محاضرات ثقافية

هوية الكتاب

يهدی ثواب طباعة هذا الكتاب إلی سيدنا أبي الفضل العباس(عليه السلام)

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349-

بطاقة تعريف: محاضرات ثقافية / محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي.

عنوان واسم المؤلف:قم: دار العلم، 1442ق.=1399.

تفاصيل المنشور: 192ص.

ISBN: 4-588-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية.

ملحوظة: الطبعة الثانية.

ملحوظة: الإصدار السابق: دار الفكر، 1440ق.=1397.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

مشكلة: الثقافة الإسلامية

مشكلة: Culture, Islamic*

مشكلة: الثقافة الإسلامية

مشكلة: Islam and culture

مشكلة: الإسلام - المعتقدات

مشكلة: Islam--Doctrines

ترتيب الكونجرس: 229BP

تصنيف ديوي: 48/297

الرقم الببليوغرافي الوطني: 7503891

حالة التسجيل: فيپا

--------------------

الشجرة الطيبة

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

الناشر: دار العلم

المطبعة: احسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 3000

الطبعة الثانية - 1442ه ق

-----------------

شابك: 4-588-204-964-978

----------------------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام)، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

محاضرات ثقافية

محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 2 الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ 3 مَٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5 اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 7

ص: 3

ص: 4

كلمة المؤسسة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

تتعرض شعوبنا الإسلامية منذ عقود إلى ما يشبه (الحرب الناعمة) - إن صحّ التعبير - كما تعرضت لحروب ساخنة ومدمرة طيلة القرن الماضي، وما تزال تتخبط في مستنقع الأزمات السياسية، والحروب المفروضة والمرفوضة، وقد ثبت اليوم خطورة النوع الأول من الحرب على حاضر ومستقبل الأمة أكثر من النوع الثاني؛ إذ بالإمكان إعمار البلاد وإزالة ركام الحروب والتعويض عن الخسائر المادية، لكن ليس من السهل التعويض عن الخسائر المعنوية.

ولم يبدأ الحديث عن الثقافة والفكر في هذه الفترة الراهنة، وإنما كانت النخبة الإسلامية تكتب وتتحدث، وتنشر منذ أواسط القرن الماضي عن الثقافة الإسلامية: مفهومها ومضمونها وضرورتها للأمة، سعياً منهم لمواجهة التيارات الثقافية والفكرية العاتية في تلك الحقبة.

لكن مع وجود المكتبة الثقافية المشحونة بالعناوين الكبيرة، بقي السؤال الحائر يدور في أذهان الناس: ما هي الثقافة الإسلامية؟ فهل هي ثقافة الدين، أم ثقافة الإنسان، أم ثقافة المجتمع؟

ص: 5

وفي هذه المحاضرات يؤكد السيد جعفر الشيرازي (حفظه اللّه)، نجل المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه مقامه) بأنّ الثقافة الإسلامية ليست شعاراً ترفعه الجماعات السياسية أو المؤسسات الثقافية، ولا هي نتاج فكري إنساني محض، وإنما هي هوية أصلها ثابت وفرعها في السماء، وبكلمة: إن أصل الهوية الثقافية الإسلامية هو الدين، وأي قاعدة أخرى يضعها الإنسان بنظرياته الفكرية، أو المجتمع بعاداته الموروثة لا يوجد له نفع؛ لأنها لا تلبث أن تنهار أمام الثقافات الأخرى، التي قد تحمل عناصر الإثارة والإغراء، فتزيل تلك القشرة من الثقافة العديمة الجذور.

وبما أن الثقافة بالأساس - وكما تُجمع التعريفات عليه - تمثل العادات والسلوك والقيم التي يحملها ويطبقها الإنسان في حياته، فقد سلط سماحته في هذه المحاضرات الضوء على نشوء الثقافة وتكوّنها في المجتمع؛ وذلك من خلال العادات والتقاليد الاجتماعية.

وهنا التفاتة رائعة، حيث لم يجعل المجتمع كالفرد، فما يستحسنه مجموعة من الناس غير ما يرغب به شخص واحد في المجتمع، ففي الفصل الخاص بالثقافة الإسلامية والعادات الاجتماعية، لا يلغي جميع العادات والتقاليد الاجتماعية، وإنما يدعونا للنظر فيما يحمله المجتمع، فإن كان موافقاً للقيم والتعاليم الإسلامية فبها؛ لأنها تبقى مفيدة وضرورية، ولا يجب تغييرها، وأما إن كان غير موافق فالإرث الديني لدينا هو البديل، وهو زاخر بالدروس والعبر والمعارف والأفكار، التي من شأنها أن تشكل منظومة ثقافية متكاملة وعملاقة تبهر العالم والأجيال.

وحتى تكتمل الصورة ويتوضح الطريق، فبإمكان القارئ العزيز - من خلال

ص: 6

مطالعته الكتاب - أن يجد مصادر الثقافة الإسلامية، ومن أين تتغذى وتنمو؟ فهي - كما أسلفنا - ثقافة الدين الحنيف، الذي أنزله اللّه تعالى خاتماً للأديان، ومكملاً للشرائع، ومنهجاً متكاملاً للإنسانية؛ لذا فإن سماحته يقدم لنا أول مصدر للثقافة وهو القرآن الكريم، ويبين لنا أهمية وضرورة التعامل الصحيح مع هذا الكتاب المجيد، والتعامل مع كلماته على أنها سماوية مقدسة، ويؤكد على: «أن القرآن الكريم وحدة متكاملة، كما هو حال الثقافة الإسلامية، فهي وحدة متكاملة، وأن الخلل في أي جانب من جوانب هذه الثقافة يؤدي إلى خلل في حياة الإنسان»، وهو في ذلك يشير إلى القراءة الخاطئة لبعض الناس للقرآن الكريم، ومحاولة تطبيقه على أفكاره الشخصية، بينما يجب أن يكون العكس تماماً.

والمصدر الآخر الذي يبينه لنا سماحته هو السيرة المضيئة للمعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام)، وبما أن نصوص السيرة المطهرة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومن بعده الأئمة المعصومين(عليهم السلام) تحث جميعها على القيم الإنسانية النبيلة، وعلى الأخلاق والفضائل الإنسانية، بل نجدهم تجسيداً عملياً لتلك القيم، فإن الثقافة الإسلامية الحقيقية والصحيحة يمكن أن يجدها طالبها من خلال مطالعة هذه السيرة المضيئة والمشرقة.

وهنا نسأل، ونحن نعيش المعترك الثقافي على أشدّه: أين هي معالم الثقافة الإسلامية التي وصفناها بالحقيقية والمتكاملة على أرض الواقع؟

إن نظرة خاطفة على الحروب المدمرة التي تحاصر نيرانها شعوبنا الإسلامية، وتزهق الأرواح يومياً تبين أن دوافعها وأسبابها في فقدان هذه الثقافة الصحيحة، وتسيّد الثقافة التي حملت الإسلام اسماً وشعاراً وحسب.

وسماحته يسلط الضوء على هذه النقطة المهمة والجوهرية، ويفنّد مقولة

ص: 7

(انتشار الإسلام بالسيف)، مؤكداً أن: «هذا الكلام ليس صحيحاً، بل مجانب للحق والحقيقة، والدليل على ذلك: وجود الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية منذ الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا، بل عندما كانت هذه الأقليات تتعرض إلى الإبادة، أو إلى القتل والتعذيب في دول أخرى كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلامية، كما حدث لليهود حينما طردوا من البلدان الأوربية، فاضطروا إلى الالتجاء للدول الإسلامية، وقد تم قبولهم في هذه البلدان بعنوان أهل ذمة».

لا شك أن الحديث عن الثقافة الإسلامية الصحيحة لا يسعه هذا الكتاب، لكن القارئ سيكتشف خلال مطالعته النقاط المضيئة التي من شأنها أن تساعده على المزيد من البحث، والتقصّي في مصادر الثقافة، التي تأخذ بيد الإنسان إلى الرشاد والفلاح، بحيث يشعر أنه يضع قدمه في طريق التقدم والسعادة.

وهذه المحاضرات قد ألقيت في شهر رمضان من عام 1425 في الحوزة العلمية الزينبيّة في دمشق، وقد قامت مؤسستنا بتدوينها وتهيئتها للطبع حتى خرجت بهذه الحلُة القشيبة، والحمد لله رب العالمين.

مؤسسة الشجرة الطيبة

قم المقدسة 1440ق

ص: 8

الفصل الأول: الثقافة بين القيم الدينية وعادات المجتمع

اشارة

ص: 9

ص: 10

وعادات المجتمع

(1) بين القيم الإسلامية وعادات المجتمع

اشارة

حينما نريد الحديث عن الثقافة الإسلامية المعاصرة يجب علينا أن نحدد تعريفاً للثقافة؛ لأن هناك ضبابية وعدم وضوح في معنى هذه الكلمة، ثم سنتكلم عن الثقافة الإسلامية بشكل عام، ثم الثقافة الإسلامية المعاصرة.

إن الثقافة تُعرف بتعريفين:

الأول: هي مجموعة من الاعتقادات والقيم التي تحملها الأمم، فهناك قيم ومعتقدات تحملها كل أمة، وقد تختلف أمة عن أخرى، وربما تعتبر عقيدة وقيمة ما مكرمة في أمة، وقد لا تكون كذلك في أمة أخرى، لكن مجموع كل ذلك يسمى (ثقافة).

الثاني: هي مجموعة من العادات والتقاليد التي تعتادها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، أو مجموعة من المجموعات، وعملت بتلك العادات والتقاليد، وغالباً ما تكون عادات وتقاليد اجتماعية.

مثلاً: العرب كانوا ولازالوا يحملون صفة الكرم، ويُعدّ الكرم من القيم العربية الأصيلة قبل الإسلام، وبقيت هذه الصفة في المجتمع الإسلامي؛ لذا يُعتبر الكرم من صميم الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده.

وحينما نذهب إلى بعض المجتمعات الأخرى سنرى أنهم يجعلون القيمة

ص: 11

للمادة، فكل شيء ينظرون إليه من منظار مادي بحت، فالمادة والأمور المادية تُعتبر ثقافة عندهم؛ ولذلك فالكرم والضيافة وغيرهما لا تُعتبر ثقافة أو قيمة عندهم.

مثال آخر: إن الحجاب من الضرورات الإسلامية، وكل مسلم يعرف أن الحجاب واجب، ولكن كيفية هذا الحجاب تختلف من مجتمع إلى آخر، فمثلاً: يتمثل الحجاب بالعباءة العربية في أحد المجتمعات، وفي آخر ب- (الشادور)، وفي مجتمع ثالث بشكل آخر، لكن يبقى الواجب والمطلوب هو الستر، ولكن الكيفية تختلف. إذن، فالمصداق الخارجي لهذا الستر متعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية.

مثال الثالث: في مراسيم الزواج، ففي التشريعات الإسلامية نجد أن هناك مراسيم خاصة للزواج، ومنها: أن يكون هناك عقد بين الرجل والمرأة، وبالإضافة للعقد فهناك عادات وتقاليد قد تختلف من مجتمع لآخر، وهي تعود للثقافات المختلفة.

بين الثقافة الإسلامية والعادات

إن الثقافة الإسلامية التي نعنيها ليست هي العادات والتقاليد التي تحملها الأمم والشعوب الإسلامية، وإنما هي القيم التي أرساها القرآن الكريم، وبيّنها الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون(عليهم السلام).

وبعد اتضاح معنى الثقافة الإسلامية، نأتي إلى ما يُطلق عليه في العصر الحاضر بالثقافة الإسلامية المعاصرة، إذ نراها خليطاً من الثقافة الإسلامية ومن عادات وتقاليد المجتمعات الإسلامية، سواء رجعت تلك العادات إلى القيم الإسلامية أم إلى غيرها، فهي نتاج العادات القديمة، أو الطبيعة الجغرافية المؤثرة، أو النظم السياسية، أو التاريخ أو العِرق، أو غير ذلك. لذا يجب في البداية أن نفرّق بين

ص: 12

الثقافة الإسلامية، وبين العادات الاجتماعية؛ لأنه إذا لم نفرق بين هذين الأمرين فسنواجه مشكلة كبرى في تحديد وممارسة الثقافة الإسلامية، فكثير من الناس يتصورون أن هناك مجموعة من التقاليد هي من صميم الإسلام، وأن الخارج عنها يُعتبر خارجاً عن الإسلام، مع أن الحقيقة لا تعدو أنهم تركوا مجموعة من العادات والتقاليد وحسب.

وفي الوقت نفسه، فهناك مشكلة أخرى، وهي: أن يترك بعض الأشخاص بعض القيم الإسلامية ظنّاً منهم أنها عادات متخلفة لمجتمعات إسلامية، فالبعض أمره في تفريط، والآخر في إفراط، وعلينا أن نميّز بين الأمرين، ينبغي علينا أن نتكلم في عادات المجتمعات الإسلامية، ثم نبحث عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، التي أرساها القرآن الكريم، وبينها الرسول الأكرم وآله(عليهم السلام)، ثم نفرز بين الأمرين، ونحدد الثقافة الإسلامية حتى لا نقع في الازدواجية، بين القيم الإسلامية وبين عادات وتقاليد المجتمعات الإسلامية.

تأثير البيئة

من الواضح أن الإنسان يتأثر ببيئته، وكما يقال: (الإنسان ابن بيئته)، فحين يتربى في مجتمع معين فسوف يتلقى ما يراه بالقبول ويتقبل ما يفعله، وخاصة عندما يرى أباه وأمه وأخاه وعشيرته ومجتمعه يتخذون سلوكاً معيناً، فيعتاد على ذلك، وليس عملياً فقط، وإنما سيتكون فكره من البيئة التي يعيش فيها، فعندما يعيش الإنسان في مجتمع ما فسوف نلاحظ أنه يعتقد بما يعتقده ذلك المجتمع، ويمارس ما يمارسه، فمن يولد في بيئة إسلامية عادة ما يكون مسلماً، والذي يولد في بيئة مسيحية عادة ما يكون مسيحياً، والذي يولد من أبوين يهوديين سيكون يهودياً. إذن، فتأثير البيئة لن يكون مقتصراً على الممارسة العملية

ص: 13

الظاهرية، وإنما يؤثر على النشاط الذهني والقناعات الفكرية للإنسان، من حيث يشعر أو لا يشعر.

وعندما نأتي إلى النصوص الدينية، والسنة المطهرة فإن فهم النص قد يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان في كثير من الأحيان، فمن يعيش في مجتمع ما ربما يفهم النص بغير ما يفهمه من يعيش في مجتمع آخر. ولا نريد هنا الحديث عن استغلال بعض الأشخاص النصوص الدينية لأغراضهم، وإنما نريد الحديث عن طريقة فهم المجتمعات.

فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا»(1)، وهذا يعني أن الرجل لا يكون فقيهاً حتى إذا تعلم قواعد الأصول والأحكام واستنباطها، بل عليه أن يستنبط الحكم الشرعي دون خلفيات ذهنية مسبقة من بيئته أو مجتمعه، وأن لا تترك الكلمة الواردة من بيئته أو مجتمعه تأثيراً أو ظِلالاً عليه، بل عليه أن يتحرر عن تلك الظلال، فينظر إلى الكلمة كما هي، وليس بالمنظار الذي وضعته بيئته على عينيه وعقله.

إننا نلاحظ في كثير من الأحيان أن الإنسان يتصور أن إحدى الممارسات مقدسة، أو أحد الأعمال مقدس، وإنه من صميم القيم الإسلامية، والسبب في ذلك أنه عاش في مجتمع إسلامي محافظ ومتدين، ورأى ذلك المجتمع يمارس تلك العادة، فتصور أنها من صميم الدين، وحينما يرى الآخرين يتركون تلك العادة يتصور أنهم مارقون عن الدين؛ لذا فيجب علينا في المرحلة الأولى أن نتجرد من بيئتنا الاجتماعية التي ولدنا فيها، ومن تربيتنا التي تشكل حاجزاً يجب

ص: 14


1- معاني الأخبار: 2؛ بحار الأنوار 2: 184.

أن نرفعه عن عقولنا، ثم ننظر إلى النصوص الدينية وإلى سيرة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) بمنظار خالٍ من خلفيات تقليدية أو اجتماعية.

والحاصل: إن كثيراً من عادات المجتمعات الإسلامية مأخوذة من الإسلام؛ لأنه أوجد عادات في المجتمعات الإسلامية، فإذا كانت كذلك فنأخذ بها ونعتبرها ثقافة إسلامية، ليس لأن المجتمعات الإسلامية تمارسها، وإنما لأنها قيم أرستها النصوص الدينية.

وإذا لاحظنا أن تلك العادات ليست مأخوذة من النصوص الدينية، وإنما هي ممارسات اجتماعية يمارسها الناس، فإذا كانت ممارسات جيدة فلا بأس بها، ولكنها ليست مقدسة لدرجة أن مَن تركها يُعتبر مارقاً عن الدين، وأما إذا وجدنا أنها عادات ضارة وضد القيم الإسلامية الحقيقية فيجب أن ننتقل إلى مرحلة أخرى، وهي إصلاح الوضع في هذه المجتمعات.

ص: 15

(2) الحفاظ على القيم الإسلامية والعادات الحسنة

اشارة

بعد أن عرفنا أن عادات المجتمعات المسلمة كثيراً ما تكون ناشئة من الثقافة الإسلامية الأصيلة، يجب علينا دراسة جذور العادات المنتشرة في المجتمعات الإسلامية.

البديل الإسلامي

هناك نقطة مهمة لابد من الإشارة إليها، ألا وهي ضرورة المحافظة على العادات غير السيئة في المجتمعات الإسلامية، فيما إذا لم يقدم الإسلام بديلاً أفضل، وأما إذا كانت العادات الموجودة في المجتمعات الإسلامية غير مناسبة فينبغي العمل على تغييرها، وإذا قدّم الإسلام بديلاً لعادة ما - حتى لو كانت حسنة - فينبغي علينا التمسك بالبديل الإسلامي؛ لأنه الأفضل.

وهنا نضرب مثالاً لكي تتضح الفكرة أكثر: لقد كان من عادات الناس في الجاهلية أن يبتدئوا كلامهم ورسائلهم بكلمة (باسمك اللّهمّ)، وهذه الكلمة جيدة؛ لأنها ابتداء باسم اللّه عز وجل، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبأمر من اللّه عز وجل، غيّر هذه الكلمة إلى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، فالابتداء بكلمة (باسمك اللّهم) وإن لم يكن من العادات السيئة، بل كان عادة حسنة، ولكن الإسلام بدّلها بأحسن منها؛ لذا ينبغي علينا أن نتمسك بالبديل الذي قدّمه الإسلام.

ص: 16

وهناك مثال آخر، وهو: حينما كان يتزوج الإنسان العربي قبل الإسلام، يقولله الناس مهنئين: (بالرفاء والبنين)، و(الرفاء) بالهمزة تعني الانسجام(1)، بمعنى أننا نتمنى أن يكون هناك انسجام بين الزوجين.

إلا أن النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غيّر هذه العادة، وفي الحديث: «لما زوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) قالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا، بل على الخير والبركة»(2).

فهذه العادة التي سبقت الإسلام لم تكن سيئة؛ إذ المطلوب هو الانسجام بين الزوجين وأن يتحقق الإنجاب، لكن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غيّرها، أو أمر بتغييرها بعادة أخرى أحسن، وهي: (على الخير والبركة).

العادات وشخصية الإنسان

ولكن إذا لم تكن العادة سيئة ولم يأتِ الإسلام ببديل لها فينبغي علينا التمسك بها وعدم تركها؛ لأن تركها يؤدي بنا للتأثر بعادات وثقافات المجتمعات غير المسلمة، والسبب هو أن شخصية الإنسان تتكون تدريجياً، فنحن نرى أن الناس مختلفون في تفكيرهم، وفي ثقافتهم وفي أسلوب حياتهم، وقد تكون الأمور المختلف عليها جزئية، وربما يظن البعض أنها غير مهمة، ولكن عندما تجتمع ستكوّن شخصية الإنسان.

فحينما ننظر - مثلاً - إلى الإنسان المسلم الذي يعيش في الشرق الأوسط، وننظر إلى إنسان نصراني يعيش في قارة أخرى، فإن الفارق بينهما كبير، ونقاط الاختلاف الصغيرة ربما تكون في أمور جزئية، وهذه النقاط الخلافية لا تبدو

ص: 17


1- انظر: العين 8 : 281، وفيه: «والرفاء: يكون الاتفاق، وحسن الاجتماع، ويكون من الهدوء والسكون».
2- الكافي 5: 568.

مؤثرة لوحدها، لكنها إذا اجتمعت فسيكون من شأنها تكوين شخصية الإنسان.ولنأت بأمثلة جزئية: مثلاً: طريقة الطعام، واللبس، والأسماء، والخط، واللغة، وطريقة الحديث وغير ذلك كثير ما من شأنه تكوين شخصية الإنسان؛ لذا نرى أن بعض ما فعله المستعمرون حينما دخلوا البلدان الإسلامية هو محاولتهم تغيير هذه الأمور، بل محاربتها، لتتكون شخصية جديدة للإنسان المسلم، بحيث يكون منسلخاً عن ثقافته الإسلامية، فقد لا تكون طريقة اللباس مهمة إذا نظرنا إليها بنظرة تجزيئية، وكذا طريقة الطعام وغيرها، ولكن حينما تجتمع هذه الأمور مع أمور أخرى فإنها تكوّن شخصية الإنسان، فنرى أن الإنسان الذي تتغير عنده طريقة الطعام واللباس وغيرهما يختلف عن الإنسان الآخر بصورة كاملة.

اللغة وجه الثقافة

تُعد اللغة من الأمثلة الواضحة لأهمية الثقافة في حياة الإنسان، فاللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة؛ لأن اللغة هي النظام البياني للثقافة، والثقافة هي النظام المعرفي للّغة، بمعنى أن الإنسان يحمل ثقافة ما، وهذه الثقافة تُعبر عنها اللغة، فاللغة في هذه الحالة هي وجه للثقافة، والثقافة وجه آخر للّغة. فهناك ارتباط وثيق بينهما؛ لذا حينما نريد أن نكتشف ثقافة أمة أو مجتمع ما ندرس أدبهم وكلامهم ولغتهم؛ لأن اللغة تمثل صورة جلية عن الثقافة والمعرفة والقيم لدى تلك الأمة وذلك المجتمع.

فليس من المهم أن يتكلم الإنسان بأية لغة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(1)، ولكن حينما

ص: 18


1- سورة الروم، الآية: 22.

نأتي إلى اللغة العربية نرى أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً وكاملاً بالثقافة الإسلامية؛ لأنالنصوص الدينية كلها بلا استثناء جاءت باللغة العربية، كالقرآن الكريم، وأحاديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وكذلك أصولنا الدينية كتبت باللغة العربية، وهكذا الأمر بالنسبة للمعارف الإسلامية، وكذلك لغة الشعائر الإسلامية، فإذا أراد الإنسان أن يصلي يجب أن تكون قراءة سورة الحمد وغيرها من الأذكار باللغة العربية، وحينما يريد أداء فريضة الحج ويعقد النية للإحرام ويلبي يجب أن يفعل ذلك باللغة العربية. فقد ارتبطت اللغة العربية ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والقيم الأصيلة، وقد شرف اللّه عز وجل هذه اللغة بهذه الميزة.

وقد نقول: إنه ليس مهماً أن يتحدث الإنسان بأية لغة، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يكون هناك اهتمام بهذه اللغة، وحينما جاء الاستعمار حارب هذه اللغة محاربة شديدة في البلدان غير العربية، فأخرجوا اللغة العربية من مناهج الدراسة؛ لذا حينما نذهب إلى البلدان الإسلامية غير العربية نجد الغالب لا يعرفون اللغة العربية، فإذا قرأ أحدهم القرآن الكريم يقف حائراً أمامه؛ فمعظم الناس لا يفهمون معناه، وهذا من أسباب انسلاخ المجتمعات الإسلامية عن الثقافة الإسلامية.

كذلك الحال بالنسبة إلى العرب، فقد كانت هناك محاولات لتهميش اللغة العربية الفصحى، من خلال تشجيع وترسيخ اللغة العاميّة، التي هي منفصلة بشكل كبير عن اللغة العربية، فالإنسان (العامّي) قد لا يفهم كثيراً من اللغة العربية الفصحى، بسبب تركيز العامية، كما جرت محاولات لإبعاد الكلمات القرآنية عن المجتمعات العربية، وحينما تستعمل الكلمات القرآنية في كثير من الأحيان يحاولون سلخها من المعنى القرآني الموجود فيها.

ص: 19

أما بالنسبة للخط فليس مهما أن يكتب الإنسان بأي خط، لكن حينما جاءالاستعمار إلى البلدان الإسلامية حارب طريقة الكتابة باللغة العربية؛ لذا وجدنا الإصرار في بعض البلدان الإسلامية غير العربية لاستبدال الخط العربي بكتابة أخرى، والنتيجة أن الخط العربي بقي الآن في البلدان العربية فقط وبعض البلدان الإسلامية غير العربية، وأما سائر الدول الإسلامية فقد انتهجت للكتابة خطاً غير عربي، بعد أن كانت كذلك.

إن شخصية الإنسان تتكون عبر مفردات، هي في كثير من الأحيان تكوّن عادات يجب المحافظة عليها؛ لأن هذه العادات قد لا ترتبط بالثقافة الإسلامية ارتباطاً مباشراً، ولكن هناك ارتباط غير مباشر في كثير منها، ثم لا معنى أن نغير عادة إلى أخرى مثلها، أو أدنى منها من دون أي سبب، ولمجرد أنها من عادات بعض الشعوب، مثلاً: إذا كان شعب ما متطوراً مادياً، وله عادة معينة، وهي غير مرتبطة بجانب التطور، فليس من الضروري أن نأخذ تلك العادة من ذلك الشعب ونغير عاداتنا لأجلها، فهذا الأمر يسبب نوعاً من الانهزامية، وإذا حدث فربما يتنازل الإنسان عن قيمه أيضاً، وهذا يحدث بشكل تدريجي؛ لأنه قد يتنازل عن بعض الأمور التي يتصورها تافهة أو عادية، ثم يؤدي ذلك تدريجياً إلى التنازل عن كثير من القيم. وكمثال على ذلك حينما رأى بعض المسلمين التطور الصناعي والرفاه، وبعض مفردات العلوم في الغرب انبهروا بها، وبدأوا يبشرون بتغيير عادات المجتمع الإسلامي، وفي مقدمتها العادات الحسنة، واستبدلوها بعادات غربية غير حسنة؛ لأن الغرب - كسائر المجتمعات - فيه نقاط قوة ونقاط ضعف، ولو كان هناك تبشير بأخذ نقاط القوة فقط لما كان في ذلك بأس، فلا بأس أن نغيّر نقطة ضعف أو عادة سيئة إلى نقطة من نقاط القوة، وإلى عادة من

ص: 20

العادات الحسنة، ولكن حينما نأخذ العادات السيئة ونترك العادات الحسنة تكون النتيجة ما نراه الآن.

إن كثيراً من مجتمعاتنا الإسلامية تريد أن تلتحق بركب الغرب، لكن عن طريق أخذ العادات السيئة وترك نقاط القوة والعادات الحسنة، فهناك ممن يدّعون الثقافة يقولون: (يجب علينا لكي نتقدم، أن نغير كل عاداتنا، من رأسنا إلى أخمص قدمينا، ونأخذ العادات الغربية حتى نلتحق بركبهم). ونتيجة لهذه الدعوة وأمثالها أخذنا بعض نقاط الضعف وتركنا نقاط القوة.

وهناك مسألة فقهية يذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية، وهي حرمة التشبه بالكفار، وهذه المسألة قد ننظر إليها بنظرة تجزيئية، أي: يحرم علينا أن نتشبه بالكفار، وقد يعترض البعض ويتساءل: لماذا يحرم علينا أن نتشبه بالكفار؟ والجواب: إنه لا يصح النظر إلى هذه القضية بمنظار جزئي، فالمقصود بهذه المسألة أو حسبما يقول علماء الأصول: «تعليق الحكم على الوصف يُشعِر بالعِليّة»، أي: إن علّة حرمة التشبه كون هذه العادة ليست من عادات المسلمين، وإنما من عادات الكافرين، وحينما يتشبه المسلم بالكافر فقد يسبب له الانهزامية النفسية، بل إن التشبّه هو نتيجة لهذه الحالة، بمعنى أن الإنسان يحسّ بأنه ضعيف ويحتاج إلى أن يتّبع غيره، فيقلد هذا الكافر في قضيّة، ثم في قضيّة ثانية وثالثة، وحالة الانهزامية لها أول وليس لها آخِر؛ إذ إنها تجري في كل الأمور، في حالة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وهكذا... وإذا بالإنسان يرى نفسه وقد تغيّرت ثقافته الإسلامية بصورة كاملة، وترك كثيراً من القيم الإسلامية بسبب هذا التشبّه.

والحاصل: إننا حينما نتحدث عن لزوم التمييز بين عادات المجتمعات الإسلامية، وبين الثقافة الإسلامية الأصيلة فإن كلامنا يدور حول أن العادة إذا

ص: 21

كان لها أصل في الإسلام، وفي الثقافة الإسلامية فيجب المحافظة عليها،واعتبارها مصداقاً من مصاديق الثقافة الإسلامية، وإذا لم تكن العادة كذلك فيجب أن ننظر إليها بدقة، فإن كانت معارضة للقيم الإسلامية فيجب التخلّي عنها وإزالتها، وإذا جاء الإسلام ببديل أفضل فيجب أن نأخذ ذلك البديل؛ لأنه سيشكل منظومة ثقافية متكاملة، مع بدائل أخرى، ومع قيم أخرى. ولكن إذا لم يأتِ الإسلام ببديل أفضل، ولم تكن العادة سيئة، فيجب المحافظة عليها وعدم استبدالها، خاصة بعادات غير المسلمين؛ لأن هذا الاستبدال إنما يكشف عن نوع من أنواع الانهزامية النفسية.

ص: 22

(3) قبس من السيرة النبوية

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(1).

ذكرنا أنّه لمّا زوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة لعلي(عليها السلام) قال بعض المسلمين مهنئاً له: (بالرفاء والبنين)، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا، بل قولوا على الخير والبركة(2).

مع أن الانسجام بين الزوجين جيد، وكذلك أن يرزقهم اللّه عز وجل بالبنين، فلماذا يرفض رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا الأمر؟

وللجواب عن ذلك نقول: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وكذلك الإسلام - أراد أن يغيّر جميع العادات الجاهلية حتى العادات الحسنة، ويستبدلها بعادات أحسن وأفضل، والسبب في ذلك: إن كثيراً من الوقائع يرتبط بعضها بالبعض الآخر، فربما يكون شيء ما جيداً، ولكن ارتباطه بأحداث غير مناسبة يؤدي إلى أن تحصل للإنسان حالة تداعٍ، فحينما يرى أو يسمع شيئاً قد يتذكر أشياء أخرى؛ لذا فمن الممكن أن تكون هذه العادات الحسنة الموجودة في الجاهلية كانت مرتبطة بأمور غير جيدة، فإذا تذكر الإنسان تلك العادة تتداعى له أشياء غير مناسبة وغير صحيحة

ص: 23


1- سورة الحج، الآية: 8.
2- انظر: الكافي 5: 568.

أو مرفوضة.

من هنا نلاحظ دقّة الإسلام حتى بهذا المقدار، حيث تدخّل في عادات وتقاليد المجتمع لكي لا تستمر عادات تكون لها تداعيات لأمور غير مناسبة، وربما تكون ضارة للفرد والمجتمع.

وقد يكون من الأسباب التي لأجلها رفض الإسلام جملة (بالرفاء والبنين) هو أن العرب الجاهليين كان من المهم لديهم أن تلد المرأة ذكوراً وليس إناثاً؛ وهذا ما أشار له قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1)، فجاء الإسلام وقال: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا}(2)، من هنا فالإسلام يريد إلغاء ثقافة التمييز بين المولود الذكر والأنثى، أو بين المرأة الولود وغيرها العقيم التي لا تلد؛ إذ لا فرق بين الولد والبنت؛ لأنهما نعمة من اللّه عز وجل، وعلى الإنسان أن يشكر اللّه ما يهبه من الأولاد سواء ذكوراً أم إناثاً.

إن الإسلام أسس لمجموعة من السنن والعادات في كل شيء، من أصغر الأمور إلى أكبرها، وربما لا يكون الالتزام بكثير من هذه الأمور واجباً باعتبارها من المستحبات أو المكروهات، ولكن ينبغي علينا الالتزام بجميع هذه الأمور؛ لأن القرآن الكريم يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(3)، فهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة حسنة في كل شيء، وحتى في الأمور العادية، فنحن نؤمن بأن

ص: 24


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- سورة الشورى، الآية: 49-50.
3- سورة الأحزاب، الآية: 21.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم في كل شيء، وحتى في أموره العادية.

كما في طريقة المشي واللبس والزواج وفي العشرة مع الأهل والأولاد وغير ذلك.

وقد يتساءل البعض فيقول: لماذا ذكر اللّه تعالى أدق تفاصيل حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القرآن الكريم، كما ورد ذلك في سورة التحريم؟ حيث إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرب عسلاً في بيت إحدى أزواجه، فاتفقت عائشة مع حفصة على أن تقولا له: إننا نشم من فمك رائحة مغافير (وهو نبات له رائحة كريهة)، فقرر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يشرب عسلاً(1)، وعلى إثر ذلك نزلت سورة كاملة في القرآن الكريم، تبين هذه الحادثة، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).

والجواب عن ذلك: إن اللّه عز وجلّ أراد أن يكون رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة للأزواج وللزوجات وغيرهم، ولا يكون كذلك إلا بذكر تفاصيل حياته الخاصة، فيجب أن تصل هذه التفاصيل إلى المجتمع المسلم، لكي يعلم كيفية تعامل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع زوجاته حتى يمكن أن يتأسى به، ومادام اللّه عز وجل أراد أن يكون رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة لنا فلا بد أن نقتدي به في كل شيء.

وهذا ما كان يفعله أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث يقول: «ولقد كنت أتبعه اتباع

ص: 25


1- البخاري 6: 68، وفيه: عن ابن جريح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً».
2- سورة التحريم، الآية: 1.

الفصيل أثر أمه»(1)، والفصيل ولد الناقة، فهو يضع قدمه في موضع قدم أمه.

وفي كلام آخر يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتأسى متأسٍ بنبيه(2)، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة»(3).

إنه يجب علينا أن نحافظ على العادات والسنن التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونطبقها في كل شيء؛ لأن الإسلام ليس هو الواجبات والمحرمات فقط، بل هو منظومة متكاملة، وما الواجبات والمحرمات إلا جزء من هذه المنظومة، فهناك أمور أكثر في هذه المنظومة المتكاملة عندما تجتمع تكوّن شخصية الإنسان المسلم.

إن المستعمرين عندما دخلوا لبلاد المسلمين حاولوا تغيير كل شيء، وحتى العادات البسيطة، كما فرض بعض الحكام على الناس أن لا يستعملوا الملابس التي كانت سائدة عندهم، وأجبرهم على استعمال الزي الغربي، والسبب في ذلك أن الاستعمار يريد فرض ثقافته على الشعوب الإسلامية.

صحيح أن طريقة الزي لوحدها غير مؤثرة، ولكن عندما تجتمع آلاف القضايا الجزئية مع بعضها سوف تمسخ شخصية الإنسان المسلم، ففي الظاهر قد يكون متديناً يؤدي الصلاة والصوم، لكنه لا يمتلك شخصية الإنسان المسلم، فربما لا تضره جزئية من الجزئيات، وربما الثانية والثالثة، لكنها حينما تجتمع كلها فسوف تغير شخصيته في نهاية المطاف، وإذا أراد أن يقول: إنني لم أقترف محرماً، أو لم أترك واجباً فسيُقال له: صحيح أنك لست بتارك للواجب، أو لست

ص: 26


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192.
2- فتأسى خبر يريد به الطلب، أي: فليقتدِ مقتدٍ بنبيه.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 160.

بفاعل للمحرم، لكن شخصيتك ليست الشخصية المسلمة التي يريدها الإسلام.

لذا ينبغي على المسلم التركيز على العادات الإسلامية، حتى في الأمور العادية، وأن يراعيها ويحاول تطبيقها إلى أقصى ما يستطيع، وإن كان تطبيقها جميعاً غير ممكن، فنحن نعرف مدى تأثير الثقافة الغربية، فقد صارت بعض الأمور خلافاً للمتعارف عليه، وإذا طبقها الإنسان المسلم فسيصبح شاذاً في المجتمع، لكن ينبغي إعادتها إلى المجتمع الإسلامي ولو بالتدريج، وعلى الإنسان أن يطبق العادات والتقاليد والسنن الإسلامية التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل صغيرة وكبيرة بقدر المستطاع، فإذا تمكن من ذلك صار شخصية مسلمة متكاملة الجوانب في مختلف الأمور، وإذا تمَّ تطبيق هذه الصغيرة وتلك وهكذا... فسوف تتحول السلوكيات إلى عادات اجتماعية تدريجياً، ويعمّ الخير وينتشر، لاسيما مع كون الآيات والروايات والسيرة سنداً لهذا الخير.

