يحتاج إخراج ما يخرج عنه إلى دليل، وقد أطلق القول بحرمة الكذب كل من الشيخالأنصاري وصاحب الجواهر والسيد الوالد والسيد الخوئي رحمهم الله تعالى والسيد الروحاني دام ظله وغيرهم، حيث اعتبروا حرمة الكذب من المسائل المسلمة، وأنها ثابتة بالأدلة الأربعة.

قال صاحب الجواهر (رحمه الله): (كتعمد الكذب الذي حرمته من الضروريات...)(1).

وقال الشيخ (رحمه الله) في مكاسبه: (الكذب حرام بضرورة العقول والأديان، ويدل عليه الأدلة الأربعة)(2).

وقال السيد الخوئي (رحمه الله) في مصباح الفقاهة: (لا شبهة في حرمة الكذب...، وحرمته من ضروريات مذهب الإسلام، بل جميع الأديان، وقد استدل عليها المصنف بالأدلة الأربعة، أما الكتاب والسنة الواردة لدى الخاصة والعامة في ذلك فذكرهما مما لا يحصى)(3) انتهى.

وقال السيد الوالد (رحمه الله): (وهو حرام بضرورة العقول والأديان وتدلّ عليه الأدلة الأربعة)(4).

ص: 21


1- جواهر الكلام: ج 23 ص 126.
2- كتاب المكاسب: ج2 ص11.
3- مصباح الفقاهة: ج1 385.
4- إيصال الطالب: ج3 ص180.

وقال السيد الروحاني(دام ظله) في فقه الصادق (علیه السلام): (أما الكتاب والسنة فقد دلت عليه كثير من الآيات والنصوص)(1) انتهى.

وهكذا.. ولا بد من دراسة تلك الأدلة لنرى مدى تماميتها ودلالتها، فنقول:

الأدلة على حرمة الكذب

الدليل الأول: الآيات الشريفة

اشارة

الدليل الأول الذي أقيم على حرمة الكذب هو: الآيات المباركة، فإنّ هناك آيات كثيرة في المقام تتجاوز بحسب استقراء ناقص السبعين آية، ولم نجد من ناقش في دلالتها على حرمة الكذب، إلا أن الإشكال العام فيها أنها لا تدل بظاهرها على المدعى المعروف؛ فإن هذه الآيات ما بين ما وردت فيها مادة الكذب بمختلف تصريفاتها، والتي المستظهر - بدواً - منها أنها لا تدل على الحرمة المطلقة للكذب، وبين آيات كريمة وردت فيها مفردات أخرى مثل (زعم)، والتي لعله لا يمكن الإستناد إليها أيضاً لإثبات التحريم المطلق ظاهراً، كما أن هناك آيات أخرى وبمواد أخرى مثل (قول الزور)، سيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.

أ: آيات افتراء الكذب

اشارة

أما الآيات التي ورد فيها لفظ (الكذب) بخصوصه فهي اثنا عشرة آية، لكن الاستدلال بها على حرمة الكذب بقول مطلق غير تام؛ إذ الكذب فيها خاص بما كان على الله تعالى أو في شؤون الدين، فهو إما في أصول الدين أو في بعض شؤونه، كقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ

ص: 22


1- فقه الصادق (علیه السلام): ج14 ص413.

يَعْلَمُونَ»(1)،وقوله تعالى: «يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ»(2)، ولا شك في حرمة ذلك إلا أن الكلام في حرمة الكذب بقول مطلق.

وكذلك قوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ(3) وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ»(4)، فإن الظاهر أن المراد من (الكذب) هو (أن لهم الحسنى)، وهو كذب على الله تعالى؛ إذ إنهم مع كونهم كافرين، فإنهم يكذبون على الله بأن لهم الحسنى أي: الجنة - على بعض التفاسير(5) -، إضافة إلى أن ظاهر الآية كونها إخبارية بنحو القضية الخارجية لا إنشائية بنحو القضية الحقيقية، نعم غاية ما تدل عليه قبح الكذب بقول مطلق.وقد يستدل بقوله تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ»(6) على حرمة الكذب بقول مطلق، ووجَّه الاستدلال بها الشيخ v في المكاسب حيث قال: (بدعوى أنه جعل الكاذب غير مؤمن بآيات الله كافرا بها...)(7) وبعبارة أخرى: إن هناك تلازماً بين افتراء الكذب وبين عدم الإيمان بآيات الله فيكون هذا كذاك محرماً، وإن شئت فقل: إن افتراء الكذب أخص مطلقاً من «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ».

ويمكن أن يستدل بما يظهر من الشيخ الطبرسي(رحمه الله) في مجمعه من أن الآية

ص: 23


1- سورة آل عمران: 75.
2- سورة النساء: 50.
3- أي البنات والشركاء ونظائرهما.
4- سورة النحل: 62.
5- تفسير السيد شبّر: ص272.
6- سورة النحل: 105.
7- المكاسب: ج 2 ص 12.

إخبار في مقام الإنشاء فتفيد تحريم الكذب، قال: (وفي الآية زجر عن الكذب حيث أخبر سبحانه أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن...)(1) انتهى.

إشكالات على الاستدلال بآيات الافتراء على حرمة الكذب مطلقاً

ولكن قد ترد على كلام الشيخ الطبرسي (رحمه الله)، وعلى الاستدلال الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) إشكالات هي:

الإشكال الأول: افتراء الكذب أخص مطلقاً من الكذب
اشارة

إن الآية تتحدث عن افتراء الكذب وليس عن الكذب، بل بتتبع سائر الآيات - ومع قطع النظر عن الإشكال السابق وأنها مختصة بأصول الدين - نجد أن الكلام فيها يتمحور حول افتراء الكذب، فهو موضوعها لا الأعم.

والافتراء أخص مطلقاً من الكذب من وجهين:

الأول:كونه يطلق على خصوص الكذب العظيم أو الكبير(2) لا كل كذب، قال في مجمع البحرين: (الفرية: الكذبة العظيمة التي تتعجب منها، والافتراء العظيم من الذنب)(3).

استنباط لغوي: الافتراء انتهاك حق الغير، وليس مطلق الكذب كذلك

الثاني: كما أن المستظهر أنه قد أخذ في مفهومه انتهاك حق الغير، وذلك لأن الافتراء مأخوذ من الفري - والفري هو القطع مثل فري الأوداج -، فكأن

ص: 24


1- تفسير مجمع البيان: ج6 ص 596.
2- وكلامنا هو حول الأدلة على حرمة مطلق الكذب، كالكذب العادي والبسيط لا بعض حصصه.
3- مجمع البحرين: ج1 ص329.

الكاذب قد فري وقطع واقتطع من حقهم، وافتراء الكفار المذكور في هذه الآيات انتهاك لحق المنعم وحق الخالق.

وعليه: فلو كذب الإنسان غير منتهك لحق شخص آخر، كما لو قال: (ذهبت للسوق) ولم يذهب أو (طالعت الكتاب) ولم يطالع، فهو ليس بفرية، فلا تشمله الآيات موضوعاً، قال بعض اللغويين:

(الافتراء: اتهام كاذب ينال من كرامة الآخرين وشرفهم،

وافترى على: سعى بغيره وتعرض لكرامته وشرفه كذبا وبهتانا

ومفترٍ: من يفتري على الآخرين)(1).

ومن ذلك يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الكذب في الآية مطلق؛ إذ إنّ الأصل في (ال) أنها للجنس، فتفيد على ذلك حرمة الكذب بقول مطلق وبمختلف ألوانه وأنواعه؛ ومنها: التورية والمبالغة والإغراق - إن عدت كذباً -، وغير ذلك.

حيث إن الموضوع في الآية الشريفة هو افتراء الكذب وليس الكذب، وهو أخص مطلقاً من الكذب، كما مر.

الرد على من ساوى بين الفرية والكذب، بصحة السلب

لا يقال: إن بعض اللغويين كصاحب لسان العرب عرَّف الفرية بالكذب(2)، فأطلق ذلك من غير تقييد له بالعظيم، كما صنعه مجمع البحرين(3)،

ص: 25


1- وليس القصد أن قول هذا اللغوي ونظائره هو الدليل بل هو مؤيد، وأما الدليل فهو الارتكاز العرفي وصحة السلب.
2- لسان العرب: ج15 ص154
3- مجمع البحرين: ج1 ص329..

ومن دون الإشارة إلى كونه ما ينتهك به حق الغير، ما يومي بصدقه على الكذب وإن كان صغيراً ليس فيه انتهاك لحق الآخر.

إذ يقال: الظاهر أن تفسيره لا يخلو من مسامحة حيث فسر الفرية بالجنس، كما يفعل اللغويون كثيراً ما، كتفسيرهم (السعدانة) ب(نبت)، وهذا متداول عندهم فإنهم لا يعرفون الكلمة بحدها أو رسمها التام أو الناقص، وإنما يبدلون في كثير من الأحيان اللفظ بآخر أوضح منه لا غير، بدون مراعاة المساواة الدّقية من النسب الأربع.

دليلنا: صحة السلب؛ حيث يصح سلب الفرية والافتراء عن الكذبة الصغيرة، فلو قال أحدهم: (لقد فتحت الباب) ولم يفعل، فإنه لا يصح إطلاق المفتري عليه فلا يقال: (هذا افتراء) مع أنه يقال: (إنه قد كذب).

والحاصل: إن التتبع في لغة العرب وفي محاورات العرف وكذلك في القرآن الكريم يشهد بصحة سلب الفرية والافتراء عن الكذبة الصغيرة أو الحقيرة.

الاشكال الثاني: الحصر دليل على تحريم خصوص الكذب على الله ورسوله

كما إنه يستفاد من وجود أداة الحصر (إنما) في الآية السابقة: إن المراد هو الكذب على الله تعالى ورسوله n لا الأعم، وذلك بضميمة بداهة أن المؤمن قد يكذب أيضاً - وهو مشهود بالوجدان - إذ ليس الذين لا يؤمنون بآيات الله هم الذين يكذبون دون غيرهم، لكن المؤمن لا يفتري الكذب على الله ورسوله بما هو مؤمن أبداً، ولا بهذا القيد عادةً.

والحاصل: إنه لا يصح الحصر لو أريد الكذب بجنسه وإطلاقه الشامل لكل كذب صغير أو حقير حتى في مثل الأمور الشخصية، ويصح لو أريد من الكذب

ص: 26

ما كان على الله ورسوله(1)، فهو المراد لا غير.وبعبارة أخرى: إنّ الكذب ليس مما لا يصدر إلا من غير المؤمن؛ فإنه قد يصدر من المؤمن في بعض الأحوال، فيكون ذلك قرينة وجدانية شاهدة على أن المراد من الكذب في الآية الكريمة هو خصوص الكذب على الله ورسوله لا مطلقه، فإنه الذي لا يصدر إلا من غير المؤمن وسيأتي مزيد توضيح وتنقيح لهذا الإشكال - إن شاء الله تعالى -.

الإشكال الثالث: دلالة قرينة السياق على عدم الإطلاق
اشارة

شهادة قرينة السياق على إرادة خصوص الكذب على الله ورسوله، لا مطلق الكذب، وهو ما يعبر عنه البعض بتعبير عرفي هو: الجو العام لهذه الآيات، وإنه يدل ويشهد على أن المراد في الآية من الكذب هو الحصة الخاصة من الكذب وهي الكذب في أصول الدين، وذلك ظاهر عند مراجعة تمام الآيات في سورة النحل المشتملة على آيتنا المباركة وهي الآيات (100 109) من سورة النحل، قال تعالى: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ(2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(3) * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ

ص: 27


1- ويدل عليه كلام للإمام زين العابدين ولأمير المؤمنين 3 في بعض الأدعية، قال الإمام السجاد (علیه السلام): «وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِكَ شَاكٌّ وَلَا بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ وَلَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَأَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سَتْرُكَ الْمُرْخَى بِهِ عَلَي».
2- إشارة للنسخ وكان المشركون يستهزئون بالنبي (صلی الله علیه و آله) لذلك وإنه دليل على كذبه - والعياذ بالله - على الله وإنه كيف يصدر حكماً ثم يغيره؟
3- فهم غافلون عن حكمة النسخ، وإنه كالتخصيص لكن هذا في الأفراد وذاك في الأزمان، وإن الحكم في الواقع مؤقت ثبوتاً ومن البداية، لكن المصلحة اقتضت عدم إظهار كونه مؤقتاً إلا بعد انتهاء أمده، لمصلحة الامتحان وغيرها، ومثاله: آية النجوى وفرض الصدقة.

لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَايُعَلِّمُهُ بَشَرٌ(1) لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ(2)وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

الجواب عن الإشكال الثالث: الظهور السياقي ليس بحجة، والمناقشة فيه

ويرد عليه: إن المعروف أن الظهور السياقي ليس بحجة فلا يخصص العام ولا يقيد المطلق.

وقد يجاب عن ذلك: مبنىً بإنكار كلّية أن الظهور السياقي ليس بحجة، واستظهار حجيته في الجملة، وإن لم تكن بالجملة.

التشكيكية في الظهور السياقي وأثره

توضيحه: إنّ السياق على أنواع؛ فتارة: يكون من القوة بحيث يصنع ظهوراً أو يسقط الظاهر عن ظهوره، وهو على ثلاثة أقسام من حيث إخلاله

ص: 28


1- قيل أرادوا به سلمان، وقيل أرادوا به بلعام وكان قيناً بمكة نصرانياً، وقيل أرادوا به يسار وجبير (أو جبر أو خير) - وهما من عين التمر - وكانا نصرانيين، وقيل أرادوا به عائش الرومي. راجع: مجمع البيان ج 6 ص 595. أقول: لا مانعة جمع، إذ لعلهم بين فترة وأخرى كانوا ينسبون إلى شخص ثم إلى آخر، أو بعضهم نسب إلى أحد هؤلاء وبعضهم إلى آخر وهكذا.
2- أعجمي أي غير فصيح، وهو غير العجمي فإن العجمي قد يكون فصيحاً، أما الأعجمي فغير الفصيح وإن كان عربياً.

بإحدى مقدمات الحكمة الثلاثة.وتارة أخرى: لا يمتلك القوة، فيبقى الإطلاق على إطلاقه والعموم على عمومه، غاية الأمر يصلح أن يكون مؤيداً.

من أمثلة السياق الضعيف
اشارة

ومن أمثلة السياق الضعيف:

أ - صم يوماً صم يوماً

ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله) في فوائده(1) - ولكن بتأطير آخر - وهو ما لو قال المولى: (صُم يوماً صم يوماً)، ففي مثل هذه الجملة يقع التعارض بين الظهور السياقي في التعدد والذي مفاده التأسيس فيكون المراد هو صيام يومين، وبين الظهور اللفظي في وحدة المتعلق، وهذا الظهور أقوى من الظهور السياقي فيتقدم عليه.

وتوضيحه: إن ظاهر (صم يوماً) أنّ الأمر قد تعلق بصرف إيجاد الطبيعة، وكذلك الحال في الأمر الثاني، فلا يكون الأمر الثاني إلا تأكيداً.

وعليه: فلو تحقق فرد من أفراد الطبيعة فإن كلا الأمرين(2) قد امتثل بذلك الفرد، فيكون المورد تأكيداً لا تأسيساً، فيسقط الأمران كلاهما، لكن ضمهما إلى بعض - وهو الظهور السياقي - أفاد إرادة التعدد، لكنه مرجوح أضعف.

وفي محل البحث - وهو الآية الشريفة - فإن الظهور اللفظي ل(الكذب) في العموم أضعف من الظهور السياقي في خصوص الكذب على الله وعلى رسوله،

ص: 29


1- فوائد الأصول: ج2 ص 492 - 493.
2- التعبير بكلا الأمرين مسامحي مبني على الظاهر، وإلا فإن الثاني تأكيد للأول حسب كلام الميرزا.

إذا كان بلحاظ وقوعه متعلقاً للافتراء، وإلا فإنه أقوى منه، فتأمل(1).

ب - حديث الرفع ومجازية الإسناد
اشارة

وحديث الرفع(2) يصلح أيضاً كشاهد آخر؛ فإن سياقه يقتضي مجازية إسناد الرفع فيه إلى أكثر الفقرات في الحديث(3)، كما في رفع ما اضطروا إليه وما أكرهوا عليه، وكذا الخطأ والنسيان وما لا يطيقونه والطيرة والوسوسة، فالرفع هنا هو رفع تشريعي وليس رفعاً تكوينياً؛ وذلك أن المولى في مقام التشريع كما هو واضح، وحيث إن هذا (الرفع التشريعي) تعلق ب(ما اضطروا إليه التكويني) فيكون مجازاً(4).

وعليه: فلابد من تقدير شيء في هذه الفقرات مع كلمة الرفع وهو (حكم)، فيكون المعنى (رفع حكم ما اضطروا إليه)، وكذلك الحال في (ما أكرهوا عليه) ونظائرها.

والمتحصل: إن الإسناد في هذه الفقرات إسناد مجازي، وهذا هو الظاهر من السياق ومفاده، وأما في فقرة (رفع مالا يعلمون) فإن الرفع من الممكن أن يكون حقيقياً، فيكون الإسناد حقيقياً كذلك؛ لأن (ما) الموصولة يمكن أن يراد بها (الحكم) نفسه فيكون المراد: إن الحكم الذي لا يعلمه الإنسان يرفع من قبله تعالى فلا حاجة ههنا إلى تقدير، وههنا فإن الظهور السياقي في كون الإسناد مجازياً عموماً في حديث الرفع لا يخل بظهور الإسناد الأولي الحقيقي في (رفع مالا

ص: 30


1- وهذا بحث هام يجري في الكثير من آيات الكتاب العزيز والروايات الشريفة.
2- الكافي: ج 2 ص 463
3- بل فيها جميعاً عدا واحدة.
4- إذ التشريع لا يرفع التكوين.

يعلمون) حتى يصرفه إلى المجازي المتوقف على التقدير(1)؛ وذلك لأنالظهور السياقي هنا ضعيف فلا يخلّ، فتبقى تلك الفقرات على مجازية الإسناد فيما تبقى هذه الفقرة على ظاهرها الحقيقي(2) هذا.

من أمثلة السياق القوي

وقد يكون الظهور السياقي قوياً جداً فيتقدم على معارضاته، ومن ذلك:

أ سياق الجملة الشرطية

ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله) في مبحث آخر(3) مثالاً لذلك، وهو ظهور سياق الجملة الشرطية في أن الشرط علة منحصرة للجزاء، فهذا الظهور هو ظهور قوي وحجة، كما في (إن جاءك ضيف فأكرمه)، فإن الظهور السياقي العرفي في المقام هو أن المقدم في الجملة الشرطية (مجيء الضيف) علة للتالي (وجوب الإكرام)، فيكون السياق في هذه الحالة حجة، ولكن قد يقال: بأن الجملة الشرطية موضوعة لإفادة الانحصار، وتحقيق ذلك موكول إلى الأصول.

ب - سياق أهن الفساق واقتلهم

ومن أمثلة حجية السياق ما لو قال المولى: (أهن الفساق واقتلهم)، فإن الظهور السياقي هنا يعارض واحداً من أقوى الظهورات وهو ظهور العام، ويتقدم عليه، فإن (الفساق) جمع محلى (بال) فيفيد العموم - بحسب الوضع -،

ص: 31


1- بأن يكون المراد بالموصول هو (فعل) - كما كان الاضطرار والإكراه المرفوع فعلاً - فيكون تقدير الجملة هكذا: رفع فعل أي حكم فعل لا يعلمونه.
2- وذلك على التحقيق وعلى ما ذهب إليه مجموعة من الأصوليين، على بحث حول ذاك يطلب من محله.
3- فوائد الأصول: ج2 ص481.

ومع ذلك فإن قرينة السياق تتقدم عليه؛ حيث إن المراد قطعاً ليس قتل جميع الفساق، بل المراد قتل بعض أصنافهم كالقتلة والكفار الحربيين، فببركة اقتلوهم - وهي قرينة سياقية - يستظهر أن المراد من الفساق المتعلق ل(أهن) أيضاً هو خصوص القتلة والكفار الحربيين وأشباههم منهم، نعم يمكن القول بالاستخدام: بإبقاء (أهن الفساق) على ظاهره، والقول بالاستخدام في ضمير اقتلهم بأن نرجعه إلى بعض ما عاد إليه لا كله، إلا أن الظهور السياقي الآنف الذكر أقوى منه.

تطبيق مراتب الظهور السياقي على الآية الكريمة

وأما المقام، وهو الآية الشريفة: «إنَمَا يَفْتَرِي الكِذْبَ»، فإن لدينا مطلقاً وهو (الكذب)، والأصل في (ال) أنها للجنس، كما هو الحال في «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»(1) المراد به مطلق البيع؛ إذ لا توجد فيه(2) قرينة سياقية على التقييد.

وجوه ثلاثة للتقييد

اشارة

ولكن توجد في الآية «إنَمَا يَفْتَرِي الكِذْبَ» وجوه ثلاثة قد يقال: بأنها تفيد نفي إطلاق (الكذب)؛ اعتماداً على قرينة السياق:

أ - السياق ينفي المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة

الوجه الأول: إن السياق قد يخل بإحراز كون المولى في مقام البيان فلا ينعقد أصل الإطلاق؛ لانتفاء المقدمة الأولى من مقدماته(3) في الآية الشريفة،

ص: 32


1- سورة البقرة: 275.
2- في أحل الله البيع.
3- فإن الإطلاق - بحسب المشهور - يتوقف على مقدمات ثلاث لكن الظاهر توقفه على مقدمتين بل على مقدمة واحدة فقط، كما حققناه في محله.

وذلك لعدم احراز كون المولى جل وعلا في قوله: «يَفْتَرِي الْكَذِبَ» في مقام بيان تحريم مطلق الكذب، وإنما المسلم المحرز هو أنّ كلامه تعالى عن افتراء الكذب على الله تعالى أو على رسوله (صلی الله علیه و آله) أيضاً.ويؤيد ما ذكرناه: ما استظهره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تبيانه قال: (ثم أخبر تعالى أن الذي يتخرص الكذب ويفتري على الله هو الذي لا يؤمن بآيات الله ويجحدها وهم الكاذبون...)(1)، وقال: «وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ» على رسوله (صلی الله علیه و آله) فيما ادعوا عليه)(2) انتهى.

وحاصل كلامه: إن الآية في مقام الإخبار وليس الإنشاء، كما أنه قد تَلقَّى كون الآية خاصة بالكذب على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله، وليس عن تحريم مطلق الكذب.

ب - السياق يخل بالمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة
اشارة

الوجه الثاني: لو سلم إن السياق لا يخل فيما نحن فيه بالمقدمة الأولى من مقدمات الحكمة، لكنه قد أخل بالثانية منها: (ألا تكون هناك قرينة على الخلاف)(3)، حيث إن السياق في هذه الآيات يصلح كقرينة على إرادة الخلاف، فلا ينعقد الإطلاق لانتفاء المقدمة الثانية.

الفرق بين الوجهين

وهناك فرق دقيق بين الوجه الأول والثاني، وهو: إنه إذا لم تتم المقدمة

ص: 33


1- التبيان في تفسير القران: ج 6 ص 428.
2- التبيان في تفسير القران: ج 6 ص 428.
3- وأما الثالثة بترتيبنا فهي: أن لا يكون قدر متيقن في مقام التخاطب، والحق إنها مندرجة في الثانية فإنها صغرى لها، نعم المشهور عكسوا ترتيب المقدمتين، وليس ذاك بذي أثر.

الأولى فلا ينعقد الظهور، وأما إذا تمت فإنه ينعقد إلا أن القرينة على الخلاف مانعة عن إرادته الجدية لو كانت منفصلة، فالظهور موجود غير مراد(1).وبعبارة أخرى: بناءً على الوجه الأول لا توجد إرادة استعمالية، أما على الوجه الثاني فإنه حتى لو أحرزنا انعقاد الإرادة الاستعمالية على الإطلاق لكن يبقى الكلام في الإرادة الجدية والمراد الجدي.

وبتعبير آخر: في الوجه الأول لا يوجد اقتضاء، وفي الوجه الثاني يوجد المقتضي إلا أنّ المانع موجود فيتقدم عليه(2).

والمقام(3) نظير الفارق بين المخصص المتصل والمنفصل، فلو قال المولى: (أكرم العالم) فالعالم مطلق، أما لو قال المولى: (أكرم العالم العادل) فإن الإطلاق سينعقد مضيقاً من البداية، وتكون الإرادة الاستعمالية ضيقة منذ البدء، لا إنها قد انعقدت واسعة ثم ضيقت بعد ذلك بالإرادة الجدية، ولو قال المولى: (أكرم العالم) ثمّ بعد ذلك بفترة قال بقرينة منفصلة: (أكرم العالم العادل) فالفرق هنا إنه في (أكرم العالم) قد انعقدت الإرادة الاستعمالية مطلقة بداية، ولكن دلت القرينة المنفصلة على عدم إرادة الإطلاق الاستعمالي البدوي وأثبتت أن المراد الجدي من العالم هو العادل.

وعلى هذا الوجه يتولد احتمال ثانٍ في الآية الشريفة هو: إن (الكذب) بحسب الإرادة الاستعمالية مطلق، ولكنه بحسب الإرادة الجدية وببركة الآيات

ص: 34


1- فصل السيد المؤلف ذلك في مباحث التعارض، ويمكن مراجعة ذلك على موقع مؤسسة التقى: m-alshirazi.com.
2- ونحن نرى أن الأمر من قبيل الوجه الثالث الآتي، ولكن ذكر الوجه الأول أو الثاني هو لتعميم الفائدة لمن قد يستظهر أحدهما.
3- فقد المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة وعدم المقدمة الثانية، ونظير الأول المخصص للعام المتصل ونظير الثاني المخصص للعام المنفصل.

السابقة - إذا اعتبرناها كقرينة منفصلة(1) - نرفع اليد عن الإرادةالاستعمالية المطلقة فنقول إنّ قوله تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ» وإن كان ظاهرها الإطلاق وأنّ المولى في مقام بيان التعميم، ولكن قرينة السياق(2) قيدت (الكذب) بأصول الدين.

ج - القرينة السياقية موجبة لخروج اللفظ تخصصا عن دائرة (المطلق)

الوجه الثالث: - وهو مقتضى التحقيق - إن قرينة السياق قد تكون موجبة لخروج اللفظ عن دائرة الإطلاق تخصصاً فينتفي الاقتضاء، وهذا الوجه - على فرض ثبوته - أقوى مما سبق، إذ متقضى الوجه الأول أن قرينة السياق لو تمت لكانت دافعة للمقدمة الأولى من مقدمات الحكمة ومانعة من انعقاد الإطلاق مع بقاء دلالة اللفظ على الطبيعة، ومقتضى هذا الوجه أن الخروج عن دائرة الإطلاق موضوعي ينفي دلالة اللفظ على الطبيعي.

توضيحه: إن مفاد هذا الوجه هو: أن قرينة السياق أوجبت(3) استظهار أن (ال) في (الكذب) هي للعهد الذهني أو الحضوري أو الذكري، عكس الوجهين الأولين حيث افترضنا هناك أن مدخول (ال) هو الجنس والطبيعة، فقد كان الكلام هناك في أنّ الطبيعة لا إطلاق لها من خلال عدم إحراز كون المولى في مقام البيان - فيكون المقام نظير المخصص المتصل -، أو كانت واسعة بحسب الإرادة الاستعمالية ثم ضَيَّقَت - بحسب القرينة على الخلاف والتي هي من مصاديق المقيد

ص: 35


1- إذ قوله تعالى: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ» تسبق الآية بآيات، فتأمل.
2- إن سلمنا بها وقلنا بأنها في المقام منفصلة.
3- أو فيما إذا أوجبت.

المنفصل - الإرادةَ الجدية.

وأما في الوجه الثالث: فإننا لو ذهبنا إلى أن (ال) هي للعهد، فإنّها(1) لا تكون مشيرة إلى الطبيعة والجنس، بل إلى الفرد أو الأفراد.

وتوضيح ذلك: إنه لو مرّ عالم فقلت: أكرم العالم، فالعهد هنا حضوري فهذه قضية شخصية وحكم شخصي، ولم ينصب الحكم فيها على الطبيعة، بل على الفرد - والفرد لا قابلية له للإطلاق -، والحال كذلك في العهد الذكري كما في: مررتُ بعالم فأكرمت العالم، وفي العهد الذهني.وفي آيتنا الشريفة فإن العهد في (الكذب)؛ إما أن يكون ذهنياً على احتمال، أو ذكرياً على احتمال آخر، وعلى كلا الاحتمالين، فإن الآية تتحدث عن أفراد خاصة من الكذب تشير إليها، وليس الحكم منصباً على الطبيعة بما هي.

وبتعبير آخر: إن القضية في الآية خارجية وليست حقيقية، وسياق الآية ينطق بذلك فإنها تتحدث عن ناس خاصين اتهموا الرسول (صلی الله علیه و آله) بتهمة خاصة، فيقول تعالى بحقهم: أنتم المفترون، فقوله تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ...» قضية خبرية بنحو القضية الخارجية، وليست إنشائية بنحو القضية الحقيقية.

والحاصل: إن موضوع الإطلاق في الصورتين الأوليتين محفوظ؛ حيث انصبّ الحكم على الطبيعي ثم قُيِّد، أو كان من دون كون المتكلم في مقام البيان فيوجد هنا لفظ صالح للإطلاق، لكن المولى لم يكن في مقامه أو أنه قيدَّه، أما حسب الإشكال الثالث فإنه لا موضوع ولا محل قابل للإطلاق أصلاً، فهو كقولك (أكرم زيداً) أو (أكرمت زيداً)، أو قول الشاعر:

ولقد أمر

على اللئيم يسبني

فمضيت ثمة

قلت لا يعنيني

ص: 36


1- أي (ال) أو القرائن، على الرأيين.

ف(ال) في اللئيم تشير إلى فرد أو أفراد خاصة، والإخبار هو عن قضية خارجية مركوزة في ذهن القائل، وقد أشار إليها إجمالاً بقوله (اللئيم) وليس القصد طبيعيّه وإن لوحظ مرآةً، فتأمل.

والتحقيق: إنه يوجد في العهد الذهني وأخويه احتمالان كلاهما يتم به المقصود:

الاحتمال الأول: إنّ (ال) التي هي للعهد الذهني أو الذكري أو الحضوري تشير(1) إلى الفرد الخارجي بالمباشرة ودون توسيط الطبيعة، والأمر هنا واضح.

الاحتمال الثاني: إنها تشير إلى الطبيعي المتمصدق(2)، وهذا أيضاً ليس يقابل للإطلاق وليس محلاً له؛ فإن الحصة المتمصدقة غير قابلة للإطلاق ولا للتقييد؛ فإن كليهما ممتنع في الكلي المتمصدق من حيث هومتمصدق، أو يقال: إنها غير قابلة للإطلاق إذ(3) لم تكن قابلة للتقييد(4)، فإن التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم على رأي بعض الأصوليين(5)، ولو امتنع أحدهما لامتنع الآخر؛ بل حتى لو قلنا بأنّ التقابل هو تقابل الضدين، فتأمل.

حاصل الإشكال الثالث: إن ال في (الكذب) للعهد

والمتحصل في الإشكال الثالث هو: أن المستظهر من (ال) في (الكذب) في قوله تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ...» هو أنها للعهد الذهني أو الذكري بلحاظ

ص: 37


1- أو القرائن تشير، لا (ال)، على القولين.
2- أو الحصة من الطبيعة.
3- ولعل العكس أدق، بلحاظ وجه الاحتجاج، فتدبر.
4- أي بلحاظ سائر المصاديق، لا بلحاظ الحالات فإنه بالنسبة لها غير متمصدق.
5- فوائد الأصول: ج1 ص155.

ما جاء في الآيات السابقة: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)(1)، وهذا العهد الذهني يشير إلى أفراد خاصة من الكذب، وهي ما نطقوا به من تكذيبهم الرسول (صلی الله علیه و آله)، وتكذيبهم كون القرآن من الله تعالى، أو أنه يشير إلى الحصة المتمصدقة من الكذب، وعليه فلا موضوع للإطلاق حتى يقال: إنّ الآية مطلقة.

ولعل ظاهر صاحب فقه الصادق (علیه السلام) ذلك؛ قال: (إن الظاهر من الآية الشريفة بقرينة الآيات السابقة عليها ... إرادة المكذبين للنبي (صلی الله علیه و آله) فيما ادعاه من كون ما يأتي به من عند الله هم الكاذبون لا النبي (صلی الله علیه و آله) فيكون الحصر إضافياً)(2)- انتهى، وظاهره ما ذكرناه من كون القضية خارجية.

وبذلك يظهر أنه على الوجه الثالث من قرينية السياق لا موضوع لتوهم التعارض أو التخصيص بين «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ» ونظائره، وبين ما دل علىجواز التورية والمبالغة والكذب في المزاح، وإن فرض كون الأوليين كذباً موضوعاً؛ فإن التعارض هو فرع وجود الإطلاق فيها، فإنه لو وجد الموضوع - كمقتض - ولكن لم يوجد شرط الإطلاق(3) لم ينعقد الإطلاق فلا تعارض، كما في الصورة الأولى، فكيف لو ارتفع موضوع الإطلاق أصلاً كما في الصورة الثالثة؛ إذ لا موضوع للإطلاق أبداً، فإنّ موضوعه هو الطبيعي لا الفرد.

الفرق ما بين الوجوه الثلاثة لقرينية السياق على عدم الإطلاق

وبتعبير آخر: إنه في الوجه الأول: فإن قرينة السياق واردة ونافية

ص: 38


1- سورة النحل: 101.
2- فقه الصادق (علیه السلام): :ج14 ص417.
3- وهو كون المولى في مقام البيان.

للإطلاق نفسه(1)؛ إذ المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة، فلا ينعقد الإطلاق.

وأما في الوجه الثاني: فإن قرينة السياق حاكمة أو مخصصة، فإن المولى وإن كان في مقام البيان - فرضاً - ولكن القرينة على الخلاف موجودة، فتخصص ما وسّعته الإرادة الاستعمالية وتضيقه بحدود الإرادة الجدية.

وفي الوجه الثالث: فإن قرينة السياق نافية لموضوع الإطلاق، فكأنها واردة مرتين، فهي تنفي موضوع الإطلاق فكيف به؟(2).

الدعوة إلى بحث معمق حول قرينة السياق

وهنا لا بد من أن نشير إلى أن مبحث قرينية السياق من المباحث التي لم تُعْطَ حقها من التدقيق والتحقيق في علم الأصول، نعم هناك بعض المباحث المتفرقة فيها - كبرى وصغرى -(3)، وفي تصورنا فإن هذا المبحث يستدعيمن الأعلام على الأقل مجلداً كاملاً من البحث والكلام؛ وذلك أن الكثير من آيات القرآن الكريم المستدل بها على حكم أو ما أشبه هي مطلقات أو عمومات، والسياق القرآني هو سياق فريد، فربما استظهر أن هذا السياق يخل بإطلاق المطلق

ص: 39


1- لا لموضوعه أي لا للمحل القابل.
2- وهذه الإشكالات والبحوث يمكن تطبيقها على أي مطلق في القرآن الكريم مبتلى بالسياق، فالفائدة ستكون كبيرة.
3- فقد يكون البحث أحياناً من صفحة أو صفحتين أو أكثر أو أقل كما في فوائد الأصول للميرزا النائيني وغيره، ولعل البحث يحتاج إلى 500 صفحة من البحث التفسيري والأصولي والبلاغي لتحقيق ذلك، ولعل مبحث الظهور السياقي لو أعطي حقه من البحث والتدقيق والتدبر ثم صنفت أنواع السياق بأدق مما هو مذكور أو بأوسع منه لخرجنا بنتائج مغايرة في الجملة حتى من الناحية العملية، وأما من الناحية النظرية فستكون المباحث الأصولية والتفسيرية، بذلك أكثر عمقاً وسعة واتقاناً.

وعموم العام، والحق التفصيل كما مضى.

الإشكال الرابع: قرينة المقابلة تفيد إرادة مصاديق من الكذب لا مطلقاً

الإشكال الرابع على الاستدلال بالآية على حرمة مطلق الكذب هو: أنّ الآية واضحة في أنها في مقام بيان التقابل بين مجموعتين ومن ثمّ كلامين، وهي مجموعة الكفار من جهة، ومجموعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأتباعه من جهة أخرى، والتقابل بينهما بلحاظ كلام الطرفين وليس بلحاظ المجموعتين كأشخاص، ولو لاحظنا ما صدر منهم من تَقوُّلٍ ضد الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) فسنجد أنه كان كلاماً خاصاً وقضية جزئية معينة ومحددة هي تقولهم: إن النبي (صلی الله علیه و آله) - وحاشاه من ذلك - كان يكذب في دعواه، وفي قبال ذلك نجد أن الله تعالى يردهم بقوله: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ»(1)، فالآية بصدد بيان صنف أو نوع خاص من الكذب في دائرة أصول الدين، والقرينة عليه هي: المقابلة.

المناقشة في الإشكال الرابع: العدول من القضية الشخصية إلى الحقيقية أكثر فائدة

لكن قد يرد عليها - قرينة المقابلة وقرينية التقابل -: إن ذلك وإن صح إلا أنه لا ينفي أن للمولى الحكيم - لمزيد الفائدة - أنْ يعدل من القضية الشخصية فيحولها إلى قاعدة كلية تشملهم وغيرهم.

الردّ: ظهور جواب المولى في أنه شخصي

ولكن الظاهر من لحاظ مجموع الكلام في الآية المباركة والمقابلة هو: أن

ص: 40


1- سورة النحل: 105.

جواب المولى تعالى هو جواب خاص عن قضية مصداقية جزئية خارجية، وليس بياناً لحكم كلي، وذلك وإن كان خلاف الأصل إلا أن قرينة التقابل وغيرها تعضدها، فلا إطلاق يستفاد منه تحريم الكذب مطلقاً.

الإشكال الخامس: مفاد الآية (عدم الإيمان أوجب كذبهم) فلا يفيد الحرمة

الإشكال الخامس على الاستدلال بالآية هو: ما ذكره في فقه الصادق (علیه السلام) بقوله: (فالمراد من الكاذبين هم المكذبون له من اليهود والمشركين غير المؤمنين بالله ورسوله الذين صدر عنهم الكذب لعدم إيمانهم، لا أنّ الكذب أوجب خروجهم عن الإيمان، فلا تدل على المطلوب)(1) انتهى.

بمعنى: أن منطوق قوله تعالى: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ» هو: (الذين لا يؤمنون بآيات الله هم فقط الذين يفترون الكذب) فلا تدل على الحرمة، عكس ما لو كان منطوقها عكس ذلك، فكانت تدل على الحرمة وإلا فلا.

وبعبارة أخرى: ظاهر الآية أن عدم الإيمان أوجب كذبهم وهذا لا يفيد حرمة الكذب، عكس ما لو كان مفاد الآية هكذا: (كذبهم أوجب خروجهم عن الإيمان) فإنه يفيد حرمة مطلق الكذب حينئذٍ، وإن من باب المقدمية.

والحاصل: أريد من الكاذبين خصوص اليهود والمشركين الذين صدر عنهم الكذب، فلا تدل على المطلوب وهو حرمة الكذب الصادر من كل أحد حتى المؤمن أي حرمة مطلق الكذب، فتأمل.

ثم يمكن إيراد هذا الوجه بصياغة أخرى، وهي:

ص: 41


1- فقه الصادق (علیه السلام): ج14 ص417.

بيان آخر للإشكال: اللازم أعم فلا يدل على الأخص

إن عدم الإيمان لازمُهُ أعم من الحرام ومن المكروه؛ فإن عدم الإيمان من العلل التوليدية أو الإعدادية للحرام ولمطلق القبيح؛ فلو قلنا: بأنّ عدم الإيمان أنتج الكذب، دلّ ذلك على قبح الكذب لا أكثر؛ لأن عدم الإيمان كثيراً ما يولد الرذائل الخلقية كالحسد والحقد(1) وهي قبيحة وليست بحرام ما لم تظهر بما هو محرم، فلو قلنا: (إن عدم الإيمان أنتج الكذب) فلا يصح أن ننتقل من ذلك إلى الاستنتاج التالي فنقول: (فالكذب حرام لأنه معلوله) فإنه استدلال بالأعم على الأخص.

والحاصل: إن قولنا: (غير المؤمنين بالآيات يفترون الكذب) لا يدل إلا على أنهم يعملون القبيح الأعم من كونه حراماً أو مكروهاً(2).

جوابان عن الإشكال

اشارة

ولكن يمكن الجواب عن الإشكال المطروح بجوابين، وهما:

أولاً: الحصر في الآية يدل على الحرمة لا مجرد القبح

إن كلا البيانين لردّ دلالة الآية على الحرمة المطلقة ليس بتام؛ وذلك بسبب الغفلة عن قيد مهم في الآية الشريفة استفيد من أداة الحصر (إنما) وهو: (هم فقط)، فإن الآية الشريفة ليس معناها (عدم الإيمان موجب للكذب، بل معنى الآية مع هذه الأداة هو (الذين لا يؤمنون بآيات الله هم فقط الذين يفترون

ص: 42


1- وسائر الصفات السلبية كالطيرة والوسوسة والتي هي موجودة في مَن نَقَص إيمانُه.
2- فليس كل ما صدر من هؤلاء هو حرام حتى نقول إن افتراء الكذب حيث صدر منهم فهو حرام.

الكذب)، أي (عدم الإيمان الخاص موجب للكذب) أو (عدم الإيمان منهم فقط موجب للكذب.

وهذا القيد (هم فقط) يدفع كلا الإشكالين بلحاظه سيكون الاستدلال بالآية تاماً على حرمة مطلق الكذب(1)؛ إذ اللازم حينئذٍ لا يكون أعم؛ لأن الحصر يفيد الحرمة، فإننا لو قلنا بأنّ عدم الإيمان موجب للكذب، فقد يقال لنابأنّ عدم الإيمان قد يقتضي القبيح الأعم من الحرمة، ولكن لو قلنا: بأنّ غير المؤمن هو فقط من يفتري الكذب، لدلّ ذلك على أن التالي - وهو الكذب - محرم؛ فإن غير المؤمن يشترك مع المؤمن في القبيح، ولكنه لا يشترك في الحرام؛ فإن الحرام لا يصدر من المؤمن بما هو مؤمن فكيف بالحرام الذي هو القدر المسلم الذي تتحدث عنه الآية وهو افتراء الكذب على الله تعالى في أصول الدين؟ وبعبارة أخرى: ما لا يصدر إلا من غير المؤمن بما هو غير مؤمن، حرام.

أو يقال: إن من افترى الكذب على الله تعالى في أصول الدين فهو بالبرهان الإنّي غير مؤمن، فلا يتوقف الاستدلال على عكس الآية.

نعم سوف يختص الاستدلال بآيتنا الشريفة على حرمة الكذب بالكذب في الأصول، فلا تفيد الآية حرمة الكذب مطلقاً لهذه الجهة، لا من جهة دعوى أعمية اللازم، فتدبر.

والحاصل: إن (هم فقط) - وهي مفاد إنما - تفيد أمرين:

الأول: الحرمة لا القبح فقط.

الثاني: إن الكذب في أصول الدين محرم.

ص: 43


1- أي المدلول عليه بالآية، لا مطلقاً كما سيأتي.
ثانياً: مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحرمة

إن المعلول والمولَّد والمُعَدّ والناتج - وهو الكذب - لا بد من أن يكون محرماً؛ لأن الموضوع وهو (الذين لا يؤمنون بآيات الله)، يناسب حرمة الكذب لا مجرد قبحه، فالتناسب بين (الذين لا يؤمنون بآيات الله ويفترون الكذب عليه تعالى) يقتضي كونه حراماً، والتشكيك في كون هذا الكذب حراماً هو خلاف الفهم والذوق العرفي(1)، فانه حاكم بحرمة هذا النوع من الكذب للمناسبة بين الموضوع وحكمه. وسيأتي بعد قليل بحث هذا الوجه.

والمتحصل: عدم تمامية الإشكال الخامس المذكور؛ للإشكالين الواردين عليه، فتدل الآية على الحرمة من هذه الجهة، ولكن لا تدل على الحرمة المطلقة لجهات أخرى سبقت(2).

هذا هو الشق الأول من كلام صاحب فقه الصادق (علیه السلام) مع بعض الكلام حوله.

الشق الثاني من كلام السيد الروحاني دام ظله: عكس الآية هو الدال على الحرمة

أما الشق الثاني من كلام فقه الصادق (علیه السلام) - في مفهوم كلامه(3) وإن لم يصرح -: من أن الآية لو كانت قد وردت بعكس ما ذكر في كتابه تعالى، لدلت على المطلوب، فلو كان مفاد الآية: (الكذب مخرج عن الإيمان أو موجب لخروجهم عن الإيمان)(4) لتم المطلوب.

ص: 44


1- نعم بالتدقيق الفلسفي يمكن دعوى كون المقدم أعم من الحرمة.
2- مثل أن موضوعها هو افتراء الكذب، لا الكذب؛ إلى غير ذلك مما مضى.
3- قال: (... لا أن الكذب أوجب خروجهم عن الإيمان).
4- فقه الصادق (علیه السلام): ج14 ص417.

المناقشة في الشق الثاني: ليس مطلق المخرج عن الإيمان بمحرم

ففيه: إنّ ذلك ليس بتام أيضاً؛ إذ ليس كل مخرج عن الإيمان حراماً؛ لأن الإيمان على مراتب، والمخرج عن بعضها هو المحرم دون بعضها الأخر.

وبعبارة أخرى: هنا أمران: (أصل الإيمان) و(كمال الدين)، والمخرج عن القسم الأول من الإيمان هو المحرم، لا الثاني - كالحسد ما لم يظهر - فإنه

ليس بمحرم.

وحيث ثبت - حسبما مضى - إن (ال) في الآية هي للعهد شبه الذهني أو الذكري، وإن المراد بها هي الكذب في أصول الدين، وحيث إن هذا هو الذي يخرج عن الإيمان - أي عن أصل الإيمان -، فلا تدل الآية على حرمة الكذب بقول مطلق.

كذلك مضى الإشكال بعدم تمامية المقدمتين الأوليين من مقدمات الحكمة؛ نظراً لوجود القرينة على الخلاف، فلا دليل على حرمة الكذب بصورة مطلقة ليتفرع عليه أن الكذب مخرج عن الإيمان - أي عن أصل الإيمان - بقول مطلق.

دفاعاً عن الاستدلال بالآية: برهان السنخية يثبت حرمة الكذب مطلقاً

ويمكن الدفاع عن المستدلين بهذه الآية على حرمة الكذب بقول مطلق استناداً إلى برهان السنخية، إذ لا ريب في وجود تجانس وسنخية بين الإيمان والصدق، كما توجد في الطرف المقابل النقيض - أي اللاإيمان والكذب - أيضاً سنخية.

وفي المقام يمكن أن نستعين بقول الإمام (علیه السلام) في رواية الكافي عن يونس

ص: 45

قال: سألت الخراساني عليه السلام و قلت: إن العباسي(1) ذكر أنك ترخص في الغناء! فقال (علیه السلام): «كذب الزنديق ما هكذا قلت له»، سألني عن الغناء، فقلت له: إن رجلاً أتى أبا جعفر (علیه السلام) فسأله عن الغناء! فقال (علیه السلام): «يا فلان إذا ميز الله بين الحق والباطل فأنى يكون الغناء؟» فقال: مع الباطل، فقال (علیه السلام): «قد حكمت»(2)، بأن نقول: إن الله تعالى إذا ميز الحق والباطل فأين يكون الكذب؟ والجواب: إنه بلا شك سيكون في دائرة الباطل، وفي قباله يقع الصدق حيث يكون في دائرة الحق.

ونتيجة برهان السنخية هي: أنّ اللاإيمان يقتضي حرمة الكذب، وإن الكذب يقع في دائرته؛ لأنه المسانخ له، لا في دائرة الإيمان أبداً.

ردّ برهان السنخية بوجوه

اشارة

ويمكن رد الوجه المذكور ب:

الوجه الأول: السنخية أعم من الوجوب والحرمة

الإشكال الأول وهو إشكال كبروي: إن السنخية هي أعم من الوجوب؛ فإن الإيمان(3) واجب رغم أنه مسانخ للصدق، إلا أن الأخير ليس بواجب، إذ للإنسان أن لا يتكلم بالصدق بأن يسكت - في الجملة -.

كما أن الإيمان مسانخ مع كل من الإحسان والعدل، مع أن الإحسان مستحب.

ص: 46


1- في بعض النسخ [العياشي] و في الوافي نقلاٌ عن الكتاب (العباسي). و الظاهر أنه رجل معروف من العباسيين له شأن في دولتهم فأراد الراوي اخفاء اسمه لمصلحة. هامش الكافي رقم1 ج 6 ص 435.
2- الكافي: ج6 ص435 باب الغناء.
3- أي بأصول الدين وشبهها.

كما أنها أعم من الحرمة أيضاً؛ فإن اللاإيمان بعض ما هو من سنخه حرام، وبعضه الآخر مكروه كالحسد ما لم يظهره، والرذائل الاخلاقية.

الوجه الثاني: السنخية على نوعين أحدهما يقتضي الحرمة

الإشكال الثاني إشكال كبروي أيضاً، ولكنه تنزلي حيث نقول:سلمنا: إن السنخية تقتضي الحرمة، ولكن أي نوع من السنخية؟ فإن السنخية بين أصل الإيمان وشيءٍ ما - كالعدل - يقتضي الوجوب، لا السنخية بين كمال الإيمان وشيء ما - كالإحسان والمواساة والايثار -، والسر في ذلك أن الإيمان درجات ومراتب وكذلك السنخية.

وفي قبال ذلك فإن اللاإيمان الذي يقع في قبال أصل الإيمان، يكون سنخه حراماً، ولكنّ قسماً آخر من اللاإيمان وهو الذي يدفع أو يرفع كمال الإيمان فإن سنخه مكروه.

وعليه: فمن أين أن الكذب بقول مطلق يزيح أصل الإيمان حتى يكون حراماً؟ إذ قد يكون مزيلاً ونافياً لكمال الإيمان لا أصله!

والحاصل: إن ذلك الدليل هو في حد ذاته مدعى، وما ذكرناه هو جواب كبروي أيضاً ولكن بدرجة أضيق من الأول، وفيه تسليم وتفصيل في الكبرى.

الوجه الثالث: انكار الصغرى مع التسليم بالكبرى

الإشكال الثالث: - وهو صغروي - وهو: إنّا سلمنا أن السنخية تقتضي الحرمة والوجوب بقول مطلق، ولكن لنا أن ننكر في الجملة صغروية الصغرى، كأن ننكر مثلاً كون القصص المخترعة الهادفة التربوية هي من سنخ الكفر، بل قد يدعي مدّعٍ أنها من سنخ الإيمان، كمن يخترع قصة لطفله حول عواقب السرقة،

ص: 47

متضمنة التخويف منها، وذلك لردعه، وكذلك فإن الكذب مازحاً من دون أن يترتب عليه أي ضرر أو مفسدة لا يعلم صغروياً أنه من سنخ الكفر، وإن لم يكن - فرضاً - من سنخ الإيمان، ولكن ذلك مبني على وجود واسطة بين الإيمان والكفر.

وفي مثال ثالث: الكذب على الزوجة؛ إذ هناك روايتان - أو أكثر - تجيز الكذب عليها(1)، و هذا الكذب بناء على تمامية الرواية ليس من سنخ الكفر أو اللاإيمان.

ب: الاستدلال بآيات أخرى على حرمة الكذب مطلقاً

وقد يستدل على الحرمة المطلقة للكذب بالآيات التالية(2):

الآية الأولى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى(3) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»(4).

الآية الثاني: «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(5).

ص: 48


1- لو تم سند الروايتين وقبلناهما، والتحليل: إنها إما أن تكون بنحو القضية الخارجية، أو أنها خاصة بصورة وجود مصلحة تغلب مفسدة الكذب.
2- والجواب عليها هو جواب سيال فلا ضرورة لاستعراض كل الآيات الأخرى وهي بالعشرات.
3- وهذا يعني أنهم كانوا يعبدون هؤلاء الأولياء بقصد التقرب إلى الله - بزعمهم - فلا يرد إشكال النواصب على شيعة أهل البيت % بإنهم يعبدون الأئمة للتقرب زلفى إلى الله تعالى فإننا نتقرب بآل محمد (صلی الله علیه و آله) إلى الله تعالى ولكن لا نعبدهم كما هو بديهي.
4- سورة الزمر: 3.
5- سورة العنكبوت: 1.

الآية الثالثة: «بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ»(1).

الآية الرابعة: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(2).الآية الخامسة: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ... لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ»(3)، ونظائرها.

ولكنه غير تام وذلك للوجوه الآتية:

إشكالات ثلاثة على الاستدلال

اشارة

وهناك إشكالات على الاستدلال بهذه الآيات:

الأول: العديد من الآيات واردة في مقام تحديد الصغريات

إن العديد من الآيات واردة في مقام تحديد الصغريات وتشخيصها لا غير، ولم ترد لبيان الحكم الكلي، كما هو الحال في الآيات الثالثة والرابعة والخامسة من الآيات السابقة؛ فإن فيها تشخيصاً صغروياً لحالهم، والكلام فيها إخبارات عن قضايا جزئية، وليس هناك إنشاء لأحكام كلية، وبيانات للكبرى الكلية.

ص: 49


1- سورة المؤمنون: 90 - 91.
2- سورة المنافقون: 1 - 2.
3- سورة النور: 11 - 13.
الثاني: العديد من الآيات واردة في صنف خاص من الكذب

كما يرد على الاستدلال بالعديد من الآيات: أنها واردة في صنف خاص من الكذب أو موضوعها هو ذلك، فمثلاً موضوع الآية الثانية أو موردها هو من يكذب في دعواه الإيمان، وفي الكلام عن هذه الدعوى وهذا الزعم، وكذلك الحال في الآيتين الثالثة والخامسة، فتدبر.

الثالث: الموضوع موصوف أو مركب
اشارة

فهو مركب من أمور تشكّل بمجموعها(1) الإشكال على الاستدلال بالآيات، ومجملها: إن الموضوع في بعض الآيات موصوف بصفة خاصة، وإنه في بعض الآيات الأخر مركب، وإن (لا يهدي) في بعض الآيات لا تدل على الحرمة، وأما تفصيلها فهو:

أولاً: الموضوع في بعض الآيات هو الكذب الموصوف بصفة خاصة

أما الأول: فهو إن الموضوع في بعض الآيات - كالآيتين الأولى والخامسة - ليس هو الكذب، بل هو الكذب الموصوف بصفة خاصة، ففي الآية الأولى قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»، فالموضوع هو (من هو كاذب)، وعلى هذا الموضوع صب الحكم، لا على (من كذب)، ومن الواضح الفرق ما بين (كاذب) و(من كذب)، فإن (من كذب) صادق بالحمل الشائع على من صدر منه الكذب مرة واحدة، وأمّا (من هو كاذب) فتعني من كان ديدنه العام ودأبه الكذب، أي من كان طابعه العام ذلك، فتأمل.

والموضوع في الآية الخامسة هو: (الإفك) أي الكذب العظيم، وهو عبارة

ص: 50


1- بل بعضها وافٍ بالإشكال.

عن رمي مارية القبطية زوجة النبي (صلی الله علیه و آله) بالزنا.

وعليه: فإثبات الحرمة لهذا الموضوع أو المورد لا يجدي لتعميمه على بقية الموارد.

ثانياً: الموضوع الذي صب عليه الحكم مركب

الأمر الثاني: ما نلاحظه أن الموضوع في الآية ليس هو الكاذب مطلقاً، بل الكاذب الكفّار.

وعليه: فلو سلّمنا أنّ جملة (لا يهدي) تفيد الحرمة، إلاّ أنّ هذه الحرمة قد صبّت على موضوع مركب من شقين، وهما: الكاذب والكَفّار، لا إنها صبت على الكاذب فقط، فلا تدل على حرمته وحده، كما هو الحال فيما لو قال الأب لولده: (لا تصاحب الجاهل الفاسق) فإن ذلك لا يدل على تحريم مصاحبة الجاهل فقط أو الفاسق فقط.

وبعبارة أخرى: إن موضوع الآية هو المركب على سبيل الاجتماع، لا البدلية فإنّها خلاف الظاهر(1)، فلا يصح للاستدلال بتحريم الأخص على الأعم(2)، فتأمل.

ثالثاً: لا يهدي لا تدل على الحرمة

وأما الأمر الثالث فهو: إن جملة (لا يهدي) لا تدل على الحرمة ظاهراً؛ إذ ليس المراد بالهداية هنا أصل الهداية كي يكون ما يسبب فقدها حراماً مقدمة، وذلك لأن أصل الهداية حق أوجبه الله تعالى على نفسه لجميع البشر فلا يصح أن

ص: 51


1- بأن يريد أن الله لا يهدي من هو كاذب وإن لم يكن كافراً، ولا يهدي من هو كافر وإن لم يكن كاذباً.
2- أي بتحريم المركب على تحريم الأجزاء لا بشرط.

يكون هو المراد بالنفي هنا، ومن هنا فإنّ المراد من (لا يهدي) في الآية أنه تعالى لا يلطف على (الكاذب الكفار) بالألطاف الخاصة(1)، وعلى هذا المعنى للآية فإنه لا دليل على أن حرمان المرء نفسه عن لطف الله تعالى الخاص حرام بل الظاهر إنه ليس كذلك(2).

دفاع عن الاستدلال بالآيات: الآية مشيرة إلى كبرى كلية ارتكازية

نعم يمكن القول - كوجه لتعميم هذه الآيات والآيات السابقة لمطلق الكذب - بأنه وإن قلنا: بأن هذه الآيات تتحدث عن صنف خاص من الكذب كما في (كاذب كفَّار) و(الإفك) وهو الكذب العظيم، إلاّ أنّ هناك تخريجاً لتعميم دلالة هذه الآيات وهو: إنّ تحريم هذه الآيات لهذه الأصناف والمصاديق أو الأفراد من الكذب، مبني على ارتكازية حرمة الكذب بقول مطلق عقلائياً، بل وعقلياً، وعليه تكون دلالة الآيات تامة على المراد.

وبعبارة أخرى: إن الآية وإن تحدثت عن كذب خاص، ولكن حيث بُني التحريم في هذا الكذب الخاص على جامع عقلي ينتج هذه الحرمة أو جامع عقلائي يقتضيها، فستكون القضية من قبيل الاستقراء المعلل وهو حجة، أو تكون من قبيل تنقيح المناط القطعي و هو حجة أيضاً، كما لو قيل لأحدهم: (إنك خائن) فإنه وإن كان إخباراً عن مورد جزئي، ولكنه يدل على حرمة مطلق الخيانة بلحاظ القرينة المقامية الحافة بالكلام، وهي أن المتكلم في مقام إحالة السامع إلى كبرى كلية مسلمة، فكأنه قيل: إن هذا الخائن (الجزئي) مصداق

ص: 52


1- ويتضح ذلك بملاحظة حال الطالب المجد والكسول فان التعليم متاح للجميع ولكن الأستاذ يعطي الوقت الكافي للأول دون الثاني لكون الثاني هو من ضيع هذه الفرصة
2- إلا لو وقع مقدمة للحرام.

لتلكالكبرى الكلية والتي هي متضمنة في الكلام ومطوية فيه، فالآية الشريفة: «فَلَيَعْلَمَنَّ

اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1) وإن كانت في مورد خاص وفي مقام الإخبار، إلا أنها مبنية على كبرى كلية ارتكازية، وكذلك الحال في قوله تعالى: «بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(2) فإن السياق وإن كان في أصول الدين ولكن فيه إحالة إلى تلك الكبرى العقلية او العقلائية.

وعليه: فالآيات بضميمة الارتكاز المذكور تدل على حرمة الكذب بصورة مطلقة، وهذا الوجه دفاعاً عن المطلقين لحرمة الكذب يبدو وجيهاً في بادئ النظر.

ردّ الدفاع بثلاثة إشكالات

اشارة

ولكن ترد عليه ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأول: إنّ الحرمة الارتكازية إنما هي فيما استتبع مفسدة

قد يقال(3): إن ارتكازية حرمة الكذب إنما هي في عظائم الأمور وفيما استتبع المفسدة، فإن المرتكز في الأذهان(4) هو حرمة هذا النوع الخاص من الكذب دون مطلقه، فإن أحدهم لو كذب والطرف الآخر عالم بأنه كاذب، ولم يزده ذلك تأثراً أو فساداً فقد يقال: إنه لا وجه لحرمة هكذا كذبة، وإنه أي ارتكاز يدل عليها؟! وكذلك الحال فيما لو كذب أحدهم مازحاً من دون ترتب مفسدة على ذلك.وبتعبير آخر: إن الإحالة إلى الكبرى الارتكازية الكلية في الواقع هي

ص: 53


1- سورة العنكبوت: 1.
2- سورة المؤمنون: 90.
3- كما قاله المحقق الإيرواني6 في حاشيته على المكاسب، وتبعه السيد الخوئي (رحمه الله) في مصباحه.
4- أو يشكك في ارتكازية الحرمة المطلقة على الأقل.

إحالة إلى دليل لبي(1)، وهو مما لا إطلاق فيه، فهي حوالة على أمر في الجملة لا بالجملة، ومعه فلا يمكن اقتناص الإطلاق والاستدلال عليه بالآيات الشريفة.

هذا هو الإشكال الأول، ولكن ستأتي المناقشة إن شاء الله تعالى في حصر الارتكاز فيما استتبع المفسدة.

الإشكال الثاني: إنّ ذلك عود إلى دليل العقل وهو خروج عن محل البحث

سلمنا: بأن هذه الآيات الواردة في موارد جزئية إنما هي مبنية على كبرى كلية ارتكازية، ولكن ذلك في واقعه عَوْدٌ إلى حكم العقل وخروج عن محل البحث، فإن الكلام في الاستدلال بالكتاب والآيات على المراد لا بدليل العقل، وسيأتي البحث عن حكم العقل في محله من أنه هل يحكم بحرمة الكذب مطلقاً أو لا؟ وحينئذٍ - فيما لو بنينا على تعميم الحرمة بالارتكاز - ستكون الآيات الشريفة مشيرة إلى الحجة والدليل العقلي؛ إذ هي لم تذكر الكبرى الكلية في مقام إنشاء الحرمة لها، بل ذكرت صغرى جزئية محيلةً إلى دليل عقلي، فتكون غاية هذا الدليل هي: أن القرآن مرشد إلى حكم عقلي بإخبار جزئي أو بنهي إرشادي غير مولوي، مع أن حرمة الكذب لدى الفقهاء - كما هو مسلم - مولوية لا إرشادية.

الإشكال الثالث: إنّ ذلك استدلال بالأعم على الأخص

ثم إن تحريم الآيات لصنف خاص من أصناف الكذب ك(إلافك) أو (من هو كاذب كَفّار) أو إخبار تلك الآيات عن صنف خاص، هو استدلال بالأعم على الأخص.

توضيح ذلك: إن تقريع الآيات وإخبارها عن حرمة هذه الأصناف أو

ص: 54


1- فإن بناء العقلاء والدليل العقلي هما دليل لبي.

المصاديق مبني على ما احتمل من ابتنائها على الإحالة إلى حرمة الكبرى باعتبارها قضية ارتكازية، لكن هذا لا يعدو كونه احتمالاً من الاحتمالات إذ هناك احتمالات أخرى، وهي كالتالي:الاحتمال الثاني: أن يكون وجه التقريع فيها هو: مقدميتها للحرام، كما في بعض الآيات، فلا يدل على حرمة الكذب بقول مطلق، أي وإن لم يكن مقدمة لحرام آخر.

الاحتمال الثالث: أن يكون وجه التقريع فيها هو: المكتنفات والملابسات والمقارنات الاتفاقية في الآيات لذلك المصداق الجزئي لا لعنوان الكذب بما هو هو، أي لا لحرمة الطبيعي بما هو هو.

الاحتمال الرابع: أن يكون مرجع التقريع في الآيات الشريفة لهذه المصاديق هو قبح الكبرى الكلية.

وحيث احتمل ذلك كله في الآيات، فيبطل الاستدلال بها على حرمة الكذب بما هو؛ إذ الأعم - من وحيث وجه تحريمه - لا يكون دليلاً على الأخص.

تطبيق الاحتمالات على الآيات

اشارة

ويمكن تطبيق الاحتمالات الآنفة على الآيات الكريمة.

1- المقدمية

فقد يقال: إن تحريم شهادتهم له بالرسالة لا موضوعية له، بل هو بسبب جهة مقدمية هذه الشهادة، قال تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»(1) فإن هذه

ص: 55


1- سورة المنافقون: 1.

الآية إخبار(1) عن حالة قوم بخصوصهم، وقد لا تكون شهادتهم محرمة بقول مطلق، بل لكون كذبهم في الشهادة مقدمياً، وهذا الاحتمال وارد ويكفي كونه محتملاً(2)، وعليه فيكون وجه التقريع في الآية هو مقدمية كذبهم لذي المقدمة المحرم ذاتاً لا لحرمته الذاتية.وربما يشهد لهذا الاحتمال الآية اللاحقة: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فإنهم كذبوا في الشهادتين وفي إخبارهم عن معتقدهم كي تحفظ دماؤهم وأولادهم لكي يصدوا بذلك عن سبيل الله، أي: أنه كانت شهادتهم بالإسلام طريقية للصد عن سبيل الله وكان التحريم والتقريع لذلك، فلا يتم الاستدلال بإحالة الآية على الكبرى الكلية المدعاة، فتأمل.

2- الملابسات والمكتنفات

فقد تكون هي وجه التحريم لا العنوان الخاص، أي أن يكون التحريم صغروياً للجزئي الخاص نظراً للمكتنفات المحتفة به، فلو أن الأب قال لابنه: (لا تدخل هذه السينما أو سينماءات البلد)، فإنه كما يحتمل أن يكون هذا النهي عن المصداق أو الصنف استناداً إلى انطباق كبرى كلية عليه وهي أن دخول السينما حرام مطلقاً، فكذلك يحتمل أن يكون التحريم للملابسات ؛إذ قد تكون الأفلام السينمائية بما هي هي ودور السينما بما هي هي لا إشكال فيها، ولكن الإشكال في الاختلاط أو نوع الأفلام التي تعرض، فلا يدل تحريم الصنف على حرمة الكلي، وكذلك لو قال المولى لعبده: (لا تشترك في مارثونات أو مسابقات السباحة) مثلاً، فإن ذلك قد لا يدل على حرمة كلي المشاركة فيها؛ إذ قد يكون

ص: 56


1- وإنشاء بوجهٍ، فإن (يشهد) إنشاء تضمن إخباراً.
2- إذ: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

النهي بسبب المقارنات كفوت الصلاة لاستغراق بعضها لساعات، أو الاختلاط، أو ما شابه.

3- أن يكون التقريع هو لقبح الكلي لا لحرمته

فإنه في مثل الآية: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا» فإنه كما يحتمل أن يكون التقريع والذم كاشفاً عن حرمة الطبيعي ككبرى كلية، يحتمل كذلك أن يكون ذلك بسبب قبح الكلي دون حرمته، فلو أن الله تعالى أو أي مولى آخر قال (فليعلمن الله الذين حسدوا منهم من غيرهم) فهل يدل ذلك على أن الحسد - ما لم يظهر - حرام؟

والجواب: كلاّ، فإن مثل هذا التعبير ينسجم مع ما هو قبيح أيضاً، والحاصل: إنّ الصغرى الجزئية قد تكون مبنية على كبرى كلية ارتكازية هي قبح الكذب لا حرمته.

ج: الاستدلال بالآيات المتضمنة لمادة (زعم)

ونضيف إلى ما مضى: الآيات المتضمنة مادة (زعم)، وهي آيات عديدة لعلها تصل إلى خمس عشرة آية بتصريفاتها.

و(الزعم) قيل: إنه أكثر ما يستعمل فيما يكون باطلاً أو ما يكون فيه ارتياب، وقيل: إنه يكون حقاً وباطلاً، وقيل: إنه كناية عن الكذب، وهو ظاهر بعض الروايات(1)، ولعل الأظهر أنه يرتبط بالشك في صدق المقالة، أو الأعم منه ومن النفي، فتأمل.

ولكن يرد على الاستدلال بها أيضاً الإشكالات السابقة ولو بعضها، فلاحظ.

ص: 57


1- مجمع البحرين: ج 6 ص 78

د: الاستدلال بآية «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»

وهناك آية أخرى قد يقال: بأنها تامة الدلالة على حرمة الكذب بقول مطلق، وهي قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا

الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(1)، والآية مطلقة، وقول الزور هو الكذب، فلو تم الاستدلال بها فإنه يمكن أن نلتزم بأن الكتاب أيضاً قد دل على حرمة الكذب بقول مطلق.

قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تبيانه: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» يعني الكذب، وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية بغير حق)(2)، وقال الشيخ الطبرسي (رحمه الله): «وَاجْتَنِبُوا

قَوْلَ الزُّورِ» يعني الكذب، وقيل: هو تلبية المشركين...)(3).

إشكال على الاستدلال بالآية: قول الزور مشترك

ولكن يرد على ما ذكر: أنه عند مراجعة كتب اللغويين نجدهم يذكرون لقول الزور معاني متعددة، قال في مجمع البحرين: (الزور: الكذب والباطل والتهمة)(4).

وقال في لسان العرب: (الزور جمع أزور من الزور، أي: الميل)(5)، فالمراد اجتنبوا القول المائل عن الحق.

وهناك معانٍ أخر منها: إن الزور هو الشرك بالله حيث فسرت آية «وَالَّذِينَ

ص: 58


1- سورة الحج: 30.
2- التبيان: ج7 ص312.
3- مجمع البيان: ج7 ص131.
4- مجمع البحرين: ج3 ص 319.
5- لسان العرب: ج 4 ص 336

لا يَشْهَدُونَ الزُّور» ب: لا يشركون بالله العظيم(1) مما الظاهر أنه تفسير بالمصداق.

وهذا المبحث طويل الذيل ذكرنا تفصيله في مبحث حفظ كتب الضلال(2)، فثمة إجابات وافية بإذن الله تعالى عن الإشكالات والتساؤلات المطروحة ههنا، ونحن ذاكرون الآن عناوينها - مع تحويرها وتطويرها بما يلائم المقام - لمزيد الفائدة.

تحقيق الحال في الاستدلال بهذه الآية إجمالاً

الأمر الأول: الاحتمالات في قول الزور
الأول: قول الزور موضوع حقيقةً للكذب فقط

فقد يقال: بأن قول الزور ظاهر في الكذب وأنه موضوع له، ثم بعد ذلك استعمل في غيره من المعاني المتكثرة بعلاقة مصححة، فتكون هذه المعاني - أي الغناء والشرك بالله والباطل و.. - معاني مجازية له.

وعليه: فإن الآية ستكون دالة على المراد؛ وذلك لأن الكلمة المتجوز بها إن لم يثبت وضع تعيّني ثانٍ لها، فإنها تبقى على معناها الحقيقي ما لم تقم قرينة على الخلاف.

الثاني: قول الزور موضوع للجامع

وقد يقال: بأن قول الزور موضوع للجامع، وهنا احتمالان:

الاحتمال الأول: أن يكون الجامع الذي وضع له قول الزور هو (الباطل)، فراجع المعاني السابقة إذ ستجد صلاحيته لكونه الجامع، على أن الصلاحية أعم من الوقوع والتحقق.

وعلى هذا فقد يقال: إن الاستدلال بالآية تام؛ لأن الكذب باطل، ولكن

ص: 59


1- مجمع البحرين: ج3 ص 319.
2- حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد: ص 140.

هل الكذب مزاحاً هو من الباطل؟ الظاهر أنه كذلك؛ لأن الكذب ليس بحق قطعاً ولا قسيمَ ثالثَ في المقام؛ إذ الحق والباطل ضدان لا ثالث لهما، فتأمل.

أو يقال: بأنهما كذلك ولو بنظر العرف، فإن العرف يرى أن الشيء إما أن يكون حقاً أو باطلاً، فتأمل.

وكذلك الحال في القصص المخترعة فإنها من الباطل، وإن كانت هادفة، فإن الكلام في هذه القصص بما هي هي وبحد ذاتها، والهادفية عنوان عرضي مزاحم.

وكذا الحال في الكذب على الزوجة، فإنه باطل أيضاً، إلا لو دلت رواية صحيحة السند والمتن على الاستثناء إن لم يكن حكمياً.

الاحتمال الثاني: هو أن قول الزور موضوع لجامع (الميَل)، كما هو ظاهر معجم مقاييس اللغة(1)(2)، ولو كان الأمر كذلك لصح الاستدلال بالآية على حرمة الكذب مطلقاً؛ إذ يكون معنى «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»: اجتنبواالقول المائل بكم عن الجادة أو عن الواقع أو عن الحق، والكذب سواء أكان مزاحاً أم غيره هو من ذلك(3) إن لم نقل بالانصراف عن بعض الأصناف(4).

الثالث: قول الزور مشترك لفظي

وقد يقال: إن قول الزور مشترك لفظي، وبناءً عليه أيضاً يصح الاستدلال به على المراد؛ وذلك ببركة « وَاجْتَنِبُوا» ومناسبات الحكم والموضوع، فلا

ص: 60


1- معجم مقاييس اللغة: ج3 ص36.
2- وقد بينا في (حفظ كتب الضلال) أن الزوراء مثلاً تسمى زوراء بسبب ميلان قبلتها وكذا القوس يسمى بالزوراء لتقوّسه وهكذا.
3- فانه مائل عن المطابقة للواقع.
4- وقد حققنا وجوه الانصراف وأيها المستقر من البدوي في كتاب (البيع)، فراجع.

يتوهم أنه لو قلنا بأنّ قول الزور موضوع بنحو الاشتراك اللفظي لمعانٍ عديدة، فإن مراد المولى سيكون مجملاً بسبب التردد في أن أي المعاني هو المراد، وقد أجبنا عن ذلك في كتاب (حفظ كتب الضلال) بأن الرأي المنصور هو: إن استعمال المشترك في أكثر من معنى صحيح، بل إنه كذلك حتى على رأي من منع، فإن المانع يقول: بأن المحال هو استعمال اللفظ في أكثر من معنى فيما إذا كان كل معنى منها هو تمام المراد، وأما إذا كان كل من هذه المعاني الحقيقية المتعددة بعض المراد فلا إشكال، كما في دلالة الكل على أجزائه، فإن لفظ إنسان يستعمل في الكل فيدل على أجزائه كالعين واليد والرجل وكل منها بعض المراد لا تمامه، وعلى أي حال فحيث إن الاستعمال ليس إفناءً للفظ في المعنى بل هو على نحو الإشارة، وبالتالي فالاستعمال في أكثر من معنى ممكن، بل حتى على مبنى الإفناء فإنه لا مانع منه إذ ليس حقيقياً كي يمتنع. وتفصيله في مظانه.

إذاً: لو التزمنا بالاشتراك اللفظي فإنه سيشمل كل المعاني، ولكن لا بنحو دلالة الكلي على أصنافه، ولا بنحو دلالة الكل على أجزائه، بل هو بنحو ثالث هو دلالة المشير إلى ما يشير إليه، ولذلك تفصيل يطلب من محله، وعليه فإنه يعم الكذب فيدل على حرمته بقول مطلق، نعم يخرج ما أحرز خروجه بالأدلة، فتدبر.

الأمر الثاني: هل « اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ » طريقي أو موضوعي؟

هل قوله تعالى: «اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» ونهيه عن ذلك موضوعي تعلق فيه «اجْتَنِبُوا» بعنوان قول الزور بما هو هو؟ أو أنّ النهي في «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» مقدمي وطريقي، نظراً للمفسدة المترتبة وإغراء الغير؟

وعلى الاحتمال الثاني: لا تشمل الآية الكذب مزاحاً أو غيره مما لا إغراء ولا مفسدة فيه، وكذلك لا تشمل القصص المخترعة الهادفة التي لا مفسدة فيها

ص: 61

أيضاً، عكس الاحتمال الأول.

ولكن حققناه في محله: إن الأصل في الأوامر والنواهي هو النفسية والموضوعية، لا الغيرية والمقدمية؛ فإنها خلاف القاعدة والأصل، لا يصار إليها إلا بدليل.

الأمر الثالث: ما هو متعلق «اجْتَنِبُوا»؟

بناءً على التسليم بالصغرى وأن قول الزور هو الكذب، فلا بد من تحقيق حال متعلق «اجْتَنِبُوا»، وأنه:

هل هو (الإيجاد) فيكون المعنى: (اجتنبوا إيجاد الكذب)؟

أو هو (النقل) فيكون المعنى: (اجتنبوا نقل الكذب)، والنقل على نحوين: فقد ينقل بعضنا الكذب من غيره وهذا الناقل قد ينفي الكذب وقد يوهم به.

أو هو (سماع) قول الزور أو (استماعه)، فيكون سماع أو استماع الكذب حراماً؟

أو هو (الحفظ) فيكون المعنى: (اجتنبوا حفظ قول الزور)؟

أو هو (الترويج) ومعناه: (اجتنبوا ترويج قول الزور)؟

فهذه خمسة احتمالات، وقد أسهبنا الحديث في مبحث (حفظ كتب الضلال) عنها وذكرنا بعض آراء العلماء في ذلك، بين معمم أو مخصص، فليراجع.

الأمر الرابع: هل المنهي عنه في الآية هو المصدر أم اسم المصدر؟

كما لا بد من تحقيق الحال في: إن المنهي عنه في الآية من (قول الزور) هو المصدر أو هو اسم المصدر(1) ؟ والفرق بينهما كبير من حيث الثمرة الفقهية

ص: 62


1- وهنا نجد أهمية الاجتهاد في (مبادئ الاستنباط) من مباحث صرفية وغيرها

الخارجية.

كما لا بد من تحقيق: إن الإضافة في (قول الزور) هي من باب إضافة الموصوف للصفة؟ أي: اجتنبوا (القول الزوري)؟ على حسب ما ذكره العلامة الشهيدي(رحمه الله)(1)،أو إنها من قبيل إضافة المصدر إلى مفعوله، فيكون المعنى (اجتنبوا أن تقولوا الزور) (2)؟

والثمرة ههنا أيضاً كبيرة؛ فإنه لو قلنا: بأن الظاهر هو أن الإضافة في (قول الزور) من قبيل إضافة المصدر لمفعوله فيكون متعلق اجتنبوا هو الفعل أي (أن تقولوا)، لا النتيجة الحاصلة، ومعه فكلما أحرز أنه قول زور شملته الآية وكان محرماً، ولكن في صورة الشك في مورد ومصداق أنه قول زور أو لا، سيكون المجرى البراءة؛ إذ كلما شككنا في جزء أو شرط أو مقدمة أنه كذلك، فالأصل البراءة، وكذا لو شككنا في مصداقية المصداق؛ لعدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية والمقام من الأخير.

وعليه: فلو شككنا في كون الكذب المزاحي مصداقاً لقول الزور، فإن الأصل يقتضي العدم بل يكفي عدم إحراز دخوله في العام، فلا تدل الآية على حرمته.

وأما لو قلنا: إن الإضافة في قول الزور هي من قبيل إضافة الموصوف لصفته فسيكون من قبيل اسم المصدر، أي إنّ المنهي عنه هي النتيجة والهيئة الحاصلة، فيكون المقام من قبيل العنوان والمحصل، فلو شككنا في المقام فيأن الكذب المزاحي - لو ارتكبناه - هل نكون قد امتثلنا الاجتناب عن قول الزور؟ فإن

ص: 63


1- هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: 49.
2- للتفصيل يراجع كتاب حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد للمؤلف ص 166 - 167

الشك حينئذٍ سيكون مجرى للاحتياط؛ لأنه شك في العنوان والمحصل، ومعه فلابد من ترك هذا الكذب وما أشبه.

وهناك بحوث أخرى عديدة تبتني على ما بيناه في كتاب (حفظ كتب الضلال)، فراجع وتدبر.

وعلى ما حققناه هنالك فإن دلالة الآية الكريمة على التحريم بقول مطلق تامة ظاهراً.

الدليل الثاني: العقل

اشارة

الدليل الثاني(1) على حرمة الكذب بقول مطلق هو العقل(2)، وهنا وجهان للاستدلال:

الوجه الأول: أنّ العقل مُدرِك

الأول: أن يقال بأنّ العقل مدرك لحرمة الكذب بقول مطلق، فحرمته من المستقلات العقلية، أو أنه مدرك لقبحه مطلقاً، ثم يُتمَّم الاستدلال بقاعدة الملازمة.

وهذا بناءً على أن العقل ليس بحاكم، بل هو مدرك فقط، ومرآة كاشفة عن الأحكام التي منها الحرمة.

الوجه الثاني: أنّ العقل حاكم

الثاني: أن يقال بأن العقل يحكم بقبح الكذب مع قطع النظر عن الشارع،

ص: 64


1- وتذكر الروايات عادة كدليل ثانٍ ولكننا سنؤجل ذلك إلى حين الغوص فيها عند ذكر مستثنيات الكذب إن شاء الله تعالى.
2- وهذا الوجه قد تلقاه الأعلام كأمر بديهي كصاحب المكاسب والجواهر والسيد الوالد رحمهم الله تعالى وإن كان الأخير قد أضاف منبِّها في الاستدلال.

ثم ببركة قاعدة الملازمة: (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) نكتشف الحرمة المطلقة للكذب شرعاً.أو يقال: إنه يحكم بحرمة الكذب ابتداءً فالوجوه أربعة، فتأمل(1)، ولكن يبقى أن العقل هل يستقل بقبح أو حرمة الكذب بعنوانه؟ أم بلحاظ مقدميته؟

إشكال الأعلام الثلاثة على الاستدلال بالعقل

ولكن عدداً من الأعلام أشكلوا على الاستدلال بالعقل عبر القدح بكلية الكبرى، فإنّ الإشكال تارة من جهة عدم صحة الاستدلال بالعقل على حرمة الكذب كصغرى، وتارة أخرى - كما هو ظاهر كلام بعضٍ وصريح بعض آخر - من جهة أصل الكبرى.

المحقق الإيرواني (رحمه الله): مقدميه الكذب للفساد هي الملاك

أشكل المحقق الايرواني (رحمه الله) في حاشيته على المكاسب على كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بأن من ضرورة العقول حرمة الكذب بقوله: (ضرورة العقول مختصة بما ترتب على الكذب مفسدة)(2).

وظاهر كلامه: إن ضرورة العقول في حرمة الكذب مختصة بالكذب المقدمي، وهو فيما لو أفضى الكذب إلى مفسدة.

وهنا نقول: وينبغي تقييد المفسدة بخصوص المفسدة البالغة؛ إذ لا يحكم العقل بحرمة ما عداها ذاتاً، فحينئذ لو ترتبت المفسدة البالغة على الكذب فهو حرام، ولكنه لو خلا من أية مفسدة فإن العقل لا يحكم بحرمته، كما هو الحال في

ص: 65


1- إذ لا معنى للقول بأن العقل يحكم بقبح أمرٍ فإنه مما يدرك لا مما يحكم به فإن القبح غير مجعول أي أنه مما لا يُنشأ.
2- حاشية المكاسب للمحق الايرواني: ج 1 ص 39.

