الكلمات محاضرات في العقيدة والسلوك

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349.

عنوان واسم المؤلف: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك / السيد جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: انتشارات دارالعلم، 1444ق.= 1401.

مواصفات المظهر: 695ص.

ISBN: 8-676-204-964-978

حالة الاستماع: فیپا

لسان: العربية.

ملحوظة: كتابنامه به صورت زیر نویس.

عنوان آخر: محاضرات في العقيدة والسلوك.

مشكلة: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349 -- پیام ها و سخنرانی ها

مشكلة: اسلام -- مطالب گونه گون Islam – Miscellanea

المعرف المضاف: عظيمی، نهضت اللّه، گردآورنده

المعرف المضاف:مؤسسه شجره طیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 02/297

الرقم الببليوغرافي الوطني: 8951559

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

الشجرة الطيبة

الكلمات (محاضرات في العقيدة والسلوك)

--------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر:دار العلم

الطبعة الأولى - 1444ه .ق - 2022م

عدد النسخ: 500 نسخة

المطبعة: إحسان

-------------------------

شابك: 8-676-204-964-978

------------------------------------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام)، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 3

ص: 4

مقدمة المؤسسة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

إن من أهم الأمور تعريف الناس بدينهم حيث إن سعادتهم في الدنيا والآخرة تتوقف على ذلك، ومن رحمة اللّه تعالى أن أنزل القرآن فيه تبيان لكل شيء واختار رسوله محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) ليكونوا السبيل إليه بتفسير كتابه المنزل وبيان دقائقه ومعانيه وحقائقه، ولذا كانت السعادة الدنيوية والأخروية في التمسك بالقرآن وبالنبي وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام.

وقد دأب العلماء وطلبة العلوم الدينية على بيان تلك المعارف الشامخة بلسان ميسّر تبليغاً لرسالات اللّه تعالى وإرشاداً لعباده وتذكيراً للمؤمنين بها، فلذا كثرت الكتب في تفسير وشرح الآيات والروايات، وكذلك إلقاء الخطب والمحاضرات بما يتناسب مع فهم عموم الناس.

والكتاب الماثل بين أيديكم هو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها السيد جعفر الحسيني الشيرازي في مناسبات مختلفة وعلى مستويات متعددة وفي أماكن متفرقة، وقد ارتأت مؤسستنا جمع تلك المحاضرات وبثها صوتية وتصويرية في مواقع مؤسسة الشجرة الطيبة على النت، ثم ارتأت المؤسسة جمع هذه المحاضرات في كتاب ليعمّ نفعها، وكانت مراحل العمل في هذه

ص: 5

المحاضرات كالتالي:

ففي البداية تنزيلها كما هي على الورق، ثم تهذيبها بتبديل أدب المقال إلى أدب الكتابة مع دمج بعض المحاضرات المتشابهة في الموضوع، وكذا تفريق المحاضرة الواحدة إذا تعدد موضوعها أو إلحاق جزء منها في محاضرة أخرى هي أنسب بها، مع نقل بعض الاستطرادات إلى الهامش لما رأينا أهميتها وعدم الاستغناء عنها مع كونها خارجة عن موضوع المحاضرة، وغير ذلك، ثم عرضنا كل ذلك على سماحته فقام مشكوراً بتهذيبها بحذف أو زيادة أو تقويم وقد راجعها سماحة أكثر من مرّة، حتى خرجت هذه المحاضرات بهذه الحلة القشيبة.

ولا بأس أن نشير إلى أن المنشور في هذا الكتاب هو بعض المحاضرات التي ألقاها سماحته باللغة العربية، وقد طبعت بعض المحاضرات الأخرى في كتيبات مستقلة فلم ندرجها في هذا الكتاب، كما أن محاضرات سماحته باللغة الفارسية طُبعت في كتاب مستقل عسى اللّه أن يوفقنا لترجمتها إلى العربية.

وإذ نشكر جميع من ساهم في هذا المشروع المبارك، نسأل اللّه تعالى أن يتقبل منا ومن سماحته هذا الجهد، وأن ينفع بهذه المحاضرات المؤمنين، إنه قريب مجيب.

مؤسسة الشجرة الطيبة

9 / ذي الحجة / 1443

ص: 6

(1) العقل هبة إلهيّة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1).

لقد ميّز اللّه سبحانه وتعالى الإنسان عن غيره من الموجودات بالعقل، وبه يُثيب الإنسان ويعاقبه، وقد ورد في الحديث الشريف: «لمّا خلق اللّه العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(2). فإن يُثاب الإنسان فبعقله، وإن يعاقب فبعقله أيضاً، فالذي لا عقل له - كالحيوانات - لا يُثاب ولا يُعاقب.

ثم بعث اللّه الأنبياء(عليهم السلام) وجعل لهم أوصياء، ووظيفة هؤلاء هي إثارة دفائن العقول، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول»(3)، فالعقل قد يدفن تحت تأثير الأجواء التي تحيط بالإنسان من العادات ومما فعله الآباء، وغير ذلك.

ص: 7


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- الكافي 1: 10.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 1.

إن العقل كالمصباح والنور، به يرى الإنسان الصحيح والسقيم، فإذا دخل الإنسان في غرفة مظلمة لا يرى شيئاً، وقد يصطدم بالجدار، وإذا مشى في الظلمة فقد يسقط في حفرة، ولكن لو كان معه مصباح ينير له الدرب فسوف يرى الجدار والحفرة، فيبتعد عنهما، ومَثَل العقل كمثل المصباح.

وهكذا القرآن والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هم النور الذي يرى به الإنسان طريقه في ظلمات الجهل والحيرة، ولذا شبّهوا بالنور قال تعالى: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ}(1) وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة»(2).

ثم إن هناك حكومات وأناساً يدّعون التدين والإيمان، فكيف نكتشف أن ادّعاءهم صحيح أو سقيم؟

كما أن للإنسان غرائز وشهوات إذا تجاوزت حدّها كانت ضرراً عليه، وإن جُعلت ضمن إطارها الصحيح كانت خيراً، وذلك لأنّ اللّه تعالى قدّرها لأجل مصلحة الإنسان، مثلاً: جعل اللّه تعالى الغضب في الإنسان ليدافع عن نفسه، وجعل فيه غريزة الجوع لأنه إذا لم يأكل يموت، وهكذا... فجميع الصفات النفسية والجسمية جعلها اللّه لخير الإنسان، لكن الشر يبدأ عندما يخرج الإنسان عن حده، فإذا تجاوز الحد انقلب إلى الضد.

مثلاً: إذا كان الإنسان يسير في سيارة بسرعة 100 كم في الساعة، وكانت هناك استدارة في الطريق، وتشير علامات المرور بأنه لا يسمح السير أكثر من 30 كم، فإذا تجاوز الإنسان الحد وبقى يسير بسرعة 100 كم، فإن احتمال الاصطدام هنا أقوى، ولكن هل إن الخطأ في قوة السيارة؟ الجواب: كلا، بل الإشكال حدث

ص: 8


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 62؛ بحار الأنوار 36: 204.

بسبب سوء الاستعمال، وهكذا جميع الغرائز والميول الموجودة في الإنسان، سواء كانت نفسية أم جسمية هي لمصلحته، لكن ينبغي أن لا يتعدى حدوده فيها، لا أكثر ولا أقل من اللازم.

ولكن ما الذي يبيّن الميزان الصحيح للإنسان؟

الجواب: العقل، والأنبياء والأئمة(عليهم السلام).

فالعقل - مثلاً - يبيّن للإنسان أن هذا هو مقدار الغضب المطلوب، وهذا محل الخوف وبهذا المقدار، فإذا تجاوز الإنسان الحد المطلوب إلى الأكثر أو الأقل فسيكون هناك ضرر عليه.

لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى ما لا يُعد ولا يُحصى من الموجودات، ومن بينها جميعاً كرّم الإنسان وجعله الأفضل، فهل هذا التفضيل بسبب جسم الإنسان أو غير ذلك؟

إن اللّه سبحانه وتعالى صوّر الإنسان فأحسن صورته، قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}(1)، لكن الإنسان كُرِّم بسبب العقل الذي وهبه اللّه تعالى له، ولأن الإنسان كُرِّم بالعقل فقد أمره اللّه سبحانه وتعالى بوظائف تتناسب مع عقله؛ ولذا كلّما كان العقل أكبر كانت الوظائف والتكاليف أشد، وهكذا في جانب القدرة المالية أو البدنية، فكلّما كان المال أكثر كانت التكاليف المالية أكثر، وكلّما كانت القدرة البدنية أشد كان التكليف أكثر.

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالساً في المسجد يجمع التبرعات تحضيراً لإحدى الغزوات، لكي يشجع المسلمين للإقدام على الجهاد، فقد كان الكثير من المسلمين فقراء لا يملكون الدابة أو الرمح أو السيف؛ لذا كان الرسول يوفر

ص: 9


1- سورة غافر، الآية: 64.

لبعضهم هذه الأمور، وبعضهم لم يكن يصله شيء من رسول اللّه بسبب عدم وجود المال الكافي، فيعود الرجل وعينه تفيض دموعاً، قال اللّه تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}(1)، فبادر رجل وتبرع بعشر أواقي ذهب، وتبرع آخر بعشرة دنانير، وتبرع ثالث بدينار واحد، فقال الرسول: «كلّكم في الأجر سواء كلّكم تصدّق بعُشر ماله»(2).

وقد يقوم اثنان بعمل واحد، لكن يكون من أحدهم جيداً وحسناً لأنه كان بمقدار طاقته، ويكون من الآخر سيئاً لأنه كان دون طاقته فالغني إذا دعا الناس وجاء بطعام الفقراء في ضيافته كان ملوماً مع أنه الفقير لو جاء بنفس الطعام في ضيافته كان ممدوحاً.

وهكذا عمل الأبرار يكون حسنة، وإذا قام به من هو دون الأبرار فيكون فوق الحسنة؛ لأن عمل الإنسان يكون بمقدار ما آتاه اللّه سبحانه وتعالى.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) معصومون، ومع ذلك كانوا أعبد الناس وأكثرهم خوفاً من ربّهم تعالى.

فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول اللّه، لم تتعب نفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال:

ص: 10


1- سورة التوبة، الآية: 92.
2- نص الحديث عن علي(عليه السلام) أنه قال: «أتى إلى رسول اللّه ثلاثة نفر، فقال أحدهم: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي مائة أوقية من ذهب فهذه عشرة أواقي منها صدقة، وجاء بعده آخر فقال: لي مائة دينار فهذه عشرة دنانير منها صدقة يا رسول اللّه، وجاء الثالث فقال: يا رسول اللّه لي عشرة دنانير فهذا دينار منها صدقة، فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كلكم في الأجر سواء، كلكم تصدق بعشر ماله». بحار الأنوار 93: 26؛ جامع أحاديث الشيعة 8: 350.

يا عائشة، ألا أكون عبداً شكوراً»(1).

إن من المعلوم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم فالمقصود بقول اللّه سبحانه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}(2)، هو ما كان يتصوره الناس ذنباً، حيث رفض آلهتهم ودعاهم إلى التوحيد كما أن المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها قتلوا الكثير من المشركين، وهذا ذنب كبير عند الناس(3).

والحاصل: أنه كلّما أصبح عقل الإنسان أكبر ومداركه وعلمه وفهمه أكثر شعر بعظمة هذه النعمة؛ لذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4).

من هنا فإن المتوقع من الإنسان أكثر مما هو متوقع من الحيوانات، لأنه يملك العقل، بينما هَمُّ البهيمة علفها، وهل يلوم أحدنا البهيمة على ذلك؟ كلا، فعلى الإنسان أن لا يكون كالبهيمة، لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلقنا كما خلق البهيمة، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها»(5).

ثم إن هناك تحدّياً كبيراً للعقل يتمثل في أمرين:

الأمر الأوّل: أعداء العقل، كالنفس والهوى وشياطين الإنس والجن، وذلك

ص: 11


1- الكافي 2: 95.
2- سورة الفتح، الآية: 2.
3- انظر: الاحتجاج 2: 430، احتجاج الإمام الرضا(عليه السلام) عند المأمون العباسي، وفيه: «... فلما فتح اللّه عزّ وجلّ على نبيه مكة قال له: يا محمّد {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [سورة الفتح، الآية: 1-2] عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد اللّه في ما تقدم وما تأخر؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهوره عليهم».
4- سورة فاطر، الآية: 28.
5- نهج البلاغة، الرسالة: 45.

لأن الامتحان يقتضي أن تكون هناك صعوبة في الأمر؛ إذ لو كان سهلاً لما أصبح امتحاناً، فهل يمتحن الإنسان في أكل الطعام اللذيذ؟ وهل يمتحن في فعل يرغب فيه؟

يسأل بعض الناس عن أحد الأحكام، فيقول: لماذا جعل اللّه سبحانه وتعالى هذا الحكم؟

والجواب: إن اللّه تعالى لم يجعل حكماً إلّا لحكمة قد نُدركها وربما لا نُدركها، وقد نعرفها وقد لا نعرفها، بسبب قلة معلوماتنا؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(1).

فقد يحرّم اللّه سبحانه وتعالى بعض الأمور على الإنسان من أجل امتحانه مضافاً إلى أضرارها، مثلاً: حرّم تعالى المعازف والغناء، مع أن طبيعة الإنسان ترغب إلى الغناء والصوت الجميل والمعازف حيث تستهوي الإنسان.

قيل لأحد الزهاد: إن فلاناً يقول إني أكره الغناء، فقال: يبدو أن في ذوق هذا الرجل خللاً، إذ السمع يهوى الغناء لكن لأن اللّه تعالى حرمه فلا نستمع إليه، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(2).

كذلك يحب الإنسان المناظر الجميلة، ويحب أن يتمتع برؤيتها، لكن إذا كان المنظر محرماً فعليه أن لا ينظر إليه، امتثالاً لأمر اللّه.

فهناك امتحان دائم في الأمور الصعبة، فإذا حكّم الإنسان عقله علم أن التمتع بالحرام سينتهي خلال فترة قصيرة، فاللذة محدودة، وسوف تنتهي، فإذا استمع

ص: 12


1- سورة الإسراء، الآية: 85.
2- سورة آل عمران، الآية: 14.

الإنسان إلى الغناء فسوف تنتهي لذته خلال دقائق، وإذا تناول الطعام الحرام ستنتهي لذته بعد دقائق أيضاً، وتبقى تبعته عليه.

إن هذا النوع من الامتحانات يتعلق بالبدن، فيمتحن اللّه سبحانه وتعالى الإنسان ببعض الأمور التي يرغب فيها، لكي يرقى إلى مستوى عالٍ؛ لذا نجد أن الطالب يحرم نفسه في وقت الامتحانات من مشاهدة التلفاز ومجالسة الأصحاب والذهاب معهم، كي يطالع ويدرس، فهو يدرك أن مشاهدة بعض البرامج قد تكون عملاً حلالاً، لكن هناك أمر مهم يمنعه من ذلك لكي لا يضيع مستقبله؛ لذا يحكّم عقله ويمنع نفسه عن هذه الرغبات لكي يضمن المستقبل الأفضل. هذا ما يتعلق بلذات البدن.

وهناك نوع آخر من الامتحان يرتبط بفكر الإنسان، فإن اللّه سبحانه وتعالى هو الحق المبين، وقد رسّخ هذا في فطرة كل إنسان، ثم أرسل الأنبياء لتركيز هذه الفطرة وإثارة دفائن العقول، لكن المجتمع المنحرف الذي يتبع آبائه في الضلال يرفض ذلك إلّا القليل منهم، وهنا امتحان فكري.

الأمر الثاني: الشبهات التي تثار حول كل شيء من العقائد والأحكام وغيرهما مما يرتبط بالدين.

فهناك العديد من الجهات في العالم تثير الشبهات حول اللّه سبحانه وتعالى، وكذلك تثار الشبهات حول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، نقل لي أحد الأخوة إحصائية بأنه خلال ثلاثين سنة من السنوات الماضية كُتب في بعض الدول ما يقارب من (عشرة آلاف) كتاب ضد الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن وذلك للخوف من الإسلام (لأنه يناسب الفطرة؛ لذا فهو أسرع الأديان انتشاراً رغم بعض التصرفات التي يقوم بها بعض المسلمون، مما يؤدّي إلى تشويه صورة الإسلام، وذلك منخلال التفجيرات والقتل والممارسات السيئة جداً، لكن مع ذلك يبقى الإسلام

ص: 13

دين اللّه سبحانه وتعالى) فللحدّ من انتشار الإسلام يستخدم الأعداء كل الوسائل، فمن جملتها: تشويه القرآن الكريم والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشبهات باطلة.

وهناك شبهات تثار حول أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وحول الدين وأحكامه.

فإذا كان الإنسان يعاني من خواء فكري وكان ضعيفاً في عقائده فسوف يتأثر بذلك؛ لذا يوجد الآن أناس منحرفون في المجتمع، بالرغم من أن آباءهم وأمهاتهم متدينون، وقد تربوا في مجتمع ملتزم ومتدين.

والكثير من هذه الشبهات أكاذيب تنطلي على الجهال دون أصحاب الفكر والعقيدة السليمة، وبعض هذه الشبهات تحريف للكلام واتباع المتشابهات وترك المحكمات، قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(1)، والمحكمات هي الواضحة التي لا تخفى، لكن الذي في قلبه انحراف يحاول إخراج الآيات عن مسارها ومعناها، وينحرف بها انحرافاً كبيراً.

الحق والفكر الصحيح

إن الفكر الصحيح يتطلب أن يعتقد الإنسان بأن ما يقوله اللّه سبحانه وتعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) هو الحق وأن يعمل به عن قناعة تامة، قال اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2).

ومن المعلوم أن الإنسان لا يصل لذلك دفعةً، بل يحتاج إلى مثابرة وجهد،

ص: 14


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 65.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1)، فاللّه سبحانه وتعالى يهيئ الأمور للإنسان بشرط أن يبدأ بالخطوة الأولى، وسيكملها اللّه سبحانه وتعالى، أمّا إذا لم يبدأ بالخطوة فلا ينصره سبحانه؛ فهو القائل: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(2)، لذا ينبغي علينا أن نهذب أعمالنا وأفكارنا واعتقادنا، لكي نكون على المسار الصحيح.

ص: 15


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة محمّد، الآية: 7.

(2) جنود العقل وجنود الجهل

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

إن روح الإنسان وفكره يسيطران على أعماله، فالبعض يفكر في أن ينال رضا اللّه سبحانه وتعالى فيقدم على الحج والزيارة مثلاً، بينما يفكر شخص آخر بطريقة أخرى، فيذهب إلى أماكن يرتكب فيها المعصية. وهكذا في سائر أفعال الإنسان، فقد نجد إنساناً يتجنّب عن صغائر الأمور، بينما هناك شخص آخر تكون نفسيته وضيعة تؤدّي إلى ارتكاب أفعال لا تليق بالإنسان، وقد تكون من المحرّمات؛ لذا كان تركيز الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) على إرشاد الإنسان وضبط أعماله، بحيث تليق وشأنه كإنسان كرّمه اللّه سبحانه وتعالى. فهناك تركيز على نفس الإنسان وروحه.

ولأن اللّه تعالى أراد امتحان الإنسان فلذلك خلقه بكيفية خاصة فقال: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(2) ولذلك خلق اللّه سبحانه وتعالى العقل والجهل، ثم جنّد العقل بمجموعة من الجنود يؤازرونه، وجنّد الجهل بجنود تقابل جنود العقل، فمثلاً الصدق من جنود العقل، والكذب من جنود الجهل.

ص: 16


1- سورة المائدة، الآية: 100.
2- سورة الشمس، الآية: 7-10.

هناك رواية تبين جنود العقل وجنود الجهل، رواها الشيخ الكليني فقال:

... عن سماعة بن مهران قال: «كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك، لا نعرف إلّا ما عرفتنا، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال اللّه تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً، وكرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فلم يقبل، فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلما رأى الجهل ما أكرم اللّه به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب، هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته، وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته، فقال: نعم، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي، قال: قد رضيت، فأعطاه خمسة وسبعين جنداً» ثم ذكر الإمام(عليه السلام) جنود العقل وجنود الجهل ثم قال: «فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلّا في نبي أو وصي نبي، أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأمّا سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتى يستكمل، وينقي من جنود الجهل، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء، وإنّما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا اللّه وإياكم لطاعته ومرضاته»(1).

والحاصل: إن المؤمن لا يخلو من جنود العقل، كالصبر والشكر والرضا

ص: 17


1- الكافي 1: 20-23.

وفعل الخير وغير ذلك، ولكن ينبغي على المؤمن أن يثابر ويزكي نفسه لتكتمل هذه الجنود فيه؛ لأن جنود العقل خمسة وسبعون جندياً، وهي مكتملة في الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، لكن سائر الناس قد لا يخلون من بعض جنود الجهل، واللّه سبحانه وتعالى أعطى للمؤمن قابلية أن يزكي نفسه لكي يتخلّص من جنود الجهل، ويعوّضها بجنود العقل.

إننا نشاهد بعض الأشخاص كانت فيه صفة ذميمة، لكنه ثابر فبدّل الصفة الذميمة إلى صفة حسنة.

لكن هناك البعض لا يستطيع أن يبدّلها - لأنه في بعض الأحيان تكون هذه الصفات ملاصقة للإنسان وخاصة إذا تعوّد عليها - فالأولى به أن لا يظهرها، وحينئذٍ فسوف لا يعاقب على ذلك؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقب على الصفات الذميمة إذا لم يظهرها الإنسان، وهذا ما أشار له حديث الرفع: فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «رفع عن أمتي تسعة» وعدّ منها: «الحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(1).

فإذا كان شخص يحسد مؤمناً في قلبه، فهذه صفة ذميمة توجب نقصان درجات الحاسد في الآخرة، ولكن إذا لم يظهرها بيد بأن يعمل عملاً ليضرّ المحسود، ولا يظهرها بلسانه، بغيبة وتهمة ومنقصةٍ وغير ذلك، بل حدث ذلك بقلبه ففي يوم القيامة لا يعاقب على هذه الصفة، التي كانت كامنة في قلبه، وهذا من رحمة اللّه سبحانه وتعالى ومنّته على هذه الأمة المرحومة، فلا عقوبة عليها، ولكن الحسد يسبّب هبوط درجاته في الآخرة.

إذن، ينبغي على الإنسان أن يهذب نفسه وفكره، ومعنى تهذيب النفس هو أن

ص: 18


1- التوحيد: 353؛ الخصال: 417.

يزيل الشوائب من نفسه، وإذا لم يفعل ذلك فغالباً ما تظهر هذه الصفات في أفعاله وأقواله وقد تؤدّي إلى حصول المعصية، وقد تسبب نقصان درجته اجتماعياً، فقد نرى إنساناً ظاهره جميل، ولكننا لو علمنا ما في قلبه فسوف يسقط من أعيننا.

إن من لطف اللّه ورحمته علينا أن هيّأ وسائل التهذيب للنفس والتخلص من الرذائل، ولكن على الإنسان أن يغتنم الفرص، فمن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أنه بيّن لنا الأعمال الصالحة والطالحة، وأمرنا بالصالحات ونهانا عن الطالحات، والاستمرار في الالتزام بها سبب لطهارة النفس والتخلّص من الرذائل وهذا الأمر والنهي لا لحاجة من اللّه سبحانه وتعالى لأعمالنا، لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلينا ولا إلى أعمالنا: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(1)، {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ}(2)، فإذا أمرنا اللّه فإنّما ذاك لمصلحتنا، لأن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(3)، ومن لطفه ورحمته ومنّه علينا أن أرسل لنا الرسل، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ}(4).

فاللّه سبحانه وتعالى هيّأ وسائل السّمو والرقي، فهناك أماكن تقرّب الإنسان إلى الطاعات والكمال، وكذلك هناك أزمنة هيّأها اللّه لنا، وفيها تفيض رحمة اللّه

ص: 19


1- سورة فاطر، الآية: 15.
2- سورة إبراهيم، الآية: 19-20.
3- سورة هود، الآية: 119.
4- سورة آل عمران، الآية: 164.

سبحانه وتعالى على الناس، وإن كانت الرحمة موجودة في كل زمان ومكان، لكن من لطفه خصّص أماكن يفيض الرحمة فيها فيضاً، وأزمنة يصّب الرحمة فيها صباً.

صحيح أن اللّه سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1)، حيث يمكننا أن ندعوه في أيّ مكان وزمان، إلّا أنه أحب أن يعبد في بعض الأمكنة والأزمنة، ففيها يفيض رحمته علينا.

فينبغي على الإنسان أن يعرّض نفسه لهذه الرحمة، ويحاول أنه يطهّر نفسه ليكون نزول الرحمة سبباً لزيادة الخير والبركة.

وإلّا فهناك أناس كانوا يعيشون مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وكانوا قريبين جداً منهم، إلّا أنهم كانوا منافقين، فالمشكلة ليست في الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، الذي أدّى مهمته على أحسن وجه {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، وإنّما كانت المشكلة في ذاك الشخص الذي لم يستفد من الرحمة، فبسوء اختياره وسوء عمله وفكره وعدم تهذيب نفسه حوّل هذه الرحمة إلى نقمة.

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(3)، فهل أن اللّه سبحانه وتعالى أغوى إبليس، أم أن إبليس بتكبّره واستكباره غوى؟

يقول بعض المفسرين: إنه لولا خلق آدم(عليه السلام) لما عصى إبليس، فقد ورد في بعض الأحاديث: «إن إبليس عَبَدَ اللّه في السماء سبعة آلاف سنة في ركعتين،

ص: 20


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
3- سورة الحجر، الآية: 39.

فأعطاه اللّه ما أعطاه ثواباً له بعبادته»(1)، إلّا أنه عندما أمره اللّه بالسجود لآدم(عليه السلام) أبى واستكبر {قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}(2)، وكان استكباره على حكم اللّه سبحانه وتعالى {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(3)، وقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «فأوّل من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أوّل معصية عصي اللّه بها، قال: فقال إبليس: يا رب، أعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقال اللّه: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنّما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد...»(4).

وذلك لأن العبادة لا بدّ أن تكون واجدة للشرائط التي أرادها اللّه تعالى، فلو صلّى شخص صلاة واحدة وطالت عشر ساعات لكنها كانت عكس اتجاه القبلة فصلاته باطلة، وكذلك لو صام في يوم عيد الأضحى أو عيد الفطر، فصومه باطل وحرام، لأن العبادة لا بدّ أن تكون وفق شروط معينة مأخوذة من الشارع المقدس.

ص: 21


1- علل الشرائع 2: 526.
2- سورة الإسراء، الآية: 61.
3- سورة ص، الآية: 75.
4- بحار الأنوار 11: 141.

(3) دور العقل في حياة الإنسان

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى ميّز الإنسان عن الحيوانات بالعقل، والعقل هو القوة التي يميّز بها الإنسان الخير من الشر، ويميّز ما ينفعه مما يضرّه؛ ولأن الإنسان حُبي بالعقل لذا كان مكلّفاً، وأمّا الحيوانات فغير مكلّفة؛ إذ لا عقل لها، وكذلك المجانين ليسوا مكلّفين؛ إذ لا عقل لهم.

المراد من التكليف

ومعنى التكليف هو أن على الإنسان مسؤولية يجب أن يتحمّلها، ولذا كلما كان العقل أكثر وأشد وأكبر كانت المسؤولية أشدّ وأكبر، فقد ورد في الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأماثل فالأماثل»(2)، والمراد بالبلاء هنا هو التكليف والامتحان؛ وأشدّ الناس بلاءً يعني أشدّ الناس امتحاناً.

والبلاء في اللغة: هو الاختبار(3) والذي يظهر به واقع الإنسان وحقيقته، كما أن

ص: 22


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.
2- الكافي 2: 252.
3- انظر: الصحاح 6: 2285، وفيه: «بلوته بلواً: جربته واختبرته، وبلاه اللّه بلاءً، وأبلاه إبلاءً حسناً وابتلاه: اختبره». وقال في معجم مقاييس اللغة 1: 295: «قولهم: بلى الإنسان وابتلي وهذا من الامتحان وهو الاختبار... ويكون البلاء في الخير والشر، واللّه تعالى يبلي العبد بلاءً حسناً وبلاءً سيئاً، وهو يرجع إلى هذا لأن بذلك يختبر في صبره وشكره».

التمحيص هو فصل الشوائب ومنه إلقاء الذهب في النار لتنفصل عنه الشوائب(1).

وهذا الامتحان فيه صعوبة؛ لذا أصبحت كلمة البلاء مقرونة مع المصائب، وليست مرادفة لها، والامتحان - غالباً - ما يكون صعباً، لذا كلما كان الإنسان أكثر عقلاً كان امتحانه أصعب، لكي تكون مناسبة بين الأمرين.

إن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الناس بمقدار ما آتاهم من العقول، فلذا يكون تكليف الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) أشدّ من تكليفنا؛ لأن عقولهم وعلمهم أكثر منّا، فعقولهم بالدرجة المتناهية، وليس فوق عقولهم عقل.

وهناك المستضعفون يعني الناس الذين استضعفهم الطغاة، ولم يكن مستوى عقولهم عالياً. إذن يمكن أن يكون الإنسان منحرفاً فكرياً، لكنه ليس معناداً، وإنّما سبب انحرافه ضعفه وجهله، مع عدم تمكّنه من إزالة ذلك الجهل والضعف، قال سبحانه عنهم: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}(2).

لقد ورد في الآية كلمة: {عَسَى} فما معنى ذلك؟

والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى يمتحنهم يوم القيامة، وكذلك أطفال الكفار والمجانين قد ماتوا وهم غير مكلّفين، فعقابهم ظلم، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى يمتحنهم في الآخرة فمن نحج في الامتحان أدخله الجنة، وإلّا فلا. وهذا ما أشارت له الروايات:

ص: 23


1- انظر: الصحاح 3: 1056، وفيه: «ومحصت الذهب بالنار إذا خلصته مما يشوبه، والتمحيص: الابتلاء والاختبار».
2- سورة النساء، الآية: 98-99.

فعن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته هل سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الأطفال؟ فقال: قد سئل فقال: اللّه أعلم بما كانوا عاملين.

ثم قال: يا زرارة، هل تدري قوله: اللّه أعلم بما كانوا عاملين؟ قلت: لا، قال: للّه فيهم المشيئة، إنه إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ وجلّ الأطفال والذي مات من الناس في الفترة، والشيخ الكبير الذي أدرك النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو لا يعقل، والأصم والأبكم الذي لا يعقل والمجنون والأبله الذي لا يعقل، وكل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ وجلّ فيبعث اللّه إليهم ملكاً من الملائكة فيؤجج لهم ناراً، ثم يبعث اللّه إليهم ملكاً فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً وادخل الجنة، ومن تخلف عنها دخل النار»(1).

وفي حديث آخر: «إذا كان يوم القيامة جمعهم اللّه وأجج لهم ناراً وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها، فمن كان في علم اللّه عزّ وجلّ أنه سعيد رمى بنفسه فيها، وكانت عليه برداً وسلاماً، ومن كان في علمه أنه شقي امتنع، فيأمر اللّه بهم إلى النار فيقولون: يا ربنا، تأمر بنا إلى النار ولم تجرِ علينا القلم؟ فيقول الجبار: قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني، فكيف ولو أرسلت رسلي بالغيب إليكم»(2).

وأمّا أطفال المؤمنين - يعني الذي انعقدت نطفته وأحد أبويه مسلم أو كلاهما مسلم، ولكنه مات سقطاً أو طفلاً أو مجنوناً - فاللّه سبحانه وتعالى يتفضل عليهم بالجنة دون امتحان(3)؛ لأن العقاب دون سبب ظلم، وأمّا التفضل فليس بظلم،

ص: 24


1- الكافي 3: 248.
2- الكافي 3: 248.
3- انظر: بحار الأنوار 79: 118، وفيه: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المؤمنين والمسلمين أن أخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، ثم ينادى فيهم أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون ربنا ووالدينا معنا، ثم ينادي فيهم الثانية أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: ربنا ووالدينا معنا؟ فيقول في الثالثة ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه فيأخذون بأيديهم فيدخلون بهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم».

بل هو فضل.

إن الامتحان على حسب قدرة الإنسان، والثواب والعقاب بمقدار تحمل المسؤولية، لكن اللّه فضّل بعض الناس على بعض باعتبار اختلاف مستوياتهم، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(1)، لأنه لو كان جميع الناس بمرتبة واحدة لتوقفت الحياة، فالمجتمع يحتاج إلى عالم ونجار وقصاب وغير ذلك، فلو كان كل الناس يعملون عملاً واحداً - مهندس مثلاً - لحصل اختلال في حياة الناس؛ ولذا فكل فرد عليه مسؤولية بمقدار استعداده، والمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، ففي الغزوات - مثلاً - قال اللّه سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}(2)، فالجهاد مرفوع عن الأعرج والأعمى والمريض؛ وذلك إمّا لعدم تمكنه أو لكونه حرجاً عليه، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد هناك مسؤوليات عليه، بل عليه مسؤوليات أخرى بمقدار طاقته الجسمانية والعقلية، فكل فرد منّا، الكبير والصغير والرجل والمرأة، عليه مسؤولية بمقدار طاقاته وإمكانياته.

بل إن اللّه سبحانه وتعالى تفضّل على الإنسان ولم يأمره بمقدار طاقته العقلية، بل أمره بمقدار طاقته العرفية.

إن الإنسان يمكنه أن يصلّي مائة ركعة، فلو أن اللّه سبحانه وتعالى أوجب ذلك عليه لكان فيه صعوبة بالغة، فالطاقة العقلية موجودة ولكن الطاقة العرفية غير

ص: 25


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- سورة النور، الآية: 61.

موجودة، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}(1)، وهذا لا يعني أننا لا نتمكن عقلاً، بل يمكننا عقلاً الإتيان به - فليس هذا من تكليف العاجز وهو قبيح - وإنّما المراد ما لا طاقة عرفية لنا، فنحن يمكننا إذا أردنا أن نؤدّي هذا العمل، لكن فيه صعوبة بالغة، فاللّه سبحانه وتعالى لم يجعل المسؤولية بمقدار الطاقة العقلية.

ورد في الحديث الشريف: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أسري به أمره ربه بخمسين صلاة، فمرّ على النبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى انتهى إلى موسى بن عمران(عليه السلام)، فقال: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بخمسين صلاة، فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه فحط عنه عشراً، ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء، حتى مرّ بموسى بن عمران(عليه السلام) فقال: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بأربعين صلاة، فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه فحط عنه عشراً، ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى بن عمران(عليه السلام) فقال: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بثلاثين صلاة، فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه عزّ وجلّ فحط عنه عشراً، ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألون عن شيء حتى مرّ بموسى بن عمران(عليه السلام) فقال: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بعشرين صلاة، فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه فحط عنه عشراً، ثم مرّ بالنبيين نبي نبي

ص: 26


1- سورة البقرة، الآية: 286.

لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى بن عمران(عليه السلام) فقال: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بعشر صلوات، فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني جئت إلى بني إسرائيل بما افترض اللّه عزّ وجلّ عليهم فلم يأخذوا به ولم يقروا عليه، فسأل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ربه عزّ وجلّ فخفف عنه فجعلها خمساً، ثم مرّ بالنبيين نبي نبيلا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى(عليه السلام) فقال له: بأي شيء أمرك ربك؟ فقال: بخمس صلوات، فقال: اسأل ربك التخفيف عن أمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقال: إني لأستحي أن أعود إلى ربي، فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخمس صلوات، وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): جزى اللّه موسى بن عمران عن أمتي خيراً، وقال الصادق(عليه السلام): جزى اللّه موسى بن عمران عنّا خيراً»(1).

وروي عن زيد بن علي بن الحسين(عليهما السلام) أنه قال: «سألت أبي سيد العابدين(عليه السلام) فقلت له: يا أبة، أخبرني عن جدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما عرج به إلى السماء وأمره ربه عزّ وجلّ بخمسين صلاة كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران(عليه السلام): ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك.

فقال: يا بني، إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يقترح على ربّه عزّ وجلّ فلا يراجعه في شيء يأمره به، فلمّا سأله موسى(عليه السلام) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه لم يجز له أن يرد شفاعة أخيه موسى(عليه السلام)، فرجع إلى ربّه عزّ وجلّ فسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات.

قال: فقلت له: يا أبة، فلم لم يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات، وقد سأله موسى(عليه السلام) أن يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ويسأله التخفيف؟

فقال: يا بني، أراد(عليه السلام) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجر خمسين صلاة، لقول اللّه عزّ وجلّ: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(2) ألا ترى أنه(عليه السلام) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمّد، إن ربك يقرئك السلام ويقول

ص: 27


1- من لا يحضره الفقيه 1: 197.
2- سورة الأنعام، الآية: 160.

لك:إنها خمس بخمسين {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا۠ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ}(1)»(2).

الإنسان ومسؤولياته

إن التكاليف دون طاقتنا الحقيقيّة على حسب اختلاف الدرجات، فيلزم علينا أن نكون بمستوى المسؤولية، فهناك بعض الناس لا يؤدّون التكاليف، سواء العبادية أم الاجتماعية أم الأسرية، فمن الممكن أن يصلّي أحدهم ويصوم ويحجّ، ولكنه لا يؤدّي ما أمره اللّه سبحانه وتعالى بحق أسرته، قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(3)، فالسكن بمعنى اطمئنان القلب، وأساس الزواج في الإسلام هو السكن.

وهذا الأساس لا يوجد في كثير من المجتمعات، فالنظام الأسري ليس نظاماً إسلامياً، يسير طبق ما ورد في القرآن والسنّة النبوية الشريفة وسيرة الأئمة(عليهم السلام)، وكذلك في التعامل الاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك، فالمسؤولية لا تنحصر بالصلاة وبالصوم، بل في كل شيء توجد مسؤولية، فإذا أدّى الإنسان ما عليه من مسؤولية فبها، ولو لم يؤد ذلك فيكون هو المتضرّر في الدنيا قبل الآخرة.

إن من المشاكل العظمى التي ابتلي بها المجتمع المسلم هي مشكلة الفرار من المسؤولية، ومن ثم الاعتذار بالأعذار الواهية، فبعض الناس لا يؤدّي المسؤولية الملقاة على عاتقه، لأنه كسول، لكنه يأتي بأعذار يريد أن يغّطي على كسله، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الأعذار الواهية أكاذيب، فبالإضافة إلى فراره من المسؤولية فقد ارتكب معصية أخرى؛ لأن المعاصي والمحرّمات

ص: 28


1- سورة ق، الآية: 29.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 198.
3- سورة الروم، الآية: 21.

سلسلة مترابطة، فكل معصية تجر أخرى، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(1).

رُوي أنه: «قال رجل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، دلّني على عمل أتقرب به إلى اللّه، فقال: لا تكذب، فكان ذلك سبباً لاجتنابه كل معصية للّه، لأنه لم يقصد وجهاً من وجوه المعاصي إلّا وجد فيه كذباً أو ما يدعو إلى الكذب، فزال عنه ذلك من وجوه المعاصي»(2).

بمعنى أنه حينما أراد أن يرتكب معصية قال في نفسه: إذا ارتكبت هذه المعصية وسألني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أي شخص هل ارتكبتها، فإذا قلت: لا، فقد كذبت والرسول أمرني أن لا أكذب، وإذا قلت: نعم، افتضح أمري، وهكذا، فأدّى ذلك إلى ترك المعصية.

كذلك الأمر بالنسبة للطاعات والمعاصي، فبينها تبادل، ففعل الطاعات يبعد الإنسان عن المعاصي، وفعل المعاصي يبعد الإنسان عن الطاعات، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(3).

ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل»(4).

إن الإنسان إذا أراد الآخرة فيلزم عليه أن يكون عاملاً، وأمّا أن يرجو الآخرة بغير عمل فهذا توقّع باطل غير صحيح، لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(5).

ص: 29


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- مستدرك الوسائل 9: 85.
3- سورة العنكبوت، الآية: 45.
4- تحف العقول: 157.
5- سورة النساء، الآية: 123.

إن المفاهيم قد تختلف في بعض الأحيان، فبعض الناس يريد الفرار من المسؤولية فيأخذ بعض المفاهيم ويترك الأخرى، مع أن الدين سلسلة مترابطة، والإسلام وحدة متكاملة، فإذا اعتقد الإنسان باللّه ولم يعتقد بالنبي فهو كافر، ولا يحق له أن يقول: أنا اعتقد باللّه، فهذا الاعتقاد ناقص، وكذلك لا يكفي الاعتقاد بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من دون الاعتقاد بالأئمة(عليهم السلام).

والحاصل: إن الدين وحدة متكاملة، فأي خلل في جانب من هذه الجوانب يكون أثره سلبياً على الإنسان، إلّا أن يصلح ذلك الخلل بالتوبة وبالعمل الصالح، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(1).

إن البعض يريد أن يترك بعض المسؤوليات ويتصوّر أنه يستحق الجنة بدون عمل، والحال أن كل فرد يتمنّى أن يكون أفضل الناس، إلّا أن ذلك لا يتم إلّا بالعمل والجهد والمثابرة، فيجب على الإنسان أن يبذل جهده لكي يصل لما يتمناه، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(2)، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(3)، ومعنى (فامشوا) أي: اطلبوا واعملوا، وإذا كانت الأمور المادية البسيطة لا يمكن الوصول إليها إلّا بعمل فالآخرة بطريق أولى، فقد ورد في الحديث الشريف: «لا يخدع اللّه عن جنته»(4).

فقد يموت الإنسان وهو مؤمن، ويكون من أهل الجنة لكنه إذا لم يؤدِّ بعض

ص: 30


1- سورة هود، الآية: 114.
2- سورة الانشقاق، الآية: 6.
3- سورة الملك، الآية: 15.
4- نهج البلاغة 2: 12.

المسؤوليات فسوف تكون درجاته منخفضة، لأن اللّه تعالى يقول: {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ}(1)، فالآخرة درجات(2)، وقد يكون الفاصل كبيراً بين إنسان وآخر(3)، وفي ذلك الوقت يتحسّر الإنسان لأنه لم يصبر قليلاً، لأن أصحاب الدرجات العالية: «صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة»(4).

ينقل السيد الوالد(رحمه اللّه) عن أحد العلماء - وكان من أساتذته - حيث يقول: إذا جعلنا اللّه سبحانه وتعالى يوم القيامة في مرتبة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) فهذا إهانة لهم، لأن أعمالنا ناقصة ضعيفة، وأولئك ضحّوا بكل شيء في سبيل اللّه سبحانه وتعالى، فهل يكون الكل في درجة واحدة؟ فإذا أعطيت الطالب المجد والكسول نفس الدرجة في نهاية السنة، فهذا ظلم، لأن من حق الطالب المجد أن يقول: أنا ذاكرت وسهرت الليالي فلماذا أساوى بهذا الطالب الكسول الذي ضيع كل وقته باللّهو والعبث؟

قد يقول البعض: فليكن ذلك، وإن اللّه سبحانه وتعالى يجعلنا في درجة

ص: 31


1- سورة آل عمران، الآية: 163.
2- الكافي 1: 430، وفيه: ... عن عمار الساباطي قال: «سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ} [سورة آل عمران، الآية: 162-163] فقال: الذين اتبعوا رضوان اللّه هم الأئمة، وهم واللّه يا عمار درجات للمؤمنين، وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف اللّه لهم أعمالهم، ويرفع اللّه لهم الدرجات العلى».
3- انظر: بحار الأنوار 66: 155، وفيه: «روي: أن ما بين أعلى درجات الجنة وأسفلها مثل ما بين السماء والأرض». وانظر: الكافي 2: 606، وفيه: ... عن حفص قال: «سمعت موسى بن جعفر(عليهما السلام) يقول لرجل: أتحب البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم، فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو اللّه أحد، فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع اللّه به من درجته، فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثم يرقى».
4- نهج البلاغة 2: 161.

الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، فماذا يتضرّرون؟ والجواب: صحيح إنهم لا يتضرّرون، لكن هذا العمل خلاف الحكمة، واللّه سبحانه وتعالى حكيم.

إن اللّه سبحانه وتعالى يتفضّل على كل مؤمن بالجنة، حتى إذا كانت في أعماله زيادة ونقصان، فهو يصفّيه قبل أن يدخله الجنة، إمّا في البرزخ، أو في يوم القيامة من خلال الشفاعة، والشفاعة درجات، فقد يُشفع لإنسان في المرحلة الأولى، وآخر يُشفع له في المرحلة الأخيرة، ويكون في المراتب الدانية من الجنة، وليس في المراتب العالية، فينبغي على الإنسان أن لا يختلق الأعذار؛ لأن العمر ينقضي بسرعة، والفرص تذهب، وتمر مرّ السحاب. فقد يجد الإنسان أن حياته قد انتهت وصحيفة أعماله سوداء، وإذا لم تكن سوداء فقد تكون فارغة، لأن أعماله الصالحة قليلة جداً، ففي ذلك الوقت يتحسّر.

إن بعض الناس لا يهتم بصلاته وصومه وحجّه، وإذا كان يهتم بها فلا يهتم بالأحكام الشرعية الاجتماعية وغيرها، وهذا يكشف عن ضعف إيمانه وعدم اهتمامه، فقد يصرف بعض الناس الغالي والنفيس في الأمور المادية، لكن لا يهتم للأمور الدينية؛ وذلك لعدم شعوره بأهميتها، أمّا من يشعر بأهميتها فيكون مستعداً لأن يضحّي بكل شيء، ولذا نجد أن الخُلّص من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) كانوا يهتمون بإطاعة إمامهم، ويبذلون الغالي والنفيس لأجل ذلك، ولكن البعض الآخر منهم تراه في الظاهر مؤمناً لكنه خذل الأئمة(عليهم السلام)، لأن إيمانه ضعيف وسطحي، وكما قال الإمام الحسين(عليه السلام): «الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون»(1)، فقد يفشل البعض في أوّل امتحان، وإذا نجح في بعض

ص: 32


1- بحار الأنوار 44: 383.

الامتحانات الصعبة فقد يفشل بعضها الآخر، مع أن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الناس دائماً، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ}(1).

ص: 33


1- سورة التوبة، الآية: 126.

(4) عقل الإنسان بين كنوز العلم وآفات الجهل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لمّا خلق اللّه العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(2).

وعن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إن الثواب على قدر العقل، إن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد اللّه في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإن ملكاً من الملائكة مرّ به فقال: يا رب، أرني ثواب عبدك هذا(3)، فأراه اللّه تعالى ذلك، فاستقلّه الملك، فأوحى اللّه

ص: 34


1- نهج البلاغة، الحكم: 54.
2- الكافي 1: 10.
3- هنا مسألة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي: إن الناس في ما يخص أسئلتهم على قسمين: الأوّل: أن يكون السؤال استفهامياً، فقد يسأل أحدهم عن مسألة لا يعرفها أو لا يفهمها، تقول الآية الكريمة: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل، الآية: 43]، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن المراد بأهل الذكر هم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) [انظر: الكافي 1: 210]. والثاني: أن يكون السؤال تعنّتاً واستنكاراً واستهزاءً؛ لذا يجب على الإنسان أن يكون سؤاله من القسم الأوّل؛ لأن المتعنّت لا يستفيد من الجواب بسبب غلقه لعقله وفكره، فهو لا يريد إلّا الاستشكال الفارغ، بينما يلزم على الإنسان السؤال لو رأى ظاهرة لا يعرفها ولا يفهمها، وإن تعذر عليه فهم حكم شرعي فعليه أن يسعى نحو فهمه؛ لأن الإنسان ليس عالماً بكل شيء، بل إن جهل الإنسان أكثر من علمه، ولذا قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة الإسراء، الآية: 85]، و{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [سورة طه، الآية: 114]، وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا» [نهج البلاغة، الحكم: 172 و438]، ولأن الإنسان الجاهل قليل العقل فلذا يعادي ما لا يفهمه.

تعالى إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد اللّه معك، فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه، وما يصلح إلّا للعبادة، فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيباً، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع، فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى اللّه إلى الملك: إنّما أثيبه على قدر عقله»(1).

لقد كان يعبد اللّه ليل نهار، لكن عقله صغير؛ لذا يثيبه اللّه بمقدار عقله، وليس بمقدار عمله؛ لأن العمل من دون فكر وفهم وتعقّل لا قيمة له أو قيمته قليلة جداً.

هناك من يقول: إن المهندس الذي يشرف على تشييد بناية يأتي إلى مكان العمل لمدة نصف ساعة، ثم يجلس في أحد الغرف المكيفة ويحصل على أجور تساوي أضعاف ما يحصل عليه العامل المسكين، الذي يعمل في البناء من الصباح إلى المساء، وهذا ظلم؟

لكن هذا الأمر ليس فيه ظلم؛ لأن المهندس حصل على الأجور العالية

ص: 35


1- الكافي 1: 12.

بعلمه، أمّا العامل فقد وظّف عضلاته في أعمال البناء؛ لذا حصل المهندس بعلمه على أضعاف ما حصل عليه العامل بعضلاته.

كذلك يمكن للإنسان العاقل العالم أن يكسب الآخرة بعقله وبعلمه، فإذا صلّى ركعتين فثوابه قد يكون أكثر من شخص يقوم الليل ويصوم النهار لكنه قليل المعرفة؛ وذلك لأن الإنسان الذي لا يحصل على المعرفة قد لا يكون على جادة الشرع، وقد لا يصح عمله أساساً نتيجة لجهله.

بل يتحدد مقدار التكليف ومن ثمَّ مقدار الثواب أو العقاب بمقدار العقل فكلّما كان العقل أكبر كان التكليف أشد، ولذا فتكليف الأنبياء والأوصياء أشد من تكليف سائر الناس، ويترتب عليه ارتفاع درجتهم وثوابهم عن غيرهم.

بيّن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة سبب بعثة الأنبياء(عليهم السلام)، فقال: «ويثيروا لهم دفائن العقول»(1)، وكأن العقل مدفون تحت ركام من العادات والتقاليد والأغلال والآصار، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2)، فمن أهم مهام الأنبياء(عليهم السلام) هو إزالة الركام لكي يتحرر عقل الإنسان ويتطهر من الأدران، ولذا تكرر في القرآن الكريم، قوله تعالى: {لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(3) وغيره من الآيات.

ص: 36


1- انظر: نهج البلاغة، الخطبة: 1، وفيه: «... واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع...».
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- سورة البقرة، الآية: 164؛ سورة الرعد، الآية: 4؛ سورة النحل، الآية: 12؛ سورة الروم، الآية: 24 و28؛ سورة الجاثية، الآية: 5.

والعقل موهبة إلهيّة، وهو كسائر المواهب الإلهيّة قابل للتنمية عبر آليات معروفة، ومنها طلب العلم بشرط فهم ذلك العلم والإذعان به، مضافاً إلى العمل بذلك العلم، لأن العلم من دون عمل لا ينفع العقل بل قد يضرّه، وقد سُئل الإمام الصادق(عليه السلام) فقيل له: «ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(1). فالإنسان الداهية الذي يستفيد من دهائه ويضر آخرته ليس بعاقل؛ لأن العاقل يستطيع معرفة المنافع والمضار، ومن ثَمّ يقوم بما ينفعه ويترك ما يضره، فإذا كان أحدهم جائعاً ووجد طعاماً لذيذاً جداً أمامه وهو يعرف مسبقاً أن هذا الطعام مسموم، ومع ذلك أقدم على تناوله فهو ليس بعاقل؛ لأن العاقل يجلب لنفسه المنفعة، والمنافع الدنيوية والأخروية ودفع مضارهما لا تكون إلّا بطاعة اللّه تعالى، بمعنى أن يسير الإنسان وفقاً للطريقة التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى، سواء في عباداته أم معاملاته أم آدابه الاجتماعية، أم في علاقاته مع الناس ومع عائلته وأبنائه.

إذا كان علم الإنسان صحيحاً فسيكون على الطريق الصحيح؛ إذ إنه سيعرف ذلك بعلمه، ثم يطبق علمه في مجالات العمل، وهذا هو الإنسان العاقل، الذي ينطبق عليه كلام الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين يقول: «لا غنى كالعقل»(2)، فلو كان الإنسان يملك المليارات فلا فائدة فيها؛ لأنها ستكون من نصيب الورثة، بينما سيكون وحيداً في قبره ويحاسب على تلك الأموال التي يتمتع بها الآخرون، وإذا كان من أصحاب المناصب فسوف يخسره لاحقاً ولو بموته، وإذا كان

ص: 37


1- الكافي 1: 11.
2- نهج البلاغة، الحكم: 54.

صاحب جاه فسيذهب عنه ذلك أيضاً، قال الشاعر:

إنّما الدنيا عوارٍ*** والعواري مستردة

شدة بعد رخاء *** ورخاء بعد شدة(1)

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، لذا ينبغي أن نتعلم ما يفيد المعاد والمعاش، ونزداد عقلاً فيزداد ثواب عملنا.

ص: 38


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 3: 336.
2- سورة الأعراف، الآية: 128.

(5) قدرات العقل البشري والإيمان باللّه تعالى

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(1).

إن قدرة العقل البشري في معرفة اللّه تعالى وخصوصياته محدودة، فالعقل لا يدرك كثيراً من الأمور ولا يحيط بها، ولكنه قد يصل إلى أمور يمكن أن يدركها. فالعقل يدرك أن اللّه عزّ وجلّ خالق الكون وأنه عالم وقادر وحيّ، أمّا التفاصيل والخصوصيات فبعضها يجب أن تؤخذ من اللّه عزّ وجلّ، أي: من القرآن الكريم، أو ممن عيّنه اللّه تعالى، وهو الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة(عليهم السلام)، وهناك بعض الأمور لا يمكن أن يصل لها الإنسان أبداً مثل كنه اللّه وذاته، لأنه تعالى غير محدود، أمّا العقل فهو محدود، فلا يتمكن من الإحاطة بغير المحدود، فإذا كان المدى محدوداً فإن ما زاد عنه لا يمكن أن يُستوعب، فلا يُعقل أن يدرك الطفل الرضيع المسائل العلمية الدقيقة مهما حاول ذلك؛ لأن سعة أفقه محدودة، وإذا شرحنا له ذلك فلا يفهمه، وكذا الحال مع الحيوان؛ لأن ماهية استيعابه لها حدود خاصة؛ لذا قيل: (إن النملة إذا توهمت ربها توهمت أن له قرنين كقرنيها)، لأن مستواها بهذا المقدار ليس أكثر.

والأمر ذاته ينطبق على الإنسان؛ لأن اللّه تعالى غير متناهٍ، أمّا الإنسان فهومتناهٍ، ويمكننا أن ندرك ونعرف أن اللّه تعالى موجود وأن له صفات الكمال وأنه

ص: 39


1- سورة الشورى، الآية: 11.

مبرّأ من صفات النقص، لكننا لا يمكن أن نستوعب حقيقة وكنه ذات اللّه تعالى؛ لأنه غير محدود، وعادة ما نعرف الشيء من مثله، وإذا لم يكن له مثل فلا نتعرف عليه في الغالب، مثلاً: يُقال: إن زيداً موجود في القارة الفلانية، فنتصور أن له رأساً وعينين؛ لأننا نعرف زيداً من أشباهه بين الناس، فإذا لم يكن للشيء شبيه فكيف يمكن أن نعرفه؟

يقول اللّه تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا}(1)، والوادي: هو منخفض من الأرض بين جبلين يستوعب ماءً بقدره، وحسب عمقه، فإذا كان عميقاً فيستوعب ماءً كثيراً، وإذا كان أقل عمقاً فسوف لا يستوعب كثيراً من الماء، وهكذا الأمر بالنسبة لمعرفة الإنسان باللّه تعالى، فنحن نعرف أنه تعالى موجود، لكن حقيقة الذات المقدسة لا يعلمها إلّا اللّه عزّ وجلّ، وقد نهينا عن التفكر في ذات اللّه عزّ وجلّ، فقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إياكم والتفكر في اللّه، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه»(2)؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى ذات اللّه، فإذا فكر في ذلك فربما يتوهم أشياء معينة، ويظن أنها هي اللّه أو صفاته سبحانه وتعالى؛ لذا جاء في الحديث الشريف: «إن اللّه خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكلما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا اللّه»(3)، وفي حديث آخر: «الحمد للّه الذي لا يحس، ولا يجس، ولا يمس لا يدرك بالحواس الخمس، ولا يقع عليه الوهم، ولا تصفه الألسن، فكل شيء حسته الحواس أو جسته الجواس أو لمسته الأيدي فهو

ص: 40


1- سورة الرعد، الآية: 17.
2- الكافي 1: 93.
3- الكافي 1: 82.

مخلوق»(1)، فأي شيء نتصوره فهو مخلوق مثلنا؛ لأننا أوجدناه بفكرنا، ولا يمكن أن يكون اللّه عزّ وجلّ ذلك الشيء؛ لهذا نهينا عن التفكر بحقيقة ذات اللّه تعالى، وأمرنا بالتفكر في دقة نظمه ومخلوقاته.

وكما لا نعرف كنه ذات اللّه تعالى، كذلك لا نعرف كنه حقيقة المخلوقات أيضاً، فنحن نرى الماء وآثاره، وأمّا حقيقته فإن العلم يقف حائراً أمامها، وأكثر ما توصل إليه العلم حول الماء: هو أنه مركب من الأوكسجين والهيدروجين، وإن آثاره كذا وكذا، وهو يروي العطشان، فالعلم يجزّئ الأشياء ويبيّن آثارها، وأمّا حقيقة وكنه ذات الشيء فتبقى مجهولة؛ مثلاً الوجود يقال عنه:

مفهومه من أعرف الأشياء *** وكنهه في غاية الخفاء(2)

فالوجود معروف لدينا كلنا، وهو من أعرف الأشياء، فحتى الطفل الصغير إذا أريته شيئاً وذهبت به إلى مكان آخر فسيقول هذا الشيء موجود أو غير موجود الآن، ولكن كنهه في غاية الخفاء، ولو طرحنا هذا السؤال: ما هي حقيقة الوجود؟ فلا أحد يعرف الجواب. فلو ذهبنا إلى أكبر علماء الفيزياء ومجال الطبيعة وسألناه عن حقائق الأشياء، فسيقول: لا أدري، وإنّما أنا أعرف أنها مركبة من هذه الأجزاء، ولها الخواص الفلانية، وقد يتطور العلم ويكتشف خواص أكثر. فالدواء مثلاً: مركب من كذا وكذا، وإذا مرض إنسان بمرض ما، فإن علاجه يتم بهذا الدواء، ولكن ما هي حقيقة هذا الدواء؟ فهذا غير معلوم لنا.

إذن، نحن لسنا نجهل كنه وجود ذات اللّه فقط، بل نجهل كنه ذات كل شيء،حتى المخلوقات.

ص: 41


1- التوحيد: 59.
2- شرح المنظومة 2: 59.

ولا يعني كلامنا هذا أن كل شيء لا ندركه بعقولنا يجب أن نؤمن به.

إننا حينما نناقش بعض النصارى حول كيفية أن يكون الإله واحداً، وفي الوقت نفسه ثلاثة، يقولون: إن هذا فوق عقلنا.

وهذا كلامهم باطل، وكلامنا ليس شبيهاً بكلامهم؛ لأن هناك شيئين: شيء فوق العقل وشيء خلاف العقل.

فمرّة يكتشف العقل أن هذا الشيء باطل، وأن الواحد لا يمكن أن يكون ثلاثة؛ لذا فمثل هذا الكلام يكون خلاف العقل.

وهناك شيء آخر فوق العقل، لا يقول أحدهم إنه مستحيل أو باطل، بل يقول: إنني لا أتمكن من استيعابه، كما هو الحال بالنسبة لنا، حيث نجهل أدق مسائل الفيزياء والفلك، فنقول: إنها أمور فوق عقولنا، لكننا لا ننكرها ولا نحكم ببطلانها، بل نحن لا ندركها لأننا لم نتخصص بها.

فعندما نقول: إن عقلنا لا يتمكن أن يدرك كنه ذات اللّه فهذا لا يعني أنه يكون خلاف العقل، بل العقل يذعن بوجود اللّه تعالى ثم يقرّ بأنه لا يتمكن من معرفة كنهه.

لذا يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه»(1)، بمعنى أن تثبت أن اللّه واحد، وتثبت الصفات التي أثبتها لنفسه، مثل كونه سميعاً بصيراً، وتنفي عنه الصفات التي نفاها عن نفسه، لكن كل شكل خاص تخيّله ذهن الإنسان فهو مخلوق له، ولا يمكن أن يكون هو اللّه عزّ وجلّ.

ثم بعد إذعاننا بوجود اللّه وبأنّه أرسل محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيّن أوصياء له، لا بدّ لنامن الإذعان بكل ما جاؤوا به في مسائل العقيدة وغيرها، فإننا نعلم بصدقهم مع

ص: 42


1- نهج البلاغة 4: 108.

عدم مخالفة كلامهم لأحكام العقل، فالعقل يحكم بوجوب قبول ما جاؤوا به.

إن من صفات اللّه عزّ وجلّ القديم، ومعنى ذلك أنه تعالى ليس له أوّل؛ لأن كل شيء محدث ومخلوق له أوّل فلم يكن قبل ذلك الأوّل، ثم إن هذا الأمر ينطبق على كل شيء باستثناء اللّه عزّ وجلّ.

إن قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْأخِرُ}(1) تعبر عن كونه تعالى الأوّل، بمعنى القديم الأزلي، فقد كان وليس لوجوده بداية.

لقد سأل نافع مولى الإمام الباقر(عليه السلام) قائلاً: «... فأخبرني متى كان اللّه؟ قال: ويلك أخبرني متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال، فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً»(2).

وفي رواية أخرى: عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان، ولا مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً»(3).

فالزمان والمكان مخلوقان للّه، فهو تعالى فوق المكان والزمان، ولا يعقل أن يحتويه مخلوق، فهو ليس بمسبوق بالعدم، فاللّه تعالى لم يكن قبله شيء منذ الأزل؛ لأن كل شيء محدث يحتاج إلى خالق لأنه كان عدماً، فإذا كان اللّه تعالى مسبوقاً فهذا يعني أنه لم يكن، ثم كان، وكل شيء كان عدماً ثم كان يحتاج إلى سبب لإيجاده بضرورة العقل، وتعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، {سُبْحَٰنَهُوَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}(4).

ص: 43


1- سورة الحديد، الآية: 3.
2- الاحتجاج 2: 59-60.
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: 353.
4- سورة الإسراء، الآية: 43.

يزعم البعض: إن القرآن ليس بمخلوق، وهذا يعني أن القديم صار اثنين: اللّه عزّ وجلّ، والقرآن الكريم، وهو بديهي البطلان مضافاً إلى دلالة الأدلة العقلية والنقلية على أن القرآن مخلوق، فالقرآن يدل أن اللّه تعالى خالق كل شيء وأن القرآن محدث فقال: {اللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ}(1) وقال: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}(2)، أي: إن القرآن ذكر محدث من ربهم، بمعنى أنه لم يكن موجوداً ثم وُجِد، وهذا يدل على أن القرآن مخلوق للّه عزّ وجلّ.

كذلك هناك آراء تذهب إلى أن بعض الأشياء قديمة، وكلها آراء باطلة؛ لأن القديم هو اللّه عزّ وجلّ فقط، القدم صفة خاصة به تعالى.

ص: 44


1- سورة الزمر، الآية: 62.
2- سورة الأنبياء، الآية: 2.

(6) العقائد بين العقل والنصّ

لا شك في أن العقل حجة باطنية جعلها اللّه عزّ وجلّ في كل إنسان، بينما جعل الأنبياء حجة ظاهرة، ومن مهمات الأنبياء أن يثيروا في الناس دفائن العقول.

ولكن ما هو مدى سعة العقل وكشفه عن الحقيقة في مجال العقائد؟ فهل يشمل ذلك كل ما يتعلق بالمعتقد أم لا؟

إن مدى العقل محدود، فهو يكشف بعض الأمور أو يحكم في بعضها، فلو لاحظنا عقلنا بتجرد عن أي حكم مسبق فسنلاحظ أنه لا يكتشف إلّا بعض الأمور:

فمنها: بعض الأمور العامّة التي تتعلق بمسائل العقيدة، حيث يمكن لكل إنسان أن يكتشف بعقله أن لهذا الكون خالقاً يتحلّى بالكمال ويتنزّه عن النقص كما أنه يكتشف أصل المعاد، بمعنى أن الخالق حينما خلق الإنسان سيجازيه عن أفعاله إن كانت خيراً فخيراً، وان كانت شراً فشراً؛ كما أنه يكتشف لزوم إرسال الرسل.

ومنها: بعض الأمور العامّة التي تتعلق بالأعمال كحسن العدل وقبح الظلم وبعض مصاديقهما.

ولكن ليس للعقل قدرة كافية لمعرفة التفاصيل.

لنأت بمثال يتعلق بالشريعة، إن العقل يحكم أو يكشف أنه يجب على الإنسان أن يشكر اللّه المنعم، أمّا كيفية العبادة فلا يعرفها؛ مثل: جزئيات الصلاة

ص: 45

وكيفياتها وشروطها وموانعها ومبطلاتها، وكذا الحال في الصوم والحج والزكاة وغيرها، فلا طريق للعقل إليها.

ففي مجال العقيدة فإن العقل يكشف أو يحكم لنا بوجود خالق وبعض أوصافه كالعلم والقدرة والحياة، لكنه لا يعرف التفاصيل والجزئيات، بل إن كثيراً منها يكون فوق إدراك العقل.

مثلاً: قد يكشف لنا العقل أن الخالق عالم، لكنه لا يستطيع أن يكشف كيفية علمه، فهي غير معلومة لدينا، لأننا لا نعرف حقيقة ذات اللّه عزّ وجلّ ولا حقيقة علمه.

فعندما نقول: (إن اللّه عالم) المقدار الذي يمكن أن ندركه هو أنه ليس بجاهل وفي الحديث: «وإنّما سمي اللّه عالماً لأنه لا يجهل شيئاً»(1).

فمن أين تؤخذ هذه التفاصيل؟ وهل بيّن لنا الشرع المقدس طريقاً لمعرفة هذه التفاصيل؟وهل وُكلنا إلى عقولنا؟ وهل يمكن لكل إنسان أن يُحكّم عقله في الجزئيات؟

كلا، لذا ضلَّ الذين حَكّموا عقلهم في جزئيات مسائل العقيدة والشريعة وأضلوا غيرهم.

والأمور التي لا تدركها عقولنا على قسمين:

القسم الأوّل: ما يستحيل معرفة الإنسان به فهذا لم يكلّف الإنسان به، بل نُهي عن التفكر فيه لهذا ورد في بعض الروايات: «تفكروا في خلق اللّه، ولا تفكروا في اللّه»(2)، فنحن بعقولنا نعلم بوجود اللّه عزّ وجلّ ونعرف أنه هوالخالق، لكننا

ص: 46


1- الكافي 1: 121.
2- بحار الأنوار 54: 348.

لا نتمكن من تصور كنه ذاته إطلاقاً؛ لأننا محدودون، ولا يتمكن المحدود من استيعاب غير المحدود، فلو كان لدينا كأس صغير وأردنا أن نضع فيه ماء البحر، فهل يمكن ذلك؟ كلا، وذلك لأن قدرة الكأس على استيعاب الماء محدودة، والمحدود لا يتمكن من استيعاب ما هو أوسع منه.

لذا ورد في بعض الروايات: «من تفكر في ذات اللّه تزندق»(1)، لأنه لا يتمكن من الوصول إلى الطريق الصحيح، فينحرف ويتصور اللّه بالصورة التي يراها في ذهنه، أو يجسم اللّه عزّ وجلّ، أو يسقط في ما ضل فيه كثيرون.

القسم الثاني: هناك بعض الأمور التي نتمكن من استيعابها لكن لا عن طريق العقل، وقد جعل اللّه عزّ وجلّ لها طريقاً، عبر ما أوحاه إلى رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد بيّنها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته ثم بيّن الطريق من بعد رحيله فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(2)، والضلال هنا لا يختص بالمجال العملي، وإنّما يشمل جميع أنواع الضلال، ومنه الضلال في العقيدة؛ لذا فإن كثيراً من الفرق الإسلامية تركت الكتاب أو العترة فضلت وانحرفت، مثلاً المراد من قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(3) هو أن اللّه عزّ وجلّ عالم بكل شيء، لكن البعض ينكر ذلك ويقول: إن المراد بكل شيء هو الكليات وليست الجزئيات، ثم يؤوِّل الآيات والروايات حسب زعمه، إلّا أن الصحيح هو أن يأخذ الإنسان العقيدة من منبعها، ثم يحاول أن يقربها إلى أذهان الناس من خلال أدلة يفهمونها.

ص: 47


1- عيون الحكم والمواعظ: 456.
2- بصائر الدرجات: 413؛ الأمالي، للشيخ الصدوق: 415؛ كفاية الأثر: 163.
3- سورة البقرة، الآية: 29.

عندما أرسل أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن العباس للاحتجاج على الخوارج، قال له: «لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال(1) ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً»(2)، وذلك لأنهم يؤوّلون تلك الآيات ويأتون بمعنى آخر لها، فأنت تقول: إن هذه الآية تعني كذا، فيقولون: كلا بل معناها هكذا.

ولهذا نجد أن جميع الفرق الإسلامية - حتى المنحرفين منهم - يستدلون بالقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم فيه متشابهات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(3).

من هنا يجب على الإنسان أن يستمد عقيدته في الجزئيات وفي بعض الكليات التي لا يتوصل إليها العقل، من منبعها الصافي وهو القرآن الكريم ومفسروه الذين هم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يضل ضلالاً بعيداً؛ بل العقل بنفسه يأمرنا بالرجوع إلى العالم حينما لا نعلم ولا طريق لنا للعلم سوى العالم.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «وبنا هداهم اللّه للإسلام»(4)، وقال أيضاً: «إذا قام القائم(عليه السلام) دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر وضل عنه

ص: 48


1- حمال: أي يحمل معاني كثيرة إن أخذت بأحدها احتج الخصم بالآخر.
2- نهج البلاغة، الرسالة: 77.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- مستدرك الوسائل 16: 247؛ بحار الأنوار 7: 258.

الجمهور، وإنّما سمي المهديُّ مهدياً لأنه يهدي إلى أمر مضلول عنه»(1)، فالضلال ليس في المجال العملي فقط، وإنّما أجلى مصاديقه في الفكر والمعتقد.

وأمّا قوله(عليه السلام): «دعا الناس إلى الإسلام جديداً» فلأن معظم الناس لا يحملون عقيدة صحيحة، ولا يعرفون الشريعة بشكلها الصحيح، ولهذا يكون الإسلام مندثراً عندهم، وحينما يظهر الإمام الحجة(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يهديهم إلى الإسلام جديداً، ويبيّن لهم معالمه الأساسية، بالرغم من أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) بيّنوا تلك المعالم، وهي موجودة في الكتب، لكن أكثر الناس غافلون عنها.

ص: 49


1- روضة الواعظين: 264.

(7) الفكر ودوره في حياة الإنسان

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(1).

1- النية

طريقة الإنسان في تفكيره هي التي ترسم مستقبله وحياته؛ لذا على الإنسان أن يصحح نمط تفكيره، فقد يكون كسولاً، وذلك بسب خطأ في منهجية الفكر، وقد يفكر ويقول: أنا عندي أموال وهذا يكفي أن أعيش حياتي، ولا أحتاج إلى أحد، فيترك العمل.

لكن هذا النمط من التفكير مرفوض؛ بل الكسل من أسباب الدخول في جهنم؛ لأن الإنسان الكسول يتماهل عن أداء تكاليفه؛ وذلك يؤدّي به إلى السقوط في ترك الواجبات وارتكاب المحرمات.

لذا نلاحظ في الآيات تركيز كبير على النية؛ فقد ورد في الحديث الشريف: «نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نيته»(2).

والنية ليس بمعنى التمني؛ لأن التمني يعني أن يجلس الإنسان في مكان

ص: 50


1- سورة الكهف، الآية: 46.
2- الكافي 2: 84.

ويتمنى كل شيء، كأن يكون أعلم العلماء، وأثرى الأثرياء، وأكبر الكبراء، وغير ذلك. وأمّا النية فتعني أن يقصد الإنسان أمراً ليعمله.

إن الإنسان إذا كانت صلاته رياءً تكون باطلة، بل محرمة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}(1)، وويل وادٍ في جهنم، حسب الروايات(2).

والرياء هو أن يقصد الإنسان بصلاته أن يراه الآخرون، فتصير له سمعة وذكر طيب مثلاً، هكذا يتوهم، في حين أن المحرمات لا تسبب الذكر الطيب، وإن انخدع به الناس لبعض الوقت، لكن اللّه سبحانه وتعالى سيكشف سوء سريرته.

إذن، فالنية هي التي تعطي لوناً لهذا العمل، فهل هذه الصلاة تقرب الإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى فيستحق عليها الثواب، أو تبعده عنه فيستحق عليها العقاب؟

إن العمل مركب من أمرين: أحدهما: أعمال الجوارح والآخر: القصد وهو النية، وهذان جزءان في أي عمل اختياري نقوم به، فجزء منه عمل وجزء قصد. فإذا كانت النية سليمة فيكون في العمل فضيلة وإلّا فلا.

لقد ورد في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة أن الكفار والمنافقين مخلدون في نار جهنّم، فلو أن شخصاً ارتكب المعاصي وعاش في هذه الدنيا ستين أو سبعين سنة، وكان كافراً فإنه سوف يكون مخلداً في النار، فلماذا يخلد في النار؟

ص: 51


1- سورة الماعون، الآية: 4-6.
2- انظر: مستدرك الوسائل 3: 98، وفيه: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الصلاة عماد الدين فمن ترك صلاته متعمداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويل واد في جهنم، كما قال اللّه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}».

وهذا ما أجاب عنه الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله: «إنّما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً، وإنّما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(1) قال: على نيته»(2).

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول عن أهل النار: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(3)، فلو أن اللّه سبحانه وتعالى أرجع المنافق والكافر - مع أنه الآن في أشد أنواع العذاب - إلى الدنيا لفعل ما كان يفعله من قبل، ولو خلد في هذه الدنيا فسوف يستمر في المعاصي، فعلى هذه النية يخلده اللّه سبحانه وتعالى في النار لاستحقاقه لها، وكذلك المؤمن يخلد في الجنة بفضل اللّه؛ لأن نيته لو خلد في الدنيا يبقى على الطاعة والإيمان.

وبناءً على ذلك، ينبغي علينا أن نصحح طريقة تفكيرنا أوّلاً، ثم عملنا تبعاً لتصحيح النية، فهذه الطريقة من الفكر تسبب السعادة للإنسان.

2- الأمل

ثم بعد ذلك يأتي دور الأمل، وهو يرتبط بفكر الإنسان فالأمل من الأمور المهمة التي إذا روعيت فيها الموازين فسوف تكون سبباً لتقدم الإنسان، لكن إذا صار فيه إفراط أو تفريط فسوف يسبب سقوط الإنسان، فالعامل يذهب إلى العمل، والزارع يزرع ويعمل ولا يحصل على شيء في اليوم الأوّل، لكنه ينتظر

ص: 52


1- سورة الإسراء، الآية: 84.
2- الكافي 2: 85.
3- سورة الأنعام، الآية: 28.

عدة أشهر ليقطف الثمار؛ كل ذلك لأنه عنده أمل بأنه عندما يسقي الزرع فسوف يقطف الثمار بعد فترة، فإذا لم يوجد عنده هذا الأمل كان يائساً لا يعمل؛ لذا يُعد اليأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى من أكبر المحرمات، قال اللّه تعالى: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، فالذي ييأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى يرى الطريق مسدوداً أمامه؛ فلا يكون له مانع عن ارتكاب المعاصي، حيث يقول: إن مصيري إلى جهنم سواء صلّيت أم لم أصل، صمت أم لم أصم، وقضية حميد بن قحطبة معروفة(2)، حيث قتل ستين علوياً في ليلة واحدة، فيأس من رحمة اللّه تعالى، وأدّى به ذلك لترك سائر الواجبات وارتكاب كل المحرمات.

إن كثيراً من الناس تحولوا إلى مجرمين كبار لأنهم ارتكبوا بعض الجرائم الصغيرة فيئسوا من رحمة اللّه، فدخلوا في مستنقع الرذيلة، ولم يخرجوا منها إلى أن توفتهم ملائكة العذاب، في حين أن الأمل برحمة اللّه سبحانه وتعالى يؤدّي بالإنسان إلى تصحيح أعماله، فمن ارتكب معاصي لسنوات - كأن ترك الواجبات وفعل المحرمات - وكان عنده أمل برحمة اللّه سبحانه فسوف يصحح ما فاته.

3- التوبة

إن اللّه سبحانه وتعالى فتح باب التوبة بفضله ورحمته، مع أن قبول التوبة غير لازم، وأمّا في القوانين الوضعية فلو ندم المجرم ألف مرّة فغالباً لا يفيده، بل يعاقب على فعله.

إن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليعذبه، وإنّما خلقه ليرحمه، كما قال

ص: 53


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- راجع عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 100.

تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، أي: للرحمة خلقهم؛ لذا فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى باب التوبة مفتوحاً لكي يصحح الإنسان خطأه إذا أخطأ، فإذا كان في حقوق الناس فيجب عليه أن يؤدّيها، ويندم ويستغفر اللّه سبحانه وتعالى، وإذا كان في حقوق اللّه سبحانه وتعالى فيندم ويستغفر، ويقضي ما فاته من واجبات. إن اللّه سبحانه وتعالى فتح باب التوبة لكي لا يصل الإنسان إلى درجة اليأس فينغمس في المحرمات، ولا يرجى له عود.

نعم، إذا طال الأمل فهو مذموم، ومعنى طول الأمل هو أن يسوّف الإنسان في أداء الفرائض والتكاليف؛ قال اللّه تعالى: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(2).

فعلينا أن نستثمر أوقاتنا، وخصوصاً شهر رمضان المبارك؛ لأن أبواب رحمة اللّه سبحانه وتعالى مفتحة على مصراعيها، فينبغي على الإنسان أن يستثمر هذا الشهر لتصحيح فكره، وتقوية عقيدته، وتصحيح عمله، فإن الأدعية التي وصلتنا عن طرق الأئمة(عليهم السلام) كنز لا ينفد، ففيها أجمل الألفاظ وأدقّ معاني العبودية والطاعة للّه تعالى، مع كونها قابلة لفهم عامة الناس، وهذا من خصوصيات أدعيتهم(عليهم السلام)، فهي في قمة البلاغة ودقة المعاني لكن عموم الناس يفهمونها، وهي متضمنة للعقائد والأحكام والأخلاقيات، وكل ما يحتاج إليه الإنسان.

ص: 54


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الحجر، الآية: 3.

(8) طريقة التفكير

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّما الأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى»(1).

المحرّك الأساسي للإنسان

إن المحرّك الأساسي للإنسان هو طريقة تفكيره، فالبعض يذهب لزيارة بيت اللّه الحرام مثلاً، بينما يذهب البعض الآخر لأماكن توجد فيها معصية اللّه سبحانه وتعالى، فطريقة تفكير كل إنسان هي التي تتحكم في عمله؛ ولذا كانت مهمة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) الأساسية هي تصحيح طريقة تفكير الإنسان.

وإذا كان تفكير الإنسان صحيحاً فسوف يكون عمله صحيحاً، فقد نرى بعض الناس يلبس حزاماً ناسفاً ويقتل نفسه ويقتل الآخرين لأنه تعرض لغسيل دماغه، فيتصوّر أنه بهذه الطريقة ينال رضا اللّه سبحانه وتعالى، وهو لا يعلم أنه يكون من الأخسرين أعمالاً: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(2)، فهو يخسر الدنيا والآخرة حينما يقتل نفسه ويقتل الآخرين، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(3).

ص: 55


1- تهذيب الأحكام 4: 186.
2- سورة الكهف، الآية: 104.
3- سورة النساء، الآية: 93.

إن سبب مشكلة الخوارج هو أن طريقة تفكيرهم كانت خاطئة، فأدت بهم إلى نار جهنم، فهم لم يتّبعوا أمير المؤمنين(عليه السلام) باعتباره إمام الحق ومنصوباً من قبل اللّه سبحانه وتعالى، بل تبعوه لأنه الحاكم. وهكذا الحال لبعض ممن أسلم بعد الفتح: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(1)، فلماذا لم يتبعوه قبل الفتح؟ والجواب: لأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صار بعد الفتح حاكماً، فكانوا يرغبون بالمناصب، وغير ذلك، ولذا نراهم في أوّل امتحان خرجوا من دين اللّه.

فإذا كانت طريقة التفكير خاطئة فسوف يسقط الإنسان في أوّل امتحان.

أقسام العبادة

إن المسلمين يعبدون اللّه، حيث يصلون ويصومون ويزكون، ويؤدون باقي الواجبات، ولكنهم مختلفين في الداعي والمحرك لذلك العمل، فيمكن أن يقول الإنسان في لسانه شيئاً لكن في قلبه شيء آخر: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(2).

1- فالبعض يعبد اللّه سبحانه وتعالى خوفاً من نار جهنم، وهذه عبادة صحيحة لكنها أنزل درجات العبادة، كما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإن قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد»(3)،

فالعبد يعمل لأنه يخاف من المولى، ومَن يعبد اللّه من الخوف من نار جهنم من الممكن أن يترك العبادة إذا خاف من شيء آخر.

2- وهناك مَن يعبد اللّه سبحانه وتعالى طمعاً في الجنة، وهذا ما أشار له

ص: 56


1- سورة النصر، الآية: 1-2.
2- سورة القيامة، الآية: 14-15.
3- نهج البلاغة 4: 53.

الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار»(1)،

والتجار إنّما يذهب لمحل عمله لكي يحصل على الربح، وهكذا الذي يعبد اللّه طمعاً في الجنة، وهذه العبادة صحيحة أيضاً، وهي أحسن من عبادة الخوف، لكنها ليست أعلى الدرجات.

3- وهناك مَن يعبد اللّه سبحانه وتعالى حياءً، فهو يستحيي من اللّه، وهذه أيضاً عبادة صحيحة لكن توجد عبادة أحسن منها.

وهذه نظير من يخدم أباه لأنه يضربه لو ترك خدمته مثلاً، وهناك من يخدمه لأنه يطمع في إعطائه مالاً، وهناك من يفعل ذلك حياءً وخجلاً.

4- وأمّا القسم الآخر من العبادة فهو عبادة اللّه شكراً، فلأن اللّه سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان هذه النعم الجسام العظيمة، فهو يعبده عبادة شكر له، وهذه درجة عالية من العبادة، كمن يخدم أبويه شكراً لهما، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}(2).

إن الذي يعبد اللّه سبحانه وتعالى شكراً لا يذهب خلف المصالح عندما تتعارض مع العبادة. نعم، ذلك التاجر قد يذهب خلف المصالح، وكذلك ذلك العبد.

هناك الكثير ممن كتب رسائل للإمام الحسين(عليه السلام)، فلماذا كتبوا للإمام(عليه السلام)؟ إن أكثرهم كتبوا الرسائل ليس لأنهم يريدون أن يحكم الحق، بل إن بعضهم كان قد تضرر من حكم بني أمية، فكان يريد أن يرفع الإمام الحسين(عليه السلام) عنه هذا الضرر، ولم تكن نيته أن يقيم الإمام الحسين(عليه السلام) العدل ويدحض الباطل؛ ولذا

ص: 57


1- نهج البلاغة 4: 53.
2- سورة لقمان، الآية: 14.

عندما سيطر ابن زياد على الكوفة ذهبوا معه، لأن بعضهم كان يفكر أنه لو لم يذهب إليه فسوف يصبح ضرره أعظم، لأنه كان يبطش بالناس.

5- وهناك قسم أعلى من عبادة الشكر، وهو أن يعبد اللّه سبحانه وتعالى حباً له: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(1)، وهي أعلى درجات العبادة، وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) لذلك بقوله: «ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(2). فمن يعبد اللّه بهذه الطريقة لا يبيع الآخرة بثمن بخس.

إن الذين صمدوا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) كانوا فئة قليلة، وهكذا الذين جاهدوا مع الإمام الحسين(عليه السلام)، وكذا من كان مع الأئمة(عليهم السلام)، وخواص أصحاب الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) ثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً، مع أن المؤمنين بالآلاف، بل بالملايين.

إن المؤمنين كثيرون، إلّا أن القليل منهم من يصل إلى درجة يكون منطلقه حب الإمام(عليه السلام) وليس خوفاً من شيء دنيوي أو لمصلحة. فهناك من الناس من يقول: (اللّهم عجل لوليك الفرج) وذلك لأن عنده مشاكل يريد أن يحلها الإمام(عليه السلام)، فمنطلقه نفسه وليس اللّه سبحانه وتعالى.

وأمّا من يقول: إني أريد إقامة الحق، وأن يكون هو الحاكم على العالم، وأنا أحب أهل البيت(عليه السلام)، وأريد أن يرتفع الظلم، فهو قليل. وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة فسوف لا يبيع دينه بأي ثمن من الأثمان، حتى لو كانت فيه نفسه.

إن الكفار والمنافقين في نار جهنم يدعون اللّه سبحانه وتعالى أن أخرجنا منها وأرجعنا إلى الدنيا لكي نصلح ما فاتنا، لكن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْرُدُّواْ

ص: 58


1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- عوالي اللئالي 1: 404.

لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، فهو تعالى يعلم أنهم يكذبون ويريدون الخلاص من هذا العذاب، وأن نياتهم ليست سليمة، لذا يستغيثون: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(2)، {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(3)، ولو كانوا صادقين فربما رحمهم اللّه سبحانه وتعالى، لكنهم كاذبون فلذا ليست لهم قابلية للرحمة مع أن اللّه رحمان رحيم، يرحم الجميع، إلّا أن إعطاء الرحمة لمن لا يستحقها خلاف الحكمة.

إذن، يلزم على الإنسان أن يصحح طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى الالتجاء إلى اللّه سبحانه وتعالى، ويحتاج إلى المعرفة والعلم، من خلال القراءة أو الاستماع للعلماء والخطباء والمؤمنين، فليحاول الإنسان أن يهذب نفسه ويروضها، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق»(4)، لأن نفس الإنسان كجسمه، فكما أن الجسم يحتاج للتمارين لترويضه فكذا النفس.

فينبغي على الإنسان أن يفكر في كل خطوة يتخذها، فإذا كانت صحيحة وفيها رضا اللّه فليفعلها، وإلّا فليتركها، وأن يستمر على النية الصحيحة لأنه قد يكون عمله صحيحاً ولكنه يبطله بعد ذلك، قال تعالى: {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ

ص: 59


1- سورة الأنعام، الآية: 28.
2- سورة فاطر، الآية: 37.
3- سورة الزخرف، الآية: 77.
4- نهج البلاغة 3: 71.

وَالْأَذَىٰ}(1)، وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَٰلَكُمْ}(2).

والحاصل: إن الطريقة الصحيحة في التفكير هي التي تؤدّي بالإنسان إلى أن لا ينحرف عن الطريق الصحيح في الأزمات، لأن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان دائماً، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(3)، فإذا ربّى الإنسان نفسه فسوف يخرج من الامتحان ناجحاً، وينال رضا اللّه سبحانه وتعالى والجنة.

ص: 60


1- سورة البقرة، الآية: 264.
2- سورة محمّد، الآية: 33.
3- سورة التوبة، الآية: 126.

(9) التوحيد أساس انطلاقة الإسلام

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1).

حينما بُعث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدأ بالتوحيد، وكان التوحيد هو الأساس في انطلاقة الإسلام، واستمر هذا الأمر من اليوم الأوّل إلى اليوم الأخير من حياة النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ولو تصفّحنا القرآن الكريم لوجدنا التوحيد في كل صفحة، بل بعض الأحيان في كل آية؛ وذلك لأن المعرفة الصحيحة باللّه سبحانه وتعالى هي أساس كل المعارف، والذين انحرفوا إنّما كان انحرافهم في التوحيد، فأساس مشكلة مَن لا يعرف النبي والنبوّة هو عدم معرفة اللّه، والذي لا يعرف إمامة الأئمة أو لا يعرف مقاماتهم أساس مشكلته في التوحيد، وكذلك الذي لا يعرف المعاد.

آثار عدم معرفة التوحيد

وهنا نذكر بعض الأمثلة في أثر عدم التوحيد الصحيح:

المثال الأوّل: إننا نجد بعضاً من المسلمين حينما يصلون إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوجد عندهم نوع من الضبابية، أو نوع من إنكار مقاماته(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلو كانوا يعرفون اللّه سبحانه وتعالى حق معرفته لما وصل الأمر بهم إلى إنكار مقامات

ص: 61


1- سورة الزمر، الآية: 67.

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكذلك الذين قَصّروا بحق أمير المؤمنين(عليه السلام) أو غَلَو فيه.

حيث نجد مَن ينسب بعض النقائص للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ويستدل بهذه الآية: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1)، إنّما السبب في ذلك أنه لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى، فأخطأ في فهم هذه الآية؛ فكونه مثلاً لنا ليس بمعنى أنه ليس بنبي، أو ليس بمعصوم، أو أنه يُخطئ كما نخطئ نحن، وإنّما معنى هذه الآية أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الجنس البشري، فتركيبته البشرية كتركيبتنا، لأن الإنسان له أعضاء وجوارح ظاهرة وباطنة، فله روح ونفس وجسد، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك، والإنسان بجسده يحتاج إلى طعام ونوم وزواج، والأنبياء كذلك قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(2).

فالآية تريد أن تقول: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس من الملائكة، وإنّما هو من جنس البشر، وهذا لا يعني أن مقامات الرسول كمقاماتنا؛ لأن نظام الكون مبني على التفاضل في كل شيء، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ}(3)، وقال: {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(4)، وكذلك الحال بالنسبة للأطعمة، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ}(5)، وهكذا بالنسبة للناس، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ}(6).

ص: 62


1- سورة الكهف، الآية: 110.
2- سورة الأنبياء، الآية: 8.
3- سورة الإسراء، الآية: 55.
4- سورة الإسراء، الآية: 70.
5- سورة الرعد، الآية: 4.
6- سورة النساء، الآية: 34.

والذي ينكر مقامات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحقيقة لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، فإن اللّه قادر حكيم عالم، وهو الذي اصطفى جميع الرسل واصطفى محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإذا كان اللّه سبحانه وتعالى كذلك فهل يصطفي رجلاً فيه خلل، ولو من جهة من الجهات؟!

كلا، بل إنّه إذا أراد أن يصطفي أحداً فلا بدّ أن لا يكون فيه خلل ونقص، فإذا كان النبي ينسى أو يسهو أو تنتابه الحالات النفسية غير المناسبة، فهذا ليس اصطفاءً صحيحاً.

إن الإنسان قد يصطفي شخصاً ثم يتبين أن فيه خللاً ونقصاً، وهذا يكشف عن جهل الإنسان أو عدم قدرته على اختيار غيره أو عدم حكمته في اختياره، وكل ذلك لا يتصوّر في اللّه سبحانه وتعالى، لأنه عالم بمَن يصطفيه حكيم في أفعاله وقادر على اصطفاء يناسبه تعالى فلا يمكن أن نتصور وقوع النقص والخلل فيمن يصطفيه اللّه سبحانه وتعالى.

إذن، فكل ما ينسب النقص للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إنّما هو ناجم عن مشكلة له في التوحيد، فمن ينسب ذلك للرسول فهو لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، ولا يعرف صفاته.

وهكذا الحال في الذي يغالي في الأئمة(عليهم السلام)، فهو لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، وأنه لا شريك له، وكذا مَن ينقص من مرتبتهم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(1)، أي: إن هناك أناساًاصطفاهم اللّه سبحانه أورثهم علم الكتاب بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والذي يصطفيه اللّه لا يكون عاصياً ولا ناقصاً.

ص: 63


1- سورة فاطر، الآية: 32.

المثال الثاني: يرتكب البعض المعاصي الكبيرة، وعندما تقول له: لماذا تفعل هذا فسوف يقول: إن اللّه كريم! وإن الرسول وآله سيشفعون لي!

صحيح، إن اللّه كريم، ولكنه أيضاً شديد الانتقام والعقاب، فلا يصح أن ينظر الإنسان لكرم اللّه سبحانه وتعالى وحده، بل لا بدّ أن ينظر إلى شدّة انتقامه، فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}(1)، فهذا الإنسان إمّا أنه لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، أو يخدع نفسه، أو يريد أن يغطي على عمله.

نعم، إن اللّه سبحانه وتعالى كريم، وفي الوقت نفسه شديد العقاب، وهذا لا ينافي أن اللّه سبحانه وتعالى وَعَد بالشفاعة، حيث قال: {لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}(2)، أي: إنه حتى الشفعاء يخافون اللّه سبحانه وتعالى، فمن يُرغّب الناس بالمعاصي فإن معرفته باللّه ناقصة.

يقول البعض: ينبغي على الإنسان أن يصفي قلبه، ثم ليعمل ما شاء.

وهذا الكلام غير صحيح، لأنهم إنّما يذكرون ذلك للفرار من أحكام الشرع، فلو أن سائقاً خالف الإشارة المروريّة الحمراء لكن قلبه كان صافياً، فهل يترك ولا يُغرَّم؟ إن هذا الكلام غير معقول. إن بعض الناس لا يريدون الالتزام بأحكام الشرع، ولذا يأتون بهذه المعاذير.

المثال الثالث: إذا نظرنا للتكفيريين الإرهابيين نرى أنهم يزعمون أنهم موحّدون، فإذا أرادوا أن يقتلوا شخصاً اتّهموه بالشرك، مع أن الخلل موجود فيأعمالهم، في إرهابهم وقتلهم للأبرياء وغير ذلك، كل ذلك حدث بسبب خلل في توحيدهم، حيث إنهم يعتقدون أن اللّه جسماً، وأنه يركب على حمار، وأنه في

ص: 64


1- سورة البروج، الآية: 12.
2- سورة الأنبياء، الآية: 28.

ليلة الجمعة ينزل إلى السماء الدنيا، وإذا كان اعتقادهم باللّه هكذا فما بالك باعتقادهم بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ إنهم يروون أن الرسول يقول: أنا بشر أغضب، وأيّما رجل لعنته فاللّه سبحانه وتعالى يجعل هذا اللعن زكاة له، أي: إن لعنة الرسول لشخص تصبح زكاة وثواباً له!

ثم إنهم ينسبون له عدم علمه بأبسط الأمور، مثلاً رووا في تأبير النخل: «قدم نبي اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم المدينة وهم يأبرون النخل يقولون يلقحون النخل، فقال: ما تصنعون قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفضت أو فنقصت قال: فذكروا ذلك له فقال: إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر»(1).

هكذا صوّروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، مع أنه مُنزّه ممّا صوّروه.

أثر العقيدة في حياة الإنسان

إذن، فلا بدّ أن نصحح الأصل وهو المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، وأمّا إذا كان هناك خلل بالمعرفة فسوف يحدث خلل في بقية الأمور، ولذا فالخلل في العقائد يوجب الكفر ويوجب الخلود في النار، بينما لو حصل خلل في الأعمال فلا يوجب ذلك، فلو لم يقل الإنسان: (أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمّد رسول اللّه) فليس بمسلم، بل هو كافر، لكن إذا كان مسلماً فاسقاً، بحيث كان معتقداً بهذين الأصلين وسائر الأصول لكن غير ملتزم، كأن يكون مرتكباً لبعض المعاصي، فهذا يعاقب، ولكن قد يغفر اللّه له.

نعم، ينبغي على الإنسان أن لا يغترّ فيعتمد على الغفران والشفاعة، فليعرف بأن هناك برزخاً يمضي فيه سنين طوال، فقد ورد في الحديث الشريف عن عمرو

ص: 65


1- كتاب مسلم 7: 95.

بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال: صدقتك كلهم واللّه في الجنة، قال: قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار؟ فقال: أمّا في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي، ولكني واللّه أتخوف عليكم في البرزخ. قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(1). ففي القبر يكون الإنسان وأعماله.

ثم إن الإنسان قد لا يحصل على الشفاعة مباشرة، فقد تدركه الشفاعة بعد أن يمضي في النار أحقاباً، فقد روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً، والحقب بضع وستون سنة، والسنة ثلاث مائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار»(2). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يخرج من النار قوم بعدما امتحشوا(3) وصاروا فحماً وحمماً، فينبتون كما ينبت الحبة في حميل السيل»(4).

والحاصل: إنه إذا كانت عقيدة الإنسان صحيحة وكان في عمله خلل فقد يسبّب ذلك الخلل انخفاض درجاته، وقد يعاقب على ذلك، ولكن بعد أن يصفّىتصفية كامِلة يدخل الجنة، وأمّا من كانت عقيدته باطلة، فلا ينفعه عمله، ولا يدخل الجنة، بل يخلّد في نار جهنم، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن

ص: 66


1- الكافي 3: 242.
2- بحار الأنوار 8: 276.
3- أي: احترقوا.
4- بحار الأنوار 8: 371. وحميل السيل: هو ما يجيء به السيل من طين أو غثاء وغيره، فعيل بمعنى مفعول، فإذا اتفقت فيه حبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة، فشبه بها سرعة عود أبدانهم وأجسامهم إليهم بعد مزق النار لها.

يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1) فما هو السبب؟

إن السبب في ذلك هو أن العقيدة هي الأصل لكل شيء في حياة الإنسان، فمن يعمل الصالحات فلأنه يعتقد بوجود الثواب، والجنة والنار، والذي لا يعملها لا يعتقد بذلك.

إننا نجد في كثير من الأحيان أن هناك أخوين أو قريبين أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن فما هو السبب، مع أن البيئة التي تربّيا فيها بيئة واحدة؟ إن السبب هو أن الأوّل يفكر بطريقة صحيحة، والثاني يفكر بطريقة غير صحيحة، ولذا أصبح الأوّل مؤمناً والثاني كافراً، فطريقة التفكير هي التي تتحكم في حياة الإنسان؛ لذا فالاعتقاد أصبح هو الأساس، والعمل على رغم أهميته إلّا أنه هو الفرع؛ ولذا توجد لدينا أصول الدين وفروعه.

ارتباط الأصول والفروع

نعم، هناك ارتباط بين الأصول والفروع، فالخلل في الفروع قد يؤدّي إلى الخلل في الأصول، فينبغي على الإنسان أن لا يتهاون بالفروع أيضاً، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2). كذلك الخلل في الأصول يؤدّي إلى الخلل في الفروع.

الكفار الذين خدموا البشرية

يتساءل البعض فيقول: هناك كفّار خدموا البشرية فهل يكونون في النار، بينمانجد مؤمناً مستضعفاً لم يخدم حتى جاره يكون في الجنة فلماذا؟

والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى يُعبد من حيث يُريد لا من حيث نريد نحن،

ص: 67


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- سورة الروم، الآية: 10.

فإبليس (لعنة اللّه عليه) أبى السجود لآدم(عليه السلام)، وقد جاء في بعض الروايات: عن الصادق(عليه السلام) قال: «أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها. قال اللّه جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد»(1).

فاللّه سبحانه وتعالى يريد أن يعبد عن طريق الإسلام، وعن طريق الاعتقاد بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة(عليهم السلام)، فإذا اختار إنسان طريقة أخرى فاللّه تعالى لا يريدها حتى إذا تصوّر الإنسان أنها أفضل، وحتى لو اتفقت البشرية كلها عليها، وبما أن اللّه لا يريدها فلا يستحق عليها أجراً.

ثواب المؤمنين فضل

بل الحال كذلك بالنسبة إلى المؤمنين، فالمؤمن لا يستحق أجراً وثواباً على اللّه سبحانه وتعالى إلّا بتفضّل من اللّه تعالى ووعده بذلك حيث إن اللّه تعالى خلق الجميع بفضله ومنّه ولطفه، وغمرهم بالنعم، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(2)، فلو أن الإنسان عَبَدَ اللّه حياته كلها لم يتمكن أن يوفّي نعمة واحدة من نعم اللّه سبحانه وتعالى.

جاء في دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة: «لو حاولتُ واجتهدت مدى الأعمار والأحقاب لو عمرتها أن أؤدي بعض شكر واحدة من أنعمك، فما استطعت ذلك إلّا بمنك الموجب به عليّ شكراً آنفاً جديداً...»(3).

وخلاصة القول: إن الإنسان لا يستحق بأعماله على اللّه تعالى شيئاً وثواباً، وإنّما تفضل اللّه سبحانه وتعالى على عبده فوهبه الثواب، فقد خلقنا اللّه سبحانه

ص: 68


1- بحار الأنوار 2: 262.
2- سورة النحل، الآية: 18.
3- بحار الأنوار 94: 316.

وتعالى وغمرنا بالنعم، ونحن لا نستحق عليه شيئاً.

نعم إن اللّه سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالجنة، وعدم الوفاء بالوعد قبيح، واللّه سبحانه منزّه عن كل قبيح، لكن هذا الوعد تفضّل من اللّه أن جعله حقاً على نفسه.

صحيح أن الإنسان إذا وعد بشيء فقد أصبح هذا حقاً في ذمّته، ويلزمه الوفاء به عقلاً، لكن هل كان من اللازم أن يَعِد بهذا الشيء؟ كلا، بل هذا تفضل.

إذن، فاللّه سبحانه وتعالى جعل حقاً على نفسه، وهذا تفضل منه، وقد ورد في الدعاء: «وأسألك بحقك عليهم، وبحقهم عليك»(1).

أي: حق الأئمة(عليهم السلام) عليك، الذي هو من أعظم حقوق اللّه عليهم.

والحاصل: إن الثواب للطاعة، وليس لخدمة البشرية، وليس على العمل الصالح المجرّد عن نية الإخلاص؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى غير محتاج إلى عملنا، وإنّما وعدنا بالثواب إذا عملنا العمل بالكيفية التي أرادها وبنية خالصة، فلو أن شخصاً عمل عملاً لا بتلك الكيفية ولا بنية الإخلاص فلا يستحق شيئاً على اللّه سبحانه وتعالى، ومن استحق الثواب فهو من فضل اللّه سبحانه وتعالى.

فالمؤمن يدخل الجنة لأنه عمل بالطريقة التي أرادها اللّه، وذاك الكافر بالرغم من أنه خدم البشرية إلّا أنه لم يعمل بالطريقة التي أرادها اللّه فلا يستحق ثواباً، وكل هذا يرجع إلى الأصل، وهو معرفة اللّه سبحانه وتعالى.

لو قرأنا الأدعية - مثلاً دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي وغيرهما - نجد أنمحورها هو إيجاد المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، فإذا عرف الإنسان ربه فسوف يعبده كما يريد اللّه تعالى، وكلما ازدادت المعرفة ازداد ثواباً.

ص: 69


1- الصحيفة السجادية: 238.

تفاوت درجات ثواب العمل الواحد

وإذا لاحظنا الروايات نجد في بعضها: أن زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) تعادل عمرة(1)، وفي رواية أخرى: تعادل حجة(2)، وفي رواية: تعادل حجّة وعمرة(3)، وفي رواية: تعادل عشرة حجج(4)، وفي رواية: تعادل مائة حجّة(5)، وفي رواية: ألف حجّة(6)، وفي رواية: «مَن زار الحسين محتسباً لا أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، محصت عنه ذنوبه كما يمحص الثوب في الماء، فلا يبقى عليه دنس،ويكتب له بكل خطوة حجة، وكلما رفع قدماً عمرة»(7).

فهؤلاء الذين يأتون إلى كربلاء يسيرون مشياً على الأقدام، يحصلون على

ص: 70


1- انظر: كامل الزيارات: 290، وفيه: ... عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: «سأل بعض أصحابنا أبا الحسن الرضا(عليه السلام)، عمن أتى قبر الحسين(عليه السلام)، قال: تعدل عمرة».
2- انظر: كامل الزيارات: 294، وفيه: ... عن محمّد بن سنان، قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) يقول: «من أتى قبر الحسين(عليه السلام) كتب اللّه له حجة مبرورة».
3- انظر: كامل الزيارات: 297، وفيه: ... عن محمّد بن أبي عمير، عن الحسين الأحمسي، عن أم سعيد الأحمسية قالت: «سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن زيارة قبر الحسين(عليه السلام)، فقال: تعدل حجة وعمرة ومن الخير هكذا وهكذا، وأومأ بيده».
4- انظر: كامل الزيارات: 297، وفيه: ... عن هارون بن خارجة، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه(عليه السلام) وأنا عنده فقال: ما لمن زار قبر الحسين(عليه السلام)؟ فقال: «إن الحسين وكل اللّه به أربعة آلاف ملك شعثاً غبراً يبكونه إلى يوم القيامة، فقلت له: بأبي أنت وأمي روي عن أبيك الحجة والعمرة، قال: نعم حجة وعمرة، حتى عد عشرة».
5- انظر: كامل الزيارات: 304، وفيه: ... عن محمّد بن صدقة، عن صالح النيلي، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أتى قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كان كمن حج مائة حجة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».
6- انظر: كامل الزيارات: 307، وفيه: ... عن عبد اللّه بن ميمون القداح، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: «ما لمن أتى قبر الحسين(عليه السلام) زائراً عارفاً بحقه غير مستكبر ولا مستنكف، قال: يكتب له ألف حجة وألف عمرة مبرورة، وإن كان شقياً كتب سعيداً، ولم يزل يخوض في رحمة اللّه عزّ وجلّ».
7- كامل الزيارات: 273.

ثواب متفاوت، فلماذا هذا التفاوت؟

إن هذا التفاوت حسب المعرفة، فمن كانت معرفته في أدنى درجة يحصل أقل مرتبة من الثواب، وهي عمرة، ومن كانت معرفته أكثر يزداد ثوابه ويزداد وهكذا، وكذلك هناك شروط أخرى غير المعرفة وهي: الإخلاص والعلم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1). وهناك أمور أخرى، إلّا أن الأهم من ذلك هو المعرفة ثم الإخلاص ثم العلم.

وبناءً على ذلك لا بدّ أن يقرأ الإنسان القرآن والأدعية بتمعّن ويتفكر، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا}(2)، فقد ورد في رواية: «كان أكثر عبادة أبي ذر التفكر والاعتبار»(3)، مع أن أبا ذر كان يصلّي ويصوم ويجاهد، حتى مات من الجوع في الربذة(4)، لكن أكثر عبادته كان التفكر، لأن التفكر يزيد الإنسان علماً ومعرفة.

طبعاً، يجب أن يكون التفكر من الطريق الصحيح، حيث يجب على الإنسان أن يستقي معارفه من الرسول وآله(عليهم السلام)، وإلّا فسوف ينحرف.

ص: 71


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة آل عمران، الآية: 191.
3- مستدرك سفينة البحار 7: 68.
4- انظر: روضة الواعظين: 284.

(10) عدل اللّه تعالى

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(1).

قبل الخوض في هذه الصفة الإلهيّة، نبدأ بمقدمة تدور حول الحسن والقبح.

الحسن والقبح العقليان

هناك بعض الفِرَق تزعم أن لا حَسَن واقعاً ولا قبيح واقعاً إلّا ما قبّحه الشارع أو حسّنه، فالحَسَن هو ما حسّنه الشارع والقبيح ما قَبَّحه، ويقولون في هذا الصدد: إنّ الظلم قبيح، لأنّ اللّه تعالى قال: إنه قبيح فهو قبيح، ولو قال عنه: إنّه حسن لصار حسناً، وإن العدل حَسَن لأن اللّه تعالى قال ذلك، ولو قال سبحانه: إنّه قبيح لكان قبيحاً!

ولكن هذا الأمر ليس صحيحاً، فحتى قبل أن يخلق اللّه تعالى مخلوقاً، ويشرّع أية شريعة كانت هذه الحقائق ثابتة في علم اللّه تعالى، فلمّا خلق اللّه العقل جعله بكيفيّة يدرك بعض هذه الحقائق، ولذا يعبر عنها بالحقائق العقلية، أو المستقلّات العقلية(2)، بمعنى أن العقل يدركها بقطع النظر عن الشرع؛ لذا حتى غير المتشرعين والكفار والملاحدة الذين ينكرون وجود اللّه يقرّون بحسن بعض الأشياء في ذاتها، وقبح أُخرى في ذاتها، فالشيوعيون - مثلاً - يقولون: إنَّ الأخلاق صنيعة الرأسماليين،

ص: 72


1- سورة آل عمران، الآية: 182؛ سورة الأنفال، الآية: 51؛ سورة الحج، الآية: 10.
2- انظر: فرائد الأصول3: 215.

فبعض الناس لكي يستعبدوا البعض الآخر صنعوا شيئاً باسم الأخلاق. لكن إذا سألت الشيوعي بأنه إذا ارتكب العامل في جهاز الحكومة الخيانة، وارتبط بالعدو فهل عمله هذا جيد؟ سوف يجيب:كلا، إنه عمل قبيح، فنقول له: إنك تقول: إنَّ الأخلاق صنيعة الرأسماليين، فكيف حكمت على عمل الخائن بأنه عمل قبيح؟ هذا يعني أن عقله يدرك أن الخيانة أمر قبيح، وأن الأمانة أمر حسن، ويكشف ذلك عن أن حسن بعض الأشياء وقبحها يدركهما العقل حتى لو لم يكن هناك شرع.

ولو كان حسن الأشياء وقبحها متوقفاً على الشرع، فمن المفترض أن لا يعتبرها كثير من الناس حسنة أو قبيحة.

اللّه تعالى عادل، لكن بعض الفرق تزعم أن الظلم جائز على اللّه تعالى، فمثلاً يقولون: لو وضع اللّه تعالى فرعون في أعلى درجات الجنة، ووضع الصالحين في أسفل دركات الجحيم فهذا العمل حسن! لأنّ العدل لديهم ليس من الحقائق، وإنّما يرتبط بالشرع، فلا مانع من عدم عدله إطلاقاً.

إننا نسألهم ونقول: فما المانع من ظلم اللّه عزّ وجلّ؟ يقولون: إنّ اللّه وعدنا بأن الإنسان إذا عمل صالحاً فهو في الجنة، وإذا قام بعمل قبيح فيدخله النار، ولأن اللّه وعد فيفي بوعده.

هنا نوجه سؤالنا لهم فنقول: ما الذي يجعل اللّه يفي بوعده ويصدق في أخباره؟ ولماذا الوفاء بالوعد والصدق واجب على اللّه؟ فإذا لم تكن هناك حقائق ثابتة فما المانع من أن لا يفي بوعده؟ أو أن لا يصدق؟! سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟

طبعاً يوجد لدينا وعد ووعيد، فالوعد بالجنة وأمّا الوعيد فبالنار، والوفاء بالوعد واجب عقلاً، كأن يقول: (من صلّى أُعطيه كذا من الثواب) أمّا إذا كان وعيداً فليس الوفاء به واجباً عقلاً، مثل أن يقول: (إذا فعلت المعصية سأُدخلك النار)، فيجوز أن يغفر ذلك، كما لو أصدر الحاكم قانوناً ينص على أن أي شخص لا يرتكب

ص: 73

مخالفة سأجازيه بمائة، أمّا إذا خالف هذا القانون فسوف نسجنه، فلو خالف أحد وعفا عنه الحاكم فلا إشكال في ذلك.

صحيح أنَّ العقل لا يكتشف كثيراً من الحقائق، لكنه في الوقت نفسه يكتشف بعضها، ومنها مسألة عدل اللّه عزّ وجلّ.

أسباب الظلم

ثم إن سبب الظلم أحد أمور ثلاثة:

1- الحاجة: فقد لا يتمكن أحد من الوصول إلى شيء إلّا بالظلم، كما لو احتاج إلى مال لا يتمكن من الوصول إليه إلّا بالسرقة.

2- الخبث: فقد يكون الإنسان غير محتاج ولا عاجز، لكن خبثه يسوقه إلى الخطيئة.

3- الجهل: وهذا يرجع إلى العجز، بمعنى أن الإنسان قد يظلم الناس لأنه جاهل بأن ما يفعله ظلم.

وجميع أسباب الظلم - من العجز والخبث والجهل - يتعالى اللّه عنها، فهو القادر العالم المنزه عن كل نقص، وله الأسماء الحسنى.

نعم، إنه قادر على أن يظلم، لكنه يتعالى عنه؛ لذا يدرك العقل أنّ اللّه تعالى عادل.

كما أن الإنسان إذا لاحظ خلق اللّه اكتشف عدله إذ كل شيء بميزان.

لأن العدل في اللغة: هو الاستواء وعدم الاعوجاج(1)، فإذا كان الشيء مستوياً

ص: 74


1- انظر: العين 2: 40؛ معجم مقاييس اللغة4: 246، وفيه: «عدل: العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنهما متقابلان كالمتضادين، أحدهما يدل على استواء، والآخر يدل على اعوجاج، فالأوّل العدل من الناس المرضي المستوي الطريقة، يقال هذا عدل وهما عدل...».

يقولون عنه: إنه عدل.

وهكذا يكشف لك خلق اللّه عن عدله فكل شيء بموقعه، وإذا صار أمر سيّئاً فإنّما هو بسبب سوء تصرّف الإنسان.

ومِن عدل اللّه تعالى أنه لا يعاقب إلّا الشخص المختار، بمعنى يعاقب الشخص الذي يختار بإرادته القيام بعمل قبيح، أمّا إذا كان الإنسان غير مختار في شيء فإن اللّه عزّ وجلّ لا يعاقبه؛ لأن عقاب غير المختار ظلم، وإن اللّه تعالى ليس بظالم.

بطلان الجبر

إن هناك بعض الفرق تقول: إن الإنسان مجبور في أفعاله(1)، بمعنى أن مَنْ يصلّي فقد أجبره اللّه تعالى على ذلك، وأن مَنْ يسرق فإن اللّه أجبره على ذلك!!

إن الجذر التاريخي للقول بالجبر والمنشأ له، والسبب وراء إدخال هذه الفكرة في أذهان المسلمين هم بنو أمية، وذلك لسببين:

السبب الأوّل: لتبرأة أنفسهم عن القبائح التي كانوا يرتكبونها، فنسبوها إلى اللّه تعالى، وابتدعوا فكرة الجبر.

فقد كانوا يرتكبون المنكرات، ولمّا كان يُعترض عليهم كانوا يتذرعون بالجبر وأن اللّه هو شاء المعصية!

ومن نماذج ارتكابهم المعصية ما رواه صاحب كتاب تاريخ مدينة دمشق، فقال: «إن عبادة بن الصامت مرّت عليه قطارة وهو وبالشام تحمل الخمر، فقال:

ص: 75


1- انظر: التحفة العسجدية: 19، وفيه: «... ثم قالت الجبرية محتجين على ما ذهبوا إليه: العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح؛ لأن ما ليس فعلاً اختيارياً لا يتصف بهذه الصفات اتفاقاً...».

ما هذه أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلّا بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام.

فأرسل فلان إلى أبي هريرة فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة بن الصامت، أمّا بالغدوات فيغدوا إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأمّا بالعشي فيقعد بالمسجد ليس له عمل إلّا شتم أعراضنا وعيبنا، فأمسك عنا أخاك.

فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال: يا عبادة، ما لك ولمعاوية، ذره وما حمل، فإن اللّه يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(1)، قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه [وآله] وسلم، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نقول في اللّه لا تأخذنا في اللّه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا ولنا الجنة، ومن وفى وفى اللّه له الجنة مما بايع عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء.

فكتب فلان إلى عثمان بالمدينة: إن عبادة بن الصامت قد أفسد علي الشام وأهله فإمّا أن يكف عبادة وإمّا أن أخلي بينه وبين الشام.

فكتب عثمان إلى فلان أن أرحله إلى داره من المدينة فبعث به فلان حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان الدار وليس فيها إلّا رجل من السابقين بعينه، ومن التابعين الذين أدركوا القوم متوافرين، فلم يفج عثمان به إلّا وهو قاعد في جانب الدار، فالتفت إليه فقال: ما لنا ولك يا عبادة، فقام عبادة قائماً وانتصب لهم في

ص: 76


1- سورة البقرة، الآية: 134 و141.

الدار، فقال: إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم أبا القاسم يقول: سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى فلا تعتلوا بربكم، والذي نفس عبادة بيده إن فلاناً لمن أولئك، فما راجعه عثمان بحرف»(1).

أمّا السبب الآخر: فلكي لا يثور الناس ضد حكمهم؛ لأن من عادة الناس أنهم يثورون ضد الحاكم الظالم الجائر، فلذا كانوا يقولون للناس: إن جورهم وظلمهم مقدّر من اللّه عزّ وجلّ وليس باختيارهم، فلماذا تثورون عليهم؟!

يُقال: إن أحد وعاظ السلاطين جاء إلى بعض سلاطين بني العباس ورآه يلعب بالحمام، فافترى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا سبق إلّا في خف أو حافر أو نصل أو جناح»(2)، ففرح الخليفة وأعطاه نقوداً، فمضى هذا وأعطاه قفاه، فقال: أشهد أن قفاه قفا كذاب(3).

فقد أضاف (أو جناح) إلى كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تزلفاً إلى السلطان، والسلطان مع علمه بافترائه فرح بذلك؛ لأنه يبرّر له أفعاله.

آيات الهداية والضلال

لقد أضافوا لفكرة الجبر أحاديث موضوعة، وفسروا بآرائهم آيات القرآن

ص: 77


1- تاريخ مدينة دمشق 26: 198.
2- والخف يعني البعير، والحافر يعني الحصان أو الفرس، والجناح يعني الطير.
3- انظر: خاتمة المستدرك5: 79، وفيه: «ومن الواضعين جماعة وضعوا الحديث تقرباً إلى الملوك، مثل: غياث بن إبراهيم، دخل على المهدي بن المنصور، وكان تعجبه الحمامة الطيارة الواردة من الأماكن البعيدة، فروى حديثاً عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: لا سبق إلّا في خف أو حافر أو نصل أو جناح، قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلمّا خرج قال المهدي: أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول اللّه، ما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): جناح، ولكن هذا تقرب إلينا...». وانظر: جامع أحاديث الشيعة 19: 163؛ المجروحين، لابن حبان1: 66؛ تاريخ بغداد12: 320؛ تاريخ مدينة دمشق 53: 425؛ ميزان الاعتدال 3: 338؛ ربيع الأبرار4: 25.

الكريم، ومنها: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(1)، وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ}(2)، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}(3)، لكي يقولوا: إن الإضلال يكون من اللّه وبالجبر، كما أنّ الهداية تكون منه تعالى وبالجبر، في حين أنّ معنى هذه الآيات واضح؛ لأن ثمة آيات اُخرى تفسر هذه الآيات، ويجب أن يؤخذ القرآن كله كمجموع، فإذا جزأناه وقعنا في المحذور، كما قال اللّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ}(4) بمعنى على طرف، أو على جهة(5)، أي: يأخذ جهة ويترك الأُخرى، كما قال يزيد بن معاوية:

ما قال ربك ويل للذين شربوا *** بل قال ربك ويل للمصلينا(6)

ما تعنيه الآيات هو أنّ اللّه عزّ وجلّ شاء أن يضع قوانين في الكون، وإذا لم يشأ تعالى وضعها فلن نتمكن من الحركة، يعني: إن اللّه شاء أنّ العنب إذا عولج بكيفية خاصة يتحول إلى خمر، وهذا قانون تكويني، وإذا لم يكن اللّه قد شاء ذلك فلم يكن العنب ليتحوّل إلى خمر أبداً، كما أنه تعالى إذا لم يشأ تأثير الطلقة أو السيف في مقتل الإنسان لما تحقق القتل أصلاً، فاللّه قدّر أنّ اللحم والعظم إذا أصابه شيء حاد ينشق وينخرم، فالإنسان إذا عمل طبق هذا القانون التكويني فإن عمله سوف ينفذ، سواء أكان حسناً أم قبيحاً.

ص: 78


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- سورة الجاثية، الآية: 23.
3- سورة التكوير، الآية: 29.
4- سورة الحج، الآية: 11.
5- انظر: التبيان في تفسير القرآن 7: 296؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 135.
6- شجرة طوبى 1: 142.

فمعنى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}(1) هو أن اللّه شاء اختيار الإنسان، فلا يكون فعله إلّا لمشيئة اللّه أن يكون مختاراً، وكذلك بمعنى أنكم لا تتمكنون من الامتثال التشريعي إلّا بعد أن يشاء اللّه التشريع بالوجوب والتحريم.

وكذلك آية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2) معناها أن الإنسان إذا صار ظالماً فاللّه لا يهديه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(3)، وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(4)، وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(5)، وغيرها من آيات، فسبب الهداية من الإنسان، فإذا هيّأ الإنسان السبب فاللّه يُهيء له النتيجة، واذا لم يهيئ السبب فالنتيجة لا يرتبها اللّه تعالى.

إنّ اللّه عادل، ومن عدله أن لا يعاقب مُجبراً، بل يعاقب المختار لفعل القبيح، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(6).

ص: 79


1- سورة التكوير، الآية: 29.
2- سورة القصص، الآية: 56.
3- سورة غافر، الآية: 28.
4- سورة آل عمران، الآية: 86.
5- سورة المائدة، الآية: 108.
6- سورة آل عمران، الآية: 182؛ سورة الأنفال، الآية: 51؛ سورة الحج، الآية: 10.

(11) اللّه حكيم في أفعاله

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان، وهو المالك المطلق له، وأزمّة الأمور كلها بيده، فهو المهيمن على الوجود كله، وبيده التكوين، أي: الخلق والتدبير، كذلك التشريع بيده؛ ولأنه حكيم لذلك خلق الأشياء بحكمة، وشرّع الأحكام بحكمة؛ لأن الحكيم من الإحكام، ومن لوازم الإحكام وضع الشيء في موضعه، فإذا وضعت شيئاً في غير موضعه فهذا خلاف الحكمة، لكنك إذا وضعت الشيء في موضعه فهو الحكمة، واللّه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء؛ لذا فكل صُنعه بإتقان وحكمة، وكل تشريعه بإتقان وحكمة، قال تعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(2)، وهذا لا يعني أنه لا يوجد اختلاف في الموجودات، بل الاختلاف فيها أمر بديهي، وإنّما المراد من ذلك أنه لا يوجد خلل في صنع اللّه سبحانه وتعالى.

لكن مصنوعات البشر قد يكون فيها خلل، لذا نلاحظ بين فترة وأخرى أن أعظم المصانع في العالم تسحب منتوجاتها من الأسواق؛ وذلك لظهور خلل

ص: 80


1- سورة القصص، الآية: 68.
2- سورة الملك، الآية: 3.

فيها، مع أنه يوجد عندهم أفضل المهندسين والخبراء، ومع كل ذلك فقد يوجد هناك خلل، فقد يغفلون عن بعض المسائل فيتبين لهم الخلل، وبعد ذلك يصلحون ذلك الخلل.

وسبب ذلك قد يكون عدم العلم وعدم التفاتهم لزاوية من زوايا المنتج.

وقد يكون سبب الخلل هو عدم تمكن الإنسان من إنتاج الأفضل. وفي بعض الأحيان يكون هناك خبث في العمل، حيث يتمكن الصانع من الأفضل لكنه يريد أن يضرّ الطرف المقابل، أو يريد أن يستغلّه.

لكن اللّه سبحانه وتعالى هو العالم الغني القادر اللطيف، فهو المستجمع لكل الكمالات، وهو منزّه عن كل نقص؛ لذا يكون صنعه أحسن الصنع: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(1). وكذلك الحال في التشريع.

لذا فلا يوجد أي خلل، وإذا وجدنا خللاً فإنّما هو بسبب الإنسان، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(2).

حكمة جعل الواسطة بين اللّه والخلق

هناك شبهة تطرح، وهي: إنه لماذا جعل اللّه سبحانه وتعالى واسطة بينه وبين الخلق، حيث جعل الأنبياء(عليهم السلام) واسطة؟ ألم يكن اللّه سبحانه وتعالى قادراً على أن يوحي إلى كل إنسان، كما فعل ذلك بالنسبة إلى الملائكة، حيث إنهم يتلقّون أوامرهم من اللّه سبحانه وتعالى مباشرة، وبدون واسطة؟

فلماذا لا يوحي اللّه سبحانه وتعالى إلى كل إنسان مباشرة وإنّما اختار وسائط؟

ص: 81


1- سورة المؤمنون، الآية: 14؛ سورة غافر، الآية: 64.
2- سورة الروم، الآية: 41.

والجواب على ذلك هو: إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها، وحَمْلُ الرسالة الإلهيّة يحتاج إلى قابلية، وهذه القابلية لا توجد في عامة الناس، وحينئذٍ الوحي إليهم من غير قابلية خلاف الحكمة، مثلاً لو كان هناك إنسان ضعيف عاجز فلو حمّلته متاعاً بوزن مائة كيلو بما هو فوق طاقته، فهذا خلاف الحكمة.

والرسالة الإلهيّة عظيمة، فلا يتمكن الإنسان العادي أن يتحمل هذه الرسالة العظيمة، فلذا يختار اللّه تعالى من يتمكن من حمل هذه الرسالة، ثم يبلّغها للآخرين.

وهذا أسلوب الحكماء، وهو أسلوب عقلائي، فكل واحد بعقله يدرك هذا الأمر، فاللّه سبحانه وتعالى اصطفى أناساً وجعل فيهم القابلية لحمل هذه الأمانة العظمى؛ لذا اختار الأنبياء(عليهم السلام)، والأئمة(عليهم السلام) بأن خلقهم بكيفية يكونون قابلين لتحمل رسالته، وهذا هو الاصطفاء والاجتباء.

ومن باب تقريب الفكرة نقول: إن اللّه سبحانه وتعالى عندما خلق الحديد خلق فيه قابلية لحمل الأثقال العظيمة؛ لذا فالأبنية العظيمة إنّما يكون أساسها من الحديد، وأمّا التراب فلم يجعل له تلك القابلية؛ لأن له دوراً آخر.

فلو أننا اجتمعنا وقلنا: إننا من خلال الانتخاب نختار لنا نبياً أو إماماً فهل هذا ممكن؟

إن هذا الأمر غير ممكن؛ لأن هذا من الأمور التي لم يفوّضها اللّه سبحانه وتعالى لأحد، بل هي من الأمور الخاصة باللّه سبحانه وتعالى حيث قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1). ولو أن

ص: 82


1- سورة القصص، الآية: 68.

إنساناً قال: لي حق اختيار الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) فهو من الشرك الخفي؛ لأن معنى الشرك هو أن يكون هناك شيء خاص باللّه ثم ينسبه أحد لغيره، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يختار الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) حصراً، ولم يفوّضه لغيره، حتى لرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فاختيار الإمام ليس بيده، فهو لم يختر علي بن أبي طالب(عليه السلام) أميراً للمؤمنين، وإنّما اختاره اللّه سبحانه وتعالى، والرسول بلّغ ذلك، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(1).

نعم، إذا فوض اللّه سبحانه وتعالى شيئاً من الأشياء إلى عبد من عبيده، فهذا ليس بشرك، فقد كان عيسى(عليه السلام) يخلق من الطين طيراً بإذن اللّه قال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ}(2)، فلو أن شخصاً قال: إن عيسى(عليه السلام) خلق ذلك الطير بإذن اللّه فهذا ليس شركاً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاه قدرة خلق الطير، نعم، إذا قال شخص: إن عيسى(عليه السلام) يخلق الأشياء بقدرة من نفسه فهذا من الشرك الجليّ.

ولو أني حركت يدي وقلت: هذه الحركة بقدرة من نفسي فهذا شرك، وأمّا إذا قلت: إن هذه القدرة من اللّه، حيث جعلني قادراً مختاراً، فلذلك أنا أتمكن من تحريك يدي، فهذا هو عين الإيمان، وليس من الشرك في شيء.

إن اللّه سبحانه وتعالى عندما أراد أن يختار أناساً لحمل رسالته جعل فيهم هذه القابلية من يوم أن خلقهم، وليس أنه خلقهم أوّلاً ثم بعد ذلك جعل فيهم القابلية، كلا، بل تلك القابلية جعلها حين خلقهم، يزعم البعض أن رسول اللّه

ص: 83


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة آل عمران، الآية: 49.

محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصبح نبياً وعمره أربعين عاماً. إن هذا ليس بصحيح، فالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)بُعث بالرسالة وعمره أربعون عاماً، وإلّا فهو نبي من اليوم الذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى، وقد أشار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لذلك بقوله: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين»(1)،

ففي اليوم الذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى نوراً حول العرش كان نبياً.

نعم، حينما جاء إلى هذه الدنيا لم يكن مأموراً بالتبليغ من اليوم الأوّل، بل هو ساكت بأمر من اللّه سبحانه وتعالى، وغير مكلّف بأن يبلّغ، وعندما بلغ الأربعين عاماً أمره اللّه سبحانه وتعالى أن يبلّغ بالتدريج، قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(2)، إلى أن قال: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(3)، فالتبليغ إنّما حصل بالتدريج، وكذلك سائر الأنبياء والأئمة(عليهم السلام).

لذا حينما نلاحظ روايات الطينة نجد أن الجمع بينها يقتضي أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الرسول وأهل البيت(عليهم السلام) أشباح نور، محدقة بالعرش، وبعد أن خلق الملائكة تعلّمت منهم التسبيح والتهليل، ثم خلق أجسادهم من أعلى عليّين وعندما خلق اللّه سبحانه وتعالى آدماً(عليه السلام) وأمر الملائكة أن يسجدوا له عصى إبليس فخطابه قائلاً: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(4)، فعن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «إن اللّه خلق محمّداً وعلياً وأحد عشر من ولده من نور عظمته، فأقامهم أشباحاً في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق، يسبحون اللّه ويقدسونه، وهم الأئمة من ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(5).

ص: 84


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 183؛ عوالي اللئالي 4: 121؛ بحار الأنوار 16: 402.
2- سورة الشعراء، الآية: 214.
3- سورة الأعراف، الآية: 158.
4- سورة ص، الآية: 75.
5- الكافي 1: 531.

وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوساً مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أقبل إليهرجل فقال: يا رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبليس: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} فمن هم يا رسول اللّه الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، كنا في سرادق العرش نسبح اللّه وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق اللّه عزّ وجلّ آدم بألفي عام، فلما خلق اللّه عزّ وجلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود، فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلّا إبليس فإنه أبى أن يسجد، فقال اللّه تبارك وتعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} أي: من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش»(1).

مقامات النبي وأهل بيته (عليهم السلام)

إن بعض الناس ينكر مقامات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، حيث يستدل على ذلك بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2)، فيتصوّر أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر مثلنا في كل شيء، بينما تريد الآية أن تشير إلى جهة معينة، وهي أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثلنا من جهة تركيبته الجسدية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(3)، وقال في آية أخرى حول عيسى ومريم(عليهما السلام): {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}(4)، فتركيبتهم الجسدية هي كسائر الناس؛ لأن اللّه

ص: 85


1- بحار الأنوار 11: 142.
2- سورة الكهف، الآية: 110.
3- سورة الأنبياء، الآية: 8.
4- سورة المائدة، الآية: 75.

سبحانه وتعالى يريد لهؤلاء أن يكونوا أسوة للناس وقدوة، والأسوة والقدوة يلزم أنتكون تركيبته مثلهم، يأكل وينام ويتزوج ويولد ويصاب بالهرم والمرض، حتى يمكن أن نقتدي به، وإلّا إذا كان ملكاً من الملائكة فلا يمكن الاقتداء به؛ لأن الملك قد يسجد سجدة واحدة تطول عدة سنين. لذا جاء في آية أخرى: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(1)، فلو أن اللّه سبحانه وتعالى قدّر أن يرسل من الملائكة نبياً إلى الناس لأرسله بصورة إنسان، لكي يمكن الاقتداء به وهذا لا يعني التماثل في الفضائل، بل الأنبياء والأئمة اصطفاهم اللّه تعالى وعصمهم وحلّاهم بالكمالات وبرّاهم عن النقائص.

والذين يريدون التنقيص من شخصية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما ذاك لجهلهم أو لحقدهم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد بدأ هذا الأمر من زمن بني أمية وأتباعهم، حيث حاولوا إنزال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن مقاماته العالية، وذلك لحقدهم عليه؛ لأنهم حاربوه عشرين عاماً فانهزموا يوم فتح مكة؛ لذا أظهروا إسلامهم نفاقاً وحفظاً على أرواحهم: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ}(2)، وقال تعالى في وصف المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ}(3)، فهؤلاء كانوا يحقدون على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إلّا أنهم لم يتمكنوا أن يظهروا حقدهم عليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشكل مباشر، فأظهروه في وضع روايات كاذبة تهدف إلى التنقيص من قدره،

ص: 86


1- سورة الأنعام، الآية: 9.
2- سورة التوبة، الآية: 101.
3- سورة البقرة، الآية: 8-10.

وكذلك أظهروا حقدهم على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمير المؤمنين(عليه السلام)، فكل منكان يريد سبّ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يسبّ أمير المؤمنين(عليه السلام)، مع أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من سبّ علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سبّ اللّه عزّ وجلّ»(1).

وأحياناً كان التنقيص من مقامات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأن بعض الحكام كانت لهم تصرّفات سيئة، فكانوا يريدون تبرير تصرفاتهم فكانوا يعطون أموالاً لبعض الكذابين والوضاعين فيضعون أحاديث مكذوبة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وقد روي: «أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(2)، وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}(3)، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك»(4).

قال ابن أبي الحديد: «وقد صحّ أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي(عليه السلام)، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله، بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب. وروى عطاء، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي

ص: 87


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 204-205.
3- سورة البقرة، الآية: 207.
4- شرح نهج البلاغة 4: 73.