ص: 27

(4) الترابط والتعاضد بين الدين والثقافة

هناك ارتباط وثيق بين الثقافة والدين، فكل ثقافة أو أي مقدار نطلع عليه من الثقافات على طول التاريخ، نلاحظ أنها نمت وكان بجوارها دين، فلا نرى ثقافة من دون أن يكون بجوارها دين، وإذا كان الدين من الأديان البشرية المختلقة فهو نتاج لثقافة ذلك المجتمع، بمعنى أن هناك مجتمعاً يحمل ثقافة خاصة نتج عنها دين مختلق - أي بشري - كما نرى ذلك في الأديان الوثنية، فهي نتاج لثقافة تلك المجتمعات. وأما بالنسبة إلى الدين الإلهي فهو على العكس من ذلك، إذ هو صانع لثقافات مجموعة كبيرة من المجتمعات البشرية.

فهناك ارتباط وثيق بين الثقافة والدين، بحيث لا يمكن تصور استمرار دين معين من غير ثقافة خاصة به، ولا يمكن استمرار ثقافة معينة من دون دين يدعمها، فإذا أردنا نشر ثقافة ما فسوف نواجه صعوبة، إلا إذا كان الداعم لتلك الثقافة دين من الأديان، حتى إذا كانت ثقافة باطلة وديناً باطلاً، فلو أراد أصحاب ثقافة باطلة نشرها فسيجدون صعوبة في ذلك، من دون أن يدعمها دين، وأما إذا كانت مدعومة بدين مزيف فإنه يذلل بعض الصعوبات التي تقف في طريقها.

ص: 28

لذا نرى بعض مفكري الماديين، الذين رفضوا كل الأديان بما فيها دينهم، وهو النصرانية بشكل عام، ودعوا إلى فصل الحياة فصلاً كاملاً عن الدين، نجد أن هؤلاء حينما يريدون نشر ثقافتهم الخاصة يحاولون الاستفادة من الدين لفعل ذلك؛ لذا نجد أن مفكري الغرب وحكوماتهم - بالرغم من أنهم عزلوا الدين عن الحياة - يحملون راية لنشر النصرانية، وهناك اتفاق ضمني على ذلك، وإن كان غير معلن في الغرب بين بعض الكنائس وبعض الدول الغربية، وبعض الماديين من مفكري الغرب، فحينما يريدون نشر الثقافة التي يحملونها فإنهم يحاولون ذلك عن طريق الدين، على الرغم من أنهم مفكرون ماديون، ويطالبون بعزل الدين عن جميع مرافق الحياة، ولو أُريد إدخال الدين في أمر سياسي أو اجتماعي في بلدانهم لرفضوا ذلك، ولكن إذا تعلق الأمر بنشر الثقافة التي يحملونها فهم أنفسهم يحاولون نشر تلك الثقافة من خلال الدين.

وهنا أنقل مضمون كلام لأحد مفكريهم، حيث يقول: (لكي تبقى أوربا موحدة في مواجهة أعدائها نحتاج إلى إحياء التراث المسيحي لصد البرابرة الغازين، وخاصة المسلمين الذين تمثل الثقافة الدينية أمراً بالغ الأهمية والحيوية بالنسبة إليهم).

لذا نلاحظ أن بعض قوى الاستعمار تحالفت مع بعض القوى الدينية النصرانية، وقد أرسل هؤلاء مبشرين إلى مختلف مناطق العالم، للتبشير بالديانة المسيحية المدعومة من بعض الدول التي تدّعي العلمانية، وهذا يكشف عن أنه لا يمكن لثقافة ما أن تستمر أو تحيى إلا إذا كان بجانبها دين، سواء كان ذلك الدين حقا أم باطلاً.

ص: 29

وبناءً على ذلك، فإن الثقافة الإسلامية الأصيلة لا يمكن أن تنفصل عن الدين الإسلامي، فهناك تلازم واضح بينهما، وفي أي وقت حدث تهاون من المسلمين تجاه الإسلام نجد أن الثقافة الدينية ضَعُفت، وكلما ضَعُفت الثقافة الدينية نجد أن الالتزام بالدين يُضعف أيضاً.

ص: 30

الفصل الثاني: مصادر الثقافة الإسلامية

اشارة

ص: 31

ص: 32

(5) مخاطر ليّ عنق النص القرآني

المشاكل التي يواجهها المسلمون

اشارة

هناك مشاكل يواجهها المسلمون لابد من معالجتها، عن طريق القرآن الكريم الذي هو المصدر الأول للثقافة الإسلامية، حتى يتمكنوا أن ينهلوا من القرآن الكريم، ولا يضطروا إلى الالتجاء للثقافات المستوردة، التي تخالف الثقافة الإسلامية القرآنية الأصيلة في كثير من الأحيان، وهذه المشاكل هي:

المشكلة الأولى: الفهم الخاطئ للقرآن

وهو ناتج عن عدة أمور، منها: إن البعض يتعامل مع القرآن كما يتعامل مع كلام سائر البشر وذلك بسبب عدم الاعتقاد الراسخ بالقرآن الكريم، وذلك يوجب تزلزل العمل؛ لأن الإنسان إذا لم يكن له اعتقاد جازم بالقرآن فعمله لا يكون مطابقاً له؛ لهذا اكتسب الإيمان أهميةً كبرى؛ لأن الاعتقاد يظهر على جوارح الإنسان إذا كان جازماً، وأما إذا لم يكن اعتقاداً حقيقياً، بل كان مجرد لقلقة لسان فلا يظهر على جوارحه ولا في عمله. فالإنسان الذي لا يعتقد بالقرآن الكريم لا يعمل بآياته وتعاليمه، ومن لا يعتقد باللّه سبحانه وتعالى فمن الطبيعي أن لا يطيع أوامره، وأما من يعتقد بعقيدة خاطئة فمن الطبيعي أن تسوقه إلى منحاها؛ لذا جاءت مرتبة الاعتقاد قبل العمل؛ لذا كان الإيمان: «معرفة بالقلب

ص: 33

وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(1)، أي: بالجوارح.

صحيح أن القرآن الكريم مركّب من ألفاظ وكلمات وحروف، وهي كلمات يستعملها العرب في حياتهم اليومية، فكلمة (الحمد لله رب العالمين) موجودة في كلامنا اليومي، وقد نستعمل كلمة الحمد، وكلمة اللّه، وكلمة العالمين، وهكذا الأمر بالنسبة لسائر الكلمات الموجودة في القرآن، ولكن الفرق أن تركيب القرآن الكريم إعجازي بحيث يعجز البشر أن يأتوا بمثله، بخلاف ما يقوله البشر.

وإذا أردنا أن نأتي بمثال لكي تتضح الفكرة، فنقول: إن الصبغ أو الطلاء قد تكون له قيمة زهيدة، ولكن إذا جاء أحد الفنانين فسوف يرسم لوحة جميلة، قد يبلغ سعرها ملايين أو عشرات الملايين، فلماذا؟ ذلك لأن يد الفنان خلقت بهذه الأصباغ لوحة مليئة بالمعاني والجمال.

وهكذا نقول في القرآن الكريم، فبالرغم من أنه مركّب من كلمات يستعملها الناس في حياتهم اليومية، لكن هذه الكلمات كتبت منها جمل وتركيب لغوي وبلاغي إعجازي، بحيث يكون ظاهره أنيقاً وباطنهُ عميقاً(2)،

فأهل العلم يمكنهم أن يستنبطوا من القرآن الكثير من الأمور، التي قد تخفى على عامة الناس؛ لذا فإن التعامل مع القرآن كتعاملنا مع سائر كلمات البشر يمثل الخطأ الأول الذي

ص: 34


1- نهج البلاغة، الحكم: 227؛ والكافي 2: 27، وفيه: «الإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان»؛ ودعائم الإسلام 1: 3، وفيه: «الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان»؛ والخصال: 178، وفيه: عن أبي الصلت الهروي قال: سألت الرضا(عليه السلام) عن الإيمان، فقال: «الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالجوارح، لا يكون الإيمان إلا هكذا».
2- وهذا ما أشار له أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم، في نهج البلاغة، الخطبة: 18، حيث يقول: «وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به».

يوجب ضعف العقيدة بالقرآن، ويترتب على ذلك عدم ظهور العقيدة، وعدم ظهور مفاهيم القرآن الكريم في أعمالنا.

المشكلة الثانية: الفهم التجزيئي

إن القرآن الكريم وحدة متكاملة، كما هو حال الثقافة الإسلامية، وإن الخلل في أي جانب من جوانب هذه الثقافة يؤدي إلى خلل في حياة الإنسان، ولنأتِ بمثال، فقد نسمع أحياناً بحصول كارثة جوية، وحينما يبين الفنيون والمهندسون سبب سقوط الطائرة يتضح أنّ الخلل الذي أدى إلى سقوط الطائرة ينحصر في بعض المكونات والأجزاء الجزئية. وهذا هو حال الثقافة، بمعنى أن الثقافة الإسلامية وحدة متكاملة، وكل جزء منها يكمل الجزء الآخر، وعدم العمل ببعض مفردات الثقافة الإسلامية قد يقود إلى خلل في حياة الإنسان، بل يؤدي إلى ازدواجية الإنسان أحياناً، كما نلاحظ ذلك لدى بعض المسلمين الذين يريدون أن يجمعوا بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات.

من هنا فإن الفهم التجزيئي للقرآن الكريم أمر مرفوض، والقرآن نفسه ينهى عن ذلك؛ قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ}(1)، أي: يعملون بجزء ويتركون أجزاء أخرى.

نلاحظ بعض الناس يريد أن يجمع بين الثقافة الإسلامية وغيرها، فيأخذ من القرآن الكريم ما ينسجم مع ظروفه وأوضاعه، ويترك منه ما لا ينسجم معها.

مثلاً: الأمم المتحدة الآن ألغت الاسترقاق؛ إذ يقول قانون حقوق الإنسان: إنه لا يحق لأي إنسان أن يستعبد إنساناً آخر، لكن مسألة العبيد والإماء من المسائل

ص: 35


1- سورة الحجر، الآية: 91.

التي شرعها الإسلام وأقرها، وهناك العشرات من الآيات القرآنية والروايات الصحيحة تشرّع لذلك.

ومن المعلوم أن الإسلام لم يحصر الأمر في أسرى الحرب بالاسترقاق، وإنما هنالك خيارات متعددة: قال اللّه تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(1)، فهناك خيار السجن، أو القتل، أو الاسترقاق، أو العفو أو الفداء، وقد تُرك الأمر إلى الحاكم الشرعي، الذي يعمل حسب المصلحة، فإذا كانت المصلحة تكمن في حبسهم فيتم حبسهم، أو قد تكون المصلحة في أخذ الفداء منهم، فيتم ذلك، وقد تكون المصلحة بإطلاق سراحهم (بالمن) فيُطلق سراحهم، كذلك إذا كانت المصلحة تكمن في استرقاقهم فيتم ذلك. إذن، فالأمر متروك إلى الحاكم الشرعي، ويمكنه رفض الاسترقاق حسب الظرف، فلا يسترق أحداً.

هناك اعتراض في العصر الراهن - عصر قوانين الأمم المتحدة - على هذا القانون الإسلامي.

وبعضهم يحاول أن يجمع بين الإسلام، وبين قرارات الأمم المتحدة ومسألة حقوق الإنسان حسب المنظور والمفهوم الغربي، فيأتي ويحاول أن يلغي هذه الآيات من القرآن الكريم، بمعنى أنه جعل {الْقُرْءَانَ عِضِينَ} عملياً، بينما يأتي البعض الآخر ويقول: إن هذا الحكم كان حكماً مؤقتاً، وقد انتهى العمل به في وقته، وكأنما هناك نسخ بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)!

إن هذا الحكم لم يكن مؤقتاً، وإنما هو حكم دائم، ولم ينسخ بعد رسول

ص: 36


1- سورة محمد، الآية: 4.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا يمكن أن ينسخ شيء من أحكام الشرع بعد نزول آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

وإذا كان الاسترقاق لا ينسجم مع العصر الحاضر، فهناك بدائل أخرى أقرّها القرآن الكريم.

علماً أن عالم اليوم في حالة من النفاق؛ إذ يقول بعضهم: إنه يجب إلغاء الاسترقاق مع أن حالة العبيد والإماء موجودة في العالم المتحضّر، ولكن بطريقة أخرى، وهي ما تسمى بالرقيق الأبيض أو تجارة الإنسان، وهي من الأمور الشائعة في دول العالم، فهناك ملايين الناس يعاملون أسوأ من معاملة الرقيق، ولكن تحت لافتة حقوق الإنسان في كثير من الأحيان.

إذن، فمادام هناك حكم شرعي، وهو من مسلمات القرآن فلا يجوز أن يأتي الإنسان ويسترضي الشرق أو الغرب، أو القانون الدولي، فيحاول أن يلغي هذه الآيات وأشباهها من القرآن الكريم؛ فبعض الناس يريدون أن يرضوا المؤمنين، وكذلك يرضون الكفار والمشركين في آنٍ واحد، ولكن لا يمكن أن توجد هذه الحالة لدى الإنسان السوي؛ لأن من يكون هكذا فإنه يبتلى بحالة من الازدواجية في الشخصية، وهي حالة خطيرة جداً، تؤدي بالإنسان إلى أن يفقد فائدة الأمرين، ويقع في ضررهما أيضاً.

المشكلة الثالثة: التأويل الخاطئ للقرآن

من المعلوم أن القرآن الكريم يضم آيات محكمات هنّ أم الكتاب، وهناك آيات متشابهات، يقول اللّه عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ

ص: 37


1- سورة المائدة، الآية: 3.

مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1)، وبما أن بعض الآيات القرآنية متشابهات فهناك حاجة إلى تأويلها، لكن التأويل ليس متاحاً للجميع، بل لا يعلمه إلا اللّه سبحانه وتعالى ومن علّمهم اللّه، وهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومون(عليهم السلام).

بعض الناس إذا لاحظوا أمراً ضمن الثقافة الإسلامية يتعارض مع ما يوجد في الثقافة العالمية حالياً، لاسيما الثقافة الغربية، وأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين - أي: بين القرآن وبين الثقافة الغربية - فإنه سيحاول ليَّ عنق النصوص، بحيث إنهم يقوم بتأويل الآية الكريمة بما ينسجم مع الثقافة العالمية أو الغربية المستوردة، ومن ثم يعلنون بأنهم يريدون أن يريحوا ضميرهم؛ لأنهم عملوا بالقرآن الكريم، وفي الوقت نفسه لن يتعرضوا لمضايقات أخرى قد يواجهونها في عالم اليوم.

ومثال ذلك: نحن نعلم أن عالم اليوم يهتم بحقوق المرأة، وكلنا نعلم أن الإسلام أعطى للمرأة حقوقها كاملة، وأعطاها كرامتها الكاملة قبل عالم اليوم. ثم إن الإسلام بين كيفية التعامل مع الزوجة في حال حصول خلاف مع الزوج، قال تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}(2)، فالمرحلة الأولى هي الوعظ، فإن لم ينفع ننتقل للمرحلة الثانية، وهي الهجر: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، فإن لم ينفع الهجر يأتي دور المرحلة الأخيرة، وهي الضرب: {وَاضْرِبُوهُنَّ}، لكن

ص: 38


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 34.

الضرب مرفوض بشكل نهائي حسب السائد في ثقافة عالم اليوم، وهناك اعتراض كبير على المسلمين، بأن كتابهم المقدس ينطوي على تشريع ضرب النساء.

إن البعض لا يتنبه للمعنى الكامل لهذا الحكم، فهو لا يعني ضرب النساء بشكل دائم، كما يفعل بعض الرجال، فهذا الأمر محرّم تماماً؛ لأنه لا يجوز لأي إنسان أن يضرب إنساناً آخر إلا في الموارد التي شرّعها الشارع؛ لذا لا يجوز للرجل أن يضرب زوجته إلا إذا لم تؤدِ أحد الحق الواجب، وهو عدم إطاعته في الفراش، لذا قال تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}، أي: المرأة التي لا تطيع زوجها في الفراش.

وهناك روايات تبين أن الضرب ينبغي أن لا يكون ضرباً مبرحاً، فلا يجوز أن يسود أو يحمر مكان الضرب، وإنما الغرض منه الإهانة، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «فإذا نشزت المرأة كنشوز الرجل فهو خلع، فإذا كان من المرأة فهو أن لا تطيعه في فراشه، وهو ما قال اللّه عز وجل: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فالهجر أن يحول إليها ظهره، والضرب بالسواك وغيره ضرباً رفيقاً»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «وذلك إن نشزت المرأة عن فراش زوجها قال زوجها: اتقي اللّه وارجعي إلى فراشك، فهذه الموعظة، فإن أطاعته فسبيل ذلك، وإلا سبها وهو الهجر، فإن رجعت إلى فراشها فذلك، وإلا ضربها ضرباً غير مبرح»(2).

ص: 39


1- من لا يحضره الفقيه 3: 520.
2- تفسير القمي 1: 137.

وقال الشيخ المفيد: «فإن نشزت الزّوجة على بعلها، وخرجت من منزله بغير إذنه سقط عنه نفقتها وكسوتها، وإن عصت أمره وامتنعت من طاعته وهي مقيمة في منزله وعظها، فإن اتّعظت وإلا أدّبها بالهجران، وإن احتاجت إلى زيادة على ذلك في الأدب ضربها ضرباً رقيقاً، لتعود إلى واجبة عليها من طاعته... وهجرانها أن يعتزل الفراش، أو يحوّل ظهره إليها فيه، والضرب بالسواك وشبهه ضرباً لا يبرح، ولا يفسد لحماً ولا جلداً»(1).

لكن لماذا شرّع هذا الحكم؟

الجواب: إذا كان الأمر ينطوي على نشوز، فنتيجته تبقى تدور بين انهيار الأسرة إذا لم يعالج النشوز، وأما إذا عولج فيمكن استمرار حياة هذه الأسرة، وقد يكون العلاج بالضرب غير المبرح بطبيعة الحال، فأيهما أفضل؟ فهل نترك الأسرة عرضة للانهيار بحيث يؤدي ذلك إلى تسيّب الأطفال، والتعرض لمشاكل أخرى كبيرة، أم نعالج الأمر بالضرب غير المبرح؟

الأفضل هو الخيار الثاني؛ لأنه خيار عقلي أيضاً، ويحافظ على بقاء الأسرة واستمرارها.

لكن البعض يحاول ليَّ عنق النص، فيقوم بالتأويل من غير وجه صحيح لكلمة (واضربوهن)، وخلاف الظاهر، مع أنه يفتقد للبلاغة والفصاحة ويخالفهما!

ص: 40


1- المقنعة: 518.

(6) عدم غلق باب الاجتهاد

لا شك في أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للثقافة الإسلامية، فهو يحتوي على كل ما يحتاج إليه البشر، إلا أن المشكلة التي ابتلي بها بعض المسلمين هو تقديس آراء الأشخاص غير المعصومين، مع أن آراء الرجال جهد بشري، ويمكن لذوي الاختصاص مناقشة أي جهد بشري؛ حيث إنه يحتمل الخطأ.

إن تقديس آراء غير المعصومين أدى إلى غلق باب الاجتهاد، مما أضرّ كثيراً بالمسلمين؛ لأن كثيراً من القضايا مستحدثة، وفي كثير من الأحيان نُواجه بكثير من الأمور أو القضايا التي لم نكن نواجهها في السابق، لكن التطور الصناعي في المجالات المختلفة خلق موضوعات جديدة بحاجة إلى حل وعلاج وبيان الحكم؛ لذا حدثت مشاكل مع أي تطور وكل اختراع جديد؛ إذ غالباً ما يلازم ذلك التطور بعض المشاكل التي تحتاج إلى حل، وقد أدى غلق باب الاجتهاد عند بعض الفرق إلى جمود الفكر وضموره، وهذا ما جعل كثيراً من المسلمين لا يجدون حلولاً لمشاكلهم، وقد أدى ذلك إلى لجوء الكثيرين للثقافات الأخرى؛ لأنها تنطوي على أفكار لبعض المواضيع لاسيما المستحدثة منها؛ وإن غلق باب الاجتهاد أدى إلى وصول بعض المسلمين إلى طريق مسدود، وعندما يصل

ص: 41

الإنسان إلى طريق مسدود فإنه يحاول أن يجد حلاً ومنفذاً أياً كان هذا المنفذ؛ لذا لجأ الكثيرون إلى الحلول المستوردة، مع أن الكثير منها لا تنسجم مع البنية الدينية الإسلامية، ولا مع الثقافة الإسلامية الأصيلة، فأدى ذلك إلى ضمور وقصور في إسهامات الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية لملء الساحة.

ومن المعروف - لاسيما في العصر الحديث - أن الساحة مُلئت بأفكار كثيرة بسبب التطور الصناعي والعلمي في بعض البلدان، وقد لا تنسجم هذه الأفكار مع الفكر الإسلامي، ومع ذلك لا نستطيع أن نقول للناس لا تنتهجوا هذا النهج، إلا إذا وضعنا لهم بديلاً مستنبطاً من الشرع الإسلامي الأصيل، ولا يمكن أن نمنع شيئاً يريده الناس إلا إذا أتينا بالبديل الصحيح؛ لذا نشاهد إن اللّه عز وجل إذا حرّم شيئاً فقد جعل لذلك بديلاً حلالاً، فقد أحلّ اللّه تعالى البيع وحرم الربا، بل قُدم الحلال عن الحرام في الآية(1)، فاللّه تعالى يشرّع الحلال والطريق المشروع أولاً، ثم يُحرم الطريق الذي ينطوي على ضرر ثانياً، وهذا هو أسلوب القرآن الكريم.

وحينما حرّم اللّه عز وجل الزنا(2) أباح الزواج الدائم أو المؤقت(3)؛ لذا نجد أن الذين حرّموا الزواج المؤقت - مع أنه وارد في القرآن الكريم ولم ينسخ وإنما

ص: 42


1- قال تعالى في سورة البقرة، الآية: 275: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}.
2- قال تعالى في سورة الإسراء، الآية: 32: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَٰحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.
3- قال تعالى في سورة النساء، الآية: 3: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُواْ}. وقال تعالى في سورة النساء، الآية: 24: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}.

حرّمه عمر(1)- واجهوا هؤلاء مشكلة اجتماعية كبيرة، وهي مشكلة العنوسة والعزوبة، ومشكلة (فوات قطار الزواج) على كثير من الناس، فقد اضطر هؤلاء إلى البحث عن حلول.

والبدائل، كزواج المسيار والزواج السياحي، والزواج بنية الطلاق وغير ذلك، في حين أن اللّه عز وجل يعلم بحاجة الإنسان فحرّم الزنا، وأوجد بديلاً مشروعاً لذلك، يحفظ حقوق الرجل والمرأة، وينظم العلاقات بينهما في الأطر المشروعة.

وبناءً على ذلك، فإنه يوجد تطور علمي وصناعي واجتماعي كبير في عالم اليوم، ورافق ذلك كثير من الأفكار، وعشرات ومئات بل آلاف من مراكز الدراسات، ومهمة الكثير منها استقصاء المشاكل في العالم، وإيجاد الحلول التي تنسجم مع ميول تلك المراكز، أو مع الثقافات التي يحملونها.

إن بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً ينقذ المسلمين من الطريق المسدود، ومن تقبل الخيارات الأخرى قسراً، لكن بشرط أن لا يكون الاجتهاد مقابل النص؛ لأن هذا النوع من الاجتهاد باطل، وإنما يكون الاجتهاد في فهم النص، وتطبيقه على الجزيئات الخارجية أو المستحدثة، وحينئذٍ لن نواجه طريقاً مسدوداً لأي مشكلة من مشاكل العصر الحاضر؛ إذ نجد الحل في فقه الإمامية؛ لأن الاجتهاد مفتوح، فهناك مجتهدون ينظرون إلى الموضوع الحديث أو المستحدث، أو المشكلة الجديدة ثم يرجعون إلى مصادر التشريع.

ص: 43


1- أنظر: مسند أحمد 3: 325، وفيه: ... عن أبي نضرة، عن جابر قال: «متعتان كانتا على عهد النبي صلى اللّه عليه [وآله] وسلم فنهانا عنهما عمر فانتهينا». شرح معاني الآثار 2: 146، وفيه: ... عن نافع، عن ابن عمر قال: «قال عمر متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج».

ومن المعلوم أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن الكريم، حيث يجد فيه الفقهاء الكُبرى التي تنطبق على هذا الموضوع بالتحليل أو بالتحريم، أو بأي حكم آخر، لذا نلاحظ في الوقت الحاضر الكتب التي أولّفت في فقه الحياة، أي: المسائل والموضوعات المستحدثة والجديدة، فقد كتبَ فيها الفقهاء المعاصرون ليبينوا وجهة نظر الإسلام في هذه القضايا أو العلوم المستحدثة.

ومن تلك الكتب: موسوعة الفقه للسيد الوالد(رحمه اللّه)، والتي بلغت مائة وخمسين مجلداً، فهناك ما يقارب من تسعين مجلداً من مجلدات هذه الموسوعة من الفقه المتداول منذ اليوم الأول حتى يومنا هذا، وهي تتناول جميع المسائل، كالطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والبيع والرهن، والإجارة والنكاح والطلاق والإرث، والقضاء والشهادة والحدود وغير ذلك، فيما خُصص حوالي ستين مجلداً من هذه الموسوعة للأمور المستجدة، كالسياسة والاجتماع وحقوق الإنسان والإعلام وغير ذلك.

وهذه الموضوعات لم تكن متداولة في السابق، إما لعدم الحاجة إليها أو لم يكن هنالك انتباه نحوها، وقد سمعت السيد الوالد(رحمه اللّه) يقول: إن الفقهاء السابقين حين كانوا يرون أي أمر مرتبط بحياة الناس كانوا يؤلفون فيه كتاباً فقهياً؛ لبيان وجهة نظر الشرع فيه؛ لذا نجد أن من الكتب الفقهية الأولى كتاب «السبق والرماية»، وبتعبير اليوم الرياضة، وهو مخصص لبيان الحالات المحللة والحالات المحرمة، فالمراهنة مثلاً محرمة، ولكن السبق بشروطه محلل.

وكان السيد الوالد(رحمه اللّه) يقول: لقد استجدت حاجات جديدة للناس حالياً، بسبب التطور الصناعي وتطور الاتصالات والمواصلات، فيجب بيان رأي الشرع فيها، وإذا كان ذلك الأمر محرّماً من قبل الشرع فينبغي إيجاد البديل لذلك الأمر؛

ص: 44

لأن الشرع قبل أن يحرم شيئاً يوجد البديل المحلل له؛ لذا حينما انتشرت الفضائيات - مثلاً - حاول الغرب استثمارها لتصدير ثقافته للعالم أجمع، وحاول أن يعمم كل شؤون الثقافة التي يعتقد بها على مستوى العالم، وكانت الفضائيات من أفضل الأدوات لتحقيق هذا الهدف، إن هذا الأمر لا يمكن أن نعارضه بالتحريم فقط؛ لأن التطور التقني سيغزو البيوت، فإذا أردنا أن نقابله بالتحريم فقط فسوف يتجاوزنا المجتمع بعد فترة.

لذا كتبَ المرجع الراحل(رحمه اللّه) كراساً حول الأفلام المفسدة على القنوات الفضائية وقاية وعلاجاً، وتطرق فيه إلى إيجاد الحلول لكي لا تغزو هذه القنوات الفضائية الفاسدة والمفسدة بيوت المسلمين، ومن تلك الحلول إيجاد قنوات بديلة ملتزمة بالضوابط الدينية تلبي حاجة المجتمع الحديث في الإعلام المرئي.

من هنا فإذا أغلقنا باب الاجتهاد فسوف نتوقف كما توقف كثير من المسلمين، وحينئذٍ يتوقف الإبداع، وتتوقف القدرة على تطبيق الكليات الشرعية الواردة في القرآن الكريم، وفي سيرة وسنة الرسول الأعظم والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ولا نتمكن من تطبيقها على الموضوعات الجديدة، إضافة إلى أن الاجتهادات السابقة هي جهد بشري معرض للخطأ، ويمكن أن يكتشف المتخصصون بتطور علم الفقه والأصول بعض مواطن الخطأ في بعض الآراء السابقة.

ص: 45

(7) بين التقديس والتجديد

ومن المشاكل التي تعترضنا في طريق الاستفادة الصحيحة من القرآن الكريم، وكذلك من السنة المطهرة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، هي: تقديس كلام بعض المفسرين وكلام السلف، وكما هو واضح أن المفسرين والعلماء السابقين كانت لكثير منهم إنجازات واضحة في مجال تطوير العلوم الإسلامية، والاستفادة من القرآن الكريم، وعن طريقهم وصل إلينا كثير من العلوم، لكن جهدهم هو جهد بشري معرض للخطأ، وهو ليس مثل الأمر الإلهي المنزّه عن الخطأ، أو كلام المعصوم غير القابل للخطأ، بل يبقى جهداً بشرياً، ومع أن الشكر موصول للعلماء على جهدهم، إلا أنه يبقى يتحرك في دائرة احتمال الخطأ، وكثير من الأحيان نجد الإنسان الواحد قد يبحث ويحقق ويجتهد، ويصل إلى نتيجة، ثم بعد فترة يغير رأيه؛ لأنه تنكشف له مواطن الخطأ أو الخلل في كلامه.

وللأسف أن المشكلة التي ابتلي بها الكثير المسلمون هي تقديس آراء السلف، وهذا التقديس حال دون التطور في كثير من الأحيان، بسبب الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء، ورغم أن اللاحقين غير ملزمين بخطأ السابقين، ولكن اللاحقين ألزموا الناس بآراء السابقين، وجعلوا هالة من القدسية لكلامهم، فتسبب هذا في غلق باب التفكير بالنسبة للاحقين، بل قد يُتهمون باعتبار أنهم تركوا نتاج السابقين، ومن هذا المنطلق ظهرت فكرة غلق باب الاجتهاد على أنفسهم وعلى اللاحقين، بدعوى أن

ص: 46

الاجتهاد الذي وصل إلينا من مجموعة من العلماء في القرن الثاني والثالث الهجري كافٍ للمسلمين حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها، ونتيجة ذلك واجهت الأمة الإسلامية الكثير من المشاكل، ومنها: الجمود وتوقف عجلة التطور، وتوقف الإبداع في كثير من المجالات، ومن ضمن مظاهر الجمود: قصر الاستفادة من القرآن على ما قاله بعض السابقين غير المعصومين، ولكن هل أن اللاحقين ملزمون بهذا الأمر؟ وهنا نقطة الإشكال، فإذا ألزمنا اللاحقين بذلك فهذا يعني أننا نغلق طريق التطور والتفكّر، والتعمق في آيات القرآن الكريم، بينما نعتقد نحن أن القرآن الكريم غضّ جديد في كل زمان، وأنه لا تنقضي عجائبه.

حينما ندعو إلى التأمّل في آراء السابقين، وكشف مواطن الخلل والخطأ في بعض ما جاءوا به، وإذا كانت صحيحة نطورها، فهذا لا يعني أن نترك الأمر بشكل فوضوي، بحيث يأتي أي شخص ويلغي ما قاله السابقون مما لا يعجبه، وإنما شأن هذا الأمر شأن أي أمر اجتهادي آخر بحاجة إلى متخصصين، فعندما نريد حلولاً للمشاكل التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية في الوقت الحاضر نجد أن الكلام يوكل لأهل ذلك الاختصاص، كما هو الحال في مجال الطب والهندسة وغيرهما، حيث يمنع ويعاقب الشخص غير المتخصص - في كثير من الأحيان - أن يجتهد في المسائل الطبية، ويقال له: إنك إنسان غير متخصص فكيف أعطيت وصفة طبية للناس؟!

وهكذا الحال بالنسبة للعلوم الشرعية، فإن الاستنباط بحاجة إلى متخصصين، علماً أن التخصص والتفكّر والتأمل ليس حكراً على جماعة، فبإمكان أي شخص أن يدرس ضمن المنهجية الصحيحة الموجودة في الحواضر العلمية، لكي يتمكن من الوصول إلى النتائج المرجوة.

والملفت للنظر: أن هنالك دعوات ملحّة على أن يكون لكل شيء متخصص،

ص: 47

وتعارض الشخص الذي يبدي رأيه بشكل غير متخصص في الطب أو الهندسة وغيرهما من العلوم، بل ربما تعاقبه بعض الحكومات على عمله هذا، ولكن حينما يتعلق الأمر بالإسلام نرى الجميع أصحاب نظرية! ويريدون أن يستفيدوا بشكل صحيح أو مغلوط من الإسلام.

علماً أن الجميع يمكنهم الاستفادة؛ لأن اللّه عز وجل أنزل القرآن بلسان عربي مبين، ولكن التعمق والاستنباط والجمع بين العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، وأمثال ذلك يحتاج إلى اختصاص ومنهجية واضحة وتخصص.

وهنا يكمن سبب تطور الفقه الشيعي وبشكل كبير ومستمر، فمن يقارن بين الكتب الفقهية المؤلفة قبل ألف عام، وبين الكتب الفقهية المؤلفة في الوقت الحاضر يجد البون الشاسع؛ لأن العلم عبارة عن تراكم مجموعة من الآثار، التي أفرزها أو استنتجها أو توصل إليها مجموعة من العلماء، ولولا العلماء السابقون لما توصلنا إلى ما توصلنا إليه الآن. إذن، فعبر طريق الأسلوب العلمي، والتمييز بين والصحيح والخطأ نصل إلى نتيجة نكتشف أنها خاطئة فنغيرها، ثم تتراكم أفكار العلماء ويحصل التطور بالتدريج.

لا شك في أن الإسلام دين يواكب الزمن والتطور الإنساني، ولا يقبل الانغلاق والجمود؛ لأن الحياة في حالة تطور مستمر، وهذا بحاجة إلى تطور في الاستنباطات الفقهية والثقافية والاجتماعية، فكل ما يحتاج إليه الإنسان موجود في القرآن الكريم، قال اللّه تعالى: {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1)، إلا أن هذا يحتاج إلى استنباط، وحينما نغلق باب الاستنباط والاجتهاد والتفكّر

ص: 48


1- سورة الأنعام، الآية: 59.

والتأمل، فهذا يعني أن الحياة تتطور، لكننا لا نتطوّر، ونتيجة ذلك تحصل أزمة في الأفكار والنظريات والحلول، فحينما لا ننتج الأفكار الجديدة على ضوء الكتاب والسنة المطهرة، وسيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فإن الناس سيتوجهون إلى ثقافات أخرى؛ للحصول على ما يُجيبهم على أسئلتهم الحائرة وحاجاتهم الملحّة. وهذا ما يفسر توجه الكثير من المثقفين الإسلاميين، وكثير من الأشخاص الذين يعيشون في البلاد الإسلامية، والذين ولدوا من أبوين مسلمين، خلال القرنين الأخيرين إلى الشرق والغرب ليأخذوا ثقافتهم، لكن لماذا ذلك، مع أن الإسلام دين كامل، كما قال اللّه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

إن ما هو موجود في الكتاب والسنة أفضل بكثير مما أنتجته الحضارات الأخرى، لكن هناك قصور في إسهام الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية في الاستنباط وفي ملء الساحة، وفي المجالات المختلفة.

من هنا، فإذا أردنا التطور والتقدم فعلينا أن نجعل القرآن الكريم المصدر الأول للثقافة الإسلامية، والسنة المطهرة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) المصدر الثاني، وهذا المصدر ينبوع لا ينضب ولا تنقضي عجائبه، ولا يوجد رطب ولا يابس إلا ويحتويه، وأما أن نحصر أنفسنا في استنتاجات السابقين فهذا يسبب لنا الجمود، ويخلق حاجزاً بيننا وبين هذا الينبوع، ونتيجة ذلك أننا نحرم أنفسنا من هذا النبع الفياض، بسبب السجون الفكرية - إن صح التعبير- التي جعلنا أنفسنا فيها.

ص: 49


1- سورة المائدة، الآية: 3.

(8) الاجتهاد محصور بأهل الاختصاص

إذا لم يكن الإنسان من أهل الخبرة، لكنه يبدي آراءه ويصحح بعض الأمور ويسفّه بعضها الآخر، فإن هذه الحالة مرفوضة في جميع العلوم، فإذا لم يكن الإنسان طبيباً فلا يحق له أن يصف الدواء للمريض، وإذا فعل ذلك فسوف يلاحق قانونياً. وهذا الأمر ينطبق على العلوم الشرعية أيضاً. نعم، إن باب الاجتهاد مفتوح للجميع، ولكن ينبغي أن يتم ذلك وفق المنهجية الصحيحة، فإذ سار الإنسان وفق تلك المنهجية وأصبح من أهل الاختصاص فحينذاك يمكنه أن يجتهد.