المزاح البريء وغيره مما لا مفسدة فيه أصلاً.

ثم يقول: (وبهذا العنوان يحرم كل شيء حتى الصدق لا خصوص الكذب)(1).وحاصل كلامه (رحمه الله): إن الكذب والصدق متساويان، ولا فرق بينهما، فإن تَرتَّبَ عليهما فساد فالحرمة ثابتة وإلا فلا، ثم بعد ذلك يتنزل في كلامه فيقول: (ولو سلم فالعقل لا يرى الكذب إلا خلقاً ردياً لا محرماً)(2)- انتهى.

أقول: لا يخفى ما فيه، فإن هذا المدعى - إن كان مقصوداً له -

فهو خلاف الوجدان والضرورة؛ فإن الصدق والكذب - بما هما عنوانان - مختلفان حسناً وقبحاً، وجداناً، وبصريح حكم العقل، كما هو الحال في الخيانة والأمانة، فإنّ الأمانة حسنة والخيانة قبيحة بما هما هما، والحاصل: إن طبع الكذب وذاتيه القبح، وليس قبحه لأمر منفصل عنه - وهو المفسدة - وقد قارنه أحياناً، فتدبر.

ثم إنه قد جرى السيد الخوئي (رحمه الله) على نفس مساق كلام المحقق الايرواني (رحمه الله) فقال: (وأما العقل؛ فإنه لا يحكم بحرمة الكذب بعنوانه الأولي مع قطع النظر عن ترتب المفسدة والمضرة عليه، وكيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التي لا يترتب عليها مفسدة دنيوية و أخروية)(3)- انتهى.

وقال الشيخ التبريزي (رحمه الله): (وأما العقل فلا استقلال له بقبح مطلق الكذب حتى مع عدم ترتب فساد عليه من تلف عرض أو مال أو غيره من المفاسد ليكون حكمه به كاشفاً بقاعدة الملازمة عن حرمته، نعم حرمته مطلقاً مستفادة من الكتاب العزيز والأخبار)(4)- انتهى.

ص: 66


1- حاشية المكاسب للمحق الايرواني: ج 1 ص 39.
2- حاشية المكاسب للمحق الايرواني: ج 1 ص 39.
3- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 385.
4- إرشاد الطالب في شرح المكاسب: ج 1 ص 226.

مناقشات مع الأعلام الثلاثة

ولكن يمكن أن نناقش ما ذكره الأعلام الثلاثة كبرى وصغرى، تارة: من حيث دعواهم عدم الحرمة، وتارة: من حيث دعواهم عدم ملازمة المفسدة للكذب بل يمكن الانفكاك بينهما، وثالثة: من حيث دعوى بعضهم عدم قبح الكذب العاري عن المفسدة، فههنا مناقشات ثلاثة(1):

بناء على أن مدار البحث هو الوجوب والحرمة

أما بناءً على أن مدار البحث ابتداءً هو الوجوب والحرمة، فإنّ كلام المحقق الايرواني والعلمين الآخرين مبني على كبرى كلّية - بل كلماتهم صريحة في ذلك - انطلقوا منها في استدلالاتهم وهي: (إن الكذب وغيره لو كان مما يترتب عليه المفسدة لحرم وإلا فلا)، ولكنه غير تام في عقده السلبي، على بعض المباني:

المناقشة الأولى: عدم انحصار الحرمة بكبرى (ما لزمت منه المفسدة)

اشارة

وهو إشكال كبروي، وقد فصلنا الكلام فيه في بحث الاجتهاد والتقليد، فسنقتصر على العناوين العامة ومن أراد التفصيل فليراجع ما هنالك، فنقول:

إن قبح الكذب وحرمته غير مرتهنين بترتب المفسدة؛ إذ إن الكذب حرام وقبيح مطلقاً حتى لو لم تكن هناك مفسدة في البين.

ص: 67


1- الفرق بين المناقشات الثلاث هو: إن حاصل المناقشة الأولى هو أن وجه الحرمة لا ينحصر بما إذا كانت هناك مفسدة، وحاصل المناقشة الثانية هو إنكار عدم المفسدة في بعض أفراد الكذب، بل المدعى أنها لازمة له مطلقاً، وحاصل المناقشة الثالثة هو أنه حتى لو كان هناك انفكاك فإن قبح الكذب ثابت لتعدد المناشيء له ثم تتميم ذلك بقاعدة الملازمة بين القبح والحرمة، فتأمل.

وبعبارة أخرى: إن الحرمة والوجوب ليستا منحصرتين بوجود المصلحة والمفسدة - سواء الذاتية أي ما كانت في الشيء نفسه، أم المقدمية أي ما كان أمرٌ مقدمةً لحصول أحداهما - في متعلقهما، بل هناك أسباب أخرى - على سبيل البدل - تستدعي الحرمة أو الوجوب وتقتضيهما.ومما يدل على ذلك: مبنى المتكلمين كافة من قبح الكذب على الله تعالى في وعده بالجنة ووعيده لنا بالنار، وإن لم تترتب على هذا الكذب مفسدة فرضاً(1). فلو رفعنا يدنا عن هذا الحكم العقلي للزم المحذور السابق من جواز نسبة الكذب إلى الله تعالى في وعده ووعيده(2)، فتدبر.

وتحقيق ذلك في ضمن بيان مناشئ حكم العقل بالوجوب أو الحرمة.

مناشئ حكم العقل بالحرمة أو الوجوب
اشارة

هنالك علل أربع للحرمة أو الوجوب عقلاً، وهي:

الأول: المصلحة أو المفسدة البالغة

المصلحة أو المفسدة، وهو ما ذكره الأعلام وبنوا عليه.

أقول: وينبغي إضافة قيد البالغة أو الملزمة(3).

الثاني: شكر النعمة والمنعم وكفرانهاإن شكر النعمة أو كفرانها هو عنوان في حد ذاته مما يستقل العقل بوجوبه

ص: 68


1- بأن لم نعلم بكونه كذباً، إذ إن لم نعلم فلا يترتب حينئذٍ محذور عدم الارتداع وعدم الانقياد إذ إنما ينتفي الارتداع والانقياد ومحركية الثواب والعقاب إذا علم بأنهما كذب.
2- أي ثبوتاً حتى لو لم يعلم المكلف ذلك.
3- وذلك لأنه ليس كل مصلحة او مفسدة موجبة للحكم بالحرمة أو الوجوب بل ان الدرجات النازلة منها توجب الكراهة أو الاستحباب والتحبيب.

أو حرمته، لا بحسنه أو قبحه فقط، وحكمه عام غير مرتهن بوجود مفسدة أو مصلحة في البين(1)، فالحامل لأحد هذين العنوانين واجب، والمقدّمة لأحدهما واجب مقدمياً عقلاً أو ونقلاً أيضاً.

والبرهان هو الوجدان؛ فإن أحدهم لو أنعم عليك بنعمة قليلة كانت أم كثيرة، فإنه يحسن أو يجب(2) عليك أن تشكر تلك النعمة بقولٍ أو فعلٍ، ولو ترك أحدهم ذلك - لا لعلةٍ - فإنه يعد ناكراً للجميل ويذم على ذلك، بل ويستحق العقاب لو كانت النعمة جسيمة والكفران فاحشاً(3)، وعقاب المجتمع قد يكون بقول أو فعل من أهانه أو محاصرة وعزل أو غير ذلك.

الثالث: جلب المنفعة البالغة

الذي يحكم به العقل هو وجوب جلب المنفعة البالغة، وحرمة العكس، لا الحسن أو القبح فقط، وكونه ثالثاً مبني على أن فقد المنفعة ليس بمفسدة أو مضرّة، وإلا لعاد إليها، فتأمل(4).

الرابع: الاقتضاء الذاتي

من عوامل حكم العقل بالحسن أو الوجوب والقبح أو الحرمة هو الاقتضاء الذاتي(5)، إذ ليس بالضرورة أن يكون الشيء ذا مفسدة أو منفعة، أو أن يكون

ص: 69


1- أو: وان لم تلاحظا.
2- حسب نوع درجة النعمة.
3- هذا هو القدر المتيقن على الأقل.
4- التأمل لوجوه: منها أنه يكفي التغاير العنواني للحكم بالحرمة استناداً له، ومنها: عدم وضوح حكم العقل بوجوب جلب المنفعة البالغة وتحريمه دفعها أو رفعها نعم لا ريب في العتاب إنما الكلام في استحقاق العقاب، فتأمل.
5- وعبرنا عن ذلك بالاستحقاق الذاتي في بحوث الاجتهاد والتقليد.

شكراً للمنعم أو جالباً للمنفعة أو عكسهما كي يحكم العقلبالوجوب أو الحرمة، بل إن الاستحقاق أو الاقتضاء الذاتي كثيراً ما يكون هو الملاك والمناط في حكم العقل بأحد الأربعة(1)، فإن الشيء كثيراً ما يكون في حد ذاته مقتضياً لحسن العمل به إيجاباً، أو مقتضياً الردع عن مخالفته سلباً، كما في عبادة الله تعالى لأنه أهل لذلك(2)، فإن حسنه - أو وجوبه - ثابت مع قطع النظر عن الأمور الثلاثة الأولى، فإن الله تعالى بما هو هو يستحق العبادة، والعقل يحكم بالحسن أو الوجوب نظراً لذلك.

صغرى المقام

وفي المقام - أي الصدق والكذب - نقول: بأن الصدق له اقتضاء ذاتي للوجوب بغض النظر عن أي أمر آخر، وكذلك الكذب فإن الكذب بما هو هو حرام عقلاً؛ إذ العقل حاكم بالحسن والقبح، ويدلنا على ذلك الوجدان وملاحظة مختلف الفضائل والرذائل كالشجاعة والجبن والكرم والبخل، فعندما تعرض على الوجدان ويُقابَل بينها فإننا نجد أنه يرى بدواً حسن هذا وقبح ذاك، وما ذلك إلا للاقتضاء الذاتي، نعم ليس ذلك على نحو العلية التامة كما في العدل والظلم؛ ولذا أمكن الانفكاك في المقام، هذا صغرىً.

وأما كبرىً: فإنه إذا ثبت حسن أمر عقلاً فقد ثبت وجوبه شرعاً لقاعدة الملازمة المعروفة بين الأمرين فإنها على المشهور كذلك، خلافاً للمنصور؛ إذ ارتأينا في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع) بأن الملازمة إنما هي

ص: 70


1- الحسن، الوجوب، القبح والحرمة.
2- كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَلَا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ لَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُك» بحار الأنوار: ج67 ص186.

بين الحسنين أو القبحين كما هي بين الوجوبين أو الحرمتين، لا بين القبح والحرمة أو الحسن والوجوب هذا.

كما يمكن تقرير الصغرى على المنشأ الثاني أيضاً وهو: إن الصدق هو في حد ذاته شكر للنعمة، والمراد بها نعمة معرفة الحقيقة ونعمة القدرة على قول الصدق فيها، عكس الكذب تماماً فإنه نوع كفران نعمة، كما يمكن تقريرها على المنشأ الثالث بأن الصدق مقتضٍ لجلب المنفعة البالغة، عكس الكذب، ولا يخفى وجه التأمل في ذلك.

المناقشة الثانية: عدم انفكاك الكذب عن المفسدة مطلقاً

اشارة

أما المناقشة الثانية مع كلام الأعلام الثلاثة - إن الكذب قد ينفك عن المفسدة، وإن العقل يحكم بحرمة الكذب إذا ترتبت المفسدة، مما يفهم من كلامهم أنه إذا لم تترتب المفسدة فالعقل لا يحكم بقبح الكذب - فهي: إن ذلك غير تام صغرى، بل الصحيح هو أنه لا يوجد مورد ينفك فيه الكذب عن المفسدة بحال من الأحوال؛ وذلك أن المفسدة لازمة للكذب من وجوه عديدة، نعم قد ينفك عن المفسدة الأولية إلا أن هناك وجوهَ فسادٍ أخرى تترتب على الكذب، وهي بقوة من المكان ما يمكن معها الحكم بالحرمة.

نموذج من وجوه الفساد الأخرى في الكذب غير المفسدة الأولية
اشارة

ولنذكر ذلك في ضمن بيان حال الكذب مزاحاً: فإن الكذب حتى لو كان مزاحاً أو غيره، وقد أقيمت عليه قرينة، ولم تتصور فيه مفسدة في لازمه العرفي الظاهر، إلا أن هناك لوازم من المفاسد مترتبة على الكذب مطلقاً غير سنخ المفسدة الأولى.

ص: 71

أ الكذب المزاحي علة مُعِدِّة للتجرؤ على الكذب المحرم

ومنها: إن هذا الكذب المزاحي(1) علة مُعِدَّة للجرأة على الكذب المُسلَّم حرمتُه.

وبتعبير آخر: إن الكذب في الصغير أو المزاح أو القصص المخترعة أو غير ذلك، هو مما يعتاد الإنسان معه على الكذب، فيقتحم حتى ذا المفسدة والذي هو مسلم الحرمة.

وبعبارة أخرى: يفقد الكاذب مزاحاً مناعته اتجاه المحرم من الكذب؛ إذ تزول فداحته وقبحه من نفسه؛ لاعتياده الكذب ولو مزاحاً.

ب - الكذب المزاحي موجب لجرأة الآخرين على الكذب

ومنها: إن الكذب وإن كان مع علم الطرف الآخر، مما قد يقال فيه بأنه ترتفع المفسدة بالعلم، إلا أنه سيجرّئ الآخرين - النوع - على الكذب.

إذاً فالكذب تلزمه المفسدة الأخرى، وإن لم تترتب عليه المفسدة الأولى المعهودة المبحوث عنها.

ومما يوضح ذلك: إن السرقة محرمة دون شك، ولكن لو كان المسروق منه ممن ينتفع بالسرقة، كما إذا أمّن على ماله - أي جعله مؤمّنا عليه - مما سيحصل على تعويضات مضاعفة - لو سرقت - انفع له مما سرق منه - على تفصيل -، أو كمن يحظى بذلك بمظلمة تدرّ عليه الأموال بشكل أفضل، فهل تجوز هنا السرقة لِصِرف أن المفسدة المعهودة - وهي تضرر المسروق منه - قد ارتفعت؟ كلا؛ فإن ارتفاع هذه المفسدة ليس بمانع من ثبوت مفسدة أخرى مترتبة طولياً(2).

ص: 72


1- مثلاً، كسائر ما يقال إنه لا مفسدة فيه.
2- كتعويد النفس على السرقة وتجرءة الآخرين عليها - كما سبق -.

وذلك مما لا ننفرد بقوله، بل ظاهر الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) البناء عليه أيضاً في مبحث الكذب قال: (ولذلك كلِّه أطلق جماعة كالفاضلين والشهيد الثاني في ظاهر كلماتهم كونه من الكبائر، من غير فرق بين أن يترتّب على الخبر الكاذب مفسدة أو لا يترتب عليه شيء أصلاً، ويؤيّده ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه: «ويلٌ للذي يحدّث فيكذب، ليُضحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له، ويلٌ له»(2) فإنّ الأكاذيب المضحكة لا يترتّب عليها غالباً إيقاع في المفسدة)(3).

ووجهه: إن الشارع حرّمها لا من جهة المفسدة اللازمة لطبيعي الكذب، بل من جهة مفاسد أخرى كمفسدة التسبيب لاقتحام سائر أنواع الكذب المحرم.

والحاصل: إن الكذب مزاحاً كنظائره منشأ للمفسدة بالواسطة وإن لم يكن بالمباشرة، فتأمل.

رواية أخرى مؤيدة

ونذكر هنا رواية أخرى قد تكون أقوى في دلالتها على المراد مما نقله الشيخ (رحمه الله)، فعن الرسول (صلی الله علیه و آله): «وَاجْتَنِبُوا الْكَذِبَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ فِيهِ النَّجَاةَ فَإِنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ»(4)، فإنه قد يكون وجه كلام النبي (صلی الله علیه و آله) ما سبق من الجهتين المذكورتين ونظائرهما؛ وذلك أن النجاة لا تجتمع مع الهلكة، فالمراد بالهلكة التي تترتب: هي الهلكة التي تترتب بالواسطة، وإن كان ما يترتب على الكذب هو النجاة

ص: 73


1- كتاب المكاسب: ج2 ص13.
2- وسائل الشيعة: ج 8 ص 577 ب 140 من أبواب أحكام العشرة ذيل الحديث 4.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص13.
4- مستدرك الوسائل: ج 9 ص 88.

بالمباشرة، ولم تكن مفسدة وهلكة في الكذب نفسه.

ولكن قد يقال: بأن المستظهر أن الرواية في مقام التشديد والحث على الاحتياط وعدم الاقتحام في الكذب بمجرد تصور النجاة فيه، بل لا بد من التثبت؛ لوضوح أن الكذب - كغيره - من المحرمات محكوم بقواعد باب التزاحم، فتأمل.

والمتحصل: إنه قد يناقش الأعلام الثلاثة بدوام ترتب المفسدة على الكذب إما بالمباشرة أو بالواسطة.

جواب المناقشة: المفسدة تترتب على ما كان موصلاً فقط

ويمكن الجواب عن المناقشة ب: إن الكذب حتى مع تمامية ما ذكر إنما يحرم لكونه مقدمة موصلة، فالدليل أخص من المدعى؛ إذ ليس كل كذب موصلاً إلا بنحو الاقتضاء.

وعليه: فالمفسدة لا تترتب على نحو الموجبة الكلية، وإنما تترتب فيما لو كان الكذب المزاحي مثلاً موصلاً للكذب ذي المفسدة.

بعبارة أخرى: لا دليل على حرمة ما يجرِّئ على الحرام مالم يكن مقدمة موصلة.

بناء على أن مدار البحث: الحسن والقبح

المناقشة الثالثة: الكذب قبيح حسب معاني القبح الاتية

اشارة

وأما بناء على أن مدار البحث هو الحسن والقبح فنقول:إن تحقيق ذلك متوقف على بيان أمرين: الأمر الأول: المعاني المذكورة لكل من الحسن والقبح؛ فإن المدار كل المدار على المراد من هاتين الكلمتين؛ لأن

ص: 74

مدار البحث على أن العقل يدرك قبح الكذب أو يحكم بذلك أو يدرك حرمته أو يحكم بها، وتطبيقها على الكذب، مما يوصلنا إلى أن الكذب قبيح حسب المعاني المتعددة.

الأمر الثاني: البحث عن قاعدة الملازمة، وما قيل فيها أو يمكن أن يقال، حيث لابد من البحث فيها، لنصل إلى الحرمة بعد إثبات القبح للكذب بإحدى المعاني المذكورة له.

وقد تناول البحث الأول - بحث الحسن والقبح - أعاظم الأصوليين من أمثال صاحب الفصول (رحمه الله) والشيخ الاصفهاني (رحمه الله) في هداية المسترشدين وآخرين(1)، ونشير ههنا إلى مقتضى التحقيق فيه حسب ما وصل إليه النظر القاصر:

معاني الحسن والقبح

للحسن والقبح معاني عديدة لابد من ذكرها حتى نعرف من أيِّهما يكون حسن الصدق وقبح الكذب:

المعنى الأول: ما يلائم النفس أو ينافرها
اشارة

ما يلائم النفس أو ينافرها، فما يلائم النفس حسن بهذا المعنى، كالمنظر الجميل فإن النفس تنسجم معه وتميل إليه، في مقابل ما تنفر النفس منه فهو قبيح كالزقاق المليء بالقاذورات مثلاً.

ص: 75


1- توفي صاحب هداية المسترشدين سنة 1248 ه، وصاحب الفصول سنة 1251 ه، وصاحب القوانين سنة 1231ه، وهم مجموعة من الأصوليين الأعاظم، وقد كتبوا كتباً مهمة جداً في الأصول مليئة بالتحقيقات والتدقيقات، ومما يؤسف له أن بعضاً منها أصيب بالإهمال وعدم المراجعة إليها.

لكن الظاهر: لزوم تقييد ذلك بنوعي النفس، فإنها امارة ولوامّة، وبذلك ينفك الحسن والقبح الشرعي عن العرفي بهذا المعنى؛ ألا ترى النظر إلى الأجنبية قبيحاً شرعاً مع أنه ملائم للنفس، فلو لم يقيد بالملائم للنفس اللوامة لكان حسناً، فلو أرادوا الإطلاق لوجب إنكار الصغرى أو الحكم، فتدبر فإنه دقيق.

فهل الكذب والصدق من هذا القبيل، أي أنه منافر للنفس والصدق ملائم للنفس؟ سيأتي بإذن الله تعالى.

إضافة أقسام أخرى: ملاءمة الجسم أو الروح أو العقل

لكن ينبغي أن نضيف للمعنى الأول ثلاثة معان أخر، هي:

1. ملاءمة الجسد ومنافرته، إذ قد لا يلائم الشيء النفس لكنه يلائم الجسد أو العكس، ولا وجه لدعوى عوده إليك.

2. وملاءمة العقل أو منافرته.

3. وملاءمة الروح أو منافرتها.

فالمجموع أربعة أشياء: النفس، الروح، الجسد والعقل.

ويمكن التمثيل للتفكيك ب: الاغتسال بالماء البارد، فقد ثبت علمياً أنه نافع للجسد ومحفز ومنشط لخلايا المخ والحافظة والذكاء، لكن بعض الناس - ولعله الغالب - من الناحية النفسية يتخوفون من الماء البارد خاصة في فصل الشتاء، فالدوش البارد ملائم للجسد، لكنه منافر للنفس.

وقد يكون الشيء ملائماً للعقل كما في الرياضات العقلية مما يتحدى ذكاء الإنسان من الأحاجي وغيرها، ولكن ذلك قد لا يلائم النفس فيرهقها ويرهق البدن كذلك.

نعم قد يدعى أن ما هو ملائم لأحدها بما هو، ملائم للآخر بما هو،

ص: 76

وكذلك في المتنافرين، لكنها دعوى عهدتها على مدعيها، بل لا منشأ لها إلا توهم السنخية بين الأربعة، وهو واضح البطلان.

المعنى الثاني: موافقة المصلحة والمفسدة
اشارة

موافقة المصلحة والمفسدة، وهذا المعنى هو الذي حمل الأعلام على نقد الدليل العقلي؛ إذ كأنهم بنوا على أن ملاك الحسن والقبح عقلاً موافقة المصلحة والمفسدة فقط، والحال أنّ هناك ملاكاتٍ ومعان أخرى، سبق بعضها وسنذكر مجموعة أخرى.

وعلى أي فإنه حسب المعنى الثاني: فإن كل ما وافق المصلحة فهو حسن، وإلا فهو قبيح.

والمراد بالمصلحة: الواقعية؛ فإن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، أما الشرعية فهي كاشفة عنها، وأما العرفية فنسبتها معها من وجه.

أقسام المصلحة والمفسدة

ثم إن موافقة المصلحة على ثلاثة أقسام، فتارة: تكون الموافقة للمصلحة الشخصية. وتارة أخرى: تكون للمصلحة النوعية، وقد يتخالفان فيكون ما يوافق المصلحة الشخصية منافراً لمصلحة المجتمع وبالعكس.

وثالثة: تكون موافقة المصلحة أو المفسدة منسوبة إلى جهة خاصة، كأن تكون مقيسة لجماعة أو عشيرة أو سلطة أو غير ذلك، وهذه الأخيرة قد تتوافق مع المصلحتين الأوليين، وقد تتخالف، فهذه أقسام ثلاثة للمصلحة والمفسدة لا بد من ملاحظتها كي نأمن من اللبس.

ص: 77

المعنى الثالث: موافقة الغرض

موافقة الغرض ومخالفته، وقد حاول بعضٌ(1): إرجاع الغرض إلى المصلحة، ولكنه تكلف؛ فإن النسبة بينهما ليست هي التساوي، بل هي العموم من وجه أو العموم المطلق على تفصيل(2).والغرض هو: ما يكون مرمى بصر الإنسان وإن كان فيه مفسدة؛ إذ كثيراً ما يتعلق غرض الإنسان بما هو ضار له كالمريض الذي يشتهي الماء البارد أو الحلو، مع أنه يضر بحاله، ولكنه موافق لغرضه ولما يريده فهو حسن بهذا المعنى، والأمر كذلك في عامة الناس فإن أغراضهم كثيراً ما لا تتوافق مع المصالح الواقعية فإن الغرض وإن وافق المصلحة المتوهمة لكنه لا يوافق المصلحة الثبوتية الواقعية.

المعنى الرابع: الكمال والنقص
اشارة

الكمال والنقص، وهذا بدوره ينقسم إلى قسمين - كما أشار إليه بعضٌ - وهما:

أ - الكمال والنقص الأخلاقيان: كما في الشجاعة والجبن والبخل والكرم وما أشبه، فالشجاع كامل أخلاقياً، والجبان بعكسه، أي ناقص أخلاقياً، وهكذا.

ب - الكمال والنقص التكوينيان: ويراد بالكمال والنقص التكوينيين: ما يعبر عنهما بالقوة والفعل، فما هو بالفعل فهو كامل وما هو بالقوة فناقص، فمن له ملكة الاجتهاد بالفعل فإنه كامل، أما من له ملكة الاجتهاد بالقوة كعامة الناس

ص: 78


1- حكاه في هداية المسترشدين عن المواقف والشرح الجديد للتجريد: ج3 ص505.
2- ويرتبط ذلك بتعريف كل من الغرض والمصلحة وقد أشرنا هنا إلى إحدى التعريفات فقط.

فهو ناقص، وكذلك الحال في ملكة العدالة قوة وفعلاً، وهكذا في الشجرة والبذرة، فالشجرة شجرة بالفعل ولها كمال من هذه الجهة، والنواة شجرة بالقوة وهي ناقصة من هذه الجهة، وإن كانت ذا كمال من حيث امتلاكها قوة أن تصبح شجرة.

الكمال والنقص يتصف بهما بعض الأفعال أيضاً

ثم قد يتوهم(1): أن الكمال والنقص هما مما يختصان بالصفات، وعليه سيكون البحث - بناءً على هذا - أجنبياً عن مقامنا؛ لأن كلامنا هو عن التحسين والتقبيح العقليين للأفعال؛ ومنها: الصدق والكذب.ولكن الحق هو أن الكمال والنقص هما مما تتصف به بعض الأفعال أيضاً، كطاعة العبد سيده تبارك وتعالى، فإن الطاعة فعل من الأفعال وهي كمال حسنٌ، وعصيانه فعل أيضاً وهو نقص وقبيح، وكذلك في مثال آخر - وهو من الأمثلة المعروفة - صدور الكذب من الله تعالى فإنه قبيح، لأنه نقص فهو ممتنع امتناعاً وقوعياً لا ذاتياً.

المعنى الخامس: انبغاء الفعل أو الترك (الاقتضاء وعدمه)
اشارة

وهو ما عبر عنه بعضٌ ب: انبغاء الفعل أو الترك، فما ينبغي فعله فحسن، وما ينبغي تركه فقبيح.

إضافة انبغاء الاتصاف أو الوجود

ونضيف إلى ذلك: انبغاء الاتصاف، فإنهم ذكروا انبغاء الفعل فالمتعلق هو الفعل وما هو من مقولة الفعل كالصدق والكذب وما أشبه، ولكن هناك قسماً

ص: 79


1- حكاه في هداية المسترشدين عن شرح المواقف: ج 3 ص 504.

آخر من الانبغاء وهو: انبغاء الاتصاف، كالاتصاف بالكيفية النفسانية المعينة، فهو من مقولة الكيف لا من مقولة الفعل، وذلك كطالب العلم حيث ينبغي أن يتصف بالخوف من الله تعالى، والخوف حالة وكيفية نفسانية، والاتصاف به كيفيةٌ، وعليه فما ينبغي الاتصاف به فإنّ عدمه قبيح.

ولكن قد يقال: بأن الاختياري من الاتصاف عائد إلى الفعل، فتأمل.

كما نضيف قسماً آخر من الانبغاء وهو: انبغاء الوجود والعدم؛ فإن متعلق الانبغاء هو جوهر الشيء ونفسه، وليس ذلك من مقولة الفعل أو الكيف كالاتصاف.

ويوضحه ما قيل: من أن الماهيات تطلب بلسان حالها إفاضة الوجود عليها، ويمكن أن نعبر عن ذلك بالانبغاء الذاتي.

وذلك كما أن الله تعالى يلبس المعدومات لباس الوجود، فإن من الحسن أن يخلق الله تعالى المخلوقات لاقتضائها بلسان حالها إفاضة الوجود عليها، فاقتضاء الوجود هو ملاك الحسن أيضاً، فهذا هو المعنى الخامس للحسن والقبح مع توسعته، وله تفصيل يترك لمظانه.وبعبارة جامعة(1): الاقتضاء للفعل أو الترك، واقتضاء الاتصاف وعدمه، واقتضاء الوجود وعدمه.

الاقتضاء سابق على الانبغاء

هذا ولكن الأولى: التعبير بما هو سابق رتبة عن الانبغاء وهو الاقتضاء؛ فإن الانبغاء متأخر ومتفرع عن الاقتضاء المتقدم؛ إذ الاقتضاء هو الوجه الذي

ص: 80


1- والانبغاء هو في رتبة متأخرة عن الاقتضاء فهناك اقتضاء ذاتي للماهيات للوجود فكان ينبغي على الله - برحمته كرمه - أن يفيض الوجود، فلأنه اقتضى كان مبتغَى.

يلي الشيء، والانبغاء - في المقام - هو الوجه الذي يلي الغير.

الأقوال الأربعة
اشارة

ويمكن بيان المبحث بصورة أخرى أقرب للمعهود على أنها متضمنة في تقسيمنا العام متداخلة معه، وذلك بالقول بأن الآراء في الاقتضاء الذاتي للحسن والقبح وعدمه أربعة، وذلك هو محل النزاع بين الأصوليين والفلاسفة والأخباريين والأشاعرة، وهي:

أولاً: الاقتضاء الذاتي للحسن والقبح

الرأي الأول: إن الشيء(1) بذاته يقتضي الحسن أو القبح، ذهب إليه جمهرة كبيرة من الأصوليين(2)، وذلك كالعدل فإن اقتضاءه للحسن ذاتي وليس موقوفاً على لحاظ تطابق آراء العقلاء أو على التطابق نفسه بحيث لولا هذا التطابق أو اللحاظ لما كان العدل حسناً في ذاته، وهذا الرأي باطل بالضرورة وقد ناقشناه مفصلاً في بعض المباحث.

ثانياً: الحسن والقبح لتوافق آراء العقلاء وتطابقها

الرأي الثاني(3): إن حسن الفعل ليس لذاته، وإنما ببركة توافق آراء العقلاء وتطابقهم وتبانيهم عليه، وهذا هو رأي ابن سينا وتبعه على ذلك العلامة المظفر (رحمه الله).

ص: 81


1- أي في غير متساوي الطرفين.
2- وإن أنكره بعض المتأخرين كالشيخ المظفر (رحمه الله) في أصوله تبعاً لمنطق الإشارات، مرجِعاً له إلى القسم الثاني، فراجع (أصول الفقه: ج1 ص211 مبحث المستقلات العقلية 4 أسباب حكم العقل العملي بالحسن والقبح)، وقد فصلنا ذلك سابقاً، فراجع.
3- وهذا هو المعنى السادس الآتي.
ثالثاً: الحسن والقبح شرعيان

الرأي الثالث(1): إن حسن الفعل ليس لذاته ولا بسبب تباني العقلاء عليه، وإنما هو معلول تقبيح الشارع أو تحسينه، وهو رأي الأشاعرة حيث قالوا: (إن الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبحه)، ويفترق هذا عن رأي الفيلسوف ب: أن الأشعري يرهن الحسن بالشارع، وأمّا الفيلسوف فإنه يربط الحسن بتباني العقلاء.

والجامع بينهما: إنه لا واقعية ثبوتية للحسن والقبح وراء اعتبار الشارع أو تطابق آراء العقلاء.

وعليه: فإن الشارع لو قال: (إن الكذب حسن)، فسيكون كذلك - بحسب الأشعري -، ولو قال: (إن الظلم حسن) فسيكون حسناً، وهذا الكلام باطل خلاف البديهة والوجدان والعقل والنقل وكافة الأديان.

رابعاً: الشارع كاشف عن الحسن أو القبح الذاتي

الرأي الرابع: وهو للإخباريين، ولكنه بحقيقته ليس قسيماً للآراء الثلاثة المتقدمة(2)، حيث إنّ أصحابها يذعنون بكون الحسن والقبح ذاتيين، لكنهم يقولون: إن عقلنا لا طريق له إلى اكتشاف حسن الشيء أو قبحه إلا عن طريق الشارع؛ وذلك أنّ العقل قاصر عن الإحاطة بكل الجهات.إذاً فإنّ الأخباري يقبل الحسن والقبح الثبوتيين، لكنه يقول بأنّ الطريق إثباتاً منحصرٌ بالشارع.

ص: 82


1- وهذا هو المعنى الثامن الآتي.
2- فإنه من عالم الإثبات وتلك من عالم الثبوت.

والمتحصل: إن المعنى الخامس للحسن هو الاقتضاء الذاتي أو الشارعي أو العقلائي، والظاهر أن الكذب قبيح بالجهات الثلاث(1).

المعنى السادس: ما تطابقت عليه آراء العقلاء

ما تطابقت على حسنه أو قبحه آراء العقلاء، وقد فصلنا الحديث عنه في مباحث الاجتهاد والتقليد.

المعنى السابع: ما تباني العرف العام أو الخاص عليه

إنّ ما تبانى العرف العام او الخاص على حسنه فهو حسن وإلا فلا، والقبيح إما أن يكون ضداً له أو نقيضاً، كعالم يلبس لباس الجندي في غير وقت الحرب عبثاً أو ما أشبه، فإن ذلك من منافيات المروءة، وهذه عرفية، والأعراف تختلف بحسب المكان والزمان، وأما منشأ التباني فقد يكون العادة أو الخلق النفسي أو الانفعال النفساني كالغيرة أو الحمية أو غير ذلك، وليس هذا مجال تحقيق ذلك.

المعنى الثامن: أنّ الحسن والقبح شرعيان

إن الحَسَن ما حسّنه الشارع والقبيح بعكسه، وقد أشرنا إلى ذلك.

المعنى التاسع: الحسن ما لا يستلزم الحرج والقبيح ما استلزمه

وهو ما أشار إليه بعضٌ(2) من أن القبيح هو ما تضمن أو استلزم الحرج، وإلا فهو حسن.

ص: 83


1- الاقتضاء الذاتي وتوافق العقلاء وتقبيح الشارع.
2- حكاه في هداية المسترشدين عن العضدي: ج 3 ص 505.
المعنى العاشر: مطابقة بعض العوالم لبعضها الآخر
اشارة

وهو معنى جديد للحسن والقبح يفتح أبواباً عديدة للبحث وهو:

إن الحسن والقبح كثيراً ما يكونان مرتهنين بتطابق العوالم الوجودية الأربعة بعضها مع بعض، وهي عالم الوجود العيني والذهني واللفظي والكتبي، فالحسن هو ما تطابق فيه العالم المتأخر رتبة مع سابقه، وإلا فقبيح.

ولنمثل لذلك بمثالين:

المثال الأول للمعنى العاشر: إلحاق النسب

أن ينسب شخص نفسه لغير أبيه أو لغير أمه، فإن ذلك قبيح بلا شك، حتى مع فرض أنه لا يترتب على ادعائه أية مفسدة خارجية كطمع في ارث أو محرمية أو غيرهما، فإن المشكلة الوحيدة هنا حينئذٍ أنه في متن الواقع لا يوجد نسب بين المدعي ومن نسب إليه نفسه، ولذا يكون ادعاؤه قبيحاً، وما ذلك إلا لعدم تطابق عالم الوجود اللفظي - وهو ادعاؤه - مع عالم الوجود الخارجي، وإن شئت فعبّر ب: عدم تطابق عالم الوجود الاعتباري مع سابقه النفس الأمري أو الخارجي.

المثال الثاني للمعنى العاشر: الكفر بالله تعالى

الكفر بالله تعالى، فإن من مناشئ قبح الكفر بالله تعالى هو أن هذا المعتقَد - أي الكفر الذي هو من دائرة عالم الوجود الذهني أو مما هو في صقع النفس - لا يطابق الواقع الخارجي، ولذا فهو قبيح، وهذا القبح ثابت بقطع النظر عن

ص: 84

المفسدة المترتبة عليه دنيوياً والعقوبة أخروياً.

وقد طرح المتكلمون هذا البحث بصيغة أخرى وهي: إنه لو فرض أن الله سبحانه أمرنا بالكفر، فهل يكون الكفر حينئذٍ حسناً أو قبيحاً(1)؟ وقد ذهب إلى كل فريق، ولكن يمكن أن نطرح رأياً ثالثاً وهو: إنّ هنا وجهين؛ فإن القبحالذاتي نظراً لعدم مطابقة العالَمين - المعتقد والواقع - باقٍ على حاله، ولكن حدث فيه وجهُ حُسنٍ عارض وهو كونه إطاعة لله تعالى، فاندرج في باب التزاحم، والظاهر غلبة الثاني على الأول فيقدم عليه، وهذا المعنى الجديد سينفع أيضاً في تنقيح ونقد كلام الأعلام الثلاثة ونقده، كما سيأتي بإذن الله تعالى.

مناقشة كلام الأعلام الثلاثة على ضوء معاني الحسن والقبح، وتطبيقها على الكذب

اشارة

إذا اتضح ذلك فنقول: إن كلام الأعلام: (كلما لم تكن هناك مفسدة فلا قبح للكذب) مناقش فيه، وذلك بتطبيق المعاني السابقة للقبح على الكذب، فنجدها منطبقة عليه وإن لم تكن ذات مفسدة، وتفصيله كالآتي:

الوجه الأول: الكذب منافر للنفس والروح والعقل

المعنى الأول: المنافرة والملاءمة للنفس، وأيضاً العقل والروح والجسد، حيث إن طبيعِيَّ الكذب بما هو هو منافر للروح وللعقل، وأيضاً للنفس الزكية والروح الطيبة، فإن النفس لها وجهان أو هي على قسمين أشار إليها تعالى

ص: 85


1- قال تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (سورة الأنبياء: 22). وهذه قضية شرطية وصدقها غير موقوف على إمكان المقدم، بل هي تنسجم حتى مع امتناعه كما في الآية فإن التالي يترتب على نفس المقدم الممتنع.

بقوله: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(1) فهما: نفس شريرة وهي التي تألف الكذب والخيانة والرذائل والفجور، ونفس زكية تقية وهذه بما هي هي ينافرها الكذب وينسجم معها الصدق وبقية الفضائل وتنسجم معه.

وبتعبير آخر: إنّ هناك سنخية بين الصدق وبين النفس الزكية والروح والعقل، وفي قبال ذلك هناك سنخية بين الكذب والنفس الشقية الردية، فالملاءمة والمنافرة متحققتان ثابتتان في الطرفين.

ولو فسرنا القبح والحسن بمعنى الملاءمة والمنافرة - كما فسره جمع - لم يصحّ عندئذ القول: بأنه لا قبح للكذب إلا مع المفسدة، إذ النفس الزكية تنفر من الكذب بما هو هو، حتى مع قطع النظر عن لحاظ المفسدة، وبضميمةقاعدة الملازمة يتم المطلوب، إلا أن يناقش بأن الملازمة بين القبح ببعض معانيه لا بما يشمل هذا المعنى، وهو الحق المنصور وإن خالف إطلاق كلماتهم، فتأمل وتدبر.

رواية مؤيدة

ويؤيد ذلك(2): روايات عديدة تنبه لما ذكرناه؛ منها: ما جاء عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) قوله: «لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه»(3)، فإنه يدل على وجود السنخية بين الكذب وبين مهانة نفس الكاذب ودناءتها، وأما النفس العزيزة فلباسها العزة والصدق فلا تقتحم الكذب.

ومن الواضح أن مدار البحث هو العنوان الأولي للكذب لا في صورة

ص: 86


1- سورة الشمس: 7 - 10.
2- إذ البحث عقلي، وعليه فإن الرواية ليست دليلاً، بل هي مؤيد ومرشد وبتعبير آخر منبِّه.
3- الاختصاص: ص 232.

مزاحمة عنوان أهم، ولو تدخل المولى وجوز الكذب في بعض الصور كان ذلك كاشفاً عن وجود مزاحم أهم أو مانع عن تأثير الكذب في القبح فتأمل.

فمثلاً الكذب في الوعد، فإنه بلا شك منافر للنفس الزكية بما هي هي، وكذلك الكذب استهزاءً بالآخر وفي مقام السخرية به فإنه قبيح ومنافر للنفس التقية وملائم للنفس الشريرة الشقية.

إن قلت: الكذب مزاحاً، ليس من المعلوم منافرته للنفس الزكية.

قلنا: بل الظاهر إن الكذب مزاحاً من دون قرينة قبيحٌ منافر للنفس الزكية والروح، فقد يقيم المتكلم القرينة المتصلة على أن كذبه مزاح، وسيأتي الكلام عن ذلك حيث انفكت الإرادة الجدية عن الإرادة الاستعمالية، وقد يكذب الشخص مزاحاً مع غيره موهماً إياه أن هذا الكلام صدق، فإن هذا منافر للذوق السليم والنفس الزكية كأن يقول له مثلاً: (إن فلاناً مات)(1)، حتى وإن أخبره بعد ذلك بأنه كان يمزح معه، وكذا الحال في القصصالمخترعة إذا كانت عبثية بقول مطلق لا فائدة فيها بالمرة، نعم لو كانت هادفة فهذه جهة مزاحمة لا بد أن يلاحظ الأهم منهما حسب اختلاف الوارد.

والمتحصل: إن طبيعة الكذب بما هي هي منافرة للنفس التقية إلا ما خرج بمزاحم أهم.

نعم يرد على ما ذكر: أن كون شيء رذيلةً أو كاشفاً عن دناءة النفس، أعم من الحرمة.

الوجه الثاني: الكذب قبيح لأنه يخالف غرض المولى

المعنى الثاني: مخالفة غرض المولى، حيث يمكن القول ب: أنّ طبيعيَّ الكذب

ص: 87


1- سواء أورث فيه الاضطراب والقلق أو لا، بأن زرّقه معلومة كاذبة فقط فإنه منافر للنفس الزكية.

- لو جرّد من العناوين الثانوية - غيرُ موافق لغرض المولى، بل هو مخالف له.

وهذه دعوى يبتني إثباتها على معرفة غرض المولى فنقول: إن من أغراض المولى جل وعلا، الحائطة على الدين والتحفظ عن وقوع المكلف فيما لا ينبغي أن يقع فيه، والكذب مما يفوت هذا الغرض في الجملة، ويوقع المكلف فيما لا ينبغي أن يقع فيه.

روايتان منبِّهتان

ومما يشهد لذلك ما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان علي بن الحسين 3 يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جدّ وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير»(1).

فلو لوحظ غرض المولى - وهو الحيطة - فلا بد من ترك حتى الكذب الصغير والكذب مزاحاً ونظائرهما؛ فإن الإنسان لو تعود على الكذب مازحاً فقد يكذب جاداً أيضاً؛ لأن الطبيعة الإنسانية واحدة.

كما ترشد إلى ذلك رواية أخرى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «ألا إن الصادق على شفا منجاة وكرامة، ألا إن الكاذب على شفا ردى و هلكة»(2)، ومن الوضوح بمكان أن غرض المولى أن لا يكون المكلف على شفا الهلكة، وذلك بالاحتياط مما يوقعه فيه.وهذا البحث صغرىً يرتبط بكبرى وجوب الاحتياط عما يحتمل كونه معصية(3) حفاظاً على دينه، والاحتياط واجب في الشبهات التحريمية على ما

ص: 88


1- الكافي: ج 2 ص 338.
2- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج8 ص456.
3- إذ مفروض البحث احتمال كون الكذب مازحاً أو في القصص المخترعة معصية، من غير دليل.

ذهب إليه الأخباريون، فلو ارتأى الفقيه مسلك الأخباريين كان التحريم لديه على القاعدة، ولكنه لو لم يرتض ذلك وذهب إلى مسلك الأصوليين من أن الاحتياط حسن وليس بواجب في الشبهات التحريمية بعد الفحص، فلعل له وجهاً آخر للتحريم وهو: إمّا الالتزام بالمقدمية، كما لعله ظاهر الروايتين لكنه يختص بتحريم الموصِل منهما، أو الالتزام بأنه من باب العنوان والمحصل، فتأمل.

الوجه الثالث: الكذب قبيح لأنه بما هو هو نقص

المعنى الثالث: النقص، فإن الكذب بما هو هو طبيعيُّه نقصٌ، والطبيعي يتمصدق بمصاديقه كلها، وفي قباله الصدق بما هو هو، فهو كمال.

شاهد من الروايات

ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام): «عليكم بالصدق وإياكم والكذب فإنه لا يصلح إلا لأهله»(1).

وظاهر الرواية: إن أهل الكذب هم المتسافلون من أهل النقص، وفي قبال ذلك أهل الصدق فإنهم أهل الكمال والعلو، ولا يخفى في المقام أن كلمة «لا يصلح» كما هي مناسبة للتعبير عن هذا المعنى وهو النقص، كذلك هي مناسبة للمعنى الآخر وهو الاقتضاء الذاتي للقبح؛ إذ قد يستظهر منها الصلاحية والذاتية.

الوجه الرابع: الكذب مما يتطلب بذاته تركه

المعنى الرابع: ما ينبغي تركه، فإن الكذب بذاته مما ينبغي تركه، وفيه الاقتضاء الذاتي للترك، ومما يرشد إلى ذلك الرواية السابقة، وكذلك ما ورد عن

ص: 89


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (علیه السلام): ص 339.

الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله): «عليك بالصدق فانه مبارك والكذبشؤم»(1)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يصلح من الكذب جدّ ولا هزل»(2)، وعنه أيضاً: «لا سوأة أسوء من الكذب»(3)، وظاهرها كلها هو الاقتضاء الذاتي، كما أنها تدل على النقص أيضاً.

الوجه الخامس: تباني العقلاء على قبح الكذب

المعنى الخامس: تباني العقلاء، ولا شك في أن العقلاء بنوا على قبح أقسام من الكذب، بل يمكن دعوى تبانيهم على قبح جميع أقسامه:

ومنها: الكذب سخرية.

ومنها: الكذب مزاحاً مع عدم القرينة(4)، فإنهم يرون ذلك قبيحاً.

ومنها: الكذب مع الأهل؛ فان العقلاء يجدونه قبيحاً، إلا لمصلحة راجحة وهو خارج عن مفروض البحث، أو لأنهم من المتدينين وقد سمعوا الروايات على أن المولى قد أجاز ذلك بناءً على تماميتها سنداً ودلالة إلا أنّ هذا كلام آخر، وكلامنا في أنه لو خلي الكذب وطبعه وبدون مكتنفات فإن بناء العقلاء على قبحه، وعلى أي فإن تجويز المولى على - فرضه - كاشف عن مصلحة أقوى مزاحمة أو ما أشبه.

ومنها: خلف الوعد(5)، فإنه يقبحونه أشد تقبيح، ومن أظهر مصاديقه هو: قبح خلف وعد الله تعالى، وهو من الأدلة التي يستدل بها المتكلمون على

ص: 90


1- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج9 ص88.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 419.
3- تحف العقول: 93.
4- لخروج مثل الكذب مع نصب القرينة، فتأمل.
5- أي الكذب في الوعد ويلحق به خلف الوعد.

قبح خلف الوعد بقول مطلق؛ إذ لو لم نقل بذلك للزم أن يسقط الدليل الأهم لإثبات النبوّات عند المتشرعة، وللزم أيضاً عدم الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى ووعيده؛ حيث لو لميكن خلف الوعد قبيحاً(1) لجاز لله تعالى أن يخلف وعده(2) بإدخال المؤمن الجنة والكافر النار، فتأمل؛ إذ قد يفرق بين خلف الوعد في الأمر الخطير وبين غيره، كما يفرق بين الكذب في الوعد وبين خلف الوعد، كما سيأتي.

كذلك الحال في أقسام الكذب الأخرى، فإن الكذب حتى في القصص المخترعة قبيح لولا الجهة الراجحة كما سبق، فلاحظ.

الوجه السادس: تباني العرف العام وكذا الخاص على قبح الكذب

المعنى السادس: تبانى العرف العام أو الخاص على حسن شيء أو قبحه، وفي صغرى المقام نجد: أن العرف يقبحون الكذب ويكرهون الكاذب من حيث هو كاذب، إلا لو علموا أنه كان في حالة استثنائية من حرج أو ضيق أو غيره، ويدل عليه: إن الكاذب بنفسه لا يحب أن يعرف بهذه الصفة - وهو فرد من أفراد العرف - إلا إذا كان متسافلاً ومتدنياً خلقياً بصورة كبيرة، فقد تتحول المعصية والرذيلة عند بعض الناس إلى عمل يتجمل ويتفاخر به أمام الآخرين، لكنه ليس إلا انحرافاً شديداً عن مسار الفطرة السليمة والطبيعة الأولية للإنسان، قال تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ»(3).

والحاصل: إن كل إنسان بطبعه يكره أن يعرف بالكذب إنْ كذب، وينفر

ص: 91


1- ولو لم يكن الكذب في الوعد قبيحاً.
2- ولجاز له أن يكذب في وعده ووعيده - وهو محل الكلام - تعالى عن ذلك.
3- سورة النمل: 24.

من ان يشتهر بين الناس بهذه الصفة.

كما يكشف عن تباني العرف على قبح الكذب: فقدان اعتماد الناس على الكاذب، وذهاب سمعته وصيته ووزنه الاجتماعي والعرفي.

الوجه السابع: القبح الشرعي

المعنى السابع: وهو أن القبيح هو ما قبحه الشرع، ويرشد(1) لقبح الكذب وتؤكد ذلك مجموعة من الروايات الكثيرة، منها خبر الحارث عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول: «ولا ان يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ»(2) وهذه صغرى «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ» وهذه بمنزلة العلة للحكم «َالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى يُقَالَ: (كَذَبَ وَفَجَرَ) وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَوْضِعَ إِبْرَةٍ صِدْقٌ فَيُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً»(3) فإن الإمام (علیه السلام) صرح بالحكم، كما ذكر علته أيضاً وهي معممة مخصصة، والعلة في كلامه (علیه السلام) هي: «إن الكذب يهدي إلى الفجور».

معنيان للفجور في كلام الإمام (علیه السلام)

وقد فسّر الفجور بمعنيين:

الأول: الميل عن الحق، كما في قوله تعالى: «لا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»(4).(5) وفي كتب اللغة(6) تفسير الفاجر بالمائل عن الحق.

ص: 92


1- ويؤكد أو يعمل مولويته، على ما فصلناه في الأوامر المولوية والارشادية في المستقلات العقلية.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 419.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 419.
4- سورة نوح: 28.
5- قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في التبيان: (والفاجر مَن فَعَل الفجور وهي الكبيرة التي يستحق بها الذم).
6- مجمع البحرين: ج3 ص435.

الثاني: البذاءة والفحش في القول والبهت عند الخصومة(1)، ولا يخفى أن التفسير الثاني تفسير بالمصداق، والظاهر أن معنى الفجور هو الأول أي الميل عن الحق.إذاً فالكذب قبيح بتقبيح الشارع إياه، إما إنشاءً او كشفاً.

الوجه الثامن: عدم تطابق العوالم

المعنى الثامن: عدم تطابق العالم اللاحق رتبةً مع سابقه، نظير الإلحاق في النسب أو ادعاء الشهادة العلمية - كالدكتوراه مثلاً - كاذباً، وفي المقام فإن الكذب قبيح؛ لعدم التطابق ما بين عالم الوجود اللفظي وعالم الوجود العيني.

ملخص المناقشة مع العَلَمين في صغرى البحث

وبعد اتضاح الوجوه الثمانية للقبح وتطبيقها على الكذب، يظهر لك وجه المناقشة في كلام الأعلام الثلاثة؛ الشيخ الإيرواني والسيد الخوئي والشيخ التبريزي قدس سرهم، حيث اتضح وجه حكم العقل بالقبح ومنشؤه، فلا يصح نفي القبح مع انتفاء المفسدة؛ وذلك لوجود ثماني جهات أخرى للتحسين والتقبيح العقليين، وبعضها قد بنى عليه المشهور - وهو ما تباني عليه العقلاء - وبعضها مما ذكروه - كالمنافرة والملاءمة للنفس(2) - ،و البعض الآخر مما قد أضفناه، فوجه القبح لا ينحصر بالمفسدة، كي ينفيه بانتفائها، بل إن بعض هذه

ص: 93


1- مجمع البحرين: ج3 ص435.
2- سبق أن المعروف على الألسن هو المنافرة للنفس أو للطبع، وقد أضفنا المنافرة للعقل والروح والجسد أيضاً، وقد ذكر السيد الروحاني (رحمه الله) في المنتقى ج4 ص439 الملاءمة والمنافرة للقوة العاقلة, والكل على مقتضى القاعدة.

المناشئ هي أسبق رتبة من المصلحة والمفسدة كما هو الحال في الكمال والنقص والانبغاء والاقتضاء الذاتي.

كلام السيد الوالد (رحمه الله)

ولا بأس قبل الانتقال لتحقيق حال كبرى البحث وهي قاعدة الملازمة، إن ننقل عبارتين؛ إحداهما للعلامة الحلي والأخرى للسيد الوالد رحمهما الله تعالى.قال السيد الوالد (رحمه الله) في الفقه: (وأما العقل فهو مستقل بقبحه - أي بقبح الكذب بقول مطلق - وإن لم يكن له أثر سوء لأنه انحراف عن الواقع ولذا لا يريد الكاذب أن يظهر ذلك وبالملازمة يتم المطلوب)(1) انتهى، فلاحظ قوله: (لأنه انحراف عن الواقع)(2) فقد صرّح السيد الوالد (رحمه الله) في عبارته بصغرى البحث وهي قبح الكذب مطلقاً، وبكبرى الملازمة.

كلام العلامة الحلي (رحمه الله): حسن الصدق ضروري ونظري

وقال العلامة الحلي (رحمه الله)(3) في مبادئ الوصول(4):

(الحكم بالحسن والقبح قد يكون ضرورياً كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار(5)، ونظرياً كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع).

أقول: قوله (نظرياً)؛ نظراً لحاجته إلى الاستدلال بمثل: إن الصدق بلحاظ

ص: 94


1- الفقه المكاسب المحرمة: ص28.
2- هو ما عبرنا عنه وطورناه من الجهة العاشرة من مناشيء القبح وهي عدم تطابق العوالم فلاحظ.
3- وعباراته ههنا على اختصارها حافلة ومفتاحية.
4- مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص92.
5- وكلاهما حُسنه وقُبحه من البديهيات.

ذاته حسن وإن عرض عليه استتباعه للمضرة، فإن الذاتي لا ينقلب عمّا هو عليه(1)، نعم إن زادت المضرة رَجُحت، للتزاحم مع بقاء الحسن الذاتي لكنه يكون مقهوراً ومغلوباً بالمضرة العارضة، لا أنه يزول من جوهر الذات، فتدبر.

وكذلك الأمر في الكذب النافع، فإنه كذلك، أي أنّ قبحه ذاتي ولا ينقلب عما هو عليه.ثم قال: (وسمعياً كحسن صوم شهر رمضان وقبح صوم العيد).

أقول: المراد من قوله (سمعياً) إنّما هو بلحاظ عالم الإثبات، أما في عالم الثبوت فهما كالصدق والكذب ذَوَي حُسن وقبح ذاتيين، فتدبر.

أدلة العلامة الحلي (رحمه الله) الثلاثة على كلامه

الدليل الأول: ما أشار إليه بقوله(2): (لأنا نعلم بالضرورة حسن الصدق وقبح الكذب مع تساويهما في المنافع).

أقول: وهذا الذي ذكره العلامة يُشكِّل رداً مسبقاً على كلام المحقق الإيرواني (رحمه الله) من المساواة بين الصدق والكذب، فيما هو مبنى كلامه ظاهراً.

بيان ذلك: إننا لو عرضنا هذه القضية على الوجدان وهي ما لو كان أمامك خياران: خيار أن تحصل على منافع معينة(3) لو صدقت، وآخر أن تحصل على تلك المنافع بنفسها لو كذبت، فإن العقل - كذلك النفس والطبع - يدعو إلى الصدق، كما ينفر كلها عن الكذب، مع تساوي المنافع فيهما، وما ذلك إلا للميل الفطري والعقلي إلى الصدق؛ نظراً لذاتيّةِ حسنهِ وضرورته.

ص: 95


1- وقد عبرنا عنه بالاقتضاء الذاتي كما عبروا بالانبغاء.
2- مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص92.
3- كمبلغ محدد من المال أو وظيفة مثلاً.

فهذا هو البرهان الأول على أن الحُسن ذاتي(1) لكل منهما بذاتي باب البرهان.

الدليل الثاني: (وللفرق بين الصادق والكاذب في مدعي النبوة).

توضيحه: لو كان هناك صادق في دعوى النبوة كالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) فإنه صادق دون ريب، وكان هناك كاذب في دعواه كمسيلمة أو سجاح مثلاً، فإننا بملاحظة شأن الباري عز وجل نجد بالوجدان أن من الحَسَن أنيجري تعالى المعجزة على يد الصادق كبرهانٍ على اتصاله بالسماء، ومن القبيح أن يجريها على يد الكاذب، وما ذلك إلا لصدق هذا وكذب ذاك، فالصدق بحد ذاته حَسَن، والعلامة قد علل به وحصّن به منشأ كل الشرائع من تطرق احتمال البطلان والكذب إليهما، وهو في محله وذلك: أن الإعجاز هو برهان على صدق الأنبياء في نبوتهم، وإننا نجد وجداناً أنه من القبيح قطعاً على الباري أن يجري المعجزة على يد الكاذب، ومن الحسن قطعاً أن يجريها على يد الصادق، وما ذلك إلا لصدق هذا وكذب ذاك.

وعليه: فلا يعقل - والحال هذه - أن يكون الصدق غيرَ حَسَنٍ ذاتاً، وإن يكون الكذب غير قبيح ذاتاً.

ولا يرد: أنه لعله لاستلزامهما المصلحة والمفسدة، لوضوح أن حكم العقل وقضاء الوجدان بحسن إجراء المعجزة على يد الصادق، وقبح إجرائها على يد الكاذب حتى مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة.

الدليل الثالث - وقد أشرنا إليه سابقاً -: قال: (وللوثوق بوعده تعالى ووعيده)(2).

ص: 96


1- المقصود كونهما بما هما هما كذلك.
2- مبادئ الأصول: ص92.

توضيح كلامه: إننا لو التزمنا بأن الكذب ليس بقبيح ذاتاً، وإنما قبحه بالوجوه والاعتبارات وبلحاظ ترتب المفسدة، للزم أن لا نثق بوعد الله بالجنة وثوابها لو أطعناه، وبالنار وعقوبتها لو عصيناه، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله.

فهذا مجمل القول - وبإيجاز - في البحث الصغروي في تنقيح: أن الكذب بذاته قبيح لا بلحاظ الوجوه والاعتبارات.

سيّالية بحث الحسن والقبح ومعانيهما، وعمومه لمسائل كثيرة من المكاسب المحرمة

وقبل التطرق إلى الأمر الثاني والبحث عن قاعدة الملازمة، نضيف هنا إضافة مهمة وهي: أنه بتتبع المسائل التي طرحها الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب المحرمة، وبملاحظة بعض كلماته في بعضها، وملاحظة جريان ما ذكره فيها في غيرها مما لم يستدل عليه بحكم العقل بالقبح، تأكد: أن ما مضى تحقيقه من تعدد مناشئ الحسنوالقبح وتعدادها هو بحث سيال عام الفائدة، ولذا ينبغي التركيز عليه، فإن الاستدلال الذي ذكرناه والإيرادات والنقاش يمكن أن تجري في موارد أخرى:

منها: بيع هياكل العبادة

ولم يستدل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على حرمة بيعها بالعقل، ولكن يمكن - جرياً على سائر أنحاء استدلاله في المسائل المشابهة - أن يستدل بحكم العقل بقبح بيعها، لوجود سائر مناشئ القبح كالنقص أو عدم الانبغاء وغير ذلك مما ذكرناه فيه، هذا فيما لو لم تترتب المفسدة، وإلا فالأمر واضح.

ص: 97

ومنها: الولاية من قبل الحاكم الجائر

ولم يستند فيها الشيخ (رحمه الله) إلى العقل كدليل على الحرمة، مع أن مقتضى القاعدة كان ذلك.

ومنها: حفظ كتب الضلال

وقد استدل (رحمه الله) على الحرمة بالعقل ولكن بوجه خاص استناداً إلى وجوب قطع مادة الفساد حيث قال: (ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد...)(1).

والحاصل: إنه استدل على الحرمة بالقبح العقلي الأخص؛ إذ وجوب قطعها إنما هو لقبحها، وقد ذكرنا مناشئ مختلفة لذلك القبح. وفيه تأمل بيّن.

ومنها: بيع الدراهم المغشوشة

ولم يستدل الشيخ (رحمه الله) عليها بالعقل، لكن مجال الاستدلال به واسع كالكذب، فإن العقل يحكم بقبح بيع الدراهم المغشوشة لما ذكره في النجش(2) وغيره.كما أنّ مجال الاستدلال به واسع في مسألة تدليس الماشطة والتطفيف والغش، وغيرها.

ومنها: الغيبة

قال الشيخ (رحمه الله): (حرام بالأدلة الأربعة)(3)، ووجه حكم العقل بحرمتها قبحها، فتأمل.

ص: 98


1- المكاسب: ج 1 ص 233.
2- كتاب المكاسب: ج2 ص61.
3- كتاب المكاسب: ج1 ص 315.
ومنها: النجش

فإنه قد يستدل على حرمة النجش بالأدلة الأربعة التي منها العقل، قال الشيخ (رحمه الله): (ويدل على قبحه العقل لأنه غش وتلبيس واضرار)(1).

أقول: وجه قبح الغش والتلبيس إذا كان قسيماً للإضرار، هو المناشئ الأخرى التي ذكرناها كالنقص واللاانبغاء ولا تطابق العوالم، إلى آخر المناشئ.

والحاصل: إن البحث الذي أشرنا إليه هو بحث سيال وجار في كافة المحرمات الشرعية المذكورة في كتاب المكاسب وغيرها، سواء أقبلنا كبرى الملازمة أم رفضناها.

كبرى الاستدلال: التحقيق في قاعدة الملازمة

ثم بعد الفراغ عن حال الصغرى، وإثبات أن الكذب قبيح بذاته، والصدق حسن بذاته وبما هو هو، لا بد أن ننتقل لتحقيق حال كبرى الاستدلال وهي قاعدة الملازمة، فنقول:إن حكم العقل بالقبح أمر، واستكشاف حكم الشارع بالحرمة أمر آخر، فلابد لتمامية الاستدلال من إثبات وجود علاقة دائمة بين هذين الأمرين، وهذه العلاقة ثابتة بقاعدة الملازمة، وهي (كلما حكم به العقل حكم به الشرع).

رأي الشيخ (رحمه الله) في قاعدة الملازمة

نسب بعض متأخري الأصوليين تمامية الملازمة وقبولها إلى جماعة من

ص: 99


1- كتاب المكاسب: ج 2 ص 61.

الأصوليين، بينما نسب تماميتها إلى المشهور في موضع آخر من كتابه(1).

ولكن ذلك ليس بدقيق؛ إذ ليست الملازمة دعوى جماعة من الأصوليين، ولا مشهورهم، بل هي أمر شبه مجمع عليه(2) وذلك هو ما ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في كتابه مطارح الأنظار، قال في المجلد الثاني:

(إن الحق - كما عليه المحققون -: ثبوت الملازمة الواقعية بين حكم العقل والشرع، وهذا الحكم هو مفاد قولنا كل ما حكم به العقل حكم به الشرع)(3).

ثم قال: (بقطع العقل الخالي عن شوائب الوهم بخلافه فإان العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجه يستحق فاعله الثواب وجزاء الخير فقد أدرك من كل عاقلٍ حكيمٍ شاعرِ، فكيف بمن هو خالقهم؟ وكذلك إذا أدرك قبح الشيءفكذلك(4)، ولعمري إن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى مما لا يقبل الإنكار فإنها نار على منار)(5).

ثم قال: (ومما يعد من الوجوه الدالة على ثبوت الملازمة الواقعية بين حكمي العقل والشرع، الإجماع بأقسامه نقلاً وتحصيلاً مركباً وبسيطاً)(6) ويذكر

ص: 100


1- قال في دروس في علم الأصول الحلقة الثانية تحت عنوان (الملازمة بين الحسن والقبح): (وقد ادعى جماعة من الأصوليين الملازمة بين حسن الفعل عقلاً والأمر به شرعاً...) وقال في الحلقة الثالثة في (الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع): (والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي).
2- يستثنى من ذلك صاحب الفصول فقد أنكر الملازمة، كما سيأتي.
3- مطارح الأنظار: ج2 ص335.
4- ولدينا إشكال على كلام الشيخ (رحمه الله) واستدلاله، ولكن كلامنا الآن في نقل كلامه ورأيه ثم نقله للإجماع.
5- مطارح الأنظار: ج2 ص 340.
6- مطارح الأنظار: ج2 ص371.

وجوه ذلك.

ثم قال: (وبالجملة فمن تدبر في مطاوي كلماتهم وفي مجاري استدلالاتهم وموارد ثمراتهم وتحرير عنواناتهم لا يكاد يرتاب في ثبوت الملازمة بعد تسليم صغرى الإدراك)(1).

وعليه: فإن الإجماع على قاعدة الملازمة ثابت أو يكاد أن يكون كذلك، ولعل ذلك العَلَم الأصولي لم يلاحظ تتمة كلام الشيخ (رحمه الله) في المطارح.

هداية المسترشدين: المعروف من المذهب الملازمة

ولتأكيد كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) - مبدئياً - ننقل كلام الشيخ محمد تقي الاصفهاني (رحمه الله) في كتابه هداية المسترشدين(2) لأهميته وفائدته، قال (رحمه الله):(ثالثاً: إنه إذا قيل بإدراك العقل الحسن والقبح على نحو ما ثبت في الواقع، فهل يثبت بذلك حكم الشرع به كذلك فيكون ما تعلق به(3) واجباً أو محرماً في الشريعة مثلاً على نحو ما أدركه العقل أو لا يثبت الحكم الشرعي إلا بتوقيف الشارع، وبيانه فلا وجوب ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعية إلا بعد وروده في الشريعة! ولا يترتب ثواب ولا عقاب على فعل شيء ولا تركه إلا بعد بيانه، فالمعروف من المذهب هو الأول(4)، بل الظاهر إطباق القائلين بالحسن والقبح عليه عدا شذوذ منهم، فإنهم يقولون بالملازمة بين حكم الشرع والعقل

ص: 101


1- مطارح الأنظار: ج2 ص372.
2- وهو كتاب قيم جداً زاخر بالتحقيقات والتدقيقات، و يعد مؤلفه من طبقة أساتذة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) توفي سنة 1248 ه.
3- أي ما تعلق به حكم العقل.
4- أي الملازمة.

فكل ما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس)(1)(2).

فليلاحظ قوله: (فالمعروف من المذهب)، وقوله: (بل الظاهر إطباق...)، وما قاله الشيخ من: أن الإجماع محصلاً ومنقولاً بسيطاً ومركباً متحقق في المقام.

ومن الاستطراد المفيد الإشارة إلى أن ما يطرح في مبحث الملازمة ينفع في تنقيح مبحث مقاصد الشريعة بوجهٍ، وقد فصلنا الكلام عنها في (مبادئ الاستنباط) فراجع.

ضرورة تحليل معاني مفردات قاعدة الملازمة

ولكن ورغم دعوى الإجماع على قاعدة الملازمة، فإنه ينبغي تحقيق معنى مفردات قاعدة الملازمة، وكذلك معقد الإجماع بأقسامه، وبتحقيق ذلك سيتضح وجه الرأي المنصور، حيث نقول:

يجب تحديد مرجع الضمير في قاعدة الملازمة: (وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) فما هو مرجع الضمير في (به) في رأي المشهور أو الإجماع؟ وهنا موضع التأمل(3)، كما سيأتي.

ثم إنه يجب تحديد منشأ القبح، فإنه قد يكون الاقتضاء الذاتي أو الانبغاء،

ص: 102


1- هداية المسترشدين: ج3 ص502 - 503.
2- كما قال في هداية المسترشدين في ص499: (في بيان استقلال العقل بإدراك حكم الفعل بحسب الواقع وأنه من الأدلة على حكم الشرع مع قطع النظر عن توقيفه وبيانه له على لسان حججه، وهو الذي ذهب إليه علماؤنا الإمامية، بل وأطبقت عليه العدلية، بل قال به أكثر العقلاء من الحكماء والبراهمة والملاحدة وكثير من الفرق المثبتة للشرائع والنافية، وقد أنكر ذلك الأشاعرة وطائفة من متأخري علمائنا الأخبارية في الجملة وبعض من يحذو حذوهم، إلا أن الأشاعرة قد أنكروا ثبوت المحكوم به رأساً فلزمهم إنكار إدراك العقل له وكونه دليلاً على حكم الشرع).
3- وحتى كلام الشيخ (رحمه الله) في مطارح الأنظار فإن فيه اضطراباً ظاهرياً بدوياً, لا واقعياً، فتدبر.

ولعل هذا هو محط نظر المجمعين والمشهور، وقد يكون منشأه هو تباني العقلاء عليه، ولعله محط نظر بعضهم.

وأما مناشئ القبح الأخرى فإن فيها تأملاً ولا ملازمة ظاهراً، كما أنه لا يعلم أن المشهور قد بنوا عليها في الملازمة، بل إنهم لم يطرحوها بالمرة، فلا يصح أن نقول: بأنهم يرتؤون الملازمة بين القبح مطلقاً - بأي معنى من المعاني العشرة -، وبين حكم الشرع بالحرمة أو بين الحسن والوجوب، بل لا بد من تحرير محل كلامهم ومعقد إجماعهم.

وهذا هو ما سنفصله بعد قليل بإذن الله تعالى.

مناقشة كبرى الملازمة بوجوه
اشارة

مناقشة كبرى الملازمة(1) بوجوه

ويمكن مناقشة الكبرى المذكورة - دعوى الملازمة بين حكم العقل بقبح شيء وحكم الشرع بحرمته، أو الملازمة بين الحسن والوجوب - بوجوه عديدة:

الوجه الأول: إنّ بعض مناشئ القبح العقلي العشرة محرِّم لا كلها

وهذا الوجه يستند إلى تحقيق نوع القبح وتحديده من بين الأنواع العشرة التي أشرنا إليها سابقاً، إذ ليس كل نوع من أنواع القبح مما لو حكم به العقل حكم الشرع على طبقه حرمةً أو وجوباً، وذلك:

أ. لأن من أنواع القبح والحسن: النقص والكمال، فالناقص قبيح والكامل حَسَن، كالعلم والجهل، ولكن هل حكم العقل بحسن العلم - مطلق العلم(2) - دليل على إيجاب الشرع له؟

ص: 103


1- ولابد من التدبر، لأن مناقشة الكبرى الكلية قد يتوهم منها مخالفة الإجماع، لكنه ليس كذلك كما سيظهر.
2- فإن كل علم حسن بقول مطلق إلا ما خرج بالدليل، كعلم السحر وشبهه إن عُدّ علماً.

كلا؛ فإنه لا حكم من الشارع بوجوب كل علم، نعم العلم مستحب، غاية الأمر أن بعض أصنافه واجبٌ بوجه آخر(1).

ب. وكذلك الأمر في الملاءمة للطبع، فهل كل ما لاءم الطبع قد حكم الشرع بوجوبه؟ كما لو كان أحدهم يتلاءم طبعه مع الجو المعتدل أو مع الفراش الجيد، وكان الفراش الخشن أو الحر أو البرد مما تنفر منه نفسه وطبعه، فهل يحكم العقل بحرمته؟

وكذلك الحال في إصدار الأصوات العالية من غير إيجاب ضرر على الآخرين - وإلا حرم من هذه الجهة -، فهل هي محرمة شرعاً؟

وكذلك النظر إلى منظر مزعج تنكمش نفسه منه فهل هذا حرام؟ والجواب: قطعاً لا.

ج. وكذلك الحال في عدم تطابق العوالم وقبحه، فهل كل عدمِ تطابقٍ قبيحٌ؟ كأن يرسم أحدهم شجرة بما لا يطابق الواقع الخارجي عامداً، فهل هذا حرام؟ كلا، غاية الأمر أنه مرجوح أو مبغوض عقلائياً أو شرعياً.

د. بل نقول: إنه حتى في الانبغاء واللاانبغاء - وهو أقوى أسباب القبح أو الحسن، مما عبرنا عنه بالاقتضاء الذاتي - لا تصح دعوى الملازمة، وأن الكذب حرام لقبحه، والصدق واجب لاقتضائه لذاته الحسن، فلو سلمنا مثلاً أنالكذب حرام(2)، ولكن هل الصدق مطلقاً واجب؟ كلا؛ وذلك أن الصدق والكذب ضدان لهما ثالث هو السكوت، والصدق(3) بين واجب ومستحب فهو على

ص: 104


1- كوجوب العلم بأصول الدين شكراً للنعم أو دفعاً للضرر، ووجوب تعلم الطب ونظائره كفائياً دفعاً للضرر.
2- على فرض قبول حرمته عقلاً بإطلاقها.
3- أي بذاته بين واجب ومستحب وإلا فقد يكون حراماً.

نوعين؛ الصدق في الشهادة وغيرها من الأمور الخطيرة التي يتوقف عليها إحقاق الحق وهذا واجب، وأما القسم الآخر من الصدق فلا، وذلك كمن ذهب في سفر معين فصادف في طريقه الكثير من التفاصيل المباحة، فهل عليه أن ينقل جميع التفاصيل من المباحات؟ كلا؛ بل له أن يسكت، فالصدق والكذب ضدان ولها ثالث وهو السكوت.

فالقبح في الكذب اقتضى الحرمة، إلا أنّ الحسن في الصدق لم يستلزم الإيجاب.

وعليه: فإنه حتى في الحسن والقبح بمعنى الاقتضاء الذاتي يوجد هناك تفصيل، ولا إطلاق في التلازم.

والمتحصل: إنّه ليس كل نوع من أنواع القبح مما لو حكم العقل به حكم الشرع بحرمته، وكذا الحسن والوجوب، بل يحكم العقل بالرجحان الأعم من الوجوب والاستحباب.

الوجه الثاني: أنّ القبح والحسن حقيقة ذات مراتب بعضها محرم

إن الحسن والقبح هما من الحقائق التشكيكية ذات المراتب المختلفة، فإنّ الحسن الشديد يقتضي الإيجاب، والقبح الشديد بحيث يرى العقل المنع من نقيضه يقتضي الحرمة، وهما على القاعدة، فلا تلازم بقول مطلق، بل الحق هو الانفكاك والتفصيل بين المراتب النازلة الضعيفة ممّا يحسِّنه العقل ويقبِّحه من الرذائل والفضائل كالصدق أو الكذب وغيره.

والحاصل: إن التلازم متحقق في بعض الصور والأنواع، لا كلها، فهو في الجملة لا بالجملة.

ص: 105

الوجه الثالث: إنّ المصلحة أو المفسدة الضعيفة لا تقتضي الإلزام

بل لنا أن ننقل الكلام إلى نفس المصلحة والمفسدة، باعتبارهما من مناشئ الحسن والقبح بل هما المنشأ الوحيد لحرمة الكذب عند كل من المحقق الايرواني والسيد الخوئي و الشيخ التبريزي، على ما مضى كلامهم ومناقشته، ولكن الأظهر - كما اتضح في ما سبق - هو: أنه ليس كلما حكم العقل بوجود مصلحةٍ حَكَم الشارع بوجوبها وجرى على طبقها؛ وذلك لأن المفسدة والمصلحة من المفاهيم التشكيكية، وهي على درجات، فقد تقتضي المصلحة الاستحباب كما في صلاة الليل فإنها عبادة(1) حسنة بلا شك، ولكن الحسن والمصلحة لم تستلزم الإيجاب، وكذا الحال في السواك وبقية المستحبات، وكذلك الحال فيما حسّنه العقل بعنوانه كالإحسان.

والأمر كذلك في الجهة المقابلة وهي المفسدة والقبح، فإن بعض مراتب إضاعة الوقت مثلاً ليست بحرام قطعاً، وإن كانت ذات مفسدة.

والخلاصة: إن العقل لو استقل بمصلحة بالغة ملزمة، أو استقل بوجود مفسدة بالغة ملزمة، فذلك هو المجرى لقاعدة التلازم حيث لا انفكاك حينئذٍ.

الوجه الرابع: الاشكال في الانطباق والتطبيق

إن سلمنا عدم ورود الإشكالات الثلاثة السابقة، ولكن يبقى إشكال آخر دقيق وهو: عدم معلومية انطباق الكبرى على الصغرى(2)، فإنه وإن كانت الكبرى الكلية مسلمة، لكن الكلام في الانطباق؛ إذ ثبوت الكبرى الكلية أمر،

ص: 106


1- والعقل مستقل بحسن العبادة بعنوانها، وصلاة الليل صنف منها.
2- بل ومعلومية عدمها في صور كثيرة أيضاً.

وتمامية الانطباق أمر آخر.

ويتضح ذلك جلياً ب: ملاحظة العدل، فإنه لا شك في أن العقل يدرك حسنه الشديد، وكونه ذا مصلحة بالغة هذا صغرىً، ثم لنسلم الكبرى وهي: إن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وإن الشرع يحكم بوجوب العدل لحسنه الشديد البالغ، وحرمة الظلم لقبحه الشديد، ولكن من أين الانطباق على الأصناف وعناوين الموضوعات؟!فإن كثيراً من الناس ينتقلون خطأً من مسلَّمية الكبرى وثبوتها إلى مسلمية الانطباق، نظير الذين يُشكِلون على سهام الإرث وإنه كيف تعطى الفتاة سهماً ويعطى الذكر سهمين، مدعين أن ذلك خلاف حكم العقل لأنه خلاف العدل، فهذا الحكم بزعمهم - بسبب هذا الوهم - مختص بذلك الزمان الخاص.

والجواب: واضح بعد ملاحظة معادلة الانطباق؛ فإن كلي العدل ووجوبه وحسنه مما لا شك فيه، ولكن من أين أن المورد هو صغرى لتلك الكبرى الكلية؟ بل الأمر بالعكس؛ فإن هذا المدعي لاحظ عامل (المال) في دعواه: إن المورد صغرى لتلك الكبرى وإنه ظلم، وحكم على ضوئه، ولكنه غفل عن ملاحظة (عامل المسؤولية والتكليف)(1)، فتصور الحكم ظلماً، ولو لاحظ جميع الأبعاد لما توهم ما توهمه.

وعليه: فإنه كثيراً ما يكون منشأ الخطأ والخلط، هو الخطأ في التطبيق والانطباق، فلا تجدي عندئذٍ قاعدة الملازمة لتنقيح حال الصغرى والمصداق.

ص: 107


1- وإن الإنفاق واجب على الرجل حتى على هذه المرأة الوارثة، ولا شيء عليها عموماً إلا ما خرج.
تقييد الشيخ (رحمه الله) للحسن بكونه (على وجهٍ يستحق فاعله الثواب) يدفع الاشكالات

إن قلت: قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في مطارح الأنظار: (إن العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجهٍ يستحق فاعله الثواب وجزاء الخير فقد أدرك من كل عاقلٍ حكيمٍ شاعرٍ، فكيف بمن هو خالقهم؟ وكذلك إذا أدرك قبح الشيء كذلك.ولعمري إن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى مما لا يقبل الإنكار، فكأنها نار على منار)(1) انتهى، فإن تقييده (رحمه الله) ب(على وجهٍ ...) يدفع ما مضى من الإشكالات.

المناقشة: إنّ الكلام ليس تاماً لأنه من الاستدلال بالأعم

قلت: يورد عليه: بأنّ فاعل المستحب - كصلاة الليل - يستحق الثواب أيضاً - وهذا مثال شرعي -، وكذا فاعل الإحسان - وهو مثال عقلي - يستحق الثواب أيضاً؛ لأن حسن الإحسان من المستقلات العقلية بلا شك، فلو أحسن شخص إلى شخص فإنه يستحق الثواب، وجاحدُه يعد فاعلاً للقبيح بلا شك، مع أن الإحسان ليس بواجب.

وعليه: فإن استحقاق الشخص للثواب وجزاء الخير على فعلٍ حَسَنٍ هو أعم من كونه واجباً؛ إذ قد يكون مستحباً، وكذلك الحال في استحقاقه الذم والعتاب فهو أعم من الحرمة والكراهة(2)، فلا تتم قاعدة الملازمة حتى مع هذا القيد، فتأمل؛ لاحتمال كون مقصود الشيخ: (إن العقل لو أدرك حسن

ص: 108


1- مطارح الأنظار: ج 2 ص 340.
2- فتكون الإشكالات السابقة تامة وغير منتقضة.

الشيء على وجه ... لأدرك أن الشرع أيضاً يراه حسناً على نفس ذلك الوجه)، ولا يقصد: لأدرك أن الشرع يراه واجباً فتأمل؛ إذ لعله خلاف ظاهر سائر كلمات الشيخ (رحمه الله).

وعلى أي حال لو كان هذا مراده فإنه تام، لكنه أجنبي عن قاعدة الملازمة التي تعدّ في علم الأصول من الأدلة على الحكم الشرعي.

تحديد موطن الملازمة يدفع توهم انعقاد الإجماع عليها

ثم إن الظاهر: إن دعوى الشيخ الأنصاري (رحمه الله) وغيره الإجماع على قاعدة الملازمة بين حكم العقل بالحسن أو القبح، وحكم الشرع بالوجوب أو الحرمة، غير تامة، ولعل مكمن الخلل عدم ملاحظة مرجع الضمير في (به)، فإنه الذي أوجب الوهم واللبس عندهم فيما نستظهره، وذلك هو ما حصل في كلام بعض المتأخرين أيضاً حسب تتبعنا لكلمات العديد منهم، إذ ظهر الخلط واللبس في المورد نفسه، فإن ههنا كبريين:أوّلاهما: (كلما حكم به - أي بوجوبه - العقل، حكم بوجوبه الشرع) والملازمة هنا تامة، وكذلك كلما حكم العقل بحرمته حكم الشارع بحرمته.

وثانيهما: (كلما حكم به - أي بحسنه - العقل، حكم بوجوبه الشرع)، وهذه ليست بصحيحة.