طالب(عليه السلام) يوماً إلى الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف»(1).

وقد ألّف النسائي كتاباً في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإنه بعد أن ترك مصر في أواخر عمره قصد دمشق ونزلها، فوجد الكثير من أهلها منحرفين عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فأخذ على نفسه وضع كتاب يضم مناقبه وفضائله(عليه السلام) رجاء أن يهتدي به من يطالعه أو يلقى إليه سمعه، فأتى به وألقاه على مسامعهم بصورة محاضرات متواصلة. وبعد أن فرغ منه سئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل؟ وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع اللّه بطنك، فهجموا عليه وما زالوا يدفعون... وداسوه حتى أخرجوه من المسجد، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها»(2).

أهل البيت هم القدوة في كل شيء

إذا أراد الإنسان أن يأخذ العلم الصحيح، والتفسير الصحيح للقرآن، والعقيدة الصحيحة، والأخلاق السليمة فعليه أن يأخذها من المنبع الصافي، الذي كان حامل العلوم التي أفاضها اللّه سبحانه وتعالى، وهو أمير المؤمنين علي وأهل بيته(عليهم السلام). فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(3).

وعنه(عليه السلام) أنه قال لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(4).

ص: 88


1- شرح نهج البلاغة 4: 73.
2- خصائص أمير المؤمنين(عليه السلام): 24.
3- بصائر الدرجات: 531.
4- الكافي 1: 399.

فالأئمة(عليهم السلام) بينوا كل الحقائق الدينية، فكل شيء من أمور الدين لم يخرج منهم فهو باطل؛ لذا نحن نرى المبطلين إلى اليوم يحاربون الأئمة(عليهم السلام)، فهم بالظاهر يحاربون الشيعة ويقتلونهم ويرتكبون الجرائم بحقهم، إلّا أن هدفهم الحقيقي هو محاربة الأئمة(عليهم السلام)، لكنهم لا يتمكنون من الجهر بذلك، مثلهم مثل المنافقين الذين كانوا في زمان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث لم يتمكنوا من أن يقولوا لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنك لست نبياً، ولكنهم كانوا يبطنون ذلك، فهم يعبدون الأصنام في واقعهم، ويظهرون الإسلام لرسول اللّه والمسلمين، ولذا قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ}(1)، فعبارة: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ليس كذباً، وإنّما هو صحيح، لذا قال اللّه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} إلّا أن الكذب في أنهم لا يعتقدون بهذا الكلام، فهو مجرد كلام يقولونه.

إن البعض كان يبغض أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد أشار القرآن الكريم لذلك بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)، حيث فسرت هذه الآية ببغضهم لأمير المؤمنين(عليه السلام)(3)، فعندما يتكلم بعضهم نرى أن كلامه جميل إلّا أن البغض موجود في قلبه وفي كلامه، فالكلام يعكس ما في القلب(4).

ص: 89


1- سورة المنافقون، الآية: 1.
2- سورة محمّد، الآية: 30.
3- انظر: مناقب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) 1: 155، وفيه: ... عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} قال: «ببغض علي بن أبي طالب(عليه السلام)».
4- يقولون: إن أحد الشعراء المعروفين كان إذا أراد أن يكتب قصيدة شعر حول الحرب، كان يذهب إلى غرفة مظلمة ويبدأ بلكم الجدار إلى أن تنتابه حالة من الحماسة، ثم ينشئ أشعاره. وحتى بعض الشعراء الكبار عندما كان يريد أن يرثي الإمام الحسين(عليه السلام) كان يجلس في مجلس فيه خطيب يقرأ مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام) فيصاب بحالة من الحزن، وبعد ذلك يكتب القصيدة، لكي ينعكس ما في قلبه على قلمه. ففي بعض الأحيان يقرأ الإنسان كتاباً ولكن لا يؤثر فيه، وفي بعض الأحيان يؤثر فيه؛ لأن حالة الكاتب تنعكس في كتاباته.

والحاصل: أن اللّه سبحانه وتعالى اختار الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وجعل لهم قابلية تحمل الرسالة وعصمهم، فكل كلامهم صحيح، وكل كلام لم يخرج منهم فهو باطل، فيجب علينا أن نأخذ عقائدنا وأحكامنا وأخلاقنا منهم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعلهم أئمة في كل شيء، وعندما نقول: (إنه إمام) فليس معناه أنه حاكم، فالحكومة منصب من مناصب الأئمة(عليهم السلام)، إلّا أنهم أزاحوهم عنها، وإنّما نعني بالإمام هو كونه إماماً في كل شي،: في الأخلاق والفقه والعقائد والسيرة وفي كل شيء. وأمّا الإمامة السياسية والسلطة والحكومة فهي إحدى مناصب الإمام، فيجب أن نأخذ منهم، ولا نبالي بما يقول هذا وذاك؛ لأن كلامهم نور وحق.

إننا نرى اليوم أن أصوات المعارضين لأهل البيت(عليهم السلام) مرتفعة في العالم، حيث يصرخون: بأن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بدأ يكتسحهم، مع أن السلطة بأيديهم، والأموال عندهم، وهم يستعملون الإرهاب، وعندهم الفضائيات وبأيديهم الإعلام، فإذا كانوا كذلك فلماذا يخافون من أقلية مضطهدة لا يملكون المال، وليس عندهم إعلام قوي، إلّا القليل، وهم مضطهدون في كل مكان؟ فهل الحق القوي يخاف من الباطل الضعيف؟ ولماذا ذاك القوي في كل شيء يخاف من هذا الضعيف في كل شيء؟

والجواب: أن هذا الضعيف هو الحق وهو الصحيح، وإن لم تكن بيده سلطة، ولا يملك مالاً كثيراً، وإعلامه ضعيف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، وهذا هوالسبب في خوفهم وصراخهم، وإلّا فلماذا لا يصرخون ضد النصارى، مع أن

ص: 90

أموال النصارى أكثر، وإعلامهم أقوى، وكتبهم تطبع في كل مكان، ومواقعهم أكثر وهم المسيطرون سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على العالم؟ وذلك لأن النصرانية ليست على حق، نعم إنهم يمتلكون كل القوى ولكنهم على باطل.

إذن، فالضعيف الحق لا يخاف من القوي الباطل، والقوي الحق لا يخاف من الضعيف الباطل بطريق أولى، ولكن إذا شاهدنا القوي يخاف من الضعيف؛ فلأنّ الضعيف هو على الحق، والحق ينفذ دائماً وينتصر.

فعلينا أن نعلم أن اللّه سبحانه وتعالى حمّل الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هذه الرسالة العظيمة، وجعلهم قابلين لذلك، ولهم المقامات العالية، وهذا هو أقل شيء نقوله بحقهم؛ لأن الرسول والأئمة(عليهم السلام) لم يبنوا للناس كل شيء، فقد لا يتحمل الناس ذلك؛ لذا قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «لولا أن طائفة من أمتي يقولون فيك ما قالت النصارى في أخي المسيح لقلت فيك قولاً ما مررت على ملأ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك، والماء من فاضل طهورك، فيستشفون به، ولكن حسبك أنك مني وأنا منك، ترثني وأرثك وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، وأن حربك حربي وسلمك سلمي»(1).

ص: 91


1- بحار الأنوار 40: 43.

(12) الإنسان بين قبول الهداية ورفضها

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى أراد هداية الناس بإرادة تشريعية، لا بمعنى إكراههم على الهداية؛ لأنه لو شاء فعل، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}(2)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشأ مشيئة تكوينية بأن يكره الناس كلهم على الإيمان، وإنّما شاء مشيئة تشريعية بأن يهتدوا كما قال: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(3)، فالمشيئة التشريعية تعني أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل الهداية مع جعل الإنسان مختاراً في قبولها أو رفضها، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(4)، وقال عزّ وجلّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(5)، فاللّه سبحانه وتعالى أنزل هدايته ولكن أراد اختيار الناس فلم يكرههم على قبولها، لكي يتم الامتحان؛ لأنه لا معنى لامتحان المجبور، وأمّا

ص: 92


1- سورة التحريم، الآية: 6.
2- سورة يونس، الآية: 99.
3- سورة الزمر، الآية: 7.
4- سورة الإنسان، الآية: 3.
5- سورة فصلت، الآية: 17.

المختار فهو الذي يتحقق الامتحان فيه؛ لأن المكره لا يتمكن من الترقّي والصعود إلىدرجات الكمال، كالحيوانات التي تسير باتجاه معين، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى ألقى الغريزة في روعها، قال تعالى: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}(1)، لذا فالحيوانات لا تتطور ولا تتغير، فهي منذ آلاف السنين على حالتها، وأمّا الإنسان فقد أراد اللّه سبحانه وتعالى منه أن يرتقي إلى الكمالات، إلّا أن هذا الرقي يحتاج إلى أن يعمل باختياره لكي يصل إلى المقامات العالية.

إذن، فاللّه سبحانه وتعالى أراد هداية الناس جميعاً بإرادة تشريعية دون إكراههم على قبولها؛ ولذا هيّأ أسبابها ومقدماتها. وقد تحقق ما أراده اللّه تعالى بصدور الأحكام والتشريعات وباختيار الناس في قبولها أو رفضها.

حكمة التدريج

إن اللّه قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحد، بل في أقل من لحظة، لكن حكمته شاءت أن يكون الخلق في ستة أيام، أي: ستة مراحل مختلفة، واللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق بشراً من طين من دون مقدمات، كما خلق آدم(عليه السلام)، لكن حكمته شاءت استثناء آدم وحواء(عليهما السلام) وعيسى(عليه السلام) فقط دون سائر البشر.

إن الإنسان يتكون من عناصر الأرض، ثم تجتمع هذه العناصر في المأكولات، ثم تتحوّل إلى صلب الرجل ورحم المرأة، فالجنين أوّل ما يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً، قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا

ص: 93


1- سورة النحل، الآية: 68.

الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(1)، وعندما يولد الطفل لا يعلم شيئاً، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا}(2)، ثم يتكامل جسمه وعقله، فيحتاج إلى زمان طويل لذلك.

إن الإنسان يحتاج إلى زمان لكي يصل إلى درجة البلوغ والنضج، وهذه من حكمة اللّه سبحانه وتعالى، حيث اقتضت التدريج بالأمور، وجعل نظام الأسباب والمسبّبات؛ لذا نلاحظ حينما يذكر اللّه سبحانه وتعالى قصة ذي القرنين يكرر قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(3)، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(4).

فاللّه سبحانه وتعالى أراد أن تكون الهداية عبر أسبابها، فجعل للإنسان فطرة وركبها عليه في عالم الذر، وجعل له عقلاً لكي يدرك حسن الأشياء وقبحها بفطرته وعقله، ويدرك صحة الكلمات عن فسادها؛ لذا فالحجة على الناس تامة يوم القيامة: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(5)، فلا يحق لأيّ أحد أن يعترض على اللّه سبحانه وتعالى، ويقول: لماذا تعذّبني؟ ولو قال ذلك لقيل له: لأن الحجة كملت عليك، فقد كان عندك عقل وفطرة فلماذا خالفت عقلك وفطرتك؟!

ثم إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل الرسل للناس؛ لأن الإنسان قد يغفل عن عقله، كما أن بعض الأمور لا يدركها العقل أو الفطرة، وخاصة في تفاصيل المسائل، فالرسل(عليهم السلام) يبينون للإنسان هذه التفاصيل، وقد ورد ذلك في نهج

ص: 94


1- سورة المؤمنون، الآية: 14.
2- سورة النحل، الآية: 78.
3- سورة الكهف، الآية: 85 .
4- سورة الكهف، الآية: 89 و92.
5- سورة الأنعام، الآية: 149.

البلاغة: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته،ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول»(1)، فالإنسان عنده عقل لكن في بعض الأحيان يكون هذا العقل مُسيطراً عليه بسبب سوء التربية وسوء العادات الاجتماعية، فيكون عليه غطاء، والإنسان لا يلتفت لذلك، فالأنبياء(عليهم السلام) يأتون ويزيلون هذا الركام الموجود على العقل.

إن الآيات التي وردت في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة هي - عادة - إرشاد إلى ما في فطرة الإنسان وعقله؛ لذا فكلام الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) كلام متطابق مع العقل والفطرة، فاللّه سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء(عليهم السلام) لأجل الهداية، وبعدهم يأتي دور الأوصياء، وهؤلاء لهم أتباع يحملون هذه الرسالة ويوصلونها للناس، وهم العلماء، قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}(2).

فالأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) يؤدون دورهم، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل للآخرين أدواراً، فالعلماء لهم دور مهم، حيث يتلقون الأحكام من الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) ويوصلونها إلى الناس، بل كل فرد له دور؛ لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(3)، لذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة عامّة، وليس هي وظيفة العلماء فقط.

نماذج من الهداية والضلال

النموذج الأوّل: الآباء والأبناء

إن رب الأسرة مسؤول تجاه أولاده، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ

ص: 95


1- نهج البلاغة 1: 23.
2- سورة الأحزاب، الآية: 39.
3- عوالي اللئالي 1: 129.

أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(1)، صحيح أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسؤول وكذلك الوصي والفقيه والمجتمع، لكن رب الأسرة مسؤول أيضاً عن تربية أولاده؛ لأن: {قُواْ} من الوقاية والحفظ، فلا يحق لرب الأسرة أن يقول: هذا ليس تكليفي! بل كما أوجب اللّه سبحانه وتعالى على رب الأسرة أن ينفق على أسرته، كذلك أوجب عليه أن يهديهم ويمنع الضلالة عنهم.

إننا مع الأسف، نرى أن هناك حالة منتشرة، وهي أن الأب يفكر في طعام ابنه وملابسه ومدرسته، والأمور التي ترتبط به، فيهيئ له وسائل الراحة ويوفر له التقنية الحديثة، وهذا أمر جيد، بل قسم منه واجب، لكن هناك تكليف آخر وهو أن يهتم الأب بهداية ابنه، لا أن يتوقع من الآخرين أن يهدوه.

روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنه نظر إلى بعض الأطفال فقال: «ويل لأطفال آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول اللّه، من آبائهم المشركين؟ فقال: لا من آبائهم المؤمنين، لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلموا أولادهم منعوهم، ورضوا عنهم بعرض يسير من الدنيا، فأنا منهم برئ وهم مني براء»(2). فبعض الآباء يفكر في دنيا أولاده - في ملبسهم ومأكلهم وتزويجهم، وتهيئة وسائل الراحة والدراسة - لكن لا يفكر في دينهم.

فهناك بعض الشباب لهم انطلاق ذاتي في التّدين، وهذا صحيح، وبعضهم يسافرون إلى بلاد الكفر، ويرجع أكثر تديناً، ولكن ليس الكل هكذا، فوجود الأجواء الدينية يفيد الشباب، وأمّا إذا لم توجد أجواء دينية فقد ينحرف الإنسان، وإذا كان صغيراً فسوف تكون المشكلة أكبر؛ لأن الطفل كلما يكون سِنّه أقل

ص: 96


1- سورة التحريم، الآية: 6.
2- مستدرك الوسائل 15: 164؛ جامع أحاديث الشيعة 21: 408.

تكون قابليته للتعلم والتلقّي أكثر؛ لذا يلزم على الإنسان أن يهتم بالطفل. فقد ورد في الأحاديث: إنه ينبغي تعليم الطفل الصلاة وهو في سن سبع سنين: فعن الإمام الصادق عن أبيه(عليهما السلام) قال: «إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش والغرث(1) أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا»(2).

فينبغي على الأب أن يوقظ ابنه لصلاة الفجر، لكي يتعلم على ذلك، لأن (من شبّ على شيء شاب عليه).

إن الأجانب يحاولون نشر ثقافتهم عن طريق فكرة العولمة، وهي تعني توحيد ثقافة العالم على نمط ثقافتهم، فهم يحاولون غزو العالم بهذه الطريقة؛ لأن الغزو العسكري عن طريق السلاح قد فشل، فحاولوا غزو عقول المسلمين؛ وذلك من خلال الوسائل التقنية الحديثة. لذا يجب علينا أن نربي أولادنا تربية صحيحة، فإذا ربيناهم تربية صحيحة فسوف تكون جذورهم جذوراً صحيحة وسوف لا يكون للثقافة الأجنبيّة أي تأثير عليهم.

وهكذا الحال بالنسبة للأمر الثقافي، فإذا كانت التربية صحيحة فسوف يكون أثرها على الإنسان جيداً، فهناك وسائل مناعة يمكن أن نستعملها لتجنب الوقوع في ما يريده أعداء الإسلام. ويجب علينا أن نختار الأسلوب المناسب لهم، فإذا فعلنا ذلك فسوف ينطبق علينا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ

ص: 97


1- الغرث: الجوع.
2- الكافي 3: 409.

أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(1)، ففي يوم القيامة نكون مع ذريتنا على سرر متقابلين، ولا نكون من الذين قال عنهم اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}(2).

النموذج الثاني: النبي موسى (عليه السلام) وبنو إسرائيل

إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل موسى(عليه السلام) لإنقاذ بني إسرائيل، فبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب(عليه السلام)، وقد كان عنده اثنا عشر ولداً، ومن كل ولد له ذرية، فبنو إسرائيل من ذرية الأنبياء.

إن موسى(عليه السلام) هو المتفضل على بني إسرائيل؛ لأنه أنقذهم من فرعون وقومه، وقد شاهدوا المعاجز بأمّ أعينهم. من عصا موسى واليد البيضاء، ورأوا الآيات التسع، وفلق البحر، وشاهدوا عقاب آل فرعون قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٖ مِّنَ الثَّمَرَٰتِ}(3)، وقال سبحانه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٖ فِي تِسْعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}(4).

وبعد أن فلق موسى(عليه السلام) البحر بالعصا، وعبر بنو إسرائيل البحر قالوا له: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}(5)، وقد ورد في الحديث الشريف: «وأنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لموسى {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}»(6)، فما هو السبب في ذلك؟

ص: 98


1- سورة الطور، الآية: 21.
2- سورة التغابن، الآية: 14.
3- سورة الأعراف، الآية: 130.
4- سورة النمل، الآية: 12.
5- سورة الأعراف، الآية: 138.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 324؛ بحار الأنوار 40: 160.

والسبب واضح، وهو أنهم قبل مجيء موسى كانوا قد تربوا في مجتمع وثني كافر يؤلّه فرعون، صحيح أنهم ليسوا من ذلك المجتمع، لكن تلك الحضارة كانت حاكمة، والحضارة الحاكمة تؤثر على المحكومين، كالحضارة الغربية الآن؛ لذا قد يتأثر أولادنا وبناتنا ومجتمعنا بها.

ولأن بني إسرائيل كانوا في مجتمع يعبدون الأصنام ويعتبرون فرعون من الآلهة حيث كان يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(1)، ويقول: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(2)، لذا عندما عبروا البحر وكانت جذورهم الدينية ضعيفة، فبمجرّد أن رأوا جماعة يعبدون صنماً قالوا لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}، إلّا أن موسى(عليه السلام) عاتبهم وذمّهم ولكن لا فائدة، فقد ارتدوا بمجرد أن غاب عنهم قال تعالى: {وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ}(3).

فهؤلاء كانوا يتصوّرون أن موسى(عليه السلام) ذهب للطور لمدة ثلاثين ليلة، وعندما مضت الثلاثون ولم يرجع تصوّروا أنه مات، فانقلبوا على هارون(عليه السلام)، وصنع السامري لهم العجل فعبدوه، ثم إنهم أرادوا قتل هارون(عليه السلام): {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}(4)، والحال أن موسى(عليه السلام) قد تفضّل عليهم وأنقذهم من فرعون وقومه.

النموذج الثالث: أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وهكذا الحال بالنسبة للمجتمع الذي بُعث فيه الرسول محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد آمن

ص: 99


1- سورة القصص، الآية: 38.
2- سورة النازعات، الآية: 24.
3- سورة البقرة، الآية: 51.
4- سورة الأعراف، الآية: 150.

بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مجموعة من الناس، وكان إيمان كثير منهم صحيحاً وحقيقياً، لكنهم هربوا في غزوة أحد بمجرّد أن دارت الدائرة على المسلمين، وسبب دوران الدائرة مخالفتهم لأمر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعصيانهم، كما أشار اللّه لذلك بقوله: {وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ}(1)، ففي البداية أراهم اللّه ما يحبون من النصر، لكنهم عصوا وبعد العصيان انهزموا، مع أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان موجوداً يقول تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ}(2)، والمنادي يناديهم: يا فلان يا فلان يا فلان فلم يفد، بل هربوا إلّا القليل(3).

وهكذا الحال في يوم خيبر، كما يروي ذلك الحاكم في مستدركه، والسند صحيح عندهم، فقال عن جابر: «أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دفع الراية يوم خيبر إلى عمر فانطلق فرجع يجبن أصحابه ويجبنونه»(4).

وقال الهيثمي وغيره: وعن ابن عباس قال: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم إلى خيبر أحسبه قال أبا بكر فرجع منهزماً ومن معه، فلما كان من الغد بعث عمر فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه

ص: 100


1- سورة آل عمران، الآية: 152.
2- سورة آل عمران، الآية: 153.
3- بحار الأنوار 20: 113، وفيه: «في قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} قال: فلم يبق معه من الناس يوم أحد غير علي بن أبي طالب(عليه السلام) ورجل من الأنصار، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا علي، قد صنع الناس ما ترى، فقال: لا واللّه يا رسول اللّه لا أسأل عنك الخبر من وراء، فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أما لا فاحمل على هذه الكتيبة، فحمل عليها ففضها، فقال جبرئيل(عليه السلام): يا رسول اللّه، إن هذه لهي المواساة، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إني منه وهو مني. فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا منكما».
4- المستدرك على الصحيحين 3: 38.

اللّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح اللّه عليه، فثار الناس، فقال: أين علي؟ فإذا هو يشتكي عينيه فتفل في عينيه ثم دفع إليه الراية فهزها ففتح اللّه عليه»(1).

وكذلك يوم حنين، حيث يقول تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(2)، فقد انهزم المسلمون في يوم حنين إلّا القليل، مع أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان موجوداً بينهم؛ لذا كان يناديهم ليرجعوا؛ لأن الفرار من الزحف من الكبائر، قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ}(3).

إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول لأمير المؤمنين(عليه السلام): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي»(4)، وقد قال هارون(عليه السلام): {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}(5)، وأمير المؤمنين(عليه السلام) بالنسبة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى(عليهما السلام)، فإذا كان أصحاب موسى(عليه السلام) ينقلبون وهم من ذرية الأنبياء، ويعبدون العجل بدل أن يعبدوا اللّه سبحانه وتعالى، فليس بمستغرب أن ينقلب أصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهم ليسوا ذرية الأنبياء، وإنّما كانوا من المشركين، فهداهم اللّه سبحانه وتعالى ببركة الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وعندما التحق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى قاموا بانقلاب وقد رووا: أن عمر بن الخطاب

ص: 101


1- مجمع الزوائد 9: 124؛ المصنف 8: 521؛ كنز العمال 10: 463؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 96.
2- سورة التوبة، الآية: 25-26.
3- سورة الأنفال، الآية: 16.
4- الكافي 8: 106؛ مسند أحمد بن حنبل 1: 175؛ كتاب البخاري 4: 208؛ كتاب مسلم 7: 120؛ سنن ابن ماجة 1: 42؛ سنن الترمذي 5: 302؛ فضائل الصحابة: 13.
5- سورة الأعراف، الآية: 150.

كان يقول: إن بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللّه شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه(1).

ومن هنا نطرح هذا السؤال: لماذا حصل هذا الانقلاب؟

والجواب هو: إن أكثر الناس كانوا مشركين، حيث قضوا معظم حياتهم في عبادة الأصنام، وكانت تربيتهم تربية جاهلية، صحيح أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء وهداهم، ولكن جذور أكثرهم لم تتغير؛ لذا ظهرت هذه الجذور في الأزمات وفي المواقع الحساسة، فقد ذكر في كتب التواريخ والسيرة: أن مجموعة من المسلمين عندما حصلت الهزيمة في معركة أحد أرادوا أن يأخذوا الأمان من المشركين ويرتدّوا(2)، بعد أن انتشر بينهم أن الرسول قُتل، فقال اللّه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(3).

مقدمات الضلالة والهداية بيد الإنسان

في القرآن الكريم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(4).

إن الهداية والضلال من اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

ص: 102


1- وانظر: مجمع الزوائد 6: 5؛ فتح الباري 12: 129؛ المصنف 5: 441؛ المعيار والموازنة: 321؛ وانظر: البخاري 8: 26، وفيه عن عمر بن الخطاب قال: «إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن اللّه وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا...».
2- انظر: بحار الأنوار 20: 27، وفيه: «وفشا في الناس أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: فالحقوا بدينكم الأوّل...».
3- سورة آل عمران، الآية: 144.
4- سورة آل عمران، الآية: 8 .

وَلَٰكِنَّ اللَّهَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}(1)، ولكن بما أن اللّه سبحانه وتعالى عادل فإن إفاضته الهداية لبعض الناس، وإضلال بعضهم ليس عبثاً وليس قسراً؛ لأنه ليس من العدل أن يُضل اللّه إنساناً بالجبر ثم يلقيه في جهنم من دون أن يكون هذا الإنسان هو السبب في الضلال؛ لذا فإن إضلاله سبحانه لبعض الناس وهدايته لبعضهم الآخر ليس عبثاً، وإنّما الإنسان هو الذي يهيّئ المقدمات، وبسبب تلك المقدمات فإن اللّه سبحانه وتعالى يرتب النتيجة.

مثلاً: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الجاذبية للأرض، فأي شيء نلقي به من الأعلى سيسقط إلى الأسفل، وقد جعل اللّه عظام الإنسان تتكسر إذا ارتطمت بالأرض، فإذا ألقى الإنسان بنفسه من شاهق، فسوف يسقط إلى الأرض وتتهشم عظامه ويموت، والذي هشّم عظامه وأماته هو اللّه سبحانه وتعالى، ولكن هذا الإنسان لم يكن مجبراً على ذلك؛ لكنه هو الذي هيّأ مقدمة الموت باختياره، فهو أقدم على الانتحار بإرادة تامة من نفسه عندما ألقى بنفسه من ذلك الارتفاع الشاهق.

هكذا تكون الهداية والضلال، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يهدي وهو الذي يضل، لكن مقدمة ذلك تبدأ من الإنسان، فاللّه تعالى سيهديه إذا هيّأ مقدمة الهداية، ويضله إذا هيّأ مقدمة الضلال.

إن منطقة الهداية والضلال هي قلب الإنسان، فكل ما هو موجود في قلبه يظهر في عمله؛ وفي القرآن: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، فاللّه تعالى هدانا، ويَمُنُّ علينا بالهداية والإيمان: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ}(2)، فقد

ص: 103


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- سورة الحجرات، الآية: 17.

هدانا بلطفهورحمته، ولكن يمكن لقلوبنا أن تزيغ، والزيغ هو الانحراف عن الطريق(1)، و(زاغ بصره): بمعنى انحرف عن المكان الذي يريد أن يراه.

إن الزيغ القلبي قد يتسبب في أن ينحرف الإنسان أكثر وأكثر، حتى يأتي يوم لا يتمكن من فعل شيء إزاء هذا الانحراف الكبير، مع أنه كان في بدايته بسيطاً، وفي يوم ما سيمتحنه اللّه تعالى امتحاناً كبيراً، ومن المحتمل أن يفشل في هذا الامتحان الكبير؛ فإن المقدمات الصغيرة يمكن القضاء عليها بسهولة، ولا يصح للإنسان أن يقول: هذه معصية عادية، وسوف استغفر اللّه منها، واللّه كريم سوف يغفرها لي، كلا، لأن الآية الكريمة تقول: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)، ولأن الانحراف الصغير يجر إلى انحراف أكبر، فخطوات الشيطان مثل السلاسل، إذا تحركت حلقة واحدة فسوف تتحرك باقي الحلقات، كذلك الذنب الصغير يجر ذنباً ثانياً وثالثاً ورابعاً، حتى يصل الإنسان إلى أن يكون كعمر بن سعد حين يقول:

يقولون إن اللّه خالق جنة *** ونار وتعذيب وغل يدين

فإن صدقوا في ما يقولون إنني *** أتوب إلى الرحمن من سنتين(3)

لكنه لم يتب؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى سلب منه التوفيق للتوبة، فقد زاغ قلبه، وعندما يزيغ القلب فإن اللّه سوف يضله حتى يصل إلى نار جهنم.

لذا علينا أن نهيّئ المقدمات الاختيارية الصحيحة للهداية، حتى لو كانت صغيرة، وأن نتجنب مقدمات الضلال حتى وإن كانت حقيرة، لأننا يمكن أن

ص: 104


1- انظر: لسان العرب 8: 432، مادة (زيغ).
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- اللّهوف على قتلى الطفوف: 193.

نتجنبها في بداية الأمر، لكن إذا استمرت فسوف يستفحل المرض. ولنحاول أن نحافظ على طهارة قلوبنا، فإذا وجدنا انحرافاً في يوم من الأيام فلا بدّ أن نرجع لجادة الصواب، ونصحح ما صدر منّا.

ص: 105

(13) الإنسان مختار في أفعاله

اشارة

قال اللّه سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}(1).

إن الغيب مهيمن على الشهود، فجميع الأمور التي تجري في العالم إنّما هي بقدرة اللّه سبحانه وتعالى وتدبيره، ولكن ذلك لا ينافي اختيار الإنسان، بل هذا الاختيار بتقدير من اللّه سبحانه وتعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}(2)، فمشيئتنا واختيارنا إنّما هو بسبب أن اللّه سبحانه وتعالى قدّر أن يكون الإنسان مختاراً، ولو قدّر أن يكون الإنسان مجبوراً لحصل ذلك، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعله مختاراً، لكي يعمل ويحصل على نتيجة عمله.

وهكذا الحال في ارتباط العلة بالمعلول، فهو بتقدير من اللّه سبحانه وتعالى، فنحن يمكننا أن نحرق ورقة، وكون النار محرقة إنّما هو بتقدير منه سبحانه وتعالى؛ ولذا لو شاء سلب الإحراق من النار، كما في نار إبراهيم(عليه السلام)، قال تعالى: {قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ}(3).

وهناك ارتباط بين عمل الإنسان والنتيجة، وهذا بتقدير من اللّه سبحانه وتعالى، لكنه لا ينافي الاختيار، لأن اللّه شاء أن يرتّب المعلول على العلّة، بأن

ص: 106


1- سورة الروم، الآية: 7.
2- سورة التكوير، الآية: 29.
3- سورة الأنبياء، الآية: 69.

جعل عللاً ومعاليل، فإذا تحققت العلّة حصلت النتيجة.

ولذا فكل عمل من أعمال الإنسان إنّما هو بقضاء وقدر من اللّه سبحانه وتعالى دون أن يكون جبراً.

فالقاتل - مثلاً - يقتل باختياره، ولكن بقضاء وقدر من اللّه سبحانه وتعالى، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى جعل جسم الإنسان بكيفية بحيث تخترقه الطلقة والسيف أو أي شيء حادّ، وقدّر أنه إذا توقفت الأعضاء الحيوية في الإنسان فسوف يموت، وإن كان اللّه سبحانه وتعالى يمكنه أن يجعل السكين لا تؤثر أثرها، كما في سكين إبراهيم(عليه السلام)، فمع أنها كانت سكينة حادّة تتمكن من تكسير الحجر لكنها لم تؤثر في رقبة إسماعيل(عليه السلام)؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى سلب هذا القَدَر الذي جعله في اللحم والعظم من رقبة إسماعيل.

إذن، فكل شيء بمشيئة من اللّه وبقضاء وقدر منه، ومع ذلك فالإنسان مختار؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»(1)، إلّا أن بعض الفِرَق أخطأوا في فهم الآيات القرآنية، فحملوها على الجبر، وقالوا: إن كل الناس مجبورون.

وأمّا المعتزلة - وهم فرقة أخرى - فهم مفوّضة، وهم يقولون: إن اللّه سبحانه وتعالى لا دخل له في عمل الإنسان، فأخرجوا اللّه سبحانه وتعالى عن التدبير والقضاء والقدر، وعزلوه عن ملكه بأوهامهم السقيمة.

والصحيح أنه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين، فعالم الغيب مهيمن على عالم الشهود، ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل في عالم الشهود أسباباً

ص: 107


1- الكافي 1: 160، وفيه: ... عن محمّد بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين...».

ومسبّبات، وهذه الأسباب والمسبّبات تتكرّر؛ فالنار - مثلاً - دائماً محرقة، وفي أفعال اللّه سبحانه وتعالى يوجد الجانب الغيبي والجانب الظاهري، والاستثناءات قليلة جداً، فحتى معاجز الأنبياء(عليهم السلام) لم تأتِ لتغيير المعادلة التكوينية؛ وإنّما جاءت - بشكل عام - لإثبات صدق مدّعي النبوة؛ لأن بعض الناس قد يدّعون النبوة فلا بدّ من طريق لكي نميز الصادق من الكاذب، وهذا الطريق هو المعجزة.

نماذج من الاختيار

النموذج الأوّل: النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه

أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم ينتصر بالمعجزة، بل كلما عمل المسلمون حسب أوامر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انتصروا، وكلما لم يعملوا انهزموا، كما حدث في عزوة أحد. فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهو خير خلق اللّه سبحانه وتعالى كان يعمل بالأسباب الظاهرية التي قدّرها اللّه تعالى، وعن طريقها يصل إلى النتيجة.

وبترك المسلمين الأسباب الظاهرية في معركة أحد انهزموا، مع أن قائدهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكذلك الحال في معركة صفين، فلم يتمكن جيش الإمام(عليه السلام) من الانتصار، مع أنه كان على قاب قوسين أو أدنى منه، إلّا أن الخلل لم يكن في القيادة، لأن القائد معصوم، وإنّما كان الخلل في القاعدة حيث عصوا أوامر الإمام(عليه السلام)، فلو كان هناك أفضل قائد لكن الجيش لا يطيعه فسوف لا ينتصر؛ ولذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يطاع»(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى لم يتدخّل غيبياً لنصر المسلمين في معركة أحد؛ لأنهم بسوء اختيارهم فكروا في الدنيا وخالفوا أمر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان ذلك

ص: 108


1- نهج البلاغة 1: 70.

سبباً في الفشل والهزيمة، فلو كان الإنسان هو السّبب في الفشل والهزيمة فلا يتوقع من اللّه أن ينصره؛ لأن اللّه تعالى قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(1)، فاللّه سبحانه وتعالى وعد بالنصر للذين ينصرونه، وأمّا إذا لم ينصروه فلا ينصرهم، لأنه سبحانه وتعالى جعل أسباباً ظاهرية في كل شيء، فإذا عملنا بها فسوف تكون النتيجة لصالحنا، وإلّا فلا.

النموذج الثاني: الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وأصحابه

قد قدّر اللّه سبحانه وتعالى أن يظهر الإمام(عليه السلام) فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وهذا تقدير حتمي، {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}(2)، ولكن جعل لذلك سبباً ظاهرياً، فإن حصل فسوف يكون ظهور الإمام أسرع، وإلّا فسوف يتأخر.

إن الإمام(عليه السلام) غائب منذ أكثر من ألف ومائتي عام، فإذا لم يتحقق ذلك السبب فربما يتأخر سنوات أخرى، لكن إذا تهيّأ السبب فمن الممكن أن يظهر الإمام(عليه السلام) قريباً؛ فقد ورد في الحديث الشريف: «المهدي منا أهل البيت، يصلح اللّه له أمره في ليلة»(3)؛ وذلك لأن السبب الظاهري يتحقق في ذلك الوقت.

هناك أحاديث مستفيضة في تفسير قوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}(4)، حيث أولت هذه الآية بأصحاب الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ... : {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يعني

ص: 109


1- سورة محمّد، الآية: 7.
2- سورة الأنعام، الآية: 34.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 152.
4- سورة البقرة، الآية: 148.

أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، قال: وهم واللّه الأمة المعدودة، قال: يجتمعون واللّه في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف»(1).

وقد وردت رواية تبين كيفية اجتماعهم، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «لقد نزلت هذه الآية في المفتقدين من أصحاب القائم(عليه السلام) قوله عزّ وجلّ: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} إنهم ليفتقدون عن فرشهم ليلاً فيصبحون بمكة، وبعضهم يسير في السحاب يعرف باسمه واسم أبيه وحليته ونسبه، قال: قلت: جعلت فداك أيهم أعظم إيماناً؟ قال: الذي يسير في السحاب نهاراً»(2).

إذن، لو كانت القاعدة المؤمنة متوفرة فلعلّ اللّه يعجّل في ظهور الإمام(عليه السلام)، لأنه(عليه السلام) مكلّف بالتبليغ وإقامة العدل إذا أذن اللّه تعالى له، وهذا واجب على الرسول وكل الأئمة قال اللّه تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}(3)، فيجب على كل واحد منهم أن يقيم العدل إذا تمكن من ذلك، وحسب الأسباب الظاهرية.

نعم، كل الكون بيدهم بإذن اللّه سبحانه وتعالى، لكنهم غير مأمورين بالعمل بالأسباب الغيبية غالباً.

إذن، فتعجيل الفرج أو تأجيله مرتبط بنا؛ فإذا تهيأت القاعدة، فيظهر بأمر اللّه سبحانه وتعالى، لكن إذا لم تتهيأ القاعدة فقد يتأخر ظهور الإمام(عليه السلام)؛ لأنه غير مأمور بأن يعمل بقدرته الإلهيّة الإعجازية.

إن بعض الناس يتصور أن الإمام(عليه السلام) عندما يظهر فسوف يتحقق كل شيء بالمعاجز، ولكن الأمر ليس كذلك. نعم، المعاجز موجودة، ولكن الكثير من

ص: 110


1- الكافي 8: 313.
2- كمال الدين وتمام النعمة: 672.
3- سورة المائدة، الآية: 49.

الأمور تتحقق بالطرق الظاهرية.

يسأل البعض: إن اللّه سبحانه وتعالى لماذا حفظ عيسى(عليه السلام) لحدّ الآن مع أن الأنبياء(عليهم السلام) قتل الكثير منهم، ولم يرفعهم اللّه إلى السماء، وإنّما خص عيسى(عليه السلام) بذلك، حيث رفعه إلى السماء وأبقاه حياً إلى أن يظهر الإمام(عليه السلام)، وسوف ينزل عيسى(عليه السلام) إلى الأرض فيصلّي خلف الإمام في بيت المقدس، وبعد ذلك يموت ميتة طبيعية، والإمام(عليه السلام) يصلّي عليه ويدفنه، فلماذا حفظ اللّه سبحانه وتعالى عيسى لحدّ الآن؟

لعل الجواب - كما يقول بعض العلماء - إن اللّه سبحانه وتعالى حين ظهور الإمام المهدي يريد أن يبسط الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) العدل بطرق طبيعية على كل الكرة الأرضية، والنصرانية هي أكثر الأديان أتباعاً، وهم الأقوى من حيث المال والسياسة والاقتصاد والجيش، فإذا ظهر الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) فسوف يحاربونه، فادخر اللّه سبحانه وتعالى عيسى(عليه السلام) لهذا الوقت، فعندما ينزل ويصلّي خلف الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) فسوف يؤمن أكثر النصارى؛ وذلك لأن أكثر الناس ليسوا معاندين، وإنّما أكثرهم جهّال، فالنصارى الموجودون في العالم يتصورون أن دينهم هو الحق، وعندما يرون الإرهابيين والتفجيرات والفكر التكفيري يزدادون عقيدة بما يزعمون، فهؤلاء لم يكونوا معاندين، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ}(1)، لذا عندما ينزل عيسى(عليه السلام) سيؤمن أكثر النصارى بالإسلام.

كذلك اليهود ينتظرون المسيح؛ لأن التوراة بشرت به. نعم، عندما جاء عيسى(عليه السلام) وأظهر المعاجز أنكره أغلب اليهود، وقالوا له: أنت لست المسيح المبشّر به في التوراة، فهؤلاء إذا رأوا أن عيسى قد جاء فسيهتدون. نعم قد يبقى

ص: 111


1- سورة المائدة، الآية: 82.

بعضهم على العناد، ولا علاج لهم إلّا الاستئصال.

والحاصل: إن هناك جانباً غيبياً إعجازياً في قضية الإمام(عليه السلام)، لكن الكثير من الأمور تكون طبيعية حين ظهوره(عليه السلام).

ورد في الحديث: «وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم»(1)، ولعلّ المقصود هو أن نهيئ أنفسنا، فالخلّص من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) لم يكونوا معصومين، وإنّما هم أناس مثلنا، لكنهم وصلوا إلى مستوى المسؤولية، من خلال تهذيب النفس وبالعمل الصالح والتقوى والأخلاق الحسنة، فكلما كانت النتيجة أهم فالمقدمات تكون أصعب، يقول المتنبّي:

لولا المشقة ساد النّاس كلَّهم *** الجود يفقر والإقدام قتّال

لو أراد أحدنا أن يحشره اللّه سبحانه وتعالى مع محمّد وآله(عليهم السلام) فلا بدّ أن يعمل ويلازم التقوى والورع، فهل يعقل أن يكون معهم في القيامة إنسان قضى وقته في الكسل والفشل؟

إن هذا خلاف عدل اللّه سبحانه وتعالى، واللّه عادل وحكيم، وليس بظلام للعبيد، فقد ورد في الحديث: «لا يخدع اللّه عن جنته»(2).

إذن، فلو كنا منتظرين حقيقيين للإمام(عليه السلام) فلا بدّ أن نكون بمستوى المسؤولية؛ لأنه إذا لم نكن كذلك فربما يظهر الإمام ونسقط في الامتحان، فهناك أناس يحاربون الإمام، وآخرون يقولون: «يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك»(3)، مع أنهم كانوا منتظرين للإمام طول عمرهم حسب زعمهم.

ص: 112


1- كمال الدين وتمام النعمة: 485.
2- نهج البلاغة 2: 12.
3- دلائل الإمامة: 456، وفيه: «... ويسير إلى الكوفة فيخرج منها ستة عشر ألفاً من البترية، شاكين في السلاح، قراء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم، وشمروا ثيابهم، وعمهم النفاق، وكلهم يقولون: يابن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك، فيضع السيف فيهم على ظهر النجف عشية الاثنين من العصر إلى العشاء، فيقتلهم أسرع من جزر جزور، فلا يفوت منهم رجل، ولا يصاب من أصحابه أحد، دماؤهم قربان إلى اللّه، ثم يدخل الكوفة فيقتل مقاتليها حتى يرضى اللّه...».

النموذج الثالث: الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه

الإمام الحسين(عليه السلام) خذله كثير من الناس، إلّا مجموعة قليلة منهم.

إن البعض يقول: إن أهل الكوفة خذلوا الإمام الحسين(عليه السلام) دون غيرهم، لكن هذا الكلام غير صحيح، لأن الخذلان طبيعة كثير من الناس، فقد حدث الخذلان في غزوة أحد وحنين، وبعد رحيل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سقط الأكثر، وكذلك الذين كتبوا رسائل للإمام الحسين(عليه السلام): (أقبل على جند لك مجنّدة) لكنهم عندما تغيرت الأوضاع خذلوه، وأصبح بعضهم ضمن القتلة.

ونحن إذا لم نُعِنْ أهل البيت(عليهم السلام) بورع واجتهاد عن المحرّمات فربما نسقط في الامتحان والعياذ باللّه.

والحاصل: أن الأمر كله بتدبير من اللّه سبحانه وتعالى، ولكن نحتاج إلى الجهد والعمل والعلم.

إن اللّه سبحانه وتعالى مهّد كل شيء، فمن أراد أن يكون متقياً فقد مكّنه من ذلك، ولكن هذا يحتاج إلى الجهد والجهاد مع النفس، والعلم والورع والعمل، كأن يحضر الإنسان صلوات الجماعة لأنها تربّيه، وكذلك المجالس؛ لأنه يذكر فيها اسم اللّه ورسوله وأهل البيت(عليهم السلام)، واللّه سبحانه وتعالى ينظر إليها بنظرة رحيمة.

ص: 113

(14) الاختيار وطينة الخلق

قال اللّه تعالي في كتابه الكريم: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَٰشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(1).

إن الإنسان مركّب من جسم ونفس وروح، والجسم مركّب من الأعضاء، والنفس والروح أجسام لطيفة مركبة، وحينما أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يخلق الخلق كان يعلم مصير كل مخلوق؛ لأنه تعالى عالم بكل شيء، بما كان وما يكون وما هو كائن، وما لم يكن، ولكن علمه سبحانه وتعالى ليس هو السبب لأفعال العباد.

ولتقريب الفكرة إلى الأذهان نذكر المثال التالي: إننا نعلم يقيناً لا شك فيه أنه في يوم غد ستشرق الشمس، إلّا أن علمنا هذا ليس علة وسبباً لشروق الشمس، واللّه سبحانه وتعالى من الأزل يعلم بمصير كل مخلوق، فقبل أن يخلق الخلق يعلم بأهل الجنة، وبأهل النار، لكن علمه ليس سبباً لدخول أهل الجنة في الجنة، ودخول أهل النار في النار.

إن فكرة الجبر تسرّبت إلى أفكار كثير من منتحلي الإسلام، ومنشؤها بعض الحكام الظلمة؛ لأنهم أرادوا أن يوهموا الناس بأن كل الجرائم التي ارتكبوها إنّما هي من اللّه، لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد هكذا، وإرادة اللّه لا تتغير ولا تتخلّف

ص: 114


1- سورة البقرة، الآية: 45-46.

عن المراد. وهذه مغالطة، إذ إنه من الصحيح أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى لا تتخلف عن المراد، لكنه تعالى لم يُرِد إجبار الناس، وإنّما أراد اختيارهم، فخلقهم مختارين.

واختيارنا هو سبب لأعمالنا، فمن يصلّي يكون مختاراً، وهو الذي اختار الصلاة، وذاك الذي لا يصلّي خلقه اللّه سبحانه وتعالى مختاراً، وهو باختياره لا يصلّي، قال تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}(1)، يعني بيّن لها ما هو الفجور، وما هي التقوى، ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(2)، فلا جبر في الأمر، مع أن اللّه سبحانه وتعالى منذ الأزل يعلم أن هؤلاء سيختارون الإيمان ويدخلون الجنة، وأولئك سيختارون الكفر ويدخلون النار.

وقد يتسائل إنه وردت روايات كثيرة في أن اللّه خلق المؤمنين من طينة عليين وخلق الكفار من طينة سجين، أليس ذلك من الجبر؟

والجواب: كلّا ذلك لا يؤدّي إلى الجبر، وبيان ذلك:

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق فرعون - مثلاً - وكان يعلم بأنه سيختار الكفر فكان من مقتضى الحكمة أن يكون خَلْقه من عنصر يتناسب مع النار التي سوف يدخلها، وعندما خلق اللّه سبحانه وتعالى مؤمن آل فرعون - مثلاً - كان يعلم بأنه سيختار الإيمان فكان مقتضى الحكمة أن يكون خَلْقه من عنصر مناسب للجنة يوم يدخلها. ولأن اللّه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، فلا يفعل شيئاً خلاف الحكمة؛ لذا ففي اليوم الذي أراد أن يخلق فرعون لم يخلقه من مادة رفيعة؛ لأن

ص: 115


1- سورة الشمس، الآية: 7-8.
2- سورة الشمس، الآية: 9-10.

المادة الرفيعة لا تناسب جهنم، وحينما خلق مؤمن آل فرعون لم يخلقه من مادة وضيعة؛ لأن تلك المادة لا تناسب الجنة، فعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن اللّه خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم مما دون ذلك، فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(1) وخلق عدونا من سجين، وخلق شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ}(2)»(3).

وهذا لا يعني أنهم مجبرون على فعل الخير، وإنّما يكون ذلك باختيارهم، فاللّه سبحانه وتعالى يعلم منذ الأزل أن هذا الإنسان إذا خلقه فهو يختار الإيمان، ولذا خلقه من طينة عليين، وكذلك يعلم أن ذاك سيختار الكفر لذا خلقه من طينة سجين، وسجين مأخوذ من السجن(4)، وهي طبقة من طبقات جهنم(5).

والحاصل: إن علم اللّه سبحانه وتعالى لا يكون سبباً لأعمالنا، لكن حكمته اقتضت أن يخلق الإنسان من طينه تناسب ما سيختاره من عمل.

إن الطينة التي خلق اللّه منها أرواح النبي وأهل بيته(عليهم السلام) لها تركيبة خاصة،

ص: 116


1- سورة المطففين، الآية: 18-21.
2- سورة المطففين، الآية: 7-9.
3- بصائر الدرجات: 35.
4- انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 10: 290، وفيه: «والسجين: فعيل من السجن... وقيل: السجين هو السجن على التخليد فيه، لأن هذا الوزن للمبالغة».
5- انظر: التبيان في تفسير القرآن 10: 298، وروي في الخبر «أن سجين جب في جهنم».

فعن عن أبي الحجاج قال: قال لي أبو جعفر(عليه السلام): «يا أبا الحجاج، إن اللّه خلق محمّداً وآل محمّد من طينة عليين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينة دون عليين وخلق قلوبهم من طينة عليين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمّد، وان اللّه خلق عدو آل محمّد من طين سجين، وخلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين فقلوبهم من أبدان أولئك وكل قلب يحن إلى بدنه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين، وخلق أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا»(2).

ص: 117


1- بصائر الدرجات: 34.
2- بصائر الدرجات: 39.

(15) بين الجبر والاختيار

اشارة

قال اللّه سبحانه: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(1).

لقد اقتضت حكمة الباري سبحانه وتعالى أن يخلق الإنسان مختاراً، وقد بيّنت الروايات الشريفة هذه المسألة بشكل مفصل(2)، بينما نجد البعض يقولون بالجبر، وأن اللّه سبحانه وتعالى هو مَن أجبره، ويستدلون بما فهموه بشكل مغلوط من آيات قرآنية، كقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}(3)، مع أن معنى الآية واضح، ولا يعني الجبر الذي يذهبون إليه، إذ معناها أن اللّه سبحانه وتعالى شاء أن يرسل رسلاً، والإنسان يمكنه اختيار طريق الهداية أو الضلال، ولو أن اللّه سبحانه وتعالى لم يرسل لنا الرسل ولم نعلم بالأوامر الإلهيّة فلا يمكن أن

ص: 118


1- سورة القلم، الآية: 9.
2- انظر: التبيان في تفسير القرآن 10: 352، وفيه: «{وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ} [سورة البلد، الآية: 10] ليستدل بهما، وفي ذلك دليل واضح على أنه صادر من مختار لهذه الأفعال التي فعلها بهذه الوجوه، فأحكمها لهذه الأمور، فالمحكم المتقن لا يكون إلّا من عالم، وتعليقه بالمعاني لا يكون إلّا من مختار، لأنه لا يعلق الفعل بالمعاني إلّا في الإرادة. وقال ابن مسعود وابن عباس: معنى {هَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}: نجد الخير والشر...». وقال البحراني في البرهان في تفسير القرآن 5: 545: «{إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له طريق الخير والشر، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهو رد على المجبرة أنهم يزعمون أنه لا فعل لهم». وقال في 5: 546: «وعن حمران بن أعين، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان، الآية: 3]، قال: إمّا آخذ فهو شاكر، وإمّا تارك فهو كافر».
3- سورة التكوير، الآية: 29.

نختار ما أراده اللّه سبحانه وتعالى، وهذا يعني: (وما تشاؤون) الإيمان أو الكفر، (إلّا أن يشاء اللّه) إرسال الرسل.

إن كل شيء يجري في هذا العالم له مقدمات كثيرة، وأكثرها ليست باختيار الإنسان، بل هي بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، لكن بعض المقدمات من اختيار الإنسان، فإذا كانت مقدمات الشيء غير اختيارية إلّا مقدمة واحدة، فإن القيام بذلك العمل يصبح اختياراً، مثلاً لو كانت المسافة بين دارك والمسجد ألف خطوة، وقد ساقك أحدهم قسراً إلى باب المسجد ثم تركك هناك، وقال: أنت مخيّر بين الدخول وعدمه، فإذا وضعت الخطوة الأخيرة بنفسك ودخلت المسجد فإن دخولك سيكون باختيارك.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا من دون اختيارنا، ثم وهبنا العقل والإرادة والعلم، والمقدمات المختلفة التي لم نحصل عليها باختيارنا، ولكن الخطوة الأخيرة في أعمالنا هي ضمن اختيارنا، فنحن أحرار في فعلها أو تركها.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى له قضاء وقدر ومشيئة وهي من المقدمات غير الاختيارية للإنسان، لكن ارتكاب العمل أو عدم ارتكابه يتم باختيار الإنسان. فالإنسان الذي اتّجه إلى الهداية - بحسن اختياره - يهديه اللّه تعالى إليها، كما أنه سبحانه يضل الظالمين، لكن يتم ذلك حين اختيار الإنسان للظلم، فإذا ألقى شخص بنفسه من شاهق فسوف يسقط على الأرض ويموت، والذي أماته هو اللّه سبحانه وتعالى، لكن المقدمة كانت باختياره، فهو الذي ألقى بنفسه من ارتفاع شاهق؛ لذا فاللّه سبحانه وتعالى يعاقبه، وأمّا إذا كان الإنسان مجبراً على عملٍ ما فلا يعاقبه، لأن عقاب المجبور ظلم، واللّه سبحانه ليس بظلّام للعبيد.

وحيث إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان مختاراً، فالحكمة تقتضي أن يكون أمامه سبيل الخير والشر، ولو كان سبيل الشر مغلقاً لما كان للاختيار

ص: 119

معنى، فلو كان هناك شخص محبوس في غرفة، وفي الوقت نفسه يقال له: أنت حر ولك أن تختار السفر إلى أيّ مكان تشاء، فهذا يُعد نوعاً من اللغو؛ لأن معنى الاختيار هو أن يكون طريق الخير والشر مفتوحين أمام الإنسان لاختباره؛ لذا فالاختيار هو العمل حسبما يشاء، سواء شاء الصلاح أم الفساد، فلا بدّ من عدم وجود المانع إزاء الاختيار.

نماذج من الاختيار

النموذج الأوّل: خلق إبليس

فحينما خلق اللّه سبحانه وتعالى آدماً(عليه السلام) كان قد خلق قبله إبليس، وعندما استكبر إبليس عاقبه اللّه على ذلك، فكان عقابه لأنه استكبر على أمر اللّه وتكبّر على آدم(عليه السلام)، أي: زعم أنه أكبر من أن ينفذ أمر اللّه سبحانه وتعالى وزعم أنه أفضل من آدم(عليه السلام).

وفي الوقت نفسه لم يجعل اللّه تعالى مانعاً بين إبليس وبين الوصول إلى آدم وحواء(عليهما السلام)؛ لأنه أراد أن يكون الإنسان مختاراً، ولذا كانت وسائل الشر متاحة له أيضاً.

قال اللّه تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}(1)، أي: بيّن ذلك لنفس الإنسان بالفطرة والعقل، ومن ثَمَّ بالرسل، فهو لبيان المراحل المختلفة للحق، وكذلك بيّن للإنسان الخير وألهمه الشر، أي: أرشده وعلّمه بأن هذه الأمور شر، وهذا لا يعني أنه تعالى أوجد الشر في نفس الإنسان؛ بل بمعنى أنه بفطرته وعقله والوحي يعلم أن الظلم شر، والسرقة قبيحة ونحو ذلك.

إذن، فالاختيار يستلزم فتح الطريق أمام الإنسان، ولذا - عادة - لا يتدخل اللّه

ص: 120


1- سورة الشمس، الآية: 7-8.

سبحانه وتعالى بالقهر لمنع المعاصي؛ لأنه لو تدخل لما كان الإنسان مختاراً، بل لأصبح مجبراً لاختيار الخير دائماً، بل لانتفت الحكمة من خلق الإنسان.

النموذج الثاني: دعاء إبراهيم (عليه السلام)

إن إبراهيم(عليه السلام) عندما علم أن ذريته سيكون فيها المؤمن والكافر وأنها ستسكن في مكة، طلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يرزق المؤمنين منهم من الثمرات: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَٰتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}، وقد أجابه اللّه سبحانه وتعالى بأن الرزق عام، فقال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(1)، أي: إذا كان الإنسان كافراً فسأرزقه لأن الرزق للكل، ولو كان الرزق للمؤمنين فقط لصار كل الناس مؤمنين، ولما بقي أحدهم كافراً؛ لذا فالامتحان يقتضي أن تكون الخيرات الدنيوية عامة للجميع؛ لذا لا يتدخل اللّه سبحانه وتعالى بالقهر إلّا في موارد قليلة لحكمة يقتضيها.

النموذج الثالث: قتل الأنبياء (عليهم السلام)

لقد كان الناس يقتلون الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يتدخل لإنقاذهم، وقد ورد في بعض الأحاديث: «إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجل اللّه عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام»(2).

ص: 121


1- سورة البقرة، الآية: 126.
2- بحار الأنوار 44: 365.

النموذج الرابع: استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)

ولقد كان الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه قليلون، وبالمقابل كان هناك جيش كبير أمام هذه المجموعة، وقبل قتل الإمام(عليه السلام) أرسل اللّه سبحانه وتعالى أربعة آلاف من الملائكة لنصرته تشريفاً له، لكن الإمام الحسين(عليه السلام) علم أن اللّه شاء أن يراه قتيلاً لذلك لم يأذن لهم، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال(عليه السلام): «هبط أربعة آلاف ملك يريدون القتال مع الحسين(عليه السلام) فلم يؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستيذان، فهبطوا وقد قتل الحسين(عليه السلام)، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودعه مودع إلّا شيعوه، ولا يمرض مريض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته، وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم(عليه السلام)»(1).

كل ذلك لأن الدنيا دار امتحان، فلو تدخل الملائكة غيبياً وقلبوا الموازين لما كانت الدنيا دار امتحان.

نعم، تدخل اللّه سبحانه وتعالى غيبياً في موارد محدودة، وذلك بحكمته كما لو كان أصل الدين في خطر، كفلق البحر لموسى(عليه السلام)، فلو وصل إليهم جيش فرعون لأباد جميع المؤمنين، وكذلك في يوم بدر، حيث أرسل اللّه سبحانه وتعالى ملائكة، لأنه لولا إرسالهم لانتهى الإسلام والمسلمين، ولقتل الرسول وانتهى الدين، أمّا في يوم أحد فلم يرسل اللّه ملائكة، لأن المسلمين خالفوا أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن ترك الرماة الجبل ولم تكن هزيمة المسلمين تؤدّي إلى زوال الدين.

إن اللّه سبحانه وتعالى أعطى القدرة للمؤمن وغيره لكي يتم الامتحان، قال

ص: 122


1- كامل الزيارات: 354.

اللّه تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1)، فهذه الدنيا دار امتحان، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى أتمَّ حجته ولم يترك الحق يضيع، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى الحق فهو موجود، فإذا لم يتبع الإنسان الحق فللّه الحجة البالغة، ولكن في الوقت نفسه يوجد عندنا تكليف، فقد أمرنا اللّه سبحانه أن نوصل الحق للآخرين، ولا يتدخل اللّه سبحانه وتعالى غيبياً في ذلك.

ص: 123


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

(16) القضاء والقدر والبداء

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}(1).

تعد مسألة البداء من أهم مسائل التوحيد، فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ما عُبد اللّه بشيء مثل البداء»(2).

كلنا نعلم أنّ للّه سبحانه وتعالى قضاءً وقدراً، ولكن ربما لا يعرف كثيرون معنى القضاء والقدر، فكل أمر أو حادث تكون أسبابه مجهولة يُنسب إلى القضاء والقدر، مثلاً: إذا توفي أحد الشبان ولم تكتشف علة موته يقال: إنه قضاء وقدر، وإذا وقع حادث سير ولا نعرف سببه، نقول: إنه قضاء وقدر، إلّا أننا ننسب الأحداث إلى أسبابها عندما يكون السبب واضحاً ومعلوماً، مثلاً: إذا اُصيب شخص بداء خبيث - مثلاً - وعجز الأطباء عن علاجه ثم مات، سنقول: إنه توفي بسبب الداء الخبيث الذي ألمّ به.

فالأحداث المعلومة لدينا ننسبها إلى أسبابها، لكن إذا كانت أسبابها مجهولة فننسبها إلى القضاء والقدر، مع أنّ منشأ كلّ ما يحدث في العالم هو القضاء والقدر، ومعنى ذلك واضح لغةً وشرعاً.

ص: 124


1- سورة الزمر، الآية: 47.
2- الكافي 1: 146.

معنى القضاء

القضاء في اللغة هو الحكم(1)، فقد يكون حكماً تكوينياً، وقد يكون حكماً تشريعياً.

فقد حكم اللّه سبحانه وتعالى حكماً تشريعياً بعدم جواز عبادة غيره، فقال: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا}(2)، أي: إنه حكم تشريعي من دون إجبار. فإذا أراد الإنسان أن يخالف الحكم التشريعي تمكن من ذلك، لأن اللّه سبحانه قد أعطاه الاختيار، فيمكنه أن يطيع فيعبد اللّه الواحد الأحد، أو يعصي فيعبد الأرباب المتفرقين.

كما أن اللّه تعالى حكم علينا بالصوم والحج والجهاد وما إلى ذلك، وهذا الحكم تشريعي، فاللّه تعالى أمرنا بالامتثال له، لكن الامتثال يبقى بأيدينا.

فمعنى الحكم التشريعي هو طلب الشيء من الفاعل المختار.

وقد يكون الحكم تكوينياً، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يُوجِد الشيء، كما في قوله تعالى: {فَقَضَىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوْمَيْنِ}(3)، أي: حكم اللّه حكماً تكوينياً بأن تكون هذه السماء الواحدة سبع سماوات.

فالقضاء التكويني بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى له مجموعة من الأحكام التكوينية بالنسبة لهذا العالم، فإذا سقط أحدهم من شاهق فسوف تتهشم عظامه وقد يموت، فيكون سقوطه من فوق إلى تحت ضمن دائرة حكم تكويني من أحكام اللّه سبحانه وتعالى، وهو الجاذبية؛ لذلك إذا سقط جسم ثقيل - كجسم

ص: 125


1- انظر: الصحاح 6: 2463.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.
3- سورة فصلت، الآية: 12.

الإنسان - من مكان مرتفع ستجذبه الأرض، وعندما يرتطم بالأرض تتهشم عظامه، وهذا هو القضاء.

معنى القدر

القدر في اللغة هو الكميّة والحجم والقابلية(1)، ونحن نستعمل هذه الكلمة في حياتنا اليومية، فحينما يشتري أحدهم شيئاً يقول: أعطني من هذا الشيء بمقدار كذا... .

فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى لكل شيء قابلية وحجماً؛ لذلك إذا أصاب السيف جداراً لا يقطعه؛ لأن له من القابلية ما لا يؤثر فيه السيف الحديد، لكن السيف نفسه إذا ضرب به جسم الإنسان فإن قابلية اللحم والعظم ومقداره وحجمه تقبل ضربة السيف.

مثلاً: إذا زودت طائرة بالوقود لمسافة ألف كيلومتر، فإذا طارت وقطعت هذه المسافة سينتهي الوقود وستسقط الطائرة، فسقوط الطائرة حدث بقضاء وقدر من اللّه؛ لأنها جسم ثقيل، لا يمكنه الطيران إلّا بقوة دافعة للجاذبية، وحيث انتهى الوقود وتوقف المحرّك فإن قانون الجاذبية يعمل عمله من غير مانع فهذا حكم اللّه التكويني، وأيضاً إن مقدار الوقود كان ألف كيلومتر فبقطع هذه المسافة وانتهاء الوقود يكون قدرها السقوط، فسقوطها بقضاء وقدر من اللّه تعالى؛ لأنّه هو مَنْ وضع هذه القوانين والأحكام.

وهذا الأمر يجري في كل شيء، في حركاتنا وسكناتنا جميعاً، فهي محكومة بقضاء اللّه وقدره.

ورد في الرواية: أنّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان جالساً إلى جانب جدار،

ص: 126


1- انظر: العين 5: 113.

فكاد الجدار أن يميل أو يسقط، فنهض الإمام(عليه السلام) وغيّر مكان جلوسه إلى مكان آخر فقيل له: أتفرُ من قضاء اللّه؟! قال: «بل أفرُ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّ وجلّ»(1).

بمعنى أنه تعالى جعل مقداراً أكثر لقابلية الحياة، فالإنسان عادة يعيش ما بين(ستين إلى تسعين) سنة، لكن إذا سقط عليه أحد الجدران وهو في عمر عشرين سنة سيموت، أي: إن قابلية الاستمرار في الحياة موجودة في الجسم، ولكن إذا سقط عليه الجدار ستنتهي هذه القابلية، سواء علمنا بذلك أم لم نعلم.

وفي كثير من الأحيان يتمكن الإنسان من تغيير حالات نفسه فيتغيّر القضاء والقدر بمعنى أن اللّه تعالى له أحكام تكوينية متعددة تختلف آثارها، وقد مكّن الإنسان من الانتقال من حالة إلى أخرى فيتغيّر الأثر، بحيث يستطيع أن يخرج من هذا القانون بمشيئة اللّه تعالى إلى قانون آخر، كقضية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مع الجدار.

إذن، إذا لم يسر الإنسان ضمن قوانين اللّه فسوف يصاب بأضرار، وهي تقع ضمن قضاء اللّه وقدره أيضاً، لكنها قد تحدث بسبب الإنسان نفسه.

مثلاً: إذا ألقى شخص بنفسه من شاهق ومات، فإن موته حدث بقضاء من اللّه وقدره، لكن السبب هو الإنسان نتيجة لسوء اختياره، حيث جعل نفسه عرضة لقانون الجاذبية، مع أنه كان يستطيع أنْ لا يجعل من نفسه عرضة له.

نعم، إنّ اللّه سبحانه وتعالى يقدر أحياناً بعض الأُمور الخارجة عن اختيار

ص: 127


1- انظر: التوحيد، للشيخ الصدوق: 369، وفيه: ... عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته، قال: «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له، يا أمير المؤمنين، أتفر من قضاء اللّه؟ فقال: أفر من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّ وجلّ».

الإنسان، ولأنها خارجة عن اختياره ينبغي أن يتوجه إلى اللّه سبحانه وتعالى، لكي يبعد عنه السوء، فإذا أراد أحدهم أن يسافر من مدينة إلى أُخرى بسيارته، وقد هيّأ سيارته، وكان يتقن قيادة السيارة، ويراعي قوانين السير في ما يتعلق بالسرعة وغيرها، فقد لا يتعرض لحادث، ولكن هل يضمن أن لا تأتي سيارة من الجهة المقابلة له فتصدمه بسبب عدم مراعاة سائقها للقوانين، أو أنه لم يتقن السياقة، أو أنه غفا ونام أثناء القيادة؟

الجواب: إنّ الأمر ليس بيده، ولا يقع ضمن اختياره، ففي كثير من الأحيان تقول شرطة المرور بخصوص حوادث السير: إن السائق الفلاني هو سبب الحادث، أمّا الآخر فلم يكن له أيّ تقصير في الحادث، ومع ذلك يصاب بأضرار جسدية، كأن يكسر ذراعه أو يُبتر أو ربما يتعرض للموت.

معنى البداء

كيف يمكننا أن نضمن الأسباب الخارجة عن اختيارنا؟

هنا يأتي دور الالتجاء إلى اللّه تعالى، فاللّه سبحانه جعل أسباباً غيبية تغيّر القضاء، فمن لطفه تعالى بيّن هذه الأسباب الغيبية، وهذه الأسباب هي: الدعاء والصدقة وصلة الرحم والتوسل والتوكل على اللّه سبحانه وتعالى وغير ذلك. وليس الإنسان مَنْ يغيرهما، وإنّما اللّه سبحانه وتعالى يستجيب لدعاء الإنسان فيغيّر القضاء وهذا التغيير يسمّى (البداء).

مثلاً: اللّه سبحانه وتعالى قدّر لنا الموت في هذا اليوم لكن الدعاء غيّر ذلك القدر، وكذا الحال بالنسبة للصدقة.

لقد جعل اللّه سبحانه وتعالى هذه الأسباب، لأنه كما جعل أسباباً تكوينية طبيعية كذلك جعل أسباباً غيبية.

ولو أننا نعرف بأن اللّه سبحانه وتعالى لا يغير قضاءه وقدره فهل سندعوه

ص: 128

تعالى؟ وما فائدة الدعاء حىنئذٍ؟ فإذا كان اللّه تعالى قد قدّر علينا الموت فسوف نموت، سواء دعونا أم لم ندعُ، وسواء دفعنا الصدقة أو لم ندفع، وسواء وصلنا الرحم أم لم نصله، فلماذا ندعُ وندفع صدقة ونقوم بالأفعال الحسنة، ونجتنب الأفعال السيئة؟

إذن، لو لا تغيير اللّه للقضاء والقدر لما كان هناك معنى للدعاء أو للصدقة أو لصلة الرحم وما إلى ذلك، فقد ورد عن المعصوم(عليه السلام): «ما عُبد اللّه بشيء مثل البداء»(1).

جاء في الحديث الشريف، عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «مرّ يهودي بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: السام عليك، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليك، فقال أصحابه: إنّما سلم عليك بالموت، قال: الموت عليك، قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وكذلك رددت، ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن هذا اليهودي يعضه أسود(2) في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ضعه، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضٌ على عود، فقال: يا يهودي، ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بها دفع اللّه عنه. وقال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان»(3).

والبداء دليل على قدرة اللّه سبحانه؛ لأنه تعالى ليس عاجزاً عن تغيير قضائه، كما زعمت اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}(4). يقال: إنهم يزعمون أنَّ اللّه

ص: 129


1- الكافي 1: 146.
2- أي: أفعى.
3- الكافي 4: 5.
4- سورة المائدة، الآية: 64.

سبحانه وتعالى خلق العالم وجعل من اليهود الشعب المختار، وهو لا يستطيع أن يغيّر من العالم شيئاً، فعندما يتعرض اليهود لظلم الناس فإنه يبكي عليهم، ودموعه تسقط في البحر فتتلاطم أمواج البحر، وأن سبب السيول والفيضانات هي دموع الرب!! والآية الكريمة تردّهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ}(1).

أمّا نحن فنقول: إنّ اللّه هو مقدّر الأقدار، وهو قادر على تغيير القضاء لصالح الناس، لكي يدعوا ويتصدقوا ويصلوا الرحم وغير ذلك؛ لأن الإنسان إذا وصل الرحم فإن اللّه سبحانه وتعالى قد يزيد في عمره(2)، وإذا قطع الرحم قد ينقص من عمره(3)، وقد قدّر سبحانه العمر للإنسان، ولكنه قابل للتغيير بإرادته تعالى في الزيادة والنقصان، لكي نتوجه إليه سبحانه ونعبده وندعوه، ونكون عبيداً له؛ لأن الإنسان اليائس لا يقوم بعمل الخير.

وهنا يطرح هذا السؤال: لماذا فتح اللّه سبحانه وتعالى باب التوبة، مع أن قبولها ليس واجباً عليه، فإذا ارتكب المجرم جريمة وتاب عنها لا تقبل توبته في القانون الوضعي، بل يعاقب أيّاً كانت هذه الجريمة، حتى وإن ندم على ذلك؟

والجواب هو: أن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن لا يقبل التوبة؛ لأن الإنسان ارتكب الجريمة باختياره؛ فلا محذور في أن يعاقب عليها، لكنه سبحانه فتح باب

ص: 130


1- سورة المائدة، الآية: 64.
2- انظر: الكافي 2: 150، قال أبو الحسن الرضا(عليه السلام): «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها اللّه ثلاثين سنة، ويفعل اللّه ما يشاء».
3- انظر: الكافي 2: 153، قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلّا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه اللّه ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين».

التوبة؛ لأنه سبحانه خلق الناس ليرحمهم، قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)؛ لذا جعل اللّه سبحانه وتعالى أسباباً كثيرة للرحمة بالناس، أمّا إذا رفض الإنسان كل هذه الأسباب فإنه سيتعرض لعذاب اللّه بسبب سوء اختياره.

ولو اقترف الإنسان ذنباً ما وقيل له لقد انتهى أمرك، فأنت من أهل جهنم بأمر من اللّه تعالى، ولا مجال لقبول توبتك، فإنه سينغمس في المحرمات، ويقول لنفسه: ما دمت من أهل جهنم فلماذا لا ارتكب سائر المحرمات؟!

لكن فتح باب التوبة ليجعل الإنسان على أعتاب الندم على ما فعل؛ ولذلك كان اليأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى من أكبر الذنوب، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2)، فإذا ارتكب الإنسان أيَّ محرم وأراد أن يتوب توبة حقيقية فإن اللّه سبحانه وتعالى يقبل توبته بشروطها.

وكذلك إنّ اللّه سبحانه وتعالى يغيّر ما قدره، وهذا الشيء يقرب الإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى، ويفتح الباب أمامه للعبادة، ولإصلاح ما أفسده في الماضي.

والبداء موجود في الآيات الكريمة(3) والروايات الشريفة(4).

بل حتى في روايات غير الشيعة، فقد ورد في البخاري عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و[آله] وسلم يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص

ص: 131


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة يوسف، الآية: 87.
3- انظر: سورة الرعد، الآية: 39: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}.
4- انظر: الكافي 1: 146، وفيه: ... عن زرارة بن أعين، عن أحدهما(عليها السلام) قال: «ما عبد اللّه بشيء مثل البداء». ... عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ما عظم اللّه بمثل البداء». ... عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال في هذه الآية: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: فقال: «وهل يمحى إلّا ما كان ثابتاً؟ وهل يثبت إلّا ما لم يكن؟».

وأعمى وأقرع بدا للّه عزّ وجلّ أن يبتليهم، ... إلى آخر الحديث(1).

وورد في كتب أُخرى لديهم نفس ما يذكر في كتبنا.

ص: 132


1- البخاري 4: 146.

(17) بين الخوف والرجاء

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}(1).

الإنسان المؤمن لا بدّ من أن تكون فيه حالتان متكافئتان، تسوقانه نحو العمل الصالح وترك المعاصي:

الحالة الأولى: الخوف من اللّه تعالى

قال اللّه تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(2).

تُعد الرهبة من اللّه سبحانه وتعالى من جنود العقل، ونقيضها الجرأة على اللّه سبحانه وتعالى وهي من جنود الجهل.

فالرهبة نوع من أنواع الخوف؛ وغير خفي أن اللغة العربية دقيقة جداً، بل هي أدق اللغات، فالمعنى الواحد ربما يكون في لغات أخرى له لفظ أو لفظان أو ثلاثة ألفاظ، لكن نلاحظ في اللغة العربية أن ذلك المعنى قد تكون له ألفاظ كثيرة، بحكم الخصوصيات والحالات المختلفة.

ومن ذلك الخوف، فالخوف كلمة جامعة تجمع كل أنواعه، ولكن هناك كلمات مترادفة، لاختلاف خصوصيات الخوف.

مثلاً: الوجل، الرهبة، الخشية، الخشوع، الشفقة، وما إلى ذلك، وكلها كلمات

ص: 133


1- سورة الأنبياء، الآية: 90.
2- سورة الأعراف، الآية: 154.

تدل على معنى الخوف، ولكن بخصوصيات مختلفة.

والرهبة: هي خوف يتضمن تهيب وتعظيم المخوف منه(1)، فقد نخاف من شيء لكن لا نعظمه، فمن يخاف من سلطان جائر إلّا أنه لا يعظمه لا يستعمل كلمة الرهبة، لكن إذا خاف الإنسان من عظيم وعظمه فهذه هي الرهبة.

والإنسان المؤمن يرهب من اللّه سبحانه وتعالى أي: إنه يخاف منه، وهو خوف متضمن لتعظيم اللّه سبحانه وتعالى.

فإذا خاف الإنسان من اللّه وعظمه فلن يرتكب المعاصي، وأمّا ارتكاب المعاصي فهي بسبب الجرأة على اللّه سبحانه وتعالى وعدم الرهبة منه.

من هنا إذا كان الإنسان يرهب اللّه سبحانه وتعالى ويعلم أنه قادر ويتمكن من معاقبة المخالفين والمجرمين، فسوف يترك المعاصي ولا يرتكبها، ويتجنب الخطيئة والجريمة، لكن إذا كانت عقيدة الإنسان باللّه تعالى ضعيفة لا تبتني على أساس صحيح فحين ذلك يتجرأ ويرتكب المعاصي، فتؤدّي به إلى المهاوي والرذائل.

لذا نجد أن اللّه سبحانه وتعالى وصف المنافقين بعدم الرهبة من اللّه، وإنّما رهبتهم من الناس، قال تعالى: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ}(2)، وذلك إمّا لأنهم لا يعتقدون باللّه، وإمّا لا يعتقدون بالمعاد والرسالة، أو أن عقيدتهم مغلوطة؛ لذا لا يرهبون اللّه سبحانه وتعالى، وأمّا أمام الناس فيرهبون ويراعون الأحكام. وهذه هي حال المرائي المنافق، فهو أمام الناس يحاول أن يظهر تصرفاته بشكل صحيح، لكنه يرتكب المحرمات والموبقات في خلواته، وهذا

ص: 134


1- انظر: العين 4: 47، مادة (رهب)؛ لسان العرب 1: 436، مادة (رهب).
2- سورة الحشر، الآية: 13.

بسبب ضعف إيمانه وعقيدته باللّه سبحانه وتعالى.

الحالة الثانية: الرجاء برحمة اللّه

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(1).

ومن الأمور المهمة التي تساهم في قرب الإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى، وتسبب له الفوز والسعادة هو الرجاء، فلا بدّ أن يكون الإنسان راجياً لرحمة اللّه سبحانه وتعالى، فرجاء الرحمة يؤدّي إلى عمل الصالحات؛ لأن الإنسان تنتابه - في بعض الأحيان - حالات من الضعف النفسي، أو الاغترار، أو الانخداع بالشيطان، فتصدر منه أخطاء وذنوب، فإذا كان الباب مفتوحاً للرجوع فحينئذٍ يمكن أن يصحح أخطاءه، وأمّا إذا كان الباب مغلقاً ورأى الإنسان نفسه من أهل النار فإنه لن يجد فائدة أو جدوى للعمل الصالح واجتناب المنكرات.

من هنا فتح اللّه سبحانه وتعالى باب التوبة، ليتمكن الإنسان من أن يصحح ما فعله من أعمال سيئة، ويعوض ما فاته من أعمال صالحة؛ وذلك من خلال بذل المزيد من الجهد والعمل الصالح، وأمّا القنوط من رحمة اللّه فهو من أشد الرذائل، التي تدفع الإنسان لارتكاب مختلف المحرمات؛ لذلك فإن اليأس من روح اللّه سبحانه وتعالى من أشد المحرمات؛ لأن الإنسان إذا كان يائساً فسوف يرتكب جميع المحرمات؛ لذلك قال اللّه تعالى: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2).

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه؛ قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ

ص: 135


1- سورة الحجر، الآية: 56.
2- سورة يوسف، الآية: 87.

وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، فلذا فتح أمامه أبواب الرحمة بأوسع مصاريعها، لكي يتمكن من نيل تلك الرحمة، فإذا أخطأ فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يغلق عليه باب الرحمة، وإنّما يجعل أمامه طرقاً لكي ينال رحمته سبحانه وتعالى.

بين الرجاء والأمل

إن الإنسان يعيش ويعمل بدافع الأمل، ولولا ذلك لتحولت حياته إلى جحيم، ولترك العمل.

إن الطالب يذهب إلى المدرسة ويدرس ويطالع ويسهر على أمل أن يصبح عالماً، أو طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك، والتاجر أو الكاسب يذهب إلى عمله على أمل الربح، ولو كان يعرف مسبقاً أنه لن يربح شيئاً، بل سيخسر ما لديه فلن يذهب إلى العمل، بل يمكن أن تضطرب حالته النفسية لفقدانه الأمل بالحصول على منفعة.

ومن هذا المنطلق فإن اللّه سبحانه وتعالى يأمر الإنسان أن يكون آملاً برحمته؛ وينهاه عن اليأس والقنوط من رحمته، بل عدّهما من المحرمات الكبيرة، التي بارتكابها يستحق الإنسان النار لو لم يتب(2).

واليائس القانط يتصور أنه في جهنم على كل حال، فتسول له نفسه بأن يفعل ما يشاء، فيشرع بارتكاب كل أنواع المحرمات والمعاصي.

يقال: إن أحد حكام بلاد المسلمين كان يسافر إلى الخارج خلال شهر رمضان المبارك، وكان الهدف من ذلك التهرب من الصوم، وارتكاب الفسوق

ص: 136


1- سورة هود، الآية: 119.
2- انظر: الكافي 2: 276، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «الكبائر: التي أوجب اللّه عزّ وجلّ عليها النار».

والفجور، وحين سُئل: لماذا لا تصوم وتفعل المحرمات؟ قال: إنني أعرف بنفسي، فأنا من أهل جهنم، فلماذا أخسر الدنيا أيضاً؟!

للرجاء شرطان

الشرط الأوّل: العمل

مع أنه يجب على الإنسان المؤمن أن يعيش الأمل برحمة اللّه تعالى، لكن هذا لا يعني أن يتكاسل ويتحول الأمر إلى طول الأمل المذموم، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(1)، بل يجب على المؤمن أن يمزج بين الأمل والعمل، لئلا يصدق عليه قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل»(2)، لأن الإنسان الذي يأمل لا بدّ أن يعمل، ومن لا يعمل فهو لا يأمل أملاً واقعياً، بل يتكئ على طول الأمل؛ لذا فمن صفات المؤمنين أنهم يأملون رحمة اللّه تعالى، كما أنهم يخافون من عقابه سبحانه، قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}(3)، لأن الأمن من عذاب اللّه ومكره يُعد من الكبائر.

فيجب أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(4). وقال(عليه السلام): «ارج اللّه رجاءً لا يجرئك على

ص: 137


1- نهج البلاغة، الخطبة: 42.
2- نهج البلاغة، الحكم: 150.
3- سورة الإسراء، الآية: 57.
4- الكافي 2: 71.

معصيته، وخف اللّه خوفاً لا يؤيسك من رحمته»(1).

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(2)، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»(3).

والورع إنّما هو عن المحرمات، والاجتهاد يعني العمل وليس مجرد طول الأمل؛ فإنّ اللّه سبحانه وتعالى نهى عن المعاصي، وهناك شروط لغفران الذنوب، ولا يتم ذلك عبثاً، لأن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، فالأمل والانتظار سبب لقوة النفس والمثابرة والعمل الصالح.

الشرط الثاني: معالجة الانحراف قبل استفحاله

في القرآن الكريم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(4).

إن القلب هو المنطلق في أعمال الإنسان - الصالحة أو الطالحة - ، ولذا فإن انحراف القلب يجر الإنسان إلى الموبقات ومن ثم إلى الكفر أو النفاق، والزيغ في القلب يبدأ من أشياء صغيرة أو ما يتصورها الإنسان تافهة، لكن كل كبير يبدأ صغيراً ثم يكبر شيئاً فشيئاً، ولذا إذا لاحظ الإنسان من نفسه معصية صغيرة أو استصغار للذنوب فعليه أن يعلن حالة الطوارئ في نفسه للقضاء على هذا الانحراف القلبي، وبخلاف ذلك ستستمر حلقات استصغار الذنوب وارتكابها إلى أن يصل الأمر به إلى ما قاله اللّه تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن

ص: 138


1- وسائل الشيعة 15: 217.
2- الطمر: الثوب الخلق البالي.
3- نهج البلاغة، الرسالة: 45.
4- سورة آل عمران، الآية: 8.

كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(1).

فخطوات الشيطان مثل السلاسل، إذا تحركت حلقة واحدة تتحرك باقي الحلقات، فالذنب الصغير يجر ذنباً ثانياً وثالثاً وهكذا...، حتى يصل الإنسان إلى مجرد تمني التوبة من دون فعل شيء كما صنعه عمر بن سعد، فقد منّى نفسه بالتوبة لكن هل تاب صاحب هذا القول فعلاً؟ كلا، لم يتب؛ فاللّه تعالى لم يوفقه للتوبة لأن قلبه زاغ، وعندما يزيغ قلب الإنسان فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يهديه، بل يتركه على ضلاله حتى يدخل نار جهنم.

لذا علينا أن نرتب المقدمات الاختيارية لهداية أنفسنا، ونتجنب مقدمات الضلال حتى وإن كانت صغيرة، لأنه يمكن تجنب الانحراف في بداية الأمر، لكن إذا استمرّ فسوف يؤدّي إلى عواقب وخيمة.

فلا بدّ أن يجعل الإنسان قلبه طاهراً، فإذا لاحظ أنه انحرف في أحد الأيام فينبغي أن يعالجه، ويعود إلى جادة الصواب والعمل الصالح، حتى لو كان الانحراف صغيراً، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن اللّه أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئاً من معصيته فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئاً من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عباده فربما يكون وليه وأنت لا تعلم»(2).

إذن، علينا أن لا نستصغر حتى الذنب الصغير؛ لأنه ربما يكون سبباً في

ص: 139


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- كمال الدين وتمام النعمة: 296؛ وسائل الشيعة 1: 116.

غضب اللّه تعالى، لأن الإنسان لا يعلم بموازين اللّه، فقد يصفع أحدهم طفلاً يتيماً فيبكي لحظات وينتهي الأمر، لكن هذا العمل الصغير قد يكمن فيه غضب اللّه سبحانه وتعالى، فينزل غضبه.

لقد احترم الحر بن يزيد الرياحي الإمام الحسين(عليه السلام) حين قال له: «ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال له الحر: أمّا لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان، ولكن واللّه مالي من ذكر أمك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه»(1).

وقد يعتبر البعض أن هذه قضية عادية، لكن اللّه سبحانه وتعالى وفّق الحر للتوبة ولعل ذلك بسبب هذه الكلمة.

قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(2).

الأمل في أهل البيت (عليهم السلام)

إن قول اللّه تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}(3)، معناه أن هناك مجموعة من الناس يدعون الملائكة أو يدعون بعض الصالحين من الأنبياء، فيقول اللّه عزّ وجلّ: إن أولئك الذين تدعونهم هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فمثلاً: إن عيسى(عليه السلام) الذي

ص: 140


1- انظر: بحار الأنوار 44: 377، وفيه: «... فقال الحسين(عليه السلام): الموت أدنى إليك من ذلك ثم قال لأصحابه: فقوموا فاركبوا، فركبوا وانتظر حتى ركبت نساؤه فقال لأصحابه: انصرفوا فلمّا ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين(عليه السلام) للحر: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال له الحر: أمّا لو غيرك من العرب...» الخ.
2- مستدرك الوسائل 11: 264.
3- سورة الإسراء، الآية: 57.

يعبده النصارى هو نفسه يبتغي الوسيلة إلى اللّه سبحانه وتعالى، أو أن الملَك الذي يعبده بعض الناس هو بحاجة إلى وسيلة إلى اللّه سبحانه وتعالى، وكذلك الحال بالنسبة للجن، لأن بعض الناس كانوا يعبدون الجن، قال تعالى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1). لكن ما هي هذه الوسيلة؟

إنها وسيلة بشرية، حيث تقول الآية الشريفة: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، فإذا كان المراد بالوسيلة هنا الأعمال الصالحة كالصلاة والصوم وغير ذلك لكان التعبير عنها ب(أيها)، وليس ب(أيهم)، الذي يعود إلى ذوي العقول، أي: لا تعبدوا مثلاً عيسى وجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وبعض الصالحين؛ وذلك لأنهم هم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن الوسيلة هم محمّد وآله(عليهم السلام).

فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «الأئمة من ولد الحسين(عليه السلام) من أطاعهم فقد أطاع اللّه، ومن عصاهم فقد عصى اللّه عزّ وجلّ، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى اللّه عزّ وجلّ»(2).

ثم تكملة الآية: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، أي: إنهم يأملون ويرجون رحمة اللّه سبحانه وتعالى، في الوقت الذي يعملون ويتخذون الوسيلة، فلولا الأمل برحمته سبحانه لانحرف الإنسان عن الطريق.

إن وجود الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يأتي ضمن السنة الإلهيّة الكونية، لأن الأرض لا تخلو من حجة، وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها»(3).

ص: 141


1- سورة سبأ، الآية: 41.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 58.
3- بصائر الدرجات: 489.

لأن اللّه سبحانه كما أوجد القوانين المادية كالجاذبية، التي لو تم إلغاؤها لاضطربت الأرض وانهارت حياة الإنسان كذلك أوجد الإمام(عليه السلام) ليحفظ هذا الكون بأسباب جعلها اللّه عزّ وجلّ.

إن اللّه عزّ وجلّ جعل الإمام الحجة(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) لحفظ الكون من جانب، ولرعاية أمور الناس ولحفظ الأمل واستمراره من جانب آخر.

فقد كان أتباع أهل البيت(عليهم السلام) مضطهدين على مرّ التاريخ، فلو جرى هذا الاضطهاد على أية أمة أخرى لانقرضت؛ لكننا نلاحظ أن التشيع باقٍ، بل ويقوى ويزداد يوماً بعد يوم، إنها إرادة اللّه سبحانه وتعالى، حيث يقول: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1)، ويقول أيضاً: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2)، لكن اللّه سبحانه وتعالى يحقق إرادته عن طريق الأسباب والمسببات.

من هنا فإن الأمل هو الذي يضمن بقاء الدين الحق، لأننا نواجه المشاكل والمحن والضغوطات النفسية، فإذا عززنا الأمل في نفوسنا فسوف يجعلنا قادرين على تجاوز جميع المشاكل وأقواها.

فإن الإنسان إذا فقد الأمل فسينهار نفسياً ويستسلم، لكن بقاء الأمل بأن المنقذ سيظهر في يوم ما وسينقذنا هو الذي أدّى إلى بقاء التشيع واستمراره.

ص: 142


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- سورة التوبة، الآية: 33.

(18) أهمية الأمل برحمة اللّه مقروناً بالعمل

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1).

هناك حالتان للناس تجاه القضايا المختلفة، فبعضهم ينظر إلى الأشياء نظرة سلبية، فيرى كل شيء مظلماً أسود، ولا يرى الإيجابيات، وهناك صنف آخر من الناس يرى الجانب المضيء للأشياء مع محاولة علاج السلبيات.

وينبغي أن يكون الإنسان من الصنف الثاني إذا أراد أن يفوز في الدنيا والآخرة، وإذا أراد أن ينجح فعليه أن ينظر للأشياء نظرة إيجابية بعيداً عن السلبية.

روي: «أن عيسى(عليه السلام) مرّ والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عيسى(عليه السلام): ما أشد بياض أسنانه!»(2).

لعلّه أراد(عليه السلام) أن يعلّمهم أنكم إن رأيتم شيئاً فلا تفكروا بالجانب السلبي منه فقط، بل فكروا في جانبه الإيجابي أيضاً، فكل إنسان لا يخلو من سلبيات؛ لأن الإنسان الكامل هو المعصوم(عليه السلام)، ومَن عداه لا يخلو من نواقص أو عيوب، فينبغي أن يهتم الإنسان بعيوب نفسه قبل أن يُشغل نفسه بعيوب الآخرين.

ص: 143


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- مستدرك الوسائل 9: 121.

لو فكر الإنسان في الجانب الإيجابي فربما لا يصل إلى نتيجة أحياناً، لكنه في بعضها قد يصل إلى النتيجة المطلوبة، وأمّا إذا فكر في الجانب السلبي فدائماً لا يصل إلى النتيجة.

وتحقيق نتيجة جيدة في بعض الموارد خير من أن لا نصل إلى نتيجة إطلاقاً.

ولو كانت هذه الحالة السلبية - أي: النظر إلى الجانب السلبي فقط - موجودة لما انتشر الإسلام، فقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه أمير المؤمنين(عليه السلام) وخديجة(عليها السلام) حين بدأ الإسلام، وكانوا محارَبين من أهل مكة، لكنه صبر بأمر من اللّه تعالى، وواصل سعيه واستقام كما قال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(1)، لذا فالإسلام الآن أكثر الأديان أتباعاً، وأسرعها انتشاراً على الرغم من محاربة الكثيرين له وبأحدث الوسائل.

لكن ينبغي أن يكون التفاؤل والأمل ضمن حدودهما، لأن كل نعمة إذا تجاوزت حدها انقلبت إلى الضد، فالمطر - مثلاً - إذا نزل من السماء يُعد نعمة من اللّه، وإذا لم ينزل فتكون نقمة، لكن إذا نزل المطر أكثر من الحد فسوف يصبح سيلاً يهدم البيوت، ويتلف الزرع، ويجلب الويلات للإنسان، أمّا إذا كان ضمن حده فيكون نافعاً.

فيجب أن لا يتجاوز الأمل حده، ولا يتحول إلى حالة من الكسل والتواكل.

فقد ورد في الروايات أنه ينبغي على الإنسان أن يجتنب عن طول الأمل، بمعنى أن يأمل بالشيء من دون أن يعمل للحصول عليه، قال أمير المؤمنين: «لاتكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل»(2)، قال اللّه تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا

ص: 144


1- سورة هود، الآية: 112.
2- وسائل الشيعة 16: 151.

أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1).

روي أنه: «تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى باللّه منكم، فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الإسلام، فنزلت الآية(2)، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فأنزل اللّه تعالى الآية التي بعدها: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}(3) ففلح المسلمون...»(4).

فالآخرة لا تُنال بالأماني المجرّدة، بل يجب أن يكون عند الإنسان أمل برحمة اللّه، بشرط أن يكون مقروناً بالعمل.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(5).

بعض الناس يرتكب كثيراً من المعاصي آملاً الشفاعة. صحيح أن الشفاعة حق وهي تشمل جميع المؤمنين، لكن الإنسان الذي يعمل السيئات كيف يضمن استمراره على الإيمان؟ فقد كان كثير من الناس مؤمنين ثم ارتدّوا أو انحرفوا؛ قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَايَسْتَهْزِءُونَ}(6).

ص: 145


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- أي: قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ...}.
3- سورة النساء، الآية: 124.
4- بحار الأنوار 9: 77.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 42.
6- سورة الروم، الآية: 10.

فهناك كثيرون يموتون ويظن الناس أنهم ماتوا مؤمنين، لكنهم قد يكونون كفروا باللّه عند موتهم؛ مثلاً ورد في الحديث الشريف: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً»(1). فتركه الحج كان سبباً في أن يموت كافراً، والشفاعة لا تشمل الكافر، فأية ضمانة لدى هذا الشخص الذي يترك ما أمر به اللّه سبحانه وتعالى؟

ثم إنه إذا مات الإنسان العاصي الموالي فربما لا تشمله الشفاعة في البرزخ، فقد يكون معذباً إلى يوم القيامة.

كما أن اللّه قد لا يأذن بالشفاعة يوم القيامة فوراً، فربما تنال بعض الناس بعد الدخول في النار.

فيجب على الإنسان أن يأمل برحمة اللّه، ولا ييأس من روح اللّه، {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2)، ولكن إذا كان الإنسان يرجو الآخرة من دون عمل فسيكون من مصادق طول الأمل المذموم، الذي يسبب ويلات كثيرة على الإنسان، لكنه إذا كان آملاً متفائلاً ومقروناً بالعمل فهذا هو الشيء المطلوب، وهو الذي يوصل الإنسان إلى مرفأ الأمان.

إن كل شيء خلقه اللّه في الإنسان إنّما خُلِق لمصلحته، سواء في نفسه أم جسمه أم في هذا الكون، لكن المشكلة تنشأ من الإنسان نفسه، فقد يسيء الاستعمال.

حب الخلود

الإنسان لديه حب البقاء الأبدي، فكل يحب أن يخلد في الدنيا، ويعيش

ص: 146


1- الكافي 4: 268.
2- سورة يوسف، الآية: 87.

آلاف السنين ولا يموت، وكل إنسان يكره الموت.

وهذا الحب الدائم للحياة لا يختص باليهود الذين ذمهم القرآن بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٖ}(1) نعم، اليهود أكثر حرصاً فهم يودون الخلود في الدنيا، وودهم هذا مذموم؛ لأنهم يريدون صرف عمرهم في معصية اللّه.

فكلّ إنسان يحب أن يبقى إلى ما لا نهاية؛ وذلك لأن هذه الغريزة جعلها اللّه سبحانه وتعالى فيه، ونحن قد لا نعلم المصلحة في ذلك، لكن إذا لم نعلم ما هي تلك المصلحة فلا يعني أن هذا أمر خاطئ؛ بل نعلم أنها لمصلحة لأن الذي جعلها هو الخالق الحكيم.

ويمكن أن يقال: إن الإنسان مرّ منذ بدء الخلق بمراحل متعددة، منها: مرحلة عالم الذر، ومرحلة الرحم، ومرحلة الدنيا، ثم بعد ذلك سيمرّ بمرحلة القبر، والبرزخ، والقيامة، ثم الجنة أو النار ونحن لا نعلم الكثير عن هذه المراحل، وليس كل شيء خُلِق في الإنسان يتعلق بتلك المرحلة الخاصة التي يعيشها، بل ربما خُلق لمراحل مستقبلية ستأتي لاحقاً، فالطفل وهو في بطن أمه له عين لكنه لا يرى بها، فهل هذا الخلق لغو؟ صحيح أن الجنين لا يحتاج إلى العين في بطن أمّه، لكنه سيحتاجها في مرحلة الدنيا، لذلك لا يصح أن يتساءل الإنسان لماذا يوجد للجنين عين وأنف وغير ذلك؛ لعدم حاجته لها في بطن أمه؟

ولذا قيل: إن حالة حب الخلود لدى الإنسان لم تخلق لهذه الدنيا، وإنّما خلقت للآخرة؛ لأن الإنسان يكون خالداً فيها، صحيح أنه لا يستفيد الإنسان من

ص: 147


1- سورة البقرة، الآية: 96.

غريزة حب البقاء الأبدي في هذه الدنيا، فحينما ينتقل إلى الدار الآخرة فإذا كان من أهل الجنة فيتم إشباع هذه الغريزة في ذلك الوقت.

وهنا يأتي دور استثمار هذه الغريزة لمصلحة الإنسان، بأن يقال له: ما دمت تحب البقاء والخلود، فإن اللّه تعالى قد قدّر ذلك لك في الآخرة وفي النعيم الأبدي بشرط العمل الصالح، وإلّا انقلب الخلود وبالاً عليك بعذاب النار أبداً إن لم تؤمن ولم تعمل صالحاً.

ص: 148

(19) كسب رضا اللّه تعالى

قال اللّه سبحانه تعالى في كتابه الكريم: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(1).

أهم الأمور هو طلب رضا اللّه تعالى، لأنه الذي خلق الإنسان وغمره بالنعم، ولا يرضى اللّه تعالى إلّا بالصالحات ولا يسخط إلّا عن الأمور السيئة قال سبحانه: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}(2).

واتباع رضوان اللّه تعالى قد يكون فيه صعوبات ومشقة لكن في ذلك السعادة الأبدية والعزة في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة.

ولنذكر نماذج ممن اتبعوا رضوان اللّه ومن الذين رجّحوا الدنيا الفانية ولو بسخطه تعالى.

النموذج الأوّل: حينما صُرع عمرو بن عبدود العامري على يد أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في غزوة الخندق بصق عمرو في وجهه وشتمه. فماذا كان موقف أمير المؤمنين(عليه السلام) منه؟ يقول(عليه السلام): «قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثم قتلته في اللّه»(3).

ص: 149


1- سورة آل عمران، الآية: 163.
2- سورة الزمر، الآية: 7.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 115؛ بحار الأنوار 41: 50.

إن الحلم من العقل، وهو الصبر على جهل الجاهل، فالحليم من يتحلى بسعة الصدر وكظم الغيظ، فإذا شُتم فمن الطبيعي أن يغضب، لكن العقل والشرع يطلبان منه أن يكون حليماً ويضبط نفسه، ثم ينظر في ما بعد ما يجب عليه أن يفعل، فيفكر وينير هذا المصباح، أي: يستخدم الحكم العقلي في طبيعة رد الفعل.

النموذج الثاني: إذا تعامل الإنسان برويّة مع الأمور فإنه سيصل إلى نتيجة أفضل، وقد وُصف اللّه تعالى في أكثر من عشرة مواضع في القرآن الكريم بأنه حليم، كقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(1)، ولكن في موردين وصف الناس به، مرّة في إبراهيم(عليه السلام) قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٌ مُّنِيبٌ}(2)، ومرّة في إسماعيل قال تعالى: {فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ}(3)، وقد كان إبراهيم وإسماعيل حليمين.

وفي الحديث الشريف: «تخلقوا بأخلاق اللّه»(4)، والحلم من صفات اللّه، كذلك يمكن أن تكون هذه من صفات الناس؛ لذا ينبغي علينا أن نعرف صفات اللّه تعالى ونتخلق بها، إلّا في ما استثني من الصفات المخصوصة بالذات المقدسة، مثل المتكبر والجبار.

لقد رُزق إبراهيم(عليه السلام) بوليد بعد أن أصبح شيخاً كبيراً، وفي ريعان شبابه أمره اللّه تعالى بذبحه.

ص: 150


1- سورة البقرة، الآية: 225-235؛ سورة آل عمران، الآية: 155؛ سورة المائدة، الآية: 101؛ سورة الإسراء، الآية: 44؛ سورة فاطر، الآية: 41.
2- سورة هود، الآية: 75.
3- سورة الصافات، الآية: 101.
4- بحار الأنوار 58: 129.

لقد كان هذا الأمر بالنسبة لإبراهيم(عليه السلام) صعباً جداً، وكذلك بالنسبة للغلام، ومع ذلك كان جوابه لأبيه: {يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ}(1)، فقد استعمل كلمة (إن شاء اللّه) لأن كل صفة من صفات الخير بإذن وعون من اللّه سبحانه؛ لذا على الإنسان أن يلجأ إلى اللّه تعالى في المواقف الصعبة، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(2)، فقد ورد في بعض الروايات: أنه مرّر السكين على حنجرته(3)، لكن اللّه تعالى ما كان يريد أن يموت هذا الغلام، وإنّما كان اختباراً لإبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) وليجعله للناس إماماً: {وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰإِبْرَٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا}(4)، أي: نحن لم نكن نقصد أن يقتل هذا الغلام، وإنّما كنا نقصد اختبارك كما قال سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}(5)، ثم بعد ذلك فدى اللّه إسماعيل بذبح عظيم(6).

وجاء في تفسير الآية الكريمة: «... فلما عزم على ذبحه فداه اللّه بذبح عظيم، بكبش أملح يأكل في سواد ويشرب في سواد، وينظر في سواد ويمشي في سواد، ويبول في سواد ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى»(7).

وكان ذلك في منى، ولهذا أصبحت الاُضحية من واجبات الحج، هذا هو

ص: 151


1- سورة الصافات، الآية: 102.
2- سورة الصافات، الآية: 103.
3- مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 323.
4- سورة الصافات، الآية: 104-105.
5- سورة البقرة، الآية: 124.
6- سورة الصافات، الآية: 107: {وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٖ}.
7- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 210.

تفسير الآية.

وأمّا تأويل الآية الكريمة فهو أن هذا الذبح العظيم كان الإمام الحسين(عليه السلام)(1)، فقد أبقى اللّه تعالى إسماعيل ليجعل من ذريته رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة الطاهرون(عليهم السلام)، وفداه بهذا الذِبح العظيم.

النموذج الثالث: إن الإمام الحسين(عليه السلام) ضحى بكل شيء في سبيل اللّه سبحانه وتعالى، لأنه رأى أن الإسلام سيحرَّف إذا لم يقف بوجه التحريف.

لقد كان خطر التحريف يهدد الإسلام، عبر آليات ضخمة كان يمتلكها سلاطين الجور، ومن ذلك وضع الأحاديث المكذوبة ثم نسبتها إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكاد أن ينحرف الدين، وخروج الإمام الحسين(عليه السلام) واستشهاده منع سلاطين الجور الذين كانوا يريدون التحريف، فهم يخافون منه، لأن أتباع الإمام الحسين(عليه السلام) يقفون دائماً بوجه التحريف، الذي غالباً ما يكون واضحاً في البداية، لكنه عندما لا يُقاوم يصبح سنّة، وتعتبره الأجيال حقيقة ثابتة، ولهذا نرى سلاطين الجور يحاربون الإمام الحسين(عليه السلام) حتى يومنا هذا، فيقصفون قبته، ويقتلون زواره، ويمنعون قاصديه، ولكن: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2).

فكان الإمام الحسين(عليه السلام) مثالاً متجسداً للخير والعطاء، فهو مصباح الهدى، حيث يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحقه: «إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض، وإنه لمكتوب عن يمين عرش اللّه عزّ وجلّ: مصباح هدى وسفينة نجاة»(3)

ص: 152


1- انظر: البرهان في تفسير القرآن 4: 618.
2- سورة التوبة، الآية: 32.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 62.

وليس مصباحاً فقط؛ بل هو أيضاً السفينة التي ينجو من يركبها، وقد جاء في دعاء شهر شعبان المعظم عن الأئمة(عليهم السلام) أنهم سفن النجاة(1).

وعن بعض العلماء أنه قال: إن سفينة الحسين(عليه السلام) أسرع، ولعل سبب سرعتها أن قضية الإمام الحسين(عليه السلام) امتزج فيها العقل بالعاطفة، فهي أسرع في تحريك الناس وتوجيههم.

فالإمام الحسين(عليه السلام) مصباح وسفينة، وينبغي علينا أن نتبعه، وإذا لم نتبعه فهو لا يتضرر من ذلك؛ لأن اللّه تعالى أعطاه من المقام والمنزلة ما لا يحتاج إلينا إطلاقاً، ولكن إذا اتبعناه فنحن الذين سننجو.

وقد قالت السيدة زينب(عليها السلام): «وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علواً»(2).

ورد في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام): «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»(3).

المهجة: هي الدم الذي يجري في القلب(4)، وإذا سُفك هذا الدم سيموت الإنسان.

إن هذا التعبير و«بذل مهجته فيك» بمعنى أنه(عليه السلام) قدّم حياته في سبيل اللّه عزّ وجلّ، ولكن ماذا ترتّب على استشهاده؟

الجواب: «ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»، واللام هنا للعاقبة،

ص: 153


1- انظر: البلد الأمين: 186، وفيه: «اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق».
2- بحار الأنوار 45: 180؛ جامع أحاديث الشيعة 12: 332.
3- تهذيب الأحكام 6: 113؛ المزار: 514؛ إقبال الأعمال 3: 102.
4- العين 3: 397؛ الصحاح 1: 342.

أي نتيجة استشهاده كانت إنقاذ الناس، لأنهم في كثير من الأحيان يجهلون الأشياء، فينبغي إنقاذهم من الجهل، أمّا حيرة الضلالة، فإن الإنسان يضل الطريق ويكون في حيرة من أمره، خاصة إذا كان في (صحراء) مليئة بالمخاطر، لذلك ترى الإنسان يضطرب في البر، كذلك بالنسبة للإنسان الذي يتيه ويضيع في العقيدة والممارسات، يكون محتاراً في مأزق الضلالة.

إن هذا المقطع من الزيارة يبيّن أن الهدف من خروج الإمام الحسين(عليه السلام) هو أنه قدم نفسه وأهل بيته في سبيل اللّه، وترتب على ذلك الاستنقاذ من الجهالة والحيرة.

لذا ينبغي أن يكون الهدف في كل برامجنا هو رضا اللّه تعالى، فإذا حضرنا مجلساً أو ذهبنا للزيارة في يوم الأربعين أو في مناسبات اُخرى في العزاء والإطعام على حب الإمام الحسين(عليه السلام) وفي الشعائر الحسينية، يجب أن يكون هدفنا الأساسي هو رضا اللّه عزّ وجلّ، وإزالة الجهل والضلال؛ لأن الأعمال كالجسم، والجسم لا بدّ أن تكون له روح، فإذا كان الإنسان ميتاً يجب أن تواريه في التراب فوراً؛ أمّا إذا كانت هناك روح في الجسم فتراه جسماً سوياً.

إذا صلّى الإنسان، فإن الصلاة كالجسم، وإذا كانت الصلاة رياءً فلا تكون هذه الصلاة صحيحة؛ لأن روح الصلاة هو الإخلاص، فإذا كانت الصلاة خالية من الإخلاص فهي بلا روح، قال اللّه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(1)؟!

كذلك بقية الأمور والشعائر، فهي بمثابة الجسم الذي يجب أن تكون له روح، وهذه الروح هي الإخلاص للّه عزّ وجلّ.

ص: 154


1- سورة الماعون، الآية: 4-7.

والروح تعني هنا أن نتعلم من الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه.

إن اللّه عزّ وجلّ لطيف بعباده ويريد لهم الخير، لكنهم يجب أن يكونوا أهلاً لذلك، فالأرض الصالحة يمكن أن ينبت فيها الزرع، لكن الأرض السبخة لا تصلح للزراعة، وإذا جاء المطر وكانت الأرض غير صالحة للزراعة فلن ينبت فيها الزرع، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(1)، فرحمة اللّه تعالى عامة، لكن يجب أن نستحقها وذلك بالعمل الصالح واتباع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) في كل شيء، في معرفة القرآن الكريم وسنة الرسول والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وسيرتهم واُسلوبهم، فقد كانوا في كل صغيرة وكبيرة يفضلون رضا اللّه على كل شيء.

النموذج الرابع: يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر»(2)، وقد منع اللّه عزّ وجلّ القيام بهذه الأمور، لكن معاوية ارتكب كل المحرمات، ونتيجة لذلك استولى على الحكم، وكان الإمام(عليه السلام) يعرف كل ذلك لكنه يقول: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور»(3)، أي: أنا أستطيع أن انتصر على معاوية بالجور ولكن هيهات فأنا لست ممن يفعل ذلك، ويقول الإمام(عليه السلام) أيضاً: «وإني لعالم بما يصلحكم»(4)، أي: إنني أعرف كيفية تأديبكم، ولكن لن ارتكب محرماً حتى تصلحون، فلست بفاعل ذلك.

كان جيش أمير المؤمنين(عليه السلام) في معركة صفين أقل من جيش معاوية من

ص: 155


1- سورة الأعراف، الآية: 58.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 200.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 126.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 69.

حيث العدد والعدّة، ولكن جيش الإمام كاد أن ينتصر؛ لأن خطط الإمام(عليه السلام) كانت صحيحة، لكن مجموعة من أصحاب الإمام ثاروا ضده وانخدعوا بالمصاحف التي رُفعت على الرماح، يقول ابن أبي الحديد: «وقد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأرسل إليه علي(عليه السلام) يزيد بن هاني أن ائتني، فأتاه فأبلغه، فقال الأشتر: ائته فقل له: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلى علي(عليه السلام) فأخبره، فما هو إلّا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام، فقال القوم لعلي: واللّه ما نراك أمرته إلّا بالقتال! قال: أرأيتموني ساررت رسولي إليه! أليس إنّما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون! قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلّا فواللّه اعتزلناك! فقال: ويحك يا يزيد! قل له: أقبل إليّ، فإن الفتنة قد وقعت. فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما واللّه لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة، إنها مشورة ابن النابغة! ثم قال ليزيد بن هاني: ويحك! ألا ترى إلى الفتح! ألا ترى إلى ما يلقون! ألا ترى الذي يصنع اللّه لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه! فقال له يزيد: أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه، ويسلم إلى عدوه! قال: سبحان اللّه! لا واللّه لا أحب ذلك، قال: فإنهم قد قالوا له، وحلفوا عليه، لترسلن إلى الأشتر فليأتينك، أو لنقتلنك بأسيافنا، كما قتلنا عثمان، أو لنسلمنك إلى عدوك. فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ! وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه به فيها، وتركوا سنة من أنزلت عليه، فلا

ص: 156

تجيبوهم ! أمهلوني فواقاً، فإني قد أحسست بالفتح...»(1).

لقد كانت خطط الإمام(عليه السلام) صحيحة لكن الكثير من أصحابه خذلوه، وكانت النتيجة أنهم خسروا أنفسهم؛ لأن معاوية سيطر عليهم وأذلّهم، وأذلّ أبناءهم يقول الإمام الحسن(عليه السلام) لهم: «كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله اللّه لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم»(2)، إنهم خذلوا إمامهم(عليه السلام) وتصوّروا أنهم ظفروا بالدين والدنيا، لكنه كان وهماً باطلاً فقد خسروا الدنيا والآخرة، أمّا أصحاب معاوية حين نصروه حصلوا على الدنيا، وإن كانوا قد خسروا الآخرة.

النموذج الخامس: بعد يوم السقيفة، خطبت فاطمة الزهراء(عليها السلام) خطبتها المعروفة عندما خذلوا أمير المؤمنين ولم ينصروه فقالت لهم: «ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً»(3)، والدم العبيط: هو الدم الأسود الغليظ، والقعب هو الإناء الذي يوضع تحت الإبل لاحتلابها، أي: إن نتيجة عملكم هو أن تسيل دماؤكم بأنفسكم، ولو كان قد نصر الإمام(عليه السلام) في يوم السقيفة أربعون شخصاً لما كان أُهدِر حقه، وتكون النتيجة أنه بعد خمسين سنة يقتحم جيش يزيد بن معاوية المدينة، وكان مجموع القتلى عشرة آلاف شخص، منهم حدود الخمسمائة من أصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد استبيحت المدينة ثلاثة أيام، والسبب أن اللّه تعالى أنزل رحمته إليهم - وهو أمير المؤمنين علي(عليه السلام) - لكنهم رفضوا هذه الرحمة وخذلوا الإمام علياً(عليه السلام)، فكانت هذه النتيجة المعروفة.

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة 2: 217.
2- علل الشرائع 1: 221؛ بحار الأنوار 44: 33.
3- الاحتجاج 1: 109؛ بحار الأنوار 43: 159.

(20) الأسباب الظاهرية والواقعية

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(1).

هناك أسباب قدّرها اللّه سبحانه وتعالى في هذا العالم، وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(2).

فلا يمكن للإنسان أن يصل إلى النتيجة إذا هيّأ تلك الأسباب.

إن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الأشياء من غير مقدمات، كما خلق آدم(عليه السلام) من غير أبوين، وخلق عيسى(عليه السلام) من غير أب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(3)، إلّا أن حكمته اقتضت أن تجري الأمور عبر أسبابها، فيكون كل شيء عن طريق الأسباب إلّا ما استثني، فاللّه قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَئًْا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(4)، ولكن الحكمة اقتضت أن يخلق السماوات

ص: 158


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- الكافي 1: 183.
3- سورة آل عمران، الآية: 59.
4- سورة يس، الآية: 82.

والأرض فيستة أيام، أي: ست مراحل، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَٰلَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَٰتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوْمَيْنِ}(1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ}(2).

ثم إن الأسباب على قسمين: ظاهرية وواقعية.

أمّا الأسباب الظاهرية: فهي أمور تجري ضمن القوانين الطبيعية والتي قد تكون بيد الإنسان، وعليه أن يسير فيها لكي يصل إلى النتيجة، فمن أراد أن يسافر فمن الطبيعي أن يقطع المسافة إمّا بالمشي أو السيارة أو الطائرة أو أي وسيلة أخرى، وبدون ذلك فلا يمكنه أن يقطع المسافة ويصل إلى المكان الذي يريده.

وأمّا الأسباب الواقعية: فهي الأمور التي لا تجري ضمن القوانين الطبيعية بل هي غيبيّة وهي خارجة عن اختيار الإنسان، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل طريقاً للإنسان لتحصيل بعض تلك الأسباب.

ولنذكر مجموعة من الأمثلة:

المثال الأوّل: الموت

السبب الواقعي لموت الإنسان هو العامل الغيبي، فمرّة يقبض اللّه روح الإنسان بصورة مباشرة، وهناك أناس يقبض أرواحهم عزرائيل ملك الموت،

ص: 159


1- سورة فصلت، الآية: 9-12.
2- سورة ق، الآية: 38.

وآخرون يقبض أرواحهم أعوان ملك الموت، قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(1)، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}(2)، وقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(3)، إلّا أن السبب الظاهري للموت هو الأسباب الطبية المعروفة أو الأعراض كحادث سير مثلاً، أو غير ذلك، فهناك سبب واقعي وظاهري.

واللّه سبحانه وتعالى جعل السبب الواقعي متزامناً مع السبب الظاهري؛ ولذا فمع شدة نار جهنم لا يموت فيها أهلها، قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ}(4)، وقال عزّ وجلّ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}(5)، فسبب الموت الظاهري هناك لا يؤثر، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يريد موته.

إذا كان كذلك، فما هو تكليفنا؟

والجواب: إن الإنسان إذا عمل بالسبب الظاهري فاللّه سبحانه وتعالى قد يرتب السبب الواقعي، إلّا أننا ليس لنا طريق للأسباب الواقعية، إلّا أن ندعو اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا، بأن يجعل الأسباب الواقعية وفق ما نريده بما فيه المصلحة، وأن نتوكل على اللّه سبحانه وتعالى، والتوكل يعني أن نعمل بما علينا ونترك الأسباب التي ليست بيدنا إلى اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 160


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة السجدة، الآية: 11.
3- سورة الأنعام، الآية: 61.
4- سورة إبراهيم، الآية: 17.
5- سورة النساء، الآية: 56.

المثال الثاني: رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين العمل والتوكل

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل مخلوق خلقه اللّه، ومع ذلك كان يسير وفق الأسباب الطبيعية، فعندما أراد المشركون أن يقتلوه خرج من مكة، وهكذا خرج موسى(عليه السلام): {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}(1)، ثم في الحروب التي شنت ضدّه راعى جميع الأسباب الظاهرية.

ينقل أن ضابطاً في إحدى الجيوش العربية درس غزوات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنظار حربي فقال: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتخذ أفضل الخطط العسكرية الحربية، والهزيمة التي حدثت في أحد كانت بسبب مخالفة المسلمين، فالرماة الذين كانوا على ثغر الجبل تخلّوا عنه، وخالفوا أمر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولذا حصلت الهزيمة.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يحتاج إلى رأي المسلمين؛ لأنه معصوم مسدّد من قبل اللّه سبحانه وتعالى، لأن العصمة تعني أنه لا يخطأ ولا يسهو ولا يغلط في قوله وفعله وفكره، سواء كان في ما يرتبط بالتبليغ أم في القضايا العادية، ومع ذلك يقول له اللّه سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2) وهذه صيغة أمر، والأمر يدل على الوجوب، وهذا يعني أنه يجب على الرسول أن يشاورهم، لا لحاجة له إلى آرائهم، وإنّما تحبيباً لقلوبهم وهذا من الأسباب الظاهرية.

نعم، نحن نحتاج للمشورة لأنه توجد عندنا أخطاء وجهل فلنحاول اكتشاف ذلك من خلال المشورة، ولذا ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «ومن شاور

ص: 161


1- سورة القصص، الآية: 21.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

الرجال شاركها في عقولها»(1).

ثم قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(2)، أي: إذا رتبت كل المقدمات، فتوكل على اللّه. لأن هناك أسباب خارجة عن إرادتك وهي التي ترتبط بمشيئة اللّه تعالى بأن تترتب النتائج على المقدمات أم لا.

المثال الثالث: الرزق والعلم

إن السبب الواقعي للرزق هو تقدير اللّه تعالى له، لكن قرن هذا السبب الواقعي بالسبب الظاهري، فمن ذهب للعمل فسوف يرزقه اللّه، وأمّا لو أصبح الإنسان كسولاً متكلاً على غيره ولم يعمل بالأسباب الظاهرية، فاللّه سبحانه وتعالى لا يرتب السبب الواقعي، حتى وإن دعا اللّه ليل نهار.

وهكذا بالنسبة إلى العلم هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء لكن بعد أن يدرس ويجد لكي يحصل على العلم. إن علماءنا الكبار قضوا عمرهم الشريف في الجد والاجتهاد والسهر لطلب العلم، فإنّ من طلب العلى سهر الليالي.

المثال الرابع: علم الدين

إن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يدخل هذا الدين في قلب كل إنسان، كما أوحى إلى الأنبياء(عليهم السلام)، وإلى أم موسى، وإلى النحل، فكان يمكنه أن يوحي هذا الدين لكل فرد منّا، لكنه جعل لذلك طريقاً ظاهراً وهم الرسل ومن بعدهم الأوصياء(عليهم السلام)، فقد أرسل الرسل وأنزل الكتب، والرسول واسطة بين اللّه وبين الناس، وجعل بعد الرسل أوصياء، فقد اختار رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واصطفاه لرسالته، وجعل بعده الأئمة(عليهم السلام)، فحجة اللّه موجودة في الأرض من يوم أن خلق

ص: 162


1- نهج البلاغة 4: 41.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

اللّه آدم إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، فآدم(عليه السلام) أوّل حجة للّه، فبدأ اللّه بالخليفة قبل الخليقة، فخليفة اللّه على الأرض موجود، وإذا مات سابق يأتي لاحق، ولذا قال الإمام الصادق(عليه السلام) في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}(1): «ما نميت من إمام أو نُنسه ذكره نأت بخير منه من صلبه مثله»(2)، لأنه إذا لم يكن هناك إمام فالأرض سوف تبقى خالية من الحجة، بينما ورد عنهم(عليهم السلام): «لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها»(3).

فالأنبياء(عليهم السلام) هم الطريق الظاهر لتبليغ الرسالات، وبعدهم الأوصياء(عليهم السلام).

وأمّا في زمن الغيبة فالعلماء الربّانيون، وهذا ما أشار له قوله(عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(4)، أي: يرجعون إليه في مسائل الدين.

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يعمل بالأسباب الظاهرية، ويوكل الأسباب الواقعية إلى اللّه سبحانه وتعالى، فإذا فعل هذا فسوف يوفقه اللّه سبحانه وتعالى، لأنه يقول: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(5).

ص: 163


1- سورة البقرة، الآية: 106.
2- تفسير العياشي 1: 56؛ بحار الأنوار 4: 116.
3- بصائر الدرجات: 509.
4- وسائل الشيعة 27: 131؛ الاحتجاج 2: 263.
5- سورة الطلاق، الآية: 3.

(21) سنن اللّه لا تتغير ولا تتبدل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(1).

من سنن اللّه سبحانه وتعالى التي لا تُبدّل ولا تُغيّر هي أن الحق الصحيح الثابت يفرض نفسه في نهاية الأمر، مهما طال الزمن وبالرغم من محاولات القضاء عليه، وأن الحق لا يزول على الرغم من أن وسائل المبطلين قوية جداً في الظاهر، ولكنها ضعيفة في الواقع، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا}(2).

السنن التكوينية والتشريعية

فسنّة اللّه سبحانه وتعالى في هذا الكون تفرض نفسها، سواء في الأمور التكوينية أم الأمور التشريعية، فلا يوجد خلل في الكرة الأرضية، وإذا حدث خلل فبسبب الناس، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(3)، فأي خلل يحدث في أي مكان في الأرض فسوف ينتهي ويصلح، لأن طبيعة الأرض وطبيعة القوانين الحاكمة على الكرة الأرضية تقتضي إصلاح ذلك

ص: 164


1- سورة التوبة، الآية: 40.
2- سورة النساء، الآية: 76.
3- سورة الروم، الآية: 41.

الخلل، فنحن نسمع في الأخبار عن وجود التلوّث البيئي وتلوّث البحار، لكن هذا التلوّث يزول بمرور الزمن من تلقاء نفسه؛ لأن القانون الفيزيائي التكويني الحاكم على الكرة الأرضية هو الذي يرجع الأرض إلى ما كانت عليه. هذا بالنسبة إلى التكوين، وكذلك بالنسبة إلى التشريع.

إلّا أن الفرق بين القانون التشريعي والتكويني هو أن اللّه سبحانه وتعالى يجري القانون التكويني شئنا أم أبينا، بينما يأمرنا اللّه سبحانه وتعالى بالقانون التشريعي، ونحن مختارون، فإن شئنا أطعنا وإن شئنا عصينا، فالقانون التشريعي يعني النظام الذي ارتضاه اللّه للناس، وخلقهم منسجمين معه، وهذا النظام التشريعي يفرض نفسه حتى إذا عارضه الناس.

غلبة الإسلام على الأديان

هناك آيتان في القرآن: إحداهما في سورة التوبة والأخرى في سورة الصف: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، واللام في (ليظهره) لام العاقبة، أي: إن النتيجة هي أن هذا الدين سيتغلّب على جميع الأديان، وهذا ليس مجرد أمر غيبيّ وإنّما يقع هذا النصر ضمن القانون الطبيعي أيضاً، فدين الإسلام هو دين الحق، وقوانينه حقّ ومتطابقة مع النظام التكويني لفطرة الإنسان، ومتطابقة مع تركيبة الإنسان، فلذا سوف تفرض هذه القوانين نفسها ولو بعد حين.

صحيح، أن هذا الأمر سيتحقّق حين ظهور الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) لكن الإمام(عليه السلام) عندما يظهر يسير بسيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة أمير المؤمنين(عليه السلام).

ص: 165


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

كيفية عمل الرسول وأمير المؤمنين (عليهما السلام)

إن رسول اللّه وأمير المؤمنين(عليهما السلام) لم ينتصرا بالغيبيات فقط، وإنّما انتشر الدين وهُدي الناس وطُبقت أحكام الشرع بالطريق الطبيعي الذي جعله اللّه تعالى، فعندما أعلن النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعوته أراد المشركون قتله فهاجر، وعندما هاجم المشركون على المسلمين دافعوا عن أنفسهم، وانتصروا عندما عملوا بأوامر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة بدر، ولكنهم انهزموا عندما خالفوا أوامره في غزوة أحد، وأمّا في غزوة حنين ففي البداية خالفوا أمر الرسول فانهزموا: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}(1)، إلّا أنهم عندما رجعوا لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نصرهم اللّه سبحانه وتعالى.

والانقلاب الذي حدث بعد رحيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن خارجاً عن المعادلات الظاهرية، حيث جاءوا بقبيلة أسلم حتى تضايقت بهم أزقة المدينة(2)، وهجموا على دار أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحينما خذله أكثر الناس لم يخرج أمير المؤمنين(عليه السلام) بالسيف، وحينما وجد أنصاراً قام، إلّا أنه نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، فتعامل معهم أمير المؤمنين(عليه السلام) بالتعامل الشرعي، فحينما ذهبوا إلى البصرة واحتلوها وقتلوا خمسين شخصاً من المؤمنين، واستولوا على بيت المال، وقبضوا على والي الإمام(عليه السلام) في البصرة ونتفوا لحيته، حين ذلك خرج من المدينة إلى ذي قار، وبقي هناك خمسة عشر يوماً، وأرسل الإمام الحسن(عليه السلام) وعمار بن ياسر إلى الكوفة لكي يحثّوا الناس على الالتحاق بجيش

ص: 166


1- سورة التوبة، الآية: 25.
2- راجع تاريخ الطبري 2: 458-459.

أمير المؤمنين(عليه السلام)، فجيّشوا جيشاً والتحقوا بالإمام(عليه السلام)، وبعد ذلك ذهب إلى البصرة. وكذلك الحال في صفين والنهروان(1).

والحاصل: إن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) سار بالطرق الطبيعية، لكن بسبب خذلان الناس حدثت أزمات ومشاكل.

لو تأملنا لوجدنا أن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) محارب منذ العهد الأوّل وإلى يومنا هذا، فقد ارتكبت أبشع الجرائم ضد أهل البيت(عليهم السلام) وأنصارهم على طول التاريخ، فقد كانوا مضطهدين في كل المناطق، وقد قتلهم الأعداء في كل مكان.

لكن سيفرض مذهب أهل البيت(عليهم السلام) نفسه ولو بعد حين.

آية الغار

وهذا لا يعني أننا لسنا مكلّفين، بل يجب علينا السعي في ذلك دائماً، والآية تشير إلى هذه الحقيقة حيث قال اللّه تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} فإذا خذلتم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا لا يضرّه وحيث إن المثال لا بدّ أن يتطابق مع المُمثل، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان وحده، وحتى من كان معه لم ينصره.

ثم قال اللّه تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} حيث أخرجه كفار قريش وحده، ولم يخرجو صاحبه، لأنهم أرادوا قتل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إن الإخراج يتحقق بإحدى طريقتين: إمّا أن يمسكه الأعداء ويخرجوه ويبعدوه، وإمّا أن يفعلوا فعلاً يضطرّ للهجرة والخروج، وقد نصر اللّه رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم ينصر غيره؛ لذا قال تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ} ولم يقل: (إذ أخرجهما).

نعم كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصاحبه في الغار: ولذا قال سبحانه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}

ص: 167


1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 187-188.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصاحبه، {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. إن البعض يستدل بهذه الآية على فضيلة للصاحب، لكن وجود نفرين في مكان واحد ليس دليلاً على فضيلة الصاحب، وإلّا فمسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أفضل من الغار وكان فيه المؤمنون والمنافقون، فإذا كان وجود شخص مع الرسول دليلاً على فضيلته لكان وجود المنافقين مع الرسول في المسجد فضيلة لهم؛ لأنهم كانوا مع الرسول في المسجد، وهو أفضل من الغار. إذن، فصحبة نفرين لا يعد فضيلة؛ لأنه يمكن تحقق صحبة المؤمن مع الكافر، والكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن.

ثم قال اللّه تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} والمعية في القرآن تستعمل أحياناً بمعنى معية النصرة، وأحياناً تستعمل بمعنى معية الإطلاع، كما في قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}(1)، فهذه معية العلم، أي: إن علم اللّه سبحانه وتعالى مع كل شيء، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}(2)، وعليه فقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بمعنى معية علم اللّه بحالنا، وأنه سوف ينجينا من هذه المشكلة، فهل يعتبر هذا فضيلة؟ كلا، لأن اللّه كما ينجّي المؤمنين كذلك ينجّي المشركين والكفار أيضاً كما قال: {فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(3).

ثم قال اللّه تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فقد أنزل اللّه سبحانه وتعالى السكينة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقط، ولم يقل: (فأنزل سكينته عليهما) مع أن

ص: 168


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة المجادلة، الآية: 7.
3- سورة العنكبوت، الآية: 65.

السكينة في القرآن كلّما نزلت على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزلت على المؤمنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(1)، وكذلك في سورة الفتح: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(2)، وقال أيضاً: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَٰنًا مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ}(3)، لكن المورد الوحيد الذي نزلت السكينة فيه على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون الصاحب هو في آية الغار، حيث قال تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون الصاحب، وهذه قرينة على أنه لم يكن مؤمناً أصلاً، كما أنها قرينة أيضاً على أن المعية في (معنا) ليست بمعنى النصرة والتأييد، وإنّما معية العلم والنجاة من الهلكة.

إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان في أشد الحالات من حيث الضعف الظاهري، فقد كان مطارداً في غار، وليس معه سلاح، وإنّما معه شخص لم ينصره؛ حيث قال اللّه: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}، ولم يقل: (فقد نصره اللّه ونصره صاحبه) ففي أشد حالات الضعف الظاهري نصر اللّه سبحانه وتعالى رسوله، ولكن ضمن القاعدة العامة، وهي: إن الحق يفرض نفسه، وإذا نزلت مصيبة أو مشكلة في يوم من الأيام فإن هذا لا يؤدّي إلى زوال الحق، لأن اللّه يمتحن الناس، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ}(4)، والامتحان ينتج المشاكل:

ص: 169


1- سورة التوبة، الآية: 25-26.
2- سورة الفتح، الآية: 26.
3- سورة الفتح، الآية: 4.
4- سورة التوبة، الآية: 126.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(1)، أو كما في قوله تعالى في قضية طالوت: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَ بِيَدِهِ}(2).

تكليفنا في نشر الدين

إن اللّه سبحانه وتعالى سينصر هذا الدين شاء الكفار أم أبوا، لكن هذا لا يرفع التكليف من عاتقنا.

إن بعض الناس يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتركون هداية الناس؛ لأنهم يتصورون أن ذلك وظيفة الإمام المهدي(عليه السلام) حينما يظهر ولا وظيفة لهم!

صحيح، إن اللّه سيأمر الإمام المهدي(عليه السلام) بالظهور، وقد ادّخره لإقامة العدل في كل الأرض، لكن هذا لا يعني أن يتخلى الإنسان عن تكليفه، فإنه لا يصح أن يقول قائل: أنا لا أصلي صلاة الصبح - مثلاً - لأن الإمام يأتي ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً. إن هذا المنطق غير صحيح؛ لأنه يجب علينا أن نؤدّي واجباتنا حتى لو فرض أنا علمنا بأن الإمام(عليه السلام) سيظهر غداً؛ لأن هذه الواجبات مطلقة وليست مشروطة بشيء، فعلى كل فرد منّا أن يساهم في نشر الدين، لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»(3)، فمن يتمكن أن يساهم في نشر

ص: 170


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة البقرة، الآية: 249.
3- عوالي اللئالي 1: 129.

الدين بماله فيلزم عليه ذلك، ومن يتمكن من ذلك بكلمة فليساهم، وهكذا... .

نعم، مقدار التمكن وكيفيته تختلف من شخص لآخر.