ثم إن أي جهد بشري قابل للخطأ، باستثناء النصوص المقدسة في القرآن الكريم، وكلام المعصومين(عليهم السلام)؛ لذا فلا يمكن أن نجعل الجهد البشري فوق النقد.

فلا يوجد هنالك كتاب كلّه صحيح ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه غير القرآن الكريم, فما جاء بين دفتيه من البداية حتى النهاية صحيح، وأما غير ذلك فلا يوجد كتاب يسمى ب- (الكتاب الصحيح)، حتى لو سمّاه مؤلفه بذلك.

وأما كتب الروايات فالنظر فيها هو من عمل أهل الاختصاص، حيث يبحثون في سند الرواية وهل هي معتبرة أم لا؟ ثم يبحثون في الدلالة، وهل توجد دلالة لها أم لا؟ وهل هي متوافقة مع القرآن الكريم، أم تتعارض معه؟ فإن أيّ خبر

ص: 50

يتعارض مع القرآن الكريم يجب الإعراض عنه وطرحه(1).

كما يلزم البحث في جهة الصدور، وهل صدرت الرواية تقيةً أم لا؟ وهل لها معارضات أم لا؟ وهل عمل بها المشهور أم لا؟ إذ هناك أساليب علمية يمكن أن يُستخلص منها صحة الحديث، كما أنه لا يصح الاستعجال في الحكم على الخبر بأنه موضوع، إلاّ لو قامت الأدلة القطعية على ذلك، وفيما سوى ذلك علينا أن نتوقف ونردّ علمه إلى أهله. لأنه ربما نرتكب خطأ في التقييم.

إن ما نقصده هو الالتزام بهذه الطريقة، حيث ينبغي اعتبار أي جهد بشري عرضة للخطأ، ويجب أن يُعرض الحديث أو الرواية على الأدوات العلمية المنهجية؛ لأن هذا الأسلوب يعطينا نوعاً من التطور، في الفهم والاستنباط، وأما اعتبار بعض الكتب صحيحة، بحيث لا يتطرق إليها الباطل، مع أنها نتاج الجهد البشري - ك- (الصحاح) - فهذا يؤدي إلى غلق باب التطور وغلق باب العقل، ويؤدي إلى تقديس الجهود البشرية.

والحاصل إنه ينبغي علينا أن ننزع القداسة من أي جهد بشري، وبعدئذٍ سيتمكن أهل الاختصاص - وليس كل من هبَّ ودبَّ - من التفكّر والتأمل

ص: 51


1- انظر: الكافي 1: 69، وفيه: ... عن السكوني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه». وعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف». والاستبصار 3: 158، وفيه: «ما أتاكم عنّا فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوا به، وما خالفه فاطرحوه». وسائل الشيعة 20: 463، وفيه: «إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالفه فاطرحوه أو ردوه إلينا».

لكشف الصحيح، وتمييز الغث من السمين، وأما إذا حدث عكس ذلك فسوف يكون هناك تعطيل لحركة العقل، وهذا يؤدي إلى توقف الإبداع والفكر والثقافة، وكل ما يرتبط بتطوير حياة الإنسان.

إن نصوص القرآن الكريم والصحيح من سنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، كل هذه حقائق مطلقة وغير قابلة للتطور؛ لأن الحقائق المطلقة موجودة في كل عصر ومصرٍ، وتطبق على كل الناس بشكل غير قابل للتغيير؛ لأن أي تغيير فيها يوجب الخلل والإشكال، وأما الجهود البشرية فهي قابلة للتطوير، لذلك نقول: (لا اجتهاد في مقابل النص)، وإنما يتعلق الاجتهاد في فهم النص، فقد يكون هناك نص من القرآن الكريم، أو من السنة القطعية لرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا يصح أن يجتهد الإنسان فيه؛ لأن هذا النص يمثل الحق، وأن ما يقابلهُ يمثل الباطل، فحينما يأمر القرآن الكريم بتحريم الخمر فلا معنى لأي اجتهاد مقابل هذا النص القرآني، وإذا اجتهد أحدهم وزعم أنه توصل إلى حليّة الخمر فكلامه باطل، ولا علاقة له بالاجتهاد؛ لأنه جاء في مقابل النص؛ لذا لا نقول لكل من اجتهد مقابل النص أنه اجتهد في كذا أمر، بل نقول: إن كلامه باطل.

وحينما يقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علي مع الحق والحق مع علي»(1)، فإن الخطأ والباطل لا يمكن أن يكون حقاً؛ لأن الخطأ من الباطل، وأن الباطل يخالف الواقع فلا يكون حقاً؛ لذا فهذا الحديث الصحيح من أدلة عصمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)؛ لأن غير المعصوم معرض للخطأ، وإذا أخطأ فهذا يعني أنه ليس مع الحق في هذه القضية، لكن إذا كان مع الحق دائماً، والحق معه دائماً

ص: 52


1- كفاية الأثر: 20، شرح الأخبار 2: 60، الاحتجاج 1: 75.

فمعنى هذا أنه معصوم؛ وعليه فالذي يعارض علي بن أبي طالب(عليه السلام) أو يسبه أو يسنّ سبه(1)، لا يمكن أن نقول عنه: إن هذا اجتهاد؛ وذلك لأن عمله يتعارض مع النص(2)؛ فهو أمر باطل، ومن يفعل هذا الأمر الباطل إنما هو مبطل، وليس مجتهداً مقابل الحق، فلا اجتهاد في مقابل النص.

وإنما يمكن الاجتهاد في فهم النص. فإذا وجد نص ما فيمكن لأهل الاختصاص أن يجتهدوا لفهمه وهل هو عام أو خاص؟ فإذا كان عاماً فهل له

ص: 53


1- انظر: السنن الكبرى 5: 122، وفيه: أخبرنا محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد يقول: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب؟ قال: لا أسبه ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم لأن تكون لي قال واحدة أحب إلي من حمر النعم لا أسبه ما ذكرت حين نزل عليه الوحي فأخذ علياً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي، ولا أسبه حين خلفه في غزوة غزاها قال: خلفتني مع الصبيان والنساء قال: أو لا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة، ولا أسبه ما ذكرت يوم خيبر حين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم لأعطين هذه الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويفتح اللّه على يديه، فتطاولنا فقال: أين علي؟ فقالوا: هو أرمد، فقال: ادعوه فدعوه فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية، ففتح اللّه عليه، واللّه ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة».
2- انظر: مسند أحمد بن حنبل 6: 323، وفيه: ... عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه الجدلي قال: «دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم فيكم؟ قلت: معاذ اللّه أو سبحان اللّه أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم يقول: من سب علياً فقد سبني». والمستدرك على الصحيحين 3: 121، وفيه: ... حدثنا بكير بن عثمان البجلي قال: سمعت أبا إسحاق التميمي يقول: سمعت أبا عبد اللّه الجدلي يقول: «حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة وإذا الناس عنق واحد فاتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي، فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أمتاه قالت: يسب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ناديكم، قال: وأنى ذلك؟ قالت: فعلي بن أبي طالب، قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه تعالى».

مخصصات أم لا؟ وهل هو منسوخ أم لا؟ ففي بعض الأحيان يختلط الناسخ والمنسوخ على بعض الناس، فيتصور أحدهم أن المنسوخ ناسخ والناسخ منسوخ؛ لذا تنقلب لديه المفاهيم، مثلاً: إذا أجازت الآية الشريفة متعة الحج، وجاء أحدهم وحرم هذه المتعة، فهذا الشيء ليس اجتهاداً، وإنما هو أمر باطل مقابل النص، وينبغي ترك هذا الأمر الباطل والتمسك بالنص الديني، إذ تقول الآية الشريفة: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1).

كذلك الأمر عندما نقرأ في آية أخرى: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2)، فقد يحدث في بعض الأحيان تنازع بين المسلمين، إلا أن هناك مرجعاً إذا رجعنا إليه فسيحل التنازع بيننا، ألا وهو كلام اللّه من خلال القرآن الكريم، وكلام الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإذا رجعنا إلى اللّه وإلى الرسول فسوف نتمكن من معالجة النزاع، لكن إذا كان هناك شخص لا يرجع إلى اللّه وإلى رسوله ويترك كلامهما، ويتمسك بكلام فلان أو فلان ممن هم ليسوا بمعصومين ومعرضين للخطأ، وقد تكون ربات الحجال أفقه منه(3)، وقد يخطئ هذا الرجل

ص: 54


1- سورة النساء، الآية: 83.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- مجمع الزوائد 4: 283، وفيه: وعن مسروق قال: «ركب عمر بن الخطاب منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم ثم قال: يا أيها الناس ما أكثاركم في صدق النساء، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، فلو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفن ما زاد رجل على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهبت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهم على أربعمائة درهم. قال: نعم، قال: أما سمعت ما أنزل اللّه عز وجل في القرآن، فقال: فأنى ذلك، قالت: أما سمعت اللّه عز وجل يقول: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، فقال: اللّهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر». وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1: 182: «وقال مرة: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل اللّه لك ذلك، إنه تعالى قال: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}. فقال: كل النساء أفقه من عمر، حتى ربات الحجال!!».

فيما تصيب امرأة، فهل يجوز أن يحكم بكلامه، مقابل كلام اللّه سبحانه وتعالى وكلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟!

هذا هو الخطأ الذي وقع فيه الكثير من المسلمين حتى يومنا هذا، حيث يُنظر إلى الرجال ولا يُنظر إلى النصوص الدينية، ولا ينظر إلى الحق، فقد كان بعض الناس حائراً يوم الجمل، فهو يرى خليفة رسول اللّه وصهره، وجمعاً كبيراً من الصحابة والتابعين من جهة، ويجد في مقابلهم طلحة والزبير وعائشة فماذا يفعل؟

عن شداد بن أوس قال: «لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع علي ولا أكون عليه، وتوقفت على القتال إلى انتصاف النهار، فلما كان قرب الليل ألقى اللّه في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة قالت: من أين أقبلت؟ قلت: من البصرة، قالت: مع أي الفريقين كنت؟ قلت: يا أم المؤمنين، إني توقفت عند القتال إلى انتصاف النهار، فألقى اللّه عز وجل في قلبي أن أقاتل مع علي، قالت: نِعْمَ ما عملت، لقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني حارب اللّه.

قلت: أفترين أن الحق مع علي؟ قالت: إي واللّه علي مع الحق والحق معه،

ص: 55

واللّه ما أنصفت أمة محمد نبيهم إذ قدموا من أخره اللّه عز وجل ورسوله، وأخروا من قدمه اللّه تعالى ورسوله، وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم وأبرزوا حليلة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى القتال، واللّه لقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إن لأمتي فرقة وخلعة، فجامعوها إذا اجتمعت، فإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي، فإن حاربوا فحاربوا وإن سالموا فسالموا، وإن زالوا فزولوا معهم حيث زالوا، فإن الحق معهم حيث كانوا.

قلت: فمن أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم؟

قالت: هم الأئمة بعده، كما قال: عدد نقباء بني إسرائيل، علي وسبطاي وتسعة من صلب الحسين، وأهل بيته هم المطهرون والأئمة المعصومون»(1).

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن دين اللّه لا يعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله»(2)، فالإنسان حينما ينظر إلى الرجال قد يخطئ، وعليه أن ينظر إلى الحق؛ لأنه أكبر من كل الرجال، وحينئذٍ سيجد أن الحق مع علي، وعلي مع الحق، وحينذاك لا يهمه من هم الرجال الذين يقفون مقابل الحق.

ص: 56


1- بحار الأنوار 36: 346.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: 626.

(9) مكافحة التطرف والتكفير واعتماد الشرط الإقناعي

إن القصص التي وردت في القرآن الكريم - سواء كانت قصص الأنبياء أم الحضارات أم الأشخاص - جاءت لتركيز المعاني والقيم السامية، بحيث لا يراد منها مجرد القصة، بل يراد منها تقريب الناس إلى المفاهيم السامية، التي تضمنتها تلك القصص.

وهنا يُطرَح سؤال وهو: لماذا انحصرت قصص القرآن الكريم في الأنبياء أو الأشخاص أو الحضارات التي كانت قائمة في الجزيرة العربية وأطرافها؟ فقد ذكر القرآن الكريم أنبياء كانوا موجودين في الشرق الأوسط، أي: في فلسطين أو العراق أو في الجزيرة العربية أو في مصر، فالقرآن ذكر الأنبياء وحضارات الشرق الأوسط فقط، سواء كانت إيجابية أم سلبية، مثل عاد أو ثمود في الجزيرة العربية، أو فرعون وقومه في مصر وهكذا، ولكن ألم تكن هناك حضارات أخرى في الصين واليابان وجنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية والشمالية وغيرها؟ فلماذا لم تذكر قصص تلك الحضارات في القرآن الكريم؟

والجواب عن ذلك بسيط جداً، ويدخل ضمن بحثنا هذا الذي يتعلق بالخطاب القرآني، أو بالخطاب الثقافي الإسلامي. فليس القرآن الكريم كتاب قصصي بل هو كتاب هداية؛ لذا فالقصص التي ذكرت فيه تنطوي على المفاهيم والقيم

ص: 57

الإسلامية، التي يكون لها تأثير في المستمعين، فقد تكون هناك قصة فيها مضامين سامية، ولكنها ربما لا تؤثر في المستمعين؛ لذا فلا داعي لذكرها؛ لأن ذكرها ينقض الغرض منها؛ فالقرآن الكريم ليس كتاباً قصصياً لكي ترد فيه قصة لا تأثير لها على المستمعين أو القارئين، فالهدف من القرآن الكريم هو الهداية.

إن القرآن الكريم ذكر من كان معروفاً من الأنبياء لدى الناس، وذكر من القصص ما كانت معروفة لديهم، ولدى أصحاب الديانات الأخرى، فقد كان عدد الأنبياء (124 ألف) نبياً، وكان كثير منهم مرسلين، ففي كل أمة هناك نبي، بمعنى أن جميع الحضارات التي مرّت على الكرة الأرضية في شرقها وغربها، كان فيها أنبياء أو أوصياؤهم، قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(1)، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(2)، لكن ذِكر قصص الأنبياء الذين كانوا موجودين في حضارات بعيدة ومندثرة لم يكن ذا تأثير على الناس، ولم يكن يصب في هدايتهم؛ لذا يقول اللّه عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}(3)، فاللّه عز وجل ذكر قصص بعض الأنبياء، وذكر بعض الأمور المتعلقة بهم، بما يترك تأثيراً على الناس، كذلك ذكر تعالى كثيراً من الأقوام مما يؤثر في المخاطَبين والمستمعين.

ولو كان اللّه سبحانه يذكر أقواماً غير معروفين للناس، أو حضارات اندثرت أخبارها وآثارها لما كان الخطاب مؤثراً فيهم، ولكن حين يكون الخطاب متزامناً

ص: 58


1- سورة فاطر، الآية: 24.
2- سورة الإسراء، الآية: 15.
3- سورة غافر، الآية: 78.

وقريباً منهم فسوف يكون مؤثراً فيهم تأثيراً بليغاً، قال اللّه تعالى: {وَإِنَّكُمْلَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ}(1).

فبما أن الجزيرة العربية والشرق الأوسط هو انطلاق الديانة الإسلامية، فكان من المفترض أن تكون اللبنة الأولى لبنة مؤثرة في هؤلاء الناس؛ ولذا أورد اللّه عز وجل من القصص ما يؤثر فيهم وفي الآخرين.

في حين أنه لو ذكرت حضارات بعيدة ونائية لما كانت تؤثر في الجميع. نعم، ربما تؤثر في بعض الناس الذين سيصل الإسلام إليهم بعد مئات السنين مثلاً، ولكن هذا يتناقض مع هدف القرآن الكريم، وهو الهداية للجميع والتي ينبغي أن تتحقق من اللحظة الأولى للخطاب.

كذلك يصب ذكر الأنبياء(عليهم السلام) الذين ذُكروا في القرآن الكريم باتجاه الهداية، وأما عدم ذكر الأنبياء الذين لهم منزلتهم العظيمة فلأن ذكرهم لم يكن يصب نحو الهدف، أو أن ذكرهم يحقق نسبة قليلة من الهدف المبتغى، في حين أن ذكر غيرهم من الأنبياء له تأثير أكبر؛ لذا لم يذكر أولئك الأنبياء في القرآن الكريم مع عظم منزلتهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القرآن الكريم وكلام الرسول والأئمة(عليهم السلام) يتوفر على شرط الجانب الإقناعي في الخطاب الإسلامي، وقد أُخذ هذا الجانب بعين الاعتبار.

من هنا، يجب أن لا يكون الخطاب الثقافي الإسلامي استفزازياً، ولكن خطاب الكثير من المسلمين الموجه للشعوب الغربية، والشعوب المسلمة هو خطاب استفزازي، فحين تذهب إلى بعض البقاع المباركة والمطهرة تجد أن

ص: 59


1- سورة الصافات، الآية: 137-138.

البعض يريد أن ينهى عن المنكر - حسب زعمه - لكنه لا ينهى بالحكمةوالموعظة الحسنة، ولا يجادل بالتي هي أحسن، وإنما بخطاب مشحون بالقسوة والسباب، فيرجع المخاطَب بقناعة أكثر مما كان يعتقد به، وبحالة من الاشمئزاز من المنهج الذي يسير عليه الآخر.

حينما نلاحظ التكفيريين الآن نجد أن بعضهم يحملون السلاح بشكل علني، والبعض الآخر لا يحمل السلاح؛ لذا له نوع من الحرية في الظهور على بعض الفضائيات وعلى منابر الجمعة، وإذا لاحظنا خطابه نجد أنه ينطوي على نوع من الغلظة والسب والشتم، وإغفال تامٍ للأسلوب الإقناعي؛ لذلك فإنه منهج محكوم عليه بالفشل.

وسينتهي لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(1).

عندما انطلق الإسلام دخل فيه الكثير من الناس، وأما ما حدث في الفتوحات الإسلامية بشكل عام - لاسيما في البداية - فقد بقي أكثر الكفار على كفرهم؛ لذا لو قرأنا التأريخ بدقة سنجد أن البلدان التي فتحت في القرن الأول الهجري كانت تحت سيطرة المسلمين لكن بقي أهل تلك البلدان بشكل عام على كفرهم، ثم انتقلوا تدريجياً إلى الإسلام، ولم يجبر هؤلاء على الانتقال إلى الإسلام الذي شرّع منذ البداية أحكاماً وقوانين خاصة لأهل الذمة، ومنها: إنهم يلتزمون بحزمة من الأمور في مقابل حماية المسلمين لهم، وعليهم أن يدفعوا الجزية، وهي ما يشبه الضريبة الآن..

ص: 60


1- سورة الإسراء، الآية: 81.

فالشعوب التي تم فتحها تحولت إلی الإسلام بالتدريج، لأن المسلمين كانوايهتمون بشرط الاقتناع بالإسلام.

إن عالم اليوم ينطوي على وسائل اتصالات ومواصلات هائلة، وهي وسائل مباحة ومتاحة للجميع، فهل فكرنا - كمسلمين - في إقناع الآخرين؟ وهل فكرنا في مقابلة الحركات المتطرفة؟ وهل فكرنا في المجابهة الفكرية لأولئك الذين يقومون بمحاربة الآخرين بالتفخيخ والتفجير؟ ومنهم بعض الدعاة الذين يحاربون الآخرين عبر الكلام العنيف. نعم، فكر البعض في ذلك وعمل بهذا الاتجاه، ولكن ليس بالمستوى المطلوب.

وهكذا الحال في صراعنا مع الكيان الصهيوني الذي احتل فلسطين، فهل فكرنا في محاولة هداية بعض اليهود؟ وهل أطلقنا قناة فضائية تبث باللغة العبرية لنبين لهم الوجه المشرق للإسلام؟ ألم يسلم بعض اليهود في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ ألم يسلم بعض اليهود في العصور المتأخرة؟ لذا فإن إغفال جانب إقناع الكافرين - حتى المحاربين منهم - يؤدي إلى بقاء خطابنا الإسلامي فاقداً للكثير من التأثير على الآخرين.

ص: 61

(10) الثقافة الإسلامية تصقل إنسانية الإنسان وتُظهرها

اشارة

لا شك في أن الثقافة الإسلامية لها عدة مقومات، وهي:

المقوّم الأول: المصدر الرباني

إن مصدر الثقافة الإسلامية هو مصدر رباني إلهي، فالذي صنع هذه الثقافة هو الدين الإسلامي، وهذا الدين أنزله اللّه سبحانه وتعالى على رسوله محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1)، وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2). ولهذه الغاية بعث اللّه تعالى رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فغيّر جميع العادات والتقاليد السيئة.

وقد بيّن الإسلام جميع مقومات الثقافة بشكل جزئي أو كلي، وذلك وفقاً لقوانين عامة، وأهم هذه الأمور ذُكرت في القرآن الكريم، فاللّه تعالى ذكرها لكي يعمل بها المسلمون، وحينما كانت هناك حاجة إلى بيان أكثر، شرحها وبينها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المسلمين، وقد قام أهل البيت(عليهم السلام) بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه المهمة، حيث بينوا كثيراً من الأمور للناس. وقد وصلنا هذا التراث الكبير

ص: 62


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

والكثير برغم بعض المعوقات.

إن القرآن الكريم وصل إلينا من دون أية زيادة أو نقصان، وما محاولة البعض لتحريف القرآن الكريم، أو الادعاء بتحريفه إلا محاولات فاشلة على مدى تاريخ المسلمين، وقد تجاوز المسلمون هذه الادّعاءات، وأخذوا القرآن الكريم كما أنزله اللّه تعالى على رسوله وتلوه، وفي كثير من الأحيان عملوا به. وأما بالنسبة لسنة النبي، فصحيح أن الكذب والتلفيق كثر على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحدث هذا حتى في زمانه، حتى أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أيها الناس، قد كثُر عليّ الكذابة، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(1). أي: إن الذي يكذب على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوف يحجز موقعه في نار جهنم.

ولكن هناك أدوات لتمييز الغثّ من السمين، وأول وسيلة - كما يبينها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) - هي أن نعرض الحديث على القرآن الكريم، فإذا كانت الرواية متعارضة مع القرآن الكريم فنتركها، وأما إذا كانت موافقة معه فنأخذ بها. لأن سنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاءت لبيان القرآن الكريم، وتفصيل ما ورد فيه، فمن المستحيل أن يتناقض كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع القرآن، مثلاً وردت في بعض المرويات أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سُحر!(2)، في حين أن هذه الرواية موضوعة؛ لأنها تتعارض مع القرآن الكريم الذي يقول: {وَقَالَ الظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا}(3).

ص: 63


1- تحف العقول: 193.
2- البخاري 4: 68، وفيه: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، حدثنا هشام، قال: حدثني أبي، عن عائشة: «أن النبي صلى اللّه عليه [وآله] وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه». وانظر: 4: 91.
3- سورة الفرقان، الآية: 8.

من هنا نقول: إن النشأة الربانية والإلهية للثقافة الإسلامية هي التي جعلت هذه الثقافة صحيحة، من دون أن يكون هناك تدخل للأهواء والمصالح في تكوينها؛ لأن اللّه غني عن العباد، وبيَّن لهم ما يصلح أمرهم، وهو تعالى ليس كالبشر، فإن أكثرهم معرضون للأهواء والميول النفسية والمصالح الشخصية، فمن الممكن أن يفعلوا بعض الأمور لمصالحهم وكذلك معرّضون للخطأ والغلط، ثم تتحول فيما بعد إلى ثقافة سارية في أمتهم وأبنائهم ونسلهم.

لقد حاول بنو أمية إعادة العرب إلى الجاهلية، وإلغاء الإسلام من حياة العرب والمسلمين بشكل عام، فقد حاربوا الإسلام بالسيف بداية، حيث حاربوا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة والمدينة، حتى سقط السيف من أيديهم في فتح مكة، ثم دخلوا الإسلام، لكنهم حاولوا أن ينخروه من داخله؛ ليحولوه إلى دين كالنصرانية، ويجعلوه ديناً محرفاً مشوهاً، مستخدمين في ذلك أدواتهم المختلفة.

وبعد أن توطدت لهم السلطة حاولوا بشتى السبل والطرق إعادة المسلمين إلى عهد الجاهلية، ومن جملة ما قاموا به: الإكثار من الروايات الموضوعة، والمكذوبة على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لتثبيت بعض الثقافة الجاهلية، واعتبارها ثقافة إسلامية وردت على لسان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكذلك إحياء بعض الأمور التي طمسها الإسلام وألغاها، كالعصبية التي ألغاها الإسلام، قال اللّه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1)، فأول

ص: 64


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

شيء فعله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)في المدينة أنه أصلح الأمور بين (الأوس) و (الخزرج)، بعد أن كان هناك نزاع طويل يدور بين القبيلتين، لكن عندما استولى بنو أمية على الحكم في البلاد الإسلامية حاولوا إعادة تلك العصبية بين المسلمين، ومن الأمور المعروفة في زمن سلاطين بني أمية أن حالة العصبية قد اشتدت بين الناس، وبدأ التفاضل والتمايز بين العدنانية والقحطانية، وبين العرب العرباء والعرب المستعربة وانتشرت المهاجاة بين الشعراء، وكان السلاطين من بني أمية يدعمون الطرفين لإرجاع القيم العصبية الجاهلية من جهة، ومن باب (فرق تسد) من جهة أخرى، لكي يضمنوا استمرارهم في السلطة.

ومثال آخر: لو لاحظنا الثقافة الأوربية المسيحية مثلاً، نرى أن منشأها بشكل عام ليس ربانياً، وإنما هو منشأ بشري؛ لأن الشريعة التي جاء بها عيسى(عليه السلام) تم تحريفها من بعده، وحينما أرادت بعض الشعوب الدخول إلى النصرانية دخلوا إلى النصرانية المحرفة، ودخولهم هذا كان يساوق إدخال عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم إليها.

ومن جملة الأمور التي يذكرها المؤرخون: إن اليوم الذي يحتفل فيه النصارى في مولد عيسى(عليه السلام) - وهو يوم الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر في السنة الميلادية - كان عيداً وثنياً قبل دخول الأمم والشعوب إلى النصرانية، فلما تنصّرت تلك الأمم الوثنية صبغت ذلك اليوم بصبغة دينية، وهكذا كثير من عاداتهم وتقاليدهم التي أدخلوها إلى النصرانية!

المقوّم الثاني: الارتباط بالطبيعة الإنسانية

المقوم الثاني للثقافة الإسلامية هي أنها تتطابق مع فطرة الإنسان، فحينما خلق اللّه عز وجل الإنسان جعل له فطرة، وهي ملازمة له من يوم ولادته وحتى وفاته.

ص: 65

صحيح أن الفطرة قد تُطمس بالعادات والتقاليد، ولكنها قادرة على أن تُظهر نفسها في كثير من الأوقات، لاسيما في الأزمات والطوارئ التي يُبتلى بها الإنسان، وهذه الفطرة هي حجة اللّه تعالى على الإنسان، إضافة إلى عقله وإلى الأنبياء(عليهم السلام).

وهذه الفطرة تنسجم مع الثقافة الإسلامية؛ لأن مَن خلقها هو نفسه الذي جاء بهذه التعاليم، وهو يعرف هذه الفطرة لأنه عالم بكل شيء، فالنظام الذي جاء به يتلاءم مائة بالمائة مع هذه الفطرة. لكن بما أن الثقافات الأخرى ليس لها منشأ رباني فهي في كثير من الأحيان لا تنسجم مع فطرة الإنسان، وعدم انسجامها مع هذه الفطرة يولد ازدواجية في الحالات النفسية للأشخاص من جهة، ويولد مشاكل عملية من جهة أخرى؛ لأن بعض الأمور لا تنسجم مع طبيعة الإنسان، وعدم انسجامها مع طبيعته يولد له مشاكل.

كما أن الطعام الذي لا ينسجم مع جسم الإنسان يسبب له مشاكل، فالأمراض التي يُبتلى بها الإنسان قد تكون بسبب الطعام الذي لا ينسجم مع تكوينه الجسدي، وأما إذا كانت الأطعمة منسجمة مع طبيعة تكوينه الجسدي فلن تكون هناك أمراض، بل تكون هناك استفادة وكسب للطاقة والسعرات الحرارية لجسم الإنسان.

كذلك الحال بالنسبة للطقوس والعادات والثقافات المختلفة بشكل عام، فإذا لم تكن منسجمة مع فطرة الإنسان فسوف تؤدي لاستمرار المشاكل التي تولد بدورها المشاكل النفسية، حيث يعيش الإنسان الازدواجية الشخصية؛ إذ إن فطرته تدفعه من جهة، فيما تدفعه عاداته من جهة أخرى، وتدفعه ثقافته من جهة ثالثة؛ لذا سوف يعيش الإنسان حالة من الازدواجية في شخصيته، ثم يُبتلى

ص: 66

بمختلف الأمراض أيضاً.

والحاصل: إن الثقافة الإسلامية والدين الإسلامي بشكل عام يُظهر إنسانية الإنسان ولا يطمسها، فإذا التزم الإنسان بهذه الثقافة الربانية فسوف تساعده على إظهار إنسانيته، في حين أن الالتزام بالثقافات الأخرى التي لا تنسجم مع فطرة الإنسان يؤدي إلى طمس إنسانيته، وزيادة الشوائب التي تغطي على هذه الإنسانية؛ لذا نلاحظ بوضوح أن الإنسان المسلم، الملتزم بالثقافة الإسلامية الأصيلة يكون أقرب إلى الإنسانية والقيم والعقل من الإنسان الذي ينتمي إلى ثقافة غير إسلامية.

والقرآن الكريم يبيّن دور الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للذين يؤمنون به ويتبعونه، حيث يقول: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1)، أي: يرفع العادات التي كانت تكبّل الإنسان؛ لأنها لا تلتقي مع فطرته؛ لذا جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأزال تلك العادات، كذلك الحال بالنسبة للقوانين التي تضيّق حياة الإنسان، فقد جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأزالها، وأظهر إنسانيته وفطرته.

ص: 67


1- سورة الأعراف، الآية: 157. {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

(11) ارتباط الإسلام بمنظومة أخلاقية شاملة

إذا درسنا النصوص والقيم الإسلامية، سواء تلك التي وردت في القرآن الكريم، أم في السيرة المطهرة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، سنجد أنها جميعاً تحث على القيم الإنسانية النبيلة، وعلى الأخلاق والفضائل الإنسانية، فسيرة الرسول والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تُعد تجسيداً عملياً وتفسيراً لتلك النصوص المقدسة.

إذا لاحظنا سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) من بعده سنلاحظ أن المنظومة الأخلاقية المتكاملة تتجلى بصورة واضحة في جميع جزئيات هذه السيرة المباركة، فالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة أصبح حاكماً فيها مع أنه نبي، بمعنى أنه جمع بين السلطتين الدينية والسياسية - إذا جاز التعبير - ومع ذلك نجد هذه المنظومة الأخلاقية المتكاملة موجودة في كل مفردة من مفردات سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولم يكن هناك تنازل عن هذه المنظومة الأخلاقية حتى لو تعلق الأمر بالمصالح الوقتية، عكس ذلك لا نلاحظ وجود هذه الحالة في سائر الثقافات الأخرى، وكثيراً ما نلاحظ أن بعض قيمهم تجانب أو تجافي الأخلاق، وكذلك الممارسات العملية لرموزهم الدينية أو ما ينسبونه لهم.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اضطر وهو في المدينة المنورة لخوض عدة حروب، وكلها

ص: 68

كانت دفاعية، وقد بلغت نيفاً وثمانين غزوة وسرية، في عشر سنوات تقريباً، أي: بمعدل ثمانية غزوات وسرايا في كل عام، ومع ذلك نلاحظ أن القيم والأخلاق والمُثل الإنسانية الرفيعة كانت متطابقة مع سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عملياً على أرض الواقع، وإذا كان أحد المسلمين يجافى ويجانب هذه القيم، أو الأخلاق في موقف معين كان يوبخ من قبل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

كما نجد أن الآيات القرآنية توبخ بعض المسلمين على بعض الأفعال، مثلاً: «لما رجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك، ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحسن بخيل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع أهله وماله، وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، فمر به أسامة بن زيد فطعنه وقتله، فلما رجع إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبره بذلك، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه؟ فقال: يا رسول اللّه، إنما قالها تعوذاً من القتل، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أفلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت، وأنزل اللّه في ذلك: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(1)»(2). فحتى لو كان إسلام هذا الرجل ظاهرياً، إلا أن المُثُل والأخلاق الإسلامية العالية تقتضي

ص: 69


1- سورة النساء، الآية: 94.
2- بحار الأنوار 22: 92.

بقبوله منه.

مثال آخر: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألغى كل ما يترتب على الدماء التي أريقت في زمن الجاهلية - أي قبل الإسلام - فحظر جميع أعمال الثأر فيما حدث إبان الجاهلية(عليه السلام) لأن: «الإسلام يجْبُ ما قبله»(1)؛ ولأنه جاء لكي ينهي الضغائن والأحقاد من النفوس. إلا أن بعض المسلمين كان لا يزال يحمل أحقاد الجاهلية، وهذا ما حدث بين خالد بن الوليد وبني جذيمة، فقد بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة، وقتلوا عم خالد فاستقبلوه وعليهم السلاح، وقالوا: يا خالد، إنا لم نأخذ السلاح على اللّه وعلى رسوله، ونحن مسلمون فانظر فإن كان بعثك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغدِ عليها، فقال: ضعوا السلاح، قالوا: إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية، وقد أماتها اللّه ورسوله، فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً، ثم شنَّ عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجلاً، ثم قال: ليقتل كل رجل منكم أسيره فقتلوا الأسرى، وجاء رسولهم إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع(عليه السلام) يده إلى السماء وقال: اللّهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، وبكى، ثم دعا علياً(عليه السلام) فقال: اخرج إليهم وانظر في أمرهم، وأعطاه سفطاً من ذهب ففعل ما أمره وأرضاهم(2).

وقال ابن الأثير: «وكان رسول اللّهّ صلى اللّه عليه [وآله] وسلم قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال، وكان

ص: 70


1- مستدرك الوسائل 7: 448.
2- بحار الأنوار 21: 140.

ممن بعث خالد بن الوليد بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، فنزل على الغميصاء ماء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جَذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة عم خالد، كانا أقبلا تاجرين من اليمن، فأخذت ما معهما وقتلتهما، فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح فأمر خالد بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل.

فلما انتهى الخبر إلى النبي صلى اللّه عليه [وآله] وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللّهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد! ثم أرسل علياً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودي لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب(1)، وبقي معه من المال فضلة فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يؤدَ؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم ففعل، ثم رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم فأخبره، فقال: أصبت وأحسنت»(2).

إن أمير المؤمنين(عليه السلام) دفع الدية عن كل قتيل، وأرجع لهم جميع ما نُهب منهم، أو دفع لهم قيمته، حتى (ميلغة الكلب)، مع أنها لا قيمة لها: «لئلا يتوى حق امرئٍ مسلم»(3)،

أي: لا يضيع حق المسلم دون مبرر، حتى لو كان قليلاً؛

ص: 71


1- أي: الإناء الذي يشرب أو يأكل فيه الكلب.
2- الكامل في التاريخ 2: 255.
3- مستدرك الوسائل 17: 446.

لأن الإسلام ينظر إلى الحقوق بمثقال ذرة، وبذلك عوضهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن كل ما فقدوه لكي يرضوا عنه، وقد أثبت أنه لم يكن له دخل في هذه الجريمة التي ارتكبها خالد بل تبرأ منها.

ومثال ثالث: عندما حاصر المسلمون الطائف ولم يتمكنوا من فتحها بعد فتح مكة؛ وقد بلغ المشركين أن المسلمين يريدون قطع أشجارهم؛ إذ كانت الطائف معروفة بالأشجار المثمرة كالعنب، وكانت الأشجار المثمرة تمثل المصدر الاقتصادي للطائف ترجّى أهل الطائف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فوق الحصون بأن لا يقطع أشجارهم، فلم يفعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك(1) وترك تلك الأشجار ثم رجع عن الطائف من غير فتحها إلى أن أسلم أهلها طوعاً.

إن هذه السيرة الوضاءة، الموجودة في النصوص، شكلت الثقافة الإسلامية، وتجلت في السيرة العملية للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) بشكلٍ واضح، وهذا ما نلاحظه في حجم الفتوحات التي حدثت في صدر الإسلام، مع أن أحداً لم يُجبر على قبول الإسلام، وأما ما يُقال من أن الإسلام انتشر بالسيف فهذا الكلام ليس صحيحاً، وهو مجانب للحق والحقيقة، والدليل على ذلك وجود الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية منذ الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا، بل

ص: 72


1- انظر: بحار الأنوار 21: 168، وفيه: «شاور رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه في حصن الطائف، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول اللّه، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعمل منجنيق، ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين، ويقال: خالد بن سعيد، فأرسل عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة، فأمر رسول اللّه بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادى سفيان بن عبد اللّه الثقفي: لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله والرحم، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فإني أدعها لله والرحم، فتركها».