ولعل منشأ الخلط عندهم هو: أن الأعلام انطلقوا من مبحث التحسين والتقبيح العقليين، ثم فرعوا هذه القاعدة، فجعلوا التحسين والتقبيح العقلين صغرى لكبرى قاعدة الملازمة، فالصغرى: هي إن هناك ما هو حسن أو قبيح ثبوتاً وهذا مما يستكشفه العقل، والكبرى هي: كلما حسنه العقل أوجبه الشرع، فهذا هو سبب الخلط.

ص: 109

ودليلنا على ذلك(1): هو العبارات التي نقلها الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(2) للاستدلال على الإجماع المدعى من قبله، فإن بعضها شاهد على عكس ما ادعاه، إذ هي صريحة أو ظاهرة في الملازمة بين الوجوبين والحرمتين.

أي: إن الحرمة العقلية تستلزم الحرمة الشرعية، وكذا الوجوب، فلاحظ مثلاً ما ذكره الشيخ (رحمه الله):

(ومما يعد من الوجوه الدالة على ثبوت الملازمة الواقعية بين حكم العقل والشرع، الإجماع بأقسامه نقلاً وتحصيلاً، مركباً وبسيطاً، أما الإجماع البسيط فيكشف عن تحققه أمور، منها: ما عزا الأستاذ إلى الشيخ في العدة من أنه لا خلاف في أن كل محظور عقلي فهو محظور شرعي)(3) انتهى، فإنه استشهد بكلام الشيخ في العدة من عدم الخلاف على التلازم بين المحظور العقلي والشرعي، والمحظور ظاهر في المحرم، وهو مما لا شك فيه، فالتلازم ثابت بين الحرمتين والوجوبين.

نقل كلمات بعض الاعلام في قاعدة الملازمة
اشارة

ومن المحبّذ أن نستأنس في خاتمة المطاف برأي بعض الأعلام(4)، ثم نعقب ببعض المناقشات:

1. كلام السيد الوالد (رحمه الله) في الأصول
اشارة

قال السيد الوالد (رحمه الله) في الأصول: (ثم العقل يدرك المصلحة والمفسدة وما

ص: 110


1- أي على أن الكبرى الأولى هي المجمع عليها لا الثانية.
2- مطارح الأنظار: ج2 ص335.
3- مطارح الأنظار: ج2 ص371.
4- لكون الرأيين من حيث الناتج النهائي متوافقين مع ما ذكرناه في المباحث الماضية، وإن كانت هناك وجوه للاختلاف بيننا وبينهما ظهرت أيضاً مما مضى، فتدبر.

يتبعهما من الحسن القبح(1) فإذا أدرك أحدهما بدون مزاحم مع المنع من النقيض(2) تحقق الوجوب والحرمة)(3)

انتهى، فقد حدّد مورد قاعدة الملازمة ب(فإذا أدرك أحدهما بدون مزاحم من المنع من النقيض) وهو الحق.

ثم قال (رحمه الله): (وإلا فالاستحباب والكراهة وإلا فالإباحة، لتبعية الأحكام لهما عند العدلية)(4) انتهى.

الميرزا الشيرازي (رحمه الله): الملازمة هي في سلسلة علل الأحكام

وقد ذكر الميرزا الشيرازي الكبير (رحمه الله) وتبعه على ذلك الميرزا النائيني (رحمه الله) والسيد الخوئي (رحمه الله) تفصيلاً في مسألة قاعدة الملازمة، حيث قبلوا بها فيما لو كان الأمر في سلسلة علل الأحكام الشرعية، وأما لو كان الأمر في سلسلة المعاليل فلا ملازمة عندئذ، ونقتصر هنا على عبارة الأخير:

2. كلام السيد الخوئي (رحمه الله) في المصباح

قال السيد الخوئي (رحمه الله): (فتارة يدرك العقل ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعية من المصالح والمفاسد، وهذا هو مورد قاعدة الملازمة؛ إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة(5) في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة علم بوجوبه الشرعي لا محالة)(6) انتهى.

ص: 111


1- وقد سبق التأمل في حصر منشأ الحسن والقبح بهما.
2- وهذه عبارة أخرى عن عبارة الشيخ في العدة والفرق بالإجمال والتفصيل.
3- الأصول: ج2 ص 34.
4- الأصول: ج 2 ص ص34.
5- وهذا قيد احترازي.
6- مصباح الأصول: ج1 ص26 مباحث الحجج والأمارات.

فمورد قاعدة الملازمة - كما يراه السيد الخوئي (رحمه الله) - ليس مطلق المصلحة والمفسدة(1)، بل ما كانت مع قيودٍ وهي: أن يعلم بعدم وجود مزاحم، وأن يعلم بأن هذه المصلحة ملزمة، ومع هذين القيدين فإنّ العقل يستكشف حكم الشرع.

بيان ذلك: إن الأوامر الإلهية تسبقها علل، أي: مقتضيات من المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والحكم الشرعي ليس عبثاً - بحسب العدلية -، وسلسلة علل الأحكام هي المصالح والمفاسد في متعلقاتها(2)، فإن المصلحة الثبوتية الملزمة تقتضي الأمر والإيجاب، وأما المصلحة الخفيفة فتنتج الاستحباب أي تقتضي تشريعه، وكذلك الحال في المفسدة الملزمة والخفيفة فهي تنتج الحرمة والكراهة، فبلحاظ وجود هذه المصالح والمفاسد يصدر الحكم الشرعي، ثم بعد ذلك تتولد في سلسلة المعاليل أحكام جديدة مثل وجوب الإطاعة؛ وذلك أن الأمر لو صدر عن المولى تعالى فلابد من طاعته، ووجوب الإطاعة متفرع على الأمر، متأخر عنه، لا قبله.والحاصل: ان المصلحة الواقعية تستتبع الحكم الشرعي، والحكم الشرعي يستتبع وجوب الإطاعة(3).

ومورد بحثنا هو من هذا القبيل كما لا يخفى؛ فإن قبح الكذب هو من سلسلة العلل، وذلك أن الكذب حيثُ قَبُح حرّمه الشارع، هذا في سلسلة العلل.

وصفوة كلامهم: إنه لو كان الكلام في سلسلة المعاليل فقاعدة الملازمة غير جارية؛ لاستلزامها المحاذير الأربعة المعروفة وهي: التسلسل أو الدور، أو طلب

ص: 112


1- أو الحسن والقبح التابع لهما.
2- والكلام في غير الأوامر الامتحانية، فإنها نادرة وذلك أن الأصل في الأوامر هو أن المصلحة في المتعلق لا في نفس الأمر.
3- أو وجوب الانزجار في النهي.

الحاصل أو تحصيله، أو اللغو، وهذا ما ذكره مشهور المتأخرين(1)، فإنهم قالوا: بأنه حيث أمر الشارع بصلاة الصبح فالعقل يقول: (لابد من طاعته في حكمه؛ لأنه المولى والمنعم الحقيقي وقد أمر أمراً ملزماً فتجب الإطاعة)، وهذا هو عكس قاعدة الملازمة المعروفة، أي كلما حكم به الشرع حكم به العقل أي حكم العقل بالوجوب، وأما قاعدة الملازمة فإنه لا يصلح: كلما حكم به العقل في سلسلة المعاليل كوجوب الإطاعة حكم به الشرع لأنه يلزم من ذلك طلب الحاصل أو المحاذير الأخرى(2).

إشكالات على كلام المصباح
اشارة

وبعد اتضاح ذلك، نذكر مرة أخرى عبارة مصباح الأصول مع الإشارة إلى بعض ما قد يورد عليه، وإن كنا نتفق مع كلامه في أصل المطلب(3).قال: (فتارة يدرك العقل ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعية من المصالح والمفاسد وهذا هو مورد قاعدة الملازمة فلو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة علم بوجوبه الشرعي لا محالة بعد كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد)(4).

وفي كلامه مواضع للتأمل:

ص: 113


1- ناقش السيد المؤلف حفظه الله ذلك بشيء من التفصيل في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) وكذلك في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) ، وقد أجاب هناك عن الإشكالات الأربعة.
2- كالتسلسل، إذ لو وجب إطاعة هذا الأمر (أقم الصلاة) - مثلاً - بأمر من الشارع بقوله: (أطع أمري بأقم الصلاة) فننقل الكلام إلى أمره هذا (أطع أمري...) فنقول هل أمر الشارع بإطاعته؟!.. إلى آخره.
3- وهو عدم إطلاق قاعدة الملازمة.
4- مصباح الأصول: ج1 ص26.
الأول: إنّ الملازمة تجري في سلسلة المعاليل أيضاً

إن قاعدة الملازمة جارية فيما كان في سلسلة معاليل الأحكام الشرعية أيضاً، وليس فقط ما كان في سلسلة علل الأحكام.

الثاني: إن هناك مناشئ أخرى للقبح والحسن والحكم بالحرمة أو الوجوب

ليس الأمر في دائرة سلسلة علل الأحكام كما ذكره من مدارية المصالح والمفاسد فقط؛ إذ إن المصالح والمفاسد هي أحد مناشئ الحسن والقبح العشرة، وكلها واقعة في سلسلة علل الأحكام، والتخصيص بهما هو خلاف القاعدة، كما اوضحناه سابقاً.

الثالث: إنّ هناك قيوداً أخرى لازمة للعلم بالوجوب الشرعي للحكم

كما يرد على ما ذكره بقوله(1): (إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم في تلك المصلحة علم بوجوبه الشرعي لا محالة) إنه لا يكفي للعلم بالوجوب الشرعي مجرد ما ذكره من المصلحة الملزمة وعدم وجود مزاحم لها، وإنما ينبغي أن تتوفر قيود ثلاثة أخرى لو ترتبت لعُلِم بالحكم الشرعي.

وهذه القيود الأخرى هي:أولاً: إحراز العقل وجود الشروط كافة.

ثانياً: وإحراز انتفاء الموانع كافة.

وثالثاً: إدراك صحة الانطباق، وقد مضى تفصيله فلا نعيد.

ص: 114


1- مصباح الأصول: ج1 ص26.

والخلاصة: إن تحقق المصلحة الملزمة وعدم المزاحم لا يكفي، بل لابد من وجود القيود الثلاثة الأخرى ليتحصل بعدها العلم بالحكم الشرعي(1).

الإشكال الرابع: إنّ قاعدة اللطف هي المتممة للاستدلال

كما يرد على قوله: (علم بوجوبه الشرعي لا محالة بعد كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد)(2)، إنه لابد من ضم قاعدة كلامية أخرى لولاها لما تم المطلوب، فإننا حتى لو قلنا: بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وإن المصلحة ملزمة، ولا مزاحمة ولا مانع في البين، وإن التطبيق صحيح، فإن كل ذلك لا يكفي ل(العِلم بالحكم الشرعي) أي: بإنشاء الشارع أحكامه على طبق المصالح والمفاسد، بل لابد من ضم القاعدة الكلامية المعروفة وهي: (قاعدة اللطف) لحصول المطلوب، وكي (نعلم بالوجوب الشرعي لا محالة) فإن هذه هي الموجبة للعلم بالوجوب الشرعي؛ فإن المصلحة الواقعية الملزمة، لولا قاعدة اللطف، لا توجب على الله تعالى أن يجعل الأحكام على طبقها، بل اللطف، فإنه بلحاظه أوجب الله تعالى على نفسه أن يحكم على طبق المصالح والمفاسد الثبوتية الواقعية، ولهذا تفصيل يترك لمظانه.

سلامة عبارة (الأصول) عن أكثر الإشكالات

ثم إنه لا ترد الإشكالات السابقة على ما اختاره السيد الوالد (رحمه الله) فإنه عبر بعبارة موجزة جامعة دافعة للإشكالات المتقدمة(3) إلا آخرها(4) حيث قال: (فإذا

ص: 115


1- لا يقال: هذه الثلاثة متضمَّنة في (المصلحة الملزمة). إذ يقال: كلا لأن المصلحة الملزمة هي عبارة عن المقتضي، ولو أريد به العلة التامة لكان تقييده بعدم المزاحم لغواً، فتدبر.
2- مصباح الأصول: ج1 ص25.
3- إلا إشكال حصر منشأ القبح والحسن في المفسدة والمصلحة.
4- بل حتى الأخير، فتدبر.

أدرك العقل أحدها بدون مزاحم مع المنع من النقيض...)(1) وبقيده الأخير أي: (مع المنع من النقيض) تندفع مجموعة من الإشكالات التي ذكرناها؛ إذ مع لحاظ هذا القيد يثبت أنه لا مانع في المقام، فإن العقل لو أحرز أنه لا مانع لمنع من النقيض، وإلا فلا، وكذلك يثبت أن الشروط موجودة والانطباق صحيح؛ إذ العقل لا يحكم بالمنع من النقيض إلا إذا أحرز وجود الشرط وفقد المانع وصحة الانطباق، فتدبر وتأمل.

الرأي المنصور

وأما رأينا المنصور فهو بعكس ما ذكروه، وإجمال ذلك إننا نقول: في سلسلة المعاليل كلما حكم به العقل حكم به الشرع؛ إذ في سلسلة المعاليل قد حكم العقل بوجوب الإطاعة على ضوء صدور حكم من الشرع بوجوب الفعل، وهذا الحكم العقلي(2) أنشأه الشارع أيضاً بالعمومات، كما فصلناه في كتابي التعاون والأوامر، بل يكفي حكم العقل نفسه في إنشاء الشارع، فإنه هو هو، حسب وجه من الوجوه الثلاثة في معنى قاعدة الملازمة، وأن (به) أي بمثله أو به هو هو، أو غير ذلك، ولا ترد على ذلك الإشكالات الأربعة السابقة، لما فصلناه في كتابي الأوامر المولوية والارشادية، وفقه التعاون.

وأما في سلسلة العلل: فنرى التفصيل فإنه ينبغي أن نلاحظ العلة، وأنها أي وجه من وجوه القبح العقلي هي؟ فإن بعضها يستلزم حكم الشارع بالحرمة، دون بعضها الآخر.

ص: 116


1- الأصول: ج 2 ص 34.
2- وجوب طاعة حكم الشرع.

كما لابد أن نرى القبح، وأنه في أية درجة من درجاته؟ فإن بعض الدرجات يستلزم حكم الشارع فقط، وقد سبق ذلك.

الخلاصة في مدى صحة استدلال الشيخ (رحمه الله) بالعقل

وخلاصة الكلام في صحة ما ارتآه الشيخ (رحمه الله) من الاعتماد على دلالة العقل على قبح الكذب لتحريم مطلق الكذب شرعاً؟ هو أنه:

إذا كان مدعى الشيخ (رحمه الله): (حكم العقل بقبح الكذب بقول مطلق)، فإن المقدم صحيح؛ لكونه قبيحاً مطلقاً، ولكن الملازمة غير تامة؛ إذ ليس الأمر أنه: كلما حكم العقل بقبحه حكم الشارع بحرمته.

وأما إذا كان مقصود الشيخ من حكم العقل: (حكمه بحرمة الكذب مطلقاً وكلما حكم العقل بحرمته حكم الشارع بحرمته)، فإن الإشكال هنا على المقدَّم لا الملازمة؛ لأن العقل لا يحكم أو لا يعلم حكمه بحرمة الكذب بقول مطلق، نعم هو يحكم بقبح الكذب مطلقاً، إلا أنّ هذا لا يلازم الحرمة؛ فإن الكذب المزاحي مثلاً بدون ترتب مفسدة عليه لا يعلم حكم العقل بحرمته وإن قَبُح، وكذا الحال في القصص المخترعة ونظائرها.

وعليه: فإنّ دليل العقل لا يصح أن يقع مستنداً للحكم بحرمة الكذب على إطلاقه، وإن دل على الحرمة في الجملة(1)، اللهم إلا على ظاهر دعوى القوم للملازمة وقد علمت تحقيق الكلام فيها.

كلام صاحب الفصول: الملازمة الظاهرية بين الحكمين ثابتة بالأصل

لكن يوجد وجه آخر للدفاع عمن يتبنى كون حكم العقل بالقبح دليلاً على

ص: 117


1- أي في بعض الصور.

حرمة الكذب بقول مطلق وهو المبنى المبتكر الذي ارتضاه صاحب الفصول (رحمه الله) في قاعدة الملازمة حيث ذهب إلى تحقق الملازمة الظاهرية بين حكم العقل وحكم الشرع بعدما أنكر الملازمة الواقعية(1) بينهما، خلافاً لما ذهب إليه المشهور أو الإجماع.

قال (رحمه الله): (فالحق عندي في المقام الأول، إنه لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ... هذا إذا أريد بالملازمة القطعية الواقعية منها، ولو أريد بها الملازمة بحسب الظاهر فالظاهر ثبوتها)(2).وتوضيح مراده (رحمه الله)(3): إنه ذهب إلى أن العقل لو أحرز جهة حسن في أمر ما كجهة الحسن في الصدق، أو أحرز جهة قبح في أمر آخر كجهة القبح في الكذب، فإن الإشكال وإن كان وارداً على دعوى الانتقال من حكم العقل بالحسن أو القبح إلى حكم الشرع بالوجوب أو الحرمة؛ فإنه لا دليل على دعوى الملازمة الواقعية بل الدليل قائم على العدم.

ولكن هناك تخريج بوجه جديد لإثبات الملازمة وهو: الانتقال من عالم الثبوت إلى عالم الإثبات، وذلك لأن إنكار الملازمة يعود إما لاحتمال وجود مانع من فعلية حكم الشرع بالحرمة تبعاً لحكم العقل؛ وذلك نظراً لكون القبح بحكم العقل مقتضياً وليس علة تامة، وإما لاحتمال وجود مزاحم؛ نظراً لأن الكذب وإن كان قبيحاً، ولكن يحتمل أن تكون فيه جهة حسن مساوية فتنتج التخيير أو الإباحة، أو أقوى فتنتج وجوبه أو استحبابه، إلا أنّ ذلك - وهذا هو بيت القصيد - يندفع بالأصل العملي الظاهري، فإن الأصل هو عدم وجود المانع

ص: 118


1- كما أنكرناها سابقاً وإن كان بتخريج ووجوه أخرى.
2- الفصول - الطبعة الحجرية -: ص337.
3- مع بعض الإضافات.

أو المزاحم، وعليه فتثبت الملازمة بينهما أي بين حكم العقل والشرع.

ولو تم ما ذكره صاحب الفصول (رحمه الله) لكان دليلاً ظاهرياً على حرمة الكذب بقول مطلق؛ استناداً إلى حكم العقل بقبحه أو المفسدة فيه.

قال صاحب الفصول (رحمه الله): (ومن هنا يتضح أنه لو جهل العقل جهات التكليف، وأدرك جهات الفعل، حكم في الظاهر بثبوت التكليف؛ عملاً بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار، ولأن قضية جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إن لم يعارضها مانع، ولا يكفي احتماله إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به، وقريب منه: ما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل المقتضية لحسنه أو قبحه، وشك في وجود جهة فيه تعارض تلك الجهة، فإنه يحكم بثبوت التكليف على حسبها، ولا يعتد باحتمال الجهة المعارضة؛ إما لأصالة عدمها أو لحكم العقل بقبح الفعل أو الترك والحال هذه حكماً واقعياً، وإن كان مبناه على الظاهر، ولهذا يستحق الذم عليه في حكمه وإن انكشف بعده وجود الجهة المعارضة فيه؛ فإنّ ارتكاب القبيح الظاهري قبل انكشاف الخلاف قبيح واقعي كالحرام الظاهري ألا ترى أن من علم بوجود السم في أحد الإناءين فتجرى على تناول أحدهما منغير ضرورة مبيحة أنه يستحق الذم بذلك عقلاً، وإن تبين بعد ذلك أنّ الذي تناوله لا سم فيه، وحينئذ فيرجع هذا القسم إلى القسم السّابق ويتناوله أدلته)(1).

مناقشة كلام صاحب الفصول (رحمه الله) بوجوه

ونناقش هنا قوله: (ولأن قضية جهات الفعل...) وقوله: (وقريب منه...) دون قوله: (عملاً بعموم الآيات) ودون قوله: (أو لحكم العقل بقبح

ص: 119


1- الفصول: ص340.

الفعل...) إذ لهما موطن آخر، فنقول:

الإشكال الأول: أنّ المفسدة على درجات

هو والإشكال الثاني إنما هما إشكالان في مرحلة (المقتضي)، ومقدَّم قاعدة الملازمة - وحاصله: إنه حتى لو فرض أن العقل أدرك أو حكم بالقبح أو حتى بالمفسدة في الكذب، فإن ذلك مما لا يسوّغ الانتقال منه إلى حكم الشرع بالحرمة؛ وذلك: لأن المفسدة على درجات، وليست كل درجة منها حتى في حكم العقل مما تقتضي الحرمة، فكيف والحال هذه يحكم الشرع بالحرمة ؟! لوضوح أن بعض درجات المفسدة تقتضي الكراهة.

اللهم إلا أن يريد إدراك العقل بعض جهات الفعل الإلزامية بأن يكون أدرك الدرجة العليا منها، وكذا الحال في الإشكال اللاحق، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ المصلحة والمفسدة على أنواع

كما أن المصلحة والمفسدة ومطلق الحسن والقبح على أنواع، وليس كل نوع منها يقتضي الحرمة بنظر العقل.

وهذان الإشكالان - كما سبق - هما في مرتبة المقتضي ومقدم القضية الشرطية في قاعدة الملازمة الظاهرية المدعاة، وهي: أنّ كل ما حكم العقل به - أي بمفسدته - حكم الشرع بحرمته.فالإشكال هنا هو: أنّ العقل لا يحكم بأن كل قبيح أو ذي مفسدة حرام، وعليه: فكيف ينتقل إلى حكم الشرع بالحرمة بعد عدم حكم العقل بها؟!

وهذان الإشكالان قد مضى تفصيلهما، فراجع.

ص: 120

الإشكال الثالث: لا يجري الأصل لو شك في مانعية الموجود أو مزاحمته

إنّ الشك تارة: يكون في مانعية الموجود، وأخرى: في وجود المانع، وكلامه لو تم فإنما يتم في الصورة الثانية دون الأولى؛ فإن الأصل العملي إنّما يجري - تبعاً للشيخ (رحمه الله) وآخرين - فيما لو شك في وجود المانع كما لو كان بدن الإنسان خالياً من جرم مانع ثم شك بعد ذلك في وجوده وطروه، فإنه يستصحب عدم طرو هذا الجرم على البدن، أمّا لو شك في مانعية الموجود فإن الأصل لا يجري؛ إذ لا حالة سابقة محرزة ومتيقنة حتى يشك فيها فتستصحب، فإن مانعية الموجود، المشكوك فيها لا حالة سابقة لها، اللهم إلا بناءً على صحة استصحاب العدم النعتي، لكنه غير تام.

وعليه: فلا بد من التفكيك بين صورتي كون مقامنا صغرى الشك في مانعية الموجود أو صغرى وجود المانع.

ولكن الظاهر: كون المقام من صغريات الشك في وجود المانع، لا الشك في مانعية الموجود، ولكن على أي تقدير فإنه لا يصح قوله: (فلأن قضية ... ولا يكفي احتماله - أي المانع - إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به)؛ لوضوح أن الحكم ليس بمقطوع به إذا أدرك العقل المقتضي له فقط، وبداهة أنه مع احتماله وجودَ مانعٍ لا قطع له بالحكم، بل هو شاك فيه وجداناً، نعم هو قاطع بالمقتضي له، ووجود المقتضي أعم من تحقق المقتضى - بالفتح -.

ثم إن المقام قد يكون من صغريات الشك في مزاحمية الموجود، لا في طرو المزاحم وحدوثه في مثل القصص المخترعة الهادفة، أو مثل الكذب مزاحاً الذي يقصد منه إدخال السرور في قلب المؤمن؛ وذلك أن البحث الذيدار بين الشيخ

ص: 121

والسيد الخوئي رحمهم الله والآخرين هو: عن مقتضيات عالم التشريع، وأنه قد يشك في أن ما هو موجود في هذا العنوان(1) الآن من الجهات الأخرى، هل هو مزاحم مساوٍ أو أقوى أم لا؟

فمورد البحث هو البحث عما صنعه الشارع عند ملاحظته الملاكات والموانع، والقائلون بالملازمة الثبوتية الواقعية ملتزمون بأن العقل أحرز الملاك وعدم المزاحم وعدم الموانع، في كل ما كان في سلسلة علل الأحكام كما سبق.

وأما صاحب الفصول (رحمه الله) فإنه يقول ب: الملازمة الإثباتية الظاهرية؛ لعدم إحاطة العقل بكل الجهات، فبمعونة الأصل يحكم العقل ظاهراً بالحرمة والوجوب، ثم يلزمه حكم الشرع.

ولكن يمكن أن يقال بأن الكذب - وكذا غيره - في طبيعته مجهول لنا من حيث مزاحمية الجهات الأخرى المتحققة فيه، لمفسدته أو قبحه، ونعني بذلك: ما هو مورد النزاع من الكذب بالمزاح والقصص المخترعة ونظائرها، فإن لها جهة مصلحة في قبال جهة المفسدة، فلا يصح القول ب: الأصل في هذه الجهة - من القبح الموجودة في الكذب المزاحي منذ تصور الطبيعي وبدء وجوده -،عدم كونها مزاحمة بما هو موجود فيها من الجهات المحسنة(2)! أو الأصل عدم كونها مانعة؛ لأن هذا هو إجراء الأصل عند الشك في مانعية أو مزاحمية الموجود.

وتوضيحاً لذلك نمثل بتقليد الأعلم؛ فإن فيه جهة رجحان وهي الأقربية للإصابة، فقد يقال: بأن العقل يحكم بوجوب تقليد الأعلم فيحكم الشرع بالوجوب أيضاً، ولكن المشكلة هي في وجود جهة واقعية أخرى هي الحرج - كما

ص: 122


1- عنوان الكذب مزاحاً ونظائره.
2- نعم لو كان مجرد احتمال وجود جهة محسنة، فإنه يندرج في الشك في وجود المانع أو المزاحم، وسيأتي جوابه - على هذا الفرض - في الإشكال الرابع.

ارتضاه صاحب الجواهر (رحمه الله) - يحتمل كونها مزاحمة لحسن تكليفنا بتقليد الأعلم، وهذا الحرج ثابت في صورة إيجاب تقليد الأعلم، وقد شكّ في مزاحميته أو مانعيته عن اقتضاء مصلحة الأقربية وتقليد الأعلم للإيجاب.والمتحصل من كل ذلك: إن الشك في مثل القصص المخترعة ونظائرها كالكذب في الحرب أو اضطراراً ليس هو في وجود المانع حتى يجري الأصل الظاهري، بل هو في مانعية الموجود أو مزاحميته.

ولكن لا تخفى وجوه التأمل في بعض ما ذكر، فتدبر جيداً(1).

الإشكال الرابع: إن الشك في وجود المانع أو المزاحم من قبيل الأصل المثبت

على كلام صاحب الفصول (رحمه الله): أنّه لو سلمنا إن الشك في وجود المانع لا في مانعية الوجود، وأنّنا أحرزنا وجود المفسدة في الكذب، وكذلك أحرزنا - تسليماً - أنه لا مصلحة مزاحمة أو مانعة منذ البداية، بل استجد لنا احتمال حدوث مانع أو مزاحم فيكون الشك في وجود المانع أو المزاحم، ولكن مع ذلك نقول: إن هذا لا ينفع صاحب الفصول (رحمه الله) في مقالته؛ لأنه من الأصل المثبت، وهو ليس بحجة على الرأي المنصور وما تبناه الشيخ (رحمه الله) وآخرون فلا يجري في المقام.

بيانه: إن مدار البحث والكلام هو في عالم المصالح والمفاسد وفي عالم المزاحمات التكوينية، وإن العقل يلحظ الكذب فيرى أن فيه مفسدة أو وجه

ص: 123


1- منها أنه لا يعلم كون مورد نقاش الأعلام هو ما ذكر، ومنها أن مثل إدخال السرور لا اقتضائي واللااقتضائي لا يزاحم الاقتضائي (وهو حرمة الكذب أو قبحه الذاتي)، فتأمل. ومنها أن مآل كلام الفصول في وجهه الآخر الذي لم نناقشه - لمن تدبره - إلى الاحتياط وإن ورد عليه ما لا يخفى، ومنها غير ذلك، فتدبر.

قبح، ثم يشك(1) بعد ذلك في أنه هل يوجد مانع تكويني أو مزاحم أو لا؟ والأصل هنا غير جارٍ؛ لأنه لا يرفع إلا ما كان مجعولاً للشارع وما كان في حيطته، أي أن الأصل يرفعالأمور المجعولة والتي هي بجعل من الشارع(2) لا الأمور التكوينية، والمصب في المقام تكويني كما أنّ اللازم تكويني وعقلي لا يرتبط بالشرع والتشريع.

وتوضيحه: إن جريان الأصل يراد به إثبات أن المقتضي التكويني قد أثّر في حكم العقل على طبقه، وهذا لازم عقلي، إذ إننا نريد أن نجري الأصل لإثبات عدم المانع حتى نقول بأن اقتضاء ذلك المقتضي وهو الحسن تام، فيحكم العقل على طبقه بالفعل، وهذا ليس من مجعولات الشارع، نعم لو كان المانع شرعياً فإن من آثار عدم المانع الشرعي وجود المقتضى الشرعي، فتدبر جيداً.

وخلاصة الجواب الرابع: إننا لو شككنا في وجود المانع أو المزاحم وطروه لم ينفع إجراء الأصل؛ لأنه مثبت وهو ليس بحجة، وقد أشار الشيخ (رحمه الله) في مطارح الأنظار إلى هذين الجوابين الثالث والرابع إجمالاً فراجع وتدبر في كلامه(3) وفيما ذكرناه ولاحظ الفوارق بينهما.

ولكن التدبر في كلام صاحب الفصول (رحمه الله) يقود إلى عدم ورود هذا الإشكال على وجهه الثاني، وإن ورد على وجهه الأول(4)؛ إذ لم يبنِ على

ص: 124


1- وإدارة الكلام عن صورة الشك لأن الكلام كل الكلام في تصوير الملازمة الظاهرية كما ادعاها صاحب الفصول (رحمه الله).
2- مثل المانع الشرعي.
3- راجع مطارح الأنظار: ج2 ص367 – 368.
4- الأول: أصالة عدم وجود جهة معارضة. والثاني: قوله (أو لحكم العقل بقبح الفعل أو الترك والحال هذه حكماً واقعياً وإن كان مبناه على الظاهر.

الحرمة الواقعية الأولية بل على حرمة واقعية أخرى مبناها على الظاهر قال: (فإن ارتكاب القبيح الظاهري قبل انكشاف الخلاف قبيح واقعي كالحرام الظاهري)، نعم يرد عليه: إنه لا يصح إلا على مبنى حق الطاعة أو شبهه(1)، كما يرد أن استدلاله ب: (ما لو علم بوجود السم في أحد الإناءين)، غير تام؛ إذ ليس المقام من موارد العلم الإجمالي، فتدبر.

الإشكال الخامس: إنّ الأصل لا يجري في الاعتقاديات والأصول والمبادئ والعلميات

ثم إنه حتى لو قبلنا بأن الأصل المثبت حجة، وإن قاعدة الملازمة ثابتة فيما لو شك في مزاحم فيرفعه العقل بالأصل، فمع ذلك فإن الأصل لا يجري في موارد، وهي:

1. الاعتقاديات وأصول الدين.

2. أصول الفقه(2).

3. مبادئ الاستنباط ومقاصد الشريعة.

4. كما أن الأصل لا يجري في العلميات.

وتفصيل ذلك: إن الأصل(3) لا يجري في الاعتقاديات، وذلك كمن علم بوجود الله تعالى بالبرهان، ثم طرأت لديه شبهة فشك - والعياذ بالله - بوجود الحق جل اسمه، فهل يمكنه أن يستصحب ما كان عليه من اعتقاد وعلم؟!

ص: 125


1- وقد فرقنا بين مسلكنا ومسلك حق الطاعة في بعض البحوث.
2- أي جريان الأصل لإحراز أصول الفقه أو التعبد بها.
3- والمقصود بالأصل هنا هو الاستصحاب وان كانت الأصول الأخرى لا تجري كذلك ولكن عمدة الكلام الآن هو الاستصحاب إذ عليه استند صاحب الفصول في إثبات الملازمة الظاهرية.

والجواب: كلا؛ لأن ذلك العلم قد زال وجداناً، والمستصحَب قد انتفى قطعاً، ولذا فعليه أن يبحث ويحقق.

والفرق بين المقام وبين الاستصحابات المعهودة: إنه في الأخيرة لا قطع بانتفاء المستصحب، كما لو علم بوجود شيء ثم شك بعد ذلك فيه، فإن مصب الاستصحاب المتيقن هو العاَلم الثبوتي، لكنه في عالم الإثبات يشك فيه، وأما في الاعتقاديات فإن مصب الاستصحاب - أي المستصحب المفروض - هو ما في عالم الإثبات نفسه - أيالاعتقاد - وهذا قد انتفى بالوجدان؛ فإن الشخص في المثال كان معتقداً بوجوده تعالى، فزال وانتفى هذا الاعتقاد، فكيف يستصحب ما هو منتف قطعاً؟!

ومن هنا فإنّ الاستصحاب لا مجرى له في الاعتقاديات.

والأمر في أصول الفقه كذلك، فإنّ الفقيه لو استظهر أنّ خبر الواحد حجة بالأدلة، ثمّ طرأت عليه شبهات ممّا أوقع الفقيه في الشك، ففي هذا المقام توجد هناك قاعدة واضحة ومسلمة وهي: إن الشك في الحجية مساوق لعدم الحجية، وليس للفقيه هنا أن يقول: إنني كنت سابقاً أستظهر أن خبر الواحد حجة، والآن شككت فاستصحب استظهاري، لأن الاستظهار قد انتفي وجداناً تماماً.

وكذا الحال في الشؤون العلمية، وذلك كمن استظهر أو قطع بصحة النظرية النسبية لانيشتاين، ثم راجع المعادلات فاحتمل وجود أخطاء في المعادلات الرياضية، وأن هذه النظرية ليست على إطلاقها، فصار يشك فيها، فإن علمه الأول وقطعه قد انتفى قطعاً، ولا يصح له أن يستصحبه في حالة شكه المتأخر؛ لانتفائه وجداناً.

ثم إن الاستصحاب أصل عملي - وبناء على حجيته من باب التعبد - إنما

ص: 126

يجري لترتيب الآثار العملية، وليس من موارد جريانه الاعتقادات وأصول الفقه والعلميات ونظائر ذلك، وأما بناء على كونه أمارة وكون وجه حجيته إفادة الظن، فسيأتي.

الإشكال السادس: الشك الساري ليس مورداً للاستصحاب

إن مدار البحث - كما هو بيّن - في كلام صاحب الفصول (رحمه الله) وغيره هو حول قاعدة الملازمة، وهذه القاعدة إما أنها من أسس التشريع، فهي سابقة رتبة على مسائل علم أصول الفقه، أو هي من أصول الفقه.

وعلى أي حال فإنّ العقل لو رأى جهةَ حسنٍ في شيء، ثم شك في وجودِ جهةِ قبحٍ تمنعه من الحكم بالوجوب، فإنه حينئذٍ شاك ثبوتاً في حكمه وجداناً، فكيف يحكم استناداً لأصل لا ينفي شكه؟!

وبتعبير آخر: إن الشك في المقام هو من قبيل الشك الساري وليس الطارئ، والشك الطارئ هو مجرى الاستصحاب لا الساري إلى المبدأ، إذ لا يوجد هنا متيقن سابق يحكم به العقل ثم يشك فيه حتى يستصحبه.ثمّ إنّ حجية الاستصحاب إما لبناء العقلاء أو للأخبار، وعلى كلا التقديرين، فإن حجيته إما لإفادته الظن أو للتعبد، فإن قلنا: بأنّ الاستصحاب حجة من باب التعبد، فلا تعبد للعقل في الاعتقاديات والعلميات والأصول، وإن قلنا بأنّه من باب إفادة الظن النوعي، فإنه ليس مورثاً للظن فيها.

الإشكال السابع: الاستصحاب غير جار في الشؤون الخطيرة

إن الاستصحاب غير جار في الشؤون الخطيرة(1)؛ إذ قد يقال: بأنّ بناء

ص: 127


1- ما ذكر سابقاً هو: إن الاستصحاب لا يجري بسبب الشك الساري وان المتيقن السابق قد انتفى وجدانا.

العقلاء إنّما هو على حجية الاستصحاب في غير الشؤون الخطيرة، وأما فيها فلا، ويظهر ذلك بملاحظة مثالين:

الأول: لو افترضنا دولة كانت تستورد بضاعة من دولة أخرى، ثم حدث بعد ذلك شك عقلائي في كون الاستيراد من هذه الدولة مضراً بالاقتصاد الوطني، فهل يجري العقلاء في الدولة الأولى الاستصحاب فيستمرون في استيراد بضاعتهم؟ كلا، بل إن سيرتهم على الفحص والتحقيق والاحتياط حتى اتضاح الحال.

الثاني: لو حدث شك عقلائي في أن هذا الدواء قد تحول إلى سم زعاف بمرور زمن عليه، أو بإضافة مادة له، فإن العقلاء لا يشربونه اعتماداً على الاستصحاب، بل يحتاطون.

والحاصل: إن العقلاء لا يبنون على الاستصحاب في الشؤون الخطيرة، هذا من جهة العقلاء.

وأما الشارع فله أن يجري البراءة على الرغم من خطورة كلّ ما يرتبط بمخالفته.

والمتحصل: إن المنصور هو أنه عند الشك في التكليف في الشبهة الحكمية فالمجرى هو الاحتياط العقلي حتى بعد الفحص وعدم العثور على دليل وذلك على حسب القاعدة المعروفة في عبودية العبد لمولاه وحسب مايعرف بمسلك حق الطاعة(1) ثم البراءة النقلية بعد الفحص، لا الاحتياطان في التحريمية كما ذهب إليه الاخباري ولا البراءتان.

ولكن ذلك في أفعال المكلفين، أما فيما عداها فإن العقلاء لا يبنون على

ص: 128


1- في بعض المباحث أوضحنا فرق مسلكنا عن مسلك حق الطاعة، فلاحظ.

جريان الأصل في الشؤون الخطيرة، والاعتقاديات، ومبادئ الاستنباط ونظائرها، مما تُعدّ من أخطر الشؤون، بل بعضها أكثر خطورة وأهمية من مسائل الفقه، بل ومن كثير من مسائل أصول الفقه والعلميات وما شابه ذلك، فلا يجري فيها الاستصحاب، والشارع أيضاً لا يجريه فيها(1), فتأمل.

الإشكال الثامن: استصحاب العدم النعتي ليس بحجة

كما يرد على ما ذكره صاحب الفصول (رحمه الله) من الملازمة الظاهرية: إن هذا الأصل هو من قبيل استصحاب العدم النعتي، وهو ليس بحجة.

بيان ذلك: إنّ الاستصحاب تارة: يكون في مفاد كان التامة وهذا مما لا كلام فيه، وتارة أخرى: يكون في مفاد كان الناقصة وهذا هو موطن العدم النعتي، وهو ليس بحجة فيما لو لم تكن لعدم الاتصاف حالة سابقة مع وجود الموضوع.

فعندما يقال: (كان زيد) و(لم يوجد زيد)، فإن لدينا هنا وجوداً محمولياً وعدماً محمولياً، فلو لم يكن زيد موجوداً ثم شككنا في وجوده استصحبنا عدمه، هذا هو مفاد كان التامة وهو مورد الاستصحاب الحجة.

وأما مفاد كان الناقصة ك (كان زيد كريماً)، فإنه لا يصح أن نستصحب بنحو العدم الأزلي أو النعتي(2) عدم كون زيد كريماً!إلا إذا علمنا بوجود زيد كان في فترة بخيلاً غير كريم فههنا لدينا حالة سابقة محرزة، وأما العدم النعتي غير الحجة، فمثاله: ما لو لم نعلم بأنّ زيداً منذ أنْ خُلِقَ هل هو سيدٌ وعلوي أو لا، أو بأنّ المرأة قرشية أو لا، فهل

ص: 129


1- الاعتقاديات ومبادئ الاستنباط.
2- (الأزلي) استصحاب عدم الكرم، (النعتي) استصحاب عدم اتصافه بالكرم وهو مورد الكلام.

نستطيع أن نستصحب العدم النعتي باعتبار أنه من مصاديق العدم الأزلي؟

والجواب: كلا؛ لأن استصحاب العدم النعتي لا حالة سابقة له، وأما استصحاب العدم الأزلي المحمولي فهو أصل مثبت وليس بحجة.

وبعبارة أخرى: قد يقال عن هذه المرأة: إنها قبل أن تولد لم تكن قرشيةٌ(1) أو قرشيةً(2) - رفعاً ونصباً - بنحو مفاد كان التامة والناقصة، ثم ولدت فشككنا في أنّ ذلك العدم الأزلي والمحمولي والاتصافي هل انقلب إلى الوجود أو لا؟ فنستصحب العدم، لكنه باطل، إذ استصحاب عدم القرشية بذاتها(3) مثبت؛ حيث يراد بها إثبات أن هذه ليست قرشية.

وأما استصحاب عدم كون هذه قرشية - وهو العدم النعتي - في الأزل - ومُوطن كلام صاحب الفصول (رحمه الله) من هذا القبيل كما سيأتي -، ففيه: إن القرشية واللاقرشية تتوقفان على المحل القابل، ولا محل قابل قبل الوجود فلا يصح الوصف بالقرشية وعدمها قبل وجودها.

والحاصل: إن الشك في قرشية المرأة عند خلقها لا حالة سابقة له.

ومحل كلام صاحب الفصول هو هذه الصورة، أي استصحاب العدم النعتي؛ فإنّ في تقليد الأعلم مثلاً - وهو حسن لأنه الأقرب للواقع - يشك العقل في أنّه هل هناك جهة مزاحِمة للحُسْن - كالحرج - بحيث تقتضي أن لا يحكم العقل بالوجوب؟ وحيث شككنا في وجودها، فإن الأصل - حسب كلام الفصول - هو عدمها.ولكن هذا مصداق لاستصحاب العدم النعتي، وذلك أن موضوع حكم

ص: 130


1- بنحو العدم المحمولي.
2- بنحو العدم النعتي.
3- أي مفاد كان التامة (لم تكن قرشيةٌ) بالرفع.

العقل مركب؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب تقليد الأعلم مجرداً، وإنما يقول: إن تقليد الأعلم غير الحرجي حسن وواجب، فالذي يراد استصحابه ليس بنحو مفاد كان التامة فلا يجري الاستصحاب فيه، فتأمل.

النائيني: لا يجري الاستصحاب في العَرَض إذا تركب الموضوع منه بنحو العدم النعتي

ويوضح ما ذكرناه ويؤكده: ما حققه المحقق النائيني (رحمه الله)(1)، وعصارته مع توضيح وإضافةِ تطبيقه على مقامنا، فإن كلامه نافع كوجه جديد لردّ ما ادعاه صاحب الفصول (رحمه الله) من الملازمة الظاهرية:

إن موضوع الحكم الشرعي إذا كان مركباً فإنه على أنحاء، منها: ما لو تركب الموضوع من معروض وعرضه، - وهذا قيد أول -(2), وكان العرض مأخوذاً بنحو العدم النعتي لا العدم المحمولي - وهذا قيد ثان -، ولم تكن لهذا العدم النعتي حالة سابقة - وهذا قيد ثالث -، فمع هذه القيود الثلاثة فإن الأصل لا يجري(3).

وهذا هو المنطبق على موطن البحث، فلاحظ ما سبق من مثال: تقليد الأعلم الحرجي وكونه واجباً أو لا، فإنه حتى لو قلنا: بحسن تقليده لأقربيته للصواب، فلا بد من رفع اليد عن ذلك لأن عدم كونه حرجياً قيد في الوجوب وفي الحسن.

ولتوضيح العدم النعتي أكثر نمثل ب: ما لو قيل: (الرجل العلوي(4) أكرمه)

ص: 131


1- أجود التقريرات: ج1 ص462.
2- بأن لا يكون مركباً من عرضين أو جوهرين.
3- والكلام في مرتبة الموضوع وإن القيد والنعت هو قيد للموضوع الذي له شأنية الاتصاف به.
4- وكذا القرشية في مثال سن اليأس.

فموضوع الحكم مركب من (الرجل) و(العلوي)، والعلوي بما هو مفهوم كلي معدوم أزلاً، فيمكن أن يستصحب، ولكن الكلام ليس فيه، وإنما الكلام في علوية هذا الرجل، وهذا هو العدم النعتي وليس لذلك حالة سابقة على وجوده.وبعبارة أخرى: لدينا صورتان؛ الصورة الأولى: ما ينفك فيه الوصف عن الموصوف، وذلك كالرجل يولد وهو غير متصف بالعالمية، فيمكن استصحاب عدم عالميته لوجود حالة سابقة لها، وليس الكلام في هذه الصورة.

الصورة الثانية - والكلام فيها - وهي: ما لا ينفك الوصف عن الموصوف، إذ لا حالة سابقة لعدم الوصف مع وجود الموصوف، كما في المثال الذي ذكرناه في الرجل العلوي أو المرأة القرشية فهي منذ أن ولدت إما أن تكون قرشية أو لا، فلا يصح استصحاب عدم قرشيتها؛ إذ لم تكن له حالة سابقة.

وفي المقام نقول: إن الإلزام بتقليد الأعلم بطبعه حرجي(1)، لا أنّه لم يكن حرجياً ثم صار كذلك، فلا يصح استصحاب عدم حرجية تقليده، هذا أولاً، ثم إنه لو شككنا في كون تقليده حرجياً أم لا، لم يصح استصحاب عدم حرجيته كما لا يصح استصحاب عدم قرشية هذه المرأة؛ إذ لا حالة سابقة لأي من اتصافه وعدم اتصافه بالحرجية، وهكذا نظائر المقام فلا تصح الملازمة الظاهرية المبتنية على إجراء الأصل التي ذكرها صاحب الفصول.

العدم المحمولي لا يجدي لإحراز العدم النعتي

والحاصل: إنه لا يمكن استصحاب العدم النعتي في الصفات اللازمة بطبعها(2) المشكوكة لدينا؛ وذلك لعدم وجود حالة سابقة، فإن المرأة القرشية قبل

ص: 132


1- حسب ما ارتآه صاحب الجواهر كما سبق - وهو المنصور، وعلى أية حال فليست المناقشة الآن في المثال.
2- أي التي لو كانت لكانت لازمةً.

وجودها لا يوجد هناك موضوعٌ قابلٌ لأن يتصف بالقرشية وعدمها؛ لوضوح ان الاتصاف بالقرشية متوقف على وجود المرأة - وهي الموصوف وجزء الموضوع للحكم المحمول على القرشية -, فالمورد من باب الملكة وعدمها.

وبكلمة موجزة: إنه قبل وجود الموضوع والمحل لا اتصاف، أمّا بعد وجود المرأة فلا حالة سابقة؛ إذ هي إما كذا وإما كذا منذ بدء ولادتها.إن قلت: نجري العدم المحمولي، بأن يقال: إن تقليد الأعلم فيه جهة حسن وهي أقربية الإصابة للواقع، ثم إن تقليد الأعلم الذي أوجبه الشارع هو غير الحرجي منه، فإذا شككنا أن تقليد الأعلم بطبعه حرجي أم لا، أجرينا استصحاب العدم المحمولي بأن نقول: أصل الحرج لم يكن موجوداً في بدء الخلقة فنستصحب العدم الكلي تعبداً، ثم نلصقه بتقليد الأعلم(1) الذي أحرزنا وجداناً حسنه؛ لكونه واجداً لملاك أقربية الإصابة، فيتحصل من إحراز الأمر الأول تعبداً والثاني وجداناً إن هذا التقليد ليس بحرجي.

قلت: إنه من الأصل المثبت؛ فإن استصحاب عدم الحرجية المطلق لإثبات أن هذا الموضوع متصف باللاحرجية هو أصل مثبت بالبداهة، فتدبر.

جواب الميرزا النائيني (رحمه الله) عن تفصيل الشيخ الآخوند (رحمه الله) بين القيود المتصلة والمنفصلة

ثم إن الميرزا النائيني (رحمه الله) ناقش المحقق الآخوند (رحمه الله) بما ينفع المقام(2)، وذلك أن صاحب الكفاية فصّل في العناوين العامة والقيود المخصصة والمقيدة لها، بين ما لو كانت القيود متصلة فاستصحاب العدم لا يجري، وما لو كانت

ص: 133


1- أي نصفه به.
2- تنبيه: ذكرنا كلاميهما مع بعض التصرف ليلائم المقام، فتدبر.

القيود منفصلة فحيث لا يتعنون العام بها فاستصحاب العدم المحمولي جارٍ ونافع، ولا حاجة لإثبات العدم النعتي به ليقال: إنه أصل مثبت.

وتطبيقه على المقام: إن دليل لا حرج منفصل(1) عن دليل التقليد(2)، ومعه فإن العدم المحمولي يجري دون حاجة لإجراء العدم النعتي، فيترتب الحكم نظراً لإحراز أحد جزئي الموضوع بالوجدان والجزء الآخر بالأصل.ولكن الميرزا النائيني (رحمه الله) رفض ذلك، وذهب إلى أن القيد سواء أكان متصلاً أم منفصلاً، فإنه - أي القيد - يُعنوِن الموضوع - المعروض - واقعاً فيتفصل - أي: يكون ذا فصلين -، ومعه يلزم ما ذكر من المحذور وإن العدم المحمولي ليس بما هو هو جزء الموضوع على الفرض، وإنه وإن جرى لكن لا يثبت به العدم النعتي لأنه مثبت.

والمتحصل: إن تقليد الأعلم الحرجي لا يصح التمسك فيه بالأصل لنفي الحرج لتتم الملازمة لإثبات الحكم الشرعي المدعى وهو الوجوب.

الإشكال التاسع: التمسك بالأصل إنزال لقاعدة الملازمة من رتبتها ونقض للغرض

كما قد يورد على صاحب الفصول (رحمه الله) : إن نتيجة التمسك بالأصل لإثبات الملازمة الظاهرية هي إنزال المبادئ التصديقية من عرشها إلى فرش الأصول، وهو خلاف القاعدة ونقض للغرض.

بيان ذلك: إن قاعدة الملازمة هي من مبادئ التشريع على احتمال، وهي

ص: 134


1- يلاحظ أن الكلام عن الدليل واتصاله وانفصاله، وليس عن الصفة نفسها لوضوح أن الحرج قائم بالفعل.
2- وهما قوله تعالى - مثلاً -: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اْلدِينِ مِنْ حَرَجٍ» وقوله تعالى: «فَاسْألُوا أهْلَ اْلذِكْرِ» أو «لِيَتَفَقَّهُوا فِي اْلدِينِ وَلِيُنْذِرُِوا».

مسألة أصولية - كما جرى عليه الأصوليون - على احتمال آخر، وعلى كلا التقديرين؛ فإن قاعدة الملازمة قاعدة رفيعة، وهي بمنزلة أعلى من مسائل علم الأصول، أو في مصافها، فلو جرى التمسك بالأصل لإثباتها، فإنه يعني إنزالها وحطّها من مرتبة المبادئ والأصول إلى مرتبة الفروع؛ حيث إن الأصل يتمسك به لإثبات المسائل الفرعية الجزئية، وفي ذلك نقض للغرض، اللهم إلا أن يصار - مبنىً - إلى صحة التمسك بالأصل حتى في الأصول أو يلتزم بالتنزل وإنه محض استبعاد ولا بأس به، فتأمل.

الثمرة العملية ما بين اثبات قاعدة الملازمة بالدليل أو بالأصل

ثم إنه تظهر الثمرة العملية ما بين إثبات قاعدة الملازمة بالدليل أو بالأصل في أنها لو كانت ثابتة بالدليل الاجتهادي - كما هو المنصور وتبعاً للمشهور - فستكون حاكمة على الأدلة الأخرى، وأما لو ثبتت بالأصل العلمي - كما ادعاه صاحب الفصول (رحمه الله) - فلا تكون حاكمة على الأدلة الاجتهادية، بل تكون محكومة بسائر الأدلةالاجتهادية إذا كان مصبها موضوع الأصل نفسه، كما لو دل الخبر على أن تقليد الأعلم مثلاً حرجي، مع فرض شكنا في أنه حرجي أم لا، وكنا نريد نفيه بالأصل، وإثبات وجوب تقليد الأعلم عقلاً؛ لحسنه عقلاً ولانتفاء الحرجية عنه بالأصل، فإن قيام خبر الواحد على أنه غير حرجي رافع للشك ونافٍ لجزء موضوع الحكم بالوجوب.

بل نقول: إن مقتضى القاعدة: إن مثل (لا حرج) و(لا ضرر) حاكمة على الأدلة الأولية؛ لوضوح أنه إذا أصبح الصوم حرجياً انتفى وجوبه أو انتفى

ص: 135

جوازه(1), وكذلك إذا أضحت الواجبات الأخرى(2) حرجية ارتفعت ب(لا حرج)، وارتفعت كذلك بسائر مبادئ الاستنباط - لو قبلنا بها -، ولكن - وهنا موطن الشاهد - لو التزمنا بكلام صاحب الفصول الذي أثبت الملازمة بين حكمي العقل والشرع بالأصل النافي لوجود جهة مزاحمة لقبح الكذب أو لحسن الصدق مثلاً، وقلنا بأنّ قاعدة الملازمة تتم ببركة الأصل الجاري كان نتاج ذلك تنزُّل قاعدة الملازمة من حاكميتها على الأدلة الاجتهادية إلى محكوميتها بها أولاً وتنزل كل ما ثبت بها من القواعد ثانياً، وهذا فارق كبير وهي ثمرة مهمة.

وتوضيح ذلك بالمثال: إننا لو قلنا: إن الحكم برفع الحرج ثابت بالدليل الاجتهادي النقلي كما هو كذلك لقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اْلدِينِ مِنْ حَرَجٍ» فالأمر سهل؛ فإن دليل لا حرج يكون حاكماً على الأدلة الأولية، ولكن لو كان مستند مثل (لا حرج) هو العقل؛ لحكمه بحسن رفع الحرج، ثم يثبت حكم الشرع بقاعدة الملازمة، فإذا قلنا: بكونها ظاهرية(3)، فإن العقل عندما يلاحظ الحرج فيدرك حسن رفعه ثم يشك هل هناك جهة حُسْنٍ في إقرار هذا الحرج وجعله؟ - أي يشك في وجودِ وجه حسنٍ مزاحِم مقابِل ككون الإطاعة الحرجيةتتضمن تمريناً وترويضاً للنفس ومجاهدة لها وفيها مزيد الثواب(4)، فلو أتى المكلف بهذا العمل الحرجي لحصل على كل ذلك -، وعلى كل حال لو شككنا في وجود هذه الجهات المحسّنة فإن هذه الجهات المشكوكة والمزاحمة تنفى بالأصل، وكذا لو شككنا في مزاحمية الموجود منها - كما هو مورد صاحب

ص: 136


1- على الرأيين وقد يقال بمنوطية الأمر بمراتب الضرر.
2- إلا في ما وضع موضع الحرج كالجهاد.
3- وهذا حسب مبنى صاحب الفصول (رحمه الله).
4- حيث إن: (خير الأعمال أحمزها).

الفصول (رحمه الله).

فحينئذٍ نقول: إن قاعدة الحرج وبقية المبادئ لو أثبتت بهذا الوجه(1) فإنها ستكون محكومة بإطلاقات الأدلة؛ لكونها محرزة لجهات الحسن والمصالح بالبرهان الإني، نظير إطلاقات أدلة الصوم، ولا تكون حاكمة عليها؛ وذلك لأن إطلاق دليل الصوم - وهو دليل اجتهادي - سيكون منقحاً لحال الحرج - وهو الموضوع في القاعدة - ويثبت أن هذا الحرج الموجود حَسَنٌ وحسنه مقدم على قبح جعله، ولذا أوجب الشارع الصوم مطلقاً.

وبعبارة أخرى: إننا حسب قاعدة الملازمة الظاهرية إذا شككنا في وجود جهة حسن في وضع الحرج وتشريعه نفيناها بالأصل، ولكن دليل الصوم يكشف بالبرهان الإني(2) عن الحسن الثبوتي في الصوم، فإن أحكام الشارع تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، كما أنه يستكشف من إطلاق دليل الصوم - على فرضه - حسنه بقول مطلق أي حتى الحرجي منه.

بعبارة أخرى: إنه من إيجاب الصوم بقول مطلق يستكشف أن الصوم محبوب ومراد وأنه وإن كان حرجياً إلا أنه حرج حسن أي غالب في جهة حسنه على جهة قبحه، فيكون الدليل الاجتهادي منقحاً لموضوع الأصل ونافياً لإمكان إجرائه بنفيه الشك رأساً، أي إن الدليل الاجتهادي بإطلاقه يرفع موضوع الأصل (الشك)، فتأمل(3).6

ص: 137


1- من حكم العقل بحسنها وتتميمها بقاعدة الملازمة.
2- حيث أوجَب الشارع الصوم كَشَف عن حسنه الثبوتي، وذلك انتقال من المعلول إلى العلة.
3- إذ قد يورد على ما ذكرناه أنه دوري ولكن هذا الإشكال مندفع لدى الدقة والتأمل، وقد يورد على ما ذكر غيره، فتدبر.
المحصل النهائي من دراسة الأدلة الدالة على حرمة الكذب بقول مطلق

والمحصل النهائي: لما وصلنا إليه هو: إن الدليل على حرمة الكذب بقول مطلق هو آية واحدة وهي قوله تعالى: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور»، لظهور شمولها لمثل الكذب مزاحاً ونحوه، نعم قد يدعى انصرافه عن مثل القصص الخيالية الهادفة أو مطلقاً، وسيأتي تحقيق ذلك بإذن الله تعالى.

وأما دليل العقل فلا يدل على الحرمة إلا في الجملة، فلا يعلم حكم العقل بحرمة الكذب هازلاً أو حرمة القصص المخترعة.

ثم بعد الفراغ عن أصل مسألة حرمة الكذب، لا بد من التطرق للمستثنيات المتفق عليها والمختلف فيها...

وذلك في ضمن مسائل:

ص: 138

الفصل الثاني: مستثنيات الكذب

اشارة

ص: 139

ص: 140

المسالة الأولى: الكذب هزلاً

اشارة

أن من موارد الاستثناء المدعى: الكذب هزلاً، فإنه - على ما قيل - يُعدّ من المستثنيات.

ومورد البحث هو: إن حرمة الكذب في مقام المزاح، هل هي مطلقة، أو في الجملة، أو لا حرمة له في مقام المزاح مطلقاً(1)؟

الأقوال في المسألة

اشارة

والأقوال أو المحتملات في المسألة وبحسب استقراء ناقص هي أربعة:

القول الأول: حرمة الكذب الهزلي مطلقاً

حرمة الكذب الهزلي مطلقاً، لم يستبعدها الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في مكاسبه، قال: (ويحتمل غير بعيد حرمته لعموم ما تقدم...)(2) وإن كان الشيخ (رحمه الله) في بداية بحثه قد استقرب الحلية إذ قال: (فلا يبعد أنه غير محرم)(3).

ص: 141


1- وهذه مسألة شديدة الابتلاء فإن الناس بأصنافهم وطبقاتهم حتى بعض المتدينين يتمازحون فيما بينهم كذباً، كأن يقول أحدهم للآخر مازحاً: أنت بطل ضرغام، بينما هو ضعيف وجبان، وهذا نوع من أنواع الكذب، فإنه كذب هزلي! وقد أخرجه بعضهم عن دائرة الكذب لكونه إنشاء كما سيأتي.
2- كتاب المكاسب: ج2 ص16.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص16.
القول الثاني: جواز الكذب هزلاً مطلقاً

جواز الكذب هزلاً مطلقاً، وهو ما ذهب إليه المحقق الايرواني (رحمه الله) في حاشيته على المكاسب(1)، في مقابل ما احتمله الشيخ (رحمه الله) غير مستبعد إياه، قال: (لا إشكال في جواز الكذب في مقام المزاح لاسيما مع قيام القرينة على المزاح)(2).

القول الثالث: التفصيل في الكذب الهزلي بين الإخبار والإنشاء

التفصيل بين الكذب إخباراً وإنشاء، وهو رأي السيد الخوئي (رحمه الله) وآخرين، حيث ارتأوا التفصيل وقالوا: بأن الكذب إذا كان هزلاً إخبارياً، - أي كان في مقام الإخبار هازلاً، بمعنى كونه مخبراً بداعي الهزل - فهو حرام، وأما إذا كان هزلاً إنشائياً فليس بحرام، لكنه قيده ب(مع نصب القرينة عليه).

القول الرابع: التفصيل بين صورة إقامة القرينة وعدمها

التفصيل بين صورة إقامة القرينة على المزاح وعدمها، ذهب إليه السيد الوالد (رحمه الله) حيث اختار تفصيلاً آخر دون التفصيل السابق فقال: إن الكذب سواء أكان هزليا إخباريا أم إنشائيا فهو حرام)، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.فلابد من ملاحظة أدلة كل رأي ومناقشته، والموازنة بين الآراء للوصول إلى المنصور، وقبل الدخول في سرد ادلة الاقوال ومناقشتها، لا بد من تمهيد امور ستة على سبيل المقدمة، لها أثر مباشر او غير مباشر في النقاشات الاتية في هذه المسالة وفي المسائل اللاحقة، حيث يتضح بها وجه النقاش فيها ووجه الرأي

ص: 142


1- حاشية المكاسب: ج1 ص40.
2- حاشية المكاسب (للإيرواني): ج 1 ص 40.

المنصور، وهي(1):

مقدمات تمهيدية ستة لبيان المنصور

الأمر الأول: عناوين المسالة أربعة: المزاح واللطيفة والهزل والاستهزاء وضرورة التفكيك بينها
اشارة

إنّ العناوين الموجودة في المقام أربعة وهي: المزاح، اللطيفة، الهزل، الاستهزاء، ولا بد من التفكيك بين هذه العناوين الأربعة، وبيان الفرق بينها، فإن لكل منها حكماً خاصاً به دون الآخر، وقد وقع خلط في كلام بعض الأعلام - بحسب ما وجدت - بين المزاح والهزل - مع أنهما عنوانان مختلفان -، فإن ظاهر عبارة مصباح الفقاهة(2) حرمة الكذب الهزلي الإخباري، ولم يطرح عنوان المزاح ولا الاستهزاء كذباً، لكنه في مساق كلامه ذكرهما معاً قال: (إن الكذب المسوق للهزل على قسمين: فإنه قد يكون الهازل بكذبه مخبراً عن الواقع ولكن بداع المزاح والهزل)(3) وهو خلط بينهما كما ترى وكما سيأتي بيانه، كما أن ظاهر الفقه(4) هو حرمة الهزل، وقد استثنى المزاح، واعتبره خارجاً موضوعاً منه.

الفرق بين العناوين الأربعة

أما بيان الفرق بينها فهو: أما الفرق ما بين الاستهزاء والعناوين الأخرى، فواضح، فإن الاستهزاء ما يتضمن التحقير والتنقيص وذلك واضح، قال في الفروق اللغوية: (الفرق بين المزاح والاستهزاء: إن المزاح لا يقتضي تحقير من

ص: 143


1- فإن كل مقدمة تجيب عن دليل أو رأي من الآراء المتقدمة أو تؤكده أو تضيف له أمراً جديداً.
2- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 389.
3- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 389.
4- الفقه المكاسب المحرمة: ج2 ص33 - 34.

يمازحه ولا اعتقاد ذلك، ألا ترى أن التابع يمازح المتبوع من الرؤساء والملوك ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولاإعتقاد تحقيرهم ولكن يقتضي الاستئناس بهم على ما ذكرناه في أول الكتاب، والاستهزاء يقتضي تحقير المستهزئ به واعتقاد تحقيره)(1).

الفرق بين المزاح والهزل

وأما الفرق بين المزاح والهزل فهو:

أولاً: إن الهزل إنما يطلق على ما يصدر في مقام العبثية واللغوية وما ناسب شأن البطالين، وأما المزاح فإن له غرضاً عقلائياً؛ كإدخال السرور على قلب المؤمن.

ويشهد لذلك: إنه يصح أن نَصِفَ النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) بأنه صدر منه المزاح أو قد مازح فلاناً من أصحابه، ولكن لا يصح أن نصفه بأنه صدر منه الهزل أو هاَزلَ فلاناً.

ثانيا: وقد فرّق بينهما في الفروق اللغوية بقوله: (الفرق بين الهزل والمزاح: إن الهزل يقتضي تواضع الهازل لمن يهزل بين يديه والمزاح لا يقتضي ذلك، ألا ترى أن الملك يمازح خدمه وإن لم يتواضع لهم تواضع الهازل لمن يهزل بين يديه، والنبي (صلی الله علیه و آله) يمازح ولا يجوز أن يقال يهزل، ويقال لمن يسخر يهزل ولا يقال يمزح)((2).

والأصح أن يقال: إن في الهزل نوع ضِعة لا تواضع، أما المزاح فلا ضعة فيه وإن كان فيه تواضع، فتدبر.

ثالثا: ويمكن بيان الفرق بينهما بوجه آخر وهو: إن النسبة بين المزاح

ص: 144


1- الفروق اللغوية (لأبي هلال العسكري): ص 248
2- الفروق اللغوية (لأبي هلال العسكري): ص 249

والهزل هي عمومٌ من وجه، وعلى تقدير التنزل فهي عمومٌ مطلق، أما مادة افتراق المزاح عن الهزل فواضحة، وذلك مثل ممازحة الرسول (صلی الله علیه و آله) مع رجل في أمر الناقة ونص الرواية: قال رجل: احْمِلْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ نَاقَةٍ؟ قَالَ (صلی الله علیه و آله): «وَهَلْ يَلِدُ الْإِبِلُ إِلَّا النُّوقَ»(1) ، وقد يمثل له بما قيل عنه: إِنَّهُ (صلی الله علیه و آله) كَسَا بَعْضَ نِسَائِهِثَوْباً وَاسِعاً فَقَالَ لَهَا: الْبَسِيهِ وَاحْمَدِي اللَّهَ وَجَرَي مِنْهُ ذَيْلًا كَذَيْلِ الْعَرُوس»(2)، فهذا مزاح وليس بهزل(3)، وهي فضيلة، فهو (صلی الله علیه و آله) في موارد عديدة صدر منه المزاح - كما سياتي مواردها بعد قليل -، ولكنه لم يصدر منه الهزل؛ فإنها منقصة.

وأما مادة افتراق الهزل عن المزاح فهو: كما في التمثيليات الهزلية من قول أو فعل، والتمثيلية الهزلية لا يقال لها تمثيلية مزاحية، هذه هي مادة الافتراق من جهة الهزل، ويمكن تصوير ذلك بأمثلة أخرى.

والبحث في المقام هو أعم من القول والإشارة والكتابة والفعل وغير ذلك، فإن الصدق والكذب لا يختصان بالوجود اللفظي فقط، بل يشملان الوجود الكتبي والإشاري وغيرهما، فإن كافة الوجودات الإثباتية يطلق عليها الصدق والكذب بلحاظ مطابقتها للوجود العيني وعدمه، وبلحاظ مطابقة اللاحق منها رتبةً للسابق بل مطلقاً، فتأمل.

والخلاصة: إنّ المستظهر هو إن النسبة بين المزاح والهزل هي عموم من وجه، وإلا فعموم مطلق، والأعم هو المزاح.

ص: 145


1- بحار الأنوار: ج16 ص294.
2- بحار الأنوار: ج16 ص295.
3- وقد يعدّ لطيفة وهو أدون من المزاح فالرواية باحتمالين.

ومما يؤكد الفرق بين الهزل والمزاح ما قاله الشيخ الطوسي (رحمه الله)(1) في تبيانه وتبعه الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان(2) من: (الجدّ خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف) انتهى.فإن ظاهره: أنه أخذ في مفهوم الهزل السخف، ولم يؤخذ في مفهوم المزاح، هذا إضافة إلى ما مضى من: أنه عبثي ولا غاية له، وأما المزاح فليس كل ما كان مزاحاً فهو سخيف، بخلافه في الهزل؛ فإن كل هزل سخيف، ولذا لا يصدر الأخير من النبي أو الإمام (علیه السلام).

أمثلة تطبيقية للمزاح والهزل واللطيفة

ولنذكر بعض التطبيقات تنويعاً للبحث وتطبيقاً للكبريات على صغرياتها:

المثال الأول: ما نقله في بحار الأنوار عن النبي (صلی الله علیه و آله) حيث إنه (صلی الله علیه و آله) رأى جملاً عليه حنطة فقال: «تمشي الهريسة»(3).

والظاهر: أن كلام النبي (صلی الله علیه و آله) هذا لطيفة، وليس بمزاح، فقوله (صلی الله علیه و آله) نوع من المجاز المستظرف، وهو مجاز بالأوْل، كما أنه من الواضح أنه ليس بسخرية أو هزل؛ إذ لا يصدران منه البتة.

المثال الثاني: ما نقلناه من أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لإحدى زوجاته عندما أهداها ثوباً واسعاً وقد تدلت بعض أطرافه: «البسيه واحمدي الله وجري منه ذيلا كذيل العروس»(4).

ص: 146


1- التبيان: ج10 ص147.
2- تفسير مجمع البيان: ج10 ص553
3- بحار الأنوار: ج16 ص294.
4- بحار الأنوار: ج16 ص295.

المثال الثالث: رأى النبي (صلی الله علیه و آله) صهيباً يأكل تمراً، فقال (صلی الله علیه و آله) له(1): «أتأكل التمر وعينك رمدة؟!» - فإن التمر يؤذي صاحب الرمد -، فقال صهيب: يا رسول الله إني امضغه من هذا الجانب وتشتكي عيني من هذا الجانب.

وهذه الرواية لو كان سندها معتبراً فإنها تصلح دليلاً على مسلك القائلين بأن الكذب المزاحي ليس حراماً؛ وذلك نظراً لتقرير النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) إلا أن يجاب بأن صهيباً لم يقصد اللازم من كلامه وإنما قصد اللفظ بما هو هودون لازمه، أي: أراد المرآة لا المرئي بها، أو بأن الكذب لا يعم اللازم العقلي أو الكنائي بل ينحصر فيما لو كانت الدلالة عليه لفظية أو بيّنة، فتأمل.

ووجه الجواز - بعد رفض الوجهين الأخيرين - هو: التفكيك بين الإرادتين الجدية والاستعمالية.

المثال الرابع: إن أبا هريرة سرق نعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورهنه بتمر وجلس بحذاء رسول الله يأكل التمر، فقال الرسول (صلی الله علیه و آله): «يا أبا هريرة ما تأكل؟» فقال: آكل نعل رسول الله(2).

فهل مثل هذا الكلام حرام أو لا؟ - مع قطع النظر عن حرمة السرقة وحرمة إيذاء الرسول (صلی الله علیه و آله) - فإنه من المجاز بلحاظ ما كان، ولعله كان سخرية منه ولا شك في حرمته حينئذٍ، كما أن الظاهر عدم صدق اللطيفة عليه، ولعله مما يصطلح عليه الآن بالمزاح الثقيل.

المثال الخامس: رأى نعيمان مع إعرابي عكة عسل فاشتراها منه وجاء بها إلى بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال نعيمان: (خذوها) - وهذا إنشاء يستلزم إخباراً بأن عكة العسل ملك له، فكان ظاهر الحال أنه أهداها للنبي (صلی الله علیه و آله) - ومرّ نعيمان وبقي

ص: 147


1- بحار الأنوار: ج16 ص296.
2- مناقب آل ابي طالب عليهم السلام: ج1 ص149.

الإعرابي إلى جانب الباب فقال: يا هؤلاء ردوها إلي إن لم تحضر قيمتها، حيث استظهر الأعرابي إن صاحب الدار هو الذي يجب أن يدفع الثمن - فعلم رسول الله (رحمه الله) ذلك فوزن له الثمن، وقال لنعيمان: «لماذا فعلت ذلك؟» فقال: رأيت رسول الله يحب العسل ورأيت الأعرابي معه العكة، فضحك رسول الله (صلی الله علیه و آله)(1)(2).ولو صحت هذه الرواية سنداً فإنها تصلح كدليل على أن الكذب في الإنشائيات جائز(3)؛ فإن قوله (نعيمان): (خذوها) إنشاء لكن لازمه الإخبار عن تمليكه لهم (وأنه اشتراها من الأعرابي وها هو يهديها لهم الآن) وذلك على كلام مضى بعضه وسيأتي بعضه الآخر بإذن الله تعالى.

ثمرة التفكيك بين العناوين: تحديد مصب المنع في الروايات

وتظهر ثمرة التفكيك بين العناوين السابقة الأربعة وعدم إدخالها أو بعضها في خانة واحدة، في تحديد مصبّ المنع في الروايات دفعاً للخلط الذي حصل لبعض الأعلام، من دون أن يقع في الخلط الشيخ (رحمه الله) الذي كان دقيقاً، والسيد الوالد (رحمه الله) وآخرون، فإن الروايات التي نقلها الشيخ (رحمه الله) في المكاسب(4) كان متعلق النهي أو التنزيه فيها: عنوان الهزل لا المزاح، ولذا تقيد الشيخ (رحمه الله) ومن تبعه في بحثه بهذه المفردة.

وعليه: فلو ثبت بتلك الروايات أن الهزل حرام، وقلنا: بأنه مغاير له

ص: 148


1- بحار الأنوار: ج1 ص162.
2- راجع هذه الروايات وغيرها في البحار ج12 ص294 - 297.
3- على كلام مضى بعضه وسيأتي بعضه الآخر.
4- كتاب المكاسب: ج2 ص15.

حقيقة كما سبق، وأن نسبته مع المزاح عموم من وجه على احتمال، أو عموم مطلق على احتمال آخر، فإن الحرمة لا تسري إلى المزاح، وهذا بناء على القول بأن الروايات التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) دالة على حرمة الهزل.

والحاصل: إن المدار في الروايات على عنوان (الهزل) أولاً، فلو ثبت تمامية الروايات الآتية سنداً ولم تُحمل على الكراهة أو التنزيه دلالةً، ثانياً، فحينئذٍ سيختص التحريم بالعنوان الذي ذكر في الرواية لا غير، حيث لا مناط قطعي لتسرية الحرمة إلى المزاح.

وأما السخرية؛ فإن مناط تحريمها أمر آخر، وهو إهانة المؤمن، وعليه فالكلام داخل في باب آخر.

نعم يمكن أن يقال: بأن رواية أبي ذر رضوان الله عليه تنطبق على المزاح أيضاً وهي: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له ويل له ويل له»(1) لكن في هذه الرواية كلام، فتأمل.

الأمر الثاني: إنّ مدار الصدق والكذب هو الواقع لا الاعتقاد

الظاهر أن مدار الصدق هو مطابقة القول - لا الاعتقاد ولا مجموع القول والاعتقاد - للواقع، ونضيف أن المطابقة هي بلحاظ ما قد احتف واقترن بالقول من قرائن، وسيأتي تحقيق هذا المطلب مفصلاً بإذن الله تعالى، ضمن الرد على أدلة القول الأول.

الأمر الثالث: وجود قسيم آخر للصدق والكذب

وهي نقطة مهمة وهي: إن هناك قسيماً آخر للصدق والكذب، والقضية ليست منفصلة حقيقية، فإننا عندما نقول: إن الخبر إما أن يكون كاذباً أو صادقاً

ص: 149


1- الأمالي للطوسي: 537.

فليست القسمة حاصرة، بل هي على سبيل منع الجمع لا الخلو، فإن هناك نوعاً وقسماً آخر لا هو صادق ولا هو كاذب(1).

وهو فيما لو انفكت الإرادة الجدية عن الاستعمالية، كما في المعلم في مقام التعليم؛ فإن خبره عند إعرابه لجملة ما أو عند تمثيله، لا يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب، كما لو قال: (زيد قائم) كمثال على الجملة الأسمية، وهو غير قائم في الواقع الخارجي.

والسر في ذلك هو: إن لحاظ المعلم عند الإعراب هو اللفظ بما هو هو، لا أنه يلحظ مرآتيته وإخباره عنه للواقع، فلا هو صادق ولا هو كاذب؛ إذ لم تلاحظ المطابقة وعدمها.

المشهور في الصدق والكذب أنْ لا واسطة بينهما

نعم ذهب المشهور إلى: إنه لا واسطة بين الصدق والكذب، قال صاحب مجمع البحرين: (إن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، سواء العمد والخطأ؛ إذ لا واسطة بين الصدق والكذب على المشهور)(2).

الرأي المنصور أنّ الواسطة موجودة بينهما

لكن الظاهر وجود الواسطة بين الإنشاء والخبر، وبين الصدق والكذب.

وتفصيل ذلك: إن تعبير الأدباء ب: (إن الكلام إما خبر أو إنشاء) ليس بدقيق، بل هو خطأ، والتعبير الدقيق هو أن يقال: (الكلام إما إخبار أو إنشاء)؛ وذلك لأن الخبر لا يقع في قبال الإنشاء ليكون قسيماً له، وإنما الإنشاء يقابله

ص: 150


1- ولعل العبارة الأدق على ما يظهر من عبارات السيد الأستاذ حفظه الله لاحقاً هو أنه يوجد قسيم ثالث للخبر والإنشاء. المقرر.
2- مجمع البحرين: ج2 ص157.

الإخبار فإنهما جميعاً من باب الإفعال، أما الذي يقع في قبال الخبر فهو النشوء أو النشأة.

ويوضحه: ملاحظة الفرق بين العِلم والإعلام، فإن العلم يشير إلى الحالة والصفة الثبوتية القائمة بالإنسان، بينما الإعلام ما يصدر من الفاعل منسوباً إلى الطرف الآخر، كما هو مقتضى باب الإفعال.

وهذا يرجع صرفياً إلى: إن مقابل فعل من باب لا بد أن يكون من نفس الباب، ف(الخبر) من الباب المجرد، وعليه يلزم أن يكون مقابله أيضاً من باب المجرد (النشوء أو النشأة) كما قلنا، والإنشاء من باب الإفعال، وعليه يلزم أن يكون مقابله أيضاً من باب الإفعال (الإخبار).

و الإخبار هو: حكاية حاكٍ ما عن أمر، أي: الحكاية عن معنى معين مع نسبته إلى فاعل ما، وأما الخبر فهو أمر حاكٍ عن واقع، ولم يؤخذ فيه بما هو هو نسبته إلى الفاعل، أي: المخبر.

وبتعبير آخر: تارة: نلاحظ حال الفاعل ونسبة الفعل له فنقول: أخبرت إخباراً وأنشأت إنشاء، وتارة: أخرى نلاحظ المنشأ والمخبر وهما: الخبر والنشوء، ثم إن الإخبار فعل - بالمعنى الصرفي والمعنى الفلسفي أيضاً - وكذا الإنشاء، عكس الخبر والنشوء فإنهما بما هما ليسا من الأفعال - بل هما من الأسماء صرفياً كما أنهما ليسا مما يفعله الإنسان -.

التفكيك في مقام التعليم بين كذب الخبر وكذب الإخبار

وقد سبق الاستدلال على وجود الواسطة بين الصدق والكذب ب: قول المعلم في مقام التعليم، وهنا إضافة هامة:إن المتكلم له مقامات وأغراض متعددة عند ما يخبر أو ينشئ أو يتكلم

ص: 151

بقول مطلق(1).

ومنها: ما صدر في مقام التعليم لغرض آخر غير الإخبار عن الواقع، فإذا قال المعلم: «زيد عالم جملة اسمية»، فهل يصح أن نصف الأستاذ بأنه كاذب، فيما لو كان الواقع خلاف ذلك بأن لم يكن زيد عالماً؟! والجواب: كلا، والسرّ في ذلك: ما أشرنا إليه من التفكيك بين الإخبار والخبر، فههنا يوجد خبرٌ قد يكون كاذباً، ولكن لا يوجد إخبار، ولكن حيث لا يكون المتكلم قاصداً مضمون الكلام فلا يوجد ههنا مخبر - بحيثية إخباره - كما لا يوجد إخبار، وبالتالي فلا يوجد صدق أو كذب، فالمعلم لو قال: (زيد عالم جملة اسمية) فهنا حيث انفكت الإرادة الجدية عن الإرادة الاستعمالية لم يصحّ وصفه بالكاذب؛ وذلك أن المعلم ليس بقاصدٍ الحكايةَ عن الواقع الخارجي، وإنما نظره إلى عالم الألفاظ واللفظ فحسب، أي: إن نظرته إلى الجملة السابقة هي نظرة استقلالية لا آلية.

ولكن الخبر نفسه لو لاحظناه مجرداً عن نسبته للفاعل لكن منسوباً إلى الواقع لصح القول ب: (إن هذا خبر كاذب) وما ذلك إلا بسبب التفكيك في المقام بين الخبر والمخبر، فإن المخبر حيث لا إرادة جدية منه فلا يصح وصفه بأنه كاذب(2)، وأما الخبر فحيث لم يطابق الواقع فهو خبر كاذب.

التفكيك في التورية

ومنها: مقام التورية، كقول الولد لمن سأله عن والده: (ليس ابي هنا) مشيراً

ص: 152


1- بمعنى أنه متكلم لكن لا هو بمخبر ولا هو بمنشئ.
2- فإن الإرادة الجدية وكذا الاستعمالية في مرتبة الفاعل لا الفعل، ولذا صح التفكيك بينهما في مرتبته - أي الفاعل -.

إلى مكان معين من البيت مع تواجده فيه في موضع آخر، حيث لا حرمة لذلك بحسب المشهور؛ إذ لم يعدّوا التورية من أقسام الكذب، والسر - كما سبق - هو: في التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والجدية، فالولد ليس بكاذب حيث لم يقصد بإرادته الجدية ما فهمهالسائل من خلال الإرادة الاستعمالية، وإن كان الخبر - على حسب ما فهمه السائل منه - كاذباً، وسيأتي تحقيق هذا ومناقشته في بحث التورية(1).

مدار النهي هو الإخبار لا الخبر

وتظهر الثمرة في ذلك في: أن المدار في النهي ليس على الخبر نفسه، بل النهي ينصبُّ على الفاعل بلحاظ فعله، أي: بلحاظ ما صدر منه من خبر أو فعل، لا على الفعل المجرد عن فاعله أو الخبر بما هو هو، وإن كان الفعل ثبوتاً لا ينفك عن وجود فاعل له؛ إذ الفعل بما هو هو لا معنى للردع عنه تشريعاً، بل إنه مما يمنع تكويناً فقط، أما تشريعاً فإن المنع ينصب على الفاعل لردعه عن الفعل، ولا معنى للردع عن الفعل المجرد عن نسبته للفاعل.

وبعبارة أخرى: النهي موجه للفاعل بلحاظ فعله، ولا معنى لتوجهه للفعل نفسه، على أننا في غنى عن إثبات ذلك؛ إذ (الخبر) - وهو مورد الكلام - ليس فعلاً بما هو خبر؛ إذ المراد به القول الحاكي عن الواقع، بل الإخبار هو الفعل.