إن الدفاع عن الحق لا ينحصر في أسلوب واحد فقط، بل يمكن ذلك من خلال الكلمة، والكتابة والإعلام وغيرها، وهناك طرق متعددة للدفاع عنه، فلو لم يدافع الإنسان وهو يستطيع ذلك فسوف يكون ضمن سجل الظالمين، ولذا ورد في أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين(عليه السلام): «اللّهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره»(1)، فإذا ظلم شخص وأنا حاضر ولم أنصره فسوف أحشر يوم القيامة مع الظالمين لهذا المظلوم، وهذا يعني أنه يجب علينا أن ننصر المظلوم العادي إن كان ذلك باستطاعتنا، وكلٌ بطريقته الخاصة، فما بالك إذا كان ذلك المظلوم الإمام المنصوب من قِبل اللّه تعالى.

والحاصل: أن دين الحق سيفرض نفسه ولو بعد حين، على رغم كل المشاكل، لأن اللّه سبحانه وتعالى يقيّض أناساً لنصرة هذا الدين، لكن إذا ساهم كل واحد منّا فقد أدّى التكليف الذي عليه، ويكون قد عجّل في النتيجة؛ لأن سرعة أو تأخير ظهور الإمام(عليه السلام) مرتبط بأعمالنا، فقد يكون من أسباب تأخير الظهور عدم وجود أنصار للإمام المهدي(عليه السلام)، فأمره اللّه تعالى بالغيبة، وحينما يجد أنصاراً بالمقدار الكافي قد يأمره اللّه تعالى بالظهور.

كما أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن مأموراً بالجهاد في مكة لعدم وجود الأنصار، لكن عندما هاجر إلى المدينة أصبح عنده أنصار، ولذا اُمر بالجهاد فأنزل اللّه تعالى قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(2).

ص: 171


1- الصحيفة السجادية: 166.
2- سورة الحج، الآية: 39.

وهكذا حال أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول: «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجا، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا»(1)،

لكن بعد مقتل عثمان وجد الأنصار، لذا قال(عليه السلام): «فما راعني إلّا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم... أمّا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(2).

ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)

لقد ورد في بعض الروايات أنه للإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ثلاثمائة وثلاثة عشر من الأنصار، وهؤلاء هم الحلقة المقرّبة إلى أن يكملوا عشرة آلاف فعن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: قلت لمحمّد بن علي بن موسى(عليهما السلام): «إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمّد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقال(عليه السلام): يا أبا القاسم، ما منّا إلّا وهو قائم بأمر اللّه عزّ وجلّ، وهادٍ إلى دين اللّه، ولكن القائم الذي يطهر اللّه عزّ وجلّ به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنيه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، ويجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر:

ص: 172


1- نهج البلاغة 1: 31.
2- نهج البلاغة 1: 35.

ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1) فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر اللّه أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن اللّه عزّ وجلّ، فلا يزال يقتل أعداء اللّه حتى يرضى اللّه عزّ وجلّ...»(2).

والإمام(عليه السلام) إذا أراد أن يحكم العالم فلا بدّ له من أعوان وولاة وقضاة وجنود، ويجب أن يكون هؤلاء في قمة العلم والورع والتقوى، وأمّا تأخير ظهوره فمن أسبابه أن هؤلاء الجنود غير موجودين لحدّ الآن.

والحاصل: أنه ينتصر لكن تقريبه أو تأخيره بأيدينا، وعلينا أن نحاول، فلو وصل إنسان إلى تلك الدرجة الرفيعة بأن صارت له القابلية أن يكون من الثلاثمائة والثلاثة عشر أو من العشرة آلاف ثم مات قبل ظهور الإمام(عليه السلام)، فإن اللّه سبحانه وتعالى قد يرجعه إلى الدنيا حين ظهور الإمام، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «المؤمن ليخير في قبره إذا قام القائم، فيقال له: قد قام صاحبك، فإن أحببت أن تلحق به فالحق، وإن أحببت أن تقيم في كرامة اللّه فأقم»(3). وروي في فضل دعاء العهد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) أنه قال: «من دعا إلى اللّه أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فان مات قبله أخرجه اللّه تعالى من قبره، وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة»(4).

ص: 173


1- سورة البقرة، الآية: 148.
2- كمال الدين وتمام النعمة: 377.
3- دلائل الإمامة: 479.
4- بحار الأنوار 53: 96.

(22) كل ما في الكون هو حق

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى هذا الكون بالحق، وجعل جميع القوانين التي فيه بالحق، فإذا خالف الإنسان تلك القوانين فهو المتضرر.

لقد جعل اللّه الجاذبية، وجعل النار محرقة، وجعل كثيراً من الأمور الأخرى، فإذا كان شخص لا يعترف بالجاذبية ثم ألقى بنفسه من شاهق فسوف تسحبه الجاذبية ويسقط، وربما يموت، فهذا النظام يجري سواء أعترف به أم لا.

وإذا سار الإنسان على طبق هذه القوانين التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى فسوف يعيش عيشة هانئة مرفّهة من غير مشاكل، وأقصى ما يتمكن الإنسان من فعله في اختراعاته أو اكتشافاته هو أن يكتشف تلك القوانين، وأن يطبّق حياته عليها.

فقد صنع الإنسان الطائرة طبقاً لما رآه من طيران الطيور، واكتشف قانون الريح، مع أنه كان موجوداً، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَٰنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}(2)، لكن لم يكن الإنسان يعلم بذلك إلى أن قلّد الطيور واخترع هذا

ص: 174


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.
2- سورة سبأ، الآية: 12.

الاختراع، وأكثر الاختراعات هكذا، فهي اقتباس من مخلوقات اللّه سبحانه وتعالى. هذا في نظام التكوين.

وهكذا الحال في نظام التشريع، فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان ضمن تركيبة خاصة، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(1)، ثم أنزل اللّه سبحانه وتعالى النظام التشريعي لتنظيم أعمال الإنسان، فإذا طبق هذا النظام بحذافيره فسوف تكون حياته سعيدة، وإذا لم يطبّقه فسوف تكون حياته تعيسة، لذا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(2)، وسبب ذلك هو أن الإنسان مركب من جسم وروح، وهذه تركيبة خاصة يناسبها تشريع خاص، واللّه الخالق يعرف تلك الكيفية، فشرّع قوانين تناسبها، ولذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3). فهناك ارتباط بين الآيتين، وهو: إن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان ولذا يعرف تفاصيله، فشرّع قوانين تناسب حالته النفسية والروحية والجسمية، فإذا طبّق الإنسان حياته على تلك القوانين والتزم بها فسوف يكون سعيداً، وإلّا يكون شقياً. هذا في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(4).

ص: 175


1- سورة المؤمنون، الآية: 14.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- سورة آل عمران، الآية: 6-7.
4- سورة الأعراف، الآية: 152.

مشاكل العصر

وهذا ما نجده في الدول المتطّورة صناعياً واقتصادياً، إلّا أنها مليئة بالمشاكل النفسية، حيث ينتشر الآن عندهم مرض الكآبة، وهو وباء العصر، وبسببه تكثر حالات الانتحار، فهناك حالات رهيبة جداً، وكلما كانت تلك الدول أكثر ثراءً تكون حالات الانتحار أكثر، حيث الشعور بالفراغ وعدم معنىً للحياة؛ وذلك لأن السعادة ليست بالمال فقط، فمن الممكن أن يكون الإنسان من أفقر الفقراء لكنه يعيش حياة سعيدة، ومن الممكن أن يكون هناك إنسان من أثرى الأثرياء لكن يعيش حياة تعيسة، لأن السعادة والشقاء أمران معنويان وهما مرتبطان بنفس الإنسان.

وهكذا الحال عندما نلاحظ البلدان الإسلامية، وحتى في المجتمع المتدين، فبسبب ابتعاد الناس عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى تكثر المشاكل.

الإسلام نظام متكامل

إن الإسلام نظام متكامل فينبغي الالتزام بجميع ما فيه، وليس المقصود الالتزام بالواجبات والمحرمات فقط، فهي جزء من الشريعة الإسلامية. ففي الإسلام نظام متكامل اجتماعي وأُسري واقتصادي وسياسي، وهكذا في كل شيء من شؤون حياة الإنسان يوجد نظام متكامل.

فإذا كان بعض أفراد المجتمع المتدين يصلّي ويصوم ويلتزم بالواجبات ويترك المحرمات، لكنه حصر الأمر في هذا الجانب وترك الجوانب الأخرى، فسوف يؤدّي ذلك إلى اختلال النظام المتكامل.

مثلاً نرى ظاهرة العنوسة والعزوبة منتشرة؛ وذلك لأن المسألة الأسرية لم تراعَ بصورة صحيحة. إن الإسلام بسّط الزواج وسهله، ولكن الناس يصعبونه، فقد قال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ

ص: 176

فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(1)»(2)، فالمناط هو دين الرجل وأخلاقه لا أمواله.

إن البعض يصرّ على الأمور الكمالية، وهذا يعني الابتعاد عن النظام الإسلامي، فالإسلام له برنامج لكل شيء، فقبل أن يولد المولود لا بدّ أن يختار الإنسان له الحجر الطاهر، قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تخيروا لنطفكم فإن العرق دسّاس»(3)، فالنظام متكامل من قبل أن تنعقد نطفة الطفل إلى أن يوضع الإنسان في قبره.

مثال آخر: لو نظرنا إلى الصلاة - مثلاً - لوجدنا أنها موزّعة على الأوقات، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ}(4)، فمن دلوك الشمس - أي: من الزوال - يبدأ وقت الصلاة إلى غسق الليل يعني منتصف الليل، وهناك فترة استراحة من منتصف الليل إلى الظهر من اليوم الثاني، مع تخلّلها بصلاة الصبح الذي هو قرآن الفجر، فمن الزوال إلى غسق الليل لا يخلو هذا الوقت من صلاة واجبة، فالإسلام يريد أن يرتبط الإنسان باللّه؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم كل خصوصياته، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، لأنه هو الذي خلقه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(5)، فاللّه سبحانه وتعالى لطيف، أي: يعلم الأشياء اللطيفة الدقيقة(6).

ص: 177


1- سورة الأنفال، الآية: 73.
2- الكافي 5: 347.
3- السرائر 2: 559.
4- سورة الإسراء، الآية: 78.
5- سورة الملك، الآية: 14.
6- كلمة اللطيف إذا أطلقت على اللّه سبحانه وتعالى فلها ثلاثة معانٍ: الأوّل: بمعنى أنه لا يُرى. الثاني: بمعنى البرّ، أي: بار بهم. الثالث: العالم بالشيء الدقيق الذي له رقّة، فاللّه سبحانه وتعالى خبير وعليم بكل شيء.

سنن اللّه تعالى

سنن اللّه سبحانه وتعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، قال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1)، و{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(2)، و{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}(3).

ومن السنن أنه لا يصحّ إلّا الصحيح، فلو كان هناك شيء خلاف سنة اللّه فربما يستمر لفترة بسبب عامل القوة والقسر، لكن في النهاية سوف ينتهي؛ لأنه لا يصحّ إلّا الصحيح.

ولتقريب الفكرة نذكر المثال التالي: إننا نرى الناس لا يقبلون أي شيء جديد - من اختراع أو اكتشاف - ولكن بالتدريج نرى هذا الاختراع أو الاكتشاف يقبله الكل لماذا؟

والجواب: لأن فيه فائدة، وعندما تكتشف فائدته يقبلونه.

وهكذا الحال بالنسبة للقوانين التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى، لأنها تسهّل حياة الناس، والناس يبحثون عن شيء يسهّل حياتهم، فالقانون التكويني يفرض نفسه وكذا القانون التشريعي، وذلك لأنه هو الحق، لذا قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(4)، والإظهار بمعنى الغلبة(5)، واللام في قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ} هي لام العافية.

والحاصل: إن دين الحق سيتغلّب على جميع الأديان، وهذا أمر غيبي، وفي

ص: 178


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة فاطر، الآية: 43.
3- سورة الأنعام، الآية: 34.
4- سورة التوبة، الآية: 33.
5- كما في قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} سورة التوبة، الآية: 8.

الوقت نفسه أمر طبيعي، ولأنه حق وصحيح فسوف يفرض نفسه.

نعم، نرى أكثر الناس معرضين عن الإسلام وعن أهل البيت(عليهم السلام)، ولكن سيأتي يوم يفرض هذا الدين نفسه.

والإنسان إذا التزم بالنظام الإسلامي المتكامل في كل شيء فسوف يشعر بالسعادة، والسعادة ليست أمراً مادياً، بل هي أمر معنوي، وكذلك سوف تقلّ المشاكل في حياة الإنسان من كل الجهات، مضافاً إلى ذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى يوفّقه للمزيد، هذا في الدنيا وأمّا في الآخرة فله الثواب الجزيل.

الصبر والتحمّل

إذن، علينا أن لا نصغي للباطل، فإن للباطل جولة وللحق دولة، صحيح أن أكثر الإعلام والمال والسلطة بيد أهل الباطل، ومن المعلوم أن من كان بيده السلطة والمال والإعلام فسوف يحدث هذا بهرجة، والإنسان إذا كان ضعيف النفس يتأثر بهذه البهرجة، وغالب الناس هكذا، إلّا أنه ينبغي على الإنسان أن لا يكون من هذا الغالب، فقد خاطب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمار بن ياسر قائلاً: «فإن سلك الناس وادياً وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي وخل عن الناس»(1)، ولذا قال عمار يوم صفين: «واللّه، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل»(2).

وفي الحديث الشريف: «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل ونشر لم يتغير قلبه»(3).

ص: 179


1- الأربعون حديثاً (لمنتجب الدين ابن بابويه): 60.
2- الكافي 5: 12.
3- المحاسن 1: 251.

فالمؤمن لا يتأثر، بل هو أقوى من زبر الحديد؛ لأن الحديد يذوب في الحرارة العالية وينصهر، والمؤمن لا ينصهر.

وقد ورد في الحديث عن علي بن الحسين سيد العابدين(عليهما السلام): «من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد»(1).

وقال(عليه السلام): «من مات على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه اللّه أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد»(2).

إن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان فإن ثبت ولم يتزلزل في الشدائد فسوف ينصره اللّه، ولذا فهو بحاجة إلى مزيد من الصبر: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ(3) وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(4).

ص: 180


1- كمال الدين وتمام النعمة: 323.
2- بحار الأنوار 79: 173.
3- البأس أمر نفسي، والضراء أمر بدني.
4- سورة البقرة، الآية: 214.

(23) نظام التكوين والتشريع

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(1).

هناك تكوين وتشريع، فالتكوين يعني الخلق، والتشريع يعني إصدار الأحكام الشرعية، فاللّه سبحانه وتعالى خلق هذا العالم بالحق، ولم يخلقه عبثاً، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ}(2)، فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى هذا الكون وجعله ضمن نظام كامل وتام فقال: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(3)، فلا يوجد أيّ خلل في نظام التكوين، وإنّما كل شيء ضمن حكمة، ولذا فحتى الملحدين الذين لا يعترفون بالخالق ولا بحكمة في خلق هذا العالم، حينما يصلون إلى شيء مخلوق - سواء من الأجرام السماوية أم الموجودات الأرضية، جماداً أم نباتاً أم حيواناً - يقولون: ما هي الفائدة في هذا الشيء؟ فهم بفطرتهم يدركون أنه لا يوجد شيء عبثاً، وحينما يشاهدون ظاهرة جديدة يفكرون في سبب هذه الظاهرة، وما هي فائدتها؟ وإذا تصوّروا أن ذلك الشيء ليس له فائدة فإن تطوّر العلم أثبت بطلان زعمهم. إن

ص: 181


1- سورة النساء، الآية: 141.
2- سورة آل عمران، الآية: 191.
3- سورة الملك، الآية: 3.

البعض إذا لم يعرف فائدة أي عضو من أعضاء الإنسان يقول عنه إنه زائد، ولذا سمّوا الزائدة الدودية بذلك، لكن علم الطب والتشريح أثبت فائدته، فلا يوجد شيء عبثاً، ولا يوجد شيء بلا فائدة.

وإذا كانت هناك ظواهر - يعبّر عنها بالكوارث الطبيعية - فهي ضمن حكمة، وفي مصلحة الإنسان، ولأن الإنسان يرى نفسه متضرراً من ذلك الشيء فيسمّيها الكوارث الطبيعية، لكن هي في الواقع ضمن نظام متكامل، فإن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، وكل أفعاله بمقتضى الحكمة، ولا يصدر منه خلاف الحكمة. هذا بالنسبة لنظام التكوين.

وأمّا نظام التشريع فحيث إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعله مختاراً، فأعطاه العقل والقدرة في التمييز والاختيار، فيمكنه أن يختار الأمور الصحيحة، ويختار الأمور المضرّة؛ لذلك ولطفاً ورحمة بالإنسان أنزل اللّه سبحانه وتعالى التشريع لكي يعمل الإنسان به، ولا يكون عمله مضراً به، ولكن لم يجعله مضطراً ومجبراً على العمل. فهو ليس كالنباتات أو الحيوانات يسير على منهجية واحدة، وإنّما هو مختار للمنهج الذي يريده، فإن اتّبع المنهج الصحيح فهو الرابح، وإن خالفه فهو الخاسر.

والنظام التشريعي متطابق تماماً مع النظام التكويني، وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى عالم بتركيبة الإنسان الجسدية والنفسية لأنه الخالق له، وهو أعلم بما يصلحه مما يفسده؛ فلذا يكون تشريع اللّه سبحانه وتعالى متطابقاً مع تكوين الإنسان، فلا يوجد اختلاف بينهما.

إن البعض يزعم أن اللّه لم يشرّع لنا شيئاً وإنّما أوكله إلينا، أو كما قال أحدهم: إن اللّه أجلّ وأسمى من أن يشرّع نظاماً للبشر! فبهذا الكلام الباطل يريد أن يقول: إن التشريع بأيدنا مع أنها مغالطة واضحة، فرحمة اللّه ولطفه بعباده وحكمته

ص: 182

اقتضت أن يبيّن لهم الطريق الصحيح ويحذرهم عن الطريق الباطل، فلو رأى عالم جاهلاً يوشك أن يسقط في البئر فهل من الصحيح أن يقال: إن العالم أسمى من أن يحذّر الجاهل؟ بل الصحيح أن نقول: إن لطف العالم وحكمته تقتضي إرشاد الجاهل وتحذيره. ولذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ}(1)، وهاتان الآيتان مترابطتان، فالمعنى أن اللّه هو الخالق الذي أنزل الكتاب، وهو المشرّع، فالخلق من اللّه والتشريع منه.

ويقول تعالى في آية أخرى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(2)، فإذا كان اللّه يخلق فهل من المعقول أن يكون غيره هو الذي يختار؟

لذا فاللّه سبحانه وتعالى اختار الأنبياء(عليهم السلام)، وبعدهم الأوصياء، سواء قَبِلَ بهم الناس أو لم يقبلوا، فهذا اختيار اللّه سبحانه وتعالى فيجب أن نتّبعه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا}(3).

إذن، فتشريع اللّه سبحانه وتعالى جاء متطابقاً مع التكوين، فإذا خالف الإنسان التشريع فسيؤدّي إلى ضرره، كما أنه لو خالف التكوين فإنه يصاب بضرر أيضاً.

وذلك لأن هذا النظام التشريعي مطابق لتركيبية الإنسان، فإذا خالفه فسوف تحدث مخالفة بين عمله وبين تركيبته، ونتيجة هذه المخالفة حصول الضرر، قال

ص: 183


1- سورة آل عمران، الآية: 6-7.
2- سورة القصص، الآية: 68.
3- سورة الأحزاب، الآية: 36.

تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(1)، فلولا فعل الإنسان لم يكن هناك فساد، لا في البر ولا في البحر، فالفساد بسبب أعمال الإنسان.

ولنذكر هنا أمثلة:

1- عدم سلطة الكفار على المؤمنين

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(2)، والبعض يتسائل: كيف لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل مع أننا نشاهد سيطرة الكفار على المؤمنين على مرّ التاريخ؟ فنحن نشاهد الآن أن قوى الشرق والغرب تسيطر على الكثير من البلدان الإسلامية، إمّا بالاستعمار المباشر، أو غير المباشر، وفي فلسطين نرى سيطرة اليهود على المسلمين وغير ذلك؟

والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى لا يتكلم عن قضية خارجية؛ بأن لا يمكن أن يتسلّط كافر على مؤمن، لكن معنى الآية أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشرّع قانوناً يسبّب سيطرة الكفار على المؤمنين؛ ولذلك لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج من كافر؛ لأن الزوج له ولاية على زوجته، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ}(3)، فلو كان اللّه يشرّع زواج المؤمنة من الكافر فهذا يعني سيطرة الكافر على المؤمن، ولذا لو كان هناك رجل كافر متزوج بامرأة كافرة ثم أسلمت، فإنه ينفسخ الزواج ويبطل، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى ترغيباً للزوج الكافر بالإسلام أعطاه مهلة؛ فلو أسلم في فترة العدة فهو أحق بها، وإذا انتهت العدّة ولم يُسلِم

ص: 184


1- سورة الروم، الآية: 41.
2- سورة النساء، الآية: 141.
3- سورة النساء، الآية: 34.

انقطعت عصمة الزوجية.

وكذا لم يشرّع اللّه أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين؛ لأن الحاكم عنده سلطة وغير ذلك من الأمثلة.

إذن، لا يوجد تشريع سيطرة الكافر على المؤمن، فاللّه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون لأجل عبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، وقال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، فاللّه تعالى خلقنا ليرحمنا، وطريق استحقاق رحمة اللّه الخاصة هو العبادة، فقد خلق الإنسان ليعبده ثم لينال رحمته، فهل من الممكن أن يشرّع اللّه سبحانه وتعالى قانوناً يُبعّد الناس عن عبادته؟

والحاصل: إن اللّه لم يشرّع سلطنة الكافر على المؤمن، لأن الشخص المُسيطِر يؤثر على المُسيطَر عليه، فالزوج يؤثر على زوجته، والحاكم يؤثر على المحكوم، والسيد يؤثر على العبد، فمعنى ذلك أن الكافر سيؤثر على هذا المسلم ويبعده عن الإسلام، وبالتالي يبعده عن عبادة اللّه سبحانه وتعالى، وهذا خلاف ما بيّنته الآية المتقدمة؛ لأن التشريع سيصبح حينئذٍ خلاف التكوين، فنظام التكوين والخلق لأجل العبادة، ولا يمكن أن يكون نظام التشريع مبعداً عن العبادة، لذا فأي شيء يُبعّد عن العبادة ويُبعّد عن اللّه سبحانه وتعالى فهو مرفوض في الإسلام.

2- حرمة الخمر

إن اللّه سبحانه وتعالى ميّز بالعقل الإنسان على الحيوان، والخمر يزيل

ص: 185


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- سورة هود، الآية: 119.

العقل، فينزل الإنسان إلى درجة الحيوانية، ومن أسباب تحريم الخمر أنه يسببالسكر، فلا يتمكن الإنسان من العبادة التي توصل الإنسان إلى الرحمة الخاصة، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(1)، وبالإضافة لإزالته للعقل، فهو لا ينسجم مع علة الخلق، التي هي العبادة؛ لأن السكران لا يشعر بما يقول.

ومعنى الانسجام بين نظام التشريع ونظام التكوين هو أن جميع الأحكام الشرعية منسجمة تماماً مع التركيبة البشرية.

واللّه سبحانه وتعالى بيّن هذه الحقيقة، سواء قبلها الناس أم لم يقبلوها، لأن اللّه لا يجامل أحداً.

3- عدم مداهنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يجامل أحداً في بيان الحق قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(2)(3).

وفي المناقب: لما كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعرض نفسه على القبائل جاء إلى بني كلاب، فقالوا: نبايعك على أن يكون لنا الأمر من بعدك! فقال: الأمر للّه فإن شاء كان فيكم وإن شاء كان في غيركم، فمضوا ولم يبايعوه وقالوا: لا نضرب لحربك

ص: 186


1- سورة النساء، الآية: 43.
2- سورة القلم، الآية: 9.
3- والادّهان غير المداراة، لأن المداراة هي حسن المعاشرة، فالمسلم يحسن المعاشرة، وهذا لا إشكال فيه، وأمّا الادّهان فإنه يكون على حساب الحق. لذا فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يجامل على حساب الحق إطلاقاً، منذ اليوم الأوّل، حين قال: «قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا» [مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 51]، إلى حين استشهاده.

بأسيافنا ثم تحكّم علينا غيرنا(1).

آثار عدم تطبيق أحكام اللّه تعالى

إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل نظاماً تاماً صحيحاً، سواء قبله الناس أم لم يقبلوا، وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إليهم، قال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ}(2)، لأن اللّه غير عاجز، فإذا كفر الناس كلهم فهو الغني الحميد، ولا يتضرر من ذلك، لأن ما شرّعه اللّه سبحانه وتعالى - كالصلاة والصوم والحجاب وغير ذلك - إنّما هو لصالح الإنسان، وعدم التزام الناس ببعض هذه الأحكام يعود بالضرر عليهم، وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى المسلمين خير أمّة أخرجت للناس حينما التزموا بالشرع، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(3)، ولكن حينما أعرض بعض المسلمين عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى فإن الضرر لحق بهم في الدنيا، وفي الآخرة قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(4).

إذا نظرنا إلى مجتمعاتنا فسنلاحظ آثار التدين، من صلاة وصوم، وحجاب وبعض الواجبات الأخرى، وهذه أمور أساسية، لأن: «الصلاة عمود الدين»(5)، و: «الصوم جُنّة من النار»(6)، لكن هل أن بقية أحكام اللّه سبحانه وتعالى مُطبّقة؟

ص: 187


1- بحار الأنوار 23: 75.
2- سورة النساء، الآية: 133.
3- سورة آل عمران، الآية: 110.
4- سورة طه، الآية: 124.
5- دعائم الإسلام 1: 133.
6- الكافي 2: 16.

وهل النظام الإسلامي هو الحاكم في الأسرة المسلمة مثلاً؟

لو تصفحنا القرآن الكريم لوجدنا كثيراً من الأحكام المتعلّقة بالأسرة، من الزواج والطلاق والعدّة والمعاشرة بالمعروف وما إلى ذلك. والمعروف هو ما ينطبق مع فطرة الإنسان فيعرفه العقل، ويأمر به الشرع، فهل الحياة الأسرية قائمة على المعاشرة بالمعروف أم لا؟

إن الكثير من الناس يخالفون أحكام اللّه سبحانه وتعالى في الجانب الأسري، وكذا في الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فإذا رأينا خللاً فليس من الحكم الإسلامي، وإنّما بسبب مخالفة الناس لأحكام اللّه سبحانه وتعالى.

جاء في الحديث الشريف: «لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليستعملَنَّ عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1)، لأن اللّه يقبل الأعمال إذا توفرت فيها شروطها فمثلاً: يقبل الصلاة إذا كانت مع الطهارة؛ ويقبل الدعاء إذا توفرت شروطه، فإذا كان كل شخص لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويقول: إن هذا الأمر لا يخصني ولا يعنيني، فسوف ينتشر المنكر، وتكثر المشاكل، وعندها يتسلط الأشرار على الناس، فيدعو الأخيار فلا يستجاب دعاؤهم، وذلك لعدم توفر شروط الدعاء.

والخلاصة: إن نظام التكوين والتشريع متطابقان فجميع أحكام اللّه سبحانه وتعالى متطابقة مع تركيبة الإنسان الجسدية والنفسية، وإذا كان هناك خلل فبسبب الإنسان، واللّه سبحانه وتعالى لرحمته ولرأفته فتح الباب على مصراعيه، فيستطيع الإنسان أن يرجع إلى اللّه ويتوب في أي وقت، وسوف يتوب اللّه سبحانه وتعالى عليه.

ص: 188


1- الكافي 5: 56.

ومع أن اللّه سبحانه وتعالى فتح باب التوبة على مصراعيه، لكنه اختار أمكنة وأزمنة لها خصوصية، فإذا توجه الإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى في تلك الأمكنة والأزمنة تكون استجابة الدعاء أقرب، ومن تلك الأزمنة: شهر رجب وشعبان ورمضان، ومن تلك الأمكنة: مراقد أهل البيت(عليهم السلام)، فعلى الإنسان أن يستفيد من هذه الأزمنة والأمكنة بأحسن ما يكون.

ص: 189

(24) السير على طريق الحق قانون كوني إلهي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

معنى اللطيف

من صفات اللّه سبحانه وتعالى إنه لطيف بعباده، وقد ذكرت هذه الصفة في القرآن الكريم في موارد متعددة قال سبحانه: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(2)، وقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(3)، وقال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(4)، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(5)، وقال: {اللَّهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}(6).

ولمفردة اللطيف ثلاثة معانٍ:

المعنى الأوّل: إنه تعالى عالم بالشيء الصغير الدقيق؛ لأن اللّه عزّ وجلّ لا يخفى

ص: 190


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.
3- سورة الملك، الآية: 14.
4- سورة يوسف، الآية: 100.
5- سورة الحج، الآية: 63.
6- سورة الشورى، الآية: 19.

عليه شيء في السماوات ولا في الأرض، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٖ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٖ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ}(1).

المعنى الثاني: إنّ اللّه عزّ وجلّ بارّ بعباده، فهو يرحمهم، ومن لطفه بمخلوقاته أن جعل كل شيء بالحق، ولم يخلق شيئاً باطلاً، وكل شيء مخلوق حسب الموازين الصحيحة، وإذا حدث هنالك خلل أو إشكال فإنّما هو بسبب أفعال المخلوقات، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(2)، فاللّه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض بالحق، بمعنى أن كل شيء خُلق في موقعه الصحيح.

المعنى الثالث: إنه لا يرى ولا يمكن إدراكه بالأبصار.

القوانين الإلهية بالحق

لقد أودع اللّه سبحانه وتعالى قوانينه في هذا العالم، سواء كانت تشريعية أم تكوينية، وكلها بالحق، فالقوانين التشريعية هي الأحكام الشرعية، فاللّه عزّ وجلّ يعلم ما يُصلح الإنسان وما يفسده، وهو تعالى بارّ بعباده؛ لذا جعل القوانين التشريعية تناسب حياته ولصالحه، وإذا لم يطبق الإنسان هذه القوانين التشريعية فإن المشكلة فيه وليس في المشرّع.

كذلك هناك القوانين التكوينية، مثل الحرارة والبرودة والرطوبة والجاذبية، وهذه القوانين المتعددة أصبح اكتشافها من أكثر مهام العلماء والمخترعين، ومنثم محاولة تطبيق حياة الإنسان عليها.

ص: 191


1- سورة يونس، الآية: 61.
2- سورة الروم، الآية: 41.

فحصلت الاختراعات والاكتشافات، فكل اختراع هو اكتشاف لقوانين معينة ثم تطبيقها على الحياة، وكل هذه القوانين تنتمي للحق، وجاءت حسب الأصول الصحيحة، والتي يعبر عنها في القرآن الكريم ب(السنن)، ولن يغيرها اللّه عزّ وجلّ: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(1)، ولأن كل هذه القوانين على الحق، واللّه عزّ وجلّ لا يغير الأمور من الحق إلى الباطل.

العاقبة للحق

من جملة هذه القوانين السنن التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في العالم هو: أن الشيء الصحيح يفرض نفسه ولو بعد حين، والشيء الباطل يزول وينهار، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ}(2)، وقال عزّ وجلّ: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(3). وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(4).

إذا آمن الإنسان بهذا الأمر حقاً، وحاول تطبيقه، فسوف يكون مفلحاً؛ قال اللّه تعالى: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5)، أي: إن الإنسان المتقي على حق، وطريقته وعمله وأسلوبه على الحق، وضمن هذا القانون ستكون النتيجة أو العاقبة في صالحه ولو بعد حين.

إن الناس اعتادوا أن يتعايشوا مع الشيء الذي ألفوه وتعلموه ورأوه، أمّا الشيء

ص: 192


1- سورة فاطر، الآية: 43.
2- سورة الأنفال، الآية: 7.
3- سورة الأنفال، الآية: 8.
4- سورة الإسراء، الآية: 81.
5- سورة الأعراف، الآية: 128؛ سورة القصص، الآية: 83.

الجديد فلأنه غير مألوف لهم فيعارضونه في العادة؛ لذا كان الناس يعارضون الأنبياء(عليهم السلام)، ويقولون لهم: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ}(1). أي: إنهم ألفوا الشيء منذ البداية، فحينما يألف الإنسان أسلوباً لحياته منذ اليوم الأوّل ثم يأتي أحدهم ليقول له: إن أسلوبك باطل فمن الطبيعي أنه سيعترض عليه، ولا يقبل قوله.

يقول إبراهيم(عليه السلام) - كما في القرآن الكريم - : {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ}(2). لقد كان إبراهيم(عليه السلام) على حق، بالرغم من أنه واجه الصعوبات، حيث أرادوا قتله بإلقائه في النار: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَٰعِلِينَ}(3)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى أنجاه من نمرود وقومه: {قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ}(4).

ثم إنه(عليه السلام) اضطر إلى الهجرة، وكانت الهجرة صعبة جداً، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(5)، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(6)، فذهب بعد ذلك إلى أرض قاحلة فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ فَاجْعَلْ أَفِْٔدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(7)، لقد واجه إبراهيم(عليه السلام) كل هذه الصعوبات، لكن بما أنه كان على الصراط المستقيم فقد استجاب اللّه عزّ وجلّ دعاءه سواء في

ص: 193


1- سورة الزخرف، الآية: 23.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- سورة الأنبياء، الآية: 68.
4- سورة الأنبياء، الآية: 69.
5- سورة العنكبوت، الآية: 26.
6- سورة الصافات، الآية: 99.
7- سورة إبراهيم، الآية: 37.

الآخرة، - وهذا أمر واضح - أم في الدنيا؛ لأن الدنيا لا تنحصر في الأكل والشرب والنوم.

فإذا قيل للإنسان: قتّر على نفسك قليلاً لكي يعيش أطفالك في رفاهية، فهل سيفعل هذا أم لا؟ إن كثيراً من الناس يقتّرون على أنفسهم فيرسلون أبناءهم إلى المدرسة، لكي يحصلوا على شهادة جامعية.

كذلك يفكر الإنسان في الذكر الحسن، فإذا خيّر شخص بين أن يبقى مرتاحاً لبعض الأيام، ويأكل أفضل أنواع الطعام، ويشرب أفضل أنواع الشراب، وينام في أفضل الأماكن، لكن مع بقاء ذكر سيّء عنه، وبين أن يلاقي صعوبات لكن مع بقاء الذكر الحسن عنه، فالإنسان العاقل سيختار الذكر الحسن؛ لأن الدنيا لا تنحصر في بعض الملذات الجسدية.

لقد كانت الآخرة مضمونة لإبراهيم(عليه السلام)؛ لأنه من أنبياء اللّه ومن أولي العزم، ولكنه مع ذلك كان يقول: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(1)، ولأنه واجه بعض الصعوبات، وكان على حق فقد جعل اللّه عزّ وجلّ له لسان صدق في الآخرين، فالمسلمون الآن يذكرونه بخير، وكذلك يذكره غير المسلمين.

وأمّا عيسى(عليه السلام) فيقول اللّه عزّ وجلّ عنه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(2).

إن ولادة عيسى(عليه السلام) كانت من دون أب، وقد تمت بطريقة إعجازية، إلّا أناليهود اتهموا أمه: {وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا}(3)، وإذا كان الإنسان متهماً في

ص: 194


1- سورة الشعراء، الآية: 84 .
2- سورة آل عمران، الآية: 45.
3- سورة النساء، الآية: 156.

أمه فلن تبقى له وجاهة في المجتمع مهما امتلك من المواصفات الإيجابية، فقد يغمزه الناس ويتكلمون عليه، حتى إذا كان بريئاً من التهمة، لكن عيسى(عليه السلام) وجيه في الدنيا حسب السنة الإلهيّة، فالوجاهة الموجودة لعيسى(عليه السلام) لا توجد لأي شخص آخر، فأكثر البشرية الآن يعترفون بعيسى(عليه السلام).

معنى للحق دولة

وقد روي أنه: «للحق دولة» وروي «للباطل جولة»(1)، والجولة تعني أن يركب الرجل فرساً ويجول فيها فتسمى جولة، ولكن هذه الجولة لن تدوم سوى دقائق أو ربما لحظات، بينما الدولة تستمر.

يتساءل البعض فيقول: إن الأئمة المعصومين(عليهم السلام) لم يحكموا، باستثناء الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي دام حكمه حدود خمس سنوات فقط، رافقتها المشاكل، كحرب الجمل وصفين والنهروان وغير ذلك، في ما حكم بنو أمية ألف شهر، وحكم بنو العباس قرابة الخمسمائة عام، وحكم بنو عثمان قرابة الستمائة عام، إذن كيف يكون للباطل جولة وللحق دولة، في حين أننا نرى أن الدولة كلها للباطل؟

والجواب: إن الإنسان إذا نظر للمسألة على أنها مسألة أكل وشرب، وممارسة الحكم والهيمنة على الناس خلال فترة محددة، فحينئذٍ يكون هذا السؤال، إلّا أن اللّه تعالى يقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٖ كَذَٰلِكَ كَانُواْيُؤْفَكُونَ}(2)، فالدنيا لا تنحصر في الملذات بل هي الذكر الحسن، وأن تكون الحكومة على القلوب.

ص: 195


1- عيون الحكم والمواعظ: 403.
2- سورة الروم، الآية: 55.

يوجد بعض الناس في مجتمعاتنا الآن يملك أفضل البيوت لكن لا وجاهة له في المجتمع، فهل هناك أحد مستعد أن تلوث سمعته ويراق ماء وجهه مقابل أن يعيش في أحسن البيوت؟ إن العاقل لا يقبل بذلك، وإذا قبل ففي عقله خلل؛ لأن الوجاهة وماء الوجه أهم من السكن في دار راقية، وهذا ما يفكر به الإنسان العاقل.

وهذا الأمر ينطبق على أهل البيت(عليهم السلام)، فقد كان لهم أعداء في الدنيا، أكلوا وشربوا بعض الأيام، واستفادوا من خيرات الدنيا بالحرام ثم انتهى كل شيء من دنياهم، لكن أهل البيت(عليهم السلام) باقون، فمن الذي يحكم قلوب الناس؟ والجواب: إنهم أهل البيت(عليهم السلام)، وحتى النواصب الذين يعادونهم لا يجرأون أن يجاهروا ببغضهم لأهل البيت(عليهم السلام)، ولكن أفعالهم وأقوالهم تكشفهم، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(1)، فهذه قبور أهل البيت(عليهم السلام) مهوى الأفئدة، وهذه ذريتهم محترمة، وهذه كلماتهم من نور، بينما انتهى أعداؤهم، بل حتى ذريتهم يخفون نسبهم. لكن ذرية الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) يفتخرون بنسبهم في كل مكان، أليس هذا من العواقب الدنيوية؟

هذا فضلاً عن حكمهم من بعد ظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) إلى انقراض الدنيا.

أمّا الآخرة فهي خير وأبقى، {ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(2)، فالدنيا لهم، وكلإنسان يسير على الطريق المستقيم تكون الدنيا له، صحيح أنه يتعرض لمصائب ومشاكل وصعوبات، لكنها ستنتهي بعد فترة.

لذا فعلى كل فرد منّا أن يعلم أن اللّه تعالى هو الذي جعل كل شيء بالحق،

ص: 196


1- سورة محمّد، الآية: 30.
2- سورة النجم، الآية: 41.

سواء الأحكام التشريعية أم الأمور التكوينية، وإذا اعتقدنا بذلك فسوف نحاول أن نطبق ذلك في حياتنا، فنكون على طريق الحق، ونكون من الفائزين في الدنيا قبل الآخرة.

أمّا إذا لم نفعل ذلك ولم نطبقه في حياتنا، وتركنا أحكام الشرع فنكون من الخاسرين في الدنيا قبل الآخرة.

يقول اللّه عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1)، فحينما عبد بنو إسرائيل العجل غضب اللّه عليهم وعاقبهم؛ لأن غضب اللّه بمعنى عقابه.

فأي شخص يبتعد عن أحكام الشرع يحلّ عليه غضب اللّه تعالى، فيعاقبه ويذله، وما أكثر مَن رأينا من الناس الذين ابتعدوا عن جادة الشرع فأذلهم اللّه عزّ وجلّ، وجعل المسكنة فيهم وفي ذريتهم، ونالهم الذكر السيئ والخسارة، وبالنتيجة فلا يستفيدون من دنياهم إلّا متاعاً قليلاً، ويخسرون الآخرة؛ لذا علينا أن نكون ملتزمين دائماً بأحكام الشرع لنحظى بالعاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة.

ص: 197


1- سورة الأعراف، الآية: 152.

(25) سبب خلق المخلوقات واختلافهم

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهنا عدة أسئلة تدور في أذهان كثير من الناس، وهي: لماذا خلقنا؟ وما هو الغرض والمصلحة في ذلك؟ ولماذا خلق سائر الموجودات؟

إن اللّه سبحانه وتعالى غير محتاج ولا يعبث؛ لأن العبث إنّما يحصل بسبب الجهل أو الضجر أو الفراغ، واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن كل نقص، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(2).

إن الجواب عن هذه الأسئلة بيّنه اللّه سبحانه وتعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم، فاللّه سبحانه وتعالى هو القادر، ولا ينقصه شيء، وإذا خلق خلقاً ف- {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَئًْا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(3)، واللّه سبحانه وتعالى رحيم بَرّ ودود، فمقتضى اللطف الإلهي هو أن يخلق المخلوقات ليرحمها، فلو لم يكن يخلق الخلق فربما كان يثار هذا السؤال: إذا كان اللّه قادراً ولا يكلفه

ص: 198


1- سورة هود، الآية: 118-119.
2- سورة المؤمنون، الآية: 115.
3- سورة يس، الآية: 82.

خلق الخلقشيئاً ولا ينقصه فلماذا لم يخلق الخلق؟

فاللّه سبحانه وتعالى خلقنا لا لحاجته إلينا، وإنّما لحاجتنا إليه، فهو الحكيم العالم القادر؛ لذا خلق الموجودات، والغرض من ذلك هو الرحمة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}.

العبادة طريق إلى الرحمة الخاصة

إن اللّه سبحانه وتعالى رحيم، لكن الرحمة الخاصة تحتاج إلى محل قابل، فلو وضع هذه الرحمة في محل غير قابل لكان هذا خلاف الحكمة، فكيف يصبح الإنسان محلاً قابلاً لهذه الرحمة؟

والجواب: بالعبادة، فإذا عَبَدَ الإنسان ربه فسوف يصبح محلاً قابلاً للرحمة، وهذا ما ورد في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، فإذا ضممنا هذه الآية إلى قوله تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} نعرف أن الهدف للخلقة هو العبادة، والغرض من تلك العبادة أن يكون الإنسان موضعاً لرحمة اللّه سبحانه وتعالى الخاصة.

إذن، فالعبادة طريق إلى الرحمة، والرحمة هي الغرض والهدف من وراء خلق اللّه سبحانه وتعالى للبشر، فيلزم على الإنسان أن يجعل نفسه محلاً قابلاً لهذه الرحمة، وذلك عن طريق الالتزام بما أمره اللّه سبحانه وتعالى، وترك ما نهاه عنه، وهذه الأوامر والنواهي إنّما جعلها اللّه سبحانه وتعالى لا لحاجة منه إليها، وإنّما لحاجة الناس لذلك، فلو عصى جميع الناس فلا يحدث خلل في ملك اللّه سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه، فهو قادر على أن يهلك كل الناس ويأتي بغيرهم،قال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ

ص: 199


1- سورة الذاريات، الآية: 56.

قَدِيرًا}(1).

كان أحد الخطباء يذكر مثالاً لطيفاً فيقول: إذا بلغنا أنه يوجد في إحدى غابات أقاصي الأرض مليون نملة أطلقت شعارات ضدنا فهل يؤثر هذا فينا؟ كلا، وهكذا إذا كفر كل الناس فلا يضرّ اللّه تعالى شيئاً، فهم لا يخرجون من سلطان اللّه وتدبيره، ولا يتمكنون من الفرار من حكومته.

إذن، فاللّه سبحانه وتعالى خلقنا لحاجتنا إلى الرحمة، ولذا يلزم علينا أن نكون محلاً قابلاً لهذه الرحمة، وينبغي أن نوفّر الأسباب لذلك.

الاختلاف في الخلق من سنن اللّه

اشارة

عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم(عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له، وبالنبوة لكل نبي، فكان أوّل من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمّد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم قال اللّه عزّ وجلّ لآدم: انظر ماذا ترى، قال: فنظر آدم(عليه السلام) إلى ذريته وهم ذر قد ملأوا السماء، قال آدم(عليه السلام): يا رب، ما أكثر ذريتي ولأمر ما خلقتهم؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم، قال آدم(عليه السلام): يا رب، فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟ فقال اللّه عزّ وجلّ: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم، قال آدم(عليه السلام): يا رب، فتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: تكلم، فإن روحك من روحي وطبيعتك من خلاف كينونتي، قال آدم: يا رب، فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة،

ص: 200


1- سورة النساء، الآية: 133.

وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغِ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض، ولا اختلاف في شيء من الأشياء، قال اللّه عزّ وجلّ: يا آدم، بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالم، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنّما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنّما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، فلذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى، والقصير والطويل والجميل والدميم، والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي، والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه، ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفي ما أعافيهم وفي ما أبتليهم، وفي ما أعطيهم وفي ما أمنعهم، وأنا اللّه الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من

ص: 201

ذلك ما قدمت، وأنا اللّه الفعال لما أريد لا اسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون»(1).

أي إن آدم(عليه السلام) سأل اللّه سبحانه وتعالى عن سبب خلق الناس مختلفين، وأجابه اللّه سبحانه وتعالى: بأن الاختلاف من سننه كما قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(2)، والألسن والألوان مثال ظاهر، فعندما نرى شخصاً نستطيع أن نميزه من خلال لونه أو كلامه، فحينما رأى آدم(عليه السلام) ذريته بهذه الحالة سأل اللّه سبحانه وتعالى أنه لو خلقتهم بكيفية واحدة وبطبيعة واحدة ولون واحد لكي لا يوجد بينهم تباغض وتحاسد.

وهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: حول سؤال آدم (عليه السلام)

فنقول: هذا السؤال لا ينافي عصمة الأنبياء(عليهم السلام)؛ لأن السؤال مطلوب ومرغوب فيه، وهو مفتاح العلم.

إن السؤال تارة يكون استفهاماً، وتارة يكون طلباً ودعاءً.

والطلب والدعاء تارة يكون خلاف سنة اللّه في الكون، وهذا ناشئ عن عدم العلم، فلو فرض أن شخصاً دعا اللّه تعالى أن يرفع عنه الموت دائماً! فهذا الطلب غير صحيح، ويكشف عن عدم العلم؛ لأن سنّة اللّه سبحانه وتعالى أن يموت كل إنسان: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(3).

وتارة يكون الطلب ضمن سنة اللّه سبحانه وتعالى، كما لو كان هناك شخص

ص: 202


1- الكافي 2: 8.
2- سورة الروم، الآية: 22.
3- سورة العنكبوت، الآية: 57.

فقير فيطلب من اللّه الرزق، ثم يذهب للعمل، فهذا الدعاء مطلوب، وهكذا لو كان مريضاً، فيذهب للطبيب ويدعو اللّه سبحانه وتعالى بالشفاء.

بعبارة أخرى: تارة يطلب الإنسان من اللّه تغيير سنّة من السنن الكونية، مع أن اللّه سبحانه وتعالى قال: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(1)، وهذا يكشف عن عدم العلم، ومرّة يطلب من اللّه سبحانه وتعالى حاجة في ضمن سنن اللّه سبحانه وتعالى، كزيادة عمر، أو شفاء مريض، أو إزالة حاكم ظالم وغير ذلك، فهذا مطلوب ومرغوب فيه بشرط العمل.

فسؤال آدم(عليه السلام) كان طلب تغيير سنّة من سنن اللّه؛ لأن من سنة اللّه سبحانه وتعالى اختلاف الخلق، وهذا يكشف عن عدم العلم، إلّا أنه ليست معصية ولا مكروه ولا ترك أولى؛ لأن الأنبياء(عليهم السلام) لا يجب أن يعلموا كل شيء، وإنّما يفيض اللّه سبحانه وتعالى عليهم العلم بالمقدار الذي يشاء ويكون اختلاف درجاتهم(عليهم السلام) في بعض الأحيان بسبب اختلاف درجات علمهم، فالرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أعلم الأنبياء؛ لأن اللّه علّمه ما كان وما يكون وما هو كائن(2)، لكن علم الأنبياء الآخرين متفاوت، ودرجاتهم حسب ما علّمهم اللّه سبحانه وتعالى.

ونظير ذلك ما ورد في قصة نوح(عليه السلام)، حيث قال تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَٰكِمِينَ * قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ فَلَا تَسَْٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ

ص: 203


1- سورة فاطر، الآية: 43.
2- انظر: بصائر الدرجات: 147، وفيه: ... عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سئل علي(عليه السلام) عن علم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلم ما كان وما هو كائن في ما بيني وبين قيام الساعة».

مِنَ الْجَٰهِلِينَ}(1)، لأن إحدى زوجتي نوح كانت كافرة(2): {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٖ وَامْرَأَتَ لُوطٖ}(3)، وكان لها ولد - وهو كنعان - تأثر بأمّه، فكان كافراً، واللّه سبحانه وتعالى وعد نوح بأن ينقذ أهله، فلما غرق ابنه سأل ربه سؤالاً أدّى لأن يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}، أي: أنا أعلّمك حتى لا تكون جاهلاً؛ لأن نوحاً(عليه السلام) ما كان يعلم بهذه المسألة. فنوح(عليه السلام) طلب من اللّه أن يغير سنّة إلهيّة، وتلك السنة:

1- إمّا عموم العذاب، فإنه إذا نزل العذاب فيشمل كل الكافرين، إلّا أنه(عليه السلام) سأل اللّه سبحانه وتعالى أن لا يشمل هذا العذاب ابنه وإن كان كافراً، وهذا خلاف السنّة؛ لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَلَا تَسَْٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. فلا يوجد استثناء في سنن اللّه سبحانه وتعالى.

2- وإمّا كان طلب نوح(عليه السلام) من اللّه سبحانه وتعالى أن يهدي ابنه كنعان بالإكراه؛ لأن اللّه يتمكن أن يغير القلوب: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(4). فاللّه سبحانه وتعالى إذا أراد أن يصبح كل الكفار مؤمنين فهو يتمكن من ذلك، لكن هذا يكون إكراهاً وتقديراً لتغيير تكويني في تركيبة خلقهم، فلعلّ سؤال نوح(عليه السلام) كان تغيير كفر ابنه إلى إيمان بالإكراه، وهذا خلاف سنّة اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقدر أن يكره الناس على الإيمان بتغيير قلوبهم، لكن هذا خلاف سنّة الاختيار.

ص: 204


1- سورة هود، الآية: 45-46.
2- انظر: سعد السعود: 239، وفيه: «كان لنوح امرأتان اسم واحدة رابعا وهي الكافرة وهلكت، وحمل نوح معه في السفينة امرأته المسلمة...».
3- سورة التحريم، الآية: 10.
4- سورة يونس، الآية: 99.

إذن، فسؤال آدم(عليه السلام) كان لتغيير التقدير، لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: «وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به».

وإلّا فالدعاء في الأمور التي هي في ضمن سنن اللّه سبحانه وتعالى مطلوب وجيد، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1)، فلو أراد الإنسان أن يدعو فلا بدّ أن يرى ماذا يريد، فإذا كان خارج سنن اللّه سبحانه وتعالى فهذا يكشف عن عدم علم.

المطلب الثاني: حول جواب اللّه تعالى

عندما سأل آدم(عليه السلام) أجابه اللّه عن سبب الاختلاف بين الناس ثم بينه في آية موجزة في القرآن الكريم فقال: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(2)، و(سُخرياً) مأخوذ من التسخير، فالاختلاف بين الناس لمصلحتهم، فلو لم يكن هناك اختلاف فسوف تتوقف الحياة، لذا اقتضت المصلحة اختلاف أذهانهم وقدراتهم البدنية ورزقهم وفي كل شيء.

إن البعض يظن أن الزرق يحصل بالشطارة، إلّا أنه ليس كذلك، فإن اللّه سبحانه وتعالى قد يرزق البُله والحمقى أكثر من غيرهم، فقد ورد في الحديث الشريف أنه: «إن اللّه تعالى وسع في أرزاق الحمقاء ليعتبر العقلاء ويعلموا أن الدنيا ليس ينال ما فيها بعمل ولا حيلة»(3).

إن الاختلاف سبب للرحمة، فالغني يرى الفقير فيساعده فيزداد ثواباً، ويكون لائقاً للرحمة؛ لأن الرحمة درجات، فرحمة اللّه سبحانه وتعالى لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 205


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة الزخرف، الآية: 32.
3- الكافي 5: 82.

أكثر من رحمته للناس: {وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(1)، والفقير يرى الغني فيسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يرزقه كما رزق الغني؛ لأن الغبطة جيدة(2).

فالفقير بهذا الدعاء يحصل على المزيد في الدرجات أو يصبر؛ لأن الصبر يزيد درجات الإنسان، وكذلك يرى شخص شخصاً آخر أفضل منه فيسعى لكي يصل إلى تلك الدرجة، بل يكون أفضل منه كما قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(3)، فإذا كان جميع الناس بدرجة واحدة فلا معنى للتنافس، ولا معنى ل- : {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(4)، ولذا فهذا الاختلاف رحمة للإنسان.

روي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «اختلاف أمتّي رحمة»(5)، ولكن لا يراد من الاختلاف التنازع والتناحر؛ فإن ذلك مذموم لقوله تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(6)، وإنّما أحد معانيه هو: الذهاب والإياب، قال تعالى: {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ}(7)، أي: إذا ذهب الليل جاء النهار وبالعكس، ومن

ص: 206


1- سورة الإسراء، الآية: 21.
2- والفرق بين الغبطة والحسد هو أن الحسد تمنّي زوال نعمة الغير، والغبطة أن يتمنى الإنسان أن يعطي اللّه لغيره أكثر ويعطيه كما أعطاه. انظر: توضيح نهج البلاغة 2: 186، وفيه: «والفرق بين الغبطة والحسد أن الغبطة تمني المرء أن يكون لنفسه مثل ما لغيره، والحسد تمني المرء زوال نعمة الغير». الفروق اللغوية: 383، وفيه: «الفرق بين الغبط والحسد: أن الغبط هو أن تتمنى أن يكون مثل حال المغبوط لك من غير أن تريد زوالها عنه، والحسد أن تتمنى أن تكون حاله لك دونه، فلهذا ذم الحسد ولم يذم الغبط...».
3- سورة المطففين، الآية: 26.
4- سورة البقرة، الآية: 148.
5- علل الشرائع 1: 85.
6- سورة الأنفال، الآية: 46.
7- سورة البقرة، الآية: 164.

معانيه: إن الناس يتنافسون لأن التنافس فرع الاختلاف، فإذا رأى شخص أن آخر قام بعمل صالح فيكون هذا مدعاة للتنافس، فيقول: لماذا لا أعمل مثله؟ ولذا ف(اختلاف أمتي رحمة) بهذا المعنى صحيح، بل هو ضمن سنّة اللّه سبحانه وتعالى في هذا الكون {وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(1).

إذن، فالجميع يتمكنون أن يجعلوا أنفسهم محلاً قابلاً للرحمة الخاصة، وفي الوقت نفسه يمكنهم أن يسلبوا تلك الرحمة عن أنفسهم.

ورد في الحديث عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «إني أخالط الناس، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم، فيقولون: فلان وفلان لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق، قال: فاستوى أبو عبد اللّه جالساً، وأقبل عليَّ كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من اللّه، ولا عتب على من دان بولاية إمام عدل من اللّه، قال: قلت: لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء! فقال: نعم، لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء، ثم قال: أما تسمع لقول اللّه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ} يخرجهم من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة، لولايتهم كل إمام عادل من اللّه، قال اللّه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ} قال: قلت: أليس اللّه عنى بها الكفار؟ حين قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: فقال: وأي نور للكافر وهو كافر فاخرج منه إلى الظلمات؟! إنّما عنى اللّه بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام، فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من اللّه خرجوا بولايتهم إياهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب لهم النار مع الكفار، فقال:

ص: 207


1- سورة الروم، الآية: 22.

{أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1)»(2).

إذن، فالإنسان يتمكن أن يجعل نفسه قابلاً للرحمة، ويتمكن أن يسلب من نفسه هذه الرحمة، فلو استثنينا الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) الذين اصطفاهم اللّه وجعلهم من طينة أعلى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}(3)، لو استثنينا هؤلاء فسائر الناس تكون درجاتهم حسب أعمالهم وعقائدهم، فإذا كانت عقيدة الإنسان سليمة وعمله صحيحاً كانت درجته أكبر.

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل في كل إنسان القدرة على الخير والشر حتى يتمّ الامتحان، {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(4)، فكل إنسان لديه استعداد أن يكون هو الأفضل.

والإنسان يتحسر يوم القيامة - حتى المؤمنين الصالحين - حيث كان بإمكانه أن يكون أفضل مما هو عليه، وكان بإمكانه أن يحصل على المقامات العالية.

وهناك فرص كثيرة تذهب على الإنسان، وخاصة بالتسويف، إن الإنسان يسوّف ويؤخر عمله، إلى أن ينتهي عمره فجأة وبدون إنذار مسبق.

ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أنه هيّأ كل الظروف لنا، ولذا فلا توجد حجة يوم القيامة لأيّ فرد، وقد أكمل اللّه نِعمه علينا في بلد الإسلام، فنحن ولدنا من أبوين مسلمين، وفي مجتمع إسلامي، وكذلك أنعم علينا بأزمنة وأمكنة مباركة.

ص: 208


1- سورة البقرة، الآية: 257.
2- مستدرك الوسائل 18: 174.
3- سورة الحج، الآية: 75.
4- سورة الشمس، الآيات: 7-10.

فالزمان مناسب والمكان مناسب، والظروف مناسبة، وقد هيّأ اللّه كل هذه الأمور لنا. لذا ينبغي لنا أن نستفيد من ألطافه لننال رحماته الخاصة.

ص: 209

(26) الرحمة الإلهيّة حكمة خلق الناس

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1).

ذكرنا في ما مضى إن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، وإنّما خلقه لحكمة، وقد أشار سبحانه وتعالى لهذه الحكمة بقوله: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، أي: إنه خلقهم للرحمة، فاللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان لا لحاجة منه إليه؛ لأن اللّه غني عن عباده، وإنّما خلقه لكي يرحمه، وطريق هذه الرحمة هو العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3)، فإنه قد يكون غرض أدنى وغرض أقصى. مثلاً: قد يخرج الإنسان من بلده لزيارة الإمام الرضا(عليه السلام)، ولكنه يمر بمدينة قم المقدسة، فغرضه الأقصى هو زيارة الإمام الرضا(عليه السلام)، ولكن له غرض آخر وهو أقرب من الأوّل، وهو زيارة السيد المعصومة(عليها السلام).

إذن، فالغرض الأقصى من الخلق هي الرحمة، وطريق هذه الرحمة هي العبادة وهي الغرض الأدنى. لكن هذا الإنسان يجب أن يكون قابلاً لتلك الرحمة؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، والحكيم لا يفعل فعلاً من دون مصلحة؛ لأن معنى

ص: 210


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.
2- سورة هود، الآية: 119.
3- سورة الذاريات، الآية: 56.

الحكمة هو وضع الأشياء في مواضعها، واللّه سبحانه وتعالى رحيم وفي الوقت نفسه حكيم، وحكمته تكون السبب في أن يرحم عباده، فإذا وجدنا شخصاً لم يرحمه اللّه فلعدم الحكمة في رحمته؛ لأنه لم تكن له القابليّة لهذه الرحمة.

ولتقريب الفكرة نذكر المثال التالي: إذا كان هناك شخص كريم ورحيم، وجاء رجل فقير وطلب منه المال، وكان ذلك الرجل الكريم يعرف أن السائل سوف يشتري بهذا المال سلاحاً ويقتل به شخصاً، فهل من الحكمة أن يدفع له المال؟! إنه إذا دفع المال له فسوف يلومه العقلاء، ويقولون له: صحيح أنت رجل كريم ورحيم، ولكن في الوقت نفسه لا بدّ أن تكون حكيماً، وتجعل كرمك ورحمتك في إطار الحكمة.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، وحكمته تقتضي أن تكون رحمته الخاصة للمؤمنين فقط؛ لأن غير المؤمن ليست له قابلية لتلك الرحمة الخاصة، فإفاضة تلك الرحمة لغير المؤمن خلاف الحكمة، واللّه سبحانه وتعالى لا يفعل أمراً خلاف الحكمة.

بل للّه عنده رحمة عامة للجميع، ورحمة خاصة للمؤمنين فقط قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...}(1)، فينبغي على الإنسان أن يجعل نفسه قابلة لتلك الرحمة الخاصة، حتى يفيض اللّه سبحانه وتعالى بحكمته عليه منها.

القابلية للرحمة الخاصة

ولكن كيف الإنسان يجعل نفسه قابلاً لتلك الرحمة؟

والجواب: إن ذلك يتم من خلال الإيمان والعمل الصالح؛ لذا نجد في

ص: 211


1- سورة الأعراف، الآية: 156.

الآيات الشريفة التأكيد على ذلك، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا}(1).

إن المشكلة تكمن في الإنسان نفسه، حيث إن نفسه ترغّبه في الكسل والفرار من المسؤوليات والاستسلام للشهوات، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ}(2)، ومن ذلك التسويف، حيث إن النفس تخدع الإنسان بالتسويف، وخلق الأعذار؛ لأن الإنسان بطبعه يريد أن يدافع عن نفسه، وإذا كان مداناً فلا تعجبه هذه الحالة.

مثلاً إذا لم يؤدِ الواجبات، وكان مقصراً في الفرائض، فسوف يدافع عن نفسه، ولا يريد أن يتحمّل المسؤولية، فالنفس تسوّل له ذلك، بحيث إنه يشعر أن ضميره مرتاح؛ لأنه إذا خدع نفسه ينام براحة بال، ومن تسويلات النفس أنها تأتي بالأعذار الواهية، لكي يقتنع الإنسان، ويكون مرتاح الضمير.

لذا على الإنسان أن لا يفرّط في الواجبات، ولا يصغي إلى نفسه الأمارة بالسوء؛ لأنها خدّاعة، فالنفس تخدع الإنسان وتصوّر له الأعمال السيئة بصورة حسنة: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}(3)، وإذا ارتكب السيئات فسوف تبرر النفس فعله.

إنه يجب على الإنسان أن يلتفت لذلك، ويحاول ترويض نفسه والاهتمام بالعمل الصالح، فأي عمل يقوم به - سواء كان من الأعمال الصالحة أم من الأعمال الاجتماعية المختلفة - ينبغي أن يضع في باله احتمال أن يكون هذا

ص: 212


1- سورة النساء، الآية: 175.
2- سورة يوسف، الآية: 53.
3- سورة فاطر، الآية: 8.

العمل غير صحيح، فلعل النفس في حالة خداعها تصور له صحة العمل مع كونه رياءً مثلاً.

إن العمل السيئ له آثار، والعمل الحسن له آثار أيضاً، فإذا ابتلي الإنسان بسيئات عمله فالنفس دائماً تبرر له ذلك، وتقول له: إنك على حق، وهذا سوف يؤدّي إلى أن لا يقوم الإنسان بواجباته، ويسوّف في أعماله، وبعد ذلك يمضي عمره وينتهي، ويوم القيامة يكون في حسرة: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}(1)، فلا يوجد هناك رجوع لتدارك الأمر: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2).

نفس واحدة للحق

إن زيد بن علي بن الحسين رضوان اللّه عليه الشهيد أراد أن يثور ضد بني أمية في زمان الإمام الباقر(عليه السلام) فلم يأذن له، وفي زمان الإمام الصادق(عليه السلام) أراد أن يثور فأذن له(3).

ص: 213


1- سورة مريم، الآية: 39.
2- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
3- عن ابن أبي عبدون، عن أبيه قال: «لما حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون، وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس، وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا(عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل، ولولا مكانك مني لقتلته، فليس ما أتاه بصغير، فقال الرضا(عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي(عليه السلام) فإنه كان من علماء آل محمّد، غضب للّه عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر(عليه السلام) أنه سمع أباه جعفر بن محمّد يقول: رحم اللّه عمي زيداً إنه دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عم، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلما ولى قال جعفر بن محمّد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه، فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟! فقال الرضا(عليه السلام) إن زيد بن علي(عليه السلام) لم يدعِ ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى للّه من ذاك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدعي أن اللّه نص عليه، ثم يدعو إلى غير دين اللّه، ويضل عن سبيله بغير علم، وكان زيد واللّه ممن خوطب بهذه الآية: {وَجَٰهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَىٰكُمْ} [سورة الحج، الآية: 78]» بحار الأنوار 46: 175.

وقد كان الإمام علي بن الحسين السجاد(عليه السلام) قد أخبر بأن ولده زيداً سوف يُصلب في كناسة الكوفة(1).

والذي يظهر من الروايات أن الإمام الصادق(عليه السلام) أجاز لزيد الخروج على بني أمية، بينما لم يرخّص لأصحابه الخاصّين أن يثوروا مع زيد، ولعل السبب في ذلك أنه(عليه السلام) كان يريد أن ينشغل أصحابه الخاصين بنشر العلم، من خلال انتهاز ضعف بني أمية ومن ثم زوالهم وضعف بني عباس قبل استحكام دولتهم، فإذا اشترك أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) في ثورة زيد فربما يقتلون، فلا يبقى منهم أحد يوصل هذا العلم إلينا(2).

إلّا أن زيداً(عليه السلام) لم يكن يدري أن الإمام الصادق(عليه السلام) منع أصحابه الخاصّينمن المشاركة معه في ثورته، فجاء إلى أحد أصحاب الإمام(عليه السلام) وهو أبان، فدار

ص: 214


1- عن أبي حمزة الثمالي قال: «كنت أزور علي بن الحسين(عليهما السلام) في كل سنة مرّة في وقت الحج، فأتيته سنة وإذا على فخذه صبي، فقام الصبي فوقع على عتبة الباب فانشج فوثب إليه مهرولاً، فجعل ينشف دمه ويقول: إني أعيذك أن تكون المصلوب في الكناسة، قلت: بأبي أنت وأمي وأي كناسة؟ قال: كناسة الكوفة، قلت: ويكون ذلك؟ قال: إي والذي بعث محمّداً بالحق لئن بعثت بعدي لترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة، وهو مقتول مدفون منبوش مسحوب مصلوب في الكناسة، ثم ينزل فيحرق ويذرى في البر، فقلت: جعلت فداك وما اسم هذا الغلام؟ فقال: ابني زيد، ثم دمعت عيناه» بحار الأنوار 45: 351.
2- ورد في الروايات مدح لهؤلاء الأصحاب: فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي(عليه السلام) إلّا زرارة وأبو بصير المرادي ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هدى، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي(عليه السلام) على حلال اللّه وحرامه، وهو السابقون إلينا في الدنيا وفي الآخرة»، وعنه(عليه السلام) قال: «رحم اللّه زرارة بن أعين، لولا زرارة لاندرست آثار النبوة، أحاديث أبي(عليه السلام)» [الاختصاص: 66]، فأغلب علم أهل البيت(عليهم السلام) وصل لنا عن الإمام الصادق(عليه السلام) عبر هؤلاء؛ لذا منعهم الإمام(عليه السلام) من المشاركة في ثورة زيد، ولعلّه توجد هناك جهات أخرى.

حوار بينهما قال أبان: «فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: قلت له: إنّما هي نفس واحدة، فإن كان للّه في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناجٍ، والخارج معك هالك، وإن لا تكن للّه حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء»(1).

إن الإنسان لديه نفس واحدة، فإذا مات ميتة غير مرضية للّه سبحانه وتعالى فسوف يكون من أهل جهنم، وهنا ليس مجال للخطأ؛ لذا يجب على الإنسان أن يكون في بيّنة من أمره؛ لأنه إمّا أن يفوز بالجنة، وإمّا يخسر فيدخل النار قال اللّه تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(2).

والإنسان المؤمن يكون مستعداً لبذل نفسه إذا كان مأذوناً له بالخروج، وأمّا إذا كان غير مأذون فلا يبذل نفسه، وهذا ليس جبناً وخوفاً، بل عمل بالتكليف لأنه يجب عليه أن يحتاط، فإن النفس خدّاعة وتأتي بالمعاذير المختلفة لتخدعه، فإن الباطل لو كان واضحاً لما خدع به الناس، ولكن المشكلة أنه يوجد هناك خلط بين الحق والباطل، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «إنّما بدأ وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللّه، ويتولى عليها رجال رجالاً(3) على غير دين اللّه، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث(4) فيمزجان، فهنالك يستولي

ص: 215


1- الكافي 1: 174.
2- سورة البقرة، الآية: 132.
3- أي: يستعين عليها رجال برجال.
4- الضغث: بالكسر قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس، يريد أنه إن أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيها له من الباطل يلتبس به، وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به، فذلك ضغث الحق وهذا ضغث الباطل. ومصادر الأهواء التي ينشأ عنها وقوع الفتن إنّما هي من الالتباس الواقع بين الحق والباطل.

الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى»(1).

فأهل الأهواء لا يأتون مباشرة ويقولون: أيها الناس نحن نريد أن نسلبكم دينكم وإيمانكم، وإنّما يأتون بمظهر المتدين الحريص على هداية الناس ثم يبثون سمومهم، فإن فرعون عندما كان يعارض موسى(عليه السلام) كان يقول: أنا على الحق وأنا أهديكم للرشاد: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2)، وأمّا موسى(عليه السلام) فكان يقول نفس الكلام، ولكن الفرق بينهما هو أن موسى(عليه السلام) كان يقول كلمة الحق ويريد بها الحق، وأمّا فرعون فكان يقول هذه الكلمة ويريد بها الباطل.

وهكذا حال الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد كان شعارهم آية قرآنية، وهي قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(3)، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «كلمة حق يراد بها باطل»(4)، فهي كلمة حق لأنها آية قرآنية، إلّا أنهم أرادوا بها الباطل.

والحاصل: إن للإنسان نفساً واحدةً، فيجب عليه أن يحافظ عليها، ويحتاط لها في الحق المحض، وإلّا فأصحاب الأهواء والأفكار الباطلة يصوّرون الباطل حقاً، وكثير من الناس ينخدعون بذلك.

ص: 216


1- نهج البلاغة 1: 99.
2- سورة غافر، الآية: 29.
3- سورة الأنعام، الآية: 57؛ سورة يوسف، الآية: 40 و67.
4- نهج البلاغة 1: 91.

(27) من لطف اللّه تعالى

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(1).

لطف اللّه في النبي وآله (عليهم السلام)

إن من لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا وعلى البشرية جمعاء أنه أرسل إلينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واختار للإمامة أهل بيته(عليهم السلام)؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلقهم قبل خلق الخلق وجعلهم محدقين بعرشه(2)، يعلّمون الملائكة التسبيح والتهليل(3)، وكان خلقهم من عنصر أعلى وأشرف لأنه خلقهم من طينة عليين ومن أعلى منها(4) ولكن لطفاً بالعباد أنزلهم إلى هذا العالم؛ لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ

ص: 217


1- سورة التوبة، الآية: 119.
2- انظر: من لا يحضره الفقيه 2: 613، فقد ورد في زيارة الجامعة الكبيرة: «خلقكم اللّه أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتى من علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه».
3- انظر: علل الشرائع 1: 23، وفيه: عن حبيب بن مظاهر الأسدي (بيّض اللّه وجهه) أنه قال للحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام): «أي شيء كنتم قبل أن يخلق اللّه عزّ وجلّ آدم(عليه السلام)؟ قال: كنا أشباح نور ندور حول عرش الرحمان، فنعلم الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد».
4- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 8: 13.

عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِاللَّهِ}(1)، فينبغي علينا أن نستفيد من هذا اللطف، ومن معاني لطف اللّه سبحانه هو أنه بارّ بعباده ولذا تفضّل علينا بأن خلقنا، وغمرنا بالنعم، وعندما أمرنا بالطاعات فليس لحاجة منه لطاعاتنا؛ فلو كفر الناس جميعهم فإن اللّه هو الغني الحميد، لا يحتاج إلى عبادتهم، وإنّما أمرنا بالعبادة لأن نفعها يرجع إلينا، وهكذا عندما أمرنا ونهانا، فنفع الأمر يعود إلينا إذا امتثلنا، وضرر النهي يعود إلينا إذا خالفنا، ونحن قد لا ندرك المصلحة أو الضرر، وقد يقول الإنسان: إنه لماذا حرم اللّه هذا، وأوجب هذا؟ ونحن لقصور عقولنا أو لقلّة معلوماتنا لا ندرك ذلك؛ فاللّه سبحانه وتعالى علّمنا بلطفه، وحتى الجنة هي من لطف اللّه، فلا أحد بذاته أو بعمله يستحق الجنة وإنّما تفضّل اللّه سبحانه وتعالى بها على عباده المؤمنين، فإذا عبدناه فهذه العبادة لا توفّي حتى حق نعمة من نعمه سبحانه وتعالى.

إذن، فكل شيء تفضّل من اللّه سبحانه وتعالى، لذا في الحديث: أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمدني اللّه برحمة منه وفضل»(2).

فجميع أهل الجنة يشعرون ويعلمون أن دخولهم الجنة إنّما هو بفضل من اللّه سبحانه وتعالى.

وفي المقابل يدرك أهل النار ويعلمون أن دخولهم فيها إنّما هو لسوء أعمالهم، فهم يستحقون ذلك، وليس في هذا ظلم.

والحاصل: إذا لم يستطع الإنسان أن يوفّي حق النعم، فليوفِّ جزءاً صغيراً من حقها، ولذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن

ص: 218


1- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
2- بحار الأنوار 7: 11.

أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»(1)، لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل الإمام(عليه السلام) وصياً لرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يهدي الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(2)، فالرسول هو المنذر، ولكل قوم في كل عصر هاد(3)،

فقد اختار اللّه سبحانه وتعالى للناس هداة، أوّلهم أمير المؤمنين وآخرهم الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، وقد أرسل رسوله هادياً للناس، واختار أوصياءً للهداية أيضاً، فلنُعينهم لكي نسهّل المهمة عليهم، مع أنهم لم يكونوا محتاجين إلينا؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يرجعهم إلى مكانهم، لكن فلنُعينهم، وإذا لم نتبع الرسول والأئمة(عليهم السلام) فلا يعني هذا فشلهم في مهمتهم - وهي التبليغ - فقد أدّوا هذه المهمة بأحسن وجه، ولكن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتأذى لو رأى إصرار الناس على الذنوب، وعدم قبول كلامه، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(4).

والحرص هو شدة الرغبة في الشيء، وإذا كان في المادّيات فهو مذموم، لكن إذا كان في المعنويات فهو جيد، كشخص حريص على أن يدرك الصلاة في أوّل وقتها، أو هو حريص على أن يدرك الجماعة في الصف الأوّل، وغير ذلك، فهذا حرص جيد ممدوح.

إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أدّى المهمة بأحسن وجه، لكنه كان يتحسّر إذا رأى ضلال

ص: 219


1- نهج البلاغة 3: 70.
2- سورة الرعد، الآية: 7.
3- انظر: الكافي 1: 192، وفيه: عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: «رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنذر، ولكل زمان منّا هادٍ يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد».
4- سورة التوبة، الآية: 128.

الناس وعصيانهم وتخاذلهم فأنزل اللّه سبحانه وتعالى عليه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ}(1).

بناءً على ذلك علينا الالتزام الكامل، الذي سيوصلنا إلى الدرجات العالية، فبعض الناس يرتكب بعض الذنوب وبعض الزلّات ويقول: إن باب التوبة مفتوح، والشفاعة موجودة، وهذا صحيح، فباب التوبة مفتوح والشفاعة موجودة، ولكن هل يُوفَّق الإنسان من التوبة؟ لأن بعض الذنوب تؤدّي إلى الكفر، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2).

وحتى لو وفّق الإنسان للتوبة أو شملته الشفاعة أفلا يخجل من عمله أمام اللّه تعالى وأمام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، والملائكة، بل أمام الخلق في يوم القيامة؟ حيث تُكتشف كل ذنوبه، وحتى ما أضمره في قلبه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(3). وكذلك حال العذاب في البرزخ، وقد تؤدّي الذنوب إلى خفض الدرجات، فهناك درجات عالية ودرجات دانية، فينبغي على الإنسان أن يكون في الدرجات العالية لا في الدرجات الدانية.

إن يوم القيامة هو يوم الحسرة؛ حيث يتحسر كل إنسان، فقد يتحسر البعض على فوت الدرجات العالية، حيث كان يمكنه أن يصل إليها، لكنه فرط فيه ذلك فحصل على الدرجات الدنيا؛ لذا يلزم على الإنسان أن يجعل رضا اللّه سبحانه وتعالى نُصب عينيه، حتى يعين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) في المهمة التي أنزلهم اللّه سبحانه وتعالى إلى هذه الدنيا من أجلها.

ص: 220


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة الطارق، الآية: 9.

(28) العبادة والطاعة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1).

إن العبادة والعبوديّة في اللغة: هي منتهى الخضوع(2)، فإذا خضع الإنسان لشخصٍ أو لشيءٍ غاية الخضوع فتسمى هذه الحال ب(عبادة)، و(عبودية) وتستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم والروايات بهذا المعنى.

أقسام العبودية

لكن هناك مصداقان في هذا المجال:

1- فقد يكون الخضوع بقصد التأليه، كأن يجعل الإنسان شخصاً أو شيئاً ما إلهاً ويخضع له، وهذا النوع من العبادة خاص باللّه سبحانه وتعالى، فإذا خضع الإنسان لصنم أو شخص أو شمس أو حجر أو مدر بقصد التأليه فهو كافر أو مشرك.

2- وقد يكون الخضوع بقصد الطاعة، بمعنى أن يطيع الإنسان شخصاً ما، وقد ورد هذا النوع من العبودية في القرآن الكريم ونسب إلى غير اللّه سبحانه وتعالى أيضاً، كما في قوله تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}(3)، والعباد: جمع عبد، لأن العبد يكون خاضعاً لأوامر سيده

ص: 221


1- سورة النساء، الآية: 80.
2- انظر: الصحاح 2: 503.
3- سورة النور، الآية: 32.

لكونه مملوكاً لا يقدر على فعل شيء.

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1)، فمن أطاع الرسول فقد أطاع اللّه، لأنّ اللّه هو الذي أمر بإطاعته، وقد أمرنا اللّه تعالى بإطاعة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إطاعة مطلقة. كما أمر بإطاعة آخرين لكن بشرط أن لا تكون في معصية.

ولا تجوز إطاعة مَن نهى اللّه عن إطاعته؛ ولذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا}(2).

لذا حينما كان يأتي أحد المشركين إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كي يدخل الإسلام فإذا كان اسمه جميلاً حسَناً يبقيه، وأمّا إذا كان اسمه قبيحاً يغيره أحياناً، وإذا كان اسمه تعبيداً لصنم معين كأن يكون (عبد العزى) أو (عبد اللات) أو (عبد ود)، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يبادر لتغيير هذه الأسماء؛ أمّا إذا كان اسم الشخص مركباً من (عبد) و(شخص آخر) تجوز إطاعته فلم يكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يغيّره، فقد كان اسم أحد أصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبد المطلب بن ربيعة(3).

ص: 222


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة الإنسان، الآية: 24.
3- انظر: بحار الأنوار 15: 119-123؛ المطلب ليس من أسماء اللّه عزّ وجلّ، بل هو اسم لأخي هاشم جد الرسول، وحين تزوج هاشم في المدينة المنورة أنجبت زوجته شيبة الحمد، وقد توفي هاشم في غزة حين كان ذاهباً في تجارة، فبقيت زوجته في المدينة مع أهلها، وكبر شيبة الحمد في المدينة، ولما بلغ سن المراهقة، جاء المطلب واصطحب ابن أخيه، وأعاده إلى أهله في مكة، وعند دخول شيبة أوّل مرّة لمكة تصور أهلها أنه عبد اشتراه المطلب فأسموه عبد المطلب، وبقي هذا الاسم ملاصقاً له، بينما كان اسمه الحقيقي هو شيبة الحمد، ومن الطريف في الأمر أني قرأت إحدى فتاوى ابن باز، يذكر فيها أن تسمية عبد الحسين لا تجوز؛ لأنها عبارة عن شرك، ثم سئل: ولماذا الرسول لم يغيّر اسم عبد المطلب بن ربيعة؟ فقال: إن عبد المطلب يجوز استثناءً!! وكأنَّ الشرك قابل للاستثناء!! بل إذا جازت تسمية عبد المطلب فمن باب أولى أن تجوز تسمية عبد الحسين.

وعندما أسلم لم يغيّر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اسمه، مع أنه لو كان منسوباً لأحد الأصنام لغيّره، إن هذا النوع من العبودية لا يتعلق بالتأليه، وإنّما بإطاعة من أمر اللّه سبحانه وتعالى إطاعته، أو لم ينهَ اللّه سبحانه وتعالى عن إطاعته.

والحاصل: أن عبادة اللّه تعالى هي بمعنى تأليهه وطاعته، فأمّا التأليه فهو خاص به سبحانه وتعالى، وأمّا الطاعة فإنها الامتثال لأوامر ونواهي اللّه سبحانه وتعالى، فإذا أمرنا تعالى بشيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننفذ أمره، وإذا نهانا عن شيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننتهي عن ذلك الشيء، فلا يحق لنا أن نعترض على حكم اللّه سبحانه وتعالى.

تمرد إبليس

إن اللّه سبحانه وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم(عليه السلام)، والسجود هو غاية الخضوع؛ ولذا قيل: إن السجود هو خضوع ذاتي، ففي ذاته الخضوع، وعندما أمرهم بالسجود لآدم(عليه السلام) أبى إبليس ذلك، يقول بعض المنحرفين(1):

إن إبليس سيد الموحدين، لأنه أبى أن يسجد لغير اللّه، في ما سجد الملائكة لغير اللّه!

لكن عمل إبليس لا يسمى توحيداً، وإنّما هو تمرد على أمر اللّه سبحانه وتعالى، فاللّه لم يقل للملائكة: ألّهوا آدم، بل قال: اخضعوا له بالسجود، لذا وجب عليهم الخضوع، أمّا إبليس فقد أبى واستكبر على اللّه سبحانه وتعالى؛ لأنه رفض أن يطيع أمره، واعتبر نفسه أعلى من هذا الأمر: {قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ

ص: 223


1- انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 1: 107، وفيه: «وكان أبو الفتوح أحمد بن محمّد الغزالي الواعظ، أخو أبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي الفقيه الشافعي، قاصاً لطيفاً وواعظاً مفوهاً، وهو من خراسان من مدينة طوس، وقدم إلى بغداد، ووعظ بها، وسلك في وعظه مسلكاً منكراً؛ لأنه كان يتعصب لإبليس، ويقول: إنه سيد الموحدين، وقال يوماً على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى...».

خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ}(1)، فأصبح هذا العصيان استكباراً على أمر اللّه سبحانه وتعالى بعد أن كان بالأساس تكبراً على آدم(عليه السلام).

إن إبليس كان يظن أن النار أفضل من الطين، ولذا لم يسجد لآدم(عليه السلام)، مع أن الطين الذي خلق منه آدم أفضل من النار، وهذا ما أشارت له بعض الروايات، فقد ورد عن الإمام الصادق(صلی اللّه عليه وآله وسلم)أنه قال: «إن إبليس قاس نفسه بآدم، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نوراً وضياءً من النار»(2).

إذن، لو تمرد إنسان على أمر اللّه سبحانه وتعالى وزعم أنه يريد من ذلك إطاعته سبحانه وتعالى، فهذه ليست إطاعة لأنها تنطوي على عصيان.

تمرد العصاة

إننا نلاحظ بعض الناس يعتبرون أنفسهم أعلم من القرآن الكريم والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)...! طبعاً إذا تلفظ الإنسان بذلك بلسانه فذلك هو الكفر، وإذا كان الأمر في قلبه فهو شرك خفي، ولذا جاء في الحديث الشريف: «لو أن قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه اللّه، أو صنعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(3)، ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): عليكم

ص: 224


1- سورة ص، الآية: 76.
2- الكافي 1: 58.
3- سورة النساء، الآية: 65.

بالتسليم»(1).

فإذا خطر في بال الإنسان مثل هذا التفكير فهذا يعني أنه يعتبر نفسه أعلم من اللّه سبحانه ورسوله؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يحرّم أو يحلل إلّا بحكمة؛ لذا فهو سبحانه لا يأمر ولا ينهى عبثاً، ولا يخلق لغواً: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

لقد نزّه اللّه سبحانه وتعالى نفسه عن اللغو والعبث، سواء في التشريع أم التكوين والخلق، فكل شيء لحكمة، فلو قال أحدهم: لو أن الأمر الفلاني لم يكن لكان ذلك أفضل، فمعنى هذا أنه يعتبر نفسه أعلم! لذا تعتبر هذه الحالة درجة من الشرك الخفي باللّه سبحانه وتعالى، لكنه لا يحاسب على هذا النوع من التفكير أو الظن الخاطئ، لما ورد في حديث الرفع، فإذا خطرت في بال الإنسان بعض الوساوس الشيطانية ولم يظهرها في لسانه أو عمله، فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقبه عليها، ولكنها ستكون سبباً في انحطاط درجته. فالتفكير في المعصية كالدخان الذي لا يحرق الدار وإنّما يسوّد جدرانها، فذلك التفكير يكون سبباً في اسوداد القلب.

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مَن سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي، ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتولَّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأوصياءه من بعده، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدى، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وإني سألت ربي ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا عليَّ الحوض هكذا - وضم

ص: 225


1- الكافي 1: 390.
2- سورة آل عمران، الآية: 191.

بين أصبعيه - وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة، فيه قدحان فضة وذهب عدد النجوم»(1).

الإخلاص والرضا

ثم إذا أردنا أن نعبد اللّه سبحانه وتعالى يجب أن تكون عبادة خالصة لا يشوبها شيء، كما لا بدّ أن نجعل مرضاته هي الأساس، لا كيفما نرغب وكيفما نريد؛ فإن درجة الرضا بقضاء اللّه سبحانه وتعالى عالية جداً، فقد يجزع الإنسان في مصيبة فيُحبط أجره، وأمّا إذا صبر على ذلك فإن له أجراً ودرجة عالية.

إذا تعرض أحدهم لحادث وكان في قرارة نفسه مؤمناً بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي قدّر له ذلك الأمر، وكان راضياً به بلسانه وبقلبه فإنه قد يصل إلى درجة الصديقين، وبطبيعة الحال لا يصل إليها غالبية الناس، وربما يتمكن بعضهم من ذلك، ولكن يحتاج الأمر إلى جهاد كبير للنفس، فاللّه سبحانه وتعالى قدّر للصديقين هذه الدرجة بحسن أعمالهم.

سبب إطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام)

وهنا يطرح التساؤل التالي: لماذا نطيع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)؟

والجواب: إن سبب إطاعتهم هو أن اللّه سبحانه وتعالى أمر بذلك، فهم لا يعصون اللّه ولا يخطئون، فهل من المعقول أن يأمر اللّه بإطاعة شخص إطاعة تامة في كل الأمور، مع أن هذا الإنسان يخطأ ويأمر بالخطأ؟!

إن بعض الفِرَق يفسرون (أولي الأمر) في قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ

ص: 226


1- الكافي 1: 209.

اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1) بالحكام والسلاطين والأمراء ونحوهم من الرؤساء(2)، حيث يقولون: تجب طاعتهم سواء كانوا أبراراً أم فجّاراً(3).

لكن من الناحية العقلية والشرعية هل يمكن أن يأمرنا اللّه سبحانه وتعالى بإطاعة حاكم يأمر بالمعصية؟ فلو كان ذلك لكان الدين متناقضاً، فهو من جهة يحرّم القتل مثلاً، ومن جهة أخرى يقول: أطع الحاكم الذي يأمرك بقتل الناس، فقد حدث تناقض في الأمر، فهل أطيع الحاكم أم لا؟ فإذا أطعته فسوف أعصي اللّه سبحانه وتعالى، وإذا عصيته فسوف أطيع اللّه.

إذن، يجب أن يكون (أولو الأمر) المعصومين(عليهم السلام)، ولا يوجد فيهم أي احتمال للخطأ، لكي تكون إطاعته متطابقة مع إطاعة اللّه تعالى دائماً.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى إذا أمر بإطاعة شخص وبشكل مطلق فلا بدّ من أن يكون معصوماً، وحينما يأمر بإطاعة غير المعصوم فإنه يقيّده بأن لا تكون طاعته معصية للّه، مثلاً أمرنا اللّه بإطاعة الوالدين، لكن هذا الأمر ليس مطلقاً، فقال تعالى: {وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}(4)، فالإطاعة هنا مقيدة بأن لا تكون في معصية اللّه، بينما أطلق ولم يقيده في: {أُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، والإطلاق يشمل كل شيء، فيجب أن يكون أولي الأمر معصوماً ولا يحتمل في حقه الخطأ أبداً.

ص: 227


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- روى الطبري في جامع البيان 5: 202 عن ابن زيد قال: «قال أبي: هم السلاطين!!».
3- انظر: كشاف القناع 6: 202.
4- سورة لقمان، الآية: 15.

(29) التقية من دين اللّه

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}(1).

العناوين الأوّلية والثانوية

هناك أحكام بالعناوين الأوّلية وهناك أحكام بالعناوين الثانوية، مثلاً: يجب على المكلّف الصيام، وهذا عنوان أوّلي، لكن إذا كان المكلّف مريضاً بحيث يضرّه الصوم فلا يجب عليه، وهذا عنوان ثانوي، فالضرر رفع التكليف بوجوب الصوم، كما قال اللّه تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(2).

ومن العناوين الثانوية التقية، كما لو ثبت عند العامّة هلال شهر شوال ولم يثبت عندنا، بل ثبت عندنا عدم وجود الهلال أصلاً، فحينئذٍ إذا كان الإنسان في تقية يجوز له أن يفطر، بل قد يجب عليه الإفطار، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة(3)، فقال: يا أبا عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطر أفطرنا، فقال: يا غلام، عليَّ بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم واللّه إنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري

ص: 228


1- سورة آل عمران، الآية: 28.
2- سورة البقرة، الآية: 184.
3- الحيرة بالكسر: مدينة على رأس ميل بالكوفة. وأبو العباس أوّل سلاطين بني العباس المعروف بالسفّاح.

يوماً وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد اللّه»(1).

صحيح أن هذا هو اليوم الأخير من شهر رمضان والصوم فيه واجب بالعنوان الأوّلي، لكن عنوان التقية بدّل الوجوب إلى الحرمة، بمعنى أنه يحرم الصوم في هذا اليوم إذا أدّى إلى أن يُقتل الإنسان.

حكومة الأحكام الثانوية

ثم إن التكاليف في الحالة الطبيعية هي تكاليف بالعنوان الأوّلي، وأمّا الحالات الطارئة فهي عناوين ثانوية، والأحكام الثانوية حاكمة على العناوين الأوّلية.

مثلاً: عندنا قانون الإلزام: وهو قانون يرتبط بإلزام الكفار والمخالفين في الأحكام التي يعتقدون بها حتى لو كانت خلاف الدين والمذهب الحق، ففي الحديث: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»(2)، مثلاً إذا أراد شخص أن يطلّق زوجته، فللطلاق شروط، فإذا ترك شرطاً من هذه الشروط كان طلاقه باطلاً، ومن جملة الشروط أن تكون زوجته في طهر غير المواقعة، ومنها: أن يكون هناك شاهدان عادلان، لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٖ مِّنكُمْ}(3)، وأن يكون قاصداً، وهكذا باقي الشروط، أمّا أبناء العامة فلا يشترطون في الطلاق هذه الشروط، وحتى القصد لا يشترط عندهم، فإذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق، هازلاً وقع الطلاق عندهم. فإذا كان المطلِّق من أبناء العامة وطلَّق زوجته بدون الشروط الشرعية المعتبرة عندنا، يتمّ إلزامه بقانون مذهبهم فيعتبر الطلاق

ص: 229


1- الكافي 4: 83.
2- وسائل الشيعة 26: 319.
3- سورة الطلاق، الآية: 2.

صحيحاً واقعاً.

والحاصل: قانون الإلزام حكم ثانوي، فما دام المخالف يعتقد بصحة هذا الطلاق في مذهبه، فهذا الطلاق يقع طلاقاً واقعياً وصحيحاً بالعنوان الثانوي؛ لأن العنوان الثانوي حاكم على العناوين الأوّلية.

ومادام هذا الطلاق صحيحاً فعلى المرأة أن تعتد، وبعد العدّة تصبح خليّة من الأزواج فيجوز لها أن تتزوّج ولو من الشيعي، مع أن الشيعي يعلم أن زوجها طلّقها دون شهود وقصد وطهر وغير ذلك.

الولاية والبراءة

اشارة

إن تولي أهل البيت(عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم من أصول الدين، قال اللّه تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(1). قال الإمام الباقر(عليه السلام): «وهل الدين إلّا الحب»(2)، فيجب على الإنسان أن يتولى أولياء اللّه ويعتقد بهم، ويبغض أعداء اللّه ويتبرأ منهم، وهذا الحكم واجب على كل إنسان.

قد يقول البعض: إنه يلزم على الإنسان أن لا يبغض أعداء اللّه وأعداء رسوله وأعداء أهل البيت(عليهم السلام).

لكن هذا كلام باطل وهو مرفوض قرآنياً وروائياً وبإجماع الفقهاء، بل يلزم أن يكون قلب المؤمن بريء من أعداء اللّه وأعداء رسوله وأعداء الأئمة(عليهم السلام).

طبعاً التولي والتبرّي له جانبان:

جانب في أصول الدين، فتولي الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) والتبري من أعدائهم

ص: 230


1- سورة المجادلة، الآية: 22.
2- المحاسن 1: 262؛ الكافي 8: 79.

من أصول الدين؛ لأنه داخل في النبوة والإمامة.

وهناك قسم آخر من فروع الدين، وهو أن يوالي الإنسان المؤمنين ويتبرأ من الكافرين والمنافقين.

فعندما يُعَدّ التولي والتبري الفرع التاسع والعاشر من فروع الدين فليس المقصود منه توّلي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، فهذا من أصول الدين وليس من فروعه، وكذلك لا يراد التبرّي من أعداء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعداء الأئمة(عليهم السلام)، فهذا ليس من فروع الدين، وإنّما من أصول الدين، بل يُقصد به تولي عامة المؤمنين والتبري من عامة الكفار والمنافقين.

ثم إنه قد يجب الجهر بالولاية والبراءة أو قد يجوز وهذا حكم أوّلي، لكن قد تكون الظروف ظروف تقية بحيث قد يجب على الإنسان أن يراعي التقية مع تحقق موضوعها، فحينئذٍ قد لا يجوز في هكذا حال أن يجاهر بما يعتقد به.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «خالطوهم بالبرانية وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية»(1)، وهو يعني أن تتعايش معهم في المجلس العام والشارع والسوق والأماكن العامة، وأمّا في القلب أو في منزلك وبينك وبين ربك فخالفهم، إذا كان الحكم بيد الصبيان الذين هم الحكام الظلمة الجائرين.

نعم، توجد عندنا تقية تسمّى التقية المداراتية، وهذه تقية مستحبّة، وهي من أقسام التقية، بمعنى أنك لو تركت التقية في هذا الأمر لا يتوجه إليك ضرر مباشر، لا في نفسك ولا في مالك، ولا في عرضك، ولكن بالمدى البعيد يسبّب الضرر، وليس في المدى القريب. وتحمّل الضرر الذي في المدى البعيد جائز؛ لذا فالفقهاء - عادةً - لا يفتون بحرمة الأشياء المضرّة ضرراً في المدى البعيد،

ص: 231


1- الكافي 2: 220.

كالتدخين، فهو مضر لكن ليس ضرر في المدى القريب، بل في المدى البعيد.مثلاً: لو أن الشيعي لم يصلِّ مع المخالف، ولم يسلّم عليه ولم يذهب لزيارته، ولم يشترك في تشييع جنازته، فإذا لم يفعل ذلك فلا يتوجه إليه ضرر مباشر وفوراً، لكن في المدى البعيد قد تولد هذه المقاطعة الضرر، فهنا لا تكون التقية واجبة، إلّا أنها مستحبّة، فيجب على الإنسان أن يحفظ عقيدته ولا يتنازل عنها، ولكن يتعامل معهم بالتعامل الذي أمر به الأئمة(عليهم السلام).

أمر أهل البيت (عليهم السلام) بالبراءة وبالتقية

إننا في بعض الأحيان نجد أن الأئمة(عليهم السلام) أمرونا بالبراءة من أعداء اللّه والرسول وأهل البيت(عليهم السلام)، وأيضاً أمرونا بالتقية، والجمع بين الدليلين إنه يوجد هنا عنوان أوّلي وعنوان ثانوي، والتقية من ضروريات المذهب، فإذا تحقق موضوعها فقد تكون واجبة.

إن الأئمة(عليهم السلام) كانوا يحثّون أصحابهم على التقية، وهذا ما أشارت له الروايات الشريفة: ففي صحيحة معمر بن خلاد قال: «سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر(عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له»(1). و(لا) في قوله(عليه السلام): «لا تقية له» نافية للجنس، وتفيد العموم، وهي ظاهرة في العموم الاستغراقي، فإذا ترك إنسان التقية مع تحقق موضوعها فلا يحق له أن يقول: أنا أعمل بحكم اللّه سبحانه وتعالى، بل هو ترك حكم اللّه بالتقية فلا إيمان له.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلّا في النبيذ والمسح على

ص: 232


1- الكافي 2: 219.

الخفين»(1).

وفي حديث آخر: عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «التقية ترس المؤمن والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيدين اللّه عزّ وجلّ به في ما بينه وبينه، فيكون له عزاً في الدنيا ونوراً في الآخرة، وإن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيذيعه، فيكون له ذلاً في الدنيا، وينزع اللّه عزّ وجلّ ذلك النور منه»(2). والتُرس هو الوقاية التي تحفظ المؤمن.

إن الإمام الصادق(عليه السلام) كان في فترة من أيسر الفترات على أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وأحسن الظروف، فالأئمة الذين سبقوه كانوا في زمان بني أمية، وأمّا الأئمة الذين جاءوا بعد الإمام الصادق(عليهم السلام) فكانوا في ظروف صعبة جداً حيث كانت دولة بني العباس في أوج قدرتها، وهذه الأحاديث أكثرها عن الإمام الصادق(عليه السلام)، مع أنه كان يعيش في أيسر الظروف.

وفي رواية أخرى: عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إنه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله، فأقرئهم السلام وقل لهم: رحم اللّه عبداً اجتر مودة الناس إلى نفسه، حدثوهم بما يعرفون واستروا عنهم ما ينكرون، ثم قال: واللّه ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إذاعة فامشوا إليه وردوه عنها، فإن قبل منكم وإلّا فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى له، فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في

ص: 233


1- الكافي 2: 217.
2- الكافي 2: 221.

حوائجكم، فإن هو قبل منكم وإلّا فادفنوا كلامه تحت أقدامكم، ولا تقولوا: إنه يقول ويقول، فإن ذلك يحمل عليَّ وعليكم، أما واللّه لو كنتم تقولون ما أقول لأقررت أنكم أصحابي، هذا أبو حنيفة له أصحاب، وهذا الحسن البصري له أصحاب، وأنا امرؤ من قريش، قد ولدني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلمت كتاب اللّه، وفيه تبيان كل شيء، بدءُ الخلق وأمر السماء وأمر الأرض وأمر الأوّلين وأمر الآخرين، وأمر ما كان وأمر ما يكون، كأني أنظر إلى ذلك نصب عيني»(1).

إطلاق دليل التقية

إن من نِعم اللّه سبحانه وتعالى علينا أن جميع ما نعتقد به نحن، والذي بيّنه لنا اللّه في القرآن وبيّنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في أحاديث أصحابنا الصحيحة، أيضاً هي موجودة في كتب العامة(2).

ص: 234


1- الكافي 2: 223.
2- ليس معنى ذلك هو أن نأخذ عقيدتنا من كتب العامة، وإنّما يجب علينا أن نأخذها من الأدلة العقلية والنقلية الصحيحة لكن قد نحتج بما في كتب العامة عليهم. إن البعض عندما تقول له هذه الرواية موجودة في كتاب الكافي فيقول ما هو سندها؟ وكذلك لو قلت له إنها في كتاب البحار، ولكن لو قلت له: إنها في كتب العامة فسوف يقبلها!! وهذا خطأ، إذ الرواية الموجودة في كتب العامة نستفيد منها للاحتجاج عليهم، وليس هي حجة بيننا وبين اللّه سبحانه وتعالى، فنحن لا نأخذ عقيدتنا من كتبهم وإنّما نأخذ عقائدنا من القرآن الكريم ومن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومما ثبت من أهل البيت(عليهم السلام). إنه يوجد في كتب العامة مثالب أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، وفيها سيئات أعمالهم، فإذا كانت هذه في كتبهم وتنطبق مع عقيدتي، وما ثبت لدي عن الأئمة(عليهم السلام)، فأنا احتج عليهم بما في كتبهم، وهذا لا بأس، وأمّا إذا كان في كتبهم ما لا ينطبق مع ما تلقيته من أهل البيت(عليهم السلام) فأنا لا آخذ ما فيها. مثلاً: يوجد في رواياتنا أن أبا بكر كان في الغار مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كما ورد ذلك في كتاب الاحتجاج [2: 144] وغيره - فإذا كانت هناك رواية في البخاري [8: 115] تقول: إنه في وقت الهجرة كان أبي بكر في مسجد قبا يصلّي خلف سالم، فأنا لا أترك روايات أهل البيت(عليهم السلام) واستدل بما هو موجود في البخاري، الصحيح عندهم، بأن أبا بكر لم يكن في الغار؛ طبعاً آية الغار ليست مدحاً، لقوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [سورة التوبة، الآية: 40]، حيث أنزل اللّه سبحانه وتعالى سكينته على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولم يقل: (فأنزل اللّه سكينته عليهما) مع أنه كلما نزلت السكينة على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القرآن نزلت على المؤمنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة، الآية: 26]، و{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح، الآية: 26]، لكن في هذه الآية خصّ اللّه الرسول بالسكينة دون الصاحب.

فلا بدّ لنا من أن نتمسك بكلام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، ولا يحق لأيّ شخص أن يقول: أنا أترك التقية؛ لمجرد أن هذه المسألة موجودة في كتب المخالفين، بل حتى إذا كانت موجودة في كتب المخالفين فهي لا تعني ترك التقية لو كان موضوعها متحققاً فأئمتنا(عليهم السلام) أمرونا بالتقية فيجب الأخذ بها.

بين الإفراط والتفريط

إنه يوجد هناك إفراط وتفريط، أمّا التفريط فهو أن يقول البعض: إنه يلزم عليك أن تنتزع البراءة من أعداء أهل البيت من قلبك، وفي مجالسك الخاصة لا تتفوه بذلك، وأمّا الإفراط فهو ما يقوله البعض بأنه كلما تعتقد به فجاهر به، إلّا أنه لا هذا هو الذي أمرنا به الأئمة(عليهم السلام) ولا ذاك.

فلا يحق لشخص أن يقول: إن هذا الحكم الشرعي لا يعجبني، ولو فرض أن أحد قال ذلك فهذا نقص في إيمانه، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1)، فإذا قال النبي وأهل بيته(عليهم السلام) شيئاً فلا بدّ أن نسلم به، عقيدة وعملاً.

والحاصل: أن على المؤمن أن يقوّي عقيدته ويربّي أولاده على العقيدة السليمة الصحيحة، بما فيها البراءة، ولكن إذا تحقق موضوع التقية فعليه أن يراعيها.

وفي الحديث: «تسعة أعشار الدين في التقية»(2) وأحد معاني هذا الحديث

ص: 235


1- سورة النساء، الآية: 65.
2- الكافي 2: 217؛ المحاسن 1: 259.

هو أن التقية هي التي حفظت الشيعة في طول التاريخ، ولولاها لأُبيد الشيعة بأجمعهم، ففي بعض البلدان نجد النظام الحاكم يطارد الشيعة في كل شيء، حيث يستعمل أبشع أنواع الطائفية ضدهم، حيث يحرمون من المناصب والمال والثروة وكل شيء، لكن الشيعة في هذا البلد حافظوا على دينهم، ونقلوا الولاء من أهل البيت والبراءة من أعداء أهل البيت إلى أولادهم، على رغم الإعلام المضاد. ففي بعض البلدان من الصف الأوّل الابتدائي - حسب ما ينقل - يدّرسون الأطفال عقائد المجسّمة وتكفير الشيعة ومع كل ذلك لم نسمع أن أحدهم انسلخ عن دينه وعقيدته؛ وسبب ذلك أن الشيعة هناك جمعوا بين أمرين: العقيدة السليمة، حيث حافظوا عليها ونقلوها إلى أولادهم، والثاني: إنهم استعملوا التقية، فلم يعطوا الذريعة للطرف المقابل لكي يقتلهم؛ لذا حافظوا على أنفسهم ودينهم ودين أولادهم.

يقول العلامة المجلس (رضوان اللّه تعالى عليه): «... لأن أكثر الخلق في كل عصر لمّا كانوا من أهل البدع، شرع اللّه التقية في الأقوال والأفعال، والسكوت عن الحق لخلص عباده عند الخوف حفظاً لنفوسهم ودمائهم، وأعراضهم وأموالهم، وإبقاءً لدينه الحق، ولولا التقية بطل دينه بالكلية، وانقرض أهله لاستيلاء أهل الجور، والتقية إنّما هي في الأعمال لا العقائد؛ لأنها من الأسرار التي لا يعلمها إلّا علام الغيوب»(1).

ص: 236


1- انظر: مرآة العقول 9: 167.

(30) التقية المداراتيّة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، واختار أفضل الطرق لهداية الناس، فعلّم تلك الطرق لرسوله محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ومن بعدهم تلقّى الفقهاء العظام هذه التعاليم، عن رسول اللّه والأئمة(عليهم السلام)، وذكروها في الكتب الفقهية، وبينوها للناس.

إن من سنن اللّه سبحانه وتعالى معارضته منهج الباطل لمنهج الحق: فقال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ}(2)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(3).

ففي زمان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان المنافقون يتربّصون به الدوائر، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}(4)، وقال عزّ وجلّ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ

ص: 237


1- سورة فصلت، الآية: 34-35.
2- سورة الأنعام، الآية: 112.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- سورة التوبة، الآية: 101.

بِكُمُ الدَّوَائِرَ}(1)، وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى حال المنافقين بقوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وأمّا بعد رحيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد ظهرت حسيكة النفاق، وأزالوا الأئمة(عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها، ولم يكتفوا بذلك بل استعملوا جميع الأساليب لإطفاء نور اللّه سبحانه وتعالى، بدءاً من التصفية الجسدية بالقتل، إلى الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلى افتراء الأكاذيب، لكن هذا النور لم يطفأ؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد له ذلك إرادة تكوينية فقال: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(3)، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(4)، فإرادة اللّه التكوينية موجودة، ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل هذه الإرادة عن طريق الأسباب الظاهرية غالباً، وهذا ما نشاهده في حياة رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة والمدينة حيث أوذي في اللّه وجاهد طوال حياته، فقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجاهد الكفار عن طريق الأسباب الظاهرية، وقد نفّذ ما أراده اللّه سبحانه وتعالى.

وهكذا كان حال الأئمة(عليهم السلام)، فقد أوصلوا لنا هذا الدين عن طريق الأسباب الظاهرية عادةً.

ومن أفضل الطرق التي حفظت الدين، وأوصلته إلينا - وهو سبب لهداية الناس

ص: 238


1- سورة التوبة، الآية: 98.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.
3- سورة التوبة، الآية: 32.
4- سورة الصف، الآية: 8.

في طول التاريخ - ما يعبّر عنه بعض الفقهاء بالتقية المداراتيّة، أو ما يسمى بالاصطلاح الجديد بالتعايش والسلم الأهلي. وقد يعبر عن هذا الأسلوب بالجهاد، فقد يجاهد الإنسان أعداءه عبر التقية، فهو ليس ذلاً وخنوعاً، بل هو جهاد.

إن الأئمة(عليهم السلام) أمروا شيعتهم بالجهاد عن طريق التقية، وذلك لإعلاء كلمة اللّه سبحانه وتعالى. والتقية من أهم الأسباب التي حفظت الشيعة أوّلاً، ثم كانت سبباً لانتشار التشيع ثانياً، ففي زمان من الأزمنة لم يكن يشكل الشيعة إلّا واحد بالألف من المسلمين أو أقل، وأمّا الآن فالنسبة كبيرة جداً. وقد تحقق هذا بسبب هذا الأسلوب الذي اتخذه الأئمة(عليهم السلام)، وأمروا به شيعتهم.

تكالب الأعداء وموقف العلماء الربانيين

إننا نرى ما حدث في السنين الأخيرة من تكالب الأعداء على شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، حيث القتل وهتك الحرمات وغير ذلك، فلم يترك الأعداء منكراً إلّا فعلوه، لكن اللّه سبحانه وتعالى أعلى كلمة الشيعة؛ وذلك بسبب اتّباع الشيعة للفقهاء الربانيين، الذين أرشدوهم إلى تعاليم أهل البيت(عليهم السلام).

إن بعض الدول وبعض أئمة النفاق، حرّضوا سفهاءهم على قتل الشيعة عبر العمليات الانتحارية في العراق وغيره، ومن المعلوم أن الإنسان عندما يُقتل قريب له فسوف تشتد عنده القوة الغضبية(1)، إلّا أن الشيعة كانوا يتمسكون بالعقلانية وبالشرع، ويتمسكون بالقرآن الكريم وسنّة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، ووصايا الفقهاء الربانيين.

إننا هنا لا نتكلم عن الجانب السياسي والآثار العظيمة، والنفع العظيم الذي ترتّب للشيعة بسبب امتثالهم لوصايا المراجع العظام، وإنّما نتكلم عن الجانب

ص: 239


1- والقوة الغضبية من أقوى القوى عند الإنسان، خصوصاً في حالة الانتقام.

الشرعي، فالإسلام يقول: إذا عُرف القاتل وثبت ذلك بالأدلة والموازين الشرعية، وعند حاكم شرعي، فيجوز لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص.

لكن في حالات القتل العشوائي كيف يُعرف القاتل؟ وإذا أردنا أن ننتقم فربما يُقتل البريء، فوظيفة مراجع الدين هي حفظ الناس، وتبليغ الدين، ومن أهم الأمور في الشرع الدماء، وهي من الأمور التي يجب الاحتياط فيها، فإذا قتل الناصبي مجموعة من الشيعة فلا يجوز لأي شخص أن يذهب وينتقم ويقتل البريء. إن الإنسان لا يجوز له قتل الكافر البريء فكيف بالمسلم؟

والحاصل: إن الفقيه مأمور بحفظ دين الناس، ومن ذلك الالتزام بأحكام الشرع، ومن أهم أحكام الشرع حرمة الدماء، فالفقيه مكلّف بإرشاد الناس إلى حفظ الدماء وعدم القتل العشوائي، وعدم أخذ البريء بجريمة المجرم.

صحيح أن المواضيع الجزئية ليست من شأن الفقيه، وإنّما يلزم على المكلّف أن يشخّصها، لكن المواضيع العامة شأن الفقيه، وفي الحديث: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه عليهم»(1)، فالموضوع العام غير مرتبط بتشخيص الإنسان العادي، وإنّما هو مرتبط بتشخيص الفقيه الجامع للشرائط.

إن الشيعة تكبّدوا خسائر كبيرة لكن النفع الذي وصلهم نفع عظيم جداً، وهذا النفع تمثّل في سمعتهم الطيّبة في كل العالم، فلا ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى الإعلام الناصبي الذي يريد أن يقلب الحقائق، فإن العقلاء يعرفون أن من يحمل هذا الدين يؤمن بالسلم، وبعدم الاعتداء، وبعدم أخذ البريء بجريرة المجرم.

ص: 240


1- كمال الدين وتمام النعمة: 484؛ وسائل الشيعة 27: 140.

أفضل الطرق للدفاع

لو أراد شخص ما أن يقتلك - مثلاً - فيجب عليك أن تدافع عن نفسك؛ لأن هذا حق مشروع لك، ولكن بالطريقة الشرعية، ومن اتهمك فلا تقف مكتوف اليدين مقابل هذه التهمة، وإنّما يجب عليك أن تبطل ادعاءه بأفضل الأساليب.

يقول بعض الجهال: إن الشيعة لا يصلّون، وإنّما يعبدون القبور، وغير ذلك من الافتراءات، فيجب علينا أن ندافع عن أنفسنا من خلال البرهان العلمي، لكي نبطل هذه الأكاذيب.

فمن ذلك الجواب العملي، مثلاً عندما تبث عبر الفضائيات في كل يوم صلاة الجماعة من حرم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحرم الإمام الحسين(عليه السلام)، والناس يصلّون في الصحن، فالمشاهد عندما يرى ذلك فسوف تزول الشبهات عنه، فبهذا الفعل العملي يمكن أن تزال ألف شبهة.

قال اللّه تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

إن الإبطال العملي للشبهات من أفضل الطرق فكل عاقل يسمع كلام العدو يعرف أنه كاذب؛ لأنه يرى بعينه أن الشيعي يصلّي ويأتي ببقية العبادات.

وهذه توصية الأئمة(عليهم السلام) في التقية المداراتية، وهذا ليس ترك الولاء وترك البراءة، وليس ترك تربية أولادنا على الولاية والبراءة، وإنّما هو تعايش مع الآخر بما تقرّبه إلى المذهب الحق، وبالإضافة إلى حفظ النفس، فعندما يرانا الطرف الآخر ونحن بأحسن الأساليب في صلاتنا وصومنا وعبادتنا وأخلاقنا ومعاملتنا فسوف يتأثر بنا، ويكون التأثر أكبر لو قلنا لهم: إن هذا ما أمرنا به الأئمة(عليهم السلام).

ص: 241


1- سورة النحل، الآية: 125.

إن التعامل بالأخلاق الحسنة له تأثير كبير في هداية الناس، وهذا ما أشارت له بعض الروايات: فعن زكريا بن إبراهيم قال: «كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، فقال: وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَٰبُ وَلَا الْإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ}(1)، فقال: لقد هداك اللّه، ثم قال: اللّهم اهده - ثلاثاً - سل عما شئت يا بني، فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا، ولا يمسونه، فقال: لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء اللّه. قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى عنك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني، إن هذا نبي، إن هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أمه، إنه ليس يكون بعد نبينا نبي، ولكنه ابنه. فقالت: يا بني، دينك خير دين، اعرضه عليَّ فعرضته عليها فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني، أعد عليّ ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها،

ص: 242


1- سورة الشورى، الآية: 52.

وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها»(1).

إن كل إنسان عنده عقل عندما يرى الأسلوب الحق فسوف يدركه بعقله وفطرته؛ لأن هذا الدين يرتبط بفطرة كل إنسان: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «إياكم أن تعملوا عملاً يعيرونا به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله، وكونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم، واللّه ما عبد اللّه بشيء أحب إليه من الخبء. قلت: وما الخبء؟(3) قال: التقية»(4).

ومقصوده (عليه السلام)من العمل الذي يعيّر به هو: المعاصي، فمن يرتكب معصية - كالكذب مثلاً - فإن من يراه سوف يقول: هكذا يفعل الشيعة.

إن أفضل شيء لدحض الشبهات هو الممارسة العملية للعبادات، إضافة إلى الجدال بالتي هي أحسن، ومن ذلك زيارة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وخاصة زيارة الإمام الحسين(عليه السلام).

إنه من خلال التتبع لزيارات النبي وأهل بيته(عليهم السلام) لم أجد أنه يضع الزائر ظهره على القبر ويستقبل القبلة، إلّا في مورد واحد، وهو زيارة النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) يقف على قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيسلم عليه ويشهد له بالبلاغ(5)، ويدعو بما حضره، ثم يسند ظهره إلى المروة

ص: 243


1- الكافي 2: 160.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- الخبء: الإخفاء الستر.
4- الكافي 2: 219.
5- فالرسول قد بلّغ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ} سورة النور، الآية: 54.

الخضراء الدقيقة العرض(1)، مما يلي القبر ويلتزق بالقبر، ويسند ظهره إلى القبر ويستقبل القبلة، فيقول: اللّهم إليك ألجأت ظهري، وإلى قبر محمّد عبدك ورسولك أسندت ظهري، والقبلة التي رضيت لمحمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلت، اللّهم إني أصبحت لا أملك لنفسي خير ما أرجو، ولا أدفع عنها شر ما أحذر عليها، وأصبحت الأمور بيدك، فلا فقير أفقر مني، إني لما أنزلت إلي من خير فقير، اللّهم ارددني منك بخير، فإنه لا راد لفضلك، اللّهم إني أعوذ بك من أن تبدل اسمي، أو تغير جسمي، أو تزيل نعمتك عني، اللّهم كرمني بالتقوى وجملني بالنعم، واغمرني بالعافية وارزقني شكر العافية»(2).

ويفهم من قوله(عليه السلام): «كان أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) يقف على قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)...» أن الإمام(عليه السلام) كان مستمراً على هذا الفعل، ولم يفعله مرّة واحدة فقط.

والحاصل: إن هذا الفعل - أي: أن يسند الزائر ظهره للقبر - لم أجده إلّا في زيارة النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا يوجد هذا في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) أو زيارة باقي الأئمة(عليهم السلام)، فما هو السبب في ذلك؟

والجواب: لعل ذلك لأجل أن يبطل الزائر الشبهات التي تقول: إن الشيعة يعبدون القبر، وإنهم يعتبرون الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شريكاً للّه سبحانه وتعالى.

أثر التقية المداراتيّة في نشر الحق

أن أكثر العامة لا يعرفون الحق، وإنّما يتأثرون بالإعلام السلبي؛ لذا يمكن عبر التعايش والمداراة أن نبيّن لهم الحق حتى يعرفوه.

ص: 244


1- المرو: حجارة بيض براقة تورى النار أو أصلب الحجارة.
2- الكافي 4: 551؛ كامل الزيارات: 51.

وعن الصادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام): «المؤمن علوي لأنه علا في المعرفة، والمؤمن هاشمي لأنه هشم الضلالة - إلى أن قال - ، والمؤمن مجاهد لأنه يجاهد أعداء اللّه تعالى في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف»(1).

والمؤمن علوي بمعنى أن قلبه مليء بالإيمان، وليس عنده انهزامية، وهو تابع لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وأسلوبه أسلوب صحيح، وهذا الفارق بينه وبين غيره، فالبعض عنده حالة انهزامية، حيث يقول: نحن نذهب إلى العامة ونترك عقائدنا، فإذا اقتضت الوحدة الإسلامية مع العامة أن نتنازل عن عصمة الأئمة(عليهم السلام) فسوف نفعل!

إن هذه وحدة تخاذلية، فنحن لا نتنازل قيد شعره عن أيّ معتقد من معتقداتنا، وإنّما نقبل بالوحدة الإسلامية الحقيقية التي تهدي الناس إلى الدين الحق.

إن الجهاد قد يكون بالسيف، وقد يكون بالفعل، والمؤمن مجاهد لأنه لا ينبطح، فهو يجاهد أعداء اللّه عزّ وجلّ في دولة الباطل بالتقية، حيث يهدي الناس إلى الحق، فهذا جهاد في سبيل اللّه، وأمّا في دولة الحق فسوف يكون الجهاد بالسيف، وذلك حينما يظهر الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(2).

والمداراة غير المداهنة التي نهى اللّه عنها {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(3)، لأن المداهنة تعني الانبطاح والتنازل عن الحق، بمعنى أنك تريد أن تكسب رضاه ولو

ص: 245


1- علل الشرائع 2: 467؛ وسائل الشيعة 16: 209؛ بحار الأنوار 64: 171.
2- الكافي 2: 117؛ معاني الأخبار: 386.
3- سورة القلم، الآية: 9.

بالتنازل عن معتقدك: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(1)، بينما تكون المداراة على العكس من ذلك، فهي تعني أن يحافظ الإنسان على نفسه وعلى دينه ويهدى الناس إليه من خلال حسن الخلق وحسن المعاملة وحسن الأسلوب وحسن الكلام.

إن الذي يجهر بالعداوة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كافر، وإذا كان يبطنها فهو منافق، والمنافق كافر باطناً ويحشر مع الكفار في يوم القيامة، ومع ذلك فاللّه يقول لنبيه: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2)، فاللّه سبحانه وتعالى يأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتعامل هذا التعامل مع عدوه، الذي إمّا هو كافر أو منافق حتى يهديه.

ثم قال الإمام الصادق(عليه السلام): «مَن استعمل التقية في دين اللّه فقد تسنم الذروة العليا من العز، إن عز المؤمن في حفظ لسانه»(3)، و(الذروة) - بالضم والكسر - المكان المرتفع من كل شيء، و(العليا) تأكيد.

لعل البعض يتصوّر أن التقية في حالة الخوف فقط، فإذا كان الإنسان خائفاً على نفسه أو عرضه فيجوز له استعمال التقية، بينما الروايات تبين أن التقية المداراتيّة ليست في حال الخوف فقط، فقد يداري الشيعي المخالفَ لكي يهديه، وهذه ليست مداهنة، وليس تفريطاً في الحقوق.

والحاصل: أن البعض قد يكون في حالة إفراط أو تفريط، فهناك من يذهب للمداهنة وآخر يترك التقية المداراتيّة نهائياً، لكن الحد الوسط هو المتعيّن،

ص: 246


1- سورة التوبة، الآية: 62.
2- سورة فصلت، الآية: 34.
3- معاني الأخبار: 386.

فينبغي على الإنسان أن يربّي أولاده على الولاية والبراءة، فلا تنازل قيد شعره عن معتقداته، التي ثبتت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، ولكن في الوقت نفسه يداري الطرف الآخر مداراة جهاد تجرّه إلى الإيمان.

ص: 247

(31) بين المداراة والمداهنة

قال اللّه تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(1).

المراد من المداهنة: الخنوع على حساب الحق، وهذه الحالة مذمومة، فلو تعايش الإنسان مع مجتمع من المخالفين أو الكفار على حساب الحق أو جاملهم كذلك فهذه هي المداهنة المرفوضة.

مثلاً: كان شخص يُدعى في المجالس التي يُقدم فيها الخمر، فكان يشرب معهم ويقول: إنني أستحي أن لا أحضر معهم ولا أشرب لأن ذلك خلاف الآداب!! لكن هذه مداهنة على حساب الحق، فهو يريد أن يكسب رضا الطرف المقابل عن طريق المداهنة بسخط اللّه تعالى، وهذا من صفات المنافقين. يقول اللّه تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(2)، فالأولى أن يرضوا اللّه ورسوله لا أن يرضوا الناس.

وأمّا المداراة فتعني أن يراعي الإنسان مشاعر الطرف المقابل، فلا يوجّه إليه إهانة في وجهه، على أن لا يحدث هذا على حساب الحق؛ لذلك تجوز التقية للذين يعيشون في مجتمعات يسيطر فيها المخالفون أو الكفار لكي لا يؤذوهم، فيجوز الكتمان، وليس المداهنة.

ص: 248


1- سورة القلم، الآية: 9.
2- سورة التوبة، الآية: 62.

لذلك نقرأ في القرآن الكريم في قضية مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ}(1)، فقد كان يدافع عن موسى(عليه السلام) دفاعاً مستميتاً، لكنه في الوقت نفسه كان يكتم إيمانه، ولم يكن يداهن حينها، ففي الوقت الذي كان يخفي إيمانه كان ينصحهم ويدافع عن موسى(عليه السلام)، وعن العقيدة الصحيحة الحقّة من دون أن يجاهر بأنه من أتباعها.

في عالم اليوم لا يوجد شيء يخفى من عقائدنا، وذلك بسبب الفضائيات ومواقع الانترنت والكتب وغير ذلك، فكل شيء معلوم إذ الانفتاح الإعلامي لم يبقِ شيئاً قيد الكتمان، لكن في الوقت نفسه يمكن للإنسان أن يستعمل التقيّة إذا كان الظرف يتطلّبها، أو أنه يدافع ويبين الحقيقة بالمقدار الممكن، كما فعل مؤمن آل فرعون، وليس معنى ذلك محاولة إرضاء الكفار والمخالفين، إذ ذلك غير ممكن كما قال اللّه تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(2) بل المقصود دفع شرهم بالمقدار المستطاع مع الدفاع عن الحق بالطرق الممكنة.

قبل مائة سنة، قال مجموعة من حكام بلدان المسلمين ومن وقف إلى جانبهم: يجب أن نلتحق بركب الحضارة الغربية، لكنهم بعد مرور كل هذه السنوات اقترفوا سيئاتهم ولم يلتحقوا بركبهم أصلاً، فلم يأخذوا أي نقطة من نقاط القوة، بل انتشر السفور والخمور، وانتشر الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك.

والحاصل: إذا كانت الظروف صعبة فقد تجوز التقية أو المداراة، لكن ينبغي

ص: 249


1- سورة غافر، الآية: 28.
2- سورة البقرة، الآية: 120.

أن يبقى الهدف الأساسي للتقية أو المداراة هو إيصال الحق.

لقد كانت ظروف أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في غاية الصعوبة، وقد استخدم الأئمة(عليهم السلام) التقية غالباً، لكن هذا لا يعني أنهم لم يعملوا بالحق ولم يبينوه بالمقدار الممكن، وهذا الأمر لم يُعجب السلطات الحاكمة؛ لذا كانوا يعمدون إلى تصفيتهم.

إذن، فالمداراة أو التقية لا تتناقض مع مبدأ العمل بالحق إطلاقاً، وإنّما هي حفظ النفس حتى يأتي الوقت والموقع المناسب للجهر بالحق أو العمل به؛ لأنه إذا لم يستطع الإنسان أن يجهر بالحق فعليه أن يعمل به، ومن أفضل الطرق للذين يعيشون في الظروف الصعبة جداً هو ما قاله الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم»(1)، فربما يكون الإنسان في مكان لا يتمكن من الجهر بما يعتقد به، لكن الآخرين يعلمون أنه شيعي، فإذا كان صادقاً أميناً في أقواله وأعماله، وكان حسن الأخلاق فإن هذا تبليغ لما يؤمن به.

وقد نُقل إنه في بعض البلدان التي يسيطر النواصب فيها على الدوائر الرسمية ويضايقون المؤمنين اهتدى بعضهم بسبب أخلاق الشيعة العاملين في تلك الدوائر، وذلك من خلال الصدق والوفاء والالتزام بالمواعيد، والعمل بصورة صحيحة، وعدم خيانة أرباب العمل، والأمانة المالية، والالتزام بالصلاة في مواعيدها، فالالتزام بالواجبات وترك المحرمات تعتبر من الدعوة والتبليغ.

إن أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث السكان هي أندونيسيا، حيث دلت بعض الإحصائيات بلوغ عدد سكانها (220) مليون نسمة، منهم (180) مليون نسمة مسلم، والسبب في انتشار الإسلام في أندنوسيا هو ذهاب بعض التجار

ص: 250


1- الكافي 2: 77.

المسلمين إليها، سواء من اليمن أو الهند؛ لأن تربتها كانت خصبة ومنتجاتها الزراعية طيبة، وقبل ستمائة سنة تقريباً كان الناس هناك وثنيين، فاستطاع التجار المسلمون بأخلاقهم والتزاماتهم وعدم خداعهم للناس أن يرسخوا حب الإسلام لدى هؤلاء، وقد أسلموا بالتدريج، فسبب انتشار الإسلام في تلك البلاد أخلاق التجار المسلمين، فقد انعكست مبادئ وقيم الإسلام على أعمالهم، ولأن الإسلام هو دين الفطرة فإن الناس يتقبلونه إذا وصل إليهم بجوهره الصحيح.

ثم يأتي الجهر بعد ذلك: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1)، ثم ينصر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(2).

جاء في الروايات: أن عدد الأنبياء(عليهم السلام) كثير جداً، فعن صفوان بن مهران الجمال، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟ قال: قلت: ما أدري، قال: بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي ومثلهم أوصياء بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا وصياً خيراً من وصيه»(3).

وكان من بين هؤلاء الأنبياء مجموعة من الرسل، والرسول هو النبي الذي أُمر بالتبليغ، فمجموع الرسل قليلون جداً وأكثر الأنبياء كانوا غير رسل، وتكون فائدة النبي كبيرة في المجتمع، حيث يكون فيه بمثابة الإنسان الكامل، حتى وإن لم يتكلم؛ لأن وجوده وعمله يهدي الناس إلى الخير، فإذا كان في الأسرة الكبيرة رجل صالح أو امرأة صالحة فإن وجودهما فيه إشعاع وفائدة، حتى وإن لم

ص: 251


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة محمّد، الآية: 7.
3- الاختصاص: 263.

يتحدث عن نفسه للأولاد والأحفاد، كذلك وجود الأنبياء(عليهم السلام) في المجتمعات، فهو يترك تأثيره فيها حتى لو كان النبي صامتاً؛ وذلك لحكمة وجوده وصلاحه وإشعاعه الذي يؤثر في الناس.

لذا على الإنسان أن يستفيد من وقته ويهذب نفسه وعمله، وأن يكون في وجوده نوراً يؤثر في الآخرين، فيصبح من قبيل الدعاة إلى أهل البيت(عليهم السلام) بغير لسانه، وإذا تمكن أن يضيف لسانه إلى عمله فذلك نور على نور.

ص: 252

(32) آثار الذنوب

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1).

إن ضرر المعاصي والذنوب يرجع على الإنسان نفسه؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى غني عن عباده، ولا يحتاج إليهم في شيء، وإنّما خلقهم ليرحمهم، فليس له حاجة لنا ولغيرنا، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(2). وهذه الذنوب قد يكون لها آثار ملازمة لها، وقد بيّنها اللّه تعالى لنا من لطفه ورحمته لنحذر تلك الذنوب، ثم لا يخفى أن لكل ذنب أثر في الدنيا والآخرة، وقد بينت الروايات بعض هذه الآثار، ولكن ليس بالضرورة أن تكون جميع هذه الآثار لكل ذنب، ولكن كلّ ذنب من الذنوب لا يخلو من الآثار.

ومن هذه الآثار:

الأثر الأوّل: سواد القلب

إن أوّل أثر من آثار الذنوب هو سواد القلب، ففي الحديث الشريف: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(3).

ص: 253


1- سورة الزمر، الآية: 53.
2- سورة فاطر، الآية: 15.
3- الكافي 2: 271.

لعل القلب يراد به الروح أو النفس، ولعلّ السواد يراد به الاحتجاب عن النور، الذي يبعثه اللّه سبحانه وتعالى على القلوب، فإذا أذنب الإنسان ذنباً وثانياً وثالثاً وهكذا فسوف ينتشر السواد إلى أن يغطّي كل القلب، وحينئذٍ يختم اللّه سبحانه وتعالى على هذا القلب، فلا يفلح صاحبه أبداً، وهذا ما أشار له قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(1)، فيكون مصير صاحب هذا القلب إلى النار.

الأثر الثاني: عدم استجابة الدعاء

ففي الحديث الشريف: «إن العبد يسأل اللّه الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني»(2).

إننا في بعض الأحيان ندعو ونقول: يا رب، لماذا لم تستجب دعاءنا؟ وفي بعض الأحيان قد يصرّ الإنسان في الدعاء سنوات وسنوات، حيث يدعو اللّه فلا يستجاب له، ومن أسباب عدم استجابة الدعاء هي الذنوب، فالإنسان عندما يدعو قد يقدّر اللّه سبحانه وتعالى له قضاء حاجته، واستجابة دعاءه، لكنه بمجرد أن يذنب لا يقضي اللّه حاجته عقوبة له على ذنبه.

الأثر الثالث: التقتير في الرزق

كذلك إن اللّه سبحانه وتعالى يقدر الرزق لعبد من العباد فيذنب ذنباً فيقتّر عليه في رزقه، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن العبد ليذنب الذنب فيزوي(3)

ص: 254


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- الكافي 2: 271؛ وسائل الشيعة 7: 144.
3- أي: يقبض أو يصرف وينحى عنه.

عنه الرزق»(1).

فأسباب التقتير في الرزق أو التضييق متعدّدة، ولكن من هذه الأسباب هو هذا، فاللّه قدّر للإنسان الرزق؛ لأنه كريم ورحيم ولطيف، ولكن بسوء عمل الإنسان تغير ذلك التقدير إلى ضيق في الرزق.

وكذلك إن اللّه سبحانه وتعالى قد يحبس الأمطار بسبب الذنوب: فعن أبي حمزة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنه ما من سنة أقل مطراً من سنة ولكن اللّه يضعه حيث يشاء، إن اللّه عزّ وجلّ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم، وإلى الفيافي والبحار والجبال»(2).

الأثر الرابع: كثرة المشاكل

وقد يكون من آثار الذنوب كثرة المصائب والمشاكل والأمراض، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «أمّا إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}(3)، قال: ثم قال: وما يعفو اللّه أكثر مما يؤاخذ به»(4).

طبعاً هذا بالنسبة لأغلب الناس، وإلّا فأولياء اللّه سبحانه وتعالى أجلّ من ذلك، فإذا أصيبوا ببلايا أو أمراض أو مصائب فإنّما هو لرفع درجاتهم.

الأثر الخامس: على الذرية

إن بعض الذنوب تكون لها آثار في الدنيا على ذرية الرجل المذنب، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من ظلم سلط اللّه عليه من يظلمه أو على عقب عقبه،

ص: 255


1- الكافي 2: 270.
2- الكافي 2: 272.
3- سورة الشورى، الآية: 30.
4- الكافي 2: 269.