عندما كانت هذه الأقليات تتعرض للإبادة أو إلى القتل والتعذيب في دول أخرى كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلامية، كما حدث لليهود حينما طردوا من البلدان الأوربية، فقد اضطروا إلى الالتجاء إلى الدول الإسلامية، وقد تمَّ الترحيب بهم في هذه البلدان بعنوان أهل ذمة.

فالفتوحات الإسلامية في بداية الدعوة الإسلامية أدت إلى أن تتحول الشعوب إلى الإسلام تدريجياً، لما رأوه من حسن الأخلاق والقيم لدى المسلمين، وأما الفتوحات الإسلامية التي حدثت في العصور المتأخرة فإنها لم تؤدِ إلى إسلام الشعوب المغلوبة على أمرها؛ لأن هذه الفتوحات جانبت الأخلاق والقيم والمُثل، وتحولت إلى انتهاك ثروات وإمكانيات الشعوب الأخرى، وهذا ما حدث في زمن العثمانيين الذين غزوا البلدان الأوربية في البلقان، وبقوا فيها مئات السنين، لكن شعوب البلقان بقيت على نصرانيتها، ولم يتحولوا إلى الإسلام، إلا القليل جداً منهم؛ لأن نظرة الفتوحات المتأخرة إلى الأمم والشعوب كانت على أنها مجرد غنيمة، حيث تنهب أموالهم وتؤخذ ثرواتهم وتسترق نساؤهم.

وفي المقابل لم يكن هناك إعطاء صورة مشرقة وصحيحة عن الإسلام، فتمسكت تلك الشعوب المغلوبة على أمرها بكفرها، وبعد أن انهارت الدولة العثمانية استعادت هذه الشعوب هويتها ورفضت الإسلام، بل أبدت العداء الشديد للإسلام، وكلما سنحت لها الفرصة انقضت على المسلمين وقتلت منهم الكثير، وقد لاحظنا الجرائم التي ارتكبها (الصرب) في البوسنة، وفي كوسفو وغيرها من المناطق، حيث قتلوا عشرات الآلاف من المسلمين بدافع الحقد الذي كانوا يحملونه على الإسلام، ولكن لماذا حملوا هذا الحقد والضغينة؟

إن السبب الرئيسي هو سوء تصرف العثمانيين معهم، بحيث جانب عملهم

ص: 73

القيم والأخلاق، ولم يتعلق هذا بالشعوب غير المسلمة، بل حتى الشعوب المسلمة التي كانت بلدانها تحت سلطة العثمانيين، فقد كان تعاملهم مع هذه البلدان المسلمة سيئاً جداً، ومحصوراً في زاوية الاستنزاف المالي ونهب الخيرات؛ لذا توقف المد الإسلامي بسبب سوء تصرفات العثمانيين؛ لأن أكثر الناس لا يعرفون الإسلام إلا عبر تصرفات المسلمين، كما نلاحظ ذلك في العصر الراهن؛ إذ إن بعض أدعياء الإسلام وبعض الحركات المتطرفة بدأت بارتكاب أعمال بعيدة عن الإنسانية، وعن القيم والمُثُل والأخلاق، بينما يقولون: إن عملهم هذا يمثل الإسلام، فهم يقتلون الأبرياء ويقولون: إن عملهم هذا هو جهاد في سبيل اللّه!!، أو يروعون النساء والأطفال، ثم يقولون: إن عملهم هذا يقع تحت ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فيعكسون صورة سلبية جداً لا تمثل المفاهيم السامية والقيم الموجودة في الإسلام، مع أن الجهاد هو قمة في الإنسانية؛ لأن الإنسان يدافع عن نفسه، وهو أمر وحق مكفول لكل الشعوب وكل الثقافات، وكذلك يُعد إنقاذ المظلومين في قمة الإنسانية؛ قال اللّه تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(1)، وهذا الأمر مكفول حتى الآن في ميثاق الأمم المتحدة، حيث يحق للأمم المتحدة أن تنقذ الشعوب التي تتعرض للإبادة أو الظلم من حكامها أو من شعوب أخرى.

ص: 74


1- سورة النساء، الآية: 75.

(12) أهل البيت(عليهم السلام) والتجسيد العملي للسيرة النبوية

لا شك في أن سنة وسيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي من مصادر الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهذه السنة والسيرة لم تصلنا صحيحة إلا عن طريق العترة الطاهرة، وهذا ما ورد في حديث الثقلين حيث يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

إن كثيراً من الناس لا زالوا حتى الآن يحاولون إلغاء دور أهل البيت(عليهم السلام) من الإسلام ومن الوجود، ولهذا عندما يذكرون هذا الحديث يركزون على (كتاب اللّه وسنتي)، مع أنه حديث موضوع ولم يرد بسند صحيح حتى في كتب غير الشيعة، ويحاولون إخفاء نص (كتاب اللّه وعترتي) مع أنه هو الحديث الصحيح المتواتر.

فسنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وسيرتهم هي من مصادر الإسلام في كل الأمور - ومن جملتها الثقافة الإسلامية الأصيلة - وهم حصراً الذين أوصلوا إلينا

ص: 75


1- الكافي 2: 414؛ الأمالي، للصدوق: 523؛ مسند أحمد 3: 59؛ سنن الترمذي 5: 328؛ فضائل الصحابة: 15؛ المصنف 7: 418؛ السنة: 336؛ السنن الكبرى 5: 45.

السنة والسيرة الصحيحة بالقول والمعنى والعمل، ثم إنهم(عليهم السلام) ترجموا هذه السنة والسيرة ترجمة ميدانية وعملية في كثير من الأحيان.

لقد بيّن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمراً وعمل عملاً، وقد تحوّل هذا الأمر والعمل إلى منهج يُستدل به، ولكن بعد منع تدوين الحديث منعاً تاماً، لفترة طويلة استمرت ما يقارب من تسعين عاماً حتى عهد عمر بن عبد العزيز؛ وكذلك بعد كثرة الافتراء والكذب على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الأحاديث الموضوعة، اختلط الأمر على الكثيرين، لذا فالأجيال التي جاءت بعد جيل الصحابة والتابعين لم تصلهم كثير من مفردات سنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبقيت مجهولة بالنسبة لهم، فقام أهل البيت(عليهم السلام) لبيان السنة الصحيحة، وفرز الصحيح من السقيم، والكاذب من الصادق، إضافةً إلى التجسيد العملي لتلك السنة والسيرة.

قال الرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل، كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هو؟ فقال: هو خاصف النعل، يعني أمير المؤمنين(عليه السلام)»(1).

عندما بعث اللّه سبحانه وتعالى رسوله للعالمين فإن مشركي مكة حاصروه، وحينما أرادوا قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاجر إلى المدينة، فشنوا عليه حروباً، واستمر الحصار والقتال ما يقارب عشرين عاماً.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعا المشركين لكي يؤمنوا باللّه سبحانه وتعالى، فحاربوه لكن لما سقط السيف من أيديهم دخلوا الإسلام بعد فتح مكة حفاظاً على أرواحهم، أو طمعاً بالغنائم، ولكنهم كانوا يكيدون للإسلام، وقد حذرنا اللّه عز

ص: 76


1- الكافي 5: 11.

وجل من المنافقين عبر عشرات الآيات الشريفة، وهل يذكر اللّه عز وجل أمراً خيالياً لم يكن موجوداً؟ كلا، بل كانوا موجودين ضمن الذين نطقوا الشهادتين، وهؤلاء أنفسهم حاربوا الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ليس بسبب التنزيل؛ لأن الجميع كان ينطق بالشهادتين حتى المنافقين؛ لكنهم قاتلوه على التأويل؛ لأنهم كانوا يحرفون معاني الآيات، بعد أن عجزوا عن تحريف ألفاظه؛ لأن اللّه عز وجل حفظ القرآن من التحريف، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(1).

ثم كانوا يضعون الأكاذيب وينسبونها للرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقاتلهم أمير المؤمنين(عليه السلام) على التأويل، وبيان المعاني الصحيحة للآيات القرآنية، وبيان السنة الصحيحة، وتمييز الأكاذيب منها، ولو أننا درسنا حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) وحياة بقية الأئمة(عليهم السلام) لوجدنا أن التجسيد العملي للإسلام الصحيح، ولسنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتطبيق آيات القرآن الكريم يكمن في سيرتهم، وهذا ما نلاحظه في المشاكل الكثيرة التي واجهها الأئمة(عليهم السلام)، وكيف عالجوها على ضوء كتاب اللّه سبحانه وتعالى وسنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ومن المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العصر الراهن، هي الأفكار التكفيرية التي كانت موجودة في صدر الإسلام، حيث بدأت بالخوارج التي كفّروا الإمام(عليه السلام)، فقد أخذوا إحدى آيات القرآن الكريم ولم يفهموا معناها، وهي قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(2)، فقالوا: إن المقصود بالحكم في هذه

ص: 77


1- سورة الحجر، الآية: 9.
2- سورة الأنعام، الآية: 57.

الآية هو الإمرة أو الإمارة، مع أن معناها هو التشريع، فكفَّروا أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقتلوا أصحابه في عمليات إرهابية، حيث قتلوا عبد اللّه بن خباب وبقروا بطن زوجته، وروي أنه لقيهم عبد اللّه بن خباب في عنقه مصحف على حمار، ومعه امرأته وهي حامل فقالوا له: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك!! فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه.

فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعاً.

قالوا: فما تقول في التحكيم والحكومة؟ قال: إن علياً أعلم باللّه منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة.

فقالوا: إنك لست بمتبع الهدى إنما تتبع الرجال على إيمانهم، ثم قربوه إلى النهر فأضجعوه وذبحوه.

قال: وساوموا رجلاً نصرانياً بنخلة له فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. فقال: واعجباه أتقتلون مثل عبد اللّه بن خباب ولا تقبلون جنا نخلة»(1).

إن المسلمين اليوم ابتلوا بخوارج العصر، وهم أصحاب المنهج التكفيري، وهو نفس منهج الخوارج، فقد كان الخوارج يبقرون بطن المرأة الحبلى، ويقتلون جنينها وزوجها لمجرد أنه لم يكن مستعداً لأن يتبرأ من أمير المؤمنين(عليه السلام)، وها نحن نلاحظ خوارج العصر يسيرون على المنهج نفسه، حيث المفخخات والعبوات الناسفة التي يضعونها في الأسواق والأماكن العامة.

فهو نفس أسلوب الخوارج الذين كانوا في زمن أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولكن

ص: 78


1- بحار الأنوار 33: 354.

كيف تعامل معهم أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

إن أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يعمل شيئاً إلا طبقاً للقرآن الكريم ولكلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في حقه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «علمني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم، كل باب منها يفتح ألف باب»(2).

لو أردنا تجسيد السنة الحقيقية للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع هؤلاء التكفيريين - خوارج العصر الإرهابيين - فلا بد أن نرجع إلى تأريخ أمير المؤمنين(عليه السلام) لنجد كيف تعامل معهم، لكي نتخذه أسوة ونتعامل مع الأمور كافة حسب ذلك العمل.

إن أمير المؤمنين(عليه السلام) تعامل مع هؤلاء بالكلمة، فحينما اعتزل الخوارج، واجتمعوا في النهروان، كان عددهم اثني عشر ألف رجل، فبعث إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن عباس(3)،

وعلمه كيفية المحاججة معهم، فكانت الكلمة هي أسلوب التعامل منذ البداية، وقد حاججهم ابن عباس، فعاد ثمانية آلاف شخص منهم، وبقي منهم أربعة آلاف معاندين، فقاتلهم الإمام(عليه السلام) بسبب بغيهم وتجريدهم السلاح بوجه الناس.

إذن، فهذه نقطة هامة جداً، وهي: إن القتال المسلّح مع الفكر التكفيري ينبغي أن يكون آخر الدواء، فلا بد أن تكون هنالك مراحل أولى، تتمثل بالتثقيف الصحيح ونقض الشبهات؛ لأن الكثير من هؤلاء التكفيريين غُسلت أدمغتهم، وإذا غُسل دماغ الإنسان فسوف يحسب أنه يُحسن صنعاً، ولكنه من الأخسرين أعمالاً،

ص: 79


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 345؛ تحف العقول: 430؛ كفاية الأثر: 184.
2- شرح الأخبار 2: 308؛ الإرشاد 1: 34؛ بحار الأنوار 22: 470.
3- انظر: نهج البلاغة 3: 136.

قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1)؛ لذا عندما تمَّ نقض الشبهات التي حصلت عند الخوارج، وتم توضيح الحق والحقيقة لهم لم يبقَ إلاّ معاند، فاستحق أن يُقاتل.

عندما ندرس سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نجد أن البعض يتصور أن عمله(عليه السلام) انحصر في الزراعة، وشق عيوناً وغرس نخيلاً وغير ذلك.

نعم، إن هذا الأمر كان موجوداً فعلاً، فأمير المؤمنين(عليه السلام) قضى وقتاً من حياته في الزراعة، لكن في الوقت نفسه كان يتحين الفرص لتعليم الناس وتثقيفهم؛ لذا حينما قُتل عثمان أو قبل مقتله كانت هناك آلاف مؤلفة من الناس تهتف باسم الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولو أنه(عليه السلام) كان قد ترك كل الأمور - ومنها التثقيف والتعليم والتربية - وحصر عمله في الزراعة فقط لما كان كل هؤلاء يهتفون باسمه(عليه السلام)، حتى أن عثمان في حصاره أرسل إلى علي ابن أبي طالب بأن أخرج من المدينة وأذهب إلى ينبع(2)، فخرج الإمام(عليه السلام)، ولما اشتد الحصار على عثمان أرسل للإمام(عليه السلام) طالباً عودته فعاد(عليه السلام)، وبعد ذلك طلب منه الذهاب إلى ينبع فاعترض الإمام(عليه السلام) على ذلك.

ص: 80


1- سورة الكهف، الآية: 104.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 240، وفيه: «ومن كلام له(عليه السلام) قاله لعبد اللّه بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور، يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال(عليه السلام): يا بن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر، بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج. واللّه، لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً».

لماذا كانت هذه الآلاف المؤلفة تهتف باسم الإمام(عليه السلام)؟ وكيف جاءوا زرافات وبايعوه(عليه السلام)؟

والجواب: لأنه كان من ضمن أعماله(عليه السلام) تربية المؤمنين المخلصين، وإن كان هو(عليه السلام) معرّضاً للتهميش سياسياً، ولكنه كان يستثمر الفرص لتربية جيل من المؤمنين.

إننا الآن نواجه نفس الحالة السابقة، أو شبيهة بها، فهناك أفكار تكفيرية وهدامة، وثقافات مستوردة من هنا وهناك، وقد كان المسلمون يعانون في ذلك الوقت من هذه الحالة أيضاً، فقد كثرت الفتوحات، وحدث اختلاط بين المسلمين وبين الأمم الأخرى، فدخلت ثقافات أخرى، وحدث احتكاك وتحدٍ، وبناءً على ذلك نلاحظ أن الإمام(عليه السلام) قضى قسماً كبيراً من وقته في التربية والتعليم، ونشر الأحكام الشرعية، حتى في فترة حكومته، مع كثرة الفتن التي أثارها المنافقون، فقد كان(عليه السلام) يستفيد من أية فرصة ليعلّم الناس ويربيّهم، وإذا تتبعنا خطب نهج البلاغة سنلاحظ أن أكثرها كانت في فترة حكومته، وسوف نجد أنها زاخرة بالعقيدة والأحكام والأخلاق والتربية وغير ذلك.

والحاصل أنّنا نرى أنّ تجسيد سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عملياً كان على يد الأئمة(عليهم السلام)، فإذا أردنا أن نصل إلى السنّة الحقيقية، والتجسيد العملي لها فينبغي علينا الالتزام بتعاليم القرآن الكريم، وسيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي، ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتولِ علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأوصياءه من بعده، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدى، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم،

ص: 81

وإني سألت ربي ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا علي الحوض هكذا - وضم بين أصبعيه(1) - وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة، فيه قدحان فضة وذهب عدد النجوم»(2).

ص: 82


1- أي: السبابتين.
2- الكافي 1: 209.

الفصل الثالث: معالم الثقافة الإسلامية

اشارة

ص: 83

ص: 84

(13) التلازم الجوهري الراسخ بين الثقافة والدين

عندما نبحث في ماهيات الثقافات المختلفة لدى الشعوب سنلاحظ أن كل ثقافة لابد أن تنمو إلى جانب الدين، فهناك تلازم بين الدين من جهة والثقافة من جهة أخرى، وقلّما نعثر على ثقافة من دون دين، ويصح العكس أيضاً.

وتُقسم الأديان إلى قسمين:

الأول: شرائع إلهية.

الثاني: أديان بشرية.

وهذا يعني أن هناك ديناً أنزله اللّه سبحانه، وهناك أديان لم ينزلها تعالى وإنما هي صنيعة البشر، والشرائع الإلهية تشكل منشأ وسبباً لوجود الثقافة، وأما الأديان البشرية فهي على العكس من ذلك، فهي الثقافات الاجتماعية التي تحملها تلك الأمم أو الشعوب، وهي التي أدت إلى نشوء الدين البشري وليس العكس، في حين أن الشرائع الإلهية هي السبب في صنع ثقافة المجتمعات والشعوب والأمم، وإذا درسنا الأديان البشرية المختلفة سنكتشف أن الثقافة التي كان يحملها هؤلاء صُبت في قوالب وطقوس دينية، وتحولت بالتدريج إلى دين، فأصبح هناك تلازم بين ذلك الدين وتلك الثقافة.

وأما إذا لاحظنا الشرائع الإلهية - كما في الإسلام مثلاً الذي هو خاتم الشرائع -

ص: 85

فسوف نجد أنه أرسى ثقافة جديدة للمجتمع الإسلامي، ونسخ ثقافته التي كانت موجودة قبل مجيء الإسلام.

ونظراً لوجود التلازم بين الدين والثقافة فإن المجتمعات التي تتخلى عن دينها، سواء كان الدين صحيحاً أم باطلاً، سوف تتخلى تدريجياً عن ثقافتها؛ لذا نلاحظ أن بعض مفكري أروبا يطالبون في الوقت الحاضر بإحياء الديانة المسيحية في الغرب؛ لأنهم توصلوا إلى هذه الحقيقة، وهي إن إلغاء الديانة المسيحية عند الغربيين جعل الثقافة الغربية تفقد عنصراً مهماً من عناصر بقائها ومقوماتها، وسيعرض الثقافة الغربية الأوربية إلى الخطر، حيث يركزون على غزو الثقافات الأخرى، لاسيما ثقافة المسلمين؛ فللثقافة الإسلامية حالة الوثبة والغزو - حسب تعبيرهم - وعليه فهم يحرصون على إحياء التراث المسيحي؛ لأن أروبا تحولت إلى مجتمع ملحد بشكل عام، وإذا كانت هناك تسمية تشير لهم ب- (المسحيين) فإنها مجرد تسمية، وأما الواقع فهو يؤكد على أنهم، أو كثيراً منهم، قد تخلوا عن النصرانية بشكل كبير جداً، بحيث إن أحد القساوسة البريطانيين عبّر عن ذلك قائلاً: إن أوربا لم تعد قارة مسيحية وإنما تحولت إلى قارة ملحدة.

إن الثقافة الإسلامية ثقافة قوية، بحيث إذا لم توضع أمامها موانع فسوف تتوسع؛ لأنها ذات قابلية كبيرة على الانتشار، ولو أننا تفحصنا التاريخ جيداً فسوف نجد أن الأمم التي دخلت الإسلام لم يكن دخولها بالسيف، والدليل على ذلك: أن هناك أقليات دينية من اليهود والنصارى وغيرهم تعيش في بلاد الإسلام منذ الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا، وإنها لم تتعرض للإبادة أو الإجبار على ترك المعتقد على مدى هذا التاريخ الطويل، وحينما تحوّل الآخرون إلى الإسلام فقد حدث هذا بسبب قوة مبادئ الإسلام وتعاليمه، فحتى الذين غزوا البلاد

ص: 86

الإسلامية - كالمغول - تحوّلوا إلى الإسلام مع أنهم كانوا غزاة، وكانوا قاهرين عسكرياً، لكن نظراً إلى أن ثقافة المغلوبين - أي المسلمين - كانت أقوى منهم فقد تغلبت عليهم؛ لذا تحولوا تدريجياً إلى الإسلام، الذي انتشر في مناطق لم تفتح عسكرياً، ولعل كثيراً من المسلمين في العالم يعيشون الآن في مناطق لم تفتح بالسيف، وإنما تحول أهلها إلى الإسلام تدريجياً وعن قناعة تامة.

أن من أهداف العولمة في البلدان الإسلامية، هو محاولة سلخ المسلمين عن الإسلام؛ لأن تحقيق هذا الهدف يؤدي إلى فقدانهم لهويتهم، وبالتالي يفقدون ثقافتهم الإسلامية، ويصبحون كالجسم الذي يفقد مناعته، فيكون معرضاً لمختلف الجراثيم والأمراض.

لقد جربوا مختلف الوسائل العسكرية، بما فيها القسر والإرهاب، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب قوة الثقافة الإسلامية، ومن المحاولات التي تجري الآن لسلخ المسلمين عن دينهم وإسلامهم، هي: الإكثار من الشبهات حول وجود اللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول القرآن الكريم والإسلام والأئمة(عليهم السلام) والمعتقدات؛ وذلك من خلال خلق البهرجة وصنع الانبهار بالثقافات الأخرى، فإذا انسلخ المسلم عن دينه فَقَدَ ركناً من أًركان ثقافته الإسلامية، وتعرض إلى حالة فقدان المناعة ضد الثقافات الأخرى.

ص: 87

(14) شمولية الثقافة الإسلامية لجميع مناحي الحياة

إن للإنسان حالات مختلفة، فردية واجتماعية وسياسية وغيرها، وقد توجد في كل وقت ومكان حالة معينة، وقد يُبتلى بأمور مختلفة، والثقافة الإسلامية منبسطة على كل مناحي الحياة، من المهد إلى اللحد، فهي تشمل كل جوانب حياة الإنسان، قبل ولادته وإلى ما بعد الوفاة، فهناك نظام متكامل لكل شيء، إما بشكل جزئي أو بشكل كلي وعام.

عندما نصّب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للخلافة من بعده في يوم الغدير، ألقى خطبة ومما جاء في هذه الخطبة قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حلّه، فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلا بطاعته»(1). وفي حديث آخر:

ص: 88


1- الكافي 2: 74.

إن رسول اللّه بيّن حتى (أرش الخدش)(1)، أي: إنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيّن حتى الجزئيات.

ففي الإسلام لكل شيء نظام وحكم وبيان، بشكل خاص أو عام، فلم يترك الإسلام مجالاً لدخول عادات غير سليمة في ثقافة الإنسان، وإذا دخلت هكذا عادات فالإنسان المتدين يكتشف فسادها، وأنها تعارض الإسلام والقرآن الكريم.

لكن - ومع الأسف - نشاهد أن بعض المجتمعات الإسلامية تتبع عادات سيئة، علماً أن الأكثرية - إن لم نقل الجميع - تعلم أن هذه العادات تعارض الإسلام.

وإذا انضم العلم بتعارض هذه العادات مع الإسلام، مع العمل والتبليغ للثقافة الصحيحة والأصيلة فيمكن إزالة هذه العادات، وقد شاهدنا عادات سيئة في بعض البلدان لكن بالوعظ والإرشاد تمَّ إصلاح الأمر ولو بشكل جزئي؛ لأن قابلية الإصلاح موجودة في النفوس.

وبما أن للثقافة حالة التمدد والانتشار، فإننا نجد أن الثقافة الإسلامية تتميز عن غيرها في أنها تسخر كل السبل والأساليب المشروعة لانتشارها، بينما نلاحظ أن الثقافات الأخرى تتبع أساليب غير سليمة، وغير مشروعة للانتشار والتمدد، وهذا حال معظم ثقافات الشعوب في العالم، والسبب في ذلك أنها في كثير من مفرداتها تخالف الفطرة الإنسانية؛ ولأنها كذلك فهي تُواجه بالرفض من الشعوب الأخرى، فيكون نشرها بحاجة إلى أساليب غير سليمة وغير صحيحة، لكي تتمدد في المجتمعات بشكل قسري، بينما الإسلام يرفض بشدة هذا المنهج، ولذا قالوا: «لا يطاع اللّه من حيث يعصى»، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى طاعة اللّه

ص: 89


1- بصائر الدرجات: 143، وفيه: عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن عندنا لصحيفة سبعين ذراعاً إملاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخط علي(عليه السلام) بيده، ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها حتى أرش الخدش».

عز وجل من خلال معصيته.

إن البعض يقول: إننا من خلال المعصية نصل إلى الطاعة...! وهذا مثل ذلك الذي كان يسرق الخبز والرمان ثم يتصدق به على الفقراء، ويتصور أنه بهذا الفعل يتقرب إلى اللّه، فرده الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1)(2).

فالإنسان غير الورع وغير المتقي حتى إذا نوى القربة فلن يكون عمله مقرباً لله؛ ولذا يرفض الإسلام مقولة: (الغاية تبرر الوسيلة) بشكل نهائي ومطلق. إذن، يجب أن تكون الغاية سليمة وصحيحة، كما تكون الوسيلة إلى تلك الغاية صحيحة وسليمة أيضاً.

بعد مقتل عمر واجتماع (أهل الشورى) في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال عبد الرحمن بن عوف للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فقال له(عليه السلام): بل على كتاب اللّه وسنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واجتهاد رأيي(3).

ص: 90


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- معاني الأخبار: 33-35.
3- بحار الأنوار 31: 399، وفيه: «... فقال عبد الرحمن: أشهدكم أني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما، فأمسكا، فبدأ بعلي(عليه السلام)، فقال له: أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب اللّه وسنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي(عليه السلام) فأعاد قوله، فعل عبد الرحمن ذلك ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله، وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال علي(عليه السلام): واللّه ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق اللّه بينكما عطر منشم. قالوا: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن، فلم يكلم أحدهما الآخر حتى مات عبد الرحمن».

إن سنة الشيخين ليست من مصادر التشريع في الإسلام، فلذلك رفض الإمام علي(عليه السلام) البيعة على ذلك ولم يكذب لأجل الوصول إلى السلطة لأن الغاية لا تبرر الوسيلة عنده إطلاقاً.

وقد تكرر الموقف المبدئي بعد مقتل عثمان، فعندما بايع الناس أمير المؤمنين(عليه السلام) للخلافة أراد(عليه السلام) عزل معاوية، فأشار عليه بعض أصحابه بإبقاء معاوية، لأنه(عليه السلام) في الأيام الأولى في الحكم، ولن يقبل معاوية أمر العزل، لكن بعد فترة وحين تقوى قواعد السلطة يمكن عزله، فرفض الإمام(عليه السلام) هذا الاقتراح، لأنه لا يريد أن يمضي الأعمال التي كان يرتكبها معاوية، ولا يريد إعطاء الشرعية لتلك الأعمال، وإن أدى هذا إلى بغي معاوية(1).

وكذلك الحال بالنسبة للعطاء، فقد كان الإمام(عليه السلام) يساوي في العطاء، فاعترضوا عليه، وقالوا: إنك بهذه الطريقة تفقد كبار القوم والشخصيات المرموقة في المجتمع، وهؤلاء سيلتحقون بمعاوية لأنه يشتريهم بأمواله الطائلة، فبدل أن يشتريهم معاوية اشترهم أنت...! فرض(عليه السلام) ذلك بشدة، فمن كلام له(عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، واللّه ما أطور به ما سمر سمير(2)، وما أم نجم في السماء نجماً(3)، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال اللّه؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في

ص: 91


1- راجع الفصول المهمة في معرفة الأئمة 1: 358.
2- ما أطور به من طار يطور: حام حول الشيء، أي: ما أمر به ولا أقار به مبالغة في الابتعاد عن العمل بما يقولون. وما سمر سمير: أي مدى الدهر.
3- أي: ما قصد نجم نجماً.

الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند اللّه، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه اللّه شكرهم، وكان لغيره ودهم، فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشر خدين(1)، وألام خليل»(2).

وكان(عليه السلام) يكره الغدر، ويبين أنه قادر على الدهاء لولا أنه يؤدي للفجور، قال(عليه السلام): «واللّه ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، واللّه ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة(3)»(4).

فأمير المؤمنين(عليه السلام) لا يريد أن ينتصر سياسياً على حساب عقيدته ومبدئه، فالبعض لا يعلم سر أعماله(عليه السلام)؛ لذا يقول: لماذا لم يداهن الإمام(عليه السلام)، أو يعمل بعض الأمور ليتمكن من القضاء على أعدائه، كما فعل معاوية ووصل إلى ما كان يريد؟

إن الذي يفكر بهذه الطريقة يريد أن يكون علياً(عليه السلام) مثل معاوية، كما أن بعض الناس يحبونه ويترضّون عليه؛ لأنهم يحبون أعماله، وأما مَن يحب علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإنما لمُثله والتزامه بمرضاة اللّه تعالى؛ ولأنه لم يكن يطلب النصر

ص: 92


1- أي: صديق.
2- بحار الأنوار 32: 48.
3- لا أستغمز مبني للمجهول، أي: لا أستضعف بالقوة الشديدة، والمعنى لا يستضعفني شديد القوة. والغمز: محركة، الرجل الضعيف.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 200.

بالجور، ولو كان كذلك لكان مثل معاوية، وحاشاه من ذلك، وهذا حال الدنيا، فكثير من السلاطين يتصارعون على السلطة ويلجأون لمختلف الأساليب غير المشروعة، فينتصر أحدهم على الآخر، ولكن الذين يتبعون هذا المنهج يذهبون إلى مزبلة التاريخ، بقطع النظر عن عذاب الآخرة.

والحاصل: إن الثقافة الإسلامية الأصيلة تستفيد من كل السبل المشروعة للتمدد والانتشار، كما تستثمر حالات الطوارئ التي تعيد الإنسان إلى فطرته؛ لأن الإنسان ينقطع عن التعلّقات المادية، ويتصل باللّه تعالى، فتستثمر هذه الحالة الطارئة للتمدد استثماراً سليماً وصحيحاً؛ لذا نجد أن للثقافة الإسلامية حضوراً قوياً جداً وفاعلاً في حالات الطوارئ؛ لأن المشرّع هو اللّه سبحانه وتعالى ورسوله، ورفقاً بالعباد جعل لهذه الثقافة قابلية التمدد في الحالات الحرجة، التي يكون الإنسان فيها بأمس الحاجة إليها، فتبرز نفسها بكل قوة وفعالية، ولكن بالطرق المشروعة.

ص: 93

(15) البعد الأخلاقي في الثقافة الإسلامية

إن معالم الثقافة الإسلامية هي أنها تسخر جميع السبل المشروعة للتمكن من الثبات في النفوس، وتترك السبل غير المشروعة، حيث لا يوجد في الإسلام (قانون الغاية تبرر الوسيلة)، وإنما يجب أن تكون الوسيلة مشروعة لتحقيق الغاية المشروعة، فحينما نأتي إلى القيم الإسلامية والعادات التي أرساها الإسلام، نجد أنه حاول أن يستفيد من جميع السبل، شرط كونها مشروعة؛ لأنه لا يعقل نشر إحدى القيم عبر القضاء على قيمة أخرى، فلا يمكن أن ننشر العدل بالجور مثلاً. فلا يمكن أن ننشر العدل في المجتمع عبر ظلمنا لبعض الأفراد، بينما نجد أن بعض الثقافات لا تسخر جميع السبل المشروعة، والبعض الآخر منها يسخر سبلاً غير مشروعة، وأما الإسلام فهو يتيح لنا جميع السبل، ولكن بشرط أن تكون مشروعة، مثلاً: هناك حالات طوارئ كالزلزال، وفي هذه الحالة - وهي طارئة - نجد أن الإسلام يستثمر هذه الحالة للتذكير باللّه عز وجل، وربط الناس به سبحانه وبالقيم التي أرادها عبر صلاة الآيات، وعبر الدعاء، والتوجه لله عز وجل، والتضرع إليه، ففي مثل هذا الوقت لا يترك الإسلام الإنسان وحده، وإنما يبين له واجبات ومستحبات، أو يحرم عليه شيئاً، أو يكره له شيئاً، ليكون على ارتباط دائم ومستمر باللّه تعالى.

ص: 94

فإن من معالم الثقافة الإسلامية هو ارتباطها بجميع تفاصيل الحياة؛ ولذا حينما نراجع أية قضية من القضايا نجد فيها حكماً شرعياً، إما واجباً أو مستحباً أو حراماً أو مكروهاً، حيث يتم توظيف جميع السبل لترسيخ الثقافة في النفوس.

ومن المعالم الأخرى للثقافة الإسلامية هو أنها تشبع الحاجات المعنوية والنفسية للإنسان؛ لأن الإنسان جسد وروح، والجسد بحاجة إلى الطعام، فإذا لم يجد الإنسان طعاماً سليماً فإنه يأكل طعاماً غير صحي؟ وإذا كان في صحراء وكان عطشاناً ووجد ماءً، فحتى لو كان ذلك الماء غير صالح للشرب، إلا أنه سوف يشربه ليروي عطشه، هذا بالنسبة إلى الجسم.

وأما بالنسبة لروح الإنسان، فهناك كثير من الثقافات لا تلبي الحاجة النفسية والروحية للإنسان، فقد نجد أن بعض الثقافات متطورة تطوراً مادياً، لكن الشعوب التي تحمل هذه الثقافات تنتشر فيها الأمراض النفسية.

وأما الثقافة الإسلامية فمن ميزاتها أنها تشبع الجانب الروحي للإنسان؛ لأن المصدر الرباني لهذه الثقافة زودها بالحقائق والمعارف الأساسية التي يحتاجها الإنسان، فاللّه تعالى خالق الإنسان، ويعلم بتفاصيله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد لذا فهو يعلم بحاجاته المعنوية، وحتى أصغر حاجة، وقد لبّى هذه الحاجة عبر مجموعة من التشريعات.

إن الثقافة الإسلامية اكتسبت قداسة لأنها ارتبطت بمنظومة دينية، فإذا فعل الإنسان بعض هذه القيم فسوف يُثاب عليه، ويعاقَب على تركه أو يُعرَّض للمساءلة، وقد جعل اللّه عز وجل هذه القداسة لمفردات هذه الثقافة لكي يحفز الإنسان بقوة على ممارستها بشكل عملي، فكل الشعوب لها قيم، لكنها تفتقر للدافع القوي، بحيث إن الإنسان يفكر ماذا سيكسب إذا فعل هذه القيمة؟ وبماذا

ص: 95

سيتضرر لو خالفها؟

وهذا قد يحدث حتى في جانب العبادات، فقد يعبد الناس اللّه عز وجل طمعاً في الجنة أو خوفاً من النار، ولا بأس بذلك، إلا أن الدرجة الكاملة الرفيعة للعبادة هي أن يعبد الناس ربهم عز وجل لأنه أهل لأن يُعبد.

فالقيمة حينما تكتسب هذا الجانب من القداسة تكون حافزاً للإنسان، وعليه أن يحولها إلى سلوك عملي في حياته.

نعم، توجد هناك مشكلة في المسلمين، وليست في الثقافة الإسلامية، وهي تتمثل بعدم وجود الوعي الديني، وهذا ما يؤدي إلى المخالفة.

وقد ذكرنا أن القداسة إنما هي للقيم الدينية وليست لأراء الناس، فالقيمة الإسلامية المجردة يجب أن تكتسب القداسة، ونفس هذه القداسة تفرض على الإنسان أن يلتزم بها.

إن الثقافة الإسلامية مرتبطة بمنظومة أخلاقية متكاملة، حينما نلاحظ نصوص القرآن الكريم، وكلام المعصومين(عليهم السلام) ونأتي إلى سيرتهم وممارساتهم العملية نجد أن الأخلاق السامية الإنسانية حاضرة في كل نص من تلك النصوص، وفي كل قضية من القضايا، وهذا ما نلاحظه في الجانب الأخلاقي في حروب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع الكفار والمشركين، وكذلك في الحروب التي اضطر أمير المؤمنين(عليه السلام) لخوضها، حيث نجد الجانب الأخلاقي بارزاً بوضوح. فحينما نرجع إلى القرآن الكريم نجد تحفيزاً على هذه المنظومة الأخلاقية.

نلاحظ أن من الأمور التي ساعدت المسلمين في الفتوحات الإسلامية الأولى هو أن شعوب تلك البلدان كانت تستقبلهم؛ لأنها رأت من المسلمين التعامل الأخلاقي، حتى وهم في حالة الحرب، وحينما اندلعت الحرب بين الفرس

ص: 96

والمسلمين كان من أسباب انكسار الفرس هو أن الجيش والشعب الفارسي نفسه استقبل المسلمين؛ لأن الثقافة المجوسية كانت تميّز بين الأمير والوزير وبين عامة الناس، وكان نظامهم طبقياً، وحينما رأوا أن الإسلام يلغي النظام الطبقي، وأن أصغر فلاح يتساوى مع أكبر ملك في النظام القانوني في الإسلام تقبلوا الإسلام برحابة صدر.