ومن هنا يظهر الفرق بين مصبّ المصلحة والمفسدة، ومصبّ الحرمة والإيجاب، فمع أن المصلحة هي المنشأ للإيجاب والمفسدة هي المنشأ للحرمة، إلا إن المصلحة والمفسدة قائمة بالفعل نفسه بقطع النظر عن الفاعل، وأما الحرمة

ص: 153


1- من التفصيل بين إقامة القرينة الخفية على التورية أو الجلية أو عدم إقامتها مطلقاً وغير ذلك.

والإيجاب فقائمان بالفعل منسوباً إلى الفاعل.

المنفصلة الحقيقية هي باللحاظ الفلسفي لا البلاغي

بل نترقى بالقول بأن الخبر أيضاً قد يكون كذباً بلحاظ، غيرَ كذب بلحاظ آخر.

توضيحه: إن المخبر والإخبار والخبر والواقع، هي عناوين أربعة، فالمخبر هو الشخص نفسه، والإخبار فعله وهو من مقولة الفعل، والخبر هو نفس القول الصادر منه وهو من مقولة الكيف على وجه، ثم إن هذا الخبر يحكي عن الواقع الخارجي.وعليه: فإن لدينا ثلاثة عوالم: الفاعل وهو جوهر، والفعل، والحاصل منه وهو ذات القول وهو كيفية قائمة بالهواء بلحاظ حكايتها عن الواقع وعالم الثبوت، وقد مضى: أنّ مدار الصدق والكذب يمكن أن يفكك فيه بين عالم الخبر والإخبار، وننتقل الآن إلى الخبر نفسه فنقول:

إن الخبر تارة: يلاحظ بحسب المعنى الاصطلاحي البلاغي فيمكن أن لا يكون كاذباً ولا صادقاً، وتارة: يلاحظ من الناحية الفلسفية، فإنه حينئذٍ إما أن يكون صادقاً أو كاذباً، فهذا هو مورد المنفصلة الحقيقية، فعندما يقول المعلم: (زيد عالم جملة اسمية) فإنها لا يحكى بها عن شيء واقعاً، لكنها جملة خبرية نحوياً وبلاغياً، ومع ذلك فليست صادقة أو كاذبة عندهم ما دامت مجردة عن الحكاية بنظرهم، ولكنها بالمعنى الفلسفي هي خبرية حاكية عن واقع بذاتها، وإن لم يقصده القائل فإما صادقة أو كاذبة.

وعليه: فالمنفصلة الحقيقية ليست في عالم الإخبار والمخبر، بل وليست حتى في عالم الخبر الاصطلاحي نحوياً أو بلاغياً، وإنما بحسب المعنى الفلسفي

ص: 154

فقط، فتلك الجملة كذب باللحاظ الفلسفي، وليست بكذب ولا صدق باللحاظ البلاغي، فتأمل.

تقسيم الكذب إلى كذب الحاكي وكذب الحكاية

وبعبارة اخرى: إنّ ههنا إطلاقين للكذب(1) وهما مختلفان: الأول هو كذب الحاكي، والثاني هو كذب الحكاية، وهما نوعان مختلفان.

فإنّ الحكاية تارة: يقصد بها حكاية اللفظ، وتارة أخرى: يقصد بها حكاية اللافظ(2)، والفرق بينهما كبير، موضوعاً وحكماً.وبعبارة أخرى: تارة: يلاحظ الكذب منسوباً لفاعله ولقائله، أي مسنداً إلى لافظه، فإذا كان نائماً أو غالطاً أو معلماً فلا كذب هنا، إذ هذا اللافظ ليس حاكياً في مقامه.

وتارة أخرى: يلاحظ اللفظ بما هو هو ومع قطع النظر عن لافظه، وهنا يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب، أي إنه مع قطع النظر عن حالات اللافظ المختلفة لو طرق ذهن شخص جملة (زيد في المدرسة) من غير معرفته باللافظ وحالاته أو مع قطع النظر عنها، فإنه لو كانت هذه الجملة الخبرية غير مطابقة للواقع فهي كذب، لكنها بما هي هي مما لا وجه للردع عنها.

وبعبارة ثالثة: تارة: يوصف الخبر بأنه يحكي، وأخرى: يوصف المخبر بأنه حاكٍ.

ص: 155


1- وهذا البحث جدير بالتأمل وهو كلام دقيق ينفع في تحليل الإشكالات الآتية؛ الثالث بل وتحليل البحث كله بما في ذلك الإشكال الرابع والخامس.
2- الإضافة للفاعل وليست للمفعول.

الأمر الرابع: عموم الروايات لكذب الحكاية والحاكي، أو ظهورها في الأول

هل الروايات الشريفة الآتية تعم كلا نوعي الكذب، أم تختص بكذب الحكاية؟

فنقول: إنّ المحتمل في «اتقوا الكذب...» ونظائره(1)، وجهان:

الوجه الأول: شمول الإطلاق للصنفين

التمسك بإطلاق مثل: «اتقوا الكذب»، فتشمل الرواية كذب اللفظ والحكاية، وكذب اللافظ والحاكي، ولا فرق بينهما؛ إذ لا يوجد تقييد في الرواية بقسم دون آخر حتى يكون الكذب المنهي عنه هو ذلك الذي أُشرِب النسبةَ للمتكلم ليكون كذب الحاكي هو المنهي عنه فقط.

الوجه الثاني: ظهور النهي في كذب الحكاية، وتعلق النهي بالشيء بما هو هو

فإنه وإن احتمل كون النهي عن الشيء إنما كان بلحاظ انتسابه لفاعله أي: كذب الحاكي، إلا أن الأصل - أي الظاهر - عند تعلق النهي بعنوان كونه منهياً عنه بما هو هو، لا بخصوص صورة كونه منتسباً لفاعله، هذا وتحقيق حال هذه الصغرى يتم ضمن الأمر الخامس الآتي، المتكفل بحال الكبرى.

الأمر الخامس: البحث عن أن تعلق النهي بعنوان هل هو بما هو هو أم بلحاظ الانتساب

إن البحث عن شمول النصوص المباركة لكلا نوعي الكذب الحاكي

ص: 156


1- وهي الرواية الاتية في ضمن ادلة تحريم الكذب الهزلي بل مطلقاً.

والحكاية، أم خصوص كذب الحكاية، صغرى من صغريات بحث: إن الأصل - أي الظاهر - عند تعلق النهي بموضوع ما - بل مطلق تعلق الحكم بموضوع ما وإن كان وضعياً كالشرطية والضمان والبلوغ وما شابه على ما سيأتي مثاله -، تعلقه بما هو هو فيكون هو تمام الموضوع له للنهي فيجب الاجتناب عنه من دون أخذ قيد أو شرط فيه كالالتفات والعلم والبلوغ، أم أنه يتعلق بالعنوان بلحاظ انتسابه إلى الفاعل أو القائل، فلا يكون محرماً عند خلوه من الانتساب، فينبغي البحث في ذلك فنقول:

تحقيق مبنوي في أنواع الأحكام بلحاظ انحاء تعلق متعلقاتها بها

اشارة

إن الأحكام - من حيث قيامها بالموضوعات بأنفسها، أو بقيد انتسابها لفاعل خاص، أو بكونها عن قصدٍ خاص، أو من سبب خاص كالإنشاء - على نوعين ثبوتاً، وعلى ثلاثة أنواع إثباتاً:

النوع الأول: الأحكام القائمة بالموضوعات بنفسها

ما كانت المصالح والمفاسد فيها قائمة بالموضوعات بما هي هي مع قطع النظر عن الانتساب للفاعل أو لمنشأ تحققها وكيفية حدوثها أو صدورها(1) وعن قصد فاعله لجهة خاصة، ومع قطع النظر عن مثل البلوغ ونحوه مما قد يشترط في الفاعل، وذلك في صورتين:

أ - كل ما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج، فإن الحرمة تكون قد انصبت عليه بما هو هو، وذلك مثل شرب الخمر؛ فإن الحرمة رتبت عليه بما هو هو، وذلك لأن المفسدة قائمة به مع قطع النظر عن جهة انتسابشرب الخمر

ص: 157


1- البيع - مثلاً - موضوع ومنشأ حصوله أما اللفظ أو المعاطاة.

للفاعل أو قصده له، فإنه لو شرب الخمر ولم يقصد أن يسكر أو قصد التجربة مثلاً أو قصد ردع غيره كي يفهم أن الخمر سبب للإسكار فإن ذلك حرام، فإن القصد لا مدخلية له في رفع الحكم أو ثبوته، وكذا لو أمر غيره بأن يوجره في حلقه مما لا يصدق عليه عرفاً أنه شربه، فإنه حرام.

والحاصل: إن الحرمة والمفسدة قائمة بالمتعلق وهو شرب الخمر بنفسه مع قطع النظر عن جهة قصده أو انتسابه أو منشأ حصوله، وكذلك لو اجترحت امرأة القبيح - والعياذ بالله - ولكن لا بقصد التلذذ الشهوي، بل بقصد تحصيل المال أو بأي قصد آخر، فإن ذلك حرام دون شك، وهكذا حال سائر المستقلات العقلية، والكثير من المحرمات الشرعية، فإن الحرمة ثابتة مع قطع النظر عن قصد الفاعل أو حتى بلوغه، ولذا وجب منع الصبي من شرب الخمر، بل إنه يعزّر عليه إن كان مميزاً، وأما غير المميز فعلى وليه ردعه ومنعه.

ب - الأحكام الوضعية، كالضمان والنجاسة، فإنها ثابتة كحكم وضعي، سواء قصد أم لم يقصد، وسواء أكان نائماً أم لا، ساهياً أو غافلاً أم لا، بالغاً وعاقلاً أم لا، وهذان القسمان من النوع الأول من الأحكام كثيرة منبثة في أبواب الفقه المختلفة.

النوع الثاني: الأحكام القائمة بالموضوعات بقيدٍ

الأحكام التي انيطت الحرمة فيها بقصد الفاعل أو بجهة أخرى من الجهات، فإن المصلحة والوجوب، أو المفسدة والحرمة، حينئذٍ تتعلق بالمتعلق بقيدٍ ما كقصد القربة أو الإنشاء أو صدوره من فاعل خاص، أو بقيد قصده أو بما أشبه ذلك وذلك في صورتين أيضاً:

أ - (العبادات)، فإن المصلحة قائمة بها، ولكن بقيد قصد القربة.

ص: 158

ب - (المعاملات)، فإن وقوعها مقيد بالقصد والإنشاء؛ إذ إن العقود تتبع القصود، ولا تقع إلا بالإنشاء، حيث إن المصلحة لم تقم بِصِرف إجراء عقد البيع أو الإجارة مثلاً كيما تترتب الصحة أو الإلزام بالوفاء على ذلك، بل إنها رتبت على الفعل وهو: إجراء العقد بقيد قصده الإنشاء(1)، وبقيود أخرى - حسب الأبواب - كقيد البلوغ لمن يعتبره في معاملات الصبي مطلقا أو في الخطيرة منها.والحاصل: إن شخصية الفاعل وقصده لها دخالة في أحكامٍ كهذه.

وهذان القسمان من الأحكام لهما عرض عريض، وليس النوع الأول منهما هو الأصل والقاعدة العامة كي يقال: بأن الأصل هو تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات مع قطع النظر عن قصد الفاعل أو عن خصوصيته، بل هما قسيمان ونظيران، فالمرجع عالم الإثبات وإطلاقات الأدلة وشبه ذلك.

صور مشكوكة في إندراجها تحت أنواع الأحكام

وهناك صور مشكوكة؛ كالغيبة مزاحاً فهل هي محرمة؟ وذلك لوضوح مدخلية القصد في صورة دون أخرى، فإن الغيبة لو كانت بقصد التنقيص كانت محرمة، ولو كانت بقصد نصح المستشير فهي جائزة.

وعليه: فالقصد له مدخلية في ثبوت الحكمين، والمفسدة ليست قائمة بالفعل بما هو هو.

ومن الواضح: أن الغيبة ليست من المعاملات والعقود أو من الأحكام الوضعية أو العبادات(2)، وإنما هي من دائرة أخرى وهي مرتهنة بالقصد في مثل ما

ص: 159


1- بل إن المفسدة في غير ذلك.
2- ولا مما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج مطلقاً.

مضى، ولكن يشك بارتهانها به في مثل الغيبة مزاحاً، وما نحن فيه - أي الكذب مزاحاً - من هذا القبيل، فتأمل.

وجود نمطي التعلق؛ تعلق الحكم بالعنوان بما هو هو و بلحاظ الانتساب في الشرع

ثم إنّ كلتا الحالتين والنمطين ثبوتاً موجودة في الشرع بل هي كثيرة، فإن الحكم الشارعي تارة: يكون مداره على الشيء بما هو هو، وتارة أخرى: على نسبته إلى فاعله، ومثالهما الشرك والفسق.

فإن المشرك مشرك، وإن كان لا يدري إنه بهذا المعتقد يكون مشركاً، ككل من أشرك وهو يظن أو يقطع أنه موحّد، فإن الشرك عنوان ثبوتي غير مرتهن بعلم المشرك وجهله، فلا دخل للحيثية هنا؛ فإن المدار في الشرك على الواقع، وليس على الالتفات والقصد، نعم مدار العقوبة على ذلك.وأما الفسق، فإنه قد اشرب في هذا العنوان النسبة إلى الفاعل، فلو فعل المجتهد فعلاً فسقياً غير ملتفت لما فعله أو لكونه يعتقد جوازه، فليس بفاسق كما أنه يجوز تقليده، وكذلك لو شخّص المجتهد أو المقلد المصداق خطأ من غير تقصير، كما لو اغتاب أحداً وقد تصوره من مستثنيات الغيبة.

أما إثباتاً: فلابد من الفحص عن مفاد الأدلة ولسانها في كل مورد مورد، فإن لم تدل على أي من النمطين، فيصل إلى الأمر إلى الشك، فلابد حينئذً من تأسيس الأصل في ذلك، فإن البحث عن الأصل الذي يُستند إليه إنما هو بعد الفحص عن الأدلة ومفادها ولسانها على أحد الوجهين، فإن فقدت الأدلة ووصل الأمر إلى الشك كان الأصل الآتي الذكر هو المرجع؛ ولذا نجد أن الفقهاء في الموارد المختلفة يتتبعون الأدلة كي يكتشفوا منها كون الشروط واقعية أو

ص: 160

احرازية وعلمية، وهل تدخل الشارع فادخل شخصية الفاعل وقصده والتفاته في ثبوت الحكم أو لا؟

وبمراجعة لجواهر الكلام والعروة الوثقى وغيرهما، نكتشف العشرات بل المئات من الشواهد على تتبع الفقهاء للأدلة الخاصة في كل مورد مورد:

منها: ما لو غصب شخص ثوباً، فنسي أنه مغصوب وصلى فيه، فما حكم صلاته؟ من أن المفسدة الفعلي كائنة في الغصب من غير شك هذا من جهة، ومن أن لنسبته إلى الفاعل بأن لا يكون ناسياً لها مدخليةً في الحكم بالبطلان، من جهة أخرى.

ومنها: ما لو اشترى شخص فرواً من السوق، وكان يعلم أنه من جلد ميتة، ثم نسي فلبسه وصلى فيه فهل صلاته صحيحة أو باطلة؟

فصّل جمع من الفقهاء كصاحب العروة وغيره بين المسألة الأولى والثانية، فقالوا(1): بالصحة في الأولى، مما يعني أنهم قد استظهروا من الأدلة مدخلية الالتفات ونسبته إلى الفاعل حين الفعل في ثبوت الحكم فأفتوا بأن الصلاةصحيحة لأنه ناس، فالحكم هنا لم يتبع الموضوع(2) بما هو هو، بل خصّ بصورة صدوره من الفاعل ملتفتاً له وعدم نسيانه.

بينما قالوا(3): بالبطلان في المسالة الثانية، مما يعني أن الموضوع بما هو هو موضوع لبطلان الصلاة، وإن نسي، ومن تتبع في كتب القوم سيجد المئات من

ص: 161


1- قال صاحب العروة الوثقى (رحمه الله): (أما مع النسيان أو الجهل بالغصبية فصحيحة). العروة الوثقى: ج1 ص556.
2- الموضوع هو اللباس الغصبي أو الصلاة في اللباس المغصوب وحكمه بطلان الصلاة فيه.
3- قال صاحب العروة الوثقى (رحمه الله): (أما إذا صلى فيها نسياناٌ فإن كانت ميتة ذي النفس أعاد في الوقت و خارجه). العروة الوثقى: ج1 ص560.

هذه الموارد والبحث سيال.

وفي مثال آخر: إعطاء المتنجس للطفل ليشربه، فإنه جائز(1)، حيث استظهروا اشتراط البلوغ في ثبوت الحرمة، ولكن إعطاءه الخمر ليشربه، غير جائز؛ وذلك للأدلة الخاصة الدالة على أن الخمر من العناوين المحرمة لذاتها مطلقاً مع قطع النظر عن فاعله وشاربه، عكس المتنجس فإنه من العناوين الانتسابية، أي المحرمة في صورة انتسابها لأشخاص خاصين.

وعليه: فإنه في الموارد المختلفة ينبغي أولاً: الفحص عن أن الشارع هل اعتبر قصد المكلف والتفاته أو الانتساب إليه عرفاً ذا مدخلية أو لا؟ فإن فقد الدليل الخاص كان المرجع الأصل الآتي(2).

مفاد (اتقوا الكذب)

أما صغرى البحث، فقد يقال: إن النهي في الرواية: «اتقوا الكذب»، منصب على عنوان الكذب وظاهره - عرفاً أو بمعونة مقدمات الحكمة - أنه تمام الموضوع للحرمة من غير تقييد بوجود نسبة للفاعل، أي بكون الكذب منسوباً للفاعل عرفاً، أو شبه ذلك.

وعليه: فالكذب المحرم هو كذب الحكاية، بغض النظر عن الحاكي، أي المحرم هو ما هو كذب في حد نفسه وبالحمل الشائع الصناعي، فيكون الكاذب هازلاً وإن كان غير قاصد للحكاية آثماً؛ لأن كذب الحكاية متحقق وهو محرم، وإن لم يصدق كذب الحاكي.

ص: 162


1- قال صاحب العروة الوثقى (رحمه الله): (لا يجوز سقي المسكرات للأطفال بل يجب ردعهم ... وأما المتنجسات فإن كان التنجس من جهة كون أيديهم نجسة فالظاهر عدم البأس به و إن كان من جهة تنجس سابق فالأقوى جواز التسبب لأكلهم). العروة الوثقى: ج1 ص93.
2- إن الموضوع بما هو هو تمام المدار للحكم.

إن قلت: فكيف في مصداق المعلم والتعليم؟

قلنا: إنه ثبت إخراجه بالدليل الخاص من بناء العقلاء والسيرة وغيرهما فلا ينقض به(1).

والمتحصل: إن ذلك هو الأصل، وإن كل ما لم يدل الدليل على إخراجه فهو باقٍ على الأصل وهو: إن الحكم قد انصب على الموضوع بما هو هو، ولا دليل على إخراج الكذب الهزلي، نعم لو أقام قرينة فإن الظهور الثاني للحكاية يكون هو المقياس للوصف بالصدق والكذب، وسبق التفصيل في ذلك.

الأصل لدى الشك في أن متعلق الحكم العنوان بما هو هو أو بلحاظ الانتساب

والذي ينبغي أن يقع مورداً للبحث هو: ما يقتضيه الأصل لدى الشك، فعندما يقع عنوان ما مصباً للنهي، فهل ظاهر النهي هو النهي عنه بما هو هو؟

وعليه: يكون كذب الحكاية محرماً، أو إن ظاهره هو النهي عنه بما هو منسوب إلى فاعله، فيكون المحرم هو كذب الحاكي فقط.

والحاصل: هل الكذب في الرواية من قبيل الشرك أو الفسق؟!والجواب هو: إن الأصل والظاهر في الأوامر والنواهي إذا ما تعلقت بعنوان هو: كون هذا العنوان قد أخذ بما هو هو موضوعاً للحكم، لا بشرط انتسابه لقائله ولا بشرط قصده له، وهذا ضابط مبنائي مهم.

وبعبارة اخرى: إن الظاهر أن العنوان هو تمام الموضوع لثبوت الحكم له من غير اشتراط شرائط زائدة من صدق الانتساب أو تحقق القصد أو غيرهما،

ص: 163


1- هذا لو لم نقل بأن محط الصدق والكذب هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي فإذا قلنا بذلك فلا يكون كذب الحكاية محرماً إذ هو المراد الاستعمالي، فتدبر.

فإن الاشتراط هو المحتاج إلى الدليل، ولو ثبت ذلك - وهو كذلك - فإن المنفي والمبغوض والمردوع عنه هو الكذب بما هو هو، سواء نسب للقائل أنه كاذب أم لا، أي المحرم هو كذب الحكاية سواء صدق كذب الحاكي أم لا، وعليه يجب تجنبه(1).

الأدلة على ظهور متعلق الحكم في أنه تمام الموضوع له

ويمكن الاستدلال على ذلك بأدلة ووجوه:

الأول: الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات

ما ثبت من أن الأحكام - بحسب العدلية والمعتزلة - تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات بما هي هي، فالكذب بما هو هو ذو مفسدة، وكذا النميمة والسرقة والزنا وغيرها، فإنها حاملة للمفسدة بذاتها سواء قصد الفاعل ذلك أم لم يقصد، نعم لو كان قاصداً وملتفتاً فإنه يعاقب، ولكن موطن البحث ليس العقاب والثواب، بل فيما انصبت عليه أحكام الشارع ثبوتاً، وفي المراحل ما قبل الاعذار والتنجيز.

والحاصل: إن الموضوعات بما هي هي مصب أحكام الشارع، وما عدا ذلك يحتاج إلى دليل، فإن دعوى اشتراط أي أمر زائد يحتاج إلى دليل، وحيث إن الشارع قد أطلق فظاهره أنه قد جعل العنوان بما هو موضوعاً لحكمه.وبعبارة أخرى: الإطلاق اللفظي أو المقامي ينفي وجود شرط أو قيد في البين، ومنه: قصد الفاعل وانتساب الفعل إليه.

ص: 164


1- بتجنب المقدمات الموصلة له وإن كان حينها غافلاًً أو نائماً.

الثاني: حديث الرفع

الثاني: حديث الرفع(1)

فإنه مثبت لما ذكر؛ وذلك أن الأمور التسعة المذكورة فيه قد رفعت ولا يكون الرفع إلا بعد الثبوت والوضع(2)؛ فان الأحكام لو لم تكن ثابتة للموضوعات بما هي هي لكان حديث الرفع لغواً، فحديث الرفع إذاً يثبت أن هناك شيئاً مجعولاً قد رفعه الشارع، والأمور المذكورة في الرواية هي تسعة، والمزاح ليس منها، فحرمة الكذب مزاحاً ثابتة سواءً صدق عليه كذب الحاكي أم لا، فتأمل.

وبعبارة أخرى: مقتضى(3) حديث الرفع هو: أن العنوان بما هو موضوع الحكم، لا بلحاظ نسبته إلى فاعله، وقد استثنيت منه هذه التسعة دون غيرها، ومن الغير المزاح والهزل.

الثالث: الأصل في المقننين جعل مصبّ الأحكام الموضوع بما هو هو

ما نلاحظه من تتبع حال المقننين والمشرعين في مختلف الملل والنحل وفي بناء العقلاء - والشارع سيدهم - من: أن مصب أحكامهم هو الموضوع بنفسه، حيث يرتِّبون عليه مختلف الآثار، إلا العقوبة وذلك كذلك لديهم حتى في الجاهل القاصر.ألا ترى الضرائب مثلاً بعد تشريعهم لها(4)، فإنها ثابتة سواء أعلم الطرف

ص: 165


1- عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ الْخَطَأُ وَ النِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَالْحَسَدُ وَالطِّيَرَةُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْوَةِ مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ». وسائل الشيعة: ج15 ص369.
2- أي بعد شمول الأدلة لتلك العناوين التسعة.
3- بدلالة الاقتضاء.
4- وليس الكلام في جوازها شرعاً وعدمه، لوضوح حرمة المكوس والكمارك وغيرها.

بوجودها أم لا، فهي عندهم لازمة له مطلقاً، وكذا الحال في الجمارك، فإن المبالغ تفرض على البضاعة لو استوردها شخص حتى مع غفلته وجهله، بل قد تصادر بضاعته لو خالف شروطهم الوضعية حتى لو تذرع بجهله وقصوره، وكذا الحال في أحكام المرور وقوانينه؛ فإن كل الأحكام تجري عندهم على الشخص ولو كان جاهلاً.

إذاً: فبناء الأمم في مختلف حقول التقنين ومختلف الأعراف على أن موضوعات الأحكام هي العناوين بما هي هي، مع قطع النظر عن التفات الفاعل وقصده وعدمه، أو انتسابه له وعدمه.

مناقشة الأدلة الثلاثة

رد الدليل الأول: مشهور قول الأصوليين في التبعية إنما هو لدفع توهُّمين

ويمكن أن نناقش الدليل الأول - وهو إن تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات تدل على أن موضوع الحكم هو المتعلق بما هو هو لا بشرط استناده لفاعله إلا مع الدليل -: بأن ما ذكر من هذه التبعية وإن كانت ثابتة لا شك فيها، ولكن الحصر فيها هو من النوع الإضافي، فإنه قد قيل ذلك في قبال توهمين لدفعهما:

التوهم الأول: المصلحة أو المفسدة قائمة بنفس الأمر

ما توهم أن المصلحة أو المفسدة قائمة - كقاعدة عامة - بنفس الأمر والحكم، لا بالمأمور به، فمن أجل دفع هذا التوهم قال المتكلمون والأصوليون: إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلَّقات - بالفتح - لا بالمتعلِّقات - بالكسر -، وإن الأوامر

ص: 166

والنواهي الشرعية ليست هي من قبيل الأوامر والنواهي الامتحانية إلا نادراً ومما يفتقر إلى الدليل.

التوهم الثاني: أفعاله تعالى لا تعلل بالغايات ولازمه العبث

كما توهم أن الله تعالى قد يفعل العبث - تعالى الله عن ذلك -، وأن أفعاله غير معللة بالأغراض والغايات، وفي ردّ هذا أيضاً قال المتكلمون والأصوليون ب: تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، لا إنها عبثية وغير حاملة للغرض، بل كل ما يفعله من تكوين أو تشريع فهو لحكمة وغرض وغاية، فإنه تعالى وإن كان قادراً علىالعكس إلا أنه (قيَّدت حكمته كرمه)، كما قيدت حكمته إعمال ولايته وقد (أخذ على نفسه أن لا يفعل إلا لغرض).

ومنه يظهر: إن القاعدة لم تُذكر بصدد نفي كون المتعلق الحامل للمصلحة أو المفسدة ذا قيدٍ مثلِ الانتساب إلى الفاعل أو لا، أي أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما القاعدة ذكرت إما لدفع التوهم الأول أو الثاني.

وعليه: فإن المصالح والمفاسد قد تكون قائمة بالفعل بما هو هو، وقد تكون قائمة بالفعل بقيد انتسابه لفاعله أو بقيد خصوصية خاصة أخرى فيه، وكون المجموع هو علة تشريع الحكم فقاعدة تبعية الأحكام لمصالح في المتعلقات أعم من الصورة الأولى فلا تكون دليلاً عليها(1).

ص: 167


1- والحاصل إن العقل حاكم بأن المولى العرفي - وسيدهم الشرع - لا يحكمون عادة إلا لمصلحة في المأمور به، ولكن هل هذه المصلحة مستقلة قائمة بنفس الموضوع بما هو هو أو هي قائمة به بما هو منتسب إلى فاعله وبخصوصية فيه؟! وكلاهما ممكن وواقع، فلا دليل في نفس هذه القاعدة على أحدهما، نعم قد يستدل بالإطلاق ونحوه وهو دليل آخر، على أن هذه القاعدة ليست لفظَ روايةٍ ليستدل بإطلاقها، فتدبر.

ردّ الدليل الثاني: حديث الرفع لا يرفع الأحكام إلا بعد سبق ثبوتها

أما الدليل الثاني وهو إن مفاد حديث الرفع هو الرفع، ولا رفع إلا بعد الوضع دقةً وعرفاً(1)، والحديث يفيد فقط رفع العناوين التسعة المذكورة، وليس الهزل منها، فهو ليس بمرفوع، وبالتالي يكون حكمه باقياً.

مما حاصله: إن حديث الرفع يفيد أن الكذب إنما يتغير حكمه بطرو أحد العناوين التسعة فقط، فلا يتغير حكمه بالهزل ونظائره .فيرد عليه: عدم تمامية ذلك؛ وذلك لأن حديث الرفع لا يتكفل بيان أمرين:

أولاً: إنه لا يتكفل بنفسه بيان أحكام العناوين الأولية.

ثانياً: إنه لا يتكفل أيضاً بيان أحكام العناوين الثانوية(2) الأخرى غير التسعة المذكورة في الحديث؛ فإن هناك عناوين ثانوية أخرى تطرأ على أفعال الإنسان كالهزل، فإن الأصل في الإنسان أن يكون في مقام الجدّ، ويطرأ عليه الهزل كحالة ثانوية، وكذلك الغضب والضجر والكسل وغيرها، فتأمل.

وعلى أن لها أحكامها وهي غير العناوين التسعة التي يقال فيها بأن الأصل في الإنسان أن يكون حراً مختاراً كعنوان أولي ولكن قد تطرأ عليه حالة الاضطرار أو الإكراه أو الإلجاء وما أشبه أو أنه قد يكون في معرض تكليف ما لا يطيقه.. الخ.

وهذه العناوين الثانوية - غير التسعة - ليست بقليلة بل هي كثيرة، وحديث الرفع اختص بالتسعة المذكورة فقط وهو يرفع ما للموضوعات من أحكام قبل

ص: 168


1- والرفع في قبال الدفع وهو المنع من أصل حدوث الشيء.
2- أو الثانية، فتدبر.

طروّها، أما ما هي الأحكام قبل طروّ هذه التسعة؟ فإن حديث الرفع ساكت عنه، ثم ما هو حكم الكذب مزاحاً؟ حديث الرفع ساكت عنه، وغاية مفاده أن ما ثبت للكذب مزاحاً من الحكم وليكن الحرمة فرضاً فإنه مرفوع إذا اضطر إليه أو أكره عليه أو شبه ذلك، وأين هذا من دلالة حديث الرفع على حكم مثل الكذب مزاحاً؟

وبعبارة أخرى: إن حديث الرفع في غير التسعة هو حيادي وساكت عن أحكام عناوين الأحكام الأخرى في حد ذاتها - كالكذب المجرد -، أو بلحاظ طروٍ طارئ آخر غير التسعة - كالمزاح - في الكذب مزاحاً - عليها.

وبتعبير أدق: إن حديث الرفع إنما يرفع الحكم الثابت للشيء في مرحلة سابقة بعنوانه الأولي كالكذب، أو بعنوانه الثانوي كالكذب مزاحاً أو تورية، ولذا لابد أولاً من تنقيح موضوع الهزل وحكمه - كموضوع الكذب وحكمه - وإنه الحرمة فرضاً، ثم بعد ذلك يأتي حديث الرفع ليرفعه لو اضطر إليه أو أكره عليه أو شبه ذلك، وعليه فلا يمكن أن يتمسك بحديث الرفع لتنقيح حكم ما هو وارد عليه ورافع له.وفي المقام، السؤال هو: هل الكذب المأخوذ موضوعاً للحرمة في الروايات يشمل الكذب هزلاً أو لا؟

فلو قلنا: إنه مشمول لها فهو حرام، وهنا يأتي دور حديث الرفع فيفيد بأنّ الكذب هزلاً لو أكرهت عليه فليس بحرام، ولكنه لا يشخص حكم الموضوع ابتداءً وأنه هل شملته أدلة الكذب ليكون حراماً أو لا فلا يكون محرماً، حتى يرتب بعد ذلك الرفع ببركة طرو أحد العناوين التسعة، بل إن الاستدلال بحديث الرفع دوري(1)، فتدبر.

ص: 169


1- إذ رفع الحكم فرع ثبوته، فكيف يكون مثبتاً له؟

ردّ الدليل الثالث: بناء العقلاء على جعل الأحكام للموضوعات بما هي، خاص بالأحكام النوعية

وأما الدليل الثالث على أن موضوعات الأحكام هي عناوينها بما هي لا بلحاظ نسبتها إلى فاعلها أو غيره، استناداً إلى بناء الملل والنحل والعقلاء في كل قوم ومكان وزمان، حيث إنهم في القوانين يصبون الأحكام على الموضوعات بذاتها لا بقيد أمر كالقصد والالتفات، نظير قانون تنظيم البناء داخل المدن كتحديد طوابق البناء العمودي بأربعة طوابق فرضاً فإنه قانون عام، فلو بنى أحدهم خمسة طوابق بعلم أو بدونه، بالتفات أو قصد أو لا فإنه ملزم وفق هذا القانون بهدم بنائه أو بدفع غرامة على خرقه القانون أو شبه ذلك.

فإنه يرد عليه: بأن الأمم والنحل تفرق بين نوعين من الأحكام:

النوع الأول: الأحكام والقوانين التي ترتبط بالحكومة وبمصالح العامة - أي بعامة الشعب -، فتصب الأحكام فيها على موضوعاتها بما هي متجردةً عن دخالة القصد والالتفات في ثبوتها، فتُلزم بهذه الأحكام حتى الغالط والساهي والجاهل قصوراً، لكونها من الأحكام النوعية كالضرائب والمكوس والجمارك وهندسة المدن وغيرها.

النوع الثاني: الأحكام المرتبطة بالعلاقات الشخصية، فإنهم يأخذون القصد والالتفات فيها، إما مطلقاً أو في الجملة، وآية ذلك في المحاكم التي تبت في القضايا الشخصية، فإنهم(1) يعتبرون القصد ذا مدخلية إما كملاك لأصل الحكم أو كملاك لدرجته وشدته أو ضعفه، ومن ذلك الجنايات فإن أحدهم لو ضرب شخصاً آخر عالماًعامداً قاصداً، فالقصاص ثابت عليه عندهم، ولكنه لو لم

ص: 170


1- أي الحكام والقضاة.

يكن ملتفتاً قاصداً فإنهم لا يحكمون بالقصاص عليه، بل غاية الأمر يحكم عليه بغرامة ما، وهي أخف من القصاص قطعاً؛ وذلك لأنهم يرون للقصد مدخلية في ثبوت الأحكام في الشؤون والقضايا الشخصية.

وذلك كله هو الأصل في الصورتين، وقد يخرج العقلاء عنه لدليلٍ وجهة مرجحة.

والأمر كذلك في المعاملات فإن العقود تتبع القصود عند العقلاء أيضاً، فان أحرز أن الشخص لم يقصد العقد أو الإيقاع بأن كان ساهياً أو غالطا أو مخدّراً أو نائماً فإنهم لا يرتبون الأثر عليه.

وأما صغرى المقام: فإن الكذب من الشؤون الشخصية فلا يرون بالهزل فيه بأساً، أي إن موضوع حكمهم بالحرمة هو الكذب الجاد لا الكذب هزلاً، نعم قد يقال: بأنهم في الكذب النوعي يرونه بما هو هو موضوع الحرمة دون مدخلية لقصد الجد وشبهه، وذلك كالكذب على الله ورسوله أو على الشعب والنوع، فإن ذلك حرام عندهم وإن كان هزلاً، وهذا كله لدى العرف والمقنن العادي، وأما لدى الشرع وحسب الأدلة؛ فإنه إذا قيل ب: انصراف أدلة حرمة الكذب عن الهزل أو عدم حرمته للسيرة أو غيرها كما ذهب إليه الشيخ (رحمه الله)، فإنه لا انصراف للكذب وحرمته عن الكذب هزلاً على الله أو عامة الناس، فتأمل.

والمتحصل: إن بناء العقلاء على (عدم منوطية الأحكام بالالتفات والقصد) خاصٌّ بما يتعلق بدائرة القضايا النوعية، والكلام في المقام يدور حول الشخصي من الكذب لا النوعي.

الأمر السادس: الكذب هزلاً محرم لو استلزم الإغراء أو الإيذاء

اشارة

إن البحث عن حرمة الكذب الهزلي إنما هو بعنوانه الأولى، أما لو تضمن

ص: 171

الكذب هزلاً الإيذاء أو إستلزمه فهو حرام(1)، وكذلك لو استلزم الإغراء بالجهل مطلقاً أو في الجملة في خصوص ما لو أوجب الضرر وشبهه، كأن يقول تاجر لتاجر آخر عامداً: إن الأسعار لتلك البضاعة المعينة سوف ترتفع، عالماً بعكس ذلك! فيشتريالتاجر الثاني الكثير منها ثم تنخفض الأسعار بقوة بعد ذلك، فإن هذا يعدّ إغراءً له بالجهل، بل إنه حيث أضرَّ به ضَمِنه على قول ذهب إليه السيد الوالد (رحمه الله) صناعياً(2).

وعلى أي حال فإن هذا الكذب لو صاغه بصيغة هزلية أو مزاحية فإن حكمه ما ذكر،، لكن ذلك عنوان خارج عن صلب المسألة المبحوثة وجوهرها وان كان لابد من طرحه.

وبعد هذه المقدمات التمهيدية، نتطرق إلى الأقوال وأدلتها وما يمكن أن يناقش فيها فنقول:

القول الأول: تحريم الكذب الهزلي، وأدلته
اشارة

حرمة الكذب بقول مطلق، بما يشمل العناوين الأربعة ايضاً، ومستنده أدلة عدة:

الدليل الأول: قوله تعالى: «اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُوْرِ»

قوله تعالى: «اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3)، بدعوى: إن الكذب يعدّ عرفاً مصداقاً لقول الزور سواء أكان جداً أم هزلاً أم مزاحاً أم سخريةً أم لطيفةً، فلا

ص: 172


1- مطلقا أو في الجملة.
2- استناداً إلى أن (لا ضرر) ليست نافية للحكم الضرري فقط بل هي جاعلة للحكم، خلافاً للمشهور، وإلى شمول (المغرور يرجع على من غره) وتحقيقه في مظانه.
3- وهذا الدليل لم يطرح ونحن نذكره، فتأمل.

فرق بينها.

وبعبارة أخرى: يصدق بالحمل الشايع الصناعي على الكذب الهزلي وأخواته، أنها قول زور فكلها باطل وحرام، كمن يقول لجاهل: (أنت أرسطو هذا الزمان)، فإن هذا كذب، سواء أكان مزاحاً أم هزلاً أم استهزاءً(1) ويشمله (قول الزور)، اللهم إلا أن يدعى انصرافه عن اللطيفة والمزاح.وستظهر وجوه المناقشات في الاستدلال بالآية الشريفة، من بعض وجوه المناقشات الآتية على الاستدلال بالروايات.

الدليل الثاني: إطلاقات الروايات
اشارة

لم يستبعد الشيخ (رحمه الله) في مكاسبه(2) الحرمة المطلقة للهزل حتى الفاقد منه للقصد إلى تحقق مدلوله مادام غير مطابق للواقع؛ استناداً إلى إطلاق عدد من الروايات(3)، ودعوى شمولها للكذب الهزلي مطلقاً، واعتماداً على دلالتها المطلقة على حرمة الكذب بصورة مطلقة، وشمولها للكذب جداً كان أم هزلاً، قال: (ويحتمل غير بعيد حرمته لعموم ما تقدم خصوصا الخبرين الأخيرين)(4) انتهى. والظاهر أن هذا هو ما ارتضاه؛ نظراً لاستدلاله على الحرمة بالأخبار دون ردها، فتأمل.

نعم قد ذكر بعضهم المزاح أحياناً من غير تمييز بينهما، ولكن لابد في مقام

ص: 173


1- فإن الكلام قد يكون في مقام التنقيص والاستهزاء أو السخرية وقد يكون في مقام المزاح أو غيره، مما يكشف بالقرائن.
2- كتاب المكاسب: ج2 ص15 16.
3- كما توجد روايات أخرى مستندها غرر الحكم، ومع قطع النظر عن سندها فإن النهي فيها تنزيهي أو إرشادي ظاهراً.
4- كتاب المكاسب: ج2 ص16.

البحث من التمييز بين العناوين الأربعة، كما سبق.

الرواية الأولى: مرسلة سيف بن عميرة

عن سيف بن عميرة عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: كان يقول علي بن الحسين (علیه السلام) لولده: «اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ صِدِّيقاً وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ كَذَّاباً»(1)، وهذهالرواية ظاهرة في التحريم بقول مطلق؛ فإن الأمر يدل على وجوب الاجتناب، لكنها - كلواحقها - خاصة بعنوان الهزل.

الرواية الثانية: خبر الحارث الأعور

ما عن الحارث الأعور عن الإمام علي (علیه السلام) قال: «لَا يَصْلُحُ مِنَ الْكَذِبِ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ، إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى يُقَالَ كَذَبَ وَفَجَرَ، وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَوْضِعَ إِبْرَةٍ صِدْقٌ فَيُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً»(2). وهذه مطلقة أيضاً، لكن الكلام في مفاد (لا يصلح).

ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) روايتين آخريين هما:

الرواية الثالثة: رواية الخصال عن النبي (صلی الله علیه و آله)

ما في الخصال بسنده عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) قال: «أنا زعيم بيت في

ص: 174


1- الكافي ج2 ص338، وسائل الشيعة ج12 ص250.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص250.

أعلى الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في رياض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا»(1)(2).

والكلام في دلالتها - كسابقها ولاحقها - على الحرمة.

الرواية الرابعة: رواية علي (علیه السلام)

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده»(3).وسنذكر في ضمن المستثنى الثاني من مستثنيات الكذب وهو الكذب مزاحاً، مجموعة من الروايات الأخرى فلاحظ.

وقد استشكل عليها السيد الخوئي (رحمه الله) بأن سندها غير تام، كذلك دلالتها، فلابد من بحث كلا الجهتين كما سيأتي، إلا أننا نكتفي هنا إجمالاً بالإشارة إلى أن الشيخ يبني على حجية المراسيل درائياً ورجالياً، ولذا لا نجده غالباً يبحث في كتبه المختلفة عن الأسانيد كما هو واضح.

والحاصل: إن أية رواية موجودة في كتب الأصحاب إذا اعتمدوا عليها(4) فهي حجة عنده، بل لعل مسلكه أعم من اشتراط الاعتماد والاكتفاء بعدم الرد أو موافقة آرائهم للرواية، مما يستدعي تحقيقاً أكثر إلا أن المسلّم هو الحجية لديه مع اعتمادهم عليها.

ص: 175


1- الجدل المذموم هو الذي لا يقصد به إظهار الحق وإحقاقه وإبطال الباطل، وإنما مجرد إظهار الفضيلة الذاتية وإرضاء الأنانية.
2- التوحيد للصدوق: ص 461.
3- الكافي: ج4 ص44.
4- وقد فصلنا البحث عن ذلك في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة).

المناقشة في الاستدلال بالروايات ب: وجه عام ووجه خاص

أما المناقشة في الاستدلال بها فهي على وجهين:

وجه عام نتطرق فيها إلى إشكالات عامة تورد على الاستدلال بهذه الروايات مع قطع النظر عن كل واحدة واحدة منها، ووجه خاص نتطرق فيه إلى فقه الحديث عن كل رواية أوردها الشيخ (رحمه الله) بمفردها ودراستها ومدى دلالتها على المدعى.

الوجوه العامة الست للمناقشة في الإستدلال بالروايات

اشارة

أما الوجه العام فيتلخص في إشكالات ستة؛ في أربعة منها نذهب إلى دعوى خروج الكذب الهزلي عن الكذب موضوعاً من منطلقات أربعة ولو في بعض الصور، ونتطرق في الخامس والسادس إلى ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من دعوى انصراف الأدلة عن الكذب الهزلي ومن قيام السيرة على الكذب الهزلي والمزاحي مما يكشف عن جوازه.ولا يخفى الفرق ما بين الوجوه الأربعة الأولى والوجه الخامس والسادس من حيث الرتبة.

الوجه الأول: إنّ مصبّ التحريم هو الكذب لا الهزل، وليس كل هزل كذباً

إن التدبر في الروايات الشريفة يقودنا إلى أن محور التحريم ومصبّه هو الكذب هازلاً، لكنه ليس كل هزل كذباً؛ إذ النسبة بينهما عموم من وجه، كما أن الهزل قد لا يكون صدقاً ولا كذباً؛ إذ سبق أن العلاقة بين الكذب والصدق هي علاقة الضدين اللذين لهما ثالث؛ وذلك لأن الإنسان عندما يهزل؛ فتارة:

ص: 176

يكون هزله - وكذا السخرية والمزاح - صادقاً مطابقاً للواقع، وأخرى: يكون كاذباً، وتارة: ثالثة لا يكون هذا ولا ذاك، ومن القسم الثالث - الهزل الذي ليس بصدق ولا كذب -: الحركات أو الأصوات أو الأقوال الهزلية الصادرة ممن يقوم بحركات مضحكة، فإنها هزل ولكنها ليست بكذب، إذا لم يضمّن حركاته الحكاية بالمرة، نعم هذا الاستثناء استثناء منقطع؛ إذ الفرض أن هذا النوع من الهزل ليس بكذب ولا صدق، والمتعلق في الروايات هو الكذب الهزلي، فالإشكال في الحقيقة يعود على قولهم بدخول كل أنواع الهزل في الكذب.

كما أن من القسم الثالث: الهزل إذا كان إنشاءً.

الوجه الثاني: إنها أخص من المدعى، لا تشمل موردين تخصصاً
اشارة

إن ما ذكر من دلالة الروايات - حتى لو سلمنا تمامية سندها ودلالتها على الحرمة - أخص من المدعى، فإنها لا تشمل موردين على نحو التخصص:

المورد الاول: الكذب الهزلي الإنشائي، وهذا مبنى القول الثالث.

المورد الثاني: الكذب الهزلي إذا أقام المتكلم قرينة على أنه هازل، وهذا مبنى القول الرابع.

فإنه في الموردين قد ادعي أنهما خارجان عن الكذب موضوعاً فلا تشمله الأدلة.

المورد الاول: الكذب الهزلي الانشائي

وتوضيح ذلك: إن الهازل على نوعين:النوع الأول: أن يكون مخبراً عن الواقع بما لا يطابقه، بداعي الهزل، فإنه محرم كما يراه السيد الخوئي (رحمه الله)، وذلك لأن الداعي خارج عن حقيقة الخبر،

ص: 177

فإن الدواعي قد تختلف كالإخبار بداعي التهديد أو التحذير أو الهزل أو المزاح أو السخرية أو ما شابهها، لكن الخبر يبقى خبراً، فلو كذب المتكلم في الخبر بداعي الهزل فهو كاذب، والأدلة تشمله.

النوع الثاني: أن يكون منشئاً لبعض المعاني بداعي الهزل، فهنا لا يصح وصف الكلام بالكذب، حيث إن المتكلم لم يقصد الحكاية عن الواقع.

وبعبارة أخرى: لأن الإنشاء من مقولة الإيجاد، والإيجاد لا يحتمل الصدق والكذب(1)، وحيث لم يكن كذباً فلا تشمله أدلته فليس بمحرم، ومثاله أن يقول شخص لآخر: (أنت بطل)، ساخراً منه لجبنه، فإنه إنشاء وليس اخباراً.

المورد الثاني: عند نصب القرينة على كونه هازلاً

وتوضيحه أن الهازل - بل والممازح وغيره كذلك - على نوعين:

فتارة: يقيم القرينة على أنّه هازل، وأخرى: لا يقيم القرينة على ذلك.

فلو أقام القرينة على أنه هازل، فإنه ليس بكذب موضوعاً؛ وذلك لأن الصدق هو: مطابقة ظاهر الكلام بظهوره المستقر بنحو العلة المحدثة للواقع، والكذب بعكسه، والقرينة إذا كانت متصلة فإنها ستخل بالظهور الأولي للكلام، وسينعقد له ظهور ثانوي لا غير، والكلام بظهوره الثانوي صادق، وأما لو كانت القرينة منفصلة فإنها ستخل بالظهور الثانوي للكلام في بُعد الإرادة الجدية دون الاستعمالية، ومدار صدق الكذب والصدق عرفاً هو: الإرادة الجدية لا الاستعمالية.

وعليه: فإن من يقول لشخص: (هذا فيلسوف الزمان ونابغة الدهر) تنقيصاً منه واستهزاءً أو مزاحاً أو هزلاً، فحيث إنه قد أقام القرينة - المقامية أو

ص: 178


1- وكذا إبراز الاعتبار - على مسلكه -.

المقالية - فإن الظهور الأولي للكلام حيث لم ينعقد، أو انعقد لكنه لم تتعلق به الإرادة الجدية، فليس مداراً للصدق والكذب، وأما الظهور الثانوي لكلامه فلم يخالف الواقع، بل إنه يطابقه؛ إذمفاد الظهور الثانوي هو الإخبار عن عكس الظهور الأولي(1)، أي الإخبار - في الأمثلة في المتن - عن أنه جاهل، أو الإخبار عن أن المائدة متواضعة - كما في المثال الآتي -، فإن طابق فصدق وإلا فكذب فتدبر، وعلى أي فمادة الافتراق هي الظهور الأولي؛ إذ لم يقصده بالإرادة الجدية فهو هزل وليس بكذب، وأما الظهور الثانوي فإن هذا الكذب الهزلي ليس كذباً إلا مجازاً فلا تشمله الإطلاقات.

وفي مثال آخر: لو دعا شخصاً إلى مأدبة، ولما حضر ولم يجد فيها - لظرفٍ ما - إلا خبزاً وملحاً، قال له المضيف: (تفضل إلى هذه المائدة العامرة بأنواع المأكولات)، كنوع من الملاطفة والمزاح، فإنه لا يعد هذا في العرف كذباً؛ لكونه قد أقام القرينة المقامية أو الحالية على تجريد اللفظ عن مدلوله الحقيقي، فهذا الخبر وإن كان بما هو هو مخالفاً للواقع، لكنه ليس بكذب، بل إنه بمدلوله الثانوي المستقر يعني: (تفضل إلى هذه المائدة المتواضعة).

والسر في ذلك: إن الخبر هو القول المطابق أو اللامطابق للواقع، ولكن مع مكتنفاته، فإن الخبر والقول يلاحظ مع قرائنه ومحتفّاته فيقال: (هذا صادق وذاك كاذب) بلحاظ المجموع، لا أنه يلاحظ بدون القرينة، فلو لوحظ معها فليس بكاذب(2).

وبتعبير آخر: عندما نقول (الكذب الهزلي) فقد اجتمع - بدواً - هذان الوصفان، لكنه في صورة إقامته القرينة على أنه هزل، فإن إطلاق الكذب عليه

ص: 179


1- سيأتي بيان هذا بوجه أكثر تفصيلاً بإذن الله تعالى.
2- وقد يعلل ذلك بأنه إنشاء للهزل أو المزاح وليس إخباراً عن مضمونه بالمرة. وسيأتي تحقيقه.

لا يعدو كونه مجازاً فهو هزل وليس بكذب، وإنما أطلق عليه ذلك بلحاظ الظهور الأولي المعرَض عنه، وحيث أقيمت القرينة على خلافه ثبت الظهور الثانوي وهو المعنى المعاكس الذي دل عليه كونه هزلاً، فلا كذب.

والحاصل: إن الكذب هزلاً مع إقامة القرينة خارج موضوعاً عن الكذب، نعم مع عدم إقامة القرينة، فيبقى داخلاً في موضوع الكذب، إلا إذا التزمنا بالوجه الآتي الثالث، فلا يكون أيضاً مع العدم كذباً.ثم لا يخفى أن هذا الجواب يصلح جواباً عن الاستدلال بالآيات أيضاً، ومنها: الاستدلال ب(اجتنبوا قول الزور)، فإن ما أقام القرينة عليه ليس قول زور إذا تجرد عن التنقيص ونحوه.

الوجه الثالث: مدخلية القصد في صدق الكذب، ولا قصد في الهزل

في الجواب عن الإطلاق المدعى في الروايات هو: إن الكذب مرتهن بالقصد(1)، فإذا لم يقصد المتكلم مدلول الكلام ومضمونه، فلا يكون الكلام كذباً حينئذٍ، وإن لم يقم على ذلك قرينة، ونتيجة هذا الوجه - كما مضى - أعم من الوجه الثاني، ففي الأول قد اقتصر في الحكم بجواز الكذب هزلاً على ما لو أقيمت القرينة على ذلك تخصيصاً أو تخصصاً، وأما على هذا الوجه فلا بل يكفي عدم القصد سواءً أقام قرينة أم لا(2)؟

مقاييس الصدق والكذب

ولكن لا بد لتحقيق ذلك من تشخيص مقياس الصدق والكذب، فإن

ص: 180


1- وهذا مقياس جديد يحتاج لبحث أكثر، فإنه بحسب التتبع الناقص لم أجد من علماء البلاغة والأصول من ناقشه أو أثبته، نعم لازم كلامهم ينفيه، فتأمل.
2- سيأتي بعد بحث مطول، التفصيل بين عالم الثبوت وعالم الإثبات، فلاحظ.

هناك أربعة مقاييس محتملة أو مقولة:

الأول: مطابقة القول للواقع، وقد سبق أن ذلك يتصور بنحوين: من المطابقة للظهور الأولي أو الثانوي.

الثاني: مطابقة المعتقد للواقع فلو طابق المعتقد مع الواقع فصدق وإلا فكذب، وقد استشهدوا بذلك بقوله تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»(1) والجواب مذكور في محله.

الثالث: مطابقة القول والمعتقد للواقع معاً، فلو تخلف أحدهما عنه فليس بصدق.هذه أقوال ومقاييس ثلاثة وهي المعروفة بين القوم، ولكن يمكن أن نطرح مقياساً رابعاً وهو:

الرابع: مطابقة القصد للواقع(2)، لا الاعتقاد، بدعوى: أن الصدق والكذب مرتهنان به.

توضيحه: إنّ النسبة بين القصد والاعتقاد عموم من وجه؛ إذ قد يكون اعتقاد ولا قصد، وقد يكون العكس، وقد يجتمعان في مورد، ويظهر الانفكاك بوضوح في (الإقرار)، فقد يكون قاصداً لما أقر به غير معتقد بصحته، وقد يكون العكس، وعليه يتفرع بحث آخر هام في باب الإقرار وهو: إنه لو أقر بشيء قاصداً له من غير اعتقاد له به، فهل يلزم بإقراره؟ كما لو أقر شخص بأنه مدين لآخر وكان قاصداً لذلك ولكن القاضي يعلم أن المقر شاك أو غير معتقد بذلك، فهل الملاك في نفوذ الإقرار الاعتقاد أو القصد؟ قد يقال: إن المعيار والملاك هو

ص: 181


1- سورة المنافقون: 1.
2- مع مطابقة القول للواقع أو دونه.

القصد لا الاعتقاد في صورة الشك في الأخير والعلم بالأول، نعم لو علم بعدم اعتقاده صدقَ مقالته وإقراره، فإنه يندرج في بحث علم القاضي، وإنه هل له أن يعمل به، أو عليه أن يعمل بظواهر الحجج من بينة وإقرار وغيرهما.

وأما عكس ذلك؛ فكما لو كان الشخص معتقداً غير قاصد، كما لو كان معتقداً انه مدين بدين، ولكن اقر نائماً أو ساهياً أو غالطاً بأن أحرز أنه أراد قول أمر آخر فغلط وقال ما قال، فإنه مع هذا هل يُلزم بارتكازه المبرَز بلفظ لم يقصده؟

وحيث لا قصد فلا حكاية فلا كذب

وعليه: فقد يقال: إن القصد في الصدق والكذب هو المعيار، ولنا على ذلك شواهد:

منها: ما مضى في شأن المعلم في مقام التعليم، كما لو قال: (زيد قائم جملة اسمية) فلا يصح أن نقول: إنه يكذب؛ لأن زيداً ليس بقائم؛ وذلك أن المعلم لم يقصد الحكاية واراءة الواقع وإن كان اللفظ بما هو هو مرآة للواقع، وقد سبق: التفريق بين الكذب الخبري والكذب المخبري، فبذلك يظهر أن القصد ذو مدخلية في صدق عنوان الكذب أو الصدق.ومنها: الغالط، كما لو أراد شخص أن يقول: (ذهب علي إلى المدرسة) فقال غلطاً: ذهب زيد إلى المدرسة، فهل يمكن أن نرميه بالكذب؟ أو نقول بأنه قد غلط في كلامه؟ وقد فصلنا الكلام عن ذلك فيما مضى وميزنا بين الكذب في (الخبر) و(الإخبار) فراجع(1)، كما سيأتي بحث ذلك مفصلاً فانتظر.

وكذلك الهازل فإنه لا يقصد الحكاية عن الواقع فلا يصح وصف

ص: 182


1- حيث استنتجنا هنالك ان الخبر قد يكون كذبا ولكن الإخبار لا يكون كذلك.

كلامه بالكذب.

تعارض ظهور القصد مع ظهور اللفظ

هذا كله في مقام الثبوت وإنه كذب ثبوتاً أم لا، وأما في مقام الإثبات فقد يقال: بتعارض ظهور القصد مع ظهور اللفظ؛ إذ قد فصلنا في بعض المباحث: النسبة بين الفعل من جهة، وبين النية والقصد من جهة أخرى، وقلنا: بأن النية قد تعطي وجهاً للفعل وبالعكس، وإن ظهور الفعل تارة يكون أقوى من ظهور القصد، وتارة أخرى يكون العكس(1).

ويجري ههنا نظير ذلك البحث، ولكن ليس بين ظهوري الفعل والنية، وإنما بين ظهوري القصد واللفظ، حيث تارة: يغلب ظهور اللفظ على ظهور القصد، وذلك كما لو أراد شخص إيقاظ آخر لصلاة الصبح فليس له أن يوقظه بالسباب متذرعاً بأن قصده هو الإيقاظ ولم يقصد مدلول اللفظ والسباب، حتى وإن أقام قرينة على قصده؛وذلك لأن ظهور اللفظ (السباب) أقوى من ظهور القصد (عدم التنقيص والسباب)، فإن الشخص حتى لو جرد السب عن معناه فذاك حرام شرعاً وليس بجائز، كما أنه يعد سباباً عرفاً.

وتارة أخرى: يكون العكس؛ إذ قد يكون ظهور القصد أقوى من ظهور اللفظ، كما هو الحال في الغيبة في نصح المستشير، فإن اللفظ ظاهر في الغيبة - إذ

ص: 183


1- ومثلنا بعدة أمثلة على تعارض الظهورين، منها: الانحناء أمام السلطان الجائر، فإنه لو انحنى لا بقصد ذلك وإنما بقصد السجود لله تعالى مثلاً فإن عمله حرام، لأن ظهور الفعل أقوى من ظهور القصد، وكذا لو انحنى أمام الصنم أمام الناس فإنه وإن كان بقصد التعرف على تضاريسه، إلا أنه حرام لاقوائية ظهور الفعل من القصد. وأما عكسه فكما في قوله تعالى: «...إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ...» فإن القصد هنا ظهوره أقوى من الفعل ولذا جاز ذلك، فتأمل.

هي ذكركَ أخاك بما يكرهه على إحدى المباني - وهو محرم، ولكن القصد مادام هو النصح فهو راجح وجائز، وغير خفي أن مثل هذا مندرج في باب التزاحم، عكس سابقه المندرج في باب التعارض، فتدبر.

وكذلك فيمن يقوم بإجراءات عقد الصلح مع عدوه لكن بقصد الخداع، وكي يجد منهم غِرة، فإن النية والقصد ههنا تغلب ظهور اللفظ، ولذا لا يرونه عاقد صلح ولا طالباً له.

صغرى المقام

وفي مورد بحثنا نقول: إن واقع القصد يغلب واقع مدلول اللفظ، فحيث إن الكلام صدر في مقام الهزل وكان بهذا القصد لم يكن المراد منه الحكاية، وعندئذٍ لا ينطبق عليه عنوان الكذب ثبوتاً، وإن لم يقم قرينة عليه.

هذا في عالم الثبوت، وأما في عالم الإثبات فإن ظهور القصد(1) يغلب ظهور اللفظ في الكذب الهزلي، فتأمل.

ثم قد مضى: إن هذا الوجه يختلف عن الوجه السابق فهو أعم، حيث كان المدار هناك - في الخروج الموضوعي عن الكذب - على قيام القرينة، وأما ههنا فيقال: حتى لو لم يقم المتكلم قرينة فحيث لا قصد لا كذب، أي حيث لم يقصد الحكاية فليس بكاذب.

لا يقال: إن القرينة المقامية موجودة، فيعود هذا الوجه إلى الوجه السابق.

وبتعبير آخر: إن القصد لابد له من مبرز وهو القرينة سواء أ كانت لفظية أم مقامية، فإذا لم تكن قرينة فلا طريق لنا إليه؟

ص: 184


1- أي لو أطّلع عليه وعلمنا به، وفرض الكلام في علمنا به من غير إقامته قرينة عليه، وإلا لعاد للوجه السابق.

إذ يقال: إن الكلام تارة هو في عالم الثبوت، وأخرى: في الإثبات، وكلامنا في هذا الوجه هو في عالم الثبوت أولاً، وهو كون عمل الشخص في نفسه حراماً أولاً أو لا، بغض النظر عن عالم الإثبات وتشخيص الآخرين له خارجاً، والقرينة هي من عالم الإثبات، وأما القصد فهو من عالم الثبوت، وعليه مدار الصدق والكذب على ما بيناه، ثم يمكن طرحه في عالم الإثبات ثانياً، كما سبق.

مناقشة الوجه الثالث صغروياً: وجود وتحقق القصد لدى الهازل

وقد يناقش في هذا الوجه صغرى وكبرى، أما صغروياً: فإن القصد موجود، حيث إن الظاهر وجود قصدين متعارضين: قصد ظاهري وقصد واقعي، فقصد الحكاية متحقق، وبهذا يختلف عن الكذب الجاد، إذ فيه يقصد المتكلم الحكاية الواقعية، ويعمل على إقحامها في ذهن الطرف الآخر، وأما في الكاذب الهازل فإنه يقصد الحكاية الظاهرية بحسب ظاهر كلامه، وفي الوقت نفسه يقصد نفي ذلك بحسب استهزائه بالطرف الآخر.

إذن: فمحصل ما ذكر هنا أن القصد موجود فلم ينتف مقوّم الحكاية، حتى على فرض قبول مقوميته.

مناقشة الوجه الثالث كبروياً: عدم اشتراط القصد في كذب الحكاية

مناقشة الوجه الثالث كبروياً: عدم اشتراط القصد في كذب الحكاية(1)

وأما الإشكال كبروياً: لو سلمنا أنّ القصد غير متحقق، ولكن نقول: إنه ليس وجود القصد بمشترط في صدق الكذب بالجملة، وإن قيل: بأنه يشترط في الجملة، ببيان أن القصد مشترط في صدق كذب الحاكي، غير مشترط في صدق

ص: 185


1- بل في (كذب الحاكي) فقط.

كذب الحكاية، على ما مضى بيان القسمين، فليراجع.

وموجز القول: يرد على الوجه الثالث صغريً: بأنّ قصد الحكاية في كلام الكاذب الهازل موجود، وكبرى: إن القصد - إن كان دخيلاً - فهو دخيل في كذب الحاكي لا في كذب الحكاية، فما قطع فيه النظر عن الحاكي بالجملة ومطلقاً فانه لا مدخلية للقصد عندئذٍ فيه، أي: في هذا الصنف من الكذب، أي كذب الحكاية.

ويظهر من ذلك كله: حال دعوى الإنشاء في مثل (أنت بطل)، وإنها لو صحت لصحّت بلحاظ الفاعل - أي المنشئ - لا بلحاظ الفعل - أي المنشأ وهو هذه الجملة نفسها بما هي هي -، فتدبر.

الوجه الرابع: المدار في صدق الكذب على الكذب الهزلي هو العرف

للجواب عن دعوى حرمة الكذب هزلا استناداً إلى الروايات فهو: أن يقال: إنه بحسب مقتضى ما سبق يظهر أن للكذب إطلاقين ومعنيين: المعنى العلمي أو المنطقي، والمعنى المتشرعي أو العرفي.

وعليه: فلا بد من تحقيق أن الشرع عند أخذه الكذب موضوعاً لحكمه، هل أراد الكذب العلمي والمنطقي حسب الدقة التي أعملت فيها أو الشرعي والعرفي؟

فنقول: إنا وإن فرضنا تمامية بعض ما ذكر من التحقيقات والتشقيقات السابقة إلا أنّ ذلك ليس بعرفي، والمدار في صدق الكذب على الهزلي منه وعدمه هو العرف لا التدقيقات العقلية، إذ بعض ما ذكر من الأمور هي أمور دقية يحتاج أهل الخبرة من الفضلاء فيها فضلاً عن غيرهم إلى تجشم عناء وفكر لتصوره على

ص: 186

حقيقته، ثم للتصديق به أو رفضه، ومعاني ألفاظ الشرع(1) إنما أوكلت إلى العرف، فإنه حيث كان هو الملقى إليه الكلام فإن الموضوعات تؤخذ منه، ولا حقيقة شرعية للكذب كما لا يخفى، فيكون الملاك هو الصدق العرفي، هذا من ناحية الكبرى.

وأما الصغرى: فإن الكذب هزلاً لا يسمى كذباً عند العرف؛ فإن أحدهم لو استهزأ بالآخر قائلاً له: (أنت بطل ضرغام)، فلا يعده العرف كذباً، وإن كان كذباً دقة حسب ما مضى من التحقيق والتدقيق في ذلك، نعم لا بد من القرينة على ذلك، وإلا عدّ كذباً عرفاً. ولا يعود هذا الوجه إلى الوجوه السابقة، إذ المنطلق فيها كانت الدقة العقلية، وههنا المدار على العرف، نعم يمكن عضد أحدهما بالآخر، فتأمل.

تأكيد الإشكال بأنّ المدار على الظهور الثانوي والمراد الجدي

ومما يؤكد ذلك: إنه وإن صحّ بالدقة أن هناك حكايتين وظهورين، إلا أن الظهور الأولي يعد معرضاً عنه عرفاً حتى كأنه غير موجود، فلا يكون هو مصبّ الوصف بالصدق والكذب، بل إن المحط والمصب عرفاً هو الظهور المستقر، والكاذب هزلاً صادق(2) فيه، فليس بحرام هزله وإن كان ظاهره غير مطابق(3)، فلو قال شخص: (رأيت أسداً يرمي)، فالظهور الأولي وإن كان للحيوان المفترس لكنه حيث لم يكن ظهوراً مستقراً فكان كالعدم لا يبنى عليه شيء ولا

ص: 187


1- أي التي أخذت موضوعاً لأحكامه، بل معاني الألفاظ مطلقاً، فإنها تؤخذ من العرف إلا ما ثبت تصرف الشارع فيه.
2- أي لو فرض كذلك وإن الطرف لم يكن بطلاً.
3- إذ الفرض أنه قال له أنت بطل ضرغام.

يوصف بشيء، وأما الظهور الثانوي في الرجل الشجاع، فحيث كان هو المستقر كان عليه المدار في الوصف بالصدق والكذب، بل وسائر الأحكام.

والحاصل: إنه ببركة القرينة المتصلة لم ينعقد الظهور الأولي، وأما في القرينة المنفصلة؛ فإنه وإن انعقد إلا أنه قد أعرض عنه.

وبتعبير أدق: لم تتعلق به الإرادة الجدية، ومحط الصدق والكذب هو الإرادة الجدية لا الإرادة الاستعمالية.

مناقشات ثلاث للوجه الرابع

اشارة

مناقشات ثلاث للوجه الرابع(1)

المناقشة الأولى: الملاك هو الظهور الأقوى لا الظهور الثاني دوماً
اشارة

قد يقال: إنه قد يكون الظهور الأول أقوى من الظهور الثاني(2)، ويكون هو محط اهتمام المتكلم أولاً، ومحط الاهتمام في متلقَّى السامع ثانياً، فإنه تختلف القرينة قوة وضعفاً في الصرف عن الظهور الأولي وعدمه أو الإجمال، وقد يكون الأمر بالعكس.وبعبارة أخرى: إن الظهور الأول والثاني قد يكونان متعارضين أو متخالفين، وحينئذٍ فقد يكون الظهور الأول للفظ الإنشائي هو محط الاهتمام فلا يصح وصفه بالصدق والكذب، وقد يكون الظهور الثاني له هو موطن الاهتمام فبلحاظه يوصف الكلام بالصدق والكذب حقيقة لا مجازاً.

ص: 188


1- بعض هذه المناقشات تعد مناقشات أيضاً لبعض ما ذكر في الوجوه السابقة على ذلك، مثل مبحث (القرينة)، فلاحظ.
2- عدلنا عن التعبير بالظهور الأولي والثانوي إلى الأول والثاني لنكتة دقيقة، إذ الظهور الأول قد يكون هو الأولي وقد يكون هو الثانوي وقد يكون الظهور الأول أقوى من الثاني، ولو قلنا أولي لأفاد كونه مندكاً ومعرضاً عنه، فتدبر.

وعليه: فلابد من التفصيل، لا المصير إلى إطلاق القول ب: أن الظهور الأول ملحق بالعدم فيثبت الظهور الثاني، ويكون عليه مدار الصدق والكذب عرفاً أو دقةً.

مثالان للظهور الأقوى من الظهورين الأول والثاني

ونذكر مثالين كشاهدين دالين على المطلب من أن الملاك هو الظهور الأقوى، فقد يكون الظهور الأول وقد يكون الظهور الثاني وقد يختلف، ففي الشاهد الأول - وهو الآية المباركة الشريفة الآتية - الظهور الثاني هو الأقوى من الأول، والذي بموجبه حكم فيه بالكذب.

وأما المثال الثاني فيختلف الأمر فيه من حيث اقوائية الظهور الأول أو الثاني حسب مصب اهتمام المتكلم، فقد يكون الظهور الأول أقوى لكونه مصب اهتمامه، وقد يكون الثاني.

المثال الأول: تحليل وصفه تعالى للمنافقين ب: «لَكَاذِبُونَ»

يتضح ذلك جلياً ببيان مثال مهم وافٍ بالمطلب وهو قوله تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»(1)، فهنا موطن التخالف(2) بين ظهورين، الظهور الأول في الإنشاء، الظهور الثاني في الإخبار.أما الظهور الأول: فهو ظهور لفظ الشهادة في الإنشاء، فإنها من عالم الإنشاء؛ ولذا فلا مجال لأن يقال لهم - أي للمنافقين -: (أنتم كاذبون)(3)، هذا

ص: 189


1- سورة المنافقون: 1.
2- عبّرنا بالتخالف لا التعارض لنكتة دقيقة فتدبر
3- فمن يقول أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه ينشئ المعنى أي الشهادة الآن.

من جهة، ومن جهة أخرى: فإن الشهادة اللفظية هي مدار الأحكام الشرعية، فالمهم أن يشهد الشخص بلسانه الشهادتين، حتى يدخل في دائرة الإسلام فتترتب عليه الأحكام الظاهرية من الطهارة وجواز المناكحة وإرثه من والده وما شابه.

وأما الظهور الثاني: فهو إخبارهم(1) عن مطابقة قولهم وشهادتهم لمعتقدهم، فإن المنافق يريد أن يخدع الآخرين ويكسب ودهم بذلك، وهذا أحد وجوه تفسير الآية الكريمة.

وبهذا اللحاظ والإخبار وصفهم الله تعالى بالكذب في قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»، فإن ذلك إنما هو بلحاظ هذا الظهور الثاني(2)، فوجه وصفه تعالى لهم بالكاذبين هو وجود الظهور الثاني لكلامهم(3)، أي إن الله تعالى يشهد إنهم لكاذبون حقيقة، أي في دعواهم المستبطنة في كلامهم، إذ إنهم مخبرون بالشهادة عن دخائل أنفسهم.والحاصل: إنه حيث كان الظهور الثاني في الآية المباركة هو محط اهتمام الله تعالى ومحط اهتمام الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فإن الشهادة وإن كانت مهمة وكانت هي المنطوق وهي الظهور الأول، لكن الأهم حيث كان هو الظهور الثاني، لذا صب الصدق والكذب عليه، فوصفهم تعالى بالكذب، فلا يَرِد: أن الإنشاء لا يوصف به.

ص: 190


1- الضمني أو بملزوم كلامهم.
2- بعض علماء البلاغة ذهب إلى أن المقياس في الصدق والكذب هو مطابقة الاعتقاد للواقع وعدمه استناداً لهذه الآية الكريمة، لكنه ليس بصحيح بل المقياس عدم مطابقة قولهم للواقع والواقع هنا هو اعتقادهم أي معتقدهم إذ لم يطابق قول المنافقين واقع اعتقادهم فنعتهم الله بأنهم كاذبون، لذلك فإن الواقع أعم من الخارج ومما هو صقع النفس - وكل بحسب ما أريد الإخبار عنه -.
3- وهناك وجهان آخران، فليراجع التفاسير.
المثال الثاني: قول القائل (ليتك كنت متقياً)

المثال الثاني: فهو لو أن شخصاً قال للقيّم على أموال اليتامى: (ليتك كنت متقياً في أموال اليتامى)(1)، فقد يقال بأنه تمنٍّ والتمني إنشاء لا يقبل الوصف بالصدق والكذب.

ولكن الصحيح هو التفصيل؛ إذ هنا حالتان:

الحالة الأولى: بأن يكون المتكلم في مقام التمني حقاً، لكنّه يتضمن إخباراً خفياً(2) بأنه ليس متقياً، وفي هذه الحالة لا يوصف بالصدق والكذب عرفاً؛ وذلك لأن مصب كلام المتكلم ومحط اهتمامه هو إبراز التمني - على رأي - أو إنشاؤه - على المشهور المنصور -، وإن كان يكشف عن ملزوم هو أنه ليس بتقيّ، ولكن ذلك ليس هو المصب والمدار المهم لدى المتكلم، فلا يوصف بالكذب إذاً.

الحالة الثانية: عكس الحالة الأولى بأن يكون الظهور الثاني أقوى من الظهور الأول؛ وذلك إذا لم يكن المتكلم بالأساس وفي همّه الأكبر في مقام التمني، بل كان واقعه أنه يريد أن يطعن بالطرف الآخر، وكان المصب النهائيوالمآل هو الإخبار أولاً وبالذات، وإن اقترن عرضاً أو صيغ عرضاً بصيغة التمني والإنشاء، وهنا يمكن أن يوصف الكلام بالصدق أو الكذب.

والخلاصة: التفصيل هو بحسب المصب والظهور الأقوى تبعاً للقرينة

ص: 191


1- مستهزئاً به، ليكون صغرى الكذب استهزاء، أو مطلقاً، وكذا لو قال له: (أنت المتقي حقاً) مستهزءً به أو هازلاً.
2- أو هامشي.

الأقوى(1)، وفي الآية الشريفة: يغلب ظهورُ حالهم في أنهم مخبرون ظهورَ شهادتهم في أنهم منشئون، وعلى أي فقوله تعالى: (لكاذبون) نص في كونهم مخبرين غير منشئين، وإنما شهادتهم مجرد لقلقة لسان من غير قصد للإنشاء.

ولا يخفى أن الملاك هو القرينة الأقوى، أما لو وجدت قرينة واحدة فقط فإنها تتقدم على ذيها؛ إما بالحكومة أو بالأظهرية على الخلاف، لكن هذا فيما لو ثبتت قرينيتها، وإلا فالملاك الأظهر منهما، وقد فصلنا ذلك ونظائره والمناقشات في كتاب (المعاريض والتورية).

المناقشة الثانية: قرينة المقابلة بين الكذب هزلاً وجداً تقتضي الحرمة

إن قرينة المقابلة في الرواية بين الكذب الجاد والكذب الهازل، ووصف الكذب بالهزل، يقتضي تحريم الكذب هزلاً أيضاً، فإنه حتى لو سلمنا أن الكذب هزلاً ليس بكذب عرفاً، ولكن مع ذلك يمكن القول بأنه محرم؛ إذ الموضوع في الرواية لو كان (اتقوا الكذب) فقط لكان القول ب: (ان الكذب هزلاً ليس بكذب عرفاً فهو خارج عن الرواية) متيناً، ولكن الرواية تقول: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جدّ وهزل.

ففي قول الإمام (علیه السلام) الكذب في الهزل يحدث التعارض بين ظهورين:

ظهور الكذب في: كونه جاداً وكونه قسيماً للهزل، وظهور الكذب في الهزل في أن الهزل كذب شرعاً أو مسامحةً مبنياً عليها الحكم أو حتى حكماً فقط وقد حرمه الشارع، وهذا التعارض بلحاظ أن الإمام أطلق الكذب على هذا،

ص: 192


1- فان المدار في البحث الماضي على إن الإعراض هو المقياس، اما هنا فالجواب هو أن المدار على قوة القرينة وكون ظهورها الأقوى في أي مصب، ومن القرائن ظهور الحال.

وإن كان مسامحة فهو محرم إذاً، فتأمل.ويتضح ذلك: بملاحظة نظائره، فلو قال المولى: (اتق السرقة مزاحاً)، فلو مزح أحدهم مع صديقه فأخذ شيئاً منه بقصد إرجاعه، فهذه ليست بسرقة عرفاً، ولكن حيث نهى المولى بقوله (اتقِ السرقة مزاحاً) فإنه يجب تركه.

وفيه تأمل؛ فإن الرواية هي (اتقوا الكذب في كل جد وهزل) وليس (اتقوا الكذب الهزلي)، والفرق بينهما كبير؛ لحدوث التعارض في الثاني بين الظهورين دون الأول فهو ك (اتقوا السرقة في المزاح) لا ك (اتقوا السرقة المزاحية)، على أنه لا تعارض حتى في الثاني؛ إذ الوصف لا يعارض ظهوره ظهور الموضوع بل إنه بعد الفراغ عنه، فتأمل.

المناقشة الثالثة: اختلاف كذب الحاكي عن كذب الحكاية عرفاً

المناقشة الثالثة: اختلاف كذب الحاكي عن كذب الحكاية عرفاً(1)

تتضح مما سبق من أن هنالك نوعين من الكذب؛ الأول: كذب اللافظ، والثاني: كذب اللفظ، وبتعبير آخر: كذب الحكاية، وكذب الحاكي، وبناءً على ذلك نقول:

عندما يقول أحدهم لآخر: (أنت بطل) مستهزئاً به، فإن الإشكال الخامس كان هو أنه ليس بكذب عرفاً، ولكن التحقيق - وكما سبق أيضاً - هو التفصيل: بأن الكذب يصدق بلحاظ أحد أصنافه وأقسامه دون الصنف الآخر، إذ يمكن أن ينفى عرفاً كذب الحاكي؛ إذ الحاكي ليس في مقام الحكاية الواقعية ولا إرادة جدية له في قوله: (أنت بطل)، على أنه بطل، فلا كذب للافظ والحاكي، ولكن كذب اللفظ متحقق إذا لوحظ اللفظ بما هو هو.

ص: 193


1- وهذا الجواب دقيق ويحتاج إلى تدبّر، وهو سيال جداً ويفتح بحثاً مبنائياً واسعاً.

الوجه الخامس: انصراف أدلة الحرمة عن الكذب الهزلي

ما ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من الانصراف(1)، وظاهر كلامه هو: إن الكذب هزلاً - ونضيف: أو مزاحاً أو سخرية - كذب إلا أن أدلة الحرمة والمنع منصرفة عنه(2) إذا أقام قرينة على ذلك، ولكنه لم يذكر وجه الانصراف وسنذكر وجوهاً له بإذن الله تعالى.ولكن الأحرى والأفضل من الناحية الفنية أن يجعل الانصراف وجهاً لاحقاً(3)، وذلك للتقدم الرتبي لدعوى الخروج الموضوعي؛ فإن دعوى الانصراف تستبطن الإذعان بصدق الكذب على الكذب هزلاً، وكونه موضوعاً منه مع دعوى أن أدلة الحرمة منصرفة عنه, وأما الوجه الذي ينبغي أن يسبقه فهو القول بالخروج الموضوعي للكذب الهزلي عن الكذب؛ إما لأنه إنشاء فهو ليس كذباً بل يطلق عليه ذلك من باب التجوز، وإما لأنه فاقد للقصد إلى مضمونه، وإما لأن العرف لا يراه كذباً، وإما أنه مع القرينة فهو ليس بكذب، فهي وجوه أربعة تكفلت إثبات أن الكذب الهزلي خارج عن الكذب موضوعاً في بعض صوره(4).

وذلك لأن المناقشة بالخروج موضوعاً، مقدمة على المناقشة في رتبة المحمول بدعوى عدم شمول الدليل لهذا الموضوع للانصراف وشبهه.

كلام الشيخ (رحمه الله) في دعوى الانصراف

قال الشيخ (رحمه الله): (وأما نفس الهزل وهو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقق

ص: 194


1- كتاب المكاسب: ج2 ص16.
2- والظاهر أن الانصراف تام ظاهراً، ولكن على تفصيل سيأتي.
3- ليكون هو الخامس.
4- كالكذب هزلاً أو إذا كان للتمثيل في مقام التعليم.

مدلوله فلا يبعد كونه غير محرم مع نصب القرينة على إرادة الهزل، كما صرح به بعضهم، ولعله لإنصراف الكذب إلى الخبر المقصود وللسيرة)(1)، لكنه بعد ذلك قال: (ويحتمل غير بعيد حرمته)، فإنه بذلك ينفي عدم صدق الموضوعي للكذب على الهزل، كما ينفي انصراف أدلة الحرمة عنه أيضاً، ولعل هذا هو نظره.

هل يلزم تقييد كلام الشيخ (رحمه الله): الفاقد للقصد، ب (الجدي)؟

وقد يقال: بضرورة أن يقيد القصد في عبارته: (...الفاقد للقصد)، ب: (الجدي) بأن يقال: (وهو الكلام الفاقد للقصد الجدي إلى تحقق مدلوله)؛ لوضوح أن الكاذب الهازل قاصد ولكن من غير أن يكون جاداً، لا أنه فاقد للقصد بالمرة، ويوضحه: أن الغالط بالمرة لا قصد له وهو غير الهازل.

ويؤكد ذلك: قوله بعدها: (فلا يبعد أنه غير محرم مع نصب القرينة)، فإن نصب القرينة شأن القاصد الملتفت أو هو ظاهر فيه، فتأمل.

ولعل مراد الشيخ (رحمه الله) من (الفاقد للقصد): الفاقد للقصد الجدي، وقد ترك ذكره اعتماداً على وضوح إرادته.