قلت: هو يظلم فيسلط اللّه على عقبه أو على عقب عقبه؟! فقال: إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا}(1)»(2).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبي من الأنبياء: إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الورى»(3).

فإذا ظلم الإنسان يتيماً في يوم من الأيام، فسوف يقع ظلم على أبنائه أو في ذريته، وهذا أثر طبيعي لظلمه، وهذا لا يخالف العدل؛ لأن ما يصيب الذرية ليس عقوبةً لهم لأنه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(4)، فإذا أذنب جدّهم فهذا لا يعني أن ما يجري عليهم هو عقوبة لهم، وإذا أكل إنسان أموال اليتامى فلا يعني أنه في المستقبل عندما تؤكل أموال ذريته يكون هذا عقوبة لأيتامه؛ لأنهم لم يفعلوا ذنباً، وإنّما هذا نتيجة عمله عقوبة له لا عقوبة للذرية.

وذلك لأن حكمة اللّه تعالى اقتضت اختلاف الرزق، وكذلك حكمته اقتضت عدم منع ظلم الظالمين عاجلاً وإنّما عقوبتهم آجلاً، فلذا قد يقدّر رزقاً أقل لذرية آكل مال اليتيم عقوبة له لا لهم، كما لا يمنع من أراد ظلمهم أيضاً عقوبة لوالدهم لا لهم.

فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «أوعد اللّه عزّ وجلّ في مال اليتيم بعقوبتين:

ص: 256


1- سورة النساء، الآية: 9.
2- الكافي 2: 333.
3- الكافي 2: 275.
4- سورة الأنعام، الآية: 164.

إحداهما عقوبة الآخرة النار، وأمّا عقوبة الدنيا فقوله عزّ وجلّ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} يعني ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى»(1).

مثلاً: لو أن المرأة الحامل استعملت بعض الأدوية التي تشوّه الجنين، فحدث تشويه في الجنين بسبب استعمالها، أو أن الطبيب أخطأ في وصف الدواء، فسبّب تشوّهاً في الجنين، أو أن الأبوين لم يرعيا الموازين الذي ذكرت حين انعقاد النطفة، فما هو ذنب هذا الجنين بحيث أنه شُوّه بسبب غيره؟ إن هذا الجنين ليس له ذنب، وليس تشوّهه عقوبة له، وإنّما كان هذا نتيجة فعل الأب أو الأم أو الطبيب.

ولو أن إنساناً قتل آخر، فما هو ذنب المقتول، حيث زهقت روحه؟ إن المقتول ليس له ذنب، لكن هذا نتيجة عمل القاتل.

فإذا أذنب الإنسان قد يكون أثر ذلك الذنب إلى سبعة أجيال من نسله، وليس هذا عقوبة لهم، وإنّما هذا ظلم منه لهم، فلو أكل الأب أموال اليتامى فهذا الأب في حالة ظلم لذرّيته أيضاً بهذا الفعل.

الأثر السادس: الدخول في النار

إن الإنسان عندما يموت تنفصل روحه عن جسمه ويتحلل الجسم ويعود إلى الأرض، وأمّا روح الإنسان فتبقى ذات حياة إلى يوم النفخ الأوّل في الصور ثم تموت ثم يحيى مع الجسد حين النفخة الثانية.

وقد وصف القرآن الكريم الشهداء بقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(2)، وقال أيضاً: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ

ص: 257


1- الكافي 5: 128.
2- سورة آل عمران، الآية: 169.

اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(1)، أي: إن الإنسان لا يشعر بحياتهم في البرزخ، لكنهم يأكلون ويشربون ويتنعمون إذا كانوا من المؤمنين، وأمّا إذا كانوا من الكافرين الفاسقين فيعذبون، وأمّا إذا كانوا من المستضعفين فيتركون كالنائمين حتى يحين يوم القيامة، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لا يُسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم»(2). ثم في يوم القيامة يجمع اللّه سبحانه وتعالى أجزاء جسم الإنسان، وترجع الروح إليها وسيكون جزاؤها الأوفى هناك.

وهناك آثار أخروية للمعاصي والذنوب، ومنها: الدخول في النار، فإذا كان الإنسان مؤمناً فيستحق الشفاعة، ولكن قد يحصل تأخير في الشفاعة، فما من إنسان من المؤمنين إلّا ويحتاج إلى الشفاعة، إمّا للنجاة من العذاب أو لرفع الدرجات، فلو مات مؤمن ولم يذنب ذنباً قط، وكان قد عمل بجميع الطاعات فهو أيضاً يحتاج إلى شفاعة. صحيح، أن هذا ليست عليه عقوبة؛ لأنه لم يصدر منه ذنب، ولكنه يحتاج إلى رفع درجاته.

وفي بعض الأحيان يسبب الذنب تأخير الشفاعة، فإذا مات الإنسان فقد يكون من أهل الجنّة وتناله الشفاعة، لكن قد لا تناله الشفاعة إلّا بعد أن يمضي في جهنم أحقاباً(3).

ثم بعد مرور الأحقاب - وهي سنين طويلة جداً - تناله الشفاعة.

ص: 258


1- سورة البقرة، الآية: 154.
2- بحار الأنوار 6: 235.
3- فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً، والحقب بضع وستون سنة، والسنة ثلاث مائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار» بحار الأنوار 8: 276.

وفي بعض الأحيان لا يعذّب وإنّما يعاقب بتأخير الثواب، ففي الحديث الشريف: «إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن»(1).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الرجل ليحبس على باب الجنة مقدار كذا عام بذنب واحد، وإنه لينظر إلى أكوابه وأزواجه»(2).

الدنيا ليست ثواباً أو عقاباً

الدنيا عند اللّه لا قيمة لها، فهي لا تعادل جناح بعوضة، ولذا يعطيها للكافر، فيعطي ما لا قيمة له لمن لا قيمة له، وأمّا المؤمن فهو أسمى من الدنيا، فقد يعطي اللّه الدنيا للمؤمن أيضاً لا لقيمة الدنيا، ولكن لأجل أن لا يكفر غالب المؤمنين كما قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}(3)، أي: ولولا أن يؤدّي إلى كفر أغلب المؤمنين - حيث إن إيمانهم ضعيف - لخصّ اللّه الدنيا بالكفار، ومنعها عن المؤمنين، ومعنى أمّة واحدة: مجتمعين على الكفر.

إن الدنيا لم يجعلها اللّه عقوبة لكافر؛ لأن جريمة الكافر بكفره وشركه أعظم من أن يعاقب عليها في الدنيا؛ لذا ترى أغلب الكفار منعّمين.

وقد أشارت الأحاديث الشريفة لذلك: فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن في كتاب علي(عليه السلام) أن أشد الناس بلاءً النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد

ص: 259


1- الكافي 2: 272.
2- مستدرك الوسائل 11: 326؛ النوادر: 90.
3- سورة الزخرف، الآية: 33.

بلاؤه، وذلك أن اللّه عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض»(1).

إذن، يجب على الإنسان أن يلتفت إلى أن الذنوب لها آثار وضعية، على نفسه وذريته في الدنيا والآخرة، ففي بعض الأحيان يذنب المؤمن والكافر، فاللّه يعاقب في الدنيا المؤمن دون الكافر حيث يؤخر عقابه إلى الآخرة.

إن بعض الناس يقول: لماذا نرى المصائب في بلادنا، بينما الكفار منعّمون مرفّهون، لا توجد عندهم مصائب؟

إن هذا الكلام على إطلاقه فيه إشكال، وليس صحيحاً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يطهّر المؤمن لذا يبتليه، وأمّا الكافر فهو من أساسه خبيث لا يتطهّر، وقد أشارت الأحاديث الشريفة لذلك: فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، أنه قال: «يا محمّد، إني حظرت الفردوس على جميع النبيين حتى تدخلها أنت وعلي وشيعتكما إلّا من اقترف منهم كبيرة، فإني أبلوه في ماله، أو بخوف من سلطانه، حتى تلقاه الملائكة بالروح والريحان، وأنا عليه غير غضبان، فيكون ذلك حلالاً لما كان منه، فهل عند أصحابك شيء من هذا»(2).

وعن أبي الصباح الكناني، قال: كنت أنا وزرارة عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «لا تطعم النار أحداً وصف هذا الأمر، فقال زرارة: إن فيمن يصف هذا الأمر من يعمل موجبات الكبائر، فقال: أو ما تدري ما كان أبي يقول في ذلك، إنه كان يقول: إذا تاب الرجل منهم من تلك الذنوب شيئاً ابتلاه اللّه ببلية في جسده، أو

ص: 260


1- الكافي 2: 259.
2- التمحيص: 40؛ بحار الأنوار 47: 381.

خوف يدخله عليه حتى يخرجه من الدنيا وقد خرج من ذنوبه»(1).

نعم أحياناً تكثر ذنوب المؤمن بحيث تضيق الدنيا عن عقوبته فقد يعاقب في البرزخ وأحياناً في يوم القيامة حتى يطهر من ذنبه.

والحاصل: إنّ اللّه لم يعطِ المؤمن من الدنيا إلّا القليل، وهو سبحانه وتعالى يريد أن يرحم المؤمن بالرحمات الخاصة، فينبغي علينا أن نجعل أنفسنا قابلين لتلك الرحمة، وهذا بأيدينا، فقد هيّأ اللّه سبحانه وتعالى الظروف لنا.

نعمة اللّه على المؤمنين

إننا نعيش في بلاد المسلمين، ولسنا في بلاد الكفار، واللّه سبحانه وتعالى قدّر أن نولد من أبوين مؤمنين، وهذه من نِعم اللّه تعالى علينا، ثم إن اللّه أرسل الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وهذه نعمة أخرى تفضّل بها علينا. وأيضاً خصّص اللّه سبحانه وتعالى أياماً لزيادة الرحمة، حيث إن فيها مزيداً من الخير والبركة، كشهر رجب وشعبان ورمضان، فهذه أزمنة يفيض اللّه الرحمة فيها فيضاً. وأيضاً قد اختار أمكنة يفيض فيها الرحمة أكثر من غيرها، ومن أفضلها مراقد المعصومين والأولياء(عليهم السلام)، حيث يفيض الرحمة فيها فيضاً، فكل شيء مترتب لنا. فمن يعصي اللّه سبحانه وتعالى - والحال هذه - أفلا يستحق عقوبة؟ ألا يستحق تطهيراً من اللّه سبحانه وتعالى بأن يقع في صعوبات؟

عاقبة كفران النعمة

إذن، ينبغي علينا أن نستثمر هذه الظروف المناسبة، التي هيّأها اللّه سبحانه وتعالى لنا، حيث غمرنا بهذه النعم، ونشكر تلك النعم، لكي يزيدها علينا ولا بأس

ص: 261


1- المحاسن 1: 172.

أن نذكر مثالين لمن كفروا بنعم اللّه تعالى.

المثال الأوّل: قوم سبأ، قال اللّه تعالى عنهم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}(1)، وقوم سبأ كانوا يسكنون في اليمن، وقد أنعم اللّه عليهم بمختلف النعم، وفي الحديث الشريف: «هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية وأموال ظاهرة»(2).

ثم أخبر سبحانه أنهم بطروا وبغوا: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب إليها الرواحل، ونقطع المنازل، {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتكاب الكفر والمعاصي {فَجَعَلْنَٰهُمْ أَحَادِيثَ} لمن بعدهم يتحدثون أمرهم وشأنهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون: تفرقوا أيادي سبأ إذا تشتتوا أعظم التشتت، {وَمَزَّقْنَٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}(3) أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق. إن اللّه أنعم عليهم بكل النعم، لكنهم كفروا النعم، فانتقم منهم(4).

المثال الثاني: بنو إسرائيل، حيث أنعم اللّه عليهم بالمنّ والسلوى، قال تعالى: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَٰعَدْنَٰكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ}(5)، والمن شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالزبد والعسل، والسلوى وهو طائر السماني(6)، حيث يأتيهم دون تعب ونصب،

ص: 262


1- سورة سبأ، الآية: 15.
2- الكافي 2: 274.
3- سورة سبأ، الآية: 19.
4- راجع بحار الأنوار 70: 337-338.
5- سورة طه، الآية: 80.
6- السماني بضم السين: نوع من الطيور معروف في بلاد الشام.

فقالوا: لا نريد هذا، بل نريد غيره: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّۧنَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}(1)، أي قال موسى(عليه السلام) لهم: اذهبوا وازرعوا؛ لذا قطع اللّه سبحانه وتعالى عنهم المن والسلوى، وكلّفهم بالزراعة والجهد والنصب.

إن اللّه سبحانه وتعالى أغدق علينا النعم، فإن شكرناها بالقلب واللسان والعمل فسوف يزيدها اللّه لنا.

والشكر بالقلب، بمعنى عرفان النعمة والمنعم في قلبه، حيث يعلم ويعرف أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليه.

والشكر بالعمل، وذلك من خلال طاعة اللّه سبحانه وتعالى، وترك المعصية.

وأمّا الشكر باللسان فواضح، فلو شكرنا اللّه فسوف يزيد نعمه علينا، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(2)، وإن لم نشكر النعم فسوف يسلبها منّا، قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(3)، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(4).

ص: 263


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة إبراهيم، الآية: 7.
3- سورة الأنفال، الآية: 53.
4- سورة الرعد، الآية: 11.

(33) الامتحان الإلهي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(1).

ذكر اللّه سبحانه وتعالى إبراهيم(عليه السلام) في آيات متعددة من القرآن الكريم، فقد كانت لديه عناية خاصة بذريته، فالكثير من الآيات التي ورد فيها ذكره في القرآن الكريم تضمنت دعاءه لذريته.

إن عناية إبراهيم(عليه السلام) بذريته هي بأمر من اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن منهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وكذلك والكثير من الأنبياء.

والبحث في هذه الآية الكريمة في عدة أمور:

الأمر الأوّل: الاصطفاء

حينما يختار اللّه سبحانه وتعالى أحداً لتبليغ رسالته فينبغي أن يكون ذلك الشخص كاملاً لا نقص فيه؛ لأن النبوة هي اصطفاء من اللّه سبحانه وتعالى، والاصطفاء هو أخذ صفو الشيء(2)، وخلقه من دون أية شوائب. والقادر الحكيم العالم لا يصطفي الناقص لأن اصطفاء الناقص حينئذٍ قبيح، واللّه منزّه عن كل نقص، وحيث كانت النبوة بعد الاصطفاء فلذا فلا أحد يستطيع أن يصل إلى مقام

ص: 264


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- انظر: العين 7: 163؛ لسان العرب 14: 463.

النبوة؛ لأنه اصطفاء من اللّه سبحانه وتعالى.

وللاصطفاء بحث مفصل نتركه لفرصة أخرى.

الأمر الثاني: الاختبار

إن اللّه سبحانه وتعالى يبتلي ويختبر الأنبياء(عليهم السلام) لتظهر حقيقتهم وذلك لأن اللّه تعالى يختبر الجميع مع علمه بحقيقة جميع الناس، وللاختبار أغراض مختلفة والتي منها ظهور حقيقة الإنسان وجوهره(1).

وكلما كان المستوى أرفع يكون الاختبار أصعب، ومناسباً لمستوى المُمتحَن؛ لذا كان الأنبياء(عليهم السلام) أشد الناس بلاءً، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل(2)؛ لأن مستوى الأنبياء(عليهم السلام) راقٍ جداً.

وكلمة البلاء في الأصل اللغوي مأخوذة من (بلو)(3) بمعنى الظهور، فمثلاً الثوب الذي يهترى بسبب كثرة الاستعمال حتى يظهر الجسم من خلاله، يقال له: ثوب بالٍ.

لذا يسمى الامتحان بلاءً لأن حقيقة الشخص تنكشف من خلاله.

ورد في حديث شريف: «إن اللّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا»(4)، فإذا كان الإنسان قليل العقل، فإن امتحانه يكون أسهل كي يناسب مستواه، لكن الإنسان الذي يتحلّى بعقل سليم يكون امتحانه بمستوى عقله ومعرفته، وبناء على ذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى يصطفي

ص: 265


1- في المدارس الحالية توجد امتحانات تكون الغاية منها إظهار المُجد من غيره والدارس من غيره.
2- انظر: الكافي 2: 253، وفيه: عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأماثل فالأماثل».
3- انظر: العين 8: 339.
4- معاني الأخبار: 1، مستدرك الوسائل 1: 84.

الأنبياء(عليهم السلام) ويجعلهم في مرتبة راقية جداً، أي: يخلقهم بهذه الدرجة العالية، ثم يختبرهم بعد ذلك بأصعب أنواع الاختبار بما يتناسب مستوى عقولهم ومقامهم، لتظهر حقيقتهم.

ابتلاء إبراهيم (عليه السلام)

لهذا اختبر اللّه سبحانه إبراهيم(عليه السلام) بأشد أنواع الاختبارات:

منها: الاختبار بالنار: فقد اختبره سبحانه وتعالى بالنار، وهو امتحان صعب للغاية، لاسيما وأنه يكون على علم مسبق بما سيجري له، وكثير من الناس يسقطون في هكذا اختبار.

لقد رموا إبراهيم(عليه السلام) بالمنجنيق نحو النار؛ لأنها كانت عظيمة جداً، ولا يستطيعون الاقتراب منها، وفي تلك اللحظة التي كان فيها إبراهيم في الهواء أرسل اللّه سبحانه وتعالى جبرئيل، فقال لإبراهيم: ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، حاجتي إلى اللّه سبحانه وتعالى، فأرسل اللّه تعالى له ثوباً من ثياب الجنة(1) فلبسه ووقاه اللّه سبحانه وتعالى من النار، وقد وصل ذلك الثوب إلى يعقوب ثم إلى يوسف، ثم وصل إلى الرسول الأكرم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهو وارث النبوة، وذلك

ص: 266


1- انظر: بحار الأنوار 12: 249، وفيه: عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال: «أخبرني ما كان قميص يوسف؟ قلت: لا أدري، قال: إن إبراهيم لما أوقدت له النار أتاه جبرئيل بثوب من ثياب الجنة فألبسه إياه، فلم يضره معه حر ولا برد، فلما حضر إبراهيم الموت جعله في تميمة وعلقه على إسحاق، وعلقه إسحاق على يعقوب، فلما ولد ليعقوب يوسف علقه عليه، فكان في عنقه حتى كان من أمره ما كان، فلما أخرج يوسف القميص من التميمة وجد يعقوب ريحه وهو قوله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ} [سورة يوسف، الآية: 94] وهو ذلك القميص الذي أنزل من الجنة، قلت له: جعلت فداك فإلى من صار ذلك القميص؟ فقال: إلى أهله، ثم قال: كل نبي ورث علماً أو غيره فقد انتهى إلى محمّد، وكان يعقوب بفلسطين وفصلت العير من مصر فوجد يعقوب ريحه، وهو من ذلك القميص الذي أخرج من الجنة ونحن ورثته».

الثوب موجود الآن عند الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

ومنها: الاختبار بالهجرة: وهو امتحان صعب أيضاً.

ومنها: الاختبار بذبح الابن: وهو الأشد على إبراهيم(عليه السلام)، حيث كان عليه أن يذبح ولده إسماعيل(عليه السلام)، فقد رزقه اللّه تعالى بولد وكان رجلاً كبير السن، قد بلغ عمره أكثر من تسعين سنة، وهو امتحان صعب جداً.

يُنقل أن رجلاً كان في كربلاء المقدسة، وهو يعمل في صيانة الأسلحة، وكان معظم الناس يملكون السلاح حينذاك، وكان لهذا الرجل ابن واحد فقط، وفي أحد الأيام وفي ما كان يختبر السلاح وقع يده على الزناد فثارت رصاصة، وأصابت ولده وقتلته يقول الناقل: وبعد مرور ثلاثين سنة رأينا هذا الرجل وهو ما يزال في ذلك الحزن السابق، وقال لنا: من ذلك اليوم الذي قتلت فيه ولدي خطأً وحتى اليوم لم أهنأ بشربة ماء، ولا بأي شيء آخر.

الإمامة عهد اللّه تعالى

من هنا نعرف حجم الامتحان الذي خاضه نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام)، وقد اجتازه بنجاح بعد أن ظهرت حقيقته كاملة، فهو نبي ومصطفى من اللّه سبحانه وتعالى، وقد مرّ بهذه الامتحانات الصعبة، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ}، أي: إنه نجح في هذه الامتحانات نجاحاً تاماً، بعد ذلك قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وهذه الآية تدل على أن الإمامة رتبة أعلى من النبوة، لذا كان بعض الأنبياء أئمة وبعضهم لم يكونوا أئمة.

ولأجل عظمة رتبة الإمامة رغب إبراهيم(عليه السلام) أن تكون في ذريته أيضاً؛ لأن الإنسان كما يريد الخير لنفسه يحبه لذريته. إن بعض الناس يقتّر على نفسه من أجل أن يرسل أبناءه للدراسة، ليضمن لهم حياة مرفهة في المستقبل؛ لأن الإنسان

ص: 267

يحب ذريته وأبناءه، ويحب أن يستمر نسله، وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى هذه الرغبة لدى كل إنسان؛ لذا رغب إبراهيم(عليه السلام) في أن تكون الإمامة في ذريته، ولذا قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}، فأجابه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}.

إذن، فالإمامة هي عهد من اللّه(1)، وقد عهد اللّه إلى إبراهيم(عليه السلام) وليس إلى الناس، كما أن اختيار الأنبياء(عليهم السلام) من اللّه سبحانه وتعالى فكذلك اختيار الأئمة(عليهم السلام)؛ ولذا فالنبوة ليست باختيار الناس، كما كان يريد كفار قريش، حينما قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(2)، أي لماذا نزلت النبوة على الرسول الأكرم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم تنزل على عروة بن مسعود الثقفي

ص: 268


1- انظر: الكافي 1: 278، وفيه: ... عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن الإمامة عهد من اللّه عزّ وجلّ معهود لرجال مسمين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى داود(عليه السلام) أن اتخذ وصياً من أهلك، فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبياً إلّا وله وصي من أهله، وكان لداود(عليه السلام) أولاد عدة وفيهم غلام كانت أمه عند داود وكان لها محباً، فدخل داود(عليه السلام) عليها حين أتاه الوحي فقال لها: إن اللّه عزّ وجلّ أوحى إلي يأمرني أن أتخذ وصياً من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني؟ قال: ذلك أريد، وكان السابق في علم اللّه المحتوم عنده أنه سليمان، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى داود: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم يلبث داود(عليه السلام) أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود أن أجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك، فجمع داود(عليه السلام) ولده، فلما أن قص الخصمان قال سليمان(عليه السلام): يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلاً، قال: قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا، ثم قال له داود: فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوم ذلك علماء بني إسرائيل وكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان: إن الكرم لم يجتث من أصله وإنّما أكل حمله وهو عائد في قابل، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود: أن القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به. يا داود، أردت أمراً وأردنا أمراً غيره، فدخل داود على امرأته فقال: أردنا أمراً وأراد اللّه عزّ وجلّ أمراً غيره، ولم يكن إلّا ما أراد اللّه عزّ وجلّ، فقد رضينا بأمر اللّه عزّ وجلّ وسلمنا. وكذلك الأوصياء(عليهم السلام)، ليس لهم أن يتعدوا بهذا الأمر فيجاوزون صاحبه إلى غيره».
2- سورة الزخرف، الآية: 31.

الذي كان عظيم الطائف، أو على أبي جهل عمرو بن هشام الذي كان أحد عظماء مكة، أو الوليد بن هشام المخزومي أخو أبو جهل؟

والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1)، فهو سبحانه اصطفى محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يصطفِ هؤلاء؛ لأن النبوة والإمامة عهد من اللّه ولا دخل للإنسان فيها.

كيفية معرفة هذا العهد

ولكن كيف نكتشف أن اللّه جعل هذا العهد في هذا الشخص دون غيره؟

والجواب: هو أن اللّه سبحانه وتعالى جعل المعجزات للأنبياء(عليهم السلام) دليلاً على صدقهم، لأنه قد يكون كلام الأنبياء وكلام الظالمين متشابهاً في الظاهر، فقد كان فرعون يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2)، وكان موسى(عليه السلام) يتحدث بالشيء نفسه، فيقول: أريد هدايتكم، لكن الفرق بينهما يظهر من خلال العمل؛ لأن كلام أئمة الحق مطابق للحق ولأفعالهم، أمّا كلام أئمة الجور فيخالف الحق وأعمالهم.

لذا لتمييز الحق من الباطل، والمحق من المبطل لا بدّ أن نقرأ السيرة والتاريخ، لكن البعض يتولى بعض الظلمة فلذا لا يريد أن تتبيّن حقيقتهم فيحاول طمس التاريخ ولو بالمنع عن ذكر سيئاتهم، وقد يحرّف بعضهم معنى قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَْٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3)، ويقول لاتذكر مساوئ السلف! مع أن هذه الآيات تذكر يعقوب وإبراهيم وإسحاق

ص: 269


1- سورة الأنعام، الآية: 124.
2- سورة غافر، الآية: 29.
3- سورة البقرة، الآية: 134.

بخير(1)، ثم يقال لبني إسرائيل لا ينفعكم هذا لأن أعمالهم لهم وأعمالكم لكم، فإذا كان الابن غير مؤمن فلن ينفعه إيمان أبيه، وهذا المعنى ورد في آيات أخرى كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(2). وعليه، فإذا طالعنا سيرة شخصٍ ما ووجدنا أن الظلم كان في منهجه طيلة حياته، فكيف نتولاه؟

مثلاً لو قرأنا سيرة معاوية لوجدنا أنه كان مشركاً في بداية أمره، حيث اشترك في الحروب التي أثارها المشركون ضد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ففي بدر كان ضمن جيش المشركين، وبقي كذلك إلى اليوم الذي فُتحت فيه مكة، ثم أظهر الإسلام خوفاً أو طمعاً. وبعد أن أصبح والياً على الشام كان يفعل أفعال السوء، ثم بغى على الإمام أمير المومنين(عليه السلام) وحاربه وأمر بسبّه وقتل أصحابه وغير ذلك من الموبقات التي ارتكبها، فكانت حياته كلها ظلماً ونفاقاً، بل تحمل وزر وظلم ابنه يزيد أيضاً؛ لذا فإن أتباع بني أمية لا يريدون أن تُكشَف هذه الأمور، ولا تظهر هذه الحقائق للناس، لذا كانوا يقولون دائماً: (لا تتحدث عن هذه القضايا...).

لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل حجته في كل مكان وزمان، ولا حجة لأحد على اللّه سبحانه وتعالى يوم القيامة كما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ}(3)، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(4)، وحتى المستضعفين الذين يتصورون أنهم لا يعرفون شيئاً، فإن حجة اللّه تعالى وصلت إلى الكثير منهم كما قال اللّه تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا

ص: 270


1- سورة البقرة، الآية: 133: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَائِكَ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
2- سورة الأنعام، الآية: 164.
3- سورة النساء، الآية: 165.
4- سورة الأنعام، الآية: 149.

يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(1)، فقول اللّه: (عسى) لأن قصورهم مشوب بتقصير منهم، فحتى لو كان أحدهم في منطقة نائية لا تصل إليه الكتب والأفكار، فمع ذلك قد يكون مقصراً؛ لأن اللّه تعالى أوصل حجته للجميع، فلو كان الإنسان يُعمِل عقله لاكتشف هذه الحجة، لكن باعتبار أنه مستضعف عسى اللّه أن يتوب عليه.

ابتلاء الرسول والأئمة (عليهم السلام)

إن اللّه تعالى اختبر الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) باختبارات صعبة لإظهار حقيقتهم؛ ولذا كان الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد الناس ابتلاءً، كما جاء في الحديث الشريف: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(2)،

وقد أوذي الكثير من الأنبياء(عليهم السلام) فمنهم من قُتل.

لكن الامتحان الذي ابتلي به الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان من أشد أنواع الاختبارات لكي تظهر حقيقته، فهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشرف خلق اللّه تعالى؛ لذا اختاره للرسالة الخالدة، وكذلك كان أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فهم أشد الناس ابتلاءً، ويبدو ذلك جلياً في ما احتمله أمير المؤمنين(عليه السلام) في بدر وأحد وحنين وخيبر وغيرها، وكذلك ما عاناه في سبيل اللّه تعالى، حيث كان يُسَبّ من فوق سبعين ألف منبراً، وقد استمر ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز، فقد روى أبو بصير قال: «كنت مع الباقر(عليه السلام) في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز، عليه ثوبان ممصران(3) متكياً على مولى له، فقال(عليه السلام): لَيَلِيَنَّ هذا الغلام فيظهر العدل ويعيش أربع سنين ثميموت، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء، قال: يجلس في مجلس لا

ص: 271


1- سورة النساء، الآية: 98-99.
2- بحار الأنوار 39: 56.
3- الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة.

حق له فيه، ثم ملك وأظهر العدل جهده»(1).

لقد رفع عمر بن عبد العزيز اللعن عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد كان معروفاً بدهائه، فعرف أن إظهار العداء لأهل البيت(عليهم السلام) يكون سبباً لزوال ملك بني أمية؛ لذا قام ببعض الأعمال لتثبيت حكمهم، وعندما مات عادوا مرّة أخرى إلى سب الإمام(عليه السلام)، فالذين جاءوا من بعده لم يعرفوا كيفية حفظ المُلك، فزال ملكهم بعده بثلاثين سنة.

إن بني أمية وأتباعهم يعارضون الإمام في حقه حتى يومنا هذا. نعم، هم الآن يستعملون النفاق، ولا يصرحون بذلك، لكنهم في حقيقة الحال نواصب، يكرهون أهل البيت(عليهم السلام)، ويظهر ذلك في مطاوي كلامهم كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)، لأن المنافق يأتي إلى المسجد ويصلّي ويلتزم بتعاليم الإسلام ظاهراً ويكتم نفاقه، لكن تعرفه بلحن القول؛ وفي الحديث الشريف يقول: «ماأضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(3)، فتراه يحاول كتمان

ص: 272


1- بحار الأنوار 46: 251.
2- سورة محمّد، الآية: 30؛ انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 177، وفيه: «... عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قال: وكنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببغضهم علي بن أبي طالب(عليه السلام)». وقال الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 2: 248: ... «حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا علي بن القاسم، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري في قوله جل وعز {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} قال: ببغضهم علي بن أبي طالب». وقال السيوطي في الدر المنثور 6: 66: «وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} قال: ببغضهم علي بن أبي طالب. واخرج ابن مرويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم إلّا ببغضهم علي بن أبي طالب». ونفس الكلام أشار له الشوكاني في فتح القدير 5: 40، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 42: 360.
3- نهج البلاغة 4: 7.

فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وإنكارها وتكذيبها، ويحاول أن يضعف ويكتم أي حديث يرتبط بهم، وإذا كان لا يستطيع إنكاره، فيلوي عنق النص حتى يكتم الفضيلة.

إن هذا هو ابتلاء، فأمير المؤمنين(عليه السلام) أفضل خلق اللّه بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولكن المنافقين يتعاملون معه ومع أتباعه بصورة غير صحيحة.

إن الجنة ليست رخيصة، بل هي غالية ومهرها غالٍ، لذا جاء في الحديث الشريف: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»(1)؛ لذا نجد أن أتباع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يتعرضون للمشاكل على نحو دائم، لكن المهم أن لا ينهار الإنسان أمام هذه المشاكل.

قد يتسائل البعض أحدهم: لماذا يعيش المسلمون والشيعة منهم على الخصوص في حياة صعبة، في ما يعيش الكفار والمنافقون في رفاه؟

والجواب واضح: وهو أن اللّه سبحانه وتعالى لا يُصعّب امتحان الكفار إذ هم ساقطون فيه وهم من أهل جهنم، فليتمتعوا في دنياهم كما قال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ}(2)، وأمّا المؤمن فينبغي ظهور حقيقته وأن إيمانه هل هو لقلقة لسان أم هو إيمان حقيقي؟ وإذا أدخله اللّه سبحانه وتعالى الجنة هل يستحقها أم لا؟ لذلك يجب أن تنطوي حياته على صعوبات، ويجب أن لا ينهار أمامها، لكي يكون تابعاً حقيقياً لأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

ص: 273


1- بحار الأنوار 67: 78.
2- سورة الزمر، الآية: 8.

(34) الثواب والعمل

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْأصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَٰفِلِينَ}(1).

إن اللّه تعالى خلق الإنسان ثم أنعم عليه بنِعَم لا تعدّ ولا تحصى، بحيث يعجز الإنسان عن أداء شكر الواحدة من تلك النِعَم وإن أمضى كل عمره في العبادة، حتى الأنبياء(عليهم السلام) كانوا يعلمون بأنهم لا يتمكنون من أداء حق اللّه سبحانه وتعالى، ولذا كانوا يستغفرون اللّه سبحانه وتعالى، وقد كان النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستغفر اللّه سبحانه وتعالى في كل يوم سبعين مرّة من غير ذنب، فقد روي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنه قال: «وإني لأستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة»(2). والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل أعماله متطابقة مع إرادة الرب سبحانه وتعالى، وهو معصوم في كل شيء حتى في ترك الأولى، وقد عَبَدَ اللّه سبحانه وتعالى حتى أنزل عليه: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(3)، فكان يصلّي على أطراف أصابعه بحيث تورّمت قدماه، ثم بعد ذلك نسخ اللّه سبحانه وتعالى هذا التكليف. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولقد قام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى

ص: 274


1- سورة الأعراف، الآية: 205.
2- مستدرك الوسائل 5: 320؛ بحار الأنوار 17: 44.
3- سورة طه، الآية: 1-2.

تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب في ذلك فقال اللّه عزّ وجلّ: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ} بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول اللّه، أليس اللّه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبداً شكوراً»(1).

ومع كل ذلك، فقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشعر أنه لم يتمكن من أداء حق اللّه؛ ليس تقصيراً؛ لأن الأنبياء(عليهم السلام) لا يصدر منهم التقصير، وخاصة الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بل لأنه كان يعلم أن اللّه أعظم من ذلك، ولكنه لا يتمكن أن يؤدّي أكثر من هذا المقدار؛ لذا كان يستغفر كالمعتذر من اللّه سبحانه وتعالى من غير ذنب.

فإذا كان هذا حال الأنبياء(عليهم السلام)، ففي غيرهم الأمر أوضح فإننا لا نستطيع أن نؤدّي حقوق اللّه سبحانه وتعالى، ولا نصل إلى كنه شكر اللّه(2).

الثواب تفضل

وعليه فنحن لا نستحق بالذات على اللّه تعالى ثواباً لأعمالنا الصالحة:

أوّلاً: لأنه تعالى غمرنا بالنعم وعبادتنا وأعمالنا لا تؤدّي حقها، وهذا كمن أنقذ غريقاً فقال الغريق له شكراً، فهل يجب على المنقِذ ثواب له على شكره؟

وثانياً: لأن نفع أعمالنا الصالحة يصل إلينا لا إلى اللّه فهو الغني عنا، وهذا كمن أخبرك بأن أمامك مهلكة فاجتنبتها، فهل يجب عليه أن يكافأك على اجتنابك المهلكة؟

ص: 275


1- الاحتجاج 1: 326؛ بحار الأنوار 10: 40.
2- انظر: الكافي 2: 98، وفيه: ... عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام): يا موسى، اشكرني حق شكري، فقال: يا رب، وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك إلّا وأنت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني».

نعم كما أن اللّه تعالى تفضّل على الإنسان بخلقه وتفضّل عليه بنِعَم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وتفضّل بالهداية بإرسال الرسل واختيار أوصياء لهم... كذلك تفضّل بالثواب على الأعمال الصالحة مع عدم كونها حقاً للعاملين، ولذا ورد في بعض الأحاديث أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمدني اللّه برحمة منه وفضل، ووضع يده على فوق رأسه وطول بها صوته»(1).

إذن، يجب علينا أن نعلم أن عبادتنا للّه سبحانه وتعالى، وارتباطنا بالأنبياء والأئمة(عليهم السلام) الذين جعلهم اللّه سبحانه وتعالى طريقاً إليه، إنّما ذلك تفضّل من اللّه سبحانه وتعالى علينا لأنه هو الذي وفقنا لذلك.

محبطات الثواب

ثم يجب أن نعلم أن العبادة قد لا يكون فيها ثواب، إمّا لبطلان أصل العبادة كما لو أتى بها رياءً، وإمّا لبطلان ثوابها حتى مع صحتها.

وذلك لأن العبادة على أقسام: فهناك عبادة صحيحة غير مقبولة، وهذا يعني أن الإنسان قد أدّى التكليف ولا يجب عليه أن يقضيه، ويوم القيامة لا يعاقب على ترك الواجب لكن ليس فيها ثواب، فإذا كان الإنسان يصلّي صلاة صحيحة لكنه يرتكب بعض المعاصي، فهذه الصلاة قد لا تكون مقبولة؛ لأن اللّه سبحانه يتقبل من المتقين، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)، فهذا الإنسان لا يقال له يوم القيامة: لماذا لم تصلِّ؟ لأنه صلّى وصلاته كانت صحيحة مطابقة للمأمور به لكن لا ثواب لها؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى وعد بالثواب بشرط التقوى، وهذا

ص: 276


1- بحار الأنوار 7: 11؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 4: 20.
2- سورة المائدة، الآية: 27.

الإنسان أحبط عمله، حيث يرى كثير من الناس يوم القيامة أن عمله قد أحبط، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(1).

إذن، يجب على الإنسان أن تكون عبادته صحيحة ومقبولة، وذلك من خلال العمل بتقوى اللّه سبحانه وتعالى. هذا أوّلاً.

وثانياً: يجب عليه أن تكون عبادته أفضل أنواع العبادة؛ لأنه في بعض الأحيان تكون عباداتنا صحيحة ومقبولة لكن درجتها متدنّية؛ لذا يكون ثوابها قليلاً.

نعم بالنسبة إلى أصل الثواب فهو كثير؛ لأن أقل درجات الجنة هي أعلى من كل الدنيا وما فيها، لكن الجنة درجات، والإنسان المؤمن يتحسر لو رأى يوم القيامة أنه كان بإمكانه الدرجات العالية لكنه قصّر في الوصول إليها.

رضوان اللّه تعالى

إن نعيم الجنة لا يوصف، ففيها: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(2)، فإذا دخل الإنسان الجنة فسوف يرى أكبر مما كان يتصوّره، فاللّه سبحانه وتعالى يعدّد نعيم الجنة، ولكن في آخر الآية يقول: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(3)، ففي الجنة الحور العين والقصور وكل شيء: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٖ}(4).

ص: 277


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: 281؛ من لا يحضره الفقيه 1: 295.
3- سورة آل عمران، الآية: 15: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٖ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}. وسورة التوبة، الآية: 72، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
4- سورة السجدة، الآية: 17.

لكن ما هو المراد من {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}؟

إن اللّه سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث، فليس له كيفيات نفسانية مثل كيفيات البشرية، إلّا أن هناك حديثاً يفسر هذه الآية: فعن ثوير، عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «إذا صار أهل الجنة في الجنة، ودخل ولي اللّه إلى جنانه ومساكنه، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته حفته خدامه، وتهدلت عليه الثمار وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابي، وصففت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال: ويخرج عليهم الحور العين من الجنان، فيمكثون بذلك ما شاء اللّه. ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري ألا هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه؟ نحن في ما اشتهت أنفسنا، ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم بالقول، فيقولون: ربنا نعم، فأتنا بخير مما نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم، يا ربنا رضاك عنّا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين(عليهما السلام) هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1)»(2).

إذن، فنعيم الجنة ليس مادّياً فقط، فأهل الجنة يأكلون ويشربون ولهم أزواج مطهرة، وهذا هو النعيم، لكن النعيم الأكبر هو رضوان اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 278


1- سورة التوبة، الآية: 72.
2- بحار الأنوار 8: 141؛ تفسير العياشي 2: 96؛ تفسير البرهان 2: 815.

(35) بين النية والعمل

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(1).

إن عمل الإنسان لا لون له، وإنّما فكره وقصده هو الذي يلوّن عمله، فالصلاة - وهي عمود الدين - أفعال من التكبير إلى التسليم، وهذه الأفعال إنّما تكون لها قيمة إذا كانت بإخلاص، فطريقة تفكير الإنسان هي التي تجعله ينوي هذا العمل للّه سبحانه وتعالى؛ ولذا كان لهذه الصلاة قيمة، وكانت عمود الدين، ونفس هذه الأفعال - من التكبير إلى التسليم - إذا أُتي بها رياءً فلا تكون لها قيمة، بل هي عمل محرّم، تتحول إلى نار في جهنم، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(2).

بل حتى العقلاء ينتهجون هذا الأسلوب، مثلاً لو دخل شخص إلى مجلس فقام له أحدهم بقصد الاحترام فيكون هذا أمراً مطلوباً ومرغوباً، لكن إذا كان هذا القيام بقصد الاستهزاء فليس بمطلوب.

وهكذا الحال في المحاكم، فلو أن شخصاً ارتكب جريمة ما لكنه لم يقصد الجريمة، بل كان يقصد عمل الخير، لكن نفس العمل لخطأ تحوّل إلى جريمة، فلا يعاقب عليه بل لا يقال له مجرم أصلاً.

ص: 279


1- سورة البينة، الآية: 5.
2- سورة الماعون، الآية: 4-7.

وحسب تعبير العلماء: الحسن الفاعلي والحسن الفعلي، فالحسن الفاعلي قد يكون مع قبح الفعل لكن لأن الفاعل كان قصده الخير لذا لا يذم، بل قد يكون ممدوحاً.

نية المؤمن خير من عمله

ومن ذلك يتّضح معنى الحديث الشريف: «نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله»(1)، وإنّما تكون نية المؤمن خير من عمله لأن عمل الإنسان الاختياري مركب من شيئين: عمل ونية، والعمل في حد ذاته لا يوجب ثواباً ولا عقاباً، وأمّا إذا انضمّت النية للعمل فسوف توجب الثواب أو العقاب.

في غزوة أحد قتل المسلمون مسلماً خطأً(2)، حيث ظن بعض المسلمين أنه من الكفار فقتلوه، فهل يعاقب القاتل ويلام؟ كلا.

إذن، فأيّ عمل اختياري مركب من جزأين: قصد وعمل؛ والجزء المهم هو النية، وليس العمل؛ ولذا لو نوى الإنسان زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) مثلاً، لكنه لم يتمكن من ذلك، فإن اللّه تعالى سوف يتفضل عليه بالثواب، والعقلاء يمدحونه

ص: 280


1- الكافي 2: 84.
2- انظر: تاريخ الطبري 2: 209، وفيه: «لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم إلى أحد وقع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أباً لك ما تنتظر فواللّه إن بقي لواحد منّا من عمره إلّا ظمئ حمار إنّما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم لعل اللّه عزّ وجلّ يرزقنا شهادة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما فأمّا ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأمّا حسيل بن جابر اليمان فاختلف عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي، قالوا: واللّه إن عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزادته عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم خيراً».

لذلك، وأمّا إذا نوى الإنسان المعصية لكنه لم يتمكن من ارتكابها، فإنه يُذمّ لكن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقبه تفضّلاً ومنّةً؛ لأنه لم يفعل ذلك الفعل.

النية لا التمني

إن النية هي القصد، وليست بمعنى التمنّي، وبعض الناس يخلطون بين النية والتمنّي، فلو أن إنساناً تمنّى بناء مسجد فهذا تمنّي وليس نية، لأن معنى النية أن يقصد الإنسان الفعل ويبدأ الخطوات العملية نحوه، فلو أن إنسان كان جالساً في بيته ويقول: أنا أتمنّى الزيارة فهذه ليست نية، بينما لو أن إنساناً هيّأ المقدمات وركب السيارة إلّا أنه مُنع من الذهاب، فهذا يسمّى نوى الزيارة.

اللاعنف في القلب

لقد كان الوالد(رحمه اللّه) في كتبه وفي محاضراته يؤكد على اللاعنف في العمل وفي اللسان وفي القلب، وأن الأصل هو عدم العنف، وإنّما القوة هي آخر الدواء، كما قيل: (آخر الدواء الكي).

أمّا العنف واللا عنف في اليد واللسان فواضح، وأمّا في القلب فبمعنى أن لا تفكر تفكيراً عنيفاً؛ لأن هذا التفكير العنيف يمنهج فكرك، ومنهجة الفكر تسبب العمل؛ لأن فكر الإنسان هو الذي يحرّكه، فطريقة التفكير هي التي جاءت بهذا الشخص للزيارة، وأدت بذاك للذهاب إلى مراكز العصيان. فطريقة التفكر هي التي تتحكم في أعمال الإنسان.

العرب قبل وبعد الإسلام

لقد كان العرب قبل الإسلام أذلة خاسئين، كما قالت فاطمة الزهراء(عليها السلام) في خطبتها: «وكنتم على شفا حفرة من النار... أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم

ص: 281

الناس من حولكم»(1)، لكنهم ببركة الإسلام تحوّلوا إلى قادة العالم فما هو السبب؟

لقد كانت هناك قوة كامنة هائلة فيهم، لكن منهجيّة الفكر عندهم كانت تقضي أن تُغير بعض القبائل على القبائل الأخرى، وتبتز أموالها وثرواتها ونساءها، وكان هذا من المفاخر عندهم، لكن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غيّر هذه المنهجية، فتغيرت من الغارات على القبائل إلى منهجية هداية الناس، حيث أصبحت منهجية التفكير في أمور سامية.

لقد كان تفكيرهم سابقاً بدائي جداً، فتغير إلى تفكير سام، حيث كان التفكير عبادة الصنم فأصبح عبادة اللّه سبحانه وتعالى، وهناك فرق بينهما، فقد كان الشخص منهم يعبد صنماً صنعه بيده، وفي بعض الأحيان كانوا يجلبون التمر ويصنعون منه صنماً، وعندما يجوعون يأكلونه، ولذا قال الشاعر:

أكلت حنيفة ربّها *** زمن التقحّم والمجاعة

لم يحذروا من ربّهم *** سوء العواقب والتباعة(2)

هكذا كان تفكيرهم، ثم تغير إلى التفكير بعبادة اللّه سبحانه وتعالى، فهذا التغيير في منهجية الفكر أدّى إلى أن يتحول هؤلاء الذين كانوا أذلّاء خاسئين إلى قادة في العالم. فقد كان أحدهم يفكر سابقاً في الغارة على ابن عمّه، وأصبح اليوم يفكر في فتح قصور كسرى وقصور قيصر.

لذا على الإنسان أن يغيّر منهجية فكره إذا كانت خاطئة، وأمّا لو كانت منهجية صحيحة فليطوّرها حتى تحدث قفزة نوعية في أعماله.

ص: 282


1- الاحتجاج 1: 136.
2- انظر: شرح نهج البلاغة، لابن ميثم 4: 300.

إننا نلاحظ بعض الناس لهم طاقات هائلة وكامنة، لكنهم لم يستغلوها، ولذا نجدهم لا يحصلون على شيء، ويموت أحدهم دون أن تبرز هذه الطاقات الكامنة، بينما نجد آخرين فيهم طاقات كامنة ضعيفة لكنهم يفجّرونها وينمّونها.

الاهتمام بالعقيدة الصحيحة

لذا ورد التركيز الشديد على العقيدة، فينبغي أن تكون عقيدة الإنسان سليمة، فيعتقد باللّه وينزّهه عن صفات النقص، ويثبت له صفات الكمال، كما نزل في القرآن وبيّنه الرسول وآله(عليهم السلام)، ثم يعتقد بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، ويعتقد بالمعاد، فمثل هذا الإنسان إذا كان في عمله خلل فقد يوفّقه اللّه للتوبة وقد يغفر له، قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَٰئِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَٰحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}(1)، واللمم هو: أن يقترف الإنسان الذنب ثم يرجع ويتوب، وورد في تفسيره أنه الذنوب الصغيرة(2)، كما أنه قد يرتكب الإنسان ذنباً لكنه إذا عمل عملاً حسناً فقد تشمله الشفاعة، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(3)، وقد يعاقب قليلاً حتى يُصفّى، وبعد ذلك يدخل في الجنة.

أمّا إذا كان عمله ظاهره الصحة لكن كانت عقيدته باطلة، فلا فائدة في علمه، فهناك الكثيرون ممّن يكون ظاهرهم حسناً، لكنهم لا يعتقدون العقيدة الحقة فهؤلاء لا فائدة في عملهم، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(4)، فكل أعمال الخير التي يعملها تذهب هباءً،قال

ص: 283


1- سورة النجم، الآية: 32.
2- انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 299.
3- سورة هود، الآية: 114.
4- سورة آل عمران، الآية: 85.

تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(1)، وذلك لأن عقيدته لم تكن سليمة.

وأمّا من كانت عقيدته سليمة فسوف يزيده اللّه سبحانه وتعالى خيراً.

نعم، ينبغي أن لا يغتر الإنسان بذلك ويرتكب الذنوب ويقول: أنا عقيدتي صحيحة؛ لأن ارتكاب الذنوب قد يؤدّي به إلى الكفر، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2) أو العقاب أو انحطاط الدرجات.

فالعقيدة هي الأساس لأنها مرتبطة بفكر الإنسان، ولذا علينا أنه نمنهج فكرنا بطريقة سليمة.

جاء في الحديث الشريف عن عيسى(عليه السلام) أنه قال: «إن موسى نبي اللّه(عليه السلام) أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق(3) فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(4). فالتفكير في الزنا - أو أي معصية أخرى - مثل الدخان لا يحرق البيت لكنه يسوّده. وهكذا التفكير في كل ذنب فهو يسوّد القلب.

عدم العقاب على النية

نعم، لا يعاقبنا اللّه على هذا التفكير منّةً منه علينا وتفضلاً، لقول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق

ص: 284


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- التزويق: التزيين والتحسين.
4- الكافي 5: 542.

مالم ينطق بشفة»(1)، فأحد هذه الأشياء المرفوعة هو ما لم يظهر باللسان، فلو كان الإنسان يحسد في قلبه، ولكن لا يظهره على لسانه فلا يعاقب في الآخرة، لكن هذا الحسد يسوّد القلب، فيمنعه من الرقي للدرجات الرفيعة، والمقامات العالية.

إننا إذا عرفنا أن إنساناً ما يفكر بالشر فسوف يسقط من أعيننا، ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى أنه لم يجعلنا نعرف النوايا. نعم، قد جعل اللّه لكل أمر باطني علامة ظاهرية، ولذا ورد في الحديث الشريف: «ما أضمر أحدكم شيئاً إلّا وأظهره اللّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(2)، لكن نوايا الإنسان لا يكتشفها الناس غالباً، والإسلام أمرنا أن نحمل فعل المسلم على الصحة، لكن إذا عرفنا باطنه وعلمنا أن نيّته كانت سيّئة فسوف يسقط من أعيننا، فكيف بيوم القيامة، يوم تبلى السرائر، حيث يظهر كل شيء، وهذا من أكبر العقوبات، حيث يفتضح الإنسان أمام الخلق، ويرونه كيف كان يفكر في المعاصي.

الهمة العالية

وأمّا إذا كان الإنسان مؤمناً فسوف يزداد مقاماً وعلواً لأنه كان يفكر في أمور حسنة لكي يعملها لكنه لم يتمكن من ذلك، فقد نجد أن بعض الناس همته عالية، يفكر في إنقاذ غيره، بينما نرى البعض الآخر لا يفكر إلّا نفسه، ولذا ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «يقال للعابد يوم القيامة: نِعْمَ الرجل كنت همتك ذات نفسك، وكفيت مؤنتك فادخل الجنة. ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفر عليهم نعم جنان اللّه تعالى، وحصل لهم

ص: 285


1- التوحيد، للشيخ الصدوق: 353.
2- بحار الأنوار 65: 316.

رضوان اللّه تعالى، ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمّد، الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم، قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك، فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً(1) - حتى قال عشراً - وهم الذين أخذوا عنه علومه، وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين»(2).

إذا كانت همّة الإنسان عالية وكان يفكر في أمور كبيرة فقد يوفقه اللّه للأمور الهامّة، لأن اللّه جعل للإنسان القدرة على أن يطير بهمّته كما يطير الطائر بجناحيه.

نعم، قد لا تكون الظروف مواتية، لكن إذا أصبحت الظروف مواتية فينبغي استغلال الفرص، وإذا لم يفكر ولم يهيئ نفسه فربما تأتي الفرصة لكنه لا يستغلها، ولذا ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «... والفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير»(3).

لقد كانت همّة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عالية، ومن الأشياء التي أوجدها(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المسلمين الهمّة العالية، ففي معركة الخندق كان عدد المسلمين قليلاً بالنسبة للمشركين؛ لأن المشركين استنفروا جميع قوى الشرك في الجزيرة العربية، فلم يكن في قدرتهم مواجهة المشركين، فلذا أمرهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يحفروا الخندق، لكي لا يحدث لقاء وجهاً لوجه بين المسلمين والمشركين، فقد قسموا حفر الخندق بين المسلمين، وكان هذا في شهر رمضان، وهم صائمون.

ص: 286


1- الفئام: الجماعة الكثيرة من الناس، وقد فسر بمائة ألف.
2- الاحتجاج 1: 9.
3- نهج البلاغة 4: 6.

وعندما كان المسلمين يحفرون في الخندق وصلوا إلى صخرة فلم يتمكنوا من أن يزيحوها، فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ الفأس فضربها فحدثت شرارة، فقال - ما معناه - : أرى قصور الشام، وفي المرّة الثانية: أرى قصور كسرى، وفي الثالثة: أرى قصور اليمن(1).

هكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقوي معنويات المسلمين، فكان يعطيهم الهمّة، وبهذه الهمّة وطريقة التفكير أصبحوا قادة العالم.

ص: 287


1- انظر: بحار الأنوار 20: 218-219.

(36) الدعاء والاستجابة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1).

الأسباب الغيبية والطبيعية

هناك قوانين غيبية هي المهيمنة على القوانين الطبيعية، والقوانين الطبيعية هي ظاهر، والإنسان مكلّف بأن يسيّر حياته طبقاً لتلك القوانين الظاهرية، لكن هناك واقع، وهو المهيمن على الظاهر، والواقع هو إرادة اللّه سبحانه وتعالى في كل شيء.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا مختارين، وعقيدة الجبر هي عقيدة باطلة أنشأها بعض سلاطين الجور ليخدّروا المجتمعات الإسلامية، والصحيح هو أن الإنسان مختار، لكن ليس تخييره بمعنى أن كل شيء بيده، وإنّما أغلب الأمور خارجة عن اختياره، وبعض الأمور تحت اختياره، وهو ما عبّر عنه الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله: «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين»(2).

إن أكثر المقدمات خارجة عن اختيارنا، ولكن بعضها تحت اختيارنا، فوجودنا ليس باختيارنا، وقدرتنا من اللّه سبحانه وتعالى، وكذلك المقدمات الأخرى

ص: 288


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- الكافي 1: 160.

كالعقل والتصوّر وغير ذلك، فهذه كلها مِنحٌ من اللّه سبحانه وتعالى لنا، ولا يوجد عمل من الأعمال إلّا وفيه مشيئة اللّه سبحانه وتعالى، ولكن ليست مشيئة جبر، وإنّما مشيئة اختيار، فاللّه سبحانه وتعالى قدّر اختيار الإنسان بحيث يتمكن من أن يفعل أو يترك بالعمل أو لا يقوم، وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين.

فالأمور الغيبيّة هي المهيمنة على الأمور الطبيعية، لكن الإنسان مكلّف أن يعمل حسب الأمور الطبيعية، وأمّا الأمور التي تكون خارجة عن اختياره فيوكل أمرها للّه سبحانه وتعالى.

إن اللّه سبحانه وتعالى هو الرازق، لكن لا يصحّ للإنسان أن يجلس في داره ويغلق عليه بابه، ثم يطلب من اللّه أن يرزقه، فإذا فعل ذلك فلا يأتيه الرزق؛ لأن اللّه أمرنا أن نطلب الرزق عن طريق العمل، فقد عيّن لكل إنسان رزقاً، وأرسل ذلك الرزق وهذا هو السبب الغيبي المهيمن، ولكن الإنسان مكلّف أن يطلب ذلك الرزق.

إن اللّه سبحانه وتعالى بيّن الطرق للإنسان، فينبغي عليه أن يتحرك ولو قليلاً لكي يحصل على ما يريد، فقد خلق اللّه سائر الموجودات بلا عقل، فهي مسيرة، ولكنه فضّل الإنسان بالعقل وجعله مخيراً، وهذا لا يعني أن الإنسان خرج عن سلطة اللّه سبحانه وتعالى، وإنّما هو باقٍ تحت سلطته، لكن يجب على الإنسان أن يعمل ضمن دائرة كسب الخير والحلال، حتى يكون قابلاً لثواب اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، وجعل طريق الرحمة العبادة، فعلى الإنسان أن يجعل نفسه قابلاً لتلك الرحمة عن طريق العبادة.

إذا اتّضح هذا الأمر فسوف يتّضح أنه في بعض الأحيان لا تتوفر الأسباب الطبيعية للإنسان، فربما يريد الإنسان شيئاً إلّا أن الأسباب الطبيعية لا تتوفر له، وهنا يأتي دور الاتصال باللّه سبحانه وتعالى ليهيئ الأسباب، فتارة يهيئ أسباباً

ص: 289

طبيعية، وأخرى يهيئ أسباباً غيبية.

فبعض الناس إذا مرض جلس في الدار وقال: أنا مرضت واللّه سبحانه وتعالى هو الشافي، صحيح أن الشفاء من اللّه سبحانه وتعالى ولكن يجب على الإنسان أن يطلب ذلك الشيء عن طريق العلاج(1)، فإذا استعمل الأدوية فقد يطيب، لكن هذا السبب الطبيعي هو الظاهر، وأمّا الواقع فهو أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي شفاه.

والإنسان مكلّف بالعمل، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(2)، وقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3)، وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(4).

علة تأخير استجابة الدعاء

اشارة

إن اللّه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد؛ وقد وعد الاستجابة فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ولم يستعمل كلمة الفاء، فلم يقل: (ادعوني فأستجب لكم) وذلك لبيان شدة اتصال الاستجابة بالدعاء، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5).

ومع هذه الآيات يقول البعض: إننا ندعو فلا يستجاب لنا، وكذلك ندعو في شهر رمضان، وفي المسجد الحرام وغيرها من الأماكن لكن لا يستجاب لنا فما

ص: 290


1- انظر: وسائل الشيعة 2: 410، وفيه: عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن نبياً من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى اللّه إليه: لا أشفيك حتى تتداوى فإن الشفاء مني».
2- سورة الانشقاق، الآية: 6.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- سورة الملك، الآية: 15.
5- سورة البقرة، الآية: 186.

هو السبب؟

والجواب: هو أن سبب عدم استجابة الدعاء هو عدم الالتفات الصحيح إلى معنى الاستجابة، فكل الأمور التي تجري في الكون بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، فينبغي على الإنسان أن يسلك الطرق الطبيعية، ومع ذلك يدعو اللّه سبحانه وتعالى.

إن البعض يتصور أنه إذا كان مريضاً مثلاً ورفع يديه بالدعاء فسيشفيه اللّه فوراً، إلّا أن الأمر ليس كذلك؛ لأن اللّه حكيم، وقد جعل القوانين الطبيعية، ولا يريد منّا أنه نخالفها في كل مرّة.

إن كل دعاء مستجاب، لكن الاستجابة هي من الجواب، فمرّة يطرق الإنسان باباً ولا تفتح له، وتارةً يطرق الباب ويقال له: ماذا تريد؟ فيقول: أريد كذا، فيقال له: لا إشكال في هذا الأمر الذي تريده، فإنه سيتحقق تارة فوراً وتارة بعد زمان وتارة يتحقق ما هو أفضل منه، فليس معنى الاستجابة وقوع كل ما يطلبه الإنسان بالدعاء وبالكيفية التي يريدها الإنسان، لأن ذلك يعني حدوث فوضى في الكون، قال اللّه تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ}(1). مضافاً إلى أن اللّه وعد الاستجابة لكنه قال: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(2) ومعنى ذلك أن الوعد بشرط، فمن لم يف بعهد اللّه تعالى فلا يتوقعنّ الاستجابة.

وأسباب التأخير أو عدم الاستجابة أمور، منها:

1- عدم المصلحة الدنيوية

ففي بعض الأحيان يريد الإنسان شيئاً إلّا أنه ليس في مصلحته في الدنيا،

ص: 291


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.
2- سورة البقرة، الآية: 40.

واللّه سبحانه وتعالى حكيم ورحيم ولطيف بعباده، يرى أن هذا العبد يريد شيئاً ليس في مصلحته، فمن رحمته أن لا يستجيب له بالكيفية التي أرادها، وإنّما يستجيب له بكيفية أخرى.

مثلاً: إذا كان هناك طفل صغير، وهو مريض تضرّه الحلوى، وعندما يراها يطلب من أبويه أن يعطيانه إياها، وهما يعلمان بأن الحلوى تضرّه فيمتنعان عن إعطائه، فيُصِر الطفل على الأبوين ويبكي ويستعطفهما، ولكنهما يرفضان إعطائه، لا لأنهما ليسا رحيمين به، وإنّما من باب مصلحته، فما أراده الطفل لا ينفذانه له، وقد يؤخران تنفيذه إلى وقت آخر، بعد مرور أسبوع أو أكثر، وذلك عندما يشفى من مرضه. إن الطفل لا يدرك أن هذا الشيء الذي أعطوه له الآن كان نتيجة استغاثته قبل أسبوع، فهما نفذا ما طلبه ولكن ليس في الوقت الذي أراده.

2- اختلاف الأدعية

فقد تكون الطلبات في بعض الأحيان متناقضة، فهذا يريد شيئاً وذاك يريد شيئاً آخر يناقضه، يقال: إنه كان لامرأة بنتان، فزوجت الأولى لمزارع، والثانية لفخّار - وهو الذي يصنع الأواني الفخّارية من الطين - وبعد مدة ذهبت لزيارتهما، فبدأت بالأولى، فقالت البنت: يا أماه ادعي اللّه سبحانه وتعالى أن ينزل المطر، لأنه عندنا زراعة وهي بحاجة إلى ماء، ثم ذهبت إلى الثانية، فقالت البنت لأمها: ادعي اللّه سبحانه وتعالى أن لا ينزل المطر؛ لأن الأواني الفخّارية تحتاج للشمس لكي تجف، وإذا جاء مطر فسوف تتلف. فبقيت الأم حائرة لا تدري ماذا تدعو؟

إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، فإذا كان هذا الإنسان يدعو وذاك يدعو فبحكمته يستجيب لكليهما، لكن قد لا تكون بالكيفية التي أراداها، كأن ينزل المطر فيستفيد منه الفلاح، وفي الوقت نفسه يُقيّض لهذا الفخّار أناساً يأتون فيرفعون هذه الأواني التي قد وضعها تحت السماء، ويدخلوها في الدار حتى لا تتلف.

ص: 292

والحاصل: إنه تعالى يستجيب لكن ليس بالكيفية التي يريدها الإنسان دائماً.

والدليل على ذلك أن كل فرد منّا كان له قبل سنين بعض الحاجات والطلبات وقد دعا اللّه سبحانه وتعالى فيها، والآن يشاهد أنها وبالتدريج قد قُضيت، وهو لا يلتفت إلى أن ذلك استجابة لدعائه الذي دعاه قبل سنين.

وما ذكرناه قد بيّنته الأحاديث الشريفة: فعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن(عليه السلام)(1): «جعلت فداك، إني قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال: يا أحمد، إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك، إن أبا جعفر (صلوات اللّه عليه)(2) كان يقول: إن المؤمن يسأل اللّه عزّ وجلّ حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حبّاً لصوته، واستماع نحيبه، ثم قال: واللّه ما أخّر اللّه عزّ وجلّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم فيها وأي شيء الدنيا، إن أبا جعفر(عليه السلام) كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تمل الدعاء فإنه من اللّه عزّ وجلّ بمكان(3)، وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم وإياك ومكاشفة الناس، فإنا أهل البيت نصل من قطعنا ونحسن إلى من أساء إلينا، فنرى واللّه في ذلك العاقبة الحسنة، إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فأعطي طلب غير الذي سأل، وصغرت النعمة في عينه، فلا يشبع من شيء، وإذا كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب

ص: 293


1- أي: الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).
2- أي: الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام).
3- فإنه: أي: الدعاء؛ من اللّه عزّ وجلّ بمكان، أي: بمنزلة عظيمة رفيعة يحب اشتغال عبده المؤمن في جميع الأحوال به.

عليه، وما يخاف من الفتنة فيها، أخبرني عنك لو أني قلت لك قولاً أكنت تثق به مني؟ فقلت له: جعلت فداك، إذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة اللّه على خلقه؟ قال: فكن باللّه أوثق فإنك على موعد من اللّه، أليس اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(1)، وقال: {لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}(2)، وقال: {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا}(3) فكن باللّه عزّ وجلّ أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلّا خيراً، فإنه مغفور لكم»(4).

3- مصلحة الآخرة

فقد لا توجد مصلحة في استجابة الدعاء في الدنيا فيؤخر اللّه استجابة الدعاء إلى الآخرة، والإنسان أحوج في الآخرة إلى استجابة الدعاء.

مثلاً: قد يكون الإنسان مريضاً ويدعو اللّه سبحانه وتعالى أن يشفيه من مرضه، فيؤخر اللّه استجابة دعاءه إلى يوم القيامة، فيقول له اللّه: أنت دعوت لكي تشفى ولم تكن هناك مصلحة في الشفاء، وأنت الآن أحوج فأنا استجب لك دعاءك، فأنت لديك ذنوب تدخلك في النار وأنا أغفرها لك، وهذا نتيجة ذلك الدعاء الذي دعوته في الدنيا.

4- الدعاء في معصيته

إن بعض الناس يدعو اللّه سبحانه وتعالى في معصية، كأن يطلب من اللّه شيئاً محرّماً، مثل: قطيعة رحم، وغير ذلك، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لا

ص: 294


1- سورة البقرة، الآية: 186.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- سورة البقرة، الآية: 268.
4- الكافي 2: 488.

يستجيب له؛ لأنه يجب على الإنسان أن يدعو بالكيفية التي أمره اللّه بها، لا أن يدعو بالكيفية التي نهاه عنها.

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يدعو اللّه في كل صغيرة وكبيرة، ففي الحديث القدسي: «يا موسى، سلني كلما تحتاج إليه، علف شاتك وملح عجينك»(1).

لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يعمل، بل يجب عليه العمل والدعاء. فاللّه سبحانه وتعالى جعل رزق الأطباء عن طريق علاج المرضى، لكن يجب على الإنسان أن يعلم أن الطبيب مجرّد وسيلة ظاهرية، وأن كل شيء بيد اللّه، لكن هذا لا ينافي اختيار الإنسان في بعض الأمور، فهناك بعض الأمور تحت اختياره، واللّه أمره أن يسير طبقها، وهي القوانين الطبيعية، فيلزم عليه أن لا يتركها، وإنّما عليه أن يعمل بها، ولا يتوقع أن تكون النتيجة حسب ما يشتهيه، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(2)، وليكن الإنسان موقناً أنه إذا دعا في معصية فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يستجيب له.

فضيلة الدعاء في بعض الأمكنة والأزمنة

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل فضيلة لبعض الأمكنة والأزمنة، فالدعاء تحت قبة الإمام الحسين(عليه السلام) مستجاب، وكذلك الدعاء في شهر رمضان؛ لأن اللّه فضّل هذا الشهر على باقي الأشهر، فاللّه سبحانه وتعالى حينما يذكر آيات

ص: 295


1- وسائل الشيعة 7: 32. وفيه أيضاً: ... عن سيف التمار قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار».
2- سورة المؤمنون، الآية: 71.

الصيام(1) يقول في وسطها: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2)، فلماذا ذكر الدعاء وسط آيات الصوم؟

والجواب: لأن شهر رمضان هو شهر الدعاء، وهو شهر القرآن، وشهر الاستغفار والاستغاثة، والإنابة إلى اللّه سبحانه وتعالى.

إن الزمان قد يكون مباركاً وكذلك المكان، وهناك شخصيات مباركة تُجعل واسطة بيننا وبين اللّه سبحانه وتعالى، فأبناء يعقوب(عليه السلام) قالوا لأبيهم: {يَٰأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَٰطِِٔينَ}(3)، إلّا أن يعقوب(عليه السلام) لم يقل لهم: إنكم تستطيعون أن تدعو اللّه مباشرة فلماذا توسطوني، بل قال لهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(4). وقد ورد في الحديث أنه كان ينتظر ليلة الجمعة، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «في قول يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قال: أخرها إلى السحر ليلة الجمعة»(5)؛ لأن ليلة الجمعة ليلة استجابة الدعاء.

ص: 296


1- في سورة البقرة، الآيات: 183-187.
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة يوسف، الآية: 97.
4- سورة يوسف، الآية: 98.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 422.

(37) بين المرتدين والمؤمنين

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

القرآن كتاب هداية

يتميز اُسلوب القرآن الكريم بذكره للحقائق الثابتة غير القابلة للتبديل أو التحويل، ولا يجامل في هذه الحقائق، سواء رضي الناس بذلك أم أبوا، فالمهم أن تصل الحقيقة إلى الناس لتكون حجة بالغة عليهم وليهتدي من كان قابلاً للهداية.

وقد تُذكر هذه الحقائق في القرآن الكريم من خلال قصة أو موعظة أو إخبار أو أمر أو نهي ونحو ذلك، لقد قصَّ اللّه سبحانه وتعالى علينا في القرآن الكريم قصصاً كثيرة، للاعتبار والموعظة.

إن كل سورة تنطوي على مواعظ، ولكن بما أن الإنسان يتفاعل مع القصة أكثر؛ لذا فإن اللّه سبحانه وتعالى أورد كثيراً من الحقائق بذكر القصص.

وقد أخبرنا اللّه سبحانه وتعالى عن أمور مستقبلية كذلك، ليس لمجرد حب

ص: 297


1- سورة المائدة، الآية: 54.

الاطلاع وإنّما للهداية.

فقد أخبرنا عن القيامة حتى نهتدي، ولا نرتكب المحرمات،كما ذكر الجنة لكي نتشوق إلى الطاعات، لأن القرآن كتاب هداية.

كما أن هناك بعض القضايا العلمية أو المرتبطة بالفَلك أو النباتات أو غيرها، إنّما ذُكرت لأنها طريق للهداية.

الارتداد بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

في هذه الآية القرآنية الكريمة أداة شرط: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}، والخطاب موجه إلى عامة الناس، في تحذير واضح من الارتداد عن الدين، سواء الارتداد الكلي بالرجوع إلى الشرك والكفر والنفاق، أم الارتداد الجزئي بالفسق وترك بعض أحكام اللّه سبحانه وتعالى، فقد يرتكب أحد المسلمين المعاصي، فهذا ارتد عن بعض أحكام الإسلام، وليس عن الإسلام نفسه.

هناك أحاديث متعددة دلّت على ارتداد الناس بعد رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إلّا مجموعة قليلة(1)، والرواية ليست في كتب الشيعة فحسب، بل في كتب غيرهم أيضاً، منها ما رواه البخاري حول القيامة عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم قال: «بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل

ص: 298


1- انظر: الاختصاص: 10؛ بحار الأنوار 22: 352.

النعم»(1). أي: القليل جداً.

إن آية الارتداد تدل على أنكم إذا كنتم قليلين مضطهدين وتبتلون بمشاكل من فوق رؤوسكم، ومن تحت أرجلكم، وعن يمينكم وشمالكم، ثم ارتدّ الأكثر فلا تحزنوا ولا تخافوا، واعلموا أن اللّه سبحانه وتعالى قدّر أنه سوف يأتي بقوم يحبون اللّه ويحبهم.

يقول البعض: إن المراد من الآية حروب الردة التي حدثت بعد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لكن هذا التطبيق ليس صحيحاً، لجهات:

أوّلاً: إن (سوف) تدل على المستقبل البعيد لا القريب وهذه الحروب حدثت فوراً بمجرد الارتداد أو زعم الارتداد.

ثانياً: إذا كان الصحابة هم المقصودون فهم كانوا موجودين زمان نزول الآية، ولا يعبر عنهم بجملة (فسوف يأتي اللّه بقوم)، بينما ظاهر الآية أنهم قوم آخرون، وليسوا الذين كانوا موجودين في وقت نزول الآية، وقوله (بقوم) دليل على أن هؤلاء القوم غير الذين تخاطبهم الآية الكريمة، ولم يكن في حروب الردة غير الصحابة، لذلك فإن ظاهر الآية لا يشملهم أصلاً.

وإنّما الآية تنطبق على معركة الجمل، وكذلك على صفين والنهروان؛ لأن غالب أصحاب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حروبه لم يكونوا من الصحابة، بل غالبهم لم يكونوا قد وُلدوا بعد.

وهناك مصداق آخر أو تأويل الآية يتعلق بظهور الإمام المهدي عليه أفضل الصلاة والسلام.

ص: 299


1- البخاري 7: 208.

من صفات المؤمنين

1- حب اللّه

ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، ونعرف حبهم للّه من طاعتهم له، أمّا العاصي فإن اللّه يبغض عمله.

2- التواضع للمؤمنين

ثم قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وهذه صفة مهمة جداً من صفات المؤمنين، فلا بدّ من التواضع للمؤمن حتى لو كان فقيراً، وكان المتواضع غنياً أو عالماً أو حاكماً.

ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «وتواضعٌ من غير منقصة»(1)، فربما يتواضع أحدهم أمام شخص نتيجة لنقص فيه، كأن يكون مرتكباً لجريمةٍ ما لكي لا يُعاقب عليها، فيتذلل للحاكم أو ذوي المقتول، وهذا النوع من التواضع يحدث نتيجة لمنقصة، أو قد يكون ثمة عيب في الإنسان فيحاول تعويضه من خلال التواضع، لكن هذا النوع من التواضع مرفوض؛ لأن المطلوب هو التواضع من غير منقصة، فإن كنت ثرياً والآخر فقيراً فعليك أن تتواضع أمامه لكونه مؤمناً.

3- العزة على الكافرين

ثم قال تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}، أي: إن المؤمن عزيز أمام الكافر ولا يذلّ نفسه له.

وهذه هي المعادلة المطلوبة، فإذا كان الإنسان متواضعاً أمام المؤمنين فإن اللّه يعزّه أمام الكافرين، وإذا كان متكبراً أمام المؤمنين فإن اللّه يذله أمام الكفار،كما هو حال بعض حكّام بلاد المسلمين، فتراه يستعمل القهر والغلبة مع المواطنين

ص: 300


1- مستدرك الوسائل 11: 295.

المساكين لكنه ذليل أمام القوى العظمى.

4- الجهاد وعدم خوف اللوم

ثم قال تعالى: {يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ}؛ لقد اضطر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى حفر خندق في معركة الأحزاب وذلك بسبب ضعف المسلمين عسكرياً، لتلافي المواجهة المباشرة، وقد اشترك الرسول في الحفر.

وفي الحديث: «لما أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحفر الخندق، عرضت له صخرة عظيمة شديدة في عرض الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلمّا رآها وضع ثوبه وأخذ المعول، وقال: بسم اللّه، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: اللّه أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، واللّه إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية فقال: بسم اللّه، ففلق ثلثاً آخر، فقال: اللّه أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، واللّه إني لأبصر قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر، وقال: اللّه أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللّه إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»(1).

بطبيعة الحال سخر المنافقون من ذلك وهذا دأبهم؛ وفي الرواية: «فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى»(2).

رؤية وشهادة الرسول والأئمة (عليهم السلام)

ولكن لماذا قال الرسول ذلك؟ إنه فعلاً رأى ذلك؛ وكان يعلم به مسبقاً، لأن اللّه سبحانه وتعالى أخبره بذلك، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبره اللّه تعالى بما كان وما

ص: 301


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 313.
2- انظر: الكافي 8: 216.

يكون وما هو كائن(1).

إن الإنسان قد يعتريه الضعف أمام النفس الأمّارة بالسوء، وقد يغريه الشيطان، ليرتكب المعاصي، لكنه إذا كان على علم بأن هناك من يرى أعماله ويشاهدها ويعلم بها، فإنه يحاول أن تكون أعماله صحيحة، وإذا كنا نعلم الآن بأن هناك كاميرا خفية تصورنا، وهناك جماعة يشاهدون ما نفعله، فلا نخالف القانون، بل ونحاول أن لا نظهر بمظهر غير لائق.

لذا إذا كنا نعلم علم اليقين بأن الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يراقب أعمالنا فلن نقترف الخطأ، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2)، وهم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)(3).

يقول البعض: إن المؤمنين في الآية جميع الأمة الإسلامية! وهذا غير معقول، لأن في الأمة من لا تقبل شهادته على حزمة بقل لكونه كاذباً فكيف تقبل شهادته على الناس في يوم القيامة!

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إنّما أنزل اللّه تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يعني عدلاً {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(4) قال: ولا يكون شهداء على الناس إلّا الأئمة والرسل، فأمّا الأمة فإنه غير جائز أن يستشهدها اللّه تعالى على الناس، وفيهم من لا تجوز شهادته في

ص: 302


1- راجع الكافي 1: 261؛ بصائر الدرجات: 147.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- انظر: الكافي 1: 219، وفيه: ... عن يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال: هم الأئمة».
4- سورة البقرة، الآية: 143.

الدنيا على حزمة بقل»(1).

مضافاً إلى أنّ شهادة مَنْ لا يعلم ولا يرى هي شهادة زور.

وعليه: فإنّه يفترض بهؤلاء المؤمنين أنهم يعلمون علماً تفصيلياً، ثم يشهدون في يوم القيامة على الناس، أمّا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد أطلعه اللّه سبحانه وتعالى على كل ما يفعله الناس، وكذلك أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

إن أعمالنا تعرض الآن على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته وعلى الإمام المهدي(عليهم السلام)، وقد ورد في الأحاديث أنها تعرض في كل يوم وكل أسبوع(2).

إننا إذا تيقنّا بعرض أعمالنا على الرسول والأئمة(عليهم السلام) فلا نرتكب المعصية؛ لأن أحدنا يحرص على أن يظهر بمظهر لائق أمام الشخص العادي، فضلاً عن كونه يتحاشى ارتكاب المعصية، فكيف إذا عرضت المعاصي على الرسول والأئمة(عليهم السلام) وعلى الإمام المهدي المنتظر(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، وهو يرى أعمالنا بعد أن يطلعه اللّه سبحانه وتعالى عليها، ثم يشهد في يوم القيامة علينا؟

ص: 303


1- بحار الأنوار 23: 351.
2- انظر: الكافي 1: 219، وفيه: ... عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تعرض الأعمال على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها». ... عن عبد اللّه بن أبان قال: قلت للرضا(عليه السلام): ادع اللّه لي ولمواليك، فقال: «واللّه إني لأعرض أعمالهم على اللّه في كل خميس» وسائل الشيعة 16: 114.

(38) القرآن الكريم كتاب الحياة

اشارة

قال الرسول الأعظم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلمه»(1).

إنّ القرآن الكريم هو كتاب اللّه سبحانه وتعالى، الذي شاء أن يكون هادياً للبشر، وهو الكتاب السماوي الوحيد الذي صانه اللّه سبحانه وتعالى عن الزيادة والنقصان، بخلاف سائر الكتب السماوية التي فُقِد أكثرها، وما بقي منها تعرّض للتحريف.

ولأن القرآن الكريم هو كتاب هداية فهناك حثّ كبير على الاهتمام به، فالضمانة من الضلال تكمن في أمرين: القرآن الكريم وأهل البيت(عليهم السلام)، يقول الرسول الأعظم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(2).

ومن مهام أهل البيت(عليهم السلام) هي تفسير القرآن، كما كانت هذه مهمة الرسول الأعظم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(3)؛ لذا فإن كلام أهل البيت(عليهم السلام) متطابق مع القرآن دائماً.

ص: 304


1- مستدرك الوسائل 4: 235.
2- انظر: الكافي 2: 414؛ الأمالي، للشيخ الصدوق: 415؛ ومن العامة: مسند أحمد 3: 59؛ سنن الترمذي 5: 328؛ السنة: 336؛ السنن الكبرى 5: 45.
3- سورة النحل، الآية: 44.

وإذا وجدنا كلاماً منسوباً للرسول الأعظم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو لأهل البيت(عليهم السلام) وهو مخالف للقرآن الكريم فهو لم يصدر عنهم(1).

وظيفتنا تجاه القرآن الكريم

اشارة

إن وظائفنا تجاه القرآن عديدة منها:

الوظيفة الأولى: احترام القرآن الكريم

وهذه الوظيفة تُراعى بشكل عام في مجتمعاتنا الإسلامية على أساس أنّ توقير القرآن واحترامه له فوائد كثيرة في الدنيا والآخرة، بينما تترتب على عدم توقيره آثار وضعية سيئة على الإنسان.

ينقل الوالد (رحمة اللّه عليه)، فيقول: في سالف الزمان في مدينة كربلاء المقدسة وسائر المدن، كان الكسبة يبدؤون أعمالهم ويفتتحون محالهم التجارية بآيات من القرآن الكريم(2).

ففي مقابل عدد كبير من الكسبة الذين يبدؤون بفتح محلاتهم التجارية بقراءة

ص: 305


1- انظر: المحاسن 1: 221، وفيه: ... عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب اللّه فهو باطل». ... عن الهشامين جميعاً وغيرهما قال: خطب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف القرآن فلم أقله». ... عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا حدثتم عني بالحديث فأنحلوني أهنأه وأسهله وأرشده، فإن وافق كتاب اللّه فأنا قلته، وان لم يوافق كتاب اللّه فلم أقله».
2- أمّا اليوم فلا أثر لهذه العادة الحسنة في غالب بلاد المسلمين، رغم وجود روايات عديدة تحثّ على قراءة القرآن يومياً؛ لقد ورد في الأحاديث: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية» [وسائل الشيعة 6: 198]؛ فينبغي على المؤمن أن يبدأ يومه بقراءة صفحة من القرآن على الأقل. ثم إن اللّه سبحانه لم يجعل فصولاً للقرآن كبقية الكتب بل ضمّن اللّه تعالى المطالب الأساسية في كل القرآن، ففي كل صفحة من القرآن توجد - غالباً - مسائل العقيدة والأحكام والأخلاق والمواعظ وغيرها.

آيات من القرآن الكريم، كان ثمة شخص لا يقرأ القرآن، رغم أنه متدين، لكنه بخلاف الآخرين يأتي كل يوم صباحاً ويفتح محله ويبدأ العمل بصمت، وكان هذا منظراً غير متعارف في السوق، فكانوا يسألونه عن سبب عزوفه عن قراءة القرآن الكريم، فكان لا يجيبهم حتى ألحّوا عليه بالسؤال، فقال لهم: أريد قراءة القرآن لكن أشعر بأنّ شخصاً يمنعني كلما أردت ذلك، فلا أستطيع إلى ذلك سبيلاً، والسبب أنه كان لي قرآن مخطوط أعتزّ به، وكنت أصطحبه معي في الأسفار، كما كنت أحب الشعر والأدب، ومن الدواوين التي كنت أبحث عنها ديوان يزيد بن معاوية! لأن أشعاره وإن كانت تتضمن كثيراً من الكفريات إلّا أنها أشعار جميلة أدبياً! لأنّ معاوية عندما أراد أن يفرض يزيد حاكماً على الأمة الإسلامية رآه طائشاً، فاستشار شخصاً في كيفية جعل هذا الولد مطاعاً بين الناس؟ فقال له: علّمه القرآن وعلّمه الشعر، فأمّا القرآن فإنه يتمكن من خلاله من النفوذ إلى قلوب المسلمين، وأمّا الشعر فلكي ينفذ إلى قلوب العرب؛ لذا كان يزيد حافظاً للقرآن ويستشهد به في كلامه و«رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»(1) وفي الوقت نفسه كان أديباً.

يواصل ذلك الرجل: كنت لسنوات أبحث عن ديوان يزيد بن معاوية، وفي إحدى السنوات كنت في رحلة الحج، وكان القرآن الكريم بيدي، وعندما وصلت إلى المسجد الحرام رأيت رجلاً يبيع الكتب، ومن ضمنها ديوان يزيد، ففرحت بالعثور عليه، فأردت شراء الديوان، فرأى صاحب الكتب القرآن بيدي، فقال: لا أبيعه، لكن أبادله بالقرآن الذي تحمله!

قال الرجل: في البداية رفضت العرض وحاولت المساومة على السعر، لكنه

ص: 306


1- بحار الأنوار 89: 184.

كان مصراً على رأيه، وقال: إذا كنت تريد الديوان فعليك أن تبادله بالقرآن!! فقلت في نفسي: إنه توجد الكثير من نسخ القرآن، ويمكن أن أعوض هذه النسخة، وأحصل على نسخة أخرى، لكن ربما لا أحصل على ديوان يزيد بعد هذا، فدفعت له القرآن وأخذت منه الديوان.

يقول: بعد هذه الإساءة للقرآن الكريم - أن جعله ثمناً لديوان يزيد المليء بالكفر والفسق - سُلب مني توفيق قراءة القرآن الكريم، فأنا أفتح القرآن وأريد قراءته لكن كأن شخصاً يضع يده على فمي ويمنعني من القراءة!

وفي المقابل هنالك قصص كثيرة عن أناس احترموا القرآن الكريم فكسبوا التوفيق الإلهي في الدنيا والآخرة.

وهذا لا يحدث اعتباطاً، بل إنَّ أفعال الإنسان هي التي تأتي له بالتوفيق الإلهي، فمن يعمل بما يحبه اللّه تعالى فإنه تعالى يكافئه بأن يوفقه للتوبة، أو يمهد له الطريق لعمل صالح آخر، وكذلك قد يعمل الإنسان بالسيئات فيسلب اللّه منه التوفيق، حتى إذا جاءه العمل الصالح ليس بوسعه أن يُقدم عليه، وهو لا يعلم السر والسبب وراء هذه الحالة، والقرآن الكريم يجيب على ذلك بقوله: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(1).

ولذا يجب على الإنسان وفور ارتكابه الذنب أن يسارع للتوبة ويستغفر منه.

إنّ الاستهانة بالذنب من الكبائر؛ لأنّ الذنب الأوّل مثل الحلقة الأولى في السلسلة، تسحب بعدها بقية الحلقات: الثانية والثالثة وهكذا... وإذا بالإنسان يرى نفسه منغمساً في السيئات، ولا يجد مجالاً للعودة.

ص: 307


1- سورة الروم، الآية: 10.

الوظيفة الثانية: تعلّم القرآن الكريم

مرّ أكثر من 1400 عاماً على نزول القرآن الكريم ولغة الناس العربية قد طالها تغيير، ولولا القرآن الكريم لكانت اللغة العربية في خبر كان.

فقد ترى لغةً سادت قبل ألفي عاماً - مثلاً - وكان أناس ينطقون بها لكن لتفرقهم في أصقاع الأرض حصلت تغييرات على لغتهم، بحيث إن قوماً منهم لم يعودوا يفهمون لغة بني أعمامهم، مع أن الأصل واحد.

وكذلك اختلاف اللّهجات بين البلاد العربية، وكأن تلكم اللّهجات لا تعود إلى اللغة العربية.

وقد ابتعد كثير من العرب عن اللغة العربية الفصحى - لغة القرآن الكريم - وإن مناهج التعليم في المدارس هي من أسباب هذا التباعد إذ في كثير من البلدان العربية المناهج لا تعلم اللغة العربية، وحتى وسائل الإعلام لا تستعمل بعض المفردات القرآنية؛ والإنسان يألف الكلمة إذا سمعها باستمرار، لكن إذا لم يسمعها فإنه لا يفهمها ولا يعرف معناها.

وعلى كل حال يلزم تعلّم لغة القرآن وتعلّم قراءته وفهم معانيه.

الوظيفة الثالثة: العمل بالقرآن الكريم

إن القراءة والتعلّم أمران حسنان، ولكن الأهم العمل والتطبيق، فلا فائدة للقراءة من غير عمل، كالمريض الذي يذهب إلى الطبيب فيعطيه وصفة الدواء فيأخذها ويحافظ عليها ويعطرها، ويضعها في إطار جميل ويعلقها على الحائط، فهل تؤثر هذه الوصفة في شفائه من مرضه؟ كلا؛ لأنّ هذه الوصفة أعطيت له لكي يعمل بها، ويتناول الدواء المكتوب فيها، ثم يكون الشفاء من اللّه سبحانه وتعالى.

البعض يتصوّر أن الالتزام بالقرآن الكريم والعمل به هو الالتزام بالواجبات

ص: 308

وترك المحرمات فقط، لكن هذا جزء من التديّن، وليس كل التديّن.

إذ ليس كل القرآن الكريم أحكاماً، وحسب المشهور فإن (500) آية منه حول الأحكام، بينما هنالك أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة آية في القرآن ترتبط بأمور أخرى وهي سائر مفردات حياة الإنسان وعقيدته.

إذ الإسلام دين يرافق الإنسان قبل ولادته ثم خلال حياته، وإلى بعد وفاته، يقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تخيّروا لنطفكم فإن العرق دساس»(1) بمعنى أن هنالك تعليماً لكيفية تكوّن المولود وهو بعد لم تنعقد نطفته، وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول اللّه، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»(2)، حتى في بعض الأمور الجزئية فإن هنالك أحاديث وأحكام لها، مثلاً إذا أردت أن ترتدي حذاءك فابدأ بالرجل اليمنى، وإذا أردت نزعه فابدأ باليسرى(3)، وإذا أردت أن تدخل بيت الخلاء فابدأ بالرجل اليسرى، وإذا أردت أن تخرج فاخرج باليمنى، وفي دخول المسجد يكون العكس... .

إذن، في الإسلام نظام لكل تفاصيل حياة الناس، صحيح أن أغلبها ليست واجبات أو محرمات؛ لكنّها كلّها طريق إلى السعادة وإلى الحياة المطمئنة.

وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا يعاني المتدينون في مجتمعاتنا من المشاكل في حياتهم؟ فهل السبب في أنهم لا يصلون مثلاً، أو أنهم يرتكبون الكبائر؟

ص: 309


1- انظر: السرائر 2: 559.
2- الكافي 5: 332.
3- انظر: الكافي 6: 467، وفيه: عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا لبست نعلك أو خفك فابدأ باليمين، وإذا خلعت فابدأ باليسار». ... عن ابن القداح، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: كان يقول: «إذا لبس أحدكم نعله فليلبس اليمين قبل اليسار، وإذا خلعها فليخلع اليسرى قبل اليمنى».

كلا، هم يصلون ويتجنبون كبائر المحرمات عادة، مع ذلك نشاهد حصول المشاكل والأزمات الاجتماعية، وإنّما السبب في ذلك هو التخلّي عن النظام الإسلامي الذي يضم كل مفردات حياة الإنسان.

إنّ القرآن الكريم يشمل الأخلاقيات أيضاً، فهنالك العديد من الآيات القرآنية في ترك الرذائل وفي التحلّي بالفضائل، كما يشمل سائر الأُمور المرتبطة بحياة الإنسان.

وهذه الأمور إذا التزم بها الإنسان فإنه يرتقي في الدنيا ويعيش سعيداً، وفي الآخرة تكون له درجة سامية، وقد ورد في الخبر: «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه»(1)، لأن الأفضل في المقاييس الإلهيّة ليس الأكثر مالاً، ولا الأكثر جمالاً أو سلطة، فهذه موازين الحياة الدنيا التي لا قيمة لها، وإنّما الأفضل هو الذي يكون أقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى؛ وذلك من خلال العمل بالقرآن الكريم؛ يقول اللّه عزّ وجلّ: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}(2)، أي: ربما ترى شخصاً في الدنيا في مرتبة حقيرة بين الناس، ثم تراه يوم القيامة وهو في القمة، بينما ترى أناساً عندهم القدرة والجبروت والأموال والاحترام، وإذا بهم يوم القيامة يكونون في أسفل سافلين.

الوظيفة الرابعة: تعليم القرآن الكريم

ثم بعد التعلّم لا بدّ من تعليم القرآن للآخرين، كأن يشكل الإنسان محفلاً قرآنياً، وليس بالضرورة أن تكون المحافل في مكان عام، وإنّما بإمكان كل منّا إقامة المحفل القرآني في بيته، ولو بحضور قليل، حتى ولو كان الحاضر شخصاً

ص: 310


1- مستدرك الوسائل 4: 235.
2- سورة الواقعة، الآية: 3.

واحداً، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلّي سبع سنوات ويصلّي خلفه أمير المؤمنين فقط، وبعد سبع سنوات قال أبو طالب لابنه جعفر: (صلّ جناح أخيك)(1)، أي: كن في الطرف الثاني للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهل قلّل هذا من قيمة هذه الصلاة؟ كلّا، إذ الكثرة والقلّة ليستا دليلين على النجاح أو الفشل، فبيت الإنسان الذي يقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء والملائكة كالنجم الذي يتراءى لأهل الأرض؛ وهنالك روايات كثيرة في هذا المجال.

فعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن ولا تتخذوها قبوراً كما فعلت اليهود والنصارى، صلوا في الكنائس والبيع وعطلوا بيوتهم، فإن البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره واتسع أهله، وأضاء لأهل السماء كما تضيئ نجوم السماء لأهل الدنيا»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن يتراءاه أهل السماء كما يتراءى أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء»(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر اللّه عزّ وجلّ فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيئ لأهل السماء كما تضيئ الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر اللّه عزّ وجلّ فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين»(4).

ثم إنّ هذه المحافل تترك بالغ الأثر الإيجابي داخل الأُسرة، فالأطفال الصغار

ص: 311


1- انظر: الأمالي، للشيخ الصدوق: 508؛ وسائل الشيعة 8: 288؛ شواهد التنزيل 2: 333.
2- الكافي 2: 610.
3- الكافي 2: 610.
4- الكافي 2: 610.

سيألفون هذه الأجواء؛ لأن البيوت التي فيها هذه الأمور ستربي الأولاد على الإيمان والسلوك والأخلاق الحسنة، وهو ما قد لا يجدونه في المدرسة والشارع، فإنّ الجو الإيماني أقوى تأثيراً من أي عامل خارجي.

القرآن منهجاً

من القوانين التكوينية للّه عزّ وجلّ أنه تعالى جعل العمل بالقرآن دواءً وحلّاً لكل المشاكل، أمّا ترك القرآن - ولو في زاوية منه - فسوف يكون سبباً للانغماس في المشاكل.

وللأسف أن الأكثر قد ترك العمل بالقرآن، فقد يقتني الطبعة الأكثر أناقة والأفضل مع ترك العمل بالقرآن في أكثر جوانبه، مع أن القرآن كتاب حياة، يقول اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1).

إن ترك العمل بالقرآن سبب لمشاكلنا في الدنيا وفي الآخرة، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَٰذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا}(2)، فهل هجر المسلمون القرآن من حيث الظاهر؟ لا لم يهجروه ظاهرياً، فحين تفتح الإذاعات الإسلامية من الصباح إلى المساء لا بدّ أن قسماً من وقتها يملؤه تلاوة القرآن!

إن القرآن الكريم موجود في بيوتنا، لكن يعلوه التراب، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه»(3). لأن اللّه عزّ وجلّ أنزل القرآن للعمل، فإذا لم نعمل - ولو بجزء من القرآن - فهذه مشكلة؛

ص: 312


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- سورة الفرقان، الآية: 30.
3- الكافي 2: 613.

لأنه عزّ وجلّ يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ}(1)، والحرف يعني الطرف(2)، أي: على جهة المكان الذي تكمن فيه مصالحه، أمّا إذا تضرر المكان الذي تكمن فيه مصالحه، أو واجهته صعوبة، فإنه يترك العبادة!

علينا أن نعلّم الناس ألفاظ القرآن الكريم، من القراءة والفهم كمقدمة للعمل، كذلك يجب أن نحاول فهم المعاني القرآنية ونطبقها في حياتنا، يقول اللّه تعالى: {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(3)، لأن القرآن كتاب التشريع، كما أن الكون هو كتاب التكوين، وقد جعل اللّه تعالى كل ما يحتاجه الإنسان في الأرض كما قال: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(4)، وهكذا هي الآيات القرآنية الكريمة يوجد فيها كل شيء مما يحتاجه الإنسان في نظام حياته، لكن يجب أن يتفكّر ويتدبّر فيه لذا فإن أصل حلول مشاكلنا هو القرآن الكريم.

إن البعض يقول: إن مشاكلنا تكمن في الاستعمار، لكن في الحقيقة إن الاستعمار يستفيد من المشكلة الأساسية، والمشكلة فينا نحن، كمَن عنده أموال قيّمة وضعها في الشارع فيسرقه اللص، صحيح إن اللص سرقه، لكن اللص استفاد من عدم احتياط صاحبه، وهكذا استفاد الاستعمار من نقاط ضعفنا.

إن البلدان الإسلامية تواجه تحديات كثيرة لكن أخطرها الغزو الثقافي عبر نشر الثقافة الأجنبيّة في كل شيء بحيث تتحول المنظومة الفكرية للإنسان المسلم إلى منظومة فكرية أجنبيّة.

ص: 313


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- مفردات ألفاظ القرآن 1: 228.
3- سورة الأنعام، الآية: 59.
4- سورة الرحمن، الآية: 10.

إن بعض المسلمين غير ملتزمين فهم يرتكبون المحرمات ويتركون الواجبات، وهذا أمر خطير ولكن الأخطر منه الآن أن المنظومة الفكرية لبعض المسلمين بدأت تتغير، فالعاصي يعلم أن عمله غير صحيح، وهناك احتمال أن يوفقه اللّه تعالى للتوبة في يوم ما، لكنه إذا اعتقد أن عمله صحيح فإن منظومته الفكرية تختل وبذلك تستبعد توبته، لأنه لا يرى عمله خاطئاً كي يفكر في الإقلاع عنه.

وعلى كل حال يمكننا أن نتغلب على الغزو الثقافي لكن بشرط العمل واتباع الإسلام في نظام متكامل، في الواجبات والمحرمات والأخلاق والآداب وسائر نُظُم الحياة.

ص: 314

(39) القرآن الكريم والعمل

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1).

القرآن له ظاهر وله باطن، كما له محكم ومتشابه، نشير إليها باختصار.

1- ظاهر القرآن

هناك حقائق حول ظاهر القرآن نذكر بعضها:

فمنها: إن اللّه سبحانه وتعالى أنزل القرآن ليكون كتاب الحياة، وتأتي حيوية القرآن من جهات متعددة منها: إنّ اللّه تعالى أرسله مطابقاً للفطرة الإنسانية؛ لأنّه سبحانه خلق الإنسان وهو عارف بدقائق نفسه وجسده، ويعلم بكل ما يرتبط به من الجزئيات والكليات فأنزل اللّه تعالى القرآن مطابقاً لهذه الفطرة، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(2).

ومنها: إنَّ القرآن الكريم عندما يسنّ حكماً أو يشرع تشريعاً يبيّن علل الأحكام وغير الأحكام غالباً، مثلاً: عندما يوجب القرآن الصلاة يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(3)، ويقول: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(4)، وحينما شرّع

ص: 315


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- سورة طه، الآية: 14.
4- سورة العنكبوت، الآية: 45.

الصوم ذكر الحكمة منه أيضاً بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)، وحينما أوجب الحج ذكر السبب فقال: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(2)، وحينما حرم الخمر قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(3).

ومنها: إنّ القرآن يستوعب أوجه حياة الإنسان المختلفة التي يحتاجها، ولا يختص بجانب معين، وليس كالطبيب الذي إذا أصيب الإنسان بمرض يراجعه، ولكنه إذا لم يصب بمرض لا يراجعه.

وحيث إنّ القرآن مرتبط بكل جوانب الحياة فيجب على الإنسان أن ينظر للقرآن نظرة شمولية، بمعنى أنه عندما يريد أن يستفيد من حكم أو شيء موجود في القرآن عليه أن لا ينظر إلى آية أو آيتين ثم يحكم في ذلك، وإنّما يلزم أن تكون نظرته شاملة للقرآن، إذ في النظرة الناقصة قد ينقلب الشيء إلى ضده.

إن كلمة (لا إله إلّا اللّه) هي كلمة التوحيد، ولكن إذا نظرنا إلى هذه الآية نظرة نصفية تنقلب كلمة التوحيد إلى كلمة كفر وكذلك في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(4).

فتجزأة الآيات تسبّب في أن تنقلب الآيات التي تحث الإنسان على الصلاة

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 183: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
2- سورة الحج، الآية: 28: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ}.
3- سورة البقرة، الآية: 219: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}.
4- سورة الماعون، الآية: 4-7.

إلى آيات تحثه على تركها، وهذه هي نتائج النظرة الناقصة للقرآن، فماذا يحل بجسم حي إذا قطعناه بالفأس إلى أجزاء، إنه ينقلب إلى جسد ميت.

لذا قال اللّه تعالى: {وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)، فالقرآن الذي هو نفسه شفاء ورحمة للمؤمنين ينقلب بالنسبة إلى الظالمين خساراً؛ ومن ذلك التجزأة التي يفعلها الظالمون في آيات اللّه.

يقال: إن جيش أحد الملوك استباح إحدى المدن وعاثوا فيها فساداً، فجاءت امرأة من أهالي المدينة تشكو إلى الملك ما فعله جنوده، فقال لها: ألم تسمعي قول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(2). فقالت: بلى سمعتها، ولكن هل تغافلت عن قوله تعالى في السورة نفسها: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ بِمَا ظَلَمُواْ}(3)، فاتعظ ذلك الملك، وأمر جنوده أن يخرجوا من تلك المدينة.

إنّ اللّه فرّق المواضيع ضمن آيات بحكمته سبحانه، فيلزم علينا إذا أردنا أن نستفيد من مواضيع القرآن أن ننظر إليه نظرة شاملة، لا أن نكتفي بآية واحدة أو بجزء منها.

مثلاً: إن اللّه سبحانه وتعالى لم يجعل موضوع الشفاعة في مكان واحد، بل فرقه في آيات مختلفة، وكل آية تكون مكملة لآية أُخرى، أي: إن الآية الثالثة تكمل الثانية، والآية الرابعة تكمل الخامسة وهكذا، لأنه هناك عشرات الآيات فيالشفاعة، فإذا أراد أحدهم أن يسيء الاستفادة من آية الشفاعة فسيقول: إنّ اللّه

ص: 317


1- سورة الإسراء، الآية: 82: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}.
2- سورة النمل، الآية: 34.
3- سورة النمل، الآية: 52.

تعالى يقول في القرآن: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ}(1)، أي: يستفيد من هذا النص القرآني أنّه لا شفاعة في يوم القيامة، لكن هذا الكلام ليس صحيحاً بل يقول اللّه سبحانه أيضاً: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}(2)، وهذه الآية تدل على أن اللّه هو الشفيع، وفي آية أخرى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}(3)، وهي تدل على وجود الشفاعة بإذن اللّه سبحانه وتعالى، وهكذا قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(4)، فحينما نجمع بين هذه الآيات نستفيد منها أنّ الشفاعة الاعتباطية غير موجودة، فالآيات التي تنفي الشفاعة تقصد الشفاعة الاعتباطية بالنسبة إلى الكافرين والظالمين، الذين يتركون دين اللّه سبحانه وتعالى وشرائعه، وأمّا الآية التي تقول: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا}(5) فهي تعني أن اللّه تعالى هو مالك الشفاعة حصراً وسائر الشفعاء إنّما يشفعون بإذن اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(6) بمعنى أنّ الشفاعة كلها للّه سبحانه وتعالى، وقد أذن للأنبياء والأئمة والملائكة وغيرهم فيها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا فعل اللّه سبحانه وتعالى ذلك، وفرق الموضوعات والقصص في القرآن الكريم، ولم يجعله كالكتب العادية ذات الفصول المتتالية؟ بأن يجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد، ويبوّب القرآنحسب المواضيع، فهناك باب للتاريخ، وآخر للتبليغ، وأبواب أخرى حول الرسل

ص: 318


1- سورة البقرة، الآية: 48.
2- سورة الأنعام، الآية: 51.
3- سورة البقرة، الآية: 255.
4- سورة الأنبياء، الآية: 28.
5- سورة الزمر، الآية: 44.
6- سورة الأنبياء، الآية: 28.

وبني إسرائيل واليهود والنصارى والتوحيد والقرآن والدين والعقائد والعبادات والشريعة والنظام الاجتماعي والعلوم والفنون والتجارة وتهذيب الأخلاق والنجاح، وهكذا لكل موضوع باب مستقل! لكن لماذا لم يجعله اللّه تعالى كذلك؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بعدة أجوبة، ومنها:

أوّلاً: إن القرآن هو كتاب التشريع، كما أن السماء والأرض كتاب التكوين، وكما نلاحظ أن جمال التكوين بهذا التنويع، فلو كان اللّه سبحانه وتعالى يجعل البحار في مكان، والأشجار في مكان آخر، والذهب في مكان ثالث، والفضة في مكان رابع وهكذا... لزال الجمال عن هذا العالم، بل اختلت الحياة بذلك، إنّما الجمال يحدث بالمزج والتشابك، كذلك الحال بالنسبة لكتاب التشريع.

ثانياً: إن القرآن يجب أن يستفيد منه كل إنسان، وليس كل إنسان يقرأ القرآن من أوّله حتى آخره في كل يوم، فحتى الإنسان الذي يقرأه في كل يوم يمكن أن يقرأ جزءاً واحداً منه، ومعظم الناس يستمعون في كل يوم لآيات متعددة من القرآن، هذا في أفضل الأحوال؛ لذا كان من الحكمة أن تكون كل صفحة تدل على الكتاب كلّه، فإذا قرأت صفحة منه ترى - في الغالب - ذكر المبدأ، وهو اللّه سبحانه وتعالى، والمعاد، وأهم الواجبات كالصلاة والزكاة، وبعض الأُمور التي يرتبط بها الإنسان، حتى إذا سمع الإنسان جملة من آيات فإنه يستفيد منها في كثير من جوانب حياته، ولو كان القرآن ذا فصول، فعندما نقرأ منه فصلاً فإننا سنستفيد في جانب واحد فقط، وإذا قرأنا فصلين نستفيد في جانبين، أمّا إذا كان هناك تشابكٌ في الموضوعات والمعاني فإن الإنسان عندما يقرأ مجموعة من الآيات فإنها ستكون مرآته للقرآن؛ إذ تكون فيها أهم الأُمور.

نعم هناك بعض الأُمور الخاصة في جزء خاص من حياة الإنسان، لنأخذمثلاً: آية الإرث، فالإنسان لا يبتلى به في كل يوم، لهذا ذُكر الإرث في سورتين

ص: 319

من القرآن.

ثالثاً: يقال إن هذا من إعجاز القرآن فهو بالترتيب الذي جاء فيه يكون قابلاً لأن يطبق في جميع العصور والأماكن والظروف، عكس سائر الكتب فالكتاب الذي أُلِّف قبل ألف عام - مثلاً - غالباً لا يفيد الإنسان في هذا العصر؛ لذلك ترى أن الكتب تتبدّل دائماً، خصوصاً في العصر الحديث، باستثناء كتب الوثائق أو المصادر التي تهم الدارسين المختصين فقط، وليس للجميع.

أمّا القرآن فهو دائماً غضّ وجديد، وأنيق ظاهره وعميق باطنه، فمضافاً إلى تيسير ألفاظه للناس يمكن للعلماء الاستنباطات المختلفة في شتّى الأمور عبر الطرق المعهودة التي بينها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام).

2- المتشابه في القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به»(1).

الشق الأوّل من الحديث إشارة لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2).

وأمّا الشق الثاني فيتضح من قول الإمام الرضا(عليه السلام): «من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم»(3)، فإذا لم نحكم فور رؤيتنا لآية كريمة، بل لاحظنا سائر الآيات المحكمات ورجعنا إلى الراسخين - الذين همالرسول وآله(عليهم السلام) - فسوف نتمكن من فهم معنى المتشابه.

ص: 320


1- الدر المنثور 2: 6.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- وسائل الشيعة 27: 115.

إننا نقرأ كل يوم في سورة الحمد: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(1)، والمفهوم واضح هنا، فالصراط هو الطريق المعبّد(2)، والمستقيم هو المعتدل من دون اعوجاج(3)، ولكن هناك بيان للصراط المستقيم في آيات أخرى، يقول اللّه تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(4) فنستفيد من ذلك أن الصراط المستقيم هو عبادة اللّه سبحانه وتعالى.

والصراط المستقيم جاء في سورة الحمد بالألف واللام، وجاء في هذه الآية بلا تعريف، وهذا يدل على أن عبادة اللّه سبحانه وتعالى جزء من الصراط، وليست كله.

وأمّا أنعمت عليهم فلا بدّ أن نعرفهم حتى نكون على صراطهم، إننا نجدهم في آية أُخرى، حين يقول اللّه تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ}(5)، لقد استفدنا من الآية الثانية مصاديق الذين أنعم اللّه عليهم ومن المعلوم أن رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أفضل النبيين، وأن الإمام علياً(عليه السلام) والأئمة من ذريته(عليهم السلام) هم أجلى مصاديق الصدّيقين والشهداء والصالحين فقد فرّق اللّه سبحانه وتعالى الموضوع الواحد في آيات متعددة، ولكن بالجمع بينها نتمكن من الاستفادة الكاملة منها.

ولولا التفسير الصحيح فقد يحرّف المحرّفون معاني القرآن إلى غير ما يريده

ص: 321


1- سورة الفاتحة، الآية: 6-7.
2- انظر: الصحاح 3: 1139؛ معجم مقاييس اللغة 3: 349.
3- انظر: الصحاح 5: 2017؛ لسان العرب 15: 355.
4- سورة يس، الآية: 61.
5- سورة النساء، الآية: 69.

اللّه تعالى؛ لذا قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1)، وما رسوخ هؤلاء في العلم إلّا بما أنعم اللّه عليهم من العلم. إن اللّه تعالى قدم ذكر نفسه على الراسخين للإشارة إلى أهميّة التأويل، وإنه ليس عمل أي إنسان، بل هو عمل اللّه سبحانه وتعالى، والذي علّمه للراسخين في العلم.

ثم إن التشابه قد لا يكون في المفهوم ولكن في المصداق، فقد يحتاج مصداقها إلى التفكير في سائر آيات القرآن الكريم وإلى مراجعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام).

إذن، يجب علينا حينما ننظر في القرآن أن لا ننظر إليه بشكل مجزّأ، وغالباً ما يُنظر إليه في العبادات فقط، أي: في ما يخص الصلاة والصوم والزكاة والحج، أمّا سائر التوجيهات فهي متروكة غالباً، كمثال على ذلك، وردت الأُخوّة الإسلامية في القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2)، وهذا الجانب يتغافل عنه الكثير من المسلمين، وهكذا الأمة الواحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(3)، وكذلك الحرية: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(4)، والشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(5)، و{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(6).

ص: 322


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة الأعراف، الآية: 157.
5- سورة الشورى، الآية: 38.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

إذن، حينما ننظر للقرآن يجب أن ننظر إليه بنظرة شمولية، أمّا إذا نظرنا إليه نظرة تبعيضية فقد نكون - والعياذ باللّه - من الذين لا يزيدهم إلّا خساراً، قال سبحانه: {الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ}(1).

ص: 323


1- سورة الحجر، الآية: 91.

(40) النظام الإسلامي

اشارة

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1).

دعائم النظام الأكمل

اشارة

إن النظام الأكمل هو النظام الذي يشتمل على قائد ودستور وأتباع.

فإذا لم يوجد أتباع فلا يمكن تطبيق النظام، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يطاع»(2)، والنظام يتوقف على قائد، وهذا القائد هو الذي يدير الأمر، ويتوقف على دستور يكون هو المرجع في كل شيء.

ولذلك حتى في أرقى الدول يوجد هناك رئيس تنفيذي، كرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، أو غير ذلك، وهناك دستور وجماهير، فإذا كان الرئيس صالحاً والدستور كاملاً والناس ملتزمين فهذه الدولة تكون في تقدّم، وإلّا فالدولة في تأخّر.

1- القيادة

لقد أرسل اللّه سبحانه وتعالى الأنبياء وبعدهم الأوصياء، وقد عصمهم اللّه واصطفاهم، واجتباهم واختارهم وطهّرهم؛ وهم لا يخطأون أبداً فلذلك يكونون هم القادة.

ص: 324


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- نهج البلاغة 1: 70.

2- الأتباع

قد تكون المشاكل والأخطاء بسبب الأتباع، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(1).

ولنذكر مثالين:

في معركة أحد كان عدد المسلمين حدود رُبع عدد المشركين، فكان المسلمون سبعمائة والمشركون ثلاثة آلاف - على أقل تقدير - لكن خطط الرسول الحربية صارت سبباً لانتصار المسلمين في الجولة الأولى، ثم أكثرهم خالفوا أمر الرسول فتركوا مواقعهم وتركوا أمر اللّه ففروا من المعركة فدارت الدائرة على المسلمين.

وفي معركة صفين كان جيش الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حدود نصف عدد جيش معاوية، ومع ذلك حيث كانت خطط الإمام الحربية صحيحة كاد جيش الإمام(عليه السلام) أن ينتصر، وجيش معاوية أن ينهزم، لأن مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) وصل إلى قرب خيمة معاوية، أي: مركز القيادة، لكن الخوارج لم يسمحوا أن يتم هذا النصر، فقد كانوا عشرين ألف شخص، اجتمعوا حول أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقالوا له: إمّا أن تقول لمالك الأشتر أن يرجع أو نقتلك، وكان هذا بداية الوهن في صفوفهم، فأدّى ذلك بعد حين إلى استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام)، وسيطرة بني أمية.

3- الدستور

ودستور الإسلام هو القرآن الكريم، ثم كلام الرسول والأئمة(عليهم السلام)، الذي هو المفسّر للقرآن الكريم، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ

ص: 325


1- سورة الروم، الآية: 41.

إِلَيْهِمْ}(1) وقال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2) فكلام الرسول والأئمة(عليهم السلام) هو تفسير للقرآن؛ لأن القرآن ورد فيه كل شي، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(3).

ففي القرآن كل شيء ولا يمكننا الوصول إليها لأنها من بطون القرآن إلّا أن الرسول والأئمة(عليهم السلام) هم الذين بينوا لنا ذلك، فكلامهم تبيين للقرآن.

والحاصل: إن هذا هو الدستور - القرآن الكريم - الذي يجب أن نعمل به، فإذا عملنا به نحصل على الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وإلّا فالخسارة في الدنيا والآخرة، وهذا ما نراه اليوم، فالمسلمون - مع الأسف - في مشاكل جَمّة، حيث الحروب موجودة في بلادهم، وكذلك القتل ونهب ثرواتهم. والسبب في ذلك هو أن غالب المسلمين لم ينصروا اللّه فلم ينصرهم، قال تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(4)، فاللّه سبحانه وتعالى ينصرنا بشرط أن نعمل بشكل صحيح.

لقد نزلت الملائكة يوم بدر لنصرة المسلمين، وأمّا يوم أحد فلم تنزل، وذلك لأن أكثر المسلمين خالفوا كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يسمعوا له، فقد أمر الرماة أن لا ينزلوا من الجبل، ولكن أكثرهم خالفوا كلامه، وتركوا الجبل، وأمر المسلمين بالثبات لكن أكثرهم فرّ من المعركة فحدث ما حدث.

الاهتمام بالقرآن

يجب علينا أن نلتزم بما يقوله القرآن الكريم، ونجعله أمامنا، ونعمل به، وقد

ص: 326


1- سورة النحل، الآية: 44.
2- سورة فاطر، الآية: 32.
3- سورة الأنعام، الآية: 38.
4- سورة محمّد، الآية: 7.

ورد في وصف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)أنه: «كان خُلُقه القرآن»(1)، فماذا يعني هذا؟

إن كل إنسان عنده خَلْق وخُلُق، والخَلْق هي الصورة الظاهرية والشكل، وأمّا الخُلُق فهو الصورة الباطنية، ومعنى (كان خُلقه القرآن) هو أن الصورة الباطنية مطابقة مع القرآن مائة بالمائة، وهذا ما صرح به القرآن الكريم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(2)، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3).

والاهتمام بالقرآن يكون ضمن أمور:

الخطوة الأولى التي ينبغي على الإنسان أن يفعلها هي تعلّم قراءة القرآن، فالكثير من الناس لا يتمكّنون من قراءة القرآن.

والخطوة الثانية هي فهم معاني الآيات، لأن بعض الكلمات الفصيحة العربية غير متداولة في لساننا الدارج، والكلمة إذا لم تكن متداولة لا يعرف الإنسان معناها - عادة - وهذا بخلاف الكلمة المتداولة في الإعلام والتي تستعمل كثيراً فكل الناس يعرفون معناها. وفهم معاني كلمات القرآن أصبح الآن أمراً سهلاً ميسوراً، وذلك لوجود التفاسير، والمعاجم اللغوية.

وأمّا الخطوة الثالثة فهي العمل بالقرآن، إذ لا تنفع القراءة من غير عمل، وفي الحديث: «رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»(4)، فالذين خرجوا على أمير

ص: 327


1- انظر: مرآة العقول 3: 236.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- مستدرك الوسائل 4: 249.

المؤمنين(عليه السلام) في النهروان كانوا أربعة آلاف شخص من قرّاء القرآن، إلّا أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصفهم بقوله: «يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم»(1)، فهؤلاء لم ينزل القرآن إلى قلوبهم، ولم يفهموه.

إن فهم القرآن أمر ضروري جداً، لكي يعمل به فيكون شفيعاً له، لأن القرآن الذي لا يُعمل به يشتكي يوم القيامة، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَٰذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا}(2)، فالشاكي هو الرسول، والمشكي إليه هو اللّه سبحانه وتعالى، والقضية المرفوعة هي هجران القرآن، فالحكم سلفاً واضح، ويكون لصالح الرسول والقرآن.

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال لرجل: «أتحب البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم، فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو اللّه أحد، فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص، مَن مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلّم في قبره ليرفع اللّه به من درجته، فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ وارقَ، فيقرأ ثم يرقى»(3). فكلما قرأ آية صعد درجة من درجات الجنة، وكلما عمل الإنسان كانت درجته يوم القيامة أعلى.

إنه يجب على المسلمين احترام القرآن الكريم، ولذا لا بدّ من الاستماع إلى القرآن حين تلاوته، فقد قال اللّه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4)، فاستماع القرآن يوجب رحمة اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 328


1- انظر: دعائم الإسلام 1: 389.
2- سورة الفرقان، الآية: 30.
3- الكافي 2: 606.
4- سورة الأعراف، الآية: 204.

لقد ورد في حديث شريف: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية»(1). فينبغي على كل إنسان أن يقرأ ما استطاع من القرآن، وكل بحسب مقدرته، وما يسمح به وقته. وهذا هو احترام للقرآن، والإنسان الذي يحترم القرآن يوفقه اللّه عزّ وجلّ، وبخلاف ذلك، فالإنسان الذي لم يحترم القرآن فإن اللّه سبحانه وتعالى يسلب التوفيق منه، وكل ذلك مقدمة للعمل به ليفوز الإنسان بسعادة الدارين.

ص: 329


1- الكافي 2: 609.

(41) مفاهيم القرآن عامة

اشارة

قال اللّه سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(1).

المفاهيم المعنوية غير قابلة للإحساس غالباً، فإن ذكرت في قصة أو في شأن نزول، فإن ذلك يؤدّي لفهم المعنى أكثر، ولذا في المدارس - سواء المدارس الابتدائية أم الحوزوية أم الجامعية - يضربون مثالاً لتقريب الفكرة إلى الأذهان.

وعليه: فإن في آيات القرآن مضامين عامة - غالباً - وهي لا تختص بشأن نزولها أو بالقصة التي تذكرها تلك الآيات عادة، وإنّما شأن النزول أو القصة هي مثال للفكرة التي يراد بيانها.

وهكذا دأب القرآن الكريم، فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(2)؟ فقال: «رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنذر وعلي الهادي، يا أبا محمّد، هل من هادٍ اليوم؟ قلت: بلى جعلت فداك، ما زال منكم هادٍ بعد هادٍ حتى دفعت إليك، فقال: رحمك اللّه يا أبا محمّد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى»(3).

ص: 330


1- سورة العنكبوت، الآية: 43.
2- سورة الرعد، الآية: 7.
3- الكافي 1: 192.

إن القرآن كتاب هداية لعامة الناس إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وليس لمجموعة خاصة عاصرت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فمفاهيمه عامة، فإذا ذكر اللّه قصّة بني إسرائيل - مثلاً - فليس لمجرّد أنها قصّة، لأن القرآن ليس كتاب قصص، وإنّما هو كتاب هداية، فذكر القصة لأجل تلك الفكرة التي فيها الهداية؛ ولذا نجد أن القصص المذكورة في القرآن الكريم تذكر المقدار المرتبط بالغرض للهداية، حتى في قصة يوسف(عليه السلام) التي هي أحسن القصص وأجمعها لم تذكر الكثير من قضايا يوسف(عليه السلام)، لأنها لم تكن مرتبطة بغرض السورة، وإنّما ذكرتها الروايات.

إن القرآن الكريم لم يذكر قصة موسى(عليه السلام) بصورة مجموعة في سورة واحدة، وإنّما ذكرها في سور مختلفة، وفي كل مرّة يذكر زاوية من زواياها، وهكذا الحال في قصة آدم(عليه السلام)، حيث ذكرت مرات متعددة في القرآن الكريم، ولكن ليس فيها تكرار، لأن كل مورد له غرض خاص وهداية خاصة، وبكيفية خاصة، فمرّة تذكر مفصلة، وأخرى مختصرة، وثالثة تذكر جانباً، ورابعة جانباً آخر وهكذا.

فكل آية تريد أن توصل هداية، وعلى الإنسان أن يتدبر بها ويتفكّر.

بين بني إسرائيل والأمة الإسلامية

اشارة

وكمثال على ذلك نذكر الآية الرابعة والخامسة من سورة القصص فإن شأن نزول هاتين الآيتين قضية بني إسرائيل وفرعون وقومه.

1- استبداد الطغاة

قال اللّه تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(1)، فهو مثل كل دكتاتور يستبد في حكمه، ويجعل نفسه هو الأعلى لأجل أن يحكّم سلطته، فيفرّق بين الناس ويجعل أهلها شيعاً، يستقوي بطائفة على طائفة أخرى، وهذا

ص: 331


1- سورة القصص، الآية: 4.

عكس عمل الأنبياء(عليهم السلام). ولذا فإن النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع بين الناس، حيث ألف بين قبيلة الأوس والخزرج، اللتين كانتا متنازعتين فجمع بينهما، قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(1)، فالأنبياء(عليهم السلام) يجمعون بين الناس، لكن المستبدين يفرّقون بينهم لكي يستمرّوا في الحكم.

ثم قال اللّه تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ} أي كان يراهم ضعفاء فيظلمهم {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} أي يبقيهن أحياء لأجل الاستخدام {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2).

فقصة الآية وإن كانت حول فرعون وبني إسرائيل، إلّا أن مفهومها ليس خاصاً بهم؛ لأن القرآن الكريم كما ذكرنا كتاب هداية، وهو يجري في اللاحقين كما جرى في السابقين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.

ومن أهم مصاديق هذه الآية الحالة التي يعيش فيها المؤمنون في هذه العصور حيث الحكام الظلمة يستضعفون الناس بالاستبداد والإفساد.

2- مِنّة اللّه تعالى

ثم قال اللّه تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ}. إن هذه منّة من اللّه سبحانه وتعالى، فالإنسان لا يستحق شيئاً على اللّه، لأن اللّه خلقنا من غير حق لنا على اللّه سبحانه، وإنّما تفضَّل علينا بأن خلقنا، ثم أرسل الأنبياء لهدايتنا، وشرّع الأحكام لسعادتنا، كل ذلك تفّضُّل ومنّة علينا لأننا إن التزمنا بها فنفعها يعود إلينا، وإلّا فاللّه سبحانه وتعالى لا يحتاجها، ولا يتضرر بمخالفتنا.

ص: 332


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة القصص، الآية: 4.

أن أحكام اللّه سبحانه وتعالى إنّما شرّعها لأجل المصالح والمفاسد، فإذا كان في الشيء مصلحة ملزمة للناس فاللّه سبحانه وتعالى يأمر به أمراً وجوبياً، وإذا كان فيه مصلحة وفائدة كبيرة لكنها غير ملزمة فيأمر اللّه به أمر استحبابياً، وإذا كانت به مفسدة كبيرة يكون النهي تحريمياً، وإذا كانت مفسدة خفيفة فتكون الكراهة؛ لأن المكروه فيه مفسدة لكنها ليست بتلك المفسدة المستوجبة للنهي التحريمي، فاللّه سبحانه وتعالى إذا أمرنا فهو لنفعنا ومصلحتنا، وإذا نهانا فلأن في المنهي مفسدة لنا، وعلى كل حال فأمره ونهيه لمصلحتنا قال اللّه سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(1).

ثم أكمل اللّه منّته على المؤمنين المستضعفين بأن وعدهم بأن يمكّن لهم في الأرض كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(2)، فهذا وعد من اللّه، ووعده تفضّل، وهذه إرادة تشريعية تكوينية.

3- استضعاف الناس

ثم قال اللّه سبحانه: {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ}(3) إن الاستضعاف إنّما يكون في الأرض وليس استضعافاً في العقيدة؛ لأن المستضعف على قسمين:

القسم الأوّل: مَن هو مستضعف في العقيدة، وهو الذي أشار إليه قوله تعالى:

ص: 333


1- سورة آل عمران، الآية: 164.
2- سورة النور، الآية: 55.
3- سورة القصص، الآية: 5.

{الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}(1).

القسم الثاني: المستضعف في الأرض، وهو المؤمن القويّ في عقيدته، سواء في التوحيد فلا يشرك باللّه تعالى، أم في النبوة فلا ينكر مقامات النبي التي حباها اللّه سبحانه وتعالى، أم في الإمامة حيث يعتقد بمراتب الأئمة التي رتبهم اللّه فيها من غير غلو ولا تقصير، ويكون عمله صالحاً، لكنه مستضعف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونحو ذلك، كالأئمة(عليهم السلام) وأصحابهم حيث كانوا مستضعفين بهذا المعنى، فهناك خلفاء متجبّرون غصبوهم حقوقهم وعارضوهم.

إن كثيراً من المؤمنين يعيش نعمة الإيمان لكنه مستضعف من السلطات الجائرة، التي تحاربه لأجل عقيدته، حيث يضطهد ويمنع عن حقوقه المشروعة.

بين التقية واستضعاف النفس

إن السلطات الجائرة تحارب المؤمن لإيمانه، فإذا أصبح مثلهم فلا يحاربونه، ولذا شرّع اللّه تعالى التقية حفظاً للمؤمنين، قال سبحانه: {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}(2) وإن التقية أن يبطن الإنسان الإيمان ويظهر غيره، لأجل حفظ ماله وعرضه ونفسه، ومن ذلك المداراة وحسن المعاشرة مع الناس المخالفين، وأمّا المداهنة على حساب الحق بأن يتنازل الإنسان عن الحق لأجل الوصول إلى مكسب دنيوي فلا يجوز، قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(3)، فإذا لم يتنازل الإنسان عن حقه فمن الطبيعي أن يستضعفه أصحاب الضلال والجور.

ثم لا يحق للإنسان أن يستضعف نفسه، بأن يكون كسولاً لا يعمل ولا يجدّ

ص: 334


1- سورة النساء، الآية: 97.
2- سورة آل عمران، الآية: 28.
3- سورة القلم، الآية: 9.

ولا يكدّ ولا يعبد، فهذا الإنسان لا تشمله المنّة؛ لأنه مقصّر، فلو أدّى الإنسان ما عليه ثم استضعفه الظالمون فهو من مصاديق الآية، دون غيره.

معنى انتظار الفرج

إن البعض يحاول تحوير المفاهيم الدينية لما ينسجم مع كسله، فهو لا يعمل ويقول: أنا منتظر للإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) بينما الانتظار لا يعنى الكسل ولا التهرّب عن المسؤليات، بل يجب على الإنسان أن يعمل بتكليفه في ما يقدر عليه، وينتظر في ما لا يقدر عليه، كما كان شأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال اللّه تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَٰمِلُونَ * وَانتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}(1).

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يعمل بما يستطيع، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(2)، بالرغم من قوة الظالم الجائر، ولكن لا يكون مستضعِفاً لنفسه.

ثم قال اللّه تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}(3). والتمكين في الأرض هو أن يمارس الإنسان عباداته بحرية، وهذا وعد من اللّه حيث قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}(4).

إن هذا الوعد خاص بمن آمن وعمل الصالحات فلا يشمل ضعاف العقيدة أو ضعاف العمل، فقد تزل قدمهم حين ظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، والإمام الحسين أفضل من الإمام المهدي ومع ذلك فقد خذله أكثر الناس، وإذا ظهر الإمام

ص: 335


1- سورة هود، الآية: 121-122.
2- سورة الطلاق، الآية: 7.
3- سورة القصص، الآية: 6.
4- سورة النور، الآية: 55.

المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) يتكرر هذا الأمر، فإذا كان إيماننا أو عملنا ضعيفين فقد نتحول - لا سمح اللّه - إلى خوارج، ونكون كمن يقول له: «يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا بك»(1)، فهؤلاء لا يريدون الإمام(عليه السلام) ولذا يحاربونه فيضطر(عليه السلام) لقتالهم.

عندما خرج الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة كان معه مجموعة من الناس ولعل بعضهم كانوا يتصورن أنه خارج للكوفة ليكون حاكماً، وحينما وصل خبر استشهاد مسلم بن عقيل تفرّق بعض هؤلاء عنه، وفي ليلة التاسع من المحرّم تفرّق آخرون وبقيت مجموعة قليلة جداً.

وهكذا حال أمير المؤمنين(عليه السلام)، فبعد رحيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خذله الناس إلّا القليل ممن وفى لرعاية الحق.

إذن، إذا لم نكن بالمستوى المطلوب، فربما نسقط في الامتحان لا سمح اللّه لذا ورد في الحديث: «اللّهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن»(2)، فهناك فتن تضل الإنسان، فينبغي علينا أن نكون ورعين، ونهذب أنفسنا حتى إذا ظهر الإمام(عليه السلام) نكون من أعوانه لا من أعدائه.

ص: 336


1- دلائل الإمامة: 456.
2- وسائل الشيعة 7: 137.

(42) القصص القرآني

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(1).

إن ما يراه الإنسان وما يسمعه يؤثر عليه تأثيراً بالغاً قد يستمر إلى نهاية حياته، ولذلك يجب أن نكون منتبهين لهذا الجانب، لاسيما بالنسبة لأبنائنا الصغار، وماذا يتعلمون؟ لأن شخصية الطفل تتكوّن وتنمو من خلال ما يسمع ويرى، ولنذكر مثالين إيجابي وسلبي:

المثال الأوّل: المجالس الدينية، ينبغي أن يعتاد الطفل الحضور إلى المجالس الدينية وخاصة المجالس الحسينية، لأن شخصية الطفل تتكون وتنمو من خلال ما يسمع وما يرى، صحيح ربما لا يفهم الطفل أكثر الكلام الذي يُقال على المنبر، لكن هذه الأجواء سوف تتركز في ذهنه بالتدريج؛ لأنّ المخ يتلقى المعلومات في اللاشعور؛ ولذلك ورد في الأحاديث الشريفة حينما يولد المولود يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى ويُقام في أذنه اليسرى(2). فهو لا يفهم معاني الأذان والإقامة لكنها تُسجّل في عقله الباطن ولا شعوره، وسيؤثر في سيرته

ص: 337


1- سورة يوسف، الآية: 111.
2- انظر: الكافي 6: 23، وفيه: ... عن أبي يحيى الرازي، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا ولد لكم المولود أي شيء تصنعون به؟ قلت: لا أدري ما نصنع به. قال: ... وأذن في أذنه اليمنى وأقم في اليسرى تفعل به ذلك قبل أن تقطع سرته فإنه لا يفزع أبداً ولا تصيبه أم الصبيان».

وسلوكه.

المثال الثاني: الأفلام، فقد نلاحظ بعض الآباء يتركون أطفالهم جالسين أمام التلفزيون دون متابعة، لاسيما أن القنوات التي تبث (أفلام الكارتون) تعمل طيلة ساعات اليوم، وبعض الأحيان ينزعج الآباء والأمهات من أطفالهم وحركاتهم، فيشغلونهم بشاشة التلفاز، ولكن يجب أن يعلموا أنّ هناك شركات كبرى تقف وراء هذه الأفلام، إنهم يملؤونها بمفردات ثقافتهم لنشرها. قال بعضهم: إنني رأيت الكارتون الفلاني، فلم أجد فيه ما يثير الشك، فقلت له: هل كانت البنت التي ظهرت فيه محجبة أم سافرة؟ فقال: سافرة. قلت له: إن الطفلة الصغيرة التي تتابع الكارتون سوف تحب بطلة الفلم شيئاً فشيئاً، وتحاول أن تقلدها، فحتى لو كان الجو العام للمجتمع لا يسمح لها بالانحراف، لكن لا بدّ أن نعلم أن أجواء الالتزام لا تتوفر في كل مكان، وربما لا يدوم جو المجتمع الضاغط عليها، فقد تحدث تحولات سياسية واجتماعية يزول معها الضغط الاجتماعي، كما حدث في كثير من البلدان.