ص: 97

(16) قدسية الثقافة الإسلامية في قوتها الكبيرة

إن التطور والتطوير أمر مطلوب، وحتى لو كان الأمر ينطوي على تكرار فهو لا يضر؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الطعام لتغذية جسمه في كل يوم، ويحتاج أيضاً إلى طعام لروحهِ ونفسه، وإذا كان طعام الجسم مكرراً في كل يوم - كأن يأكل الخبز في كل يوم - فلا إشكال فيه، فإن حاجته الجسدية للطعام مستمرة، كذلك الحال إذا سمع أو مارس العمل الديني بصورة مكررة، فالجسد يحتاج إلى بعض العناصر، وهذه بدورها تحتاج إلى بعض الأغذية، فإذا حدث خلل أو نقص في أحد هذه العناصر فسوف يظهر ذلك على جسم الإنسان، كالضعف أو الإصابة بالمرض، وهذه الأمور التي يحتاجها جسم الإنسان هي عبارة عن عدة عناصر متوفرة في بعض الأطعمة، كذلك الحال مع حاجة الإنسان المعنوية، فهو بحاجة إلى جملة من الأمور متوفرة في العبادات والأدعية والممارسات الدينية، وإن كانت مكررة.

بل يستحب للإنسان أن يكون دائم الذكر، بمعنى أن يلهج بذكر اللّه سبحانه وتعالى دائماً؛ لذا يكون الذكر مكرراً في كثير من الأحيان، فإذا كرر الإنسان كلمة (لا اله إلا اللّه) أو (سبحان اللّه) أو (الحمد لله) عشرات، أو مئات المرات في اليوم الواحد فلا مانع من ذلك، بل سيحصل على الثواب الدنيوي وهو اطمئنان

ص: 98

القلوب، وعلى الثواب الأخروي وهو الجنان، والأعظم من ذلك هو الحصول على مرضاة اللّه سبحانه وتعالى، إضافةً إلى فوائد أخرى.

إن الثقافة الإسلامية - بعباداتها وأدعيتها والتزاماتها - تلبي جميع الحاجات المعنوية، فإذا كان جسم الإنسان بحاجة لبعض العناصر المحددة، فإن روحه تحتاج أيضاً لبعض العناصر المحددة، وقد يحتاج جسم الإنسان في بعض الحالات إلى عنصر معين أكثر من أي وقت آخر، لذا ينصحه الأطباء باستعمال الأطعمة التي تحتوي على المادة المطلوبة، كذلك يحتاج في بعض الحالات إلى ضخ معنوي أكثر، فهناك بعض العبادات وغيرها تزيد من الحالة المعنوية في الإنسان.

مثلاً يجب الصوم مرة في السنة، وذلك في شهر رمضان المبارك، وهناك فوائد للصوم، فبالإضافة إلى فوائده المادية الجسمية، وفوائده الاجتماعية، وتقويته لإرادة الإنسان، فإنه يلبي الحالة المعنوية للإنسان أيضاً، ويضخ فيه المعنويات، بحيث يلتفت الإنسان أكثر إلى اللّه سبحانه وتعالى في شهر رمضان المبارك، وإلى العبادات، وإلى الفقراء والمساكين، وإلى عمل الخير، ويمتنع عن بعض الملذات في نهار شهر رمضان؛ ولذا من أسباب قوة المسلمين هو شهر رمضان المبارك، فقد نقل: إن الكثير من غير المسلمين منبهرين، بهذا الشهر العظيم وبصيام المسلمين فيه.

كذلك نلاحظ الشيء نفسه في عشرة عاشوراء، حيث يكون هناك ضخ معنوي وفكري وعاطفي كبير، يشمل مختلف الاتجاهات الدينية التي تلبي حاجة الإنسان المعنوية.

وكذلك الحال في إقامة الكثير من البرامج الدينية والشعائر، ولا نريد أن

ص: 99

نفصّل في الجزئيات، ولكن نريد أن نشير إلى هذه النقطة، وهي تتعلق بالطقوس الدينية التي أمرنا بها الإسلام، والتي كوّنت للمسلمين ثقافة إسلامية تلبي الحاجة المعنوية للإنسان بالتمام والكمال، وقد يكون هناك خلل لدى بعض المسلمين، وهذا الخلل ليس ناشئاً من الثقافة الإسلامية، بل هو ناشئ من الابتعاد عن الثقافة الإسلامية، أو بسبب الجهل في بعض المفردات، أو ناشئ من سوء التعامل، وسوء في تطبيق هذه الشعائر الدينية.

إن الثقافة الإسلامية اكتسبت قدسية لارتباطها بالواجبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات، فبنية الثقافة الإسلامية تتكون من عدة أمور قد تكون واجبة، حيث يعلم الإنسان المسلم بوجوبها، ويعلم بأنه لو أدى ذلك الواجب بشكلٍ صحيح فإن اللّه عز وجل يعوضهُ بالثواب، وكذلك هناك بعض المحرمات، حيث يعلم المسلم بأن اللّه عز وجل حرّمها، ويغضب على من ارتكبها، وهذه توجب استحقاق العذاب، وهناك أيضاً بعض الأمور المستحبة، والمكروهة وإن لم تكن واجبة أو محرمة، فكل هذه المفردات هي التي تشكل الثقافة الإسلامية؛ لأنها ارتبطت بالواجبات والمحرمات والأحكام الشرعية، وقد اكتسبت قدسية، وحينما يكون الشيء مفعماً بالقدسية فإنه يضمن التزام الإنسان بصورة أكبر، وبالمقابل يكون تحصيله للفوائد أعظم، واحتمال تركه لها أقل.

في حين أننا عندما نلاحظ الثقافات الأخرى نجد أنها تفتقد للطقوس أو الممارسات، وليست لها قدسية لدى أصحابها، وإذا سنحت لهم أقل فرصة فسوف يتخلون عنها.

وأما في الدول الأخرى - حتى المتطورة منها صناعياً أو سياسياً - فلا يوجد أي نوع من القدسية لما يعتقدون به من ثقافات، أو ما يمارسونه من طقوس؛ لذا

ص: 100

يتخلون عن ثقافتهم في حالة حدوث أي خلل، قبل فترة حدثت عاصفة في بعض الولايات الأمريكية، وتسببت بتدمير بعض السدود الترابية، التي كانت تمنع ماء المحيط من الوصول إلى المدن، انهارت السدود وحدث السيل، نلاحظ حدوث الجرائم بكثرة، كالسرقة والاغتصاب وجرائم القتل وغير ذلك، كما نقل إعلامهم، وقد ورد في تقرير كتبه كاتب منهم - وليس كاتباً مسلماً يتهمهم جزافاً - يقول فيه: لم يتمكن الجيش أو الشرطة من القيام بدورهم بسبب العاصفة وإعلان حالة الطوارئ التي حدثت، فالنتيجة أن الناس وجدوا فسحة للقيام بما يشاءون، فمن كان يريد أن يسرق فعل ذلك، ومن كان يريد الاغتصاب فعل ذلك، ومن كان يريد القتل فعل أيضاً، فازدادت الجرائم بشكل رهيب وبشع.

صحيح أن هناك تطوراً صناعياً ورفاهية، وهناك ثقافة ترفض السرقة والاغتصاب، وتعده أمراً بغيضاً، لكنها لم ترتبط بالمنبع الإلهي؛ لذا فليس لها قدسية، وإنما هي مجرد عادات يعملون بها، فإذا حصل الناس على فرصة في حالات الطوارئ يتخلون عنها.

إن المسلمين يعلمون أن رقيباً عليهم وهو اللّه سبحانه وتعالى، فحتى في حالة غياب الرقيب المادي فهم يعلمون ويؤمنون بأن العمل القبيح يبغضه اللّه سبحانه وتعالى، وأنه تعالى يراهم ويعلم بطبيعة عملهم، فإذا كان صحيحاً فهو يرضي اللّه تعالى؛ لذا نلاحظ قلة الجريمة لدى المسلمين حتى الآن مع ضعفهم.

نعم، هناك مشكلة مصدرها المسلمون وليس الثقافة الإسلامية، وهي قلة الوعي الديني في بعض بلاد المسلمين، وهذا يؤدي إلى الجهل لدى الكثير من قطاعات الناس؛ لذا نلاحظ انتشار الجرائم في بعض البلدان الإسلامية، وإن لم

ص: 101

تصل نسبتها وحجمها لمقدار الجرائم في البلدان غير المسلمة، ولكن يبقى سببها هو الابتعاد عن الثقافة الدينية، وعدم الوعي وقلة المعرفة بمسائل الدين.

إن الكثير من المسلمين يعيشون الآن في حالة جهل بسبب الأنظمة الدكتاتورية في بلدانهم، حيث توجد قلّة في التبليغ، وبسبب التبليغ المضاد يعيش الكثير منهم في الجهل الديني أو الأمية؛ لذا فانتشار الجريمة يكون بسبب الأمية والابتعاد عن الثقافة الدينية، يقول اللّه عز وجل في كتابهِ الحكيم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1)، وليس المقصود من العلماء في هذه الآية رجال الدين الكبار مثلاً، كلا! بل أي إنسان يعلم بالأحكام الشرعية وآثار الطاعة والمعصية يكون عالماً، فمن يعلم بآثار العمل يخشى اللّه سبحانه وتعالى، ويخاف عقابه ويرجو ثوابه.

وبناءً على ذلك، فإن ارتباط الثقافة الإسلامية بالدين، واكتسابها للقدسية أدى إلى قوة ارتباط المسلمين والتزامهم بها، حتى لو لم يكن هناك عامل خارجي يجبرهم على الالتزام بها، بل حتى لو كان هناك عامل مضاد يدعوهم إلى تركها، لكنهم مع كل هذا يتمسكون بها تمسكاً أكبر، وتعد هذه النقطة بالنسبة للثقافة الإسلامية نقطة قوة في حين أن القداسة في الثقافات غير الإسلامية تتحول إلى نقطة ضعف؛ لأنها ثقافات بشرية؛ ولأن احتمال الخطأ فيها كبير جداً، فإذا كان الأمر صحيحاً وكان مقدساً فهذه نقطة قوة فيه؛ ولكن الأمر الذي يحتمل فيه الخطأ إذا اكتسب القداسة لدى بعض الناس فهذا يكون نقطة ضعف؛ لأن هذا الأمر قد يكون خاطئا،ً وتؤدي القداسة فيه إلى عدم إمكانية تصحيحه، أو عدم

ص: 102


1- سورة فاطر، الآية: 28.

إمكانية نقده.

ثم إن سبب قوة الثقافة الإسلامية هو أنها اكتسبت القداسة بسبب منابعها الربانية، الذي يمثله كتاب اللّه سبحانه وتعالى، وسنة رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام) الذين ساروا على أثر القرآن والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 103

ص: 104

الفصل الرابع: الخطاب الثقافي الناجح

اشارة

ص: 105

ص: 106

(17) دور الإقناع في التضحية من أجل المبادئ الإسلامية

اشارة

لكي يكون الخطاب الإسلامي الثقافي خطاباً ناجحاً ينفذ إلى القلوب والعقول ويستطيع أن يغيرها، ينبغي أن نشخص هدف الخطاب، وعلى ضوء تشخيص الهدف وتعيينه نسير بالأساليب المناسبة الصحيحة للوصول إلى ذلك الهدف.

هل الهدف من الخطاب الثقافي الإسلامي هو إذلال الآخرين وإسقاطهم أو استفزازهم أم الهدف هو هدايتهم؟

فحينما نتكلم مع شخص يخالفنا أو يعادينا، فقد نتكلم معه مرة بلهجة استفزازية، لكي يُظهر بدوره الحالة العدوانية ضدنا، ومرة يكون قصدنا إذلاله وإسقاطه، لكن هذين الأسلوبين مرفوضان، فالغرض من الخطاب الثقافي الإسلامي ليس إسقاط الآخرين أو إذلالهم أو استفزازهم، وإنما الغرض هدايتهم بالدرجة الأولى، بمعنى أن هناك حقائق نريد أن نوصلها إلى الناس، حتى لو كانوا أعداء أو مخالفين.

فإذا كان هدفنا هو إيصال هذه الحقائق فينبغي أن يكون خطابنا في طريق هذا الهدف؛ لأن الإنسان ينبغي أن تكون وسائله منسجمة مع الهدف الذي يحمله، وإلا فسوف لا يصل لغايته.

حينما نراجع القرآن الكريم أو كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو كلام الأئمة(عليهم السلام)

ص: 107

نجد أن هدف الخطاب هو هداية الناس، حتى في أشد الحالات عداءً من الطرف المقابل، كأن يكون في حالة قتال معه؛ لأن الإنسان يمكن أن يهتدي حتى لو كان عدواً أو معانداً.

نعم قد لا يؤثر الخطاب في الطرف المقابل الذي يراد هدايته، فبعض المعاندين لا يؤثر فيهم الخطاب، ولا تؤثر فيهم أية آية؛ لأنهم أغلقوا قلوبهم وعقولهم وعاندوا الحق، ومع ذلك يلزم أن نخاطبهم من أجل إكمال الحجة وإتمامها أمام اللّه عز وجل والمعذرة إليه تعالى، إضافة إلى أن الكلمة والخطاب يجب أن لا نلاحظ فيهما الزمان الخاص الذي نعيش فيه، أو الشخص الخاص الذي نخاطبه، بل يجب أن يكون الخطاب مخترقاً للزمان والمكان، فقد نعلم أن هذا الشخص معاند، ولكن الخطاب إذا كان صحيحاً فسيخترق الزمان والمكان، ويصل إلى آخرين قد يهتدون به.

لو رجعنا إلى سيرة الإمام الحسين(عليه السلام) في عاشوراء، وطريقة خطابه للأعداء، الذين جاءوا لقتاله لوجدنا أن بعض الناس يتسائل عن صحة الكلام الوارد في تلك السيرة، حيث يقول: إن الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بعدائهم، وقد أغلق هؤلاء عقولهم بوجه الحق، وجاءوا لقتاله عناداً، فلماذا يتكلم الإمام معهم بهذا الكلام؟ في حين لو أننا ننظر إلى هذه الكلمات، وهذا الخطاب من هذه الزاوية لوجدنا أنه كلام صحيح وفي موقعه، ولا شك في نسبته للإمام الحسين(عليه السلام).

مثلاً: يقول البعض: كيف طلب الإمام الحسين(عليه السلام) الماء منهم، أو طلبه لولده الرضيع؟

والجواب: أن كلامه(عليه السلام) قد لا يؤثر فيهم جميعاً، إلا أنه أثرّ في بعضهم،حيث انحاز عدد منهم إلى جيش الإمام(عليه السلام)، وتركوا جيش يزيد، وهم كثيرون

ص: 108

ولم يكن الحر بن يزيد الرياحي فقط، بل تذكر كتب التاريخ أن ثلاثين شخصاً تركوا جيش النفاق والكفر، والتحقوا بجيش الإيمان مع الإمام الحسين(عليه السلام)، كما أن كلامه(عليه السلام) اخترق الزمان والمكان، وبقي مؤثراً في الناس وسيظل تأثيره باقياً حتى يوم القيامة، كمشعل وهاجٍ لهداية للناس.

وحينما نخاطب المعارضين والأعداء لا بد أن يكون خطابنا للهداية، لا للاستفزاز والتحقير، كذلك لا بد أن تتوفر في خطاب الهداية أساسيات ليكون مؤثراً في الناس، ومن هذه الأساسيات أن ينطوي على الجانب الإقناعي؛ لأن الإنسان إذا اقتنع بالشيء فيمكن أن يعمل به مهما كانت الظروف صعبة، وأما إذا لم يقتنع به فحتى لو كانت الظروف سهلة ومواتية له فقد لا يعمل به.

فجانب الإقناع في الخطاب مهم جداً؛ لذلك نجد أن القرآن الكريم عندما يذكر قسماً من الأحكام - كالواجبات أو المحرمات - يذكر حكمة التشريع، فالصلاة واجبة لأن فيها ذكر اللّه، {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(1)، والصوم واجب لأنه يؤدي لتقوى اللّه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2)، والحج واجب لما فيه من منافع: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(3)، وحرّم الخمر والقمار لما فيهما من العداوة والبغضاء: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُأَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ

ص: 109


1- سورة طه، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 183.
3- سورة الحج، الآية: 27-28.

اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(1)، وهكذا فأي واجب أو محرم يُذكر القرآن الكريم تُذكر الحكمة في تشريعه، وكذلك الحال في كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام).

فعلينا أن نلتزم بذلك، فعندما يسأل أحد الناس لماذا يُعتبر الحجاب واجباً؟ أو لماذا حُرّم الزنا أو الخمر؟ ولماذا تكون الصلاة واجبة؟ فقد يجاب عن ذلك بأن هذا أمر اللّه عز وجل، طبعاً هذا يكفي، ولا نقاش فيه، فإن على العبد أن يطيع كلام اللّه عز وجل، وكلام الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، ولكن نفوس الناس ليست بهذا المستوى من القمة في الوعي والإيمان لكي يفعلوا ذلك بمجرد أن يعلموا أن هذا الكلام لله عز وجل، أو يتركوا المحرم لأن اللّه تعالى نهى عنه، بل وأكثر الناس يحتاجون إلى جانب الإقناع، وهو متمثل بذكر العلل من الأحكام.

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل الأحكام الشرعية لوجود مصالح أو مفاسد معينة، فإذا كان في الشيء مصلحة ملزمة فيكون واجباً، وإذا كانت المصلحة غير ملزمة فيكون مستحباً، وإذا كان في مفسدة غير ملزمة وقليلة فيكون مكروهاً، وإذا كانت المفسدة كثيرة وملزمة فهو محرم، فاللّه عز وجل لم ينشئ حكماً اعتباطاً، وإنما لمصلحة أو مفسدة في ذلك الشيء، فإذا التفت الإنسان إلى هذا الجانب فسوف يكون العمل سهلاً بالنسبة له.

إن الإنسان إذا كان مقتنعاً بمبدأ معين فهو مستعد لأن يضحي بنفسه من أجله، معأن النفس هي أغلى شيء لدى الإنسان، بل إذا أحب الإنسان شيئاً فإنما يحبه عادة

ص: 110


1- سورة المائدة، الآية: 91.

لأنه يحب نفسه، فإذا كان يحب ابنه أو أباه أو مجتمعه فلأنه مرتبط بذلك الابن أو الأب أو المجتمع، ولأنه يحب نفسه فهو يحب كل ما يتعلق بها، ومع ذلك نجد أن الإنسان مستعد لأن يضحي بنفسه من أجل هدفه لأنه مقتنع به.

لذا يجب أن يكون خطابنا مقنعاً. فيجب أن نذكر حكم اللّه عز وجل، ولكن ينبغي أن نذكر الغرض والسبب منه؛ لأنه سيؤدي لإقناع الطرف المقابل، لكي يمارس الحكم أو الثقافة في سلوكه عملياً، ويتحمل الصعاب إزاء ذلك.

الأمور المؤثرة في الخطاب

اشارة

لا يمكن للخطاب أن يكون مؤثراً إلا عبر ثلاثة أمور: الأول: العلم، الثاني: التكنولوجيا أو التقنية، والثالث: وسائل الدعاية.

الأمر الأول: العلم

إن الإنسان الذي يكون مستواه العلمي هابطاً قد لا يفهم كثيراً من القيم، وأما الإنسان الذي يكون مستواه العلمي مرتفعاً فسوف يفهم القيم، وفهمه وعلمه يتيح له أن يستوعبها.

لذا فالناس أصحاب العلم والفهم تقبّلهم للإسلام أسرع من الجهلاء؛ لأن الإنسان إذا كان يتمتع بمستوى علمي جيد فإنه يتنبّه إلى نور الحق أسرع من غيره، وأما الإنسان الذي ليس له علم فسوف تكون التفاته أبطأ إلى هذا الأمر. يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

الأمر الثاني: التقنية

ومن أجل تعبيد الطريق أمام الخطاب الثقافي الإسلامي يجب الاستفادة من

ص: 111


1- سورة فاطر، الآية: 28.

مختلف وسائل التقنية أو التكنولوجيا الحديثة.

الأمر الثالث: وسائل الدعاية

وفيما يتعلق بوسائل الدعاية فيجب أن نستفيد منها، وقد يتم ذلك عن طريق الأفلام أو المسرح أو المنابر والقنوات الإذاعية والفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، فهذه وسائل يجب الاستفادة منها لتركز الخطاب الإسلامي في أذهان المجتمع.

وثمة نقطة أخرى أيضاً، وهي: إنه يجب علينا إحياء اللغة العربية، فهناك كلمات في القرآن الكريم استعملت في معنى، ولكن بالتدريج استعملت في معنى آخر، فيجب علينا أن نحاول استرجاع تلك المفاهيم لتلك الكلمات، فعندما تقرأ هذه الآية أو تلك الرواية للناس يكون استيعابهم لها سهلاً وسريعاً، لكي لا تكون هناك حاجة إلى تفسير وتبيين وترجمة، وربما يكون المعنى المترجم خاطئاً في كثير من الأحيان، أو ربما يكون التفسير خاطئاً؛ لذا يجب أن تتحول هذه الكلمات إلى أذهان الناس، لكي تتحول إلى كلامهم اليومي ويفهموها بسهولة، وحين يتسمعون للقرآن الكريم أو الرواية يفهمون معناها بسرعة.

فنحن بحاجة إلى أن يكون خطابنا صحيحاً وسليماً، ولابد أن نشخص هدف الخطاب، وأن يكون بهدف الهداية وليس للاستعلاء أو الاستفزاز، وأن نستفيد من الوسائل التقنية، وأن نضمّن خطابنا الإقناع.

ص: 112

(18) لغة الخطاب

اشارة

لو أردنا أن ندرس أسلوب الخطاب الإسلامي سنلاحظ أنه متميز وفريد من نوعه، وهو شامل وعام، ومن هنا سنذكر بعض النقاط التي ليست خاصة بالخطاب الإسلامي الثقافي، وإنما هي عامة نريد أن ننظر إليها من زاوية الخطاب الثقافي الإسلامي.

العلاقة بين اللفظ والمعنى

إن اللفظ قالب للمعنى، وأحدهما يؤثر في الآخر، فجمال المعنى يؤثر في جمال اللفظ، ويصح العكس أيضاً، مثال على ذلك: إذا لاحظنا كلمة (الورد) فهي جميلة لجمال المعنى الذي تعطيه، ولكن إذا ذكرنا (بنت وردان) تشمئز النفوس، لأنها حشرة مقززة حيث توجد في الأماكن القذرة، مع أن مادة (وردان) هي نفس مادة (الورد)، ولكن اللفظ جاء قبيحاً، والسبب أنها اكتسبت القبح من المعنى.

ومن الملاحظ أن الخطاب الإسلامي يراعي الجمال اللفظي بشكل عام؛ لأن المعاني السامية جميلة ومطابقة لفطرة الإنسان وتركيبته، فإذا أردنا إيصال هذه المعاني فينبغي أن يتم ذلك بخطاب جميل، لكي يعكس الجمال الذي ينطوي عليه المعنى.

ص: 113

وقد لا يكون الخطاب أحياناً خطاباً جيداً؛ لذا لا يعكس الصورة الواقعيةللمعنى، بل في بعض الأحيان يعكس صورة سلبية له، في حين أن بعض الألفاظ الجميلة للقيم القبيحة تغطي على قبحها أحياناً، بسبب جمال اللفظ الذي يغطي على قبح المعنى.

لذا نجد في عالم اليوم اهتماماً بالغاً في نقل القيم والثقافات للآخرين عبر أفضل وأجمل الأساليب الخطابية؛ ولأجل ذلك اكتسب الأدب والأدباء أهمية قصوى، فإذا أرادت بعض البلدان أن تنقل قيمهما وثقافاتها إلى الآخرين فهي تستعين بأفضل الأدباء، لكن - للأسف - لا يوجد اهتمام بالأدباء في كثير من بلداننا الإسلامية، بسبب عدم تنبّه المعنيين إلى هذه النقطة.

إن الخطاب الإسلامي جميل؛ فهو ينطوي على أفضل القيم بأجمل الألفاظ، والسبب في ذلك هو أن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يسهّل ويُيّسر تلك القيم، التي أراد أن يعمل الإنسان بها.

ومن هذا المنطلق فإن الأنبياء(عليهم السلام) بأجمعهم لم تكن في أبدانهم عاهة ولا نقص في أي عضو من أعضاء أجسادهم؛ لأن النبي والرسول بعث لكي يبين للناس قيم السماء، وبعض الناس عقولهم ضيقة، فإذا رأى إنساناً ذا عاهة فسوف ينفر منه، مع أن الإنسان العاقل والمؤمن يعلم أن من ابتلي جسده بنقص في عضو ما، أو نقص في قوة جسدية فهذا ابتلاء لذلك الإنسان، وأن مكانته وقيمته لا علاقة لها بذلك العضو الذي فقده، بل إن قيمته تكمن في إنسانيته، التي لا تتأثر بالنقص في أحد أعضائه أو قواه.

لقد أراد اللّه عز وجل أن تكون الحجة بالغة على جميع الخلق، لكي لا يحتج أحدهم ويقول: إنني نفرت من هذا النبي أو ذاك بسبب النقص الجسماني المتمثل

ص: 114

بفقدان أحد أعضائه، أو وجود خلل في إحدى قواه، كالسمع أو البصر؛ لذا خلقاللّه الأنبياء(عليهم السلام) بلا عاهة، لكي لا يحتج بها الكافر أو المنافق على اللّه سبحانه وتعالى؛ فكانت سيماء ومحيّا الأنبياء(عليهم السلام) من أجمل ما يكون، فعندما ينظر الإنسان إليهم يميل قلبه إليهم، ولا ينفر منهم؛ وذلك تسهيلاً للهداية وإتماماً للحجة.

إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل تعاليمه في القرآن الكريم بأجمل الألفاظ لطفاً بالعباد، وكذلك أحاديث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ونعني بها الأحاديث الصحيحة المنقولة حرفياً؛ لأنه قد تُنقل بالمعنى أحياناً؛ لذا حينما نراجع أحاديث الرسول الصحيحة، التي نقلت باللفظ نفسه نجد أنها وردت بكلام رائع، وهكذا أحاديث الأئمة(عليهم السلام)، فعندما نقرأ كتاب نهج البلاغة نجده قمة في البلاغة، حتى أن الشريف الرضي سمى هذا الكتاب ب (نهج البلاغة)، وإذا أراد الأدباء أن يطوروا بلاغتهم وأسلوبهم فما عليهم إلا أن يرجعوا إلى نهج البلاغة.

وما ذلك إلاّ لتعكس هذه الألفاظ المعنى الجميل للمفاهيم التي جاء بها الإسلام.

ثم إنه في الخطاب الإسلامي لا بد من ملاحظة أمرين.

الأمر الأول: عدم الاستعلاء في الخطاب

إن من الأمور التي ينبغي أن نراعيها في الخطاب الإسلامي هو عدم وجود حالة الاستعلاء على الآخرين، فالبعض يعيش في أبراج عاجية، ويُلقي كلامه من تلك الأبراج بنبرة استعلائية، ويحمّل الناس المسؤولية وهو قد فرَّ منها، وفي المقابل ينسب لنفسه العلم والمعرفة فيقول: نحن الذين نفهم الأمور لأننا متطورون...! وهذا النوع من الخطاب غير مؤثر، بل قد يكون تأثيره عكسياً على الناس، ويجعلهم ينفرون، في حين أننا نجد أن الخطاب الإسلامي لا ينطوي على

ص: 115

أية حالة من الاستعلاء. صحيح أن المفاهيم عالية جداً، وقد صدرت من العالي،ولكن حينما يكون الخطاب موجهاً لهداية الآخر لا تكون هناك أية حالة من الاستعلاء؛ إذ تقول الآية الشريفة: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(1)، ويقول اللّه عز وجل لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يخاطب المشركين بهذه العبارة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2)،

ولم يقل: (إنا على هدى وأنتم على ظلال مبين)، مع أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان على هدى، وكان المشركون في ظلال مبين بالفعل، ولكن هذا الأسلوب من الخطاب يكون منفراً للطرف الآخر.

وهكذا الحال في قضية المباهلة، فحينما أراد اللّه سبحانه وتعالى من نبيه أن يباهل نصارى نجران أمره أن يقول لهم: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}(3)، ولم يقل: ثم نجعل لعنة اللّه عليكم أنتم الكاذبون، ولكن الخطاب جاء بأسلوب لطيف، حيث قال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}، وبهذا النوع من الأسلوب المرن تميز الخطاب الإسلامي عن غيره.

إن كثيراً من التيارات الفكرية التي ظهرت في القرن الماضي في البلدان الإسلامية يوجد في خطابها حالة الاستعلاء المطلق، فهم يدّعون أنهم هم الذين يفهمون الأمور فقط، وأما الآخرون فهم لا يفهمون شيئاً! وقد تسللت هذه الحالة

ص: 116


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة سبأ، الآية: 24.
3- سورة آل عمران، الآية: 61.

- للأسف - لبعض من يريد أن يبلغ تعاليم الإسلام، فولّدت نفور البعض، مع أن نالسنا في حالة نزال أو حرب، بل إننا نريد أن نهدي الطرف الآخر، ومن يريد أن يشجع الآخر على الهداية ينبغي عليه أن يلجأ إلى أدوات الهداية، ومنها الحوار المنطقي المفيد.

الأمر الثاني: إحياء لغة القرآن

إن هناك حرب شعواء - للأسف - على اللغة العربية بالنسبة لغير العرب، فحين نذهب إلى بلدان المسلمين نجد أن أكثرهم لا يفقهون من لغة العرب شيئاً، مع أننا لا نقول: تعلّموا اللغة العربية باعتبارها لغة، بل باعتبار أنها لغة كتاب اللّه، وقد جاء كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه اللغة، وكذلك كلام الأئمة(عليهم السلام)؛ لذا فإن الابتعاد عن هذه اللغة بدرجة من الدرجات هو ابتعاد عن القرآن الكريم، وابتعاد عن أحاديث الرسول والأئمة(عليهم السلام)؛ لذا نحن بحاجة إلى نشر اللغة العربية بمفرداتها القرآنية، فحتى الكثير من العرب لا يفهمون بعض المفردات القرآنية؛ لأنهم ابتعدوا عن اللغة، أو أبعدوا عن لغة القرآن الكريم، فهذه الكلمات هُمّشت في الإعلام وفي الكتابة والقراءة، وإذا لم يسمع الإنسان طيلة حياته بمفردة معينة - حتى لو كانت ضمن لغته - فإنه لا يفهم معناها؛ لأن صاحب اللغة الذي ينطق بها يتعلم معاني الكلمات ليس بالرجوع إلى القاموس، وإنما عبر الاستعمال اليومي للكلمات، حيث يسمعها من أبيه وأمه، أو في السوق والمذياع، أو يقرأها في الجريدة فتتكون لديه خلفية لغوية من الكلمات، لكن إذا ألغيت المفردة ولم يتم استعمالها - لا في الإعلام ولا في الكلام اليومي - فإنها سوف تصبح كمفردات أية لغة أخرى لا يفهمها حتى الناطق بها؛ لذا فإن تهميش اللغة يبدأ بكثير من المفردات والأساليب القرآنية، مع أن هذه الأساليب هي الأكثر فصاحة.

ص: 117

وهناك أمر آخر، وهو تغيير مفاهيم بعض الكلمات، فهناك اصطلاحات لبعضالكلمات القرآنية، ولكن تمَّ استعمالها في غير المعنى القرآني؛ لذا عندما يراجع أحدهم القرآن فإما أن لا يفهم معنى تلك الكلمة، أو أنه يفهمها حسب المصطلح الجديد، أي: يفهمها بصورة خاطئة.

أحياناً مثال ذلك كلمة (الإرهاب)، وتعني الخوف في المصطلح اللغوي(1)، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى الردع، فإذا كنت قوياً وعلم خصمك بذلك فسوف لا يهجم عليك؛ إذ إن قوتك ترهبه، بمعنى تردعه عن الهجوم عليك؛ قال اللّه تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}(2)، بمعنى مرابطة مجموعة من المقاتلين في الثغور، لكي لا يتمكن العدو من الدخول إلى تلك الثغرات. ثم يقول سبحانه: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، فعدو اللّه وعدوكم سيرتدع عندما يعلم بأنكم أقوياء، وأنكم قد سددتم الثغرات.

لكن أصبح للإرهاب مصطلح سياسي، يعني القتل والترويع والتخويف للوصول إلى أهداف سياسية. فكلمة الإرهاب في الاصطلاح اليومي المتداول تستعمل بمعنى سلبي، في حين أن الكلمة نفسها تمَّ استعمالها في القرآن الكريم بمعنى إيجابي، وهو: كن قوياً لكي يخافك العدو ويتردد، بل يحجم عن الهجوم عليك، لوجود الردع الذي يمنعه من الهجوم عليك.

وقد كان هذا الأمر واضحاً في الحرب الباردة، فحينما كانت إحدى القوتين

ص: 118


1- انظر: العين 4: 47، وفيه: «رهب: رهبت الشيء أرهبه رهباً ورهبة، أي: خفته».
2- سورة الأنفال، الآية: 60.

العظميين تمتلك أسلحة نووية فتاكة كانت تعلم بأنها سوف لا تستعمل تلكالأسلحة أبداً، لكن مع ذلك كانوا ينتجون الأسلحة لكي يردعوا بها العدو - أي: القوة العظمى الأخرى - وكانوا يعبرون عن هذا بالردع النووي.

إذن، فكلمة الإرهاب تستعمل في المصطلح القرآني بمعنى الردع، في حين أنها تستعمل في المصطلح السياسي الراهن بمعنى سلبي، وهو القتل والإرهاب والتخويف لتحقيق أهداف سياسية، ونتيجة ذلك أن هذه الكلمة القرآنية لم تستعمل بمعناها القرآني، وإنما بالمعنى السلبي الذي يمثله المصطلح السياسي المعاصر.

وكان نتيجة ذلك هو أن عامة الناس حينما يسمعون هذه الكلمة سيحضر في أذهانهم المعنى السلبي لها؛ لذا ينبغي علينا أن نعمم المفاهيم والكلمات القرآنية بين الناس عبر الإعلام وسواه، لكي يفهموا القرآن بشكلٍ سليم وصحيح أولاً، وثانياً: لكي لا يفهموا القرآن الكريم بشكل خاطئ حين يستعملون الاصطلاح في معنى آخر، وهذا سوف يساهم في فهم الناس للخطاب الإسلامي.

ص: 119

(19) تحديث الخطاب الإسلامي ورفع المستوى العلمي للمسلمين

إذا أردنا أن يكون الخطاب الثقافي الإسلامي مؤثراً وناجحاً، لا بد من نشر العلم والثقافة إذ من الطبيعي أنه كلما ازداد الإنسان علماً ومعرفةً ازداد استيعاباً؛ لأن الإنسان إذا كان جاهلاً ببعض الحقائق فلن يتمكن من استيعاب الأمور التي تبنى على هذه الحقائق، وقد جاء في الحديث الشريف: «الناس أعداء ما جهلوا»(1)، لأن الإنسان الجاهل لا يستوعب الحقيقة، وإذا لم يستوعبها فسوف يتصورها ظلالاً أو منكراً، ويتصور أن الحقيقة تكمن في غيرها، أو في عكسها؛ لذلك فالعلم والوعي والمعرفة هي البنية والأساس المهم لاستيعاب الإنسان للحقائق؛ يقول اللّه تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(2)، فالأذن الواعية تعي الحقائق التي جاء بها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس؛ لأنه حينما يكون مستوى فهم وعلم الإنسان عالياً فسيتمكن من استيعاب الحقائق؛ وفي آية أخرى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3)، فالعلماء حصراً هم الذين يخشون اللّه تعالى؛ لذا صُدرت الآية بكلمة (إنما) التي تفيد الحصر.

ص: 120


1- نهج البلاغة، الحكم: 172.
2- سورة الحاقة، الآية: 12.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

ولكن لماذا يخشى العلماء من اللّه سبحانه وتعالى؟ والجواب: لأن الجاهل لا يدرك الحقيقة ولا يستوعبها، ولهذا السبب يرتكب أموراً خلاف الخشية والخوف من اللّه سبحانه وتعالى، بخلاف الإنسان الذي يعلم الحقيقة ويدرك الأمور، وليس المقصود من العلماء هنا طالب العلم فقط، وإنما المقصود كل من انكشفت لديه الحقائق؛ والعلم له مراتب قد تكون عُليا وقد تكون دُنيا، وقد تكون متوسطة، فكلما اكتشف الإنسان حقيقة فسوف تقوده إلى الخشية من اللّه سبحانه وتعالى بمقدار معرفته لتلك الحقيقة.