إمكان تصوير الكذب هزلاً مع انتفاء القصد بالمرة

ومع ذلك يمكن لنا تصوير الكاذب الهازل بحيث يكون فاقداً للقصد بالمرة بأن يكون غافلاً عن جهة الحكاية والحاكوية تماماً، وذلك كما في الممثِّل الذي يقلد كلام غيره، فإنه قد يكون غير ملتفت لمحتوى ما يتلفظ به بالمرة، وخاصة إذا كان يقلد كلام غيره بلغة أخرى قد حفظها وقلدها، فإنه لو كان في مقام الهزل أو المزاح أو السخرية لأمكن أن يقال فيه: (إنه فاقد لقصد الحكاية بالمرة)،

ص: 195


1- كتاب المكاسب: ج2 ص16.

والحاصل: إنه يأتي بالعلة الصورية في كلامه فقط دون أن يقصد شيئاً من المحتوى والعلة المادية.

وعلى أي حال، فإن الظاهر: إن المراد من (الهزل) عرفاً هو الأعم من الفاقد لقصد الحاكوية بالمرة ومن القاصد لها هزلاً.

وجه الانصراف في كلام الشيخ (رحمه الله)

استدل الشيخ (رحمه الله) على ذلك بقوله: (لأن الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهزل)(1).

والمستظهر: أن وجه انصراف الأدلة عن الكذب الهزلي هو: إنا إن لم نقل بذلك للزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن، وذلك أن الرواية تقول: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له»، وهيتدل على أن مَنْ يتحدث بالكذب لإضحاك الناس يفعل محرماً وأكثر هذه الأكاذيب المضحكة هي من قبيل الهزل, و لو استثنينا ذلك(2) عن حرمة الكذب للزم تخصيص الأكثر وهو قبيح، فيكون وجه رد الانصراف استبعاده مع كثرة - وإن لم تكن هي الأغلب - الأكاذيب المضحكة وكون نص كلام النبي (صلی الله علیه و آله): «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ويل له»(3).

الوجه السادس: السيرة قامت على ممارسة الكذب هزلاً

ما عن الشيخ (رحمه الله) أيضاً من: أن سيرة المتشرعة قامت على الكذب مزاحاً أو هزلاً، والسيرة تصلح كقرينة لبّية صارفة لإطلاقات أدلة حرمة الكذب عن

ص: 196


1- كتاب المكاسب: ج2 ص16.
2- أي الكذب هزلاً، إذ النادر من موارد الكذب هزلاً مما ليس لإضحاك الناس.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص251.

الشمول للكذب هزلاً.

المناقشة في الوجه السادس: عدم معلومية كون السيرة لكونهم متشرعين

وقد يرد على هذا الوجه: إن سيرة المتشرعة لا يعلم كونها بما هم متشرعون، بل لعلهم بما هو متسامحون، إضافة إلى أنه لا يعلم اتصالها بزمن المعصوم (علیه السلام)، على أنها لو كانت ثابتة فهي تختص في صورة واحدة من الصور الخمسة الآتية(1) في الرأي المنصور وهي: على الملاطفة مع الاندكاك لا غير، فإنها دليل لبّي لا إطلاق له، وأما بقية الصور الآتية ككذب التشريك ولو بنحو الغلبة لأحد الطرفين فإنه مما يتحرج عنه المتدينون بما هو متدينون.

وهذه مناقشات ست في الاستدلال بالروايات على نحو العموم.

المناقشة الخاصة: دراسة بعض الروايات وفقه الحديث

أما المناقشة الخاصة في بعض الروايات السابقة وإعمال النظر فيها، فإنها تتضح وتتنقح عبر فقه الحديث فيها، فنقول: قد مضى أن متعلق الحكم قد يكون بذاته وبما هو هو متعلقاً للحكم، وقد يكون متعلقاً للحكم بلحاظالانتساب إلى الفاعل أو القائل، كما مضى أن كلا النمطين موجودان في الشرع بكثرة، وإن مقتضى الأصل ما هو؟

أما في خصوص الكذب وما نحن فيه فنقول:

إن الخطاب تارة: يكون بلسان (لا تكذب) ونظائره، وتارة أخرى: يكون بلسان (الكذب حرام) ونظائره، والفرق جلي بين اللسانين؛ فإن اللسان الأول

ص: 197


1- في الصفحة: 237 تحت عنوان: الرأي المنصور في المقام

انصبّ النهي فيه على الفعل، والفعل ظاهر في انتسابه لفاعله إذ الأصل في الأفعال القصدية، وعليه فلا يحرم الكذب إذا لم يكن قاصداً مضمونه ومؤداه كما لو كان ممازحاً أو ممثلاً أو شبه ذلك.

وأما اللسان الثاني، فالظاهر أن الحرمة فيه قد صبت على الموضوع - وهو الكذب - بما هو هو، ولم تؤخذ فيه النسبة إلى الفاعل؛ لأن الحرمة حملت على المصدر وهو أعم.

والفرق بين الوجهين كالفرق بين المصدر واسمه، فتدبر.

الروايات التي استدل بها الشيخ (رحمه الله) ومقتضى فقه الحديث فيها

عند الرجوع إلى عالم الإثبات ولسان الأدلة نجد أن بعض الروايات التي نقلها الشيخ (رحمه الله)، لسانُها من قبيل الثاني(1):

ومنها: مرسلة سيف بن عميرة عن الإمام الباقر (علیه السلام): «اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ»(2).

فإن (الكذب) يعم الهزلي منه وغيره، وما كان عن قصد له وغيره؛ لشمول المصدر لكل ذلك.

ومنها: ما نقله الحارث عن علي (علیه السلام) «لَا يَصْلُحُ مِنَ الْكَذِبِ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ»(3).ومنها: ما ورد في الموثقة بعثمان بن عيسى عن محمد بن مسلم عن

ص: 198


1- (الكذب حرام).
2- الكافي: ج2 ص338/ وسائل الشيعة: ج12 ص250.
3- الأمالي (للصدوق): ص419.

أبي جعفر (علیه السلام): «وَالْكَذِبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرَابِ»(1)، وما روي عن الإمام العسكري (علیه السلام): «جُعِلَتِ الْخَبَائِثُ كُلُّهَا فِي بَيْتٍ وَ جُعِلَ مِفْتَاحُهَا الْكَذِب»(2).

كما أن لسان بعضها من قبيل الأولى(3) كما فيما روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأبي ذر رضوان الله تعالى عليه: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَه»(4) فإن ظاهر (يكذب) هو ما كان عن قصد لظهور الأفعال في ذلك.

ومنها ما روي عنه (صلی الله علیه و آله): «الْمُؤْمِنُ إِذَا كَذَبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَعَنَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك...»(5).

فقه حديث الرواية الأولى: رواية الإمام الباقر (علیه السلام) عن الإمام السجاد (علیه السلام)

ولنبدأ بفقه الرواية الأولى ما عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن الإمام السجاد (علیه السلام) أنه قال: «اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ»، فنقول:

الوجه في اقتصار الرواية على تعليل بعض مضمونها

قد يقال: إن تعليل الإمام (علیه السلام) في نهاية الرواية يبدو غير شامل؛ حيث قد نهى (علیه السلام) عن الكذب الصغير والكبير، كما نهى عن جده وهزله، ولكن

ص: 199


1- الكافي: ج2 ص339.
2- بحار الأنوار: ج69 ص263/ جامع الأخبار (للشعيري): ص148.
3- (لا تكذب).
4- الأمالي (للطوسي): ص537/ وسائل الشيعة: ج12 ص251.
5- جامع الأخبار (للشعيري): ص148.

تعليله (علیه السلام) في ذيل الرواية اقتصر على الأول من جهتي التعميم(1) فلِمَ لمْ يذكر الإمام (علیه السلام) علة الجهة الثانية للتعميم؟

والجواب: إن ههنا احتمالين:

الاحتمال الأول: إن الإمام (علیه السلام) أوكل وجه التعميم الثاني إلى ما يفهم عرفاً من الكلام؛ لكونه لازمه، وهذا من فنون البيان والبلاغة، كما أنه من أساليب القرآن الكريم بل من وجوه الإعجاز فيه، والحكمة فيه استثارة ملكة التفكير في المتلقي كي يستنبط بنفسه التعليل الثاني من خلال فهمه للتعليل الأول، فقوله: «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ» يفهم منه أنه إذا كذب في الهزل اجترأ على الجد، وهذا وجه عرفي بلاغي.

الاحتمال الثاني: إن الثاني - أي الجد والهزل - هو من مصاديق الأول عرفاً؛ فإن الكذب هزلاً قد يعدّ كذباً صغيراً، في قبال الكذب جِدّاً والذي قد يعد كذباً كبيراً بالنسبة له، ويظهر ذلك مع اتحاد مضمونهما(2).

والمتحصل: إن الهزل مصداق من الكذب الصغير فالتعليل شامل له بشمول جامعه.

وفيه: إن الكذب هزلاً قد يكون كبيراً كالكذب على الأنبياء والأولياء هزلاً، وكالكذب هزلاً في الشؤون الخطيرة أو الأمور العامة أو شبه ذلك، فتأمل.

إشكالات ثلاث على الاستدلال بالرواية

اشارة

ثم إن هاهنا إشكالات ثلاثة على تعميم الكذب:

ص: 200


1- أي قوله (علیه السلام): «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجترئ عَلَى الْكَبِيرِ».
2- فإن مفسدة الكذب هزلاً هي في مخالفته للواقع فقط - لكن هذا خاص بما لو أقام قرينة على الهزل أو علم به الطرف الآخر - أما مفسدة الكذب جداً فهي إضافة لذلك في خداعه وتدليسه على الآخر.
الإشكال الأول: إطلاق (الكذب) يُقيَّد ببركة (اتقوا)
اشارة

سبق: إن لسان هذه الرواية على نحو (الكذب حرام) مما انصب الحكم على الموضوع بما هو هو مع قطع النظر عن الانتساب، فإن (الكذب) مصدر تعلق به (اتقوا)، والمصدر يدل على الحدث فقط، ولم تؤخذ فيه جنبة الانتساب للفاعل أو القصد ونظائرهما.

وعليه: فقد يقال: إن الأمر بالاجتناب عن الكذب مطلق شامل لكل الموارد، على اختلاف أنواع القصد فيها من جد وهزل وتمثيل وغير ذلك.

ولكن قد يجاب في استفادة العموم من ذلك من هذه الجهة ب: ورود (اتقوا) قبلها، وهذه لها دلالتها المعاكسة؛ فإن الأمر لا يوجه لغير الملتفت، فحيث أخذ في هذا الأمر، ككل الأوامر الأخرى، التفات الطرف الآخر أفاد حرمة خصوص الكذب المقصود الملتفَت إليه لا مطلقه.

والخلاصة: إن المصدر وإن لم يؤخذ فيه قصد الطرف الآخر أو نوعه(1)، ولكن الأمر المتقدم عليه قد أخذ فيه ذلك - أي كون المخاطب ملتفتاً -، فيتقدم على إطلاق الكذب المستفاد من كونه مصدراً، فيستفاد مدخلية شخصية الفاعل وقصده والتفاته في ثبوت الحكم؛ إذ لا يوجه الأمر إلى الطفل أو الغالط أو الساهي وغير القاصد.

جوابان عن الإشكال
اشارة

لكن هناك وجهان يمكن أن يتكفل كل منهما بالإجابة على هذا الإشكال:

ص: 201


1- أي نوع قصده.
الجواب الأول: لابد من التفريق بين النهي والمنهي عنه

لابد من التفريق بين النهي والمنهي عنه؛ وذلك بأن الالتفات(1) قد أخذ في الأمر ب(اتقوا)، وأخذه فيه لا يدل على أخذه أيضاً في المنهي عنه؛ حيث إنهما مطلبان مختلفان، فالنهي شيء والمنهي عنه شيء آخر.

نعم النهي موجه للملتفت ذي الإرادة البالغ، ولكن المنهي عنه قد يكون أعم، وكلامنا في المقام في المنهي عنه (أي الكذب) وعمومه، وليس في (اتقوا) وخصوصه، ولا يسري هذا إلى ذاك.

ومما يبرهن على ما ذكرناه - من التفكيك بينهما -: إن المولى لو قال لعبده: (التفت - وهذا صريح - لما أقول لك: إن الكذب حرام مطلقا(2) لم يكن هناك تنافٍ في البين بين الصدر والذيل؛ فإن الالتفات وإن كان في بداية الكلام قد تعلق الأمر به، ولكن المنهي عنه قد ورد مطلقاً، و لم يؤخذ فيه شرط من الشروط كالالتفات أو الجد او الهزل أو غيرها.

وبعبارة أخرى: إنّ التفكيك بين شروط توجه النهي وبين شروط المنهي ممكن، بل واقع، وهذا حاصل في المقام.

وعليه: إن (اتقوا) لا تصلح أن تكون دليلاً على تقيد الكذب المطلق؛ لكونه مصدراً لم تؤخذ فيه النسبة للفاعل.

وفيه تأمل: إذ حصل خلط بين أصل الالتفات والقصد مقابل الغفلة وعدم القصد، وهذا هو الذي يقال عنه: إن الأمر - ك: اتقوا - غير موجه إلا

ص: 202


1- أي التفات السامع وقصده.
2- أي سواء قصدته جداً أو هزلاً أم لم تقصده ككونك معلماً في مقام التمثيل أو كون فاعله غير بالغ، هذا وإن كان العبد المخاطب قد اشترطت فيه شروط خاصة.

للملتفت، وبين نوع القصد من جد أو هزل وهو مورد البحث، ولا يدل (اتقوا) على إثباته أو نفيه.اللهم إلا أن يقال: إن الخطاب ب(اتقوا) ونظائره موجه للملتفت، والمأمور به أو المنهي عنه هو الملتفت إليه لا غير؛ إذ لا يمكن توجه الخطاب لغير الملتفت، فيكون الكذب المنهي عنه هو الملتفت إليه دون المغفول أو المسهو عنه، لكن الكذب جاداً كان أو هزلاً فإنه يصلح للنهي عنه بكلا قسميه، ويمكن توجه الخطاب للهازل كالجاد، فلا يكون الخطاب ب(اتقوا) قرينة على اختصاص متعلقه - وهو الكذب - بالكذب الجاد، لكن هذا التأمل وإن صح إلا أنه لا ينفي المدعى في الوجه الأول بل يؤكده لكن بوجه جديد(1).

بل قد يقال: بشمول النهي حتى لغير الملتفت في حينه، بمعنى أن (الكذب) مادام قد وقع منهياً عنه وهو بإطلاقه أعم مما صدر عن التفات حينه وعدمه، وجب الاحتياط في مقدماته، إذ يكون من العنوان والمحصّل؛ إذ يكون الحاصل: إن الشارع كره وقوع الكذب كعنوانٍ في الخارج، فكلما احتمل صدوره منه غافلاً أو غالطاً أو ساهياً أو غير ذلك وجب عليه الاحتياط في مقدماته بأن يحترز عن كل ما يمكن أن يؤدي إلى صدوره منه ولو غفلة أو سهواً، فتأمل.

الجواب الثاني: أنّ القيد في (اتقوا) من باب الغالب

الجواب الثاني(2): أنّ القيد في (اتقوا) من باب الغالب

أن يقال: بأن الإمام (علیه السلام) لو قال (لا تكذب) مستخدماً الفعل الظاهر في

ص: 203


1- إذ حاصل الكلام إن (اتقوا) لا يقيد (الكذب)، إما لأنه هو بدوره غير مقيد بالجد أو الهزل، وإما لأنه حتى لو فرض تقيده به أو بغيره، فإن تقيده لا يستلزم تقيد متعلقه (مما أكدناه في: بل قد يقال بشمول ..).
2- وهذا يعمم ليشمل المورد حتى لو كان كلام الإمام (علیه السلام) بصيغة لا تكذب.

القصدية والمشرب فيه النسبة للفاعل، فإنما ذلك للحاجة إلى طرف للخطاب لا لتقيُّد المنهي عنه بخصوص بعض الصور كالقصدية وصورة نسبته للفاعل.

وبعبارة أخرى: إن (لا تكذب) فيه احتمالان:أما الأول: فما ذكرناه، من إرادة النهي عن خصوص الكذب المقصود، أو ما كان بقيد نسبة خاصة له إلى الفاعل لظهور الفعل (تكذب) في ذلك.

وأما الثاني: فهو إن الإمام (علیه السلام) عندما قال: (لا تكذب) لم يُرِد أخذ خصوصية الفاعل كقيد، بل كان ذكر ما ظاهره ذلك لأجل أن محط الاهتمام هو الأهم من المصاديق، ويوضح ذلك أكثر قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ...»(1) فإن «وَلا يَزْنِينَ» و«لا يَقْتُلْنَ» ظاهره: أنه قد أخذ فيه القصد وشخصية الفاعل بقيودها(2)؛ لأنه فعل وقع منهياً عنه، ولكن من الواضح أنه ليس كل ذلك قيداً، فإن الطفل والطفلة منهيان عن الزنا والقتل، وقصد الزنا أو ضده ليس دخيلاً في الحرمة(3).

وعليه: فالقصد وشخصية الفاعل لم تؤخذ كقيد على إطلاقها، بل ملاك التحريم هو المصدر بنفسه، لا الفعل بمدلوله، فقد جعل مصب النهي الفعل، لكن لا بلحاظ شرطية خصوص الاستناد إلى الفاعل وشبهه، بل لأن محط العناية هو المورد الغالب أو المهم.

ص: 204


1- سورة الممتحنة: 12.
2- من بلوغ وغيره، فإن النهي لا يوجه لغير البالغ.
3- فلو قصد من الزنا الرياضة مثلاً لم يخرجه عن الحرمة. وفيه: إن قصد الرياضة لا يضاد قصد الزنا ليقال بأن قصد الزنا ليس دخيلاً في الحرمة استناداً إلى أن قصد الرياضة غير مخرج عن الحرمة، فتأمل.

هذا ولكن ذلك خلاف الظاهر، وظواهر الألفاظ حجة، وما ذكر تنقيح مناط، وأما في الآية فالحرمة مطلقة لأنها من المستقلات العقلية، وأما حمل آية «اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ» على الغالب؛ فللدليل الخارجي، ولولاه لوجب الجمود على ظاهره من كونه قيداً.

الإشكال الثاني: تعارض ظهوري (الكذب) و(كَذِب) في التعميم والتخصيص
اشارة

إن الإمام (علیه السلام) لم يقتصر على المفردة الأولى وهي (اتقوا الكذب)، وإنما علل ذلك بما يتضمن مفردة (كَذِبَ) فيتعارض الظهوران؛ فإنه وإن كان متعلق الأمر بالاجتناب في بداية كلام الإمام (علیه السلام) هو المصدر، والمصدر أعم، ولكن الإمام (علیه السلام) بعد ذلك وفي مقام التعليل استخدم الفعل وهو: (كَذِب) إذ قال (علیه السلام): «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ...» وظاهر الفعل كما سبق القصد، وأنه قد أُشربت فيه شخصية الفاعل، كما استخدم الفعل (اجترأ) فيكون ذلك دليلاً على التخصيص مرة أخرى.

وبعبارة أخرى: قد يقال بحدوث تعارض بين ظاهر الكذب - المصدر - والذي لم تؤخذ فيه النسبة للفاعل، وبين ما تضمنه قوله: «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذبَ...» من فعل (كذب) و(اجترأ)؛ فإن هذا التعليل متضمن لفعلين، والفعل ظاهر في القصد والنسبة للفاعل، وحينئذ فلو تمسكنا بظاهر المصدر (الكذب) فإنه - أي الكذب - سيكون محرماً مطلقاً، سواء أكان هناك قصد أم لم يكن(1)، وسواء قصد الجد أم الهزل، فلا مدخلية لنوع القصد أيضاً.

وأما لو تمسكنا بظاهر الفعل (كذب، اجترأ) الذي ورد في الجملة التعليلية،

ص: 205


1- كما في المعلم في مقام التمثيل.

فإن الحرمة ستختص بما كان عن قصد والتفات، فإن الفعل ظاهر في الالتفات والقصد والنسبة، فسوف تكون الحرمة مقيدة بتلك القيود، وظاهر التعليل مقدم على ظاهر المعلل له.

الجواب الأول عن الإشكال الثاني: التعليل من باب المورد الأهم أو الغالب

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنه قد يكون التعليل بذلك من باب أنه المورد الأهم أو الغالب وما أشبه، كما هو الحال في قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمْ

اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ»(1) فإن القيد هنا هو توضيحي تقريري للحالة الغالبة وليس باحترازي، أي كان ذكره لكون الحال الغالبة هي ذلك ولكونه موطن الابتلاء عادة، وموطن مقامنا نظير هذه الآية.لكن ذلك - كما سبق - خلاف الظاهر؛ فإن كون القيد أو التعليل بلحاظ الغالب خلاف المستظهر عرفاً فالأولى الجواب بوجه آخر يقود إليه التحقيق وهو:

الجواب الثاني عن الإشكال الثاني: قول الإمام (علیه السلام): (فان الرجل إذا كذب...) حكمة أو علة؟
اشارة

الجواب الثاني يتوقف على جواب السؤال الآتي: هل ما ذكره الإمام (علیه السلام) في نهاية الرواية علة أو حكمة؟ حيث قال (علیه السلام) في نهاية الكلام: «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ»(2)؟

قد يقال: إنه على كلا التقديرين؛ فإن ما ورد في التعليل لا يضيق دائرة المعلل له، ولا يقيده بكونه عن قصد والتفات أو شبه ذلك، وبيان ذلك: إن

ص: 206


1- سورة النساء: 23.
2- وأنه لو كذب هزلاً اجترأ على الجدّ.

قوله: «فإن الرجل إذا كذب...» يحتمل فيه احتمالان:

الاحتمال الأول: كون (فإن الرجل...) حكمة

كون ما ذكره الإمام (علیه السلام) حكمة - كما هو المنصور - فإن الأصل - كما حققناه - في كل علل الشارع إنها حِكَم لا علل، وكلام الإمام (علیه السلام) لو كان حكمة، فإن الحكمة لا تخصص ولا تعمم.

وعليه: فإن حرمة (الكذب) ستبقى عامة؛ لكونِ (الكذب) مصدراً، وحيث كان قوله (علیه السلام): «فإن الرجل إذا كذب...» حكمة فإن ورود الفعلين: (كذب) و(اجترأ) الظاهر في التقييد بالقصد والنسبة إلى فاعله، غير موجب لتخصيص الكذب المنهي عنه بذلك.

الإحتمال الثاني: كونه علة ولكن طريقية العلة تفيد التعميم
اشارة

سلمنا أن ما ذكر هو علة(1)، ولكن مع ذلك فإن هذا التعليل لا يخلّ بإطلاق حرمة الكذب المستفادة من المصدر؛ وذلك استناداً إلى لحاظ الطريقية في التعليل وهو صريح الرواية، وبذلك سيظهر أن الحق مع المعمِّم لا مع المخصص، إذ نص الرواية: «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ» وهذه العلة موجودة أيضاًفي الكاذب هزلاً، بل وفي المعلم الممثل لطلبته في الدرس بأمثلة كاذبة، مطلقاً أو في الجملة(2)؛ وذلك أنه لو اعتاد(3) على الكذب وإن لم يكن جاداً فيه أو كان مجرد تمثيل للتعليم، فإن مآله سيكون الاجتراء على كبير

ص: 207


1- أي في هذه الرواية، وككبرى: سلمنا إن كل ما ذكر مما ظاهره التعليل فإنه علة وليس بحكمة إلا ما خرج.
2- للقطع بخروج غير مثل المثال المذكور في المتن عن كونه حراماً.
3- هذا وجه قولنا (في الجملة)، فتأمل.

الكذب، وهو الذي عللت به الرواية وجوب اتقاء الكذب، أي: إن شخصاً لو استمر يقول مثلاً: (عليٌّ ليس بأول الخلفاء) غير قاصد للمعنى عن جد، بل كان ممازحاً فقط أو ذاكراً ذلك كمثال لطلبته على الجملة السالبة غير المعدولة المحمول مثلاً، فإن ذلك سيجرّئه غيره كما أنه سيجرؤه على الكذب عن جد، فإن التمثيل كاذباً أو الهزل كاذباً يؤثر - من حيث يشعر أو لا يشعر - عليه، ويسري ذلك المعنى إلى أعماقه وغن لم يقصده، وقد ينتج ذلك التكرار تلقيناً لا شعورياً وتشكيكاً أو تردداً أو ضعف إيمان.

والخلاصة: إن التعليل بلحاظ طريقيته يؤكد عموم المعلل، وهو أقوى ظهوراً من ظهور الفعل في قصد الجد أو الانتساب وشبههما، ولكن هذا الوجه - كما ترى - أخص من المدعى.

المدار في التعليل على المادة لا الهيئة

المدار في التعليل على المادة لا الهيئة(1)

وتحقيق ذلك يتوقف على الإشارة إلى قاعدة هامة وهي: أنه لو حدث في التعليل تعارض بين الهيئة والمادة فكان مفاد المادة أعم ومفاد الهيئة أخص - كما هو محل البحث - فقد يقال: إن الظاهر أن الهيئة قد أخذت ولوحظت كمصداق لا كملاك، والمرجع سيبقى للمادة وهي الأعم.

ومثاله لو قال أحدهم: (احترم زيداً فإنه أكرم مؤمناً)، فقد يتوهم التعارض بين المادة والهيئة؛ فإن مفاد الهيئة في المثال هو عِلّية الإكرام في الماضي (فإنه أكرم مؤمناً)، وهذه أخص؛ لأن الإكرام تحدد بالزمن المنصرم، ولكن مفاد المادة علِّية صِرف (الإكرام)، فيفيد التعميم وإن تمام ملاك الاحترام لشخص هو

ص: 208


1- وهذه القاعدة بحاجة إلى تثبت أكثر في إطلاقها وإن كانت صحيحة في الجملة منطبقة على المقام لخصوصيته كما سيأتي في المتن.

إكرامه مؤمناً سواء وقع في الماضي أم الحاضر أم المستقبل، والعرف عند إلقاء هذا المثال إليه يفهم أن الملاك هو الإكرام والمادةوليس الهيئة، وهذا كله لو لم يكن المفهوم عرفاً إن القضية قضية شخصية، بل كانت حقيقية، لكن دار الأمر بين كون العلة مادة الإكرام أو المادة في ضمن الهيئة الخاصة.

والمتحصل: إنّ المفهوم عرفاً هو أن ملاك احترام زيد هو إكرامه للمؤمن المجرد عن الزمان وهو العلة - بحسب الفرض -.

وقد يعترض على ذلك: بأن الارتكاز الذهني لمدارية الإكرام وعدم مدخلية كونه صادقاً في الزمن الماضي هو الذي أفاد تقديم مقتضى المادة على مقتضى الهيئة في المثال، لا مجرد كون المادة أعم والهيئة أخص أو العكس، وعلى أي حال فإن الظاهر هو أن المدار على أقوى الظهورين عرفاً ولو ببركة مناسبات الحكم والموضوع، كما في المثال إذ المتفاهم عرفاً عند سماع قول: (احترم زيداً فانه أكرم مؤمناً) هو إن المناسبة هي بين الإكرام للمؤمن واحترام زيد، وأنّ الماضوية لا مدخلية لها.

فمناسبات الحكم والموضوع هي التي تقتضي تقديم المادة (الإكرام) على الهيئة الماضوية.

وما نحن فيه هو من هذا القبيل حيث يقول (علیه السلام): «اتَّقُوا الْكَذِبَ» والكذب - مادةً - مصدرٌ عام، وأما التعليل بقوله (علیه السلام): «فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ...» فهو بلفظ الماضي والماضي - كذب - هيئةً خاص، وحينئذٍ فمادة (كذب) أقوى ظهوراً في التعميم من ظهور هيئته في التخصيص؛ تمسكاً بعموم القاعدة لو أذعنّا بها أو لاقتضاء الارتكاز ومناسبة الحكم والموضوع ذلك؛ لوجدانية أن الجرأة على المعصية الكبيرة تتحقق بالكذب جده وهزله، نعم ذلك بنحو التشكيك؛ لوضوح

ص: 209

اقوائية الكذب جاداً في التسبيب للجرأة على المعصية من الكذب هازلاً، وأيضاً لاعتضاده بوقوع (الكذب) متعلقا ل(اتقوا).

الإشكال الثالث: اختصاص حرمة الكذب الصغير أو الهزل بصورة مقدميته
اشارة

وهناك إشكال آخر(1) وهو: أن الإمام (علیه السلام) قال: «اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُصِدِّيقاً وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ كَذَّابا»(2) فلو قلنا: بأنها علة كان معنى ذلك أن الكذب الصغير ليس بحرام على إطلاقه؛ لأن الصغير من الكذب - حسب ظاهر الرواية - هو مقدمة للكبير منه فتكون حرمته بلحاظ مقدميته وإيصاله، فإذا أوصل فحرام، وإلا فلا.

الجواب الأول عن الإشكال الثالث: إنّها حكمة لا علة

ويجاب هذا الإشكال أولاً: بما ذكرناه سابقاً من كون القاعدة في العلل - أي ما ظاهره كذلك - إنها حِكَم، لكن الالتزام بكونها حكمة ينافي الجواب السابق(3)، فتدبر.

الجواب الثاني: إنها علة لكن المراد هو الشأنية لا الفعلية

وثانياً: إنّ الظاهر في مثل هذه الرواية وكثير من نظائرها: إن المراد هو

ص: 210


1- على الاستدلال بالرواية على حرمة الكذب هزلاً.
2- الكافي: ج2 ص338.
3- في (ولكن: طريقية العلة تفيد التعميم).

الشأنية لا الفعلية، أي إن من كذب في الصغير كان شأنه التجرؤ على الإقدام على الكذب الكبير، فالشأنية موجودة وإن لم تكن الفعلية متحققة(1)، وكما هو الحال في حرمة شرب المسكر أو الخمر، فإنه لو قال فرضاً: (اجتنب شرب الخمر؛ لأنه مسكر) لا ينقض عموم التعليل بأن القطرة من الخمر ليست بمسكرة فشربها جائز، كما لا ينقض بمن تعوّد على شرب الخمر حتى إنه لم يعد يسكره؛ لأنه يقال في جوابه: بأنّ المراد من (فإنه مسكر)(2) شأنية الإسكار لا الفعلية(3)، والاقتضاء والشأنية موجودة دائماً، فهي علة لا حكمة، أي العلة هو شأنية إيصال هذا لذاك لا فعليته.والأمر كذلك في المقام، إذ يوجد في كل كذب هزلي اقتضاء إيجاد الجرأة على الكذب الجدي، ولا تخلف في ذلك فهو علة، وكذا الحال في الكذب الصغير.

ويتفرع عليه: إن الكذب الصغير لو أوصل للكبير تضاعف الإثم، وسجلت معصيتان على المكلف، وإن لم يوصل فقد عصى معصية واحدة لحرمته ذاتاً؛ إذ الحرام ما كان من شأنه الإيصال لا ما كان موصلاً فعلاً.

وفيه ما لا يخفى، والأصح إن حرمة الشيء لشأنية إيصاله تقتضي حرمته النفسية دون الطريقية والمقدمية، فتأمل.

ص: 211


1- بل نقول (اجترأ) فعلاً لكن التجرؤ أعم من العمل.
2- ولو بمعونة فهم المشهور أو مناسبات الحكم والموضوع؛ وإلا فإن ظاهر الألفاظ الفعلية لا الشأنية.
3- هذا إضافة إلى الجواب بأن الخمر بعنوانها أخذت في الروايات موضوعاً للحرمة وهي صادقة على القطرة وعلى ما لم يسكر الشخص لخصوصية فيه. والحاصل: إن مدار الحرمة في الروايات أحد أمرين على سبيل البدل: الخمرية والإسكار.
الجواب الثالث: لا تعارض بين الحرمة الموضوعية والطريقية

وثالثاً: لا منافاة بين الطريقية والموضوعية، فإن التعليل وإن أفاد الجنبة الطريقية فإنه لا ينفي الجنبة الموضوعية؛ إذ لا مانعة جمع، ولا مفهوم مخالفة في البين، وذلك كما لو قال أحدهم: اجتنب النظر للأجنبية فإنه يوقع في الزنا، فإن ذكر الحيثية الطريقية والتعليل بها لا ينفي الجنبة الموضوعية والحرمة النفسية للنظر، نعم لابد من الدليل على الموضوعية، وموضوعية حرمة الكذب تنكشف من صدر الرواية(1)، حيث قال (علیه السلام): «اجتنبوا الكذب»(2) فإن الأصل في متعلَّق النهي كونه بما هو هو متعلقاً، لا لمقدميته.

والحاصل: إن الموضوعية استفيدت من صدر الرواية، والطريقية استفيدت من آخرها أي من التعليل فيها، ولا ظهور لأحدهما في نفي الآخر، بل لو فرض ذلك فإن ظهور المنطوق أقوى من ظهور مفهوم الآخر، فتدبر.

فقه حديث رواية الحارث عن أمير المؤمنين (علیه السلام)

كما استند الشيخ (رحمه الله)(3) إلى ما رواه الحارث الأعور عن علي (علیه السلام): «لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له إن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار»، فقد استدل بها الشيخ (رحمه الله) على حرمة الكذب أيضاً.

ص: 212


1- إضافة إلى سائر الروايات.
2- وهذا مما يؤكد الحرمة التشكيكية في الكذب.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص14.

الإشكال بأن (لا يصلح) ظاهر في الكراهة المصطلحة

لكن السيد الخوئي (رحمه الله) في مصباح الفقاهة(1) استشكل على ذلك بأن جملة (لا يصلح) الواردة في الرواية ظاهرة في الكراهة المصطلحة فلا تفيد حرمة الهزل(2).

جوابان عن الإشكال:

ولكن الإشكال ليس بتام ظاهراً وذلك لوجهين:

الوجه الأول: التعليل في ذيل الرواية دال على الحرمة

إن الرواية لم تقتصر على ما ذكر في صدرها من «لا يصلح من الكذب جد وهزل»، بل إنها معللة بما هو صريح في الدلالة على الحرمة؛ لأن هداية الكذب إلى الفجور والفجور إلى النار لا يتناسب أبداً مع القول بالكراهة المصطلحة؛ لوضوح أن المكروه لا يهدي إلى النار.

الوجه الثاني: استعمال اللفظ في معنيين مستحيل أو قبيح

الوجه الثاني: استعمال اللفظ في معنيين مستحيل أو قبيح(3)

إن لازم كلامه هو استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مما لا يلتزم به المشهور(4)، وذلك أنه (رحمه الله) بنى على أن المراد من (لا يصلح) هو الكراهة المصطلحة وهي إن صحت في الهزل لكنّها لا تصح في الكذب الجاد؛ لحرمته قطعاً فيلزم استعمال (لا يصلح) في الحرمة والكراهة المصطلحة معاً(5) واستخدام اللفظ

ص: 213


1- مصباح الفقاهة: ج1 ص390.
2- أما حرمة الكذب فلا كلام فيها حسب الأدلة، إنما الكلام في الهزل.
3- أو خلاف الظاهر.
4- استحالة بل أو قبحاً.
5- الحرمة لتعلقها بالكذب الجدي والكراهة لتعلقها بالكذب الهزلي.

في أكثر من معنى عندهم إما مستحيل أو قبيح أو هو خلاف الظاهر(1), نعم لو أنه (رحمه الله) عبر بالكراهة المطلقة(2) لكانت هي الجامع فلم يلزم هذا المحذور، فتدبر.

نعم قد يستشكل بأن قوله (علیه السلام) في ذيل الرواية: «وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى يُقَالَ: كَذَبَ وَفَجَرَ» قرينة على التخصيص بهذه الصورة، فتأمل.

ويستشكل أيضاً بأن ظاهر الرواية الإرشادية لا المولوية؛ لظهور (لا يصلح) بل والتعليل في ذلك، على أنه لو كان مولوياً لاختص بما لو أدى إلى الفجور المؤدي إلى النار - إلا أن يجاب بالشأنية - كما سبق، فتأمل.

القول الثاني: جواز الكذب الهزلي مطلقاً وأدلته

القول الثاني(3): جواز الكذب الهزلي مطلقاً وأدلته

ذهب إليه المحقق الايرواني (رحمه الله) واستدل على أن الكذب في مقام الهزل جائز مطلقاً ب: الخروج الموضوعي عن الكذب، ولو فرض كونه منه موضوعاً فالأدلة منصرفة عنه(4).وقد اتضح فيما سبق من مناقشة القول الأول وجه هذا القول، فإنه يكفي في الجواز عدم دلالة الأدلة على الحرمة، كما أن الانصراف على تماميته والسيرة على تماميتها يصلحان أيضاً كدليلين على هذا القول، فتأمل.

القول الثالث: جواز الكذب الهزلي إن كان إنشاء دون ما إذا كان إخباراً

ذهب إليه السيد الخوئي (رحمه الله) كتفصيل في المسألة، وإجماله: إن ما كان من

ص: 214


1- ولكن على مسلكنا لا امتناع ولا قبح بل هو واقع وحاصل ومن فنون البلاغة.
2- أي الكراهة اللغوية.
3- القول الثاني من المسألة الأولى وهي الكذب هزلاً.
4- حاشية المكاسب (للإيرواني): ج1 ص40.

الكذب المزاحي إخباراً فهو محرم، وما كان منه إنشاءً مع نصب قرينة عليه فليس بمحرم.

دليل القول الثالث: الخروج الموضوعي للكذب الهزلي الانشائي عن الكذب

استدل السيد الخوئي (رحمه الله) في مصباح الفقاهة لردّ الإطلاقات التي تمسك بها الشيخ (رحمه الله)، ب: أن الكذب الهزلي - ببعض أنواعه - ليس بكذب إذا كان المتكلم قاصداً إنشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض.

قال: (إن الكذب المسوق للهزل على قسمين: فإنه قد يكون الهازل بكذبه مخبراً عن الواقع لكن بداعي المزاح والهزل من دون أن يكون إخباره مطابقاً للواقع، كأن يخبر أحداً بقدوم مسافر له أو حدوث حادث أو وصول حاجة ليغتر المخاطب بقوله، فيرتب عليه الأثر فيضحك منه الناس، وهذا لا شبه في كونه من الكذب فإنه عبارة عن الخبر غير الموافق للواقع واختلاف الدواعي لا يخرجه عن واقعه وحقيقته(1) إذن فيكون شمولاً لما دل على حرمة الكذب.

وقد يكون الكلام بنفسه مصداقاً للهزل بحيث يقصد المتكلم إنشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض من غير أن يقصد الحكاية عن واقع ليكون إخباراً ولا يستند إلى داعي آخر من دواعي الإنشاء، ومثاله أن ينشئ المتكلم وصفاً لواحد من حضار مجلسه بداعي الهزل، كإطلاق البطل على الجبان والذكي على الأبله والعالم علىالجاهل، وهذا لا دليل على حرمته مع نصب القرينة عليه، كما

ص: 215


1- لأن الداعي خارج عن حقيقة الإنشاء والإخبار، بل هو من العلل المعدة لهما وهو الباعث لهما وليس بمقوم داخلي فيهما حتى يكون اختلاف الدواعي مخرجاً للخبر عن واقعه وحقيقته. والحاصل: إن الداعي قد يبعثك لتخبر تارة ولتنشا تارة أخرى.

استقربه المصنف، والوجه في ذلك هو أن الصدق والكذب إنما يتصف بهما الخبر الذي يحكي عن المخبر به، وقد عرفت أن الصادر عن الهازل في المقام ليس إلا الإنشاء المحض فيخرج عن حدود الخبر موضوعاً)(1). انتهى.

وتوضيح كلامه: أنّ مقسم الصدق والكذب هو الخبر لا الإنشاء؛ فإن الخبر هو عبارة عن القول المطابق للواقع أو غير المطابق له، فقد لوحظ فيه أن هناك واقعاً مطابقاً، وقد لوحظ القول كاشفاً ومرآة ومطابِقاً له، فإن طابقه فصدق وإلا فكذب، ثم إن الداعي لا يغير من واقع الكذب شيئاً لخروجه عن حقيقة الإخبار.

والحاصل: إن الإخبار الذي لا يطابق الواقع - وإن كان هزلاً - فهو كذب، والداعي (أي كونه بقصد الهزل مثلاً) أجنبي عن حقيقة الصدق والكذب.

وأما الإنشاء فهو: إيجاد للاعتبار في عالمه على المشهور، أو الاعتبار المبرَز بحسب رأي السيد الخوئي (رحمه الله)(2)، ولا فرق على كلا الرأيين؛ فإن الإنشاء لم يلاحظ فيه أن هناك واقعاً خارجياً يطابقه القول الإنشائي أو لا يطابقه، بل الإنشاء نفسه هو الذي يوجد الواقع أو يبرزه كما في (زوجتك نفسي... قبلت) فإن هذا ليس بإخبار؛ بل إن العلقة بين الطرفين تنشَأ وتوجَد بنفس قولهما من الإيجاب والقبول أو إنها تُبرز بذلك، هذا توضيح لما ذكره (رحمه الله) مع بعض الإضافات منا.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى حقيقة الإنشاء فنقول:

تعريف الإنشاء والإشكال عليه

والتحقيق: إنّ الإنشاء هو إيجاد اعتبارٍ في عالمه - على المنصور المشهور -

ص: 216


1- مصباح الفقاهة: ج1 ص 389.
2- على ما قد يستظهر أنه مراده فتامل.

ولكن السيد الخوئي (رحمه الله)(1) اختار أنه اعتبارٌ مبرَز.والصحيح هو: إن الإنشاء ليس هو مجرد إيجاد مفهوم اللفظ به(2)، فإن ذلك متحقق في الإخبار والإنشاء على حد سواء، بل الفرق في إيجاد الاعتبار (إضافة للمعنى) وعدمه.

ومنه يظهر: إن (الاعتبار المبرز) ليس بإنشاء وإن كان لا بد منهما(3) فيه، فإنهما متحققان في الإخبار عن اعتباره النفسي أيضاً، فلاحظ مثل (زوجتك نفسي، وبعت) خبراً وإنشاءً.

وبعبارة أخرى: إنه بالإنشاء يبرز اعتباره النفسي، فالإنشاء إيجادٌ بموجِد لفظي أو غيره لأمرٍ في عالم الاعتبار بعد وجوده في صقع النفس السابق عليه، فتأمل.

وعلى أي حال، فإنه قد يقال: بأن الصدق والكذب متصوران مع تعريف الإنشاء ب(الاعتبار المبرَز)، فإن المبرَز إن طابق الاعتبار الكامن في صقع النفس فصدق وإلا فكذب، فتأمل.

ويمكن تقرير كلامه بوجه آخر: وهو إن الكذب الهزلي نوعان:

النوع الأول: أن يكون مخبراً عن الواقع بما لا يطابقه، ولكن بداعي الهزل، وهذا - كما يراه السيد الخوئي (رحمه الله) - كذب وحرام لخروج الداعي عن حقيقة الخبر، فإن المخبر تارة يخبر عن الواقع بداعي التهديد وأخرى بداعي التحذير أو الهزل والمزاح والسخرية أو ما أشبه فإن الدواعي تختلف، ولكن الخبر هو هو، فلو كذب المتكلم في الخبر بداعي الهزل فهو كاذب والأدلة تشمله(4).

ص: 217


1- مصباح الفقاهة: ج1 ص616.
2- والمقصود: إيجاد مفهوم اللفظ في ذهن الطرف الآخر، باللفظ، والباء سببية.
3- أي الاعتبار والإبراز.
4- وكلامه حتى الآن على القاعدة ولا نقاش فيه.

النوع الثاني: أن يكون منشئاً لبعض المعاني بداعي الهزل، وهنا لا يصح أن نقول بأنه كذب؛ لأنه لم يقصد الحكاية عن الواقع.وبعبارة أخرى: لأن الإنشاء من مقولة الإيجاد والإيجاد لا يحتمل الصدق والكذب(1)، وحيث لم يكن كذباً فلا تشمله أدلته فليس بمحرم، ومثاله أن يقول شخص لآخر: (أنت بطل) ساخراً منه لجبنه، فإنه إنشاء وليس إخباراً.

مناقشة رأي السيد الخوئي (رحمه الله)

اشارة

ولكن كلامه قد يناقش فيه:

المناقشة الاولى: هناك حكايتان متعاكستان، ولا إنشاء للمعنى

إن الحكاية موجودة؛ إذ عندما يقول له: (أنت بطل أو ذكي) فهو حاكٍ، ولكن نوع حكايته هو عكس مفاد اللفظ، فقد يكون هذا العكس عكس الواقع، وقد يكون هو الواقع، أي أنه حكى لكن بنحو مقلوب ومعكوس، مع حكاية الواقع أيضاً.

وبتعبير آخر: إن مرجع كلام الهازل لدى التحليل إلى القول بأن: (أنت لست بذكي) - أي واقعاً -، فإن هذا هو مغزى كلامه وهو الذي يريد إيصاله، ولكن قد عبر ب: (أنك ذكي) - أي ظاهراً استهزاءً به - فإن جوهر الكلام هو هذا المجموع، بل اللطافة في التعبير ناشئة من خلال قلب الحكاية، إذاً: لدينا إخبار، وإخبار آخر معاكس متضمَّن فيه.

ويقرب ذلك إلى الذهن قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2) حسب

ص: 218


1- وكذا إبراز الاعتبار - على مسلكه -.
2- سورة القيامة: 1.

بعض التفاسير، فإن المفسرين(1) اختلفوا في ذلك، فقال بعضٌ: (بأن "لا" زائدة أو لغو)(2) وهذا رأي ضعيف؛ لأنه لا زيادة في القران ولا لغو.وقد يقال: إن ذلك بمنزلة القسم واللا قسم، فكأنه جمع بين النقيضين - ظاهراً - في روعة بيانية، وبتعبير آخر: إنه ليس بقسم ولكنه تلويح به، أو يعني: لا أقسم لكن المورد يستحق أن يُقسم به(3)، فتأمل.

وفي المقام نقول: إن الروعة والجمال في أمثال تلك الكلمات، تكمن في التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية، فإن مفاد الاستعمالية هي (أنت بطل) وقد قصدها أيضاً لكن استهزاءً، ولكن مفاد الجدية (أنت جبان)، وقد قصدها حقيقةً فهما حكايتان في مرتبتين(4).

وبتعبير آخر: إنه قد اختلف كل من الظهور الأولي والظهور الثانوي، فالظهور الأولي في عبارة (أنت بطل) هو كونه بطلاً، وبهذا اللحاظ يصدق عليه أنه كذب؛ إذ إنه قصده وإن كان بداعي الاستهزاء - وهذا بناء على أنه إخبار، عكس الوجه الآخر من أنه إنشاء فتأمل -، ولكن بلحاظ الظهور الثانوي والإرادة الجدية وبالاحتفاف بقرينة المقام الدالة على أنه في مقام السخرية والاستهزاء، فإن المراد هو أنت لست ببطل، أي أنت جبان، فليس بكذب(5)، فههنا قد تعاكس الظهوران، واللطف كل اللطف في ذلك(6)

ص: 219


1- تفسير مجمع البيان: ج10 ص596 - 597.
2- تفسير الصافي: ج5 ص254.
3- وهناك أقوال أخرى فراجع التفاسير.
4- سيأتي أن الأصح هو إن كلتيهما إرادة جدية لكن أحداهما مستقرة والأخرى لا، فتأمل.
5- وفرض الكلام في مورد كونه جباناً حقاً.
6- وهنا تتمة هامة ستأتي حول ذلك فانتظر.

وعليه: فإن دعوى كونه إنشاءً، ليس بتام، وإنما هو إخبار يتضمن اخباراً آخر بوجهين

والحاصل: إنه عندما يقول: (أنت بطل) فهو ليس بإنشاء ولكنه إخبار، والنكتة البلاغية هي أنه يوجد إخباران متعاكسان أحدهما مندكّ في الآخر؛ إخبار بمقتضى ظاهر اللفظ - بظهور أولي - أنه بطل، وإخبار آخر بمقتضى الباطن وجوهر اللفظ - بظهور ثانوي - بأنه ليس ببطل، فهو إثبات متضمن نفياً، والإثبات ظاهري، والنفي باطني حقيقي.وبتعبير

آخر: إنه بحسب الإرادة الجدية المستقرة نفي، لكنّه بحسب الإرادة الجدية غير المستقرة(1) إثبات، ولذا صح وصفه بالصدق أو الكذب بلحاظهما هذا.

هذا ولكن التحقيق هو: وجود إخبارين، وإنشاء واحد، في مثل قوله للآخر: (أنت بطل حقاً)، مستهزئاً به؛ أما الإخباران فكما سبق، وأما الإنشاء فهو إيجاده الهزل بهذا الكلام نفسه، وعلى أي فإن قوله: (إنشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض)، غير صحيح؛ إذ ههنا يوجد إنشاء الهزل لا مجرد داعي الهزل، كما يوجد إنشاء أركان القضية أي إنشاء المعاني، كما أن الظاهر أنه يقصد الحكاية عن الواقع لكن بمفاد عكس كلامه، وبعض هذا هو ما ضمناه في الجواب الآتي.

المناقشة الثانية: الإنشاء إيجاد الهزل، لا إيجاد المعنى بداعي الهزل

تتضح المناقشة ببيان الفرق بين: (جاء زيد) و(جئني بزيد)، فإن المعروف هو أن الأول إخبار وحكاية لوحظت فيه الجنبة المرآتية، وأما الثاني فهو إنشاء وإيجاد للطلب.

ص: 220


1- أي التي لم يبنِ عليها.

ولكنّ ما هو معروف ليس بدقيق، وحقيقة الأمر هي أنّ في الإنشاء إيجادين(1)، وفي الإخبار إيجاداً واحداً وإخباراً؛ أما في الإخبار عندما نقول: (جاء زيد) فإننا بهذا الإخبار عن الخارج نوجد في ذهن السامع الموضوعَ والمحمولَ والنسبةَ تصوراً، وقد نوجد الإذعان بالنسبة أيضاً لديه.

وبتعبير آخر: يوجد لدينا عالمان؛ عالم الخارج، واللفظ يحكي عنه، وعالم الذهن، ولفظ (جاء زيد) يوجِد فيه تصوّر المعنى وأركان القضية، وقد يوجد كذلك التصديق والإذعان بالنسبة.

وبتعبير ثالث: إنّ المتكلم بحكايته عن الخارج أراد أن يوجد في ذهن المتلقي شيئاً، إذاً هنا إخبار وإيجاد معاً، وأما في الإنشاء فإنه يوجد - إضافة إلى ذلك - إنشاء الطلب أيضاً، وفي قوله: (أنت بطل حقاً) مستهزئاً يكون قد أوجد الهزل بنفس هذا الكلام، لا أنه أوجد المعنى بداعي الهزل؛ لأن ايجاد المعنى - الموضوع والمحمول والنسبة - متحقق في كل من الإخبار والإنشاء.

تحقيق لإجلاء حقيقة الاخبار والإنشاء

اشارة

إن التحليل الدقيق لحقيقة الإخبار والإنشاء، يكشف لنا غير ما يظهر من النظر البدوي الذي بنى عليه المشهور.

وإجماله: إن ما ذكره البلاغيون والأصوليون من أن الإخبار يجري فيه الصدق والكذب، أي أنه يوصف بهما، والإنشاء لا يحتمل فيه ذلك ولا يوصف بأي منهما، كلام بدوي بالنظرة الأولى وبلحاظ المصب الأولي، إذ إننا مع التعمق والتدقيق سنجد ما هو أكثر من ذلك وهو: إن الإخبار يتضمن الإيجاد أيضاً، لا أنّ الإنشاء فقط إيجاد، كما سنجد أيضاً إن الإنشاء يتضمن الإخبار.

ص: 221


1- وقد يكون إخباران كما سبق.

وعليه - وهنا الدقة -: يمكن وصف كل منهما بالصدق والكذب بلحاظٍ، كما إن كلاً منهما لا يمكن وصفه بهما بلحاظ آخر، من غير تناف ولا تناقض؛ إذ الأمر دائر مدار اللحاظ، فالخبر بلحاظٍ يمكن وصفه بهما، وبلحاظٍ آخر لا يمكن وصفه بهما، وكذا الإنشاء.

أ- في الإخبار إيجاد وحكاية

بيان ذلك: إننا عندما نقول (جاء زيد) فلدينا إيجاد وإخبار:

أما الإخبار فواضح؛ إذ هو الحكاية عن الخارج فلو طابق فصدق وإلا فكذب.

وأما الإيجاد: فهو إيجاد أركان القضية في ذهن المتلقي، فانه قبل قول (جاء زيد)، لم يكن هذا المعنى منتقشاً وموجوداً في ذهن الآخر، أي لم يكن يوجد في ذهنه موضوع ولا محمول ولا نسبة، وبقول القائل: (جاء زيد) أوجد ذلك كله في ذهنه.

وعليه: فالخبر موجِد لمعنى ذهناً، وحاك عن شيء خارجاً، ففيه جهتان.

ويتفرع على ذلك: إن الخبر بلحاظ إيجاده المعنى في الذهن لا يوصف بالصدق والكذب فلو أخبر أحدهم بكلام للشيخ الطوسي (رحمه الله) وأوجده في الذهن، فمن هذه الجهة لا يصح أن يقال لهذا الإيجاد ولا للمعنى المنطبع في الذهن بلحاظ موجَديته ب: (إنه صدق أو كذب)؛ لأن الايجاد لا يحتمل ذلك، نعم بلحاظ حكاية المعنى ومرآتيته عن الواقع فهو محل الصدق والكذب.والحاصل: إنه لا يصح أن نصف الإخبار بلحاظ جهة إيجاده أمراً في عالم الذهن بصادق ولا بكاذب.

ص: 222

ب - في الإنشاء إيجادان وحكاية

وأما الإنشاء: ففيه إيجادان وإخبار(1)، وقد يوجد فيه إخباران.

الايجاد والإنشاء الأول هو: الطلب في مثل الأمر.

والايجاد الثاني هو: ايجاد أركان القضية في صقع نفس الطرف الآخر، فلو قال: (جئني بزيد)، فإن المتكلم قد أوجد أولاً الطلب في عالمه، ولم يكن موجوداً قبله(2)،كما أوجد ثانياً أركان القضية في ذهن المتكلم كما هو الحال في الإخبار(3).

إذاً: فالمتكلم في الإنشاء أوجد الطلب خارجاً(4) وأوجد المعنى ذهنا فهناك إيجادان.

وعليه: فالإنشاء يشترك مع الإخبار في إيجاد التصور لأركان القضية والنسبة في الذهن، كما أنه قد يوجد التصديق أيضاً والإذعان، أي أنه علة ناقصة لحصوله لا تامة.

الإنشاء قد يتضمن او يستلزم إخباراً

هذا بالنسبة إلى الايجادين، أما الإخبار والحكاية في الإنشاء فنقول: إن الإنشاء يتضمن إخباراً أو يستلزمه أو يكون ملزومه(5)، فقد يكون هذا الإخبار مدلولاً عليه ببرهان الإن، وقد يكون متضمناً في الكلام، فإنه عندما يقول: (جئني بزيد) فإن هذا

ص: 223


1- وذلك خلاف المعروف والمشهور ، ولكن التدبر يسوق إليه لا محالة.
2- وهذه هي نقطة تميز الإنشاء عن الإخبار حيث ايجاد الطلب فهي دونه.
3- فقد أوجد مفهوم الطلب كما أوجد متعلقه في الذهن إذ الطلب ليس بلا متعلق بالبداهة.
4- أي في عالم الاعتبار.
5- بل لا يخلو إنشاء من إخبار سابق رتبة عليه.

الكلام له ملزوم خبري وهو أن مجيء زيد مطلوب للمتكلم، وأما عكسه(1) فإنه هو المحتاج إلى قرينة، وفي كلتا الحالتين؛ هناك إخبار متضمن، وقد سبق أن في مثل الكلام - مستهزئاً أو هازلاً - قد يوجد إخباران أيضاً.

تحليل تطبيقي لجملة (ليتك كنت تقياً)

ويتضح ذلك أكثر بالمثال الآتي: وهو ما لو قال أحدهم لآخر: (ليتك كنت تقياً)، والتمني كما هو واضح من مصاديق الإنشاء، وبحسب الكلام البدوي الذي ذكروه فإن التمني إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب.

ولكن التحقيق هو: إن في هذه الجملة ثلاثة أمور:

أ - إنشاء التمني نفسه وإيجاده في عالمه.

ب - إيجاد تصور الأركان الثلاثة للقضية في ذهن المخاطب والمتلقي.

ج - الإخبار عن عدم تقوى ذلك الشخص، وهذا منكشف بالبرهان الإني انتقالاً من المعلول - أي التمني - إلى العلة - وهي أنه ليس بمتقٍ -، أي حيث اعتقد أنه ليس بمتقٍ وحيث إنه ليس، تمنى أن يكون متقياً.

إذاً: ففي الإنشاء هناك خبر عن واقع، وإنشاء لاعتبار مترتب عليه.

ويدلك على ذلك: أن المقول في حقه ذلك القول قد ينتفض غضباً من اتهامه بأنه ليس بمتقي، ولو لم يكن هنا إلا إنشاء التمني لما كان هناك وجه للغضب أو رميه بأنه متّهِم له إذ تمني الخير له حسن، نعم لتضمنه الدلالة على أن المتكلم يرى استحالة حصوله له فإنه إخبار من هذه الجهة أيضاً.والمتحصل: إن الإنشاء بجهة إخباره يحتمل الصدق والكذب.

ص: 224


1- أي كونه ليس مطلوباً للمتكلم وإنما أمر بذلك لوجه آخر ولداع آخر.

موطن الإشكال في كلام السيد الخوئي (رحمه الله)

وهنا نتوقف عما قاله السيد الخوئي (رحمه الله) وهو(1): (بحيث يقصد المتكلم إنشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض) فههنا موطن الإشكال؛ إذ إنه يصرح بأن المتكلم أنشأ بعض المعاني، ولكن ذلك هو قاسم مشترك بين الإخبار والإنشاء؛ إذ في كليهما ينشِئ ويوجد تلك المعاني في عالم الذهن، وأما الداعي فليس دخيلا في حقيقة الإنشاء والإخبار(2).

والخلاصة: أنّ هناك خلطاً بين إيجاد المعنى في الذهن وبين إنشاء الاعتبار في الخارج(3)، فإن الإنشاء والإيجاد للاعتبار هو الذي يفترق به الإنشاء عن حقيقة الإخبار، وقد سبق قولنا: لكن نقول إن الإنشاء ليس هو مجرد إيجاد معنى للفظ فإن ذلك متحقق في الإخبار أيضاً، والإخبار والإنشاء من هذه الجهة على حد سواء، بل الفرق هو إيجاد الاعتبار إضافة للمعنى وعدمه.

وبذلك ظهر أنه كان ينبغي أن تكون عبارة السيد الخوئي (رحمه الله) - بناءً على ما ذكرناه -:

(بحيث يقصد المتكلم إنشاء الهزل(4) إضافة لإنشاء وإيجاد بعض المعاني(5) ، كما ظهر أن الصحيح أن يقال(6): (كون الشيء مصداقاً للهزل ليس بالداعي(7)، بل بإنشاء الهزل) فإن الإخبار كذلك قد يكون بداعي الهزل - وهذا

ص: 225


1- مصباح الفقاهة: ج1 ص389.
2- فلا يصلح مميزاً هو الآخر.
3- أو إبرازه.
4- أو فقل إنشاء الاعتبار.
5- وهي متعلق الطلب في أكرم زيداً أي الإكرام.
6- بدل قوله: (وقد يكون الكلام بنفسه مصداقاً للهزل...).
7- أي ليس بإنشاء بعض المعاني بداعي الهزل.

جواب نقضي -، فإنه عندما يخبر شخص عن آخر بخبر ما قاصداً الحكاية عن الواقع بداعي الهزل، فإنه ليس بإنشاء،والحكاية لم تتحول إلى إنشاء بمجرد تغير الداعي، كما لو قال أحدهم: (أتمنى أن أصبح عالماً) مخبراً عن كامن رغبته فهو خبر، وليس بإنشاء، وإن كان بداعي التمني.

والحاصل: إن الهزل نفسه ينبغي أن يكون مُنشأً، ولا يكفي أن يكون داعياً، ويظهر ذلك: بملاحظة نظيره وهو كون الأمر مصداقاً للطلب، فإنه بإنشاء الطلب، لا بكون الطلب هو الداعي، ولا بإيجاد المعنى فقط(1).

مزيد تحقيق: إنّ في القضايا دلالة وإرادة وحكاية

اشارة

وهنا مزيد تحقيق وتفصيل، ومنه يظهر وجه إشكال على كلا الوجهين: من الخروج الموضوعي والانصراف(2)، وتحقيق لبحث منطقي من جهة، وبلاغي وأصولي من جهة أخرى، إذ يتعلق بكل من الإرادة والدلالة، فنقول:

إن من المعروف في علم الأصول أن هناك نوعين من الإرادة؛ الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية(3)، وذلك من المبادئ التصديقية لعلم الأصول.

كما أن المطروح في المنطق هو: إن دلالة اللفظ على معناه؛ إما أن تكون ذاتية تكوينية، وإما أن تكون وضعية، وقد عبر بعضهم بالدلالة العقلية والطبعية واللفظية، ويمكن إرجاع الأولين إلى الذاتية بنحو العلية أو الاقتضاء، وسندمج البحثين مع بعض الإضافات والتطوير، كي نصل إلى النتيجة الأصح فيما نتصور، فنقول:

ص: 226


1- فلاحظ الفرق بين قولك (أنشأت الطلب بأكرم) وهو الصحيح وبين قولك (أنشأت الإكرام - وهو بعض المعاني الذي ذكره - بداعي الطلب، بأكرم) وهو خطأ.
2- فقد ذكرنا سابقاً هذا الوجه لكن من دون توجيه الإشكال عليه.
3- وقد اختلفت الكلمات في تعريف الإرادتين، كما فصلناه في بعض المباحث.

إن في كل كلام توجد دلالة وإرادة وحكاية(1):

1. الدلالة

فإن كل كلام غير مهمل فإنه دال على معناه، ودلالة الألفاظ على معانيها غير مرتهنة بالقصد ولا بالإرادة، سواء قلنا بأن الألفاظ تدل على المعاني بذاتها(2)، أم قلنا بأن الدلالة هي بالوضع والجعل والاعتبار، وإن لفظ (جدار) مثلاً قد وضع لمسماه بوضع تعيني أو تعييني، ثم بعد ذلك حصلت العلقة بين اللفظ والمعنى وبها ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى وان لم يكن اللافظ قاصداً مريداً.

وهذه هي المسماة تارة: بالدلالة التصورية، وأخرى: بالإرادة الاستعمالية في بعض الكلمات.

2. إرادات ثلاث

كما أن كلام صادر عن المتكلم الملتفت(3)، فإنه أمارة على وجود إرادات ثلاث:

أ - إرادة إيجاد المفهوم في ذهن الطرف الآخر، وإن شئت قلت: إرادة إيجاد المعنى والتصور لأركان القضية في ذهن السامع.

ب - إرادة إيجاد التصديق، وذلك إن الإنسان عندما يتكلم فهو يريد أن يصدِّق الطرف الآخر بمضمون كلامه، أي إنه يريد إذعانه بالنسبة الحكمية بعد تصورها.

ص: 227


1- وكل ما سنذكره هو مقدمة ضرورية لفرز العناوين الستة الآتية المتداخلة، كما أن كل قيد من القيود يفرز به بين العناوين المختلفة تمهيداً للتميز أخيرا بين الكذب جداً وهزلاً.
2- وكون الدلالة ذاتية وإن الألفاظ بطبعها تدل على المعاني ليس بمنصور.
3- سواء أكان الكلام إخبارياً أم إنشائياً.

ج - إرادة تصديق السامع بتصديق المتكلم لمفاد كلامه، وأنه بدوره مذعن بمطابقة مضمون كلامه للواقع

والحاصل: إننا عندما نتكلم مع غيرنا، فمرادنا هو أن يتصور المضمون، وأن يصدِّق به ويذعن، وأيضاً - كأصل ارتكازي - أن يصدّق السامع بأن المتكلم مصدق ومعتقد بما يقول.

3. الحكاية

إذ في كل كلام حتى الإنشاء، هناك حكاية عن أمرٍ أو حكايتان، كما مضى أيضاً.

استعراض لعناوين ستة و توفر الامور الثلاثة فيها

اشارة

وهناك عناوين ستة لا بد من تحديد الفوارق بينها، حتى يتنقح موضوع المسألة، وموطن الصدق والكذب أو الحكم بالحرمة في المقام، كما سينفع ذلك في تحقيق حال الموّري والمتقي والمعلم، وهذه العناوين هي:

1 النائم 2 - الغالط 3 - المعلم 4 - المورّي 5 - الكاذب جداً 6 - الكاذب هزلاً

ومن خلال التحقيق الآتي، سيظهر لنا سر اختلاف الفقهاء بشدة موضوعاً أو حكماً في مثل التورية والكذب هزلاً.

العنوان الأول: النائم

أما النائم، فإنه لو قال: (زيد قائم)، فإن الدلالة ستحصل في ذهن السامع - سواء قلنا بكونها ذاتية أم وضعية -؛ لبداهة انتقال ذهن السامع العالم بالوضع

ص: 228

من اللفظ إلى المعنى، ولكن لا توجد للنائم أية إرادة من الإرادات الثلاث؛ إيجاد التصور والتصديق ولا التصديق بالتصديق في ذهن السامع، حيث إنه لا قصد للنائم ولا إرادة له، كما أنه لا حكاية في المقام بلحاظ الفاعل والمخبر، وإن وجدت بلحاظ الخبر - وهو الكلام نفسه - كما سبق.

العنوان الثاني: الغالط

وأما الغالط، فإن الدلالة التصورية لكلماته موجودة؛ فإن المعنى لا محالة ينتقش في ذهن السامع لو تكلم به الغالط، والدلالة التصورية قاسم مشترك بين العناوين الستة.

وأما الإرادات الثلاث، فهي كذلك موجودة، وإن كان مصبها خاطئاً؛ فإن الغالط قاصد ومريد للأمور الثلاثة؛ إذ إنه يريد إيجاد التصور والتصديق والتصديق بالتصديق، إلا أن الخطأ هو في التعبير عما قصده بما تلفظ به، أو إن شئت فقل: الخطأ في التطبيق.

كما أن الحكاية الخبرية متحققة، وأما الحكاية المخبرية ففيها الخطأ في التطبيق كسابقتها.

العنوان الثالث: المعلِّم

وأما المعلم في مقام التعليم، فلا ريب في تحقق الدلالة التصورية، فإن المعلم عندما يقول: (زيد قائم) فإن انتقاش المعنى في الذهن لا غبار عليه.

وأما الإرادات الثلاث، فإن الأولى متحققة دون الأخيرتين؛ لأن المعلم يريد إيجاد تصور القضية من موضوعها ومحمولها ونسبتها الحكمية في ذهن المخاطب، ولكن الإرادتين الأخريين غير موجودتين؛ فإن المعلم لا يريد تصديق التلميذ وإذعانه

ص: 229

بالنسبة الحكمية، كما لا يريد تصديق التلميذ بتصديقه - أي المعلم - لها.

أما الحكاية، فلا حكاية لكلامه في المقام؛ وذلك أن المعلم عندما يتكلم بهذه الجملة فإنه ينظر بنحو الموضوعية إلى اللفظ، فلا يلاحظ مرآتية اللفظ وكونه طريقاً إلى الخارج، ولا توجد جنبة الحكاية في كلامه وبالتالي فليس هو بحاك، نعم له أن يحكي أيضاً، بأن يختار من الأمثلة ما تفيد بمضمونها الطالب، فيكون معلماً للعلة المادية والمضمون، وللعلة الصورية وأحكامها في الوقت نفسه، وذلك كأن يمثل للمبتدأ والخبر ب(التسلسل محال)، أو (الإحسان فضيلة)، ليفيد هذا المطلب أيضاً.

العنوان الرابع: المورّي

العنوان الرابع: المورّي(1)

وأما الموري، فإن دلالة اللفظ الذي ورّى به عن معنى آخر على المعنى موجودة؛ لكونها - كما مضى - الجامع المشترك لكل العناوين الستة، وهذا مما لا إشكال فيه.

وأما الإرادات، فهي موجودة بأجمعها؛ وذلك أن المورّي أراد إيجاد التصور في ذهن الآخر، كما أراد تصديق السامع بالمضمون، وكذلك أراد تصديق الشخص بتصديقه - أي الموري - بذلك المضمون.كما أنّ الحكاية ثابتة في المقام، إلا أن المشكلة في أن قصد الموري لم يتطابق مع المعنى الذي أحضره إلى ذهن السامع وأراد أن يصدق به، أي أن القصد لم يطابق الدلالة والإرادة والحكاية(2)، ولذلك ذكرنا فيما مضى: إنه قد يقال: بأن

ص: 230


1- ومبحث التورية دقيق جدا وفيه معركة الآراء بين الفقهاء، وسر ذلك يكمن في تحليل حقيقتها وقد حققنا ذلك في كتاب (المعاريض والتورية) كما سيأتي بعض البحث عنها بإذن الله تعالى.
2- أو فقل: ههنا - في الموري - إرادة أخرى رابعة.

معيار الصدق والكذب هو القصد، وقد مضت مناقشته في الوجه الثالث.

ومن الأمثلة على التورية: قوله تعالى: «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ»(1) و«فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ»(2)(3)، وكذا لو جاء شخص وطرق الباب وسأل عن ربّ الدار وكان موجوداً فعلاً فأجيب بنحو التورية بأنه ليس هنا - أي في هذه الزاوية أو النقطة الخاصة - فإن المشهور ارتأوا عدم حرمة التورية، ولكن هل هي كذب موضوعاً ولكنه ليس بحرام، أي أنه كذب جائز (بل قد يكون واجباً)؟ هذا رأي، والرأي الآخر أنها ليس بكذب موضوعاً وهي خارجة تخصصا عنه.

العنوان الخامس والسادس: الكاذب جداً والكاذب هزلاً

أما الكاذب الجاد، فلا ريب في دلالة ألفاظه على معانيها في مرحلة الدلالة التصورية، كما أن الظاهر تحقق الارادات الثلاث؛ لأن الكاذب جداً يقصد خداع الطرف المقابل، أي أن الكاذب في مقام الجد يريد إيجاد المعنى في ذهن المقابل، كما يريد تصديقه بالمحتوى، وكذلك تصديقه بتصديقه هو، أما الحكاية فهي موجودة أيضاً، لكنها حيث كانت غير مطابقة للواقع كانت كذباً فهو حرام دون ريب.

وأما الكاذب الهازل؛ فإنه عندما يقول للغبي مثلاً: (أنت ذكي حقاً)، في مقام الاستهزاء أو المزاح أو الهزل، فإن الدلالة التصورية متحققة موجودة.أما الإرادات الثلاث، فإن الأولى منها موجودة أيضاً، ولكن الإرادتين الأخريين ليستا متحققتين؛ لأن الهازل أقام القرينة على هزله - بحسب الفرض - فلا يريد أن يصدق السامعون بالفعل أن مخاطبه ذكي، كما لا يريد أن يصدقوا

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 63.
2- سورة الصافات: 89.
3- على بحث في الآيتين الكريمتين.

بأنه - أي المتكلم - مصدق بما يقوله.

وأمّا جهة الحكاية في مثل: (أنت ذكي)، فقد أشرنا إلى: أنّ هناك حكايتين متعاكستين؛ حكاية ظاهرية بإثبات الذكاء، وحكاية واقعية بالنفي، وقد سبق: أن مقياس الصدق والكذب ليس الإرادة؛ فإنها فعل أو صفة والمنشَأ بها موجَد، فلا مجال لتوهم وصفها أو معلولها بالصدق والكذب، ولكن مدارهما على الحكاية، والذي يقول (أنت ذكي) لمن ليس كذلك - ممازحاً أو مستهزئاً -، فإنه قد جمع بين حكايتين ظاهرية وواقعية، فإن جعلنا الملاك في الصدق والكذب الحكاية الظاهرية فهو كاذب، وإن جعلنا الملاك كلتا الحكايتين - أي مجموعهما - فكاذب أيضاً، وإلا فهو صادق، كما أنه إن جعلناه إحدى الحكايتين على سبيل البدل، كان صادقاً من جهة، وكاذباً من جهة أخرى.

القول الرابع: المدار على ذكر القرينة وعدمه، وأدلته

اشارة

القول الرابع: ذهب السيد الوالد (رحمه الله) إلى تفصيل آخر في المسالة فقال: (والهزل ليس بكذب حتى في غير الإنشاء إذا كانت قرينته، أما في الإنشاء فلخروجه موضوعاً مع القرينة(1) وأما في الإخبار فلخروجه حكماً)(2).

وحاصله: إنه لا فرق بين الإخبار والإنشاء، بل المدار على نصب القرينة وعدمها، فلو نصب المتكلم القرينة على المزاح فهو ليس بمحرم إنشاءً كان أم إخباراً، والخروج إما موضوعاً أو حكماً بنظره. ولو لم ينصب القرينة فهو حرام وإن كان إنشاءً.

وهناك وجهان يمكن أن يذكرا كدليل لهذا التفصيل غير ما ذكره (رحمه الله):

ص: 232


1- أي القرينة على أنه إنشاء.
2- الفقه المكاسب المحرمة: ج2 ص34.
الدليل الأول: التدبر في تعريف الكذب

إن دعوى: (إن الإخبار - كالإنشاء - في عدم حرمته عند قيام قرينة متصلة على أنه مزاح) تستفاد من تعريف الكذب وهو: (عدم مطابقة القول للواقع)، فإن المراد من القول ليس القول بما هو هو، بل المراد هو مجموع ما قيل بما احتف واكتنف به من القرائن الموضحة والدالة على المراد الجدي، فلو قال أحدهم: (زيد نائم الآن) فإن قيد (الآن) قرينة داخلة في القول، أي معها يكون القول قولاً، أو قال آخر: (زيد قائم بأمرك) فالحال كذلك، ووجه المعنى متغير في العبارتين ببركة القرينة كما هو واضح.

إذاً فحقيقة الخبر هي القول مع كل مكتنفاته من القرائن لفظية كانت أو غيرها.

وحينئذٍ: لو أقام المتكلم قرينة على أن كلامه مزاح، لم يصدقْ عليه أنه غير مطابق للواقع؛ فإن الملاحظ ليس فقط لفظ المزاح، وإنما المكتنفات أيضاً، وبلحاظها يكون للفظ معنى آخر فيكون مطابقاً للواقع بلحاظها أو لا يكون كذباً(1).

وبعبارة أخرى: إن المدار في الصدق والكذب على الإرادة الجدية لا الاستعمالية، واللفظ بمكتنفاته هو الدال على الجدية، فحيث لم يرد الاستعمالية لم يكن كاذباً، لكن هذا يقتضي التعميم للقرينة المنفصلة أيضاً، وفيه تفصيل، فتدبر.

الدليل الثاني: الكذب في الإنشاء لدلالته الالتزامية

إن الإنشاء لو لم تَقُم قرينة على أنه هزلي، يكون كذباً بلحاظ الدلالة

ص: 233


1- سيأتي وجه الترديد.

الالتزامية، وهي إخبار(1) فتكون كاذبة إن لم تطابق الواقع، وتوضيحه:

الكذب والصدق يطلقان على لازم الإنشاء

إن الإنشاء لو استلزم إخباراً، فإن الظاهر أنه يصح إطلاق الصدق أو الكذب عليه بلحاظ لازمه فيقع البحث بعد ذلك في أن الكذب الإنشائي لو كان هزلاً فهل هو جائز أو لا؟وقد اختلف الأعلام في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الكذب يجري في الإنشاء بلحاظ لازمه أو ملزومه، كما يجري في الإخبار بخلاف بعض آخر.

وممن ذهب إلى جريانهما فيه الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) قال: (وهو - أي الكذب - وإن كان من صفات الخبر يجري حكمه في الإنشاء المنبئ عنه مع قصد الإفادة كمدح المذموم وذم الممدوح وتمني المكاره وترجي غير المتوقع وإيجاب غير الموجب وندب غير النادب ووعد غير العازم إلى غير ذلك مما يلزمه الإغراء بالجهل)(2) انتهى.

ووجه ذلك واضح؛ لأن مصب الكذب والصدق هو الخبر، وهو تارة يكون في الدلالة المطابقية، وتارة في الدلالة الالتزامية، والإنشاء إذا كان ملزومه أو لازمه الخبر كان له حكمهُ بلحاظه.

ولكن قد يتأمل في القيد المذكور في آخر كلامه وهو قوله: (مما يلزمه الإغراء بالجهل) حيث لا حاجة إليه؛ إذ الكذب بنفسه عنوان محرم، والإغراء بالجهل عنوان آخر، وليست حرمة الكذب مرتهنة به لإطلاق مثل (اجتنبوا قول الزور) وغيره.

ص: 234


1- فإن الإنشاء بلحاظ دلالته المطابقية لا يمكن وصفه بالصدق أو الكذب، إنما ذلك بلحاظ الالتزامية منه.
2- شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء: ص 54

مورد مستثنى من جواز الهزل: الهزل ممن هو خلاف شأنه

ثم إن السيد الوالد (رحمه الله) وإن كان يرى أن الكذب المزاحي مع القرينة جائز مطلقاً، إلا أنه استثنى من ذلك: الهزل ممن هو خلاف شأنه فقال: (نعم لا إشكال في حرمة الكذب هزلاً بالنسبة إلى من هو خلاف شأنه مثل المعصومين % حتى إذا كان من قسم الإنشاء. فتأمل)(1).

ونضيف: أو مرجع التقليد أو من أشبه، فإن الكذب من هؤلاء هزلاً هو مما لا يتناسب ومقامهم، وعليه فقد استثنى من عموم الجواز هذه الصورة وإن أقام المتكلم القرينة في ذلك، وإن ذيّله بقوله: (فتأمل) ولعل وجهه: إنه خروج عن البحث وكون الحرمة لعنوانٍ آخر.

إخراج النكتة واللطيفة من الهزل موضوعاً

كما اعتبر السيد الوالد (رحمه الله) ما يعدّ في العرف لطيفة - أو نكتة - خارجاً موضوعاً عن الهزل فهو جائز، حتى بناءً على تحريم الكذب المزاحي والهزلي، ومثّل (رحمه الله) لذلك(2) بما صنعه النبي (صلی الله علیه و آله) في الحادثة المنقولة من أكله التمر مع علي (علیه السلام) ومزاحهما(3)،فما ذكره أمير المؤمنين (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) وكذا ما ذكره

ص: 235


1- من فقه الزهراء (علیها السلام): ج2 ص302.
2- من فقه الزهراء (علیها السلام): ج2 ص302.
3- وذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام)كانا - حسب المنقول - يأكلان التمر، وكان أمير المؤمنين يحاول أن يلاطف النبي (صلی الله علیه و آله) فعندما يأكل التمر يأخذ النوى بيده وينتظر لحظة حتى يلتفت النبي (صلی الله علیه و آله) إلى جهة ما فيضع النواة أمامه حتى اجتمع الكثير من النوى إمام النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) بينما لم يبق أمام الإمام (علیه السلام) شيء أو إلا القليل منه, وهنا لاطف أمير المؤمنين (علیه السلام) النبي (صلی الله علیه و آله) بالكناية عن أنه ربما أكل كثيراً! فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إن الجائع أكثر هو من أكل التمر بنواته!!

النبي له ليس بكذب عرفاً(1).

إجمال الرأي المنصور في المقام

هذا، ولكن الرأي المنصور على ما يقتضيه التحقيق، هو التفصيل في جواز الكذب الهزلي وحرمته بين صور خمسة، يختص الجواز بالصورة الخامسة فقط دون الأربعة الأول فإنها تشمله أدلة الحرمة، فيكون الكذب الهزلي محرماً فيها، ووجه الجواز في الصورة الخامسة: أما دعوى كونها خارجة عن الكذب موضوعاً، أو بدعوى انصراف أدلة الحرمة عنه لو لم يقل بالخروج التخصصي، كما أن الجواز في الصورة الخامسة مقيد بما إذا لم تكنالمادة من القوة بحيث تكون هي الغالبة، وإلا إن غلبت فتكون هذه الصورة أيضاً محكومة بالحرمة، هذا على نحو الإجمال.

بيان الرأي المنصور: الصور الخمسة في مجمع العنوانين

أما تفصيل ذلك: فيعتمد على بيان كبرى كلية ثم يجري تطبيقها على المقام فنقول: لو اجتمع عنوانان في شيء واحد، نظير عنوان الكذب وعنوان الهزل في الكذب الهزلي فكان المصداق مجمع العنوانين(2) - وقد سبق أن النسبة بينهما من وجه - فهنا صور:

الصورة الأولى: قد يُقصدان ثبوتاً، ويُدلّ على العنوانين بنحو التشريك

ص: 236


1- فإن النبي قد ذكر كبرى كلية وهذه بلحاظ لطافتها تنطبق على المورد.
2- ونظير عنوان صلة الرحم وعنوان إكرام العالم إذا اجتمعا في الرحم العالم، وعكسه لو كان العالم فاسقاً مع ورود أهن الفاسق واسمه العالم، فلو أهانه فتارة لأنه فاسق وأخرى لأنه عالم، وثالثة لأنه مجمع العنوانين تشريكاً أو تغليباً، وكل ذلك مع إقامة قرينة على مقصوده وعدمها ومع الظهور العرفي في أحد المحتملات وعدمه.

ببركة القرينة إثباتاً، أو مع تحقق ظهور عرفي على ذلك.

الصورة الثانية والثالثة: هي الصورة الأولى نفسها ولكن بنحو تغليب لأحد الطرفين على الآخر، فإما أن يغلب عنوانُ الكذب عنوانَ الهزل، وإما أن يكون العكس، ولكن من غير اضمحلال أو اندكاك أو استهلاك لأحدهما بالآخر، كما لو كان قصد الكذب ثمانين بالمائة وقصد الهزل عشرين بالمائة، فيكون قصد الجد أشبه بالتلويح، أو العكس.

وبتعبير آخر: كلاهما مقصود مدلول عليه لكن لا بالتساوي.الصورة الرابعة والخامسة: الصورة بحالها مع استهلاك أحدهما واندكاكه، وبقاء الآخر عرفاً، فإما الهزل مندكّ وإما الكذب مضمحل، وهذه الصورة هي التي نستثنيها وهي منشأ القول بالتفصيل، وقد تلحق بها الصورة الثالثة لكنه غير ظاهر.

أمثلة توضيحية لاندكاك عنوان في اخر

أ- اندكاك الفعل الماضي في المضارع

إن الفعل الماضي الذي قصد به المضارع تجري عليه أحكام المضارع لا الماضي، كقوله تعالى: «أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ»(1)، فأتى فعل ماضٍ قُصِدَ به الاستقبال لتنزيل المستقبل المحقق الوقوع منزلة الماضي، وكذلك قوله تعالى: «إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ»(2) فإن (وقع) فعل ماضٍ، ولكن وكما هو معلوم فإن الجملة الشرطية إذا وقع الماضي في مقدمها فإن زمانه ينقلب إلى المضارع في واقعه ومراده، كقولك: (إذا جاء زيد فأكرمه) و(إن ضربتني ضربتك) وذلك لأن هذه

ص: 237


1- سورة النحل: 1.
2- سورة الواقعة: 1.