لذا على الإنسان أن يحمي نفسه وأبناءه وعائلته من الزلل، كما قال اللّه تعالى: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(1).

العبرة بالقصة

إن القرآن الكريم قد ذكر القصص للاعتبار بها، مثلاً ذكر القرآن قصة يوسف(عليه السلام) وقال عنها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}(2) والقصة نفسها موجودة في التوراة أيضاً، مع اختلاف كبير، وعندما ننظر إلى قصة يوسف(عليه السلام) في

ص: 338


1- سورة التحريم، الآية: 6.
2- سورة يوسف، الآية: 3.

التوراة تجدها قصة مجردة، لكن عندما نقرأ القصة نفسها في القرآن الكريم ونتأمل في السورة، نجد أن كل آية وردت فيها تنطوي على حكمة أو موعظة أو بيان لحكم شرعي أو مسألة تتعلق بالآداب أو الأخلاق أو العقائد أو غير ذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى ذكرها لكي نتعلم ونهتدي بها.

نماذج من قصص القرآن

ولنذكر هنا نماذج من القصص القرآني:

1- إنَّ القرآن الكريم جعل لنا قدوة في كل شيء، فلو كنتَ مُبَلِّغاً وذكرت في أحد الأيام موعظة لكنها لم تؤثر في الناس، وأعدتَ ذكرها في اليوم الثاني ولم تؤثر فيهم، وذكرتها في اليوم الثالث ولم تؤثر فيهم أيضاً، فلعلّك تتعب وتقول لنفسك: أن لا فائدة في هذا الكلام فتتركه، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل لك اُسوة، وهو نوح(عليه السلام)، فقد ظل يعمل لهداية قومه طيلة (950) سنة، ولم يؤمن معه إلّا القليل، فليكن هذا النبي قدوةً لك.

وإذا تعرض أحد الشباب إلى ظروف أخلاقية حرجة فقد جعل له اللّه تعالى مثالاً يقتدي به وهو يوسف(عليه السلام).

وكان أبوه يعقوب(عليه السلام) مثالاً للعاطفة الأبوية، لقد فقد يعقوب(عليه السلام) ولده وظل يبكي عليه طيلة أربعين سنة قال اللّه تعالى عنه: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}(1) فيعقوب(عليه السلام) بكى على فقد يوسف حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَٰلِكِينَ}(2).

وابتلي أيوب(عليه السلام) بأمراض شديدة وفقدان جميع الأبناء والأموال لسنين طويلة،

ص: 339


1- سورة يوسف، الآية: 84.
2- سورة يوسف، الآية: 85.

لكنه بقي صابراً إلى أن شفاه اللّه تعالى وأعاد له أولاده وأمواله وزيادة.

وهكذا ذكر اللّه تعالى قصص الأنبياء(عليهم السلام) والمصاعب التي لاقوها ليكونوا لنا أسوة ونقتدي بهم حين تعرضنا إلى مشاكل مشابهة.

2- كما ذكر اللّه سبحانه وتعالى أحوال الأقوام بعصيانهم ومخالفتهم، لكي يكون أمرهم عبرة لنا، فعندما يذكر اللّه سبحانه وتعالى قوم لوط وقوم هود وقوم صالح وأمثالهم من الأقوام، فإن ذلك لكي نعرف أن هؤلاء بسبب مخالفتهم لأمر اللّه سبحانه وتعالى ابتلوا بما ابتلوا به، حتى أن هوداً(عليه السلام) حينما نزل العذاب على قومه قال: {يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّٰصِحِينَ}(1)، أي: إنه تكلم مع أموات، فهل فعل النبي هذا كان لغواً والعياذ باللّه! كلا، إنهم كانوا يسمعونه وهم أموات، وقد ذُكرت هذه القضايا للاعتبار بها ولكي نتعلم منها.

3- كذلك ذكر اللّه سبحانه وتعالى قصص الآخرة فهل القيامة مجرد قصّة؟ كلا، بل لكي نخشى من عذاب اللّه، ونطمع في ثوابه ونرجوه، ونصلح أعمالنا لكي لا يصيبنا العذاب، ولكي نكسب رضوان اللّه سبحانه وتعالى.

4- وهكذا الحال عندما يذكر اللّه سبحانه وتعالى القصص التي تقع في المستقبل، كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّٰلِحُونَ}(2)، إن الفائدة من هذا الإخبار المستقبلي هو أن يعيش الإنسان الأمل؛ لأنه إذا فقد الأمل يفقد معنى الحياة، فالمريض إذا كان لديه أمل بالشفاء فإنه يحاول العلاج، ويصرف الأموال، ويبحث عن أفضل الأطباء والمستشفيات،

ص: 340


1- سورة الأعراف، الآية: 79.
2- سورة الأنبياء، الآية: 105.

وحتى لو كان لا يملك مالاً فإنه يستدين المال أو يبيع بيته؛ لأن لديه أملاً بالشفاء، لكنه إذا فقد الأمل وعَلم أن لا فائدة من علاجه واستسلم لليأس، فإنه سيترك العلاج بل قد يموت أسرع.

بهذه الكيفية يُحفظ دين اللّه، ويعيش المؤمنون بسعادة لأن السعادة والشقاء أمران معنويان. فهناك رجال ونساء يمتلكون المليارات لكن حياتهم تعيسة ومليئة بالبؤس والشقاء فالمادة لا تحقق السعادة وفي عكس ذلك هناك فقراء نلاحظ أن حياتهم الاُسرية سعيدة.

والحاصل: أن السعادة والشقاء أمران نفسيان، ولا يرتبطان بالمادة، بل بالروح، فقد تعيش أنت الآن بصعوبة لكنك تنعم بحياة مطمئنة، وتعلم بأن اللّه سبحانه وتعالى يرعاك، ويرى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أعمالك، وأن الدين الذي تعتقد به سيغلب في يوم قادم على كل الدين كما قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1).

بهذه الطريقة يمكن أن يعيش الإنسان حياة سعيدة، فيتحمل جميع الصعوبات ويقوم بالأعمال الصالحة.

ص: 341


1- سورة التوبة، الآية: 33.

(43) رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأسوة الحسنة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1).

قد يزعم البعض أن الآية تدلّ على عدم مقامات خاصة للنبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، لأنهم بشرٌ مثلنا فلا معنى للاعتقاد بهذه المقامات والدرجات!

ولكن إذا نظرنا إلى القرآن الكريم بشكل عام فسوف نجد أن هذه الرؤية تناقض القرآن الكريم وتضاده، ومشكلة هؤلاء أنهم ينظرون إلى جزء دون باقي الأجزاء الأخرى.

التفاضل في كل شيء

إن الكون مبني على التفاضل في كل شيء، وهذا ما يدل عليه القرآن الكريم والوجدان، فالفواكه فيها تفاضل، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ}(2)، فهناك فاكهة أفضل من الأخرى. وهناك اختلاف في الأنواع أيضاً، فهناك أنواع فاخرة وأخرى غير فاخرة.

كذلك بالنسبة إلى تفضيل الناس على غيرهم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا

ص: 342


1- سورة الكهف، الآية: 110.
2- سورة الرعد، الآية: 4.

تَفْضِيلًا}(1).

كذلك الحال بالنسبة للناس، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(2). فنظام الحياة مبني على وجود أطباء ومهندسين وعلماء وعمال بلدية وأصحاب مهن وهكذا، فهناك آمر ومأمور، ولو كان كل الناس علماء من الدرجة الراقية، فسوف لا يوجد عامل تنظيف يكنس الشوارع - مثلاً - ، وهذا يؤدّي إلى اختلال في النظام العام.

وهذه المعادلة تنطبق على الأنبياء(عليهم السلام)، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٖ}(3)، وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ}(4)، فالأنبياء(عليهم السلام) لهم درجات يتفاضلون بها، وأفضلهم أولو العزم، وأفضل هؤلاء خاتم الأنبياء محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والرسل أفضل من الأنبياء(5).

إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، وقد تفضّل علينا بالنعم، قال تعالى: {وَإِن

ص: 343


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- سورة الزخرف، الآية: 32.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- سورة الإسراء، الآية: 55.
5- إن البعض يريد أن يتهرب من بعض مسؤولياته لذا يقول: لو خلقني اللّه سبحانه وتعالى معصوماً لما ارتكبت الذنوب، ولو كان اللّه سبحانه وتعالى خلقني إماماً أو نبياً لكنت أفضل من هذه الحالة التي أنا عليها الآن، ولماذا لم يخلقني اللّه سبحانه وتعالى كما خلقهم؟! والجواب على ذلك: إنك على ما خلقك اللّه تعالى قادر على الإطاعة وترك المعصية فلذا لا يحق لك العصيان وترك الطاعة وتستحق العقاب بالمخالفة عقلاً فكون غيرك أفضل منك لا يكون مبرراً، كالفقير إذا سرق وقال لو كنت غنياً لما سرقت فهل هذا مبرر لسرقته وإسقاط العقوبة عنه؟!!

تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(1)، ولكونه حكيماً تفضل على البعض أكثر من غيرهم. وبالرغم من أنه لا حق لأحد على اللّه سبحانه وتعالى، إلّا أنه غمرنا بنعمه، وفضّل بعضنا على بعض.

لو لم يكن التفاضل قائماً في نظام الكون لما استقامت الحياة، والإنسان أفضل من الحيوان، ولو كان الاعتراض وارداً لكان بإمكان الحيوان أن يعترض ويقول: لماذا لم تخلقني إنساناً؟! وكذلك فإن الحيوان أفضل من النبات، فلو كان هذا الاعتراض وارداً لكانت كل الموجودات تناقض نظام الكون.

وهذا ينسحب على أعضاء بدن الإنسان نفسه، فهناك عضو أفضل من الآخر، فالعين أفضل من اليد، فيجب أن لا تكون له يد وبدلاً من ذلك تكون له عين أخرى، كذلك يُعد المخ أفضل من بقية الأعضاء الأخرى، فهل يجب أن يكون وجود الإنسان مخاً فقط؟! وهل سيكون هذا من الحكمة؟

من هنا نفهم أن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2) لا علاقة له بمسألة التفاضل، فليس معناه أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثلنا في الفضيلة، فهذه الآية الكريمة لا تريد أن تقول هذا المعنى، وإلّا لأصبحت مخالفة لباقي الآيات القرآنية التي بيّنت أن اللّه سبحانه وتعالى فضّل بعض النبيين على بعض، وفضّل بني آدم على غيرهم، وفضّل بعض الناس على بعض وهكذا.

بل المقصود في هذه الآية أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثلنا في الهيئة والتركيب الجسماني البشري؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يكون الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة نقتدي به، فإذا كان الرسول مَلَكاً من الملائكة لم يمكن الاقتداء به؛ لأن المَلك - مثلاً - يسجد

ص: 344


1- سورة النحل، الآية: 18.
2- سورة الكهف، الآية: 110.

سجدة واحدة تستمر آلاف السنوات، فهل يمكن الاقتداء به؟!

قال اللّه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(1)، فحتى لو كان المقدّر أن يكون النبي من الملائكة لكان المفترض أن يكون في هيئة إنسان لكي يمكن الاقتداء به؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2)، وذلك في طريقة أكله وشربه وحياته الزوجية وسلوكه وغير ذلك.

لذا نجد أن اللّه تعالى يسلط الأضواء - في القرآن وغيره - على جوانب حياة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كلها لكي نرى كيف كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعبد اللّه تعالى، وكيف كان يتعامل مع الناس، بل حتى كيف كان يتعامل مع أهله، وغير ذلك لنقتدي به.

المقامات ليست من الغلو

والحاصل: إننا نجد البعض ضعيف العقيدة بالدين وبرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وعندما يصل إلى مقامات الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) ينكرها، ويقول: ما هي هذه المقامات، إن هذا غلو؟

إنه قد يحدث خلط بين الغلو وبين المقامات، فقد يقصّر الإنسان وينزّل الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه فيها، بزعم أن هذا غلو؛ لأنه حدث خلط في ذهنه بين مفهوم الغلو ومفهوم المقامات التي منحها اللّه سبحانه وتعالى، والسبب في ذلك ضعف معرفته باللّه: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ}(3)، ولذا ورد في الدعاء: «اللّهم عرفني نفسك،

ص: 345


1- سورة الأنعام، الآية: 9.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة الأنعام، الآية: 91.

فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللّهم عرفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللّهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني»(1).

فالإنسان إذا لم يعرف اللّه سبحانه لا يعرف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإذا لم يعرف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعرف الإمام(عليه السلام)، ومن لم يعرف الإمام(عليه السلام) لا يعرف الدين.

إذن، ينبغي على الإنسان أن يتوجه لمعرفة اللّه سبحانه وتعالى، ويراجع الروايات؛ لأنه إذا عرف اللّه سبحانه وتعالى فسوف يعرف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام(عليه السلام).

نماذج من سيرة الرسول وآله (عليهم السلام)

اشارة

ولنذكر نماذج من سيرة الرسول وآله(عليهم السلام) لنقتدي بهم:

النموذج الأوّل: عفو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أعدائه

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعامل مع أعدائه يوم فتح مكة أفضل تعامل، فقد كان يملك القوة القاهرة، وكان لديه عشرة آلاف من الجنود المجندة، وقد استسلم المشركون، وكان باستطاعته قتلهم ولا يُلام لو فعل ذلك؛ لأنهم عارضوه وحاربوه طِوال عشرين سنة وقتلوا أصحابه وأقرباءه، فعبيدة بن الحارث ابن عم الرسول قتل في معركة بدر، وحمزة بن عبد المطلب عم الرسول قتل في معركة أحد، كذلك قتل بعض أقربائه في معارك أخرى، فكان يتمكن من قتلهم ولو فعل لما كان ملوماً، فهم الذين غدروا به وبدأوا بالحرب، لكنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عفا عنهم، ومن الذين عفا عنهم وحشي قاتل حمزة، وهبار قاتل زينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

هكذا كان تعامل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أعدائه الذين قتلوا أقرباءه وأصحابه، بينما إذا

ص: 346


1- الكافي 1: 337.

اختلف البعض منا مع صديقه أو شريكه في العمل أو قريبه في قضية جزئية بسيطة، فإننا نلاحظ أنهما لا يتكلمان مع بعضهما ربما لسنوات، ولو كان لأحدهما قوة لاستخدمها ضد الآخر، بينما التأسّي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقتضي غير ذلك.

النموذج الثاني: عفو الإمام زين العابدين (عليه السلام)

إن رجلاً أهان الإمام زين العابدين(عليه السلام) أمام الناس إلّا أنه عفا عنه، ولم يقابله بالمثل. ففي الحديث أنّه: «وقف على علي بن الحسين(عليهما السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه، قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1) فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثباً للشر، وهو لا يشك أنه إنّما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين(عليهما السلام): يا أخي، إنك كنت قد وقفت علي آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر اللّه منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر اللّه لك، قال: فقبل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به»(2).

النموذج الثالث: عمل أمير المؤمنين (عليه السلام)

في الفترة التي كان يعيش فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) الحصار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان مُبعداً عن السلطة كان يقوم بأعمال شتى، فمن جملة أعماله

ص: 347


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- الإرشاد 2: 145؛ بحار الأنوار 46: 54.

أنه كان يذهب إلى منطقة (ينبع) قرب المدينة المنورة فكان يقوم بإحيائها، فشق فيها عيوناً وحفر فيها آباراً، وغرس فيها الأشجار(1)، فتحولت إلى بستان كبير جداً، وفي ما بعد أراد معاوية أن يشتريها من الإمام الحسن(عليه السلام) بمائة ألف دينار، لكنه لم يبعها له. وهذا يدلّ على أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان ينتهز وقته في العمل، ومن هنا فإن كل فرد منّا لا يصح أن يقضي وقته بالبطالة، فلو افترضنا أن رجلاً انتهى به الأمر إلى التقاعد بعد سنين من العمل، وتقرر أن يحسب له راتباً شهرياً مستمراً، فهل من الصحيح أن يقضي وقته بالبطالة؟ كلا، إنّما عليه الاشتغال بعمل آخر، أو ينشغل بالعبادة أو خدمة الناس، أو افترضنا امرأةً عندها فراغ، فلا بدّ أن تنتهز هذا الوقت كأن تخصص وقتاً للعبادة، وآخر للمطالعة، وهكذا.

كما يمكن للإنسان تخصيص قسم من وقته لخدمة الناس وقضاء حوائجهم، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم، فلا تملّوا النعم فتتحول إلى غيركم»(2).

إذن، فلا بدّ أن يتأسى الإنسان برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعله بشراً يمكن التأسى به مع فضيلته، وأنه أفضل الموجودات.

وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستفيد من كل لحظة من لحظاته، فقد عَبَدَ اللّه سبحانه وتعالى حتى تورمت قدماه، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(3)، وكان دائماً يسعى لخدمة الناس وقضاء حوائجهم وإرشادهم وهدايتهم، فإذا تأسى الإنسان برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسوف يأمن من

ص: 348


1- انظر: بحار الأنوار 41: 40.
2- مستدرك الوسائل 12: 369.
3- سورة طه، الآية: 1-2.

الهلكة، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتأسى متأسٍ بنبيه(1)، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة، فإن اللّه جعل محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة»(2).

ص: 349


1- فتأسى خبر يريد به الطلب، أي: فليقتدِ مقتدٍ بنبيه.
2- نهج البلاغة 2: 60.

(44) البعثة النبوية المباركة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

هذه الآية الكريمة تكرّرت في القرآن مرّتين، وقبلها وردت آيتان متقاربتان من حيث الألفاظ، وهما: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2)، و{يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(3).

أبدان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من عليين

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق بدن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) من عليين، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(4)، وأمّا أرواحهم(عليهم السلام) فخلقت من فوق عليين، أي: من نور عظمة اللّه حسب ما جاء في الروايات(5)، فالنور خلقه اللّه سبحانه وتعالى وشرّفه بأننسبه إلى نفسه، كما نسب الكعبة إلى نفسه، فقال: بيت اللّه، كذلك هذا النور حيث خلقه وشرّفه بأن

ص: 350


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.
2- سورة التوبة، الآية: 32.
3- سورة الصف، الآية: 8.
4- سورة المطففين، الآية: 18-21.
5- انظر: بصائر الدرجات: 40، وفيه: ... قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك...». ... وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه جعلنا من عليين وجعل أرواح شيعتنا مما جعلنا منه، ومن ثم تحن أرواحهم إلينا...». ... وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «خلقنا اللّه من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقنا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيباً، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا، وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، ولم يجعل اللّه لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيباً إلّا الأنبياء والمرسلين، فلذلك صرنا نحن وهم الناس وصار سائر الناس هجماً في النار وإلى النار».

نسبه إلى نفسه وإلى عظمته، فأرواحهم خلقت من نور عظمته، وأبدانهم خلقت من أعلى عليين، والعليون في الجنة، وأمّا أرواح المؤمنين فإنها خُلقت من أدنى عليين، لذا فهناك اشتراك بين المؤمنين وبين الرسول والأئمة(عليهم السلام)، فعِلّيُون نقطة اشتراكهم، أمّا أبدان المؤمنين فخلقت من دون ذلك.

وأمّا الكفار فخلقوا من سجّين، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَ}(1)، فسجين منطقة في جهنم، وهي صيغة مبالغة مأخوذة من السجن وقد ورد في الحديث الشريف: عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن اللّه خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم ممن دون ذلك، فقلوبهم تهوي إلينا؛ لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} وخلق عدونا من سجين، وخلق شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ}»(2).

ص: 351


1- سورة المطففين، الآية: 7-10.
2- بصائر الدرجات: 35.

إذن، فقلوب المؤمنين تحن إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) لأنها خُلقت مما خُلقوا منه، وأمّا أرواح الكفار والنواصب والمنافقين فهي تنفر منهم؛ لأنها خلقت من سجّين.

وهذا ليس معناه الجبر، وإنّما كان اللّه تعالى من الأزل يعلم أنّ فلاناً سوف يختار الإيمان ولذا خلقه من هذه الطينة، وذلك لأن المؤمن سيدخل الجنّة فيلزم بأن تكون طينته مناسبة للجنة، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وليس من الحكمة أن تدخل طينة سجّين في الجنة.

وهكذا الكافر أو الناصبي الذي يدخل في النار، كان اللّه من الأزل يعلم بأنه سيختار الكفر أو النفاق، ولذا خلق طينته من سجين لكي تناسب جهنم، فلأجل المناسبة خلق اللّه سبحانه وتعالى الكافر بهذه الكيفية.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق النبي وأهل بيته(عليهم السلام) قبل أن يخلق الناس جميعاً وفي الزيارة: «فجعلكم بعرشه محدقين»(1).

خلق النبي وأهل بيته (عليهم السلام) قبل خلق الناس

روي لنا عن حبيب بن مظاهر الأسدي أنه قال للحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام): «أي شيء كنتم قبل أن يخلق اللّه عزّ وجلّ آدم(عليه السلام)؟ قال: كنا أشباح نور ندور حول عرش الرحمان، فنعلّم الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد»(2).

ولذا عندما أبى إبليس السجود لآدم خاطبه اللّه سبحانه وتعالى قائلاً: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(3)، وذلك لأن الملائكة وإبليس كانوا يرون

ص: 352


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 307.
2- علل الشرائع 1: 23.
3- سورة ص، الآية: 75.

الأنوارحول العرش، فاللّه يقول لإبليس: لماذا لم تسجد لآدم؟ أمستكبر أم أنت من العالين؟ يعني من محمّد وآل محمّد(عليهم السلام)(1).

لقد كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً من يوم أن خلق اللّه سبحانه وتعالى نوره؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق روحه من نور عظمته، الذي هو فوق الجنة، وفوق عليين، وقد جاء في الحديث الشريف: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين»(2)، فلذا عندما نقول إن يوم السابع والعشرين من شهر رجب هو يوم بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فليس معنى ذلك أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اختير للنبوة في هذا الوقت، وإنّما معنى ذلك أن اللّه سبحانه وتعالى أمره بالتبليغ فأصبح رسولاً؛ لأن الأنبياء على أقسام: فعندنا نبي في نفسه غير مأمور بالتبليغ، ونبي مأمور بالتبليغ إلى جماعة خاصة كما قال تعالى عن يونس: {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(3)، وهناك نبي هو إمام أي: إن الأنبياء الذين كانوا في زمانه والذين يأتون بعده يلزمهم أن يتّبعوه، مثل إبراهيم(عليه السلام) فقد كان نبياً ورسولاً، لكنه أصبح إماماً حينما أتمّ الامتحان، عندما أمره اللّه بذبح إسماعيل، قال اللّه تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}(4).

ص: 353


1- انظر: بحار الأنوار 11: 142، وفيه: عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوساً مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أقبل إليه رجل فقال: يا رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبليس: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} فمن هم يا رسول اللّه الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، كنا في سرادق العرش نسبح اللّه وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق اللّه عزّ وجلّ آدم بألفي عام، فلمّا خلق اللّه عزّ وجلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود، فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلّا إبليس فإنه أبى أن يسجد، فقال اللّه تبارك وتعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} أي: من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش».
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 183؛ عوالي اللئالي 4: 121؛ بحار الأنوار 16: 402.
3- سورة الصافات، الآية: 147.
4- سورة البقرة، الآية: 124.

وهذه هي الطبقة العليا من الأنبياء، بأن يكون نبياً ورسولاً وإماماً، فرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان نبياً، لكن في السابع والعشرين من رجب أمره اللّه سبحانه وتعالى بالتبليغ فأصبح رسولاً إماماً، كعيسى(عليه السلام)، فقد ولد نبياً: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(1)، لكنه أصبح رسولاً بعد ذلك، قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ}(2).

إذن، فرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان نبياً، ثم أصبح رسولاً بعد البعثة، وكان في هذه الفترة - أي: من حين ولادته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بعثته - ملتزماً بشريعة، وقد قيل: إنه كان تابعاً لإبراهيم(عليه السلام) لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن النبي محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل من إبراهيم(عليه السلام).

نعم، كان النبي محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل البعثة على ملة إبراهيم(عليه السلام) وهو الإسلام الذي كان عليه جميع الأنبياء(عليهم السلام)، وقد أوحاه اللّه تعالى إليه أيضاً كما أوحاه إلى سائر الأنبياء وليس معنى هذا كونه على شريعته، فهو غير تابع لإبراهيم(عليه السلام)؛ لأنه لا يصح أن يكون الأفضل تابعاً للمفضول فليس رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تابعاً لإبراهيم(عليه السلام)، وقد يقال: إن نفس الشريعة التي أنزلها اللّه سبحانه وتعالى على إبراهيم أنزلها على محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالشريعة متطابقة لكن النبي محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن تبعاً لإبراهيم(عليه السلام)، فالوحي مستقل.

عبادة الأصنام

لقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً ويعمل بالشريعة التي أوحاها اللّه سبحانه

ص: 354


1- سورة مريم، الآية: 30.
2- سورة آل عمران، الآية: 49.

وتعالى له، وهي متطابقة مع شريعة إبراهيم(عليه السلام)، دون تبعية لإبراهيم، إلى أن بُعث في السابع والعشرين من شهر رجب، فأُمر بالتبليغ؛ ولكن بعض منتحلي الإسلام كما لا يقدّرون اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ}(1)، فيجسّمون اللّه سبحانه وتعالى، وينسبون له ما لا يليق به، فهم عبدة صنم، حيث صنعوا بأذهانهم إلهاً ليس هو اللّه وعبدوه، ولم يعبدوا اللّه الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وهذا نتيجة الابتعاد عن منهج أهل البيت(عليهم السلام). هذا بالنسبة إلى توحيدهم.

كذلك ينتقصون من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهم يقلّلون من شأنه، حيث ينسبون الشرك إليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل الإسلام، حيث يفسرون هذه الآية برأيهم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فََٔاوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}(2)، فيفسرون الضال بأنه الضلال في العقيدة، مع أن الضال في هذه الآية بمعنى أنه ضاع، وذلك بمناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما كان في البادية عند حليمة السعدية ضاع في يوم من الأيام(3). إذن، فليس المراد أنه ضل في العقيدة والطريق: فالقضية كلها

ص: 355


1- سورة الزمر، الآية: 67.
2- سورة الضحى، الآية: 6-7.
3- انظر: بحار الأنوار 16: 138، وفيه: «روي أن حليمة بنت أبي ذؤيب لما أرضعته مدة وقضت حق الرضاع، ثم أرادت رده إلى جده جاءت به حتى قربت من مكة فضلَّ في الطريق، فطلبته جزعة وكانت تقول: لئن لم أره لأرمين نفسي عن شاهق، وجعلت تصيح: وا محمّداه، قالت: فدخلت مكة على تلك الحال، فرأيت شيخاً متوكئاً على عصا، فسألني عن حالي فأخبرته فقال: لا تبكي فأنا أدلك على من يرده عليك، فأشار إلى هبل صنمهم الأعظم، ودخل البيت وطاف بهبل وقبل رأسه وقال: يا سيداه لم تزل منتك جسيمة، رد محمّداً على هذه السعدية، قال: فتساقطت الأصنام لما تفوه باسم محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسمع صوت: إن هلاكنا على يدي محمّد، فخرج وأسنانه تصطك، وخرجت إلى عبد المطلب وأخبرته بالحال، فخرج وطاف بالبيت، ودعا اللّه سبحانه فنودي واشعر بمكانه، فأقبل عبد المطلب فتلقاه ورقة بن نوفل في الطريق، فبيناهما يسيران إذا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائم تحت شجرة يجذب الأغصان، ويعبث بالورق، فقال عبد المطلب: فداك نفسي، وحمله ورده إلى مكة».

مرتبطة بالأمور المادية وليست مرتبطة بالعقيدة بل للآية أيضاً تأويل فراجع تفسير البرهان(1).

يقول بعضهم: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهدي إليه خمر، وإنه قبل الإسلام كان يجوز أن يبيع الخمر وليست هناك مشكلة!! والعياذ باللّه مع أن الخمر محرّمة في كل الشرائع، وفي الإسلام نزلت الأحكام بالتدريج، وليس في يوم واحد، لكن بالنسبة إلى بعض المحرّمات لم تكن محللة، بل كان هناك سكوت عنها، فلم تكن الخمر حلالاً قط، لكن تمّ التصريح بالحرمة حين نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(2).

لقد كانت هناك حكمة في التدرج في بيان الأحكام، فقد كان هناك سكوت عن بعض المحرمات بحيث أنه لو ارتكبها أحد المسلمين ما كان يعاقب عليها؛ لأنهم لم يبلّغوا بحرمتها، بل كان هناك سكوت عن الحكم، وبالتدريج بُيّنت الأحكام.

أو يقول بعضهم: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكل من ذبيحة الأصنام قبل البعثة!

صحيح أنه في بداية الشريعة كان هناك سكوت عن هذا الحكم، ولكن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان مكلّفاً، واللحم الذي لم يذكر اسم اللّه عليه فسق أكله، أي: خروج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى وهكذا. وهلّم جرّا.

ص: 356


1- البرهان في تفسير القرآن 10: 311.
2- سورة المائدة، الآية: 91.

إن هؤلاء لا يعرفون قدر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بعد النبوة، فكل نقيصة ينسبونها له؛ وذلك لأن بعض خلفائهم كانوا يرتكبون أموراً هي خلاف الشرع، فهؤلاء يريدون تنزيههم فوضعوا أحاديث تبيّن أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعل نفس الفعل، فإذا كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفعل ذلك فليفعله الخليفة! فقد كان يجلب له الخمر ليشربه(1).

لقد حارب بنو أمية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشرين عام في مكة وبعد الهجرة، ولما فتحت مكة اضطرّوا إلى أن يظهروا الإسلام، لكن العداء كان باقياً.

يروى أن الأصمعي كان ناصبياً يبغض أمير المؤمنين(عليه السلام)(2)، والحال أنه جاء بعد أمير المؤمنين بأكثر من (120) سنة أو أكثر، وسبب بغضه لأمير المؤمنين(عليه السلام): أن جدّه سرق فقطعت يده بأمر أمير المؤمنين(عليه السلام) (3). فإذا كان كذلك فكيف يحب معاوية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أن أخاه وخاله وجدّه قتلوا في غزوة بدر بيد أمير المؤمنين(عليه السلام) بأمر من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ وهكذا سائر بني أمية، فلذا كانوا يحاولون إزالة الإسلام بأي طريقة، وذلك من خلال التنقيص من شخص رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهناك الكثير من الأحاديث الموجودة في كتب القوم، حيث نسبوا لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبشع الأمور التي لا يرضاها أي إنسان، كل ذلك لتفريغ حقدهم، أو لتبرير أعمالهم، ولكن: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى

ص: 357


1- انظر: مسند أحمد بن حنبل 5: 347، وفيه: ... «حدثنا عبد اللّه بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم أتينا بالطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي، ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و[آله] وسلم».
2- انظر: قاموس الرجال 12: 6، وفيه: «الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب، وعن المناقب قطع عليّ(عليه السلام) أصمع بن مظهر جدّ الأصمعي في السرقة، فكان الأصمعي يبغض علياً(عليه السلام)».
3- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 221، «كان أصمع بن مظهر جد الأصمعي قطع علي(عليه السلام) يده في السرقة، فكان الأصمعي يبغضه».

اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1). فنور اللّه سبحانه وتعالى لا يُطفئ بحديث موضوع وأكاذيب(2).

استحالة إطفاء نور اللّه

وعلى كل حال، فالبعض يريد أن يطفئ نور اللّه بأحاديث موضوعة، لكنه لا يتمكن لأن اللّه متّم نوره، قال سبحانه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(3)، فتمام النعمة بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهذه إرادة حتميّة، فهذا النور سيتمّ، وقد أتمَّ اللّه سبحانه وتعالى النعمة في يوم الغدير، لكن الناس رفضوها بسبب شقائهم.

وهكذا باقي الأئمة(عليهم السلام)، فهم نِعم أرسلها اللّه سبحانه وتعالى للناس، لكن غالب الناس رفضوهم فحرموا أنفسهم عن هذه النعمة التامة، إلّا أن اللّه سبحانه

ص: 358


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- هناك حديث شريف ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) يردّ فيه على الذين يدّعون إمكان رؤية اللّه سبحانه وتعالى: عن عاصم بن حميد، قال: ذاكرت أبا عبد اللّه(عليه السلام) في ما يروون من الرؤية فقال: «الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب» [الكافي 1: 98]. وفيه أيضاً: ... عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره، قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». فهل يتمكن الإنسان أن يملأ عينه من الشمس التي هي نور مادي؟ كلا، بل هناك نجوم أخرى خلقها اللّه سبحانه وتعالى نورها أكثر من الشمس بآلاف المرات، وهؤلاء يزعمون أنهم يتمكنون من النظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، بينما لا يتمكنون من النظر إلى بعض مخلوقاته الصغيرة؛ لأن الشمس التي نتنعّم بها هي من النجوم الصغيرة.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

وتعالى حفظ الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وعند ظهوره سيتنعم عامة الناس بهذه النعمة العظمى لأن الولاية والإمامة هي تمام النعمة، فبسبب سوء تصرّف الناس سلب اللّه منهم قسماً من هذه النعمة، ولذا ورد في دعاء الندبة: «وأتمم نعمتك بتقديمك إياه أمامنا، حتى توردنا جنانك ومرافقة الشهداء من خلصائك»(1).

تكليفنا تجاه هذا النور

إذن، كلما حاولوا وفعلوا فلا يتمكنون من إطفاء نور اللّه سبحانه وتعالى، فقد شاء اللّه مشيئة حتم أن يتمّ هذا النور: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد عندنا تكليف، بل نحن مكلّفون أن نساهم في إيصال هذا النور للناس؛ لأنه توجد هناك حُجُب بين هذا النور وبين الناس، فليس في النور مشكلة ولا يوجد فيه نقص، وإنّما المشكلة في الحجب التي تكون أمامه، وتكليفنا أن نزيل هذه الحُجُب؛ لأنه ليس كل الناس معاندين ونواصب، بل كثير منهم جهلة، وسبب الجهل وجود هذا الحجاب والتربية السيئة، فقد يمكننا أن نزيل هذا الحجاب باللسان أو الكتابة.

وقد يعيش الإنسان في وسط النواصب، ولا يتمكن من الكلام، ولكن يمكنه أن يساهم بإزالة تلك الحجب، لأن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»(2). فإذا كان عملنا بطريقة ترضي اللّه سبحانه وتعالى فعندما يراها الناس سوف يتأثرون بها، فالأخلاق الحسنة والأسلوب الصحيح يؤثر في عموم الناس، فقد ورد في الحديث الشريف: «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد وصدق الحديث، وأداء الأمانة

ص: 359


1- إقبال الأعمال 1: 512.
2- الكافي 2: 78.

وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا طال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت، وسجد وأبيت»(1).

إن الإنسان قد يتمكن من هداية الناس من خلال أخلاقه وأعماله، فالناس عندما ينظرون إليه يتذكرون اللّه سبحانه وتعالى، فقد ورد في الحديث: «قالت الحواريون لعيسى: يا روح اللّه، مَن نجالس؟ قال: مَن يذكركم اللّهَ رؤيتُه، ويزيد في علمكم منطقُه، ويرغبكم في الآخرة عملُه»(2).

إننا نستلهم من هذا اليوم المبارك - يوم البعثة النبوية - لأن نكون سبباً لهداية الناس، لا لحاجة ذلك النور إلينا؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق ذلك النور قبل أن يخلق العالم، فهو أوّل خلق من الروحانيين، وجعل اللّه لهم الولاية، وجعل لهم الولاية التكوينية، وفي الآخرة هم الشفعاء، والحساب لهم والإياب إليهم بإذن اللّه سبحانه وتعالى، فهم لا يحتاجون إلينا، لكن نحن الذين نحتاج إليهم، فلنحاول إيصال هذا النور للناس، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخاطباً أمير المؤمنين(عليه السلام): «لئن يهدي اللّه بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس»(3).

ص: 360


1- الكافي 2: 77.
2- الكافي 1: 39.
3- بحار الأنوار 32: 448.

(45) الاهتداء بالرسول وآله (عليهم السلام)

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ}(1).

هناك قاعدة يدل عليها العقل السليم، وقد ذكرت في مباحث أصول الدين، وهي قاعدة (اللطف).

إن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق هذا العالم عبثاً وباطلاً، بل خلقه بالحق، ومن أجل هدف؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وقال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(3)، أي: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق المخلوقات ليرحمهم، والعبادة هي الطريق الذي يقود الإنسان للرحمة الإلهيّة، فإذا عبد الإنسان ربه فإنه يستحق هذه الرحمة.

ولكن مَن الذي يبيّن لنا كيفية العبادة؟ فهل العقل وحده هو الذي يقوم بهذه المهمة؟

الجواب: كلا، فالعقل يكتشف وجوب العبادة وحسن شكر المنعم، لكنه يعجز عن إدراك كيفية التعبّد؛ لذا أرسل اللّه سبحانه وتعالى الأنبياء(عليهم السلام)، وجعل لهم أوصياء لطفاً بالإنسان، ولولا إرسال الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) لما كان يتحقق

ص: 361


1- سورة الحجر، الآية: 87.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة هود، الآية: 119.

الهدف من خلق العالم، ولصار عبثاً.

فالعبث يعني عدم الغرض من الفعل، أمّا إذا كان هناك هدف ونتيجة للفعل فلا ينتهي هذا الفعل للعبث. مثلاً ربّما يحرك الإنسان أصابع كفه من دون سبب، فيُقال: إنه يعبث بأصابعه، لكن إذا أرشده الطبيب وقال له: حرك أصابع كفك بهذه الطريقة، فلا يُسمى ذلك عبثاً، بل ثمة هدف يكمن وراء هذه الحركة.

ثم إذا التزم الإنسان بأوامر الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) التي هي أوامر اللّه سبحانه وتعالى ونواهيه، فسوف يكون هو المستفيد من ذلك، أمّا إذا لم يأتمر ولم ينته بأوامرهم ونواهيهم فسيكون هو الخاسر، فتكون المشكلة فيه وليست في الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).

مثلاً: إذا رأى أحدنا شخصاً يوشك على السقوط في حفرة من حيث لا يشعر، وكان بالإمكان تنبيهه قبل أن يسقط، فإذا لم ينبهه فإن هذا السلوك يكون مذموماً عند العقلاء؛ لأن ذلك الشخص لم يكن يشعر بالخطر، فينبغي إرشاده لتحاشي السقوط في الحفرة، أمّا إذا قام الإنسان بما عليه والآخر لم يسمع كلامه وسار في الطريق الخاطئ وتعرض للسقوط، فإنه لا يكون ملوماً في هذه الحالة؛ لأنه أدّى ما عليه.

ثم هنا مطلبان:

المطلب الأوّل: التمسك بالرسول وآله (عليهم السلام)

العقل قبل الشرع يحكم بوجوب اتباع الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)؛ لأن الإنسان إذا لم يتبعهم فإنه سيجهل كيفية العبادة التي يريدها اللّه سبحانه وتعالى، وإذا تعمّد الإنسان عدم معرفة العبادة، فإن المشكلة ليست من اللّه تعالى أو الأنبياء

ص: 362

والأوصياء(عليهم السلام)، وإنّما هو المسؤول عن ذلك: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(1).

إن المجتمع البشري يحتاج إلى إرشاد دائم؛ لذلك كان آدم(عليه السلام) نبياً منذ اليوم الأوّل لخلقه وإنزاله كخليفة في الأرض، ولم يتوقف تعيين الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) منذ ذلك اليوم وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، فقد بيّن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى للناس وجوب التمسك بالقرآن وبالعترة الطاهرة، امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2)، بمعنى أن الناس يحتاجون إلى بيان القرآن وتوضيحه، وقد ورد فيه المتشابه والمحكم من الآيات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ}(3)، والسؤال أنه من بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مَن يقوم بدور بيان القرآن؟ والجواب: إنهم العترة الطاهرة بأمر من اللّه تعالى؛ لذا يقول النبي محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»(4)، والتمسك بأهل البيت(عليهم السلام) بمعنى أن تكون العقيدة مصحوبة بالعمل، وليس الاكتفاء بالكلام فقط، فعندما يقول الإنسان: إنني أمسكت الحبل، فهل معناه أنه علم بوجوده فقط؟! كلا، وإنّما عندما يقبض بيديه على الحبل يتمسك به، وحين نقول: إننا متمسكون بأهل البيت(عليهم السلام) فهذا لا يعني الاعتقاد بهم فقط، بل ولايتهم واتّباعهم، فإن التمسك بهم يعني الاعتقاد والعمل طبقاً لكلامهم.

ص: 363


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- كفاية الأثر: 136؛ وسائل الشيعة 27: 33؛ مستدرك الوسائل 7: 254.

إننا نلاحظ اليوم تشتت المسلمين، وتناحرهم واختلافهم في الأصول والفروع، فمنهم المجسمة الذين يزعمون أن اللّه سبحانه وتعالى جسم! ويزعمون أن اللّه سبحانه يجلس على العرش، ويترك إلى جانبه فسحة مساحتها أربعة أصابع للرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! وأنه يدخل رِجله في نار جهنم سبحانه، وأنه سبحانه شاب أمرد، وشعره قطط بمعنى مجعد ويرتدي نعلان من ذهب وفي ليلة الجمعة يركب حماراً ثم ينزل من السماء السابعة إلى السماء الدنيا وهكذا؛ سبحانه وتعالى عما يقولون علوّاً كبيراً... إن هؤلاء في الواقع يعبدون صنماً، ولا يعبدون اللّه؛ لأن إلههم الذي يعتقدون به ليس هو اللّه تعالى بل هو صنم في مخيّلتهم.

وإن السبب الذي يؤدّي بالإنسان المنتحل للإسلام إلى عبادة صنم صنعه في خياله هو ابتعاده عن القرآن وأهل البيت(عليهم السلام)، فحين يقرأ آية من الآيات المتشابهة في القرآن يحملها على ظاهرها، ويترك الآيات المحكمة، فمن الآيات المحكمة قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي}(1)، وقوله عزّ وجلّ: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(2). وهناك آيات متشابهة كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(3)، فهم يتصورون أنهم يرون اللّه تعالى لأنهم تركوا الآيات المحكمة وتمسكوا بالآيات المتشابهة، مع أن المقصود بهذه الآية: أنها تنظر إلى رحمة ربها، أو كما يطلب أحد بأن يُنظر إليه بعين رحيمة، بمعنى يرحمه، لا أن يراه بعينه.

ص: 364


1- سورة الأعراف، الآية: 143.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.
3- سورة القيامة، الآية: 22-23.

وعليه، فإن ترك أهل البيت(عليهم السلام) يؤدّي إلى الاعتقاد بصنم بدلاً من اللّه سبحانه وتعالى.

ثم انسحب الانحراف إلى مسائل كثيرة، حتى قالوا بالجبر بمعنى أن أفعال الإنسان ليست أفعاله الاختيارية هو مجبور عليها!

مع أن الاختيار من الأمور البديهية التي يفهمها كل عاقل، فنحن مختارون في تصرفاتنا، فعندما أحرك يدي فأنا الذي اخترت هذه الحركة، وهي تختلف عن حركة المبتلى بالرعاش؛ إذ تكون حركة يده خارجة عن اختياره، وهذا أمر واضح، لكن الابتعاد عن أهل البيت(عليهم السلام) يؤدّي إلى أن ينكر الإنسان كل شيء وحتى البديهيات.

ثم يستدلون بآيات من القرآن لم يفهموا معناها وحقيقتها كقوله تعالى: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ}(1)، زعموا أنها تدل على الجبر، مع أن الآية لا تدل على ذلك بل تدل على أن الهداية والضلال من اللّه، لكن بسبب الإنسان نفسه، إذ إن مشيئة اللّه تعالى ليست عبثاً، وإنّما تحققت بسبب قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(2)، أي: إن اللّه لا يشمل الفاسق بالألطاف الخفية، كما نقول عن شخص: إنه أفسد ابنه، أي: تركه دون رقابة وعناية حتى ارتبط بإحدى العصابات، وهذا لا يعني أن الأب أجبر ابنه على ذلك، وإنّما تركه ينحدر في هذا الوادي. إن اللّه عزّ وجلّ يلطف بالجميع، لكن إذا فسق الإنسان وظلم إلى أن فقد قابلية الهداية يتركه اللّه وشأنه.

بعد ذلك يأتي الاعتقاد برسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبسبب ابتعادهم عن أهل

ص: 365


1- سورة الأعراف، الآية: 155.
2- سورة المنافقون، الآية: 6.

البيت(عليهم السلام) فقد صدقوا كلام المنافقين وأعداء الرسول، ولذا تشاهدهم ينسبون له(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يقبل أحدهم أن يُنسب إليه، وينعكس ذلك على أعمالهم، والسبب هو الابتعاد عن الطريق الصحيح.

المطلب الثاني: هداية الناس إلى منهج الرسول وآله (عليهم السلام)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل من الواجبات وهي تارة تكون باللسان، وأخرى بالعمل، يقول الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد أصحابه: «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد وصدق الحديث، وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا طال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله، أطاع وعصيت وسجد وأبيت»(1). وهذا يعني أنه لا يشترط أن يكون دعاء الناس باللسان، وإنّما يكون بالعمل قبل اللسان.

وفي رواية أخرى يعظ الإمام الصادق(عليه السلام) بعض أصحابه وينصحهم بأن يكونوا مؤمنين، حيث يقول: «خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم اللّه جعفراً ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل اللّه بجعفر ما كان أسوء ما يؤدّب أصحابه»(2).

لاسيما في عالم اليوم، حيث أصبح فيه الفضاء مفتوحاً، وصار العالم قرية صغيرة، وبات كل شيء مكشوفاً، وبقطع النظر عن ذلك، فإن اللّه سبحانه وتعالى

ص: 366


1- الكافي 2: 77.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 383.

والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) يرون أعمالنا، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

فإذا كنّا نمثل بصدق أهل البيت(عليهم السلام) فإن تأثيرنا سيكون أكثر من الكلام.

قيل: إنه كان هناك معلّم في إحدى مدن المخالفين، وكان معه مدرّس آخر من المخالفين، فقال: لقد أصبحنا صديقين بحكم طبيعة عملنا، ومع مرور الزمن تأثر بأخلاقي، وفي أحد الأيام ذكر أن أقاربه توجد لديهم تصورات خاطئة عنكم - أي: الشيعة - فقلت له: لا بأس، وجّه لهم دعوة لكي نلتقي بهم، فدعاهم رجالاً ونساءً وكانوا لا يعلمون أننا شيعة، فاستقبلناهم استقبالاً مناسباً وحدثناهم وحدثونا، ولما انتهى اللقاء وذهبوا، قال لي زميلي المدرّس في اليوم الثاني: بعد انتهاء اللقاء معكم قلنا لهم: إن هؤلاء كانوا من الشيعة، فلم يصدقوا ذلك في البداية، لأن تصوراتهم عن الشيعة كانت تصورات سيئة جداً. حتى تأكدوا بأنفسهم بطلان مثل هذه التصورات، وبذلك حصل تغيير تام في أفكارهم؛ لأنهم كما قالوا: كنا نسمع شيئاً ورأينا شيئاً آخر.

لذا يجب على كل فرد منّا أن يكون ممثلاً صادقاً وحقيقياً لأهل البيت(عليهم السلام) في أي موقف يمر به، ولعل موقفاً واحداً يكون سبباً لهداية الكثيرين؛ لأن الإنسان لا يعرف ما هو الموقف المؤثر في الطرف الآخر؛ لذا يجب عليه أن يكون متنبّهاً لهذا الأمر، وأن يكون عمله صحيحاً باستمرار.

لذا يجب على الإنسان أن لا يستصغر أي عمل حتى لو كان صغيراً، وينبغي عليه أن يلاحظ رضا اللّه سبحانه وتعالى في أي موقف يقدم عليه، وعليه أن يلاحظ عمله، وهل سيترك تأثيراً سلبياً في الناس أم إيجابياً؟ فلو كانت نيّة الإنسان

ص: 367


1- سورة التوبة، الآية: 105.

صافية فإن اللّه سبحانه وتعالى سيجعل البركة حتى في أعماله الصغيرة، أمّا إذا لم تكن نيته مخلصة فسيحدث العكس، وقد يكون العمل الصغير منشأً لشرور كثيرة.

نعم، عليه الاهتمام بنظرة الناس لمواقفه وأفعاله، ولكن بعد رضا اللّه تعالى عن تلك الأعمال والمواقف، وعليه أن يصبح ممثلاً صادقاً وحقيقياً لأهل البيت(عليهم السلام)، ويخشى اللّه سبحانه وتعالى حتى في خلواته؛ لأن الإنسان لا يدري ماذا قدر له ربه؟

نقل أحد العلماء أن مجموعة من الناس في إحدى الدول، وكانوا من أهل الصوم والصلاة والحج في إحدى الليالي ذهبوا إلى البحر وجلسوا على الساحل للتنزّه، وبعد فترة قصيرة توقفت سيارة وخرج منها شخص حزين وكئيب، فسألوه: ما بك؟ قال: إنني اعمل في مجال الغناء، وقد ركد سوقي الآن وتضاعفت ديوني، وواصل كلامه هذا لكي يدر استعطافهم، فقال: لا أحد يستمع لغنائي الآن، ولا للموسيقى التي أعزفها بآلات اللّهو، فتأثر هؤلاء عليه - لكن يجب على الإنسان أن يتبع تعاليم اللّه سبحانه وتعالى ولا يتبع أهواء نفسه - فقالوا له: لا بأس عليك، غنّ لنا من أغانيك! فقال: أنا لا أغني من دون أدواتي. فسألوه: هل هي معك؟ قال: نعم، إنها في السيارة، قالوا له: إذن احضرها، فجاء بها(1) ثم بدأ بالغناء لهم وهم يصفقون له (هؤلاء كانوا على شاطئ البحر في ليلة ظلماء، ولا أحد موجود معهم إلّا اللّه سبحانه وتعالى، ففي مثل هذا الموقف يجب أن يخشى الإنسان

ص: 368


1- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لما مات آدم(عليه السلام) وشمت به إبليس وقابيل فاجتمعا في الأرض، فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم(عليه السلام)، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنّما هو من ذاك» الكافي 6: 431.

ربه، ويستغفره سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يضمن التوفيق إلى التوبة) ثم بعد أيام تمّ عرض هذا الموقف على بعض الفضائيات؛ إذ تبيّن أن هناك كاميرا خفية في السيارة وتم تصويرهم، وقد افتضحوا على الملأ، لكن الأصعب والأهم هي الفضيحة أمام اللّه سبحانه وتعالى ورسوله وأهل البيت(عليهم السلام).

إذن، يجب على الإنسان أن يكون في حركاته وسكناته ممثلاً حقيقياً لأهل البيت(عليهم السلام)، وهذا هو التمسك الصحيح بهم، أمّا أن يقتصر ذلك على الشعارات والكلام المجرد، كأن يقول الإنسان: أنا من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بالقلب فقط دون العمل، فهذا غير صحيح.

ص: 369

(46) أثر البشارة والتمهيد في تثبيت القناعة والإيمان

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(1).

سبب البشارات

اشارة

لقد أخبر اللّه سبحانه وتعالى الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، فما السبب في هذا الإخبار؟

وهكذا فقد كان كل نبي يبشر بالنبي اللاحق، فقد بشر عيسى(عليه السلام) برسولنا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٖ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(2)، فلماذا هذه البشارة والوعد؟

كما أنه بشر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، كما ورد في متواتر الروايات التي روتها العامة والشيعة،كما توجد إشارات للإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) في الآيات القرآنية، فلماذا كل ذلك؟

إننا نعلم أن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، ومعنى الحكمة أن توضع الأشياء في

ص: 370


1- سورة النور، الآية: 55.
2- سورة الصف، الآية: 6.

موضعها، فلا يأتي تصرف منه سبحانه وتعالى في هذا الكون إلّا بحكمة، سواء في الأمور الكلية أو الجزئية، فلماذا هذا الإخبار؟

ثمة أسباب متعددة تقف وراء ذلك، ومنها:

السبب الأوّل: التمهيد

إن التمهيد المسبق للأمر لكي يكون قبوله أسهل عند الجميع، فإذا عرف الإنسان مسبقاً أن شيئاً سيحدث في المستقبل، ثم حدث ذلك فإنه سوف يتلقاه بالقبول؛ لأن حالته النفسية تكون مهيّأة؛ لذا إذا أراد أحدهم أن يقوم بشيء يُعد من القضايا الاجتماعية الهامة فإنه سيمهد له لكي تتقبله النفوس، وهكذا الأمر في القضايا السياسية والاقتصادية وغيرها، فالدول إذا أرادت أن تكون قراراتها سليمة ولا تثير مشاكل فعادة ما تمهد لها، وحتى ما يتعلق بالأخبار السيئة، فإذا أراد إنسان أن يخبر بموت إنسان عزيز فعادة ما يمهّد لذلك، لكي تكون الحالة النفسية مهيّأة لمن يتلقى الخبر، فلا يُصاب بصدمة؛ ولأن اللّه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون والعالم للاختبار والامتحان، فقد مهّد الأمور للموجودات المختارة التي لها عقل، وهما: الإنسان والجان، أمّا بالنسبة للملائكة فقد مهّد لهم الأمور لكي يكون قبولهم للخليفة في الأرض عن قناعة، مع أن اللّه سبحانه وتعالى كان يمكن أن يجبرهم على ذلك، فهذا الأمر هو قرار إلهي، لكن اللّه عزّ وجلّ مهّد لهم ذلك وأخبرهم به، وقد استفسروا عن ذلك: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}(1)، فلم يكن هذا الموقف بمثابة اعتراض من الملائكة، وإنّما هو سؤال لمعرفة علّة وسبب خلق الإنسان، بعد أنعلموا أن اللّه تعالى قد أذن لهم في السؤال.

ص: 371


1- سورة البقرة، الآية: 30.

إن الإنسان ربما لم يسمع أحياناً ببعض الأحكام الشرعية، ولأنه لم يفهمها لذا يكون إيمانه بها ضعيفاً، فيعترض عليها، أمّا مَن يتحلى بإيمان أقوى فإنه حتى لو سأل عن حكم شرعي معين، فإن تدينه يبقى قوياً وراسخاً؛ لذا فكثير من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) المخلصين، وأصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنتجبين كانوا يسألون عن علل الأحكام، لكي يعرفوها ويفهموها، وليس من باب الاعتراض بل لأجل الفهم، فإذا اقتنع الإنسان بشيء فإن تطبيقه سوف يكون أسهل.

لذا فإن التبشير بالرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو نوع من التمهيد؛ ولذا ورد ذكر الرسول الأكرم في التوراة وفي الإنجيل، مضافاً إلى أن معرفته بشخصه من أصول الدين في جميع الشرائع.

وهكذا نلاحظ أن التمهيد بظهور النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُعد أهم سبب في إسلام أهل المدينة، مع أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو ابن مكة وسعى لنشر الإسلام فيها طيلة ثلاث عشرة سنة، ولكن لم يؤمن به إلّا القليل، فقد أسلم منهم مأتان فقط في أكثر تقدير، في حين أن أهل المدينة قبلوا الإسلام برحابة صدر، فهل كان السبب قومياً؟ أي: لأن جدة الرسول كانت من أهل المدينة، أو لأن هاشماً(عليه السلام) تزوج امرأة من أهل المدينة، أو لأن عبد المطلب(عليه السلام) نما وترعرع في المدينة، وهل كان دخولهم في الإسلام لارتباط أسري؟

كلا، بل كان أهل مكة أكثر من أهل المدينة قرابة وصلة بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهؤلاء أعمامه وأبناء عمومته، نعم ربما كان لهذا العنصر دور إيجابي، لكنه ليس بتلك المثابة من الأهمية.

إن اليهود كانوا يعيشون في المدينة المنورة، وكانوا يقرؤون بعض آيات التوراة التي ورد فيها ذكر الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكانوا يخبرون المشركين بذلك؛ لأنهمكانوا يزعمون ويظنون أن الرسول الذي سيظهر سيكون منهم؛ لذا حينما كانوا

ص: 372

يتعرضون للظلم أو الضغط من قبل المشركين كانوا يقولون لمن يظلمهم: سيخرج نبي منّا وينقذنا من ظلمكم...!

إذن، كان لأهل المدينة علم بظهور نبي اسمه موجود في التوراة، وقد سمعوا باسمه ممن يتلون آياتها، قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أي: حينما كان اليهود يُضطهَدون يطلبون الفتح، فيقولون لمضطهديهم: انتظروا أياماً حيث سيظهر رسول ينقذنا منكم: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}(1).

إن أهل المدينة لما سمعوا بظهور الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة اجتمعوا معه عند العقبة في منى في القضية المعروفة، وأسلم العشرات منهم، ثم عادوا إلى المدينة ودعوا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها، ولولا هذا التمهيد لم يكن إيمانهم بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معلوماً.

إن اللّه تعالى هو الذي يقف وراء الأسباب، ولو أن أهل المدينة لم يؤمنوا لانحصرت الرسالة في مكة فقط، وانتهت كما حدث لكثير من الأنبياء الذين قتلوا وهجروا وشردوا، ممن أرسلوا قبل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكن الإرادة الإلهيّة فوق كل إرادة.

صحيح أن اللّه عزّ وجلّ يمكن أن يقول للشيء كن فيكون، لكنه تعالى قدّر امتحان الخلق في هذا العالم، ومن مصاديق ذلك أن اللّه عزّ وجلّ يهيّئ الأسباب الظاهرية، ولعل هذا هو السبب الأوّل لتبشير الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) فهو لتهيئة النفوس مسبقاً، حتى إذا ظهر فسوف يتقبله الناس بيسر وسهولة، مضافاً إلى كونه(عليه السلام) من أصول الدين ويجب الإيمان به بشخصه.

السبب الثاني: الامتحان

إن التبشير والإخبار امتحان للخلق؛ لأن الناس عندما يُخبَرون بهذا الأمر، فإن

ص: 373


1- سورة البقرة، الآية: 89 .

هناك أناساً انتهازيين يدخلون على الخط في كثير من الأحيان، فيحاولون استغلال الناس للوصول إلى مصالحهم، فيدّعون بعض الادعاءات الكاذبة، ويشير تاريخنا إلى أناس ادعوا النبوة زوراً وبهتاناً وكذباً(1)، لكن قرائن الكذب ثابتة عليهم، ومن يدّعي صدقاً فيجب أن تكون قرائن الصدق موجودة عنده ومن أهمها المعاجز، فالإنسان حين يستثمر عقله بصورة سليمة يمكنه أن يميز بين الصادق والكاذب، وهذا نوع من الامتحان أيضاً، لكن هناك الكثير من الناس لا يستخدمون عقولهم جيداً فيفشلون في الامتحان.

فمنذ عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحتى يومنا هذا ظهر عشرات الأشخاص الذين ادعوا بأنهم (المهدي)، والمهدي المنتظر سلام اللّه عليه لا يظهر إلّا بعد أن يدّعي منصبه أشخاص كثيرون كذباً وزوراً وبهتاناً، وبطبيعة الحال أن الإسلام وضع الضمانات المطلوبة لكي لا يُخدَع الناس بالأدعياء، لكن كثيراً منهم لا يستثمرون عقولهم بطريقة أفضل، فيفشلون في الامتحان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2).

بين اليهود والمؤمنين

إن اللّه عزّ وجلّ قسّم اليهود إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الذين يسمعون كلام اللّه ويحرفونه، قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}(3).

القسم الثاني: الذين يكتبون الكتاب بأيديهم وينسبونه إلى اللّه، قال تعالى:

ص: 374


1- كمسيلة الكذاب، والأسود العنسي وسجاح وغيرهم.
2- سورة العنكبوت، الآية: 2.
3- سورة البقرة، الآية: 75.

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ}(1).

القسم الثالث: الجاهلون الذين لا يعلمون الكتاب، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَٰبَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(2).

وقد ورد تفسير هذه الآية في تفسير الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)، قال الإمام(عليه السلام): «ثم قال اللّه عزّ وجلّ: يا محمّد، ومن هؤلاء اليهود {أُمِّيُّونَ} لا يقرؤون الكتاب ولا يكتبون، كالأمي منسوب إلى أمه، أي: هو كما خرج من بطن أمه لا يقرأ ولا يكتب {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَٰبَ} المنزل من السماء ولا المكذب به، ولا يميزون بينهما {إِلَّا أَمَانِيَّ} أي: إلّا أن يقرأ عليهم ويقال لهم: إن هذا كتاب اللّه وكلامه، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما فيه {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، أي: ما يقول لهم رؤساؤهم من تكذيب محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نبوته، وإمامة علي(عليه السلام) سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم.

قال: فقال رجل للصادق(عليه السلام): فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلدون علماءهم؟ فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال(عليه السلام): بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، أمّا من حيث أنهم استووا، فإن اللّه قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما قد ذم عوامهم. وأمّا من حيث أنهم افترقوا فلا. قال: بين لي ذلك يابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 375


1- سورة البقرة، الآية: 79.
2- سورة البقرة، الآية: 78.

قال(عليه السلام): إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام وبالرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات. وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم. وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على اللّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه، فلذلك ذمهم اللّه لما قلدوا من قد عرفوا، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه إن كان لإصلاح أمره مستحقاً، وبالترفق بالبر والإحسان على من تعصبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً.

فمن قلد من عوامنا من مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلّا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنّما كثر التخليط في ما يتحمل عنّا أهل البيت لذلك؛ لأن الفسقة يتحملون عنّا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير مواضعها ووجوهها لقلة معرفتهم، وآخرينيتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.

ص: 376

ومنهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المسلمون المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوهم، وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي(عليهما السلام) وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وللمسلوبين عند اللّه أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.

وهؤلاء علماء السوء الناصبون المشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون يدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب.

لا جرم أن من علم اللّه من قلبه - من هؤلاء العوام - أنه لا يريد إلّا صيانة دينه وتعظيم وليه، لم يتركه في يد هذا الملبس الكافر، ولكنه يقيض له مؤمناً يقف به على الصواب، ثم يوفقه اللّه تعالى للقبول منه فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضله لعن الدنيا وعذاب الآخرة.

ثم قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): شرار علماء أمتنا المضلون عنّا، القاطعون للطرق إلينا، المسمون أضدادنا بأسمائنا، الملقبون أضدادنا بألقابنا، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون، ويلعنوننا ونحن بكرامات اللّه مغمورون، وبصلوات اللّه وصلوات ملائكته المقربين علينا - عن صلواتهم علينا - مستغنون»(1).

أوصاف الرسول في الكتب السماوية

إن أوصاف النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت موجودة في التوراة والإنجيل، قال تعالى:

ص: 377


1- تفسير الإمام العسكري(عليه السلام): 299-300. وقد نقلنا الحديث بطوله لما فيه من فوائد عظيمة، تظهر لمن أراد التمعن فيه.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1).

في رواية نقل حوار بين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين يهودي: «... قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فأنشدتك باللّه إن أنا أخبرتك تقر لي؟ قال اليهودي: نعم يا محمّد، قال: فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أوّل ما في التوراة مكتوب محمّد رسول اللّه، وهي بالعبرانية: طاب، ثم تلا رسول اللّه هذه الآية {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ}، و{وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٖ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(2)، وفي السطر الثاني اسم وصيي علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والثالث والرابع سبطي الحسن والحسين، وفي السطر الخامس أمهما فاطمة سيدة نساء العالمين، وفي التوراة اسم وصيي أليا، واسم سبطي شبر وشبير، وهما نورا فاطمة. فقال اليهودي: صدقت يا محمّد...»(3).

وقال الطبرسي في تفسير الآية: «{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ} معناه: يجدون نعته وصفته ونبوته، مكتوباً في الكتابين؛ لأنه مكتوب في التوراة، في السفر الخامس: إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به، وفيها أيضاً مكتوب: وأمّا ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً، وسيلد اثني عشر عظيماً وأؤخره لأمة عظيمة، وفيها أيضاً:أتانا اللّه من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران...»(4).

ص: 378


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة الصف، الآية: 6.
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: 258.
4- مجمع البيان في تفسير القرآن 4: 373.

والحاصل: إن النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذكر في التوراة والإنجيل إلّا أن اليهود حرفوهما وكتبوا بدلاً من ذلك أوصافاً أخرى، وقالوا: إن هذه الأوصاف لا تنطبق على نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

لقد امتحن اللّه عزّ وجلّ علماء اليهود بالتبشير الذي ورد في التوراة والإنجيل، ففشل أكثرهم في الامتحان وحرفوا الكتاب، وفشل عوامهم في الامتحان أيضاً، ولم ينجُ منهم إلّا القليل.

إنه توجد أحياناً مسائل في الرسالة العملية وبأسلوب واضح، لكن قد لا نجد من يهتم بها، فربما تجد شخصاً متديناً يقول: إنني أمضيت عشرين سنة أتوضأ بكيفية عرفت الآن أنها باطلة، وهناك من يتعامل مع الناس بالربا وهو يجهل ذلك، كأن يقوم بتبديل الحنطة الجيدة بالحنطة الرديئة مع اختلاف الوزن، كذلك بالنسبة للصائغ الذي يبدل الذهب المصاغ بوزن أقل بالذهب غير المصاغ بوزن أكثر، لأن قيمة الذهب المصاغ أكثر، فحينما تذهب امرأة إلى الصائغ كي تغيّر مصوغاتها القديمة بأخرى جديدة، فالمتعارف أن الصائغ يشتري الذهب القديم كمادة خام، ويبيع الذهب الجديد كذهب مصاغ، ويضيف على سعره أجرة العمل أيضاً. إذن، فالقيمة واحدة إلّا الوزن مختلف؛ لذلك يُعد هذا نوعاً من الربا وهومن أشد المحرمات، فتقع المرأة المؤمنة المتدينة لسنوات بهذا الخطأ، من حيث لا تعلم. مع أن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا

ص: 379


1- إن أصول الدين لا يوجد فيها تقليد؛ إذ على كل شخص أن يحقق عن الدليل والبرهان حول وجود اللّه تعالى، فالتقليد لا يكفي في هذا المجال، ويجب على كل مسلم أن يصل إلى هدفه بنفسه. نعم، يمكن الوصول إلى الأثر من خلال المؤثر، فهذا برهان بسيط يقتنع به حتى الصغار وهو صحيح، كذلك لا تقليد في ذلك بالنسبة لمعرفة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1).

وقد يتنبّه الإنسان بعد ذلك ويعرف أنه وقع في الربا، فهل هو معذور في ذلك؟

والجواب: كلا؛ لأن الجهل من تقصيره، وهذه المسألة موجودة في أي رسالة عملية، وما على الإنسان سوى أن يفتح الرسالة فيطالعها، وقد بسّطت الرسالة العملية المسائل كثيراً، وهي لا تأخذ وقتاً كثيراً من الإنسان إذا راجعها، لكن حين يتنبّه الإنسان إلى الخطأ متأخراً فإن عذره غير مقبول، وعليه أن يستغفر اللّه سبحانه إذ رحمهُ اللّه تعالى ونبّهه إلى المعصية التي كان يرتكبها عن جهل وتقصير.

البشارة بالإمام المهدي (عليه السلام)

إذن، فالتبشير بظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) هو امتحان لنا جميعاً، سواء كنّا علماء أم من عوام الناس، كباراً أم صغاراً، ولا يصح لأحد أن يقول: إننا بعيدون عن الضلال! وذلك لأنه قد وقع الكثير من الناس في بلداننا في هذا المأزق وسقطوا في الامتحان، قال اللّه تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2).

هذا مضافاً إلى أن اللّه سبحانه وتعالى لا يقبل عمل العباد إلّا إذا اعتقدوابالنبي وبالأئمة(عليهم السلام) وبإمام زمانهم، فلو أن شخصاً كان في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقام بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات، لكنه يقول: إنني لا اعتقد برسول

ص: 380


1- سورة البقرة، الآية: 278-279.
2- سورة العنكبوت، الآية: 2.

اللّه فلا يقبل منه ذلك، كذلك الحال مع الشخص الذي يقول: إنه يقوم بجميع الواجبات ويترك جميع المحرمات لكنه لا يؤمن بوجود الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، أو يعتقد بعدم وجوده، فلا يقبل منه ذلك أيضاً.

ثم إنه علينا انتظار الفرج، وعلينا بالورع والعمل الصالح، فالانتظار نفسه يقودنا إلى الفرج، فإذا أظهر اللّه تعالى الإمام(عليه السلام) فهذا هو الفرج الكامل، وإن لم يظهره إلّا بعد وفاتنا فإن الانتظار فرج لنا؛ لأنه مقدمة لدخول الجنة، بل هو فرج كبير؛ لأن حل المشاكل النفسية فرج للإنسان، ومن ينتظر ستحل مشاكله النفسية.

ورد في رواية عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «سألته عن شيء في الفرج، فقال: أو ليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج، إن اللّه يقول: {انتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(1)»(2).

في التوقيع الشريف: «وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم»(3)، فالدعاء نفسه فرج؛ لأن الإنسان الذي يدعو يكون في حالة انتظار لحدوث أمر هو بحد ذاته يمثل الفرج.

ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام)، في حديث في الإمامة يشتمل على النص على الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) إلى أن قال: «دينهم الورع، والصدق،والصلاح، والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود، وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن الصحبة، وحسن الجوار»(4).

ص: 381


1- سورة الأعراف، الآية: 71؛ سورة يونس، الآية: 20 و102.
2- تفسير العياشي 2: 138؛ بحار الأنوار 52: 128.
3- الاحتجاج 2: 284؛ كمال الدين وتمام النعمة: 485؛ بحار الأنوار 52: 92.
4- وسائل الشيعة 19: 75.

ومعنى «انتظار الفرج بالصبر» أن يواصل الصبر، ولا يقترف المعاصي، ويحرص على أداء الواجبات، ولا ينهار في المصائب، فيوصف بأنه من المنتظرين لفرج الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف).

ص: 382

(47) ضرورة التمسك بالقرآن والعترة

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصى أمته قبل رحيله، والإنسان قبل موته يوصي بأهم الأمور، فكانت وصيته(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بالقرآن وأهل البيت(عليهم السلام).

إن حديث الثقلين متواتر عند الفريقين، رواه العلماء في كتبهم بأسانيد كثيرة، نعم حاول البعض تحريف الحديث وتغيير (عترتي) إلى (سنتي) ووضعوا لهذا التحريف حديثاً لكنه تحريف واضح لا يصمد أمام الواقع المتواتر.

ثم إن هناك أموراً كثيرة يمكن استفادتها من حديث الثقلين، ومنها:

الأمر الأوّل: وجود الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)

لقد ورد في هذا الحديث الشريف عبارة: «وإنّهما لن يفترقا»، و(لن) في اللغة العربية تفيد نفي التأبيد، فمرّة نستعمل كلمة (ما) ونقول: ما يجيء زيد، ومرّة نستعمل كلمة (لا) ونقول: لا يجيء زيد، وهذا نفي لكنه لا يدل على النفي أبداً،

ص: 383


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 208؛ وسائل الشيعة 27: 33؛ بحار الأنوار 2: 101؛ مسند أحمد 3: 14؛ كتاب مسلم 7: 123؛ فضائل الصحابة: 15؛ المستدرك على الصحيحين 3: 109-148؛ السنن الكبرى 2: 148؛ مجمع الزوائد 9: 163؛ السنة: 630؛ وغيرها كثير.

فإذا لم يأت اليوم فربما يأتي غداً، وأمّا كلمة (لن) فهي تفيد نفي التأبيد، بمعنى أن هذا الشيء لن يحصل أبداً، وفي هذا الحديث الشريف: «وإنّهما لن يفترقا» أي: إنه لم يكن هناك افتراق بين القرآن وبين أهل البيت(عليهم السلام) أبداً، وهذا يدل على أنه مادام القرآن موجوداً فأهل البيت موجودون، وهذا من أدلة وجود الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)؛ لأن القرآن موجود فإذا كان الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) غير موجود فقد حصل افتراق بين القرآن وأهل البيت(عليهم السلام).

الأمر الثاني: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)

إن هذا الحديث الشريف يدل على أن أهل البيت(عليهم السلام) معصومون؛ لأن القرآن، لا مجال للخطأ فيه؛ قال اللّه سبحانه وتعالى: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(1)، والخطأ من الباطل، وإذا ثبت ذلك فأهل البيت(عليهم السلام) كذلك؛ لأن النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قرن بين القرآن وبينهم، ولو قيل: إنهم ليسوا بمعصومين وقد أخطأوا فسوف يحدث افتراق بين القرآن والعترة في مورد ذلك الخطأ، وهذا خلاف ما قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ لذا فالحديث يدل على عصمتهم(عليهم السلام).

الأمر الثالث: جميع علوم القرآن عند أهل البيت (عليهم السلام)

إن حديث الثقلين الشريف يدل على أن جميع علوم القرآن موجودة عند أهل البيت(عليهم السلام)، وفي القرآن علم كل شيء؛ لأن القرآن له ظاهر وباطن، والظاهر يعرفه كل إنسان له اطلاع باللغة العربية الفصحى؛ لذا كان العرب في مكة والكفار والمشركون يفهمون معنى القرآن وظاهره، وهو حجة عليهم، وكذلك

ص: 384


1- سورة فصلت، الآية: 42.

للقرآن باطن يوجد فيه كل شيء، ولكن علم الباطن مخصوص بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة(عليهم السلام)، ولا نعرف منه إلّا المقدار الذي بينوه لنا، ففي القرآن كل شيء كما قال اللّه تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}(1)، فإذا كان يوجد شيء في القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) لا يعلمونه فقد افترقوا عن القرآن في ذلك الشيء، وهذا ما ينفيه الحديث، إذن علوم القرآن موجودة عند الأئمة(عليهم السلام).

وحيث إن أهل البيت(عليهم السلام) والقرآن لا يفترقان، فلذا أصبحوا القرآن الناطق، وهذا يعني أن القرآن الكريم صامت يحتاج إلى من يفسره ويبينه، وهو الإمام(عليه السلام)، وقد بين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة كما قال اللّه تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2) وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(3).

وجوب التمسك بالقرآن والعترة معاً

إن هذا الحديث يدلّ على وجوب التمسك بالاثنين معاً، لأن حقيقة القرآن وحقيقة أهل البيت واحدة؛ فلا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر.

إن التمسك بالقرآن وأهل البيت(عليهم السلام) ليس شعاراً، وإنّما قول وعمل، لأن التمسك هو الأخذ بقوة، ولذا قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حول القرآن في نفس حديث الثقلين: «حبل ممدود بين السماء والأرض»، فمن يتمسك بالقرآن - الذي هو كلام اللّه - يرفعه إلى الجنة، وأمّا إذا لم يتمسك به فسوف يهوي في نار جهنم، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ

ص: 385


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة فاطر، الآية: 32.

عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(1).

إن الذي يزعم أنه متمسك بالقرآن دون أن يعمل به ودون أن يرتبط بأهل البيت(عليهم السلام) فهذا ليس متمسكاً بالقرآن، وقد ورد في الحديث الشريف: «ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»(2)،

كالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)، لذا عبّر عنهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(3)،فكان مصيرهم القتل في يوم النهروان وهو عذاب الدنيا؛ وعذاب الآخرة أشدّ.

وكذلك الذي يزعم أنه متمسك بأهل البيت(عليهم السلام)، لكنه لا يقتدي بهم ولا يعمل بأقوالهم فهو ليس بمتمسك بهم وإنّما يقول كلاماً لا واقع له.

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إياك والسفلة، فإنّما شيعة علي من عفَّ بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»(4).

والسفلة: جمع سافل، وإياك: كلمة تحذير، أي: احذر هؤلاء، وكلمة الشيعة جمع بمعنى المشايع المتابع، فالشيعي يعف بطنه وفرجه عن الحرام، ويجاهد نفسه الأمّارة بالسوء، ويعمل للّه سبحانه وتعالى وليس للناس ولا للرياء، ويرجو ثواب اللّه سبحانه وتعالى ويخاف عقابه، وهؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات قليلون، وهم شيعة علي(عليه السلام) وشيعة الأئمة(عليهم السلام).

ص: 386


1- سورة التوبة، الآية: 109.
2- مستدرك وسائل الشيعة 4: 249.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 124.
4- الكافي 2: 233.

إن يزيد بن معاوية كان شاباً مترفاً بطراً فاسقاً متجاهراً بالفسق، لكنه كان حافظاً للقرآن ويستشهد به في كلامه، لكن هل نفعه حفظه للقرآن؟! كلا بل القرآن يلعنه لتركه العمل به ولمخالفته لأحكامه فهو من مصاديق: «ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه».

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يكون متمسكاً بالقرآن، وبقراءته وحفظه وإعزازه واحترامه ومحبته، والعمل به، ويجب عليه أيضاً أن يحب أهل البيت(عليهم السلام) ويظهر المحبة لهم، عملاً بقوله تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(1)، وكذلك العمل بما قالوا، حتى يكون من الشيعة المخلصين.

ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنه قال: «... صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر»(2).

وعن هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إياكم أن تعملوا عملاً يعيرونا به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله، وكونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم...»(3).

ص: 387


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- الكافي 2: 636.
3- الكافي 2: 219.

(48) النظام الحياتي الشامل في أقوال أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

ورد الزيارة الجامعة الكبيرة لأئمة أهل البيت(عليهم السلام): «الراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق»(1).

هذه الزيارة الجامعة من أجلّ الزيارات وأصحّها سنداً ومتناً، يقول العلامة الشيخ محمّد تقي المجلسي - والد العلامة المجلسي صاحب البحار - : «أكثر الأوقات أزور الأئمة(عليهم السلام) بهذه الزيارة، وفي العتبات العاليات مازرتهم إلّا بهذه الزيارة»(2) رغم وجود العشرات، بل المئات من الزيارات المختلفة للأئمة(عليهم السلام).

معنى الغلو

هناك بعض الشبهات حول هذه الزيارة، كما تثار الشبهات على كل عقيدة حتى على وجود اللّه وعلى توحيده وعلى النبوة والإمامة وسائر أصول الدين وفروعه، وتلك الشبهات لا تصمد أمام الحقائق، لكن لا بدّ من ردّ تلك الشبهات التي قد تنطلي على بعض الناس.

ومن الشبهات التي ترد حول هذه الزيارة أن ثمة غلوّاً فيها؛ لأنها تنسبمقامات للأئمة(عليهم السلام) فوق مستواهم، أو هي مقامات خاصة باللّه سبحانه وتعالى.

لكن هذا الكلام غير صحيح وغير سليم أيضاً؛ لأن معنى الغلو هو رفع منزلة

ص: 388


1- من لا يحضره الفقيه 2: 612.
2- روضة المتقين 5: 452.

الشخص فوق قدره، كأن نرفع المخلوق إلى مرتبة الخالق، أو نقول عن شخص جاهل بأنه أعلم العلماء، أو إذا لم يكن نبيّاً وقلنا إنه نبي، فهذا هو الغلو؛ لأنه رفع الشخص فوق مستواه ومقاماته؛ لكننا إذا نسبنا للشخص ما هو من مقاماته العالية فهذا ليس بغلو، بمعنى إذا كان الشخص طبيباً وقلنا عنه إنه طبيب فقد نسبنا له مقامه، وإذا جاء أحدهم وقال: إن عيسى(عليه السلام) يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللّه، فهذا ليس بغلو؛ لأننا نسبنا إلى عيسى(عليه السلام) مقامه، وإذا قلنا: إنه يخبر الناس بما يدخرون في بيوتهم، فهذا ليس بغلو أيضاً؛ لأنه هذا وإن كان من علم الغيب إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى علّمه عيسى(عليه السلام)، وإذا قلنا: إنّ عيسى(عليه السلام) حيّ ولم يمت إلى الآن على الرغم من مرور أكثر من ألفي عام على ولادته، فهذا ليس بغلو أيضاً، وإذا قلنا: إن اللّه تعالى رفعه إلى السماء فليس هذا بغلو، وإذا قلنا: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم فليس هذا بغلو، وإذا قلنا: إن رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ}(1) فهذا ليس بغلو؛ بل إذا لم ننسب إليه ذلك الشيء فهو بخس لحقه، وإنقاص وتقليل من قدره، فلو جاء أحدهم وقال: إن رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس بنبي فهذا تقليل من شأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإذا قال: إن الأنبياء(عليهم السلام) ليسوا بمعصومين فهذا تقليل من حقهم؛ وكذلك إذا نسبنا لأهل البيت(عليهم السلام) شيئاً - وحسب الأدلة الصحيحة - فهذا ليس بغلو، بل إن زعم الغلو هو تجاوز على حقهم.

بعد هذه المقدمة نأتي إلى الفقرات الثلاث التي وردت في الزيارة الجامعة، فنقول: إن موقف الناس تجاه أهل البيت(عليهم السلام) ينحصر في ثلاثة هي:

ص: 389


1- سورة النجم، الآية: 8-9.

الموقف الأوّل: الراغب عنهم

إن الفعل (رغب) يتعدى ب(عن) وب(في)، فمعنى رغبتُ فيه أي: أردته وأحببت ذلك الشيء، ورغبت عنه أي: لم أرده ولم أحبّه(1).

وتعني كلمة (المروق) الخروج عن الدين، فعندما يوضع السهم في القوس إذا فلت السهم عن حبل القوس بسرعة فذلك مروق(2).

وقد سمّى رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخوارج بالمارقين؛ لأنهم خرجوا عن الدين بسرعة وعجلة، كما يفلت السهم من القوس بسرعة.

ومن مصاديق الرغبة عن أهل البيت(عليهم السلام) هو تهميشهم، وعدم معرفة حياتهم، بينما هم أسوة تجب معرفة حياتهم ليتأسى الإنسان بها، فإذا كان الإنسان لا يعرف حياتهم فهو راغب عنهم؛ لأن الشخص الذي نحبه نتتبّع أحواله وأخباره، أمّا الشخص الذي لا نرغب فيه فقد نكون غير مستعدين لأن نسمع أي كلام حوله.

ومن مصادق التهميش أيضاً، أن لا نفرح بأفراح أهل البيت(عليهم السلام) ولا نحزن في أحزانهم.

ومن التهميش عدم الاستماع إلى أحاديثهم وعدم تطبيق أقوالهم.

لهذا يعيش المسلمون الآن في تخبط شديد جداً في كل المجالات، فنجدالمشاكل في كل بلاد المسلمين، منها: مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية واُسرية، ولكن لماذا؟ الجواب: لعدم تطبيقهم كلام رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلام أهل البيت(عليهم السلام).

ص: 390


1- انظر: الصحاح 1: 137، وفيه: «رغبت في الشيء إذا أردته... ورغبت عن الشيء إذا لم ترده وزهدت فيه، وأرغبني في الشيء ورغبني فيه بمعنى، ورجل رغبوب من الرغبة...».
2- انظر: العين 5: 160؛ الصحاح 4: 1554؛ معجم مقاييس اللغة 5: 313؛ مجمع البحرين 5: 235.

فهنالك بعض الناس يوالون الأئمة(عليهم السلام) بالشعار لا بالعمل.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لبعض الذين خذلوه: «كلامكم يوهي الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الأعداء»(1)، أي: إن قوة ونفوذ كلامكم يفتّت الصخرة القوية، ولكن خذلانكم وفعلكم يجعل الأعداء يطمعون في أن يتغلبوا عليكم.

إذن، فالموقف الأوّل تجاه أهل البيت(عليهم السلام) هو موقف الذي يرغب عنهم، وهم من الذكر الذي يقول اللّه تعالى عنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}(2).

الموقف الثاني: المقصر في حقهم

إنّ هنالك كثيراً من الناس مبتلون بهذا الموقف، فبعضهم يقصر في حق أهل البيت(عليهم السلام) ولا يدافع عنهم.

مثلاً لقد مضى على تهديم البقيع عشرات السنوات والمسلمون مقصرون لأنه لو لم يكن تقصير لما استمر الهدم هذه الفترة الطويلة.

أمامنا مثالٌ في الحالة الأخرى، وهم اليهود، إنهم لا يشكّلون في العالم سوىأربعة عشر إلى عشرين مليون شخص فقط - حسب الإحصائيات - ، وكما نعلم أن النصارى يكرهون اليهود؛ لأن النصارى يزعمون أنهم قد قتلوا المسيح(عليه السلام)، ولكن {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}(3)، ولذلك كان تاريخ اليهود مع النصارى سيئاً

ص: 391


1- نهج البلاغة، الخطبة: 29.
2- سورة طه، الآية: 124-126.
3- سورة النساء، الآية: 157.

جداً، فقد كان اليهود مضطهدين في أوربا أشد أنواع الاضطهاد، ولا توجد دولة أوربية إلّا وقد طردت اليهود، وكثير من محاكم التفتيش كانت ضد اليهود، وأكثر النصارى يكرهون اليهود إلى الآن، لكن ما سبب في نفوذهم في دائرة قرار الدول النصرانية؟

إن السبب هو ما ذكره اللّه تعالى عنهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(1)، فهؤلاء أذلّاء إلّا إذا آمنوا وهو حبل اللّه فيعزهم اللّه عزّ وجلّ، أو يتصلوا بالقوى الدولية وهو حبل الناس، وهكذا فعلوا وتمكنوا من أن يصلوا إلى ما يريدون بل تمكنوا من أن يضطهدوا الآخرين أيضاً.

هذا مَثَل لأهل الباطل في باطلهم، وقد عملوا وأخذوا بالأسباب الطبيعية.

وفي المقابل يقول اللّه تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(2)، أي في الدنيا والآخرة، لكن لماذا لم ينصرنا اللّه تعالى؟ الجواب: لأننا لم ننصر اللّه تعالى قال سبحانه: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(3)، فالكثير منّا يقول: هذه ليست مسؤوليتي، بل هي مسؤولية الآخرين، وإذا استمر هذا الخذلان يستمر غضب اللّه؛ لأن رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعا في يوم الغديربحق أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: «اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»(4)، ودعاء رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مستجاب بلا شك، لتوفره على شرائط الاستجابة، فإذا خذلنا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فإن اللّه سيخذلنا

ص: 392


1- سورة آل عمران، الآية: 112.
2- سورة غافر، الآية: 51.
3- سورة محمّد، الآية: 7.
4- الخصال: 66؛ الإرشاد 1: 176؛ الأمالي، للشيخ الطوسي: 255.

استجابة لدعاء رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لذا ينبغي علينا أن لا نكون مقصرين في حق أهل البيت(عليهم السلام)، وكل منّا حسب طاقاته وقدراته قال اللّه تعالى: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1).

الموقف الثالث: اللازم لهم

إن الشخص الذي يتبع أهل البيت(عليهم السلام) في كل خطواته وأفعاله سوف يلحق بهم، لأنهم سيأخذون بيده، فإذا حصل هذا فسيتحقق معنى (واللازم لكم لاحق) حيث إن اللّه تعالى يُعز الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.

كان أحد العلماء في مشهد الإمام الرضا(عليه السلام)، في صباح كل يوم يتلو آيات من القرآن من المصحف ثم يفتح إحدى كتب الأحاديث ويقرأ بعضها، ثم يذهب إلى درسه وتدريسه وصلاته وأعماله، وكان ملتزماً بهذا الأمر، ولما سئل عن سبب ذلك، قال: إنه يلزم على العبد أن يذهب كل صباح إلى سيده ليعرف ماذا يريد؛ لأن المولى يأمر عبده بعدة أمور، ويقول: في هذا اليوم تكليفك كذا وكذا، فيذهب العبد وينفذ ما أمره المولى به، كذلك الحال مع عامل المصنع، حيث يأخذ الأوامر من مدير المصنع في الصباح، وطالما أننا عباد اللّه تعالى ومواليالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) فينبغي أن نعرف ما هي أوامرهم في كل صباح، ونعرف ما ينهون عنه؟

ثم إن سيرة أهل البيت(عليهم السلام) وكلامهم لا ينحصران في بعض الواجبات والمحرمات، بل في كل شيء من أمور الحياة؛ إذ كما يوجد تكليف بعنوان

ص: 393


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.

واجب أو مستحب أو مكروه أو مباح، كذلك يوجد نظام متكامل في كل شيء، يتعلق بأخلاقنا وعملنا وتفكيرنا ومعاشرتنا مع الآخرين، وتعاملنا مع أمهاتنا وآبائنا وزوجاتنا وأبنائنا ومجتمعنا، أي: كيف نفكر، وكيف نتصرف، وكيف نتكلم وغير ذلك. إن كل هذه الأمور موجودة في الروايات، وهذه عبارة عن نظام كامل لسعادتنا في الدنيا والآخرة.

أمّا عدم الالتزام بهذا النظام المتكامل - الذي تكون الواجبات والمحرمات جزءاً منه، وأجزاؤه الأخرى الآداب الاجتماعية، وأمور الحياة المختلفة الفردية والسياسية والاقتصادية - فإنه سيقود الإنسان إلى البعد عن أهل البيت(عليهم السلام)، لكن إذا التزم بذلك فسينطبق عليه (واللازم لكم لاحق).

ص: 394

(49) الوجاهة عند اللّه تعالى بالإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

جاء في زيارة عاشوراء: «اللّهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين في الدنيا والآخرة»(1).

هذه الزيارة هي حديث قدسي يرويه الإمام الباقر(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن اللّه سبحانه وتعالى، وهي من أجلّ الزيارات وأعظمها بركة ونفعاً واهتماماً من قبل أئمة أهل البيت(عليهم السلام) والفقهاء والعلماء والمؤمنين؛ لأن هذه الزيارة المباركة تتضمن أسس الدين، من التوحيد والعدل والمعاد والنبوة والإمامة، مع التركيز على البراءة والولاية، لأن الدين هو اعتقاد وعمل، وهو حب اللّه تعالى وحب أوليائه(عليهم السلام) وبغض أعدائهم، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(2).

ثم نأتي إلى مفردات هذا المقطع من الزيارة.

1- وجيهاً

إن الوجاهة هي مقبولية الفرد لدى المجتمع أو لدى مجموعة من الناس، بحيث يكون كلامه مسموعاً ومحترماً، ويُنظر إليه بعين الإكبار والإجلال.

وقد تكون الوجاهة مادية، وهي زائلة، مثلاً غني يحترمه الآخرون لماله، فإذا

ص: 395


1- المزار: 482؛ المصباح: 483؛ بحار الأنوار 98: 292.
2- سورة الشورى، الآية: 23.

أفلس ودخل السجن بسبب إفلاسه أو بسبب ديون الناس التي في ذمته سقطت وجاهته،أو صاحب منصب كأن يكون وزيراً فيحترمه الناس لمنصبه، فإذا عُزل سقطت وجاهته عند الناس.

لقد كانت لبني أمية وجاهة دنيوية إبان سلطانهم وحكمهم، فقد كانوا يتحكمون بكل شيء - الأموال والأعراض والمناصب وغيرها - ولهذه الوجاهة كان يقصدهم الشعراء والكبار والصغار، لكنها كانت وجاهة مادية مبنية على السلطة والأموال والسلاح، فما أن زالت تلك العوامل المادية حتى زالت معها وجاهتهم.

وهذا النوع من الوجاهة لا قيمة لها، إلّا إذا استفاد الإنسان منها لخدمة الناس وخدمة الدين.

والصنف الثاني من الوجاهة، هي الوجاهة الإلهيّة: وهي وجاهة دائمة لا زوال لها.

مثلاً: إذا كانت والدة إنسانٍ ما متهمة، فهل تكون له وجاهة في المجتمع، أم إنه يُعيَّر بأمه؟ إنه سيفقد الوجاهة بسبب هذه التهمة حتى وإن كانت التهمة ظالمة وكاذبة، لكننا نلاحظ أن عيسى(عليه السلام) من أوجه الناس على هذه الكرة الأرضية، بالرغم من أن اليهود اتهموا أمه مريم(عليها السلام)، يقول اللّه تعالى: {وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا}(1)؛ إلّا أن القرآن في آية أخرى يبين وجاهة عيسى(عليه السلام)، حيث يقول: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(2).

هل توجد لدينا شخصية على وجه الأرض أكثر وجاهة دنيوية من

ص: 396


1- سورة النساء، الآية: 156.
2- سورة آل عمران، الآية: 45.

عيسى(عليه السلام)؟ كلا؛ لأن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يؤمنون بعيسى(عليه السلام)، فكل النصارى يؤمنون به إلى درجة الغلو، والمسلمون يؤمنون به(عليه السلام) باعتباره من أنبياء أولي العزم، وكثير من غير المسلمين وغير النصارى يؤمنون بعيسى(عليه السلام) أيضاً، وإذا لم يؤمنوا بنبوته فهم يؤمنون به كونه رجلاً عظيماً، مع كل ذلك فقد كانت أمه متهمة، لكن لأن وجاهته كانت إلهيّة فإنها بقيت ولم تزُل، لأن اللّه تعالى هو منشؤها، وهو تعالى باقٍ ودائم ولا يزول، وليس كالمال والسلطة وغيرها من العوامل والأسباب المادية، ولذا فهي لا تزول لا في الدنيا ولا في الآخرة.

2- عندك

إن زوجة فرعون آسيا بنت مزاحم قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}(1)، مع أنها كانت تعيش في القصور، لكن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة لها، إنّما المهمّ هو {عِندَكَ}.

فأهل الجنة ينعم عليهم اللّه عزّ وجلّ بمختلف النعم، لكن أهم تلك النعم رضوان اللّه، قال سبحانه: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(2).

فقد يعيش شخص ما في قصر لكنه تعيس، ومتعب نفسياً، وهناك بعض الناس يعيشون في قصور الملوك - ومنهم أقرباء الملوك - أو الرؤساء لكنهم يعيشون في حالة كآبة.

إن المؤمن في الجنة منعّم لكن النعمة الأكبر هي الرضا الإلهي، فعند ما يشعر المؤمن أن اللّه تعالى راضٍ عنه فإن شعوره وإحساسه بالنعم المادية يكون أكثر.

ص: 397


1- سورة التحريم، الآية: 11.
2- سورة التوبة، الآية: 72.

3- بالحسين (عليه السلام)

إن الوجاهة الإلهيّة - التي تجعل الإنسان وجيهاً في الدنيا والآخرة - إنّما أرادها اللّه تعالى أن تكون عبر الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام، لأن اللّه عزّ وجلّ جعلهم الوسيلة إليه، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(1)، فقد جعل اللّه تعالى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واسطة - حينما يستغفر لهم - للتوبة عليهم.

وقال سبحانه: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}(2) حيث كان ناس يدعون الملائكة فيقول اللّه تعالى أن الملائكة أنفسهم يبحثون عن وسيلة إلى اللّه سبحانه وتعالى، فيرون أن أقرب وسيلة هم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، إن (هم) في قوله: {أَيُّهُمْ} ضمير يعود إلى ذوي العقول، ولم يكن الضمير (أيها) حتى يقول شخص ما: إن هذه الوسيلة قد تكون الصلاة أو الصوم أو ما إلى ذلك، ف{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} رسول اللّه وأهل بيته(عليهم السلام).

لذلك يجب علينا أن نطلب الوجاهة الدنيوية والأُخروية من اللّه تعالى بوسيلة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، فنحبّهم بقلوبنا، ونعتقد بهم بعقولنا، ونتبعهم بجوارحنا.

إذا كان الإنسان يدّعي المودة والحب لكن عمله لم يكن صحيحاً - أي: إنه يدّعي حب الإمام الحسين(عليه السلام) ولكنه يعمل كما يعمل يزيد - فإن هذا دليل على عدم صدق حبه وإيمانه.

ص: 398


1- سورة النساء، الآية: 64.
2- سورة الإسراء، الآية: 57.

شرط قبول العمل

يتفوّه بعض الناس ببعض الكلام، ويأتي ببعض الشبهات التي تثار في أذهانهم،كأن يقول: إن بعض سلاطين بني أمية وبني العباس وغيرهم فتحوا البلدان فدخل الناس في الإسلام!!

لكن الجواب عن ذلك يتضح بمثال بسيط لنفترض أن شخصاً يريد أن يبني بيتاً، فجاء بتصميم خاص وقال: أيها المهندس أو المقاول، أريدك أن تبني هذه الدار وفقاً لهذا التصميم الخاص، ولكن المهندس بنى البيت بطريقة وتصميم آخر - ليس بالطريقة التي كان يريدها صاحب البيت - فهل يستحق ذلك المهندس أجره منذ اليوم الأوّل؟ كلا، وليس هذا فحسب، بل عليه أن يدفع لصاحب البيت ثمناً لكي يزيل ما بناه، وعندما يحتج المهندس ويقول: لماذا، لقد تعبت وجئت بالمواد الإنشائية، كالطابوق والإسمنت والعمال وصرفت أموالاً وما إلى ذلك؟ سوف يقول صاحب البيت له: لقد اشترطنا عليك منذ اليوم الأوّل أننا نريد بيتاً حسب هذا التصميم، وأنت لم تفِ بالشرط، بل عملت حسب تصميمك؛ لذا فإن عملك كله يذهب هباءً منثوراً.

وهكذا في الطاعات لا بدّ أن تكون بالطريقة التي يريدها اللّه تعالى، فإن لم تكن كذلك لم يكن فيها فائدة، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(1).

لذلك ينبغي أن يكون قلبنا وعقلنا وجوارحنا تابعة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأهل بيته الكرام(عليهم السلام)، فلو قدمنا عملاً قليلاً ولكن عن إيمان راسخ وحب صادق، فإن اللّه عزّ وجلّ سيتقبل هذا العمل، أمّا إذا قدمنا عملاً كثيراً ولكن من دون إيمان

ص: 399


1- سورة الفرقان، الآية: 23.

صحيح ومحبة لأولياء اللّه وبراءة من أعدائه تعالى، فإن ذلك العمل لا يكون مقبولاً، يقول اللّه تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(1)، فإذا كان الإنسان يؤمن باللّه ورسوله حقيقةً فلن يودّ مَنْ حاد اللّه ورسوله، حتى لو ادّعى الإسلام، فمادامه قد حادّ اللّه ورسوله فإن عمله مرفوض، والذي يؤمن باللّه ورسوله ولا يحبه ولا يظهر حبه له، من خلال إطراء وكلام وما إلى ذلك، فهذا لا يساوي عند اللّه عزّ وجلّ شيئاً.

إن الوجاهة الإلهيّة لا يمكن لأحد طمسها، فقد بقي بنو أمية طيلة سنوات طوال يسبّون أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) على سبعين ألف منبر، وكان الناس يتبعونهم في هذا الأمر، لكن هل أثّر هذا العمل على مكانة أمير المؤمنين بشيء؟ كلا، وهل زاد من مكانة بني أمية بشيء؟ كلا، بل دحض مكانتهم.

إذن طالما عرفنا أن الوجاهة في الدنيا والآخرة عند اللّه تعالى تكون برسول اللّه وأهل بيته(عليهم السلام)، فيجب أن نتبعهم ولا نهتم بالقيل والقال.

ففي حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «حدثني أبي عن أبيه، عن جده الحسين بن علي، عن علي(عليه السلام) أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: واللّه، لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول اللّه، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إن اللّه جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإن اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى اللّه مودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة، يا علي من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنّما

ص: 400


1- سورة المجادلة، الآية: 22.

أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر وبشر أولياءك ومحبيك من النعيم، وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي، لا نالتهم شفاعتي ولا يردون حوضي»(1).

وبالفعل، هذا ما يحصل، لكن المهم هو أن يرى الإنسان رضا اللّه عزّ وجلّ في أي جانب يكون؟ وإلّا فهؤلاء الحثالة من الناس يحكمون أياماً معدودات ثم يذهبون إلى مزبلة التاريخ، وإلى لعنة اللّه والناس أجمعين.

إنّ وجاهة أهل البيت(عليهم السلام) ومن اتبعهم وجاهة إلهيّة، ونحن نلاحظ أن أي حاكم عندما تنتهي فترة سلطته وحكمه يقوم أبناؤه بإخفاء نسبهم، فهل رأينا شخصاً يقول: إن جده معاوية، أو أن جده يزيد، أو أن جده مروان؟ كلا، مع أن هناك أشخاصاً من ذريتهم موجودون الآن، وهم يعلمون أنهم من ذرية أولئك لكنهم لا يجهرون بذلك، وإذا ذكر أحدهم ذلك فإنه يذكره من باب الانتقاص من نفسه.

أمّا الذين ينتسبون الآن لأهل البيت(عليهم السلام) فهم يفتخرون بهذا النسب والناس تفتخر بهم أيضاً.

خدمة أهل البيت (عليهم السلام)

وينبغي أن يكون ضمن أولويات أعمالنا خدمة أهل البيت(عليهم السلام)، ويجب علينا

ص: 401


1- تهذيب الأحكام 6: 22؛ وسائل الشيعة 14: 382؛ جامع أحاديث الشيعة 12: 313.

أن نكون نحن خداماً لهم ليس باللسان فقط، بل في العمل أيضاً.

كان أحد العلماء الكبار يقيم مجلس عزاء للإمام الحسين(عليه السلام) في بيته فيقف عند الباب، وعندما يدخل الناس كان يرتب الأحذية، فكان الناس يقولون له: هذا العمل ليس مناسباً لك. فيقول لهم: كلا، إن هؤلاء يشاركون في عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) وأنا أريد بهذا العمل أن أبيّن لهم بأنني خادم للحسين(عليه السلام). إنه يخدم بعلمه ولسانه وبإرسال المبلغين، لكنه يريد أن يخدم بهذا الأسلوب أيضاً ليعلم الآخرين أنه لا يستنكف من خدمة أهل البيت(عليهم السلام)، فأن يكون الإنسان خادماً لأهل البيت(عليهم السلام) هو فخرٌ له.

نقل لي أحدهم حول مؤسس إحدى الحسينيات وهو من السادة المعروفين، يقول: دخل السيد في أحد الأيام إلى الحسينية فوجد فيها نزاعاً بين الخدم، وهم ليسوا خدماً موظفين، بل كانوا متطوعين، فحين لاحظ السيد نزاعهم سألهم، ماذا حدث؟ فقالوا: هناك طفل أو شخص ألقى شيئاً في دورة المياه، وقد تسبب ذلك في انسداد المجاري، والآن لا بدّ أن يقوم شخص ما بإخراج هذا الشيء، فتنازع الخدم وكل منهم يريد من الآخر أن يقوم بهذا العمل، عنذاك نزع السيد(رحمه اللّه) عباءته وقباءه ورفع كمه وأدخل يديه وأخرج ذلك الشيء، ثم قال للخدم: إن هذا هو بيت الإمام الحسين(عليه السلام) وأنا لا استنكف أن أكون خادماً للإمام الحسين(عليه السلام)، حتى لو كان الأمر يتطلب القيام بمثل هذا العمل.

ص: 402

(50) نزول الملائكة لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

إن للّه تعالى إرادات بحسب ما تقتضيه حكمته، ولكنه مع ذلك يشرّف أولياءه الصالحين فيغيّر لأجلهم القضاء بالبداء قال سبحانه: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}(1) فإن مصلحة تشريفهم قد تكون أهم من المصلحة الأولى في القضاء الأوّلي.

إن اللّه سبحانه قادر على أن يقدّر بحكمته ثم يغيّر ما قدّره بحكمته ورحمته كما قدّر العذاب لقوم يونس(عليه السلام) لأن في تقدير عذابهم كانت الحكمة بسبب كفرهم، لكن لمّا تضرعوا وآمنوا قبل نزول العذاب كشف اللّه تعالى العذاب عنهم لأن المصلحة تغيّرت فبحكمته تعالى ورحمته رفع العذاب عنهم.

ابتلاء الأولياء

وأحياناً يقدّر اللّه تعالى بلاءً لأوليائه لمصلحة رفع درجاتهم ولاختبار الأمّة ولغير ذلك من حكمته، لكنه تعالى في الوقت نفسه يريد تشريفهم بأن يخيّرهم بين نزول البلاء عليهم فترتفع درجتهم وبين رفع البلاء عنهم.

ومن المعلوم أن أولياء اللّه تعالى حتى لو جعل اللّه الاختيار إليهم يرجحون ما اختاره لهم، لأن ذلك خير لهم، نظير المستحبات التي ليست بواجبة والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) كانوا بالخيار بين فعلها أو تركها لأن اللّه تعالى جعل

ص: 403


1- سورة الرعد، الآية: 39.

الاختيار إليهم، لكنهم لم يكونوا يتركونها رغبة في كسب رضا اللّه تعالى وفي نيل ثوابها.

درجات الرسول وآله (عليهم السلام)

ومن ذلك أن اللّه تعالى قدّر أعلى الدرجات لرسوله محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه تعالى اصطفاه وفضّله ولما قام به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الطاعات وتحمل من المشاق في سبيل اللّه، ثم أراد اللّه تعالى إلحاق الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) بتلك الدرجة لأنه خلقهم من نفس النور الذي خلق منه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واصطفاهم وأطاعوه وصبروا في جنبه، ولذا قدّر لكل واحد منهم بلاءً يرفعه إلى تلك الدرجة وهذا دأب اللّه في أوليائه، فإنه يبتليهم ليرفع درجاتهم سواء في الدنيا أم في الآخرة، كما كان ذلك حال نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) ونبي اللّه إسماعيل(عليه السلام) فقد قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰإِبْرَٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا}(1) فإن الغرض من ذلك كان امتحان إبراهيم(عليه السلام) لينجح في الامتحان فينال درجة الإمامة كما قال اللّه تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}(2) فالكلمات هي الامتحانات التي قدرت له وكان أشدها عليه أمره بذبح ولده إسماعيل، فلما نجح في جميعها جعله اللّه تعالى إماماً.

والإمام الحسين(عليه السلام) واجه نفس الشيء، وقد روي أنه رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في

ص: 404


1- سورة الصافات، الآية: 102-105.
2- سورة البقرة، الآية: 124.

الرؤيا فقال له: «وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة»(1)، وأعظم تلك الدرجات أنه ألحقه اللّه تعالى بدرجة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(2) فهذه الآية شأن نزولها الأئمة(عليهم السلام) حيث ألحقهم اللّه تعالى بدرجة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «الذين آمنوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وذريته الأئمة والأوصياء صلوات اللّه عليهم»(3)،

وعن محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر وأبا عبد اللّه(عليهما السلام) يقولان: إن اللّه عوّض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره. قال محمّد بن مسلم: فقلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): هذه خلال تُنال بالحسين فما له في نفسه؟ قال: إن اللّه تعالى ألحقه بالنبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكان معه في درجته ومنزلته. ثم تلا أبو عبد اللّه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}»(4).

نزول الملائكة للنصر

إن اللّه تعالى قد ينصر أولياءه عبر إنزال الملائكة، كما أنزلهم يوم بدر لنصرة رسوله محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ}(5) وليس ذلك إلّا تشريفاً لهم ولذا أتبع الآية بقوله: {وَمَا

ص: 405


1- أمالي الصدوق: 217؛ بحار الأنوار 44: 313.
2- سورة الطور، الآية: 21.
3- الكافي 1: 275.
4- أمالي الشيخ الطوسي: 317.
5- سورة الأنفال، الآية: 9.

جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1) فاللّه تعالى قادر على نصرهم مباشرة لكن جعل النصر عن طريق الملائكة تشريفاً لهم، وهكذا وعدهم اللّه تعالى بإنزال الملائكة في غزوة أحد بشرط صبر المسلمين وتقواهم فقال: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(2).

ثم إن اللّه تعالى أراد تشريف الإمام الحسين(عليه السلام) فأنزل عليه أربعة آلاف من الملائكة، لكنه(عليه السلام) علم أن رضا اللّه عزّ وجلّ في شهادته وأنه تعالى يريد أن يوصله إلى تلك الدرجات فلذا رجح رضا اللّه تعالى ولم يأذن للملائكة بنصره، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «أنزل اللّه تعالى النصر على الحسين(عليه السلام) حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خيّر: النصر أو لقاء اللّه، فاختار لقاء اللّه تعالى»(3)، وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «هبط أربعة آلاف ملك يريدون القتال مع الحسين(عليه السلام) فلم يؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان فهبطوا وقد قتل الحسين(عليه السلام)، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودعه مودع إلّا شيعوه، ولا يمرض مريض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلوا على جنازته واستغفروا له بعد موته، وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم(عليه السلام)»(4). والروايات في هذا المعنى متواترة وتدل على تعدد نزول الملائكة عليه في يوم عاشوراء.

ص: 406


1- سورة الأنفال، الآية: 10.
2- سورة آل عمران، الآية: 125.
3- الكافي 1: 260؛ بحار الأنوار 45: 12.
4- كامل الزيارات: 353.

وظيفتنا

ونحن إذا أردنا أن نكون منهم وأن نلحق بهم يجب أن نتبعهم في كل شيء ففي القرآن: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(1) ويجب أن نلزمهم كما قال الإمام الهادي(عليه السلام) في الزيارة الجامعة: «واللازم لكم لا حق»(2) طبعاً ليس هذا إلّا لحوقاً بهم في الجنة، وليس لحوقاً في درجتهم فذلك مستحيل ولذا ورد في نفس الزيارة الجامعة. «فبلغ اللّه بكم أشرف محل المكرمين وأعلى منازل المقربين، وأرفع درجات المرسلين، حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع في إدراكه طامع»(3).

ص: 407


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 612.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 613.

(51) بركة ولادة الإمام الجواد (عليه السلام)

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(1).

كان قد مضى من عمر الإمام الرضا(عليه السلام) حدود الأربعين عاماً، وقد مضت اثنتي عشرة سنة من إمامته ولم يرزقه اللّه الذرية، ثم كان مولد الإمام الجواد(عليه السلام) في سنة 195.

منشأ مذهب الوقف

لقد كان الإمام الكاظم(عليه السلام) في آخر حياته مسجوناً، والناس ليس لهم طريق للوصول إليه، ولا إلى أبنائه لأنهم كانوا محاصرين، فوثق الناس بمجموعة ظاهرهم الصلاح، وأودعوهم الأموال المرتبطة بالإمام الكاظم(عليه السلام) لكي يوصلوها إليه بعد إطلاق سراحه، فطالت فترة سجن الإمام(عليه السلام)، فتكدّست هذه الأموال عند هذه المجموعة، وعندما استشهد الإمام الكاظم(عليه السلام) فكرت هذه المجموعة أنه إذا أقرّوا بإمامة الإمام الرضا(عليه السلام) فلا بدّ لهم من تسليم تلك الأموال إليه. والشيطان قد يسيطر على الإنسان ويزيّن له سوء عمله، فقد لا يغتر الإنسان بالأموال القليلة، لكن إذا صارت مهمة وكثيرة وفيها مصالح كبيرة فقد يغتر بها، فمن الممكن أن لا يفكر شخص في سرقة فلس واحد، لكن إذا صار

ص: 408


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.

مليارات فيمكن أن يخدعه الشيطان.

وهؤلاء اجتمعت عندهم أموال طائلة، وصلت عند بعضهم إلى سبعين ألف دينار، ففكروا في كيفية الاستيلاء عليها، فأنكروا استشهاد الإمام الكاظم(عليه السلام)، وقالوا: إنه المهدي الذي بشر به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بعد أن زوروا أحاديث مكذوبة على لسان الأئمة السابقين، وحرفوا بعض الأحاديث الصحيحة، أو أوّلوا معناها، وأرادوا بذلك أن يخدعوا عامة الناس.

من المعلوم أن الأساليب الشيطانية ليست أساليب جديدة، بل هي قديمة منذ اليوم الأوّل عندما حاول الشيطان أن يخدع آدم(عليه السلام) وحوّاء، وإلى يومنا هذا، فالأساليب نفس الأساليب، ولكن الوجوه تتغير، وبعض الناس لا يفقهون شيئاً، وهؤلاء هم الذين يُخدعون.

بهذه الطريقة أسّسوا فرقة الواقفة، وقد خُدع بهم مجموعة من البسطاء، فكانوا يروون لهم بعض الأحاديث عن الأئمة(عليهم السلام)، وكانوا يقولون للناس: إن هذا - يعني الإمام الرضا(عليه السلام) - عقيم، فقد أصبح عمره أربعين سنة، وليس له ولد فلا يمكن أن يكون إماماً!!

إن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يمتحن الناس، فكان من الممكن أن يرزق الإمام الرضا(عليه السلام) ذرية وهو في عمر خمس عشرة سنة مثلاً لكنه أخّر الولد امتحاناً للخلق، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(1)، فالإنسان الذي يريد أن يحصل على جنة عرضها السماوات والأرض فلا بدّ أن يدفع ثمنها، وثمنها هو نجاح في الامتحان.

إن هؤلاء سقطوا في هذا الامتحان، فكانوا يطعنون على الإمام الرضا(عليه السلام)،

ص: 409


1- سورة العنكبوت، الآية: 2.

إلى أن ولد الإمام الجواد(عليه السلام)، وقد ورد في الحديث الشريف: «هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه»(1)، وذلك لأن حجة الواقفة بطلت، حيث كان همّهم إنكار إمامة الرضا(عليه السلام) عن طريق إنكار الولد له. فاللّه سبحانه وتعالى أبطل حجّتهم، وأمات باطلهم، وأيّد هذا الدين بمولد الإمام الجواد(عليه السلام)؛ لذا ما ولد مولود في الإسلام أعظم بركة منه.

بداية إمامة الإمام الجواد (عليه السلام)

لقد ابتدأت إمامة الإمام الجواد(عليه السلام) في سن مبكرة، أي: عندما كان عمره سبع أو تسع سنوات، حينما استشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في سنة 202 للهجرة.

واللّه سبحانه وتعالى خلق تركيبة الأنبياء والأئمة الجسدية مثل سائر الناس في الظاهر، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}(2)، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(3). لكن جعل أرواحهم ومقاماتهم وصفاتهم تختلف عن سائر الناس، ففي الظاهر كان الإمام الجواد(عليه السلام) صبياً عمره سبع أو تسع سنوات، ولذا كان الناس يستغربون من ذلك، لكن كان هذا تأييداً للدين به؛ لأن الناس كانوا يسألون الإمام الجواد(عليه السلام) وهو صبي مسائل صعبة، والإمام(عليه السلام) يجيبهم عنها، فقد أجاب الإمام الجواد(عليه السلام) عن ثلاثين ألف مسألة في مجلس واحد فأجاب عنها كلها بالبداهة(4)، وهذا تأييد للدين؛ وعن علي بن أسباط قال:

ص: 410


1- الكافي 1: 321.
2- سورة الأنبياء، الآية: 8.
3- سورة الكهف، الآية: 110.
4- انظر: الكافي 1: 496، وفيه: علي بن إبراهيم، عن أبيه قال: «أستأذن على أبي جعفر(عليه السلام) قوم من أهل النواحي من الشيعة، فأذن لهم فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب(عليه السلام) وله عشر سنين». والظاهر استمرار هذا المجلس لعدة أيام، كالمؤتمرات التي تنعقد حالياً في عدة أيام فهي مؤتمر واحد لكنه طال أياماً عديدة.

«خرج عليهالسلام(1) عليَّ فنظرت إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتى قعد وقال: يا علي، إن اللّه احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، فقال: {وَءَاتَيْنَٰهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}(2)، قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}(3)، {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}(4) فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبياً، ويجوز أن يعطاها وهو ابن أربعين سنة»(5).

فعيسى(عليه السلام) كان رضيعاً في المهد وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(6)، وهكذا الحال بالنسبة ليحيى(عليه السلام)، حيث يقول القرآن عنه: {وَءَاتَيْنَٰهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}(7) فاللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل إنساناً كبيراً نبياً، وكذلك قادر على أن يجعل طفلاً رضيعاً نبياً، فاللّه لا يعجزه شيء، وهكذا في جعل الأئمة.

قال عمر بن الفرج الرخجي: قلت لأبي جعفر(عليه السلام)(8): «إن شيعتك تدّعي أنك تعلم كل ما في دجلة ووزنه، وكنا على شاطئ دجلة. فقال لي(عليه السلام): يقدر اللّه تعالى

ص: 411


1- أي: الإمام الجواد(عليه السلام).
2- سورة مريم، الآية: 12.
3- سورة يوسف، الآية: 22.
4- سورة الأحقاف، الآية: 15.
5- الكافي 1: 494.
6- سورة مريم، الآية: 30.
7- سورة مريم، الآية: 12.
8- أي: الإمام الجواد(عليه السلام).

على أن يفوض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قلت: نعم، يقدر. فقال: أناأكرم على اللّه تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه»(1). فإذا كان اللّه قادراً على أن يعطي للبعوضة علماً لا يعلمه الناس، فهو قادر على أن يعطيه للإمام(عليه السلام).

وأمّا الذين أنكروا إمامته وعلمه(عليه السلام) لمجرد صغر سنه فبسبب أن المشكلة في أكثر الناس لا يعقلون؛ لأن الشيطان أغواهم فسقطوا في الامتحان.

العبرة

إن اللّه سبحانه يمتحن كل واحد منّا، فقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}(2)، أي: يمتحنون، فاللّه سبحانه وتعالى يمتحننا، ومن المفروض أن ينجح في هذا الامتحان الشخص الذي روّض نفسه وهذبها؛ لأن الشيطان ليس له سلطة على المؤمن، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(3). فيوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة. وبالرغم من أن الشيطان كان يحاول خداعهم، فليس له سلطة على أحد.

إن الإنسان المؤمن لم يجبره أحد في هذه الدنيا ليكون مؤمناً، وكذلك الإنسان الفاسق لم يجبره أحد ليكون فاسقاً، لأن الإنسان مختار، فيستطيع أن يتجاوز هذه الامتحانات بسهولة.

نعم، أصحاب المصالح والشبهات يخدعون الناس البسطاء الذين لا يستعملون عقولهم، فتكون عاقبتهم كما قال اللّه تعالى: {ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ

ص: 412


1- بحار الأنوار 50: 100.
2- سورة التوبة، الآية: 126.
3- سورة إبراهيم، الآية: 22.

الْمُبِينُ}(1).

لكن اللّه سبحانه قد يمهل الناس، فيمهل البعض ليتوبوا ويصلحوا ما أفسدوه، وذلك الإمهال رحمة لهم، وقد يمهل آخرين لكي يزدادوا إثماً فيزداد عذابهم، وذلك الإمهال عقوبة لهم لسوء أعمالهم.

إذن، يجب على الإنسان أن لا ينجر إلى الشهوات والشبهات ولا يخدع بسرعة، وذلك عن طريق العلم والفكر ومراجعة العلماء الربانيين، ومن الخطأ أن يصدّق كل من يدّعي شيئاً، فينبغي أن يعرف الإنسان العلماء الربّانيين ويتّبعهم، وإلّا فالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين(عليه السلام) كانوا ضمن جيشه(عليه السلام)، فهذا شمر بن ذي الجوشن كان في جيش أمير المؤمنين(عليه السلام)، في يوم صفين(2)، ولكن عندما تمرّد الخوارج ضد أمير المؤمنين صار خارجياً.

لقد كان من الخوارج أربعة آلاف حفظة القرآن، وقد وصفهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «يخرج منه قوم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»(3)،

فهؤلاء يقرأون القرآن ولكنه لا يصل إلى قلوبهم، ولا يعلمون أن القرآن الناطق هو الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولذا خسروا الدنيا والآخرة.

فبناء على ذلك ينبغي علينا جميعاً أن نبقى على الصراط المستقيم، لكي ننجح في كل امتحان، فيتفضل اللّه سبحانه وتعالى علينا بأن يختم أمورنا بالسعادة في الدنيا والآخرة.

ص: 413


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- راجع شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 5: 213.
3- بحار الأنوار 33: 338.

(52) الأسباب الطبيعية والغيبية في ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)

اشارة

قال اللّه تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}(1).

هناك أسباب طبيعية يدركها الناس بحواسّهم، كالنار فإنها سبب طبيعي للإحراق، والأسباب الطبيعية إنّما جعلها اللّه سبحانه وتعالى لتنتظم حياة الناس، ولكي يسيروا طبقها، فمن أراد أن يعيش فعليه أن يكدّ ويعمل ليحصل على مقوّمات عيشه، من المأكل والمشرب والملبس، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(2)، وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(3)، ولولا هذه الأسباب لما تمكن الإنسان من العمل والكدح، ولا التطوّر والتكامل والوصول للدرجات التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى له.

ولكن وراء الأسباب الظاهرية هناك أسباب غيبية وهي الأسباب الحقيقية، فالغيب مهيمن على الشهود، ولأجل مصلحة الإنسان جعل اللّه سبحانه تقارن بين الأسباب الحقيقية والأسباب الظاهرية غالباً.

ولنذكر بعض الأمثلة:

ص: 414


1- سورة الروم، الآية: 7.
2- سورة الملك، الآية: 15.
3- سورة الانشقاق، الآية: 6.

المثال الأوّل: الموت

إن الموت يحدث بقبض اللّه سبحانه وتعالى الأرواح من الأجساد، إمّا مباشرةً أو بتوسط ملك الموت أو أعوانه، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(1)، وقال عزّ وجلّ: {قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}(2)، وقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(3)، فهذا هو السبب الحقيقي للموت، لكن الأسباب الظاهرية هي أن يصاب الإنسان - مثلاً - بسكتة قلبية، أو يسقط من شاهق، أو يقتل بالرصاص، إلّا أن هذه الأسباب لم تقبض روح المقتول في الواقع، وإنّما الذي قبض روحه هو اللّه، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل إرادته قبض روحه متزامنة مع أسباب الموت الظاهرية إذا تحققت.

فاللّه سبحانه وتعالى جعلها أسباباً ظاهرية في الوقت الذي يأذن فيه بقبض روح الإنسان؛ ولذا إذا لم يأذن فلا يتحقق الموت.

إن عذاب جهنم كبير جداً، ففي الحديث الشريف: «إن اللّه تبارك وتعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت وهي سوداء مظلمة، فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أن قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهل الدنيا مننتنها»(4). لكن الإنسان بجسمه ولحمه وعظمه يعذّب في نار جهنم، كما قال تعالى:

ص: 415


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة السجدة، الآية: 11.
3- سورة الأنعام، الآية: 61.
4- روضة الواعظين: 507.

{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ}(1)، وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}(2)، فلماذا لا يموت الإنسان وهو في نار جهنم؟

والجواب: هو لأن السبب الحقيقي للموت ليس هو الاحتراق والوسائل العادية، وإنّما هو قبض اللّه للروح واللّه لا يشاء قبض روح أهل جهنم: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(3).

المثال الثاني: الرزق

إن الفلاح يزرع الأرض ويسقيها، وبعد فترة يحصد، وما حصده يرتزق به، وهذا سبب ظاهري، وأمّا السبب الحقيقي للرزق فهو اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(4)، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يرزق لكن جعل رزقه - غالباً - متقارناً مع عمل الإنسان؛ لأنه إذا حصل الرزق دون عمل فسوف لا يستقر نظام الحياة؛ فاللّه هو الذي يقدّر الرزق: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(5)، فاللّه سبحانه وتعالى يسخّر بعض الناس لبعض.

إنّا نرى أن بعض الأشخاص يعمل من الصباح إلى المساء فلا يحصل إلّاعلى شيء قليل، بينما يقوم شخص آخر بعمل بسيط فيحصل على الملايين، والبعض منّا يتصور أن الشخص الثاني عنده حظ، بينما الأوّل لا حظ له، إلّا أن

ص: 416


1- سورة إبراهيم، الآية: 17.
2- سورة النساء، الآية: 56.
3- سورة الزخرف، الآية: 77.
4- سورة الذاريات، الآية: 58.
5- سورة الزخرف، الآية: 32.

هذا غير صحيح. والسبب وراء ذلك هو أن اللّه سبحانه وتعالى وسّع في رزق هذا، وضيق في رزق ذاك بحكمته؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى باسط وقابض: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُۜطُ}(1)، والبسط والقبض لهما معانٍ متعددة، ومنها: التوسعة في الرزق أو التضييق، فالرزّاق هو اللّه سبحانه وتعالى لكن جعل أسباباً ظاهرية.

ثم إنه يجب على الإنسان أن يسير ضمن الأسباب الطبيعية التي جعلها اللّه تعالى، وقد بيّن اللّه سبحانه ذلك في سورة الواقعة فقال: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَٰلِقُونَ}(2)، وقال: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّٰرِعُونَ}(3)، وقال: {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشُِٔونَ}(4).

المثال الثالث: إحراق النار

إن نار إبراهيم(عليه السلام) حيث لم تؤثر في إحراقه؛ لأن الإحراق في الواقع هو تقدير من اللّه، وفي الظاهر من النار، فمع وجود النار إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشأ إحتراق إبراهيم(عليه السلام): {قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ}(5)، فهذه النار كانت ناراً، لكنها لم تؤثر أثرها.

المثال الرابع: تدبير أمور العالم

قال اللّه تعالى: {فَالْمُدَبِّرَٰتِ أَمْرًا}(6)، فالملائكة هي التي تدير الأمور، لذا ورد

ص: 417


1- سورة البقرة، الآية: 245.
2- سورة الواقعة، الآية: 58-59.
3- سورة الواقعة، الآية: 63-64.
4- سورة الواقعة، الآية: 71-72.
5- سورة الأنبياء، الآية: 69.
6- سورة النازعات، الآية: 5.

في بعض الروايات نسبة الأمور الطبيعية إلى أسباب غيبية، وقد يتعجب البعض ولا يدرك معنى هذه الروايات. وأحياناً من لا يفهم هذه الروايات يردّها ولا يقبلها، لكنها تبين حقيقة بينّها القرآن في مصاديق كثيرة، ومنها: الموت والرزق والخلق والإنبات وغير ذلك، إلّا أن الروايات بيّنت ذلك ببيان أوسع؛ لأنها بيان وتفسير للقرآن الكريم، فإذا رأينا رواية تنسب شيئاً من الأشياء الطبيعية للملائكة مثلاً فلا نعجب من ذلك ونرده، بل يجب علينا القبول به.

مثلاً إن المطر ترسله الملائكة، فهي التي ترفع الماء بشكل بخار إلى السماء، ثم تذهب به لمنطقة معينة، وهي التي تسحبه إلى مكان معين، ثم تنزله.

لكن في الظاهر إن الشمس تبخّر الماء، فيصعد إلى منطقة معينة، وهناك أغلفة جوية تمنع صعود الماء إلى أكثر من الحدّ المعين، ثم هناك رياح تسحب الغيوم إلى منطقة معينة بعد ذلك يتحوّل البخار إلى ماء مرّة ثانية وينزل، يقول اللّه سبحانه: {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}(1)، فهذا المطر كله بأسباب غيبية، لكن اللّه سبحانه وتعالى زامن بين الأسباب الغيبية والأسباب الطبيعية، فالشمس موجودة والحرارة موجودة، والماء يتبخّر في هذا الظرف فقط دون ظرف آخر والرياح موجودة... إلى آخر الأسباب الطبيعية، لكنها متقارنة مع الإرادة الغيبية التي هي السبب الواقعي لكل ذلك عبر تدبير الملائكة بإذن اللّه تعالى.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن نعمل ونكدح ونتطور ونتكامل؛ لذا جعل أسباباً ظاهرية لكي نسير على طبقها.

ص: 418


1- سورة الواقعة، الآية: 68-69.

المثال الخامس: النصر من اللّه تعالى

1- إن المسلمين في غزوة بدر كانوا قليلين، ولكن كان تخطيطهم دقيقاً جداً؛ لأنه كان تخطيط الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1)، فاللّه هو الذي نصر المسلمين، لكن هذا النصر تزامن مع أسباب طبيعية، لكي يعمل المسلمون، ولا يكونوا كسالى جالسين في بيوتهم ينتظرون أن يهيئ اللّه سبحانه وتعالى كل الأشياء، بل إن اللّه خلق الإنسان لكي يعمل حتى يستحق المقامات العالية في الجنة، وهذا لا ينسجم مع الكسل، وإنّما ينسجم مع العمل.

2- وفي يوم عاشوراء أرسل اللّه سبحانه وتعالى كرامة للإمام الحسين(عليه السلام) أربعة ألاف من الملائكة، لكن الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم أن إرادة اللّه في شهادته، وإنّما أرسل هؤلاء الملائكة كرامة له؛ لذا لم يأذن لهم.

3- إن اللّه سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينصر رسله دون الأسباب الظاهرية فسوف يفعل ذلك. مثلاً: في خروج بني إسرائيل وموسى(عليه السلام) من مصر قال اللّه تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا}(2)، فقد وصل الأمر إلى مرحلة كان فيها إبادة لبني إسرائيل، والأسباب الظاهرية قاصرة عن نجاتهم؛ لأن فرعون وجنوده عندهم العدد والعدّة، وبنو إسرائيل لا عدد ولا عدّة لهم، ولو وصلفرعون وجنوده إلى بني إسرائيل لأبادوهم، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى كان يريد أن يحفظهم؛ لذ حينما قصرت الأسباب الظاهرية هيّأ اللّه سبحانه وتعالى السبب الغيبي، وهو فلق البحر، وأي وقت كان أصل الدين في خطر والسبب الظاهري

ص: 419


1- سورة الأنفال، الآية: 10.
2- سورة يونس، الآية: 90.

لم يكن كافياً يأتي النصر عن طريق السبب الغيبي.

4- ولما أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يخرج الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مكة قاصداً المدينة، نصره، قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}(1)، والمشركون وصلوا إلى فوهة الغار لكن لم يدخلوا فيه؛ لأنه كان هناك سبب غيبي، حيث جاءت العنكبوت ونسجت على مدخل الغار، وجاءت حمامة فباضت أمام هذا النسيج العنكبوتي، فلما رأى المشركون ذلك تصوّروا أنه إذا كان قد دخل أحد في الغار كان يخترق النسيج وتنكسر البيوض، وتهرب الحمامة، فلذا رجعوا من حيث أتوا فكان هذا السبب غيبياً، لكي يبيّن اللّه سبحانه وتعالى وهن المشركين بأبسط الأسباب، وينفّذ إرادته؛ لأنه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتخذ الأساليب الطبيعية، حيث بات أمير المؤمنين(عليه السلام) في فراشه تلك الليلة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ}(2)، وخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجنوب مع أن طريق المدينة في الشمال، وكان المشركون يعلمون أن قسماً من أهل المدينة أسلموا، فإذا أراد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخرج من مكة فسوف يذهب إلى المدينة؛ لأنه ليس له مكان آخر، فيجب عليه أن يتّجه نحو الشمال، لكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتّجه نحو الجنوب، حيث غار ثور الذي يكون في جنوب مكة، فاختفى فيه ثلاثة أيام حتىييأس المشركون فيتركوا البحث عنه، كما أنه لم يسر في الطريق بل سار إلى المدينة من غير طريقها، وكان معه دليل يعرف المسير... وغير ذلك.

إذن، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتّخذ الأسباب الطبيعية، لكنها كانت قاصرة؛ لذا فاللّه

ص: 420


1- سورة التوبة، الآية: 40.
2- سورة البقرة، الآية: 207.

سبحانه وتعالى هيّأ الأمور الغيبية، وكانت إرادة اللّه الواقعية، التي هي السبب الواقعي، متقارنة مع الأسباب الطبيعية؛ لأن اللّه جعل الأسباب الطبيعية، ولا يكون هناك تدخل غيبي إلّا في الحالة الاستثنائية لمصلحة أهم.

إن الحكمة الإلهيّة اقتضت أن تكون أمور الإنسان عبر الأسباب الطبيعية، فأعمالنا التي نقوم بها لها أسباب ومسبّبات، والمسبّبات بتقدير من اللّه، صحيح أنه لم يكن هناك جبر؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يجبرنا على شيء، وإرادتنا هي من مقدّمات أفعالنا، لكن اللّه سبحانه وتعالى يعلم أننا نريد أن نقوم بعملٍ ما وبالفعل نحن الذين نقوم به لكن ترتّب النتيجة هي بتقدير من اللّه تعالى، بل وكل شيء في الكون بتقدير من اللّه سبحانه وتعالى، فعن الإمام الكاظم(عليه السلام): «لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلّا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه، أو ردّ على اللّه عزّ وجلّ»(1)، لكن ليس بجبر؛ لأنه من المقدمات اختيارنا، فنحن مختارون بأن نفعل أو لا نفعل. فإذا اخترنا الفعل فاللّه يقدّر، وهو يعلم أننا نختار فقدّر، وإذا لم نفعل الفعل فاللّه سبحانه تعالى لا يقدّر، وكان يعلم أننا لن نفعل فلم يقدّر.

أنصار الإمام المهدي (عليه السلام)

في قضية الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) قدّر اللّه سبحانه وتعالى أسباباً طبيعية، لكنبعض الأحيان تكون هذه الأسباب الطبيعية قاصرة، فلذا تتدخل الأسباب الغيبيّة.

إن الإمام(عليه السلام) لا بدّ له من أنصار؛ لأنه(عليه السلام) يسير بسيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة ولم يكن له أنصار؛ لذا لم

ص: 421


1- الكافي 1: 149.

يأذن اللّه سبحانه وتعالى له في القتال، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ...}(1)، فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن له أنصار في مكة؛ لذا فلم ينهض ولم يقاتل؛ لأن اللّه لم يأذن له في الجهاد، وعندما أصبح لديه أنصار أمره بالجهاد، فقال اللّه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}(2).

وهكذا لو كان عند أمير المؤمنين(عليه السلام) في يوم السقيفة أربعون رجلاً لاسترجع حقه(3)، لكن لم يكن معه إلّا أربعة وسائر الناس خذلوه، نعم بعد ذلك رجع الكثير منهم؛ لذا كان مع أمير المؤمنين(عليه السلام) في معركة الجمل خمسمائة من الصحابة.

والإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) كذلك، فهو ليس أفضل من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا أفضل من أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإن كانوا نوراً واحداً، لكن أفضل البرية هو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم بعده أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم من بعدهما الأئمة(عليهم السلام).

والإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) إذا لم يوجد له أنصار فلا يظهر، وهذا سبب طبيعي، ووظيفتنا أن نكون بمستوى عالٍ حتى نكون من أنصاره؛ لأن أنصاره(عليه السلام) درجات، فعنده ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً، وهم الدرجة الأولى، وهؤلاء بعضهم أفضل من بعض، فهناك حلقة مقربة جداً من الإمام(عليه السلام) وهم الذي يكونون فيفسطاطه، ثم تأتي الحلقة الثانية وهم عشرة آلاف شخص، وهم في قمة التقوى والورع، فإذا وجد هؤلاء الأنصار فسوف يأذن اللّه سبحانه وتعالى للإمام ويظهر، لأنه يجب على الإمام أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينفذ إرادة اللّه

ص: 422


1- سورة النساء، الآية: 77.
2- سورة الحج، الآية: 39.
3- انظر: بحار الأنوار 29: 469-470، وفيه: «ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رجلاً مطيعين لجاهدتهم...».

سبحانه وتعالى، لكن إذا لم يتمكن بحسب الظاهر فلا تكليف له، واللّه سبحانه وتعالى لم يأذن لأهل البيت(عليهم السلام) أن يستفيدوا من قواهم التكوينية الغيبية إلّا في الحالات الاستثنائية.

وعليه فإذا تهيّأ الأنصار فلعلّ اللّه تعالى يأذن للإمام(عليه السلام) في الظهور، إن المؤمنين كثيرون بحمد اللّه، لكن الأمر يحتاج إلى درجة خاصة وقابلية خاصة.

وكشاهد على ذلك ننقل هذه القصة، فعن مأمون الرقي قال: «كنت عند سيدي الصادق(عليه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني فسلم عليه، ثم جلس فقال له: يا بن رسول اللّه، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له(عليه السلام): اجلس يا خراساني رعى اللّه حقك، ثم قال: يا حنفية، اسجري التنور، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: يا خراساني قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا بن رسول اللّه، لا تعذبني بالنار أقلني أقالك اللّه، قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول اللّه، فقال له الصادق(عليه السلام): الق النعل من يدك واجلس في التنور. قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام(عليه السلام) يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها ثم قال: قم يا خراساني وانظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً فخرج إلينا وسلم علينا، فقال له الإمام(عليه السلام): كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: واللّه ولا واحداً، فقال(عليه السلام): لا واللّه ولا واحداً، أمّا أنا لا نخرج في زمان لانجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت»(1).

ص: 423


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 363؛ بحار الأنوار 47: 123.

إذن، فالمشكلة أن التقصير منّا؛ لذا تطول الغيبة، فإذا تركنا التقصير فاللّه سبحانه وتعالى قد يقصّر وقت الغيبة.

ورد في بعض الروايات: «إن اللّه تبارك وتعالى يصلح أمره في ليلة»(1)،

وعلامات الظهور الحتمية خمسة، لكن بقية العلامات يمكن أن يحصل فيها البداء، يعني أن اللّه سبحانه وتعالى يغيّر القدر - كما غيّره في عذاب قوم يونس - لأن القدر وضعه اللّه تعالى بحكمته، وقدرة اللّه تعالى لا تتقيد، لا كما قالت اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}(2)، فلذا يمكن أن يغيّره بحكمته أيضاً.

إنه ينبغي على الإنسان أن يُوجد في نفسه القابلية، فهي تبدأ من القليل، فلا يحق لأحد أن يقول: أين أنا وأنصار الإمام؟ فإن أنصار الإمام الحسين(عليه السلام) كان أحدهم وهب، وهو شخص نصراني أسلم على يد الإمام الحسين(عليه السلام)، وقد مضى على إسلامه أيام قلائل قبل استشهاده، والآخر هو الحر الذي كان قد عارض الإمام(عليه السلام) وصدّه، لكن حينما تاب وأراد أن يصل إلى تلك الدرجة قَبِلَ اللّه سبحانه وتعالى توبته، وعليه فلا يقل أحدنا: إنه غير ممكن أن أصل إلى درجة أنصار الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)! كلا، بل من الممكن تحقق ذلك عن طريق خطوات يخطوها الإنسان.

فمنها: الالتزام بالواجبات وترك المحرّمات، والالتزام ببعض النوافل والمستحبات، وهذه هي الخطوة الأولى.

ومنها: تزكية النفس وتطويرها، فينبغي على الإنسان أن يهذب نفسه ويشذّبها، وهذا أمر صعب جداً، لكنه ممكن، كما أمكن لآخرين.

ص: 424


1- بحار الأنوار 51: 156.
2- سورة المائدة، الآية: 64.

فإذا تهيّأ ذلك فاللّه سبحانه وتعالى يُظهر الإمام(عليه السلام)، وحينذاك يضيف اللّه تعالى أسباب غيبيّة ومعاجز لتنفيذ إرادته تعالى وقد ورد في بعض الروايات: إن عصا موسى(عليه السلام) بيد الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، وسوف يستعملها في مقارعة الأعداء: فعن الإمام محمّد بن علي(عليه السلام) قال: «كان عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب، ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وإن عهدي بها آنفاً وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرها، وإنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت لقائمنا ليصنع كما كان موسى يصنع بها، وإنها لتروع وتلقف...»(1).

ثم إنه يحدث خسف البيداء قبل ظهور الإمام(عليه السلام)، وهذه إرادة ربانية، وهي من الأسباب الغيبيّة، وهذا ما أشارت له بعض الروايات: فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء»(2).

والحاصل: إننا لو هيّأنا السبب الطبيعي وهو أن نعمل بتكليفنا ولا نقصّر في المطلوب منا، فلعلّ اللّه سبحانه وتعالى يهيئ السبب الغيبي، فيظهر الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف).

ص: 425


1- بصائر الدرجات: 203.
2- كمال الدين وتمام النعمة: 650؛ الغيبة، للنعماني: 216.

(53) الغيبة والانتظار

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(1).

يدور بحثنا هذا حول محورين: الغيبة والانتظار.

المحور الأوّل: الغيبة

اشارة

والسؤال الذي يُطرَح هو: لماذا الغيبة؟ ولماذا قرر اللّه سبحانه وتعالى لوليّه هذه الغيبة الطويلة؟

أوّلاً: الامتحان الإلهي

والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن خلقه في صور مختلفة، بشكل دائم ومستمر، وقد جاء في القرآن الكريم في خطابه تعالى لأصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}(2)، أي: ألا يرون أنهم يمتحنون مرّة أو مرتين في السنة عبر أمرهم بالمشاركة في الغزوات والسرايا، ذلك لكي يتبين الصادق من الكاذب، ففي بعض الأحيان يقول الإنسان كلاماً كاذباً، ولعله

ص: 426


1- سورة النور، الآية: 55. وجاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن هذه الآية الكريمة نزلت في الإمام القائم وأصحابه، راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 89-90.
2- سورة التوبة، الآية: 126.

يتصور في قرارة نفسه أنه صادق، لكن الامتحان يبيّن كذبه، في حينأن بعض الناس لا يُتوقع نجاحهم في الامتحان ولكنهم ينجحون يقول اللّه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ}(1). إن البأساء تمثل المشاكل النفسية، أمّا الضراء فتعني المشاكل البدنية والمالية ونحوها، إن الكثير يتزلزلون؛ لأن المشاكل تسقطهم. ويصل الأمر بحيث يشتاق الرسول والمؤمنون بتعجيل النصر، {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(2).

فهذا الامتحان له صور مختلفة، ومن مصاديقه الغيبة، سواء في هذه الأمة أم في الأمم السابقة.

لقد واعد اللّه سبحانه وتعالى موسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر(3)، فقد كان التقدير من البداية أن يكون الميعاد أربعين يوماً لكنه لم يعلن لهم من أجل امتحانهم، فهم أمة فضلها اللّه على العالمين كما قال سبحانه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(4)، ولكن اللّه سبحانه امتحنهم في غيبة موسى(عليه السلام) عشرة أيام، فزعموا أن موسى مات، فأضلّهم السامري وعبدوا العجل إلّا القليل منهم، ولم يتمكن هارون(عليه السلام) من صنع شيء أمام هذا الموج. هذا نموذج فقط لما حدث بسبب غيبة قصيرة، فقد سقط أغلبهم في الامتحان.

إن عيسى(عليه السلام) لم يمت، بل رفعه اللّه تعالى إليه حينما أرادوا قتله، مع أن اللّه

ص: 427


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة البقرة، الآية: 214.
3- سورة الأعراف، الآية: 142: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.
4- سورة البقرة، الآية: 47.

تعالى قد أجرى سنّته في الحياة، بموت الأنبياء أو قتلهم(1)، لكن لماذا استثنى اللّه تعالى عيسى(عليه السلام) ورفعه إلى السماء؟

فربما من أسباب ذلك امتحانهم، والأكثر قد انحرفوا بسبب غياب عيسى عنهم، مع أنه موجود وحيّ وهو في السماء الرابعة، لكنهم انحرفوا، وجاء في الحديث الشريف: «... وبولس الذي نصّر النصارى»(2)، إذ ما دام عيسى كان موجوداً فيهم كان يمنع الانحراف كما قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}(3).

ثانياً: عقوبة أهل الأرض

فقد أرسل اللّه حججه للناس فما راعوهم حق رعايتهم، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو منشأ الخير والبركات للمسلمين وللعالم ولكل شيء، لكنه قال: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(4)، وقد آذاه القريب والبعيد إلّا من عصمه اللّه سبحانه وتعالى.

وقد أوذي أمير المؤمنين(عليه السلام) وغُصب حقه، وانتُهكت حرمته، كذلك الإمام الحسن والإمام الحسين وسائر الأئمة(عليهم السلام)، وهم حجج اللّه تعالى، لكن الناس عاملوهم معاملة سيئة، فعاقب اللّه الناس فغيّب حجته عنهم.

ولا يقل أحد: إذا فعل بعض الناس ما فعلوا، فما ذنبنا نحن؟

ص: 428


1- قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} [سورة آل عمران، الآية: 144]، وروي: «إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجل اللّه عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام» [بحار الأنوار 44: 364]. لقد قُتل كثير من الأنبياء، منهم زكريا(عليه السلام) حيث نشر بالمناشير، وقُتل يحيى أيضاً، حتى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سُمّ وكانت وفاته تحت تأثير السم، كما ورد في بعض الروايات [انظر: بصائر الدرجات: 503؛ بحار الأنوار 17: 405 و 22: 516].
2- بحار الأنوار 12: 37.
3- سورة المائدة، الآية: 117.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247؛ بحار الأنوار 39: 56.

الجواب: عندما ينزل البلاء الدنيوي فإنه يطال الجميع، يقول اللّه سبحانه: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(1)؛ وفي حديث عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن قوماً ركبوا سفينة في البحر واقتسموا فصار كل واحد منهم موضعه، فنقر رجل موضعه بفأس، فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع به ما شئت. فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن لم يأخذوا على يديه هلك وهلكوا»(2)، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لعل الطبيعة نفسها تكون حاضرة، بمعنى أن الإمام لو كان حاضراً لربما تعامل أكثر الناس معه كما تعامل أكثرهم في زمان حضور الأئمة(عليهم السلام)، وزمان الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لماذا جرائم أسلاف بني إسرائيل في زمن موسى(عليه السلام) وبعده نسبت إليهم جميعاً؟ لأن الأخلاف رضوا بفعل الأسلاف، ولو كان هؤلاء موجودين في زمان موسى(عليه السلام) لفعلوا كما فعل أسلافهم، ولعل الكثير لو كان موجوداً زمان الإمام الحسين(عليه السلام) لربما خذله، والعياذ باللّه. فإن الطبيعة التي كانت في الأسلاف تكون في الأخلاف فتكون سبباً في التخلّي عن المواقف الصحيحة.

وربما الكثير ممن يلهج الآن ويطلب ظهور الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) لو كان موجوداً في زمان الأئمة(عليهم السلام) لخذلهم.

وقد يعاقب الإنسان لرضاه بعمل ما أو بسبب طبيعته؛ لذا يجب أن يتدارك الإنسان ما فاته منه.

المحور الثاني: انتظار الفرج

إذا كان شخص يزعم أنه ينتظر ضيوفاً، ولكن لم يهيّئ لهم مستلزمات

ص: 429


1- سورة الأنفال، الآية: 25.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) 2: 294.

الضيافة، ولم يستعد لها، فيقال له: إنك لست منتظراً، وإلّا لتهيأت، لكن لو كان مستعداً، وأدّى ما عليه من تهيئة جميع مستلزمات الضيافة، ولم يكن وصول الضيف باختياره وقدرته، فحينئذٍ سيقال له: إنك صدقت في انتظارك.

لذلك ينبغي أن يكون عملنا منسجماً مع حالة الانتظار، أي: نتهيأ تماماً لانتظار الإمام(عليه السلام)، كما أشارت بعض الروايات، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع، ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم في فسطاطه، قال: ثم مكث هنيئة ثم قال: لا بل كمَن قارع معه بسيفه، ثم قال: لا واللّه إلّا كمن استشهد مع رسول اللّه»(2)، بمعنى أنه إذا مات أحدنا وكان منتظراً للإمام بالورع والجد ومحاسن الأخلاق فسيكون حكمه كمَن استشهد مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بل قد يحييه اللّه تعالى بعد الظهور، وقد تواترت الأخبار في الرجعة، ومنها عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أوّل مَن تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي(عليه السلام) وإن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصة لا يرجع إلّا من محض الإيمان محضاً، أو محض الشرك محضاً»(3).

إن المؤمن الذي محض الإيمان إذا مات قبل ظهور الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يُخير بين عدم

ص: 430


1- الغيبة، للنعماني: 200؛ بحار الأنوار 52: 140.
2- المحاسن 1: 174.
3- بحار الأنوار 53: 53.

رجعته وبين أن ينهض وتجري فيه سنة الأنبياء السابقين الذين أحيوا الموتى، كعيسى وموسى(عليهما السلام)، حين أحيا اللّه تعالى بعض الأموات في زمانهما، كالذين طلبوا أن يروا اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة(1)، وكذلك القتيل الذي قتل بقضية البقرة(2)، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إذا قام أتي المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا، إنه قد ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربك فأقم»(3).

إذن، فانتظار الفرج بمعنى أنّ ينتظر الإنسان مع الورع ومحاسن الأخلاق، وهذا الشيء يحتاج إلى تربية النفس وتهذيبها لكي يكون منتظراً حقيقياً، ولا يكون من أولئك الذين يقولون: «يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك»(4).

لقد حدث هذا مع بعض أهل الكوفة، حينما كتبوا إلى الإمام الحسين(عليه السلام) يطلبونه، لكن حين تغيرت المصالح خذلوه، بل كان بعضهم من قتلته.

من هنا يجب على الإنسان أن لا يعتمد على ما يتصوره عن نفسه، بل لا بدّ أن يزيد من ورعه وتقواه دائماً، ويكثر من تلاوة القرآن الكريم، وفهم معانيه، ويكثر من الاستعاذة باللّه وقراءة الأدعية، وروايات أهل البيت(عليهم السلام) ويحاول تطبيقها في حياته، وأن يحاسب نفسه دائماً، ويسأل نفسه: ماذا فعلت...؟ وهل أن الأفعال التي قمت بها ترضي اللّه تعالى أم لا؟ وشيئاً فشيئاً يرفع عن نفسه حجاب حب الذات، ويحاول بينه وبين اللّه تعالى أن يقوي ملكة الورع والتقوى في نفسه، وأن

ص: 431


1- قال اللّه تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة البقرة، الآيتان: 55-56.
2- انظر: بحار الأنوار 13: 259.
3- الغيبة، للطوسي: 459؛ بحار الأنوار 53: 91.
4- دلائل الإمامة: 456.

يكون عمله مطابقاً لما يقوله اللّه سبحانه وتعالى وأولياؤه. فإذا كان كذلك سيكون منتظراً حقيقياً، يشارك أصحاب المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) في الأجر، وإن مات قبل الظهور لعل اللّه تعالى يرجعه ليشهد دولة الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف).

ص: 432

(54) بين الانتظار الإيجابي والسلبي

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

يعدّ الانتظار من الوظائف المهمة للمؤمنين في عهد الغيبة الكبرى فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من اللّه عزّ وجلّ»(2).

فما هو الانتظار؟ ولماذا الانتظار؟

إن الإنسان يُصاب في حياته بمشاكل عدة، وكثيراً ما تكون مستعصية على الحل، ولا يتمكن من التكيف معها، سواء كانت مشاكل سياسية، كأن يكون الإنسان مضطهداً أو مهجراً في بلده، أم مشاكل اجتماعية، أو مشاكل أسرية، وربما تكون قومية، وثمة مشاكل أخرى.

خاصة في هذا العصر المليء بالمشكلات، لأن الحضارة الغربية هي الحاكمة في عالم اليوم، وقد دخلت حتى بيوت المتدينين عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرهما؛ لذا فالمشاكل التي تعاني منها المجتمعات الغربية انتشرت في المجتمعات الإسلامية، هذا من جانب.

ص: 433


1- سورة يونس، الآية: 102-103.
2- انظر: كمال الدين وتمام النعمة: 644.

ومن جانب ثانٍ: تعاني المجتمعات الإسلامية مشاكلها الناجمة عن الاستبداد والتجهيل والفساد ونحو ذلك.

وبين هذا وذلك يعيش المجتمع في ازدواجية بين الالتزام بالدين وبين التأطّر بإطار الثقافة الغربية.

الأمل وتحمّل المشاكل

وإذا كان أفق وأمل للإنسان الذي يعيش المشاكل المستعصية، فإنه يتمكن من تحمل المشكلة، لكن إذا أغلق باب الحل أمامه فعادةً ما ينهار أمامها.

إن المريض الذي يُبتلى بمرض صعب ومستعصٍ، يُقال: أعطوه الأمل، ويقال لمن يحيطون به: لا تخبروه بالمرض المستعصي الذي ابتلي به، لأن المريض إذا فقد الأمل ينهار عادة، وإذا كان ثمة احتمال ضعيف في شفائه وعلاجه يصبح هذا الاحتمال معدوماً؛ لأن نفس الإنسان تؤثر على جسمه، كما أن جسمه يؤثر على نفسه، إن الإنسان المكتئب غالباً ما يُبتلى بأمراض بدنية أيضاً، أمّا الإنسان الآمل فربما تخفف حالته الروحية من الأمراض أو تعالجها.

كذلك الحال إذا حوصر المقاتلون في جبهة القتال من قبل العدو، ويعلمون أن العدو أكثر منهم عدداً وعدة، فإذا علموا أنه لا يوجد أي أمل بوصول الإمدادات لهم فسوف ينهارون ويستسلمون، أمّا إذا كان لديهم أمل بأن هناك قوات ستسعفهم بعد يوم أو اثنين، أو ساعات، فإنهم سيقاومون العدو ويستمرون بالقتال.

فالحالة النفسية تؤثر على الإنسان إيجابياً أو سلبياً؛ لذا يعدّ اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم اليأس من رَوحه تعالى من أكبر المحرمات فيقول: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، فالذي ييأس من روح اللّه ومن نصره ورحمته

ص: 434


1- سورة يوسف، الآية: 87.

يصنَّف ضمن الكافرين، حتى إذا كان مؤمناً باللسان فقط، فاليأس من أكبر المحرمات، لأنه يسوق الإنسان إلى ارتكاب أكبر الجرائم، فعندما ييأس الإنسان من رحمة اللّه سيقول لنفسه أنا في نار جهنم أوّلاً وأخيراً، فلماذا أتورع؟ ولماذا لا أرتكب المحارم؟ وهكذا... .

قصة حميد بن قحطبة

ولدينا قضية حميد بن قحطبة المعروفة، فعن عبيد اللّه البزاز النيسابوري وكان مسناً قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاه الظهر، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست فاُتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة وذهب عني أني صائم وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير، هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علة توجب الإفطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علة توجب الإفطار، فقال: ما بي عله توجب الإفطار، وأني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيته بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادم واقف، فلما قمت يديه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا للّه أخاف يكون قد عزم على قتلي وأنه لما رآني استحيا مني، فلما قعدت بين يديه رفع رأسه

ص: 435

إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد فتبسم ضاحكاً ثم أذن لي في الانصراف، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إلي الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين، فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق، ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيّدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد على وفاطمة(عليهما السلام)، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة(عليهما السلام) مقيّدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلى واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت إلى آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد على وفاطمة(عليهما السلام) مقيّدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي: تباً لك يا ميشوم! أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد وَلَدَهم علي وفاطمة(عليهما السلام)؟! فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إلي الخادم مغضباً وزَبَرني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمى به في تلك البئر، فإذا كان

ص: 436

فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما ينفعني صومي وصلاتي؟! وأنا لا أشك أني مخلد في النار(1).

وفي العصور المتأخرة عاصرنا بعض أمثال هؤلاء الأشخاص، في حين أن مَن يرتكب جريمةً ما إذا كان غير يائس من رحمة اللّه فإن باب التوبة مفتوح أمامه، وأن اللّه تواب رحيم، فإذا تاب الإنسان وأدّى حقوق الناس التي في ذمته، وأدّى حقوق اللّه تعالى ثم استغفر اللّه، فإن اللّه عزّ وجلّ قد يغفر له.

فاليأس يردي الإنسان ويهلكه مادياً ومعنوياً؛ لذا يقولون في علم النفس: ثمة بعض الناس لديهم نفوس متفائلة لا يغيب عنها الأمل؛ لذا نراهم ينجحون في حياتهم، وهناك أناس متشائمون، لديهم نظرة متشائمة للحياة بصورة دائمة، حتى في الاُسرة ينظرون إلى الجانب السلبي والمظلم من الحياة، أو حسبما يقال: ينظرون إلى القسم الفارغ من الكأس، لذلك نجد حياتهم غالباً ما تكون محطمة، فالإنسان المتفائل ينجح غالباً، فإذا كان يعمل في التجارة فسوف ينجح فيها، وإذا طلب العلم فسوف ينجح، وهكذا الحال في أي مجال كان، لكنه إذا كان متشائماً سيفشل في حياته الزوجية والاُسرية والاجتماعية والتجارية، وفي المدرسة أو الجامعة.

الانتظار والأمل

وهكذا يكون انتظار الفرج، وهو أفضل أعمال الأمة، فإن من فوائد انتظار الفرج أنه يساعد الإنسان ويبعده عن الانهيار أمام المشاكل التي يعاني منها، لاسيما الشيعة، وقد ابتلاهم اللّه على مرّ التاريخ بالحكام الظالمين والمجتمعات

ص: 437


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 109.

الظالمة، فإذا كان الإنسان يعيش مشاكل دائمة فأمر طبيعي أن يُصاب بالتشاؤم ثم يُصاب بالانهيار، لكن إذا كان منتظِراً فلا ينهار.

لذا قال اللّه تعالى: {فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(1) وقال سبحانه: {وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}(2) وهذا نوع من التهديد، أي: انتظروا عذاب اللّه إني معكم من المنتظرين، بمعنى أنا أيضاً انتظر رحمة اللّه سبحانه وتعالى لينجيني منكم، ولذا قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(3)، أي: بعد هذه الحالة من الانتظار، فإن اللّه عزّ وجلّ سيُنجي الرسل والذين آمنوا ثم يعمم النجاة لجميع المؤمنين، فإذا عشنا حالة من الأمل ساعدتنا على أن لا ننهار، ومن ثَمَّ نقوم بوظائفنا الدينية والاجتماعية حسبما أمرنا به اللّه سبحانه وتعالى؛ فإن معنى الانتظار هو أن يؤدّي الإنسان ما عليه من الواجبات الدينية والاجتماعية والأسرية وغيرها، ثم يحاول معالجة المشاكل التي تواجهه، فإذا كان الحل مستعصياً عليه فعليه أن ينتظر.

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا(عليه السلام): «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج»(4).

وقال(عليه السلام): «فعليكم بالصبر فإنّما يجيء بالفرج على اليأس، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(5).

ص: 438


1- سورة يونس، الآية: 102.
2- سورة هود، الآية: 93.
3- سورة يونس، الآية: 103.
4- كمال الدين وتمام النعمة: 645، بحار الأنوار 12: 379.
5- كمال الدين وتمام النعمة: 645؛ بحار الأنوار 52: 129.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ألا أخبركم بما لا يقبل اللّه عزّ وجلّ من العباد عملاً إلّا به؟(1)، فقلت: بلى، فقال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر اللّه، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمة خاصة - والتسليم لهم، والورع والاجتهاد، والطمأنينة، والانتظار للقائم، ثم قال: إن لنا دولة يجيء اللّه بها إذا شاء»(2).

فالشهادتان والإقرار بما أمر اللّه سبحانه وتعالى والولاية والبراءة هذه أمور قلبية، وهي تقع في الجانب الاعتقادي، وأمّا الورع - الذي هو الرتبة العالية من التقوى بترك المحرمات - والاجتهاد فهما القسم العملي، أمّا الطمأنينة فتعني أن تكون نفسك مطمئنة لا تتزلزل في المشاكل والشبهات والشهوات.

ثم بعد كل ذلك يأتي دور انتظار الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف).

الانتظار لأجل الدين

ولا ينبغي أن يكون الانتظار من أجل المصلحة الشخصية، بل لا بدّ أن يكون انتظاراً لأمر اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان قد يحوّل الانتظار في بعض الأحيان لمصلحته الشخصية، وهذا النوع من الانتظار لا يؤدّي إلى النتيجة المرجوّة عكس الانتظار إذا كان لأمر اللّه تعالى.

روي عن حذيفة يقول: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إذا كان عند خروج القائم ينادي مناد من السماء أيها الناس قطع عنكم مدة الجبارين، وولي الأمر

ص: 439


1- لأنه في كثير من الأحيان يكون العمل هباءً، {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [سورة الفرقان، الآية: 23]، وفي آية أخرى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} [سورة آل عمران، الآية: 22]، فالعمل لا يقبل إلّا بهذه الأمور.
2- الغيبة، للنعماني: 200؛ بحار الأنوار 52: 140.

خير أمة محمّد فالحقوا بمكة، فيخرج النجباء من مصر والأبدال من الشام وعصائب العراق، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، كأن قلوبهم زبر الحديد، فيبايعونه بين الركن والمقام»(1).

فلا نتصور أن الحبال ستلقى على غاربها، ويكون الناس بلا عمل، وينتشر الكسل ويصبح الناس عاطلين يتجولون في الشوارع، بل رهبنة في الليل، أي: عبادة اللّه سبحانه وتعالى، وجهاد في النهار، بمعنى القيام بالعمل المطلوب؛ لأن النظام السليم يقوم على العدل والعمل والتقوى.

أمّا البعض فينظر إلى الانتظار على أنه إذا كانت لدينا مشاكل فيحلها اللّه سبحانه وتعالى. نعم، صحيح أن الإنسان يجب أن يأمل ليحل اللّه تعالى مشاكله، لكن انتظاره يجب أن يكون انتظاراً لأمره سبحانه وتعالى؛ وإلّا يتحول الانتظار إلى حالة سلبية، كانتظار اليهود لرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد كان هناك يهود في المدينة وأطرافها - وهم بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير وغيرهم - وكان سبب مجيئهم إلى المدينة هو ما قرأوه في كتبهم من أن اللّه عزّ وجلّ يبعث نبي آخر الزمان من هذه البقعة؛ لذا هاجروا إليها واستوطنوا فيها، لا لأجل انتظار أمر اللّه سبحانه وتعالى، بل لحفظ مصالحهم لكي يكون النبي منهم ويتفاخروا به؛ لذا حينما كان المشركون من أهل المدينة أو أطرافها يظلمون اليهود كانوا يطلبون الفتح، قال اللّه تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}(2)، بمعنى يطلبون الفتح بالنبي على هؤلاء الكفار، فكانوا يقولون لهم انتظروا سيبعث اللّه تعالى بعد فترة رسولاً وينقذنا منكم، لكن لما بعث اللّه سبحانه رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من

ص: 440


1- الاختصاص: 208.
2- سورة البقرة، الآية: 89.

غيرهم كفروا به قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}(1)، لأن انتظارهم لم يكن لأمر اللّه تعالى، بل لمصالحهم، ومَن يكون انتظاره هكذا سيكون انتظاراً سلبياً.

لما يظهر الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يقول بعض الناس: «يا ابن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك»(2)، لأنهم لم يكونوا ينتظرونه انتظاراً إيجابياً بل انتظاراً سلبياً، وبذلك يخسرون الدنيا والآخرة، أمّا الذين كانوا ينتظرونه انتظاراً إيجابياً فيكونون من أنصاره وأعوانه ويفوزون بالدنيا والآخرة، جعلنا اللّه وإياكم منهم.

ص: 441


1- سورة البقرة، الآية: 89.
2- دلائل الإمامة: 456.

(55) بين الأمل والانتظار

اشارة

قال اللّه تعالي في كتابه الكريم: {قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}(1).

لا بدّ للإنسان المؤمن من الأمل والعمل.

الأمل

1- أمّا الأمل: فهو ضروري، ولولاه لفقدت الحياة معناها، فالفلاح يزرع على أمل الحصاد، والإنسان يبني على أمل أن يسكن في ذلك البناء، ويعمل ويدرس ويفعل سائر الأفعال على أمل الوصول إلى النتائج، فإذا فقد الإنسان في يوم من الأيام الأمل فسوف يترك العمل، وحتى الإنسان المتديّن الذي يصلّي ويصوم ويطيع اللّه سبحانه وتعالى إنّما يفعل ذلك لأنه يأمل في أن يرضى اللّه عنه، ولولا هذا الأمل لما عَبَدَ اللّهَ أحدٌ من الناس إلّا الأوحدي منهم؛ ولذا فاليأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى من أكبر الكبائر، قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2)، لأن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة اليأس من رحمة اللّه سبحانه فسوف يسقط في مستنقع المحرّمات، فلا يطيع اللّه تعالى في أوامره، ولا ينتهي عن نواهيه.

إذن، فالمحرّك الأساسي للإنسان هو الأمل؛ ولذا نجد أن اللّه سبحانه وتعالى

ص: 442


1- سورة الأنعام، الآية: 158.
2- سورة يوسف، الآية: 87.

في القرآن والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) في أحاديثهم أرادوا أن يشعلوا جذوة الأمل في نفس كل إنسان، قال تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(1)، فلو أذنب الإنسان أعظم الذنوب فليعلم أن رحمة اللّه سبحانه وتعالى أعظم من هذه الذنوب، وأوسع منها، وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى طريقاً للعودة دائماً وحتى اللحظة الأخيرة من حياة الإنسان. نعم، إذا وصل الإنسان إلى لحظة الموت، وكشف اللّه غطاء بصره حيث يرى الملائكة، ففي ذلك الوقت لا مجال للتوبة، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ}(2)، وقال سبحانه: {وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَالَْٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

إن التوبة تختلف باختلاف الذنوب، فإذا كان الذنب متعلقاً بحقوق الناس، فيجب عليه أن يؤدّيها، ويسترضيهم ويندم على ما فعل ويعزم على عدم العود، ويقول: استغفر اللّه ربي وأتوب إليه، وإذا كان متعلقاً بحقوق اللّه سبحانه وتعالى، فإن كان الحق قابلاً للقضاء وجب عليه أن يقضيه، ويستغفر ويندم ويعزم، فإذا فاتته صلوات فليقضها، وهكذا باقي العبادات. وإذا كانت الحقوق ليس لها قضاء، كما لو كذب الإنسان كذبة ليست في حق الناس، فيستغفر ويندم ويعزم، وهذه توبته.

وأمّا لو كان باب التوبة مغلقاً فسوف يكون هذا سبباً لاستمرار الإنسان في

ص: 443


1- سورة الزمر، الآية: 53.
2- سورة النساء، الآية: 18.
3- سورة يونس، الآية: 90-91.

المعاصي، حيث يقول: أنا في نار جهنم على كل حال، فيطلق العنان لنفسه لارتكاب أبشع الذنوب.

إن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يهدي الإنسان، ولا يرضى له الكفر قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(1)، ولأنه رؤوف رحيم لطيف بعباده بارّ بهم ويريد لهم الفوز بالجنة، لذا فتح أبواب أي شيء يقرّبهم إلى الجنة، وهذا ما أشار له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث يقول: «أيها الناس، ما علمت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما علمت شيئاً يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه»(2).

العمل

2- وأمّا العمل: فلأنّ الأمل وحده لا يكفي، بل يجب أن يُقرن بالعمل، ففي الحديث الشريف: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل»(3)، وفي حديث آخر: «إن اللّه عزّ وجلّ لا يخدع عن جنته، ولا ينال ما عنده إلّا بطاعته»(4).

فالأمل من دون عمل يؤدّي بالإنسان إلى طول الأمل وهو من الرذائل، فينبغي أن يكون الأمل مقروناً بالعمل، فيهيئ الإنسان المقدمات للوصول إلى ما يأمله. فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(5).

ص: 444


1- سورة الزمر، الآية: 7.
2- مستدرك الوسائل 13: 30.
3- تحف العقول: 157.
4- الكافي 8: 49.
5- الكافي 2: 71.

بين الانتظار والأمل

اشارة

إذا راجعنا القرآن الكريم نجد فيه موارد كثيرة يأمر اللّه سبحانه وتعالى الكفار والمسلمين بالانتظار، قال تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}(1)، فالكل ينتظر، سواء الكافر أم المسلم.

أمّا بالنسبة للمسلمين فهو إيجاد للأمل فيهم، وأمّا بالنسبة للكفار فهو تهديد لهم، بأنه سيأتي يوم العذاب والموت، ويأتي يوم نصر اللّه للمسلمين.

فلنذكر هنا نموذجين من الانتظار:

النموذج الأوّل: انتظار ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)

إن مسألة الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) رويت بشكل متواتر في كتب الفريقين، ولذا لا يستطيع أحد إنكارها، لكن البعض يحاول التلاعب بدلالة الأحاديث، كأن يقول بعضهم: إن هذه القضية سوف تحدث في المستقبل، حيث سيولد شخص من المسلمين ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فما شأننا بذلك؟!

إن هؤلاء يريدون أن يخرجوا مسألة الإمام المهدي وظهوره عن حياتهم، مع أنه لو كانت غير مرتبطة بنا كان الإخبار بها لغواً، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعبث ولا يقول شيئاً إلّا لفائدة، فلو لم يكن له دخل بحياة المسلمين فلماذا أخبر عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟!

ثم إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبر بالمهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) وأنه حينما يظهر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه يبيد الظالمين، وأنه يطبّق العدل في الأرض، وغير ذلك، وهذا الإخبار له أغراض كثيرة من جملتها: إبقاء الأمل في نفوس المؤمنين.

ص: 445


1- سورة التوبة، الآية: 52.

إن اللّه تعالى أنزل قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}(1)، في وقتٍ كان المسلمون في شدة، ولعل الغرض من ذلك إعطاء الأمل لهم، بأن يطلب منهم المقاومة وانتظار الفرج حتى يصل يوم النصر.

وكذلك الحال عندما أخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بأنه سيظهر في يوم من الأيام رجل من ذريته يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويهلك الظلم والظالمين، فهذا ليس عبثاً، وإنّما قال هذا الكلام لكي ينتظر المسلمون هذا الأمر انتظاراً إيجابياً، بأن يكون الأمل موجوداً في نفوسهم لكي لا ينهاروا.

إن الإنسان المؤمن محاصر في طول التاريخ، لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يختبره، والامتحان إنّما يكون في الأمور الصعبة الشاقة حتى يتبين جوهر كل إنسان، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2)، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(3)، فهذا الامتحان يكون صعباً، بحيث يشتاقون ويتلهفون إلى سرعة النصر، فيدعون اللّه سبحانه وتعالى بتعجيل النصر.

لو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن الشيعة تعرضوا لمجازر على طول التاريخ، من قتل وذبح وتشريد، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى أراد للتشيع أن يبقى، فهيّأ لبقائه الوسائل، لأن اللّه أبى أن يجري الأمور إلّا بأسبابها، ومن هذه الأمور حالة

ص: 446


1- سورة التوبة، الآية: 52.
2- سورة العنكبوت، الآية: 2.
3- سورة البقرة، الآية: 214.

الانتظار عند الشيعة، وهذا الأمل بمجيء المخلص في يوم من الأيام هو الذي سبّب بقاء الشيعة ونموّهم يوماً بعد يوم.

ورد في الحديث الشريف: «وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم»(1)، وهذا يعني أن نفس انتظار الفرج هو فرج؛ لأن الذي ينتظر يشعر بأمرين: الأوّل: إن الظلم زائل لا يبقى. والثاني: أن يتهيّأ لذلك الشيء الذي ينتظره.

إن الإنسان الذي ينتظر الإمام لكي يقيم الحق لا بدّ أن يهيئ نفسه، ويكون مساهماً في ذلك، كجندي من جنود الإمام(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف).

النموذج الثاني: انتظار بني إسرائيل ظهور موسى (عليه السلام)

إن فرعون كان متجبراً يضطهد الناس، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2)، وكان بنو إسرائيل ينتظرون أن يخلصهم موسى(عليه السلام)، ولكن عندما جاء(عليه السلام) لم تتغير المعادلة: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}(3)، فقبل أن تأتي كان فرعون يضطهدنا، وعندما جئتنا بقيت الحالة على ما هي عليه، فما هو الفرق؟ فقال لهم موسى(عليه السلام): {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(4)، ثم طلب منهم الصبر، فقال: {اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(5).

ص: 447


1- كمال الدين وتمام النعمة: 485.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- سورة الأعراف، الآية: 129.
4- سورة الأعراف، الآية: 129.
5- سورة الأعراف، الآية: 128.

إن بني إسرائيل كانوا في حالة انتظار طالت أربعين سنة: {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَٰلًا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَٰلِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وهذا أوجد فيهم حالة من الأمل إلى أن نجاهم اللّه سبحانه وتعالى، وأهلك فرعون وقومه. إن اللّه سبحانه وتعالى ينتقم من المجرمين ولكن يجب على الإنسان أن يكون صابراً ومنتظراً لتلك اللحظة التي ينتقم اللّه بها من المجرمين قال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}(2).

كيفية الانتظار

إنه يجب على الإنسان زمن الغيبة أن يراعي الأمور التالية:

الأوّل: الانتظار بطاعة اللّه تعالى حتى تكون للإنسان قابلية كي يكون من أصحاب الإمام وأنصاره، وهذا الأمر ليس خاصاً بالرجال وإنّما يشمل النساء، كما أن لكل واحد دوره الخاص، فهناك من ينصر الإمام(عليه السلام) بالسيف، وآخر ينصره بالكلام، وهكذا، فكل ينصره بطريقته الخاصة.

الثاني: الانتظار بالاهتمام بأمور المسلمين، فالانتظار لا يعني الكسل.

إن البعض يترك كثيراً من وظائفه، فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً زاعماً أنها وظيفة الإمام وليست وظيفته!!

نعم، إن الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) يأتي ليصلح كل الأمور، لكن هذا لا يسقط التكليف عنّا، فلو علمنا بظهور الإمام(عليه السلام) غداً فهذا لا يسقط عنا الواجبات وترك

ص: 448


1- سورة يونس، الآية: 88-89.
2- سورة السجدة، الآية: 22.

المحرمات. ولا يسقط عنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، فهذه تكاليفنا يجب علينا أن نقوم بها سواء أراد اللّه تعجيل الظهور أم تأجيله.

الثالث: الانتظار بالجد بأن نُبعّد عن أنفسنا التكاسل، ولا نتخذ الانتظار ذريعة للكسل، لأن معنى الانتظار هو العمل، فإذا عملنا بوظائفنا وظهر الإمام(عليه السلام) كنّا أكثر قرباً إلى اللّه سبحانه وتعالى وإلى الإمام(عليه السلام)، لأن الحلقات المحيطة بالإمام متعددة، فهناك حلقة المقرّبين وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً، وهناك حلقة ثانية دونهم في الرتبة، وهم عشرة آلاف، وهناك حلقة ثالثة وهكذا... ومن أولئك الثلاثمائة والثلاثة عشر من يكون في فسطاط الإمام(عليه السلام)، وهناك من يكون خارج الخيمة، فالدرجات مختلفة، فكلما كان تهذيب الإنسان لنفسه أشد، والعمل بطاعات اللّه أكثر، فاحتمال الفوز بالدرجات العليا أقرب.

فإن ظهر الإمام(عليه السلام) ونحن أحياء فسوف نكون من أنصاره إن شاء اللّه تعالى.

وإن سبق الموت إلينا فإن هناك حديثاً شريفاً يبين أن من يموت وهو منتظر لظهور الإمام(عليه السلام) يكون كالذي يقاتل بين يديه من حيث الثواب، فقد سأل أبو بصير الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(1) ما عنى بذلك؟ فقال: «معرفة الإمام واجتناب الكبائر، ومن مات وليس في رقبته بيعة لإمام مات ميتة جاهلية، ولا يعذر الناس حتى يعرفوا إمامهم، فمن مات وهو عارف لإمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر، فكان كمن هو مع القائم في فسطاطه، قال: ثم مكث هنيئة ثم قال: لا بل كمن قاتل معه، ثم قال: لا

ص: 449


1- سورة البقرة، الآية: 269.

بل واللّه كمن استشهد مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

بل قد يحيه اللّه تعالى ويرجعه اللّه إلى الدنيا، ليكون من أصحاب الإمام(عليه السلام) ويقاتل معه، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان أو محض الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب»(2).

فمن محض الإيمان محضاً يرجعه اللّه سبحانه وتعالى ليشهد دولة الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) في الدنيا، مضافاً إلى ثواب الآخرة، والإنسان يرى أن هذه الأمور في متناول يديه، ولكن يلزم أن يلقي الكسل جانباً، ويستفيد من أوقاته، لكي يزيده اللّه سبحانه وتعالى هداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(3).

ص: 450


1- بحار الأنوار 27: 127.
2- بحار الأنوار 58: 82.
3- سورة محمّد، الآية: 17.

(56) الإرادة التكوينية في ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {اللَّهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ}(1).

إن حديثنا في محورين:

أوّلاً: بين الحكم التكويني والتشريعي

إن للّه سبحانه وتعالى حكماً تكوينياً وحكماً تشريعياً:

1- والحكم التكويني هو خلق هذا الكون، وتقدير قوانين طبيعية لتسيير أمور الكون، فاللّه سبحانه وتعالى يدبّر أمور الكون بهذه القوانين؛ لأن حكمته اقتضت أن يجعل الأمور عبر أسبابها.

والنظام التكويني لا خلل فيه، فلا يحتمل فيه الخطأ، فالنار تحرق، ولا يمكن أن يحدث خطأ في يوم من الأيام، ويحصل العكس، بأن تعطي النار البرودة بدل الحرارة. نعم، إذا شاء اللّه سبحانه وتعالى تغيير القانون فالأمور بيده، كنار إبراهيم(عليه السلام) التي أصبحت برداً وسلاماً لكن هذه حالات استثنائية قدّرها اللّه بحكمته، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}(2)، فلا يوجد خلل في نظام الكون أبداً.

ص: 451


1- سورة الشورى، الآية: 19.
2- سورة الملك، الآية: 3-4.

2- والحكم التشريعي هو القوانين التي شرّعها اللّه تعالى للناس ليعملوا بها، وهي أيضاً لا مجال للخطأ فيها، فهي أحكام صحيحة مائة بالمائة.

نعم، في بعض الأحيان قد نُخطئ ونتصوّر أن القانون التكويني هكذا، فيتبين أننا قد أخطأنا، وعلمنا وجهلنا لا يغير من القانون التكويني شيئاً، وكذلك في القانون التشريعي، فقد نخطأ في الوصول إليه، إلّا أن علمنا أو جهلنا بذلك القانون الشرعي لا يغير من الواقع شيئاً، فأحكام اللّه سبحانه وتعالى مطابقة للواقع دائماً.

ثم إن هناك تطابقاً تاماً بين النظام التكويني والنظام التشريعي؛ ولذا فالأحكام الشرعية تطابق تركيبة الإنسان الجسدية والنفسية والعقلية والروحية تطابقاً تاماً؛ وذلك لأن الذي خلق الإنسان في هذه الصورة هو الذي شرّع القوانين التي تناسبه؛ ففي المجال التشريعي قال اللّه سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1)، ثم قال عزّ وجلّ في المجال التكويني في الآية التالية: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2)، فاللّه خلق الإنسان وصوّره في رحم أمّه، وهو يعلم بحقيقته.

وإذا أنكر الإنسان القانون التكويني وحاول أن يعمل خلافه فهو الذي يتضرّر، فلو صعد شخص فوق السطح وقال: أنا لا اعترف بقانون الجاذبية، ثم ألقى

ص: 452


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 6.

بنفسه، فعدم اعترافه بقانون الجاذبية لا يغيّر من الواقع شيئاً، ولذا فسوف يسقط على الأرض وقد يموت أو تتهشّم أضلاعه.

وهكذا الحال بالنسبة للأحكام الشرعية، فإذا قال شخص: أنا لا اعترف بالصلاة والصوم وغير ذلك، فعدم اعترافه لا يغيّر من الواقع شيئاً، فإذا عصى ولم يصلّ ولم يصم ولم يفعل سائر الواجبات، أو ارتكب ما حرمه اللّه سبحانه وتعالى، فهو الذي يتضرر، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يضرّه شيء، والواقع لا يتغير لذلك.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، فاللّه خلق الإنسان لا لحاجة منه إليه، لأن اللّه هو الغني المطلق، وإنّما خلقه ليرحمه، ويكون الإنسان قابلاً لهذه الرحمة الخاصة من خلال العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، فإذا عَبَدَ الإنسان ربه فسوف يكون قابلاً لنزول رحمة اللّه الخاصة عليه. إذن، بما أن اللّه خلق الإنسان لكي يرحمه، وطريق هذه الرحمة هي العبادة، فهل يعقل أن يشرّع اللّه قانوناً يبعّد الإنسان عن العبادة؟ كلا، فهذا غير معقول؛ لأن التشريع لا يخالف التكوين.

إن البعض يسأل: لماذا لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوّج بكافر؟ والجواب: لأن الزوج له تأثير على الزوجة(3)، واللّه سبحانه وتعالى الذي يريد للمرأة الهداية لا يشرّع قانوناً يتعارض مع الهداية، فقد تضلّ المرأة بسبب دين زوجها،

ص: 453


1- سورة هود، الآية: 118-119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- انظر: الاستبصار 3: 184، وفيه: ... عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تزوجوا في الشكاك ولا تزوجوهم؛ لأن المرأة تأخذ من دين زوجها ويقهرها على دينه».

أو يقهرها على ذلك؛ ولذا لم يشرّع اللّه سبحانه وتعالى هذا الحكم حتى لا يتناقض التشريع مع التكوين.

كما أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشرّع سيطرة الكافر على المسلم، قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(1)، وهذا لا يعني أن اللّه سبحانه وتعالى يمنع سيطرة الكافر التكوينية وإنّما المعنى أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشرّع حكماً بسيطرة الكافر على المسلمين؛ لأن الحاكم يؤثر على المحكوم، والمحكوم في كثير من الأحيان يتماشى مع الحاكم فيحاول أن يقلد أساليبه، حتى في دينه.

والحاصل: إن اللّه تعالى يعلم تركيبة الإنسان النفسية والجسدية والعقلية والروحية فلذلك يشرّع له تشريعاً يتلاءم مع طبيعته، وهذا لا يعني إكراه الناس على ذلك، وإنّما التشريع من باب الحكمة، لأن اللّه حكيم، والحكيم لا ينقض غرضه، فلا بدّ من تطابق تام بين التشريع والتكوين؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى شرّع القوانين لسعادة الإنسان، فلا بدّ أن يوّفر الأجواء المناسبة ولو بعد حين، لكي تجد تلك الأحكام التشريعية طريقها للتنفيذ.

وهذا أمر بديهي، لأن اللّه سبحانه وتعالى بارّ بعباده، وهو رحيم ولطيف بهم.

فاللّه سبحانه وتعالى أرحم من الأم على ولدها، ومع كونه رحيماً فهو تعالى حكيم، والحكمة من الإحكام ويلازمه وضع الشيء في موضعه، ولذا فهو تعالى يريد لهم الإيمان، ولا يرضى أن يكفروا، قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}(2)، ومعنى (لا يرضى

ص: 454


1- سورة النساء، الآية: 141.
2- سورة الزمر، الآية: 7.

لهم) أي:لا يريد هذا الأمر لهم، وليس هذا إرادة تكوينية بحيث يكرههم على الإيمان، وإنّما هو إرادة تشريعية أي لم يشرّع لهم الكفر وإنّما يعاقب عليه.

ثانياً: إرادة اللّه في ظهور الإمام

إن اللّه سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ويريد هدايتهم؛ لذا فهو يزيل كل شيء يقف حجر عثرة أمام هداية الناس ولو بعد حين وإذا أمهل فإنّما ذلك للإمتحان، قال اللّه تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(1). فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى هذا الكون بحيث تزول المبادئ الباطلة، ويزول المبطلون ولو بعد حين، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2). ولكن من غير أن يجبرهم على الإيمان.

إن اللّه سبحانه وتعالى قدّر ظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، وهذا التقدير تكويني يطابق التشريع، وذلك لحكمته تعالى، بحيث يكون عدم تقديره خلاف الحكمة؛ إذ من حكمته ورحمته أنه يريد الفلاح والإيمان والهداية لعباده، ولذا قدّر سبحانه زوال وزهوق كل ما يقف بوجه هذه الهداية وإن طال الزمن، وكل شيء يقرب العبد للهداية فقد هيّأه وأثبته، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}(3). فأهل الباطل وإن حكموا وعلا صوتهم، كما قال موسى(عليه السلام) في القرآن الكريم: {رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَٰلًا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}(4) إلّا أنهم سوف ينهزمون ويزولون.

ص: 455


1- سورة الإسراء، الآية: 81.
2- سورة التوبة، الآية: 33.
3- سورة الرعد، الآية: 17.
4- سورة يونس، الآية: 88.

ومن أوصاف اللّه سبحانه وتعالى الصبور، وهو يعني أنه لا يعجّل الأمور في غير أوانها، بل يجعل كل الأمور في أوانها، وذلك لحكمته تعالى، وهكذا الأمر في ظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى الأمور في أوانها وأوقاتها.

وهذه الأوقات قد لا تكون بيد الإنسان فلا يتمكن من تقديمها ولا تأخيرها، وقد يجعل اللّه ذلك بيد الإنسان بحيث إن أتى بالمقدمات يصل إلى النتيجة، وإن لم يأت بالمقدمات لا يصل إليها، وإن أبطأ فيها فستتأخر عليه.

وظهور الإمام سيكون في وقت يقدّره اللّه تعالى، لكن قد يقدّمه أو يؤخّره بحكمته، ومن أسباب التقديم وجود أنصار وأعوان للإمام بالمستوى والعدد المطلوب.

والحاصل: إن الإمام(عليه السلام) سيظهر في يوم ما، وهذا وعد اللّه الحتمي فإنه تعالى لا يخلف الميعاد، وقد يكون جزء من تعجيل الظهور المبارك يرتبط بأعمالنا، فلا بدّ لنا من التقوى والورع وإيجاد القابلية في أنفسنا لنكون من أنصاره، إذ إن الإمام(عليه السلام) يريد أن يعم الخير كل الكرة الأرضية فلا بدّ له من ولاة وحكّام يكونون بالمستوى المطلوب من حيث العلم والتقوى والورع وتحمل المصائب وعدم الفرار من المشاكل ليكونوا يده وأعوانه، فإذا وجد أناس بهذا المستوى وبالعدد المطلوب فقد يأذن اللّه تعالى له في الظهور فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): المهدي منّا أهل البيت، يصلح اللّه له أمره في ليلة». وفي رواية أخرى: «يصلحه اللّه في ليلة»(1).

ص: 456


1- كمال الدين وتمام النعمة: 152.

(57) بين اللعن والصلاة

اشارة

إن اللّه تعالى في القرآن أمرنا باللعن وبالصلاة، فقال في اللعن: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1)، وقال في الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2).

في الوقت الذي يذكّرنا اللّه سبحانه وتعالى بعاقبة المؤمنين في الدنيا والآخرة، ويذكّرنا بعاقبة الكافرين في الدنيا والآخرة أيضاً، فإنه تعالى بذلك يريد أن نعيش الأفكار الحقة، وأن نبتعد عن الأفكار الباطلة في واقعنا؛ لأن الإنسان - في كثير من الأحيان - إذا عاش حدثاً معيناً فإنه يتفاعل معه، سواء كان واقعاً صحيحاً أم باطلاً، لأن الرادع أو المحفّز للإنسان لا يكون عقله فحسب وإنّما عاطفته وشعوره وغيرهما أيضاً، فلذا كان لا بدّ من تحفيز كلّها ليرتدع الإنسان عن الباطل وليتبع الحق.

1- اللعن

إن اللّه سبحانه وتعالى أمرنا بلعن بعض الناس لسيّئ أفعالهم وعقائدهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(3)، ولكن لماذا أمرنا اللّه تعالى بلعن

ص: 457


1- سورة آل عمران، الآية: 87.
2- سورة الأحزاب، الآية: 56.
3- سورة البقرة، الآية: 159.

هؤلاء؟

إننا إذا لعناهم مرّة ومرتين وثلاثاً وأربعاً... فسنتفاعل مع لعنهم، ونحاول الابتعاد عنهم وعن أفعالهم وخصالهم.

وغير خفي أن اللعن غير السب؛ لأن اللعن دعاء، والدعاء قسمان: دعاء له، ودعاء عليه، فإذا كان الدعاء له فهذا يعني أننا نترحم على شخص ما ونطلب الخير له، وإذا كان الدعاء عليه فهو يعني أننا نسأل اللّه أن يطرده عن رحمته وأن يمنع الخير عنه وأن يعذّبه.

لهذا فإن لعن الذين يغيّرون حكم اللّه أمرٌ مطلوب، لكن لماذا نطلب من اللّه تعالى أن يبعدهم من الرحمة؟ مثلاً: نحن نقرأ زيارة عاشوراء، ونلعن كل قتلة الحسين(عليه السلام) مائة مرة، فلماذا؟

الجواب: لكي نتفاعل مع لعنهم، ونبتعد عن أسبابه، ونبتعد عن الفعل الذي قاموا به.

2- الصلاة

وفي المقابل أمرنا اللّه سبحانه وتعالى بأن نترحم على الصالحين، وأن نطلب الرحمة من اللّه سبحانه وتعالى لهم، وذلك يقرّبنا إلى أفعالهم وعقائدهم.

فماذا تعني الصلاة على الرسول وآله؟ إنها طلب الرحمة من اللّه سبحانه وتعالى للرسول وآله، وذلك يحثنا لكي نكون معهم دائماً.

فعن ابن أبي حمزة، عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} فقال: «الصلاة من اللّه عزّ وجلّ رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء. وأمّا قوله عزّ وجلّ: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} فإنه يعني التسليم له في ما ورد عنه.

ص: 458

قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمّد وآله؟ قال: تقولون: صلوات اللّهوصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمّد وآل محمّد والسلام عليه وعليهم ورحمة اللّه وبركاته، قال: فقلت: فما ثواب من صلّى على النبي وآله بهذه الصلاة؟ قال: الخروج من الذنوب واللّه كهيئته يوم ولدته أمه»(1).

إن الصلاة على رسول اللّه وآله واجبة في الصلوات الخمس في التشهد، ومستحبة في سائر المواقع، لأننا حينما نذكرهم دائماً فهذا سيحببهم لنا، ويؤدّي إلى أن نتبعهم في أعمالنا.

الحوافز والمنفّرات

لقد جعل اللّه سبحانه وتعالى لكل واجب من الواجبات جملة من الحوافز، وجعل لكل محرم من المحرمات جملة من المنفّرات.

ومثال الحافز في الواجبات: الصلاة اليومية وهي من الفرائض، لكن عندما يريد أن يصلّيها الإنسان بمفرده فقد يشعر بالكسل في كثير من الأحيان، ولن يتوجه إلى الصلاة بشوق ورغبة، وربما في كثير من الأحيان لا يدرك ما يقوله أثناء الصلاة؛ لذا جعل اللّه سبحانه وتعالى تحفيزاً للصلاة، وهي الصلاة جماعة، لأن الإنسان عندما يرى الجميع في حالة واحدة فهو يرغب في الانضمام إليهم ويتفاعل معهم.

وكذلك الصوم في شهر رمضان أسهل من الصوم في غيره؛ لأن الإنسان حينما يرى الكل صائمين فسيتشوّق إلى الصوم، لكن إذا كان وحده صائماً فربما يصعب الصوم عليه.

هذا بالإضافة إلى عامل حثّ آخر وهو الأجر الأخروي الموجود في

ص: 459


1- معاني الأخبار: 368.

الواجبات، والعقاب الأخروي الموجود في المحرمات.

ومثال التنفير من المحرمات: ردّ شهادة الفاسق، إذ يشترط في الشاهد أن يكون عادلاً، ولعل الإنسان يرتكب محرماً لكنه صادق اللّهجة، وفي بعض الأحيان يثق الإنسان برجل ما - فاسق أو كافر - أكثر مما يثق برجل ظاهره الإسلام، لأسباب متعددة، ولعل هذا الإنسان يكون محل ثقته، لكن بسبب فسقه ترد شهادته، فلماذا إذا شهد هذا الرجل الصادق اللّهجة الموثوق به بشيء ترد شهادته؟

والجواب: ربما أراد الشارع أن يبعّد الناس عن الفسق؛ لذا لو ارتكب الإنسان حراماً فإن شهادته لا تقبل، ولا يمكن أن يكون إمام جماعة، ولا يمكن أن يكون كذا. ولا كذا... فيكون عليه تضييق اجتماعي ولعل ذلك يصير سبباً لارتداعه وارتداع غيره عن الفسق.

ذكر أهل البيت (عليهم السلام)

ولذلك كان المطلوب منا أن نعيش مع الرسول وآله لكي يكون ذلك محفزاً لاتباعهم فإن ذكر أهل البيت(عليهم السلام) مطلوب منّا، والاحتفال بمواليدهم مطلوب منّا أيضاً، كذلك العزاء في مصائبهم، كما يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(1)، لأن الإنسان إذا اشترك في الاحتفالات وأقامها، وإذا اشترك في العزاء وأقامه، سوف تحصل له رغبة في اتباع أهل البيت(عليهم السلام).

إن ارتياد المساجد والحسينيات والاشتراك في مراسيم إحياء أمر أهل

ص: 460


1- انظر: بحار الأنوار 53: 303؛ عيون الحكم والمواعظ: 152.

البيت(عليهم السلام) سيترك أثراً في النفس؛ لهذا ينبغي علينا أن نهتم بهذه الأمور ولا نستصغرها؛ لأن استصغارها يبعّدنا عن اللّه تعالى وعن الإسلام، وعن السعادة الأبدية. من هنا تأتي أهميَّة الصلاة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ولنذكر هنا مثالين - سلبي وإيجابي:

1- إن عبد اللّه بن الزبير كان قد ترك الصلاة على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! فقيل له: ما السبب وراء ذلك؟ فقال: (لأن له قوم سوء!! إذا صليت عليه اشْرَأَبَّتْ أعناقهم)(1)، أي: إنهم سيقولون: (إن محمّداً جدّنا) لذا لا أذكره بغضاً لآله!!

لقد عاش هذا الرجل مبغضاً لأهل البيت(عليهم السلام)، وحاول أن لا يذكر اسم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي لا يفرح أهل بيته، وهذه الأمور وأمثالها هي التي أبعدته عن اللّه سبحانه وتعالى، وأبعدته عن اتباع قيم الإسلام، فأراد قتل بني هاشم حرقاً لولا أن المختار أرسل جيشاً فأنقذهم(2).

وفي هذه الآية الكريمة القول أوّلاً، والعمل ثانياً، فينبغي أن يقترن قول الإنسان مع عمله، فالصلاة لفظ، والتسليم عمل.

2- إن حزيمة بن ثابت كان أحد أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد سمّاه الرسول: ذا الشهادتين، وذلك ل«أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابتاع فرساً من أعرابي فأسرع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المشي ليقبضه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، وهم لا يشعرون أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على الثمن، فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعاً لهذا الفرس فابتعه وإلّا بعته، فقام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين سمع الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته

ص: 461


1- انظر: أنساب الأشراف 5: 317.
2- انظر: تاريخ مدينة دمشق 54: 339 فما بعد.

منك؟ فطفق الناس يلوذون بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأعرابي وهما يتشاجران، فقال الأعرابي: هلم شهيداً يشهد إني قد بايعتك، ومن جاء من المسلمين قال للأعرابي: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن ليقول إلّا حقاً حتى جاء خزيمة بن ثابت، فاستمع لمراجعة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأعرابي، فقال خزيمة: إني أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على خزيمة فقال: بم تشهد!؟ قال: بتصديقك يا رسول اللّه، فجعل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين وسماه ذا الشهادتين»(1).

نعم، كان يمكن لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتغاضى عن البيع، لكن تكذيبه في هذا المورد يؤدّي إلى نتائج سيئة، فإذا قبلنا قول الرجل الذي كذّب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ابتياع فرس لكان ذلك ذريعة لطعن المنافقين في سائر أقوال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وهذا حكم استثنائي من اللّه سبحانه وتعالى بحق هذا الشخص كرامة لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بمعنى أننا لو احتجنا إلى شاهدين في قضية ما فإن شهادة هذا الشخص تعادل شهادة شاهدين، فكان هذا الرجل قد سلّم أمره لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القول والشهادة والعمل، وكان خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من أصحاب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) واستشهد في صفين.

وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حينما يذكر أصحابه، يخص بالذكر ثلاثة منهم في خطبة مفصلة بعد واقعة صفين، حيث يقول: «أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين»(2).

ص: 462


1- انظر: من لا يحضره الفقيه 3: 108.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 182.

(58) الإسلام منظومة سلوك وتعاليم متكاملة

اشارة

قال اللّه سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَٰذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا}(1).

لقد خلق اللّه عزّ وجلّ الإنسان وجعله ذا طبيعة واحدة، وقد عبر عنها القرآن الكريم بالفطرة، وكثير من الأمور يمكن أن تتغير لكن الفطرة لا تتغير، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(2). وطبقاً لتلك الفطرة شرّع اللّه عزّ وجلّ قوانين نعبر عنها بالشريعة، فقد فصّل اللّه تعالى للإنسان ثوباً يليق به، وشرع له ما يناسبه.

ورد في الحديث الشريف: «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(3)، وذلك لأن التكليف جاء مطابقاً لطبيعة الإنسان التي لا تتغير، وهو أيضاً لا يتغير.

أوّلاً: النظام المتكامل

وما نقصده بالشريعة هي المنظومة الإلهيّة المتكاملة في كل شي، في العبادات والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والآداب والأخلاق، وكل ما يشملجوانب حياة الإنسان.

ص: 463


1- سورة الفرقان، الآية: 30.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- الكافي 1: 58.

وليس المقصود بالشريعة ما ضيّقه البعض، حيث تصوّر أن الشريعة منحصرة في إجراء بعض الحدود الشرعية، إذ يوجد في القرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، وما يخص الحدود يقرب من عشر آيات، بينما تدور الآيات الأخرى حول مواضيع أخرى، فالإسلام واسع بوسع عمل الإنسان وطبيعته، ولا ينحصر في زاوية من زوايا الحياة، فإذا طبقنا هذه الشريعة الغراء بكل مفرداتها فحينئذٍ تتحقق لنا السعادة، وإذا لم نطبق بعض مفرداتها فيكون الشقاء من نصيبنا.

كما ليس المقصود هو ما يتصوره البعض من أن التدين ينحصر في إقامة الصلاة والصوم والخمس والزكاة والحجاب، إن هذه الأمور أجزاء مهمة من التدين، فالصلاة عمود الدين، والصوم جنة من النار، والزكاة تشييد للدين، والحجاب صون للمجتمع، لكن التدين أوسع من ذلك.

بل التدين يشملها كما يشمل تعامل الإنسان مع الآخرين أيضاً، وفي الحديث الشريف: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1)، كذلك الحال في تعامل الإنسان مع زوجته وأبنائه وأبويه، فهل يرضي اللّه عزّ وجلّ؟ وهل هذا التعامل ينطبق مع ما نطق به القرآن الكريم أم لا؟

وهناك أجزاء أخرى من الدين ترتبط بجوانب أخرى من حياة الإنسان.

لكننا إذا نظرنا لمجتمعاتنا لوجدنا أن أغلب الناس لا يلتزمون ببعض جوانب الإسلام، مع أن الإسلام هو منظومة متكاملة، والخلل في بعض جوانبها يؤدّي بالإنسان إلى الخروج عن الاستقامة على الطريقة التي يريدها اللّه عزّ وجلّ.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنه واللّه ما من عمل يقرّبكم من النار إلّا وقد نبأتكم به

ص: 464


1- الكافي 2: 105.

ونهيتكم عنه، وما من عمل يقرّبكم إلى الجنة إلّا وقد نبأتكم به وأمرتكم به»(1). وفي حديث يبيّن الإمام الصادق(عليه السلام) شمول الإسلام لكل جوانب الحياة، قال فيه: «إن عندنا لصحيفة سبعين ذراعاً، إملاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخط علي(عليه السلام) بيده، ما من حلال ولا حرام إلّا وهو فيها حتى أرش الخدش»(2).

ولو عمل المجتمع الإسلامي بكل تلك الأحكام لكان خيراً له، قال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}(3).

ثانياً: التصرف الصحيح

لم يخلق عزّ وجلّ شيئاً عبثاً، وإنّما خلق كل شيء لمصلحة وحكمة ومنفعة، واللّه عزّ وجلّ لم يخلق إلّا الخير، وإذا كان هناك شر فإنّما هو بسبب سوء تصرف المخلوق. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(4) وقد ورد في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»(5)، فإذا صار هذا الشخص يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فإنّما بسبب أبويه، وإلّا فإن أصل خلقه كان خيراً على الفطرة.

وإذا تصرف الإنسان تصرفاً صحيحاً فإنه يستمر، ويزداد خيراً، أمّا إذا تصرفبشكل غير سليم فإنه سوف يحوّل الخير إلى شر، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ

ص: 465


1- بحار الأنوار 74: 143.
2- بصائر الدرجات: 142.
3- سورة النساء، الآية: 66.
4- سورة الروم، الآية: 41.
5- عوالي اللئالي 1: 35.

الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)، فالقرآن الكريم يكون للمؤمن رحمةً وشفاءً، وللظالم خصماً وذلك بسبب سوء تصرفه، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(2).

مثلاً: مجموعة من الناس خرجوا على أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، بالرغم من أنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم، ولكن نتيجة لفهمهم المغلوط للقرآن الكريم خرجوا على إمام زمانهم فشقوا شقاءً دائماً. إذ لا تكفي قراءة القرآن دون فهم معانيه وتدبرها، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»(3).

إن اللّه عزّ وجلّ خلق كل شي في الإنسان لمصلحته، كالصفات النفسانية التي قدّرها في الإنسان، كالخوف من الضرر، فالخوف نعمة، ولكن إذا حدث فيه إفراط أو تفريط فسوف ينتج عنها الضرر، فإذا كان الإنسان يخاف أكثر من اللازم فهو الجبن، وإذا كان يخاف أقل من اللازم فهو التهوّر، فذلك تفريط وهذا إفراط؛ إذ عادةً ما يلقي المتهورون بأنفسهم إلى التهلكة، أمّا الجبناء فهم يضيعون على أنفسهم فرصاً كثيرة.

فالخوف نعمة من اللّه تعالى لكن بشرط أن لا يتجاوز عن حده المعقول، وفي المثل (كل شيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده).

فالتاجر المتردد الذي لا يقدم على أي مشروع تجاري لأنه يخاف الضرر، سوف يخسر رأس ماله، كذلك الحال مع التاجر الذي يجازف أكثر من اللازم،ومن دون مراعاة للموازين الاقتصادية، فإنه قد يخسر تجارته أيضاً، ولا يعني ذلك

ص: 466


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- سورة إبراهيم، الآية: 28.
3- مستدرك الوسائل 4: 249.

أنه إذا جازف مرّة ونجح فإنه يفعل ذلك دائماً، لكن إذا تصرف التاجر ضمن الموازين الاقتصادية فسوف يربح عادة.

إن الآيات القرآنية تأمرنا بالالتزام بما فيها من وعظ، وقد تكون هناك صعوبة، وقد يكون هناك احتمال للضرر، فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي: جاهدوا، فعندما يجاهد الإنسان فربما يُقتل، فهناك احتمال للضرر، {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم}، أي: هاجروا، وهذا ما لم يفعله إلّا قليل منهم؛ لأنهم كانوا يرون أن فيه ضرراً، أو احتمال الضرر؛ ولذا كان بعض المسلمين يترك الجهاد والهجرة، أو أي حكم آخر، ولكنه لو التزم بما يوعظ به لكان خيراً له، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}(1).

إذن، حتى لو كان هناك احتمال لحدوث بعض الأضرار التي تطال الإنسان بسبب التزامه ببعض الموازين الشرعية، إلّا أن الإقدام والالتزام بالوعظ يكون نفعه أكثر. فقد يترك الإنسان حكماً شرعياً خوفاً من أن يقع في الضرر، لكنه يقع في ضرر أكبر، أو في مفسدة، قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(2).

لقد تقاعس بعض المسلمين عن الجهاد، ولم يخرجوا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) طلباً للراحة، إلّا أن عاقبتهم أصبحت سيئة، وصار بعضهم أسوأ حالاً في الدنيا، ناهيك عن عذاب الآخرة؛ لأن بني أمية عندما سيطروا على الحكم منعوهم حقوقهم واستأثروا عليهم وأحياناً قتلوهم وأذلوهم.

وهكذا عندما شاهد الإمام الحسن(عليه السلام) خذلانهم قال لهم: «كأني أنظر إلىأبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله اللّه لهم

ص: 467


1- سورة النساء، الآية: 66.
2- الكافي 5: 8.

فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم»(1)، فهؤلاء على باطلهم تمسكوا بموقفهم فوصلوا إلى السلطة، أمّا أنتم فقد ضيعتم حقكم فخسرتم كل شيء.

من هنا نعرف أن الحكم الشرعي قد يسبب ضرراً أثناء تطبيقه، لكن تركه يسبب ضرراً أكبر، فالطالب الذي يسهر الليل للدراسة والمذاكرة والمطالعة يقل نومه، وبذلك يحدث له ضرر جسماني وتقل راحته، لكن النتيجة أنه سينجح في الامتحان ويحصل على شهادة عالية، يستفيد منها في حياته، بينما الآخر الذي نام خوفاً من الضرر ولم يدرس أو يطالع ورفّه عن نفسه أكثر من اللازم، وشغل نفسه باللعب، وقضى أوقاته في اللّهو فسوف لا يحصل على النتيجة المرجوة.

ص: 468


1- علل الشرائع 1: 221؛ بحار الأنوار 44: 33.

(59) مقومات النظام المتكامل

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

إن النظام المتكامل الأمثل يتوقف على ثلاثة أمور:

الأوّل: المنهج الصحيح.

الثاني: القيادة الحكيمة.

الثالث: القاعدة التابعة المطيعة.

فإذا حدث خلل في إحدى هذه الأمور فإن النظام سوف يختلّ، فإذا لم يوجد منهج صحيح فلا يتمكن الناس من الوصول إلى النتيجة المرجوّة، وإذا لم يوجد قائد حكيم فأفضل المناهج وأفضل الناس لا يتمكنون من الوصول إلى النتيجة، وكذلك إذا لم توجد قاعدة واعية.

لو لاحظنا حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام) لوجدنا أن المنهج الذي أتبعه كان صحيحاً، وهو الإسلام الحقيقي، والقائد هو أمير المؤمنين(عليه السلام) الإمام المعصوم الذي لا يُخطئ في أيّ شيء، لكن كان هناك اضطراب مستمر؛ وذلك لعدم وجود القاعدة الواعية، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله:

ص: 469


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

«ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1).

بينما إذا اجتمعت هذه الثلاثة معاً - المنهج الصحيح والقائد الحكيم والقاعدة الواعية - فسوف تحقق النتيجة، واللّه سبحانه وتعالى ينزل نصره؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لا ينزل النصر اعتباطاً، بل يجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه، فإذا قام بواجبه فسوف ينصره اللّه سبحانه وتعالى.

أوّلاً: المنهج الصحيح

سؤال: هل أن اللّه سبحانه وتعالى أرسل نظاماً متكاملاً؟

والجواب: نعم، وهو نظام واحد من آدم(عليه السلام) إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2)، وعندما يقال: أديان إلهيّة فهذا تعبير غير صحيح، لأنه لا توجد أديان إلهيّة، وإنّما هو دين واحد لجميع الأنبياء، لأن الدين مكون من ثلاثة أشياء:

أوّلاً: العقيدة، فهي واحدة لا تختلف من آدم(عليه السلام) إلى الرسول محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فجميع الأنبياء والرسل كانوا يأمرون الناس ويرشدونهم إلى التوحيد والنبوة والمعاد وسائر أصول الدين.

ثانياً: الأخلاق، فهي لا تتغير، فالخيانة - مثلاً - أمر قبيح في جميع الشرائع، وهكذا الوفاء بالعهد - مثلاً - حسن دائماً، فالأنبياء(عليهم السلام) يدعون إلى فضائل الأخلاق، والنهي عن الرذائل، فلم يكن هناك فرق بين الأنبياء من هذه الجهة.

ثالثاً: أصول الأعمال، فلم يكن فرق بين الأنبياء من هذه الجهة، حيث كانوا يأمرون بالصلاة والزكاة، ويحرمون الفواحش. نعم، يوجد هناك اختلاف في

ص: 470


1- نهج البلاغة 1: 70.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.

بعض الأحكام الجزئية، وبعض الكيفيات، حسب الحكمة في كل زمان.

ثانياً: القيادة الحكيمة

وأمّا بالنسبة للقيادة الحكيمة فاللّه سبحانه وتعالى خلق آدم(عليه السلام) وجعله خليفة، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(1)، وخليفة الرجل من يخلفه في أعماله، فمن يريد أن يسافر يوصي شخصاً لكي يقوم بأعماله. إن اللّه سبحانه وتعالى أمر آدم(عليه السلام) بتطبيق ما أراده تعالى في الأرض؛ لذا أصبح خليفة اللّه فيها، فآدم(عليه السلام) هو أوّل البشر وهو خليفة اللّه وهذه الخلافة متصلة، فقد ورد في الأحاديث الشريفة: «لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته»(2). فالخلافة متصلة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.

ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى أنه عين خلفاء واصطفاهم، وخلّصهم من كل درن، فلا يوجد خلل في أخلاقهم وأعمالهم ولا في خلقتهم، فنحن نعتقد أنه لا يوجد نقص في الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، ولا في أي شيء من أمورهم حتى في الخِلقة، فمن الممكن أن يبتلي اللّه سبحانه وتعالى الإنسان بمرض أو بعاهة كعمى أو صمم، فهذا أمر طبيعي، لكن الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) لا يوجد فيهم هذا النقص(3)، لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يجعله فيهم، لكي لا توجد حجة عند أي

ص: 471


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- نهج البلاغة 4: 37.
3- وأمّا ما ورد في بعض الآيات فإنه لا يراد ظاهره، كما في قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [سورة يوسف، الآية: 84]، فليس المراد أن يعقوب(عليه السلام) أصبح أعمى، بل المراد أنه بان البياض فيهما لشدة البكاء، وأصيبتا بضعف، وضعف البصر ليس عيباً، وأمّا قوله تعالى: {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [سورة يوسف، الآية: 96] فلا يعني أنه كان أعمى ثم صار بصيراً، بل معناه أنه رجعت له قوة النظر الكاملة. وهكذا الحال بالنسبة لأيوب(عليه السلام)، حيث أصيب بمرض، ولكنه لم يؤثر على محياه وعلى شكله، وإنّما أصيب بضعف، حيث كان مضطراً أن يستلقي في البيت، ولكن مرضه لم يؤثر على ظاهره، ولم يوجب نفرة الناس منه. راجع: بحار الأنوار 12: 348.

فرد، فيقول: يا رب، أنا لم استمع لكلام هذا النبي لأني تنفّرت منه لمرضه أو لعاهته قال اللّه تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ}(1).

وعلى كل حال، فقد كان الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) أفضل الناس خِلقة، وأحسن الناس أخلاقاً وأفعالاً، فنحن نعتقد أن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) معصومون ليس في التبليغ فقط، بل في كل شيء، وحتى في أمورهم العادية، فهم لا يخطئون؛ وذلك لأن النبي خليفة اللّه، وقد اصطفاه اللّه سبحانه وتعالى، وعندما يصطفي اللّه شخصاً فلا يوجد فيه نقص.

إننا عندما نريد أن نختار شيئاً فلا بدّ أن نختار الأفضل، لأن اختيار غير الأفضل خلاف الحكمة، فكيف باللّه سبحانه وتعالى، فهل من المعقول أن يصطفي شخصاً غير الأفضل مع قدرته على الأفضل؟!

والإنسان العادي إذا اختار شخصاً ثم ظهر على خلاف ما اختاره فلا يلام لأنه لا يعلم بذلك، وهذا ممتنع بحق اللّه الذي يعلم بكل شيء، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}(2)، وقال عزّ وجلّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(3)، يعني الأئمة(عليهم السلام)(4)، فهل يعقل أن يصطفي اللّه فرداً

ص: 472


1- سورة النساء، الآية: 165.
2- سورة الحج، الآية: 75.
3- سورة فاطر، الآية: 32.
4- انظر: الكافي 1: 215، وفيه: ... عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قال: فقال: «ولد فاطمة(عليها السلام)، والسابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام».

ناقصاً؟!

إن اللّه سبحانه وتعالى ليس بعاجز حتى يصعب عليه الاصطفاء التام، بل هو قادر فلذا اصطفى الأفضل الأكمل، حيث نجد أن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) في القمة من كل شيء، فالقيادة الحكيمة موجودة، وليس للإنسان عذر في عدم اتباعها.

ثالثاً: القاعدة المطيعة

إن الدنيا دار امتحان، واللّه سبحانه وتعالى لم يجبرنا على الإيمان، ولم يكرهنا على العمل بالصالحات، وإنّما أرانا الطريق الصحيح، قال تعالى: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(1)، وقال: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}(2)، والمعنى أن اللّه علّمها ماهي التقوى وماهي الفجور، فالإنسان بعقله وبفطرته يعلم أن العدل حسن، والظلم قبيح - مثلاً - .

إن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يجبر الناس كلهم على الإيمان، قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3)، لكن حكمته اقتضت أن يكون الإنسان مختاراً، ومع ذلك فقد هيّأ اللّه سبحانه وتعالى له كل الوسائل لقبول الإيمان، حيث جعل فيه الفطرة والعقل وأرسل الأنبياء وجعل لهم أوصياء، وغير ذلك.

ص: 473


1- سورة البلد، الآية: 10.
2- سورة الشمس، الآية: 7-8.
3- سورة يونس، الآية: 99.

نقل لي أحد السادة أنه كان يدرس في جامعة في إحدى الدول الغربية وكان أحد الأساتذة من الملحدين، لكنه مع ذلك قال: إن دماغ الإنسان مبرمج على الاعتقاد بالخالق، وهذه مشكلتنا!! لكننا نقول: إن هذه هي الفطرة التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى في الناس، فمن لطفه أن أعطاه الفطرة والعقل، وبعد ذلك أرسل الأنبياء والرسل الواحد تلو الآخر، فالطريق مهيّأ، فإذا لم نتّبعه فالمشكلة فينا، وإلّا فاللّه سبحانه وتعالى هيّأ كل شيء ليقرّب الإنسان إلى الطاعة، ولكنه لم يجبره ولم يكرهه، حتى يتم الامتحان، ولو كان الإنسان مجبوراً فلا يكون هناك امتحان، ولا يصح عقابه عقلاً، فلو أنك أخذت إنساناً وألقيته في الماء من غير اختياره، ثم عاقبته لأنه ابتلّ بالماء، فهذا ظلم.

إن الإنسان مختار لذا يمكنه أن يختار الأصلح والأحسن، كما يمكنه أن يختار الأسوأ، وهنا يأتي دور الامتحان، وغالب الناس يختارون الأسوأ؛ لأن كل إنسان يدرك بفطرته الشيء الحسن، إلّا أنه طريق الصلاح والحسن فيه صعوبة.

لكن مع ذلك لا بدّ أن يكون الإنسان مع الصالحين، لأن الصالحين: «صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة»(1)، {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسَْٔلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَٰمَةِ}(2). فمن يريد أن يصبح طبيباً - مثلاً - فعليه أن يدرس ويترك الكثير من ملذّاته ويصرف مالاً كثيراً لكي ينال مراده.

الفرار عن المسؤولية

لكن غالب الناس يميلون إلى الدعة والراحة، ولذا نجدهم يخذلون الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، فكثير منهم يفرون من المسؤولية.

ص: 474


1- نهج البلاغة 2: 161.
2- سورة القيامة، الآية: 5-6.

فهذا عبيد اللّه بن الحر الجعفي رآه الإمام الحسين(عليه السلام) في طريق كربلاء فطلب نصرته، إلّا أنه لم يقبل، وقال: «واللّه يا بن بنت رسول اللّه، لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا أشدهم على عدوك، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أمية ومن سيوفهم، فأنشدك باللّه أن تطلب مني هذه المنزلة، وأنا أواسيك بكل ما أقدر عليه، وهذه فرسي ملجمة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً إلّا أذقته حياض الموت، ولا طُلبت وأنا عليها فلحقت، وخذ سيفي هذا، فو اللّه ما ضربت به إلّا قطعت.

فقال له الحسين(عليه السلام): يا بن الحر، ما جئناك لفرسك وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك، ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضداً؛ لأني قد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلّا أكبه اللّه على وجهه في النار»(1).

ثم بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) فإن عبيد اللّه بن الحر تداخله الندم حتى كادت نفسه تفيض، فقال:

فيا لكِ حسرةً ما دُمتُ حياً *** تَرَدَّدُ بين حلقي والتراقي

حسينٌ حينَ يطلبُ بذلَ نصري *** على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ

غداةَ يقولُ لي بالقصرِ قولاً *** أتترُكُنا وتَزمَعُ بالفِراقِ

ولو أني أُواسيه بنفسي *** لنِلتُ كرامةً يومَ التَلاقِ

مع ابن المصطفى نفسي فِداه *** تَوَلّى ثمّ وَدَّعَ بِانطلاقِ

ص: 475


1- الفتوح 5: 73-75.

فلو فَلَقَ التَلَهُّفُ قلبَ حيٍّ *** لَهَمّ اليومَ قلبي بانفلاقِ

فقد فاز الأُولى نصروا حسيناً *** وخابَ الآخرونَ أُولو النِفاقِ(1)

إنه لم يكن صادقاً في ندمه؛ لأنه لو كان صادقاً كان يمكنه أن يصلح ما أفسده؛ لأن التوبة هي الندم على الفعل والعزم على عدم العود وإصلاح ما أفسده والاستغفار، وإلّا لو قال شخص بلسانه: استغفر اللّه، لكنه يكرر نفس الذنب فهذا كالمستهزئ باللّه سبحانه وتعالى، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(2).

والحاصل: أن على الإنسان أن يتحمل المسؤولية، ولا يحق له أن يقول: أنا أنقذ نفسي فقط، ولا شأن لي بالآخرين، فإن هذا مرفوض في الإسلام، بل يجب عليه أن ينقذ نفسه وينقذ الآخرين، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}(3)، فالإنسان مسؤول عن نفسه وعن أهله، كذلك هو مسؤول عن المجتمع إذا تمكن من ذلك، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته»(4)، فإذا كان هناك أناس ضالون وجبت علينا هدايتهم إذا كنّا نتمكن من ذلك، وإلّا فسوف يحاسبنا اللّه سبحانه وتعالى يوم القيامة، ولا يحق للإنسان أن يعتذر ويقول: يا إلهي، قد فعلت ما أوجبته عليّ! لأنه سوف يقال له: كنت قادراً على هداية الناس فلماذا لم تفعل؟

ص: 476


1- بحار الأنوار 45: 355.
2- الكافي 2: 435.
3- سورة التحريم، الآية: 6.
4- عوالي اللئالي 1: 364؛ بحار الأنوار 72: 38.

تحمل مسؤولية الانتظار

لقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): المهدي منّا أهل البيت، يصلح اللّه له أمره في ليلة»(1)، فإذا وجد أنصاراً حقيقيين يتحملون المسؤولية الكاملة فسوف يظهر، لكن المشكلة أنه لا زال الأنصار الحقيقيين الذين هم بمستوى المسؤولية والمهمة أقل من العدد المطلوب، فمن الممكن أن يكون المؤمنون كثيرين، لكن الذي يكون قادراً على تحمّل تلك المسؤولية العظيمة قليل، فإذا كمل ذلك العدد فقد يأذن اللّه تعالى في ظهور الإمام(عليه السلام).

والحاصل: إن كل فرد منّا يجب أن يتحمل المسؤولية التبليغية أو المالية، أو غيرها ولا ينظر إقدام الآخرين، بل الآخرون مسؤولون أيضاً، وإذا لم يؤدِ الآخرون مسؤوليتهم فليس هذا مبرراً لنا في ترك مسؤليتنا.

ص: 477


1- كمال الدين وتمام النعمة: 152.

(60) الدين ظاهر وباطن

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوٰةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(1).

إن الأعمال مركّبة من أمرين: ظاهر العمل وروحه، فالصلاة - مثلاً - لها ظاهر وهو الحركات، سواء كانت حركات أعضاء الإنسان من الركوع والسجود، أم حركة لسانه في قراءة الحمد والسورة والذكر، فهذا جسم الصلاة، وأمّا روحها فهو الإخلاص؛ لذا فالمرائي على الرغم من أنّ ظاهر عمله جميل لكنه خالٍ عن الروح، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(2)، فعمل المرائي ليس فيه روح، ولذا يتحوّل إلى عقاب.

وكما أن الإنسان مركب من جسم وروح، ولا يمكنه الحياة بدون أيّ منهما، كذلك الدين لا معنى له بدون الأعمال الظاهرة والقلب السليم.

إنه ينبغي على الإنسان أن لا يغتر من الدعوات التي يرفعها بعض الناس الذين يريدون ترك طاعة اللّه تعالى، حيث يقول بعضهم: إن كان قلب الإنسان نظيفاً فهذا يكفي، صلّى أو لم يصلِّ!!

وهذا غير صحيح؛ لأن الدين له روح وجسم، وهما يشكلان الحياة، فهذا

ص: 478


1- سورة البينة، الآية: 5.
2- سورة الماعون، الآية: 4-7.

نظير أن يقول أحدهم: ليس المهم العمل بإشارات المرور إنّما المهم أن لا تحمل حقداً على سائر الناس سواء خالفت الإشارات أم لم تخالفها! فهل عاقل يقبل هذا المنطق؟!

كما أن البعض يسيء للمتدينين، ويقول: إنهم قشريون، أي: لا يهتمون بالباطن، وهذا غير صحيح، لأنه يجب الالتزام بالقشر - الظاهر - والباطن، فالفاكهة لها لب وعليها قشر، والقشر هو الذي يحفظ اللب، ولولاه لفسدت الفاكهة، فالقشر حافظ لها، فكما أننا نحتاج إلى القشر نحتاج إلى اللب، والدين كذلك فهو واقع وظاهر، والواقع بدون الظاهر لا يمكن، كذلك الظاهر دون الواقع لا يمكن، ولذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوٰةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(1)، فالإخلاص يعني أن تكون العبادة مخلصة للّه، والحنف هو الميل(2)، والحنيف: المائل إلى الدين المستقيم(3).

عبادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام)

لقد كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وهو خير الخلق - يصلّي حتى تورمت قدماه، فنزل قوله تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(4)، ومع ذلك قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(5)، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يواصل العبادة إلى لحظة رحيله.

ص: 479


1- سورة البينة، الآية: 5.
2- انظر: معجم مقاييس اللغة 2: 110.
3- انظر: معجم مقاييس اللغة 2: 110.
4- سورة طه، الآية: 1-2.
5- سورة المزمل، الآية: 1-4.

روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول اللّه، لِمَ تتعب نفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة، ألا أكون عبداً شكوراً»(1).

فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم، ولا تصدر منه معصية، بل لم يصدر منه مكروه، بل لم يصدر منه ترك الأولى، فالمراد من الذنب في قوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ}(2)- بقرينة ارتباطه بالفتح - هو الأمور الاجتماعية التي كان يعتبرها المشركون ذنباً وهي ليست بذنب شرعاً(3).

ص: 480


1- الكافي 2: 95.
2- سورة الفتح، الآية: 2.
3- لأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهاهم عن عبادة الأوثان كما أنه كان قائد الجيش في معركة بدر وأحد وحنين وغيرها، وهذا الجيش قتل كبار المشركين، كأبي جهل وعتبة وشيبة، فهذه ذنوب اجتماعية عندهم لا تُغفر، فلو أن إنساناً قتل والد إنسان آخر فلا يغفر له، لكن الناس يتغاضون عن هذه الذنوب الاجتماعية لأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصبح حاكماً وقد أحسن إليهم، فما يتصوّرونه ذنباً هو ليس بذنب، بل كان تنفيذاً لأمر اللّه سبحانه وتعالى، لكن الناس كانوا يتصوّرونه ذنباً، إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما حاربهم وقُتلوا في المعركة لأنهم هم الذين اعتدوا على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة التوبة، الآية: 13]، وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدافع عن نفسه، لكن مع ذلك فهذا يعتبر عندهم ذنباً لا يغفر، وفي الاحتجاج [1: 180]، ذكر احتجاج الإمام الرضا(عليه السلام) مع المأمون العباسي: «فقال المأمون: للّه درك يا أبا الحسن، فأخبرني قول اللّه عزّ وجلّ: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، قال الرضا(عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لأنهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستين صنماً، فلما جاءهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: {أَجَعَلَ الْألِهَةَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَىٰ ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْأخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَٰقٌ} [سورة ص، الآية: 5-7]، فلما فتح اللّه عزّ وجلّ على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة قال له: يا محمّد: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} مكة {فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللّه في ما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم ذلك مغفوراً بظهوره عليهم».

وأمّا أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(1)، وقد روي عنه أنه قال: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(2)، وقال(عليه السلام) في حديث آخر: «إن قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار»(3).

والحاصل: أن روح العبادة هو الإخلاص، والعمل دون إخلاص لا فائدة فيه، فهما متقارنان كجسم وروح، فينبغي علينا أن نجمع بينهما، ونستفيد من الفرص العظيمة التي حباها اللّه سبحانه وتعالى لنا.

ص: 481


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 317.
2- بحار الأنوار 67: 186.
3- نهج البلاغة 4: 53.

(61) أهمية العقيدة الصحيحة والعمل والأخلاق

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(1).

محاور الدين

إن الدين يتكون من ثلاثة أمور: العقيدة، والعمل، والأخلاق.

1- فأمّا العقائد: فهي الحقائق الثابتة التي لا بدّ من الإذعان بها، كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وأن الإسلام هو الحق، وهي التي ترسم للإنسان طريقته في الحياة وهي المحرك الأساسي له، ولو سألنا أحد زائري المدن المقدسة: ما الذي دفعك للسفر إلى هذه المدينة؟ فسيأتي الجواب: إن عقيدتي وإيماني بأهل البيت(عليهم السلام)، والسعي لكسب رضا اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يجعلني أذلّل الصعاب لأصل إلى هذه المدينة المقدسة أو تلك، أمّا ذاك الإنسان البعيد عن الأجواء الإيمانية إذا توجه إلى أماكن الرذيلة فلأجل أن عقيدته باللّه تعالى ضعيفة حتى وإن كان ينطق الشهادتين، فهي ليست سوى لقلقة لسان.

إذا كانت عقيدة الإنسان راسخة وصحيحة ولديه يقين راسخ فإن عمله سيكون مطابقاً لهذا اليقين، فإذا علمنا - مثلاً - أن هناك حيواناً مفترساً سيهجم علينا ونحن جلوس فسوف نقوم بخطوة وقائية للدفاع عن أنفسنا، لأننا نعلم أن الخطرمحدق بنا. لكن إذا لم نكن نعلم بذلك فسوف يداهمنا الخطر ونحن غافلون.

ص: 482


1- سورة آل عمران، الآية: 19.

2- وأمّا الأخلاق: فإن حياة الإنسان الاجتماعية تتوقف على أسلوب معين، ويعبَّر عنه بالأخلاق، وحسبما يقول علماء الأخلاق: إن الإنسان له صورة ظاهرة تسمى الخَلق، أي: شكل وجهه وأعضائه، وله صورة باطنية هي شخصية الإنسان، ويعبر عنها بالخُلُق.

3- أمّا بخصوص العمل، فكل الأنبياء(عليهم السلام) يدعون إلى ما يقرب الإنسان إلى اللّه سبحانه، وينهون عن ما يبعده عن اللّه تعالى.

ثم إن الكثير من الأشياء صفاتها ذاتية، فحسنُ العدل - مثلاً - ذاتي، وقبح الظلم ذاتي أيضاً؛ لذا فقد دعا جميع الأنبياء(عليهم السلام) إلى الفضائل والأعمال الحسنة، ونهوا عن الأعمال السيئة.

وهذه الحقائق ثابتة وغير قابلة للتبديل، فعبادة اللّه سبحانه وتعالى واجبة على الإنسان منذ خلق آدم(عليه السلام) إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وشكر المنعم واجب أيضاً، أمّا الظلم فهو قبيح دائماً والخيانة قبيحة دائماً.

إن هذه الأمور الثلاثة - العقيدة والعمل والأخلاق - هي التي يتكون منها دين جميع الأنبياء(عليهم السلام)، أمّا الفرق بين شرائع الأنبياء(عليهم السلام) فهو في بعض تفاصيل الشرائع، ولنذكر بعض الأمثلة:

فمنها: الصوم كان في بعض الشرائع السابقة هو الصمت، كما قالت مريم(عليها السلام): {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}(1)، لكن هذه العبادة منسوخة في شريعتنا، فلا يوجد صوم صمت.

ومنها: السجدة لتعظيم غير اللّه سبحانه وتعالى كانت جائزة في بعضالشرائع السابقة، لا سجدة عبادة إذ إنها خاصة باللّه سبحانه وتعالى دائماً، حيث

ص: 483


1- سورة مريم، الآية: 26.

لا تجوز عبادة غير اللّه، لذا ورد في سورة يوسف(عليه السلام): {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَٰجِدِينَ}(1)، لكن في شريعة الإسلام نسخ هذا الأمر؛ فلا يجوز السجود لغير اللّه سبحانه وتعالى، حتى لو كان للتعظيم.

ومنها: حرمة بعض أنواع الشحوم في شريعة موسى(عليه السلام)، إلّا أن عيسى(عليه السلام) أحلّه لبني إسرائيل بأمر اللّه تعالى، وهذا ما أشار له القرآن الكريم بقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(2)، لأن اللّه سبحانه وتعالى شدد على اليهود لأنهم كانوا متمردين ويحتاجون إلى تأديب، فصعَّب اللّه سبحانه وتعالى عليهم الأمر، ثم سهّل عليهم بعد ذلك.

إذن، فدين جميع الأنبياء(عليهم السلام) واحد، ولا يصح القول: إن دين موسى(عليه السلام) يختلف عن دين عيسى(عليه السلام)، أو إن دين عيسى(عليه السلام) يختلف عن دين نبينا محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بل كل الأنبياء(عليهم السلام) هم على طريقة واحدة؛ قال اللّه تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

والحاصل: إننا إذا أردنا أن نعيش حياة سعيدة فيجب علينا أن نركّز بشكل كبير على هذه المكونات الثلاثة؛ لأنه لو حصل أي خلل في عقيدة الإنسان فسوف ينسحب على عموم حياته، وفي الدعاء: «اللّهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللّهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني»(4).

ص: 484


1- سورة يوسف، الآية: 4.
2- سورة آل عمران، الآية: 50.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- الكافي 1: 337.

الخطوات اللازمة

من هنا علينا اتباع الخطوات التالية:

أوّلاً: أن نصحح عقائدنا في اللّه وفي رسوله والأئمة(عليهم السلام)، وفي سائر العقائد.

سؤال: ماذا جمع المؤمنون على حب أهل البيت(عليهم السلام)، مع شدة الامتحان في حبّهم فإذا لم يحبهم الإنسان ألقاه اللّه في نار جهنم لأن بغضهم نفاق، وإذا أحبّهم نال الأمَرَّين من الطغاة في طول التاريخ؟

الجواب: إن السبب هو أن المؤمنين أرادوا وجه اللّه والآخرة بحبهم واتباعهم لأهل البيت(عليهم السلام)، وإلّا لو أرادوا الدنيا فهي لدى أعداء أهل البيت(عليهم السلام) غالباً، فقد كانت بيد الأمويين والعباسيين والنواصب، ولكن المؤمنون تمسكوا بأهل البيت(عليهم السلام) رغم كل هذه التحديات والصعوبات؛ وذلك لأن أهل البيت(عليهم السلام) قمة في كل شيء، في الإيمان والعمل الصالح والأخلاق.

ثانياً: أن يكون عملنا صحيحاً، فنقوم بالعبادات ونؤدّي حقوق الناس، فقد يغفر اللّه تعالى - إن شاء - للمؤمن المذنب يوم القيامة إذا كان في أعماله زيادة أو نقصان وتشمله الشفاعة، لكن إذا تعلق الأمر بحقوق الناس فإنه يقال له: أرضِ الناس، ولا يتمكن أحد في يوم القيامة أن يُرضي الآخرين؛ لأن الناس جميعاً محتاجون، وقد ورد في الحديث الشريف: عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال: «يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي اللّه، ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي فإني لا أرى فيها طاعتي، فقال: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثميؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيها طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول: إن فلاناً اغتابك، فدفعت حسناته إليك»(1).

ص: 485


1- مستدرك الوسائل 9: 121.

وفي بعض الأحيان تحبط أعمال الإنسان، ولا يبقى له من عمله شيء، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(1)؛ لذا فإن انتهاك حقوق الناس كأكل أموالهم واغتيابهم يُعد ظلماً بحقهم، وأسوأ أنواع الظلم هو البغي، وخاصة ظلم الذي ليس له ناصر إلّا اللّه سبحانه وتعالى، فقد تكون للمظلوم - أحياناً - قوة معينة، كأن يدافع عن نفسه بعض الشيء، أو يصرخ ويشتكي، أمّا إذا كان يتيماً أو صغيراً، ويتصرف الآخرون بإرثه كيفما شاءوا، فمثل هذا العمل يُعد من أشد أنواع الظلم، وقد جاء في الحديث الشريف: «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا اللّه»(2)، وفي حديث آخر: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شي اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(3).

ثالثاً: أن تكون أخلاقنا حسنة، اقتداءً بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام).

مثلاً عندما نقرأ سيرة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في يوم صفين، نجد أن جيش معاوية منع الماء(4) عن جيش الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فأمر الإمام(عليه السلام) أن يهجموا على الشريعة ويستردوها، وعندما استردوا الشريعة أراد بعض أصحابالإمام(عليه السلام) أن يمنع أهل الشام من الماء، فلم يقبل الإمام(عليه السلام) بذلك(5).

ص: 486


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- الكافي 2: 331.
3- الكافي 2: 105.
4- انظر: بحار الأنوار 32: 439.
5- انظر: بحار الأنوار 32: 443، وفيه: «... فقال أصحاب علي(عليه السلام) له: أمنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، فقال: لا خلوا بينهم وبينه لا أفعل ما فعله الجاهلون فسنعرض عليهم كتاب اللّه، وندعوهم إلى الهدى، فإن أجابوا وإلّا ففي حد السيف ما يغني إن شاء اللّه، قال: فواللّه ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورواياهم، وروايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنساناً».

إن هذا الموقف وغيره يعزز تمسكنا بأهل البيت(عليهم السلام) لأنهم قمة في الأخلاق، فيجب علينا أن نتعلم منهم حتى نكون حقاً من شيعتهم، فإن مفردة (الشيعة) تعني التابعين. فشيعة أهل البيت(عليهم السلام) هم الذين يتبعونهم، فهم يخافون اللّه تعالى، ولا يرتكبون المحرمات، ويلتزمون بما قاله اللّه والرسول وأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

والحاصل: أنّا جمعنا هذه الأمور الثلاثة - العقيدة السليمة والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة - فإن ديننا يكون كاملاً، وأي خلل يحصل في بعضها يكون ديننا ناقصاً، فنحن نحتاج إلى المثابرة والسعي لكي نحقق هذا التكامل الذي يرضاه اللّه سبحانه وتعالى.

عرض أعمال العباد على النبي والأئمة (عليهم السلام)

إن أعمال الإنسان في الدنيا تعرض على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وهذا ما أشارت له الآية الشريفة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1)، أي: الأئمة(عليهم السلام)، وقد ورد ذلك في الكثير من الروايات:

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تعرض الأعمال على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها، وهو قول اللّه تعالى: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}»(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال: «تعرض أعمال الناس كل جمعة مرّتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلّا من كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا»(3).

ص: 487


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- الكافي 1: 219.
3- مستدرك الوسائل 12: 165.

وعن عبد اللّه بن أبان الزيات، وكان مكينا عند الرضا(عليه السلام) قال: قلت للرضا(عليه السلام): «ادع اللّه لي ولأهل بيتي فقال: أو لست أفعل؟ واللّه إن أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة، قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرأ كتاب اللّه عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}؟ قال: هو واللّه علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(1).

وظيفتنا

إذا كان الإنسان جالساً في مكان ما ويعلم أن هناك كاميرا تراقبه فإنه يحاول أن يكون عمله صحيحاً، خوفاً من أن تؤخذ له صورة وتنتشر، فتكون له فضيحة أمام الناس، وأمّا أمام اللّه سبحانه وتعالى والرسول والأئمة(عليهم السلام) فالأمر أسوأ، فلذا على الإنسان:

أوّلاً: أن يصحح صورته الباطنية، فإذا وجد في نفسه حسداً فليحاول أن يزيله من نفسه، وهكذا باقي الصفات والخصال.

وثانياً: يجب عليه أن يصحح عمله وصلاته وصومه، ومعاملته مع الناس ومع أسرته، فيصحح الزوج علاقته مع زوجته، وكذلك الزوجة مع زوجها، والأب مع أبنائه، والأم مع أبنائها وبالعكس، بحيث يكون عمله مرضياً للّه سبحانه وتعالى،وليكون يوم القيامة أبيض الوجه، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(2).

وثالثاً: يلزم عليه أن يصحح نيته، فإن أي شيء أسرّه في نفسه يظهره اللّه يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٖ وَلَا نَاصِرٖ}(3).

ص: 488


1- الكافي 1: 220.
2- سورة آل عمران، الآية: 106.
3- سورة الطارق، الآية: 9-10.

واللّه سبحانه وتعالى يوفّق الإنسان إذا سار بطريقة صحيحة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(1)، فالشخص الذي يسير بالطريقة الصحيحة يزيده اللّه هداية، وبالعكس فإذا سار شخص بطريقة عوجاء يتركه اللّه وشأنه فيزداد اعوجاجاً، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2).

فإذا كانت الخطوة الأولى صحيحة فاللّه يدفع الإنسان للهداية، وإذا كانت غير صحيحة فاللّه سبحانه وتعالى يخذله، ونتيجة ذلك أنه ينغمس في أوحال الرذيلة، ويكون هو المسبب لذلك، لأن اللّه عادل لا يظلم العباد، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(3).

ص: 489


1- سورة محمّد، الآية: 17.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة آل عمران، الآية: 182.

(62) دعائم الدين وأصوله

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(1).

أعمدة الدين

هناك بعض الأمور لها عماد، فإذا حدث خلل في هذا العماد فسوف تنهار، وأمّا إذا لم يحدث خلل في ذلك العماد، بل حدث خلل في أمور أخرى فلا تنهار، مثلاً: إذا كان سقف الدار يعتمد على أعمدة فإذا انهدمت فسوف تخرب الدار، لكن إذا حدث خلل في غير الأعمدة - كالجدار مثلاً - فلا تسقط الدار، ولكن قد يحتاج إلى ترميم.

والأمور المعنوية كذلك، فقد تكون هناك أمور هي أعمدة لذلك الشيء المعنوي، وقد تكون هناك أمور جانبية، مثلاً: ورد في الحديث الشريف: «بُني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية»(2). فالإسلام هو الشهادتان - الشهادة بالتوحيد والشهادة بنبوة رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وللإسلام أعمدة خمسة بعضها من

ص: 490


1- سورة النساء، الآية: 140.
2- الكافي 2: 18.

أصول الدين وبعضها من فروعه.

آيات اللّه

إن الآية هي العلامة، فكل مقطع من القرآن الكريم يسمى آية؛ وذلك لأنه علامة ودليل إلى اللّه سبحانه وتعالى، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) آية وعلامة للّه سبحانه وتعالى، والأئمة(عليهم السلام) آيات اللّه تعالى، والأحكام الشرعية آيات؛ لأن الإسلام يعتمد عليها، فإذا حصل حول هذه الآيات خلل في قلب الإنسان أو عمله فسوف ينهار دينه؛ ولذا جعل اللّه سبحانه وتعالى قدسيّة لآياته، لكي لا ينهار الدين في قلوب الناس.

محاربة آيات اللّه

اشارة

إن الذين يريدون إضلال الناس عن دينهم إنّما يبدأون بالآيات؛ لأنها إذا انهارت في قلب إنسان فسوف ينهار الدين عنده؛ ولنذكر أمثلة من أعظم آيات اللّه تعالى وموقف الأعداء منها:

1- رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

نلاحظ أن المشركين في الصدر الأوّل بدأوا بشخص الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ لأن الرسول هو أعظم آية للّه سبحانه وتعالى، فاتهموه بتهم باطلة، مثلاً قال تعالى: {وَقَالُواْ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(1)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}(2).

ص: 491


1- سورة الفرقان، الآية: 5.
2- سورة النحل، الآية: 103.

والحاصل: إنه إذا خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قلب إنسان فسوف ينهار الدين في قلب ذلك الإنسان.

وهذا الأسلوب يستخدمه المبطلون منذ قديم الزمان وإلى يومنا هذا، فمن يريد محاربة الإسلام يبدأ بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

إن الإسلام في حالة انتشار سريع، لأنه نور، وكل ذي عقل يراه، فلا نحتاج إلى البراهين والأدلّة لإثباته، كما أن الإنسان البصير لا يحتاج لدليل على وجود الشمس لو كانت طالعة. نعم، إذا كان هناك شخص أعمى فنقول له: إن الشمس طالعة الآن ونستدل له، وأمّا إذا كان له عين ويبصر فلا يحتاج لدليل لإثبات الشمس؛ لأن رؤيتها تكفي، فكذلك الإسلام لا يحتاج لدليل؛ لأن نوره يراه كل من كان له عقل، حيث يدخل التوحيد قلبه، قال تعالى: {وَلَٰكِن جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ}(1).

نعم، الكثير من الناس بسبب الشبهات حدث على قلوبهم غطاء فلا يرون نور الإسلام فلذا لا بدّ من إزالة ذلك الغشاء ليروه، وعموم الناس غير معاندين، حتى الكفار منهم، ولذا لو بُيّن له الإسلام بصورة صحيحة فسوف يقتنعون به.

إن الإسلام يكتسح العالم، ولذا نرى الأعداء يفكرون في كيفية إيقاف مدّه، وأمّا نور الإسلام فلا يمكنهم إطفائه، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2)، وقال عزّ وجلّ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(3) لكن حاولوا أن يجعلوا بين الناس

ص: 492


1- سورة الشورى، الآية: 52.
2- سورة التوبة، الآية: 32.
3- سورة الصف، الآية: 8.

وبين الإسلام حجباً لكي لا يروا هذا النور بقلوبهم.

قيل: إنه في بعض الدول غير الإسلامية ولإيقاف انتشار الإسلام بين الناس وخلال الأربعين سنة الماضية ألّفت الآلاف من الكتب ضد شخصية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وظاهر مطالبها صيغت بشكل منطقي، ولكن باطنها وواقعها كذب وافتراء وتزوير ومغالطة، فهناك حملة شعواء وُجّهت لشخصية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث حاولوا تشويه صورته في أذهان الناس.

وعلى كل حال، فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعظم آية من آيات اللّه، ولذا حاولوا إسقاط هذه الآية، فإذا سقطت فلا يبقى متدين، ولا يوجد إنسان يقبل الإسلام.

2- أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)

فهم أعظم آيات اللّه بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والدين يتوقف عليهم، فإذا أصبحت شخصيات الأئمة(عليهم السلام) في أذهان الناس شخصيات عادية فسوف لا يكون تأثير لكلامهم عليهم.

إن بعض الناس لا يتمكن أن يشهر عداءه لأمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام)، مع أنه من النواصب؛ لذا تجده يحاول أن يقلل من مكانة أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام).

لقد كان بعض المنافقين يبغض أمير المؤمنين(عليه السلام)، لكنهم يظهرون غير ذلك، ولذا نزل القرآن الكريم لكي يبين حالهم، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(1)، فعن أبي سعيد الخدري في قوله جل وعز {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} قال: ببغضهم علي بن أبي طالب»(2).

ص: 493


1- سورة محمّد، الآية: 30.
2- شواهد التنزيل 2: 248؛ وانظر: الدر المنثور 6: 66؛ فتح القدير 5: 40؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 360.

فالمنافق يُعرف من لحن القول، حيث يحاول أن يضعّف أي فضيلة لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد يكون ذلك من خلال تضعيف السند، أو تعميم الفضيلة لبقية المسلمين بالتزوير، كذلك الحال بالنسبة لشخصية الأئمة(عليهم السلام)، كل ذلك لأجل إسقاط آيات اللّه عزّ وجلّ.

3- القرآن الكريم

إن القرآن هو من أعظم آيات اللّه تعالى، وكونه آية يتجلّى في كل آياته، مثلاً لا اختلاف في القرآن أبداً، قال اللّه تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(1)، فقد نزل القرآن الكريم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلال ثلاثة وعشرين عاماً، وفي ظروف مختلفة، وحالات مختلفة، وقد تطرق القرآن لكثير من الأمور، ومع ذلك فلا يوجد فيه أي اختلاف، ولم يكن فيه أي تناقض، وهذا من علائم صدقه، وأنه من اللّه سبحانه وتعالى، فإنه لا يوجد هناك مؤلّف إلّا ويوجد تناقض في ما ألّفه خلال فترة حياته، إلّا إذا كان معصوماً؛ لأن الإنسان العادي تتحكم فيه الظروف، فعلمه يتغير من يوم لآخر، ويتبدل رأيه بعد ذلك، فقد يكون ذا رأي غير صحيح ثم يتغير، وقد يحصل العكس.

وحيث لم يتمكن المشركون من الإتيان بمثل القرآن أكثروا من الافتراء عليه كقولهم إنه سحر وإنه أساطير وإنه مأخوذ من كتب الآخرين، وإنه ليس قول اللّه تعالى وغير ذلك من الأباطيل التي أجاب عنها ودحضها القرآن نفسه.

4- أحكام الشرع

إن أحكام الشرع آيات للّه وعلائم؛ لأنها صحيحة مائة بالمائة وقد أنزلها اللّه تعالى، بينما الأحكام الوضعية على خلاف ذلك.

ص: 494


1- سورة النساء، الآية: 82.

والفرق بين الأحكام الوضعية وبين الأحكام الشرعية هو أن الحكم الوضعي وضعه مجموعة من الناس، حيث يجلسون ويضعون قانوناً، وكثيراً ما بعد فترة يتبين خطأ هذا القانون فيغيّرونه، أو يتبين خلله فيحاولون أن يكملوه بتشريع جديد؛ وذلك لأنهم يرون جانباً ويغفلون عن جوانب أخرى، وهذا شيء طبيعي.

لكن أحكام اللّه تعالى صحيحة قطعاً وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو عالم بكل خصوصياته، ويعلم ما يصلحه ممّا يفسده؛ لذا شرّع أحكاماً تناسبه، فتارة أصدرها اللّه مباشرة وهي الفرائض وأخرى علّمها اللّه تعالى رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأصدرها الرسول بأمر اللّه وهي السنن(1).

إن أحكام الشرع متطابقة مع الواقع مائة بالمائة، وهي متطابقة مع فطرة الإنسان، ومع تركيبته الجسدية والنفسية والعقلية والروحية، وهذه الأحكام قوام الدين، فإذا وجدنا شخصاً يتشهّد الشهادتين ولكنه لا يتورع عن المحرمات، ويترك الواجبات فهذا مسلم بالظاهر، لكنه في الواقع ليس بمسلم؛ لأنه لو كان

ص: 495


1- إن التشريع للّه سبحانه وتعالى، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتعليم وإذن من اللّه سبحانه وتعالى يشرع أيضاً، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشرّع إلّا أن تشريعه ليس اعتباطاً، وإنّما لمصلحة، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ أدب نبيه على محبته فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} [سورة القلم، الآية: 4]، ثم فوض إليه فقال عزّ وجلّ: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [سورة الحشر، الآية: 7]، وقال عزّ وجلّ: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء، الآية: 80]، قال: ثم قال: وإن نبي اللّه فوّض إلى علي وائتمنه فسلّمتم وجحد الناس، فواللّه لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن في ما بينكم وبين اللّه عزّ وجلّ، ما جعل اللّه لأحد خيراً في خلاف أمرنا» [الكافي 1: 265]، فاللّه أدّب نبيه بآدابه وفّوض إليه دينه، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصدر الأحكام، لكن بتعليم من اللّه سبحانه وتعالى، وهذا تشريف للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم). إن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يشرّف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويرفع من شأنه؛ لذا فوّض إليه بعض الأحكام، وعلمه إياها، فالحكم تارة يصدر من اللّه مباشرة، وهذه هي الفرائض، وأخرى يصدر من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتعليم وإذن من اللّه، وهذه سنن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

مسلماً واقعاً لالتزم بالأحكام الشرعية.

إننا نرى بعض الناس يفعل بعض الأحكام ويترك بعضها، حيث نراه يصلّي لكنه يغتاب الناس، ويصوم لكنه يأكل أموال الناس بالباطل، ويحج لكنه يأخذ الربا، فمثل هذا الإنسان في إسلامه ضعف ونقص.

إن التنقيص من أحكام اللّه وآياته أو التشكيك فيها يصب في الجانب الذي يراد منه إزالة الدين؛ فكل حكم من أحكام اللّه سبحانه وتعالى مقدس، أمّا إذا بدأ الإنسان يشكك في بعض الأحكام ويستهزئ بها فهذا استخفاف بآيات اللّه سبحانه وتعالى.

إن البعض قد يستهزئ ببعض الأحكام الشرعية، كبعض المستحبات، لكن ليعلم أن هذه الأحكام ذكرها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الأئمة(عليهم السلام) عن اللّه سبحانه وتعالى، فلا بدّ أن نسلّم بها، سواء عرفنا العلة أو الحكمة منها أم لا.

إن كثيراً من الأحكام لا نعلم عللها، وإنّما نعلم أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى حكيم فلا يحرم شيئاً إلّا لمفسدة فيه، ولا يوجب شيئاً إلّا لمصلحة فيه، ولا يحكم بالاستحباب إلّا لوجود مصلحة غير ملزمة، ولا يحكم بالكراهة إلّا لوجود مفسدة غير ملزمة.

نعم نحن قد لا نعلم عللها، إمّا لأن الرسول والأئمة(عليهم السلام) بينوا ذلك ولكن لم يصل إلينا، أو إنهم لم يبينوا لأن الحكمة أو العلّة أرفع مستوى عقولنا، وعدم فهمها ليس دليلاً على أنها باطلة؛ لأن كثيراً من حقائق الكون لا نفهمها ولا نعرفها، وعدم معرفتنا بها لا يغيّر من الواقع شيئاً. فمن لا يعترف بقانون الجاذبية - مثلاً - فجهله هذا لا يغير من الواقع شيئاً، وهكذا حال الأحكام الشرعيّة، فمن لا يعترف بها ويخالفها فإن أثر المخالفة سوف يترتب عليه شاء أم أبى.

فلو كان هناك من لا يعترف بوجود اللّه، فلا يغير من الواقع شيئاً، بل لو أن

ص: 496

جميع الناس كفروا فلا يغير من الواقع شيئاً، واللّه سبحانه وتعالى لا يتضرر من ذلك بل هذا المنكر هو الذي يعيش حياة صعبة في الدنيا ومصيره في الآخرة النار فهو الذي تضرر.

إن الناس لم يقبلوا بالسلطة الظاهرية لأمير المؤمنين والأئمة(عليهم السلام)، إلّا أن هذا لم يضر الأئمة(عليهم السلام)، بل إن الناس هم الذين تضرّروا؛ بل إن اللّه سبحانه وتعالى صيرها نعمة على الأئمة(عليهم السلام)، فعن المعلى بن خنيس قال: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) يوماً: جعلت فداك، ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم، فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم، فقال: هيهات يا معلى، أما واللّه أن لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة الليل وسياحة النهار، ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنّا، فهل رأيت ظلامة قط صيرها اللّه تعالى نعمة إلّا هذه»(1).

وذلك لأنه يجب على الحاكم أن يعيش كضعفاء الناس ومساكينهم في مأكله ومشربه ومسكنه، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليَّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه»(2).

إن الإمام الصادق(عليهم السلام) لو كان حاكماً كان يلزم عليه أن يلبس اللباس الخشن، ويأكل الطعام الجشب، لكن إذا لم يكن حاكماً فهذا الحكم مرفوع عنه، فالإمام(عليه السلام) يقول: إن هؤلاء ظلمونا وأزاحونا عن السلطة؛ ولذا رفع اللّه هذا الحكم الصعب عنا، ونحن مظلومون نثاب على ظلامتنا، ولذا قال(عليه السلام): «فهل رأيت ظلامة قط صيرها اللّه تعالى نعمة إلّا هذه»، بمعنى أنني الآن لست مضطراً

ص: 497


1- الكافي 1: 410.
2- الكافي 1: 410.

أن آكل الطعام الجشب وألبس الثياب الخشنة، وإنّما أعيش حياة عادية، لكن في الوقت نفسه أثاب على ظلامتي.

إن أحكام اللّه سبحانه وتعالى مقدّسة، والمبطلون يحاولون إزالة هذه القدسية؛ لأنّه عندما تكون هناك هالة من القدسية فسوف يرتبط بها الإنسان، وأمّا إذا لم تكن موجودة فلا يرتبط بها، مثلاً: إذا رأينا أحد العظماء فإننا نحترمه ونحاول أن لا نقوم أمامه بحركة غير لائقة، لكن إذا لم نعرفه فلا نحترمه الاحترام اللائق به.

كذلك الحال بالنسبة لأحكام الشرع؛ لذا يحاول المبطلون اتباع كل الطرق لإزالة هذه الهالة المقدسة الموجودة حول الأحكام.

حواجز بين الإنسان والمحرمات

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل حول المحرمات حواجز، لكي لا يقع الإنسان فجأةً فيها، ومن جملة تلك الحواجز الاستبشاع، أي: كون الأمر بشعاً، لذا يحاول أعداء الدين أن يزيلوا حالة الاستبشاع من المحرّمات.

رأيت في تقرير أن إحدى القنوات الفضائية المعروفة تبث أفلام وفيها مشاهد من شرب الخمر ومحرمات أخرى، وهذا الأمر يتكرر في الأسبوع الواحد عشرات المرّات، وعندما يتكرر الأمر مرّات كثيرة فسوف يزول الاستبشاع، ويكون شرب الخمر في نظر المشاهدين أمراً عادياً؛ وخاصة من صدور ذلك من الشخصيات المحبوبة في الأفلام! وبعد ذلك يكون ارتكابه أمراً يسيراً من هؤلاء المشاهدين.

وهكذا الحال بالنسبة للواجبات، فلها هالة من القدسية، فإذا سمعنا أن المرأة الفلانية تركت الحجاب فسوف نستبشع ذلك، لكن في بعض المجتمعات

ص: 498

الأخرى لا يستبشعون؛ لأن الأمر أصبح عادياً.

والحاصل: إنه يجب أن نجعل هالة من القدسية حول آيات اللّه، قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ}، فإذا رأينا في مكان ما شخص يستهزئ باللّه أو الرسول أو الإمام، أو بحكم من الأحكام الشرعية، فيجب علينا أن لا نجلس معه حفاظاً على قدسيتها لأننا لو جلسنا معهم لصدق علينا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}، أي: يكون الجالس منافقاً، والعاقبة هي: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(1)، عصمنا اللّه وإياكم من الزلل.

ص: 499


1- سورة النساء، الآية: 140.

(63) الإسلام والموازنة بين الجانبين المادي والروحي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1).

إن للإنسان عقل وشهوات عكس الملائكة والحيوانات، فالملك ليس فيه من الشهوات شيئاً، وإنّما هو روحاني فقط، بينما الحيوان ليس له إلّا شهواته وغرائزه. إن اللّه سبحانه وتعالى أوجد في الإنسان هاتين الخصلتين؛ فإذا تمكن من أن يجمع بينهما فهو بذلك يحقق ما أراده اللّه سبحانه وتعالى منه، ولكن إذا قدّم الإنسان جانب المادة على جانب المعنويات - أي: قدم الحياة الشهوانية على الحياة الروحانية - فإنه حين ذاك يكون أسوء من الحيوان، قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(2) وقال عزّ وجلّ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(3)، لأن الحيوان لا يمتلك العقل، ولكن الإنسان حباه اللّه تعالى بالعقل؛لذا فهو يدرك قبح كثير من الأمور، فإذا انغمس في الشهوات والملذات وترك

ص: 500


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- سورة الأعراف، الآية: 179.
3- سورة الفرقان، الآية: 44.

الجانب الروحي والجانب المعنوي فحينئذٍ يصير أردأ من الحيوان.

أمّا إذا ترك الجانب المادي وانغمس في الروحانيات فقط، أو صار راهباً فقط، فإن هذا الشخص يصير عدو نفسه، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}(1).

ورد في نهج البلاغة: من كلام له(عليه السلام) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، ... فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال: عليَّ به، فلما جاء قال: يا عُدَيّ(2) نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللّه أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. قال: ويحك، إني لست كأنت، إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(3).

فهذا الرجل ترك الجانب المادي، وانعزل عن أهله وزوجته، وانشغل بالعبادة ليلاً نهاراً، ولا يأكل إلّا ما يسد رمقه، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»(4).

عندما جاء الإسلام أعطى لكل صفة من هاتين الصفتين - الصفة المعنوية والمادية - حجمها المناسب، حيث أطّر الشهوات بالإطار الشرعي؛ لذا يمكنللإنسان أن يقوم بالكثير من الأمور الدنيوية وأن يتمتع بالدنيا وملذاتها ولكن في

ص: 501


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- عُدَيّ تصغير عدوّ.
3- نهج البلاغة 2: 187.
4- نهج البلاغة 3: 70.

إطار الشرع، وكذلك قيّد الجهة الروحانية بتقييدات خاصة فشرّع عبادات خاصة ونهى عن البدع فيها، وشرعها بكيفية لا تضرّ بحياة الإنسان.

التخلّص من الرذائل

لقد جاء الدين لمساعدة الإنسان لكي يتخلص من كثير من الشهوات الباطلة، مثل نزعة الحقد، أو نزعة الانتقام، أو الميل لتقييد حريات الآخرين المشروعة، وأمثال ذلك، وكذا ليتوجه إلى المعنويات والعبادات في إطارها الصحيح.

نماذج من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)

مثلاً: نلاحظ أن أمير المؤمنين(عليه السلام) واجه مختلف الصعوبات والمشاكل في فترة حكمه الظاهرية القصيرة وهي خمس سنوات، فتعامل معها ضمن الإطار الشرعي الصحيح بالحلم والعفو ونحو ذلك على الرغم من أنه كان قائداً، وفي يده الأمر والنهي، ولنذكر بعض النماذج:

النموذج الأوّل: ابن كوّا من الخوارج وكان يؤذي أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى في صلاته، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أن علياً(عليه السلام) كان يوماً يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة، فجهر ابن الكواء من خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1)، فلما جهر ابن الكواء من خلفه بها سكت علي(عليه السلام)، فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي(عليه السلام) فأتم قراءته، فلما شرع علي(عليه السلام) في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية، فسكتعلي(عليه السلام)، فلم يزالا كذلك يسكت هذا ويقرأ ذاك مراراً حتى قرأ

ص: 502


1- سورة الزمر، الآية: 65.

علي(عليه السلام){فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(1)، فسكت ابن الكواء وعاد علي(عليه السلام) إلى قراءته»(2).

ومعنى الآية هو أن البعض من الذين لا يؤمنون بالآخرة يريدون أن يدفعوك كي تستخف بالموازين الشرعية، ومع ذلك لم يعاقبه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد الصلاة، ولم يقطع(عليه السلام) عطاء الخوارج من بيت المال، فكما كان يعطي الأموال للمسلمين كان يعطي للخوارج.

النموذج الثاني: الجماعة الذي بايعوا الضبّ على أنه إمامهم، وكانوا من المنافقين، فعن الأصبغ بن نباتة، قال: «أمرنا أمير المؤمنين(عليه السلام) بالمسير إلى المدائن من الكوفة، فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر، فخرجوا إلى مكان بالحيرة يسمى الخورنق، فقالوا: نتنزه، فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علياً(عليه السلام) قبل أن يجتمع، فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب فصادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال: بايعوا هذا أمير المؤمنين، فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، فارتحلوا ليلة الأربعاء، فقدموا المدائن يوم الجمعة وأمير المؤمنين(عليه السلام) يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً حتى نزلوا على باب المسجد، فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أيها الناس، إن رسول اللّه أسرَّ إليّ ألف حديث، لكل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت اللّه جل جلاله يقول: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(3)،وإني أقسم لكم باللّه ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضبّ، ولو

ص: 503


1- سورة الروم، الآية: 60.
2- بحار الأنوار 33: 345.
3- سورة الإسراء، الآية: 71.

شئت أن أسميهم لفعلت، قال: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما يسقط السعفة حياء ولوماً وجبنا»(1).

النموذج الثالث: عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إن علياً (صلوات اللّه عليه) يوم البصرة لمّا صفّ الخيول قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتى أعذر في ما بيني وبين اللّه تعالى وبينهم، فقام إليهم فقال لأهل البصرة: هل تجدون عليّ جوراً في الحكم؟ قالوا: لا - إلى أن قال(عليه السلام) - ثم ثنى إلى أصحابه فقال: إن اللّه يقول في كتابه: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}(2)، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واصطفى محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة، إنكم لأصحاب هذه الآية، وما قوتلوا منذ نزلت»(3).

النموذج الرابع: عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنه خطب بالكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلّا اللّه، فسكت أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا قال: كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم ألفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به، وأشهد لقد أخبرني النبي الصادق(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن الروح الأمين، عن رب العالمين، أنه لا يخرج علينا منكم من فئة قلّت أو كثرت إلى يوم القيامة، إلّا جعل اللّه حتفها على أيدينا، وإن أفضل الجهاد جهادكم،وأفضل المجاهدين من قتلكم، وأفضل الشهداء من قتلتموه، فاعملوا ما أنتم

ص: 504


1- بحار الأنوار 41: 286.
2- سورة التوبة، الآية: 12.
3- مستدرك الوسائل 11: 63.

عاملون، فيوم القيامة يخسر المبطلون، {لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(1)»(2).

وفي المقابل إذا تصفحنا كتب التاريخ سنلاحظ أن الحكام والجبابرة والطواغيت عندما كانوا يظنون بشخص سوءاً كانوا يأمرون بتعذيبه أو قتله فوراً، والأمثلة في هذا المجال كثيرة ولا تخفى على الجميع.

ففي إحدى البلدان الإسلامية يحاسب الشخص إذا سبَّ الحاكم، فيُحكم عليه بالسجن عشر سنوات، وليست ثمة ضمانات ما إذا كان سينجو من السجن أم لا، وقد لاحظنا كثيراً من الحكام المعروفين بالبطش والقسوة لمجرد الظن، أو أن تُرفع لهم تقارير عن شخص ما، بأن هذا الشخص سبَّ الحاكم، أو صدر منه كلام لا يليق بذلك الحاكم - حسب زعم كاتب التقارير - ثم يُحكم عليه بالإعدام، أو التعذيب أو النفي، في حين نلاحظ أن أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي يجسد الإسلام، لا يلحق الأذى أو العقوبة بمن يسبه، وحتى في حروبه(عليه السلام)، فقد أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بقتال، بل يدافعوا عن أنفسهم إن بدأوهم أولئك بالقتال.

والحاصل: أن الإسلام جاء ليجمع بين الصفتين الموجودتين في الإنسان - المادة والروح - لكي يتمتع بحياة سعيدة ومستقرة، فعندما كان المسلمون متمسكين بالمبادئ الإسلامية، التي هي مبادئ إنسانية فُطِر عليها الإنسان، كانوا لا يعانون من مشاكل كاليوم، وعندما تركوا المفاهيم الإسلامية وتمسكوا بقوانين الشرق والغرب نلاحظ أنهم فقدوا الجانب الروحي والمادي معاً.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(3)، أي:

ص: 505


1- سورة الأنعام، الآية: 67.
2- مستدرك الوسائل 11: 65.
3- سورة طه، الآية: 124.

إنه يعيش حياة صعبة، وهذا ما حدث للكثير من المسلمين في العصر الراهن.

والخلاصة: إن الإسلام جاء لكي يساعد الإنسان على أن ينظر للحياة وأشياءها بعينه اليسرى واليمنى معاً، فينظر بالعين اليسرى إلى الجوانب المادية، وبالعين اليمنى إلى الجوانب الروحانية والمعنوية، قال اللّه تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(1) وقال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

ص: 506


1- سورة القصص، الآية: 77.
2- سورة البقرة، الآية: 201.

(64) الأمة الإسلامية أفضل الأمم

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ * لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى اختار الأمة الإسلامية لتكون أفضل الأمم وخيرها، لكن الأفضلية فيها جانبان: الأوّل: الاصطفاء من اللّه. والثاني: العمل من الناس.

الجانب الأوّل: الاصطفاء

وهذا الجانب خاص بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة(عليهم السلام)، لأن الاصطفاء هو أخذ صفو الشيء فلا يكون فيه نقص ولا خلل ولا إشكال لا في خَلقه ولا في خُلقه ولا في فكره ولا في أعماله، وهذا يلازم العصمة، واللّه تعالى اصطفى النبي والأئمة(عليهم السلام) ليكونوا قادة الأمة الإسلامية.

والاصطفاء صنع اللّه تعالى، لكنه سبحانه حكيم فقد اختبرهم فكانوا خير الناس باختيارهم، وحيث كان اللّه يعلم بذلك أزلاً خلقهم مصطفين فكان الاصطفاء من حين خلقهم، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «أن بعض قريش قال لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم): بأي شيء سبقت الأنبياء، وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟

ص: 507


1- سورة آل عمران، الآية: 110-112.

فقال: إني كنت أوّل من آمن بربي وأوّل من أجاب حيث أخذ اللّه ميثاق النبيينوأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فكنت أنا أوّل نبي قال: بلى، فسبقتهم بالإقرار باللّه عزّ وجلّ»(1)، والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى كان يعلم منذ الأزل أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باختياره سيكون أوّل من يجيب نداءه؛ لذا من حين خلقه اصطفاه وجعله نوراً حول عرشه.

وكذلك الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)، حيث قال اللّه تعالى فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَٰتِ}(2) فهم الذين اصطفاهم من بين عباده فأورثهم علم الكتاب، فالعباد بعد الرسول إمّا مصطفى سابق بالخيرات وهو الإمام وإمّا مقتصد وهو المؤمن العارف بالإمام وإمّا ظالم لنفسه وهو الذي لا يعرف الإمام، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «السابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد: العارف للإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام»(3).

وقال سبحانه وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(4)، والأمّة الوسط هم الأئمة(عليهم السلام)، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن الأمة الوسطى ونحن شهداء اللّه على خلقه وحججه في أرضه»(5).

إن البعض زعم أن المراد بالآية جميع المسلمين، وقال: إنها تشهد على الأمم

ص: 508


1- الكافي 2: 10.
2- سورة فاطر، الآية: 32.
3- الكافي 1: 214.
4- سورة البقرة، الآية: 143.
5- الكافي 1: 190.

الأخرى، إلّا أن الإمام الصادق(عليه السلام) رد ذلك، فقال: «فإن ظننت أن اللّه عنى بهذهالآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفترى أن من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وهم الأمة الوسطى وهم خير أمة أخرجت للناس»(1). فمن لا تقبل شهادته في باقة من الخضروات - لأنه كذاب - فكيف يكون شاهداً يوم القيامة على جميع الناس؟!