إن الإنسان الذي يعلم بأنه مراقب من قبل سلطة معينة، ويعرف أنه إذا ارتكب مخالفة ما سيعتقل وسيعاقب، فإن هذا العلم عادة ما يدفعه للخوف من تلك السلطة، فلا يرتكب تلك المخالفة خوفاً من العقوبة، وهذا ما نجد في الإنسان الذي يعلم بأن اللّه سبحانه وتعالى يراقبهُ وأنه سيجازيه، فسوف يسوقه هذا إلى الخشية من اللّه سبحانه وتعالى، فلا يرتكب المخالفات، وإنما يأتمر بأوامر اللّه تعالى.

فتأثير الخطاب الإسلامي بالطرف الآخر يتمثل بتكوين الأرضية المناسبة، بحيث يكون الناس بمستوى من العلم والوعي الجيد؛ لأن الخطاب الإسلامي يبتني على علم الناس وثقافتهم ووعيهم، فالجهلاء لا يستوعبون هذه الحقائق؛ لذا نلاحظ الاهتمام البليغ والأكيد بالعلم والتعليم والثقافة والتثقيف والفهم وغير ذلك.

لو أننا راجعنا القرآن الكريم فسنلاحظ أنه يركز على العلم والمعرفة بشكل كبير، وهذا التركيز من دلائل حقانية الإسلام والقرآن؛ لأن المستبدين والمبطلين يريدون - غالباً - إبقاء الناس في حالة الجهل، لأن الجهلة لا يعرفون ولا يفقهون

ص: 121

الأمور، وحينئذٍ يتمكن المستبد من الاستمرار في سلطته واستبداده، ويحاول أدعياء النبوة الكاذبون إبقاء أتباعهم في حالة الجهل أيضاً؛ لأنهم يعرفون لو أن أتباعهم علموا، ولو ارتقى مستواهم العلمي والثقافي، فسيكتشفون كذبهم وافتراءهم، بينما الإنسان الذي يقف الحق إلى جانبه لا يخشى من علم الناس، بل يحاول أن يزيد من ثقافتهم وعلمهم وفهمهم، لكي يلاحظوا أنه على حق، ولكي يتنبهوا إلى صحة كلامهِ.

ومن خلال تأكيد القرآن الكريم والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على العلم والعلماء، والفهم والتفكر والتأمل والتدبر نستطيع أن نقول: إن الإسلام هو الحق، وإن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء بالحق، مع أنه لم يتعلم القراءة والكتابة عند أحد، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن يقرأ ويكتب، حيث قال: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(1)، ولكن عدم تعلمه القراءة والكتابة عند أحد لا يعني أن اللّه تعالى لم يعلمه، بل نحن نعتقد - حسبما ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام)(2) - أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعرف القراءة والكتابة بتعليم من اللّه تعالى بطريقة إعجازية.

فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يتعلم القراءة والكتابة عند أحد ولم يكتب ولم يقرأ طيلة حياته المباركة، لكنه مع ذلك يركز على العلم والتعليم، وتعلم القراءة والكتابة تركيزاً كبيراً، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على حقانية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمن كان يعقل.

ص: 122


1- سورة العنكبوت، الآية: 48.
2- انظر: بصائر الدرجات: 225.

هناك اهتمام بالغ من قبل الإسلام بالعلم، حتى أن الكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله سمي ب- (القرآن)، فهو مشتق من القراءة، وأن أول الآيات التي نزلت على الرسول بدأت بكلمة (اقرأ)، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1)، حيث قُرن القلم بخلق الإنسان، فقد خلقه الرب من علق وعلمهُ بالقلم، وعلمهُ ما لم يعلم.

فالأساس الذي بني عليه الإسلام هو العلم، الذي يمثل أصل الثقافة الإسلامية، فلو أردنا أن نوصل الثقافة الإسلامية إلى العالم يجب أن نحاول الارتقاء بمستوى الناس والجمهور، وأن نعلمهم ما يجهلون، وحينئذٍ سيكتشفون الحقائق ويتقبلون الخطاب الإسلامي بصدرٍ رحب؛ لأنهم يستوعبونه، وأما إذا بقوا في حالة جهل فإنهم لا يتمكنون من فهم هذا الخطاب؛ لعدم وجود القابلية لديهم.

أننا نلاحظ أن هناك أقواماً تميزوا بحالة الغزو وفتحوا أو غزو الكثير من البلدان، كالمغول؛ إذ لم يشهد التأريخ غزاة كالمغول، فقد اكتسحوا خلال فترةٍ قصيرة أكثر من نصف العالم المكتشف في ذلك الوقت - أي: إنهم اكتسحوا البلدان الإسلامية والصين وشرق أوربا - لكنهم لم يتمكنوا من تشكيل حضارة؛ لأن الحضارة لا تبنى على مجرد الغزو وفتح البلدان، وإنما تبنى على العلم والفهم والثقافة والمعرفة.

إن الحضارة الإسلامية لم تُبنَ على الغزوات أو الفتوحات، وإن كانت تلك الغزوات والفتوحات عاملاً ممهداً لذلك، لكن الحضارة الإسلامية بنيت على

ص: 123


1- سورة العلق، الآية: 1-5.

العلم والعلماء، الذي برعوا في مختلف صنوف العلوم؛ لذا فإن التعبير عن الحضارة الإسلامية بالحضارة العربية يُعد تعبيراً خاطئاً؛ لأن الحضارة الإسلامية اشترك في تشييدها مختلف الشعوب التي دخلت في الإسلام، كالعرب والفرس والترك وقسم من السريان والرومان الذين أسلموا وغيرهم.

فالحضارة الإسلامية بنيت على العلم الذي لم يكن نتاجاً لقومية واحدة، كي ننسب تلك الحضارة إليها، وإنما يعود النتاج الحضاري الإسلامي إلى جميع من اكتسب العلم.

وبناءً على ذلك، فإن الأساس الأول للخطاب الإسلامي هو أن تكون هناك أرضية مناسبة لتقبل هذا الخطاب، فحينما نبحث في داخل المسلمين نجد أن الكثير منهم لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم، ونجد بوناً شاسعاً بين حياتهم وبين الإسلام؛ لأن حالة الجهل تسببت في عدم استيعابهم للخطاب الإسلامي، فهم يستمعون إلى القرآن الكريم لكن لا يستفيدون منه، فآياته تدخل أسماعهم فعلاً لكنها لا تصل إلى قلوبهم، بسبب جهلهم.

ثم إننا لو رجعنا لحياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسوف نجد أنه كان يحفز المسلمين نحو العلم والتعلم، فحينما أسر المسلمون سبعين نفراً من المشركين في غزوة بدر، أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإطلاق سراحهم مقابل فدية، ومن كان يعرف القراءة والكتابة منهم فكانت فديته أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، مع أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا بحاجة إلى المال، وكان هؤلاء الأسرى مستعدين لأن يفتدوا أنفسهم بأموالهم، ولكن لبيان أهمية العلم والتعلم، ولتكريس هذه الحالة في حياة المسلمين جعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الفدية هي تعليم القراءة والكتابة.

ص: 124

وكلنا نعرف أن تعلم القراءة والكتابة هي المقدمة الأولى لاستيعاب العلوم المختلفة؛ لذلك إذا أردنا أن يكون خطابنا الإسلامي مقبولاً ومقنعاً فيجب أن نهيّئ أرضيته، والأرضية الأولى له هي رفع مستوى وعي الناس وعلمهم، لكي يستوعبوا هذه الحقائق.

ص: 125

(20) أهمية الخطابة والتبليغ في نشر الدين الحق

إن اللّه سبحانه وتعالى يعرف أدق الأمور في سرائر الإنسان لأنه سبحانه خالق الإنسان فوضع القوانين التي تتعلق بحياته وفقاً لطبيعته وقدراته؛ ولذا جاءت الأحكام الشرعية وقوانين الإسلام مطابقة لفطرة الإنسان ولتركيبته الجسدية والنفسيّة مائة بالمائة، فالإسلام هو الدين الحق، وهو ملائم لحياة الإنسان، بينما نجد أن أي طريقة أخرى أو دين آخر لا ينسجم وحياة الإنسان، يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1)، فإذا ابتعد الإنسان عن قوانين اللّه سبحانه وتعالى فسوف يعيش بطريقة منحرفة، ويُحاط بالمشاكل.

لقد بلَّغنا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) أحكام اللّه بأحسن وجه قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(2).

فلماذا نرى المسلمين متأخرين في كل مكان، وقد تكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب، بينما هم لا حول لهم ولا قوة؟

الجواب: إنّ الخلل يكمن في المسلمين أنفسهم، فإذا كان الإنسان مريضاً ولم

ص: 126


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

يذهب إلى الطبيب، ومع ذلك يأتي إليه الطبيب ويكتب له العلاج، ويحصل على الدواء مجاناً فهل يُشفى إذا لم يشرب الدواء؟ وكذلك إن اللّه سبحانه وتعالى هيّأ لنا سبل النصر لكننا لم نؤدِ المطلوب.

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(1)، فمهمة الرسل والأنبياء(عليهم السلام) التبليغ وإيصال الأحكام الإلهية إلى الناس، وعلى الأتباع أن يواصلوا المهمة التي جاء بها الأنبياء(عليهم السلام) وهي التبليغ؛ لأن هناك كثيراً من الناس يعرضون للآخرين صورة مشوهة عن الإسلام، وعندما يرى الناس هذه الصورة ينفرون منه، فالإسلام ليس القتل والتنكيل، وهو بريء مما يفعلون؛ لأنه دين الرأفة والرحمة والسلام والشفقة، لهذا يتوجب علينا التبليغ الصحيح.

لذا فمن أهم الأشياء التي ركز عليها القرآن الكريم هو الأسوة الحسنة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2)، لأن الأسوة يجب أن يكون منزّهاً، فيراه الناس بهذه الصورة والجوهر فيتبعونه.

ويُعد المنبر من أهم وسائل التبليغ؛ إذ يمكننا بواسطة البيان أن نوضح حقائق الإسلام الصحيحة؛ وكل شخص يريد السير في طريق أهل البيت(عليهم السلام) عليه أن يتعلم الخطابة، فإن الخطاب في القرآن الكريم ينطوي على أهمية كبيرة، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا}(3)، والعكس

ص: 127


1- سورة النحل، الآية: 35.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة إبراهيم، الآية: 24-25.

يصح بالنسبة للكلمة الخبيثة، قال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ}(1).

ص: 128


1- سورة إبراهيم، الآية: 26.

(21) ضرورة الفهم السليم لمعاني النصوص القرآنية

إننا نعلم أن الكثير من غير المسلمين لا يعرفون جوهر الإسلام، وقد يتعرفون عليه عبر حملة الفكر الخاطئ من إرهاب وقتل، وقد تصدر الواجهة الإسلامية رجال ينتسبون إلى العلم، لكنهم اعتبروا من العلماء زوراً، أو بعض الرجال الذين يرتكبون المجازر والإرهاب والترويع بعنوان الجهاد، وحدث هذا بتقصير من المسلمين أنفسهم، بحيث لم يعكسوا الصورة الصحيحة والواقعية للإسلام، وهناك أعداء الإسلام ممن استغل واستثمر من خلال الإعلام بسبب الظواهر الشاذة في حياة المسلمين، لكي يركزوا عليها، ويعكسوا صورة سيئة عن الإسلام، من خلال الأمور التي يقومون بها باسم الجهاد، حيث تصدر التكفيريون واجهة المسلمين، ومن المعلوم أن أعداء الإسلام يمتلكون إعلاماً قوياً، بالإضافة للترويج المعادي للإسلام بسبب الإمكانيات الهائلة التي تتوفر لهم، بحيث إن بعض الدول خصصت ميزانيات طائلة لنشر الفكر المشوّه عن الإسلام. بناءً على ذلك، حينما يريد غير المسلمين أن يتعرفوا على الإسلام فإنهم يتعرفون عليه من بوابة هؤلاء التكفيريين، وهذه البوابة تنفر المسلمين من الإسلام قبل أن تنفر غيرهم.

إذن، فالخطاب الثقافي الإسلامي - والخطاب الإسلامي بشكل عام - تراجع

ص: 129

إلى مراتب متدنية؛ لأنه لم يستثمر الفرص المتاحة له عبر التقنية الحديثة إلا بنحو قليل، ولم يتمكن من أن يتصدر الواجهة الإسلامية؛ لذا يجب علينا - لكي يصل الخطاب إلى مستوى مطلوب - أن نستثمر وسائل التقنية الحديثة، لكي نوصل الإسلام بصورته النقية الصحيحة إلى العالم أجمع، فلو وصل الإسلام إلى الناس بهذه الصورة فسوف يدخلون في دين اللّه أفواجاً. ومع ذلك، ومع وجود هذا التشويه الداخلي من قبل التكفيريين وأشباههم، ووجود التشويه الخارجي لكن الإسلام بقي أكثر الأديان انتشاراً في العالم، وأكثر الناس الذين يتحولون من دين إلى آخر هم الذين يتحولون إلى الإسلام.

ذُكر في تقرير: إن هناك أناساً في فرنسا يتحولون من دينهم إلى دين آخر، فينتقل بعض اليهود إلى النصرانية، أو ينتقل بعض النصارى إلى البوذية أو إلى أديان أخرى، والبعض ينتقل إلى الإسلام، ويؤكد التقرير أن أكثر الذين ينتقلون من دين إلى آخر إنما ينتقلون إلى الإسلام بسبب قوته الذاتية، مع أن فرنسا بلد معروف بعدائه الشديد للإسلام، فهناك أحقاد تاريخية متوارثة منذ (معركة بلاط الشهداء) التي حدثت في القرن الثاني الهجري وكذا الحروب الصليبية حتى يومنا هذا، وهناك عوائق ضد الدخول في الإسلام، تتمثل في هؤلاء الناس الذين هم أعداء الإسلام أصلاً، وقد تصدروا الواجهة الإسلامية والخطاب الإسلامي وتمكنوا أن يستثمروا الثروات في بعض البقاع الإسلامية المقدسة، ويستثمروا العلاقات السياسية والدبلوماسية وغير ذلك، لكي يقولوا إنهم يمثلون الإسلام الصحيح، كما أن جهل معظم المسلمين بالإسلام تسبب في هذا الوضع، الذي يشكل صورة تناقض فطرة الإنسان والعقل والمنطق والعاطفة، ومن الطبيعي أن الكثير ممن راموا الدخول إلى الإسلام لم يدخلوه بسبب تصدر هؤلاء للواجهة

ص: 130

السيئة؛ لذا ينبغي على المؤمنين والمخلصين للإسلام أن يزيحوا هؤلاء عن الواجهة الإسلامية، لكي يظهر الإسلام بصورته الحقيقية، ويصل إلى جميع الناس في مختلف بقاع الأرض.

كذلك ينبغي استثمار وسائل الدعاية لنشر الفكر الإسلامي، كالفضائيات والمسارح والأفلام والمنابر والندوات والمؤتمرات، التي يجب أن لا تُعقد بصورة روتينية، بل بصورة حقيقية؛ لأن هذه الأمور جميعاً تُسهم في إيصال رسالة الإسلام إلى شرائح واسعة من المجتمع البشري.

وقد يستغرب البعض، ويقول: يظن النصارى أن قتلة المسيح هم اليهود (مع أن هذا ظن باطل بطبيعة الحال، لأننا نعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى رفع المسيح إلى السماء، ولم يتمكن أحد من قتلهِ، بل شبّه لهم(1)،

ولكن النصارى يعتقدون أن اليهود هم السبب وراء صلب المسيح، وقد ورد ذلك في الإنجيل، وهو كتابهم المقدس، علماً بأن تأريخ العلاقات بين اليهود والنصارى سيئ جداً، بحيث تعرض اليهود للاضطهاد على يد النصارى في أوربا وغيرها، فما من بلد أوربي إلا وطرد منه اليهود في القرون الوسطى، وقد لجأ الكثير منهم إلى البلدان الإسلامية ليعشوا فيها، هرباً من ظلم واضطهاد النصارى لهم).

لكن على الرغم من ذلك نلاحظ دفاع النصارى عن اليهود، بل خضوعهم لهم أحياناً، بحيث تحوّل الشعب الفلسطيني، وهو صاحب الحق، في نظر الكثير من الغربيين إلى شعب ظالم لليهود، مع أنه شُرِّدَ من بلده، وقُتِل أبناؤه، ونُهبت

ص: 131


1- سورة النساء، الآية: 157: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا}.

أراضيه، وتواصل اضطهاده، ومع ذلك نلاحظ أن الغرب المسيحي يدافع عن اليهود، ومازال كذلك حتى يومنا هذا.

فكيف تمكن اليهود من تحقيق ذلك؟

والجواب: لأنهم صنعوا أموراً استراتيجية ومنها أنهم تصدروا الإعلام. صحيح إن مصالح استراتيجية بين اليهود والنصارى، وأمور أخرى، لكننا نبحث في زاوية الإعلام الذي صوّر المظلوم ظالماً والظالم مظلوماً، بحيث إن الأكثرية الآن تدافع عن الظالم؛ لأنها تتصوره مظلوماً، فتقف ضد المظلوم؛ لأنها تتصوره ظالماً.

يقول اللّه تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ}(1)، إلا أنه تعالى يضمن قوله هذا الاستثناء، فيقول عز من قائل: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}، فهذه الذلة ترفع بالإيمان باللّه، وحسبما يريد تعالى، أو بحبلٍ من الناس، بأن يكون هناك ما يؤيدهم من الناس، كما يحصل الآن في العصر الراهن.

وهذا يعني أنه لو كان هناك اهتمام بالإعلام فإن الباطل يمكن أن يتحول إلى حق في نظر الناس وإذا تم استخدام وسائل الإعلام والدعاية والنشر باهتمام فيمكن الوصول إلى الهدف، حتى لو كان هدفاً باطلاً.

فكيف بنا نحن الذين يقف الحق إلى جانبنا؟ وأن اللّه سبحانه وتعالى ينصرنا بنصره، فيما لو استثمرنا هذه الإمكانيات المتاحة لنا؛ ولأن الإسلام يناسب فطرة الإنسان فحينئذٍ سيتمكن من التأثير فيهم، ولو رفعت الحجب بين الإسلام وبين هؤلاء، وأزيلت الغشاوة التي على أبصارهم وقلوبهم، بواسطة الإعلام، لدخل كثير من الناس إلى دين اللّه أفواجاً.

ص: 132


1- سورة آل عمران، الآية: 112.

هناك أرضية وإمكانية موجودة لدى المسلمين، وهناك الكثير من وسائل الإعلام والنشر والدعاية التي يمتلكها المسلمون، على الرغم من أن البعض يحاربون هذه الوسائل، ولكن ينبغي علينا أن نستثمرها.

ومثال على ذلك: الشعائر الحسينية، التي يقيمها كثير من الموالين في أيام عاشوراء، ومنها: (التشابيه)، التي تمثل شخصيات الواقعة، فهناك الكثير يحاربون هذه التشابيه، ويصورونها بأنها تلحق الضرر بالفكر الحسيني والإسلام والتشيع، لكنهم أنفسهم يؤيدون المسرح والأفلام وغير ذلك، مع أن تأثير التشابيه أكبر وأشمل من المسارح؛ لأن المسرحيات عادةً لا تتضمن الحقائق، وإنما هي مجرد ملء فراغ الناس، في حين أن التشابيه الحسينية تعكس الصورة والتأريخ، وكثير من الحقائق التي تتضمنها قضية كربلاء وعاشوراء.

إذن، هناك أرضية موجودة فعلاً، وهناك كتب تكتب ومحاضرات ومجالس وأشعار وكثير من الأمور الأخرى، لكن ينبغي إيصالها إلى العالم، ومنها ما يحتاج للترجمة إلى اللغات الأخرى، فينبغي أن نستفيد من التقنية الحديثة لإيصالها إلى الناس أجمع، وهذه النقطة تسهم بإيصال الخطاب الإسلامي إلى الآخرين بشكلٍ صحيح.

ص: 133

(22) عناصر الشعائر الدينية

اشارة

إذا أردنا للشعائر الدينية النجاح والاستمرار فينبغي أن تتضمن أربعة عناصر، وهي:

العنصر الأول: البعد المنطقي

إنه يجب أن تكون الشعائر الدينية متطابقة مع العقل والمنطق؛ لأن أية شعيرة من الشعائر لا تتضمن البعد المنطقي لا يمكن حث الناس على الالتزام بها؛ لأن الإنسان لا يرغب فيما يخالف العقل والمنطق، ويتحاشى الشيء الذي لا يعرف فائدته ولا يفهم تأثيره، وأما الشيء الذي ينطوي على بعد منطقي - بمعنى أنه ينسجم مع عقل الإنسان - فمن السهل على الإنسان التنبّه إليه، وجميع الشعائر الدينية الإسلامية تتضمن عنصر البعد المنطقي؛ ولذا فإنها جميعاً تتطابق مع العقل، ولأجل ذلك فإننا نلاحظ الفوائد المنطقية والعقلية لهذه الشعائر، كما أن جميع الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة، وفي سيرة أهل البيت(عليهم السلام) ذُكرت عللها، أو حِكمِها، مضافاً إلى ذلك سهولة فهم العلة أو الحكمة من قبل الجميع، فالصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزكاة وسائر الواجبات، وكذلك المحرمات، كالسرقة والقتل والزنا وغير ذلك تمَّ توضيح عللها أو حِكمها، فهي واضحة وتنسجم مع فطرة الإنسان وعقله.

ص: 134

العنصر الثاني: البعد الأخلاقي

إن هذه الشعائر تتضمن الجانب الأخلاقي، ولا تجانب الأخلاق أو الصواب؛ لأن الأخلاق من فطرة الإنسان، ولا يمكن لأي شيء يخالف الفطرة أن يستمر، أو أن يقتنع به الإنسان ويستمر بالقيام به، ومن يدّعي بأن الأخلاق تُعد من مقيدات الناس أو المجتمع فهو مخطئ؛ لأن الأخلاق حاجةٌ ضرورية للإنسان، ولا يمكنه أن يتقبل الرذائل الأخلاقية، فقبح الخيانة مثلاً واضح لدى جميع البشر، وحسن الإحسان واضح للجميع أيضاً، وقد تكون بعض المفردات الأخلاقية خافية على بعض الناس في الوهلة الأولى، ولكن جميع الفضائل الأخلاقية تتضح لدى جميع الناس من خلال التأمل والمعرفة والاطلاع، فلا تجد إنساناً - مثلاً - يعدّ الوفاء من الرذائل، أو يعد الخيانة أمراً حسناً، وإنما الجميع يتفق على الأخلاق الصحيحة.

توجد في بعض الأديان جوانب من الشعائر الدينية، ولكنها تجانب الأخلاق؛ لذا لا يمكن تعميمها أو حث الناس على الالتزام بها، وإن التزم بها بعض أتباع تلك الديانات لفترة من الزمن، فإنها ما تلبث أن تكون فترة مؤقتة، بسبب وجود غطاء يعطّل فطرتهم؛ لذا لابد أن يأتي اليوم الذي يرجع فيه الناس إلى فطرتهم، ويتركون تلك الطقوس.

وأما الشعائر الدينية الإسلامية فهي جميعاً تنطوي على العنصر الأخلاقي، فتنطبق مع فطرة الإنسان.

العنصر الثالث: الجمال

وهو من العناصر التي يجب أن تتوفر في أية شعيرة، وقد توفرت في جميع الشعائر الإسلامية الدينية؛ لأن الإنسان بطبعه يحب الجمال، ويرغب فيه، وقد ورد

ص: 135

في الحديث الشريف: «إن اللّه جميل يحب الجمال»(1)، فالجمال يعني تناسق الشيء أو الصورة، بحيث لا يكون هناك نشاز أو فوضى، وعدم تناسق في ذلك الشيء أو في تلك الصورة، وهذا أمر ذوقي مرتبط بفطرة الإنسان، بمعنى أن كل إنسان يحب الجمال، ويبتعد عن الأشياء القبيحة؛ لذا لو فقدت الشعائر الدينية جانب الجمال فإن الإنسان ينفر منها ولو بعد حين.

وأما إذا كانت الشعائر تنطوي على الجمال فإن فطرة الإنسان ستميل إليها، ولو أننا تفحصنا الشعائر الدينية الإسلامية سنجد أنها جميعاً تتضمن عنصر الجمال.

العنصر الرابع: النظام والاستمرار

يُعد هذا العنصر من العناصر التي يجب أن يتوفر في أية شعيرة؛ لأن الإنسان بطبعه يميل إلى النظام، ويألف الشيء المستمر، وأما إذا كان بين الظهور والغياب، أو يغيب لفترة من الزمن، فربما يغيب عن ذهن الإنسان وينساه تماماً.

فلو توفرت هذه العناصر الأربعة في أية شعيرة من الشعائر فلا توجد هناك أية صعوبة تواجه الإنسان في الالتزام بتلك الشعيرة، فالمنطق والأخلاق، والجمال، والنظام والاستمرارية المتوفرة في الشعائر الدينية الإسلامية تؤكد البعد العملي لمنظومة القيم الإسلامية، حيث تنطوي هذه الشعائر على الروح، ومن هنا يحاول الأعداء إزالة هذه الروح من هذه الشعائر، لكي يجعلوها طقوساً مجردة، وإذا أصبحت كذلك فسوف يُصعب على الإنسان الالتزام بها.

ص: 136


1- الكافي 6: 438.

مثال على ذلك: الحج يقول اللّه سبحان وتعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(1)،

فهي عبارة عن منافع مادية ومعنوية، إلا أن هناك محاولة لإفراغ الحج من مضمونه، حيث إذ تتمثل المنفعة المعنوية في الحج باتحاد المسلمين، وارتباط بعضهم بالبعض الآخر، واطلاع الإنسان على أخبار وأقوال الأئمة(عليهم السلام)، وكذلك الاطلاع على أحوال المسلمين في كل مكان، شرق الأرض وغربها، ويكون الحج مناسبة للتآلف بين المسلمين، وتقارب كلمتهم، والابتعاد عما يثير الفتنة والتفرقة بينهم، وكل هذه الأمور موجودة في الحج بصورة جلية وواضحة؛ لذلك فهناك محاولة لسلب هذه الروح من الحج ليتحول إلى طقوس نمطية، في حين ينبغي على الناس الذهاب إلى الحج ليقوموا ببعض الأعمال، ثم يستثمروها فيما ينفع الدين والدنيا معاً؛ لذا فتحويل الحج إلى مجرد طقوس سيؤدي إلى فقدان الروح الموجودة في هذه الشعيرة المهمة.

لقد حاول المستعمرون إضعاف المسلمين، وكما نعلم أن الاستعمار والاستكبار يحاول دائماً السيطرة على بلاد المسلمين، والسيطرة على عقولهم وسلب مكامن القوة في دينهم؛ لأنها هي التي تمنح القوة للمسلمين، ليتمكنوا من أن يؤثروا في العالم، وينشروا دينهم وينشروا كلمة اللّه سبحانه وتعالى، ولكن ما هي هذه الجوانب أو مكامن القوة لدى المسلمين؟

يُنقل أن أحد المستعمرين بعد أن درس واقع المسلمين وتاريخهم قبل أكثر من قرن تقريباً، وجد أن أهم نقطة قوة لدى المسلمين تتمثل بأمرين: الأول: القرآن الكريم، لأنه يمنح المسلمين الحيوية والنشاط كونه هو المحرك القوي

ص: 137


1- سورة الحج، الآية: 28.

لهم، لما يتضمنه من حياة المسلمين، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1)، والأمر الثاني: الحج، لأنه يوحّد المسلمين، ويزيل الفوارق بينهم، ويقربهم من بعضهم البعض، ويطلع بعضهم على البعض الآخر.

وبناءً على ذلك قال: إذا تمكنا من سلب القرآن والحج من المسلمين فسنتمكن من السيطرة عليهم.

طبعاً إن ضعف المسلمين يعود بالدرجة الأولى إلى عدم اعتنائهم بدينهم وأما السياسات الاستعمارية، فهي نتيجة وليس سبباً، بمعنى أن الإنسان حينما يمرض فسبب مرضه ضعف مناعة الجسم، وأما الجراثيم فهي تستفيد من حالة ضعف المناعة فتنتشر في الجسم، كذلك الاستعمار هو نتيجة وليس سبباً، فهو نتيجة لضعف المسلمين، حيث استفاد من ضعفهم.

وهناك محاولة حثيثة لتحويل قراءة القرآن إلى مجرد طقوس فارغة من المضمون، من دون أن يتنبّه المسلمون إلى الأبعاد السامية للقرآن الكريم.

كذلك الحال بالنسبة للحج؛ إذ هناك محاولة لتحويله إلى مكان أو مناسبة لتفرقة المسلمين، بدلاً من أن يكون مناسبة ومكاناً لوحدتهم؛ لذا نلاحظ أن بعض التكفيريين سيطروا على البقاع المقدسة، والمسلم حينما يذهب إلى هناك يسمع كلمات التضليل والشرك والتفرقة بين المسلمين، ومحاولة فرض منهج شاذ ينفر منه معظم المسلمين، وهناك حالة منع التبليغ الصحيح لأي شخص يقوم بذلك، فهناك منع لجعل الحج مكان ألفة للمسلمين.

ص: 138


1- سورة الأنفال، الآية: 24.

إذن، فالشعائر الدينية الإسلامية تضيف البعد العملي إلى القيم النظرية، وتستجمع هذه القيم في جوهرها، ولو أردنا أن نعمم الثقافة الإسلامية وقيمها فينبغي أن نركز على تنمية الشعائر الدينية، كالحج والصلاة والصوم، وزيادة المساجد والتمسك بالقرآن الكريم قراءةً وتأملاً وتفكراً، حيث تتعمق وحدة المسلمين عبر أداء هذه الفرائض، ولا تكون طقوساً مجردة، وإنما شعائر تنطوي على الروح والبعد المنطقي والجمالي والأخلاقي، وسائر الجوانب الأخرى الموجودة في هذه الشعائر أجمع.

ص: 139

(23) الشعارات والعبارات المعلّبة

ذكرنا أن هناك صراع ثقافات في عالم اليوم، وهو على أشده بين الثقافة الإسلامية والغربية، وسوف نتطرق الآن إلى أحد معالم الثقافة، وكيف يمكن أن يتحول إلى عاملٍ مضادٍ فيما لو تمت الاستفادة منه بشكل سليم، حيث يدور بحثنا حول الشعارات، أو ما نعبر عنه أحياناً ب- (العبارات المعلبة).

إن الإنسان حينما يولد لا يحمل أية فكرة عن أي شيء، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا}(1)، لكن اللّه سبحانه وتعالى وهب له أدوات للتعلم، كالسمع والبصر والأفئدة؛ فتتكون الأفكار لديه بالتدريج، فالطفل يتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، والجو الذي يحيط به، فهو كجهاز التسجيل، يسجل جميع ما يسمع ويرى، ثم يحاول أن ينفّذ ما سمعه ورآه، فتتشكل اللبنات الأولى لفكر الإنسان في مرحلة الطفولة، بدءاً من البيت الصغير - أي: الأسرة - ثم المدرسة ثم المجتمع والجو الذي يعيش فيه، فكل هذه العناصر تشكل اللبنات الأولى لتفكير الطفل؛ إذ تبقى معه عادة حتى نهاية حياته، بعد أن تنمو الأفكار تدريجياً مع نمو الطفل جسدياً وفكرياً، وتشكل

ص: 140


1- سورة النحل، الآية: 78.

مخزوناً أساسياً له، أو تشكل البنية التحتية لتفكيره ونمط حياته وممارساته الحياتية؛ لذا يُقال: (من شبِّ على شيء شاب عليه)، فإذا شبّ الإنسان في صغره وصباه على شيء فسوف يترسخ في ذاكرته، وقد تكون فكرة أو ممارسة عملية؛ لذا فمن الصعب جداً على الإنسان أن يغيّر نمط تفكيره في كبره، واستناداً إلى هذا، فهناك تركيز على الصغار في المصادر الدينية، كما ورد في الروايات الشريفة(1)؛ إذ هناك حثَّ شديد على تربية الطفل تربية سليمة وصحيحة، وأن ينمو فكره بطريقة سليمة من خلال التفكير السليم، ليكون هذا المخزون سليماً.

ثم إن التعاليم الدينية والأحاديث الشريفة تؤكد على استحباب قراءة القرآن للمرأة الحامل، وكذلك الأدعية؛ لأنها تؤثر في الجنين، وبعد أن يولد الطفل يستحب أن يؤذّن في أذنه اليمنى الأذان، وتقرأ الإقامة في أذنه اليسرى(2)، فالتعاليم الإسلامية ترافق الطفل قبل تكوينه وبعد تكوينه، وفي مراحل تكوينه، كل ذلك لكي يتلقى الأفكار السليمة والصحيحة.

إن الأفكار قد تكون متشعبة، لكن يمكن لعبارة واحدة أن تختزن كل تشعبات الفكرة، وهذا ما نلاحظه في تربية الإسلام للمجتمع، حيث ركز على هذه الشعارات والعبارات المعلّبة، وقبل ذلك ركز على أن تعكس هذه العبارات الأفكار السلمية والسامية من الشعارات الإسلامية. ومثال ذلك: أننا إذا سمعنا

ص: 141


1- انظر: قرب الأسناد: 128، وفيه: «وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) للأحول: أتيت البصرة؟ قال: نعم. قال: كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: واللّه إنهم لقليل، وقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال: عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير».
2- الكافي 6: 23.

الأذان عدة مرات في اليوم الواحد من خلال المساجد المتعددة، أو في وسائل الإعلام كالتلفاز أو المذياع فهذا يُعد إعلاناً لدخول وقت الصلاة.

إن النصارى - مثلاً - لهم إعلامهم المتمثل بالناقوس، وهو عبارة عن جرس كبير يطلق رنيناً متقطعاً ومعروفاً، وأما الإسلام فقد جعل الإعلام بواسطة عبارات أو شعارات تتضمن الإسلام كله، فكلما سمعها الإنسان يتركز فيه المخزون الإسلامي بشكل كامل، ويتضمن الأذان التوحيد والنبوة والولاية والمعاد، والتذكير باللّه سبحانه وتعالى ورسوله وأوليائه والعبادات والصلاح والفلاح والخير، فالأذان شعار يختزن الإسلام كله، وعندما يسمع الإنسان في الأذان: (أشهد أن محمداً رسول اللّه) فإن النبوة ورسول اللّه يتركز في ذهنه، حتى لو كان غير مسلم، فحين يستمع إلى ذلك يومياً فإن ذلك يؤثر فيه بالتدريج - أي: في قرارة نفسه وطريقة تفكيره - وكثير من الذين أسلموا إنما كان إسلامهم نتيجة لمثل هذه الأمور، مع أن الإنسان عندما يقرر تغيير دينه فإن ذلك يتطلب اتخاذ قرار صعب في حياته؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى قطيعة بينه وبين مجتمعه، ويغير كثيراً من ارتباطاته وتأريخه وعاداته، وغالباً ما يكون الإنسان غير مستعدٍ لاتخاذ القرار الصعب إلا إذا كان هناك تمهيد لذلك، وقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، فقد لا يؤثر الأذان الأول في الإنسان، ولا الثاني، ولا الثالث، ولكن عندما يستمع له آلاف المرات فسوف يتأثر به بالتدريج، وأية كلمة أكثر تأثيراً من كلمة (اللّه أكبر)؟!

ولنأخذ مثالاً آخر يتعلق بالصلاة، وسوف نأخذ منها بمقدار ما نحتاجه من شاهد - أي الشعار الذي يختزن الفكر والثقافة، التي تشكل البنية التحتية لكل إنسان - فالصلاة تتضمن سورة الحمد، حيث يجب على الإنسان أن يقرأها في

ص: 142

الركعة الأولى والثانية من كلّ صلاة يؤديها، ويجوز له أن يقرأ التسبيحات الأربع - سبحان اللّه والحمد لله ولا اله إلا اللّه واللّه أكبر - في الركعة الثالثة أو الرابعة، أو أن يقرأ سورة الحمد بدلاً عنها، فهو مخير في ذلك، ثم إن سورة الحمد تتضمن الإسلام كله؛ لأنها تنطوي على التوحيد والمعاد والدين، وذكر أولياء اللّه الصالحين في قوله: {صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وفيها تحذير من أعداء اللّه ورسوله، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أي: الذين غضب اللّه عليهم، وهم أعداء اللّه، والضالين الذين ضلوا عن الطريق.

وهناك أمور أخرى بالنسبة للصلاة، لكننا اقتطفنا منها الشاهد لكلامنا فحسب؛ فالصلاة تتضمن تذكير المؤمن بقبلته في كل يوم، وحثه على الطهارة والنظافة والغسل والوضوء وغير ذلك، ولكن بحثنا هذا يدور حول الجانب الذي يعنينا، وهو ما يتعلق بالألفاظ المعلبة، أي: الشعارات التي تختزن فكرة كبيرة.

إن من حقوق الأبناء على آبائهم أن يحسنوا اختيار أسمائهم، وهذا ما ورد في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)(1) - لأن الحقوق متبادلة بين الأبناء والآباء، ولا توجد لدينا حقوق من طرف واحد - والاسم الحسن يختزن في داخله كثيراً من المبادئ السامية، وحين يكون اسم الولد لأحد العظماء فإن ذلك يدفعه للاقتداء به، وأما إذا كان الاسم سيئاً فسوف يحدث العكس، كما ورد ذلك في علم

ص: 143


1- الكافي 6: 48، وفيه: ... عن يونس، عن درست، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، ما حق ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه موضعاً حسنًا». من لا يحضره الفقيه 4: 372، وفيه: عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه(عليهم السلام) - في وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) - قال: «يا علي، حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً».