الأمثلة كنظائرها هي من قبيل الصورة الرابعة، لأن الماضوية اندكت وانحلت في المقصود الذي أقيمت عليه القرينة، ولذا فالأحكام - والمقصود الأحكام المعنوية لا الشكلية من النحوية أو الصرفية وشبهها - ستكون للمضارع لا الماضي.

ب - اندكاك الفعل الإخباري في الإنشاء

وكذلك لو كان الفعل ماضياً ولكن أريد به الإنشاء، فمع أن الفعل الماضي ظاهر في الإخبار، فإنه وبلا شك تترتب عليه أحكام الإنشاء، كما لو قال: (بعت) وهو في مقام إنشاء البيع لا في مقام الإخبار فإنه بقرينة المقام والحال ينشئ الاعتبار في عالمه، ومن البيّن أن أحكام الإنشاء هي السارية ههنا دون أحكام الإخبار؛ وذلك لاندكاك الثاني بالأول واضمحلاله

تطبيق الصور على المقام: التمثيل ب(أنت رجل شجاع)

إن الكاذب هزلاً أو مازحاً(1) قد يكون كاذباً مصب حديثه الكذب ولكن يلوح منه الهزل، وإن كان أضعف لكن من غير اندكاك، وقد ينعكس الأمر فيكون مصب كلامه الهزل ولكن مع التلويح بالكذب، من غير اندكاك كذلك، ويندرج هذان النوعان في الصورة الثانية والثالثة - ما كانت الغلبة لأحد الطرفين -.

وقد يكون الهازل كاذباً ولكن مع الاندكاك - أي اندكاك الكذب في الهزل عرفاً واضمحلاله فيه -، كما في اللطيفة، كما لو أخبرك صديقك بأنه هجم عليه أسد ضارٍ ففر منه مولياً فتعقب على ذلك ملاطفاً وتقول: (أنت حقيقة رجل شجاع)، فهل هذا كذب أو لا؟!

ص: 238


1- يلاحظ أن الكلام في هذه المسألة حول الكذب هزلاً، وفي المسألة اللاحقة حول الكذب مزاحاً، وقد جرى أحياناً في كلتا المسألتين التعبير بالآخر، إما لوجود الأثر المذكور فيها، وإما للتسامح.

الصور الخمسة في مثل (أنت رجل شجاع)

والجواب: إنه في قوله هذا (أنت حقيقة رجل شجاع) فإنه:

تارة يكون الكلام من قبيل الصورة الخامسة - كما هو كذلك كثيراً -، وحكمه إما أن يقال حينئذٍ ب: الخروج الموضوعي لمثل ذلك عن الكذب، وذلك بإحدى الوجوه الأربعة الماضية، وإما - إن لم نقل بذلك - أن يقال: بانصراف أدلة حرمة الكذب هزلاً عنه؛ فهو وإن سلمنا فرضاً كونه كذباً؛ لعدم مطابقة القول فيه للواقع، إلا أنه ليس بحرام للانصراف، وذلك لما فصلناه من أن هذا نحو من كذب الحكاية لكنه ليس على نحو كذب الحاكي، والأدلة منصرفة للثاني بل وعن الأول في صورة الاندكاك.

والحاصل: إنه إما أن لا يلاحظ العرف إلا حال الحاكي دون حال الحكاية بما هي هي، وإما أنه لو لاحظها ووجدها مندكة لما رآها من دائرة الموضوع.وبعبارة أخرى: إذا قال له (أنت حقاً شجاع) قاصداً الملاطفة فإن الكلام وإن كان بحسب الإرادة الاستعمالية الأولية(1) غير مطابق للواقع، إلا أنه بحسب الاستعمالية الثانوية - أي ببركة القرينة الحافة - يفيد العكس، وهو الذي عليه الإرادة الجدية وهو بحسبهما(2) مطابق(3).

وتارة أخرى: يكون قصد المتكلم التشريك؛ بأن يريد كلا المعنيين والعنوانين، كما لو كان من جهة يريد أن يتمازح معه أو يهزل، ولكنه من جهة أخرى كان يريد أيضاً أن يخبر عنه بأنه جبان، ففي هذه الحالة فإنه سواءً أكان

ص: 239


1- أي بلا لحاظ القرينة.
2- الاستعمالية الثانية والجدية.
3- إذ أريد ب(أنت حقا شجاع): أنت حقاً غير شجاع.

التشريك بالنية على قدم المساواة أم على نحو الغلبة لأحدهما على الآخر لكن مع عدم الاضمحلال، فإنه في جميع هذه الصور يعد كاذباً، ولا مانعة جمع بين صدق الكاذب عليه وصدق الهازل أو المازح.

وبعبارة أخرى: قد يكون كل من الكذب والهزل مقصوداً بأن قصد الإخبار وقصد الهزل أيضاً بنحو التشريك، فيكون كل منهما داعياً مستقلاً لصدور هذا الكلام بحيث لو كان أحدهما على سبيل البدل موجودا لانبعث نحوه وذلك مع ظهور الكلام نفسه أو بالقرينة المقالية أو الحالية في كلا الأمرين.

وقد يكون الكذب هو محط النظر والمصب من كلامه ولكن من غير اندكاك لجهة الهزل فيه بحيث يبقى عرفاً(1) مصداقاً للأمرين مع اقوائية كونه مصداق الكذب.

وقد يكون الأمر عكس ذلك ومن غير اندكاك أيضاً.

وقد يكون الكذب هو المقصود والمدلول عليه بظاهر الكلام أو بقرينة مع اضمحلال واندكاك الهزل فيه.والصورة الخامسة هي بعكس الرابعة أيضاً، بأن يكون الهزل هو المقصود وهو الظاهر من الكلام أو القرينة مع اضمحلال الجنبة الإخبارية(2)، ومثاله الأجلى من يقلد الأصوات صرفاً وإن كان فيه اشعار(3) بالكذب، أما من يقلدها بلغة أخرى مع عدم إدراكه المضامين أبداً فإنه ليس مجمع العنوانين، بل هو هازل فقط غير كاذب، فهذه تكون هي الصورة السادسة.

ص: 240


1- بنفسه أو بمعونة القرينة.
2- لا بحيث تكون معدومة دقة بل بحيث تكون أشبه بذلك.
3- المراد بالإشعار هو دون الدلالة والتأييد بل الاضمحلال العرفي.

استثناء الجواز في الصورة الخامسة عند اقوائية ظهور المادة من ظهور القرينة الخارجية

هذا ولكن يجب أن نستثني من صورة الجواز في الصورة الخامسة، ما لو كان للمادة ظهور أقوى من ظهور القرينة الخارجية بحيث يغلب ظهورُها ظهورَ القصد المبرَز بالقرينة، فإن المدار حينئذٍ على المادة لا على القصد وإن اعتضد بالقرينة، حتى لو أقام المتكلم القرينة على أنه هازل، أو في مقام التمثيل كالمعلم، إلا أن المدار على أقوى القرائن المتخالفة فلو كان ظهور المادة أقوى تقدم(1).

أمثلة على اقوائية قرينية المادة

اشارة

وهناك الكثير من الأمثلة على اقوائية ظهور المادة من غيرها، وسنقتصر هنا على أمثلة ثلاث:

المثال الاول: الخبر المختلق (لو سرقت لقطعت يدها)
اشارة

فهو ما يتناقله بعضٌ من الخبر المنسوب إلى الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله): «والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».وهذه الرواية قد سمعتها قبل فترة طويلة(2) من أحد الخطباء، ولكن بالفطرة السليمة استنكرت محتواها واستبعدت كونها صادرة عن معدن الرسالة والعظمة.

نعم قد يتوهم: أنها متلائمة مع قاعدة إن صدق القضية الشرطية غير متوقف على صدق المقدم، بل تصدق حتى مع امتناعه، كما في قوله تعالى: «لَوْ

ص: 241


1- وإن شئت فقل قد يكون ظهور المادة، نوعاً، أقوى من أية قرينة يقيمها المتكلم شخصاً.
2- قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة.

كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1)؛ فمع أن وجود إلهين في الكون مستحيل، إلا إن هذه القضية الشرطية صادقة.

لكن مع ذلك كلّه، فإن من المستبعد صحتها؛ استناداً لقوة المادة، وقبح التعبير عمن هي بضعة الرسول وروحه الذي بين جنبيه، صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، بمثل ذلك.

مناقشة الرواية سنداً ومضموناً

وصفوة القول: أمّا من جهة المضمون فنقول: إنّه وبرغم صحة قاعدة إن صدق الشرطية غير منوط بصدق مقدمها، إلا إنها لا تفيد إلا الإمكان، وأما القبح أو الحسن فليس من نطاقها ولا من منطوقها ومدلولها، وحيث كان مضمون الرواية مستنكراً جداً كان ذلك موهناً لها، والفطرة السليمة تشهد بعدم جريان مثل هذا الكلام على لسان حكيمٍ عن التي طهرها الله في محكم كتابه، فكيف بسيد الحكماء وهو النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)؟!

ويتضح ذلك: بالمثال فإنه لو خاطب شخص عالماً من العلماء الصالحين أو وجيهاً من الوجهاء بقوله: (لو كشفت عورتك في الشارع لضربتك)، كان مثل هذا الكلام قبيحاً، وعُدَّ إهانةً، وإن كانت القضية الشرطية صادقة حتى مع امتناع المقدم فكيف بِبُعده فقط، فإننا نجد في مورد كهذا أن العقلاء يقبّحون ويستنكرون صدور مثل هذا الكلام من الشخص الحكيم، وما ذلك إلا لقوة المادة وشدتها وظلالها السلبية، ونسبة السرقة إلى سيدة النساء المطهرة (علیها السلام) - والعياذ بالله تعالى من ذلك - وإن كانت على نحو القضية الشرطية إلا أنها مستهجنة ومستنكرة جداً،فلا يعقل صدورها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يقول:

ص: 242


1- سورة الأنبياء: 22.

«يا فاطمة إن الله عزوجل يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(1) ولا ممن يقول فيها ويقول ما قال.

والأمر في الاستقباح وعدمه منوط بالفطرة وبقرائن الحال والمقام، ولذا لا نجد قبح القول ب:«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» مع امتناع المقدم، بينما نجد قبح القول (لو أن الرسول (صلی الله علیه و آله) فعل كذا من القبائح...) حتى مع أنه ليس بممتنع ذاتاً وإن امتنع وقوعاً.

وأما من جهة السند: فإننا بعد التتبع والتحقيق ظهر لنا بوضوح أن هذه الرواية مكذوبة موضوعة؛ حيث وردت من طرق العامة وفي مصدر واحد فقط هو سنن النسائي، ولم ترد في مصادر الخاصة(2)، هذا كله إضافة إلى أن السند ينتهي إلى عائشة(3)، والكل يعرف تحسسها الشديد من السيدة الزهراء البتول (علیها السلام)، وهي قرينة حافة واضحة، وبعد هذا كله فهل تبقى حتى رائحة الحجية لمثل هذه الرواية حتى يستدل أو يستشهد بها؟؟

المثال الثاني: فقه رواية «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله...»
اشارة

فهو رواية معروفة مروية من طرق الخاصة فقد وردت في كتاب عيون أخبار الرضا(4) ومعاني الأخبار(5) وفي مصادر أخرى(6) والرواية عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إن فاطمة بنت محمد أحصنت فرجها فحرم

ص: 243


1- بحار الأنوار: ج43 ص20.
2- في أكثر من 1600 مصدر من مصادر الفريقين والتي قمنا بالبحث فيها.
3- وهي فاقدة للوثاقة كالعدالة كما هو بديهي ، بل إن جعلها للأحاديث من الواضحات.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص63.
5- معاني الأخبار: ص106.
6- بحار الأنوار: ج43 ص20، تفسير نور الثقلين: ج5 ص378.

الله ذريتها على النار».ولكن مضمون هذه الرواية غريب؛ وذلك أن كثيراً من النساء قد أحصنّ فرجهن، فهل ذلك يصلح علة - أو حتى حكمة - لكي يحرم الله ذريتهن على النار؟! بل إن مثل هذا الوصف بالنسبة للعفيفة الزكية ليس بفضيلة وربّما عُدّ ذلك نوعاً من الإهانة(1).

والحاصل: إن المادة - لو ابقيت على ظاهرها - قرينة عرفاً على عدم صحة السند والصدور.

وقد يشكل بعضٌ على ذلك بقوله تعالى: «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ»(2) عن السيدة مريم (علیها السلام) فإن مساق الرواية ومصبها هو مصب الآية نفسه، فلم الاستغراب؟!

والجواب هو: بتعميم دائرة الإشكال أولاً، كي تتضح حقيقة الحال، فإن المعنى البدوي والظهور الأولي لهذه الآية غريب؛ إذ الكلام في هذه الآية المباركة ليس عن أناس عاديين حتى تتحدث الآية عن سيدة مطهرة من أناسٍ لا يخطر ببالهم أن يعصوا الله طرفة عين أبدا ولو بمعصية صغيرة فكيف باجتراح هذه الكبيرة المهولة؟ بل إن كثيراً من النساء في البيئات الفاسدة ممن لم يلتزمن بالدين قد أحصن فروجهن ومريم (علیها السلام) كانت في بيئة مباركة، ومع هذا كله فكيف يكون ما ذكر من صفة كرامة كبرى للقديسة العابدة مريم (علیها السلام) بحيث تستحق بها أن ينفخ فيها من روح الله وأن تكون وابنها آية للعالمين؟؟!

ص: 244


1- وذلك كما لو تحدث شخص عن إحدى المخَدَّرَات المعروفات بالعفاف وقال بأنها لا تزني! فإن هذا الكلام يعد إهانة لها.
2- سورة الأنبياء: 91.

والحاصل: إن المادة ظهورها قوي، ومناسبات الحكم والموضوع تنطق بغير الظهور البدوي(1)، فلا بد من استكشاف معنى الآية والرواية والمراد منهما.وقد تتبعنا التفاسير المختلفة فلم نجد الجواب الشافي الذي تطمئن إليه النفس.

تحقيق معنى الرواية على ضوء مادة أحدى مفرداتها

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بما تطمئن إليه النفس ويرفع الإشكال من رأس؛ إذ وجدنا الجواب المفسر الشافي الذي به يتضح معنى الرواية والآية ووجههما من خلال التأمل في معنى كلمة (الفرج) ومعانيها المطروحة في كتب اللغة كمجمع البحرين(2) وغيره، حيث إن أحد معاني هذا اللفظ هو المعنى المعهود، لكنه ليس المعنى الوحيد، فإن الفرج أصله من الانفراج، ومن معانيه: الثغر وهو موضع المخافة، والظاهر: أنّه المراد في الرواية والآية، فإن الفرج - على هذا - يكون هو الموضع الذي يخشى أن يكون مدخلاً لإبليس وشياطينه، كما أن كلاً من الحسد والحقد والغيرة والكبر وغيرها من الرذائل هي ثغور وفروج ومداخل ومسارب للشيطان الرجيم وجنده، فيكون معنى الرواية (وكذا الآية): إن فاطمة (علیها السلام) - أو مريم - أحصنت فرجها، أي أحصنت ثغرها، وسدّت مداخل الشيطان والأهواء إليها، ومنعته من أن يخترق أية زاوية من زوايا وجودها وقلبها، فحرم الله ذريتها على النار - أو جعلها وابنها آية للعالمين -, هذا هو المعنى المراد والمقصود الذي تستحق به المرأة نيل الدرجة والفضيلة العليا لا ذلك المعنى المعهود.

ص: 245


1- نعم قد يكون للقول: (التي أحصنت...) وجه في مريم (علیها السلام) وهو إنهم اتهموها بالزنا - والعياذ بالله تعالى من ذلك - ومع ذلك لا يصلح عفافها عن الزنا سبباً لذلك الأجر العظيم - لكن هذا الوجه ليس بسارٍ و لا جارٍ في سيدة النساء (علیها السلام)؛ إذ لم تكن في معرض التهمة بذلك أبداً.
2- مجمع البحرين: ج2 ص 322 - 323.

والحاصل: إن الإنسان لو ترقى في مدارج الكمال وبلغ قمته فإن ترك الأولى سيُعَدّ بالنسبة إلى مقامه من الذنوب، وهو موضع مخافة عليه؛ ذلك إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.وبتعبير آخر: إن المراد من الآية هو الكناية عن العصمة الإلهية لمن خوطب بها، فتكون مريم القديسة (علیها السلام) هي الطاهرة من كل الجهات بإحصانها المطلق وحفظها نفسها ومواضع المخافة فيها من حبائل الشيطان وأحابيله المختلفة، وكذلك في الرواية: «إِنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَحَرَّمَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهَا عَلَى النَّار»(1).

إذاً فهذا هو المعنى المراد حسب الظاهر، والذي ساقتنا إليه: مناسبة الحكم والموضوع، ودلالة ضعف المادة وقوتها على تحديد المراد منها.

المثال الثالث: الانتقاص من اساطين المذهب

الانتقاص من مثل الشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو الشيخ الكليني أو السيدين الرضي والمرتضى أو العلامة والمحقق الحليّين أو صاحبي الجواهر والمكاسب أو نظائرهم من علمائنا الأبرار (قدس الله أسرارهم) والازدراء بهم أو تسقيطهم، فإنّ ذلك لا يجوز قطعاً فكيف بسبهم أو لعنهم؟ حتى لو كان الشخص في مقام المزاح.

فلو أن شخصاً لعن أحد الفقهاء الأبرار في مقام المزاح، فهل قصده للممازحة وإقامته القرينة على ذلك وكون كلامه معها مصداق المزاح أو الهزل، مسوّغ لفعلته ومبرر لمقالته؟ والجواب: كلا؛ لأن المادة قوية جداً فلا ينفع قصده للمزاح أو الهزل وإقامة القرينة عليه دافعاً لقبح عمله وحرمته.

ص: 246


1- مضى تخريج مصادرها.

وكذلك الحال في المعلم؛ فإنه حتى لو قطع نظره عن الحاكوية الخارجية كأن يقول في مقام تعليم الجملة الاسمية أنها مثل أن تقول: (الشيخ الصدوق كذا أو كذا) ويصفه ببعض قبائح الأفعال، فإنه لا يجوز له ذلك نظراً لقوة المادة وقبحها الشديد إلى درجة تحريم حتى نسبتها مزاحاً أو هزلاً إليه.

والسرّ: إن المذهب الحق بل الدين والشرع قد بني على أكتاف هؤلاء الأوتاد، فلا يجوز هتك حريمهم وانتقاصهم ولو كان ذلك بمثل ذلك المزاح أو التمثيل، بل لا يجوز حتى إثارة علامات الاستفهام عليهم بأي وجه يوجب التشكيك فيهم على الملأ العام مما يولد عادة الشبهات لدى البسطاء من الناس، فإن ذلك حرام شرعاً دون ريب.ومثال آخر أوضح: أن يسب - لا سمح الله - أحدهم النبي (صلی الله علیه و آله) من باب المزاح أو الهزل أو المثال، فإن ذلك حرام قطعاً ولا شك فيه.

وعليه: فإن المادة أحياناً تكون من القوة بحيث تأبى عن أي تفسير وتقاوم أية قرينة أقيمت على المدعى المقابل، فهذا أيضاً مستثنى من جواز الكذب المزاحي على فرض القول به(1).

والخلاصة: إن الصور في المقام خمسٌ، وخامسها: ما لو كان الكذب مندكاً في الهزل ومضمحلاً فيه، فلو لم نقل بخروجه موضوعاً عن الكذب، فإن أدلة الحرمة منصرفة عن هذه الصورة.

ومنها: الرواية الناهية عن الكذب الهزلي إلّا أنّ هذا الانصراف مقيد بغير ما لو كانت المادة من القوة والشدة بحيث تكون مانعة عن الانصراف فيبقى إطلاق حرمة الكذب محكماً ثابتاً، فتأمل(2)..

ص: 247


1- أي بجواز الكذب مزاحاً أو هزلاً.
2- إذ مع قوة المادة لا اندكاك فالاستثناء منفصل فتأمل، إذ قد يفصل بالاندكاك الشخصي دون النوعي أو العكس، وهناك وجه آخر، فتدبر وتأمل.

المسألة الثانية من مستثنيات الكذب: الكذب مزاحاً

اشارة

والروايات الواردة حول الكذب مزاحاً،- وكذا الكذب هزلاً، والشاملة لمجمع العنوانين أو أحدهما مما نسبته مع الآخر عمومٌ من وجه - هي بالعشرات، ولكن الشيخ (رحمه الله)(1) اقتصر على ذكر أربع روايات أو خمس مما ورد فيها لفظ الهزل، ولم يذكر رواية ورد فيها لفظ المزاح، وإن كان بعض إطلاقات الروايات يشملها.

ولذا فمن الجدير بمن أراد التحقيق الأكثر في المسألة، الوقوف عليها والتوقف عندها، وفي المقام - وروماً للاختصار - نتوقف عند روايتين فقط مع الإشارة إلى عناوين طوائف أخرى من الروايات، وهي طوائف عدة:

طوائف الروايات الواردة حول المزاح والهزل

طوائف الروايات الواردة حول المزاح(2) والهزل(3)

الطائفة الأولى: روايات مشيرة إلى المفسدة الدنيوية

الروايات التي تشير إلى المفسدة الدنيوية الكامنة في المزاح أو الهزل، سواء أكان كذباً أم صدقاً، ومورد البحث هو مدى دلالة هذه الطائفة من الروايات

ص: 248


1- كتاب المكاسب: ج2 ص16 - 17.
2- الأعم من كونه كذباً أو صدقاً.
3- فإن بعضها تضمن عنوان الهزل، فيجب أن تضم هذه الروايات إلى ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من الروايات حول الهزل والتي نقلناها في صدر المسألة السابقة فلاحظ.

على الحرمة، وتنقيح ذلك يبتني - فيما يبتني عليه - على تحقيقحال الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية، وأنه لو ذكرت في الرواية مفسدة دنيوية - أو مصلحة - فهل الأمر أو النهي يكون إرشادياً(1) أو يمكن أن يكون الأمر مولوياً أيضاً(2)؟

وبعض روايات هذه الطائفة كالتالي:

الأولى: عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله): «كثرة المزاح تذهب بماء الوجه»(3)، وفي الكافي الشريف عن أحدهما عليهما السلام قال: «كثرة المزاح تذهب بماء الوجه وكثرة الضحك تمج الإيمان مجاً»(4) وهذه الرواية مشيرة إلى مفسدة دنيوية، وتبين مرتبة من مراتب النقص.

الثانية: ما عن الإمام امير المؤمنين (علیه السلام): «إرهب تحذر ولا تهزل فتحتقر»(5).

وهذه الرواية لسانها واضح في جهة ذكر المفسدة الدنيوية وهو الاحتقار(6)، والنهي في الرواية دال على الحرمة، ولكن ذيل الرواية وهو (تحتقر) مما يخل بهذا الظهور عرفاً فيكون ظاهراً في النصح والإرشاد.

والحاصل: إن ظهور (تحتقر) في الإرشادية أقوى من ظهور (لا تهزل) في المولوية.

ص: 249


1- كما ذهب إلى ذلك جمع كثير.
2- كما ذهبنا إلى ذلك وانتخبناه وفصلنا الكلام عنه وعن أدلته وعن الضابط في المولوية والإرشادية في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية)، فقد ذكرنا ضوابط عشرة والمختار منها هو: ما صدر من المولى بما هو مولى مُعمِلا مقام مولويته.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص119.
4- الكافي: ج2 ص 665.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 133.
6- كما إنها لا تشير للمقدمية.

الثالثة: وقال علي (علیه السلام): «من غلب عليه الهزل فسد عقله»(1).

وهل هذه المفسدة تفيد الحرمة أو لا؟الظاهر: العدم؛ فإن فساد العقل على نوعين: محرم وغيره، والرواية لا تفيد إلا المقدمية دون النفسية، وظاهرها الإرشاد.

الرابعة: وعنه (علیه السلام): «مَنْ كَثُرَ مِزَاحُهُ اسْتُحْمِق»(2).

الخامسة: وعنه (علیه السلام): «من كثر مزحه قل وقاره»(3).

الطائفة الثانية روايات لسانها الذم أو التحريم المقدمي

الروايات التي لسانها لسان التحريم المقدمي للهزل أو للمزاح(4) الأعم من الصادق أو الكاذب - وكلامنا حول الكاذب منه طبعاً -، وهذه الطائفة من الروايات لا تفيد الحرمة النفسية، بل تفيد الحرمة المقدمية.

الأولى: قال (علیه السلام): «كثرة الهزل آية الجهل»(5)، والآية العلامة، والجهل مذموم، فلا تدل إلا على الكراهة أو كونه رذيلة.

الثانية: وعنه (علیه السلام): «المزاح يورث الضغائن»(6).

ولا دليل على حرمة الضغينة بما هي هي، اللهم إلا لو أظهرها بما يحرم، أو إذا كانت في شؤون العقائد كما لو كانت تجاه الأنبياء أو الأوصياء في الاختياري منها، وإلا كشفت عن خبث الباطن - أو الكفر أيضاً - فقط، وعلى فرضها فإن

ص: 250


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص 222.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص222.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص615.
4- أو حتى الذم المقدمي.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 527.
6- تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله): ص86.

المقدمات إما أن تكون موصلة أو لا، ومعه فلو كانت الضغينة محرمة و كان المزاح موصلاً لها فهو حرام مقدمي عقلاً أو شرعاً أيضاً - على الخلاف -، وإلا فلا.الثالثة: وقال (علیه السلام): «لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح»(1)،والكلام فيه كسابقه.

الرابعة: وقال (علیه السلام): «احذر الهزل واللعب وكثرة المزاح والضحك والترّهات(2)»(3).

وظاهر أحذر: النصح، وتؤيده قرينة السياق.

الطائفة الثالثة: روايات لسانها نفي الكمال والنقص

الروايات التي لسانها لسان نفي الكمال والنقص والذم، أو التنزيه، لا الحرمة والزجر، مما يدخل بها المزاح والهزل في دائرة الرذائل لا المحرمات.

الأولى: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي لا تمزح فيذهب بهاؤك»(4)، وقد يقال في هذه الرواية - كبعض نظائرها السابقة والآتية - ب: وجود تعارض بين ظهورين؛ فإن (لا تمزح) نهي ظاهر في الحرمة والمولوية، و(يذهب بهاؤك) ظاهر في النقص الأخلاقي والإرشادي، فهل نرفع اليد عن الظهور في الحرمة ببركة الظهور الثاني أو أن المقطع الثاني حكمة أو حتى تعليل بما هو مجرد نقص أو رذيلة؟ وعليها يبقى الظهور الأول؛ إذ الحكمة لا تزحزح ما ظاهره الوجوب عن وجوبه أو الحرمة عن حرمتها.

وكذا وفي هذا المساق أيضاً وردت تتمة الرواية وهي: «ولا تكذب فيذهب

ص: 251


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص543.
2- الترهات الزخرف من القول.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 162.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 355.

نورك»، لكن الظاهر عرفاً من أمثال ذلك الإرشادية، خاصة فيما جرى فيه التعليل بما ليس حراماً بعنوانه.

الثانية: وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الكامل من غلب جده هزله»(1).

واقصى ما تدل عليه: إن الهزل رذيلة؛ للتلازم العرفي بين كونه نقصاً وكونه رذيلة. فتأمل.الثالثة: عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «كَثْرَةُ الْمِزَاحِ تُسْقِطُ الْهَيْبَة»(2)، ولسانها أخلاقي؛ فإن تحصيل الهيبة والحفاظ عليها ليس من الواجبات، وإنما هو من الأمور الحسنة .

الطائفة الرابعة: روايات تفيد حرمة المزاح بعنوانه

وهناك طائفة رابعة من الروايات لعلها تدل على حرمة المزاح بعنوانه، ونقتصر على ذكر إحداها، وهي رواية معتبرة موثقة، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: «المزاح السباب الأصغر»(3)، ونظيرها ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) إنه قال: «إياكم والمزاح فإنه يجر السخيمة(4) ويورث الضغينة(5) وهو السب الأصغر»(6) ولا شك في حرمة السبّ.

وظاهر الرواية أن الإمام (علیه السلام) يعتبر المزاح صغرى لكبرى السباب, وعليه فالمزاح بحسب هذه الرواية محرم مطلقاً.

ص: 252


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 128
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 525.
3- الكافي الشريف: ج2 ص665.
4- وهي من السخمة وهو السواد والمقصود الحقد فكني بالسواد عنه.
5- والضغينة هي مخفف السخيمة لأن ما يورث أضعف عادة.
6- الكافي الشريف: ج2 ص 664

وبتعبير آخر: إنّ الظاهر من الرواية أن السباب الأصغر حمل على طبيعيِّ المزاح، والطبيعي يوجد بوجود أفراده(1) أي فرد كان، فكلها محرم.

رواية (المزاح السباب الأصغر) سنداً ومتناً

أ البحث السندي

والرواية بحسب الظاهر معتبرة على حسب مختلف المباني فقد وردت في الكافي الشريف(2) عن:

1: حميد بن زياد، وقد وثقه النجاشي (رحمه الله) بتعبير صريح فقال: (كان ثقة واقفاً)(3)، كما قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) عنه (علم جليل واسع العلم كثير التصانيف)(4)، إلا أن المشكلة أنه واقفي، ولذا فالرواية حسب المصطلح موثقة، ولذا فلا كلام فيه.

2: الحسن بن محمد، وهو مشترك بين مجموعة من الأشخاص.

وعليه: فلابد من مراجعة كتب المشتركات للتمييز بينهم، وعند مراجعة مشتركات الكاظمي (رحمه الله) وغيره وبحسب قرينة طبقة الراوي وعمن يروي ومن يروي عنه، فإن المراد منه هو الحسن بن محمد بن سماعة، وهو ثقة وإن كان واقفياً أيضاً.

والحاصل: إن الأصل عندما يذكر الحسن بن محمد في الروايات: إن المراد به ابن سماعة، ونخرج عن هذا الأصل في بعض الموارد التي حصرت في علم

ص: 253


1- والاستدلال والنقاش سيأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
2- الكافي: ج2 ص665.
3- رجال النجاشي: ص132.
4- رجال الطوسي: ص 421

مشتركات الرجال، فراجع.

3: أحمد بن الحسن الميثمي، وهو إن كان نفس أحمد بن الحسن بن اسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار، فهو ثقة وإن كان واقفياً أيضاً، قال عنه النجاشي (رحمه الله): (كان واقفاً... و هو على كل حال ثقة صحيح الحديث معتمد عليه)(1)، وقال عنه الطوسي (رحمه الله)(2): (كوفي صحيح الحديث سليم)، ووصف في المرآة رواياته بالموثق(3)، والظاهر أنه نفسه كما في ملاذ الأخيار نقلاً عن الفاضل التستري(4)، وما عن السيد الخوئي (رحمه الله) في ذيل ترجمته:(وتأتي رواياته بعنوان: أحمد بن الحسن الميثمي، وبعنوان أحمد الميثمي، وبعنوان: الميثمي)(5)، كذلك ما في الخاتمة(6)، والله العالم.

4: عنبسة العابد، والمراد به عنبسة بن بجاد العابد، وهو ثقة أيضاً حيث ذكره النجاشي فقال: (كان ثقة قاضياً)(7)، كما نقل الكشي عن حمدويه عن مشائخه: (إنه كان خيراً فاضلاً)(8) كما أن العلامة(9) وابن داوود(10) ذكراه في القسم الأول من رجالهما.

إذاً فالرواية من جهة السند معتبرة بلا كلام.

ص: 254


1- رجال النجاشي: ص 74.
2- فهرست كتب الشيعة وأصولهم: ص54.
3- مراة العقول: ج 3 ص 334، وج 12 ص 145، وغيرها.
4- ملاذ الاخيار في فهم تهذيب الاخبار: ج 2 ص 553
5- معجم رجال الحديث: ج2 ص 80
6- خاتمة مستدرك الوسائل: ج 4 ص 45
7- رجال النجاشي: ص302.
8- رجال الكشي: ج2 ص670.
9- رجال العلامة: ص129.
10- رجال ابن داود: ص264.

ب: البحث الدلالي

وأما وجه الاستدلال بالرواية فهو: إن المزاح في قوله (علیه السلام): «المزاح السباب الأصغر»؛ إما أن يكون مساوياً للسباب الأصغر، وأما أن يكون أخص من جهة وأعم من جهة - وهو الظاهر -، وعلى التقدير الأول: يصح حمل المحمول في الرواية على طبيعي المزاح، فيدل ذلك على حرمة المزاح بقول مطلق، إلا أن نخرج عن ذلك في بعض الأقسام بدليل خاص أو عام - كالخروج الموضوعي - كما لو كان المزاح صادقاً وكان لإدخال السرور في قلب الآخرين بدون أن يتضمن جرحاً أو إهانة، فإنه لا يعد عرفاً سباباً أصغر أو غيره، ويبقى الباقي تحت الحرمة، والقدر المتيقن هو المزاح الكاذب الجارح، بل الجارح مطلقاً، بل قد يقال: و الكاذب مطلقاً، فتأمل(1).

محتملات المراد ب(المزاح هو السباب الأصغر)

وتحقيق ذلك: إن الظاهر أن الإمام (علیه السلام) هو في مقام بيان صغرى من صغريات كبرى السباب، وليس في مقام اختراع مصطلح جديد وتعبدنا به؛ فإن في قول الإمام (علیه السلام): «المزاح هو السباب الأصغر» احتمالين:

الاحتمال الأول: إن السباب الأصغر والأكبر هو مفهوم عرفي، والإمام صلوات الله عليه في مقام الإرشاد إلى أحد مصاديق السباب الأصغر، وهو المستظهر في المقام.

الاحتمال الثاني: إن الإمام (علیه السلام) يتعبدنا بمصطلح جديد، وإن المزاح سباب شرعاً، أي أن الإمام (علیه السلام) يبين لنا حقيقة مخترعة شارعية تفيد مساواة

ص: 255


1- إذ لا يعلم أن المزاح الكاذب غير الجارح، سباب إلا أن يتمسك بإطلاق الرواية. وسيأتي النقاش.

المزاح للسباب، أو كونه اخص منه مطلقاً(1).

ولكن الاحتمال الثاني هو خلاف الأصل، كما هو خلاف سيرة المعصومين %؛ أما الأصل؛ فلأن الأصل عدم اختراع اصطلاح جديد في المفاهيم العرفية، والمزاح مفهوم عرفي كسائر المفاهيم، والاختراع يحتاج إلى دليل.

وأما السيرة؛ فلأن تتبع سيرة المعصومين % يكشف لنا أن من النادر تصرفهم باختراع معنى جديد، كما في الصلاة المستظهر انها حقيقة شرعية في ذات الأركان، لكن مثل هذه الموارد نادر، خاصة على مسلك صاحب الجواهر والسيد الوالد وآخرين، حيث رأوا حتى مثل (الشهادة) باقية على معناها اللغوي ولا حقيقة شرعية فيها رغم تصرف الشارع فيها كثيراً(2)، ففي أي موردٍ ثبت اختراع الشارع أو تصرفه فهو، وإلا فالمعنى العرفي هو المرجع وهو الموضوع للحكم.

المدار على الموضوع الوارد في الروايات إلا إذا عرّفه الإمام...

ولكن قد يقال: إن الإمام (علیه السلام) حيث كان في مقام التعريف فإن المدار سيكون على المعرِّف - بالكسر - لا المعرَّف - بالفتح -؟توضيحه: إنه قد ذكرنا في بعض المباحث قاعدة عامة - أشرنا لها في بحث تعريف العدالة - وهي: أن الأصل على مدارية المعرَّف - بالفتح - لا المعرِّف،أي أن المدار على اللفظ الوارد في الروايات، فهو موضوع الحكم وعليه مداره، لا على تعريفه، وذلك كالغناء الوارد في الروايات، فإنه لو عُرِّف في اللغة وغيرها ب: أنه الترجيع المطرب أو غيره، فإنه لتقريب الذهن، وليس التعريف وصدقه هو المدار، بل المدار هو على صدق الغناء عرفاً، فكل ما صدق عليه عرفاً فهو حرام، وإن لم

ص: 256


1- أي المزاح أخص مطلقاً من السباب.
2- إذ لا تكون شهادة شرعاً إلا لو صدرت من شخصين في الكثير من الموارد وكانا عادلين... الخ.

يكن يصدق عليه تعريفه بأن لم يكن ترجيعاً مطرباً مثلاً، وبالعكس فإن ما كان ترجيعاً مطرباً ولم يصدق عليه أنه غناء، فهو جائز من هذه الجهة.

فتلك هي القاعدة، ولكن يستثنى من ذلك: ما لو كان التعريف وارداً في كلام الإمام (علیه السلام) نفسه، فإن المدار سيكون على التعريف؛ إذ الإمام (علیه السلام) هو العارف بحقائق الأشياء والمبين لحدودها وماهياتها وبدقة، ومعه يكون الاعتماد على التعريف والمدار عليه، إلا لو أحرزنا أن الإمام (علیه السلام) قد بنى على مسامحة في التعريف، وهي خلاف الأصل.

لكن قد يقال: إن ذلك(1) تام فيما لو كان الإمام في تعريفه مؤسساً لا مشيراً كاشفاً عن المعنى العرفي، والأصل هو هذا الأخير؛ لما سبق، مضافاً إلى أن الظاهر انصراف (المزاح) إلى الجارح، وأن الإمام (علیه السلام) بنى عليه، حتى لو أذعنا بكون الإمام (علیه السلام) في مقام التعريف، وسيأتي بيان وجه دعوى الانصراف في ضمن بيان وجه الجمع بين مثل الطائفة الرابعة وبين الطائفة الخامسة والسادسة، بمناسبات الحكم والموضوع، وبمعونة روايات الطائفة السابعة.

وعليه: فإن اللام في (المزاح) للعهد(2) لا للجنس.

وتحقيق الحال في هذه الرواية ونظائرها متوقف على عرض الطائفة الخامسة والسادسة من الروايات؛ لأن الطائفة السادسة تتعارض مع الطائفة الرابعة والخامسة، فلا بد من ملاحظتها جميعاً، ثم البحث عن المراد من كل منها ووجه الجمع.

الطائفة الخامسة: روايات تفيد رجحان المزاح

الروايات التي تمدح المزاح وتفيد رجحانه، ومنها: ما روي عن

ص: 257


1- أي الاستثناء.
2- الذهني، لا الحضوري أو الذكري.

رسول الله (صلی الله علیه و آله): «المؤمن دعب لعب والمنافق قطب غضب»(1)، والدعب على وزن خشن صفة مشبهة من الدعابة وهي المزاح، كما فسرت به في رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السلام): «ما من مؤمن إلا وفيه دعابة» قلت: وما الدعابة؟ قال (علیه السلام): «المزاح»(2). وفي اللغة أيضاً فسرت به.

ولكن قد يشكل بأن الدعابة أعم من المزاح كمداعبة الشخص مع أطفاله أو زوجته؛ فإن بعضها مداعبة وليست مزاحاً، وسيأتي الجواب.

وأما (اللعب) ففيما يقتضي، كما هو الحال مع الأطفال؛ إذ يستحب للشخص أن يتصابى مع أولاده.

وأما (قطب) فلعله إشارة للظاهر؛ إذ التقطيب يظهر على ملامح الوجه، و(غضب) إشارة للقلب والباطن.

تعارض الروايات في مدح المزاح وذمه

ولكن روايات الطائفة الخامسة - والتي تفيد حسن المزاح وتثني على المؤمن الممازح - تعارض بإطلاقها روايات الطوائف السابقة، فإن الكثير من الروايات بطوائفها المذكورة تذم المزاح بعبارات شتى، وقد يستفاد منها الحرمة كروايات الطائفة الرابعة، فلا بد من الجمع بينها، وبه يظهر المراد منها، ومدى صحة الاستدلال ببعضها على الحرمة بإطلاقها.

وجه الجمع بين طوائف الروايات

ووجه الجمع بين الروايات في الطوائف المتعارضة ظاهراً هو: ما أشرنا إليه من أن المزاح على قسمين: مزاحٍ جارح، وهذا مذموم كاذباً كان أم صادقاً،

ص: 258


1- تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله): ص 49.
2- الكافي: ج 2 ص 663.

ومزاحٍ مفرح مدخل للسرور على صاحبه وهذا ممدوح، أو فقل: المزاح بالحق ممدوح، والمزاح بالباطل أو بما يجرح فمذموم.

شواهد على وجه الجمعوليس هذا الجمع تبرعياً، بل هناك أدلة وشواهد:

الشاهد الأول: مناسبات الحكم والموضوع

إن مناسبات الحكم والموضوع تقتضي تقييد المراد من (المزاح السباب الأصغر) بخصوص بعض أنواعه وهو الجارح.

توضيحه: إن القاعدة العامة هي: إنّ الموضوع تارة: يقيد المحمول فيضيقه، وتارة أخرى: يوسع المحمول فيعممه، فهنا صورتان، وكذلك عكسه في المحمول، فالمحمول تارة يضيق الموضوع وتارة يوسعه.

إذاً: فكل من الموضوع والمحمول يقيد أحدهما الآخر أو يعمّمه، فالصور أربع.

ولنقتصر على التمثيل لصورتي التضييق:

فإن الموضوع قد يخصص المحمول، كما لو قلت: (الأطباء يشخصون الحالات الطارئة)، فإن الموضوع وهو الأطباء يقيد المحمول، فيكون المقصود من الحالات الطارئة هي الحالات الطارئة الصحية لا عمومها من الحالات الطارئة الاخرى كالسياسية أو العسكرية أو الجيولوجية أو غيرها.

وقد يقيد المحمولُ الموضوعَ - ومقامنا من هذا القبيل -، وذلك كما لو قلت: (العلماء يرشدون للصواب) فإن الموضوع مطلق بل عام إلا أن المحمول يقيده، فيفيد أن المراد من العلماء هم المتقون منهم؛ إذ إنهم هم الذين يرشدون للحق

ص: 259

والصواب، فإن كون الإنسان عالماً بما هو عالم ليس علة الإرشاد للصواب ولا مقياساً له؛ إذ لعله متبع لهواه يسوق الناس إلى الباطل ولا يرشد للصواب.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإن المزاح موضوع عام، ولكن ببركة المحمول وهو السباب الأصغر يستفاد عرفاً تضييق دائرة الموضوع؛ إذ من الواضح أنّ المزاح إذا لم يكن جارحاً بل كان لطيفا محبباً مُدخِلاً للسرور فهو عرفاً ليس بسباب أصغر، ولا يصدق عليه بالحمل الشائع.

الشاهد الثاني: روايات الطائفة السادسة

الشاهد الثاني على الجمع هو: الطائفة السادسة من الروايات - وهي العمدة -:منها: ما ورد في الكافي: عنه عن محمد بن علي عن يحيى بن سلام عن يوسف بن يعقوب عن صالح بن عقية عن يونس الشيباني قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «كَيْفَ مُدَاعَبَةُ بَعْضِكُمْ بَعْضاً؟» قُلْتُ: قَلِيلٌ. قَالَ (علیه السلام): «فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّ الْمُدَاعَبَةَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّكَ لَتُدْخِلُ بِهَا السُّرُورَ عَلَى أَخِيكَ وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) يُدَاعِبُ الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ»(1).

وهذه الرواية بظاهرها تصلح مستنداً للتفصيل بين كون المزاح جارحاً وهو المذموم، وكونه مما يدخل السرور على المؤمن فهذا راجح وممدوح، وسيأتي بعد قليل بحث سند هذه الرواية.

ومنها: ما روي عنه (صلی الله علیه و آله): «أني لأمزح ولا أقول إلا حقاً»(2) فإن هذه الرواية تفيد تقسيم المزاح إلى قسمين: المزاح بالباطل أو المزاح الباطل، ومن

ص: 260


1- الكافي: ج2 ص663.
2- مكارم الأخلاق: ص 21

الأول المزاح الكاذب ومن الثاني المزاح الجارح، والمزاح بالحق، وظاهر الرواية الأول(1) ويفهم الثاني(2) من قرينة حاله (صلی الله علیه و آله)، فتأمل.

وعليه: فلو كان المزاح بقول حق وبشرط أن لا يكون جارحاً، ويفهم ذلك من قرينة حاله فهو راجح وممدوح، وأما لو كان بباطل فهو مرجوح ومذموم.

ومنها: ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) من خصال المروة في السفر قال صلوات الله عليه: «وأما التي في السفر فكثرة الزاد و طيبه و بذله لمن كان معك و كتمانك على القوم سرهم بعد مفارقتك إياهم و كثرة المزاح في غير ما يسخط الله عز و جل»(3).والمتحصل: إن هذه الروايات - وروايات عديدة أخرى - تشهدان بالجمع الذي مضى بين الروايات الذامّة للمزاح وبين الروايات المادحة له، فالذامّة تنصرف إلى المزاح بالباطل؛ ومنه: المزاح كذباً(4)، وإلى المزاح الجارح الذي يدخل الترح في قلب المؤمن.

ثم إن إدخال السرور على قلب المؤمن عنوان لا اقتضائي، وكما هو واضح فإن العناوين اللااقتضائية لا تزاحم العناوين الاقتضائية كالكذب في المقام، فلو حدث تزاحم بين الكذب وبين إدخال السرور بان كان الكذب المزاحي

ص: 261


1- الأول: المزاح بقول الحق أو بقول الباطل.
2- الثاني: المزاح الحق أو المزاح الباطل (كالمزاح بجارح الصدق).
3- الامالي للشيخ الصدوق: ص 551 -552.
4- ويمكن أن يستدل عليه أيضاً بأن الله إذا ميز بين الحق والباطل فأين يكون المزاح الكاذب؟ وذلك نظير الرواية المشهورة «إِذَا مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَنَّى يَكُونُ الْغِنَاءُ؟ فَقَالَ مَعَ الْبَاطِل». الكافي: ج6 ص435 باب الغناء.

مدخلاً للسرور فلا يصح الاستناد إلى روايات إدخال السرور كالرواية أعلاه لتسويغ هذا الكذب وتجويزه، بل لا بد من التمسك بوجوه أخرى كالخروج الموضوعي، مما قد مضى بحثه وتحديد صورة تحققه، فراجع.

والمتحصل: إن هذه الرواية يراد منها المداعبة بقول حق لا المداعبة بالكذب أو الباطل، وهي شاهد على وجه الجمع الذي اخترناه، كما أن المزاح إذا كان استهزاء أو سخرية أو شبه ذلك فإنه خارج بمنطوق الرواية.

البحث السندي في رواية (إن المداعبة من حسن الخلق)

ثم قد يقال: بحجية واعتبار رواية السابقة في الكافي عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام): «كيف مداعبة بعضكم بعضا.. » وذلك استناداً إلى أحد الوجوه التالية:

وجوه لاعتبار روايات الكافي

الأول: لوجودها في كتاب الكافي الشريف على مبنى من يرى أن رواياته معتبرة بشكل عام كالأخباريين والميرزا النائيني والسيد الوالد رحمهم الله تعالى جميعاً ومن أشبه، وعلى هذا المبنى لا حاجة إلى تجشم مؤونة البحث السندي.

الثاني: وكذلك على مبنى من يرى أن مراسيل الثقاة ومهملاتهم فيما إذا اعتمدوا عليها من غير معارض، حجة، كما حققناه في كتاب حجية (مراسيل الثقات المعتمدة)، وكما صار إليها - إلى حجية مراسيل الثقاة - الشيخ الطوسي في العدة، والشهيد الثاني والبهائي والشيخ الأنصاري رحمهم الله تعالى جميعاً وآخرون.

فهذان مسلكان أعم وأخص لتوثيق الرواية من غير حاجة إلى البحث عن

ص: 262

خصوص إسنادها.

وأما من لا يرى تمامية هذين المسلكين، فعليه البحث عن طرق أخرى لتوثيقها، فإن كان ممن يرى المدار على وثاقة الخبر والرواية كان عليه الاستناد إلى ما يفيد ذلك - إن تم -؛ كالقول ب: إن مضمونها من المستقلات العقلية أو أن عليه سيرة المتشرعة، بل القول: إن مضمونها مستفيض أو متواتر تواتراً إجمالياً - لكنه بحاجة إلى تتبع أكثر - أو شبه ذلك، لكنها جميعاً أدلة لبّية لا إطلاق لها، فلا تصلح مستنداً في صورة الشك؛ ومنه: ما لو كانت المداعبة بالكذب من القول أو المزعج لا إلى حد الإيذاء أو الإضرار، فتأمل.

وأما من يرى المدار على وثاقة المخبر فلا بد له من ملاحظة السند فيها، وإجمال القول فيه:

تحقيق المراد من (العدة) في الكافي

إن سند هذه الرواية يبدأ ب (عِدةٌ من أصحابنا)، ولكن من هم (العِدة)؟ فقد طعن بعض العامة علينا ب: أن واحداً من أهم الكتب المعتبرة لدينا - إن لم يكن أهمها في بابه - وهو الكافي قد اعتمد على المجاهيل؛ مستشهدين ب: تصدير كثير من أسانيده ب(عدة من أصحابنا)، مع أنه لا يعلم من هو المراد منهم، إلى أن جاء العلامة الحلي (رحمه الله) بعد حوالي أربعمائة عام فأوضح المراد من (العِدة).

والجواب: إنّ ذلك ناشئ عن عدم معرفتهم بالواقع؛ حيث حدّد الشيخ الكليني (رحمه الله) بنفسه هذه العِدّة في الكافي نفسه بما يرفع الجهالة والإشكال وذلك بوجوه:

الوجه الأول: محمد بن يحيى العطار، أحد العِدّة دائماًما ذكره صاحب المعالم (رحمه الله): من أن المراد بالعِدّة مجموعة من الرواة

ص: 263

أحدهم موجود في كافة الروايات التي صدّرها الكليني ب(العدة)، وهو محمد بن يحيى الأشعري القمي العطار (رحمه الله) وهو شيخ الكليني (رحمه الله) وهو ثقة جليل بلا إشكال، وقد استفاد صاحب المعالم ذلك من كلام الشيخ الكليني نفسه في بداية الكافي بل في الحديث الأول منه، فإن الظاهر أنه جرى في بقية الكافي على مجراه في أول رواية له فقد قال في أول حديث في الكافي: (حدثنا عدة من أصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار عن ...) كما فصل ذلك في منتقى الجمان(1)

فراجع.

الوجه الثاني: تصريح الكليني (رحمه الله) بتفصيل المراد من العدة

إن الشيخ الكليني (رحمه الله) أوضح في مواقع من الكافي المراد من العدة أيضاً مفصلاً وعلى حسب المروي عنه، كما نقل العلامة الحلي (رحمه الله) ذلك قال: (وقال [أي الشيخ الكليني] كلما ذكرته في كتابي المشار إليه عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي فهم علي بن إبراهيم و علي بن محمد بن عبد الله بن أذينة)(2), كما نقل النجاشي عن الكليني رحمهما الله تعالى: (كلما كان في كتابي: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى فهم محمد بن يحيى وعلي بن موسى...)(3).

الوجه الثالث: ذكر المشايخ والطرق تبركي وذلك لشهرة الأصول

وأما الوجه الثالث لتوثيق الروايات التي ورد فيها مصطلح (العدة) فهو وجه لطيف وصحيح وهو: إن العدة لا يحتاج أن يسأل عنها أصلا؛ فإن كل فرد منها هو من مشايخ الشيخ الكليني (رحمه الله)، وهم حوالي ثلاثون شيخاً يروي عنهم

ص: 264


1- ([1]) كتاب ملتقى الجمان: الفائدة 11 ج1 ص39.
2- رجال العلامة الحلي: ص272.
3- رجال النجاشي: ص378.

روايات الكافي، وهم مشايخ إجازته إلى الكتب المعروفة، وطرق الشيخ الكليني المذكورة عن طريقهم إلى الأصول المشهورة والمعروفة والمسلمة ككتاب البزنطي والبرقي ومحمد بن عيسى وسعد بن عبد الله الأشعري والآدمي وغيرهم هي طرق تبركية؛ وذلك أن حال هذه الأصول في وقتها هو كحال كتاب الكافي والوسائل والبحار و... إلخ في زماننا من حيث قطعية نسبتها إلى مؤلفيها، فلا نحتاج إلى سلسلة السند إلى الحرالعاملي (رحمه الله) إذا نقلنا رواية عن وسائله، ولا إلى سلسلة السند إلى البحار إذا أردنا نقل مطلب عن مؤلفه، بل ننقل الرواية أو المطلب عن كتاب الوسائل الذي بأيدينا مباشرة لبداهة استناده إليه، وهذا حال الأمم كلها في مشاهير كتبها، بل لقد بنى العقلاء كافة على صحة إسناد ما في كتب أمثال ابن سينا والفارابي وأمثال ديكارت وجون لوك ومن إليهم.

والحاصل: إن ذكر الشيخ الكليني (رحمه الله) طرقه وأسانيده إلى الروايات إنما هو للتبرك فقط؛ وذلك لشهرة تلك الكتب والأصول والتي اعتمد عليها الشيخ الكليني (رحمه الله) ونقل عنها بصورة مباشرة.

وهذا الوجه الذي ذكره بعض الأعلام هو وجه ظريف، ولكن بشرط أن يثبت أن هذه الرواية نقلها الكليني (رحمه الله) عن أحد تلك الأصول(1)، والغالب أنه كذلك فلاحظ الكافي، وعليه: فهو وجه وجيه في الجملة، لكن دائرته واسعة جداً إذ ينقح حال أكثر الأسانيد.

الوجه الرابع: ميزتان في الكليني (رحمه الله) توثقان (العِدّة)

إنه حتى لو قلنا بأن مراسيل الثقاة ليست بحجة، ولكن هنالك ميزتان للكليني (رحمه الله) تفيدان وثاقة (العِدّة) التي روى عنها:

ص: 265


1- ولم يسمعها من شيخه عن شيخه وهكذا، فقط.

الميزة الأولى: إن حال الشيخ الكليني (رحمه الله) ليس كحال راو ثقة ضابط من الدرجة المتوسطة، بل هو في أعلى درجات الضبط والتحرز والوثاقة، ويكفي أن يقول فيه الشيخ النجاشي (رحمه الله): (كان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم)(1) وهذه العبارة من مثل النجاشي (رحمه الله) تفيد الاطمئنان النوعي بتوثيق الكليني (رحمه الله) لسلسلة أسانيد رواياته التي اعتمد عليها، ولا أقل من إفادتها الاطمئنان لنا بتوثيق الكليني ل(العِدّة) الذين روى عنهم ولم يعينهم - فرضاً -،مع أنه في مقام نقل الروايات للأجيال القادمة ليُعتمد عليها وليُستند إليها في الأحكام الشرعية.والحاصل: إن المستفاد من عبارة النجاشي (رحمه الله) توثيقه للكليني (رحمه الله) بقول مطلق، بل كونه الأوثق والأضبط بقول مطلق، فتفيد الظن النوعي باعتبار سند ما يرويه؛ إذ ليست بأقل فيما تفيده نوعاً من التوثيق من ذلك الذي يحصل لنا من توثيق الثقة العادي لرجل من الرواة.

وعليه: فالظن النوعي الحاصل بتمامية سند الروايات إذا رواها الشيخ الكليني (رحمه الله) معتمداً عليها، أقوى من الظن الحاصل في المسانيد التي وثق رجال إسنادها ثقةٌ رجالي بتوثيق عادي، وقد فصلنا ذلك في (حجية مراسيل الثقاة) وأجبنا عما قد يورد عليه(2).

الميزة الثانية: إن الشيخ الكليني (رحمه الله) قد أكثر من الرواية عن العدة في موارد كثيرة جداً حتى أنه بنى الكافي عليهم، ومن المعلوم أن إكثار الثقة الروايةَ عن شخصٍ أو عدةٍ خير دليل على التوثيق له واعتماده عليه فما بالك بشيخ الثقات أعني الكليني (رحمه الله)؟

ص: 266


1- رجال النجاشي: ص377.
2- نظير أن ذلك - إن تم - يوجب وثاقة الرواية لا الراوي.. إلى غير ذلك، فراجع.

هذا ولكن توثيق العدة لا يفي بتوثيق هذه الرواية؛ وذلك لأنه لا طريق(1) إلى توثيق أحاد سلسلة السند لوجود المهملين والمختلف فيهم فيها؛ إذ الرواية عن البرقي، عن (محمد بن علي) وهذا مشترك، والظاهر أنه أبو سمينة، وهو معروف بالغلو إلا أن التهمة ليست في محلها كما ربما يستفاد من كلام المجلسي الأول (رحمه الله) في الروضة، قال في حق محمد بن علي:

(هو أبو سمينة، و اشتهر بالغلو و الارتفاع، و روى الأصحاب كتبه إلا ما فيه غلو (أو) كان متفرداً به و له كتب كثيرة، و الظاهر أن مساهلتهم في النقل عن أمثاله لكونه من مشايخ الإجازة، و الأمر فيه سهل؛ لأن الكتاب إذا كان مشتهراً متواتراً عن صاحبه يكفي في النقل عنه و كأن ذكر السند لمجرد التيمن و التبرك، مع أن الغلو الذي ينسبونه إليهم لا نعرف أنه كان الإخبار عالياً دقيقاً أو كان موافقاً للواقع لأنا نراهم يذكرون: إن أول درجة في الغلونفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن أكثر الأصحاب رووا أحاديثهم و ما رأينا من أخبار أمثاله خبرا دالا على الغلو و الله تعالى يعلم)(2)، انتهى كلامه.

على أن الغلو لا يرتبط بوثاقة اللهجة، و مضمون روايتنا بعيد عن الغلو، بل أجنبي عنه المرة.

وهو يروي عن (يحيى بن سلام) وهذا مهمل، عن (يونس بن يعقوب) وهو موثق كما قال النجاشي(رحمه الله)(3) و قد أورد المحدث النوري (رحمه الله) في الخاتمة أدلة على وثاقته، فليراجع(4)، عن (صالح بن عقبة)، وهو إن كان ابنَ قيس بن

ص: 267


1- أي لغير من يرى حجية مراسيل الثقات أو حجية روايات الكافي.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج14 ص 28 - 29 ، وللتفصيل يراجع كتاب: بحوث في مباني علم الرجال للشيخ محمد السند: ص 301.
3- رجال النجاشي: ص 446.
4- خاتمة المستدرك: ج 5 ص 391.

سمعان بن ابي ربيحة مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) - كما هو المستظهر فقد مال المحدث النوري (رحمه الله) في الخاتمة(1) إلى وثاقته ولو بالمعنى الاعم، كما أن السيد الخوئي (رحمه الله) اعتبره من الثقات(2)، وعبر عن رواياته بالصحيحة(3)، ومال إلى ممدوحيته بل وثاقته السيد العم (دام ظله) في بيان الفقه(4)، وإن كان العديد من الفقهاء رموه بالغلو والكذب، والله العالم، عن (يونس الشيباني) وهو مهمل.

تنبيه: مجمع عنواني (الكذب والمزاح) هو مورد البحث

قد يقال: إنه ما دامت النسبة بين الكذب والمزاح من وجه، فلا وجه لطرح هذه الروايات في المقام؛ ذلك أن موضوع هذه الروايات الهزل أو المزاح مدحاً أو قدحاً، وهما عنوان آخر غير عنوان الكذب.والجواب: إن موضع الكلام هو في مجمع العنوانين في المسألة الثانية، أي في الكذب مزاحاً، ولذا ينبغي ملاحظة روايات الكذب وروايات المزاح لمعرفة الحكم في مادة اجتماع هذين العنوانين.

وقد أشرنا سابقاً إلى أن المزاح هو عنوان لا اقتضائي والكذب عنوان اقتضائي، ولا مزاحمة بينهما، إلا أن يقال: بأن أدلة الكذب(5) منصرفة عن الكذب المزاحي أو إنه خارج منها موضوعاً، ولكن سبق التفصيل بين ما عد كذباً عرفاً وغيره، وبين ما كان إنشاءً وغيره، وبين ما كانت معه قرينته وغيره - على الأقوال في التفصيل - وغير ذلك، وقد فصلناه سابقاً.

ص: 268


1- خاتمة المستدرك: ج4 ص 362.
2- معجم رجال الحديث: ج 10 ص 85، و مباني تكملة المنهاج: ج42 ص 500
3- مباني تكملة المنهاج: ج 41 ص 345، و ج42 ص 499 - 500.
4- بيان الفقه: ج3 ص 199.
5- - بقسميها -، فتدبر.

فائدة: هل الآثار تترتب على المزاح الكثير أم على المزاح بصورة مطلقة؟

ثم قد يتوهم وجود منافاة بين سلسلتي الطائفتين من الروايات؛ فإن كثيراً من الروايات قد قيدت المزاح بالكثرة ورتبت عليه حينئذٍ الآثار(1) كما في (من كثر مزاحه..) أو (من كثر هزله..) أو (كان.. )، وهكذا، بينما الصنف الثاني من الروايات انصب الذم فيه على المزاح بصورة مطلقة، ويرتّب عليه بنفسه - وبما هو - نفس الآثار، فما وجه الجمع بينهما؟

وجوه جمع أربعة

هناك وجهان للجمع على حسب المباحث الأصولية المعهودة، ونضيف لهما وجهين آخرين لعلّهما أولى من الأولين، فتكون الوجوه أربعة:

الأول: الوصف لا مفهوم له

من الأجوبة العامة الأصولية هو: إن الوصف لا مفهوم له، ففي رواية «من كثر مزاحه فسد عقله» و «سقطت هيبته»، فإن الكثرة من قبيل الوصف وإن كانت مضافة(2)، والوصف لا مفهوم له، فلا تفيد: من لم يكثر مزاحه لم تسقط هيبته، ليتنافيا، وإن شئت فقل: هما مثبتان لا يقيد أحدهما الآخر.

الثاني: المنطوق مقدم على المفهوم

سلمنا أن الوصف له مفهوم، ولكن هذا المفهوم قد عورض بمنطوق تلك الروايات فيتقدم منطوقها عليه، فرواية «من كثر مزاحه سقطت هيبته» مفهومها

ص: 269


1- الأعم من الآثار الشرعية والأخلاقية أي الأعم من المكروهة والمحرمة.
2- إذ لا فرق بين (في الغنم السائمة زكاة أو في سائمة الغنم).

هو «من لم يكثر مزاحه لم تسقط هيبته»، وهذا المفهوم أضعف من منطوق تلك التي لسانها مثلاً (من مزح...)، أي إن إطلاق تلك مقدم على مفهوم هذه؛ لأن المنطوق أقوى من المفهوم ظهوراً.

الفهم العرفي قد لا يوافق بعض القواعد الأصولية

ولكن قد يعترض على الجوابين: إن الفهم العرفي في بعض الأحيان قد لا يتطابق مع القواعد الأصولية أو مع بعض مصاديقها وإن صحت القاعدة؛ لخصوصية في المصاديق؛ إذ العرف يرى التنافي ظاهراً بين الأمرين: ذي الوصف وفاقده في طائفتي الروايات، كما يرى قوة مفهوم تلك بحيث تعارض مفهوم هذا، ويرى أن القيد المذكور في الصنف الثاني من الروايات الثاني وهو (كَثُر) إن لم يكن احترازياً فهو لغو وإن كان احترازياً عارضَ ما لا قيد له، ولا اقوائيةَ في البين، وعليه: فلا بد من البحث عن وجوه أخرى.

وقد يؤكد ذلك: إنهم بنوا على أن العام يتقدم على المطلق؛ نظراً إلى أنّ دلالة العام على عمومه بالوضع، أما المطلق فيستفاد إطلاقه بمقدمات الحكمة؛ ومنها: أن لا تكون قرينة على الخلاف، والعام قرينة فالعام وارد على المطلق(1).وقد التزم الشيخ الآخوند (رحمه الله) في بداية كفايته بذلك، ولكنه في نهايتها عدل إلى تقديم الأظهر منهما عرفاً، والوجه هو: إن تقديم العام على المطلق ليس من القواعد التعبدية كي تكون ثابتة دائماً، ولم يرد ذلك في رواية بلفظ عام أو مطلق كي يتمسك بإطلاقه، بل لأجل أن بناء العقلاء في متفاهمهم العرفي عليها، فتدور مدار بنائهم.

ص: 270


1- أي المطلق لا ينعقد إطلاقه مع وجود قرينة على الخلاف والعام قرينة فهو مزيل لموضوع المطلق حقيقةً لكن بعناية التعبد (بحجية العام) وهذا هو الورود.

وفيما نحن فيه قد يقال: صح إن الوصف لا مفهوم له لكنه في الجملة لا بالجملة، فننفي إطلاقه ولا ننفيه مطلقاً، إذ قد يكون للوصف مفهوم عرفاً، فلو قال أحدهم: (زوج ابنتك من الرجل المؤمن) أفاد عرفاً: الرجل لو لم يكن مؤمناً فلا تزوجه، فتأمل.

الثالث: الجمع بين الطائفتين بتشكيكية الموضوع والآثار

وقد يقال: بأن المزاح وكذلك الهزل وبقية الحقائق الأخرى الكثيرة حيث كانت حقائق تشكيكية ذات مراتب.

فوجه الجمع هو: إن الطائفة الثانية من الروايات والتي ذكر فيها قيد الكثرة تشير إلى المرتبة الأعلى، والطائفة الأولى تشير إلى المرتبة الأولى، فكون القيد احترازياً في المقام ليس بلغوٍ؛ إذ يفيد نفي المرتبة الأقوى من الآثار عن المرتبة الأدنى من الموضوع (المزاح)، فمثلاً: رواية «كثرة الهزل تورث الضغائن» تحمل على أن كثرة الهزل تورث الدرجة العليا من الضغائن، ولكن تبقى للضغينة درجات يورثها الهزل بمرتبته الدنيا، فتحمل مثل «الهزل يورث الضغينة» عليها أي على المرتبة الدنيا من الموضوع والدنيا من المحمول، وهو عرفي بل هو وجداني، فتأمل.

والكلام كله على نحو الاقتضاء لا العلية التامة(1).

والنتيجة: لا تعارض بين روايات الكثرة والروايات الأخرى.

الرابع: ترتب الآثار على المزاح بالباطل أو الكاذب للانصراف

وقد يدفع التنافي بإبقاء روايات كثرة المزاح على ظهورها، والتصرف في

ص: 271


1- فإن بعض الناس يفرح بالمزاح الكثير وحتى الجارح ولا يورثه الضغينة.

روايات المزاح المطلقة، بأن يقال: إن المراد من المزاح فيها هو المزاح بالباطل والمزاح الكاذب، وذلك لوضوح أن شخصاً موقراً لو مزح مزاحاً كاذباً فإن هيبته ستسقط وإن لم يكثر، عكس ما لو مزح مزاحاً صادقاً، نعم لو أكثر من المزاح الصادق فإنه سيسقط من الأعين أيضاً، وكذلك الحال في المزاح الباطل والجارح، فإن المرة الواحدة منه يترتب عليها ما ذكر في الروايات من الآثار ك «من كثر مزاحه إستُحمِق» و«قلّ وقاره»، وأما المزاح اللطيف النافع فليس كذلك، إلا لو أكثر منه، نعم الإكثار منه إذا كان بحق وبلطف لا تترتب عليه بعض الآثار الأخرى المذكورة في بعض الروايات ك« المزاح يورث الضغائن».

وقد سبق: إن المراد منه - بمناسبات الحكم والموضوع - وغيرها: المزاح الجارح.

وشاهد الجمع - إضافة لعرفيته ووجدانيته واقتضاء مناسبات الحكم والموضوع له - هو: روايات الطائفة السابعة، كما أوضحناه آنفاً، فتأمل.

تتمة: المزاح المتضمن للإيذاء أو الإضرار

ثم لا يخفى - كما نبهنا عليه في الأمر السادس من المسالة الثانية - إن البحث عن المزاح وحكمه، إنما هو بالعنوان الأولي، أما لو تصادقت عليه عناوين أخرى كالإيذاء والإضرار والإغراء بالجهل، فهو حرام في الجملة او بالجملة.

ومثال الإغراء بالجهل: ما لو أخبر - مزاحاً - تاجرٌ تاجراً آخر عامداً بارتفاع أسعار بضاعة معينة وهو يعلم عدم ذلك، ما سبب أن يشتري التاجر الآخر كمية كبيرة من تلك البضاعة، لتنخفض الأسعار بعدها بقوة، فإن هذا يعدّ إغراءً له بالجهل، نعم يبقى الكلام في استقرار الضمان عليه - لو أضره -، وقد ذهب إلى

ص: 272

ذلك السيد الوالد (رحمه الله) صناعة(1).

ولنكتف بهذا المقدار من البحث به، وإن كان للتوسع فيه مجال كبير، والله العالم.

ص: 273


1- استناداً إلى أن (لا ضرر) ليست نافية للحكم الضرري فقط بل هي جاعلة للحكم، خلافاً للمشهور، وإلى شمول (المغرور يرجع على من غره) وتحقيقه في مظانه.

المسألة الثالثة: الكذب في الوعد

اشارة

ولابد من التفريق بين مسألتين:

المسالة الأولى: خلف الوعد؛ بأن يَعِد ثم لا يفي، فعدم وفائه بالوعد هو المسمى ب: خلف الوعد، وهذه مسألة مستقلة، وليس هذا مجال بحثها، وقد ذهب المشهور إلى: الجواز.

المسألة الثانية: الكذب في الوعد؛ بأن يكذب في وعده، وهذه مورد البحث، وذلك كمن يخبر بأنه سوف يعطي زيداً شيئاً، وهو عازم من البداية على عدم إعطائه فهو كاذب في خبره ووعده، وأما التعهد بالبذل أو بأمر آخر وهو عازم على العدم، فهو من الإنشاء، وهو لا يتصف بالصدق والكذب اللهم إلا بلحاظ ما يستلزمه من إخبار، على ما فصلناه سابقاً، ولا يخفى أن المسألة الثانية بالبيان الذي ذكرناه هي في الواقع مسألتان: أحداهما محورها الأخبار، والثانية محورها التعهد.

التفصيل في المسالة: أقسام الكذب في الوعد

وقد يفصل في الكذب في الوعد بأنه على أقسام:

القسم الأول: الكذب في الإخبار عن العزم

أن يكذب الشخص في إخباره عن عزمه على فعل كذا، وهو إخبار عن

ص: 274

أمر نفسي كأن يقول: (قررت أو عزمت على أن أدعوك غداً) مع أنه لم يقرر ولم يعزم البتة، وهذا كذب حتى لو فعل ذلك لاحقاً؛ فإن الفعل اللاحق لا يوجب انقلاب الإخبار السابق غير المطابق للواقع عن واقعه؛ إذ إنه أخبر عن عزمه ولم يكن عازماً فلم يطابق إخباره الواقع.

القسم الثاني: الكذب في الإخبار عن الفعل

أن يكذب في إخباره عن نفس فعله في المستقبل كأن يقول: (سوف أفعل كذا) أو (سأدعوك غداً)، وهو غير ناوٍ أن يفعل، وهذا كذب أيضاً؛ وذلك لأن العزم وإن لم يؤخذ في ظاهر اللفظ، إلا أنه متضمن فيه، فالقسم الثاني يعود لباً وجوهراً إلى الأول، فالكذب هو بلحاظ العزم.

القسم الثالث: الكذب بمعنى جعل الخبر مخالفاً للواقع

ما أشار إليه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في مكاسبه(1) وهو: أن يفعل الإنسان ما يجعل قوله كذباً، أي: أن يفعل ما يجعل قوله غير مطابق للواقع بأن يجري الواقع بنحو معاكس لما قاله ووعد به، وإن شئت فقل - مسامحة -: إن يفعل ما يقلب الشيء إلى الكذب مستقبلاً، أي: في مرحلة علته المبقية، وقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى عدم الحرمة في ذلك تبعاً للمشهور.

وتوضيح هذا الصورة من كلام الشيخ (رحمه الله) بما يوضح كافة الصور المحتملة الأخرى أيضاً وبما ينفع في عامة المسائل وسائر المقامات، يتم ببيان ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في مسألة أخرى وهي: بيع الخمر أو ما يصير خمراً، فإن له صوراً:

الأولى: أن يبيع الخمر نفسها للآخر، وهذا حرام باطل بلا كلام.

ص: 275


1- المكاسب: ج2 ص 15.

الثانية: أن يبيع عنباً ليعمله(1) خمراً، وهذا حرام تكليفاً، إضافة إلى بطلانه وضعاً.

الثالثة: أن يبيع العنب فيعمله خمراً، أي مع علمه بكونه سيعمله خمراً، لكن لا لكي يعمله خمراً، والقاعدة هنا عدم حرمة ذلك(2) إلا ما لو علم من الشرع إرادة عدم وقوعه خارجاً، كما لو باع شخص سلاحاً وهو يعلم أنه سيعمل على قتل مؤمن بعد قليل فإنه لا يجوز قطعاً.الرابعة: أن يبيعه شيئاً بدون علمه بأنه سيعمله خمراً، ثم يعمل - أي البائع - بنفسه على قلبه خمراً له، فهل بيعه حرام؟ أو عمله اللاحق بقلبها خمراً للآخر حرام؟ والقسم الثالث من الكذب يراد به نظير هذه الصورة.

الشيخ (رحمه الله): ليس خلف الوعد كذباً

قال الشيخ (رحمه الله): (الظاهر عدم دخول خلف الوعد في الكذب لعدم كونه من مقولة الكلام، نعم هو كذب للوعد بمعنى جعله مخالفاً للوعد كما أن إنجاز الوعد هو صدق له بمعنى جعله مطابقاً للواقع فيقال صادق الوعد ووعد غير مكذوب، والكذب بهذا المعنى ليس محرماً على المشهور وإن كان غير واحد من الأخبار ظاهراً في حرمته...)(3) انتهى.

وتوضيح مراد الشيخ (رحمه الله) مع بعض التفصيل:

إنه قد يقول الإنسان كلاماً عازماً عليه، بأن يعد أن يفعل كذا، وهو مصمم عليه، فليس بكذب من هذه الجهة، لكنه يفعل بعد ذلك خلافه، أي

ص: 276


1- أي بقصد أن يعمله.
2- قال الشيخ (رحمه الله): (أما لو لم يقصد ذلك فالأكثر على عدم التحريم للأخبار المستفيضة).
3- المكاسب: ج 2 ص 15.

يفعل ما يتحول ما قاله في الماضي إلى أمر غير مطابق للواقع أو فقل: إلى كذب، وهل ذلك من انقلاب الماضي عن ما وقع عليه(1) فيكون نقلاً(2) أو هو كشف لا نقل؟

لكن الكلام في أن فعله اللاحق الموجب لهذا التغيير - مهما كان - حرام أم لا؟ كأن يقول لابنه: سأذهب بك غداً إلى المسجد، وهو عازم على ذلك فهو صادق في قوله حتى الآن، ولكنه إذا جاء الغد يتغير رأيه فلا يأخذه ولا يفي بما وعده، وبذلك فهل قلب القول الماضي بذلك إلى كذب في علته المحدثة؟ أو في علته المبقية؟ أوكشف عن كونه كاذباً؟ أو لا هذا ولا ذاك فلا قلب أو نقل ولا كشف، بل كان قوله ثبوتاً وفي واقعه منذ البداية غير مطابق للواقع، مادام لم يفعله بعدها، لكنه لا يسمى إثباتاً بكذب ولا هو بكاذب؟

ووجه الأولين: إن الكذب هو عدم مطابقة القول للواقع وهو صادق في مرحلة العلة المبقية بل المحدثة، وجهلنا بذلك سابقاً لا يغير من واقعه شيئاً(3).

المناقشة: ميزان الكذب يعم الفعل و غيره

وقد يناقش كلامه: بأن الكذب لا يشترط فيه - ولا في الصدق - أن يكون من مقولة الكلام، بل ميزان الصدق والكذب ينطبق حتى على الإشارة، فإن سأل أحدهم: أين زيد؟ فأشار الآخر إلى مكان ليس هو فيه حقيقة، فهذا كذب

ص: 277


1- والحق الكشف لا الانقلاب.
2- المراد إما النقل من الآن، كما هو المراد من النقل في بحث البيع، فليس انقلاباً للماضي عما وقع عليه، أو النقل من حينه فهو منه، إما ما هو الممكن وما هو الواقع فسيأتي بحثه.
3- وقد سبق تفصيل القول في تعريف الكذب والصدق، وستأتي الإشارة إليه بما يحل الاعضال بإذن الله تعالى.

عرفاً وبالحمل الشائع.

والحاصل: إن ميزان المطابقة وعدمها يعم مطلق الحاكي قولاً أو فعلاً كما ذهب إليه السيد الوالد (رحمه الله) أيضاً، نعم قالوا في تعريف الخبر: (هو القول ...)؛ وذلك لأن الغالب فيه هو ذلك، فإن أرادوا الحصر فغير صحيح؛ إذ الفعل له جهة الحاكوية كذلك، فلو حكى ما كان مطابقاً - مع قيد وهو معتقد أو قاصد أو بدونه - فصدق، وإلا فلا.

ولعل الأولى: أن يعلل ب:(لعدم كون نفس خلف الوعد حاكياً عن شيء كي يوصف بالصدق أو الكذب) بدل تعليله (رحمه الله) له: (لعدم كونه من مقولة الكلام)، فإنه فعل صِرف محض غير حاك عن شيء، عكس ما لو كان فعلاً حاكياً كالإشارة مثلاً، ولعله مراده لكن العبارة لا تفي به.

مراد الشيخ (رحمه الله) من تفسير الكذب في الوعد بجعله مخالفاً للوعد

ثم إن مراده (رحمه الله) في تفسير الكذب في الوعد ب: (بمعنى جعله...)، هل هو القلب والنقل في العلة المبقية؟ أو الكشف عن الانقلاب في الماضي، أي القلب في مرحلة الحدوث أيضاً؟ أو أنه يريد أنه لا لون له ولا فصل، بل يتفصّل بما يفعله لاحقاً، فتأمل.

فائدة: في انقلاب العناوين بلحاظ حالها المستقبلي

ثم إنّ هذا المبحث الذي أشار إليه الشيخ (رحمه الله) إشارة، وبسطناه بعض البسط، بحث سيال جداً، وليس خاصاً بالكذب، بل أعم وأوسع دائرة ونطاقاً، وهنا نشير إلى بعض تطبيقاته:

ص: 278

أمثلة أربعة محتملة لانقلاب العناوين

انقلاب الهدية إلى رشوة

فمنها: لو إن شخصاً دفع مالاً لآخر بقصد الهدية كما لو ولد مولود لمسئول أو قاض فأهداه هدية، ثم بعد ذلك - في علته المبقية - عدل بنيته وغيرّها بأن اعتبر ما دفعه من المال وسيلة لتمشية معاملة من معاملاته التي أمرها كان بيد المهدى إليه، فهل ينقلب عنوان الهدية إلى رشوة؟

المحتملات ثلاثة: 1 إن الإعطاء كان في ظرفه هدية حلالاً وجائزاً، ثم ينقلب رشوة محرمة 2 إنه يكشف عن وقوعه رشوة 3 لا هذا ولا ذاك؛ إذ ما فعله كان هدية عرفاً وبالحمل الشائع، والنية اللاحقة ليس بمحرّمة إذ هي مجرد نية، وهي لا تقلب الماضي عما وقع عليه، ولا تتحول بها الهدية إلى رشوة، لكنه لو أبرز ذلك بمبرز كما لو طالبه بتمشية معاملته قائلاً له: أَوَليس قد أهديتك أمس أموالاً؟ فالظاهر: إن ذلك لا يقلبها إلى رشوة حتى في العلة المبقية.

انقلاب الأمانة إلى سرقة وخيانة

ومنها: لو اقترض أو استعار مالاً من صاحبه بإذنه ناوياً أن يرده إليه فيما بعد فهو أمين ويده أمينةٌ، لكنه لو تغير رأيه بعد ذلك وعزم على عدم إعادة المال، فهل انقلبت اليد الأمينة إلى يد عادية، ويكون فعله سرقة منذ وقوعه؟ أو إنه يتحول - بقاءً - إلى سرقة، أي في الوقت الذي فكر وعزم على عدم أخذ المال؟ أو لا هذا ولا ذاك بل يبقى صدق عنوان المقترض والمستعير عليه، وعليه إعادته لصاحبه متى طالب به أو انتهى الزمن الذي حدده له؟

ص: 279

عمل أصحاب السبت لا بنية الصيد

ومنها: ما لو صنع شخص ما صنعه أصحاب السبت؛ بأن جعل حظيرة بالطريقة المعروفة قبل يوم السبت(1)، إلا أن ذلك لم يكن بنية أن يحجز السمك يوم السبت، ومعه فلو قلنا: بأنه لم يكن مثل ذلك محرماً(2)، فلو بدا له في سبته الصيد فهل انقلب فعله الماضي حراماً؟ أو من الآن؟ أو لا هذا ولا ذاك بل لو صاد كان حراماً؟

العدول بالنية عن إعطاء أجرة الحمامي

ومنها: ما طرحه العلماء من: لو أن شخصاً ذهب إلى الحمامي ناوياً منذ البداية ألا يدفع له المال فأغتسل غسلاً واجباً مثلاً فغسله باطل وحرام(3).ولكن محل الكلام هو: إنه لو كان ناوياً لدفع المال فاغتسل، ثم بعد انتهاء الغسل بدا له ألا يدفع، فهل غسله باطل أو لا؟

وعليه: فإن هذا البحث بحث سيال ومهم، وما ذكر ليس حالةً جزئية، بل هو مسألة كلية ذات تطبيقات حيوية متعددة، فكان من الحري أن يتوقف عنده ويبحث.

ص: 280


1- إذ كانوا يصنعون حواجز منخفضة داخل البحر قرب الساحل، ثم إنه مع المدّ تأتي الأسماك فتدخل في المنطقة المسورة من أعاليها، ثم في وقت الجزْر ينحسر الماء فيبقى السمك داخل الحظيرة والحاجز، فيصطادون السمك حينئذٍ.
2- لعدم إطلاق أدلة التحريم أو لانصرافها إلى صورة قصد الصيد.
3- قال في العروة فصل في أحكام الغسل مسألة 16: (إذا كان من قصده عدم إعطاء الأجرة للحمامي فغسله باطل، وكذا إذا كان بناؤه على النسيئة من غير إحراز رضا الحمامي بذلك وإن استرضاه بعد الغسل)، وقد تأمل البعض في كلامه، فراجع.