الجانب الثاني: الاتّباع

ثم إنه سبحانه جعل الأمة الإسلامية خير الأمم لكن بشروط، فمن توفرت فيه لحق بالأئمة(عليهم السلام)، ومن لم تتوفر فيه فليس منهم، فهذه الأمة أفضل من الأمم السابقة، وحتى من بني إسرائيل الذين يخاطبهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(2)، وهذا في زمانهم، لكن هل أن بني إسرائيل الذين عبدوا العجل تشملهم هذه الآية؟ كلا، فالمقصود هم المؤمنون من بني إسرائيل، وكذلك الأمة الإسلامية فهي خير أمّة لكن يُقصد منها المؤمنون، الذين توفّرت فيهم الشروط التي وردت الآية، وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان باللّه سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فإذا توفرت هذه الشروط فسوف تكون الأمة الإسلامية لاحقة بالأئمة(عليهم السلام) وفي الزيارة الجامعة: «واللازم لهم لاحق»(3).

ص: 509


1- بحار الأنوار 23: 350.
2- سورة البقرة، الآية: 47.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 612.

إن الإيمان وحدة واحدة ليس قابلاً للتجزّؤ، فإذا كان شخص يعتقد باللّهولكن لا يعتقد بالأنبياء فهو كافر؛ لأن الاعتقاد باللّه يتضمن تصديق اللّه سبحانه وتعالى في كل شيء، ومنه تصديقه في رسله، فإذا كذّب الإنسان الرسل فهذا لم يكن مصدّقاً للّه سبحانه وتعالى، لذا فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ}(1)، فأهل الكتاب كافرون مع أنهم يؤمنون باللّه، لأنهم يؤمنون باللّه ولا يؤمنون برسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهذا في الواقع ليس إيماناً باللّه، وإنّما هو تكذيب للّه سبحانه وتعالى.

والحاصل: إن الإنسان المسلم إذا ائتمر بالمعروف وأمر به، وانتهى عن المنكر ونهى عنه، وآمن باللّه إيماناً كاملاً غير متجزئ فسوف يلحق بخير أمّة، وإذا كان كذلك فقد وعد اللّه سبحانه وتعالى النصر، قال تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(2).

إلّا أن الأكثر لم يأتمر بالمعروف فضلاً عن الأمر به، ولم ينتهِ عن المنكر فضلاً عن النهي عنه، ولم يؤمن باللّه إيماناً صحيحاً، فبعضهم يقول ذلك باللسان، لكن قلبه ليس مطمئناً بالإيمان. فهذه الشروط لم تتوفر بعد؛ لذا لم تكن خير أمّة من حيث المجموع.

واللّه سبحانه وتعالى وعد هذه الأمّة بقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}، فإذا جابه الإنسان المؤمن أهل الكتاب وهو يملك هذه الشروط، التي شرطها اللّه سبحانه وتعالى عليه، فلن يضروه شيئاً، و(لن) لنفي التأبيد.

ثم قال تعالى: {وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}. فإذا لم نلتزم بهذه

ص: 510


1- سورة البقرة، الآية: 85 .
2- سورة محمّد، الآية: 7.

الشروط - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الصحيح باللّه سبحانهوتعالى - فسوف لا نلحق بخير أمة، ولنتوقع الضرر من الأعداء.

إن اللّه سبحانه وتعالى وعد الناس بالجنة لكن بشرط الإيمان والعمل، وكذلك وعدنا بقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} لكن بشرط، فإذا لم نلتزم بالشرط فلا يتحقق هذا الوعد، هذا بالنسبة إلى المسلمين.

وأمّا بالنسبة إلى أهل الكتاب الذين يحاربون المؤمنين فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ}، ففي كل بقعة من بقاع الأرض وجدوا كانوا أذلّاء ثم يستثني اللّه تعالى فيقول: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} فاللّه أوعدهم بالذلة لكن بشرط، فأهل الكتاب يكونون أذلّاء إلّا أن يتصلوا بحبل من اللّه، أو بحبل من الناس، والحبل من اللّه يعني الإيمان، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1)، فمن آمن من أهل الكتاب كان خيراً له، ولذا قال تعالى: {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم}، وهذا يعني أن الكتابي إذا آمن فسوف ترتفع عنه هذه الذلّة. وأمّا معنى {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} فيعني الارتباط بقوّة عظمى، وبجهات تساعده.

إننا نرى اليوم اليهود الذين سيطروا على فلسطين، وقتلوا الناس الأبرياء وهجّروهم، وفعلوا ما فعلوا، وجرائمهم مستمرة إلى يومنا، فلا يرقبون العهود الدولية، ولا قرارات مجلس الأمن، والسبب من جهة المسلمون أنفسهم - باستثناء القليل - ، فالمنكرات منتشرة في مجتمعاتنا، وكثير من الواجبات متروكة، والإيمان باللّه ضعيف، ومن جهة أخرى نرى اليهود متصلين بحبل من الناس، وهي القوى

ص: 511


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

العظمى الذي تدعمهم، سياسياً ومالياً وعسكرياً وغير ذلك.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى وعدنا بقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} لكن بشرط، واللّه سبحانه وتعالى أوعدهم بالذلة في الدنيا بشرط أن لا يتصلوا بحبل من اللّه أو بحبل من الناس.

فيجب علينا أن لا نترك أحكام اللّه سبحانه وتعالى، ونحصر التدين في زاوية معينة، كأن يصلّي المسلم ويصوم ويحج، وغير ذلك، فهذا تدين، وهذه هي أركان بُني الإسلام عليها، لكن الإسلام ليس منحصراً فيها، فالقرآن الكريم فيه أكثر من ستة آلاف آية، ولكن آيات الأحكام هي خمسمائة آية، أي: أقل من عُشر القرآن.

الأحكام الإسلامية

إن الشريعة الإسلامية تختلف عن بقية الشرائع، فالارتباط بالإنسان يبدأ قبل الولادة إلى ما بعد الموت، فقد جاء في الحديث الشريف: «تزوجوا في الحجز(1)

الصالح، فإن العرق دساس»(2)، وقال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إياكم وخضراء الدمن(3)، قيل: يا رسول اللّه وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»(4)، فقبل أن تنعقد النطفة هناك تشريع لكيفية انعقادها، وهذه التكاليف مستمرة إلى أن يُوضع الإنسان في قبره، وهناك أحكام حتى بعد أن يوضع في قبره، فللإسلام حكم في كل صغيرة وكبيرة، فقد يكون الحكم واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً.

ص: 512


1- الحجز، بالكسر والضم: العشيرة، العفيف، الطاهر.
2- مكارم الأخلاق: 197.
3- الدمن: جمع دمنة وهي ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها، أي تلبده في مرابضها فربما نبت فيها النبات الحسن النضير.
4- الكافي 5: 332.

إن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يربط الإنسان بالإسلام في حياته كلها، وليس مثلالكنيسة، حيث يذهب النصارى إليها يوم الأحد فقط، ولمدة ساعة أو ساعتين، وبعد ذلك يذهب ويودع ربه لمدة أسبوع! بينما الإسلام هو نظام حياة في كل شيء.

إلّا أن مما يؤسف له أن أغلب المسلمين ليس لهم نظام إسلامي، مع أن اللّه سبحانه وتعالى جعل لنا نظاماً في كل شيء، في أكلنا ونومنا وزواجنا، وذهابنا وإيابنا، في حركتنا وسكوننا، وعندما تجتمع هذه الأحكام تشكل نظام حياة لا خلل فيه.

فاللّه سبحانه وتعالى لم يحرّم كل شيء، ولا أوجب كل شيء، حتى لا يحدث عسر وحرج، لكن هذا ليس معناه أن الإنسان يترك كل شيء. ورد في الحديث الشريف: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة»(1)، فالمصلحة موجودة، وكذلك الملاك موجود، إلّا أن السواك ليس واجباً، ولكن على الإنسان أن لا يترك السواك، فتكون أسنانه قذرة إلى أن تصاب بالتسوس.

إن كثيراً من الأمور غير واجبة، لكن لا ينبغي تركها، وكثير من الأمور غير محرّمة لكن لا ينبغي فعلها، فينبغي فعل المستحبات بشرط أن لا تكون هناك مشقّة، فالسواك ليس بواجب في كل يوم، لكن هذا لا يعني أن يتركه الإنسان دائماً.

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ}(2)، والإحسان ليس واجباً، وإنّما العدل هو الواجب، لكن هذا لا يعني أن يترك الإنسان الإحسان، فإذا تُرك الإحسان فسوف ينهار دين الناس، فلو دخلنا إلى بلد ولم نجد فيه مسجداً أو حسينية أو مشروعاً خيرياً، فهذا البلد لا يمكن أن يكون بلداً مؤمناً،

ص: 513


1- الكافي 3: 22.
2- سورة النحل، الآية: 90.

وبمرور الزمان يخرج عن الإيمان؛ لأن هذه الأمور تحفظ الإيمان؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «إن لكل ملك حمى، وحمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(1)، وفي حديث آخر: «أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت»(2)،

والمكروهات حمى للمحرمات، والمستحبات حمى للواجبات، فإذا عمل الإنسان المكروهات باستمرار فيوشك أن يقع في المحرّمات، وإذا ترك المستحبات باستمرار فيوشك أن يقع في ترك الواجبات.

غزوة أحد

إننا نرى اليوم المظالم التي تجري في العالم الإسلامي، فالحروب جارية منذ سنين، إمّا بين المسلمين أنفسهم، أو أن الطرف الخاسر هو المسلم عادة، حيث القتلى والجرحى، والحروب انتهكت حرمات المسلمين، فلماذا؟

والجواب: ما بيّنته آيات في سورة آل عمران، ففي غزوة أحد حيث وعد اللّه سبحانه وتعالى المسلمين بالنصر ولكن بشرط، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3)، فالمسلم أعلى في الدنيا والآخرة، لكن شرطه: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، فيجب على المسلم أن يؤمن باللّه ورسوله ليس باللسان فقط، وإنّما بالعمل والطاعة أيضاً. فقبل أن تبدأ غزوة أحد خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يختار الموقع المناسب للحرب، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلْقِتَالِ}(4)، فاختار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الموقع المناسب، فقد كان جيش

ص: 514


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- وسائل الشيعة 27: 167.
3- سورة آل عمران، الآية: 139.
4- سورة آل عمران، الآية: 121.

المشركين أربعة أضعاف عدد المسلمين أو أكثر، وكان المسلمون ألف رجل، إلّاأن بعضهم خذلوا رسول اللّه، فتأخر منهم ثلاثمائة مع المنافق عبد اللّه بن أبي، وبقى معه سبعمائة، بينما كان عدد المشركين ثلاثة آلاف، وفي رواية خمسة آلاف، وكانت عدّة المشركين أكبر من حيث الخيل والسلاح، وكان الدافع أقوى، حيث إنهم يريدون الانتقام لقتلاهم في غزوة بدر، وعندما خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المدينة اختار الموقع المناسب الاستراتيجي، حيث كان الجبل خلف المسلمين لكي لا يبتلي المسلمون بالمشركين من كل الجهات، وإنّما تكون الحرب من جهة واحدة، وكان هناك ثغر - شعب - في الجبل، فجعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على هذا الشعب خمسين رجل من الرماة لكي لا يباغتهم المشركون بالهجوم من الخلف، وقال للرماة: إن انتصرنا أو انهزمنا فلا تتركوا هذا الموقع.

وعندما بدأت الحرب كان النصر حليفاً للمسلمين؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى وعدهم بالنصر: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(1)، فقد نصرهم اللّه لأنهم امتثلوا أمر اللّه تعالى وأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكن بمجرّد أن انهزم المشركون وجاء وقت جمع الغنائم خالف هؤلاء الخمسون أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إلّا اثني عشر منهم، حيث تركوا الثغر، فاستغل المشركون ذلك، وهجموا من الخلف على المسلمين، فلما رأى المنهزمون من المشركين ذلك رجعوا فحاصروا المسلمين من جهتين وحدث ما حدث، حيث قُتل سبعون رجلاً من المسلمين، وانهزم أكثر المسلمين، قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ}(2).

ثم إن أولئك المنهزمين جاءوا في ما بعد واعترضوا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! مع

ص: 515


1- سورة محمّد، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 153.

أن جوابهم هو: إن اللّه وعدكم بالنصر إذا أطعتم، أما وقد عصيتم أمره فلا نصر.

ثم إن المشركين أرادوا أن يغيروا على المدينة ويقتلوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقضوا على الإسلام، فنزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمره بالرجوع وبمتابعة قتال المشركين.

وفي بحار الأنوار: أنه «لمّا دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة نزل عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمّد، إن اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة، فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منادياً ينادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، مَنْ كانت به جراحة فليخرج، ومَن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها، ... فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، فلما بلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء، قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع فنغير على المدينة، فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعنون حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر، فقال: تركت محمّداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم أحد الطلب، فقال أبو سفيان: هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا، واللّه ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة لأمتار لأهلي طعاماً، قال: هل لك أن تمر بحمراء الأسد وتلقى أصحاب محمّد وتعلمهم أن حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش، حتى يرجعوا عنا، ولك عندي عشرة قلائص أملؤها تمراً وزبيباً، قال: نعم، فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أين تريدون؟ قالوا: قريشاً، قال: ارجعوا فإن قريشاً قد اجتمعت إليهم حلفاؤهم ومن كان تخلف عنهم وما أظن إلّا وأوائل خيلهم يطلعون عليكم الساعة، فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل، ما نبالي، ونزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ارجع يا محمّد، فإن اللّه قد

ص: 516

أرعب قريشاً، ومروا لا يلوون على شيء، فرجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينةوأنزل اللّه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إلى قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}(1)»(2).

والحاصل: في غزوة أحد في الجولة الأولى انتصر المسلمون لمّا أطاعوا، وفي الجولة الثانية انهزموا لمّا عصوا، وفي الجولة الثالثة - في حمراء الأسد - انتصروا لمّا رجعوا إلى الطاعة، لأن المشركين قفلوا راجعين.

فالوعد بالنصر بشرط الإطاعة. فإذا أردنا أن ينصرنا اللّه سبحانه وتعالى على أعدائنا فلا بدّ أن نلتزم بالشرط.

لقد أنزل اللّه سبحانه وتعالى ألفاً من الملائكة في غزوة بدر، فنصروا المسلمين، وهكذا وعدهم في غزوة أحد لكن بشرط أن يثبتوا، قال تعالى: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(3)، فقد وعدهم اللّه لكن بشرط وهو: أن تصبروا وتتقوا، فهل التزموا بالشرط؟ إن الأكثر لم يلتزموا بهذا الشرط، فقد خالفوا أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث تركوا مواقعهم، وخالفوا أمر اللّه تعالى حيث فرّوا من المعركة قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ}(4).

الخلاصة: إذا أردنا أن نكون لاحقين بخير أمة، وأرادنا أن ينصرنا اللّه سبحانه وتعالى، وإذا أردنا الحصول على المقامات العالية في الآخرة، وإذا أردنا أن نكون من الأعلين، فلا بدّ أن نلتزم بالشروط التي أرادها اللّه، ونعمل بأحكام اللّه

ص: 517


1- سورة آل عمران، الآية: 172-173.
2- بحار الأنوار 20: 64-66.
3- سورة آل عمران، الآية: 125.
4- سورة الأنفال، الآية: 16.

سبحانه وتعالى في كل شيء، ولا يحق للإنسان أن يقول: أنا وحدي فما الفائدة؟فقد قال اللّه تعالى: {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(1).

إن الأمة لا تنتصر إلّا بإيمان الناس، فإذا أصبح شخص مؤمناً، وصار الثاني والثالث والرابع مؤمنين، وهكذا، فإن اللّه سبحانه وتعالى يرى أن هذه الأمة مؤمنة؛ لذا سوف ينصرهم، لكن إذا كان كل فرد يقول: إن الأمر لا يخصني فسوف لا ينصرنا اللّه، فقد ورد عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

إن معاوية كان يشن الغارات على بلاد المسلمين لكي يضعف دولة أمير المؤمنين(عليه السلام) وكانت طريقتهم أنهم كانوا يهجمون على المناطق الحدودية فيقتلون مجموعة من الناس وينهبون الأموال ثم يرجعون إلى الشام فوراً قبل أن يصل المدد، والأنبار من تلك المناطق التي أغار عليها جيش معاوية فقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «فيا عجباً واللّه يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً يُرمى، يُغار عليكم ولا تَغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويعصى اللّه وترضون»(3).

ص: 518


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- الكافي 2: 164.
3- نهج البلاغة 1: 68-70.

(65) عدم استصغار العمل للّه تعالى

إن اللّه سبحانه وتعالى قد يبارك في عمل بسيط، لا يعتبره الإنسان ذا أهمية، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى ينمّيه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(1). فقد تكون حبة واحدة فيضاعفها اللّه وتصير سبعمائة حبة، والأشجار العظيمة أصلها حبة واحدة، ولذا ورد في الحديث الشريف: «إن اللّه كتم ثلاثة في ثلاثة: كتم رضاه في طاعته، وكتم سخطه في معصيته، وكتم وليه في خلقه، فلا يستخفن أحدكم شيئاً من الطاعات، فإنه لا يدري في أيها رضا اللّه، ولا يستقلن أحدكم شيئاً من المعاصي فإنه لا يدري في أيها سخط اللّه، ولا يزرين أحدكم بأحد من خلق اللّه فإنه لا يدري أيهم ولي اللّه»(2)، فالإنسان لا يدري أي عمل من أعماله فيه رضا اللّه سبحانه وتعالى، لأنه قد يكون العمل القليل سبباً لدخول الجنة، وقد تكون الكلمة سبباً لهداية الملايين من الناس، ولو بعد مرور السنين.

يقول أحد الكتاب والمؤلفين: كنت طفلاً في السابعة من عمري، فرأيت والدك في كربلاء فسلّمت عليه فقال لي: ما هو اسمك، قلت له: فلان، قال: يلزم

ص: 519


1- سورة إبراهيم، الآية: 24.
2- وسائل الشيعة 15: 313.

أن تصبح كاتباً عالمياً، وتؤلف في المواضيع الاجتماعية، يقول: فعلقت هذه الكلمة في ذهني، وبدأت بالكتابة، وهو الآن من المؤلفين، وأغلب تأليفاته في المجال الاجتماعي.

فيجب على كل إنسان أن يعمل من موقعه، ولا يقول: أنا لا أتمكن أن أفعل شيئاً، بل كلنا يمكنه أن يفعل أي شيء، فإذا كانت النية صادقة فسوف يجعل اللّه البركة في العمل، وأغلب الأعمال العظيمة بدأت بأمور صغيرة، وأشياء جزئية، لأن اللّه سبحانه وتعالى هو مسبّب الأسباب، وهو يختار حملة لدينه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1)، فالأزمات والمآسي ليس فقط في يومنا هذا، بل بدأت من الصدر الأوّل ومن بعده، حيث بدأ معاوية بقتل أنصار أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وقال: (برئت الذمة ممن روى حديثاً من مناقب علي)(2)، فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم، لكن اللّه يؤيد دينه؛ لذا نرى أن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) منتشر، وفي صعود مستمر، بينما نرى النواصب في انتكاس مستمر، مع ما ينفقونه من أموال طائلة.

فاللّه سبحانه وتعالى يهيئ الأسباب، ويقيض أناساً حملة لهذا الدين، فينبغي علينا أن نكون منهم، فاللّه سبحانه وتعالى حكيم ويختار الإنسان المناسب، من خلال فعله ونيته الصادقة ومثابرته وعدم يأسه.

والحاصل: أنه ينبغي على الإنسان أن يعمل، ولا يحتقر العمل الصغير، فإن

ص: 520


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 174.

التوفيق والقبول من اللّه سبحانه وتعالى، فمن كانت عنده قابلية فاللّه يفيض رحمته عليه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(1)، وكذلك يفيض اللّه الهداية عليه أكثر.

ص: 521


1- سورة محمّد، الآية: 17.

(66) أحقية منهج الإسلام في التطبيق العملي عالمياً

اشارة

قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

بين القوانين التكوينية والتشريعية

خلق اللّه عزّ وجلّ الكون بالحق، وكل شيء في هذا الكون يسير بصورة صحيحة لا خلل فيه، وقد أودع اللّه تعالى في هذا العالم وكل العوالم ملايين، بل مليارات القوانين التكوينية وأكثر من ذلك، وكل الموجودات مجبرة تسير ضمن هذا النظام التكويني وقد استثنى اللّه تعالى في بعض الأمور الإنسان فجعله مختاراً في أفعاله، ولكن بيَّن له الأسلوب الصحيح، أو أسلوب الحق للسير عليه، وهو ما يسمى بالقوانين التشريعية، فإذا أراد أن يكون سعيداً عليه تطبيق هذه القوانين على حياته، وإن لم يفعل كان شقياً.

لقد قدّر اللّه تعالى الجاذبية في الدنيا - في الجانب التكويني - حيث يعيش الإنسان وسائر الموجودات وفقاً لقانون الجاذبية، فإذا أراد الإنسان أن يخالف ذلك بالقفز من شاهق فسيسقط على الأرض وتتهشم عظامه، وربما يتعرضللموت، لكنه إذا راعى هذا القانون ولم يخالفه فسوف يعيش بصورة طبيعية.

كذلك الحال في الجانب التشريعي، فقد بيّن اللّه تعالى للإنسان مجموعة

ص: 522


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

من القوانين، وقد ميّز اللّه تعالى الإنسان عن الحيوانات الاُخرى بالعقل؛ إذ جعل للحيوانات مجموعة غرائز تسوقها لتعيش عيشة هنيئة تنسجم مع طبيعتها، لكن الإنسان تميّز بفضل من اللّه تعالى بالعقل، وجعله مختاراً في تطبيق القوانين التشريعية، التي إذا طبقها في حياته يكون سعيداً في الدنيا والآخرة، أمّا إذا لم يطبقها فسيتضرر جراء ذلك.

مشكلة العنوسة

مثلاً: إن العزوبة والعنوسة تُعد من المشاكل الكبرى في البلدان الإسلامية وغيرها، فهناك عشرات الملايين من الشباب والشابات ممن لم يتمكنوا من الزواج، لكن لماذا حدث هذا؟

والجواب: هو أن اللّه تعالى جعل مجموعة قوانين تشريعية لكن المشكلة في عدم تطبيقها من قبل المسلمين، فاللّه تعالى لا يتضرر جراء ذلك، إنّما المجتمع الإسلامي هو مَن يتضرر.

يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه»(1)، فهل مجتمعنا ملتزم بهذا الحديث الشريف؟ فإذا خطب شاب فقير لكنه متدين وخلوق بنت رجل غني، فهل يوافق على تزويج ابنته منه؟

يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(2)، وكلمة (ذكري) تشمل جميع سنن اللّه تعالى.

الحق يفرض نفسه

ولكن لنعلم أنه سواء طبقنا النظام الصحيح أم لم نطبقه فإنه سيفرض نفسه ولو

ص: 523


1- الكافي 5: 347.
2- سورة طه، الآية: 124.

بعد حين؛ لأن اللّه تعالى خلق الدنيا على الحق، والحق يفرض نفسه ويكون هو المنتصر في نهاية المطاف، وهذا نظير الاختراعات فإنه حينما تستجد اختراعات جديدة لا يتقبّلها أكثر الناس، لكنها بعد حين تفرض نفسها.

إن النظام الإسلامي متكامل، لكن الناس بعيدون عنه؛ لذا نلاحظ أن المشاكل في العالم كثيرة، حتى في الدول المتقدمة، لكن بعد حين سيصلون إلى أن الصحيح هو ذلك النظام الذي كانوا يرفضونه لأي سبب من الأسباب.

إذن، إذا كان الأمر صحيحاً فسيفرض نفسه لأنه حق، وتكون سعادة الإنسان في الدنيا قبل الآخرة متوقفة عليه، فلماذا لا نطبقه اليوم قبل الغد، بل ننتظر الآخرين يطبقونه؟!

يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، وهذه الآية لا تبيّن أمراً إعجازياً غيبياً فقط لكنها أيضاً تبيّن إحدى سنن اللّه تعالى التي أودعها اللّه تعالى في الكون.

إن الدين يعني الطريقة، فإذا كان الدين صحيحاً فسوف يفرض نفسه ليظهر على الدين كله، والطريقة الصحيحة ستتغلب على كل الطرق الاُخرى الباطلة، فما دام الإسلام هو الصحيح وهو الحق فإنه سيفرض نفسه.

وفي الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إذا قام قائمنا وضع اللّه يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم»(2).

إن البعض يتصور أن هذا إعجاز فحسب لكننا نقول إن كونه بالإعجاز لا ينافي كونه سنة أودعها اللّه تعالى في الكون أيضاً، لأنه لمّا يكون الحاكم عادلاً والعلم

ص: 524


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.
2- الكافي 1: 25.

منتشراً بين الناس تترقى العقول وتتفتق القابليات.

قد يسأل البعض: إنه لماذا بدأ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في السنوات الأخيرة بالانتشار أكثر من ذي قبل، فهل السبب غيبي؟

والجواب يكمن في أن غالب الناس - سابقاً - كانوا أميين، كما أن وسائل الاتصال لم تكن موجودة، وأمّا الآن فقد انتشر العلم، وهذا هو السبب الذي أدّى بالناس إلى المطالعة، وقراءة الكتب، وبذلك عرف الكثيرون أن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) هو الحق.

فحاصل معنى الآية: أن اللّه عزّ وجلّ أرسل رسوله محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والإظهار في اللغة (الغلبة)(1)، فإذا تغلب جيش على جيش آخر يُقال (ظهر عليه)، يقول اللّه تعالى حول المشركين: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}(2) بمعنى إن يتغلبوا عليكم.

نعم، في زمن ظهور الإمام الحجة(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) ستكون الغلبة الكاملة لهذا الدين من كل الجهات.

فعلينا أن نسير ضمن هذه المنظومة المتكاملة للشريعة الإسلامية، وهي ليست منحصرة بالحدود الشرعية، فقد تسمعون في الأخبار والإذاعات إن بعض الحركات الإسلامية في شرق البلاد الإسلامية وغربها تنادي بتطبيق الشريعة، ويقصدون بذلك إجراء الحدود الشرعية كقطع يد السارق وجلد الزاني، لكنالإسلام ليس منحصراً في هذا الأمر، بل هو واسع ويشمل كل نواحي الحياة، فهذه الحدود هي آخر الحلول، كما يقال: (آخر الدواء الكي)، ففي القرآن

ص: 525


1- مفردات ألفاظ القرآن 1: 540.
2- سورة التوبة، الآية: 8.

الكريم يوجد لدينا أكثر من ستة آلاف آية، لكن الآيات التي تتعلق بالحدود أقل من عشر آيات، وهذا يعني أن أكثر من ستة آلاف آية كريمة أخرى تدور حول مسائل أخرى.

اختيار الإنسان

إن اللّه عزّ وجلّ الذي خلق الإنسان فصّل له ما يناسبه، كثوب فصّله خياط ماهر على مقاس جسم الإنسان، لكن يبقى على الإنسان أن يطبق تلك الأمور؛ لأن اللّه تعالى ميّز بين الإنسان والحيوانات، حيث أودع سبحانه الغريزة في الحيوانات وهي لا تحتاج إلى عقل، فتمشي على الطريقة التي أرادها اللّه عزّ وجلّ لها، لكن اللّه أعطى الإنسان العقل وهداه النجدين؛ لذا يفترض به أن يطبق الأمور التي أرادها اللّه عزّ وجلّ بالطريقة الصحيحة، وإذا لم يطبقها ستكون نتيجته ما قاله اللّه سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1)، أي: صعبة.

إن حياة أغلب المسلمين غير هانئة ولا سعيدة، ذلك لأنهم ابتعدوا عما قاله اللّه عزّ وجلّ، وقاله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، حتى البعض تراه متديناً في جانب واحد، مثلاً: تراه يقيم الصلاة في أوقاتها، ويلتزم بالصوم، وإذا كان قادراً يذهب إلى الحج، أمّا حين ندخل في المجالات الأخرى فلا تجد من الإسلام إلّا القليل فهل علاقته مع عائلته علاقة إسلامية صحيحة؟ وهل تعامله مع الناس سليماً بلا غش أو خداع؟ ثم هل يراعي الأخلاق والآداب الإسلامية في حياته؟

إن النظام الإسلامي متكامل، لكن إذا اتخذنا زاوية وتركنا أخرى فسوف نواجهالمشاكل، كالطائرة حين ترى مقاعدها كاملة، وهيكلها كاملاً لكن محركها عاطل، أو أن محركها جيد لكنها تخلو من الجناح، مع أن بقية الأجزاء قد تكون

ص: 526


1- سورة طه، الآية: 124.

كاملة، لكن لوجود نقص ما في هذه الطائرة فلا تتمكن من الطيران.

من هنا علينا أن نعي القرآن الكريم، وسنة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلام أهل البيت(عليهم السلام) ونطبقها تطبيقاً كاملاً، لكي يرحمنا اللّه عزّ وجلّ، مع أنه سبحانه يلطف بنا دائماً؛ لأن لطفه تعالى عميم علينا، ولكن حين نؤدّي التعاليم الإلهيّة ونلتزم بها يكثر هذا اللطف. وإذا لم نلتزم بها فيمكن أن نكفر بالنعمة، فينزل اللّه عزّ وجلّ علينا العذاب، لأن اللّه عزّ وجلّ يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(1).

إن هذا الأمر مرتبط بنا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فينبغي علينا والحال هذه أن نتعلم الإسلام كما هو، ونطبقه كما هو، فإن اللّه سينزل علينا نعمة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وهكذا، وإلّا فلا؛ لذا ينبغي أن ن أنلا نقول لبعضنا: (أنا لا شأن لي...)، لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2)، فالراعي ينبغي أن يكون يقظاً دائماً من أن يأتيه ذئب أو خطر، أو شاة تخرج عن القطيع. فكل فرد منّا مثله كمثل الراعي، يجب عليه أن يلتفت لما هو مطلوب منه، وهو مسؤول، فإذا انحرف أحد جيراننا أو شخص من أهل مدينتنا، فسوف يسألنا اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، هل كنت تستطيع منعه عن الانحراف أم لا؟ ربما لا يستطيع أحدنا فهو معذور، لأن اللّه تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّاوُسْعَهَا}(3)، و{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(4)، ولكن إذا كان الإنسان يتمكن

ص: 527


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- عوالي اللئالي 1: 129؛ بحار الأنوار 72: 38.
3- سورة البقرة، الآية: 286.
4- سورة الطلاق، الآية: 7.

من ذلك ولو بنسبةٍ ما لكنه لم يؤدِّ ما عليه، فسوف يحاسب ويشترك في ذلك الذنب والانحراف.

تحديات اليوم

اشارة

لذا ينبغي علينا أن نتعلم أحكام الإسلام، وهي تشمل كل مناحي الحياة، لأننا نعيش في وقت ينطوي على تحديات كبيرة، وهذه التحديات هي:

التحدي الأوّل: الحضارة الغربية.

التحدي الثاني: الإرهابيون.

التحدي الثالث: المنهزمون فكرياً.

1- تحدي الحضارة الغربية

أمّا التحدي الأوّل: فهو يتمثل بحضارة تختلف عن حضارة الإسلام في كثير من المفردات. - ومنها: جانب العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية - وهم يحاولون فرض حضارتهم علينا، ليس بالقوة فحسب وإنّما بأدوات أخرى أيضاً، ويعبّر عنها بالقوة الناعمة كالمحطات الفضائية والأرضية وعشرات الآلاف من الجرائد والمجلات والكتب، ومراكز الدراسات والمفكرين والمثقفين والندوات وغيرها، فعندما تجتمع هذه الأدوات والأساليب تجد أن نتيجتها تعميم ثقافتهم على العالم بأسره، فالعولمة تريد توحيد ثقافة العالم وفقاً لثقافتهم.

صحيح إن فكرنا أقوى، لأنه الحق والصحيح، ولكن إذا لم نعمل به سنُغلب بلا شك، كما لو أن الآخر بيده سيف وأنت بيدك بندقية، فإذا لم تستعمل بندقيتكسيغلبك في المعركة.

إن الحضارة الإسلامية هي الأقوى ولكننا بحاجة إلى تطبيقها، وبالرغم من هذه الهجمة العظيمة على الإسلام خلال القرن الأخير، لكن نرى الإسلام أسرع الأديان انتشاراً، وذلك لأن الإسلام يمتلك قوة الحق، فمع وجود هذه المحاربة

ص: 528

الشديدة، ومع وجود من يشوّهون نظرة الناس إلى الإسلام بأفعالهم، لكننا نحن أصحاب الحضارة الأقوى، إلّا أننا بحاجة إلى الفهم والتطبيق والعمل.

حينما بدأ المغول بغزو العالم كان الشيخ نصير الدين الطوسي مسجوناً في قلعة من قلاع الإسماعيليين، ولمّا احتل المغول هذه القلعة أرادوا قتله، لكنهم عرفوا أنه يعرف علم النجوم والفلك، فلذلك لم يقتلوه وجاؤوا به إلى سلطانهم هولاكو، فاستثمر الطوسي فرصة علمه بالفلك والنجوم، ودخل ضمن بلاط هولاكو لهدف، لأنه كان يعلم بأن المسلمين حينذاك لا يتمكنون من مقاومة المغول عسكرياً لأنهم الأقوى، ولكن يمكن الدخول في عقولهم ومن ثَمّ إدخال الإسلام في أفكارهم، فحافظ على علماء الإسلام، وأوهم للمغول أنهم منجمين، كما حافظ على الكتب وأوهمهم بأنها كتب التنجيم، فحينما كان يحتل المغول أية منطقة كان يقول لهم: لا تقتلوا أحداً حتى أرى مَن هم المنجمون، فيجمع علماء تلك المنطقة بعنوان أنهم منجمون، وبذلك حفظ التراث الإسلامي والكتب الإسلامية بعنوان أنها كتب تنجيم.

بعد ذلك بدأ بالتأثير على المغول شيئاً فشيئاً، حتى صاروا مسلمين، حيث تفصل بين احتلال المغول للبلاد الإسلامية في الشرق الأوسط وبين إسلامهم سنوات معدودة، كل ذلك بفضل الشيخ نصير الدين الطوسي الذي تمكن من التأثير على المغول فكرياً بعد أن عرف عدم قدرة المسلمين على مقاومتهم عسكرياً.

2- التحدي الإرهابي

وأمّا التحدي الثاني: فهو التحدي الإرهابي، وهو لا يمثل موجة ضد الشيعة فحسب، بل ضد التشيع بشكل عام، لأن الشيعة تعني وجود أشخاص ينتمون إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، لكن التشيع يمثل الفكر والعقيدة، وقد تكالب الأعداء على التشيع في كل العصور؛ لكن كانوا سابقاً يضعون حجباً أمام هذا

ص: 529

النور، فلا يراه الناس؛ لذا إذا استطعنا رفع هذه الحجب فسوف ننجح، إلّا أعمى البصيرة فهو لا يرى هذا النور، أمّا البصير فسيراه.

إن هذه الحجب صنعها الظالمون ولا يريدون لها الزوال، لكنهم الآن يرون أن هذه الحجب بدأت بالزوال؛ لذا يحاولون إبقاء هذه الحجب بين الناس وبين نور أهل البيت(عليهم السلام) بأية وسيلة.

إنهم يملكون المال والإعلام والسلطة وعشرات الدول ودبلوماسية قوية وخبرة تاريخية في التشويه والظلم وتحريف الحقائق، فعلينا أن نعمل بما يرضي اللّه عزّ وجلّ والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، وإذا فعلنا هذا فخلال فترة ستنتهي كل هذه الأمور بإذن اللّه تعالى مع زوال هذه الحجب.

وذلك لأن العالم اليوم أصبح كقرية واحدة، ويمكن إيصال فكر أهل البيت(عليهم السلام) إلى الجميع عبر وسائل التقنية الحديثة، هذا مضافاً إلى الالتزام العملي بمنهج أهل البيت(عليهم السلام) لنكون دعاة للناس بعملنا أيضاً.

3- تحدي المنهزمين فكرياً

وأمّا التحدي الثالث: فهو مع الذين يعتبرون أنفسهم أتباع أهل البيت(عليهم السلام) لكنهم منهزمون نفسياً أمام الثقافة الغربية الحاكمة، ويرغبون في اتباعها في كل شيء مع إعطائها ظاهراً إسلامياً! فهؤلاء يثيرون الشبهات ويزينون الباطل، وعلينا أن نحاول بيان الحق الصحيح وبأسلوب إقناعي لهدايتهم ولتحصين الناس منأفكارهم، فالحق لا يُعلى عليه، لكن اتّباع الناس له منوط بوعيهم وفهمهم ودحض الشبهات التي تثار هنا وهناك.

ص: 530

(67) الشعائر تحافظ على القيم الثقافية

اشارة

إن الشعائر الدينية لها دور في ترسيخ القيم الإسلامية، وتحويل هذه القيم من نظريات إلى سلوك عملي.

إن الإسلام دين خالد؛ لأنه يرتكز إلى بُنية الإنسان الفطرية، التي لا تتغير كما قال اللّه تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1)، فإذا كانت الفطرة لا تتبدل فإن ما يناسب تلك الفطرة لا يتبدل أيضاً.

هناك مصاديق بيّنها الإسلام وجعلها شعائر، بحيث لا يمكن لأي شخص أن يتجاوز هذا المصداق، وإن تجاوزه فيعتبر بدعة مثل كيفية الصلوات اليوميّة فصلاة الصبح ركعتان لا يجوز تغييرها إلى أربع ركعات مثلاً ومن فعل ذلك كان مبتدعاً.

وهناك بعض الأمور العامة التي لم يحصرها الإسلام في مصداق خاص، وإنّما أعطى الخيار والاختيار للإنسان لكي يطبق ذلك الكلي على الجزئيات، ويكون تطبيق ذلك الكلي على الجزئيات تنفيذاً لأمر اللّه عزّ وجلّ، وليس من البدعة في شيء.

من أمثلة التطوير الجائز

اشارة

ولنذكر لذلك أمثلة:

ص: 531


1- سورة الروم، الآية: 30.

النموذج الأوّل: خط القرآن الكريم

القرآن الكريم حينما نزل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتبه المسلمون الذين عاصروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخط عربي، وكان ذلك الخط متعارفاً عندهم، ولكنهم بعد زمن طوّروا ذلك الخط، وأكثر الخطوط العربية التي تستخدم الآن لم تكن تستخدم بكيفية رسم الحروف في ذلك الزمان، فالقرآن الكريم الموجود حالياً بين أيدينا يكتب بخط النسخ مثلاً، وهو تطوير للخط، وكذا علامات الإعراب؛ إذ لم تكن موجودة في صدر الإسلام، فالعلامات - كرسم الضمة والفتحة والكسرة - اخترعها المسلمون في القرن الثاني، وهذا لا يعني أن هناك تغييراً للقرآن الكريم أو بدعة حصلت فيه؛ لأن اللّه عزّ وجلّ لم يأمر بكيفية خاصة لكتابة القرآن، وإنّما هناك أمر بأن يكتبوا القرآن ويحفظوه، وهذه الكتابة التي تتم بأية كيفية كانت تمثل التطبيق الكلي على الجزئي، ففي زمن ما كُتب القرآن بالخط الكوفي، وفي زمن آخر كتب بخط النسخ، وهناك أنواع أخرى من الخط العربي تم اختراعها لاحقاً، ويمكن أن تستخدم في كتابة القرآن.

والإسلام لم يحصر أكثر الموارد في الجزئيات المعيّنة، وإنّما بيّن العنوان الكلي وجعل تطبيقه بيد المسلمين، وقد يختلف ذلك من زمن إلى آخر، أو من مكان إلى آخر.

النموذج الثاني: تعظيم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد أمرنا الإسلام بتعظيم واحترام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال: {فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1) ومعنى عزروه أي عظموه، فينبغي على كل مسلم أن يعظم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويحترمه،لكن هل

ص: 532


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

حصر الإسلام طريقة احترام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مصداق معيّن؟ الجواب: لا. فقد بيّن لنا بعض المصاديق مثلاً قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}(1)، ولكن لم يحصر احترام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا المصداق، فينبغي أن نحترم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونعظمه بكلّ الكيفيات.

لذا فإننا نلاحظ المسلمين يحتفلون بمولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قرون سالفة، لكن البعض يعتبر الاحتفال بمولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدعة، مدعين أن هذا الاحتفال لم يكن موجوداً في زمن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! لكن كلامهم ليس بصحيح؛ لأن الاحتفال يأتي في إطار التطبيق الكلي لاحترام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإنه يمكن أن نطبق الاحترام في مصاديق مختلفة، كأن نؤلف كتاباً حول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - مثلاً - إذ يعد هذا نوع من التعظيم لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو نقوم ببناء أو ترميم قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهذا أيضاً نوع من الاحترام له، أو نقيم ندوات فكرية عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وغير ذلك إذ إن هذه الأعمال كلها مصاديق جزئية للكلي الذي أمر به الإسلام.

النموذج الثالث: مودة أهل البيت (عليهم السلام)

إن اللّه عزّ وجلّ أمرنا بمودة ذي القربى، حيث قال تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(2)، وتعني المودة إظهار المحبة، فربما يحب الإنسان شخصاً ما في قلبه، وقد يظهر هذا الحب، فتكون المودة، أمّا الكيفية التي يتم فيها ذلك فهي منوطة بنا، فالإسلام لم يحصر هذا الحكم في مصداق جزئي، فلا بدّ أن يطبق المسلمون هذا المصداق الكلي على الجزئيات.

ص: 533


1- سورة الحجرات، الآية: 2.
2- سورة الشورى، الآية: 23.

ومن ذلك الشعائر الحسينية فإن هذه الشعائر إنّما هي تطبيق للمودة، ويتم تطبيق هذا المثال الجزئي عبر الشعائر، فهي تمثل إظهار المحبة لأهل البيت(عليهم السلام) ويمكننا أن نظهر المحبة لأهل البيت بطرق مختلفة، ومنها هذه الشعائر التي أصبحت بمرور الزمن علامات وميزات للولاء والحب لأهل البيت(عليهم السلام).

معنى البدعة والسنة

وهنا سؤال وهو: ما هي البدعة؟

والجواب: إن البدعة هي إدخال ما ليس من الدين فيه، أو إخراج ما هو من الدين منه، فلو قال أحدهم: (إن صلاة الصبح ليست بواجبة) فهو مبتدع، أو قال: (إن صلاة النافلة واجبة) فهو مبتدع أيضاً.

وعليه يتضح إن الإسلام إذا أمر بشيء بنحو عام فإن تطبيق ذلك الكلي على مصاديقه ليس من البدعة بل هو من السنة لأنه امتثال لأمر اللّه تعالى، مثلاً أمرنا اللّه بالجهاد فلو استعمل المجاهدون السلاح الحديث فهو امتثال لأمر اللّه وليس من البدعة في شيء، وإذا أمرنا اللّه بإعمار المسجد فوضع السجاد فيه امتثال لأمره وليس بدعة، ومن ذلك أمر اللّه المسلمين بتوقير الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحترامه فالاحتفال بمولده امتثال لأمره تعالى وليس من البدعة في شيء.

أهمية الشعائر

إن الشعائر الإسلامية تختزن الثقافة الإسلامية بشكل عام، وتحولها من نظريات وقيم فكرية مجردة إلى اُسلوب عملي، وتُختزَن في هذه الشعائر المختلفة في الإسلام كل مفردات الثقافة الإسلامية، إمّا بشكل تفصيلي أو إجمالي.

ولذا حينما يريدون محاربة إحدى الثقافات من أية جهة كانت، فإن الشيء الأوّل الذي يفعلونه هو محاربة شعائر تلك الثقافة؛ لأن الشعائر تختزن ثقافة تلك الأمة؛ ولذا يدفعون المجتمع إلى تركها، ثم يفقد المجتمع تلك القيم تدريجياً،

ص: 534

بمعنى أن سلوكه سوف يتغير وبعد ذلك ربما يتغير فكره أيضاً؛ لأن السلوك يؤثر في الفكر كما يؤثر الفكر في السلوك؛ لذا نجد اهتمام الإسلام بضرورة حفظ الشعائر، كما أن أي مصلح كبير لأي مجتمع من المجتمعات إذا أراد الإصلاح فإن أوّل شيء يحث عليه هو إحياء وحفظ الشعائر الثقافية، التي تحملها الأمة.

يعتبر غاندي من عظماء التاريخ، لأن الهند بلد فيه عشرات اللغات، وعشرات القوميات، ومئات الأديان والمذاهب، وفي زمن غاندي كان عدد نفوس الهند 300 مليون شخص، وقد عمل الاستعمار البريطاني عمله في الهند، ومع ذلك تمكن غاندي من توحيد الهند وتحريره وإرساء أكبر ديمقراطية في العالم فيه.

ينقل عنه أنه قال: (لا أريد أن أغلق نوافذي، لأنني أريد أن تُعرض كل الثقافات من حولي - بمعنى أريد أن تستفيد مني كل الثقافات الأخرى الموجودة واستفيد من نقاط قوتها - إلّا أنني أرفض أن أُقتَلَع من ثقافتي الأصلية حتى لو استهزؤوا بها).

لذا نلاحظ أنه كان يشترك في المؤتمرات الكبرى وهو يرتدي ثوباً يشبه ثوب الإحرام، وأمّا الآخرون فكانوا بكامل الألبسة والزي الرسمي، وكان البعض يسخرون منه ويقولون: ما هذه العقلية التي يحملها غاندي، نحن وصلنا إلى هذه الدرجة من التطور... وهذا الرجل يعيش بهذه الكيفية؟

لكنه بهذه العقلية تمكن من أن يحرّر الهند، فلم يكن مستعداً للتخلي عن ثقافته تجاه الثقافة الاستعمارية، على الرغم من أن البلدان المستعمَرة عادة ما يأخذها بريق البلدان التي استعمرتها، لأنها تتمتع ببعض التطور والإمكانات المادية، لكنه رفض هذه الحالة ولم يسمح بانتشارها.

وأمّا في بلدان الإسلام فإن بعض الأشخاص الذين أرادوا أن يغيروا واقعها، فإن أوّل شيء يقولونه للناس: أن علينا أن نتخلص من بعض شعائرنا ومفرداتنا

ص: 535

الثقافية، ولهذا نلاحظ أن أكثر هذه الحركات كانت ولا تزال فاشلة.

الاستهزاء سلاح أعداء الأنبياء

وفي الحقيقة إن قوتنا بهذه الشعائر، حتى لو استهزؤوا بها، فهم يريدون أن نترك هذه الشعائر لنفقد ثقافتنا الأصلية ونصاب بالخواء، فيملؤون هذا الخواء والفراغ بطريقتهم، ولكن يجب علينا أن نتنبّه إلى أن الاستهزاء سلاح الفاشلين، ويجب أن لا يدفعنا إلى ترك أية شعيرة من شعائرنا.

في البداية كان الاستهزاء بالصلاة والصوم والحج وبالحجاب وبالقرآن وأية شعيرة من شعائر الإسلام، فبعضهم يستهزئ بها مباشرة، والبعض الآخر بصورة غير مباشرة، وبعضهم يبدأ بالشعائر المتفق عليها، وآخرون يبدؤون بالشعائر المختلف عليها، وبالنتيجة تتسبب حالة الاستهزاء بأن يصاب البعض بالانهزامية. فإذا أراد شخص أن يؤدّي الصلاة يذهب إلى مكان لا يراه فيه أحد، أو إذا أراد أن يحج يخفي خبر سفره للحج في بعض البلدان التي يستهزؤون فيها بالمسلمين، مع أن جميع رسل اللّه كانت أقوامهم تسخر منهم، قال اللّه تعالى: {يَٰحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ}(2)، لكن ذلك لم يمنع الأنبياء من أداء رسالتهم.

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلّي، وكان يُستهزَأ به في صلاته، قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}(3)، لكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بأمر من اللّه عزّ وجلّ - لم يهتم بالاستهزاء، وكذلك فعل المسلمون.

ص: 536


1- سورة يس، الآية: 30.
2- سورة هود، الآية: 38.
3- سورة المائدة، الآية: 58.

وإذا أراد الإنسان أن يقاوم الاستهزاء فعليه أن يتمسك بالشعائر الإسلامية؛ إذ إنها تؤدّي إلى تماسك المجتمع، أمّا إذا أراد الإنسان أن يتخلى عن هذه الشعائر فإن ذلك يؤدّي إلى انفراط عقد المجتمع، وتحدث فيه خلافات ومشاكل اُخرى.

نلاحظ الآن أن بعض مصاديق الشعائر كانت تمارس بشكل عادي، لكن عندما جاء بعض الأشخاص وخالفوا هذه الشعائر واستهزؤوا بها تحول الأمر إلى فتنة، بمعنى أن مخالفة هذه الشعائر تسببت في انفراط عقد المجتمع وإثارة الفتن، في حين أن التمسك بالشعائر يؤدّي إلى تماسك المجتمع.

التمسك بالشعائر

وثمة شيء آخر: عندما نلاحظ الأقوام الاُخرى نجد أن اليهود والنصارى وغيرهم متمسكون بشعائرهم، مع أن بعض هذه الشعائر مجرد طقوس، ولكن عندما يصل الدور إلى المسلمين يطلب منهم أن يتركوا شعائرهم، لماذا؟ لأن قوة المسلمين تكمن في هذه الشعائر، ولأنها تختزن ثقافتهم، وإذا تسبب الاستهزاء في تركنا لشعائرنا فهذا يعني أننا منهزمون نفسياً وسيؤدّي ذلك بنا إلى ترك كل شيء من ديننا.

مثلاً كان يثار السؤال التالي: لماذا تذهبون إلى الحج وتصرفون الأموال الطائلة على ذلك؟ اعطوا تلك الأموال للفقراء، هذا أفضل لكم. ثم لماذا تذبحون الاُضحية في منى؟ ويوجد لديكم عدد كبير من الجياع؟ فبدلاً من أن تذبح الاُضحية في منى اصرفها في بلدك؟ أو عندما نبني مسجداً يقول بعضهم: لِمَ هذه الزخرفة في بناء المساجد، فبدلاً من بناء هذه المساجد المزخرفة بأموال طائلة وبدلاً من تذهيب القباب وغير ذلك، لنصرف هذه الأموال على الفقراء.

إن هذا الكلام عندما يسمعه شخص ما فإنه يبدو له كلاماً معسولاً وجميلاً،

ص: 537

لكن الأمر حين يتحول إلى شعيرة - كما قال اللّه تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰئِرِ اللَّهِ}(1) - فإننا لا نفكر في الجانب الاقتصادي فقط بل نفكر في أمور أهم من الجانب المادي، إن الدين ليس مجرد إشباع الفقراء بل الدين عام وإعانة الفقراء جزء منه ولا يصح أن نضحّي بسائر أركان الدين لأجل جزء منه، وهذا نظير أن يقول أحدهم لماذا تصرفون الأموال الطائلة على بناء المدارس والجامعات؟! لماذا لا تصرفونها على الجياع والفقراء؟! هل هذا المنطق مقبول؟! كلّا، لماذا؟ لأن الحياة ليست إطعام ومعونة الفقراء فقط، بل لا بدّ من العلم والثقافة أيضاً.

وهكذا الأمر في المساجد إذ إنها من شعائر اللّه؛ لذا فكل الأمم تهتم بمعابدها، وتشيدها بأحسن وأرقى الوسائل، وتستخدم في بنائها أرقى أنواع المواد الإنشائية؛ لأنها تحولت إلى شعائر، وتمسّك الإنسان بالشعائر يؤدّي إلى تمسّكه بتلك القيم التي تختزنها تلك الشعائر، وتمسّكه بتلك القيم يعني تمسّكه بالثقافة التي تتحول إلى سلوك عملي، ونحن كلما كان تمسّكنا بالشعائر الإسلامية أكثر ستكون النتيجة انتقال الثقافة الإسلامية من حال نظري إلى حال عملي، ولو عملنا بالثقافة الإسلامية وتمسّكنا بها وحولناها إلى سلوك عملي لتمكنا من أن نتجاوز مرحلة الضياع، التي نعيشها الآن، وتكالب القوى المعادية على بلاد المسلمين ونهب خيراتهم، وقتل أبنائهم ونسائهم وأطفالهم.

ص: 538


1- سورة الحج، الآية: 36.

(68) الشعائر الدينية من النظرية إلى السلوك العملي

اشارة

قد لا تكون هناك مشكلة في فهم وتفسير واقع اجتماعي معين بقدر ما هنالك مشكلة في خلق هذا الواقع الاجتماعي، فكثير من الأحيان يعرف أفراد المجتمع القيم ولكن لا تجد لهذه القيم أثراً في سلوكهم وحياتهم العملية؛ لأن الإنسان يمكن أن يلتفت إلى قيمة من القيم لكن لا يطبقها في حياته، فمن منّا لا يعلم قيمة الصدق ومكانته العظيمة؟ ومن لا يعلم حقيقة الغيبة وحرمتها؟ ولكن حينما ندخل إلى المجتمع نكاد لا نرى أثراً لذلك العلم والمعرفة على صعيد السلوك، وهذا يدل على أن العلم وحده لا يكفي، بل هناك حاجة إلى أجواء صالحة ليكون ذلك العلم سلوكاً عملياً.

وأهمية الشعائر الدينية أنها تضيف البعد العملي والتربوي إلى الجانب النظري، ومن جهة اُخرى فهي إطار عام تجمع كل طبقات المجتمع، فتوحد بينهم الأمور المشتركة، فتثبت العمل وتخرج النظريات من الذهن إلى الواقع العملي.

إذا أردنا أن يكون للشعيرة تأثير عملي يجب أن نلاحظ أنها تحتوي على أربعة عناصر مجتمعة، تنقل البعد النظري إلى العملي، لأن الشعيرة إنّما يتمكن الإنسان عبرها من تحويل الأمر النظري إلى أمر سلوكي وعملي من خلال ما يلي:

أوّلاً: البعد المنطقي، البرهاني: إذ إن لكل شعيرة من الشعائر الإسلامية دليلاً واضحاً، فإذا التفت الإنسان إلى فوائدها لحياته الدنيوية والاُخروية فإنه يتمسك بها بقوة. وكل شعائر الإسلام لها علل واضحة فبالتفات بسيط يصل إليها الإنسان.

ص: 539

وقد بيّن القرآن الكريم والروايات الكثير من تلك الفوائد.

ثانياً: البعد الأخلاقي: وهو من الأبعاد المهمة جداً.

ثالثاً: البعد الجمالي: حيث إن للإنسان إحساساً مرهفاً وذوقاً رفيعاً، وهو يحب الجمال بدافع الفطرة لديه، سواء كان جمالاً ظاهرياً أم معنوياً.

رابعاً: النظم والاستمرارية: لأن الإنسان في كثير من الأحيان بحاجة إلى تكرار الشيء حتى يتحول فيه إلى طبيعة ثابتة كما هو الحال في المهن الحرة، فالنجار الماهر - مثلاً - لم يكن نجاراً منذ اليوم الأوّل، وإنّما يتدرج بالممارسة والاستمرارية، حتى يتقن تلك الصنعة. وهكذا الحال في شعائر الإسلام.

إذن، لكي تترك الشعيرة أثرها في تحوّل القيم النظرية إلى بُعد سلوكي وعملي لا بدّ أن تحتوي على الجانب البرهاني، والجانب الأخلاقي، والجانب الجمالي، والنظم والاستمرار.

لقد جاءت الشعائر الدينية بحيث تنسجم مع مختلف حاجات الإنسان وإمكاناته، فترى الاستمرار والنظم يوجب على الإنسان أن يصلّي خمس مرات في اليوم؛ لأن كل إنسان يتمكن من ذلك، أمّا بالنسبة للصوم فجاء مرّة واحدة في السنة في شهر رمضان المبارك، وأمّا الحج فيجب مرّة واحدة في العمر لمن كان مستطيعاً، فإذا ذهب الإنسان مرّة واحدة إلى حج بيت اللّه الحرام تكون المرات الاُخرى مستحبة مؤكدة، ولم يوجبه الإسلام على كل الناس وفي كل عام، لأن ذلك غير عملي وغير ممكن. فبناءً على ذلك جاء أمر اللّه عزّ وجلّ في مسألة النظم والاستمرار على علم منه بحاجة الإنسان وقدراته.

الروح والمظهر في الشعائر

ولكي تتحول الشعائر الدينية إلى سلوك عملي يجب أن نراعي فيها المظهر والروح معاً، فبعض الناس يقول: إنّ المهم أن يكون قلب الإنسان نظيفاً، وهذا ما

ص: 540

نلاحظه في أوساط بعض النساء السافرات، حيث يبرِّرن السفور بهذا النوع من الاستدلال، إلّا أنه عليل ومنقوض، فكما يلزم مراعاة روح القانون كذلك يلزم مراعاة شكله أيضاً، مثال ذلك إشارات المرور التي تلزم السائق بالوقوف عند الإشارة الحمراء، والتحرك عند الإشارة الخضراء، فإذا جاء سائق وقال ليس المهم أن اُراعي الإشارة الحمراء أو الخضراء، بل المهم أن قلبي نظيف، لا يحمل العداء لسائر السائقين، وسواء راعيت الإشارة الحمراء أم لم أراعِها فهل منطقه سليم؟! كلا، وكذلك في الساعات المتأخرة من الليل ربما تكون الشوارع خالية من السيارات، ولا توجد سيارات في الجانب الآخر، لكن إذا تجاوز السائق الإشارة الحمراء فإنه لن يكون مقبولاً؛ والمرور سيفرض عليه غرامة، ويقول له: القانون له روح وله شكل، فكما ينبغي مراعاة روح القانون ينبغي مراعاة شكله أيضاً. كذلك الحال بالنسبة إلى الشعائر الدينية، فإن لها مظهراً ولها روحاً، ويجب علينا التركيز عليهما معاً.

هناك محاولات لجعل الشعائر الدينية مجرد حركات بعيدة عن الحياة، وهذه المحاولات تشهد دفعاً قوياً في العصر الحاضر لجعلها حالة شخصية، بل كثير من الأحيان تحويلها إلى حالة معيقة لحياة الإنسان، بحيث يجد المرء نفسه إمّا أن يلتزم بشعائره الدينية، أو يفقد حياته الاجتماعية أو فُرصَه في المجتمع؛ لذا نجد كثيراً من الناس يتركون الشعائر، ونتيجة لتركها يتركون القيم الإسلامية التي أرادها اللّه أن تترسخ في نفوس الناس.

ولنذكر نماذج:

النموذج الأوّل: العبادات فعند ما نراجع للقرآن الكريم نجد اللّه تعالى وضع شروطاً للعبادات، فإذا لم تُراعَ تلك الشروط كانت العبادة باطلة، وكذلك إذا أُفرغت العبادة عن مضمونها، كالصلاة بلا وضوء، أو الصلاة برياء؛ لأن الرياء

ص: 541

- مثلاً - يناقض روح العبادة ولا يحول تلك المنظومة الفكرية من القيم إلى سلوك عملي، يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(1)، فالتي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة التي تكون خالصة وبلا رياء، وأمّا بالرياء فهو المنكر، لذا يقول اللّه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(2).

النموذج الثاني: الحجاب فقد منعته بعض الدول في المدارس الحكومية، بحجة تطبيق النظام العلماني، ونتيجة لالتزام الفتيات بالحجاب فقد أمرت إدارة عدد من المدارس بطردهن، فالمسلم يرى نفسه بين الالتزام بالشعيرة الإسلامية وبين أن تفقد ابنته فرصة التعليم والتعلّم وتبقى أميّة، فهنا يحصل التزاحم، فقد دفع أعداء الإسلام القانون ليزاحم الشعيرة الدينية في حياة الإنسان، وهذا عمل مدبر.

ومن الملاحظ أن الإنسان يعبد اللّه عزّ وجلّ لأنه وفّر له وسائل الراحة، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِ}(3)، ولكن إذا رأى أن حياته الاقتصادية مهددة فإن الغالب يتركون التدين، ويتشبثون بالدنيا! والقليل من المتدينين مَن يترك المصالح المادية ويتحمل المشاكلالاقتصادية من أجل التمسك بالدين.

النموذج الثالث: القرآن الكريم، فهو يُعد الشعيرة الإسلامية الاُولى، ومن أهم الشعائر الدينية، يقول اللّه عزّ وجل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا

ص: 542


1- سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- سورة الماعون، الآية: 4-7.
3- سورة قريش، الآية: 3-4.

دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1) فمع هذه الأهمية الكبيرة لأهم شعيرة إسلامية، لكن ثمة محاولة لإبعاد المسلمين عنه، وحصر الاهتمام به بجانب واحد، فالأعداء لم يتمكنوا من إلغاء القرآن الكريم من حياة المسلمين بالمرّة، كما نجد غياب التوراة والإنجيل من حياة اليهود والنصارى، لكن هذا لم يحصل مع القرآن الكريم، بل بقي موجوداً في حياة المسلمين؛ لذا تركزت المحاولة على الجانب الظاهري، وهو القراءة والحفظ، وهذا حق، لأنه يجب الاعتناء بالظاهر والروح معاً، فليس هناك اعتراض على حفظ وقراءة القرآن الكريم وتجويده وأمثال ذلك، بل هي أمور محبّذة ومأمور بها، لكن المشكلة هي ترك الجانب الآخر الذي هو فهم القرآن والعمل به، ففي بلدان المسلمين توجد معاهد تعليم وتحفيظ القرآن بكثرة، وهنالك مسابقات لتلاوة القرآن الكريم وحفظه، وكل ذلك جيد، ويجب أن يستمر ويتحول إلى اُسلوب في حياة كل المسلمين، ولكن كم معهد لتفسير القرآن الكريم يوجد في بلادنا الإسلامية؟ وكم معهد للتدبر والتأمل؟ ربما تجد القليل القليل، وحتى إن وجدت بعض المبادرات فهي ضعيفة لا تجد دعماً كبيراً.

بناءً على ذلك علينا الاهتمام بظاهر وباطن هذه الشعيرة المهمة، من تفسير القرآن وتأويله بالطريقة الصحيحة، وليس التفسير بالرأي والتأويل بالأهواء، إنّما بالمعاني الموجودة في القرآن الكريم.

ص: 543


1- سورة الأنفال، الآية: 24.

(69) أهمية استثمار الأمكنة والأزمنة المباركة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍ}(1).

هنالك أيام مباركة، وأماكن مباركة، وأشخاص مباركون، وأعمال مباركات.

بالمقابل هنالك أيام نحسة، وأماكن نحسة، وأشخاص نحسون، وأعمال نحسة.

وقد بيّن اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم بعض هذه الأيام المباركة، وبعض الأيام النحسة.

فحينما أنزل اللّه سبحانه وتعالى العذاب على بعض الأقوام الماضية، قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٖ مُّسْتَمِرّٖ}(2)، وجاء في آية أخرى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ}(3).

وحينما يذكر شهر رمضان ونزول القرآن الكريم يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍ}.

معنى البركة

والبركة بمعنى الخير الثابت الدائم، من مادة (ب ر ك) بمعنى الثبوت والدوام

ص: 544


1- سورة الدخان، الآية: 3.
2- سورة القمر، الآية: 19.
3- سورة فصلت، الآية: 16.

لذلك تقول العرب عند جلوس البعير برك البعير(1)، لأنه عندما يقعد على الأرض يستمر بهذه الجلسة، ويصعب تحريكه عن مكانه.

إن الخير قد لا يكون ثابتاً، ولا مستمراً، إنه خير ولكنه غير مبارك.

لنفترض أن هناك إنساناً ربح المليارات في صفقة مالية، لكنه خسرها كلها في اليوم الثاني، فحينما ربح في اليوم الأوّل كان ذلك خيراً؛ والقرآن يعبر عن المال أيضاً بأنه خير قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا}(2)، لكن حيث خسره فإنه خير غير ثابت؛ لذلك يُقال: كان هذا المال غير مبارك.

وقد يحصل الإنسان على شيء قليل لكنه مستمر، فمثل هذا يكون مباركاً، أي: خيراً ثابتاً.

ربما هناك شخص يرزقه اللّه سبحانه وتعالى بالمال والأولاد، لكن قد يكون هذا إمداداً له في الغي، كما ورد في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَٰتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(3)؛ وفي المقابل ربما يكون للإنسان - في بعض الأحيان - ولد واحد ويكون منشأ خيرات كثيرة، فالبركة ليست بالكثرة، إنّما باستمرار الخير.

لقد كان نسل بني أمية كثيراً، فيزيد بن معاوية كان لديه اثنا عشر ولداً، وكان بنو أمية مئات، بل آلاف، ولم يبقَ من العلويين الفاطميين بعد واقعة كربلاء إلّا كعدد أصابع اليد الواحدة.

وفي زمن المأمون العباسي أمر أن يُحصى بنو العباس في ديوان، فكان عددهم

ص: 545


1- انظر: العين 5: 366، مادة (برك)؛ الصحاح 4: 1574، مادة: (برك).
2- سورة البقرة، الآية: 180.
3- سورة المؤمنون، الآية: 55-56.

ثلاثون ألفاً، وكان العلويون في ذلك الوقت قليلين؛ لأنهم كانوا يُقتلون في قضايا معروفة.

لكن نسل بني أمية وبني العباس لم يكن مباركاً؛ لذا انقرض أو مُحي، حتى أن مَن بقي منهم إمّا مجهولون، أو أنهم يكتمون نسبهم، فبعض الناس يعرفون أنهم من ذرية بني أمية لكنهم يكتمون ذلك، بينما نلاحظ كثرة ذرية فاطمة بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويُنقل أن هناك خمسين مليون سيد علوي فاطمي موجود في العالم وربما أكثر. فهذه بركة.

معنى النحس

وفي المقابل هناك نحس وهو ضد البركة(1)، بمعنى أن هناك أياماً نحسة تجلب الشر للإنسان، فقد جاء في الحديث الشريف في يوم عاشوراء: «و إن استطعت أن لا تنتشر يومك في حاجة فافعل، فإنه يوم نحس، لا تقضى فيه حاجة، وإن قضيت لم يبارك له فيها، ولا يَرَ رشداً»(2)، وإذا عمل الإنسان في هذا اليوم فإن عمله يكون هباءً منثوراً، لا يستفيد منه، بل يتضرر، لأنه يوم قتل فيه الإمام الحسين(عليه السلام)، بينما اتخذه بنو أمية عيداً، فكل من يعمل عملاً دنيوياً في هذا اليوم لا بركة فيه.

قد ينكر البعض الأيام المباركة والأيام النحسة، ويقول: إن هذا يتعلق بعمل الإنسان!!

لكن هذا الكلام تأويل للآيات القرآنية الكريمة من غير وجه وجيه، لأنالتأويل مهمة الراسخين في العلم، فنحن مكلّفون بالعمل بظاهر القرآن، وهو

ص: 546


1- انظر: العين 3: 144.
2- كامل الزيارات: 175.

حجة علينا إلّا لو دلّ الدليل على عدم إرادة ذلك الظاهر، أمّا تأويل القرآن فلا طريق لنا إليه إلّا بالمقدار الذي بيّنه الراسخون في العلم، قال اللّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1)، وهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)(2).

فتأويل قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٖ مُّسْتَمِرّٖ}(3)، أو قوله سبحانه: {فِي أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ}(4) بزعم أن النحس غير مرتبط باليوم، وإنّما بعمل أولئك الكفار أو بالعذاب الذي أصابهم، تأويل بلا دليل.

وذلك لأن بعض الأمور التكوينية لا نعرف أسبابها بينما نعرف أسباب بعض الأمور الأخرى، وعندما نعرف الأسباب والمسببات التكوينية نعزو المسببات إلى أسبابها، فإذا كان هناك شخص مصابٌ بمرض عضال ثم مات، فعندما نُسأل لماذا مات؟ نقول: لأنه ابتلي بهذا الداء، وهذا الداء قاتل ولا علاج له، إلّا بمشيئة إلهيّة خاصة، أو إذا سقط شخص من شاهق فتهشمت عظامه ومات، عندما يُقال لنا: لماذا مات فلان...؟ سنجيب لأنه سقط من شاهق، فقابلية تحمل جسمالإنسان للصدمة محدودة، فإذا سقط من شاهق فإن جسمه لا يتحمل هذه

ص: 547


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- انظر: الكافي 1: 213، وفيه: ... عن بريد بن معاوية، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}: «فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم، قد علمه اللّه عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم اللّه بقوله: {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه». وانظر: وسائل الشيعة 27: 179، وفيه: وبهذا الإسناد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - في حديث - في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال: «أمير المؤمنين والأئمة(عليهم السلام)».
3- سورة القمر، الآية: 19.
4- سورة فصلت، الآية: 16.

الصدمة، وهذا شيء معروف، وهو أمر تكويني طبيعي جعله اللّه سبحانه وتعالى؛ لذا نحن نعرفه ونعزو المسبب إلى سببه.

لكن هناك أسباب تكوينية نجهلها، والناس منقسمون في تلك الأسباب:

1- فالبعض ينكر الأسباب أصلاً لأنه لا يعرفها.

2- والبعض يقرّ بأن هناك سبباً لكنه يقرّ بجهله بها.

3- والبعض يعزون ذلك إلى قوى مجهولة، كالأرواح الخبيثة - حسب تعبير البعض - أو ما إلى ذلك.

4- والبعض ينسب كل ما لم يعرف سببه إلى القضاء والقدر.

مع أن كل شيء هو بقضاء من اللّه وقدره سواء علمنا الأسباب الظاهرية أم لم نعلمها لأن اللّه سبحانه قد جعل كل شيء ضمن ميزان خاص، وقد نعرف تلك الموازين، وقد لا نعرفها فلا يعني جهلنا أنه لا توجد موازين.

نعم، قد تكون هناك حالات استثنائية وتدخل غيبي، لكنها محدودة بظروف معينة، وإلّا فحسب الحالة الطبيعية حين خالف المسلمون أمر الرسول يوم (أحد) حلّت بهم الهزيمة، وعندما عملوا بكلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان النصر حليفهم.

وفي يوم السقيفة خذل المسلمون أمير المؤمنين(عليه السلام) فغُصب حقه، وفي يوم كربلاء خذل المسلمون الإمام الحسين(عليه السلام) فقتل.

وإذا كان تغيير موازين الكون بنزول المعجزة فأولى الناس بذلك هو الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام).

نعم كانت للرسول والأئمة(عليهم السلام) معاجز لكنها لم تكن لتغيير النظام الكوني، بل لإثبات صدقهم غالباً أو لأغراض أخرى، فالرسول لديه معاجز كثيرة - قيل:إنها بلغت أربعة آلاف معجزة - لكنها لم تكن - عادة - لتغيير الأحكام والموازين

ص: 548

الدنيوية، وإنّما السبب عادة هو أن يعرف الناس أن هذا الشخص صادق وليس كاذباً. لأن أكثر الناس ليس لديهم ذلك المستوى العلمي العالي ليتمكنوا من تشخيص الصادق من الكاذب؛ لذا جعل اللّه سبحانه وتعالى معاجز للأنبياء، ليثبت للناس أن هذا الرجل صادق في دعواه وليس كاذباً، وهذا هو دور المعجزة غالباً، وتأثيرها - غالباً - إلى هذا المقدار فقط، وليس لتغيير نظام الكون.

قد يوجد هناك أشخاص لا يعرفون لماذا توجد أيام مباركة وأيام نحسة فيقولون: الشمس تطلع وتغرب في كل يوم ولا نرى فرقاً في الأيام، فكيف صار بعضها مباركاً وبعضها نحساً؟

نقول في الجواب: إننا نعرف بعض الأمور المرتبطة بالشمس وحركتها، كالحرارة والبرودة، أو الربيع والخريف وما إلى ذلك، ولكن ثمة بعض الأمور لا نعرفها، حتى في الأمور الطبيعية، فإن العلم يكتشف كل يوم شيئاً جديداً كان في السابق مجهولاً، كما أن هناك أموراً غيبيّة لا يمكن الوصول إليها إلّا عبر الوحي، ومن ذلك سعد ونحس الأيام الذي دلّ عليه القرآن والروايات.

بركة شهر رمضان

إن أيام شهر رمضان المبارك مباركة، فهي تنطوي على خير كثير، ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أن خصّنا بهذا الشهر الكريم، تنفتح فيه أبواب رحمة اللّه عزّ وجلّ.

صحيح أن رحمة اللّه تعالى موجودة دائماً، لكن أسباب الرحمة في بعض الأحيان تكون أكثر، فتلاوة آيات الكتاب المجيد في هذا الشهر ليس كتلاوته في سائر الشهور، وهنالك حثّ وتأكيد على قراءة القرآن في شهر رمضان، فثوابوأجر قراءة القرآن في سائر الشهور وختمه بصورة كاملة من أوّله إلى آخره يعادل

ص: 549

تلاوة آية واحدة في شهر رمضان. وهذا دليل آخر على أن أبواب الرحمة مفتوحة.

وكذا الدعاء في هذا الشهر مستجابٌ بشكل أكثر تأكيداً، فاللّه تعالى يستجيب للدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1)، فكل دعاء مستجاب، لكن هناك شروط لاستجابة الدعاء، كما هو في أي عمل(2).

وعليه، تكون استجابة الدعاء في شهر رمضان أكثر، وتكون الشروط أسهل، وللدعاء شروطه، لكن في شهر رمضان يسهّل اللّه سبحانه وتعالى بعض الأمور، فيكون ثواب الخيرات والصدقات أكثر في شهر رمضان، ويكون أثرها أكبر لذا يخسر مَن لم يستفد من هذه الأبواب المفتوحة.

خطب رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان خطبة مطولة، ذكرفيها بشكل مفصل فوائد وبركات شهر رمضان، فقال: «فإن الشقي من حرم غفران

ص: 550


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- فالصلاة صحيحة بشروطها، ولكن إذا صلّى شخص ما بلا وضوء فإن صلاته تكون باطلة؛ وفي دعاء كميل: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء» إقبال الأعمال 3: 332. وفي بعض الأحيان يؤخر اللّه سبحانه وتعالى استجابة الدعاء لأنه يحب أن يسمع صوت المؤمن المحتاج. وأحياناً اللّه تعالى يؤخر استجابة الدعاء لأن الإنسان ينسى ربه بمجرد أن يستجاب دعاؤه وتقضى حاجته؛ لذا يريد تعالى أن تبقى علاقة المؤمن مستمرة باللّه. كثيرٌ منّا عادة يصدق عليه قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت، الآية: 65]، فالإنسان عندما تكون لديه حاجة ملحة يلتجئ إلى اللّه تعالى، وإذا قضيت حاجته ينسى فوراً؛ لذا يريد اللّه سبحانه وتعالى أن يُبقي العلاقة بينه وبين العبد حبّاً لذلك العبد، لهذا يؤخر استجابة الدعاء في بعض الأحيان. وقد ورد في بعض الأحاديث أن اللّه قد يؤخره إلى يوم القيامة، حيث يكون الإنسان هناك أحوج، فالناس عادة يحتاجون أموراً كثيرة في الدنيا، لكن هذه الحوائج تُعد صغيرة وتافهة؛ لأن الحاجة الواقعية هي فكاك رقبة الإنسان من النار يوم القيامة، فقد يدعو الإنسان أن يوسع اللّه عليه في رزقك فيستجيب تعالى الدعاء، لكن هذا الدعاء يكون سبباً في أن اللّه سبحانه وتعالى يعطيه في الآخرة أضعاف مضاعفة من الجنات استجابة لهذا الدعاء الذي دعاه في الدنيا.

اللّه في هذا الشهر العظيم»(1)، لأن الأبواب مفتوحة على مصاريعها، كما لو أن الإنسان يؤتى بالذهب تحت قدميه، ويقال له خذ ما تريد منه، وهو لا يحمل منه شيئاً، مع أنه لا تقاس رحمة اللّه بالذهب، فالأمور المادية لا تبقى؛ لأن الإنسان يتركها إلى الورثة أو يصرفها فتنفد، فليس لها قيمة واقعية، أمّا القيمة الحقيقية فتكمن في رحمة اللّه.

ص: 551


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 93.

(70) فضائل شهر رمضان المبارك

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}(1).

الروتين في الحياة

يقوم الإنسان في حياته بأعمال كثيرة، وقد تتكرر يومياً، فالعامل - مثلاً - يذهب إلى عمله في الصباح ويعود ظهراً إلى بيته، ثم يذهب عصراً ويعود ليلاً وهكذا، وثمة أمور أخرى تتكرر في حياته في كل يوم، وهذا التكرار يسبب الروتين، فيعيش ضمن دوامة خاصة، وإذا استمر هذا الروتين فسوف يصاب بالضجر، وتتحدد حياته وفكره في زاوية خاصة، وهذا الحال يسبب أضراراً نفسية وجسدية للإنسان.

رأيت في تقرير أنه توجد الآن في الدول الصناعية الكبرى مشكلة عظيمة، وهي: إن العمال تحولوا إلى آلات في المصانع الكبرى، فالمصنع الكبير توجد فيه آلات مختلفة، وحين يأتي العامل يومياً ليؤدّي وظيفته فإنه سوف يصبح بالتدريج كأية آلة من آلات المعمل، وهذا الأمر يؤثر على نفسية العامل؛ لذا جنّدوا بعض الخبراء النفسيين لكي يُخرجوا العامل من هذه الحالة؛ لأنها تؤثر سلباً على نفسية العامل وعلى إنتاجه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا عاش ضمن

ص: 552


1- سورة البقرة، الآية: 185.

روتين خاص ووتيرة واحدة فإنه سيتضرر نفسياً وجسدياً؛ لذا يكون بحاجة إلى أن يخرج من تلك الدائرة والدوامة.

إن الإنسان المسلم ملتزم بالعبادة في كل يوم إن لم يُزك نفسه قد تتحول هذه العبادة بالتدريج إلى عادة يتعود عليها، فيؤدّيها كعادة من العادات التي اعتادها، ولكن هذه الحالة قد تُخرج العبادة عن حقيقتها وجوهرها، وهي العبودية للّه والتقرب إليه تعالى، وإذا لم يؤدّها في يوم ما فإنه يشعر بالضجر والانزعاج؛ لأنه لم يؤدِّ عادة من عاداته، وليس لأنه ترك أمراً من أوامر اللّه سبحانه وتعالى.

كسر الروتين

وتلافياً لهذه الحالة قد نوّع اللّه العبادات وخالف بينها فجعل لها أوقاتاً وأمكنة وشروطاً من شأنها أن تُخرج الإنسان من هذا الروتين، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(1)، إلّا أن كثيراً من الناس يصلون لكنهم لا ينتهون عن الفحشاء والمنكر؛ لأن صلاتهم فاقدة للجوهر والمحتوى. كان أحد الملوك يصلّي وأثناء صلاته يأتون بالمسجونين ويتم قطع رؤوسهم بإشارة من يده وهو في الصلاة!

مثلاً: إن اللّه سبحانه وتعالى أوجب الحج على الإنسان مرّة واحدة في حياته، ولمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما جعله مستحباً في باقي السنوات، لذا نقرأ في أدعية شهر رمضان: «اللّهم ارزقني حج بيتك الحرام، في عامي هذا وفي كل عام»(2).

فما هي فوائد الحج؟

ص: 553


1- سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- إقبال الأعمال 1: 79.

هنالك فوائد كثيرة للحج، منها: إن العبادات الموجودة فيه تُخرج الإنسان من العالم المادي وتربطه بالعالم المعنوي، فحينما يذهب الإنسان إلى الحج يرى الجميع بزيٍّ موحد، يتكون من قطعتي الإحرام، فسواء كان فقيراً أم غنياً، ملكاً أم رئيساً أم وزيراً، فالكل سواسية، لا فرق بين إنسان وآخر، حتى في الحذاء الذي يستر ظاهر القدم، فربما يتباهى أحدهم بالحذاء في زمن ما، لكن اللّه سبحانه وتعالى منع الحاج من أن ينتعل ما يستر ظاهر القدم، فالجميع في حالة واحدة، ويؤدون مناسك واحدة، وبذلك يخرج الإنسان من الروتين العادي في حياته، إضافة إلى الفوائد الأخرى الموجودة في الحج، فالإنسان الثري الذي يملك المليارات يكون في أيام الحج كحال أفقر الناس من المسلمين وأضعف الفقراء.

وهكذا الصيام، فقد شرعه اللّه سبحانه ليزداد الإنسان تقوى، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)، فحياة الإنسان في شهر رمضان تختلف عن حياته في سائر الشهور، ففي تلك الشهور تكون على وتيرة خاصة، لكن تلك الوتيرة تتغير في شهر رمضان، سواء في نوم الإنسان أم أكله أم عبادته أم أموره الأخرى، وحتى أموره الاجتماعية، فحينما يصوم وهو ثري سيشعر بما يعانيه الفقراء والجياع؛ لأن الإنسان حينما يسمع بشيء قد لا يؤثر فيه كثيراً، أمّا إذا عاشه بنفسه فإنه سيؤثر فيه كثيراً، كمثال: إذا سمعنا أن هناك عائلة يرتجف أطفالها الصغار من البرد؛ لأنهم ليس لهم بيت يؤويهم، فربما لا يؤثر ذلك فينا، أو يكون تأثيره قليلاً، لكن إذا تعرّض الإنسان نفسه لحالة البرد فسيعرف حينئذٍ معنى البرد والارتجاف، نسمع في كثير من البلدان الإسلامية عن هذه الحالات، حتى بات الأمر عادياً، فلا

ص: 554


1- سورة البقرة، الآية: 183.

يحرك في الإنسان شيئاً، حيث نسمع أن هناك أطفالاً يموتون جوعاً بسبب قلة الأدوية، أو غير ذلك، فإذا تكرر الشيء يفقد تأثيره؛ لذا فإن السماع قد لا يؤثر في الإنسان، لكنه حين يعايش الحالة سيدرك ما يعانيه هؤلاء.

إذن، فالصيام يغيّر طبيعة حياة الإنسان، وسوف يتحرك لمساعدة الفقراء والمساكين. فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير؛ وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير؛ لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يسوي بين خلقه، وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليحسن على الضعيف ويطعم الجائع»(1).

إضافة إلى الفائدة الصحية من الصوم؛ فعن رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء»(2)، وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «صوموا تصحوا»(3).

إضافة إلى مضاعفة قوة إرادته؛ إذ في كثير من الأحيان تعرض أمامه الكثير من المعاصي، وربما لا يعلم بتلك الحالة إلّا اللّه سبحانه وتعالى، فما الذي يمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي؟ إنه الخوف من اللّه تعالى والإرادة القوية، فإذا كانت إرادته قوية فسوف يمتنع عن ارتكاب المعصية، لكن إذا كانت إراداته ضعيفة فسيتزلزل ويصاب بحالة من الضعف، وربما يرتكب المعصية.

لذا فإن الإسلام يقوّي إرادة الإنسان ضمن برامج متعددة، منها الصوم؛ لأن الإنسان يمتنع عن تناول الطعام والشرب على الرغم من أنه جائع وعطشان، وإذا قويت الإرادة - وهي ملكة نفسانية - فسوف تقوى الملكات الأخرى.

ص: 555


1- فضائل الأشهر الثلاثة: 102.
2- بحار الأنوار 59: 290.
3- مستدرك الوسائل 7: 501.

من الوظائف في شهر رمضان

هنالك أمور لها الأثر الكبير على الإنسان، فلذا شُرّعت في شهر رمضان:

منها: الأدعية المختلفة الواردة في شهر رمضان، كدعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة الثمالي، ودعاء السحر، وغير ذلك من الأدعية.

إن الأدعية تؤثر في الإنسان لاسيما تلك التي تتضمن مختلف جوانب الحياة، فعندما نقرأ دعاء الافتتاح نجد فيه التوحيد وذكر رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذكر الأئمة(عليهم السلام) وبعض مقاماتهم، وذكر الآخرة، وفيه أمور تربوية تحث الإنسان على أن يساوي نفسه مع الآخرين. وهناك أمور أخرى؛ لذا ينبغي على الإنسان أن يقرأ هذه الأدعية ويتأمل في معانيها.

ومنها: قراءة القرآن الكريم مع التأمل؛ لأن ربيع القرآن هو شهر رمضان المبارك، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان»(1). لقد أنزل اللّه سبحانه وتعالى القرآن في هذا الشهر لكي يحصل الارتباط التام الشامل بين شهر رمضان والقرآن الكريم، فهذا شهر قراءة القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}(2) وقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «... من قرأ في شهر رمضان آية من كتاب اللّه عزّ وجلّ كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور»(3).

ومنها: الإكثار من سائر العبادات - مضافاً إلى الصوم - .

ومنها: فعل الخيرات والمبرّات حيث يتضاعف ثوابها في هذا الشهر الفضيل.

ص: 556


1- الكافي 2: 630.
2- سورة البقرة، الآية: 185.
3- فضائل الأشهر الثلاثة: 97.

ومنها: طلب العلم وتعلّم العقائد والأحكام والأخلاق والآداب.

ومنها: تقوية الروابط الاجتماعية والأسرية عبر برّ الوالدين وصلة الأرحام وحل الخلافات ونحو ذلك.

فلا بدّ أن يستفيد الإنسان من وقته في شهر رمضان، فقد جعله اللّه سبحانه وتعالى لنا للطفه وعنايته بنا، فالمستفيد الأوّل والأخير من ذلك هو الإنسان؛ لأن اللّه تعالى لا يحتاج إلى عبادتنا، قال تعالى: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(1)، وإنّما أوجب علينا العبادات لصالحنا، وكذلك الحال بالنسبة لرسول اللّه والأئمة(عليهم السلام)، فإنهم لا يحتاجون إلينا؛ لأن مقاماتهم عالية عند اللّه سبحانه وتعالى، ونحن المستفيدون إن اتبعناهم وسلكنا طريقهم.

ص: 557


1- سورة العنكبوت، الآية: 6.

(71) حفظ الإيمان

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

إن الفرق بين أحكام الشرع وسائر القوانين يتجسد في أن الدين والإيمان باللّه مبنيٌ على الغيب، مضافاً إلى الحكمة والمنافع المادية والاجتماعية وغيرها.

إن اللّه عالمٌ حكيمٌ وبارٌ بعباده، أرسل الأنبياء للاُمم وأنزل الكتب بما يتطابق مع فطرة وخلق الإنسان لهدايته.

أمّا سائر القوانين فهي قوانين مجردة يضعها الفكر البشري القابل للخطأ، بل قد يكون خطؤه أكثر من صوابه، لذلك تتبدل سائر القوانين باستمرار وتختلف باختلاف أذواق وتوجهات المشرعين.

نحن نعلم أن النبي وأهل البيت(عليهم السلام) معصومون؛ لذا فإن كل ما يصدر عنهم من كلام صحيح مائة بالمائة، وعليه ينبغي علينا ما يلي:

أوّلاً: معرفة تلك الكلمات النورانية.

ثانياً: الإيمان بها.

ثالثاً: تطبيقها عملياً.

ومعنى التشاجر في الآية هو الاختلاف والنزاع، وهو لا يخص قضايا معيّنة،

ص: 558


1- سورة النساء، الآية: 65.

بل يعم كل شيء من أمور قضائية أو اجتماعية أو معتقدات وما إلى ذلك.

فالإيمان الكامل يكمن في اعتقاد المؤمن بما صدر عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، ثم القبول بما قالوه عملاً، وعدم الحرج والضيق قلباً، إذ الإنسان أحياناً قد يؤدّي عملاً ما بسبب الاضطرار أو لأسباب اُخرى، فيقبل بالحكم ظاهراً ولكنه غير راضٍ عنه في الباطن، فحتى في المسائل الخلافية في المحاكم حينما يحكم القاضي لصالح أحد الطرفين، فإن الطرف المدان قد يعرف بأن حكم القاضي صحيح، لكنه لا يكون راضياً عنه.

لذا فمفهوم الآية الشريفة: إن الإنسان الذي يقبل بحكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا وجد ضيقاً في قلبه من ذلك الحكم؛ فإنّه لا يكون إيمانه كاملاً.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لو أن قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه اللّه، أو صنعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ...}، ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): عليكم بالتسليم»(1).

إن الشرك قسمان:

الأوّل: الشرك الجليّ: ويُعد الإنسان في هذه الحالة خارجاً عن الملّة الإسلامية فيكون كافراً، كمَن يعتقد بأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) هم شركاء اللّه سبحانه وتعالى.

الثاني: الشرك الخفيّ: كالرياء وهو من المحرمات الكبيرة؛ لأن الإنسان يصلّي للّه ولغيره، فيشرك غير اللّه في صلاته، وهذا الفعل لا يخرج الإنسان من

ص: 559


1- الكافي 1: 390.

الملّة، فلا يكون كافراً ومرتداً في الظاهر، لكن المعصية تُعد كبيرة، وقد تكون درجات خفية من الشرك، تسبب نقص الإيمان.

لذا يجب على الإنسان أن يصل إلى درجة الإيمان الكامل وهي فوق درجة القبول؛ لأن الإنسان قد يقبل بشيء لكنه منزعج منه في باطنه، كالشخص الذي يحتاج إلى عملية جراحية تقتضي بتر رجله، بحيث إذا لم تبتر يفقد حياته، فهو يقبل أن تبتر رجله عن طيب خاطر، ويدفع الأموال من أجل ذلك، لكنه يبقى منزعجاً من هذه العملية، أي: إنه في ضيق نفسي منها.

إننا نعيش الآن في عصر تحكمه الحضارة الأجنبيّة، ليس سياسياً فقط، بل في كل شيء، وغالباً ما تكون الحضارة الحاكمة مؤثرة، فعندما كانت الحضارة الإسلامية هي الحاكمة كان الغربيون متأثرين بها، ويحدث الآن العكس، حيث يتأثر الكثير من المسلمين بالغرب، في المجالات كافة؛ حيث دخلت في بيوت الناس جميعاً؛ وذلك عن طريق وسائل الإعلام؛ كالتلفاز والصحف والإذاعات والجرائد والكتب، كذلك المناهج الدراسية والقضايا الاجتماعية والسياسية كلها متأثرة بها بشكل واضح، ومن البديهي أن كثيراً من مفردات الحضارة الغربية لا تنسجم مع الحضارة الإسلامية.

وحينما لم تتمكن الحضارة الغربية في السيطرة على العالم بالقوة العسكرية، لذلك لجأت إلى استخدام القوة الناعمة، بحيث تقدم حضارتها بطريقة تبهر الآخرين كي يقلدوها، وهم يمتلكون الأموال ولديهم القدرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والنظام السياسي المستقر، فأمر طبيعي أن ينبهر الناس، كما أن الضعيف دائماً يتأثر بالقوي، لهذا نلاحظ في هذا الظرف وجود هجمة كبيرة على مفردات ومعالم الحضارة الإسلامية، وللأسف لقد فشل بعض الداعين إلى الحضارة والثقافة الإسلامية بدورهم؛ لأنهم قدموا نموذجاً سيئاً.

ص: 560

وفي كل هذه الظروف الصعبة يجب أن يكون إيمان الإنسان كاملاً، وتكون عنده معرفة، ثم يكون إيمانه كالجبل لا يتزلزل ولا تهزه العواصف، كما ورد في الحديث: «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل ونشر لم يتغير قلبه»(1)، بل يزداد توهجاً وصلابة.

فمن الضروري أن يتهيّأ الإنسان لمعرفة الجواب عن أي إشكال أو شبهة تطرح عليه، وقد جاء في الحديث الشريف: «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً»(2) أي: إن لكل صواب دليلاً، ولا يوجد حق من دون دليل، وهو موجود في القرآن الكريم والروايات، لكن يجب على الإنسان أن يستخرج ذلك، كما الدرر واللآلئ الموجودة في البحر، حيث تحتاج إلى غواص لاستخراجها.

يقول علماء النفس: توجد طبقتان في مخ الإنسان: إحداهما تسمى الشعور، والثانية اللاشعور، مثلاً: أن تتعرف على الشخص حين تراه فقد كان في منطقة الشعور من الذاكرة، أمّا اللاشعور فمثل أن يقال لك: هل تعرف فلاناً؟ فلا تعرفه ولا تتذكره، ثم يذكرون لك أوصافه فتتذكره، لأنه لم يكن موجوداً في طبقة الشعور، بل في اللاشعور، فبواسطة التذكير يأتيك ذكره من اللاشعور إلى الشعور.

واللاشعور يتحكم بالإنسان من حيث لا يعلم، ويذكرون في علم النفس أن العُقَد النفسية التي تتحكم في سلوك الإنسان إنّما توجد في منطقة اللاشعور، ولا يمكن حلّها إلّا عبر إخراجها إلى منطقة الشعور، فقد يوجد إنسان يخشى حشرةصغيرة، وآخر يخاف القطة أو الفأرة، والسبب أن هذا الإنسان عندما كان صغيراً

ص: 561


1- المحاسن 1: 251.
2- الكافي 2: 54.

تعرض لحادثة معينة زرعت الخوف في نفسه، مع أنه نسي تلك الحادثة لكنها ظلت موجودة في لا شعوره؛ لذا كلما يرى ما أخافه سابقاً فإن طبقة اللاشعور تحركه، فيتعرض للخوف مرّة اُخرى، لهذا من طرق الطب النفسي أن المختصين يدخلون في منطقة اللاشعور، ويخرجون المشكلة منها إلى طبقة الشعور، فيتذكرها الإنسان المصاب وتحل العقدة وتنتهي.

ما نستفيده من علم النفس، أننا إذا سمعنا شبهة لا نعرف جوابها فلا يصح أن نتركها من دون جواب مقنع لأنفسنا؛ لأن هذه الشبهة قد تذهب إلى اللاشعور ثم تسوق الإنسان نحو عدم التديّن؛ لذا يجب على الإنسان أن يفكر في حلّها من خلال المطالعة أو السؤال.

ص: 562

(72) القرارات المصيريّة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1).

إن الإنسان في كل يوم قد يقرر مجموعة من القرارات، كأن يذهب للدرس، أو إلى السوق، أو غير ذلك، وهذه القرارات التي يتخذها الإنسان يمكن أن نصنّفها إلى نوعين:

النوع الأوّل: القرارات الجزئية غير الهامة، فكل إنسان يتخذ في كل يوم عشرات من القرارات، وهي قرارات جزئية عادة، ويكون تأثيرها محدوداً، فلو كانت خاطئة فسوف تكون أضرارها محدودة، كطالب يذهب للمدرسة يوم الجمعة ويجد المدرسة مغلقة؛ فهذا قرار خاطئ لكنه غير مهم لأن المتعلق غير مهم ولو فرض أن فيه ضرراً فهو ضرر جزئي ولا أهميّة له.

النوع الثاني: القرارات المهمة، وقد تكون منافعها - إذا كان لها منافع - مهمة جداً، وأضرارها كذلك.

إننا لو قرأنا التاريخ لوجدنا مواقع مفصلية غيّرت حياة أمّة، إمّا إلى الإيجاب أو السلب، وهذه القضايا الهامة المفصلية - سواء أكانت إيجابية أم سلبية - كان منشؤها قرار واحد أُتخذ، سواء كان قراراً خاطئاً أم صحيحاً، فالقرار الصحيح قد

ص: 563


1- سورة الزمر، الآية: 67.

يسبّب آثاراً لمئات السنين، وكذلك القرار الخاطئ، فهو قرار واحد، لكن باعتبار المتعلق كان قراراً هاماً جداً.

ولنذكر لذلك بعض الأمثلة:

1- التوحيد والشرك

لقد كانت حياة العرب قبل البعثة النبوية حياة صعبة جداً اقتصادياً، حيث كانوا يعيشون في فقر شديد، بل كانوا يقتلون أولادهم بسبب الفقر، ويئدون البنات، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ}(1)، وقال: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٖ}(2)، فمرّة يكون الإنسان فقيراً فيقتل ولده، ومرّة هو ليس بفقير لكن يخشى أن يصبح فقيراً فيقتل ولده، وقال: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(3).

كما أنهم كانوا في خوف دائم؛ إذ كانت ثقافتهم الغارات، فكان يُغير بعضهم على بعض، فيقتلونهم ويسبون نساءهم وذراريهم وينهبون أموالهم.

وأمّا الجهة الاجتماعية فكانت كلها مشاكل.

فمن الأمور التي قام بها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه حررهم من الأغلال التي كانت عليهم، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(4)، فقد ألغى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القوانين والعادات السيئة التي كانت حاكمة آنذاك.

إننا لو تتبعنا سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لوجدناه عانى الكثير لكي يغيّر هذه العادات

ص: 564


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- سورة الإسراء، الآية: 31.
3- سورة التكوير، الآية: 8-9.
4- سورة الأعراف، الآية: 157.

السيئة، والجهل المنتشر، وبذلك حدثت نقلة نوعية، فهؤلاء الذين كانوا بهذهالدرجة من التخلف في كل المجالات أصبحوا روّاد الحضارة، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعل كل ذلك، حيث غيّر الواقع الذي كانوا يعيشونه.

إنهم كانوا يعبدون الأصنام، فجاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغيّر هذه العقيدة إلى عقيدة التوحيد والإيمان باللّه الواحد الأحد، ولو بقي هذا الذي يعتقد بالصنم على حاله لكانت نتيجته أنه يعيش حياة صعبة، قال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(1)، فمن يعبد الصنم له معيشة ضنكاً في الدنيا، ويعاقب في الآخرة.

وحينما فتح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة المكرّمة أمر بدكّ الأصنام، فأمر أن يكسر (هبل) الذي هو من أهم أصنام المشركين في مكة، ثم أمر بدفنه تحت باب بني شيبة، حتى يطأه المسلمون كل يوم عندما يدخلون المسجد(2)؛ لذا من السنة أن يدخل الحاج من باب بني شيبة ليطأ هبل.

قد يعترض البعض ويقول: لماذا هذا التركيز على التوحيد، فإنه لا تفتح صفحة من القرآن إلّا وفيها مسألة من مسائل التوحيد؟

والجواب واضح، وهو: إن الإسلام والحضارة الإسلامية والسعادة مبنية على التوحيد في الدنيا والآخرة.

والحاصل: أن العرب قرروا - بجهود رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - أن يدخلوا في الإسلام، وبهذا القرار أصبحوا سادة العالم بعد أن كانوا أذلة.

2- ارتكاب الذنوب

فقد يكون سببه الجهل بعلم اللّه تعالى، فإن الإنسان قد يتخذ قراراً خاطئاً بالكفر

ص: 565


1- سورة طه، الآية: 124.
2- انظر: من لا يحضره الفقيه 2: 238؛ وعلل الشرائع 2: 450.

أو العصيان وذلك القرار قد يوصله ذلك إلى أسفل سافلين، فإن الكفار والمشركينوالفسّاق عندما يحضرون في المحكمة الإلهيّة يوم القيامة، يحضر الملائكة والشهود، مع سجلّ أعمالهم، إلّا أنهم مع كل هذه الشهود لا يعترفون، بل يدافعون عن أنفسهم ويقولون: إن هذا كذب، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى يقول في حقهم: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1)، إلّا أنهم يعاتبون أعضاءهم، قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٖ}(2)، فالجلود تتكلم يوم القيامة، واللّه تعالى هو الذي أعطاها القدرة على الكلام؛ لأن كل شيء منه سبحانه، فإن جسم الإنسان مركب من عناصر الأرض، وهذه التركيبات تجتمع فتصبح إنساناً، وبعد ذلك تتحلل وترجع إلى الطبيعة مرّة ثانية، فاللّه الذي أنطق الإنسان قادر على أن ينطق جلده.

ثم بين اللّه سبحانه وتعالى سبب ارتكاب هؤلاء للمعاصي وهو زعمهم بأن اللّه تعالى لا يعلم بهم، وهذا خطأ منهجي عند الإنسان، فهو يتخيل أنه إذا كان داخل غرفة وفي مكان وحده، فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يعلم به: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

3- حول الشفاعة

إن البعض يرتكب أنواع الجرائم ويقول: إنه ما دام لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 566


1- سورة يس، الآية: 65.
2- سورة فصلت، الآية: 21.
3- سورة فصلت، الآية: 22-23.

والأئمة(عليهم السلام) شفاعة، فسوف يشفعون لي.

صحيح أن الرسول والأئمة(عليهم السلام) يشفعون، ولكن لا تكون شفاعتهم إلّا لمن ارتضاه اللّه لا لغيره، سواء شفاعة لغفران الذنوب أو شفاعة لنيل الدرجات.

ولكن الذنوب قد تؤدّي إلى أن يموت الإنسان على غير ملة رسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهل هذا الذي يرتكب الذنوب وهو يطمع في الشفاعة يضمن أنه يموت على الإسلام وعلى ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)، لكي يشفع الرسول والأئمة له؟ فربما تؤدّي هذه الذنوب إلى عاقبة سيئة، قال اللّه تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(1)، فالذنوب مثل الحلقات تجر بعضها بعضاً، إلى أن يصل الأمر إلى الكفر.

ثم لنفرض أن هذا المذنب مات على الولاية والإيمان، والشفاعة يوم القيامة تناله، لكن من الممكن أن يعذب في القبر إلى يوم القيامة، وهذه مدة قد تطول آلاف أو ملايين السنين، ثم إنّه قد لا تناله الشفاعة مباشرة يوم القيامة، ففي بعض الأحيان تتأخر الشفاعة حسب جريمته، وقد يلقى في نار جهنم أحقاباً(2)، فمن الممكن أن يبقى ملايين السنين في نار جهنم حتى يُصفّى من الذنوب، ثم يشفع له؛ لذا ورد في بعض الأحاديث: «الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يؤمنهم من مكر اللّه»(3).

ص: 567


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- فعن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لَّٰبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [سورة النبأ، الآية: 23] قال: «الأحقاب ثمانية أحقاب، والحقبة ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة مما تعدون». معاني الأخبار: 220.
3- نهج البلاغة 4: 20.

إن خطأ منهجياً واحداً يؤدّي بالإنسان إلى أن يخسر الدنيا والآخرة؛ لذافالإنسان حينما يريد أن يقرر - خاصة في الأمور المهمّة - يلزم أن يكون قراره بتديّن وعقلانية واستشارة، وبتقليب وجوه الرأي، وبعد ذلك يتخذ القرار الاستراتيجي، وإذا اتخذ القرار فسوف يكون مصيره وكل عمره تبعاً له.

ص: 568

(73) دواعي عمل الإنسان

اشارة

قال اللّه تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(1).

إن عمل الإنسان يختلف باختلاف المقاصد والنوايا، فتارةً يكون الداعي للقيام بعمل ما هو الرغبة النفسية، وبعبارة أخرى: الداعي الشهوي، فالإنسان يشتهي الطعام فيأكله، وتارة يكون الداعي هو داعٍ عقلي، فعقل الإنسان يرشده إلى فعل من الأفعال، وتارة الداعي يكون داعياً إلهياً، بمعنى أن الإنسان يأتي بالفعل امتثالاً لأمر اللّه سبحانه وتعالى، وينتهي عنه امتثالاً لنهيه تعالى.

القسم الأوّل: الداعي الشهوي

إذا كان الداعي شهوياً وكان العمل ضمن الضوابط الشرعية فيكون مباحاً، لكن لا ثواب للإنسان في القيام به، فمثلاً: الإنسان يأكل الطعام الحلال لأنه يشتهيه، فلا يوجد ثواب في ذلك، كما لا يعاقب على ذلك يوم القيامة؛ لأن الأكل كان ضمن الضوابط الشرعية، إذ كان من كسبه الحلال، ولم يكن فيه ما حرّمه اللّه سبحانه وتعالى، وقد أدّى حقوقه الواجبة كالخمس والزكاة مثلاً.

ص: 569


1- سورة آل عمران، الآية: 14.

وأمّا قول اللّه تعالى: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(1) فليس المراد من النعيم الأكل والشرب الحلال، بل الولاية؛ فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «اللّه أكرم وأجل من أن يطعمكم طعاماً فيسوغكموه، ثم يسألكم عنه، ولكنه أنعم عليكم بمحمّد وآل محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2)،

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لا يسأل عباده عما تفضل عليهم به، ولا يمن بذلك عليهم، والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلى الخالق عزّ وجلّ ما لا يرضي المخلوق به؟! ولكن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل اللّه عباده عنه بعد التوحيد والنبوة؛ لأن العبد إذا وفا بذلك أداه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول. ولقد حدثني بذلك أبي، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا علي، إن أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمّداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإنك ولي المؤمنين بما جعله اللّه وجعلته لك، فمن أقر بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له...»(3).

هذا هو المراد من النعيم، فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يحاسب الإنسان إذا أكل رزاً حلالاً أو شرب ماءً طيباً، فإن هذا خارج عن دائرة الحساب إذا كان من حلال. نعم، إذا كان من حرام فهو يحاسب عليه ويعاقب.

القسم الثاني: الداعي العقلي

إن كل إنسان قد يرغب في عمل ما، وقد يكون هذا العمل حلالاً، لكنه لا يقوم بذلك العمل؛ لأن الناس يحاسبونه عليه، وقد يقوم بعمل ما مع عدم قناعته

ص: 570


1- سورة التكاثر، الآية: 8.
2- المحاسن 2: 400.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 136-137.

به؛ لأنه إذا لم يأتِ به فسوف تتأثر سمعته الاجتماعية، والناس لا يرضون عنه، مثلاً: قد يتبرّع بعض الناس بمبلغ من المال ليتيم، ولو سألته: لماذا تبرّعت بهذا المال لليتيم، لقال: إذا لم أتبرع به فسوف لا يرضى الناس عنّي، ويتهمونني بالبخل، فدرءاً لكلام الناس ورعاية لوجاهته الاجتماعية يأتي بهذا الفعل.

إن الإنسان الذي يقوم بهذا العمل بالداعي العقلي لا يستحق ثواباً عليه، وهذا العمل إذا لم يكن محرّماً فلا عقاب فيه، لأنه قام به لأجل نفسه، فهو يريد أن يحفظ مكانته الاجتماعية ووجاهته وسمعته عند الناس فلذا جاء بهذا العمل.

نعم، العقل يدل على أن حفظ الإنسان مكانته الاجتماعية ومنزلته ووجاهته، ليس قبيحاً بل هو عمل حسن، ولكن فاعله لا يستحق ثواباً على اللّه سبحانه وتعالى بذلك العمل؛ لأنه قام به لأجل نفسه، وقد حصّل النتيجة.

القسم الثالث: الداعي الإلهي

وهو أن يكون الداعي لعمل الإنسان وجه اللّه تعالى، كأن يتبرع بمال ليتيم، أو يدفع المال لفقير لا بداعي شهوي، ولا بداعي عقلاني، وإنّما لأن اللّه سبحانه وتعالى أمر بذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(1)، وهذا هو الذي وعد اللّه سبحانه وتعالى الثواب عليه إذا كان مطابقاً للموازين الشرعية.

نعم، في الأصل لم يكن حق للإنسان على اللّه سبحانه وتعالى، وإنّما اللّه سبحانه لفضله وكرمه وعد بالثواب، وهو يفي بما وعد، وإنّما لا استحقاق لولا الوعد لأن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا ثم غمرنا بالنعم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا

ص: 571


1- سورة الإنسان، الآية: 9.

تُحْصُوهَا}(1)، فلو صرف الإنسان عمره كله في عبادة اللّه سبحانه وتعالى فلا يؤدّي حق نعمة واحدة من النعم، فكيف يستحق على عمله ثواباً لولا فضل اللّه ورحمته؟!

الكافر الذي خدم البشرية

وبهذا البيان تنحل شبهة البعض حيث يقول: إن بعض الكفار خدموا البشرية خدمة عظيمة، كمن اخترع المصباح الكهربائي، وغير ذلك، وكذلك الذين ألّفوا في العلوم المختلفة، لكنهم لماذا لا يدخلون الجنة، بينما يدخلها المسلم الذي لم يقدم أي شيء للبشرية، إلّا أن عقيدته سلمية وعمله صالح؟

والجواب على ذلك: هو أن الذي خدم البشرية لم يكن الداعي عنده هو اللّه سبحانه وتعالى، حتى يحصل على الثواب، وإنّما كان داعيه لذلك شيء آخر مثل المال أو الجاه أو نحو ذلك، وقد حصل على ما أراد؛ لذا فلا يستحق على اللّه شيئاً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يعده شيئاً مقابل عمله، وإنّما وعد بالثواب لمن آمن وعمل صالحاً.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى إنّما وعد مَن آمن وعمل صالحاً، وكان الداعي لعمله هو الداعي الربّاني وضمن الضوابط الشرعية. مع أن البشر لا يستحقون على اللّه شيئاً، وإنّما بفضل منه تعالى.

نعم، إن أعمال الإنسان التي يقوم بها بالداعي الشهوي إذا نوى بها القربة، أو نوى أن تكون مقدمة لعبادة، أو لعمل صالح لوجه اللّه، فلعلّ اللّه بفضله يثيبه على ذلك، فعندما يأكل الإنسان الطعام فالداعي هو داعٍ شهوي، لكن إذا قصد أن

ص: 572


1- سورة النحل، الآية: 18.

يكون الأكل لكي يتمكن من القيام بالعبادة، فلعلّ اللّه سبحانه وتعالى بفضله وكرمه يرزقه الثواب على هذا الأكل، وهكذا.

درجات الداعي الإلهي

ثم إن هذا الداعي الإلهي والرباني درجات؛ لذا تختلف درجات الناس في الآخرة، قال تعالى: {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ}(1)، حيث نجد أن بعضهم في قمة الجنة، وآخر في أنزل درجاتها، وبين كل درجة ودرجة أخرى - حسب ما في بعض الروايات(2) - كما بين السماء والأرض، والنعيم موجود في درجات الجنة كلها، وحتى في أنزل درجاتها؛ لأن الجنة لا توصف، ففي الحديث الشريف: «... ومن تصدق بصدقة في رجب ابتغاء وجه اللّه أكرمه اللّه يوم القيامة في الجنة من الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(3)، لأن الإنسان إنّما يدرك الشيء بالقياس لشيء آخر، حيث يدرك الأمور المادية الدنيوية، وأمّا الجنة فكلما وصفت لنا فلا ندركها.

فدرجات الجنة متفاوتة؛ وذلك لاختلاف العمل والنية واختلاف الدواعي.

ومن الداعي الرباني هو الخوف من النار، وهو أنزل الدرجات.

وفوقه في الدرجة الطمع في الجنة والثواب.

وفوق ذلك أن يكون الداعي هو الحياء، فقد يؤدّي بعض الناس العبادة بداعي الحياء من اللّه، ويترك المحرمات كذلك، فهو يستحي من اللّه سبحانه وتعالى

ص: 573


1- سورة آل عمران، الآية: 163.
2- انظر: بحار الأنوار 8: 196، وفيه: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة منها كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها سمواً، وأوسطها محلة، ومنها يتفجر أنهار الجنة...».
3- وسائل الشيعة 10: 478.

لذا يترك المحرّمات أو يقوم بالطاعات.

وهناك داعٍ أعلى درجة، وهو أن يعبد اللّه سبحانه وتعالى حبّاً للّه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(1). وهو ما أشار له أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا رغبة في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(2).

إن أولياء اللّه تعالى يخافون من النار، ويرغبون في الجنة، ولكن عبادتهم ليست لذلك الخوف ولا لتلك الرغبة، وإنّما هي حبّاً للّه، حيث يرون اللّه أهلاً للعبادة.

إن الثواب على قدر العقل، فكلما كان عقل الإنسان أرفع كان ثوابه أكثر، وأعقل الناس من عبد اللّه تعالى حباً له(3).

والحاصل: إن العمل يسمو حتى إذا كان قليلاً، بشرط أن تكون النية سامية، وإلّا فلا يسمو ولا تسمو النية إلّا لو ارتفع المستوى العقلي للإنسان.

ص: 574


1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- عوالي اللئالي 2: 11؛ شرح نهج البلاغة، لابن ميثم 5: 361.
3- في الحديث الشريف: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): «فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إن الثواب على قدر العقل، إن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد اللّه في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإن ملكاً من الملائكة مرّ به فقال: يا رب، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه اللّه تعالى ذلك، فاستقله الملك، فأوحى اللّه تعالى إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد اللّه معك، فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه، وما يصلح إلّا للعبادة، فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيباً، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع، فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى اللّه إلى الملك: إنّما أثيبه على قدر عقله» الكافي 1: 11.

استثمار الفرص

ينبغي على الإنسان أن يستفيد من وقته للأعمال الصالحة، ويستغل بعض الأوقات، كشهر رمضان، ويحاول أن يكون عمله أفضل، لكي لا يندم يوم القيامة، ولا تصيبه الحسرة: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}(1)، فكل الناس في يوم القيامة يتحسّرون، وليس الكفار فقط.

فقد يتحسر المؤمن على درجته في الجنة؛ لأنه كان بإمكانه أن يكسب الدرجات الأعلى، وقد قصّر في الدنيا وأهدر الوقت، حيث كان يمكنه أن يقضي وقته بالعبادة أو طلب العلم أو خدمة للناس ويعمل لكي يرضي اللّه سبحانه وتعالى، فكل إنسان يتحسّر يوم القيامة، طبعاً هذا يكون في يوم القيامة قبل الدخول في الجنة، وأمّا بعد دخولها فلا يوجد شيء ينغّص عليه عيشه، ولا توجد لديه حسرة.

يقال: إن الذي درجته أدنى لا يتمكن من زيارة الذي درجته أعلى، ولا يفكر في ذلك لئلا يرى زيادة نعيمه فيتحسر وإنّما الذي درجته أعلى هو الذي يأتي ويزور الذي درجته أدنى، أي: عكس الدنيا، ففي الدنيا الصغار يزورون الكبار(2).

ص: 575


1- سورة مريم، الآية: 39.
2- في الحديث الشريف: «وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة» الكافي 2: 54.

(74) الصبر والظفر

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(1).

إذا أراد الإنسان أن يصل إلى النتائج الكبيرة فهو يحتاج إلى مقدمات شاقة وطويلة وكثيرة. فمن أراد الحصول على شهادة علمية - مثلاً - فهو بحاجة إلى أن يدرس سنوات طويلة، ويسهر الليالي، ويرهق نفسه ويقلّل من رغباته. كل ذلك لأن النتيجة كبيرة فتحتاج إلى مقدمات صعبة طويلة، وكلما كانت النتائج أكبر وأهم كانت المقدمات أصعب.

وأهم النتائج هي كسب رضا اللّه سبحانه وتعالى والجنة، فلا يوجد شيء فوق ذلك، وما عدا ذلك من نتائج فهي نتائج وقتية، وهذه النتيجة الكبيرة العظيمة بحاجة إلى مقدمات صعبة، واللّه سبحانه وتعالى بنى الكون على هذا قال اللّه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}(2).

إن مَن يرجو دخول الجنة يحتاج إلى عمل وجد واجتهاد، وهذا ما أشار إليه

ص: 576


1- سورة السجدة، الآية: 24.
2- سورة البقرة، الآية: 214.

أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل»(1)، ولا يحق له أن يتكل على الأماني، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ}(2)، فإن الجنة لا تُنال بالأماني وبطول الأمل، وإنّما تُنال بالإيمان والعمل، ولذا ورد في الحديث الشريف: «حُفّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات»(3)، فلماذا حُفّت الجنة بالمكاره؟ الجواب: لأن الأمر العظيم يحتاج إلى مقدمات عظيمة؛ ولذا كان الصبر من أهم مقدمات التقدم والتطوّر ونيل الجنة؛ لأنه طريق للتغلّب على المشاكل.

إن البعض يتصور أن الصبر يعني الخنوع والاستسلام واليأس!! لكن هذا التصور غير صحيح؛ لأن الأنبياء والأولياء(عليهم السلام) هم أصبر الصابرين، ولم يكونوا خانعين ومستسلمين وكسالى، بل كانوا يثابرون إلى نهاية الطريق.

أقسام الصبر

ورد في الحديث الشريف: «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية»(4).

1- أمّا الصبر على المصيبة فهو أن لا يجزع الإنسان وأن لا يخرج عن جادة الشرع حينما تنزل به مصيبة كمن فقد عزيزاً له أو فقد ماله أو نحو ذلك فقد يكفر البعض أو يرتكب المعاصي.

2- أمّا الصبر على طاعة اللّه سبحانه وتعالى فهو أمر صعب؛ إذ كثيراً ما

ص: 577


1- تحف العقول: 157.
2- سورة النساء، الآية: 123.
3- روضة الواعظين: 421.
4- الكافي 2: 91.

تتعارض الطاعة مع هوى النفس، والمؤمن بصبره على الطاعة يؤدّي التكليف الذي في ذمته، فعندما يأمرنا اللّه سبحانه وتعالى بالعمل والجهد والمثابرة وجهاد النفس فيلزم علينا أن نطيعه.

3- أمّا الصبر عند المعصية فلأن الإنسان حينما يريد أن يكون على الطريق المستقيم يمنعه شياطين الإنس والجن، وفي بعض الأحيان تكون هذه الضغوط هائلة جداً؛ فلذا يلزم عليه أن يصمد أمامها؛ لأن الاستجابة لها - غالباً - تكون فيها معصية اللّه سبحانه وتعالى، فيلزم على الإنسان أن يصبر عن المعصية.

إن الصبر عن المعصية قد يكون في ترك الحرام كما لو رأى منظراً محرّماً فلا بدّ أن يغضّ نظره عنه، أو وجد مالاً حراماً فيمسك بيده، إن هذه صورة من صور الصبر عن المعصية، لأن النفس تدعو الإنسان للحرام، وقد يكون في مقاومة الضغوط التي تريد أن يتخلّى الإنسان عن وظيفته الشرعية.

كان أحد علماء العامة يُدعى شريك، فأراد المهدي العباسي أن يوليه القضاء فرفض، فاحتال لذلك، فدعاه يوماً، فقال له: أريد منك إحدى ثلاث: إمّا أن تكون قاضياً، أو تكون معلّماً لأولادي، أو تأكل من هذا الطعام، فاختار أن يأكل من الطعام فتقدم وأكل من المائدة، وكان فيها ما لذّ وطاب، فلما أكل منها استطابها وقبل القضاء والتعليم!!

إن الإنسان عندما يعرض نفسه على شيء من الشهوات قد يقع في الفخ؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1)، وجاء في حديث آخر: «إن لكل ملك حمى، وحمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى

ص: 578


1- وسائل الشيعة 27: 167.

أوشك أن يقع فيه»(1)، فيلزم على الإنسان أن يجعل بين نفسه وبين المحرّمات حواجز حتى لا يستطيبها؛ لأنه إذا استطابها فقد تسحبه إليها، ويقع فيها.

صبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو خير خلق اللّه، ومع ذلك واجهته كثير من المشاكل والصعوبات، فمثلاً حينما كان في مكة تعرض هو والمسلمون لمحاربة اجتماعية، فلقد كان وجيهاً بين أهل مكة، لكنه بين عشية وضحاها أصبح في نظرهم ساحراً وكاهناً!!

ثم تعرض بعد ذلك لمحاربة اقتصادية في شِعب أبي طالب، حيث بقي مع المسلمين هناك ثلاث سنوات، فقد منعت قريش أن يبايعهم أهل مكة، بحيث كان أطفال المسلمين يبكون من الجوع(2).

ولقد كان أصحاب النبي يعيشون القلق والخوف من أن يغتال المشركون رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). قال العلامة المجلسي: «وكان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلاً أو سراً، وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أخذ مضجعه أو رقد جعله أبو طالب بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه»(3).

وعندما مات أبو طالب وماتت خديجة قرر المشركون قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(4)، فهاجر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة.

وفي المدينة لم يتركه المشركون أيضاً بل شنّوا عليه الحروب، إلى أن نصره اللّه

ص: 579


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- انظر: بحار الأنوار 19: 18-19.
3- بحار الأنوار 19: 19.
4- انظر: بحار الأنوار 19: 53.

عليهم بفتح مكة، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(1).

والحاصل: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه الخُلّص الذين كانوا معه لم يستسلموا، ولم يتركوا العمل، فيجب على الإنسان أن يتوكل على اللّه، ولا يتواكل، ويجب عليه أن يعمل حسب ما يريد اللّه سبحانه وتعالى إلى حين الموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(2)، وأن لا يستجيب للضغوط، وأن لا ينهار أمام المشاكل، وإنّما يفكر في كيفية تجاوزها، وعندما يرى اللّه سبحانه وتعالى أن هذا الإنسان أو هذا المجتمع لهم قابلية فسوف ينزل عليهم النصر، ولذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فلما رأى اللّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر»(3).

ص: 580


1- سورة الفتح، الآية: 1.
2- سورة الحجر، الآية: 99.
3- نهج البلاغة 1: 105.

(75) الشعور بمسؤولية التصدّي

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ}(1).

إن الإنسان الذي يتصدّى لعملٍ ما يجب أن يكون بمستوى ذلك العمل، فإذا لم يكن بمستواه وهو يعلم بذلك يكون تصدّيه أشبه بالخيانة، فمن يعلم أنه لا يتمكن من القيام بأمر فعليه أن لا يخدع نفسه ويخدع الآخرين، بل عليه أن لا يتصدّى من الأوّل، ومن كان يرغب بالتصدّي لأمر فيجب عليه أن يوفر في نفسه المواصفات التي يجب أن يمتلكها صاحب تلك المسؤولية أو ذلك الأمر، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح»(2).

ولنذكر هنا بعض النماذج:

النموذج الأوّل: إن موسى(عليه السلام) حينما خرج من مصر خائفاً يترقب ووصل إلى ماء مدين، وجد رعاةً يسقون لأغنامهم، ووجد امرأتين على جانب تذودان أغنامهما عن الماء، فجاء وقال: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُوَأَبُونَا

ص: 581


1- سورة البقرة، الآية: 247.
2- نهج البلاغة 1: 40.

شَيْخٌ كَبِيرٌ}(1)، فنحن لا نتمكن أن نسقي الأغنام بحضور الرعاة الأجانب، وأبونا شيخ كبير السن لا يتمكن من القيام بهذه المهمة، فنحن ننتظر إلى أن يسقي الرعاة أغنامهم ثم يذهبون، فيفرغ المكان ويفضل مقدار من ماء البئر، فنسقي به أغنامنا، فعندما سمع موسى(عليه السلام) سقى لها. ثم إنه(عليه السلام) تعرف على نبي اللّه شعيب(عليه السلام)، وزوجه إحدى ابنتيه: {قَالَتْ إِحْدَىٰهُمَا يَٰأَبَتِ اسْتَْٔجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَْٔجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(2)، لأنها رأت أمانته في العمل، ثم رأت أمانته الأخلاقية، فلم ينظر إليهما نظرة سوء(3).

إن الإنسان لو كان أميناً لكنه ضعيف لا يستطيع القيام بالعمل، فلا ينبغي له أن يؤجر نفسه، وإذا كان قوياً لكنه ليس بأمين فهذا لا يفيد لأنه سيخون.

النموذج الثاني: عندما ثبتت براءة يوسف(عليه السلام) في قضية النسوة المعروفة، قال

ص: 582


1- سورة القصص، الآية: 23.
2- سورة القصص، الآية: 26.
3- فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن موسى كليم اللّه حيث سقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٌ} [سورة القصص، الآية: 24] واللّه ما سأل اللّه إلّا خبزاً يأكل، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد رأوا خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، فلما رجعتا ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما: أسرعتما الرجوع! فأخبرتاه بقصة موسى ولم تعرفاه، فقال شعيب لواحدة منهما: اذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا، فجاءت إليه كما حكى اللّه: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٖ} فقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام موسى(عليه السلام) معها فمشت أمامه فسفقتها الرياح فبان عجزها، فقال لها موسى: تأخري ودليني على الطريق بحصات تلقيها أمامي أتبعها، فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء، فلما دخل على شعيب قص عليه قصته فقال له شعيب: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ} [سورة القصص، الآية: 25]. قالت إحدى بنات شعيب: {يَٰأَبَتِ اسْتَْٔجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَْٔجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [سورة القصص، الآية: 26]، فقال لها شعيب: أمّا قوته فقد عرفته بسقي الدلو وحده، فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه قال لي: تأخري عنّي ودليني على الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من القوم الذين ينظرون في أعجاز النساء، فهذه أمانته» بحار الأنوار 13: 28.

الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}(1)، وهنا قال يوسف(عليه السلام): {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(2)، فهناك - في قضية موسى(عليه السلام) - قوي أمين، وهنا حفيظ عليم، أي: أحافظ على أموال الدولة وأعلم بالشؤون الاقتصادية.

النموذج الثالث: إن بني إسرائيل بعد موسى(عليه السلام) بفترة تركوا أحكام اللّه، فسلط اللّه عليهم أعداءهم، فصادروا أراضيهم، وقتلوا قسماً من أبنائهم، وأسروا قسماً آخر: {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبْنَائِنَا}(3)، فقد أخرجنا العدو من ديارنا وأراضينا، وقتل أبناءنا وأسر البعض الآخر، فطلبوا من نبيهم - الذي هو اشموئيل بالعبرية، وإسماعيل بالعربية - أن يعيّن لهم ملكاً، فاللّه عين لهم طالوت، وهنا أخذتهم العصبية والحمية الجاهلية: {قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}، لأنه كانت العادة في بني إسرائيل أن تكون النبوة في ذرية (لاوي)، وهو أكبر أبناء يعقوب، والملك في ذرية (يوسف) أو (يهوذا)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى اختار لهم طالوت، وهو من ذرية (بنيامين)، فقالوا: إن عنصرنا أفضل من عنصره، فنحن من عنصر الملك والنبوة؛ هذا أوّلاً، وثانياً: إنه لم يؤت سعة من المال، فهو فقير.

فقال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}، والمعنى إنكم إذا تصورتم أن طالوت أدون منكم فهذا من الاعتبارات الاجتماعية المرفوضة عند اللّه تعالى فهو سبحانه وتعالى لم يشرّع هذه الاعتبارات، بل يقول:

ص: 583


1- سورة يوسف، الآية: 54.
2- سورة يوسف، الآية: 55.
3- سورة البقرة، الآية: 246.

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، وفي الحديث: «خلق اللّه الجنة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً»(2)، فليكن فقيراً فما دام اللّه قد اصطفاه وزاده في العلم والجسم بسطة فيجب القبول به، فإن إدارة المملكة والدولة بحاجة إلى أمرين: إلى علم وشجاعة، فإذا كان الإنسان فقيراً فإن علمه وشجاعته تجلب الثروة، وإذا كان ثرياً وليس له علم وشجاعة فسوف يبذّر كل الثروات(3).

فنبيّهم يأمرهم بالرضا بطالوت ملكاً لجهتين:

فأوّلاً: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ} والاصطفاء أخذ صفو الشيء(4)، طبعاً هذا يتضمن الورع والأخلاق لأن من يصطفيه اللّه لا بدّ أن يكون معصوماً، فيجب على الناس أن يقبلوا اختيار اللّه سبحانه وتعالى.

وأمّا اختيار الإنسان في قبال اختيار اللّه سبحانه وتعالى فهذا يُعد شركاً قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(5)

ص: 584


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- بحار الأنوار 46: 82.
3- مثلاً العراق من أثرى الدول في العام، ففيه الاحتياط النفطي الضخم، وعنده غاز، وفيه زراعة وفيه المراقد المطهرة، وفيه مختلف الثروات، لكن في أواخر زمان صدام كان أكثر الناس تحت خط الفقر، فالثروة موجودة ولكن مادام الحاكم مستبداً، ولا يعرف كيفية التصرف فسوف يبدّد هذه الثروة. وهناك دول كاليابان، هي من أفقر الدول من حيث المعادن، وكل المعادن - تقريباً - يستوردونها، إلّا أن اليابان اليوم من حيث الاقتصاد ثالث دولة في العالم، فهي دولة فقيرة من حيث المعادن والزراعة لكن عندما تكون لها إدارة اقتصادية سياسية ناجحة صحيحة فسوف تصبح ثالث دولة من حيث الاقتصاد في العالم، والبضاعة اليابانية هي مضرب للمثل في الجودة.
4- انظر: العين 7: 163؛ لسان العرب 14: 462.
5- سورة القصص، الآية: 68.

نظير اعترض بعض المنافقين على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم الغدير، وقد ذكر الحادثة عدة من أصحاب التواريخ والسير: «أنه لما بلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغدير خم ما بلغ وشاع ذلك في البلاد، أتى الحارث بن النعمان الفهري - وفي رواية أبي عبيد جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري - فقال: يا محمّد، أمرتنا عن اللّه بشهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمّداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك، ثم لم ترضَ بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من اللّه؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): والذي لا إله إلّا هو إن هذا من اللّه، فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللّهم إن كان ما يقول محمّد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه اللّه بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل اللّه تعالى: {سَأَلَ سَائِلُ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ}(1)»(2). إن الذي اختار أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) للإمامة هو اللّه سبحانه وتعالى، ولم يكن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا مبلّغاً؛ لأن مسألة الإمامة عظيمة، وهي اختيار من اللّه مباشرة.

وثانياً: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}، وذلك دليل تفضيل طالوت عليهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3)، فقد أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم(عليه السلام) لأن آدم أفضل منهم، وكان سبب تفضيله على الملائكة أنه أعلم منهم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى

ص: 585


1- سورة المعارج، الآية: 1.
2- بحار الأنوار 37: 162؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير 6: 282؛ السيرة الحلبية 3: 337؛ ينابيع المودة 2: 369؛ نظم درر السمطين: 93.
3- سورة الزمر، الآية: 9.

الْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبُِٔونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}(1)، وبعد ذلك قال تعالى: {ئََٰادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ}(2)، فتفضيل آدم(عليه السلام) على الملائكة لأن اللّه علّمه ما لم يعلمون.

والبسط في الجسم كناية عن أنه كان شجاعاً في القتال.

فهو خبير بعلمه وشجاع بجسمه، فربما يكون الإنسان خبيراً إلّا أنه جبان؛ لذا قد يفرّ من المعركة، وربما يكون شجاعاً إلّا أنه ليس بخبير؛ لذا قد يكون متهوراً، وبالتالي سيلقي نفسه في التهلكة، ويرمي الجنود في المهلكة.

تهيأة مقدمات التصدي

إن الإنسان إذا أراد مرضاة اللّه سبحانه وتعالى وخير نفسه وشعبه فيجب عليه أن يربّي نفسه، وإذا كان عنده طموح أكبر فيلزم عليه أن يهيئ المقدمات لذلك الطموح، فمن أراد أن يكون طبيباً فيلزم عليه أن يدرس في الجامعة لسنوات طوال.

إذن، يجب على الإنسان الذي يريد أن يصل إلى الدرجات العالية أن يهيئ المقدمات، ويثابر إلى أن يصل لما يطمح إليه.

كانت العرب قبل الإسلام في ضنك من العيش حيث لا يوجد في الجزيرة العربية زراعة ولا ماء ولا ثروات إلّا القليل جداً، ومن جانب آخر فإن القبائل البدوية كانت دائماً في حرب، فهذا يُغير على ذاك، وذاك يُغير على هذا، وبعد الإسلام تحوّلوا إلى حَمَلَة الحضارة في العالم، والسبب في ذلك هو أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء بنظام من اللّه سبحانه وتعالى، وقد عمل المسلمون ببعض هذا

ص: 586


1- سورة البقرة، الآية: 31-32.
2- سورة البقرة، الآية: 33.

النظام وليس كله، ومن جملته العلم، فالعواصم الإسلامية تحولت إلى مركز للعلماء في مختلف الفنون والعلوم؛ لذا تشكلت هذه الحضارة. لكنهم أزاحوا الأئمة(عليهم السلام) عن السلطة وولّوا من لا يتمكن من القيام بالمسؤولية وكان هذا سبب الوهن والحالة التي وصلوا إليها الآن.

والحاصل: أنه لكي يصل الإنسان لما يريد فلا بدّ أن يتحلى بالإيمان والأخلاق أوّلاً، وبالعلم ثانياً، وبالعمل - والذي يلازم الشجاعة - ثالثاً؛ لأن كل إنسان توجد فيه بذرة خير وبذرة شر يمكنه أن ينمّي أيّاً منهما قال اللّه تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1)، وهذا الأمر بأيدينا، والتوفيق من اللّه تعالى.

ص: 587


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.

(76) الوصول للنتائج الكبيرة

اشارة

إن من يريد أن يكون طبيباً أو مهندساً أو فقيهاً يلزم عليه أن يدرس لسنوات طوال، ويصرف أكثر وقته لطلب العلم عبر الدرس والمطالعة والتأمل إلى أن يحصل على ما أراد، فمن يريد الوصول إلى النتائج الكبيرة فهو بحاجة إلى مقدمات طويلة، وفيه من الصعوبة البالغة، فإن كثيراً من الناس لم يصلوا إلى النتائج الكبيرة؛ لأنهم لم يسلكوا المقدمات الصعبة. يقول المتنبّي:

لولا المشقة ساد النّاس كلَّهم *** الجود يفقر والإقدام قتّال

فكل فرد يحبّ أن يكون هو الأفضل في أي مجال من المجالات، ولكن الأفضلين قليلون جداً؛ لأن الوصول إلى الأفضلية فيه صعوبات بالغة، وفيه مقدمات طويلة، وغالب الناس ليسوا مستعدين لطيّ هذه المقدمات الطويلة؛ لذا فلا يصلون إلى النتائج المرجوّة.

صعوبة طريق الجنة

إن اللّه سبحانه وتعالى بنى الكون لأهم نتيجة وأعظمها، حيث يريد من الإنسان الوصول إليها، وهي: رضا اللّه سبحانه وتعالى والجنة، فإذا دخل الإنسان الجنة يبقى فيها خالداً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1)، فلا نهاية لها، فهي مستمرة أبداً لأن اللّه تعالى يفيض

ص: 588


1- سورة البقرة، الآية: 82 .

الوجود على أهل الجنة أبداً، والجنة أعظم من الدنيا بكثير، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فكل ما نتصوّره من الجنة فهو أقل بكثير من واقعها، قال اللّه تعالى: {وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(1).