النفس، فقد ذكر أن الاسم السيّئ يؤثر سلباً على صاحبه، بحيث قد يشكل له حالة من الانطوائية والانزواء والنفور من الذات.

وقد ورد في الرواية: «أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من ولد له أربعة أولاد لم يسم أحدهم باسمي فقد جفاني»(1)، فعدم التسمية باسم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمثابة جفاء لحق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهو حق من حقوقه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على المسلمين، لذا نلاحظ اليوم أن أكثر الأسماء انتشاراً في العالم هو اسم محمد؛ لأن المسلمين يسمون أبناءهم باسمه كرامة له(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

والاسم وإن كان مركباً من حروف قليلة، لكنه يختزن معاني كثيرة، سواء كان حسناً أم قبيحاً.

لذا نلاحظ أن الإسلام يهتم اهتماماً بالغاً بالشعارات، ليس لكونه شعاراً مجرداً، وإنما لأنه يختزن الفكر، فالإنسان منذ أن يبدأ يومه الأول تتكون لديه لبنات فكرية تدريجياً، وتتقولب بقالب معين، وتعلَّب بعلبة لفظية معينة - إذا جاز التعبير- وتستعمل تلك الألفاظ للدلالة على مخزون فكري محدد؛ ولأجل أن يركز الإسلام هذه الأفكار نلاحظه يركز على الشعارات الصحيحة، وينهى عن الشعارات غير الصحيحة، وفي الطرف المقابل من المعركة الثقافية نلاحظ أن هنالك من يعارض ثقافتنا، ويحاول أن يجهز أو يقولب الأقوال على شكل ألفاظ معلبة جاهزة لتختزن ثقافة أخرى مضادة للثقافة الإسلامية.

كثيراً ما نسمع ببعض الذين تركوا فريضة الحجاب، مع أنه من الواجبات المطلوبة بالنسبة للنساء، وقد دل القرآن الكريم على وجوب ستر النساء إلا من

ص: 144


1- الكافي 6: 19.

المحارم(1)، وهو من ضروريات الإسلام، لكن هناك ثقافة أخرى لا تؤمن بالحجاب، بل تعارضه؛ لأنها تؤيد الإباحية والفساد، وانفراط العلاقات الزوجية والأسرية. والحجاب يُعد بمثابة السد أمام الفساد.

إننا نقول: إن البشر أجمع متفقون على أصل الستر، لكن الخلاف في مقداره، فلا يُسمح بالتعري في الأماكن العامة حتى في الدول الغربية، بل ينص القانون على الالتزام بستر أماكن معينة من الجسد، لكن حينما ترى امرأة مسلمة سافرة وتسألها لماذا أنت سافرة؟ فسيأتيك الجواب بعبارة مقولبة، فتقول: إن المهم هو أن يكون قلبك نظيفاً، ولا يهم أي شيء، سواء كانت المرأة ترتدي الحجاب أم لا، فهل المرأة المحجبة التي ترتكب المعاصي خفية أفضل، أم المرأة السافرة الشريفة التي يكون قلبها أبيض؟!

إن مثل هذه العبارات يمكن أن تسمعها وتعرض عليك في قالب لفظي جميل، ولكن هذه مغالطة من أجل تسويق الثقافة المعارضة للثقافة الإسلامية، ولو كان هذا المنطق صحيحاً فبإمكان الإنسان أن يسير بسيارته خلاف قانون السير، وحينما يسأله شرطي المرور لماذا خالفت قانون السير؟ فسيقول له: المهم أن يكون قلبي أبيض، ولا يهم بأية سرعة أقود سيارتي، أو بأي اتجاه!! وهذه مغالطة واضحة جداً، لا يقبل بها أي شخص؛ لذلك فمن أدوات المعارضة

ص: 145


1- سورة النور، الآية: 31: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

للثقافة الإسلامية في عالم اليوم هو إيجاد قوالب لفظية جميلة في الظاهر، تأخذبالألباب والأسماع لجمالها الظاهري ولأدبها، ولكنها تختزن ثقافة معادية تماماً للثقافة الإسلامية.

عندما يريد المعارضون أن يقللوا من شأن بعض الشعائر الدينية يقولون: لقد وصل الناس إلى القمر، وأنتم لا زلتم تضعون جباهكم على التراب، وتمشون في موكب حسيني، وتفعلون كذا وكذا... وهذه العبارة عندما تقال لأي شخص إنما هي مغالطة بلفظ جميل. وكذلك يقولون: لقد وصل الناس إلى القمر وأنتم ترمون الجمرات في الحج؟

إن الهدف من ذلك ضرب الشعائر الإسلامية، والفرائض الدينية، كالصلاة والصوم والحج والشعائر الحسينية وغير ذلك، مع أنه لا يوجد أي ارتباط بين قضية وصول الإنسان إلى القمر وبين إلغاء الفرائض أو الشعائر، فهم حققوا إنجازاتهم العلمية ليس لأنهم تركوا المسير في الشوارع، أو لأنهم تركوا الذهاب إلى أماكن عباداتهم، أو لم يلتزموا بثقافتهم القومية أو الدينية، وإنما لأنهم طوروا علومهم التجريبيّة واهتموا بعلمائهم، فنظامهم السياسي فيه شيء من الديمقراطية، بحيث تتفتح هناك القدرات الفكرية والذهنية، بسبب الأسلوب المناسب للدراسة والتعليم، وأن هناك دعماً متواصلاً للعلم والعلماء، الذين توصلوا لبعض القوانين الموجودة في الكون، وتمكنوا من تطبيقها على أنفسهم فوصلوا إلى القمر؛ لذا نلاحظ أن الكثير من علمائهم في مجال العلوم الطبيعية قد يرتكبون بعض الأمور القبيحة في ممارساتهم اليومية؛ لأنه ليس هناك ربطاً بين طبع العالم الشخصي أو الاجتماعي، وبين اختراعه المرتبط بالجانب العلمي، فإذا كان عمل الإنسان صحيحاً في مجال معين، فهذا لا يعني أن يكون عمله صحيحاً في المجالات

ص: 146

الأخرى؛ لذا فإن مثل هذه العبارات المعلبة تقال لكي تضرب بعض البنىالفكرية في الثقافة الإسلامية من جهة، ولتركيز بعض البنى الفكرية للثقافات المعادية للثقافة الإسلامية من جهة أخرى.

ص: 147

(24) دور العاطفة في توجيه الخطاب الإسلامي وتأثيره

اشارة

من المفردات المهمة في أسلوب الخطاب الثقافي الإسلامي هو تنوع الخطاب الموجّه إلى مختلف مناطق الشعور لدى الإنسان، فحينما يدرك الإنسان أمراً ما، أو يقتنع به، فإن اقتناعه هذا قد يرتبط بنقاط مختلفة من شعوره؛ لأن الإنسان له عقل وعاطفة وفطرة، فعقله يدرك بعض الحقائق الكونية، ويفرّق بين الصحيح والسقيم منها، ولو استعمل الإنسان عقله بطريقة صحيحة فستكون مناسبة لفهم الخطاب الثقافي الإسلامي؛ لأن هذا الخطاب يخاطب العقل في كثير من مفرداته.

حينما نتصفح القرآن الكريم ونقرأ روايات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) سنجد أن كثيراً من الآيات والروايات تنطوي على خطاب يوجّه للعقول، فاللّه تعالى أو الرسول أو الإمام يخاطب الإنسان عبر عقله؛ لذلك كثرت الاستدلالات في القرآن الكريم، وقد بيّن القرآن علل جميع الأحكام الشرعية وكذلك الروايات، لكي يصل الإنسان إلى قناعة تامة بالتشريع عبر عقله.

ولكن هناك أمر آخر وهو: إن الإنسان في كثير من الأحيان يسلّم ببعض الحقائق نظرياً، لكن هذا التسليم لا ينعكس عليه عملياً، وبعبارة أخرى: لا تحصل لديه القناعة؛ لذا نلاحظ في كثير من الأحيان الحوارات العقلية قد تنتهي إلى

ص: 148

عدم قناعة الطرفين بما يقوله الطرف الآخر، وفي بعض الأحيان قد يُفحم أحد الطرفين ولا يجد جواباً عمّا قاله الخصم، لكنه مع ذلك لا يقتنع برأي الطرف الثاني، والسبب أن الاستدلال أو الحوار كان عقلياً، واستند على القواعد العقلية، ولكن عقل الإنسان قد لا يكون طريقاً إلى إقناعهِ في كثير من الأحيان، وربما يتمكن العقل من إقناع الإنسان بقضية أو رأي ما أحياناً، وبالنتيجة يصل هذا الإنسان إلى قناعة تنعكس على أفعاله، ولكن في أحيان أخرى ربما لا يؤدي الأمر العقلي إلى قناعة الإنسان.

وحينما يذكر القرآن الكريم المفاهيم والحقائق التي أبدعها اللّه سبحانه وتعالى في هذا الكون، ورزق الإنسان عقلاً ليكتشف بعضها، نجد أنه يؤطرها في إطار قصصي، فالقرآن مليء بالقصص التي لم تُذكر لمجرد ملء الفراغ أو الوقت، أو لإلهاء الناس، بل لأن عرض المفاهيم التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في هذا الكون بإطار قصصي يؤدي إلى قناعة الإنسان، أو يكون قنطرة تقوده إلى القناعة بشكل تام.

لو أننا تصفحنا قصة يوسف(عليه السلام) من بدايتها حتى نهايتها لوجدنا أنها ليست مجرد قصة، أو مجرد سرد لقضية ما، كما نلاحظ ذلك في كتب القصص أو الروايات التي يكتبها بعض المؤلفين مثلاً، بل أودع اللّه عز وجل في سياق القصة الحقائق، وأراد أن يصل إليها عقل الإنسان من خلال القناعة التامة بها، وهذه من ميزات القرآن الكريم.

لقد ألّف أحد العلماء كتاباً قارن فيه بين قصة يوسف(عليه السلام) في القرآن الكريم وقصته(عليه السلام) في التوراة، ولاحظ أن القصة الواردة في التوراة أتت مجرد قصة أو رواية، وأما في القرآن الكريم فقد مُلئت بالمواعظ والحكم والاستدلالات

ص: 149

وتحفيز عقل الإنسان. إذن، فالخطاب الثقافي الإسلامي هو خطاب العقول، ولكن ينبغي علينا أن لا نقصر الأمر على هذا النوع من الخطاب، حيث يتصور البعض أن الأمر ينحصر في القضايا العقلية؛ لذلك يحصر نفسه وكلامه وكتاباته في ذكر القواعد أو الأصول العقلانية، والاقتصار على جانب محدد يشكل نوعاً من الخطأ؛ إذ ينبغي على الإنسان أن يبين ما يكشفه العقل السليم، ولكن من الخطأ أن يقتصر على ذلك؛ لأن نسبة تأثير العقل على الناس لإيصالهم إلى القناعة تتطلب ظهور هذا الأمر على جوارحهم وأعضائهم وسلوكهم.

خطاب العاطفة

إن اللّه سبحانه وتعالى كما جعل للإنسان عقلاً جعل له عاطفة، وهي ليست لغواً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً إلا لحكمة، ولا يوجد عبث في مخلوقاته سبحانه وتعالى، لأن الإنسان يحتاج إلى هذه العاطفة كونها محركاً قوياً له أكثر من تحريك العقل، فقد يحرك العقل الإنسان ولكن بنسبة قليلة، وأما العاطفة فتحركه بنسبة أكبر من العقل؛ لذا يقال: إن دور العاطفة في العقل كدور المحرك في السيارة، فلولا هذا المحرك لا تتحرك السيارة، كذلك لا يتحرك عقل الإنسان في كثير من الأحيان إلا عبر العاطفة؛ لأنها محرك قوي وطريق لوصوله إلى القناعة، وإذا وصل الإنسان إلى القناعة عبر العاطفة فإن ذلك يظهر على جوارحه وسلوكه، وربما مرَّ كل فرد منا بحالات من هذا النوع في حياته.

مثلاً: إذا قال لنا شخص: هناك عائلة فقيرة لا تمتلك مالاً لدفع إيجار البيت، فطردها صاحب البيت، وهي الآن في الشارع تحت ظل البرد القارص، ومعها أطفال صغار، ثم دعانا لمساعدة هذه العائلة، فربما لا يتحرك البعض منّا لمساعدتها حتى بعد سماعه لهذا الكلام؛ لأن الخطاب للعقل قبل أن يخاطب

ص: 150

عاطفته، وإذا أثر هذا الكلام في البعض فربما يكون التأثير محدوداً، ولكن نفس هذا الشخص إذا شاهد العائلة والأطفال بعينه، وهم يبكون ويرتجفون من البرد، ولاحظ الحالة المزرية التي يعيشها هؤلاء، فإن تفاعله معهم سيكون كبيراً، وربما سيأخذ هؤلاء الأيتام إلى بيته، وقد يدفع إيجار البيت عنهم، وربما يقدم لهم المساعدة الفورية؛ لأن عاطفته حركته بهذا الاتجاه الإنساني؛ فإن محرك العاطفة أقوى وأكثر تأثيراً.

بين العقل والعاطفة

إن هناك مفردة في الخطاب الثقافي الإسلامي تخاطب عاطفة الإنسان، فالعقل هو البنية الأساسية أو البنية التحتية - إذا جاز التعبير- وأما العاطفة فتبنى على العقل؛ ولذا فكما يوجد في القرآن الكريم وفي الروايات خطاب للعقل يوجد خطاب للعاطفة، فإذا كان هناك بعض الناس لا يتحركون عبر خطاب العقل، ولا يقتنعون به، أو قد يكون تحركهم أو قناعتهم ضعيفة فإن مخاطبة العاطفة تكون كفيلة بدفعهم كي يتحركوا أكثر، حيث تتحقق قناعتهم على أثر هذا التحرك والسلوك.

وبناءً على ذلك، فإن النوع الثاني من الخطاب الثقافي الإسلامي هو الخطاب الذي يخاطب العاطفة؛ لذا حينما شاء اللّه عز وجل للإمام الحسين(عليه السلام) أن يكون قتيلاً بتلك الطريقة المفجعة - كما ورد في السيرة الحسينية - فقد اجتمعت جميع الكمالات فيه(عليه السلام) وفي أنصاره ونسائه وأولاده، وأما في المعسكر المقابل، حيث عسكر يزيد بن معاوية، فإننا نلاحظ ظهور جميع أنواع الرذائل وجميع الحالات اللاإنسانية، فحينما نقرأ سيرة الإمام(عليه السلام) نلاحظ أن تلك المفاهيم السامية أطرت بإطار عاطفي، يحرك الإنسان أكثر من الإطار العقلي.

لقد امتزج العقل مع العاطفة في قضيّة الإمام الحسين(عليه السلام)، فحينما نقرأ

ص: 151

سيرته(عليه السلام) فسنلاحظ أن الحقائق التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في هذا العالم أطرت بإطار عاطفي؛ لذا هي محرك قوي للإنسان، توصله إلى حالة من القناعة بتلك الأفكار السامية، ومن ثم إلى قناعة تظهر في سلوكه؛ ومن هذا المنطلق نلاحظ هذا التركيز الهائل - كما ورد في روايات متواترة - على البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام)، فهناك روايات كثيرة تدل على أن اللّه تعالى أخبر رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمقتل الإمام الحسين(عليه السلام) فبكى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهذا الخبر، وهناك روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام) والتشويق والتحريض على ذلك.

لذلك جعل اللّه عز وجل ثواباً كبيراً على كل دمعة تجري لمصاب أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)(1)، ناهيك عن كثير من الأمور التي قد لا نعلمها، كونها من الأمور الغيبية، أو أنها من الأسباب والمسببات التي ربما لم نصل إليها، ولكن الفائدة في أحد جوانب هذه الحالة هو تحريك عاطفة الإنسان، لكي يقتنع بالمفاهيم العقلية التي جاء بها الإسلام.

لذا ففي العاشر من محرم وفي المناسبات التي تذكر فيها سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) وتذكر مصائبه، نجد أن عواطف الناس تهيج، فيقتربون إلى المفاهيم الإلهية السامية، وإلى المفاهيم العقلية، التي أراد اللّه سبحانه وتعالى للإنسان أن يطبقها في حياته.

ص: 152


1- كامل الزيارات: 100، وفيه: ... عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه اللّه بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً...».

(25) دور الفطرة في تأثير الخطاب

خطاب الفطرة

إن عقول بعض الناس تختلف أحياناً عن العقل السليم والصحيح، بسبب التربية أو الأجواء التي يعيشونها، أو بسبب أسلوب الحياة، فهناك أناس ذوو عقول، لكن عقولهم لا تسير بالطريقة السليمة أو الصحيحة، فهناك شيء شبيه بالعقل يعبر عنه بالنكراء أو الشيطنة، وهذا ما رواه الشيخ الكليني فعن: أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: «ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(1). نعم، هو نوع من التدبير لكنه تدبير خاطئ، وأسلوب غير سليم.

إذن، فتركيبة عقول بعض الناس لا تتلقى المفاهيم الصحيحة بشكل سليم، بسبب التربية أو الأجواء التي يعيشونها، وإنما تتلقاها عقولهم حسب الإطار الذي وضعت فيه، مثل الحاسوب (الكومبيوتر) الذي يبرمج ضمن برمجة خاصة، فتأتي

ص: 153


1- الكافي 1: 11.

النتائج وفقاً لتلك البرمجة، فإذا كانت البرمجة غير سليمة تكون النتائج غيرسليمة، وأما الفرق بين البرمجة السليمة وغيرها فقد يكون الحاسوب من نوع واحد، لكن المبرمج برمجه بطريقة سليمة أو على العكس من ذلك، كذلك الحال مع عقل الإنسان، فهو يشبه جهاز الحاسوب، وقد يبرمج هذا العقل برمجة خاطئة بسبب التربية أو الأجواء التي يعيشها الإنسان، أو بسبب التراكمات التاريخية أو الفكرية، أو أي أسباب أخرى، فتكون التركيبة خاطئة؛ لذا فمخاطبة العقل بالخطاب السليم لا يؤثر به في كثير من الأحيان.

وبناءً على ذلك، فنحن بحاجة إلى نوع آخر من الخطاب، وهو ما نعبر عنه بخطاب الفطرة، فلو اطلعنا على سيرة الأنبياء(عليهم السلام) لوجدنا أنهم في كثير من الأحيان كانوا يخاطبون فطرة الإنسان، وأعني بها الفطرة التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في كل إنسان، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).

إننا اليوم نواجه تحدياً كبيراً يتمثل بالثقافة الغربية، فكيف يمكننا أن نبين الإسلام الصحيح لهؤلاء؟

لو أننا تكلمنا بطريقتهم، فإن عمل العقل لديهم أو بنيته تختلف عن طريقة العقل السليم؛ لاختلاف منهجهم وإعلامهم بشكل جذري عن منهجنا وإعلامنا؛ إذ يركز إعلامهم على بعض الزوايا التي تهمهم فقط.

فمثلاً: نقل لي أحد المؤلفين أن هناك موسوعة ألفت حول الإسلام في الغرب، وحينما جاء ذكر الإمام الصادق(عليه السلام) تمَّ الحديث عنه في سطر أو سطرين، لكن حينما وصل الدور إلى كلمة (عمامة) تم تخصيص أكثر من

ص: 154


1- سورة الروم، الآية: 30.

ثلاثين صفحة لها! فقد تناولت الموسوعة ألوان العمامة، ولماذا تكون بيضاء أوسوداء؟ وتأريخها وغير ذلك، والسبب في ذلك لأن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) لا يهمهم بقدر ألوان العمامة وكيفية لفّها فهي تستثيرهم.

لقد ذكرت هذا الشاهد لكي أبين أن طريقة تفكيرهم تختلف عن طريقة تفكيرنا، فما يهمهم قد لا يهمنا وبالعكس؛ لذا ففي كثير من الأحيان يعود فشل بعض الدعاة إلى الإسلام في الغرب إلى تركيزهم على بعض الأمور المهمة في الشرق، مع أن الغربيين لا يعيرون أهمية لتلك الأمور، فطبيعة ثقافتهم تجعلهم لا يهتمون بتلك الأمور، في حين أن هناك بعض الأمور التي تهمهم كثيراً بينما لا تهمنا.

إذن، فتركيبة عقلهم تختلف عن تركيبة عقلنا بشكل كبير، وهذا بسبب تأثير البيئة والثقافة، أو بسبب تراكمات الأجيال السابقة وغير ذلك، فحينما نريد أن نخاطبهم فقد لا تتقبل تركيبة عقولهم ذلك الخطاب، والكلام العقلاني الذي نذكره، وقد لا يقتنعون بهذا الكلام، فحينما نتكلم عن العفة والعفاف عشرات الساعات، فربما لا يهمهم هذا الأمر إطلاقاً؛ فمع لزوم خطاب عقولهم وعواطفهم ينبغي أيضاً أن نخاطب فطرتهم.

لو أننا قلّبنا صفحات التأريخ لوجدنا أن الخطاب الموجّه إلى الفطرة يؤثر تأثيراً بليغاً حتى في الطغاة، وإن كان تأثيره مؤقتاً، فعندما دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام)، طلب منه أن يصف له علياً(عليه السلام)، ففعل فتأثر معاوية بذلك، ففي الرواية: «دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن أبي سفيان يوماً فقال له: يا ضرار صف لي علياً، فقال: أو تعفيني من ذلك؟ قال: لا أعفوك.

قال: أما إذ لا بد، فإنه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً،

ص: 155

ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة على لسانه، يستوحش منالدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته.

كان واللّه غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب. كان واللّه معنا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوه لنا وقربه منّا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم. يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف عن عدله.

أشهد باللّه لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، مماثلاً في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات غري غيري، لا حان حينك، قد أبنتك ثلاثاً، فعمرك قصير وخيرك حقير، وخطرك كبير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته وجعل يستقبلها بكمه، واختنق القوم جميعاً بالبكاء، وقال: هكذا كان أبو الحسن يرحمه اللّه، فكيف وجدك عليه يا ضرار؟ فقال: وجد أم واحد ذبح واحدها في حجرها، فهي لا يرقى دمعها، ولا يسكن حزنها.

فقال معاوية: لكن هؤلاء لو فقدوني لما قالوا، ولا وجدوا بي شيئاً من هذا، ثم التفت إلى أصحابه فقال: باللّه لو اجتمعتم بأسركم هل كنتم تؤدون عنيّ ما أداه هذا الغلام عن صاحبه؟ فيقال: إنه قال له عمرو بن العاص: الصحابة على قدر الصاحب»(1).

ص: 156


1- بحار الأنوار 33: 274-275.

ومن ذلك نفهم أن ضرار وصف الإمام علي(عليه السلام) بأوصاف كان يخاطب فيهفطرة معاوية ولم يخاطب عقله؛ ولا عاطفته مع أن معاوية كان من ألدّ أعداء أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث قاتله في صفين، وشن الغارات على أطراف دولة أمير المؤمنين، وسنّ سب الإمام على المنابر، حيث إن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) كان يُسبّ من على سبعين ألف منبراً، حتى منع رواية فضائله وقال: «برئت الذمة ممن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته»(1).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنه كان منهم أيام علي(عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم، وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروى كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته»(2).

ولكن مع كل ذلك فقد تأثر معاوية وبكى عندما سمع أوصاف أمير

ص: 157


1- الاحتجاج 2: 295.
2- شرح نهج البلاغة 11: 44.

المؤمنين(عليه السلام)؛ لأن ضرار بن ضمرة خاطب فطرة معاوية، وصدّق كلام ضرارلأنه كان موجهاً إلى فطرته وإن كان ذلك موقتاً.

لقد كان المتوكل العباسي ناصبياً، وكان يسب أمير المؤمنين(عليه السلام)(1)، وقد أمر لمرات عديدة بهدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام)(2)، وجعل الماء يتدفق على القبر الشريف، وأمر الزراع أن يحرثوا القبر وأطرافه، وكان هناك شخص يرافقه للتسلية والإضحاك، فكان يقول له: أنت علي بن أبي طالب!! ويقوم ببعض الحركات والتصرفات غير اللائقة، فيضحك المتوكل وجماعته، ورغم هذا العداء والنصب المستشري في قلبه، إلا أنه بكى بأثر كلامٍ من الإمام علي الهادي(عليه السلام)، فقد رُوي أنه: «سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد(عليهما السلام) أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا، وهو متوجه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن.

فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكل. فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده.

فقال: واللّه ما يخامر لحمي ودمي قط فأعفني، فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً.

ص: 158


1- حياة الحيوان الكبرى 1: 124؛ الكامل في التاريخ 7: 55.
2- الكامل في التاريخ 7: 55.

فقال(عليه السلام): إني قليل الرواية للشعر، فقال: لابد. فأنشده(عليه السلام) وهو جالسعنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم *** وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

قال: فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون».

وروى الكراجكي في كنز الفوائد: «فضرب المتوكل بالكأس الأرض وتنغص عيشه في ذلك اليوم»(1).

لقد كان المتوكل ثملاً، فكيف يواجه الإمام(عليه السلام) هذا الطاغية وهو بهذه الحالة؟ فهل يخاطبه باستدلالات عقلية، وقد سكر من السلطة قبل أن يسكر من الخمر؟ أم هل يخاطب عاطفته وهي ميتة أصلاً، كونه رجلاً مليء بالإجرام؟ لذا فقد وجّه كلامه إلى فطرته؛ لذا زال عنه سكر السلطة وسُكر الخمر بشكل مؤقّت، وارتجف من الخوف وبكى، وإن كان الرجوع إلى هذه الفطرة لمدة دقائق معدودة؛ لأن الظرف الذي كان يعيشه والإجرام ونشوة السلطة وغير ذلك لم تسمح له ولأمثاله بأن يستمروا بالبقاء على فطرتهم، ولكن المقصود أننا عندما

ص: 159


1- بحار الأنوار 50: 211-213.

نخاطب فطرة أعتى الطغاة فسوف يؤثر فيه الخطاب ولو للحظات.

وخلاصة القول: أن الخطاب الثقافي الإسلامي يعتمد على مخاطبة العقول والعواطف والفطرة، وقد جمع القرآن الكريم بين هذه الموارد الثلاثة؛ لذا ينبغي علينا أن لا نفرط بجانب على حساب الجوانب الأخرى، فالبعض يستشكل على المجالس الحسينية، غافلاً عن أنها بالإضافة إلى مخاطبتها للعقول فإنها تخاطب العواطف والفطرة أيضاً؛ لذا فإن تأثير المجلس الحسيني الواحد يكون أكثر من عشرات الندوات الثقافية، التي تقام من أجل تحريك الجمهور نحو الأفضل.

ص: 160

الفصل الخامس:ثقافة الاختلاف

اشارة

ص: 161

ص: 162

(26) ثقافة الاختلاف ودورها في نشر الإسلام الصحيح

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(1).

إننا بحاجة إلى إرساء ثقافة الاختلاف لكي نمهد السبيل للتعايش في أوساط الأمة، فالاختلاف حقيقة كونية يجب على الإنسان أن يستفيد منها بأقصى ما يمكن، وأن يتعامل معها تعاملاً صحيحاً، وطالما كان الاختلاف حقيقة كونية فيجب على الإنسان أن يرسي ثقافة الاختلاف في المجتمع، علماً أن الاختلاف غير الخلاف؛ لأن الأخير هو نقل الاختلاف من حالته الإيجابية إلى السلبية.

إن الاختلاف هو عدم تشابه الثقافات بين الأشخاص وتغيرها من إنسان إلى آخر؛ لذا فلابد من تمكين الناس من فهم ثقافة الاختلاف، لكي يتمكنوا من توظيف إيجابياتها لصالحهم، لأن الدين الإسلامي ليس مختصاً بأحد الأعراق، أو بإحدى القوميات، أو بإحدى اللغات دون غيرها، وإنما هو دين عام لجميع اللغات والقوميات والأعراق والألوان.

إنّه دين عام لكل البشرية، ومن الطبيعي أن يدخله أناس من أعراق وألوان ولغات مختلفة، فيكون جامعاً لكل هؤلاء، فيتحول التنوع والاختلاف إلى رحمة

ص: 163


1- سورة فصلت، الآية: 26.

إذا تمكن الإنسان من الاستفادة الصحيحة من هذه الحقيقة الكونية؛ لأنها كسائر الحقائق الكونية الأخرى، فإذا أحسن الإنسان الاستفادة منها فستتحول إلى نقطة إيجابية، وأما إذا أساء استخدامها فستتحول إلى نقطة سلبية.

إننا بحاجة إلى عدة أمور من أجل إرساء ثقافة الاختلاف، والحوار الإيجابي من أهم الأمور التي نحتاجها لتحقيق هذا الهدف، بغية تمكين جميع الناس من إبداء وجهة نظرهم، وبيان مقاصدهم. فالحوار هو الطريق البنّاء الذي يساعدنا على الاستفادة الإيجابية من الاختلاف، وهو الركيزة الأولى في هذه الثقافة، ولو أننا راجعنا النصوص الدينية فسنلاحظ أن اللّه عز وجل هو الذي بدأ بالحوار، مع أنه هو الخالق والرازق وكل الأمور بيده، ومع ذلك نلاحظ أنه تعالى بدأ الحوار مع مخلوقاته.

فحينما أراد اللّه عز وجل أن يخلق آدم(عليه السلام) أعطى فرصة للملائكة لكي يسألوه، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(1)، فقد كان بإمكان اللّه تعالى أن لا يبين لهم هذا الأمر، ويخلق مَن يشاء من دون أن يكون هناك حق لأي كائن في الاعتراض أو السؤال أو الاستفهام عن ذلك، ولكنه عز وجل ذكر لهم هذا الأمر فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. فاللّه عز وجل ذكر لهم هذا الأمر قبل أن يخلق آدم(عليه السلام) لكي يبدأ معهم حواراً ينقل في الكتب المقدسة، كالقرآن الكريم، حتى نتعلم منه آداب الحوار، فربما كان هذا من مقاصد اللّه عز وجل.

وحينما لاحظ الملائكة أن اللّه عز وجل سمح لهم بالكلام والسؤال، وجهوا سؤالهم لله عز وجل فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ

ص: 164


1- سورة البقرة، الآية: 30.

نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}(1)، ولم يأت هذا السؤال بصيغة اعتراض، بل هو سؤال استفهامي، مع أنهم كانوا يعلمون أن ما يفعله اللّه عز وجل لابد أن يكون عن مصلحة، لكنهم سألوا لكي يتضح لهم وجه المصلحة في ذلك.

وبعد أن خلق اللّه عز وجل آدم(عليه السلام) علّمه الأسماء، ثم بيّن للملائكة الحكمة في خلقه بطريقة عمليّة، وبيّن لهم أن آدم(عليه السلام) أفضل منهم، وذلك بعد أن سألهم عن تلك الأسماء فقالوا: لا نعلم، {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبُِٔونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(2)، ثم خاطب اللّه سبحانه وتعالى آدم(عليه السلام): {ئََٰادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}(3)، وهنا أراهم اللّه عز وجل عملياً أن هذا الخلق كان ينطوي على الحكمة، مع أنهم كانوا يعلمون بذلك، ولكن علمهم كان نظرياً، فأوصل اللّه عز وجل علمهم إلى مرحلة الاقتناع عن طريق الحوار والاستدلال العملي.

الحوار في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)

وهكذا لو اطلعنا على سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعرفنا أنه كان ينتهج مبدأ الحوار مع أي شخص لديه سؤال أو اعتراض أو استفسار، فكان يعطي المجال لكي يسأل، وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجيب عن سؤاله، وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسمح بالنقاش إذا تطلب الأمر

ص: 165


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة البقرة، الآية: 31-32.
3- سورة البقرة، الآية: 33.

المناقشة. فحينما جاء نصارى نجران إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناقشهم فيما جاءوا من أجله، حيث أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيه أن يناقشهم، وأما إذا وصل النقاش إلى طريق مسدود، بحيث يتحول إلى العناد والنقاش العقيم فلنوكل الأمر إلى اللّه عز وجل، قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}(1)، أي: إذا بدأت مع الآخر بحوار منطقي وعلمي، إلا أن كلامه كان بعيداً عن المنطق أو العلم، وكان لأجل العناد فقط، فعندئذٍ أوكل الأمر لله عز وجل: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}(2).

إذن، حتى لو كان الطرف المقابل معانداً فينبغي أن نوكل الأمر لله عز وجل، ونجعله الحاكم الذي يطرد الكاذب من رحمته.

والآية الكريمة لم تقل: (فنجعل لعنة اللّه عليكم) بل كانت تراعي أدب الحوار، وتعمم المسألة فقول: {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}، وهذا ما ورد في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(3)، وهنا نلاحظ أن اللّه عز وجل يعلّم رسوله والمؤمنين كيفية التكلم، أي: فلا تقل أنا على حق مبين، وأنت على باطل مبين، وإنما قل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(4).

حينما نرجع إلى سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) نجد هذا المفهوم جلياً، فهنالك الكثير

ص: 166


1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- سورة آل عمران، الآية: 61.
3- سورة سبأ، الآية: 24.
4- سورة سبأ، الآية: 24.

من النماذج، وهم الذين يبدأون بالحوار والاحتجاج معه، وإذا وصل الأمر إلى طريق مسدود فلا يتم التعامل معه من خلال القمع، وإنما يُوكل الأمر إلى اللّه عز وجل.

فبالحوار يمكننا أن نصحح التصورات الخاطئة؛ لأن ابتعاد الأفراد والمجتمعات بعضها عن الآخر يؤدي إلى تصورات خاطئة في كثير من الأحيان، حيث يحدث سوء الفهم، وهو بدوره يؤدي إلى الحكم الخاطئ؛ لأن تصديق الشيء فرع تصوره، فإذا كان التصور خاطئاً فسيكون التصديق خاطئاً أيضاً، وإذا اتخذ الإنسان حكماً خاطئاً فسوف يكون تعامله خاطئاً استنادا لتصوره الخاطئ، الذي يُعدّ أساس الممارسة الخاطئة، ولكن إذا رُفعت الحواجز النفسية الموجودة بين المجتمعات والأفراد، وحدث الحوار بينهم فإن الإنسان سيكتشف في كثير من الأحيان أن تصوره عن الآخرين كان خاطئاً، فيؤدي هذا إلى تعديل التصور الذي يؤدي بدوره إلى تعديل السلوك.

من هنا نلاحظ أن سلاح الكفار والمشركين الذين كانوا يعارضون الإسلام هو منع الناس من الاستماع للقرآن الكريم، وهذا يؤدي لأن يقع الناس تحت تأثير التصور الخاطئ بسبب الدعاية السوداء ضد الإسلام؛ لذا فحينما كانوا يستمعون إلى القرآن الكريم كان يؤثر فيهم ويغير تصورهم.

لقد سمع أحد الأشخاص أن رجلاً في مكة ادعى النبوة، فقرر الذهاب إليها لكي يستمع لكلام ذلك الرجل، فإن وجده كاذباً قتله وأراح البلاد والعباد منه، وان وجده صادقاً تبعه، وحينما وصل إلى مكة واستمع إلى القرآن الكريم أثّر فيه ودخل الإسلام، وصار من صحابة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لقد لاحظ المشركون أن منع الناس عن الاستماع للقرآن الكريم هو السبيل لتحقيق هدفهم؛ لذلك سعوا لغرس دعايتهم السوداء في عقول الناس ونفوسهم،

ص: 167

والآية الكريمة تبيّن وضعهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(1)، فلم يكن الهدف من ذلك هو الوصول إلى الحق، وإنما الانتصار للباطل؛ لذا يصف اللّه عز وجل حال بعض المشركين والكفار في آية أخرى بأنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم لكي لا ينفذ كلام اللّه تعالى إلى قلوبهم(2)، وحينما كان يأتي رجل غريب إلى مكة المكرمة يقولون له: لا تستمع لكلام هذا الرجل؛ لأنهم يعلمون أن الاستماع كفيل بتصحيح كثير من التصورات الخاطئة. فقد ورد في قضية مفصلة ما مضمونه: لما جيء بعلي بن الحسين(عليهما السلام) فأقيم على درج مسجد دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين(عليه السلام): أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: قرأت الحم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ الحم، قال: قرأت {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3)، قال: أنتم هم؟ قال: نعم، ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام): أفقرأت في بني إسرائيل: {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ}(4)، قال: وإنكم القرابة التي أمر اللّه أن يؤتى حقه؟ قال: نعم....»(5). وبعدما علم هذا الرجل أنه مخطئ اعتذر من الإمام(عليه السلام).

ص: 168


1- سورة فصلت، الآية: 26.
2- سورة نوح، الآية: 7: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا}.
3- سورة الشوری، الآية: 23.
4- سورة الإسراء، الآية: 26.
5- بحار الأنوار 23: 252.