والحاصل: إن الملاك في صدق العناوين هل هو العلة المحدثة فقط؟ أو العلة المبقية في ظرفها؟ أو كلاهما معاً؟ فإن الشيء لو كان على حال بنحو العلة المحدثة، ثم أصبح بحال آخر بنحو العلة المبقية، فأيهما ملاك صدق العنوان أو لابد منهما جميعاً كي يصدق؟

التحقيق: التفصيل حسب محاور ثلاثة

ومقتضى التحقيق هو التفصيل حسب محاور ثلاثة:

الأول: ظهور القصد وظهور الفعل أو الظهور السابق واللاحق

ما فصلنا الكلام عن ذلك في موضع آخر وإجماله: إن القضايا المختلفة لا تساق بعصا واحدة، وإنما ينبغي أن تلحظ ضمن الضوابط التي أشرنا إلى بعضها؛ ومنها: ظهور القصد وظهور الفعل، وأيهما الملاك؟ وما حكم صورة تعارض الظهورين؟ وقد سبق أن ظهور القصد(1) أحياناً يكون أقوى من ظهور الفعل فيكون المدار على القصد، وأحياناً أخرى يكون الفعل أقوى ظهوراً من ظهور القصد، فيكون المدار والملاك ظهور الفعل، فتأمل.

ويمكن صياغة ذلك بما هو أولى، وهي: إن الظهور اللاحق، سواء أكان للفعل أم للقصد المبرز أو المحرز، هل يكون حاكماً على الظهور السابق؟ أو هو وراد عليه؟ وكل منهما: حدوثاً أو بقاءً أو غير ذلك؟ فالمدار على هذا، لا على مبحث تعارض ظهوري القصد والفعل، وأن أيهما هو الملاك.

الثاني: كذب الحاكي وكذب الحكاية

ما فصلنا الكلام عنه أيضاً(2) وإجماله: أن الكذب على قسمين: كذب

ص: 281


1- أي القصد المبرز أو المحرز.
2- راجع الصفحة: 155.

الحاكي وكذب الحكاية، فلو كان المقياس هو كذب الحاكي فالشخص في ظرفه لم يكن كاذباً وان تغير عزمه فيما بعد؛ وذلك لأخذ الالتفات والقصد في كذب الحاكي، وأما إذا كان المقياس هو كذب الحكاية، فإنه متحقق على كل حال؛ لأن كذب الحكاية أمر ثبوتي ولا ربط له بالفاعل وقصده، وحيث إن الشخص قد فعل ما سبب عدم مطابقة الخبر للواقع في ظرفه فقد كشف عن كذب الحكاية في ظرفها، فهي كذب في مرحلة العلة المحدثة أيضاً، أي كانت كذباً منذ وقوعها وإن لم نعلم به.

الثالث: هل المدار في الصدق مطابقة القول للواقع أو للاعتقاد؟

وقد مضى البحث فيه أيضاً، و هو ما بحثه القوم في علم البلاغة، والحكم في بحثنا مبني عليه، وقد غفل عنه البعض في تحقيق حكم هذه الصورة من الكذب، وهو إنه لابد من تحديد تعريف الخبر الصادق وإنه هل هو المطابق للواقع أو المطابق للمعتقد أو القصد؟

فلو قيل: بأن مدار صدق القول أو كذبه - ومطلق الحاكي - هو المطابقة للواقع، فإن كافة الصور السابقة تكون كذباً؛ إذ لم يكن القول أو الحاكي فيها مطابقاً للواقع وإن لم يعلم به في ظرفه، وعليه فهو كذب، ولا يضرّ به إننا في عالم الإثبات لم نكن نعرف أنه كذلك.

وأما لو قيل: بأن في مدار الصدق والكذب هو الاعتقاد، فهنا سيكون الحكم بعدم كونه كاذباً على القاعدة؛ إذ إن القول قد طابق معتقده، فإذا قال: (سأكرم زيداً غداً) وهو عازم على إكرامه فقد طابق قوله معتقده وقصده.

وفيه: إن الإشكال لا يحل بهذا المقدار، بل لا بد من إثبات عدم مدخلية انقلاب القصد والمعتقد في انقلاب ما كان صادقاً إلى كاذب في مرحلة علته المبقية أو

ص: 282

حتى علته المحدثة؛ إذ إن قوله بلحاظ معتقده وقصده الحادث ليس بمطابق للواقع.وهنا تحقيق لطيف نجمع به بين القولين، بل لعل هذا ينتج حلّ الخلاف بين البلاغيين في حقيقة الصدق والكذب من كون المناط فيه هو مطابقة القول للواقع أو للاعتقاد.

توضيحه: إن في المقام - أي في كل خبر غير مطابق للواقع - أمرين:

الأول: الفعل (كَذِب - يكذب).

والثاني: المصدر (الكذب).

والظاهر في الأفعال هو القصدية، دون المصدر.

وعليه: فمن لاحظ الكذب كمصدر بما هو هو انصرف ذهنه إلى كذب الحكاية، ومن لاحظ الفعل بما هو منسوب إلى فاعله انصرف ذهنه إلى كذب الحاكي.

و بعبارة أخرى: من لاحظ المصدر انصرف ذهنه إلى تعريف الصدق والكذب بمناط مطابقة القول أو عدمه للواقع، ولكن من لاحظ الفعل فحيث إن ظاهره القصدية فقد جعل مناط تعريف الصدق والكذب مطابقة القول للاعتقاد أو القصد.

ولذا نجد أنّ الإنسان لو كان معتقداً بما يخالف الواقع، وصرح به لم يُطلقْ عليه أنّه كاذب، ولا يقال: بأنّه كاذبٌ، وإنما يقال: إنه مخطئ، كالمسيحي وعقيدته في التثليث، حيث يقال له: إنك مخطئ، ولا يقال: أنت كاذب؛ فلابد من التفكيك بين الكاذب والمخطئ - وليس بين الكذب كمصدر والخطأ -، نعم قوله ب: (إنّ الله ثالث ثلاثة) كذب بلحاظ الحكاية وبلحاظ المصدر فيقال: هذا القول كذب أي غير مطابق للواقع.

ص: 283

والمتحصل: إن كلا التعريفين للصدق والكذب صحيحٌ ولكن كلٌّ بلحاظ مصبٍ خاصّ، فتارة المصب هو لحاظ الحدث بما هو هو، وأخرى المصب هو الفعل نفسه.

ولكن من الواضح: أنّ الأحكام الشرعية من حرمة ووجوب وغيرها مصبها من حيث العقوبة هو الفعل والحاكي نفسه، ومعه فمن وعد الآن، ثم لم يقدر على الإيفاء مستقبلاً، لا يقال له: أنت كاذب - وهذه هي الصورة الثانية -،ولكن لو وعد مضمراً الخلف فهو كاذب بقول مطلق، وأما لو وعد مضمراً الوفاء ثم تغير رأيه فاخلف لا لعذر، فإنه حيث قصد وعزم على الترك لاحقاً فإنه يطلق عليه الآن - لا في مرحلة الحدوث - أنه كاذب بما هو فاعل.

ولكن ومع ذلك كله فإن الظاهر أنه لا يصدق على من وعد ناوياً الوفاء ثم لم يفِ - حتى وإن كان لا لعذر - أنه كاذب لا حدوثاً ولا بقاءً، بل يقال: إنه أخلف وعده، ولا يقال: إنه كذب، وإن كان الوصف به بلحاظ المصدر كما سبق تاماً، فتأمل.

المرجع الآيات والروايات وإلا فالعرف

فهذه محاور ومقاييس ثلاثة بتنقيحها يتنقح حال المسألة وحكمها، ولكن يبقى أن المرجع قبل ذلك ظاهر الآيات والروايات في المقام، فإن تمت فبها، وإلا كان المرجع ما ذكر من المقاييس(1)، فتدبر.

ثم إنه لا بد من تعميم البحث إلى مسائل أخرى مشابهة لم يذكر بعضها الشيخ (رحمه الله):

ص: 284


1- بل المرجع العرف وبه يتنقح المراد من (كذب) ونظائره في الآيات والروايات، فتأمل.

المسائل المبحوث عنها في المقام

الوعد مع إضمار عدم الوفاء

الأولى: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من (الوعد مع اضمار عدم الوفاء).

ما لو وعد مع علمه بعدم الوفاء

الثانية: ما ذكره المحقق الايرواني (رحمه الله) من الوعد مُضمِراً الوفاء، لكن مع علمه بعدم قدرته على الوفاء، كما لو قال لابنه: سأذهب بك إلى البلد الفلاني غداً، وهو عازم على ذلك لو أقدره الله تعالى، لكنه يعلم أنه لا يتمكن، فالعزم موجود لكن يعاكسه العلم بعدم القدرة.

ما لو وعد مع شكِّه في الوفاء

الثالثة: صورة الشك، كأن يقول الأب لابنه: سأذهب بك غدا إلى المكان الفلاني) وهو شاك في انه قادر أو لا، شكاً عقلائياً، فهل هو كاذب أو لا؟ وهل هو حرام لو لم يفعل حتى لو فرض عدم صدق الكذب عليه؛ استناداً(1) إلى عموم روايات خلف الوعد؟

الوعد مع عدم إضمار شيء

الرابعة: ما لو وعد ولكنه لم يضمر شيئاً البتة، فلا أضمر الوفاء ولا عدمه، وبحكمه ما لو كان متزلزلاً في عزمه.

والحاصل: تارة يكون العزم على الوفاء موجوداً وتارة لا، كما أن العلم

ص: 285


1- مدرك الحرمة.

بالوفاء بالوعد وبالقدرة عليه أو العجز عنه تارة يكون موجوداً وتارة لا.

إذا اتضح ذلك، فلا بد من الرجوع إلى الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وسوف نشير إشارة فقط إلى بعض الروايات، ثم نتوقف عند الآية الكريمة مفصلاً.

بعض الروايات الدالة على حرمة الكذب في الوعد

قد يستدل على حرمة خلف الوعد - أو الكذب بهذا المعنى حسب تعبير الشيخ (رحمه الله) - بروايات، منها: خبر هشام بن سالم عن الإمام الصادق (علیه السلام) إنه قال: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض»(1)، والرواية مطلقة ولسانها ظاهر في الحرمة.

وقد تطرق الشيخ (رحمه الله) إلى رواية أخرى وهي: «أن لا يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي به»(2) ثم استدل ببعض الآيات كما سيأتي.

لكنه فسّر هذه الرواية بالمعنى الأضيق حيث قال: (لابد أن يراد به النهي عن الوعد مع إضمار عدم الوفاء) لكن الرواية مطلقة من هذه الجهة لصدق مدخول النهي(3) بالحمل الشائع على من وعد ثم أخلف وإن كان قد اضمر بدواً الوفاء كما سيأتي بحثه.

وعلى أي حال فإنه حسب تقييد الشيخ (رحمه الله) فإنه لو وعد واضمر الوفاء ثم بدا غير ذلك فلا حرمة له، فلنعطف زمام الكلام إلى الآية الكريمة.

ص: 286


1- الكافي: ج2 ص 363
2- الأمالي للصدوق: 419.
3- أي في قول الإمام (علیه السلام): «لا يعدن أحدكم صبيه ثم لا يفي به».

الاستدلال بالآية الكريمة: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»

وأما الآية الكريمة التي استدل بها على الحرمة فهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(1).

رأي الشيخ (رحمه الله) في الآية الكريمة

قد حمل الشيخ (رحمه الله) الآية المباركة على (الوعد مع اضمار عدم الوفاء به)(2)، وهو كما ترى حمل لهذه الآية على الأخص؛ إذ حملها الشيخ (رحمه الله) على المستقبل(3) لا الحاضر، ثم إنه (رحمه الله) خصصها بما لو أضمر عدم الوفاء في المستقبل فقط.

رأي السيد الوالد (رحمه الله) في الآية الكريمة

وفي قبال رأي الشيخ (رحمه الله) يقع رأي السيد الوالد (رحمه الله)؛ إذ استظهر عكس ما استظهره الشيخ (رحمه الله)، إذ ارتأى (4) أن ظاهر الآية هو الحال(5) لا الاستقبال، كما لو أمر شخص الناس بالبر و نسي نفسه فهذا هو المراد بالآية، قال السيد الوالد (رحمه الله): (أن يقول الإنسان الخير ولا يعمل به كأن يأمر بالصلاة ولا يصلي أو ينهى عن الكذب وهو يكذب)، وقال (رحمه الله) في الفقه: (المنصرف منه أمر الناس بالمعروف الواجب، وتركه) انتهى.

ص: 287


1- سورة الصف:2 -3.
2- المكاسب:ج2 ص 14-15
3- المقصود (إنه وعد الآن مضمراً عدم الوفاء به في المستقبل) فالخلف مستقبلي وليس الوعد نفسه.
4- ذكر ذلك في شرحه على المكاسب وكذلك في الفقه : كتاب المكاسب المحرمة.
5- أي عدم العمل أو خلف عمله لقوله، حالي.

فعلى رأي الشيخ (رحمه الله) فإن الآية ترتبط بالمقام (خلف الوعد)، وأما على ظاهر كلام السيد الوالد (رحمه الله) فلا.

رأي الشيخ الطوسي (رحمه الله): خمسة احتمالات في الآية المباركة

وأما الشيخ الطوسي(رحمه الله)(1) فقد ذكر احتمالات خمسة في الآية الشريفة، ولم يرجح صريحا بينها.وهي كالتالي:

الاحتمال الأول: إنها نزلت في المنافقين، حيث إنهم كانوا يقولون بأنهم مؤمنون ولم يكونوا كذلك، فجاء الخطاب لهم (لم تقولون - أي بألسنتكم - ما لا تفعلونه).

أقول: فتكون الآية - على هذا - أجنبية عن بحث الكذب في الوعد، وعن بحث خلف الوعد، بل هي عن الكذب في الإخبار، لكن يبِّعد هذا الاحتمال تصدير الآية بخطاب المؤمنين.

الاحتمال الثاني: إن الآية نزلت في قوم كانوا يقولون: (إذا لقينا العدو لن نفر) ثم بعد ذلك لم يفوا، فهم وعدوا ثم فروا.

أقول: بناءً على هذا الاحتمال فإن الآية تتحدث عن المستقبل - وهو خلف قولهم -، والمراد المستقبل بالقياس إلى قولهم وإلا فهو ماضٍ، وذلك إذا كان ظاهرها في خلف الوعد، ويحتمل إرادة الكذب في الوعد فهي عن الماضي، أي عن قولهم كذا، فالذم على القول الذي لم يلتزموا به، وهناك الذم على الخلف اللاحق للقول، هذا كله بناءً على أنها بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية، وعلى أي فإن المورد لا يخصص الوارد.

ص: 288


1- التبيان: ج9 ص591.

الاحتمال الثالث: إن الآية نزلت بقوم قالوا: (لو علمنا ما هو أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها) فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا أو لم يسارعوا.

أقول: وهذا الاحتمال في جامعه يعود إلى الاحتمال الذي قبله وإن تعدد المصداق.

الاحتمال الرابع: إن الآية نزلت في قوم قالوا: (جاهدنا وأبلينا) ولم يفعلوا.

أقول: فيكون المراد من الآية هو كذبهم في إخبارهم، ويكون الكلام عن الماضي فيكون الفعل المضارع على هذا مجرداً عن الدلالة عن الزمان(1)، ويحتمل أنها صيغت بصيغة المضارع مع أنها عن الماضي لإفادة أن القضيةحقيقية، وإن كان شأن النزول والخبر بخصوصية قضية من القضايا الخارجية؛ استناداً إلى ظهور مثل هذه الجملة في ذلك عرفاً، لا إلى مجرد إلغاء الخصوصية.

الاحتمال الخامس: إن الآية جارية مجرى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2).

أقول: وعلى هذا الاحتمال فإن الآية سترتبط بالمقام، وتقترب(3) من كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، فيكون مفادها: إنشاء الطلب بصيغة استفهام استنكاري، وحاصله: هو (إن وعدتم بشيء فافعلوا).

مرجعيتان في تحديد المراد من الآية الكريمة

هذا ولا بد من البحث عن المرجعية في تحديد المراد من الآية الكريمة، فنقول: إن هناك مرجعيتين يمكن الاستناد إليها لتحديد الاحتمال المراد من الآية الكريمة:

ص: 289


1- فهو مجاز إذا.
2- سورة المائدة: 1.
3- لاحظ التعبير ب(تقترب) لأن الشيخ (رحمه الله) قيّد ب(مع اضمار عدم الوفاء) وهذا الاحتمال لم يقيد به أو لا يعلم تقييده به.

المرجعية الأولى: القواعد الأصولية والبلاغية

القواعد الأصولية والبلاغية؛ ومنها: صحة الحمل وعدم صحة السلب؛ فإن الظاهر من الآية الإطلاق والشمول؛ وذلك لأنه بالحمل الشايع الصناعي لا يصح سلبها عن كل تلك الاحتمالات والمعاني التي أشرنا إليها(1)، والتي أشار إليها الشيخ الطوسي (رحمه الله)(2)، فلو وعد شخص ولده بأن يأخذه إلى المسجد ثم لم يلتزم بذلك، فإنه يصح أن يقال له: (لم تقول ما لا تفعل) سواء أضمر الوفاء أم لم يضمره أم اضمر العدم، وسواء أكان عالماً بوفائه وقدرته عليه أم لم يكن؛ فإن الصدق بالحمل الشايع الصناعي حقيقي في كل هذه الصور، هذا بالنسبة لزمن المستقبلبكل أقسامه، وأما بالنسبة للزمن الحاضر، فالأمر كذلك؛ إذ يصح إطلاق (لم تقول ما لا تفعل) على من يقول: (أنا مِضياف) وليس كذلك، أو يقول: (أنا أرعى الأيتام) وهو لا يرعاهم، أو (أنا مؤمن) ولكنه ليس بمؤمن.

لكن يرد على ذلك: إنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى من وجهين(3)، وهو وإن لم يكن ممتنعاً لكنه عرفاً غير مستفاد في المقام، وسيأتي تنقيحه في ضمن تحقيق الرواية الآتية.

المرجعية الثانية: الروايات المبينة للآية الكريمة

الرجوع الى الروايات الشريفة في تحديد المراد من الآية، حيث إن هناك

ص: 290


1- مما ذكره الشيخ (رحمه الله) والسيد الوالد (رحمه الله).
2- التبيان: ج9 ص591.
3- فان بعض الاحتمالات عن خلف الوعد (وهو مستقبلي) وبعضها عن القول بما لم يفعله (وهو ماضوي أو حالي) أو عن عدم الفعل طبقاً لما قاله (وهو ماضوي أيضاً) كما ان الاحتمال الخامس إنشاء وما سبقه اخبار. فتأمل. وسيأتي.

رواية معتبرة صحيحة لم يشر لها بعض اولئك الأعلام(1)

وهي مذكورة في الكافي الشريف، فعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال:سمعت أبا عبد الله يقول: «عِدةُ المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرَّض، وذلك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(2)» (3).

ص: 291


1- إذ ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) احتمالات خمسة ولم يشر إلى أن هناك رواية صحيحة تحدد المراد من تلك الاحتمالات، كما أن السيد الوالد (رحمه الله) استفاد الانصراف إلى أمر الناس بالمعروف الواجب، وتركه إذ الظاهر أنه لم يلاحظ هذه الرواية التي تفيد معنى آخر، ويمكن الجواب أن الرواية ليست في مقام الحصر بل ذكرت مصداقاً فلا ينافي ذلك ظاهرها المنصرف إليه، فتأمل. كما أن السيد الخوئي (رحمه الله) قال: (وفيه: إن الآية أجنبية عن حرمة مخالفة الوعد، فإنها راجعة إلى ذم القول بغير العمل). وهو كما ترى خلاف نص الرواية المعتبرة الصحيحة وقال: (وعليه فموردها أحد الأمرين على سبيل مانعة الخلو: 1 - أن يتكلم الإنسان بالاقاويل الكاذبة، بأن يخبر عن أشياء مع علمه بكذبها وعدم موافقتها للواقع ونفس الأمر، فإن هذا حرام بضرورة الإسلام كما تقدم. 2 - موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمر الناس بالمعروف ويتركه هو، وينهاهم عن المنكر ويرتكبه، وهذا هو الظاهر من الاية ومن الطبرسي في تفسيرها). واحتماله الأول خلاف ظاهر الآية جداً نظراً لوجود كلمة (تعملون) لا (تخبرون) والاحتمال الثاني هو ما ذكره الوالد (رحمه الله) أيضاً فيرد عليه ما ورد عليه إلا أنه حيث حصر مدلولها في أحد الأمرين لم ينفع الدفاع عنه بما سبق عن مختار الوالد (رحمه الله)، فتدبر. * مصباح الفقاهة: ج1 ص604.
2- سورة الصف: آية 2 - 3.
3- الكافي: ج2 ص 363.

فقه رواية (عدة المؤمن أخاه نذر):

ظاهرها وجوب الوفاء بالوعد؛ لوجوه ثلاثة

ثم إنه ربما يستفاد وجوب الوفاء بالوعد من الرواية الشريفة من وجوه ثلاثة:الأول: إن الإمام (علیه السلام) قد عدّ عِدةَ المؤمن نذراً، والوفاء بالنذر واجب، فكلام الإمام صريح في تشخيص صغرى هذه الكبرى، وهذا ما يؤكده تفريعه (علیه السلام) الجزاء الشديد عليه.

وعليه: فظاهر الرواية هو وجوب الوفاء بالوعد.

الثاني: إضافة إلى أن الإمام (علیه السلام) استثنى الكفارة، والاستثناء يؤكد الأصل، فتثبت أحكام النذر للعدة والوعد باستثناء الحكم الوضعي وهو الكفارة.

وهنا لفتة لطيفة وهي: أن قوله (علیه السلام): «لا كفارة له» هل هي تشديد أو تخفيف؟ أحتمل بعضٌ أنه تشديد، أي أنه نذر ولكنه لجسامة الجريرة والذنب فلا يكفره شيء، بينما احتمل بعض آخر أنه تخفيف، أي إنه نذر خفف الله تعالى عن المكلف الكفارة فيه، لأنه بالذات أخفّ من خلف سائر أنواع النذر، لكن المتفاهم عرفاً منه هو التخفيف.

الثالث: وقوله (علیه السلام): «فمن أخلف ... ولمقته تعرَّض» ظاهر في أن هذا العمل حرام؛ فإن الكراهة لا توجب المقت، فلو أن أحدهم أكل الجبن بلا جوز فلا يقال له: (إنه بمخالفة الله بدأ، ولمقته تعرض)، ولو قيل في موردٍ ذلك فهو مجاز يحتاج إلى قرينته.

ص: 292

شمول قوله (علیه السلام): «عدة المؤمن نذر» لست صور

ثم إن عبارة الإمام (علیه السلام): «عدةُ المؤمن أخاه نذرٌ» عبارة مطلقة تشمل عدداً من الصور المختلف فيها، فتفيد وجوب الوفاء سواء أضمر الوفاء أم لم يُضمِر شيئاً ولم يعزم، أم أضمر الخلف؛ وهذه صور ثلاث، ولم يقيد الإمام (علیه السلام) بواحدة منها دون أخرى، فهذا هو التعميم الأول.

إضافةً إلى أنها مطلقة من جهة أخرى أيضاً، وهي جهة علمه بالوفاء وعلمه بعدم الوفاء وعدم العلم، أي سواء أعلم بأنه سيفي أم علم بأنه لا يفي أم لم يعلم أصلاً؛ وهذه ثلاث صور أخرى، فيكون المتحصل ستّ صور: ثلاث صور تتعلق بالعزم وهذه ثبوتية، وثلاث صور أخرى تتعلق بالعلم وهذه اثباتية.

وإلى بعض هذه الصور أشار الشيخ علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله) في تفسيره إذ قال: (مخاطبة لأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذين وعدوه أن ينصروه ولا يخالفوا أمره ولا ينقضوا عهده في أمير المؤمنين (علیه السلام) فعلم الله أنهم لا يَفُون بمايقولون فقال: (لم تقولون ما لا تفعلون)(1) ولعل ظاهر تفسيره: إنه رواية؛ إذ إنه يذكر شأن النزول، فكلامه دليل على ذلك، وإلا فمؤيد.

إذن: فكلام الشيخ(رحمه الله)(2) ليس بتام ظاهراً؛ استناداً إلى إطلاق هذه الرواية فإن الإمام (علیه السلام) قد أطلق كون عدة المؤمن أخاه نذراً، وارجع إلى الآيات المباركات ولم يقيّد بكونه قد أضمر عدم الوفاء، بل واستناداً إلى إطلاق الرواية التي نقلها هو بنفسه: «لَا يَعِدَنّ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ»، نعم لو كان كلام

ص: 293


1- تفسير القمي: ج2 ص365.
2- الذي ذكره لتقييد رواية «لا يعدن أحدكم صبيه ثم لا يفي به» بصورة الوعد مع اضمار عدم الوفاء.

الشيخ (رحمه الله) عن خصوص عدم صدق الكذب على هذا لما ورد عليه هذا الجواب؛ إذ الرواية عن العِدة وخلفها، لا عن صدق الكذب عليها.

والحاصل: إن الشيخ (رحمه الله) لو أراد الخروج الموضوعي لما ورد عليه هذا الجواب، وهذا(1) هو ما ترقى إليه بقوله لاحقاً: (بل الظاهر عدم كونه كذباً حقيقياً) فما سبقه يؤول في جوهره إلى دعوى الانصراف ولا وجه له إلا عدم حكم المشهور على طبق هذه الروايات أو فقل (فهمهم) الانصراف فتأمل(2).

الصورة السابعة

إن الصور الست المذكورة تندرج كلها في دائرة (المستقبل)(3)، ويقع الكلام أيضاً في شمول الرواية وعدمه للزمن الحاضر والماضي، فلو قال شخص لآخر: (صلّ) ولم يصلِّ هو، فإن هذه الصورة ترتبط بالحاضر، أيبحالته هو حين أمره بالمعروف، وهي عدم كونه حين أمره بالصلاة مصلياً، وهكذا لو قال: (آمنوا) وهو مؤمن بظاهره ولكنه لم يؤمن بقلبه.

ولكن هذه الرواية لا تشمل هذه الصورة السابعة؛ إذ لا يطلق عليه أنه وعد فلا ترتبط بحاله الحاضرة، ولكنها مشمولة للآية الكريمة: «لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ»، وتدل على شمولها لها القاعدة الأصولية السابقة وهي: صحة الحمل وعدم صحة السلب، فلو قال شخص صلوا وهو لا يصلي، فيصح أن نقول له: (لم تقولون ما لا تفعلون)، كما أنه لو وعد ولم يفِ بصوره السّت

ص: 294


1- الخروج الموضوعي.
2- إذ لعل وجه تقييد الشيخ (رحمه الله) النهي بكونه (الوعد مع اضمار عدم الوفاء) ليصلح - بدواً - لصدق عنوان الكذب عليه، فتأمل.
3- مضى المراد منه.

صح أن يخاطب ب(لم تقولون ما لا تفعلون).

والمتحصل: إن الإطلاق في الآية الشريفة شامل للحاضر والمستقبل، وللوعد بأقسامه الستة، ولحالة النفاق، ومطلق أن يأمر بما لا يفعل به، ولا استبعاد عرفي لذلك، بل قد يدعى أن كل ذلك مما يجد العرف انطباق الآية عليه، بل إنهم يستعملون مثل هذه الجملة في كل تلك الموارد السبعة، فتأمل.

ملخص وإيجاز

وملخص الكلام: إن المستظهر أن الآية المباركة تشمل ما يلي:

أولاً: ما يعده المرء وهو عازم على ألا يفعله، وهذه الصورة هي التي استظهرها الشيخ (رحمه الله) فقط.

ثانياً: ما لا يفعله الآن ولكنه يقوله، وهذا هو رأي السيد الوالد (رحمه الله) في الآية، وكذلك السيد الخوئي (رحمه الله) في مصباح الفقاهة.

ثالثاً: ما يعلم أنه لا يفعله وإن كان عازماً على فعله، وهذه الصورة قد احتملها المحقق الايرواني (رحمه الله).

رابعاً: ما لا يفعله للبداء، كما لو تغير عزمه بنحو العلة المبقية. ولذلك تتمة ستأتي بإذن الله تعالى.

إشكال: إذا كان مصب الآية القول بلا عمل لحرم النهي عن المنكر على فاعله

ولتحقيق المراد من الآية الكريمة وأنها ترتبط بالمقام أو لا، لا بد من البحث عن مصب الذم في الآية الكريمة؛ فهل مصب الذم على قول ما لا يفعله الإنسان؟ أو أنه على عدم الفعل بما قاله؟

ص: 295

والآية ظاهرة في أن المصب على الأول لا الثاني، لأن القول هو الذي وقع مباشرة متعلقاً للاستفهام الاستنكاري ب(لِمَ)، لكن ذلك بظاهره مما لا يلتزم به؛ إذ يعني: حرمة أن ينهى الشخص الناس عن الغيبة وأن يقول للناس: (لا تغتابوا) إذا كان هو يغتاب أحياناً، وكذلك كل من يفعل منكراً، فإنه لا يجوز له حينئذٍ نهي الناس عنه لقوله تعالى: «لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ».

والحاصل: إن المصب لو كان ذلك لحرم النهي عن المنكر على من يفعله، مع أنه خلاف المرتكز والفتوى، فإن النهي عن المنكر واجب حتى لو كان يعمله، فإن عمله بالمنكر حرام، وتركه النهي عنه حرام آخر.

الجواب عن الإشكال بوجوه سبعة

وهناك وجوه سبعة للجواب على هذا الإشكال والشبهة المتوهمة حول الآية(1):

الوجه الأول: إن المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي

وجه مبني على تسليم أن النهي والذم نهي عن القول - وكما هو ظاهر الآية الشريفة - إلا أن المقام سيكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي؛ أما كونه(2) مورد الأمر، فلوضوح عموم وجوب القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عامة المكلفين، ولذا فعلى المتكلم أو الخطيب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن لم يكن هو ممتثلاً، فإن نفس قوله وأمره بالمعروف ونهيه عن

ص: 296


1- ولا مانعة جمع بين عدد من هذه الوجوه.
2- أي كون أمره بالمعروف الذي لا يعمل به هو، كأمره غيره بالصلاة أو الخمس وهو لا يصلي أو لا يخمس.

المنكر - وإن لم يعمل بمفاده - أمر حسن وواجب.

وأما كونه مورد النهي؛ فلأن قوله بلا فعل، وهو - حسب المستفاد من هذه الآية و ظاهرها - قبيح وحرام، فصار المورد من اجتماع الأمر والنهي والتزاحم بينهما؛ نظراً لوجود الملاك من الجهتين في المصداق الواحد، إلا أنملاك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقوى من ملاك القول بلا عمل فيقدم عليه، فيجب، وإن استحق المذمة أو العقوبة على تفويته الملاك الآخر الملزم، وفيه تأمل(1).

وعليه: فالمكلف لابد أن يأمر وينهى بالرغم من أنه يقول ما لا يفعل.

ويوضحه: الخروج من الغصب، فلو أن شخصاً دخل داراً مغصوبة عالماً عامداً فلابد أن يخرج فوراً منها ولكن ما هو حكم خروجه؟

والجواب: إن خروجه واجب ولكنه حرام أيضاً، فهو من موارد التزاحم واجتماع الأمر والنهي، فإنّ الخروج من حيث إنه نوع تصرف في الغصب، فهو حرام، ومن حيث إنه مقدمة للكون خارج البيت المغصوب والتخلص من استمرار الغصب فهو واجب، فكلا الملاكين متوافر.

ولكن مادام المكلف قد أوقع نفسه في المحظور بسوء اختياره فهو يستحق العقوبة، ولذا أوجب الشارع عليه الخروج، مع أنه يستحق العقوبة على هذا الخروج؛ لأنه أوقع نفسه فيه بسوء اختياره، ولما كان ملاك الخروج أي التصرف الأقل، أقوى من ملاك البقاء المستلزم للتصرف الأكثر وجب الخروج.

ص: 297


1- من جهات، ومنها أن التزاحم هو ما كان لكلا الدليلين ملاك وكان العجز عن امتثالهما هو المانع من تكليفه بهما معاً، وليس المقام كذلك إذ بمقدوره الجمع بأن يأمر ويعمل وينهى وينتهي، نعم يعود الأمر إلى تزاحم الملاكات في عالم الجعل، فتدبر.

الوجه الثاني: مفاد الآية النهي عن عدم الفعل، وقلب النهي إشارة لوجه الاحتجاج

إن النهي في واقع الآية الشريفة منصب على الترك (ما لا تفعلون)، أي ترك الفعل، لا على القول نفسه - على خلاف ظاهر الآية لقرينة ستأتي -، فيكون المراد من الآية هو (لم لا تفعلون ما تقولون)، فيكون النهي عن ترك الصلاة نفسها وليس المصب هو الأمر بها (صل) ،ولكن قد ورد العكس والقلب في الآية المباركة من أجل إشارة دقيقة إلى وجه الاحتجاج على الطرف الآخر وإلزامه، وهذا عرفي، فلو أن شخصاً سرق وكان مع ذلك ينصحالآخرين بألّا يسرقوا، فإنه يقال له: لِمَ تقول ما لا تفعل؟! والمراد إلزامه والاحتجاج عليه بأن السرقة وحرمتها مسلمة عندك حتى أنك تعمل على نهي الغير عنها فلم تفعل هذه الفعلة القبيحة؟

والخلاصة: إن الحرمة منصبة على ترك الفعل لأن ملاك المفسدة قائم به، لكن صُبَّ الذمُّ على القول كي يكون الاحتجاج عليه أقوى لا لوجود ملاك الحرمة والمفسدة فيه؛ إذ من يدعو إلى عدل ويميل عنه فهو إذا كان مذعناً به أحرى بأن يلزم به.

ولعل ظاهر الرواية الآنفة هو هذا الوجه؛ إذ ظاهرها الذم على خلف الوعد لا على الوعد نفسه ولذا قال (علیه السلام): «فمن أخلف فبخُلف الله بدأ ولمقته تعرَّض وذلك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»»(1). فتدبر وسيأتي في الوجه السابع مزيد بيان لهذا.

ص: 298


1- روي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، الكافي: ج2 ص363 - 364.

الوجه الثالث: مصب النهي هو المجموع والهيئة الاجتماعية:

إن النهي قد انصب على الهيئة الاجتماعية والمجموع من حيث إنه مجموع، إذ تارة يقال: بأن مصب النهي هو القول نفسه، وهذا هو الوجه الأول، وتارة أخرى يقال: بأن مصب النهي هو ترك الفعل - مقول القول - وهذا هو الوجه الثاني، ولكن تارة ثالثة يقال: إن المجموع هو المنهي عنه والقبيح.

ويوضحه: إن شخصاً لو طلب حاجة من شخص آخر، فوعده الثاني بقضائها عازماً على ذلك، لكن الطالب كرر الطلب وألح فيه، فإن الثاني قد يعاتبه فيقول له: لم تقول لي ما قلته قبلاً؟ فعتابه هنا ليس على القول الحاضر فقط أو السابق فقط، وإنما مصب العتاب هو مجموع القول الحالي والسابق أيضاً، أي أنهما معاً سببٌ لضجر الشخص الثاني، وإن شئت فقل: العتاب على إلحاحه، وهو عبارة عن القول الثاني المسبوق بالقول الأول، أي القول الثاني بشرط هذا الاتصاف.وفي المقام: قد يقال بأن الله تعالى لا يذم على صِرف القول؛ لوضوح أن الأمر بالمعروف حسن، ولا يذم على صرف ترك الفعل كترك الصلاة؛ لأن الخطاب في الآية هو (لم تقولون)، وظاهره: النهي على القول نفسه؛ ولذا لم يقل (لم لا تفعلون)، ولكن الذم منصب على المجموع منهما وهو القول المتلبس بعدم الفعل.

ولا يتوهم: إنه لو كان الوذجه الثالث تاماً فللمكلف أن يدفع الذم أو العقاب من خلال رفع أحد ركني الموضوع، فإما أن يرفع القول فلا يقول للآخر (صل)، أو أن يرفع ترك الفعل بأن يصلي، وذلك(1) لشهادة مناسبات الحكم

ص: 299


1- بيان دفع الوهم.

والموضوع بل الوجدان ب: أن رفعه اليد عن ترك الفعل هو المطلوب، لا رفعه اليد عن القول (أي الأمر بالمعروف)، فتأمل.

الوجه الرابع: أنّ النهي هو بلحاظ شأنية مقدمية القول لأن يفعل، لا فعليتها

إن الذم على القول هنا ليس نهياً عن القول نفسه، بل لأجل عدم جعل المكلف قولَه مقدمةً لفعله، وهذا يعتمد على بيان مرادنا بالمقدمية هنا، وعلى تقسيم المقدمة إلى قسمين؛ فإن بعض الأشياء مقدمة بالفعل، وبعض آخر من قبيل المقدمة الشأنية، والقسم الثاني لعله المقصود بالآية المباركة، أي إن ما من شأنه أن يكون مقدمة للفعل، لِمَ لم تجعله مقدمة له؟

أي إن قول القائل (صلِ) لغيره من المكلفين، من شأن نفس هذا القول أن يكون مقدمة لأن يفعل القائل نفسه الصلاة فكيف بغيره، ولذا فلِمَ يقول ولا يفعل؟!

وعليه: فما كان من شأنه أن يكون مقدمةً فالعتابُ يصح أن يقع عليه لأنه لم يجعله مقدمة فعليةً للعمل وليس المقصود مقدمية القول لعدم الفعل. فتأمل إذ ذلك خلاف المتفاهم عرفاً من الآية.

الوجه الخامس: النهي منصرف إلى غير (النهي عن المنكر) فتختص الآية بالوعد

إن الآية منصرفة عن دائرة النهي عن المنكر - بل والمكروه -، والأمر بالمعروف - بل والمستحب -، وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات.بيانه: إن الطائفة الأولى من الآيات تصرح بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعضها يقيد استحباب الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه،

ص: 300

وأما الطائفة الثانية فهي مثل التي تقول (لم تقولون) فتقع المعارضة بينهما، وتدفع ب: القول بأن الآية الأخيرة منصرفة عن موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا تعارض.

وبعبارة أخرى: إن الآية ستكون مختصة بالصور الست الأولى والتي ترتبط بالمستقبل - وهو مورد الرواية الصحيحة السابقة أيضاً - فتخرج الصورة السابعة الدالة على الحاضر، أي إن الآية تتحدث عن المستقبل والوعد فقط ومفادها هو (إذا وعدت ففِ بوعدك) فلا تشمل مثل المنافق المُضمِر لنفاقه والمظهِر للإيمان أو ذلك الذي يدعي أنه يأوي الضيف أو يفعل كذا وكذا في الوقت الحالي وهو ليس كذلك.

والمتحصل: إنه قد يقال: إن الآية منصرفةٌ عن مورد الأمر بالمعروف لمن ليس عاملاً به، خاصةٌ بالوعد المستقبلي، فلا تشمل الحاضر وصورةَ كون الشخص غير متصف به أو غير عامل بما يأمر به، ولعله تؤيد هذا الوجه الروايةُ الصحيحة الآنفة الذكر، إن لم نصِر للوجه الثاني، فتأمل.

ومن الممكن الانتصار بهذا الوجه للشيخ الانصاري (رحمه الله) في قبال ظاهر رأي السيد الوالد (رحمه الله)، فتدبر.

الوجه السادس: إنّ الآية الثانية مكملة للأولى فلا تنافي بينهما

إنه لا تنافي بين الآيتين، بل يوجد وجه جمع عرفي بينهما، فإن الآية الأولى(1) مطلقة تفيد وجوب الأمر بالمعروف عاملاً كان به أو لا(2)، وأما الثانية فتقول: لماذا تأمر بالمعروف ولا تعمل به؟! فإنه لا تنافي فيما بينهما، بل تكون

ص: 301


1- أي قوله تعالى: «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ»، سورة لقمان: 17.
2- فهذه مسألة اجماعية فمن لم يصل لا يسقط عنه وجوب الأمر بالصلاة وهكذا.

الثانية مكملة للأولى، ولا تعارض في البين(1)، لكن مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني(2).

الوجه السابع: الذم على الترك والعدول إما للإلفات وإما للإخبار

إن النهي إما أن يكون على سوء العزم، أو على ترك الفعل، والعدول عن (لِمَ لا تعملون) إلى (لم تقولون) إما للإلفات وإما للإخبار، وهذه وجوه وشقوق ثلاثة:

الشق الأول: فهو إن الذم والتقريع هو على سوء العزم، وذلك كمن يقول: (سآتي لنصرتكم غداً) ونحن نعلم بسوء عزمه، فنقول له: لم تقول ما لا تفعل؟ فالعتاب هنا في جوهره ليس على القول، وإنما على ما كشف عنه من سوء النية، فيكون مورد الآية هو: (لِمَ تقولون ذلك وأنتم عازمون على خلف الوعد) فهذا هو المصب.

وعليه فالآية خاصة بالمستقبل وببعض الصور السّت دون كلها، لكنه خلاف الظاهر؛ إذ الآية (ما لا تفعلون) وليس (ما عزمتم على عدم فعله).

الشق الثاني: ما لو كان الشخص غير سيء العزم، بل كان قد وعد وهو جاد في وعده، ثم بدا له - لا لعذر - أن يخلفه.

الشق الثالث: غير صورة الوعد، بل صورة مخالفة واقعه لقوله، كما في المنافق الذي يدعي الإيمان فيتعلق ذلك بالزمن الحاضر.

وفي كلا الشقين علينا أن نستعين بالوجه البلاغي الآنف وهو (القلب)،

ص: 302


1- ومعه فلا داعي للجوء إلى القول باجتماع الأمر والنهي والتزاحم كما في الوجه الأول ولا وجه لدعوى الانصراف كما في الوجه الخامس وإنما نبقى مع الإطلاق.
2- أو حتى الثالث فإنه ينسجم معه.

فإن واقع الآية ومرادها - على كلا الشقين الأخيرين - هو (لمَ لا تفعلون ما تقولون)، والذم في الواقع إنّما هو على ترك الفعل، لكنه قلب إلى الذم على القول لحكمة في المقام.

بيان ذلك: وتوضيحه يظهر بذكر بعض أمثلة القلب:منها: قوله تعالى: «مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ(1) بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ»(2) ، والقلب هنا حيث إن المفروض أن يقال: (ما أن أولي القوة ينوؤون بمفاتحه)(3)، أي إنهم بسبب ثقلها تميل أظهرهم وتنحني، لا إن المفاتيح هي التي تميل بثقلهم، ولعل وجه الحكمة في القلب هو: إن المراد هو أن المفاتيح بلغت من الكثرة وكأنها هي الحاملة وكأن الشخص هو المحمول.

ومنها: قوله تعالى: «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا»(4)، فإن المشركين كانوا يشكلون على تحريم الربا وتحليل البيع، فيقولون: الربا هو مثل المعاملة المحللة المتعارفة، فكان المفروض أن يقال: (إنما الربا مثل البيع فلم لم يحلل مثله؟) فقلب للفتة بلاغية ليكون المراد: البيع يشبه الربا فلم أحلّ دونه.

ومنها: قولك: (أدخلت القلنسوة في رأسي)، والواقع هو العكس فإنه قد أدخل رأسه في القلنسوة.

ومن الاستطراد الضروري القول: إنه من خلال كل هذا يتبين وجه من وجوه الجواب على مجموعة من الإشكالات التي قد تتوهم على بعض الروايات أو الآيات كما في قوله تعالى: «وَاجْعَلْنَا

لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً»(5) حيث إن الإمام (علیه السلام)

ص: 303


1- ناء ينوء من الميل بسبب الثقل.
2- سورة القصص: 76.
3- أو (ما إن مفاتحه لتنوء بهم العصبةُ أولي القوة).
4- سورة البقرة: 275.
5- سورة الفرقان: 74.

بيّن أن المراد هو: «وَاجْعَلْ لَنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ إِمَاما»(1) ولعله مبني على معادلة القلب البلاغي، أي إن المراد عبارة أخرى عن (واجعل المتقين لنا إماما).واللطيف أن بعض العامة قد استشهد بهذه الآية على المراد هذا؛ انسياقاً مع بلاغتها بنكتة القلب، غفلة عن مخالفته كلامياً لنا، وإن تفسيره هذا يطابق رواياتنا التي أفادت بأنه كيف تكون أئمة للمتقين - وهم الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته % -، وإن المراد هو اجعلهم أئمة لنا، فقد ساقه لقول الحق ذوقه البلاغي.

وفي المقام نقول: إن النهي منصب على ترك الفعل في (ما لا تفعلون)، إلا أنه عدل عنه وصب على القول من باب القلب، ولعله وجهه - إضافة إلى ما مضى(2) - : الإشارة إلى مدى قبح ترك الفعل حتى كاد ذلك أن يلقي بظلاله على القول فيتحول القول نفسه إلى أمر قبيح كذلك، نظير ما قيل: من سراية قبح اللفظ إلى المعنى وبالعكس، وكذا سراية جمال المعنى للفظ وبالعكس.

كما يمكن أن يكون وجهه: إفادة مطلب جديد آخر زائداً على أصل حرمة الترك - المتعلق -, وهو الإخبار عن المستقبل بما يصعب إنكاره عادة، في لفتة دقيقة ولطيفة، ويتضح ذلك أكثر بالمثال التالي: لو أن شخصاً قال: سأنصر المجاهدين غداً، ونحن نعلم - يقيناً وقطعاً - أنه لن ينصرهم رغم وجوبه عيناً عليه إذ لم يقم به من فيه الكفاية، فإن عدم نصرته لهم في الغد حرام، ولكن لا يصح أن يخاطب الآن ب(لِمَ لا تفعل ما تقول)؛ لأن الترك مستقبلي والذم حاليّ فظرف الترك ليس في الزمن الحاضر، فكيف يذمه على ما لم يصدر منه حتى الآن؟ نعم يصح عقلاً بلحاظ ظرفه، لكنه مستبعد عرفاً، ولذا فالأكثر عرفيةً والأجمل أن يقال: لم

ص: 304


1- تفسير القمي: ج 1 ص10، بحار الأنوار: ج24 ص135.
2- من قوة الاحتجاج.

تقول ما لا تفعل؟

ومع هذا القلب بالتغيير في التعبير بقوله تعالى: «لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ» تتحصل فائدة مزدوجة وهي أنه أخبر عنهم بعدم فعلهم مستقبلاً - وهذا وجه إعجاز في القرآن الكريم في إخباره عن المغيبات الآتية ووقوعها -، وعبّر عن ذلك بتعبير لطيف أبعد من إيراد الإشكال عليه؛ إذ لو قال: (لم لا تفعلون ما تقولون)، كان إخباراً صريحاً أقرب لأن ينكرونه بأنه من قال إننا لا نفعل؟ عكس الاخبار الضمني الظريف الذي لا يلتفت إليه إلا البليغ الفطن فيكون أبعد عن الاستنكار.

فهنا: ذم وإخبار، ذم على عدم الفعل نفسه، وإخبار على أن قوله الحالي ليس بمطابق للواقع الاستقبالي.وقد سبق أن نقلنا في شأن نزول الآية: إن أولئك الأشخاص في زمن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) وعدوا أنهم سينصرون الإمام علياً (علیه السلام)، والله عالم - بعلمه الأزلي الأبدي - بأنهم سوف لا يفون مستقبلا(1).

إذاً ففي هذا القلب والعدول فائدة جديدة يكون من خلالها وفي ظلالها إثبات وجه إعجازي آخر للقرآن الكريم وكذلك للنبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) بما يصعب إنكاره(2) وهو صدق الإخبار المستقبلي مع أنه ذم على ترك الفعل أيضاً، فتأمل.

ولكن التدبر يقضي ب: أن الوجه السابع تفصيل للوجه الثاني بشقيه إلى شقي الوجه السابع الثاني والثالث، فلاحظ.

ص: 305


1- سواء وعدوا وقد عزموا على الفعل أم لم يعزموا أم عزموا على العدم.
2- هذا القيد لأنه لو لم يكن قلب لكان إعجازاً أيضاً في إخباره عن مستقبلهم ب(لم لا تفعلون ما تقولون) لكنه أسهل - نفسياً - للرد عليه.

تلخيص لحكم صور الوعد مع الخلف

وملخص ما تحصل من الصور الأساسية فيما لو وعد فاخلف، صور أربع:

الصورة الأولى: ما لو وعد بصيغة الإخبار عازماً على عدم الوفاء، فهو كاذب موضوعاً وفعله حرام حكماً.

الصورة الثانية: ما لو تعهد بأمر عازماً على عدم الوفاء به، فهو إنشاء لا يحمل عليه الصدق أو الكذب إلا بلحاظ لازمه أو ملزومه.

الصورة الثالثة: ما لو وعد عازماً على الوفاء لكنه لم يقدر على الإيفاء - قسراً - مستقبلاً، فليس بكاذب بالحمل الشائع الصناعي بل هو صادق عرفاً، فإن أحدهم لو وعد أصدقائه بزيارتهم لكنه عجز كما لو سجن أو لم يحصل على وسيلة توصله فلم يزرهم، فلا يقال له أبداً: إنه كاذب(1).الصورة الرابعة: ما لو وعد عازماً على الوفاء ولكنه عمل ما من شأنه أن يجعله مستقبلاً ناقضاً لذلك الوعد، أو حدث له البداء فهل هو صادق في وعده أو كاذب؟ وقد يقال: بأنه لا يصدق عليه أنه كاذب، بالحمل الشايع الصناعي بل أنه لم يفِ بوعده فيلام على ذلك لا على أنه كذب.

والحاصل: إنه حيث وعد وقدر على أن يفي فلم يفِ؛ فإن الناس والعرف يلومونه على نقضه الوعد ولا يعتبرونه كاذباً(2) مادام كان عازماً حين

ص: 306


1- وإن صدق كذب الحكاية فإنه لا شك في أن الأدلة منصرفة عنه - أي عن العازم العاجز لاحقاً - حتى وإن قلنا إن المقياس كذب الحكاية. فراجع ما سبق.
2- وقد يفكك ويقال: إنه كاذب بقاء لا حدوثاً وذلك منوط بكذب الحاكي ودعوى مدخلية القصد.

الوعد على الوفاء، ولكن سبق: أن الكذب على قسمين - بحسب تحليلنا - كذب الحكاية وكذب الحاكي، فإن الإنسان الذي وعد عازماً على الوفاء ثم لم يف بوعده، فإنّ وعده إن كان إخباراً أو استلزمه هو كذب من حيث الحكاية؛ لأنه قول لم يطابق الواقع، فمطابقة الواقع شرط صدق الصدق وعدمه شرط صدق الكذب ولو بنحو الشرط المتأخر، إلا أنه من حيث الحاكي ليس كذلك، فلا يقال: إنه كاذب؛ لأنه كان قد عزم على الوفاء.

وقد يفكك بين العلة المحدثة والمبقية، لأنه وعد وعزم ونوى الوفاء حدوثاً، إلا أنه أخلف بقاءً لا لعلة، فلا يقال له: (كنت كاذباً)؛ إذ لم يكن كاذباً كحاكٍ، لكن يصح أن يقال له عرفاً: (أنت الآن كاذب) بلحاظ الحاكي، ولذا يقال له في العرف: لماذا كذبت؟

وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، والظاهر أن التفكيك غير عرفي.

ص: 307

المسألة الرابعة: المبالغة

اشارة

هل المبالغة من الكذب موضوعاً أو لا؟

فلو زار أحدهم أخاه خمس مرات مثلاً، ثم قال إنه قد زاره عشرين مرة أو مئة مرة، فهل هو كذب موضوعاً؟ ولو كانت كذباً موضوعاً فهل هي جائزة حكماً؟

رأي الشيخ (رحمه الله): المبالغة مطلقاً ليست من الكذب

قال الشيخ (رحمه الله) في مكاسبه: (ثم إنه لا ينبغي الإشكال في أن المبالغة في الادعاء وإن بلغت ما بلغت ليست من الكذب...)(1) انتهى، وكلامه واضح وظاهر في أن المبالغة ليست بكذب موضوعاً.

المناقشة: قيدان لتكون المبالغة صدقاً

ولكن قد يورد عليه: إن إطلاق الشيخ (رحمه الله) عدم كونها كذباً المستفاد من قوله: (وإن بلغت ما بلغت)، غير صحيح، إذ لابد أن يقيد ذلك بقيدين:

الأول: (العرفية)، فإن المبالغة في الادعاء إذا كانت عرفية فليست بكذب، دون ما لو لم تكن.

الثاني: (وجود القرينة الحالية والمقامية)، وإلا لكانت المبالغة كذباً. وتوضيح القيدين:

ص: 308


1- كتاب المكاسب: ج2 ص16.

القيد الأول: لا بد من كون المبالغة عرفية

عرفية المبالغة، فلو كانت كذلك فليست بكذب، وإلا فكذب.

دليلنا: العرف، فإنه المرجع في المفاهيم، وصحة الحمل وعدم صحة السلب، ويتضح ذلك بالامثلة التالية:

ما لو أقام أحدهم مجلس عزاء حضره 25 شخصاً فادّعى بأنه قد حضر مجلسه العشرات من المعزين، فذلك مقبول عرفاً ويعدونها مبالغة، ولا يرونها كذباً، أمّا لو ادّعى بأنّه قد حضر المئات لمجلسه، فإن العرف ينعتونه بالكذب؛ إذ للمبالغة حدود عرفية يحكم العرف من خلالها على كلام الشخص بأنه صدق أو كذب.

وفي مثال آخر: ما نشهده في عالم الإعلام والسياسة، فتارة تقوم الوكالة الإخبارية بتضخيم الخبر بطريقة غير عرفية أو على تصغيره وتحجيمه كذلك، وتارة أخرى تكون المبالغة - تكثيراً أو تقليلاً - عرفية، فمثلاً قد تعرض خبرَ خروجِ عشرات الألوف من الناس بصيغة خروج المئات من الأشخاص في اعتصام أو إضراب أو أمر آخر، وقد تطرح ذلك بصيغة أن الألوف قد خرجوا، فالثاني لعله من المبالغات المقبولة التي لا يرونها كذباً، أما الأول فمبالغة كاذبة لأغراض وأهداف مبيتة، ولذا نجد أنهم لو كان الحدث يتساير مع سياستهم العامة يعملون على المبالغة في جانب الكثرة، وأما لو كان الحدث والخبر في خلاف توجههم وشأنهم كانت المبالغة منهم مبالغة في جانب القلة فتكون سلبية(1).

ص: 309


1- نجد مثلاً أن بعض القنوات المغرضة تعمل على تزييف بعض أعظم الحقائق كالزيارات المليونية التي تشهدها مدينة كربلاء المقدسة حيث تغص بأعداد لا مثيل لها في كل العالم, فتعمل الفضائية على عرض الخبر بصيغة إن الآلاف أو مئات الآلاف قد جاءوا للزيارة, وهذه من المبالغة الكاذبة - في جانب القلة - عرفاً وبالحمل الشائع الصناعي.

وفي مثال آخر: لو ذهب للحج ثلاث مرات، ثم قال إنه ذهب عشرين مرة، فإنه يوصف بالكاذب، وأما لو زار أحدهم أخاه مرات ثلاثة، ثم قال زرته عشرين مرة أو مئة مرة، فإن ذلك يحمل على المبالغة، وكذلك لو أعطى أحدهم الفقير عشرة دراهم ثم قال بأنه قد أعطاه مائة درهماً أو حتى لو قال إنه أعطاه أحد عشر درهماً فانه ينعت بالكذب، وأما لو أمر ابنه عشر مرات بالذهاب إلى المدرسة ولم يذهب، ثم قال قد أمرته بالذهاب مئة مرة ولم يذهب فإنه من المبالغة.وسيأتي بيان المناط في كون المبالغة بأنواعها صدقاً أو كذباً إن شاء الله تعالى.

القيد الثاني: لابد من وجود القرينة المقامية او المقالية

كما لابد أن يقيد كلام الشيخ بكون المبالغة مدلولاً عليها بالقرينة، فلو كانت مع القرينة - حالية أو مقالية - فهي مبالغة صادقة لا إشكال فيها، وإلا كانت كاذبة.

ولعل التدقيق يسوقنا إلى أن القيد الأول - أي عرفية المبالغة - مندرج تحت القيد الثاني وهو وجود القرينة، فإنّه مصداق للثاني(1).

فالمبالغة مع قرينتها - ومنها الفهم العرفي وارتكاز المراد في الأذهان من مثل هذا اللفظ - من مصاديق الصدق، وأمّا مع فقدان القرينة أو قيام القرينة على الضدّ، فهي كذب.

وجه القيد الثاني: قيام القرينة يسبب انعقاد الظهور الثانوي

والسبب في كون وجود القرينة قيداً بموجبه تكون المبالغة صادقة: أنه مع وجود القرينة ينعقد الظهور الثانوي للكلام، أي إن العرف يفهم بوجود القرينة(2)

ص: 310


1- فإن كون فهم العرف على إرادة كذا من هذا الكلام، قرينة مقامية حافة يمكن الاعتماد عليها لتكون دليلاً على الإرادة الجدية وإنه لم يرد الاستعمالية.
2- ومنها الارتكاز المسلّم.

المعنى الثاني وهو المطابق للواقع، فيكون اللفظ ظاهراً فيه دون المعنى الأولي غير المطابق للواقع.

وأما لو تجرد الكلام عن القرينة فالظهور الأولي باقٍ على حاله، فتكون المبالغة كذباً؛ لعدم مطابقتها للواقع، فلو قال أحدهم: زرتك عشر مرات، وبقي الظهور الأول للكلام وهو أنه بالفعل زاره عشر مرات مع أنه قد زاره فعلاً خمس مرات كان كاذباً، ولكن لو أقام القرينة على إرادته صِرف الكثرة انعقد الظهور الثانوي وكان المورد بمبالغته صادقاً.ومن هنا يظهر وجه التفصيل بين نوعي المثالين، فلو قال أحدهم لآخر: زرتك عشر مرات وقد زاره خمساً، فالعرف يرى صحة المبالغة وصدقها؛ إذ ظهوره الثانوي إنما هو في التكثر لا العدد بحدَّه، ولكن في مثال الحج لو قال: زرت البيت الحرام عشر مرات مع أنه حج خمساً فالعرف يرفض ذلك؛ لكون المبالغة كاذبة عندهم لظهور هذا الكلام في التحديد وإرادة العدد الخاص بحده وبنفسه.

تحقيق وجه كون المبالغة تارة صدقاً وأخرى كذباً

والسبب - إضافة لما سبق(1) - في كون المبالغة صادقة أو كاذبة هو: إن الخبر في حقيقته انحلالي، فلو قال: (زرتك عشر مرات)، كان معناه: إنه زاره مرة ومرة ومرة وهكذا، لكن العرف في هذا المثال يفهم - بوجود القرينة والسيرة ومناسبات الحكم والموضوع - إن عبارة عشر مرات لا يقصد منها هنا الانحلال إلى آحاد الأفراد، وإنما المقصود هو الكثرة، فتكون لفظة (عشر مرات) قد استخدمت في معناها المجازي دون الحقيقي.

ص: 311


1- ما سبق كان السبب في جانب الكاشف والحاكي، والآن السبب في جانب المنكشف والمحكي عنه.

وأما في مثال حج بيت الله الحرام، فإن الخبر يبقى على الأصل وهو كونه انحلالياً - بمعناه الحقيقي -، والفهم العرفي على ذلك فإنهم لا يعدونه كناية عن الكثرة.

والمتحصل: إن كان ظاهر الكلام هو انحلاله إلى أخبار عديدة فالمبالغة كذب، وإن كان الظاهر هو عدم انحلالية الخبر بل التكنية به عن الكثرة فالمبالغة صحيحة وصادقة(1).

يشترط في المبالغة كونها في محلها

قال الشيخ (رحمه الله): (وربما يدخل فيه [ أي في الكذب ] إذا كانت في غير محلها، كما لو مدح إنساناً قبيح المنظر وشبه وجهه بالقمر)(2) انتهى.ولعل من مجموع كلامي الشيخ (رحمه الله) يستفاد: إنه يفرق بين فقدان أصل الصفة ونعته بها، وبين وجدانه لها والمبالغة في درجاتها ومراتبها، أو يقال: إنه (رحمه الله) يشرط في كون المبالغة الكيفية صدقاً كونها في محلها، فتنقسم المبالغة إلى قسمين: كاذبة إذا كانت في غير محلها، وصادقة إن كانت في محلها، دون المبالغة الكمية - إذ قال فيها: بالغاً ما بلغت -، فلو إن شخصاً كان فاقداً لأصل الصفة لكنه نعت بكونه واجداً لها، فإنّ هذه المبالغة - بحسب كلام الشيخ (رحمه الله) - كاذبة، كأن يكون الرجل بخيلاً فيقال له: أنت كريم، ومن ذلك مثال الشيخ (رحمه الله).

ولكن لو كان الشخص كريماً بدرجة أدنى، ثم قيل له: أنت كحاتم في الكرم، فالشيخ (رحمه الله) يعتبر ذلك مبالغة صادقة؛ لظهور قوله (بلغت ما بلغت) في ذلك.

ص: 312


1- وقد جعلنا المدار - حتى الآن - في صدق المبالغة وكذبها على ظاهر الكلام لا القصد، وسنتعرض فيما بعد للقصد ومدخليته فانتظر.
2- كتاب المكاسب: ج2 ص17.

ولكن المنصور هو: إن ملاك صدق المبالغة وكذبها ما سبق من: وجود القرينة والعرفية، ولا فرق فيها من حيث كونها في الكم أو الكيف أو الأصل أو الحدود.

وعليه: فإن المبالغة المتجاوزة للحد العرفي - كماً أو كيفاً أصلاً أو تحديداً - الفاقدة للقرينة مبالغة كاذبة.

نعم يمكن أن يفسر كلام الشيخ (رحمه الله) بما يعم كلا البعدين الكمي والكيفي، ولكن لعله خلاف الظاهر من عقد المستثنى منه والمستثنى، خاصة بلحاظ قوله: (بالغاً ما بلغت) ثم تمثيله للاستثناء بما لو مدح... فتأمل.

تتميم: لا تدافع بين عنواني الكذب والمبالغة

ثم إنه قد يتوهم: التدافع بين صدق عنوان المبالغة وبين صدق عنوان الكذب إذا لم تكن هناك قرينة، فيقال: إذا لم يُقم القرينة فهو كذب لا يطلق عليه أنه مبالغة.

وبعبارة أخرى: مع عدم القرينة ومع عدم المطابقة للواقع، فالكلام كذبٌ، ولا يصدق عليه أنه مبالغة.

وفيه: وضوح صدق إطلاق المبالغة على المورد بالحمل الشايع الصناعي؛ لمجاوزة الإثبات والحاكي واقعَ الثبوت والمحكي، وزيادتِه عليه، فلو قال شخص مثلاً: ذهبت إلى مكة خمسين مرة، ولكنه لم يذهب إلا عشرين مرة، و لم يقم قرينة على أنه يريد الكثرة لا العدد بحدِّه، فهذا الخبر مجمع العنوانين فإنه كاذب ومبالغ فيه؛ أما إنهكاذب فلأن الفرض أنه غير مطابق للواقع، وأما إنه مبالغة فلأن الفرض زيادته على الواقع؛ إذ إنه قد حج عشرين حجة لا خمسين.

إضافتان مهمتان في تعميم المبالغة

وللسيد الوالد (رحمه الله) إضافتان مهمتان في المقام:

ص: 313

أولى: المبالغة تشمل الجهة أيضاً

أما الإضافة الأولى فهي: إن المبالغة لا تختص بالكم أو الكيف فقط، وإنما تشمل الجهة أيضاً، قال: في المكاسب المحرمة (1): (سواء أكانت المبالغة من ناحية الكم أم الكيف أم الجهة كقوله للممكن ضروري أو محال؛ إذ المراد من ذلك غير المعنى اللغوي للفظ فالمراد من الكلام المقصود لا الملفوظ) ومراده: أن الضرورة المذكورة هي الضرورة العرفية لا المنطقية أو الفلسفية وإن مصب الإرادة هو ما قصده لا ما لفظه والمدار هو القصد لا اللفظ(2).

وتوضيحه بعبارة أخرى مع بعض ما قد يورد عليه: مضافاً إلى المبالغة الكمية والكيفية فإن هناك قسماً آخر وهو المبالغة الجهوية، ومثاله: ما لو وصف شخص شيئاً ممكناً بأنّه محال فهذه مبالغة من حيث الجهة، كمن يقال له: إن العلم قد تتطور فاخترع العلماء سيارة تطير، فيقول: إن هذا شيء محال؛ وقد أدرج (رحمه الله) هذا النوع من الكلام ضمن المبالغة الصادقة دون الكذب، وينبغي تقييده بقيد وجود القرينة ولو الارتكاز العرفي الواضح الذي يصلح قرينة مقامية حافة لتحديد المراد الجدي قبال الاستعمالي، فذلك لأنه لا يقصد من المحالية المذكورة المحالية الفلسفية والامتناع العقلي، وإنما المقصود هو المحال العرفي.أقول: ولكن ما ذكره على القاعدة، إلا في إناطته الأمر بالقصد، مع أنه ينبغي أن يناط بالقرينة، ومنها(3) - في خصوص المثال -: عرفية التعبير عن الممكن المستبعد بالمحال، أو عن الممكن بالضروري، كما سيجيئ بإذن الله تعالى.

ص: 314


1- المكاسب المحرمة: ج 2 ص 37.
2- ولنا تعليق على هذا الكلام يأتي أن شاء الله
3- أي من القرينة.

وهذا النوع الذي أضافه (رحمه الله) مورد ابتلاء، لكثرة جريان المبالغة في الجهة أيضاً، وهو تام إن كان قصده المبالغة بإفادة تنزيل هذا مكان ذاك وأقام قرينة عليه - كما مضى وسيأتي -.

ونضيف: إن ذلك تام في المحاورات العرفية دون العلمية، فإنه قد يتكلم فيلسوفان أو أصوليان أو متكلمان في بحث علمي فلا مجال هنا للمبالغة الجهوية، بل ولا الكمية أو الكيفية فيما كانت ذات مدخلية في الدقة العلمية، فلو استخدم أحدهم ذلك فإنه يؤاخذ ولا يقبل منه إلا لو أقام قرينة على خروجه عن دائرة المصطلحات الدقيقة إلى دائرة التعابير العرفية، ولذا نجد أن العلماء يتوخون الدقة في عباراتهم وفي كتبهم العلمية والأصولية بحيث يشكل عليهم لو لم يتوخوها، ولا يقبل اعتذار أحدهم بأنه عبر تعبيراً مجازياً أو عرفياً إلا إذا أقام القرينة.

والحاصل: إن كلام العلماء في اختصاصهم قامت القرينة العامة على أنهم يتحرون الدقة لا المبالغة، عكس عامة الناس في تعابيرهم العرفية، فلو بالغ أحد العلماء في مقام البحث العلمي بدون إقامة قرينة على أنه خرج عن مقتضيات البحث العلمي إلى المبالغة العرفية، فهو كاذب عرفاً وبالحمل الشائع.

ثم إنه يمكن إضافة المبالغة في سائر المقولات؛ إذ لا وجه لتخصيصها بالكم أو الكيف، وبالعكس فإنه يمكن إرجاعها كلها - عدا الكم - إلى الكيف وارجاع الجهة له أيضاً، فتأمل.

مناقشة القول بأن المدار على (المراد): المدار على القرينة

وقال (رحمه الله): (وإذا تحقق موضوعهما(1) فليسا بكذب لأن المراد الكثرة لا الخصوصية..)(2).

ص: 315


1- أي المبالغة والإغراق.
2- المكاسب المحرمة: ج2 ص52.

فهو (رحمه الله) يرى أن موضوع المبالغة والإغراق(1) لو تحقق فهو ليس بكذب، ويعلّله بكون المدار على الإرادة والقصد (لأن المراد...).

والظاهر: أن ما ذكره (رحمه الله) من تعليل ليس بتام؛ فإن الكذب والصدق لا يدوران مدار المراد والإرادة حتى يعلل عدم كونه كذباً ب: أن المراد هو الكثرة لا الخصوصية، بل المدار إنما هو على القرينة فالظهور الثانوي، فإن أقامها وانعقد الظهور الثانوي المطابق للواقع فالمورد صدق وإلا فكذب.

وهذا الإشكال وارد أيضاً على السيد الخوئي (رحمه الله)؛ إذ قال في مصباح الفقاهة: (والوجه في خروج المبالغة بأقسامها عن الكذب هو إن المتكلم إنما قصد الإخبار عن لب الواقع فقط، إلا أنه بالغ في كيفية الأداء فتخرج عن الكذب موضوعاً)(2)، وهذا صريح في أن المدار على القصد، والكلام هو الكلام فإن المقياس هو الظهور الثانوي ووجود القرينة لا أن المتكلم قصد كذا أو لم يقصد(3) هذا مع وضوح أن مبناهما (رحمهما الله) ليس ذلك فالقصور في التعبير لما صرحا به قبل ذلك أو بعد، من أن المدار على القرينة(4).والحاصل: إن خروج المبالغة بأقسامها عن الكذب هو بوجود القرينة

ص: 316


1- وفرق المبالغة عن الإغراق إن المبالغة هي بالحدود المعروفة وأما الإغراق فهو الإغراق في المبالغة والزيادة فيها ولكن هذا الإغراق له حدود أيضاً.
2- مصباح الفقاهة: ج1 ص 395.
3- وإرجاع البعض في مكان آخر إلى القرينة تناقض ظاهراً وإن أمكن ضم أحد الكلامين إلى الآخر، فتأمل.
4- مثلاً قال في مصباح الفقاهة: (نعم لو قامت قرينة خارجية على إرادة الواقع وكون استعمال اللفظ فيه لأجل المبالغة فقط لما كانت كذباً). مصباح الفقاهة: ج1 ص 294. ولاحظ أيضاً ما قاله الوالد (رحمه الله) قبل ذلك في بحث الهزل إذ صرح بأن المدار على القرينة. الفقه المكاسب المحرمة: ج2 ص33.

وانقلاب الظهور الأولي إلى ثانوي، لا بالقصد والإرادة.

تخالف المقصود والملفوظ

قال السيد الوالد (رحمه الله): (ومنه يعلم أنه لو أراد الملفوظ ولم يكن فهو كذب، أو المقصود وكان فهو صدق فهو خارج موضوعاً لا حكماً).

وتوضيح كلامه ب: مثال (كثير الرماد)، فلو قال زيد عن عمرو (إنه كثير الرماد) التي تستخدم عادةً كنايةً عن الكرم، فلو أراد الملفوظ - أي معنى اللفظ بنفسه - ولم يكن رماد بيت عمروٍ كثيراً فهو كاذب وإن كان كريماً.

ثم قال: (أو المقصود...)، ومراده: إنه لو أراد كونه كريماً وكان كذلك فهو صدق وإن لم يكن في بيته رماد أصلاً، وعليه فالمقياس عنده مصب الإرادة والقصد.

ولكن قد ذكرنا التأمل على ذلك، وإن المدار على القرينة والظهور الثانوي، وإلا فالظهور الأولي هو المحكّم.

الثانية: دائرة المبالغة أوسع من القول

وأما الإضافة الثانية التي ذكرها السيد الوالد (رحمه الله) فهي: (وليس الاستثناء كأصله خاصاً بالقول، بل يشمل الإشارة والفعل والكتابة مثل الاستعطاء لمن يملك شيئاً)(1).

وحاصل مراده: إن كون الكذب حراماً واستثناء المبالغة لا يختص فقط بالقول، بل يعم الإشارة والفعل والكتابة، فلو قيل لأحدهم: كيف زيدٌ أو كيف علمه؟ فأشار للبحر قاصداً أنه كالبحر في علمه - وكان زيد عالماً - فهذه مبالغة

ص: 317


1- المكاسب المحرمة: ج2 ص52.

صادقة إذا لم تتجاوز ما ذكرناه من الحدّ العرفي.

وأما في مثل الاستعطاء فهو كمن يريد أن يفيدنا باستعطائه إنه لا يملك شيئاً، فالكلام نفسه جار.والجامع: إن دائرة الكذب والصدق لا تختص بأحد العوالم، بل تشمل مختلف العوالم، أي الوجود اللفظي والكتبي والذهني بلحاظ جهة حكايته عن العالم الآخر، فإن أي تخالف لأحد العوالم مع عالم الثبوت والواقع فهو كذبُ حكايةٍ أو كذب حاكٍ - على القسمين المذكورين -.

ص: 318

المسألة الخامسة: نسبية الصدق والكذب

نسبية الصدق والكذب في كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله)

قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله): (وربما تدخل المبالغة في الكذب إذا كانت في غير محلها كما لو مدح إنساناً قبيح المنظر وشبّه وجهه بالقمر، إلا إذا بني على كونه كذلك في نظر المادح فإن الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذوائق في المطعومات)(1) انتهى.

وكلامه هنا يصلح مدخلاً لعقد مسألة خاصة بالغة الأهمية، فإن ظاهر كلامه يبتني على النسبية ولو في الجملة؛ إذ إنه أناط التحسين والتقبيح بالأنظار، ولكنه مشكل جداً، ولذا كان من الضروري أن تعقد له مسألة خاصة - وهي المسالة الخامسة -؛ فإن ذيل كلامه يشكل محوراً لمسألة هامة جداً في حقل المعرفة سلباً أو إيجاباً، وسوف نتطرق لهذه المسالة مع تطويرها في عدد من الجوانب بإذن الله تعالى.

وهذه المسألة هي مسألة مهمة وهي مورد ابتلاء شديد - كما سيظهر - ولها بُعد كلامي لا ندخل فيه(2)،وإنما نتحدث عنها من الزاوية الفقهية فقط وهي: هل يمكن أن يكون الكلام الواحد صادقاً إذا صدر من زيد مثلاً ولكنه يكون بنفسه

ص: 319


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.
2- تطرق السيد المؤلف حفظه الله إلى ذلك في كتاب نقد الهرمنيوطيقا.

وبمحتفاته كذباً لو صدر من شخص ثانٍ؟!وهذا يبتني على تحقيق مبحث النسبية في الصدق والكذب، بمعنى أن اختلاف المتكلمين هل ينتج اختلاف الاتصافين؛ بأن يتصف الكلام الواحد بالصدق والكذب بحسب نسبته إلى الأشخاص فلو نسب للأول فصدق وإلا فكذب؟

وكذلك الحال في اختلاف الأزمنة مع حفظ المكتنِفات الأخرى كما هي، فهل يمكن أن يتصف الكلام الواحد بلحاظ المتعلق الواحد بالصدق والكذب؛ نظراً لاختلاف الزمانين بأن يكون بالأمس صدقاً واليوم كذباً في مثل ما لو قال أحدهم: (ذهب زيد إلى المدرسة في الساعة السابعة صباحاً من يوم الأحد)، فهل يمكن أن يوصف القول منه في أمسه بالصدق وفي هذا اليوم لو قاله فيه بالكذب؟

صنفان قد تدور مدارها نسبية الصدق والكذب والمعرفة

ونذكر صنفين جوهريين من أنواع النسبية المدعاة لتوضيح ما هو محل الابتلاء:

الصنف الأول: اختلاف الأنظار في الذوقيات

وهو ما ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1)من: اختلاف الأنظار في التحسين والتقبيح، فإن الطفل قد يكون جميلاً بنظر أمه، إلا أنه يكون قبيحاً بنظر زميله أو عدوه، فهل كلا النظرين صادق؟ حسب النسبية فإن كلام كليهما صادق، وفي نظر الشيخ (رحمه الله) أيضاً - بحسب ظاهر كلامه -.

هذا ما طرحه الشيخ (رحمه الله) في ذيل كلامه، وهو بحاجة إلى تحليل وتحقيق،

ص: 320


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.

ولكن يجب أن نضيف إلى كلامه قيداً هو مقصوده حتماً وهو: إن مراده من التحسين والتقبيح الذوقيان لا العقليان، وإلا كان كلام الشيخ (رحمه الله) واضح البطلان، بل لانهدمت به كل مبانيه وما أسسه الأصوليون والكلاميون.

أو يقال - وهو الأصح -: إن الشيخ (رحمه الله) صرح ب: (فإن الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح)، ولم يصوب تلك الآراء المختلفة، بل هو مجرد ناقل لما يجري في الخارج من اختلاف الأنظار، فليس كلامه ظاهراً إلى نسبية المعرفة أبداً، بل غاية الأمر: إن كلامه عن أنه مادامت الأنظار مختلفة، فهل إذا أخبر كل عن الواقع حسب نظره فهو كاذب أو لا؟ فالكلام عن صدق الكذب عليه وعدمه.

الصنف الثاني: اختلاف المجتهدين في آرائهم

وهذا موردٌ شديد الابتلاء، فلو كان أحد الفقهاء يرى أن المحرِّم من الرضعات هو ال (15) رضعة، وكان الآخر يرى ال (10) رضعات هي المحرمة، وأفتى كل منهما حسب ما توصل إليه من استنباطه من الأدلة، فهل كلاهما صادق، إذ يقول: مثلاً إن (15) رضعة هي المحرمة أو (10) رضعة هي المحرمة؟ أو كلاهما كاذب؟ أو أنّ أحدهما صادق والآخر كاذب؟

فقد يقال: إن كلّاً منهما صادق بحسب النسبية الهرمينوطيقية؛ حيث ذكر كل منهما ما أدى إليه رأيه، فلو عكسا القول في مثالنا كانا كاذبين.

وعليه: فإن البحث في الاختلاف الاجتهادي يجري بقوة أيضاً(1).

وليلاحظ أن موطن البحث ليس عما لو أخبر كل منهما بأن هذا هو رأيي، أو ما توصلت إليه أو شبه ذلك فإنه إخبار عن رأيه، فهو صدق مادام رأيه

ص: 321


1- وهنا نكتة لطيفة في كلام الشيخ (رحمه الله) حيث ذكر (الأنظار) وقصد منها حاسة النظر لا الأفكار، ولكنا أضفنا الأنظار بمعنى الأفكار على أنه يحتمل أن يريد الأعم، فتدبر.

كذلك، بل موطن البحث ما لو أخبر عن الواقع (لأنه رأيه)، فقال: (إن المحرم شرعاً هو عشر رضعات) فهل هو صدق حتى إذا خالف الواقع أم لا؟ وسيأتي بحث ذلك بإذن الله تعالى.

تحقيق الأمر: أقسام الحقائق

ولتحقيق المسألة لابد أن نلاحظ الحقائق وأقسامها وأنواعها، وعلى ضوء ذلك يظهر موطن النسبية في الوصف بالصدق والكذب ومواطن عدمها.

أقسام الحقائق: مطلقة، نسبية فلسفية، تشكيكية، نسبية هرمينوطيقية

إن الحقائق على أقسام متعددة:منها: الحقائق المطلقة.

ومنها: الحقائق النسبية بالمعنى الفلسفي.

ومنها: الحقائق النسبية بالمعنى الهرمينوطيقي.

وكذلك هناك حقائق من نوع اخر أطلقنا عليها مصطلحاً جديداً وهي: الحقائق الانتسابية، وهذا مصطلح تقودنا إليه ضرورة تصنيف المفاهيم وفرز بعضها عن بعضٍ؛ ذلك إن الخلط قد حصل لأن قسماً من الهرمينوطيقيين لم يميزوا بين أنواع النسبية حتى عندهم؛ إذ هناك نسبية وهناك انتسابية، كما سيتضح. وكلام الشيخ (رحمه الله) في حقيقته عن الانتسابية، وتصنيف كلامه هو ضمن هذه الدائرة كما سيتجلى ذلك، لا عن النسبية.

وهناك نمطان آخران منها، وهي: الإضافية، والتشكيكية، فهذه عناوين ستة، وأما تفصيلها فهي:

ص: 322

الأول: الحقائق المطلقة

ومنها: المحالات كاستحالة اجتماع النقيضين وجمع الضدين وارتفاع النقيضين، فكلها من الحقائق المطلقة، وكذا المسائل الرياضية من ضرب وطرح وجبر وتقابل.. الخ، فإن كل المسائل الرياضية والهندسية حقائق مطلقة غير خاضعة لظروف الزمان والمكان، ولا لظروف أو حالات المتكلم أو السامع أو غير ذلك، وهي إما أن تكون كذباً أو صدقاً، ولا نسبية فيها أبداً.

الثاني: الحقائق النسبية الفلسفية

والمراد من الحقائق النسبية الفلسفية المنطقية: ما أخذت النسبة في ذاتها، وهي المقولات السبع من العشر وهي: الوضع والأين والجِدة و المتى والفعل والانفعال والإضافة، أما الثلاثة الأخر من المقولات وهي: الجوهر والكم والكيف عنها، فليست نسبية، إذ المتر - كما في الكم - هو المتر، ولم تلاحظ في كونه متراً نسبته لشيء، وهذا حقيقة ثابتة، وكذلك الحال في الكيف.

والنسبية هنا بمعنى: إن النسبة إلى الشيء موجودة في ذاته، لا بمعنى نسبية الصحة والخطأ، أو الصدق والكذب، وليتضح المراد من النسبية بهذا المعنى نشير إلى اثنتين من المقولات النسبية:الأولى: مقولة الجدة والملك وهي:

هيئة ما يحيط بالشيء جِدَه *** بنقله لنقله مقيدة

ومثاله: التعمم، فإن التعمم صفة تعرض على الإنسان، وبانتقال الشخص تنتقل العمة والهيئة معه، ففي جوهر التعمم أخذت نسبة الشخص إلى

ص: 323

العمامة، فالجدة هي (الهيئة الحاصلة من إحاطة العمامة بالرأس)، فالعمامة الموجودة على الرأس توجِد هيئة له بانتقاله تنتقل.

الثانية: وكذلك الحال في مقولة الأين، ولا نعني بمقولة الأين المكان، بل المقصود:

هيئة كون الشيء في المكان *** أينٌ، متى الهيئة في الزمان

فمقولة الأين تعني: الهيئة الحاصلة من وجودك في هذا المكان، فإن للشخص هيئة حاصلة من نسبة وجوده في الدار تختلف عمّا لو كان في الغابة أو الشارع أو غيرهما.

والشاهد: إن النسبية هنا هي نسبية فلسفية وهي مطلقة، وليست نسبية هرمنيوطيقية، فلو وجدت النسبة فصدق وإلا فكذب، كما فيمن هو موجود عند البحر فقال أحدهم: إنه عنده فهو صدق، وإلا فكذب.

إذاً فالصدق والكذب غير نسبيين، والإخبار عن هذا المعنى النسبي إخبار أما صادق بقول مطلق إن طابقه، أو كاذب مطلقاً إن لم يطابقه، فالنسبية هنا هي بالمعنى الفلسفي لا غير.

الثالث: النسبية الهرمينوطيقية

ولها معاني عديدة بحسب المدارس المختلفة؛ فمنها: الصحة في زمان دون آخر، ومنها: صوابية الآراء المتعاكسة، ومنها: إن الشيء في ذاته غير الشيء كما يبدو لنا - وهو ما ذهب إليه كانط(1) -، ومنها: إن العلم والمعرفة ملاك الحقيقة

ص: 324


1- وعبّر عنه بالنومن والفنومن.

والواقع، لا إن الحقيقة والواقع ملاك العلم(1).

وقد ذكرنا للنسبية 14 معنى حسب 14 مدرسة، مع تفصيل وجوه مناقشاتها في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة).

الرابع: الانتسابية

وهذا المعنى هو جوهر ما ذهب إليه بعض النسبيين، ويقصد بها: إن الكلام إذا نسب إلى شخص معين يكون صدقاً، وإذا نسب إلى آخر يكون كذباً، و لعل هذا هو مورد كلام الشيخ (رحمه الله).

الخامس: الإضافية

ونعني بها مقولة الإضافة، وتعريفها هو:

إن المضاف

نسبةٌ تكرّرُ

منه

الحقيقي وما يشتهرف(الإضافة) هي النسبة المتكررة، وتكرر النسبة هو الفارق بين هذه المقولة وبين المقولات النسبية الأخرى؛ إذ في المقولات الأخرى تكون النسبة من طرف واحد وغير متكررة؛ إذ (الأين) مثلاً هيئة حاصلة من وجودك في مكانٍ ما، فمن نسبتك إلى المكان تولّد الاين، وأما (المضاف) فهو ما كانت النسبة متكررة من الطرفين كما في الإخوة والأبوة والموازاة، وهذه الأمثلة بعضها مختلف الأطراف، وبعضها الآخر متفق الأطراف، فلاحظ.

ص: 325


1- وقد ادعى كانط أنه أحدث بهذا الرأي في المنظومة المعرفية انقلاباً نظير انقلاب كوبرنيك ذلك إنهم كانوا يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض المركز فجاء كوبر نيك وأثبت العكس, فقال كانط: إنني أحدثت في حقل المعرفة انقلاباً كذلك إذ اثبتّ إن الواقع - أو الحقيقة، مع تفصيل في الفرق بينهما - يدور مدار المعرفة لا العكس!!

والحاصل: إن الصدق والكذب في (المضاف) أيضاً مطلقان ولا مجال للنسبية فلو قلت: إنه أخ وكان فعلاً أخا فصدق وإلا فلا.

السادس: التشكيكية

وذلك مثل العلم والحلاوة والحموضة والمرارة وغيرها فكلها حقائق تشكيكية، كقولك: (زيد عالم وليس بعالم)، فلو قصدت درجة معينة من العلم، وأقمت عليه القرينة، فالصدق يدور مدارها فلو كانت صادقة كان الأدنى منها بشرط لا كذباً، كما كان الأعلى منها كذباً أيضاً، وكما في نور الشمس والنور العادي فنور الشمعة نوراني بلحاظ مرتبته الدانية، وليس كذلك بلحاظ المرتبة العليا - وهي نور الشمس -، فيدور صدق وصف شيء بالنورانية مدار المرتبة.

والصدق والكذب في الحقائق التشكيكية مطلق لا نسبية فيه، مع ملاحظة الدرجة والمرتبة نفسها.

وبعبارة أخرى: يشترط وحدة الرتبة ليتوارد النفي والإثبات والصدق والكذب على موضوع واحد، ومعها فهما مطلقان فتدبر.

وتمام التحقيق في هذه المسألة، في ضمن المسألة اللاحقة بإذن الله تعالى.

ص: 326

المسألة السادسة: المغالطة

اشارة

ثم إن التدبر في أبعاد المسألة أكثر يرشد إلى أن هذا البحث في حقيقة الصدق والكذب، وكونهما نسبيين أو لا، يمكن أن يعطى عمقاً أكثر وتأطيراً أدق وأوضح من خلال إيجاد الجسر الرابط بين البحث المنطقي المعروف في الصناعات الخمس وهو: بحث (المغالطة)، وبين بحثنا الفقهي، إذ إنه في المنطق وفي بحث الصناعات الخمس يجري البحث عن صناعة المغالطة، وإن لها عدة أنواع؛ منها: إيهام الانعكاس، ومنها: جعل ما بالعرض ما بالذات، وهكذا.

وهنا نقول: إن هذا المبحث المنطقي يمكن أن يدرس من الناحية الفقهية في مسألتنا المذكورة ببيان أن المغالطة هي قسم من أقسام الكذب.

وهذا الربط والتجسير هام جداً؛ لأن أنواع المغالطة تتضمن عشرات الألوف من المسائل من الناحية الفقهية، فلابّد من تحقيق كونها كذباً أو لا، محرماً أو لا، كما إن ما ذكرناه من كون الكذب نسبياً أو انتسابياً يجري في المقام(1).

من أنواع المغالطة الكاذبة

الأول: مغالطة لبس الظرف بالقيد

النوع الأول من أنواع المغالطة وهو الذي ينطبق على بحثنا: مغالطة

ص: 327


1- كما أن التجسير بين البحثين يفتح أفقاً جديداً للتصدي للكثير من الشبهات المطروحة كما سيتضح ذلك بإذن الله تعالى.

القيد والظرف، وكذلك مغالطة الانتسابية والنسبية، ويندرجان في إيهام اللبس(1) - وبعضها مصطلح جديد وضعناه لمسيس الحاجة - وهذه كلها من الكذب موضوعاً.

أما مغالطة القيد والظرف فتتضح بالمثالين الآتيين:

المثال الأول: وضع الألفاظ للمعاني الذهنية

- وهو مثال تمهيدي وقد ذكره بعض المناطقة - فهو: إن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي موجودة في الذهن، إذ لا موطن للمعاني إلا الذهن، وعملية الوضع هي عملية ذهنية، وعلى ذلك فلا بد أن تكون تلك القضية صحيحة وصادقة، ولكن ذلك يستلزم أمراً بيّن البطلان وهو: أن اللفظ الموضوع لمعنى معين لو استعمل في الحقائق الخارجية فسيكون من المجاز لا الحقيقة؛ لأن لفظ ماء - على حسب تلك القاعدة - قد وضع للماء والمعنى الذهني، ولكنه لو قيل: (جئني بماء)، فحيث أن المراد منه ليس الصورة الذهنية، وإنما السائل المتحقق خارجاً - أي الماء الخارجي؛ لأنه الذي يترتب عليه الأثر -، فيلزم أن يكون مجازاً؛ لأنه حينئذٍ من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء(2)، مع بداهة أن قوله (جئني بماء) مريداً الماء الخارجي ليس بمجاز، وكما هو بديهي فأن الأعم الأغلب من استعمالات الألفاظ إن لم يكن كلها إنما هو بلحاظ مرآتيتها للخارج.

وعليه: فلن يكون لدينا (حقيقة) عادةً، فترتفع فائدة تقسيم اللفظ إلى الحقيقة والمجاز إلا نادراً.

ص: 328


1- إيهام انتسابية الحقائق المطلقة والتشكيكية والنسبية والإضافية.
2- كاستعمال الإنسان في الرقبة أو الرأس إذ رأى رأساً فقال رأيت إنساناً أو عكسه ك(اعتق رقبة) وأراد بها الإنسان.

وجه المغالطة: الخلط بين القيد والظرف

ولكن هناك مغالطة دقيقة في تلك القاعدة، وبمعرفتها نكشف وجه صدق القضية أو كذبها، وهي: إن عبارة (بما هي في الذهن) تحتمل معنيين: القيدية والظرفية، وهذا هو منشأ الكثير من اللبس، فهل (بما هي في الذهن) قيد أو ظرف؟ أي هل الألفاظ موضوعة للمعاني في ظرف الذهن(1)؟ أو هي موضوعة للمعاني بقيد إنها موجودة في الذهن؟

فلو قلنا: بالقيدية للزم من ذلك المجاز والكذب، ولكن لو قلنا: بالظرفية والمرآتية - كما هو الحق - فإن الاستعمال حقيقي، وهو صادق.

إذاً فالمغالطة تنشأ من إيهامِ لَبْسِ القيد بالظرف.

وعليه: فلابد من التدقيق لكشف مثل هذا النوع من المغالطة، هذا هو المثال الأول وقد ذكرناه لثمرته العلمية، ولجهة تمهيدية أيضاً كما سيتضح.

المثال الثاني: مغالطة تاريخية القضايا التشريعية

ما قاله أحد الفلاسفة الغربيين من علمانيي الفكر من: (إن الله تعالى في قرآنه الكريم - وأيضاً في التوراة والإنجيل - قد كلم الإنسان في التاريخ)، ومن هنا فهو يستنتج تاريخية القضايا التشريعية(2)، وإن كل الأحكام من الصوم والصلاة والإرث وغيرها مرتبطة بالإنسان المُكلَّم بها، وهو الموجود فقط في مكة أو المدينة في عصر النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله)، وفي عصر التنزيل لا غير.

ص: 329


1- أي المعاني الموجودة في ظرف الذهن، وقد وضعت لها الألفاظ لمرآتيتها وطريقيتها للخارج لا لموضوعية وجودها في الذهن وكونه جزء الموضوع له.
2- بل وغيرها أيضاً.

كشف المغالطة (في التاريخ) ظرف لا قيد

وهذا الكلام فيه مغالطة واضحة؛ وذلك لأن الإنسان لا شك أنه محاط بالزمان والتاريخ والمكان والظروف ونظائرها، وليس هو بمجرد عنها، كما هو واضح. ولكن المغالطة في المقام هي من نوع مغالطة القيد والظرف وإيهام اللبس؛ إذ إن الله تعالى قد كلم الإنسان وهو في تاريخه المعين، ولكن هذه التاريخية هي على نحو الظرف لا القيد، و قيدية التاريخية المدعاة من قبله لا دليل عليها، بل الدليل قائم على العدم في عامة تشريعات الشارع الأقدس إلا النادر منها(1).

وتوضيح ذلك: إن الأوامر والنواهي والأحكام التي توجه (للإنسان في التاريخ) على نحوين:

أما النحو الأول منها: فهي التي توجه له بما هو إنسان لا بشرط من حيث الزمان والمكان والتاريخ؛ إذ ليس التاريخ شرطاً أو شطراً أو مانعاً أو قاطعاً في غالب الأحكام، بل شبه المستغرق منها، وذلك كقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2)، فهذه آية مباركة قد وجهت إلى الإنسان بما هو إنسان، أي أمرت الإنسان بالعدل المقرب للتقوى، ولكن لا بقيدية التاريخ، أي لا بقيد كونه في تاريخ معين.

وأما النحو الثاني من الأحكام - وهو الأقل الأندر - فهو: الذي قد أخذ التاريخ الموجود فيه الإنسان كقيد لموضوع الحكم، كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً»(3) فالقضية هنا

ص: 330


1- بل إن تاريخية التشريع هي خلاف تقنين العقلاء وسيرتهم
2- سورة المائدة: 8.
3- سورة المجادلة: 12.

تاريخية، وهي التي نعبر عنها بالخارجية، وهو - أي الزمان والظروف الخاصة - قيد فيها؛ وذلك نظراً لوجود قرينة خاصة في المقام.والقاعدة في الخطاب والتشريع الإلهي: إن التاريخ لم يؤخذ فيها كقيد، بل هو ظرف، وما خرج فاستثناء قليل جداً بل نادر(1).

والمتحصل: إن منشأ المغالطة هو إيهام لبس الظرف وكونه هو القيد، أي إنه استند إلى صحة (الإنسان في التاريخ) المقصود به إن الإنسان موجود في تاريخ ما، لإثبات أن (في التاريخ) قيد لأحكام هذا الإنسان أيضاً لا ظرف لها، مع إنه أعم منهما، فلا يصلح دليلاً على احدهما أبداً، فتدبر.

بل ويرد على هذا الفيلسوف أيضاً: إن كلامه ونقده هو أيضاً تاريخي فهو مقيد بزمانه وظرفه، فلا يسري إلى ما بعده من الوقت، إضافة إلى أن أصل القاعدة التي ادعاها لا دليل عليها إلا على وجه لا ربط له بالمقام بالمرة، فتدبر.

الثاني: مغالطة النسبية والانتسابية: اختلاف الفتاوى مثالاً

النوع الثاني من أنواع المغالطة: النسبية والانتسابية، وهذه هي المغالطة الثانية التي يجب أن تبحث فقهياً من حيث مبحث الصدق والكذب.

ومن أمثلتها: ما أشرنا إليه من اختلاف فتاوى المجتهدين، فلو قال أحدهم: (إن الأربعة فرد بنظري) أو قال: (إن اجتماع النقيضين ممكن بنظري)، فقد يتوهم أنه يصح أن نصفه بالصادق إذا كان نظره فعلاً هو ذلك، لكن المغالطة في المقام ناشئة من قوله: (بنظري واعتقادي)، فإن قوله هذا إما أن يكون على نحو الحكاية عن الخارج فهو كذب، أو أن يكون على نحو الحكاية عن نظره مع

ص: 331


1- قد فصلنا ذلك في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة) وفي مباحث الاجتهاد والتقليد (مبادئ الاستنباط) وفي كتاب (المعاريض والتورية).

قطع النظر عن مطابقته للخارج وعدمه فهو صدق؟ وكذلك الحال في اختلاف فتاوى المجتهدين، كما مضى من مثال الرضعات المحرمة فلو قال أحدهم: إنها (15) رضعة بنظري, وقال الآخر: هي (10) بنظري، فهل كلاهما صادق؟ أو كلاهما كاذب؟ أو أن أحدهما صادق والآخر كاذب؟

الإخبار عن الواقع والإخبار عن الرأي

والجواب ظاهر؛ إذ قد سبق أن الإخبار يُتصور على نحوين: فتارة يكون الإخبار عن الخارج، أي الواقع الخارجي، وأخرى: يكون إخباراً عن المعتقد والفكر، وهو ما عبرنا عنه بالانتسابية، فإن كان مقصوده صرف الحكاية عما في ذهنه واعتقاده فهو صادق؛ إذ إن هذا هو رأيه الذي اعتمده استناداً إلى استنباطه، وكذا الأمر في الفقيه الآخر.

وعليه: فكلاهما صادق بهذا اللحاظ.

ولكن لو قصدا الحكاية عن الخارج فلابد أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، هذا إذا كانت المسألة محصورة بين هذين القولين كما هو واضح وإلا أمكن أن يكونا كاذبين.

وبعبارة أخرى: إن الفقيه إذا قال جملة كهذه: (15 رضعة محرمة بنظري) فإن كان مراده أن ما ذكره هو الحكم الظاهري الذي هو في حقه أو هو المنجز أو المعذر، فإن هذا صدق ولا مشكلة فيه إذا كان مستجمعاً لشرائط الاجتهاد مستفرغاً وسعه غير مقصر في المقدمات؛ ذلك أن مؤديات الأدلة - أي الحجج والبراهين - هي أحكام ظاهرية، أو هي منجزات ومعذرات.

وكذلك الحال بالنسبة للفقيه الآخر في قوله في المسألة، فسيكون كل منهما صادقاً في مقالته.

ص: 332

وأما لو كان الأخبار منهما على أنه حكم الله الواقعي، وأن نظره كاشف عن الواقع(1)، فهو صدق إن طابق الواقع، وإلا فكذب، ولا يشفع قوله: (بنظره) لتحويله إلى صدق لو كان مخالفاً للواقع إذا كان كذلك(2) ثبوتاً، نعم يأتي تفريقنا السابق بين المصدر والفعل، فالمصدر - أي الكذب - مداره الواقع من حيث المطابقة وعدمه وهو لا بشرط من حيث علم الشخص وجهله، أي سواء علم أم جهل، فأنه إن كان غير مطابق فهو كذب، وأما الفعل - ككذب - واسم الفاعل - ككاذب - فإنه حيث تضمن القصد، فلا يقال لأي من الفقيهين: إنه كَذِب في قوله،وهو أيضاً ما فصلناه من كذب الحكاية والحاكي، فمن حيث الحكاية فإن إحدى الحكايتين صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من حيث الحاكي فليس أي منهما كاذباً.

والحاصل: إنه يفرّق بين وصف المتكلم بأنه كاذب، وبين وصف الكلام نفسه بأنه كذب، اللهم إلا أن يجرّد (كاذب) عن ظاهره في القصدية بقرينة حالية أو مقالية، كما لعله الحادث كثيراً ما عندما يوصف من لم يطابق كلامه الواقع بالكاذب، رغم علمنا بأنه جاهل باللامطابقة أو قاطع بالمطابقة، أو رغم جهلنا بعلمه أو جهله، إذ المقصود حينئذٍ أنه يقول كلاماً كاذباً وليس أنه كاذب قاصداً.

الثالث والرابع: مغالطتا الإطلاق والإهمال، والبيان والإجمال

النوع الثالث من أنواع المغالطة هو: ما اصطلحنا عليه ب(مغالطة إيهام الإطلاق في مقابل الإهمال)، أو إن شئت فقل: مغالطة الإطلاق والإهمال، فلو أوهم أحدهم كون المهمل مطلقاً، أي القضية المهملة مطلقة، كان ذلك نوعاً من

ص: 333


1- أي الحجة أخذت بمعنى الكاشفية لا المنجزية والمعذرية أو لزوم الاتباع أو شبه ذلك.
2- أي مخالفاً للواقع.

الكذب والمغالطة، والناس في غفلة منه عادة.

النوع الرابع: هو ما اصطلحنا عليه ب(مغالطة البيان والإجمال)، فلو كان الشيء مجملاً، ولكن أوهم الشخص أنه مبين أو بالعكس، فهو كذب، وذلك كثير دارج في العلوم وفي المجتمع كذلك.

مغالطة كانط: الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا

وهنا نذكر مثالاً دقيقاً من أمثلة المغالطة الدارجة في الفلسفة الغربية حيث أسس بعض فلاسفة الغرب(1) قاعدة فلسفية لكنها لا تعدو في جوهرها إلا مغالطة كبيرة وهي: (الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا)، وهذه القضية تندرج في دائرة المغالطة وهي تستبطن كذبتين في وقت واحد، وسندرس هذه القضية على ضوء إحدى محتملات المقصود منها(2)، فإن أحد محتملات المقصود بهذا الكلام - ولعله هو الظاهر منه - هو: إن الشيءالواقعي في مرحلة الاثبات يختلف عما هو عليه في مرحلة الثبوت، فلا تحصل المطابقة بين العالمين أبداً؛ إذ لعالم الثبوت خصوصيات لا يعكسها عالم الإثبات بل يغايرها، والشيء إذا وصل إلى عالم الذهن فإنه سيتغير عما هو عليه في حد ذاته إما بنحو الضد أو النقيض أو مجرد التخالف؛ وذلك استناداً إلى أنه توجد في الذهن خلفيات معرفية وفي النفس خصوصيات نفسانية تصبغ الحقائق الواردة إليه بصبغة أخرى غير ما هي عليه في الواقع، ومن الأمثلة الواضحة لذلك: أننا نرى الشمس بحجم معين عبر حاسة البصر مع أنها أكبر بكثير من ذلك، أو نرى الخطين المتوازيين يلتقيان في النهاية مع أنه ليس كذلك.

ص: 334


1- وهو عمانويل كانط.
2- إذ اقتصرنا ههنا على أحد معان ثلاث ذكرناها جميعاً في كتاب نقد الهرمنيوطيقا فراجعه.

الجواب عن مغالطة كانط: مغالطتان في كلامه

الجواب عن مغالطة كانط(1): مغالطتان في كلامه

والجواب: هناك مغالطتان في هذا الكلام:

المغالطة الأولى: مغالطة الإطلاق والإهمال

إن ما ذكر من: (أن الشيء في ذاته غير ما يبدو لنا) ليس على إطلاقه، فإنه وإن صح في الجملة وفي بعض القضايا، لكنه لا يصح بالجملة وفي جميع القضايا، فلا يصح عرض القضية كقاعدة عامة وقضية مطلقة، وهذا إيهام منه؛ لأن الشيء في ذاته قد يكون كما يبدو لنا، وذلك كمن هو شجاع واقعاً أو كريم أو عادل، فاعتقدنا بذلك، فإن الشيء في ذاته هو كما بدا لنا، فقد طابق الإثبات الثبوت والاعتقاد الواقع، نعم لو كان فاسقاً أو جباناً أو لئيماً واقعاً واعتقدنا بعدالته أو شجاعته أو شرافته فقد اختلف الإثبات عن الثبوت، وكان الشيء كما بدا لنا غيره في حد ذاته، وكذا الحال في الأمواج الصوتية أو الكهرومغناطيسية فإنها من أنواع الطاقة، فلو اعتقدنا بذلك فإنه معتقد صحيح، والحكاية صادقة، و(الشيء كما يبدو لنا) كان (كما هو عليه في حد ذاته)، وكذلك الحال في المحسوسات كلها والتي قد يتطابق فيها عالم الإثبات مع عالم الثبوت، وقد لا يتطابق.

والحاصل: إنه قد يتطابق عالم الإثبات والثبوت، وقد يفترقان فلا إطلاق للقضية أبداً.إذاً: فمنشأ الكذب الأول هو: المغالطة بلبس ما هو مهمل وطرحه وتسويقه على أنه مطلق، فالكذب هو في تعميم القضية وإطلاقها.

ص: 335


1- وهي المسماة ب(النومن) و(الفنومن).

المغالطة الثانية: مغالطة المبين والمجمل

مغالطة البيان والإجمال، أو المبين والمجمل، فإنه كثيراً ما يساق ما هو مجمل على أنه مبين، أو العكس.

وتطبيق ذلك على قاعدة (الشي في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا): إن هناك إجمالاً في مصطلح (حد ذاته)، وهنا منشأ المغالطة، فهل المقصود من ذاته مجموع الجوهر والعرض، أو إن المقصود هو الجوهر فقط؟

وبتعبير آخر: هل المقصود الذات والصفات؟ أو الذات دون الصفات؟

وعلى كلا التقديرين؛ فكلامه ليس بصحيح؛ إذ لو أجاب بأن المراد أن الشيء في مجموع ذاته وصفاته ليس كما يبدو لنا، أي إنه فيها جميعاً ليس كما يبدو لنا.

ففيه: إن ذلك ينقض بالكثير من الصفات، كما في كون طول الشيء متراً وهذه صفة له فهي كذلك؛ فإن الشيء في صفته ههنا هو كما يبدو لنا، وكذلك كون الماء سيّالاً ومائعاً فإنه ثبوتاً كذلك، وقد ظهر لنا إثباتاً بما يوافق ثبوته.

وإن أجاب ب: إن المراد هو: الشيء في ذاته - لا في صفاته - ليس كما يبدو لنا، فنقول: إن هذا الكلام فيه مغالطة أيضاً وليس بصحيح؛ فإننا نعلم أن الأمواج الصوتية طاقة وليست بمادة، وهذه ذاتها وليست صفة لها، أي هي في ذاتها طاقة لا مادة، وكذلك نعلم أن الإنسان جوهر، وهذا ما يطابق الواقع فقد تطابق الشيء في ذاته - وهو أنه جوهر - مع ما بدا لنا - إذ بدا لنا أنه جوهر وعلمنا به - وهكذا(1).

إذاً فالمنشأ الثاني للكذب هو: مغالطة الإجمال والبيان، وإيهام

ص: 336


1- يراجع للتفصيل كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة) .

أن المجمل مبيّن.

اختلاف الانظار في التحسين والتقبيح عند الشيخ (رحمه الله)

بعد وضوح ما ذكر حول مسألة نسبية الكذب أو انتسابيته، والمغالطة بأنواعها وأنها من أنواع الكذب، لا بد أن نتدبر في عبارة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) السابقة مرة أخرى لأجل تطبيق هذه المباحث عملياً عليها، وإضافة أمور أخرى وبيان وجه المناقشة في كلامه وضرورة التقييد ببعض القيود.

قال الشيخ (رحمه الله) في مكاسبه(1):

(وربما تدخل المبالغة في الكذب إذا كانت في غير محلها كما لو مدح إنساناً قبيح المنظر وشبه وجهه بالقمر، إلا إذا بني على كونه كذلك في نظر المادح؛ فإن الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذوائق في المطعومات) انتهى.

وعليه: فإذا رأى شخص فرداً جميلاً، والآخر رآه قبيحاً، فكلاهما صادق في إخباره بجماله وقبحه؛ نظراً لاختلاف الأنظار بينهما، وكذلك الأمر في الألوان والألبسة والديكورات وغيرها؛ فإن الأذواق تختلف فيها سلباً وإيجاباً.

إذن: فقد يفهم من كلام الشيخ (رحمه الله) إن النسبية في الكذب جارية في الأمور الجمالية والذوقية من مطعومات ومذوقات وملموسات ومرئيات - أي ما يتعلق بالحواس الخمس بعمومها - وغيرها، اللهم إلا أن يقال: إنه لا يعلم أنه بنى على ما عبّر عنه ب(إلا إذا بني...)، فتأمل.

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) بوجوه

ولكن كلام الشيخ (رحمه الله) قد يناقش فيه بوجوه ثلاثة - ندرج فيها ضمناً

ص: 337


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.

إيضاحاً لكلامه وبعض القيود التي يجب أن يقيد بها إطلاق كلامه على ما يظهر من الإشكال -:

الوجه الأول: في الإخبار المقيد ب(في نظره) إخباران أحدهما كذب

لا بد من الوقوف عند ماهية خبر الأم - مثلاً - عندما تقول: (بأن طفلها جميل وأنه كالقمر أو أنه القمر بنظرها)، فإن التدقيق يقودنا إلى أنّ هناك في خبر الأم هذا إخبارين لا خبراً واحداً، أما الإخبار الأول فهو: إخبار عن الرأيوالنظر، وأما الإخبار الثاني فهو: إخبار عن الواقع، فالأم عندما تقول: (إن ولدها جميل بنظرها) فإن مرادها ليس صرف الإخبار عما في ذهنها واعتقادها فقط وبقطع النظر عن الواقع الخارجي، بل مرادها: إن ولدها جميل بنظرها، وإن هذا القول منها مرآة للخارج والواقع، أي إنه كذلك - أي جميل - في الواقع.

فهنا إخباران وإن كانت العبارة واحدة، فقولها (بنظري) يستبطن أن نظرها هو بنحو المرآتية والطريقية إلى الخارج أيضاً، وهنا يصح وصفه بالكذب إن لم يكن كذلك بأن كان قبيحاً حسب مقاييس الجمال والقبح على حسب معنى الجمال والقبح.

ومن هنا تظهر الإجابة عمن يقول: (إن الدور ليس بمحال في نظري وإن هذا هو رأيي). فنرد عليه: بأن قوله هذا متضمن لخبرين في جوهره: الأول أنه يعبر عن اعتقاده ونظره وقد يكون صادقاً فيه، أي إن نظره هو ذلك بالفعل، لكن هذا الخبر هو طريق إلى الخبر الثاني وهو كون رأيه ونظره عاكساً للخارج وكاشفاً عنه، أي إنه يدعي أن نظره هو مرآة للخارج، وهذا هو الكذب(1).

ص: 338


1- ولكن لعله يأتي إشكال على ضوء ما ذكر سابقاً من الفرق بين كذب الحكاية والحاكي - المقرر. والجواب: كذب وصدق الحاكي هو ما عبرنا كما عبّر هو عنه الآن ب(في نظري) وعلى أي فقد عبرنا ب(الكذب) أي المصدر ولم نعبر بالفعل (أنه كَذِب) لتوقفه على القصد.

إيهام المغالطة من لبس الاستقلالية بالمرآتية

فالإيهام والمغالطة نشأت من إيهام لبس المرآتية بالاستقلالية، أو إيهام لبس الحكاية عن الخارج بالحكاية عن الذهن، وهذا هو موطن الإشكال والكذب.

ومن ذلك يظهر: ما يرد على كلام الشيخ (رحمه الله) من أن استثناءه ليس على إطلاقه؛ إذ حتى لو بني على كونه كذلك في نظر المادح، إلا أن مدحه يتضمن إخبارين؛ الإخبارَ عن نظره الشخصي، فهذا يصح استثناؤه، والإخبارَ عن أن هذا الرأي مطابق للواقع، وهذا لا يصح استثناؤه فإنه كذب، ولأجل ذلك ومن جهة الإخبار الأول عبرنا عناختصاص الوصف بالصدق بأنه بنظر المادح ب: (الانتسابية) لا النسبية وغيرها، فلو نسب الخبر بأنه جميل للأول فهو صدق من حيث المطابقة لمعتقده، ولو نسب الخبر بأنه قبيح للآخر فصدق أيضاً بمعنى أنه صدق في إخباره عن معتقد الآخر.

ومن ذلك يظهر: دفع الكثير من المغالطات التي يتمسك بها أهل الباطل والكذب؛ محتجين بكون ما يذكرونه هو ما وصل إليه نظرهم، ومتسلحين بذلك كي لا يشكل عليهم بما يرد على حاقّ القضية بما هي هي.

كما يظهر: وجه دفع ما ذكره النسبيون في بعض مدارسهم حول صوابية كل الآراء المتعاكسة(1)؛ وذلك أنه لو أريد من صوابيتها هو الإخبار عن ما في الذهن فقط، لكان الأمر هيناً ولم يكن مهماً أبداً، ولكن هذا ليس ساحة النقاش والمعترك الفكري بين العلماء، وإنما الخلاف في أن ما في الذهن هل هو مرآة وحاكٍ عن الخارج، أو أنه متوهم الحاكوية وأنه مخطئ في ذلك؟

ص: 339


1- وهذه المدرسة هي إحدى المدارس ال 15 التي تدعي نسببية المعرفة , وفي هذه المدرسة نجد التصويب للواقع , وكأنهم المصوبة الجدد

الوجه الثاني: لابد من تقييد كلامه (رحمه الله) بإقامة القرينة

إننا حتى لو سلمنا (الانتسابية)، وأن المتكلم يحكي عما يرتكز في نفسه ويعتقده، وأنه حيث كان الأمر كذلك فحكايته صادقة، إلا أننا نقول: إن كونها صادقة مشروطٌ بذكر القرينة؛ إذ إن ظاهر الإخبار والأخبار هو: أنها حاكية عن الخارج، فلو قطع النظر عنه وحصر الإخبار بالإخبار عما في الذهن فلابد من إقامة القرينة على ذلك، ليكون الكلام صدقاً، وإلا(1) فكذب.

والحاصل: أنّ الظهور اللفظي الأولي منعقد للخبر في حكايته عن الخارج، فإرادة غيره دون قرينة كذب.

الوجه الثالث: للحسن والقبح معان على بعضها الكذب مطلق

ولابد من تحديد المعنى المراد من التحسين والتقبيح؛ فإن هذين اللفظين - وكما سبق أيضاً(2) - يطلقان على عدد من المعاني(3)، ومن ذلك ينفتح باب كبير للمغالطة، وهو المسمى بمغالطة الاشتراك اللفظي - بالمعنى الأعم -، كمن يقول: (بإنه رأى عيناً) وقد رأى عيناً جارية يريد أن يوهم الآخر أنه قد رأى جاسوساً، وهذا يعد من أقسام المغالطة الكثيرة الابتلاء في العلوم.

ومن هنا فإنه في كافة البحوث العلمية لابد من تحديد المصطلح بحدوده وقيوده وأبعاده، كي يتبين المراد الواقعي، وكي يرد النفي والإثبات على موضوع واحد، فإن أكثر المغالطات أو اللبس ينشأ من إيهام المفهوم والمصطلح وتغاير

ص: 340


1- أي لو أراد خلاف الظاهر بلا قرينة.
2- راجع صفحة 75.
3- أما كون الإطلاق هل هو بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز، أو غيرها فهذا لا يهم بحثه الآن.

الأفهام فيه.

الاحتمالات في معنى الحسن والقبح و البحث عن جريان النسبية فيها

وعليه: ولكي يتضح أن النسبية المدعاة في كلام الشيخ (رحمه الله) بالنسبة إلى التقبيح والتحسين، صحيحة أم لا، لابد من سرد الاحتمالات والمعاني المذكورة للحسن والقبح، والبحث عن جريان النسبية في أي منها.

وقد ذكرنا فيما سبق عشرة معاني لهما، لكننا هنا نشير هنا إجمالاً إلى بعض تلك الاحتمالات في الحسن والقبح، مع ملاحظة ان النسبية هل تجري فيها أم لا:

المعنى الأول: الكمال والنقص

وهو الكمال والنقص، كالعلم والجهل، وعلى هذا المعنى فإن الشخص لو قال: هذا حسن وذاك قبيح، وكان قصده أنه كامل أو ناقص، فهذا الأمر ثبوتي لا يختلف باختلاف الأنظار، ولا مجال للنسبية أو الانتسابية فيه، ولا تشفع كلمة (بنظري) لتصحيحه.

المعنى الثاني: الملاءمة والمنافرة للطبع أو للعقل أو الروح أو الجسد

ملاءمة الطبع - أو العقل أو الروح أو الجسد - أو منافرته له.

ويجري ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الملاءمة للطبع فقط؛ فإن الطباع تختلف، فإن طباع بعض الناس تلائم بعض الأمور بل حتى مثل أذية الغير أو النفس، قد تلائم طبعه بخلاف بعضهم الآخر، وقوله: (هذا حسن) أي: يلائم طبعي وذوقي.

ص: 341

ومعه: فلو قصد بالحسن والقبح: الملاءمة والمنافرة للطبع، فهنا يكون مدار قضية الانتسابية، إلا أن ذلك بلحاظ وضع كل إنسان - بشخصه وطبعه -، لا كل الناس حتى يكون مرآة للناس بما هم هم، وعليه: فلا بد من إقامة القرينة وإلا كان كذباً.

وأما لو قصد الملاءمة للعقل أو الروح فلا نسبية ولا انتسابية هنا؛ لوحدة ما يلائم الروح أو العقل المجرد عن شوب الأهواء وغيرها، بل الأمر حتى في ملائمة الطبع كذلك؛ إذ قد يراد بالطبع طبعه الشخصي، وقد يراد به طبع البشر بما هم بشر.

وعليه: فالمدار على القرينة العامة أو الخاصة الحالية أو المقالية في كل الصور الأربعة.

المعنى الثالث: ما يستحق مدح العقلاء او ذمهم

إن ما يستحق مدح العقلاء فحسن، وإلا فقبيح، أي ما كان بحيث يستدعي مدحهم أو ذمهم، فالمقياس هو الاقتضاء الذاتي.

وعليه: فلا اختلاف للحسن والقبح باختلاف الأنظار فلا انتسابية في المقام.

المعنى الرابع: مطابقة الشيء لما ينبغي أن يكون عليه وعدمها

مطابقة الشيء لما ينبغي أن يكون عليه فلو طابقه فحسن وإلا فقبيح، فمثلاً: للإنسان عينان فيوصف بالقبيح إذا كانت له عين واحدة أو كانت له عين ثالثة أيضاً، وهذا المعنى أيضاً لا مجال للنسبية أو الانتسابية فيه؛ لأنمطابقة

ص: 342

الشيء لما يجب أن يكون عليه أمر واقعي ثبوتي لا دخل للأنظار فيه(1)، وتمام ملاكه في المرحلة السابقة أن يكون له ما ينبغي أن يكون عليه، أي تكون له خصوصية ينبغي بها أن يكون هكذا أو لا يكون هكذا.

المعنى الخامس: كون الشيء بحيث يترتب عليه الأثر وعدمه

كون الشيء بحيث يترتب عليه الأثر، فالحَسَن هو ما ترتب عليه الأثر الإيجابي، والقبيح عكسه، وهذا المعنى معنى عرفي - وإن كان جديداً(2) -.

وذلك مثل: من أراد أن يبني مدرسة أو مسجداً فوجد الخريطة لا تتلاءم وحاجات المدرسة أو المسجد، فإنه يقول: هو مخطط سيئ أو قبيح، فإنه ليس المراد أن بناء المدرسة أو المسجد سيئ، ولا ان المخطط في حد ذاته سيء؛ إذ قد يكون حسناً جداً ولكن لغرض آخر، بل المراد انه سيئ أو قبيح من حيث عدم تلبية المخطط للآثار والأهداف المرجوة من بناء المسجد أو المدرسة.

ومثل: مجموعة من الأشخاص وضعوا مخططاً مدروساً لمشروع لهم مثلاً، فيقال لهم: بأنهم قد وضعوا خطة جيدة وحسنة، وليس المراد من الحسن هنا: أنّ مشروعهم في حد ذاتها عمل جيد، بل المراد هو أن الخطة متكاملة ومتقنة بحيث يترتب عليها الاثر.ومثل: ما لو وصف ابنه مثلاً بأنه غبي، مع كونه ذكياً، قاصداً أنه يعمل عمل الأغبياء، أي آثار ونتائج أعمالهم تترتب على قراراته.

ص: 343


1- وهذا البحث يفتح باباً واسعاً لرد الكثير من الشبهات الكلامية في مختلف المسائل كما هو الحال في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة وغيرها من الشبهات، إذ يجب أن يسأل المستشكل عند قول (عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث أمر قبيح)، إنه ما هو مرادك ب(القبيح)؟ وأي واحد من المعاني الستة تريد وتقصد؟
2- وقد استعرناه من بحث معاني الصحة والبطلان.

وهذا المعنى من ترتيب الأثر من عدمه ليس بنسبي أو انتسابي؛ إذ المدار هو ترتب الأثر في الخارج على الشيء بما له من الأغراض المحددة، فلو حصل فحسن، وإلا فسيئ وقبيح، ولا مدخل للأنظار فيه.

وكذلك الحال في مطلق الجماليات، فإن الأم لو قالت: إن ابنتها جميلة، فقد يكون مرادها - أو رغبتها - هو ترتيب الأثر الإيجابي على ذلك خارجاً، وهو كونها مرغوباً إليها في الزواج، فتقصد بكونها جميلة أنها ممن يرغب إليها الخطّاب، وترتيب هذا الأثر ليس منوطاً بالنظر، بل هو أمر واقعي؛ إذ لو كان الأمر في الخارج كما ذكرت فكلامها صدق(1) وإن توهمت عكسه، وإلا فكلامها كذب وإن توهمت العكس أيضاً.

هذا ولا يخفى عدم عرفية بعض الأمثلة، وخروج بعضها من الوصف بالحسن والقبح ونظائرها، بل وعدم عرفية إرادة أصل هذا المعنى (الخامس) من الحسن والقبح، ولكن عدم عرفية بعض تلك الاستعمالات - لو سلمنا أنها غير عرفية -، أو عدم عرفية أصل هذا المعنى لا يضر، كعدم عرفية هذا المعنى الذي فسرت به الصحة والبطلان.

إنما المقصود أنه لو عبر بالحسن والقبيح مريداً هذا المعنى فما حكمه شرعاً من حيث كونه صدقاً أو كذباً؟

المعنى السادس: ما تبانى عليه العقلاء من حسن أو كذب

ما تبانى عليه العقلاء من حسن أو قبح، وهو في رتبة لاحقة على ما يستحق فاعله أو المتصف به المدح أو الذم من العقلاء(2)، وهذا المعنى السادس

ص: 344


1- والمقصود: مع إقامتها القرينة على أن مرادها ذلك.
2- وهو المعنى الثالث السابق.

أمر مرتهن بنظر عامة العقلاء وليس مناطه النظر أيضاً، كما أن المعنى الثالث كان أمراً ثبوتياً مرتهناً بالاقتضاء الذاتي وليس مناطه النظر أبداً.

وخلاصة القول: إن النسبية والانتسابية محصورة فقط في معنى واحد من المعاني الستة وهي: الملاءمة والمنافرة للطبع أو الذوق.

ص: 345

الخاتمة

موجز الصور الأساسية للمبالغة والمغالطة من حيث الكذب والصدق

وفي الخاتمة نشير إلى أهم صور مبحث المبالغة والمغالطة من حيث كونها كذباً أو صدقاً:

الصورة الأولى: أن يقيم المتكلم قرينة مقالية أو حالية خاصة على ما قصده، كأن يقول: بأن قصده الإهمال لا الإطلاق أو الإجمال لا البيان، وكلامه حينئذٍ صدق وليس بكذب، وكذلك الحال في المبالِغ، فلو أقام القرينة على ما قصده، انعقد الظهور الثانوي، وحيث إنه مطابق للواقع فهو صدق.

الصورة الثانية: ألّا يقيم الشخص قرينة خاصة على كلامه، بل كانت هناك قرينة عامة تفيد الظهور العرفي على ما قصده وأراده، وهنا الأمر كذلك؛ فإنه لو كان الكلام بظاهره العرفي مطابقاً للواقع فصدق، وإلا فكذب.

الصورة الثالثة: الّا يقيم الشخص قرينة خاصة أو عامة، والمعيار هنا هو الظهور الأصلي للفظ فإن طابق الواقع فصدق وإلا فكذب.

والبحث في باب المغالطة واسع جداً ومهم وذو أثر في كافة العلوم، ولعله يحتاج إلى مجلد كامل في الحديث عن أنواع المغالطة وكونها كذباً من الناحية الفقهية، ولكن لعل في هذا المقدار الكفاية في إلقاء الضوء على أسس البحث.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ص: 346

ص: 347

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللَّهُمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

ص: 348


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).

وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(1) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 349


1- (وَيَمْكُثُ).

فهرس المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة، المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى (رحمه الله).

* الكافي الشريف/ للشيخ محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني (رحمه الله)، الناشر دار الكتب الإسلامية الطبعة الرابعة: 1407.

1. الأمالي/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمه الله)، الناشر: كتابجي، الطبعة السادسة: 1416 ه.

2. الاختصاص/ للشيخ محمد بن محمد المفيد (رحمه الله)، الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى: 1413ه

3. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار أئمة الأطهار %/ للشيخ محمد باقر المجلسي (رحمه الله)، الناشر: مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى: 2008م

4. التبيان في تفسير القرآن/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)، الناشر: دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى.5. تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله/ للشيخ حسن بن

ص: 350

علي بن شعبة الحراني (رحمه الله)، الناشر: جامعة المدرسين، الطبعة الثانية: 1404 ه.

6. تفسير السيد شبر/ للسيد عبد الله شبر(رحمه الله)، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، الطبعة الثانية: 1410 ه.

7. تفسير نور الثقلين/للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (رحمه الله)، الناشر: اسماعيليان، الطبعة الرابعة: 1415 ه

8. تفسير القمي/ للشيخ علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله)، الناشر: دار الكتاب، الطبعة الثالثة: 1404 ه

9. روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/للشيخ محمد تقي المجلسي (رحمه الله)،الناشر: مؤسسة فرهنكي كوشانبور، الطبعة الثانية: 1406 ه

10. عيون اخبار الرضا عليه السلام/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمه الله).

11. الفقه المنسوب الى الامام الرضا (علیه السلام)/ منسوب إلى الإمام علي بن موسى الرضا (علیه السلام)، الناشر: مؤسسة ال البيت %، الطبعة الأولى: 1406 ه.

12. غرر الحكم ودرر الكلم/ للشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الامدي (رحمه الله)، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية: 1410 ه.

13. مجمع البيان في تفسير القرآن/ للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي الطوسي (رحمه الله)، الناشر: ناصر خسرو ايران طهران، الطبعة الثالثة: 1413 ه.

14. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل/ للشيخ محمد حسين بن محمد تقي النوري6، الناشر: مؤسسة ال البيت عليهم السلام، الطبعة الأولى:1408 ه .

ص: 351

15. مشكاة الانوار في غرر الاخبار/ الشيخ علي بن حسن الطبرسي (رحمه الله)، الناشر: المكتبة الحيدرية ، الطبعة الثانية: 1385 ه.16. معاني الأخبار/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمه الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى: 1403 ه.

17. مناقب آل ابي طالب % / للشيخ محمد بن علي ابن شهر اشوب المازندراني (رحمه الله)، الناشر: علامة، الطبعة الأولى: 1379 ه.

18. من لا يحضره الفقيه/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمه الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية: 1413 ه.

19. وسائل الشيعة/ للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي(رحمه الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت %، الطبعة الأولى: 1409 ه.

20. ارشاد الطالب في التعليق على المكاسب/ للشيخ الميرزا جواد التبريزي (رحمه الله)، الناشر: اسماعليان، الطبعة الثالثة: 1416 ه.

21. إيصال الطالب الى المكاسب/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

22. بيان الفقه/للسيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، الناشر: دار الأنصار، الطبعة الثانية: 1426 ه.

23. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام/ للشيخ محمد حسن النجفي6، الناشر: جماعة المدرسين بقم.

24. حاشية المكاسب/ للشيخ ميرزا علي الإيرواني (رحمه الله)، الناشر: دار ذوي القربى، الطبعة الأولى: 1421.

25. شرح القواعد/ للشيخ جعفر بن خضر كاشف الغطاء(رحمه الله) ، الناشر: مؤسسة كاشف الغطاء، 1420 ه

ص: 352

26. العروة الوثقى/ للسيد محمد كاظم اليزدي(رحمه الله).

27. الفقه المكاسب المحرمة/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

28. فقه الصادق (علیه السلام)/ للسيد صادق الروحاني دام ظله، الناشر: دار الكتاب - مدرسة الامام الصادق (علیه السلام)، الطبعة الأولى: 1412 ه29. مصباح الفقاهة في المعاملات/ للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمه الله).

30. المكاسب/ للشيخ مرتضى الانصاري (رحمه الله)، الناشر:لجنة تحقيق تراث الشيخ (رحمه الله).

31. مهذب الاحكام/للسيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله)، الناشر: مؤسسة المنار، الطبعة الرابعة:1413 ه

32. هداية الطالب إلى أسرار المكاسب/ للميرزا عبد الفتاح الشهيدي (رحمه الله).

33. الأصول/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

34. الفصول الغروية في الأصول الفقهية/ للشيخ محمد حسين الحائري الاصفهاني (رحمه الله)، الطبعة الحجرية.

35. فوائد الأصول/ للميرزا محمد حسين الغروي النائيني (رحمه الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى: 1418 هجري.

36. مبادى الوصول الى علم الأصول/ للشيخ حسن بن يوسف الحلي (رحمه الله)، الناشر: المطبعة العلمية، الطبعة الأولى: 1404 ه

37. مصباح الأصول/ للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمه الله)، الناشر: مكتبة الداوري، الطبعة الخامسة: 1417 ه

38. مطارح الأنظار/ تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله)، الناشر:

ص: 353

مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثانية: 1425 ه

39. هداية المسترشدين/ للشيخ محمد تقي الإصفهاني (رحمه الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية: 1429 ه

40. رجال الشيخ النجاشي/ لابي الحسن احمد بن علي النجاشي (رحمه الله)، الناشر: جامعة المدرسين بقم،الطبعة السادسة: 1407 ه.

41. رجال الشيخ الطوسي/ لابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)، الناشر: جامعة المدرسين بقم، الطبعة الثالثة: 1427 ه42. الفهرست/ لابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)، الناشر: المكتبة الرضوية، الطبعة الأولى في النجف الاشرف.

43. خاتمة المستدرك/للميرزا محمد حسين النوري (رحمه الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت %، الطبعة الأولى: 1417 ه

44. معجم رجال الحديث/للسيد ابي القاسم الخوئي (رحمه الله).

45. الفروق اللغوية/ لابي الهلال حسن بن عبد الله العسكري، الناشر: دار الافاق الجديدة، الطبعة الأولى: 1400 ه

46. مجمع البحرين/ للشيخ فخر الدين بن محمد الطريحي (رحمه الله)،الناشر: مرتضوي، الطبعة الثالثة: 1416.

47. لسان العرب/ لابن منظور. الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة: 1414 ه

ص: 354

ص: 355

الفهرس

كلمة مؤسسة التقى الثقافية 7

مقدمة المقرر 11

الفصل الأول

حرمة الكذب الأدلة والمناقشات/ 13

حرمة الكذب 15

حرمة الكذب واستماعه 15

أربعة عشرة مسألة مستثناة، أو مدعى استثناؤها، من حرمة الكذب 15

المسألة الأولى: الكذب هزلاً 15

المسألة الثانية: الكذب مزاحاً 16

المسألة الثالثة: الكذب في الوعد 16

المسألة الرابعة: المبالغة والإغراق 17

المسألة الخامسة: دعوى نسبية الصدق والكذب 17

المسألة السادسة: المغالطة 17

المسألة السابعة: التورية 17

ص: 356

المسالة الثامنة: الكذب في الإصلاح 18

المسألة التاسعة: الكذب عند الاضطرار 18

المسألة العاشرة: الكذب في الحرب 18

المسألة الحادية عشرة والثانية عشرة: الكذب على الزوجة والأولاد 19

المسألة الثالثة عشرة: الكذب بشأن أهل البدع 19

المسألة الرابعة عشرة: الكذب في القصص المخترعة 20

حرمة الكذب بقول مطلق 21

الأدلة على حرمة الكذب 22

الدليل الأول: الآيات الشريفة 22

أ: آيات افتراء الكذب 22

إشكالات على الاستدلال بآيات الافتراء على حرمة الكذب مطلقاً 24

الإشكال الأول: افتراء الكذب أخص مطلقاً من الكذب 24

استنباط لغوي: الافتراء انتهاك حق الغير، وليس مطلق الكذب كذلك 24

الرد على من ساوى بين الفرية والكذب، بصحة السلب 25

الاشكال الثاني: الحصر دليل على تحريم خصوص الكذب على الله ورسوله 26

الإشكال الثالث: دلالة قرينة السياق على عدم الإطلاق 27

الجواب عن الإشكال الثالث: الظهور السياقي ليس بحجة، والمناقشة فيه 28

التشكيكية في الظهور السياقي وأثره 28

من أمثلة السياق الضعيف 29

من أمثلة السياق القوي 31

أ سياق الجملة الشرطية 31

ص: 357

ب - سياق أهن الفساق واقتلهم 31

تطبيق مراتب الظهور السياقي على الآية الكريمة 32

وجوه ثلاثة للتقييد 32

أ - السياق ينفي المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة 32

ب - السياق يخل بالمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة 33

الفرق بين الوجهين 33

ج - القرينة السياقية موجبة لخروج اللفظ تخصصا عن دائرة (المطلق) 35

حاصل الإشكال الثالث: إن ال في (الكذب) للعهد 37

الفرق ما بين الوجوه الثلاثة لقرينية السياق على عدم الإطلاق 38

الدعوة إلى بحث معمق حول قرينة السياق 39

الإشكال الرابع: قرينة المقابلة تفيد إرادة مصاديق من الكذب لا مطلقاً 40

المناقشة في الإشكال الرابع: العدول من القضية الشخصية إلى الحقيقية أكثر فائدة 40

الردّ: ظهور جواب المولى في أنه شخصي 40

الإشكال الخامس: مفاد الآية (عدم الإيمان أوجب كذبهم) فلا يفيد الحرمة 41

بيان آخر للإشكال: اللازم أعم فلا يدل على الأخص 42

جوابان عن الإشكال 42

أولاً: الحصر في الآية يدل على الحرمة لا مجرد القبح 42

ثانياً: مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحرمة 44

الشق الثاني من كلام السيد الروحاني دام ظله: عكس الآية هو الدال على الحرمة 44

المناقشة في الشق الثاني: ليس مطلق المخرج عن الإيمان بمحرم 45

دفاعاً عن الاستدلال بالآية: برهان السنخية يثبت حرمة الكذب مطلقاً 45

ص: 358

ردّ برهان السنخية بوجوه 46

الوجه الأول: السنخية أعم من الوجوب والحرمة 46

الوجه الثاني: السنخية على نوعين أحدهما يقتضي الحرمة 47

الوجه الثالث: انكار الصغرى مع التسليم بالكبرى 47

ب: الاستدلال بآيات أخرى على حرمة الكذب مطلقاً 48

إشكالات ثلاثة على الاستدلال 49

الأول: العديد من الآيات واردة في مقام تحديد الصغريات 49

الثاني: العديد من الآيات واردة في صنف خاص من الكذب 50

الثالث: الموضوع موصوف أو مركب 50

أولاً: الموضوع في بعض الآيات هو الكذب الموصوف بصفة خاصة 50

ثانياً: الموضوع الذي صب عليه الحكم مركب 51

ثالثاً: لا يهدي لا تدل على الحرمة 51

دفاع عن الاستدلال بالآيات: الآية مشيرة إلى كبرى كلية ارتكازية 52

ردّ الدفاع بثلاثة إشكالات 53

الإشكال الأول: إنّ الحرمة الارتكازية إنما هي فيما استتبع مفسدة 53

الإشكال الثاني: إنّ ذلك عود إلى دليل العقل وهو خروج عن محل البحث 54

الإشكال الثالث: إنّ ذلك استدلال بالأعم على الأخص 54

تطبيق الاحتمالات على الآيات 55

1 المقدمية 55

2 الملابسات والمكتنفات 56

3 أن يكون التقريع هو لقبح الكلي لا لحرمته 57

ص: 359

ج: الاستدلال بالآيات المتضمنة لمادة (زعم) 57

د: الاستدلال بآية «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» 58

إشكال على الاستدلال بالآية: قول الزور مشترك 58

تحقيق الحال في الاستدلال بهذه الآية إجمالاً 59

الأمر الأول: الاحتمالات في قول الزور 59

الأمر الثاني: هل « اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ » طريقي أو موضوعي؟ 61

الأمر الثالث: ما هو متعلق «اجْتَنِبُوا»؟ 62

الأمر الرابع: هل المنهي عنه في الآية هو المصدر أم اسم المصدر؟ 62

الدليل الثاني: العقل 64

الوجه الأول: أنّ العقل مُدرِك 64

الوجه الثاني: أنّ العقل حاكم 64

إشكال الأعلام الثلاثة على الاستدلال بالعقل 65

المحقق الإيرواني (رحمه الله): مقدميه الكذب للفساد هي الملاك 65

مناقشات مع الأعلام الثلاثة 67

بناء على أن مدار البحث هو الوجوب والحرمة 67

المناقشة الأولى: عدم انحصار الحرمة بكبرى (ما لزمت منه المفسدة) 67

مناشئ حكم العقل بالحرمة أو الوجوب 68

الأول: المصلحة أو المفسدة البالغة 68

الثاني: شكر النعمة والمنعم وكفرانها 68

الثالث: جلب المنفعة البالغة 69

الرابع: الاقتضاء الذاتي 69

ص: 360

صغرى المقام 70

المناقشة الثانية: عدم انفكاك الكذب عن المفسدة مطلقاً 71

نموذج من وجوه الفساد الأخرى في الكذب غير المفسدة الأولية 71

أ الكذب المزاحي علة مُعِدِّة للتجرؤ على الكذب المحرم 72

ب - الكذب المزاحي موجب لجرأة الآخرين على الكذب 72

رواية أخرى مؤيدة 73

جواب المناقشة: المفسدة تترتب على ما كان موصلاً فقط 74

بناء على أن مدار البحث: الحسن والقبح 74

المناقشة الثالثة: الكذب قبيح حسب معاني القبح الاتية 74

معاني الحسن والقبح 75

المعنى الأول: ما يلائم النفس أو ينافرها 75

إضافة أقسام أخرى: ملاءمة الجسم أو الروح أو العقل 76

المعنى الثاني: موافقة المصلحة والمفسدة 77

أقسام المصلحة والمفسدة 77

المعنى الثالث: موافقة الغرض 78

المعنى الرابع: الكمال والنقص 78

الكمال والنقص يتصف بهما بعض الأفعال أيضاً 79

المعنى الخامس: انبغاء الفعل أو الترك (الاقتضاء وعدمه) 79

إضافة انبغاء الاتصاف أو الوجود 79

الاقتضاء سابق على الانبغاء 80

الأقوال الأربعة 81

ص: 361

أولاً: الاقتضاء الذاتي للحسن والقبح 81

ثانياً: الحسن والقبح لتوافق آراء العقلاء وتطابقها 81

ثالثاً: الحسن والقبح شرعيان 82

رابعاً: الشارع كاشف عن الحسن أو القبح الذاتي 82

المعنى السادس: ما تطابقت عليه آراء العقلاء 83

المعنى السابع: ما تباني العرف العام أو الخاص عليه 83

المعنى الثامن: أنّ الحسن والقبح شرعيان 83

المعنى التاسع: الحسن ما لا يستلزم الحرج والقبيح ما استلزمه 83

المعنى العاشر: مطابقة بعض العوالم لبعضها الآخر 84

المثال الأول للمعنى العاشر: إلحاق النسب 84

المثال الثاني للمعنى العاشر: الكفر بالله تعالى 84

مناقشة كلام الأعلام الثلاثة على ضوء معاني الحسن والقبح، وتطبيقها على الكذب 85

الوجه الأول: الكذب منافر للنفس والروح والعقل 85

رواية مؤيدة 86

الوجه الثاني: الكذب قبيح لأنه يخالف غرض المولى 87

روايتان منبِّهتان 88

الوجه الثالث: الكذب قبيح لأنه بما هو هو نقص 89

شاهد من الروايات 89

الوجه الرابع: الكذب مما يتطلب بذاته تركه 89

الوجه الخامس: تباني العقلاء على قبح الكذب 90

الوجه السادس: تباني العرف العام وكذا الخاص على قبح الكذب 91

ص: 362

الوجه السابع: القبح الشرعي 92

معنيان للفجور في كلام الإمام (علیه السلام) 92

الوجه الثامن: عدم تطابق العوالم 93

ملخص المناقشة مع العَلَمين في صغرى البحث 93

كلام السيد الوالد (رحمه الله) 94

كلام العلامة الحلي (رحمه الله): حسن الصدق ضروري ونظري 94

أدلة العلامة الحلي (رحمه الله) الثلاثة على كلامه 95

سيّالية بحث الحسن والقبح ومعانيهما، وعمومه لمسائل كثيرة من المكاسب المحرمة 97

منها: بيع هياكل العبادة 97

ومنها: الولاية من قبل الحاكم الجائر 98

ومنها: حفظ كتب الضلال 98

ومنها: بيع الدراهم المغشوشة 98

ومنها: الغيبة 98

ومنها: النجش 99

كبرى الاستدلال: التحقيق في قاعدة الملازمة 99

رأي الشيخ (رحمه الله) في قاعدة الملازمة 99

هداية المسترشدين: المعروف من المذهب الملازمة 101

ضرورة تحليل معاني مفردات قاعدة الملازمة 102

مناقشة كبرى الملازمة بوجوه 103

الوجه الأول: إنّ بعض مناشئ القبح العقلي العشرة محرِّم لا كلها 103

الوجه الثاني: أنّ القبح والحسن حقيقة ذات مراتب بعضها محرم 105

ص: 363

الوجه الثالث: إنّ المصلحة أو المفسدة الضعيفة لا تقتضي الإلزام 106

الوجه الرابع: الاشكال في الانطباق والتطبيق 106

تقييد الشيخ (رحمه الله) للحسن بكونه (على وجهٍ يستحق فاعله الثواب) يدفع الاشكالات 108

المناقشة: إنّ الكلام ليس تاماً لأنه من الاستدلال بالأعم 108

تحديد موطن الملازمة يدفع توهم انعقاد الإجماع عليها 109

نقل كلمات بعض الاعلام في قاعدة الملازمة 110

1. كلام السيد الوالد (رحمه الله) في الأصول 110

الميرزا الشيرازي (رحمه الله): الملازمة هي في سلسلة علل الأحكام 111

2. كلام السيد الخوئي (رحمه الله) في المصباح 111

إشكالات على كلام المصباح 113

الأول: إنّ الملازمة تجري في سلسلة المعاليل أيضاً 114

الثاني: إن هناك مناشئ أخرى للقبح والحسن والحكم بالحرمة أو الوجوب 114

الثالث: إنّ هناك قيوداً أخرى لازمة للعلم بالوجوب الشرعي للحكم 114

الإشكال الرابع: إنّ قاعدة اللطف هي المتممة للاستدلال 115

سلامة عبارة (الأصول) عن أكثر الإشكالات 115

الرأي المنصور 116

الخلاصة في مدى صحة استدلال الشيخ (رحمه الله) بالعقل 117

كلام صاحب الفصول: الملازمة الظاهرية بين الحكمين ثابتة بالأصل 117

مناقشة كلام صاحب الفصول (رحمه الله) بوجوه 119

الإشكال الأول: أنّ المفسدة على درجات 120

الإشكال الثاني: إنّ المصلحة والمفسدة على أنواع 120

ص: 364

الإشكال الثالث: لا يجري الأصل لو شك في مانعية الموجود أو مزاحمته 121

الإشكال الرابع: إن الشك في وجود المانع أو المزاحم من قبيل الأصل المثبت 123

الإشكال الخامس: إنّ الأصل لا يجري في الاعتقاديات والأصول والمبادئ والعلميات 125

الإشكال السادس: الشك الساري ليس مورداً للاستصحاب 127

الإشكال السابع: الاستصحاب غير جار في الشؤون الخطيرة 127

الإشكال الثامن: استصحاب العدم النعتي ليس بحجة 129

النائيني: لا يجري الاستصحاب في العَرَض إذا تركب الموضوع منه بنحو العدم النعتي 131

العدم المحمولي لا يجدي لإحراز العدم النعتي 132

جواب الميرزا النائيني (رحمه الله) عن تفصيل الشيخ الآخوند (رحمه الله) بين القيود المتصلة والمنفصلة 133

الإشكال التاسع: التمسك بالأصل إنزال لقاعدة الملازمة من رتبتها ونقض للغرض 134

الثمرة العملية ما بين اثبات قاعدة الملازمة بالدليل أو بالأصل 135

المحصل النهائي من دراسة الأدلة الدالة على حرمة الكذب بقول مطلق 138

الفصل الثاني

مستثنيات الكذب/ 139

المسالة الأولى: الكذب هزلاً 141

الأقوال في المسألة 141

القول الأول: حرمة الكذب الهزلي مطلقاً 141

القول الثاني: جواز الكذب هزلاً مطلقاً 142

القول الثالث: التفصيل في الكذب الهزلي بين الإخبار والإنشاء 142

القول الرابع: التفصيل بين صورة إقامة القرينة وعدمها 142

مقدمات تمهيدية ستة لبيان المنصور 143

ص: 365

الأمر الأول: عناوين المسالة أربعة: المزاح واللطيفة والهزل والاستهزاء 143

الفرق بين العناوين الأربعة 143

الفرق بين المزاح والهزل 144

أمثلة تطبيقية للمزاح والهزل واللطيفة 146

ثمرة التفكيك بين العناوين: تحديد مصب المنع في الروايات 148

الأمر الثاني: إنّ مدار الصدق والكذب هو الواقع لا الاعتقاد 149

الأمر الثالث: وجود قسيم آخر للصدق والكذب 149

المشهور في الصدق والكذب أنْ لا واسطة بينهما 150

الرأي المنصور أنّ الواسطة موجودة بينهما 150

التفكيك في مقام التعليم بين كذب الخبر وكذب الإخبار 151

التفكيك في التورية 152

مدار النهي هو الإخبار لا الخبر 153

المنفصلة الحقيقية هي باللحاظ الفلسفي لا البلاغي 154

تقسيم الكذب إلى كذب الحاكي وكذب الحكاية 155

الأمر الرابع: عموم الروايات لكذب الحكاية والحاكي، أو ظهورها في الأول 156

الوجه الأول: شمول الإطلاق للصنفين 156

الوجه الثاني: ظهور النهي في كذب الحكاية، وتعلق النهي بالشيء بما هو هو 156

الأمر الخامس: البحث عن أن تعلق النهي بعنوان هل هو بما هو هو أم بلحاظ الانتساب 156

تحقيق مبنوي في أنواع الأحكام بلحاظ انحاء تعلق متعلقاتها بها 157

النوع الأول: الأحكام القائمة بالموضوعات بنفسها 157

النوع الثاني: الأحكام القائمة بالموضوعات بقيدٍ 158

ص: 366

صور مشكوكة في إندراجها تحت أنواع الأحكام 159

وجود نمطي التعلق؛ تعلق الحكم بالعنوان بما هو هو و بلحاظ الانتساب في الشرع 160

مفاد (اتقوا الكذب) 162

الأصل لدى الشك في أن متعلق الحكم العنوان بما هو هو أو بلحاظ الانتساب 163

الأدلة على ظهور متعلق الحكم في أنه تمام الموضوع له 164

الأول: الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات 164

الثاني: حديث الرفع 165

الثالث: الأصل في المقننين جعل مصبّ الأحكام الموضوع بما هو هو 165

مناقشة الأدلة الثلاثة 166

رد الدليل الأول: مشهور قول الأصوليين في التبعية إنما هو لدفع توهُّمين 166

التوهم الأول: المصلحة أو المفسدة قائمة بنفس الأمر 166

التوهم الثاني: أفعاله تعالى لا تعلل بالغايات ولازمه العبث 167

ردّ الدليل الثاني: حديث الرفع لا يرفع الأحكام إلا بعد سبق ثبوتها 168

ردّ الدليل الثالث: بناء العقلاء على جعل الأحكام للموضوعات بما هي 170

الأمر السادس: الكذب هزلاً محرم لو استلزم الإغراء أو الإيذاء 171

القول الأول: تحريم الكذب الهزلي، وأدلته 172

الدليل الأول: قوله تعالى: «اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُوْرِ» 172

الدليل الثاني: إطلاقات الروايات 173

الرواية الأولى: مرسلة سيف بن عميرة 174

الرواية الثانية: خبر الحارث الأعور 174

الرواية الثالثة: رواية الخصال عن النبي (صلی الله علیه و آله) 174

ص: 367

الرواية الرابعة: رواية علي (علیه السلام) 175

المناقشة في الاستدلال بالروايات ب: وجه عام ووجه خاص 176

الوجوه العامة الست للمناقشة في الإستدلال بالروايات 176

الوجه الأول: إنّ مصبّ التحريم هو الكذب لا الهزل، وليس كل هزل كذباً 176

الوجه الثاني: إنها أخص من المدعى، لا تشمل موردين تخصصاً 177

المورد الاول: الكذب الهزلي الانشائي 177

المورد الثاني: عند نصب القرينة على كونه هازلاً 178

الوجه الثالث: مدخلية القصد في صدق الكذب، ولا قصد في الهزل 180

مقاييس الصدق والكذب 180

وحيث لا قصد فلا حكاية فلا كذب 182

تعارض ظهور القصد مع ظهور اللفظ 183

صغرى المقام 184

مناقشة الوجه الثالث صغروياً: وجود وتحقق القصد لدى الهازل 185

مناقشة الوجه الثالث كبروياً: عدم اشتراط القصد في كذب الحكاية 185

الوجه الرابع: المدار في صدق الكذب على الكذب الهزلي هو العرف 186

تأكيد الإشكال بأنّ المدار على الظهور الثانوي والمراد الجدي 187

مناقشات ثلاث للوجه الرابع 188

المناقشة الأولى: الملاك هو الظهور الأقوى لا الظهور الثاني دوماً 188

مثالان للظهور الأقوى من الظهورين الأول والثاني 189

المثال الأول: تحليل وصفه تعالى للمنافقين ب: «لَكَاذِبُونَ» 189

المثال الثاني: قول القائل (ليتك كنت متقياً) 191

ص: 368

المناقشة الثانية: قرينة المقابلة بين الكذب هزلاً وجداً تقتضي الحرمة 192

المناقشة الثالثة: اختلاف كذب الحاكي عن كذب الحكاية عرفاً() 193

الوجه الخامس: انصراف أدلة الحرمة عن الكذب الهزلي 194

كلام الشيخ (رحمه الله) في دعوى الانصراف 194

هل يلزم تقييد كلام الشيخ (رحمه الله): الفاقد للقصد، ب (الجدي)؟ 195

إمكان تصوير الكذب هزلاً مع انتفاء القصد بالمرة 195

وجه الانصراف في كلام الشيخ (رحمه الله) 196

الوجه السادس: السيرة قامت على ممارسة الكذب هزلاً 196

المناقشة في الوجه السادس: عدم معلومية كون السيرة لكونهم متشرعين 197

المناقشة الخاصة: دراسة بعض الروايات وفقه الحديث 197

الروايات التي استدل بها الشيخ (رحمه الله) ومقتضى فقه الحديث فيها 198

فقه حديث الرواية الأولى: رواية الإمام الباقر (علیه السلام) عن الإمام السجاد (علیه السلام) 199

الوجه في اقتصار الرواية على تعليل بعض مضمونها 199

إشكالات ثلاث على الاستدلال بالرواية 200

الإشكال الأول: إطلاق (الكذب) يُقيَّد ببركة (اتقوا) 201

جوابان عن الإشكال 201

الجواب الأول: لابد من التفريق بين النهي والمنهي عنه 202

الجواب الثاني: أنّ القيد في (اتقوا) من باب الغالب 203

الإشكال الثاني: تعارض ظهوري (الكذب) و(كَذِب) في التعميم والتخصيص 205

الجواب الأول عن الإشكال الثاني: التعليل من باب المورد الأهم أو الغالب 206

الجواب الثاني عن الإشكال الثاني: قول الإمام (علیه السلام) حكمة أو علة؟ 206

ص: 369

الاحتمال الأول: كون (فإن الرجل...) حكمة 207

الإحتمال الثاني: كونه علة ولكن طريقية العلة تفيد التعميم 207

المدار في التعليل على المادة لا الهيئة 208

الإشكال الثالث: اختصاص حرمة الكذب الصغير أو الهزل بصورة مقدميته 210

الجواب الأول عن الإشكال الثالث: إنّها حكمة لا علة 210

الجواب الثاني: إنها علة لكن المراد هو الشأنية لا الفعلية 210

الجواب الثالث: لا تعارض بين الحرمة الموضوعية والطريقية 212

فقه حديث رواية الحارث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) 212

الإشكال بأن (لا يصلح) ظاهر في الكراهة المصطلحة 213

جوابان عن الإشكال 213

الوجه الأول: التعليل في ذيل الرواية دال على الحرمة 213

الوجه الثاني: استعمال اللفظ في معنيين مستحيل أو قبيح 213

القول الثاني: جواز الكذب الهزلي مطلقاً وأدلته 214

القول الثالث: جواز الكذب الهزلي إن كان إنشاء دون ما إذا كان إخباراً 214

دليل القول الثالث: الخروج الموضوعي للكذب الهزلي الانشائي عن الكذب 215

تعريف الإنشاء والإشكال عليه 216

مناقشة رأي السيد الخوئي (رحمه الله) 218

المناقشة الاولى: هناك حكايتان متعاكستان، ولا إنشاء للمعنى 218

المناقشة الثانية: الإنشاء إيجاد الهزل، لا إيجاد المعنى بداعي الهزل 220

تحقيق لإجلاء حقيقة الاخبار والإنشاء 221

أ في الإخبار إيجاد وحكاية 222

ص: 370

ب - في الإنشاء إيجادان وحكاية 223

الإنشاء قد يتضمن او يستلزم إخباراً 223

تحليل تطبيقي لجملة (ليتك كنت تقياً) 224

موطن الإشكال في كلام السيد الخوئي (رحمه الله) 225

مزيد تحقيق: إنّ في القضايا دلالة وإرادة وحكاية 226

1. الدلالة 227

2. إرادات ثلاث 227

3. الحكاية 228

استعراض لعناوين ستة و توفر الامور الثلاثة فيها 228

العنوان الأول: النائم 228

العنوان الثاني: الغالط 229

العنوان الثالث: المعلِّم 229

العنوان الرابع: المورّي 230

العنوان الخامس والسادس: الكاذب جداً والكاذب هزلاً 231

القول الرابع: المدار على ذكر القرينة وعدمه، وأدلته 232

الدليل الأول: التدبر في تعريف الكذب 233

الدليل الثاني: الكذب في الإنشاء لدلالته الالتزامية 233

الكذب والصدق يطلقان على لازم الإنشاء 234

مورد مستثنى من جواز الهزل: الهزل ممن هو خلاف شأنه 235

إخراج النكتة واللطيفة من الهزل موضوعاً 235

إجمال الرأي المنصور في المقام 236

ص: 371

بيان الرأي المنصور: الصور الخمسة في مجمع العنوانين 236

أمثلة توضيحية لاندكاك عنوان في اخر 237

أ اندكاك الفعل الماضي في المضارع 237

ب - اندكاك الفعل الإخباري في الإنشاء 238

تطبيق الصور على المقام: التمثيل ب(أنت رجل شجاع) 238

الصور الخمسة في مثل (أنت رجل شجاع) 239

استثناء الجواز في الصورة الخامسة عند اقوائية ظهور المادة من ظهور القرينة الخارجية 241

أمثلة على اقوائية قرينية المادة 241

المثال الاول: الخبر المختلق (لو سرقت لقطعت يدها) 241

مناقشة الرواية سنداً ومضموناً 242

المثال الثاني: فقه رواية «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله...» 243

تحقيق معنى الرواية على ضوء مادة أحدى مفرداتها 245

المثال الثالث: الانتقاص من اساطين المذهب 246

المسألة الثانية من مستثنيات الكذب: الكذب مزاحاً 248

طوائف الروايات الواردة حول المزاح والهزل 248

الطائفة الأولى: روايات مشيرة إلى المفسدة الدنيوية 248

الطائفة الثانية روايات لسانها الذم أو التحريم المقدمي 250

الطائفة الثالثة: روايات لسانها نفي الكمال والنقص 251

الطائفة الرابعة: روايات تفيد حرمة المزاح بعنوانه 252

رواية (المزاح السباب الأصغر) سنداً ومتناً 253

أ البحث السندي 253

ص: 372

ب: البحث الدلالي 255

محتملات المراد ب(المزاح هو السباب الأصغر) 255

المدار على الموضوع الوارد في الروايات إلا إذا عرّفه الإمام... 256

الطائفة الخامسة: روايات تفيد رجحان المزاح 257

تعارض الروايات في مدح المزاح وذمه 258

وجه الجمع بين طوائف الروايات 258

شواهد على وجه الجمع 259

الشاهد الأول: مناسبات الحكم والموضوع 259

الشاهد الثاني: روايات الطائفة السادسة 260

البحث السندي في رواية (إن المداعبة من حسن الخلق) 262

وجوه لاعتبار روايات الكافي 262

تحقيق المراد من (العدة) في الكافي 263

الوجه الأول: محمد بن يحيى العطار، أحد العِدّة دائماً 263

الوجه الثاني: تصريح الكليني (رحمه الله) بتفصيل المراد من العدة 264

الوجه الثالث: ذكر المشايخ والطرق تبركي وذلك لشهرة الأصول 264

الوجه الرابع: ميزتان في الكليني (رحمه الله) توثقان (العِدّة) 265

تنبيه: مجمع عنواني (الكذب والمزاح) هو مورد البحث 268

فائدة: هل الآثار تترتب على المزاح الكثير أم على المزاح بصورة مطلقة؟ 269

وجوه جمع أربعة 269

الأول: الوصف لا مفهوم له 269

الثاني: المنطوق مقدم على المفهوم 269

ص: 373

الفهم العرفي قد لا يوافق بعض القواعد الأصولية 270

الثالث: الجمع بين الطائفتين بتشكيكية الموضوع والآثار 271

الرابع: ترتب الآثار على المزاح بالباطل أو الكاذب للانصراف 271

تتمة: المزاح المتضمن للإيذاء أو الإضرار 272

المسألة الثالثة: الكذب في الوعد 274

التفصيل في المسالة: أقسام الكذب في الوعد 274

القسم الأول: الكذب في الإخبار عن العزم 274

القسم الثاني: الكذب في الإخبار عن الفعل 275

القسم الثالث: الكذب بمعنى جعل الخبر مخالفاً للواقع 275

الشيخ (رحمه الله): ليس خلف الوعد كذباً 276

المناقشة: ميزان الكذب يعم الفعل و غيره 277

مراد الشيخ (رحمه الله) من تفسير الكذب في الوعد بجعله مخالفاً للوعد 278

فائدة: في انقلاب العناوين بلحاظ حالها المستقبلي 278

أمثلة أربعة محتملة لانقلاب العناوين 279

انقلاب الهدية إلى رشوة 279

انقلاب الأمانة إلى سرقة وخيانة 279

عمل أصحاب السبت لا بنية الصيد 280

العدول بالنية عن إعطاء أجرة الحمامي 280

التحقيق: التفصيل حسب محاور ثلاثة 281

الأول: ظهور القصد وظهور الفعل أو الظهور السابق واللاحق 281

الثاني: كذب الحاكي وكذب الحكاية 281

ص: 374

الثالث: هل المدار في الصدق مطابقة القول للواقع أو للاعتقاد؟ 282

المرجع الآيات والروايات وإلا فالعرف 284

المسائل المبحوث عنها في المقام 285

الوعد مع إضمار عدم الوفاء 285

ما لو وعد مع علمه بعدم الوفاء 285

ما لو وعد مع شكِّه في الوفاء 285

الوعد مع عدم إضمار شيء 285

بعض الروايات الدالة على حرمة الكذب في الوعد 286

الاستدلال بالآية الكريمة: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» 287

رأي الشيخ (رحمه الله) في الآية الكريمة 287

رأي السيد الوالد (رحمه الله) في الآية الكريمة 287

رأي الشيخ الطوسي (رحمه الله): خمسة احتمالات في الآية المباركة 288

مرجعيتان في تحديد المراد من الآية الكريمة 289

المرجعية الأولى: القواعد الأصولية والبلاغية 290

المرجعية الثانية: الروايات المبينة للآية الكريمة 290

فقه رواية (عدة المؤمن أخاه نذر): 292

ظاهرها وجوب الوفاء بالوعد؛ لوجوه ثلاثة 292

شمول قوله (علیه السلام): «عدة المؤمن نذر» لست صور 293

الصورة السابعة 294

ملخص وإيجاز 295

إشكال: إذا كان مصب الآية القول بلا عمل لحرم النهي عن المنكر على فاعله 295

ص: 375

الجواب عن الإشكال بوجوه سبعة 296

الوجه الأول: إن المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي 296

الوجه الثاني: مفاد الآية النهي عن عدم الفعل، وقلب النهي إشارة لوجه الاحتجاج 298

الوجه الثالث: مصب النهي هو المجموع والهيئة الاجتماعية: 299

الوجه الرابع: أنّ النهي هو بلحاظ شأنية مقدمية القول لأن يفعل، لا فعليتها 300

الوجه الخامس: النهي منصرف إلى غير (النهي عن المنكر) فتختص الآية بالوعد 300

الوجه السادس: إنّ الآية الثانية مكملة للأولى فلا تنافي بينهما 301

الوجه السابع: الذم على الترك والعدول إما للإلفات وإما للإخبار 302

تلخيص لحكم صور الوعد مع الخلف 306

المسألة الرابعة: المبالغة 308

رأي الشيخ (رحمه الله): المبالغة مطلقاً ليست من الكذب 308

المناقشة: قيدان لتكون المبالغة صدقاً 308

القيد الأول: لا بد من كون المبالغة عرفية 309

القيد الثاني: لابد من وجود القرينة المقامية او المقالية 310

وجه القيد الثاني: قيام القرينة يسبب انعقاد الظهور الثانوي 310

تحقيق وجه كون المبالغة تارة صدقاً وأخرى كذباً 311

يشترط في المبالغة كونها في محلها 312

تتميم: لا تدافع بين عنواني الكذب والمبالغة 313

إضافتان مهمتان في تعميم المبالغة 313

أولى: المبالغة تشمل الجهة أيضاً 314

مناقشة القول بأن المدار على (المراد): المدار على القرينة 315

ص: 376

تخالف المقصود والملفوظ 317

الثانية: دائرة المبالغة أوسع من القول 317

المسألة الخامسة: نسبية الصدق والكذب 319

نسبية الصدق والكذب في كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) 319

صنفان قد تدور مدارها نسبية الصدق والكذب والمعرفة 320

الصنف الأول: اختلاف الأنظار في الذوقيات 320

الصنف الثاني: اختلاف المجتهدين في آرائهم 321

تحقيق الأمر: أقسام الحقائق 322

أقسام الحقائق: مطلقة، نسبية فلسفية، تشكيكية، نسبية هرمينوطيقية 322

الأول: الحقائق المطلقة 323

الثاني: الحقائق النسبية الفلسفية 323

الثالث: النسبية الهرمينوطيقية 324

الرابع: الانتسابية 325

الخامس: الإضافية 325

السادس: التشكيكية 326

المسألة السادسة: المغالطة 327

من أنواع المغالطة الكاذبة 327

الأول: مغالطة لبس الظرف بالقيد 327

المثال الأول: وضع الألفاظ للمعاني الذهنية 328

وجه المغالطة: الخلط بين القيد والظرف 329

المثال الثاني: مغالطة تاريخية القضايا التشريعية 329

ص: 377

كشف المغالطة (في التاريخ) ظرف لا قيد 330

الثاني: مغالطة النسبية والانتسابية: اختلاف الفتاوى مثالاً 331

الإخبار عن الواقع والإخبار عن الرأي 332

الثالث والرابع: مغالطتا الإطلاق والإهمال، والبيان والإجمال 333

مغالطة كانط: الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا 334

الجواب عن مغالطة كانط(): مغالطتان في كلامه 335

المغالطة الأولى: مغالطة الإطلاق والإهمال 335

المغالطة الثانية: مغالطة المبين والمجمل 336

اختلاف الانظار في التحسين والتقبيح عند الشيخ (رحمه الله) 337

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) بوجوه 337

الوجه الأول: في الإخبار المقيد ب(في نظره) إخباران أحدهما كذب 338

إيهام المغالطة من لبس الاستقلالية بالمرآتية 339

الوجه الثاني: لابد من تقييد كلامه (رحمه الله) بإقامة القرينة 340

الوجه الثالث: للحسن والقبح معان على بعضها الكذب مطلق 340

الاحتمالات في معنى الحسن والقبح و البحث عن جريان النسبية فيها 341

المعنى الأول: الكمال والنقص 341

المعنى الثاني: الملاءمة والمنافرة للطبع أو للعقل أو الروح أو الجسد 341

المعنى الثالث: ما يستحق مدح العقلاء او ذمهم 342

المعنى الرابع: مطابقة الشيء لما ينبغي أن يكون عليه وعدمها 342

المعنى الخامس: كون الشيء بحيث يترتب عليه الأثر وعدمه 343

المعنى السادس: ما تبانى عليه العقلاء من حسن أو كذب 344

ص: 378

الخاتمة 346

موجز الصور الأساسية للمبالغة والمغالطة من حيث الكذب والصدق 346

فهرس المصادر 350

الفهرس 356

كتب أخرى للمؤلف 380

ص: 379

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (علیها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

8. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

9. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيد نرجس (علیها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

13. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

ص: 380

14. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

15. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.

16. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

17. توبوا إلى الله، مطبوع.

18. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

19. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

20. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

21. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

22. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

23. شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية، مطبوع.

24. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

25. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

26. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

27. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

28. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

29. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الاصلاح، مطبوع.

30. فقه المكاسب المحرمة - حرمة اللهو واللعب واللغو، قيد الطبع.

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

ص: 381

32. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.

33. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.

34. رسالة في الحق والحكم، مخطوط.

35. الأصول مباحث القطع، مجلدان، مخطوط.

36. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

37. فقه الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

38. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

39. التبعيض في التقليد، مخطوط.

40. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

41. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

42. الحجة معانيها ومصاديقها، مطبوع.

43. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

44. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

45. الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

46. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

47. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

48. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

ص: 382

49. رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

50. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

51. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

52. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

53. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

54. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

55. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

56. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

57. الحوار الفكري، مطبوع.

ص: 383

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.