(27) دور الاعتدال ونبذ التعصب في بناء المجتمع السليم

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(1).

تطرقنا في البحوث الماضية إلى أن الاختلاف حقيقة كونية ينبغي على الإنسان الاستفادة منها، وكذلك الاستفادة من سائر الحقائق الكونية، وذكرنا أن التعايش هو المصداق الواضح والصحيح ضمن اختلاف الناس اللغوي والعرقي والفكري والديني، فينبغي على الناس أن يتعايشوا فيما بينهم، وأن يستفيدوا من الاختلاف إيجابياً، لكي تتطور البشرية وتسير نحو الكمال.

ولكن هناك عقبات أمام التعايش ومنها التعصب، فلا يمكن التعايش إلا إذا تمَّ اقتلاع جذور التعصب، سواء كان في الفكر أم الانفعالات النفسانية أم في السلوك البشري.

بين التعصب والاعتدال

يمكن تعريف التعصب بأنه نوع من التحيز والتحامل على الآخر، أو بعبارة أخرى: هو الانحياز غير الموضوعي، لاسيما إذا تعلق بالجانب المذهبي والنصوص الدينية، ويعبر عن التعصب بشكل عام بالجاهلية، أي: أن ينحاز الإنسان لفكره ومعتقده بصورة غير موضوعية، وغير مبنية على أسس عقلانية

ص: 169


1- سورة المائدة، الآية: 8.

دينية، وإنما لمجرد اعتقاده بأفضلية فكره ومعتقده، أو أنه يتبع ديناً أو مذهباً مندون أن يفكر بصحة أو بطلان ما يعتقد به، وغالباً ما يتعرض الإنسان إلى الانحياز غير الموضوعي بسبب التعصب، لاسيما التعصب الأعمى؛ إذ يظن أنه على حق مطلق والآخرين على باطل مطلق.

حينما نقرأ ما ورد في التاريخ نجد أن الحكومة العباسية سقطت أمام غزو المغول للبلاد الإسلامية، فسقطت بغداد بأيدي المغول، وبسقوطها سقطت الخلافة العباسية. إذن، فسقوط الدولة العباسية قضية تاريخية لها عواملها وأسبابها السياسية والاجتماعية؛ لذا يجب أن ننظر إليها بمنظار تاريخي صحيح، وندرس الوضع الاجتماعي والسياسي والعسكري، وتوازن القوى بين المسلمين والمغول في ذلك العصر دراسة تاريخية صحيحة، تقودنا إلى الأسباب الصحيحة لسقوط الدولة العباسية، ولكن حينما يتدخل التعصب الأعمى والانحياز غير الموضوعي فإنه يعزو سقوط الدولة العباسية إلى خيانة الوزير ابن العلقمي(1)، التي أدت إلى دخول المغول لبغداد، ولكن لماذا هذا الاتهام؟ وذلك لأن هذا الرجل كان يتبع مذهباً معيناً، فقد كان شيعياً؛ لذا فقد أدى الانحياز غير الموضوعي إلى تبسيط الأمور، وإغفال الأسباب السياسية والاجتماعية والعسكرية، واتهام رجل واحد بما آل إليه مصير دولة كاملة، والسبب لأنهم يبغضونه، أو يبغضون مذهبه، أو ما يحيط به من معتقدات، في حين أن الدراسة الموضوعية تقودنا إلى غير ذلك، فحين درس بعض المنصفين قضية سقوط الدولة العباسية بشكل صحيح توصلوا إلى نتائج أخرى، وأن الرجل المتهم بالخيانة كان بريئاً من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف(عليه السلام)، ولكن السبب الذي قاد البعض لاتهامه هو التعصب المذهبي الأعمى.

ص: 170


1- سير أعلام النبلاء 23: 362؛ طبقات الشافعية الكبرى 8: 263؛ الأعلام 4: 140.

لقد ألف الدكتور سعد محمد حذيفة الغامدي، وهو أستاذ التاريخ في جامعةالملك سعود بالرياض، كتاباً تحت عنوان (سقوط الدولة العباسية) ناقش ضمنه الاتهام الذي تعرض له ابن العلقمي حول خيانته للدولة العباسية بموضوعية وإنصاف، فجاء في هذا الصدد: (إن اتهام العلقمي لا يقوم على دليل وبرهان، بل هناك إحدى عشر حقيقة تاريخية واجتماعية تدحض هذا الاتهام)، فحينما درس الباحث هذه المسألة بموضوعية، وتجرد من الخلفيات الذهنية والتعصب، واعتمد منهج البحث الصحيح توصل إلى أن الرجل بريء، وأن اتهامه كان من منطلق طائفي وتصعب أعمى.

إذن، فلو نظرنا إلى الأمور بتعصب أعمى فإن ذلك يقودنا إلى إغفال الحقائق والأسباب، وإلى تبسيط الأمور بحيث نتغاضى عن الأسباب المهمة والمعقدة والمتشابكة، ونبسطها ونختصرها في أمر جزئي بسيط، ينطلق من منطلق طائفي، فينتج عنه التعصب الأعمى، ليمنع الإنسان من المعرفة والعلم الذي ينتج عن الآخرين، مع أنهم بشر مثلنا، وقد أعطاهم اللّه تعالى قدرات فكرية كما أعطانا، فقد قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}(1)، فعطاؤه تعالى ليس مخصوصاً بأناس دون غيرهم، أو بشعب دون غيره، وإنما وزّع اللّه عز وجل الخيرات أجمع على الناس أجمع، فكما أننا نفكر وننتج فكراً كذلك يفعل الآخرون، فهم يفكرون وينتجون، وكما نتوصل إلى حقائق علمية واجتماعية، وحقائق أخرى، فكذلك يفعل الآخرون، وأما إذا تعصبنا ونظرنا إلى الآخرين نظرة غير موضوعية فسوف نحرم أنفسنا من الإنتاج المعرفي والعلمي الصادر عن الآخرين، وهذا ما نلاحظه لدى الكثير من

ص: 171


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

المسلمين، الذي يتعصبون تعصباً أعمى، لدرجة أنهم يرفضون الإنتاج الفكريللآخرين، ويمنعون تداول كتبهم؛ وهذا يعني أنهم حرموا أنفسهم من الإنتاج الفكري للآخرين، مع أن اللّه عز وجل يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(1)، فينبغي على الإنسان أن يستمع لأقوال الآخرين ثم يتبع أحسنها.

لغة الحوار والفهم المتبادل

لو راجعنا القرآن الكريم لوجدنا أنه ينقل لنا أراء الكفار والمشركين وكلامهم ثم يفنده، فلم تنحصر مضامينه في ذكر الحقائق الإلهية فقط، بل أورد الآراء الأخرى وفندها بلغة علمية، الإنسان إذا حرم نفسه من إنتاج الآخرين فسوف يحرمها من التطور والتقدم البشري، الذي يستمر ويتواصل بتلاقح الأفكار والنقاش المستمر، وإذا حصر الإنسان نفسه في مضامين وكتب ومحاضرات خاصة فسيحرم نفسه من ثقافة وعلوم الآخرين؛ لذا نلاحظ أن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تؤكد على أن الإنسان إذا وجد حقيقة أو حكمة لدى أشخاص آخرين فليأخذ بها ويتعلمها، حتى لو وجدها عند غير المسلمين، لذا قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(2)، وقد كان الصينيون في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كفاراً ومشركين، وحتى الآن فإن أكثرهم ليسوا بمسلمين.

وقد ورد في حديث شريف آخر: «الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(3)، فإذا نطق المنافق بكلام ينطوي على الحكمة فعلينا أن

ص: 172


1- سورة الزمر، الآية: 18.
2- روضة الواعظين: 11؛ وسائل الشيعة 27: 27.
3- نهج البلاغة، الحكم: 80.

تأخذ به، ونجد في حديث آخر: «لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال»(1)، أي: لا تنظر إلى القائل من هو؟ وهل هو من جماعتي ومن مذهبي أم لا؟ وإنما على الإنسان أن ينظر إلى ما قاله من كلام أو إلى الكلمة التي نطق بها، فإذا كانت حقاً - حتى لو صدرت من منهج لا علاقة له بنا مذهبياً أو دينياً - فلنأخذها، وأما إذا صدرت الكلمة من أحد أتباعك أو جماعتك، أو من شخص يشاركك في الدين أو المذهب أو المعتقد، ولم تكن تلك الكلمة حقاً فينبغي رفضها.

نعم إذا كان الإنسان معصوماً، وعلمنا بأنه مُنصَّب من قبل اللّه عز وجل، كالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)، فحينئذٍ نعرف الحق من خلال معرفتنا له، فإذا عرفنا أن هذا الرجل نبي أو إمام فسنعرف أن ما يقوله هو الحق، وهذه الحالة استثناء من القاعدة العامة، التي تنص على أن معرفة الحق سبب لمعرفة أهله، لا أن يُعرف الحق عبر الرجال.

إن التعصب الأعمى يسوق الإنسان إلى حالة من الحرب الداخلية، ويقوده نحو الانغلاق الفكري والعقلي تجاه نتاج الآخرين، بحيث يعتبر نفسه هو الحق المطلق، وأما الآخرون فهم على باطل مطلق، فيغفل عن الحقائق، ويحاول أن يربط المشاكل أجمع بالآخرين، الذين لا يشاركونه في المعتقد والمذهب، وقد يكون السبب وراء كل ذلك هو تبسيط الأمور، واتهام أصحاب المذهب الآخر بكل المشاكل والأزمات، وبذلك يحرم نفسه من البحث في الجذور والعوامل لحل المشاكل بصورة صحيحة، فقد يتصور أن المشكلة تقع ضمن مجموعة منالناس الذين يخالفونه في الرأي، فيؤدي به ذلك إلى قمع الآخرين، تصوراً منه

ص: 173


1- عيون الحكم والمواعظ: 517.

بأن القمع هو الطريق الأمثل لمعالجة المشاكل، مع أن قمع الآخرين واضطهادهم وممارسة الطائفية البغيضة ضدهم لا يساعد على حل المشاكل؛ لأن الإنسان لم يدرس جذور المشاكل بالطريقة الصحيحة، فيضيف إليها مشكلة أخرى، وهي مشكلة الحرب الداخلية، فيتعرض السلم الأهلي إلى خطر كبير؛ يقول اللّه عز وجل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ}(1)، أي إذا كنتم تبغضون قوماً فينبغي أن لا يؤدي ذلك إلى فقدان العدل، ونكتشف من هذه الآية أن العدل يشمل حتى طريقة التفكير بالنسبة إلى الآخرين، فإذا عدلت مع الآخرين الذين تبغضهم فهو أقرب لتقوى اللّه؛ لأن هذا منهج أراده اللّه سبحانه وتعالى. فإن تقوى اللّه عز وجل تسوق الإنسان إلى التطور والكمال، وإلى حل مشكلاته.

وقد ورد في القرآن الكريم أن التعامل الحسن له نتائج جيدة، فإذا حدثت بينك وبين شخص عداوة، إلا أنك تعاملت معه تعاملاً إسلامياً حسناً فسوف يؤدي ذلك إلى أن تنقلب العداوة إلى صداقة، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2)،

فعن طريق ترك التعصب الأعمى يتمكن الإنسان أن يجعل من الآخرين مقربين له، ويبني صداقة حميمة معهم، ويؤدي ذلك إلى ترسيخ السلم الأهلي، ونبذ الحرب بين أفراد المجتمع، وهذا بدوره يقود المجتمع إلى التطور والرقي.

ص: 174


1- سورة المائدة، الآية: 8.
2- سورة فصلت، الآية: 34.

(28) نبذ حالة الاستعلاء واللجوء إلى التآخي والحوار المتحضّر

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).

إننا بحاجة إلى أمرين لتحقيق حالة الوئام والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع الإسلامي وهما:

الأول: سلوكي: كأن تكون تصرفاتنا من دون طغيان وتعدٍ واستعلاء.

والثاني: نفسي: أي أن يؤمن الإنسان في قرارة نفسه أن الجميع من أصل واحد، لا فضل لأحدهم على آخر إلا بالتقوى، كما يقول اللّه عز وجل: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

يقول خبراء علم النفس: إن حالة الاستعلاء والتعصب تظهر في الشخصية النمطية الجامدة أو المتسلطة حسب اصطلاحاتهم، ومن ثم فلا وجود لغريزة التعصب والاستعلاء في نفس الإنسان، وإنما هناك استعداد للوصول إلى هذه الحالة، ينمو مع التنشئة والتربية التي يتلقاها الإنسان من مجتمعه، والدليل على

ص: 175


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

ذلك الأطفال الصغار، فقبل أن يدركوا التمايز فيما بينهم نجد أنهم يلعبونويلهون مع بعضهم البعض، سواء كانوا بيضاً أم سوداً أم كانوا من طائفة ثرية أم فقيرة من المجتمع، فهم يلعبون من دون أن يكون هناك حاجز نفسي بينهم، ولكن حينما يكبر الطفل ويدرك بعض الأمور - كأن يلاحظ أن أباه وأمه ومجتمعه يتعامل مع مجتمع الطفل الآخر بحالة من الاستعلاء والتعصب - فسيحاول أن يقلد أباه وأمه ومجتمعه، فتترسخ هذه الحالة في تكوينه وشخصيته، وهذه الحالة النفسية هي التي تسوق الإنسان إلى سلوك عملي يحاول أن يستعلي فيه على أخيه الإنسان، وأن يتعصب لقومه أو لونه وطائفته ومجموعته.

بناءً على ذلك، إذا كان أساس المشكلة نفسي فنحن بحاجة إلى علاج نفسي، ويكمن العلاج بشكل عام في الإصلاح الاجتماعي، ومنه الإصلاح الفكري والنفسي؛ لذا ينبغي علينا أن نفكر في إيجاد وسائل وسبل وطرق عملية للإصلاح النفسي في المجتمع؛ إذ سيقودنا ذلك إلى الإصلاح العملي والسلوكي، وبدوره يؤدي إلى السلم الأهلي، ومن الطرق المفيدة في الإصلاح النفسي للقضاء على حالة التعصب والاستعلاء في صفوف المجتمع هي (الإعلام الإقناعي)، بمعنى أن تكون هناك وسائل إعلامية تحاول إقناع المجتمع بالتساوي، وأنه لا يصح الاستعلاء أو التعصب فيما بين المؤمنين؛ لأن الإنسان إذا استمع إلى كلام صحيح في قالب صحيح فسيتأثر به، وسينفذ إلى قلبه وعقله، وسيتمكن هذا الكلام تدريجياً من تصحيح مواطن الخلل في نفس الإنسان.

أهمية الإعلام المقنع

اشارة

إن الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) كانوا يستفيدون من هذه الوسيلة الفاعلة، ونعني بها الإعلام الإقناعي بمختلف وسائله المتوفرة لديهم؛ وذلك لإيصال صوت الحق

ص: 176

إلى المجتمعات الأخرى، لتغيير أفكارها وحالتها النفسية، لما في الإعلامالإقناعي من تأثير كبير على أفراد المجتمع.

فقد كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتهز فرصة الحج أو مجيء الناس للاعتمار إلى بيت اللّه الحرام، وكذلك الفرص المتاحة في اجتماع الناس في الأماكن المختلفة، لبث الفكر الإلهي بين الناس، وإقناعهم بالصحيح، ومخاطبة عقولهم وفطرتهم بالحق. إذن، فالإعلام الإقناعي له دور مهم في إصلاح المجتمع. وبناء على ذلك، فهناك عدة وسائل للإصلاح النفسي في المجتمع وهي:

أولاً: الإعلام الموضوعي

لابد أن يكون هذا النوع من الإعلام بعيداً عن التشنج والجدال، وإنما يكون إعلاماً موضوعياً منطقياً يركز على نقاط القوة في الوئام والتعايش، ولا يسمح بالتمييز بين الناس إلا بالتقوى، ويبين سلبيات التعصب والاستعلاء، ويأمر بالابتعاد عنها؛ لأنها تقود المجتمع الذي يمارسها إلى السقوط في الهاوية.

ثانياً: التعليم لخلق الضمير الاجتماعي

من الواضح أن الحالات السيئة تنشأ بسبب الجهل وقلة التوعية في كثير من الأحيان، فإزالة الجهل وتركيز التعليم والعلم في صفوف المجتمع يؤدي إلى تجاوزهم لكثير من السلبيات؛ لأن الإنسان الجاهل لا يعرف الإيجابيات والسلبيات في كثير من الأمور، وأما الإنسان المتعلم فهو الذي يتنبّه إلى إيجابيات الأمور أو سلبياتها، وإذا تنبّه إلى ايجابية الشيء أو سلبيته فإن ذلك سيؤثر في سلوكه، فلو علم الإنسان بأن الطعام الذي أمامه مسموم فلا يأكله، حتى لو كان جائعاً، وكان الطعام شهياً، وأما إذا كان جاهلاً بتسمم الطعام فقد يأكل منه، كذلك الحال بالنسبة للمجتمع الجاهل، فقد لا يتنبّه إلى سلبيات التعصب

ص: 177

والاستعلاء فيؤدي ذلك إلى الحرب الأهلية، وأما المجتمع المتعلم فإن علمه مقدمة من مقدمات تخلصه من هذه الحالة النفسية السيئة.

ثالثاً: الوعظ الديني

إن الجانب المعنوي والروحي يترك أثراً كبيراً في الإنسان، وربما يكون تأثيره أكثر من الإعلام والتعليم، فالوعظ الديني يؤثر في الإنسان تأثيراً بليغاً، وإذا حدث ذلك فسوف يتحول سلوك الإنسان إلى الأفضل؛ لذا ينبغي أن يتم الوعظ الديني بالطريقة المناسبة والصحيحة، لا أن يتحول إلى نقطة سلبية، فيتحول الأمر إلى سجال مذهبي سلبي؛ لذا فإن الحوار أمر مطلوب هنا، وبيان نقاط القوة في المعتقد أمر مطلوب، وكذلك توضيح البرهان والاستدلال للمعتقد، ولكن ينبغي أن لا نحوّل الحوار الديني إلى سجال، كأن لا يكون هدفنا الوصول إلى الحق والحقيقة، وإنما للتشهير بالآخرين وتسقيطهم، فإن هذا سيؤدي إلى التشنج الفكري في المجتمع، ويؤدي إلى حالة سلبية.

لذا يجب أن يكون الوعظ الديني مساعداً لحالة التعايش، وعلى الإنسان الواعظ أن يستفيد من الآيات والروايات والفطرة الموجودة لدى الناس، لكي يرشدهم إلى الحق وعدم الاستعلاء على الآخرين؛ لأن هذه الحالة تؤدي إلى مشاكل جمة، فقد سقط إبليس لأنه استعلى على آدم(عليه السلام)، فحدثت أول معصية حينما خُلق آدم. إذن، فالوعظ الديني له تأثير بالغ على الناس شريطة أن لا يتحول إلى سجال مذهبي، ومحاولة لإسقاط الآخرين والتشهير بهم.

رابعاً: عقد اللقاءات المباشرة

لا بد من عقد اللقاءات المباشرة بين مختلف طوائف المجتمع؛ لأن الإنسان إذا أحس بحالة الاستعلاء فهذا يحدث له بسبب انقطاعه عن الآخرين

ص: 178

وإيجابياتهم، ولأنه يستمع لسلبياتهم فقط؛ لذا يؤدي هذا الأمر إلى صنع تصورخاطئ في ذهنه عن ذلك المجتمع أو الشخص، وأما إذا كانت هناك لقاءات فكرية مختلفة بين طوائف المجتمع فسوف تؤدي إلى أن يتعرف أفراد المجتمع بعضهم على البعض الآخر، ويلاحظوا أن السلبيات التي نقلها الآخرون عنهم ليست صحيحة في كثير من الأحيان، وإنما هي نوع من باب التشهير بالناس، وسوف يتنبّه إلى إيجابيات الآخرين؛ لذا فإن اللقاءات الاجتماعية والفكرية وغيرها ستؤثر في الحالة النفسية لدى جميع الأطراف، ففي كثير من الأحيان يتقاطع شخصان، حيث يتصور أحدهما عن الآخر تصورات سلبية وبالعكس، وهذا لا يرى إيجابيات الآخر وبالعكس، ولكن حينما يلتقيان فقد يحصل بينهما كلام وحوار، وفي كثير من الأحيان تذوب كثير من السلبيات.

بناءً على ذلك، فنحن بحاجة إلى أن نصنع أرضية فكرية في صفوف المجتمع الواحد، وفي المجتمعات المختلفة، بحيث تقودنا إلى الوئام والتعايش، وذلك يقتضي بأن نبدأ بالإصلاح الاجتماعي العام، والإصلاح النفسي والفكري، وذلك من خلال الإعلام المبني على الإقناع، والتعليم لخلق الضمير الاجتماعي الصحيح، والوعظ الديني البعيد عن السجال والمهاترات، وكذلك عقد اللقاءات المختلفة بين مختلف طوائف المجتمع.

فإذا أوجدنا أرضية مناسبة للحالة النفسية السليمة فحينئذٍ نتحول إلى سلوك عملي سليم.

ص: 179

(29) ضرورة ترسيخ السلم الأهلي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).

يعد السِلم ضرورة اجتماعية وإنسانية، ونقصد به السلم الاجتماعي أو الأهلي؛ لأنه من أشد مصادق السلم؛ إذ لابد للمجتمع أن يكون في حالة وئام وانسجام وتفاهم؛ لأن إشعال نار الحرب هو أساس جميع الفتن التي تنشأ في المجتمعات، وهو يزيد الأمر سوءاً، ولا يساعد في حل المشاكل، بل يزيدها، ومن أهم مشاكل المسلمين منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا هو إغفال حقيقة حاجة المجتمع إلى السلم الأهلي.

يقول اللّه عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(2)، فالأساس هنا هو الإصلاح بين الطوائف المؤمنة، وبين شرائح المجتمع المختلفة، فإذا لم تستجب إحدى الجهات أو الطوائف لنداء العقل والشرع، ومارست الأساليب غير

ص: 180


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة الحجرات، الآية: 9.

المشروعة فيجب إيقافها دون هذا الأمر، على أن يبقى خط العودة مفتوحاً لها،فإذا أمكن إرجاعهم إلى الصواب فهذا أفضل.

إن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بويع للخلافة في فترة مضطربة من التاريخ الإسلامي، حيث كان هناك توسع في الفتوحات، ثم نشأت الفتن، ثم بويع الإمام(عليه السلام) بالخلافة في هذا الوقت المضطرب والحساس، فلم يقبل بعض الناس ببيعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو أنهم بايعوه ثم نكثوا البيعة، لكننا نلاحظ أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) استنفد جميع السبل السليمة في معالجة هذه القضية، فحاول أن يعالج الأمر بالاحتجاج الديني والاجتماعي والعقلي، وحتى حينما أصبحت المواجهة اضطرارية - أي: حينما اضطر الإمام(عليه السلام) لمواجهة الفتنة لوأدها - حاول في اللحظات الأخيرة عدم وصول الأمر إلى الاقتتال، وخاطب أصحابه قائلاً: «لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين اللّه تعالى وبينهم»(1)، وقال أيضاً: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم فإنكم بحمد اللّه على حجة»(2)، فلم يأذن لأصحابه أن يبدأوهم بقتال؛ لأنه إذا أمكننا الكلام معهم وإرشادهم وهدايتهم وإرجاعهم إلى حظيرة الحق فذلك أفضل، ولنفعل ذلك، ولكن حينما استنفد جميع السبل، وبدأوا هم بالقتال اضطر الإمام(عليه السلام) للدفاع عن نفسه وأصحابه، وحينما انتهت بعض تلك الحروب خاطب الإمام(عليه السلام) أصحابه قائلاً: «لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن»(3)، فقد حاول الإمام(عليه السلام) تكريس السلم الأهلي بين طوائف

ص: 181


1- مستدرك الوسائل 11: 63.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 14.
3- الكافي 5: 10-12.

المسلمين، وبث حالة التعايش بينهم.

لذلك ينبغي على الجميع أن يعمل للوصول إلى حالة السلم الأهلي والتعايش بين شرائح المجتمع المختلفة، وينبغي علينا أن نؤمن بأن الاختلاف حقيقة كونية، بمعنى أن اللّه عز وجل خلق العالم مع وجود الاختلاف، وقد جعل تعالى هذا الاختلاف آية من آياته سبحانه، وهذا ما أشار له قوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(1)، كذلك الحال مع الاختلاف الفكري بين طوائف المجتمع، فقد خلق اللّه عز وجل الإنسان بشكل جعله مختاراً في تفكيره، وهذا الاختيار في التفكير قد يسوق الناس إلى آراء مختلفة، ليتم ابتلاءهم وامتحانهم.

إذن، فهذه الحالة طبيعة كونية، فكما هو الاختلاف الظاهري في اللون واللسان والأمور الأخرى، كذلك هناك اختلاف فكري. يقول اللّه عز وجل: {لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٖ}(2)، ولا يعني ذلك أن اللّه عز وجل أجبرهم على الاختلاف، وإنما خلق اللّه عز وجل الإنسان حرّاً وأعطاه القدرة على التفكير، وأعطاه الأدوات اللازمة ليتعامل بها مع الكون بحدود القدرة التي حباها له، وبناءً على ذلك يتمكن الإنسان من التفكير الذي يقوده إلى نظام فكري يختلف بين إنسان وآخر؛ لذلك فكما يوجد اختلاف في الظاهر فهناك اختلاف في الفكر، وهذه حقيقة كونية. نعم، قد بيّن اللّه عز وجل من لطفه بعباده الطريق الصحيح لهم، وأرشدهم وأرسل لهم

ص: 182


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة الحج، الآية: 67.

الأنبياء(عليهم السلام)، وفي الوقت نفسه لم يجبر أحداً على اتباع أسلوب الأنبياء(عليهم السلام)، وإنما أمرهم بإتباع هذا الأسلوب، فمن اتبعه فقد هُدي، ومن لم يتبعه فقد ضل، ولا سيطرة لأحد لكي يجبرهم على تغيير معتقداهم، فقد خاطب اللّه عز وجل رسوله قائلاً: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1)، فاللّه عز وجل أمر النبي بتبليغ رسالته، ولم يكلفه أن يجبرهم على أن يغيروا اعتقاداتهم، قال اللّه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(2) فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكلف أن يبين الحقائق للناس بأسلوب صحيح، فإذا اتّبعوها فقد اهتدوا، وإلاّ فقد ضلّوا وحساب الجميع على اللّه تعالى، قال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(3)، فاللّه عز وجل يبين ما هو الرشد وما هو الغي، ويبقى على الإنسان الانتخاب والاختيار، ويقول اللّه تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(4)، أي: إن مهمة الأنبياء(عليهم السلام) هي البلاغ، وليس إجبار الناس على المعتقد، فإذا علمنا أن الاختلاف هو حقيقة كونية كما في ظاهر الإنسان، فكذلك يكون في طريقة تفكيره.

وبعد معرفة هذا الأمر ينبغي علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة الكونية تعاملاً صحيحاً؛ لأن الإنسان إذا لم يتعامل مع الحقائق الكونية - سواء كانت مادية أم معنوية - تعاملاً صحيحاً فسوف يتضرر، لكنه إذا تعامل معها تعاملاً صحيحاً فسوف يتمكن من استخدامها في تحقيق التطور والرقي.

ص: 183


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة يونس، الآية: 99.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- سورة النحل، الآية: 35.

إننا نلاحظ الآن كثرة الابتكارات والاختراعات، فما هي؟ إنها في الحقيقة تحدث نتيجة لجهود مجموعة من العلماء حيث يفكرون ويحاولون لكي يكتشفوا حقائق كونية، أو سنة من سنن اللّه المادية الموجودة في الكون، ثم يحاول المخترع أن يوفق بين حياة الناس وبين تلك الحقيقة أو السنة الكونية، وهذا يعني أنه يمكن الاستفادة الإيجابية من الحقيقة الكونية من أجل تقدم الإنسان وتطوره ورقيه، فكل اختراع ناشئ من اكتشاف حقيقة كونية، ثم محاولة التأقلم معها.

كذلك الحال في الأمور المعنوية، فإذا اكتشف الإنسان تلك الحقائق واعترف بها، ثم حاول استثمار وانتهاز فرصة اكتشافه لتطوير نفسه ورقيه، فحينئذٍ سوف يتقدم ويتطور، وأما إذا لم يعترف بالحقيقة الكونية فإن هذا لا يغير من حقيقتها شيئاً، وإذا عرفها ولم يكيف حياته طبقاً لها بالاستفادة الإيجابية منها فسوف يتعرض لمشاكل كثيرة في حياته.

الاختلاف والتنافس

فإذا علمنا أن الاختلاف حقيقة كونية، وأنه يجب على الإنسان التعامل معه تعاملاً صحيحاً، فحينئذٍ يمكن تحويل الاختلاف إلى نقطة إيجابية عن طريق التنافس مثلاً، حيث يُعد التنافس مقدمة لتطور أية أمة من الأمم، بل حتى في الأمور التي تتعلق بالآخرة؛ إذ يقول اللّه عز وجل: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(1)، فأية أمة تطورت وتقدمت كان التنافس سبباً في تطورها وتقدمها، كما أن التنافس هو سبب لتمكن الإنسان من الوصول إلى الدرجات

ص: 184


1- سورة المطففين، الآية: 26.

الأخروية العالية في كثير من الأحيان.

إن التنافس يدل على أن هناك اختلافاً في الفكر والعمل، وأن الاستفادة الإيجابية من هذا الاختلاف تحقق التطور والتقدم للأمم؛ لذا يجب علينا أن نعتقد بأن السلم الاجتماعي هو ضرورة، وأن التعايش بين أفراد المجتمع ضرورة لتحقق السلم الاجتماعي، ولو عدنا إلى تاريخ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتاريخ الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) فسنلاحظ هذا الأمر بشكل واضح، حيث كانوا يريدون للمجتمع أن يعيش في سلم وتعايش، وقد حاولوا القضاء على الفتن الاجتماعية بمختلف السبل، وكما هو واضح، فإن سبب مشاكلنا نحن المسلمين، منذ زمن بعيد حتى يومنا، هو رفض بعض طوائف المسلمين التعايش مع غيرها، حيث منحت لنفسها وصاية فكرية على المجتمع الإسلامي، وحاولت فرض فكرها وأسلوبها على المجتمع بالإكراه والإجبار، مع أن الإكراه والإجبار في المعتقد مرفوض تماماً؛ لأن مهمة الأنبياء(عليهم السلام) هي تذكير الناس وإرشادهم وهدايتهم، وليس إجبارهم على تغيير معتقداتهم وأفكارهم.

ص: 185

(30) حرية التعبير واستماع الرأي الآخر

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

ومن الأمور التي تُسهم في إرساء ثقافة الاختلاف بالأسلوب الصحيح هو تكافؤ الفرص، ومن مصادق ذلك: حرية الجميع في التعبير وحرية البيان، بحيث يمكن لكل شريحة من المجتمع أن تعبر عن آرائها وأفكارها، فبغياب حرية التعبير لا يمكن السعي نحو كشف الحقيقة؛ لأن الحقيقة واحدة وقد يتوصل إليها البعض دون الآخر، فإذا تمَّ السماح للجميع بالتعبير عن آرائهم فسوف يتمكنون من تشخيص الصحيح من السقيم للوصول إلى الحقيقة، كذلك لا يمكن الكشف عن صحة المعتقد الذي يعتقد به الإنسان في المسائل العقائدية والدينية إلا إذا كان هناك استماع لوجهات النظر الأخرى، ثم تشخيص الصحيح عن سواه، وذلك بالعقل الذي حباه اللّه عز وجل للإنسان، كذلك تساعد حرية التعبير على عدم شعور أي شخص أو أي جماعة بالغبن؛ لأن التكميم يولد حالة من الإحباط، فالمضطهد فكرياً لا يتمكن من التعبير السليم عن آرائه ومعتقداته،

ص: 186


1- سورة الزمر، الآية: 17-18.

وهذه الحالة تولد العدوانية لدى الإنسان في كثير من الأحيان، في حين يشعرالشخص أو الطائفة التي يسمح لها بالكلام بالتفوق والاستعلاء على غيرها، وهذا يؤدي بدوره إلى حدوث الحرب الأهلية؛ لأن الذي يُسمح له بالكلام يتصور أن كلامه هو الصحيح، وأنه الأكثر تفوقاً على الآخرين، وهذا يولد فيه حالة من الاستعلاء، على العكس من الشخص المضطهد؛ إذ يشعر بالغبن والإحباط، وحينما يجد الفرصة المناسبة يحاول الانتقام، وهذا الفعل يهدد السلم الأهلي بين صفوف المجتمع.

حينما نلاحظ الشعوب التي اضطهدت عبر التأريخ، ومنها التي كان اضطهادها ذا طابع ديني، أو يتعلق بحريتها في التعبير عن الرأي، فحين انتصرت على من كان يضطهدها، وحدث تغيير في النظام السياسي وجاءتها الفرصة المناسبة، نجد أن حالة الانتقام غير المعقول قد استشرت في نفوس من كانوا مقهورين سابقاً.

وهذا أمر مرفوض في الإسلام الذي أرسى ثقافة العفو والتسامح حتى مع المغلوبين المنهزمين، كما صنع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أهل مكة يوم الفتح وأمير المؤمنين مع أهل الجمل بعد النصر.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

ص: 187

ص: 188

فهرس المحتويات

كلمة المؤسسة... 5

الفصل الأول: الثقافة بين القيم الدينية وعادات المجتمع

(1) بين القيم الإسلامية وعادات المجتمع... 11

بين الثقافة الإسلامية والعادات... 12

تأثير البيئة... 13

(2) الحفاظ على القيم الإسلامية والعادات الحسنة... 16

البديل الإسلامي... 16

العادات وشخصية الإنسان... 17

اللغة وجه الثقافة... 18

(3) قبس من السيرة النبوية... 23

(4) الترابط والتعاضد بين الدين والثقافة... 28

الفصل الثاني: مصادر الثقافة الإسلامية

(5) مخاطر ليّ عنق النص القرآني... 33

المشاكل التي يواجهها المسلمون... 33

(6) عدم غلق باب الاجتهاد... 41

ص: 189

(7) بين التقديس والتجديد... 46

(8) الاجتهاد محصور بأهل الاختصاص... 50

(9) مكافحة التطرف والتكفير واعتماد الشرط الإقناعي... 57

(10) الثقافة الإسلامية تصقل إنسانية الإنسان وتُظهرها 62

المقوّم الأول: المصدر الرباني... 62

المقوّم الثاني: الارتباط بالطبيعة الإنسانية... 65

(11) ارتباط الإسلام بمنظومة أخلاقية شاملة... 68

(12) أهل البيت(عليهم السلام) والتجسيد العملي للسيرة النبوية... 75

الفصل الثالث: معالم الثقافة الإسلامية

(13) التلازم الجوهري الراسخ بين الثقافة والدين... 85

(14) شمولية الثقافة الإسلامية لجميع مناحي الحياة... 88

(15) البعد الأخلاقي في الثقافة الإسلامية... 94

(16) قدسية الثقافة الإسلامية في قوتها الكبيرة... 98

الفصل الرابع: الخطاب الثقافي الناجح

(17) دور الإقناع في التضحية من أجل المبادئ الإسلامية... 107

الأمور المؤثرة في الخطاب... 111

(18) لغة الخطاب... 113

العلاقة بين اللفظ والمعنى... 113

الأمر الأول: عدم الاستعلاء في الخطاب... 115

الأمر الثاني: إحياء لغة القرآن... 117

ص: 190

(19) تحديث الخطاب الإسلامي ورفع المستوى العلمي للمسلمين... 120

(20) أهمية الخطابة والتبليغ في نشر الدين الحق... 126

(21) ضرورة الفهم السليم لمعاني النصوص القرآنية... 129

(22) عناصر الشعائر الدينية... 134

العنصر الأول: البعد المنطقي... 134

العنصر الثاني: البعد الأخلاقي... 135

العنصر الثالث: الجمال... 135

العنصر الرابع: النظام والاستمرار... 136

(23) الشعارات والعبارات المعلّبة... 140

(24) دور العاطفة في توجيه الخطاب الإسلامي وتأثيره... 148

خطاب العاطفة... 150

بين العقل والعاطفة... 151

(25) دور الفطرة في تأثير الخطاب... 153

خطاب الفطرة... 153

الفصل الخامس: ثقافة الاختلاف

(26) ثقافة الاختلاف ودورها في نشر الإسلام الصحيح... 163

الحوار في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)... 165

(27) دور الاعتدال ونبذ التعصب في بناء المجتمع السليم... 169

بين التعصب والاعتدال... 169

لغة الحوار والفهم المتبادل... 172

ص: 191

(28) نبذ حالة الاستعلاء واللجوء إلى التآخي والحوار المتحضّر... 175

أهمية الإعلام المقنع... 176

(29) ضرورة ترسيخ السلم الأهلي... 180

الاختلاف والتنافس... 184

(30) حرية التعبير واستماع الرأي الآخر... 186

فهرس المحتويات... 189

ص: 192

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.