إذن، فأعظم هدف هو الجنة؛ لذا فالطريق إليها ليس سهلاً، ففيه الكثير من الصعوبات، ففي الحديث الشريف: «حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات»(2)، فمن أراد الدخول للجنة - وهي أسمى الغايات وأعظم النتائج - فلا يحصل على ذلك بسهولة، بل هو بحاجة إلى جهاد طول العمر، مضافاً إلى وجود أعداء يصدّون عنها وذلك مما يزيد الوصول إليها صعوبة.

من أسباب صعوبة طريق الجنة

فمنها: شياطين الإنس والجن أعداء، وهوى النفس عدو، فهذه كلها تتكاتف ضده لإضلاله وصدّه عن الصراط المستقيم؛ لذا فالوصول إلى الجنة صعب، وكلما أراد الإنسان الدرجات العليا في الجنة فسوف يزداد الأمر صعوبة؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأماثل فالأماثل»(3)، فالأنبياء والأئمة(عليهم السلام) لهم صدارة الجنة، وهذه نتيجة عظيمة؛ لذا كانت مشاكلهم ومصائبهم ومصاعبهم أكثر من كل الناس. وكلما كان الإنسان أقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى كانت مشاكله أكثر.

إن بعض الناس عنده معاصي سابقة وهذا قد يؤدّي إلى أن يستغلها الشيطان، مثلاً في معركة أحد خالف بعض المسلمين أوامر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسبب

ص: 589


1- سورة الإسراء، الآية: 21.
2- روضة الواعظين: 421؛ بحار الأنوار 67: 78.
3- الكافي 2: 252.

معاصي سابقة ارتكبوها؛ لذا دارت الدائرة على المسلمين، وخسروا المعركة، قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(1)، فاللّه عفا عن الزلّة التي صدرت منهم، إلّا أنه سبحانه يقول في آية أخرى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(2)، فالذين قُتلوا في هذه المعركة اختارهم اللّه سبحانه وتعالى ليكونوا شهداء، كي يشهدوا على الناس يوم القيامة، فدرجاتهم أرفع.

ومنها: إرادة اللّه رفع الدرجات، مثلاً الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) لا تصدر منهم زلة، لكن اللّه سبحانه وتعالى يبتليهم لكي يرفع مقاماتهم، فالإمام الحسين(عليه السلام) رأى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرؤيا فقال له: «إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة»(3)، فدرجة الإمام الحسين(عليه السلام) عظيمة جداً، لكن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يلحقه بدرجة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(4)؛ وهذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(5).

ص: 590


1- سورة آل عمران، الآية: 155.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: 217؛ بحار الأنوار 44: 313.
4- راجع البرهان في تفسير القرآن 5: 179، وفيه: «عن محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمّد(عليهما السلام) يقولان: إن اللّه عوض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته والشفاء في تربته وإجابة الدعاء عند قبره ولا تعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره. قال محمّد بن مسلم: فقلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): في هذه الخلال تنال بالحسين، فما له في نفسه؟ قال: إن اللّه تعالى ألحقه بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكان معه في درجته ومنزلته. ثم تلا أبو عبد اللّه(عليه السلام) هذه الآية».
5- سورة الطور، الآية: 21.

العمل حين البلاء

إنه ينبغي على المؤمن أن يصبر إذا نزلت به المصائب، وهذا لا يعني أن لا يعمل، بل عليه تصحيح الوضع، وتغييره إلى الأحسن، فرسول اللّه محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان طول حياته في جهاد، فقد كان يريد أن يصحّح الوضع الفاسد، الذي كان موجوداً، فالناس كانوا مشركين فأراد أن يصبحوا مؤمنين، وبعض الناس كانوا منافقين فأراد أن يكونوا مؤمنين، وبعض الناس كانوا عصاة فأراد أن يكونوا مطيعين، وهكذا أمير المؤمنين والأئمة(عليهم السلام) كانوا في جهاد مستمر. فإن الجهاد تارة يكون عسكرياً، وتارة يكون بالكلمة، وتارة بالعمل، وتارة بنشر العلم، وتارة بالدعاء وغير ذلك.

إن الإنسان يجب عليه أن يحاول لتغيير وضعه، فإذا شاء اللّه سبحانه وتعالى رتّب النتائج، وإذا لم يشأ فلا تترتب، وإنّما يدخر النتائج إلى الآخرة، فعلى كل واحد منّا أن يعمل بالطاعات، والعبادات، والجهاد، فكل ذلك يلزم علينا فعله، ولكن يلزم أن نسلم أمرنا إلى اللّه سبحانه وتعالى ونترك النتائج إليه سبحانه.

مفهوم التوكل والصبر

إن بعض الناس لا يحاول تصحيح الأمور، أو لا يقوم بما عليه من واجبات، ويقول: أتوكل على اللّه.

لكن هذا ليس توكلاً مأموراً به، بل تواكل منهي عنه، لأن هناك توكل وتواكل، والتواكل هو أن يكون الإنسان كسولاً ولا يشتغل، فلا يتوقع هذا الإنسان من اللّه سبحانه وتعالى أن يرتب النتائج.

فمن يريد الرزق - مثلاً - لا يصح أن يكسل عن طلبه ثم يقول إنّي متوكل على اللّه تعالى، بل عليه أن يكدّ ويعمل، والرزق بيد اللّه سبحانه وتعالى، فيمكن أن يعمل ويكون رزقه قليلاً، ويمكن أن يعمل ويكون رزقه كثيراً، ويمكن أن يعمل

ص: 591

ولا يحصل على شيء، فيجب على الإنسان أن يحاول، ويترك بقية الأمور للّه سبحانه وتعالى.

أمّا أنه لا يحاول ويقول: إن اللّه سبحانه وتعالى يرتب النتائج فهذا تواكل وكسل وهو مذموم، لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1).

كما يجب عليه الصبر إذا نزلت عليه المصائب وليس معنى الصبر الكسل، وعدم تغيير الواقع، بل الصبر يعني أن يعمل الإنسان وأن يفوض أمره إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأن لا ينهار أمام المشاكل والمغريات والمصائب.

إن من المشاكل الكبيرة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية هي الحركات الإرهابية التي تنتهج التفجيرات العشوائية، وتلك العمليات الإرهابية لا تميّز بين كبير وصغير، رجل وامرأة، وهؤلاء الذين استشهدوا ليس كلهم قديسون، بل فيهم أناس عاديون، وفيهم عدول، وغير ذلك؛ لأن التفجيرات قضية عشوائية، لكن اللّه سبحانه وتعالى اختار بعض الناس للشهادة ليصفيه من ذنوبه إذا كانت عنده زيادة أو نقيصة، أو ليرفعه درجاته إن لم تكن له ذنوب، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «أوّل قطرة من دم الشهيد كفارة لذنوبه إلّا الدَين، فإن كفارته قضاؤه»(2). فعندما تسقط أوّل قطرة من دم الشهيد على الأرض فاللّه سبحانه وتعالى يغفر له، وإذا كان غير مذنب فقد اختاره اللّه لرفع درجاته.

إن الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عاشوراء كان يريد رضا اللّه سبحانه وتعالى، فمع أن اللّه أرسل أربعة آلاف ملك لنصرته إلّا أنه اختار الشهادة، ورضا اللّه

ص: 592


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 183.

سبحانه وتعالى؛ ولذا لما عزم على الخروج إلى العراق، قال: «الحمد للّه، وما شاء اللّه، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه، وصلّى اللّه على رسوله وسلم، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول اللّه لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عين، وتنجز لهم وعده»(1).

ص: 593


1- مثير الأحزان: 29؛ بحار الأنوار 44: 366.

(77) التسويف وخطورة منهج التبرير

اشارة

قال اللّه سبحانه: {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).

الحالة الوسطية

هناك فضائل وهناك رذائل، وفي كثير من الأحيان يكون الفاصل والمائز بينهما بسيطاً، فقد يكون الشيء فضيلة، ولكنه إذا تجاوز حداً معيناً يتحول إلى رذيلة، سواء من حيث الزيادة أم النقصان.

ومثال ذلك: إن الشجاعة تُعد فضيلة ولكن التهور رذيلة، وكذلك الجبن رذيلة، فما هو المائز بين الشجاعة والتهور والجبن؟

إن الشجاعة هي الحد الوسط بين التهور والجبن؛ لأنه لا إفراط ولا تفريط؛ لذا فإن الإنسان الذي لا يراعي أصول السلامة في الحرب لا يكون شجاعاً، بل متهوراً، ولذا لا بدّ من الاحتياط، وإلّا سوف يلقي بنفسه في التهلكة، وبالمقابل ينبغي على الإنسان أن يُقدم، لأن عدم الإقدام قد يكون نوعاً من الجبن.

الأمل وطول الأمل

إنه من الجيد أن يكون للإنسان أمل ضمن حدوده المعقولة، فإذا كان أحدنا

ص: 594


1- سورة الحديد، الآية: 14.

يصلّي فلأنه يأمل رضا اللّه تعالى والثواب ولكي يأمن العقاب، وبهذا الأمل يتجه الإنسان إلى الطاعات ويبتعد عن المعاصي. وإذا فقد الإنسان الأمل فلن يتحرك، وإذا يئس من رحمة اللّه فلن يصلّي ويصوم؛ ولذا يرتكب المحرمات الواحدة تلو الأخرى، بينما الذي يعيش الأمل لو ارتكب موبقة وذنباً كبيراً، فإن هنالك أملاً بأن يغفر له اللّه سبحانه وتعالى بالتوبة والعمل الصالح؛ لذا نجده يعمل على إصلاح ما أفسده، وإذا عاش الإنسان بهذا الأمل يبدأ بالعمل الصالح؛ لذا يعد اليأس من رحمة اللّه من أكبر الذنوب؛ لأن مَن ييأس من رحمة اللّه لا مانع له من ارتكاب جميع الذنوب؛ قال اللّه تعالى: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

لكن إذا تجاوز الأمل حدّه وصار أكثر من اللازم يدخل في حالة طول الأمل المذمومة، فإذا سوّف الإنسان الأعمال الصالحة، وتساهل في أداء الواجبات فسوف يفقد الكثير من أعماله وأموره المهمة، كما أن الإنسان الذي يطبّع نفسه على التسويف سوف تستمر هذه الحالة معه، إذ (لكل امرئ من دهره ما تعودا)، و(من شب على شيء شاب عليه).

إن طول الأمل يؤدّي بالإنسان إلى الكسل والتفريط بالواجبات، والتهاون بالمحرمات، وبالتالي لا يؤدّي الإنسان حقوق الناس، ولا يؤدّي حقوق اللّه.

وقد لا يوفقه اللّه سبحانه في المستقبل حتى لو أراد، نُقل: أن رجلاً من الأثرياء، لم يكن يذهب للحج؛ لأنه كان يبخل في أمواله، ولمّا طال به العمر أصرّ عليه جماعة من أصدقائه أن يذهب معهم للحج، وقالوا له: سوف لا تصرف

ص: 595


1- سورة يوسف، الآية: 87.

من المال إلّا القليل، لا سيما أن الحج في سالف الزمان لم يكن مكلّفاً، فسافر وعبر الحدود فأصابته سكتة قلبية ومات قبل أن يوفق للحج!!

إذن، من الخطأ التسويف، سواء في أمور الدنيا أم الآخرة.

جاء في شعر منسوب إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

يا من بدنياه اشتغل *** قد غره طول الأمل

والموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل(1)

ثقافة التبرير

لذا فإن طول الأمل يسبب للإنسان حالة من التبرير، فيرتكب المعاصي ويحاول أن يبرر أفعاله، حتى لو كان يعرف في قرارة نفسه أنها حرام، ولنذكر مثالين:

المثال الأوّل: إن البعض يحاول أن يبرر أي شيء يرتكبه، حتى وإن علم بخطئه، قال اللّه تعالى: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(2)، فقد يخدع الآخرين فيغتاب مؤمناً وعندما يقال له: لماذا فعلت هذا؟ يقول: هو راضٍ أن أذكر ذلك العيب فيه، ولكن إذا كان هو راضياً فعلاً فهل يزول الحرام؟ كلا، كما لو كان أحدهم راضياً أن أقتله فهل يجوز أن أفعل ذلك؟ كلا.

المثال الثاني: يقول البعض: لنترك بعض الأحكام الإسلامية لأن الناس يعيبون علينا!!

إلّا أن الإمام الحسين(عليه السلام) أعطانا درساً وقاعدة يوم عاشوراء في الشعر

ص: 596


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 4: 406.
2- سورة القيامة، الآية: 14-15.

المنسوب له، حيث يقول:

الموت أولى من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النار(1)

فإذا دار الأمر بين الموت أو ارتكاب العار فإن الموت أولى، ولكن العار أولى من أن يدخل الإنسان في النار، فليعيّرنا الناس فهذا غير مهم، ما دام قد كسبنا رضا اللّه سبحانه وتعالى، فهذا أولى وأجدر.

إذن، يجب أن لا تكون لدى الإنسان ثقافة طول الأمل أو ثقافة التبرير، إذ سيكون هو أوّل الخاسرين، مثلاً الكسول يحاول أن يبرر لنفسه كسله، ولكن بعد عشرين سنة يصبح أقرانه علماء وأطباء ومهندسين في ما يبقى هو جاهلاً، كذلك العاصي يبرّر لنفسه عصيانه لكنه في الآخرة سيرى أصحابه المؤمنين في الجنة لكنه في النار!!

يقول السيد العم: في أحد الأيام زارنا أحد أقربائنا في منزلنا في كربلاء المقدسة، وبعد أن خرج رآني عند الباب وكنت في مقتبل العمر، فقال لي: أنا ووالدك كنا زملاء دراسة في سامراء المقدسة، لكن والدك كان يستفيد من كل لحظة بالمطالعة والقراءة والكتابة، أمّا أنا فكنت أقول لنفسي: اليوم وغداً وبعد غد وهكذا، وكنا نخرج في أيام الخميس من المدينة ونذهب إلى نهر دجلة للنزهة، ونقول لوالدك حيث كان معنا في مدرسة واحدة: هل تأتي معنا...؟ فكان في كل أسبوع يعتذر ويبيّن سبب عدم مجيئه معنا، فتارة كان يقول: ملابسي متسخة وأريد غسلها، ومرّة أخرى يقول: إنني متأخر في الكتابة الفلانية وأريد إتمامها، ويقول في أسبوع آخر: إنني لم اذهب إلى السرداب المقدس منذ فترة لزيارة الإمام

ص: 597


1- بحار الأنوار 45: 50.

المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) فأريد أن استثمر هذه الفرصة، وهكذا، وفي إحدى المرات غضبت عليه وقلت له: قل لا أريد أن أذهب معكم للنزهة...! فوالدك استفاد من تلك اللحظات، وهو الآن من أكبر العلماء ومراجع التقليد، أمّا أنا فشخص عادي، لأن تلك اللحظات اجتمعت وتراكمت وأصبحت علماً، وحولت أباك إلى عالم، أمّا أنا فقد أبقاني تسويفي على ما ترى.

ص: 598

(78) مخاطر اليأس على الإنسان

اشارة

قال اللّه سبحانه: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

الغاية هي المحرك للإنسان

إن جميع المعلولات في هذا الكون ناشئة من عللها، فلا يوجد هناك معلولات من دون علة؛ لأن هذا الأمر مستحيل، فكل معلول لا بدّ أن تكون له علّة.

يقول العلماء: إن كل شيء له أربع علل هي: العلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الفاعلية، والعلة الغائية(2)، فإذا اجتمعت هذه العلل في مكان واحد فإن المعلول سيتحقق.

ولتوضيح هذا الأمر نأتي بهذا المثال المبسط: إذا أراد إنسان أن يبني داراً فإنه بحاجة إلى المواد الإنشائية من طابوق واسمنت وخشب وحديد ونحوها فإذا لم تتوفر لا يمكن تشييد الدار وهذا يعبر عنه بالعلة المادية. وهو بحاجة إلى عامل وهو البنّاء، فإذا كانت هذه المواد موجودة والبنّاء غير موجود فلا يمكن أن تبنى

ص: 599


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- العلة الفاعلية: هي التي تفيض وجود المعلول وتفعله. العلة المادية: هي الجزء المادي الذي يتركب المعلول منه ومن الصورة. العلة الصورية: هي الجزء الشكلي الذي يتركب المعلول منه ومن المادة، وبه تتحقق شيئية الشيء. العلة الغائية: هي الغرض المتوخى من وجود المعلول.

الدار، ويعبرون عن هذا بالعلة الفاعلية. ويحتاج أيضاً إلى التخطيط والهندسة، فإذا لم يكن هناك تخطيط مسبق وهندسة فإن الدار لا تتحقق ويقال لهذا العلة الصورية. وأمّا العلة الرابعة: فهي العلة الغائية، وهي الهدف والغاية من بناء الدار، فإذا كانت غاية الإنسان من بناء الدار أن تقيه من الحر والبرد ويسكن فيها فإنه سوف يسعى لبنائها، وأمّا إذا لم تكن هناك غاية من بنائه فإن الإنسان لا يسعى للبناء.

طبعاً حسب الترتيب الخارجي تكون العلة الغائية هي المرحلة الأخيرة، بمعنى أن الغاية تتحقق إذا حضر البنّاء وأتينا له بالمواد الإنشائية وقمنا بالتخطيط، وبدأ البنّاء عمله، بعد إكمال العلل الثلاث، عند ذاك سوف تتحقق الغاية وهي سكنى الدار، لكن العلة الغائية هي أوّل شيء ينقدح في ذهن الإنسان.

وعليه، فإن الشيء الذي يحرك الإنسان هو الغاية، فإذا كانت هناك غاية فإنه سيتحرك لإنجاز المطلوب، وإلّا فلا.

اليأس في الحياة

إذا كان الإنسان يائساً في حياته، ويشعر أن لا فائدة أو نتيجة تترتب على عمله فسوف يترك العمل، أمّا إذا لم يكن يائساً، بل كان متفائلاً ويريد تحقيق النتيجة فسوف يعمل بذلك الاتجاه.

لذا فمن كان متفائلاً برحمة اللّه سبحانه وتعالى، ويطمع بها فسوف يعمل ويحاول تحصيلها، وعلى عكس ذلك الإنسان اليائس.

ثم إن هذا اليأس يؤثر على نفسيته فيصاب بحالة من الضعف والانهزامية، فلو يئس الإنسان من مقاتلة الأعداء والنصر، فستكون الهزيمة من نصيبه، ويفر من الحرب.

ص: 600

يقول المختصون: إن أقوى الجيوش المجهّزة من حيث العدة والعدد، يمكن أن تنهزم مقابل جيش صغير، في ما لو كان الجيش الكبير يائساً ومنهزماً نفسياً، وكان الجيش الصغير قوياً نفسياً.

مثلاً كان عدد المسلمين في غزوة بدر (313) في ما كان المشركون ألف شخص، وهم الأقوى ولديهم عُدة أفضل، لكن حيث لم يكن للمشركين مبدأ يقاتلون لأجله، لذلك حينما رأوا المسلمين وقوتهم المعنوية انهزموا نفسياً، ويئسوا من التغلب عليهم، فما أن بدأ النزال حتى انهزموا.

اليأس من رحمة اللّه تعالى

إن يأس الإنسان قد يؤثر على عمله، ويوجب الهزيمة النفسية التي تؤدّي إلى الهزيمة المادية؛ لذا نهى اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن اليأس من رحمته تعالى، وأمر الناس بأن يكونوا راجين لها حتى لو كان الإنسان أشد الناس عصياناً وجريمة، يقول اللّه تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1)، وقال سبحانه: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَٰنِطِينَ}(2)، وقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(3)، أي: لا يقنط من رحمة اللّه إلّا الإنسان الضال، فلو كان عند الإنسان احتمال ضعيف في الوصول إلى النتيجة فيجب عليه أن لا ييأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اليأس أوّل الفشل.

ورد في الحديث الشريف: «أكبر الكبائر الشرك باللّه، يقول اللّه تبارك

ص: 601


1- سورة الزمر، الآية: 53.
2- سورة الحجر، الآية: 55.
3- سورة الحجر، الآية: 56.

وتعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ}(1)، وبعده اليأس من روح اللّه، لأن اللّه تعالى يقول: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}»(2)، فهذا اليأس أشد من جميع الذنوب عدا الشرك.

إن يعقوب(عليه السلام) على الرغم من مرور أربعين عاماً على فقدان يوسف(عليه السلام)، لم ييأس، ولذا قال: {يَٰبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(3)، ومع أن احتمال العثور على يوسف(عليه السلام) بعد أربعين عاماً كان ضعيفاً إلّا أن يعقوب(عليه السلام) أمر أولاده بالبحث والتحسس عنه(4).

ثم إن هناك فرقاً بين الرَوح بالفتح والرُوح بالضم، فالرَوح هو الهواء أو الريح التي تهب على الإنسان في فترة الصباح(5)، أي: النسيم الذي يعطيه حيوية ونشاطاً وهذه شُبّهت بها رحمة اللّه سبحانه وتعالى، وأمّا الرُوح: فهي النفس التي يحيا بها الإنسان(6).

ص: 602


1- سورة المائدة، الآية: 72.
2- علل الشرائع 2: 391؛ عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 257؛ بحار الأنوار 76: 6.
3- سورة يوسف، الآية: 87.
4- والتحسس - بالحاء - غير التجسس - بالجيم - ؛ لأن التحسس يتعلق بأمور الخير، فلو فقدنا شخصاً ما وبحثنا عنه فهذا الفعل تحسس، لكن إذا كان ذلك يتعلق بأمور الشر فيعد تجسساً [انظر الفروق اللغوية: 118]، وهو منهي عنه، قال تعالى: {وَ لَا تَجَسَّسُواْ} [سورة الحجرات، الآية: 12] ، لأن التجسس من المحرمات، سواء كان الإنسان يتجسس لصالح دولة الكفار أم لمجرد الفضول أو لغير ذلك، وهو عمل قبيح وله أضرار كثيرة.
5- انظر: الصحاح 1: 368؛ لسان العرب 2: 45.
6- انظر: العين 3: 291.

إن الإنسان إذا كان متفائلاً فإنه يتقدم في الحياة، بينما تكون نفسية المتشائماليائس منقبضة، فتؤثر على عمله؛ إذ يرى كل شيء مظلماً، ولو كان متفائلاً فسيرى كل شيء على حقيقته؛ لذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(1)، فالفئة الأكثر ترى أنهم لو قتلوا سينتهون ويفنون؛ لذا يهربون من المعركة لكي لا يُقتلوا، وأمّا الفئة القليلة فهي تؤمن بأنها إذا انتصرت فلها الفوز الدنيوي، وإذا قتلت فلها الثواب الأخروي.

ص: 603


1- سورة البقرة، الآية: 249.

(79) كيفية التعامل مع المعوّقات

اشارة

إن كل عمل قد يكون فيه معوّقات؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق الدنيا دار امتحان، فهناك أمور لا تجري حسب رغبة الإنسان، فليس في هذه الدنيا راحة تامة مطلقة، وإنّما جعل اللّه سبحانه وتعالى الراحة التامة في الجنة، ولذا فأي شيء من الأشياء، وأيّ عمل من الأعمال قد لا يخلو من معوّقات.

وإنّما المهم كيفية التعامل مع هذه المعوّقات، فلا يمكن لأحد أن يتصور شيئاً بدون مشاكل، بل المهم كيفية التعامل مع هذه المشاكل.

بين الصبر والزهد

إذا تصفحنا القرآن الكريم والروايات نجد هناك تأكيداً على الصبر والزهد، وهما من أهم الأمور في التعامل مع المعوقات، فما هو الصبر؟ وما هو الزهد؟

أمّا الصبر فهو بمعنى عدم الانهيار أمام المشكلات، فالإنسان قد يصاب بمصيبة من غير اختياره، كأن يموت أعزّ الناس إليه، أو يُهجّر عن وطنه، أو يصاب بنكسة اقتصادية، فلا بدّ أن يصبر أمام هذه المشاكل، وكذلك الحال في الصبر على الطاعة وعن المعصية فقد ورد في الحديث الشريف: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»(1)، فإذا كانت الطاعة وترك المعصية صعبة فيجب على الإنسان أن يصبر على صعوبتها، فإذا نزلت عليه المصيبة لا ينهار،

ص: 604


1- بحار الأنوار 67: 78.

وإنّما يفكر في كيفية التكيّف معها ومن ثمّ تجاوزها، وهكذا حينما يواجه معصية يجب أن لا ينهار أمامها، وإنّما يستعيذ باللّه سبحانه وتعالى، فيبدّل المعصية إلى طاعة. وهكذا بالنسبة للطاعة، فينبغي أن يأتي بها على وجهها، ولا ينهار أمام صعوبتها ويتركها.

وأمّا الزهد فليس معناه أن لا يكون عنده شيء بأن يكون فقيراً كلا، فمن الممكن أن يكون الشخص غنياً وهو زاهد، ويمكن أن يكون فقيراً وليس بزاهد؛ لأن الزهد في اللغة بمعنى عدم الرغبة في الشيء(1)، قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٖ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّٰهِدِينَ}(2)، أي: إنهم لم يكونوا يرغبون فيه، فإذا كانت عندك بضاعة لا ترغب فيها فإنك تبيعها بأي ثمن، ويمكن أن تعطيها دون أخذ مال، لكن إذا عندك رغبة فيها فقد لا تكون مستعداً لأن تبيعها حتى بثمن غالٍ.

إذن، يمكن لشخص أن يمتلك الدنيا وهو زاهد فيها، بمعنى أنه ليس له رغبة في الدنيا؛ ولذا فإنه إذا فقد هذه الدنيا فإنه لا ينهار لأنه فقد ما لم يكن له رغبة فيه.

من المعوقات

اشارة

إن الدنيا لا تخلو من المعوّقات، والمهم هو كيف نتعامل مع هذه المعوّقات؟ وهذه المعوّقات كثيرة، منها:

النوع الأوّل: الأمور غير المهمة

فبعض الناس يصرفون أوقاتهم وجهدهم في الأمور التافهة، وهذا يسبب انحراف الإنسان عن مسيره الأصلي، مثلاً نجد الكثير من النزاعات الاجتماعية

ص: 605


1- انظر: الصحاح 2: 481، مادة (زهد).
2- سورة يوسف، الآية: 20.

والأسريّة والعشائرية، وفي كثير من الأحيان نرى أن سبب هذه النزاعات شيء تافه، لكن الناس كبّروه، فأصبح شيئاً ما وبمرور الزمن تزداد المشاكل، فينبغي علينا أن لا ننشغل بالأمور التافهة، حتى ولو كان الحق معنا.

نعم، لو كان الحق مهماً فلا بدّ من المطالبة به حتى لو كان في ضمن شيء مادّي، مثلاً طالبت فاطمة الزهراء(عليها السلام) بفدك التي نحلها رسول اللّه إياها، وكان الغرض الأساسي هو سلب الشرعية عن السلطة الحاكمة، وبالفعل تحقق هذا الغرض، فعلى طول التاريخ نجد أن أولياء الخلفاء يتمنّون لو أنهم كانوا يغضون النظر عن فدك ويتركونه بيد فاطمة(عليها السلام) وهم إلى الآن يصرّحون أن هذه القضية أحدثت لهم مشكلة سلبت شرعيتهم ولا يتمكنون من إيجاد حلّ لها.

فأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء(عليهما السلام) كانا يريدان سلب الشرعية منهم، ولذا عندما بويع أمير المؤمنين(عليه السلام) بالخلافة الظاهرية بعد مقتل عثمان لم يطالب بفدك، وهذا ما كان يصرح به(عليه السلام)، حيث يقول: «بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم اللّه»(1).

إذن، فالغرض من المطالبة بفدك هو سلب الشرعية، وهذا أمر مهم جداً، فإذا أراد شخص سلب الشرعية من السلطة فمن الممكن أن يطالب بالحق حتى لو كان بسيطاً.

لكن لو لم يكن الأمر مهماً ولا تضمن حقاً هاماً فينبغي أن لا يشغل نفسه به كالصراعات الاجتماعية التافهة، والقضايا العائلية التافهة، لأن وقت الإنسان أثمن من ذلك، فيلزم عليه أن يذهب إلى الأهم.

ص: 606


1- نهج البلاغة 3: 71.

إن كثيراً من الناس تستهويهم توافه الأمور، لذا ينبغي على الإنسان أن يترفع عن هذه الأمور التافهة، وخاصة طلبة العلوم الدينية، فالمفروض بهم أن يترفّعوا عن هذه الأمور، وخاصة النزاعات الاجتماعية.

مثلاً قد يحدث خلاف بين زوج وزوجة، وقد يكون الحق مع أحدهما، وقد جعل القرآن الكريم حاكماً في حالة النزاع والشقاق، وهذا ما أشار له بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}(1). ومهمة الحَكَم الذي يأتي من طرف أسرة الزوجة، والحَكَم الذي يأتي من طرف أسرة الزوج أن يبحثا في كيفية حلّ المشكلة، كأن يقولا للزوجين: كل واحد منكما يتنازل عن حقه، وينبغي أن تفكرا بالأولاد - مثلاً - ، وبهذه الطريقة يتم الإصلاح بين الزوجين، فالغرض من هذا النوع من التحكيم هو الإصلاح(2).

إذن، ينبغي على الإنسان أن يترفع عن الأمور غير المهمة حتى وإن كان الحق معه، وهذا ما نشاهده في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعندما هاجر من مكة إلى المدينة استولى المشركون على بيوت المسلمين المهاجرين وصادروا كل أموالهم، وعندما فتح الرسول مكة بقي أياماً فيها، فأمر أن ينصبوا له خيمة خارج مكة، ولم يسترجع داره(3).

لقد كان هدف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هداية الناس وتطهير الكعبة من الشرك ومن

ص: 607


1- سورة النساء، الآية: 35.
2- ومن الأحكام الشرعية: الصلح وهو من الأبواب الفقهية المهمة، وهذا الصلح قد يكون بتنازل صاحب الحق عن حقه، أو بعضه وبهذا تحل المشكلة من أساسها.
3- انظر: أعيان الشيعة 1: 276.

الأصنام والأوثان، وتهذيب النفوس، وتبليغ ما أنزله اللّه سبحانه وتعالى عليه، فلم يكن يشغل نفسه بشيء في مقابل هذا الهدف الأسمى.

النوع الثاني: العواطف والأحاسيس

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل كل شيء لمصلحة الإنسان، فكل شيء في جسم الإنسان أو نفسه أو روحه أو في الأرض خلقه اللّه للإنسان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1)، لكن المشكلة تكمن في الإفراط والتفريط مثلاً جسم الإنسان بحاجة إلى طعام، فإذا تناول الإنسان أكثر من حاجته، فحينها تتوّلد المشاكل، وقد رُوي: «الحمية رأس كل دواء»(2)، وهكذا الحال إذا أكل أقل من احتياج جسمه، وكذا في بقية الأمور، حتى شهوات الإنسان، فإن اللّه سبحانه وتعالى أعطى هذه الشهوات له، وهي من نعمه سبحانه وتعالى، نعم، إذا صرف الإنسان هذه الشهوة بطريق غير صحيح فهذا يكون إفراطاً أو تفريطاً، وخروجاً عن جادة الصواب قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ}(3)، فمن هو المزين للناس؟

يقول بعض المفسرين: إن اللّه هو المزين، وإلّا فلو لم تكن عند الإنسان رغبة في النساء لانقطع نسل البشر، ولو لم تكن عنده رغبة إلى المال لخربت البلدان، ولم يكن هناك عمران، فاللّه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الشهوات ولكن بيّن له الطريقة الصحيحة في صرفها، وهذا مثل الأنهار التي تجري، فهذا الماء نعمة، لكن إذا زاد عن الحدّ فسوف يحدث سيل، وإذا نقص عن الحدّ فيحدث الجفاف.

ص: 608


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- فقه الرضا: 340.
3- سورة آل عمران، الآية: 14.

وكذلك الحالات النفسية، فالإنسان عنده خوف، وهذه نعمة؛ لأنه إذا لم يخف من الحيوان المفترس أو العدو أو المرض يُصاب بالتهوّر، وبعد ذلك يتضرر. نعم، إذا كان الخوف أكثر من اللازم أو في غير مورده يكون جبناً.

كذلك جميع الصفات النفسية فهي نعمة إذا كانت في حدّ الاعتدال، وأمّا إذا أوصلها الإنسان إلى حالة الإفراط أو التفريط فسوف تصبح نقمة.

والإنسان عنده عواطف، وهذه العواطف نعمة، بل من أكبر النعم، وكذلك عنده أحاسيس وهي نعمة، لكن ينبغي أن يكون الشرع هو الحاكم على هذه العواطف والأحاسيس، وكذلك عنده صفة الغضب وهذا جيد؛ لأنه إذا لم يكن عنده غضب فلا يدافع عن كرامته، فهذا الإنسان يكون فيه نقص.

وعلى كل حال إذا كان هناك خلل في الإنسان في صفاته النفسانية فعليه أن يصلحها ويحكّم الشرع والعقل عليها فإذا كان الشرع والعقل هما الحاكمان على العاطفة فهذه العاطفة أحسن مُحرّك للإنسان؛ لأن عقل الإنسان لا يحرّكه لوحده، بل يحتاج للعاطفة، فهي محرّك العقل، لكن إذا خرجت هذه الأحاسيس والعواطف عن دائرتها فسوف تسبب ضرراً.

لقد مثّل المشركون بالمسلمين في يوم أحد، حيث بتروا أصابع بعض الشهداء وبقروا بطونهم، ثم أخذت بعض نساء المشركين هذه الأصابع المبتورة وجعلتها قلائد(1). فعندما رأى المسلمون ذلك أقسموا أن يقتلوا سبعين رجلاً مقابل كل قتيل من المسلمين، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}(2).

لذا عندما ضرب ابن ملجم لعنه اللّه أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «يا بني عبد

ص: 609


1- انظر: بحار الأنوار 20: 56.
2- سورة النحل، الآية: 126.

المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قتل أمير المؤمنين، إلّا لا تقتلن بي إلّا قاتلي، انظروا إذا أنا مُت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»(1).

فيجب على الإنسان عندما تحدث مشاكل أن لا تستولي عليه أحاسيسه وعاطفته، بل لا بدّ أن يحكّم الدين والعقل، ولا بدّ أن يكبح جماح عاطفته، ولا ينجر وراء أحاسيسه، وإذا غضب فلا بدّ أن يسيطر على غضبه حتى يكسر سورته ولو بأن يغيّر طريقة جلوسه، فإذا كان جالساً فليقف، وإذا كان واقفاً فليجلس، فقد ورد في الحديث الشريف: «... وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»(2)،

فعلى الإنسان أن يملك غضبه؛ لأنه الغضب عندما يستولي على العقل قد يتخذ الإنسان قراراً خاطئاً، فقد ينطق بكلمة أو يقوم بفعلة ثم يندم عليها.

النوع الثالث: اختلاف الأذواق وطريقة التفكير

النوع الآخر من المعوّقات هو أن يعيش الإنسان مع الآخرين في بيئة واحدة، ومجتمع واحد، ومكان واحد، وأذواق هؤلاء الناس مختلفة، وطريقة تفكيرهم شتى، فقد تحدث نتيجة ذلك مشاكل أسرية وغيرها، وعندما نحلل المشكلة نجد أن هذا الطرف متدين يراعي أحكام الشرع، وذاك الطرف كذلك، ولكن المشكلةتكمن في اختلاف الأذواق وطريقة التفكير، فيجب على الإنسان أن يسيطر على

ص: 610


1- نهج البلاغة 3: 78.
2- الكافي 2: 305.

الأمور، ولا يسمح بأن تصبح مشكلة، وليعلم أن اختلاف الناس في طريقة تفكيرهم وأذواقهم آية من آيات اللّه سبحانه وتعالى، فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(1)، فقد قرن اللّه سبحانه وتعالى اختلاف الألسن والألوان بخلق السماوات والأرض، فخلق السماوات والأرض آية من آيات اللّه، وكذلك اختلاف الناس، فالاختلاف لا يراد به التنازع.

ثم إن الناس يختلفون في كل شي، فلماذا ذكر اللّه سبحانه وتعالى اختلاف الألسن والألوان؟

والجواب: لأن الاختلاف فيهما واضح، فهذا أسود وهذا أبيض، وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا يتكلم اللغة العربية، وهذا الهندية أو التركية أو الفارسية، وهذا الشيء ظاهر، والمهم أن لا يتحول هذا الاختلاف إلى نزاع وتناحر، وهذا بيد الإنسان نفسه؛ لأن هذا الاختلاف نعمة من نعم اللّه، وآية من آيات اللّه سبحانه وتعالى، فإذا كان الناس كلهم بنمط واحد فسوف تتوقف الحياة، قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(2).

والحاصل: إن المعوّقات موجودة، ولا يمكن أن نتوقع أن تكون الحياة في يوم من الأيام خالية من المشاكل، فالحياة الخالية من المشاكل إنّما تكون في الجنة، فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكم في المدينة عشر سنوات، وكانت المشاكل موجودة، ولكن النظام الصحيح يحلّ المشاكل بالتي هي أحسن.

إن الإنسان إذا كان مترفعاً عن الصغائر فإن اللّه سبحانه وتعالى يوفّقه، والناس

ص: 611


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة الزخرف، الآية: 32.

يعتمدون عليه، ويكون تأثيره في الناس أكثر، وأداؤه لمهمته أحسن، وتكون كلمته نافذة بين الناس حتى لو لم يمتلك السلطة والمال.

ص: 612

(80) من أسباب انحراف الإنسان

اشارة

قال اللّه سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1).

إن سبب انحراف الإنسان عن الطريقة الصحيحة هو أحد أمرين: الشبهات والشهوات.

1- الشبهات

أمّا الشبهات: فهي الباطل الذي يشبه الحق، مثلاً ما ليس بدليل يتصوره الإنسان دليلاً لأن صورته تشبه الدليل، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإنّما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى، فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه»(2)، فإذا كان الباطل واضحاً فلا أحد يتّبعه، ولكن يُصوّر الباطل بصورة الحق، لذا ينخدع بعض الناس به، حيث إن أهل الباطل يحاولون أن يضفوا على كلماتهم صورة الحق وجماله.

إن سبب الانخداع بالشبهات هو الجهل، فالجاهل لا يميز بين الحق

ص: 613


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- نهج البلاغة 1: 90.

والباطل، فيتصوّر أن الباطل حق، لكن الإنسان العالم الذي له خبرة لا يُخدع بذلك، ونقصد بالعالم الشخص الذي يعرف معالم الدين، فاحتمال انخداعه يكون أقل من غيره، لذا نجد أن أصحاب المذاهب والآراء الباطلة يحاربون العلم والعلماء.

إن الشبهات هي أوّل خطوات انحراف الناس، فكثير من الذين انحرفوا لم ينحرفوا بقصدٍ وإنّما خُدعوا، ولذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»(1)، إذ بعد أمير المؤمنين تقاتل الخوارج مع الأمويين وكلاهما باطل إلّا أن باطل الأمويين كان أسوء لأنه كان عن عمد ومعرفة بالحق مع مخالفته عكس الخوارج الذين كان باطلهم عن خطأ وشبهة، لكن كلاهما باطل ولا يصح محاربة باطل تأييداً لباطل آخر.

مثال آخر ورد في حديث شريف عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، فقلت له: «يا بن رسول اللّه، فكيف سمت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى(عليه السلام) ثم قال: لما قتل الحسين(عليه السلام) تقرب الناس بالشام إلى يزيد فوضعوا له الأخبار، وأخذوا عليه الجوائز من الأموال، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم، وأنه يوم بركة ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرك والاستعداد فيه، حكم اللّه بيننا وبينهم.

قال: ثم قال(عليه السلام): يا بن عم، وإن ذلك لأقل ضرراً على الإسلام وأهله وضعه قوم انتحلوا مودتنا، وزعموا أنهم يدينون بموالاتنا، ويقولون بإمامتنا، زعموا أن الحسين(عليه السلام) لم يقتل، وأنه شبه للناس أمره كعيسى بن مريم، فلا لائمة إذن على بني أمية ولا عتب على زعمهم. يا بن عم، مَن زعم أن الحسين(عليه السلام) لم يقتل فقد

ص: 614


1- نهج البلاغة 1: 108.

كذب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلياً وكذب من بعده الأئمة(عليهم السلام) في أخبارهم بقتله، ومن كذبهم فهو كافر باللّه العظيم ودمه مباح لكل من سمع ذلك منه.

قال عبد اللّه بن الفضل: فقلت له: يا بن رسول اللّه، فما تقول في قوم من شيعتك يقولون به؟ فقال(عليه السلام): ما هؤلاء من شيعتي، وإني بريء منهم...»(1).

إذن، كانت هناك شبهات في زمن الأئمة(عليهم السلام)، بحيث إنهم اضطرّوا أن يتبرأوا من أصحاب هذه الشبهات وقد انقرض هؤلاء ولم يبقَ منهم أحد؛ لأن الأئمة(عليهم السلام) عارضوهم وبيّنوا بطلان عقائدهم وأفكارهم.

وينبغي على الإنسان أن يحصّن نفسه وأهله بالعلم والتقوى في هذا الوقت، وإلّا فسوف يصبح ضحية ومن مقومات تحصيل العلم كثرة الحضور في المجالس الدينية وخاصة المجالس الحسينية وفي مختلف المناسبات وطوال أيام السنة، ثم إنه ينبغي على الإنسان أن يخصص وقتاً للمطالعة، ويعوّد نفسه عليها إذ (لكل امرئ من دهره ما تعوّدا).

كما ينبغي علينا تحصين أنفسنا وأهلنا وأولادنا بالعلم، حتى لا تؤثر الشبهات فينا ولا فيهم.

2- الشهوات

إن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً عبثاً، وإنّما جعل كل شيء لصالح الإنسان، قال اللّه: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(2)، لكن المشاكل تنشأ من الإفراط والتفريط، فالإنسان عنده شهوة الطعام، وإنّما جعل اللّه فيه ذلك لأنه إذا لم يأكل فسوف يموت، لكنه إذا أفرط فسوف يُصاب بالتخمة، وهذا بضرره،

ص: 615


1- الاحتجاج 1: 225-227؛ بحار الأنوار 44: 269-271.
2- سورة البقرة، الآية: 29.

فأكثر مشاكل السمنة الموجودة من شهوة الطعام، مع أنه الشهوة نعمة للإنسان لكن الإفراط فيها يسبّب الضرر.

كما أنه لو لم يلبِّ الإنسان حاجته الجسدية والنفسية بالطريقة المشروعة فقد يفكر البعض في تلبيتها بالطريقة غير المشروعة، مثلاً غالب الذين يسرقون تكون الحاجة هي سبب السرقة، فإذا لبى الإنسان حاجته فسوف لا يذهب خلاف فطرته؛ لأن المعاصي هي خلاف طبيعة الإنسان.

لكن إذا لم يتمكن الإنسان من تلبية الحاجة بالطريقة الصحيحة فهنا يأتي دور الوازع الديني، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}(1)، لكن الوازع الديني موجود عند البعض وليس عند كل الناس، فكثير من الناس ليس لهم وازع ديني؛ ولذا لو طبّق النظام الإسلامي لقلّت المشاكل.

إن الإسلام متكامل، فكل شيء في حياة الإنسان مترابط، فقد واكبه قبل أن تنعقد نطفته، إلى ما بعد وفاته(2).

مثلاً الشهوة الجنسية إنّما قدّرها اللّه تعالى ليرغب الناس في الزواج فيستمر النسل ولولاها لانقرض نسل بني آدم، لكن اللّه تعالى جعل النظام الكامل الصحيح في تلبية هذه الرغبة عبر الزواج مع تسهيل أمره بحيث لا يبقى عزب ولا عزباء.

ص: 616


1- سورة النور، الآية: 33.
2- مثلاً قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين» [الكافي 5: 332]، وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تزوجوا في الحجز [الحجز - بالكسر والضم - : العشيرة، العفيف، الطاهر] الصالح، فإن العرق دساس» [مكارم الأخلاق: 197]، فعندما يوضع في القبر يلقّن، وهناك أحكام بعدما يوضع في القبر، كل ذلك لكي يكون الإنسان مرتبطاً بالنظام الأمثل والأكمل. صحيح إن أكثر هذه الأمور غير واجبة، لكن من لا يأتي بالمستحب لا يحصل على ثوابه ونفعه، ففي المستحب نفع دنيوي وأخروي، وكذا المكروه؛ فوجود الحزازة فيه لأن فيه ضرراً، لكن لم يكن ضرراً كبيراً بحيث يحرم، فمن ارتكب المكروه يتضرّر.

لكن المشكلة أن أكثر الناس في المجتمع الإسلامي عزفوا عن الطريقة الإسلامية في الزواج ولذلك كثرت العنوسة والعزوبة، صحيح أن أكثر الناس في المجتمع الإسلامي لا يرتكبون الحرام ويصبرون إلّا أن البعض يسقطون في أوحال الرذيلة.

إن الزواج المثالي هو الزواج الذي يكون فيه التسهيل والتبسيط والتسريع، بينما نجد الآن التعقيد في كل شيء عند الأكثر، وعندما يحدث التعقيد تحدث مشكلة صعوبة الزواج، وما يستتبع ذلك من مشاكل.

وخلاصة الأمر: أن اللّه سبحانه وتعالى جعل الشهوات في الإنسان لأن بقاءه متوقف عليها، لكن لا بدّ أن تكون ضمن الإطار الصحيح، فينبغي علينا أن نُحصّن أنفسنا ومن يتعلق بنا عبر تطبيق النظام الاجتماعي الأسري الإسلامي، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1)، وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإن تأسى متأس بنبيه واقتص أثره وولج مولجه وإلّا فلا يأمن الهلكة»(2)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(3).

ص: 617


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- مكارم الأخلاق: 10.
3- سورة طه، الآية: 124.

(81) مع المبلغين

اشارة

قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(1).

ورد في هذه الآية الكريمة عدة جُمل، وهي: (يبلغون رسالات اللّه) و(يخشونه) و(لا يخشون أحداً إلّا اللّه) و(وكفى باللّه حسيباً).

أوّلاً: تبليغ رسالات اللّه

إن (بلّغ) بمعنى وصّل(2)، والتبليغ هو الإيصال، فكل عالم أو كل طالب علم، يجب أن يكون مبلغاً.

ومعنى (رسالات اللّه) ما أنزله اللّه تعالى لهداية الناس، فرسالات اللّه يجب تبليغها بكل الصور، وعليه فالخطيب حين يأتي بواقعة أو قصة لا بدّ أن تكون ذات مغزى وهدف إلهي، فلا مشكلة في أن يأتي بقصة من التاريخ تصب في هذا الاتجاه أي: في تبليغ رسالات اللّه تعالى فلا يصح أن يكون الكلام مضيعة لوقت المستمعين.

إن واجب المبلغ هو التوجيه، فإذا ساعدت القصة في ذلك التوجيه فلا بأس بها، لأن القصة يلزم أن تكون لتقريب الفكرة.

ص: 618


1- سورة الأحزاب، الآية: 39.
2- لسان العرب 8: 419.

ثانياً: خشية اللّه تعالى

يجب على الإنسان الذي يبلغ رسالات اللّه تعالى أن يخشى اللّه سبحانه وتعالى فلا يقول إلّا حقاً ويكون هو عاملاً بما يقول.

وهنا نذكر بعض الأمثلة عن خشية اللّه تعالى.

المثال الأوّل: الطعن في أولاد الأئمة(عليهم السلام)، نحن عندما نريد أن ننقل شيئاً حول أبناء الأئمة(عليهم السلام) لا بدّ أن نكون حذرين، نحن لا ندعي العصمة لهم إذ من الممكن أن يرتكب ابن نبي المعصية، مثل ابن نوح، حيث قال تعالى بحقه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(1) لكن لا يجوز أن نتهم أبناءهم جزافاً من دون معرفة أو تحقيق، بل استناداً لبعض المرويات ضعيفة السند.

فلو فتح أحدهم كتاب الحديث ووجد فيه رواية فهل يمكنه أن يفتي على طبقها؟ كلا، لا يمكنه ذلك؛ لأن هذا الأمر ليس من اختصاص عموم الناس، بل هو من اختصاص الفقيه الذي يجب أن يتأكد من سند الرواية، ودلالتها، وهل لها معارضات، وهناك أمور أخرى مذكورة في الفقه والأصول، بعد ذلك يفتي، وهكذا الأمر في سائر الروايات غير الفقهية التي تستتبع موضوعاً فقهياً، كاتهام شخصية من أبناء الأئمة(عليهم السلام)، فلا يصح إطلاق عنان الكلام بالاتهام من غير حجة شرعية، فلعل الرواية التاريخية غير صحيحة.

وقد نلاحظ الطغاة يتهمون الذي يعارضهم، سواء في نفسه أم في أبنائه، أم المحيطين به، كل ذلك لكي يقلل من شأنه ويسقطه في أعين الناس.

لكن أكاذيبهم حول الأئمة(عليهم السلام) لم تنجح، لأن نور الأئمة(عليهم السلام) أقوى منها، وهو يبطل أية تهمة تُلصق بهم، لكن أولاد الأئمة وأصحابهم ليسوا بتلك المرتبة وأقل

ص: 619


1- سورة هود، الآية: 46.

معرفة عند الناس، فكانت التهم قد تجد لها مساراً نحوهم. ولذا لا بدّ من الاحتياط في هذا الموضوع وعدم اتهام أولاد الأئمة(عليهم السلام) جزافاً من غير دليل معتبر.

المثال الثاني: تكذيب الروايات من غير حجة شرعية، فأحياناً نجد شخصاً يرتقي المنصة ثم يحاضر ويكذّب الروايات لأنه لم يستوعبها.

نعم قد توجد روايات ضعيفة، ولكن هل حقق هذا المحاضر في الرواية التي يكذّبها أم أنه لم يفهمها ولم يستوعبها، فقال: إنها كاذبة؟

عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): «حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل، أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان، فما عرفت قلوبكم فخذوه وما أنكرت فردوه إلينا»(1)، فإذا وردتنا الرواية ولم نفهم معناها فلا بدّ من إرجاعها إلى أهلها، ونقول: إن معنى هذه الرواية عند اللّه وعند الرسول وأهل البيت(عليهم السلام).

إن الإنسان ينبغي أن يتحقق عما يرد إليه، ولا يلقي الكلام جزافاً، فقد نجد أن بعض الناس عندما يسمعون بمعاجز أهل البيت(عليهم السلام) يقولون: إن هذا كذب، وينسبون ذلك إلى الإسرائيليات، إلّا أن ذلك غير صحيح، بل لا بدّ من ملاحظة مجموعة أمور، لا نفيها من أساسها.

المثال الثالث: الفتوى من غير بينة شرعية، فإن الفتوى من غير علم من أكبر المحرمات.

يقال: كان رجل في السوق ظاهر الصلاح لذلك كان يعتمد عليه الناس وحينما كانوا يسألونه عن المسائل الشرعية كان يجيب عنها، سواء كان يعرف

ص: 620


1- بصائر الدرجات: 21.

الإجابة أم لا، فقيل له: إذا كنت لا تعرف الجواب فلماذا تجيب؟ فقال: إذا كان الجواب صحيحاً ومطابقاً للواقع فيُعد هذا تجرّياً! وأمّا إذا كان مخالفاً للواقع فهذه معصية استغفر اللّه ربي وأتوب إليه!!

لكن هذه ليست توبة؛ إذ من أركان التوبة الندم مع العزم على أن لا يعود للمعصية التي ارتكبها، أمّا إذا لم يندم أو قصد العودة فلا تُعد هذه توبة.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولا يستحين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه»(1)، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(2).

يُقال: كان رجل يعتلي المنبر، فسأله أحدهم مسألة، فقال: لا أعلم، ثم سأله سؤالاً ثانياً، فقال: لا أعلم، وهكذا في السؤال الثالث، فقيل له: إنك لا تعلم الأجوبة فلماذا ارتقيت المنبر؟ فقال: أنا أرتقي المنبر بمقدار علمي ولذا صعدت ثلاث درجات فقط، أمّا إذا أردت أن أصعد بمقدار جهلي فأحتاج إلى منبر مرتفع إلى السماوات السبع؛ لأن جهل الإنسان أكثر من علمه. لذا على الإنسان أن لا يستحي من أن يقول لا أعلم، حتى لو تزلزلت ثقة الناس به حين يقول ذلك، بل ينبغي عليه أن يكسب رضا اللّه سبحانه وتعالى.

ثالثاً: عدم خشية غير اللّه

ثم يقول اللّه تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، حيث نجد أن الكثير يسقطون هنا، كأن يطمع أحدهم في عطايا السلطان الجائر فيرتقي المنصّة ويمدحه ويبرّر له ظلمه من غير تقية، وإنّما طمعاً في حطام الدنيا، فالتقية ليست لجلب نفع،

ص: 621


1- نهج البلاغة، الحكم: 82.
2- سورة طه، الآية: 114.

وإنّما هي لدفع ضرر، فهي واردة عندما يخاف الإنسان على نفسه أو عرضه أو ماله، لكن في كثير من الأحيان لا يتحقق موضوعها.

فالإنسان الذي يبلغ رسالات اللّه يجب أن لا يخاف أحداً إلّا اللّه، لذا قال الإمام زين العابدين(عليه السلام) لذلك الخطيب: «ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوقين بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار»(1)، فذلك الخاطب كان يطمع في حطام الدنيا فلذا كان يريد ترضية يزيد ولو بسخط اللّه تعالى، لكنه لم يكن مجبوراً على أن يرتقي المنصة ليحصل على الأموال.

ولذا لو حصل تعارض بين رضا اللّه عزّ وجلّ وصعود المنبر فينبغي أن يشتري الإنسان مرضاة اللّه؛ لأن المنبر لا قيمة له إذا كان فيه سخط اللّه تعالى، بل يجب أن يكون سبباً للوصول إلى مرضاة اللّه، وإذا أصبح المنبر وسيلة تبليغ لغير اللّه تعالى فهو ليس بمنبر، بل هو عبارة عن أعواد كما قاله الإمام زين العابدين(عليه السلام)(2).

إذن، فالخشية من اللّه سبحانه وتعالى تُعد نقطة مهمة جداً؛ لأن الطغاة الظالمين يريدون أناساً يمدحونهم دائماً، ويتحدثون عن فضائلهم، سواء بالكذب أم الصدق، وهذه مهمة وعاظ السلاطين على طول الدهر، حيث نلاحظ أن أحدهم يتعلّم ليكون بعد ذلك من أعوان سلاطين الجور تحت عنوان أنه يريد أن يعظ السلطان!!

إن مثل هذا الشخص يفقد قيمته ورسالته، وعليه أن يذهب ويعمل كاسباً

ص: 622


1- مستدرك الوسائل 12: 208.
2- حيث قال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «يا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات للّه فيهن رضاً، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب» بحار الأنوار 45: 137.

ويرتزق بالحلال، لكي تكون الجنة مصيره، بدلاً من الخطابة والوعظ، أمّا إذا اختار طريق الخطابة فيجب أن يرضي اللّه ورسوله وأهل البيت(عليهم السلام).

رابعاً: الاكتفاء باللّه

ثم قال اللّه تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(1)، فالإنسان الذي لا يخشى غير اللّه قد تحدث له مشاكل إلّا أن اللّه سوف يكفيه، لأن حساب اللّه تعالى دقيق جداً في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(2).

ص: 623


1- سورة الأحزاب، الآية: 39.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.

(82) المواعظ واستمرارها

اشارة

قال اللّه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ}(1).

للّه سبحانه وتعالى خلق كثير، لا يُعد ولا يحصى، وكله مسيّر ما عدا الإنسان فهو مخير، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى في الحيوانات - مثلاً- غريزة تتحكم فيها، ولذلك لا تتطور؛ فالحيوانات منذ آلاف السنين وإلى الآن باقية على نفس الكيفية، فالنحلة كانت قبل آلاف السنين تبني بيتها بالطريقة نفسها التي تبنيه الآن، والعنكبوت يبني بيته منذ أمد بعيد وحتى اليوم بالشكل الذي نراه.

لقد خلق اللّه تعالى الإنسان ومعه أدوات الاختيار، ومنها: العقل والنفس والهوى وغيرها، والاختيار يُعد تفضيلاً له، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(2).

والتفضيل بين الموجودات مطابق للحكمة، فقد فُضل الإنسان على غيره بعقله، لكي يتمكن من الاختيار، وهذا من حكمة اللّه سبحانه وتعالى.

وحيث إن اللّه تعالى خلق الإنسان ليرحمه وقد سبقت رحمته غضبه فلذلك هيّأ للإنسان مقدمات الصلاح، فجعل جانب الخير هو الغالب فيه.

ص: 624


1- سورة سبأ، الآية: 46.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.

وهذه المقدمات، هي:

أوّلاً: الفطرة

لقد جعل اللّه سبحانه وتعالى الخير ورفض الشر في فطرة كل إنسان، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1)، وجاء في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة...»(2)، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يخلق إلّا الخير، وإذا وجد الشر فإنه ينشأ من الإنسان. وهذه الحقيقة يبينها القرآن الكريم بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(3).

ثانياً: العقل

إن الفطرة غير العقل، وقد أعطى اللّه تعالى الإنسان العقل، وهو حجة اللّه الباطنة، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأمّا الباطنة فالعقول»(4)، لذا كان على الناس الموجودين في فترة ما بين الرسل ولم يبلغهم دين ونبي أن يحكّموا عقولهم للتمييز بين الصحيح والخطأ.

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ

ص: 625


1- سورة الروم، الآية: 30.
2- الكافي 2: 12.
3- سورة الروم، الآية: 41.
4- الكافي 1: 16.

عَفُوًّاغَفُورًا}(1)، لكن لماذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: (عسى اللّه أن يعفو عنهم؟) لعل ذلك لأن تركهم للدين كان مشوباً بالتقصير، فقد كان لديهم عقل، فلماذا لم يعملوا وفق مقاييسه؟

حتى الأشرار يعلمون في قرارة أنفسهم أن عملهم شر، ولذا يحبون الخير، فإذا نسبت إلى صاحب الشر شره سينزعج؛ لأنه يعلم أن عمله شر، ويعلم أنه يفعل ذلك الشر مع معرفته به، فإذا كان شخص ما كذاباً وقلت له: إنك كذاب فسوف لا يرضى بذلك، لأنه يعلم بقبح هذا الفعل؛ ولذا ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه مَن لا يحسنه، ويفرح إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يبرأ منه مَن هو فيه»(2).

ثالثاً: الأنبياء والأوصياء

إضافة إلى الفطرة والعقل أرسل اللّه سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل للناس، وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الغاية من ذلك بقوله: «ويثيروا لهم دفائن العقول»(3). وهذا من لطف اللّه سبحانه وتعالى على الإنسان؛ ففي بعض الأحيان تكون التربية سيئة، وقد يمتد الأمر لأجيال حتى تتحول إلى عادات الآباء والأجداد، فيلغى العقل ويدفن تحت ركام العادات والتقاليد، وهنا يأتي دور الأنبياء والأوصياء ليثيروا للناس دفائن العقول، فالحجة موجودة منذ أوّل إنسان خلقه اللّه سبحانه وتعالى - وهو آدم(عليه السلام) - وهي مستمرة حتى يوم القيامة؛ إذ لا يوجد زمان يخلو من حجة، فإمّا نبيٌ أو وصي لنبي، فقد ورد في الحديث: «لا

ص: 626


1- سورة النساء، الآية: 97-99.
2- بحار الأنوار 1: 185.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 1.

تخلو الأرض من قائم بحجة اللّه، إمّا ظاهر مشهور، وإمّا خائف مغمور»(1).

وقد كان عمل الأنبياء هو الموعظة، فالأنبياء(عليهم السلام) يرون القبيح فيبينون قبحه، ويرون الحسن فيبينون حُسنه.

استمرارية المواعظ

ثم إن اللّه سبحانه وتعالى قد هيّأ للإنسان المواعظ المستمرة.

1- فمنها: القرآن الكريم: وهو مليء بالمواعظ من بدايته حتى نهايته، وهو يذكرنا بالآخرة؛ لأن الإنسان حينما يعلم أنه يُجازى على عمله إذا كان قبيحاً فسوف يرتدع؛ لذا ينبغي أن نقرأ القرآن الكريم بوعي وفهم، حيث إن الإنسان قد يغفل، فحينما يقرأ الإنسان الموعظة في القرآن الكريم فهي تذكره.

2- ومنها: الموت: وهو من أكبر المواعظ قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «كفى بالموت واعظاً»(2)، حيث إن اللّه سبحانه وتعالى يعطينا إشارات دائمة بموت سائر الناس لكي نهيئ أنفسنا حتى إذا ما جاءنا الموت نكون مستعدين له، يقال: إن رجلاً نظر في المرآة فوجد بياضاً في لحيته فقال: (أوّل خيط من الكفنِ). وعندما يرى الإنسان أن أباه قد مات وكذا أمه وأقربائه فهذا موعظة له.

ولكن مع ذلك فلا يتعظ غالب الناس، فقد روي: «ما خلق اللّه عزّ وجلّ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت»(3)، فكل الناس يعلمون علم اليقين أنهم يموتون، ولكنهم لا يستعدون للموت وللآخرة، كأنهم في شك منه، بل كأنهم يقطعون بعدمه.

ص: 627


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 245.
2- الكافي 2: 275.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 194.

3- ومنها: ما يراه الإنسان في مخلوقات اللّه تعالى وأفعاله. بشرط أن يتفكّر في ما يراه قال اللّه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}(1)، فإذا كنتم جمعاً كان أفضل، وإن تعذر ففرادى، ثم تتفكروا لأن الفكر هو الذي يؤدّي إلى تقدم الإنسان.

4- ومنها: أزمنة وأمكنة مباركة، فمن لطف اللّه سبحانه وتعالى أن جعل ذكره في كل وقت، لكي تكون الأمور التي تعظ الإنسان موجودة دائماً، ومن لطفه علينا أنه بثّ المناسبات في كل أشهر السنة، فما من شهر إلّا وفيه مناسبة، لا بدّ أن نحييها لكي نتّعظ لأنها إحياء لأمرهم، قال الإمام الصادق(عليه السلام) لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟ قلت: نعم، قال: تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(2).

إضافة لذلك جعل اللّه سبحانه وتعالى أماكن وبقاعاً أحب أن يُعبد فيها؛ لأنه يحبها، فمكة أوّل بيت وضع للناس، كذلك بث مراقد الأئمة(عليهم السلام) في أماكن مختلفة، لكي يستفيد الإنسان من هذه البقاع ويتعظ ويتذكّر.

عن أبي هاشم الجعفري قال: دخلت أنا ومحمّد بن حمزة عليه - يعني على الإمام الهادي(عليه السلام) - نعوده وهو عليل، فقال لنا: وجهوا قوماً إلى الحير من مالي، فلما خرجنا من عنده، قال لي محمّد بن حمزة: المشير يوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة من في الحائر!! قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا، إن للّه مواضع يحب أن يعبد فيها، وحائر الحسين(عليه السلام) من تلك المواضع»(3).

ص: 628


1- سورة سبأ، الآية: 46.
2- وسائل الشيعة 12: 20.
3- مستدرك الوسائل 10: 346؛ بحار الأنوار 98: 113.

وذلك لأن اللّه عزّ وجلّ خص قبر الإمام الحسين(عليه السلام) بخصوصية استجابة الدعاء تحت قبته؛ وهو سبحانه يُحب أن يُدعى في هذا المكان، فإن له نفحات.

ثم إن الإنسان خلال زيارة المراقد المقدسة يكون منقطعاً عن جميع ارتباطاته التي خلفها في بلده، مثل: الالتزامات الاجتماعية والمهنية واحتياجات البيت وغير ذلك؛ لذا فإنه تكون أمامه فسحة كبيرة من الوقت، وهذا ربما لا يتوفر له في بلده؛ لذا من الحريّ به أن يستفيد من هذا الوقت المتاح بأفضل وجه بما يمكنه من التعرّض للنفحات القدسية، فالشقيّ من حُرم منها.

5- ومنها: ذكر الصالحين، فكما جسم الإنسان يحتاج الغذاء باستمرار، كذلك روحه تحتاج إلى الموعظة دائماً، فنحن بحاجة لأن نتذكر الآخرة، ولتذكر فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ومصائبهم، حتى ترق قلوبنا ونرتبط باللّه سبحانه وتعالى أكثر؛ لأن القلب الرقيق يقرب الإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى، ويجعله قابلاً للموعظة.

لا يقول أحدنا إني قد أدّيت ما عليّ من العبادة والطاعة، فلسنا أفضل من الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) فقد كانوا يدأبون على العبادة والطاعة ليل نهار فقد كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(1)، وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(2). وقد رُوي أنه «دخل أبو جعفر(عليه السلام) ابنه عليه(3) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودبرت

ص: 629


1- انظر: الأمالي، للشيخ الصدوق: 282.
2- انظر: الخصال: 517.
3- أي: على الإمام زين العابدين(عليه السلام).

جبهته(1)، وانخزم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، وقال أبو جعفر(عليه السلام): فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر فالتفت إليَّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بني، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(2).

كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يصوم كثيراً، ولذا كان يقول(عليه السلام): «ما فاتني صوم شعبان منذ سمعت منادي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينادي في شعبان، ولن يفوتني في أيام حياتي صوم شعبان، إن شاء اللّه، ثم كان يقول: صوم شهرين متتابعين توبة من اللّه»(3).

إنه(عليه السلام) إمام معصوم مفترض الطاعة، ولا يرتكب الذنب، وهو يعلم بكل ذلك ويعلم درجة قربه من اللّه سبحانه وتعالى، فلماذا يقول هكذا؟

والجواب: ليكون عبداً شكوراً، ولتكون له مقامات عالية عند اللّه سبحانه وتعالى.

إننا لا نقدر على ذلك لكن علينا أن نقوم بما نتمكن كما قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»(4).

ص: 630


1- الدبرة: قرحة تتكون من ملازمة الجلد لشيء خشن، وتكون في جبهة الإنسان من أثر السجود على الأرض، بل حائل. انظر: لسان العرب 4: 273.
2- وسائل الشيعة 1: 91.
3- وسائل الشيعة 10: 508.
4- نهج البلاغة، الرسالة: 45.

(83) بالحكمة والموعظة الحسنة نحقق أهدافنا

اشارة

قال اللّه تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

الإسلام دين بُني على الفطرة والعقل، وكل حكم من أحكام الشرع عن حكمة، وعلى سبب صحيح، ونحن قد نكتشف تلك الحكمة وذلك السبب، وقد لا نكتشف لكنّا نعلم أن هذه الأحكام صحيحة حتماً لأنها من لدن حكيم لطيف يعلم دقائق الأمور.

مثلاً: عند ما يُبتلى الإنسان بداءٍ يراجع الطبيب ليكتب له وصفة الدواء، فمرةً يعلم المريض سبب اختيار الطبيب للدواء، ومرّةً لا يعلم، لكنه مع ذلك يمتثل أمر الطبيب حتى وإن كان الدواء مرّاً، لأنه يعلم أن هذا الطبيب عالم وحكيم، وعلى هذا الأساس شخّص الداء ووصف الدواء.

وهكذا أحكام اللّه عزّ وجلّ، فعدم معرفتنا بسبب ذلك الحكم لا يعني تركه، وبما أن اللّه عزّ وجلّ خلق الإنسان وهو يعلم كل شيء، ويعلم ما يحتاجه، ويعلم ما يضره وما ينفعه، فإذا تمردنا على أوامر اللّه عزّ وجلّ سنكون نحن مَنيتضرر؛ لأن اللّه عزّ وجلّ غني عن العباد، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ

ص: 631


1- سورة النحل، الآية: 125.

إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(1).

من هنا نجد أن الإسلام يواصل انتشاره، وكذلك مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، رغم كل الصعاب التي يواجهها، وكل المشاكل التي ابتلي بها المسلمون، وعلى الرغم من الضغوطات التي تعرض لها أهل البيت(عليهم السلام) الذين يمثلون الإسلام الحقيقي. فهذه الحقيقة نشاهدها اليوم في العالم، حيث إن الإسلام أسرع الأديان انتشاراً بالرغم من ضعف وسائل الإعلام التي تبلغ للإسلام وللتشيع، وبالرغم من أن أعداء الإسلام يمتلكون كل وسائل القوة، من مال واقتصاد وإعلام فما السر في ذلك؟

إن السر في ذلك يكمن في أن الإسلام وشرائعه مبنية على قواعد صحيحة تلاءم فطرة الإنسان وعقله، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(2)، وعليه فإذا وصل الإسلام وبشكل صحيح إلى أي إنسان منصف وفكّر فيه فإنه سيقبله.

لو طالعنا كتب الأديان الأخرى لوجدناها مملوءة بالخرافات التي لا يقبلها العقل، ومع ذلك فالبعض يتبعها تقليداً لآبائهم. فمثلاً: يقول أكثر النصارى: إن الإله واحد، وفي الوقت نفسه هو ثلاثة أيضاً، وهو: (الأب، والابن وروح القدس)، فكيف يكون الواحد ثلاثة؟! وعندما تسألهم عن ذلك فإنهم يقولون: (إن هذا أمر فوق العقل)! في حين أن العقل لا يقبله أساساً، وبالرغم من أنهم ينفقون المليارات للتبشير لكنهم لا يوفقون إلّا قليلاً، بينما نرى انتشار الإسلامفي العالم رغم محاربته.

ص: 632


1- سورة فاطر، الآية: 15.
2- سورة الروم، الآية: 30.

ثم إن لنا تجاه الإسلام وظائف ثلاث:

الوظيفة الأولى: الدعوة بالحكمة

إننا مسؤولون عن دعوة الناس للإسلام، لما ورد في الحديث النبوي الشريف: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»(1)، فإذا أردنا أن نعرض هذا الدين الملائم لفطرة الإنسان، ونقدم الشريعة السهلة والسمحة للعالم، فعلينا أن نعرضه بطريقة مناسبة حتى لا ينفر منه الناس؛ لأن الناس عادة لا يميزون بين الفكر وبين حامله، فإذا كان حامل الفكر إنساناً سيئاً فسيقولون: إن هذا الفكر سيء أيضاً؛ مثلاً: إذا دخلنا في مدينة في أقاصي الأرض، وكان لسكان المدينة دين خاص، ورأينا الناس يتعاملون بطريقة معينة، فسنقول: إن دينهم يأمرهم بهذا السلوك الذي يتعاملون به.

وهكذا نحن، فإن تصرفاتنا تؤثر على الناس بحيث يتصورون أن هذه التصرفات هي صورة عن الإسلام.

يقول اللّه عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}(2) فما هي الحكمة؟

إنها من الإحكام وهو يلازم وضع الأشياء في مواضعها، فإذا جعلنا طبيباً أخصائياً مسؤولاً في مستشفى فإن هذا من الحكمة، وأمّا إذا جعلناه رئيساً لنقابة المهندسين فإن هذا ليس من الحكمة، لأن الشيء لم يوضع في مكانه المناسب.

الوظيفة الثانية: الموعظة الحسنة

ثم يقول اللّه تعالى: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي عندما تعظ شخصاً فيجب أنتكون الموعظة بأسلوب حسن، لا بالاستفزاز الذي قد يثير العناد في الطرف المقابل،

ص: 633


1- عوالي اللئالي 1: 129.
2- سورة النحل، الآية: 125.

فأتباع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) يجب أن يكونوا صادقين في القول والفعل؛ قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير»(1)، وهذا لا يعني أن لا نبلغ باللسان، وإنّما ليكن العمل ملائماً وصحيحاً بحيث يقول الناس: هؤلاء أتباع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) حقاً، وجاء في حديث آخر: «كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً»(2).

الوظيفة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن

إن الجدال والنقاش أمرٌ لا بدّ منه، فمن كان صاحب حق يجب أن يناقش الآخرين لإثبات حقه، ويجب أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، كما قال اللّه تعالى: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3) وهو غالباً يكون عبر العقل والمنطق ومخاطبة الفطرة، وذكر البراهين والجواب عن الشبهات، وقد يختلف الأحسن من حالة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر.

دور المنطق والبرهان في تحقيق النصر

إن المنهج والفكر الصحيحين يبتنيان على المنطق والبراهين الجلية، فحينما بُعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاطب العقول، واللّه عزّ وجلّ يبين في القرآن الكريم عِلل كثير من الأحكام، فعندما أمر اللّه تعالى بالصلاة بيّن العلة من ذلك، حيث قال:{إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(4)، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(5)،

ص: 634


1- الكافي 2: 78.
2- وسائل الشيعة 12: 193.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة العنكبوت، الآية: 45.
5- سورة طه، الآية: 14.

وهكذا عندما أمر اللّه تعالى بالصوم، حيث يقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)، أي: لكي تحفظوا أنفسكم؛ وكذا حين أمر اللّه عزّ وجلّ بالزكاة: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(2)، فمن أغراضه التكافل الاجتماعي.

وذلك لكي يكون هناك إقناع، فإنه إذا كانت الأحكام مقرونة بالإقناع فإن الناس يلتزمون بها عادة، وأمّا إذا لم يكن إقناع فحالة الالتزام تكون أقلّ، فإذا أمر الأب ابنه بشيء وهو غير مقتنع به، فإن الابن إذا وجد فرصة ليخالف الأمر فسوف يفعل ذلك ولو خفية، عكس ما إذا اقتنع به.

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام(عليهم السلام) يخاطبون العقول منذ أن بدأ الإسلام، ومخاطبة العقل تتوقف على إقامة البراهين الصحيحة والجلية التي تُقنع الإنسان.

وفي مقابل منهج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام(عليهم السلام) توجد هناك مناهج أخرى، إلّا أنها لم تتمكن من مجاراة الحجة بالحجة، ومقارعة الدليل بالدليل؛ لأن الحق واحد والباطل كثير، فإذا أراد الباطل أن يقف أمام الحق فلا يتمكن من استعمال أسلوب البرهان، لأن حجته باطلة، ولذا ينتهج أسلوب المغالطة والتهريج وتغييب العقل.

إن اللّه تعالى نصر أتباع أهل البيت(عليهم السلام) لأنهم أصحاب حق ومنطق، وغالباً ما يصادر الآخرون حقوقهم، أو يريدون مصادرتها، فيستخدمون جميع أشكال السب والشتم؟

ص: 635


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة المعارج، الآية: 24-25.

وفي المقابل يجب علينا أن نتبع منهج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، في مواجهة المبطلين قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(1).

والتهريج قد يسبّب حزن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولهذا يضيق صدره من الكلام الباطل. ونحن الآن نواجه هذه المشكلة فما هو العلاج؟

والجواب هو ما بيّنته الآيات الكريمة، من خلال الأمور التالية:

الأمر الأوّل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: الالتجاء إلى اللّه عزّ وجلّ، فعندما يتهجم علينا الآخر بكلام غير منطقي وضاق صدرنا، فأوّل شيء نقوم به هو أن نتوجه إلى اللّه عزّ وجلّ، أي: نزّه اللّه عزّ وجلّ، وذلك بالحمد، فأحمد اللّه عزّ وجلّ؛ لأنه لا يحمد على مكروه سواه عزّ وجلّ، فإذا أصابتنا مشكلة من هذا القبيل فلنسبّح؛ لأن التسبيح بحمد اللّه يجلب الاطمئنان النفسي، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2).

الأمر الثاني: {وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ} أي: الخضوع لأوامر اللّه سبحانه وتعالى، فإذا ابتدأنا باللّه عزّ وجلّ فسيُرينا الطريقة الصحيحة للخروج من تلك المشكلة؛ لأن اللّه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(3)، فإذا ابتدأناباللّه فسوف يسدد اللّه خطانا.

وإذا واجهت الإنسان بعض المشاكل فلا يتراجع ولا يخضع، بل ينبغي أن يكون خضوعه للّه عزّ وجلّ، وليس للكلام الباطل، فلذا أمر اللّه تعالى بالسجود،

ص: 636


1- سورة الحجر، الآية: 97-99.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69.

لأن السجود أشد الحالات خضوعاً، فليس لدينا شيء يظهر الخضوع أكثر من السجود. لذا خُصص السجود للّه عزّ وجلّ. فقد يمكننا أن نحترم الآخرين بأنواع أخرى من الاحترام، لكن هذا النوع من الخضوع - أي: السجود - مخصص للّه عزّ وجلّ، ولا يجوز في الشريعة الإسلامية السجود حتى للأنبياء أو الأئمة(عليهم السلام).

إذن، لا بدّ أن يكون خضوعنا للّه عزّ وجلّ، وليس للتهريج المضاد، فعلينا أن ننظر لكلام اللّه عزّ وجلّ ونطبقه، ونترك كلام الآخرين مهما قالوا؛ لأن كلامهم باطل؛ ولأن اللّه عزّ وجلّ خلق الكون وجعل النصر للحق، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(1)، فالباطل زاهق وذاهب، والحق منتصر وظاهر، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2).

الأمر الثالث: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، أي: اصبر واستقم، فكن مستمراً على اليقين، وفي بعض التفاسير(3): استمر بالطريقة الصحيحة إلى أن يحين الموت، عند ذاك يتبين المحق من المبطل.

إننا كنا ولا زلنا نتبع رسول اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، ولهذا فنحن مبتلون بالأقاويل الباطلة من أناس إمّا جهلة أو معاندون، فلا بدّ أن نتبع التعليمالإلهي الذي علمه اللّه لرسوله ولنا أيضاً. فإذا أصبنا بشيء فلا بدّ أن نلتجئ إلى اللّه عزّ وجلّ أوّلاً، ونخضع لأوامره ثانياً، ونصبر ونستقيم ثالثاً. فهذه الحلول ذات طبيعة نفسية، وهي حلول عملية للبقاء على الطريقة المستقيمة، والعاقبة ستكون للمحق.

ص: 637


1- سورة الإسراء، الآية: 81.
2- سورة التوبة، الآية: 33.
3- انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 6: 133.

قال عمار بن ياسر في يوم صفين: «واللّه لو ضربونا حتى بلّغونا سعَفَات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل»(1). أي: حتى لو شكل هذا التراجع هزيمة عسكرية ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة، لعلمنا أننا على حق وأنهم على باطل، وهذه هي الاستقامة، وهذا هو الاتجاه الصحيح، وهو الذي يؤدّي بالإنسان للوصول إلى مرضاة اللّه عزّ وجلّ، وإلى السعادة الدنيوية والأخروية؛ لأن السعادة ليست أمراً مادياً، وإنّما هي أمر معنوي، فقد يكون شخص ما مسجوناً لكنه سعيد، وقد يعيش في القصور لكنه غير سعيد.

ص: 638


1- بحار الأنوار 33: 13.

(84) لغة الحوار

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

إن من أفضل الطرق لإيصال الحقائق إلى الناس ودحض الشبهات هو الحوار.

إذ كثيراً ما للناس تصورات غير صائبة فبالنقاش المباشر والإجابة عن الأسئلة يتبيّن لهم الحق وتنزاح الشبهات وكذلك قد يكون الحوار وسيلة لإزاحة التصورات الخاطئة عن الطرف المقابل.

ولنذكر بعض الأمثلة:

المثال الأوّل: اللّه عزّ وجلّ بعد أن خلق آدم(عليه السلام) أراد أن يبيّن للملائكة بأنه أفضل منهم، فمهّد لذلك بأن علّم آدم الأسماء، ثم سأل الملائكة عن تلك الأسماء، فلما قالوا: لا نعلمها، قال اللّه عزّ وجلّ لأدم: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ}(2)، فلما أنبأهم بأسمائهم أراهم اللّه عزّ وجلّ - عملياً - أنّ خلق آدم ينطوي على حكمة، وقد كان الملائكة يعلمون ذلك، ولكن كان علمهم لا عن برهان وإنّما لعلمهم بحكمة اللّه تعالى، فأوصلهم اللّه عزّ وجلّ إلى مرحلة العلم عن طريق البرهان عن طريق الحوار والاستدلال العملي.

ص: 639


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة البقرة، الآية: 33.

فإذا كان اللّه عزّ وجلّ ينتهج هذا الأسلوب مع أنه الخالق والرازق وبيده كل الأمور، ويسمح لمخلوقاته بأن تسأل وتستفهم، وهو الذي يثير الحوار والسؤال في أذهانهم، فلماذا نبتعد نحن عن هذا الأمر، ونضع بيننا وبين الآخرين حواجز بحيث لا نلتقي بهم ولا نحاورهم؟

المثال الثاني: الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحاور أي شخص يأتي إليه ويطرح سؤاله أو اعتراضه أو استفساره، وكان يجيب عن ذلك ليصل المقابل إلى درجة الاقتناع، فكان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسمح بالنقاش، فحينما جاء إليه النصارى من نجران ناقشهم في ما جاءوا من أجله، واللّه عزّ وجلّ في القرآن أمر رسول اللّه أن يناقشهم ويحاورهم، وإذا وصل النقاش إلى طريق مسدود لأجل عنادهم أوكل الأمر إلى اللّه عزّ وجلّ ودعاهم إلى المباهلة.

وعليه فينبغي أن نبدأ بالحوار، ويكون كلامنا منطقياً وعلمياً، حتى لو كان كلام الطرف المقابل من دون منطق أو علم، وبعد الحوار وبيان الدليل الحق لو عاند فحينئذٍ نوكل الأمر إلى اللّه تعالى، قال سبحانه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}(1)، وفي آية أخرى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2)، وهكذا فإن اللّه عزّ وجلّ يعلّم رسوله والمؤمنين كيفية التكلم.

المثال الثالث: أهل البيت(عليهم السلام) فإنا عندما نعود إلى سيرتهم نلاحظ وجود هذا المنهج بوضوح، فقد كانوا يحاورون الطرف الآخر لأن الطرف المقابل إن كان

ص: 640


1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- سورة سبأ، الآية: 24.

طالب حق فسوف يظهر له الحق بكلامهم(عليهم السلام)، وإن كان معانداً فإنه وإن لمينفعه الحوار إلّا أن الآخرين الذين يستمعون إلى الحوار أو ينقل لهم بعد ذلك سيستفيدون منه.

إذن، نستطيع من خلال الحوار تعديل تصور كل طرف عن الطرف الآخر، فإذا كان تصوره خاطئاً نوضحه له؛ لأن ابتعاد المجتمعات بعضها عن الأخر وابتعاد أفراد المجتمع الواحد بعضهم عن بعض يؤدّي في كثير من الأحيان إلى تصورات خاطئة، ويؤدّي إلى سوء الفهم، لأن تصديق الشيء فرع تصوره، فإذا كان التصور خاطئاً يكون التصديق خاطئاً أيضاً، ثم إذا حكم الإنسان حكماً خاطئاً سيقوده ذلك إلى ممارسة خاطئة، وهكذا فإن التصور الخاطئ هو أساس الممارسة الخاطئة.

فائدة الحوار

ولكن إذا رُفعت الحواجز النفسية بين المجتمعات وبين أفراد المجتمع الواحد، وحدث حوار بين الأفراد، فإن الإنسان سيكتشف - غالباً - أن تصوره عن الآخرين كان خاطئاً، فيؤدّي الحوار إلى تصحيح التصور الذي يؤدّي بالنتيجة إلى تصحيح السلوك.

لذا نلاحظ أن سلاح الكفار والمشركين الذين كانوا يعارضون الإسلام هو منع الناس من الاستماع إلى القرآن الكريم؛ لأن الناس تتولد لديهم تصورات خاطئة بسبب الدعايات المضادة للإسلام، ولكن حينما كانوا يأتون ويستمعون إلى القرآن الكريم كان يؤثر فيهم ويغيّر تصورهم، وقد سمع أحد الأشخاص أن رجلاً ادعى النبوة في مكة، فقال: سأذهب إلى مكة لاستمع لكلام الرجل، فإن وجدته كاذباً قتله وأرحت البلاد والعباد منه، وإن وجدته صادقاً اتبعته، وحينما وصل مكة واستمع إلى القرآن الكريم أثّر فيه وأسلم.

ص: 641

وقد لاحظ المشركون أن انقطاع الناس عن الاستماع إلى القرآن الكريم هوسبيلهم لكي يتمكنوا من غرس دعاياتهم في عقول الناس ونفوسهم، يقول اللّه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(1)، فلم يكن الوصول إلى الحق هو هدفهم، وإنّما الانتصار للباطل والغلبة لمصلحتهم، وفي آية أخرى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا}(2).

لما جيئ بالإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) فأقيم على درج مسجد دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين(عليه السلام): أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: قرأت الحم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ الحم، قال: قرأت {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3)؟ قال: أنتم هم؟ قال: نعم، ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام): أفقرأت في بني إسرائيل: {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ}(4)؟ قال: وإنكم القرابة التي أمر اللّه أن يؤتى حقه؟ قال: نعم...»(5). وبذلك تبيّن للرجل أنه كان مخطئاً.

ثقافة الاختلاف

لذا يجب أن نتعامل تعاملاً صحيحاً مع الاختلاف، لكي نستفيد منه بصورة صحيحة، وهذا مرهون بإرساء ثقافة الاختلاف في المجتمع، ويتم هذا الأمر

ص: 642


1- سورة فصلت، الآية: 26.
2- سورة نوح، الآية: 7.
3- سورة الشورى، الآية: 23.
4- سورة الإسراء، الآية: 26.
5- بحار الأنوار 23: 252.

باللقاء والحوار، وهو كفيل بتوضيح الأفكار، وتصحيح الرؤية.إن الإسلام دين لجميع القوميات، وان هذا التنوع هو سبب قوة الإسلام، فقد استفادت الحضارة الإسلامية من مختلف القوميات والبقاع، وهم كانوا من أعراق وألوان مختلفة، والاختلاف رحمة على الأمة الإسلامية شريطة الاستفادة الصحيحة من هذه الحقيقة الكونية.

وخلاف ذلك يتحول إلى تنازع وهو الذي يخرب حياة الإنسان، كالماء حين يقيم الناس السدود في مساره لكي يستفيدوا منه، وإذا لم يفعلوا ذلك لتحول إلى سيل يهلك البلاد والعباد.

ص: 643

(85) الأسباب والمسببات

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).

شاء اللّه سبحانه وتعالى أن يجعل لكل شيء سبباً، صحيح أنه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، ولكن الحكمة اقتضت أن يجعل الأشياء عبر أسبابها ومسبّباتها، مثلاً مع أن اللّه تعالى قادر على أن يخلق الإنسان دفعة واحدة كما خلق آدم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(2)، إلّا أن حكمته اقتضت أن يوجد الإنسان عبر الأبوين، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ}(3).

إذن، اقتضت الحكمة الإلهيّة أن تكون أمور الكون على هذا السياق والنمط، لكن غالب الأسباب والمسببّات مخفية عن الإنسان، فغالباً ما نرى النتيجة لكن لا نعلم أسبابها، لذا يستغرب الإنسان حينما يرى نتيجةً لا يعلم سببها، فالنتيجة تابعة لأسبابها، وجهل الإنسان أو علمه بتلك الأسباب لا يغير من الواقع شيئاً.

ص: 644


1- سورة إبراهيم، الآية: 24-25.
2- سورة آل عمران، الآية: 59.
3- سورة النحل، الآية: 78.

إن الإنسان لم يكن يعلم بقانون الجاذبية ثم عَلمه، وعِلمه أو جهله لم يغير من الواقع شيئاً، لأن الحقائق التكوينية والتشريعية لا تتغير بعلم الإنسان وجهله.

نعم، على الإنسان أن يحاول ليزداد علماً، قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1)، ومن طرق زيادة العلم هو أن يتدبّر الإنسان ويتفكّر في القرآن الكريم والروايات، هذا بالنسبة للأمور التشريعية، وأمّا الأمور التكوينية فلا بدّ من أن يدرس العلوم الطبيعية، ويكتشف الأسباب والمسبّبات، فإذا أراد معرفة المسبّبات لا بدّ أن يذهب إلى أسبابها، لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل قانون السببيّة والمسببيّة.

وفي بعض الأحيان تكون الأسباب أموراً بسيطة، لكن النتائج عظيمة جداً، فقد نرى شجرة عمرها ألف عام إلّا أن أصلها بذرة صغيرة زرعها شخص في الأرض، وفي بعض الأحيان لم يزرعها أحد، وإنّما هيّأ اللّه سبحانه وتعالى الأسباب الطبيعية فوجدت، فكثير من الأمور صغيرة لكن نتائجها عظيمة؛ لذا ينبغي على الإنسان أن يعمل ولو عملاً صغيراً، فربما يكون هذا العمل عند اللّه مرضياً، وقد يكون العكس، فقد يكون العمل كثيراً إلّا أنه غير مقبول، لأن الإنسان أدّاه رياءً، أو كان بقصد دنيوي وليس فيه إخلاص، أو لعله كان صحيحاً في البداية لكن أبطله بعد ذلك(2)، إذ كما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات يحبطن الحسنات، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(3)،وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ

ص: 645


1- سورة طه، الآية: 114.
2- انظر: الكافي 2: 297، وفيه: ... عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: «الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة للّه وحده لا شريك له، فكتب له سراً، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً».
3- سورة الفرقان، الآية: 23.

مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}(1).

ولذا على الإنسان إذا نوى عملاً من أعمال الخير أن يعجّل فيه، ولا يستهين به وإن كان صغيراً، فلعل اللّه يتقبل ذلك العمل، ويكون سبباً لدخوله الجنة، والعكس كذلك فعليه أن لا يستهين بالذنب الصغير، فقد يكون سبباً لدخول النار، قال تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(2)، فسيئة واحدة قد تكون سبباً للكفر ومن ثمّ الخلود في جهنم.

أقسام الأسباب

إن العلل والأسباب التي تتحكم في حياة الإنسان وتوصله إلى المعلولات والنتائج تكون على صنفين:

الصنف الأوّل: أسباب وعلل بيد الإنسان نفسه، فإذا ذهب إلى العمل وحصل على أموال ليشتري بها قوتاً لعائلته فإن عمله سيكون سبباً، والأموال التي يحصل عليها مسَبباً، فالسبب بيده، فحينما يعمل سيحصل على أموال، وإذا لم يعمل فلن يحصل عليها، كذلك حال الطالب، فالذي يدرس طيلة العام يكون نجاحه معلولاً لدراسته، بينما الذي لا يدرس يكون فشله بسببه أيضاً. وهكذا سائر الأمور في الحياة.

الصنف الثاني: أسباب وعلل خارجة عن إرادة الإنسان، مثلاً إذا أراد أن يسافر فلا بدّ أن يهيّئ مقدمات سفره، كالسيارة السليمة من أي خلل، والسائق الماهر المطلع على قوانين المرور، وغير ذلك، لكنه هل يضمن أن السائق القادم منالاتجاه الآخر لا يغفو ولا يصطدم به؟ وهل يضمن عدم حدوث خلل في سيارته،

ص: 646


1- سورة البقرة، الآية: 264.
2- سورة البقرة، الآية: 81.

فتنحرف وتصطدم بسيارة أخرى؟

نعم، يمكن أن نضمن تتحقق الأسباب الغيبية المطلوبة، من خلال التوكل على اللّه سبحانه وتعالى.

هناك توكل وتواكل، وبينهما فرق، فالتوكل مأمور به، والتواكل مذموم ومنهي عنه، ومعنى التوكل أن يؤدّي الإنسان ما عليه، أمّا ما خرج عن قدرته واختياره فيوكله إلى اللّه سبحانه وتعالى، في حين أن معنى التواكل هو تهرّب الإنسان عن تأدية الواجبات الملقاة على عاتقه، فيقول بعضهم: (اللّه كريم)! وهذا صحيح، لكن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(1)، أي: إنكم سترزقون إذا سعيتم في طرق الأرض وعملتم وبحثتم عن أرزاقكم، أمّا من لا يعمل ولا يسعى فلا يتوقع الرزق.

والحاصل: أنه حينما نؤدّي ما علينا تبقى هناك أسباب غيبية خارجة عن إرادتنا.

لكن كيف نهيئ الأمور حتى يختار اللّه تعالى لنا الأسباب المناسبة التي توصلنا للنتيجة المطلوبة؟

والجواب: إنه ينبغي على الإنسان أن يهيئ بعض المقدمات، فإنه من لطف اللّه عزّ وجلّ بعباده أن جعل بعض مقدمات الأسباب غير الاختيارية بيد الإنسان.

ولنذكر بعض الأمثلة:

المثال الأوّل: مَن يصل أرحامه يطيل اللّه عزّ وجلّ في عمره، بينما يعجل اللّه

ص: 647


1- سورة الملك، الآية: 15.

تعالى في موت الآخر لأنه قطع رحمه(1).

المثال الثاني: ورد في الآيات القرآنية أن الهداية والضلال من اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2)، و{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ}(3).

إن الهداية والضلالة من اللّه تعالى، لكن بمعنى أن اللّه يرتب النتيجة في ضوء المقدمات التي تصدر من الإنسان(4)، فإذا هيّأ مقدمات الهداية فاللّه تعالى يهديه، وإذا هيّأ مقدمات الضلالة فإن اللّه تعالى يُضله.

يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(5)، والفسق هو الخروج عن حد الاعتدال، أي: عن أحكام الشرع بالكفر أو المعصية(6)، إن الفاسق فيالاصطلاح القرآني يشمل الكافر؛ لأنه خرج عن أمر اللّه؛ لأن معنى الفسق هو

ص: 648


1- انظر: الكافي 2: 152، وفيه: ... عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلّا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه اللّه ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين».
2- سورة القصص، الآية: 56.
3- سورة الجاثية، الآية: 23: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
4- فإذا ألقى شخص بنفسه من شاهق وسقط على الأرض وتكسرت عظامه ومات فإنه لم يكن مجبراً على ذلك؛ لأنه هيّأ المقدمة للموت بنفسه، وإذا تزوج شخص فسوف يرزقه اللّه طفلاً. صحيح أن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَٰلِقُونَ} [سورة الواقعة، الآية: 59]، ولكن هذا الإنسان هيّأ المقدمات.
5- سورة المائدة، الآية: 108.
6- انظر: العين 5: 82؛ لسان العرب 10: 308.

الخروج عن الطاعة، فكانت النتيجة هي عدم الهداية.

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(1)، أي: إن الظلم هو السبب الذي تترتب عليه النتيجة وهي الضلال.

فعندما نقول: إن فلاناً أفسد ابنه، فهذا يعني أنه تركه وشأنه ولم يربّه وفق النهج الصحيح، أو لم يراقبه ويهتم به وبسلوكه، بينما كان الواجب عليه أن يربيه بطريقة صحيحة. إذن، فاللّه سبحانه وتعالى يضل مَن لا يهيئ أسباب الهداية، وأمّا مَن هيّأها فإنه عزّ وجلّ يهديه.

لقد خاطب الإمام الحسين(عليه السلام) جيش يزيد يوم عاشوراء، وكانوا يسمعونه ويرونه أمامهم، لكنه لم يؤثر فيهم كلامه(عليه السلام)، لأن بطونهم مُلئت من الحرام، وهذا ما أشار له(عليه السلام) حيث يقول: «ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟»(2).

وإذا لم يهتد الإنسان فمعنى ذلك أنه لم يهيّئ لنفسه أسباب الهداية، حيث إنه يجهل موازين اللّه سبحانه وتعالى التي تختلف عن موازيننا، فقد تكون بعض الأشياء مهمة جداً عندنا، لكنها ليست كذلك عند اللّه والعكس صحيح، قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}(3)، فقد يرتكب شخص معاصيكبيرة فيمهله اللّه عزّ وجلّ، بينما يرتكب شخص آخر معصية صغيرة فيعجّل اللّه

ص: 649


1- سورة المائدة، الآية: 51.
2- بحار الأنوار 45: 8.
3- سورة النور، الآية: 15.

عزّ وجلّ العقوبة عليه.

لذا علينا أن نبتعد عن المعاصي كلها، كبيرها وصغيرها، بل حتى مواضع الشبهة، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن لكل ملك حمى، وحمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(1)، و(الحمى) هو حافة الحفرة التي كان يحفرونها سابقاً لوضع الحيوانات المفترسة بداخلها بدلاً من الأقفاص، وكان الناس يأتون ويتفرجون عليها، فإذا حام الإنسان حول الحفرة فربما تزل قدمه ويسقط فيها ويكون فريسة للحيوانات.

ص: 650


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ مستدرك الوسائل 17: 323.

(86) من أسباب ضعف المسلمين

اشارة

قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَىٰ}(1).

نلاحظ جميعاً ضعف المسلمين في مختلف مناحي الحياة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، واستيلاء القوى العظمى على ثرواتهم واستقلالهم، فما هو السبب وراء ذلك؟

والجواب: أن هناك أسباب متعددة لكن أهمها أمران:

الأمر الأوّل: الاستبداد

اشارة

إن الاستبداد يعني أن إرادة شخصٍ ما أو مجموعة قليلة تكون فوق إرادة الجميع من غير وجه حق، ولا يمكن لإرادة الآخرين أن تخالف إرادة ذلك الشخص أو تلك المجموعة القليلة.

وإذا قرأنا التاريخ سنلاحظ أن الاستبداد عامل أساسي لانهيار الأمم والحكومات، أمّا عدم الاستبداد فهو سبب التقدم، وإذا كان للاستبداد في بعض الأحيان بريق أو بعض الإيجابيات إلّا أنها سرعان ما تنهار وتزول في سيل من السلبيات.

من مضار الاستبداد

اشارة

ثم إن للاستبداد مضار كثيرة نذكر بعضها:

ص: 651


1- سورة العلق، الآية: 6-7.
1- الاستغناء

فالإنسان الذي يجد نفسه مستغنياً مالياً أو سياسياً أو في أي جانب من جوانب الحياة فإنه سوف يطغى؛ لأن الطغيان من طبيعة الاستغناء وهو ملازم للاستبداد، فالحاكم الذي يشعر بأنه محتاج إلى الشعب، وأن بقاءه في منصبه رهن إرادة الناس، فإنه لا يتمكن من الاستغناء عنهم، حتى لو أراد ذلك فإنّ استغناءه يساوي سقوطه؛ أمّا الحاكم الذي يستغني عن الناس، فإن مصيره إلى الطغيان والاستبداد، وهذا يؤدّي إلى زوال حالة التنافس ومن ثَمَّ الإنهيار.

قال اللّه عزّ وجلّ: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(1)، ويقول: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(2)، ويقول: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ}(3). إن اللّه عزّ وجلّ يطلب من الناس التنافس لكسب الآخرة والدرجات العالية فيها، والتسابق للوصول إلى الخيرات والمسارعة إلى أسباب المغفرة، وهي الأعمال الصالحة، فإذا كانت الآخرة تنطوي على التنافس والاستباق والمسارعة وهي مهمة للإنسان؛ لأنها تمثل حياته الخالدة؛ فكذلك التنافس والمسابقة والمسارعة في النصيب من الدنيا؛ إذ إنها ترتبط بحياة الإنسان السعيدة في الدنيا، وتوفر له فرص العيش الكريم، والحياة الكريمة، لكن الاستبداد يزيل فرص التنافس؛ لأن المستبد باقٍ في منصبه وبيده كل شيء حتى يتوفاه اللّه سبحانه وتعالى بل قد يبقى استبداده بعد موته عبر ما سنّه وعبر من جعلهم يخلفونه، ولا يتمكن الآخرون من أن ينافسوه في ذلك المنصب ولا في أيّ شيء آخر؛ لذا يؤدّي عدم وجود فرص

ص: 652


1- سورة المطففين، الآية: 26.
2- سورة البقرة، الآية: 148.
3- سورة آل عمران، الآية: 133.

المنافسة إلى طغيان الحاكم نتيجة لاستبداده، فلا يسعى إلى الأفضل.

نحن نلاحظ أنه إذا غابت حالة التنافس بين الشركات التجارية فإن الشركة المنتجة ستكون وحدها في ساحة الإنتاج، وستعرف أن الناس يشترون بضاعتها شاؤوا ذلك أم أبوا، أمّا إذا كان التنافس موجوداً بين أكثر من شركة فإن كلا منها تحاول تقديم الأفضل للناس لكي يختاروا منتجها، كذلك الحال في سائر الأمور، فمن يقدم الأفضل سيختاره الناس.

2- المزاجيّة

ثم إن الاستبداد يربط مصير الأمة بإرادة شخص واحد وبمزاجه، وقد لاحظنا الحكومات الديكتاتورية وارتباط حياة الشعوب بمزاج الحاكم، فإن شاء أن يفعل شيئاً في هذا اليوم قد يتغير رأيه في اليوم الثاني تبعاً لتغيّر مزاجه؛ لذا تستند الكثير من القوانين في البلدان الديكتاتورية إلى مزاج الحاكم، الذي يحول مشيئته إلى قانون حتى وإن لم يستند إلى شرع أو عقل.

3- انعدام الفرص

ومن ذلك انعدام فرص التغيير حتى لو أساء المستبد استخدام السلطة، إلّا بتدخل خارجي أو من الداخل من خلال الانقلاب العسكري أو الثورة الجماهيرية، ومن المعلوم أن ثمن التدخل الخارجي باهض جداً، وكذلك مضاعفات الانقلاب العسكري كثيرة جداً، وهكذا تكلّف الثورة البلد الكثير، أمّا لو كان هناك تنافس حقيقي فإن التغيير يتم عبر آليات التنافس كالانتخابات، وتكون تكلفته أقل بكثير من أن يتم التغيير بغير ذلك.

4- قتل الإبداع

فإن من مضارّ الاستبداد أنه يقتل الإبداع، ويدمر إرادة الأمة وإيجابياتها، وهذا هو من أسباب ضعف المسلمين، وعدم تمكنهم من مجاراة التقدم الحاصل في

ص: 653

بعض المجالات التي نالته الشعوب الأخرى؛ لأن الاستبداد يقتل كل ما يقود إلى التقدم، وإذا حصل بعض التقدم في بعض المجالات فإنه سرعان ما يكون في مهب الريح، كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق الذي سيطر على كثير من بلدان العالم ضمن المعسكر الشرقي، وكان له تطور لافت في المجال العسكري إلّا أنه سرعان ما أصبحت هذه النقاط الإيجابية في خبر كان، فانهار الاتحاد السوفيتي بعد أن كان قوة عظمى، ثم تفكك وتجزّأ إلى خمس عشرة دولة، وانهارت معه منظومته الشرقية.

ومَثَل التقدم مع الاستبداد مَثَل صحوة المريض المزمن، فربما تعطيه بعض العقاقير شيئاً من الحيوية، لكنها تبقى مؤقتة وتزول مع زوال أثر المنشطات، بينما إذا كان الإنسان سليم الجسد فإنه حتى لو أصيب بوعكة بسيطة فإنه سيتجاوزها بسرعة، وتعود حياته إلى طبيعتها.

مثلاً: في اليابان كان يحكمها إمبراطور مستبد سياسياً ودينياً قبل الحرب العالمية الثانية؛ لأن الإمبراطور - حسب معتقداتهم - له ارتباط مع الآلهة، فيستمد القوة منها، وكانت اليابان في فترة الاستبداد تتمتع بتطور وعُدت من الدول العظمى عسكرياً، لكن الاستبداد أدّى إلى انهيار قدراتها، وتم احتلال البلد من قبل القوات الأمريكية، ولا زالت القواعد الأمريكية فيه حتى يومنا هذا، لكن اليابان دخلت بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة من التنافس الإيجابي، فبالرغم من أن اليابان بلد يفتقر إلى جميع المعادن تقريباً، ولا تحتوي أراضيها على مواد أوّلية يحتاجونها في الصناعة والتطور، بل إنها تستورد كل شيء تقريباً، ومع ذلك تحولت إلى دولة عظمى اقتصادياً؛ لأن الحالة الاستبدادية التي حطمتها تحولت إلى تنافس، فتفتَّقت القوى الكامنة لدى الشعب في المجال

ص: 654

الصناعي والعلمي وما إلى ذلك، وهم يعيشون الآن برفاهية وسلام، وقد غزت بضائعهم العالم أجمع، ولكن ما هي ممارساتهم وشعائرهم؟ لا ينظر العالم إلى اليابانيين وإلى طقوسهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم، وإنّما ينظرون إليهم من خلال تقدمهم العلمي والصناعي، وكذلك ليس هناك مَن ينظر ماذا تمارس بعض دول الغرب المتقدمة صناعياً وتجريبياً من طقوس وشعائر! مع أنها مسيطرة على العالم، وإنّما ينظرون إليها من خلال قوتها العلمية أو الصناعية وما إلى ذلك.

فأمّا ضعف المسلمين فإن سببه الأهم هو الاستبداد. إننا نعبر عن ذلك بضعف المسلمين ولا نقول ضعف الإسلام أو المذهب؛ لأن الإسلام أو مذهب أهل البيت(عليهم السلام) لا يناله الضعف إطلاقاً، ولا يرتبط بكثرة التابعين له أو قلتهم، ولا بتصور الناس؛ لأن الإسلام يستمد قوته من اللّه سبحانه وتعالى، ومقابل قوته سبحانه تنهار جميع القوى الأخرى، وتخضع له.

5- التدخل الأجنبي

فإن الاستبداد يسهّل التدخلات الخارجية، لذلك نلاحظ بعض الأطماع التي تتعرض لها الدول الغنية بالمعادن والنفط، حيث يكون الاستبداد هو السبب الذي يدفع الدول للطمع في تلك الثروات ومن ثَمَّ الاستيلاء عليها.

وهنا يُطرح السؤال التالي على البلاد الإسلامية: كيف فقدنا فلسطين؟ وكيف جاء الشتات من اليهود إلى أرضها وأخرج أصحاب الأرض منها، واستمر الصهاينة في ارتكاب الجرائم منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا؟

الجواب: أنه ابتلي المسلمون باستبداد العثمانيين في الحكم، وكان ذلك الاستبداد سبب الانهيارات الداخلية، وقد أدّى ذلك إلى أن تستثمر الدول الطامعة في البلدان الإسلامية ذلك الضعف، فجاؤوا وزرعوا هذا الكيان في وسط العالم

ص: 655

الإسلامي، ونفذوا من خلاله كثيراً مما يريدون من مطامع.

6- ضعف التدين

إن من أضرار الاستبداد أنه يسبب زوال تديّن الناس؛ لأن الناس بدلاً من أن يعبدوا اللّه سبحانه وتعالى يضطرون إلى أن يفكروا في كيفية إرضاء المستبد، حتى لو أدّى ذلك إلى سخط اللّه سبحانه وتعالى.

فالاستبداد هو الذي يضعف المسلمين، وليس التزامهم بصومهم وصلاتهم وحجهم وشعائرهم التي أخذوها من كتاب اللّه وسيرة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

الأمر الثاني: ضعف التعليم والتعلّم

الأمر الآخر الذي أدّى إلى إضعاف المسلمين هو ضعف العلم والتعلّم.

1- إن نسبة الأميّة مرتفعة جداً في البلدان الإسلامية، وهو من أعلى النسب في العالم، فالنسب التي تعلنها بعض الحكومات الإسلامية مشكوك فيها، وربما تكون النسبة الحقيقية أكثر من ذلك، ولكنهم يريدون تقليلها من أجل أن لا يعرف الناس الحقائق.

2- كذلك في ما يتعلق بالوقت المخصص للمطالعة، فإن الوقت الذي يخصصه الفرد للمطالعة في الدول الإسلامية قياساً بما تطالعه الشعوب الأخرى قليل جداً، وكلما قلّت معرفة الإنسان وعلمه يكون مستوى التخلف لديه أكثر؛ لأن العلم نور يقود الناس إلى التقدم وسعة الفكر والأفق.

3- وبالإضافة لذلك نجد قلة الكتب المطبوعة في البلدان الإسلامية قياساً إلى دول أخرى متقدمة سياسياً واقتصادياً وصناعياً.

4- كما أن هناك عزوفاً عن الكتابة والتأليف لعدم الإقبال على المطالعة؛ لأن كثرة المطالعة تؤدّي إلى زيادة في الكتب المطبوعة بسبب الفائدة المادية

ص: 656

والمعنوية التي يحققها المؤلف، أمّا إذا كان المؤلف لا يتمكن من تحمل نفقات طبع كتابه بسبب قلة الشراء والمطالعة، فحينئذ تقل الكتابة.

هذا مع أن الإسلام دين القراءة والكتابة والتدبر والتفكر، وقد دلّ على ذلك مئات الآيات والروايات، لكن عند ما هجر أكثر المسلمين دينهم وتركوا تعاليمه أضروا بأنفسهم ضرراً بالغاً.

إن البعض يتصور أن إقامة الشعائر أو الطقوس المختلف فيها يوجب ضعف المسلمين، أو أن يحمل البعض تصوراً سلبياً عنهم، لكن هذا الكلام ليس دقيقاً؛ لأن ما يوجب إضعاف المسلمين ليس هذه الشعائر، وإنّما مجموعة من الأمور التي إن حاولوا التخلص منها ستقودهم نحو التقدم، وسواء مارسوا تلك الطقوس أم لم يمارسوها فإن الضعف والوهن باقٍ؛ لأن السبب الأوّل الذي أوجب ضعف المسلمين هو الاستبداد والجهل، وذلك يؤدّي إلى ضعف أية أمة أو مجموعة من الناس.

ص: 657

(87) أولو الألباب

اشارة

إن الأشياء التي ندركها بحواسّنا يكون لها مظهر ومخبر، والمظهر ندركه بالحواس، والمخبر نحتاج إلى إعمال القوة العقلية والاستنباط لإدراكه، مثلاً: الجسد نراه بأعيننا، أمّا كونه حياً أو ميتاً فيحتاج إلى غير الحواس؛ لأنه قد يكون نائماً ونحن لا نميز بين كونه حياً أو ميتاً، لكن حينما نشعر بآثار الحياة - كالحركة والحرارة وغير ذلك - نستنتج أن هذا الجسم حي، وإذا لم نجد أثر الحياة فنستنتج أن هذا الجسم ميت.

إدراك الحقائق

إن حواسّنا الخمس ترتبط بالأمور الظاهرية، أمّا المخبر فيلزم علينا أن نحرك القوى العقلية لإدراكه، إمّا عن طريق الأثر الذي يدل على المؤثر، أو عن طرق أخرى.

ولنذكر بعض الأمثلة من الأمور الغيبيّة والأمور الماديّة:

1- الآخرة: قال اللّه تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}(1)، فالآخرة موجودة الآن، لكننا لا ندركها؛ لأن حواسّنا الخمس قاصرة عن إدراكها، قال سبحانه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ}(2)، فجهنم محيطة

ص: 658


1- سورة الروم، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 49؛ سورة العنكبوت، الآية: 54.

بالكافر إلّا أنه لا يدركها؛ لأن حواسّه قاصرة عن إدراك هذه الحقيقة.

2- الملائكة: إن كل إنسان يحيط به ملكان قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(1)، فهناك ملك عند الجانب الأيمن، وملك عند الجانب الأيسر، وهما يكتبان كل شيء ينطق به الإنسان: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2)، ويوم القيامة يُعطى هذا الكتاب للإنسان: {وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلْزَمْنَٰهُ طَٰئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كِتَٰبًا يَلْقَىٰهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(3)، لكن هل نرى الملك بأعيننا؟ وهل نسمع صوته ونشعر به؟ كلا؛ لأن حواسّنا قاصرة عن ذلك.

3- العذاب: إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}(4)، فلعل المراد أنه سوف يتحول هذا الأكل والمأكول يوم القيامة إلى نار، لكن يمكن أن يكون التعبير حقيقي، مع كون حواسّنا قاصرة عن إدراك هذه النار، ولكن في لحظة الاحتضار والموت وفي يوم القيامة يظهر ذلك؛ لذا قال اللّه سبحانه: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(5)، وحديد بمعنى حادّ، فالإنسان من لحظة الاحتضار يعطيه اللّه سبحانه وتعالى قوى مدركة أخرى، أو أن تلك القوى موجودة حال حياته الدنيوية لكن يوجد عليها غطاء وحين الاحتضار يُزال الغطاء عنها فهو كمن وضعت على عينه

ص: 659


1- سورة ق، الآية: 18.
2- سورة الجاثية، الآية: 29.
3- سورة الإسراء، الآية: 13-14.
4- سورة النساء، الآية: 10.
5- سورة ق، الآية: 22.

عصابة، فهو لا يبصر شيئاً، ولكن حين الموت يُرفع هذا الحجاب عنه، فيرى الإنسان ملك الموت والشياطين والملائكة، ويرى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام)، فإذا كان من أهل الجنة والفوز فيبشرانه بالجنة، وإذا كان من أهل النار فيبشرانه بالنار.

4- علائم المرض: إننا في بعض الأحيان نرى شخصاً قد تغير لونه، ولكننا لا نعرف سبب ذلك، إلّا أن الطبيب الحاذق يعرف ذلك، وأنه علامة على مرض مُعين، فنحن لسنا أطباء لذا نرى الظاهر فقط، بينما الطبيب يرى أن هذا الظاهر يكشف عن مخبر.

من هم أولو الألباب؟

فالذين يمتلكون القوة العقلية التي ترتبط باللّه سبحانه وتعالى يعبّر عنهم ب(أولي الألباب)، لأن اللبّ هو الخالص من كل شيء، فإن العقل قد يكون مشوباً بأمور، وقد ينخدع الإنسان ببعض المعلومات المغلوطة إذا كانت تربيته خاطئة، وتفكيره غير صحيح، وكل ذلك يغطّي على عقله.

لقد وهب اللّه سبحانه وتعالى كل إنسان عقلاً باستثناء المجانين، لكن هذا العقل قد يدفن تحت ركام من العادات والتقاليد والتربية السيئة والمعلومات المغلوطة، ودور الأنبياء(عليهم السلام) هو أن يثيروا دفائن العقول، ويستخرجوا عقول الناس من بين ركام العادات والتقاليد؛ لذا وردت كلمة (أولي الألباب)(1) في عدة من الآيات القرآنية.

والمراد بأولي الألباب أصحاب العقل الخالص، فعقول هؤلاء خالصة من

ص: 660


1- انظر: سورة البقرة، الآية: 179، 197، 269؛ سورة آل عمران، الآية: 7، 90؛ سورة المائدة، الآية: 100؛ سورة يوسف، الآية: 111؛ سورة الرعد، الآية: 19... .

الشوائب والشهوات، حيث إنهم يدركون الحقائق، وقد نقل صاحب تفسير البرهان عدة روايات تبين أن المراد من أولي الألباب هم أتباع الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام).

فعن عقبة بن خالد، قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فأذن لي، وليس هو في مجلسه، فخرج علينا من جانب البيت من عند نسائه وليس عليه جلباب، فلما نظر إلينا، قال: «أحب لقاءكم، ثم جلس، ثم قال: أنتم أولو الألباب في كتاب اللّه، قال اللّه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1)»(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3) قال(عليه السلام): «إنّما نحن الذين يعلمون، والذين لا يعلمون عدونا، وشيعتنا أولو الألباب»(4).

وقال اللّه سبحانه وتعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَٰمٌ فِي يَوْمٖ ذِي مَسْغَبَةٖ}(5)، ورد في بعض الأحاديث الشريفة تفسير العقبة بالإمام(عليه السلام): فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «يعني بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) فإن ذلك فك رقبة»(6).

وقال(عليه السلام): «من أكرمه اللّه بولايتنا فقد جاز العقبة، ونحن تلك العقبة التي من

ص: 661


1- سورة الرعد، الآية: 19؛ سورة الزمر، الآية: 9.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 244.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- البرهان في تفسير القرآن 4: 697، ونفس المضمون ورد في الحديث 5 و6 و8 و9 و10 و12 و13 و14 و15.
5- سورة البلد، الآية: 11-14.
6- الكافي 1: 422.

اقتحمها نجا، قال: فسكت فقال لي: فهلا أفيدك حرفاً خير لك من الدنيا وما فيها؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال: قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} ثم قال: الناس كلهم عبيد النار غيرك وأصحابك، فإن اللّه فك رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت»(1).

إذن، هناك عقبة يوم القيامة، فمن كان عنده جواز من الأئمة(عليهم السلام) فقد نجا، وإلّا فسوف يسقط ويهلك.

إن للإنسان نفساً واحدة، فينبغي عليه أن يصرفها في ما يرضي اللّه، فلو صرف نفسه في غير ما يرضي اللّه فلا مجال بعد الموت للعودة لتدارك الأمور وإصلاح ما فسد من أمره، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2).

إن فرعون في لحظة الاحتضار قال: {ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(3)، لكن جبرئيل(عليه السلام) قال له: {ءَالَْٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(4)، فلا فائدة من هذه التوبة؛ لذا قال اللّه سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}(5).

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يخلّص عقله من الشوائب، لكي لايخسر الدنيا والآخرة، فقد يربح الدنيا التي لا قيمة لها، حيث يلتذ أياماً معدودة

ص: 662


1- الكافي 1: 430.
2- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
3- سورة يونس، الآية: 90.
4- سورة يونس، الآية: 91.
5- سورة النساء، الآية: 18.

لكنه يخسر الآخرة، ولذا قيل: «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني».

الاحتياج إلى العلم

إذن، ينبغي على العاقل أن يكتشف الواقع وينظر فيه، ولا يكتفي بالظاهر، بل ينبغي عليه أن يتعمق في المسائل؛ لذا فهو يحتاج إلى العلم؛ لأن الإنسان له عقل مرشد، والمرشد يحتاج إلى معرفة وعلم؛ لذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1)، فالذي يعلم باللّه وبالآخرة هو الذي يخشى اللّه سبحانه وتعالى، وأمّا الذي لا يعلم فلا يخشى ولذا سوف يرتكب المعاصي.

إن بعض الناس ليسوا عالمين باللّه، وعندما يتشهد الشهادتين يدخل في دائرة المسلمين، فلو صلّى أو صام ولكن لم توجد في قلبه خشية من اللّه سبحانه فمعرفته باللّه ضعيفة؛ لذا فمن يعصي اللّه سبحانه وتعالى ففي اعتقاده باللّه خلل، وكذلك اعتقاده بالآخرة، فقد توجد عنده معلومات مغلوطة، فبعض الناس يرتكب كل معصية وعندما يقال له: لماذا ترتكب كل معصية، يقول: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمة(عليهم السلام) سوف يشفعون لي؟

لكن هل يضمن أن هذه المعاصي لا تسبّب كفره قبل موته؟! يقول اللّه سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)، لأن المعاصي سلاسل مترابطة، معصية تسحب معصية ثانية، وهكذا. كما حدث لعابد في بني إسرائيل، فقد روي: «أنه كان في بني إسرائيلعابد اسمه برصيصا، عبد اللّه زماناً من الدهر، حتى كان يُؤتى بالمجانين

ص: 663


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة الروم، الآية: 10.

يداويهم، ويعوذهم فيبرأون على يده، وإنه أُتي بامرأة في شرف قد جُنّت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزين له، حتى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنه دفنها في مكان كذا، ثم أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً، فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: واللّه، لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئاً يكبر عليَّ ذكره! فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه، فأقرَّ لهم بالذي فعل، فأُمر به فصُلب، فلما رُفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي في ما أقول لك، أخلصك مما أنت فيه؟ قال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة. فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء، فأومى له بالسجود فكفر باللّه، وقتل الرجل، فهو قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَٰنِ اكْفُرْ}»(1).

والإنسان لا يعلم أي معصية تكون سبباً لكفره وإلقائه في نار جهنم؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «إن اللّه أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئاً من معصيته فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئاً من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عباده فربما يكون وليه وأنتلا تعلم»(2).

ص: 664


1- مجمع البيان في تفسير القرآن: 438.
2- كمال الدين وتمام النعمة: 296؛ وسائل الشيعة 1: 116.

إن الإنسان لا يعلم أين يوجد غضب اللّه سبحانه وتعالى؛ لذا يجب عليه الحذر دائماً، فيجب عليه أن يكون علمه واقعياً صحيحاً، وليس علماً ادعائياً، وأن تكون عقيدته صحيحة باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) والمعاد والمفاهيم الدينية، فحينئذٍ يصدق عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(2).

يقول البعض: إننا نرى بعض الناس يصلّون دائماً، وفي أوّل أوقات الصلاة، وبعد ذلك يرتكبون الجرائم الكبيرة، فكيف يكون ذلك؟

والجواب هو: إن الصلاة الصحيحة من كل الجهات هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر بشكل كامل، وأمّا الصلاة الباطلة لفقدانها لشرائط الصحة فلا تنهى، وكذلك الصلاة حسب درجاتها، فيمكن أن يصلّي أحد صلاة صحيحة، لكن درجتها دانية، وليست من الدرجة العالية جداً، فمن توجه بقلبه في صلاته من أوّلها لآخرها فصلاته تنهى عن كل أنواع الفحشاء والمنكر، وأمّا إذا كان الإنسان يصلّي إلّا أنه يفكر في أمور الدنيا من أوّل صلاته لآخرها مثلاً فإن أثر صلاته يكون ضعيفاً، فقد تنهاه عن بعض أنواع الفحشاء والمنكر، وليس كل فحشاء ومنكر.

والحاصل: إذا صحح الإنسان فكره بالعلم تصحيحاً حقيقياً، وكانت عقيدته باللّه صحيحة، وكذلك بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة(عليهم السلام) والمعاد، وأتى بالصلاةصحيحة بمراعاة شروطها وترك موانعها وقواطعها والإتيان بأجزائها فسوف تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر.

ص: 665


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة العنكبوت، الآية: 45.

نعم هذا بحاجة إلى التوجه إلى العلماء الربّانيين، وعبادة اللّه سبحانه وتعالى العبادة الصحيحة، فإذا توفرت هذه الأمور فسوف يصبح العلم حقيقياً، وبعد ذلك فسوف تأتي الخشية من اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 666

(88) التحكّم في الصفات

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1).

وحدة طبيعة الإنسان

اشارة

إن طبيعة الإنسان واحدة، فإذا كان من طبيعته وسجيّته الشجاعة فهو شجاع في المواقف كلها عادة، وإذا كان من طبيعته الجبن فهو جبان في كل المواقف عادة، وإذا كان حسن الأخلاق في طبيعته فهو كذلك عادة في كل المواقف، وإذا كان سيئ الأخلاق فكذلك.

طبعاً، الأمر نسبي فيمكن أن تكون صورة الإنسان الباطنية في شيء حسنة، وفي شيء آخر غير حسنة، فقد يكون صبوراً - وهذه صورة باطنية جميلة - لكنه جبان، والمهم أن الإنسان إذا كانت عنده طبيعة وصفة خير فعليه أن ينمّيها، وإن كانت له صفة سوء فعليه أن يكتمها أوّلاً، وقد ورد في الحديث الشريف: «الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خُلُقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك»(2)، أي: إذا كان في الأخلاق خلل فلا بدّ من ستره، وهذا يكون من خلال العمل، فإذا كان الإنسان بخيلاً الطبع - مثلاً - فليظهر الكرم من نفسه.

ص: 667


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- نهج البلاغة 4: 99.

ثم ينبغي على الإنسان ثانياً أن يغيّر هذه الصفة القبيحة، وهذا الأمر صعب؛ لأن ذلك خلاف طبع النفس، وهو بحاجة إلى مقاومتها، لأن من شبّ على شيء سنوات يصعب عليه أن يغيره.

ولنذكر لذلك مثالين:

1- الحب والبغض

إن الحب والبغض أمران قلبيان، وهما خارجان عن اختيار الإنسان عادة، إلّا أن المقدمات بيد الإنسان نفسه، فبعض الأعمال الاختيارية تورث المحبة وبعضها تورث العداوة.

مثلاً ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن(1)، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة منّي، فأمّا السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة. وأمّا البراءة فلا تتبرأوا منّي فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة»(2).

فإذا كان الإنسان في حالة تقية، وإذا لم يقل: أنا بريء منه(عليه السلام) فسوف يقتلونه فيجوز له أن يقول هذه الكلمة، وقلبه مطمئن بالإيمان، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمَٰنِ}(3).

لكن المقصود من ذلك البراءة القلبية، هو أن لا يبغضه في قلبه، لأن الحاكم وإن كان ظالماً، إلّا أنه لا سيطرة له على القلب؛ لأن القلب هي المنطقة الحرّة

ص: 668


1- مندحق البطن: عظيم البطن بارزه كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه.
2- نهج البلاغة 1: 106.
3- سورة النحل، الآية: 106.

في الإنسان، ولا سيطرة لأحد عليها إلّا اللّه سبحانه وتعالى، فالبراءة أمر قلبي، وهي اختيارية عبر اختيارية مقدماتها، فمن تربّى على حب الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فلا يتبرأ منه في قلبه، لكنه قد يعيش الإنسان في أجواء غير سليمة فتؤثر على قلبه، كأن يعيش بين أعداء أمير المؤمنين(عليه السلام) وينال من دنياهم، فلربما ذلك يصير سبباً في أن يتبدل الحب إلى بعض، فالإمام(عليه السلام) يقول: إذا كان الإنسان مضطراً للسب فليسب، لكن لا يدخل في دنيا الظالمين ولا يعمل عملاً آخر يوجب انقلاب الحب إلى براءة.

إن بعض الناس عمل مع الظلمة وصار من أعوانهم، وقد يكون ذلك بقصد الخير، لكنه أكل طعامهم واستطاب مالهم، وأعجب بأسلوبهم، والشيطان والنفس والهوى عوامل مساعدة، ولذا أصبح فاجراً فاسقاً.

إن الإنسان يمكنه أن يغيّر ما في قلبه من خلال إيجاد الأجواء السليمة أو السقيمة، فإذا كانت الأجواء سلبية فسوف يتغيّر قلبه نحو الجانب السلبي، وأمّا لو كانت إيجابية فيتغير قلبه نحو الجانب الإيجابي.

2- الشدة والرحمة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(1).

وهنا يُطرح هذا السؤال: إذا كان الإنسان شديداً فعادة يكون كذلك مع الجميع، وإذا كان رحيماً فعادة يكون كذلك مع الجميع، فكيف وصفت الآية المؤمن بالشدة والرحمة، لأن طبع الإنسان إمّا أن يكون رحيماً أو شديداً؟ وقد

ص: 669


1- سورة الفتح، الآية: 29.

قيل: إن الثورات التي تقوم على العنف تأكل أبناءها؛ لأن العنيف مع أعدائه يصبح عنيفاً مع أصدقائه أيضاً، فكيف يكون الإنسان شديداً على الكفار، رحيماً بالمؤمنين؟

والجواب: إن من المعروف أن الأعراب أشد الناس قسوة، لأن من طبيعة الصحراء الشدة، فالحياة القاسية التي يعيشونها توجب الشدة عندهم، لذا قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ}(1)، وغالب العرب كانوا أعراباً وكانت طبيعتهم شديدة، وحيث كان غالب أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعراباً لذا قال اللّه أوّلاً: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} وهذا يناسب طبعهم، ثم قال بعد ذلك: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فالذي يكون شديداً على الكفار لأن طبعه الشدة، يلزمه أن يكون رحيماً مع جماعته، وهذا خلاف طبعه لكن يلزم عليه أن يغلّب الدين على الطبع حتى وإن كان خلاف الطبع. لكن ليتحكم في طبعه ويعمل بما أمره اللّه تعالى.

ص: 670


1- سورة التوبة، الآية: 97.

(89) الرؤيا الصادقة والكاذبة

قال اللّه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1).

إن روح الإنسان تنفصل عن جسمه في حالتين:

الحالة الأولى: حالة الموت فيرى الحقائق حينذاك من غير تزوير قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(2)، فيرى ملك الموت ويرى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فإمّا يبشرانه بالجنة أو بالنار(3).

الحالة الثانية: حالة النوم، وفيها يرفع الغطاء قليلاً، إذ حين النوم تنفصل الروح عن البدن بشكل جزئي؛ لذا فالرؤيا التي نراها في المنام هي بسبب انفصال جزئي لروح الإنسان عن بدنه، وفي تلك الحالة ترى الروح بعض الحقائق، هذه إذا كانت الرؤيا الصادقة. وفي بعض الأحيان يأتي الشيطان بصور مزوّرة، فترى الروح تلك الصور المزوّرة، التي هي أضغاث أحلام.

إننا في عالم اليقظة قد نرى صورة حقيقية، وقد نرى صورة مزوّرة، وأحياناً لا نتمكن من أن نميّز بين الحقيقة والتزوير، وروح الإنسان حين المنام كذلك، حيث قد ترى صورة حقيقة وقد ترى صورة مزوّرة من إلقاء الشيطان، ولا تستطيع

ص: 671


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة ق، الآية: 22.
3- راجع الكافي 3: 131.

أن تميز بين الحقيقة والتزوير.

والشيطان لا يتمكن من هذا العمل بالنسبة للأنبياء والأئمة(عليهم السلام) لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يجعل له هذه السلطة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَٰنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَٰتِهِ}(1).

ولذا جعل اللّه رؤيا الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) من طرق تعليمهم لدينه لأنها لا خطأ فيها ولا تزوير بل هي وحي منه تعالى، وأمّا رؤيا سائر الناس فقد تختلط بتزويرات الشياطين، فلذا لم يجعل اللّه تعالى رؤياهم طريقاً لدينه، لئلا يكون للشيطان طريق للتحريف والخداع، هذا أوّلاً.

وثانياً: إن هناك أناس لا يخافون اللّه سبحانه وتعالى، حيث يكذب أحدهم ويقول: رأيت رسول اللّه بالمنام وقال لي إن صلاة الصبح ليست واجبة مثلاً، وهكذا... والحال أن كثيراً من الناس البسطاء يُخدعون بهذه الأمور، ولذا حصر اللّه سبحانه وتعالى للناس الطريق لمعرفة أحكامه في الرسل والأوصياء(عليهم السلام)، ومن بعدهم جعل العلماء الربانيين طريقاً لهم.

ولذا ورد في الحديث الشريف: «إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة»(2)، وفي حديث آخر: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه»(3)، لأن العلماء في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، فهم يدافعون عن الدين.

ص: 672


1- سورة الحج، الآية: 52.
2- المحاسن 1: 233.
3- الكافي 1: 38.

فإذا رأيت مَن يستدل على عقائده الزائفة بالرؤيا فاعلم أنه مخادع، يريد أن يسلب الناس دينهم، حيث إن الناس البسطاء قد يخدعون بأمثال هذا الكلام، فيكون المدعي بالباطل يخدع الناس بالحُلُم، فينخدع به البسطاء فيعتقدون بالباطل من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

إن من يترك الطريق الذي جعله اللّه تعالى - وهم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) ومن بعدهم العلماء الربانيين - ويلهث خلف الأحلام الزائفة يكون كالخوارج الذين أخطأوا طريق الحق بقتالهم أمير المؤمنين(عليه السلام) وتكفيرهم له، فخسروا الدنيا والآخرة، فقد قتلوا في النهروان، والحال أن مبغض أمير المؤمنين(عليه السلام) في الدرك الأسفل من النار(1) لأنّ بغضه وحربه علامة النفاق الجليّ. فهؤلاء تركوا الطريق الذي جعله اللّه تعالى وبلّغه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو التمسك بالكتاب والعترة.

وهكذا من ترك الفقهاء الربانيين الذين أمر الأئمة باتباعهم في عهد الغيبة واتّبع أهل الباطل الذين تركوا تلك الأوامر واتخذوا وسائل لإضلال الناس والتي منها الأحلام الباطلة التي يلقيها الشيطان على الناس.

ص: 673


1- انظر: الأمالي، للشيخ الطوسي: 104-106، وفيه: «قال ابن عباس: فقلت: يا رسول اللّه، أوصني، فقال: عليك بمودة علي بن أبي طالب، والذي بعثني بالحق نبياً، لا يقبل اللّه من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب(عليه السلام) وهو تعالى أعلم، فإن جاء بولايته قبل عمله على ما كان منه، وان لم يأتِ بولايته لم يسأله عن شي، ثم أمر به إلى النار. يا بن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً، إن النار لأشد غضباً على مبغض علي منها على من زعم أن للّه ولداً. يا بن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغض علي، ولن يفعلوا، لعذبهم اللّه بالنار. قلت: يا رسول اللّه، وهل يبغضه أحد؟ قال: يا بن عباس، نعم، يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي، لم يجعل اللّه لهم في الإسلام نصيباً. يا بن عباس، إن من علامة بغضهم تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق نبياً، ما بعث اللّه نبيا أكرم عليه مني، ولا وصياً أكرم عليه من وصيي علي».

ص: 674

فهرس الموضوعات

مقدمة المؤسسة... 5

(1) العقل هبة إلهيّة... 7

الحق والفكر الصحيح... 14

(2) جنود العقل وجنود الجهل... 16

(3) دور العقل في حياة الإنسان... 22

المراد من التكليف... 22

الإنسان ومسؤولياته... 28

(4) عقل الإنسان بين كنوز العلم وآفات الجهل... 34

(5) قدرات العقل البشري والإيمان باللّه تعالى... 39

(6) العقائد بين العقل والنصّ... 45

(7) الفكر ودوره في حياة الإنسان... 50

1- النية... 50

2- الأمل... 52

3- التوبة... 53

(8) طريقة التفكير... 55

ص: 675

المحرّك الأساسي للإنسان... 55

أقسام العبادة... 56

(9) التوحيد أساس انطلاقة الإسلام... 61

آثار عدم معرفة التوحيد... 61

أثر العقيدة في حياة الإنسان... 65

ارتباط الأصول والفروع... 67

الكفار الذين خدموا البشرية... 67

ثواب المؤمنين فضل... 68

تفاوت درجات ثواب العمل الواحد... 70

(10) عدل اللّه تعالى... 72

الحسن والقبح العقليان... 72

أسباب الظلم... 74

بطلان الجبر... 75

آيات الهداية والضلال... 77

(11) اللّه حكيم في أفعاله... 80

حكمة جعل الواسطة بين اللّه والخلق... 81

مقامات النبي وأهل بيته (عليهم السلام)... 85

أهل البيت هم القدوة في كل شيء... 88

(12) الإنسان بين قبول الهداية ورفضها... 92

حكمة التدريج... 93

ص: 676

نماذج من الهداية والضلال... 95

النموذج الأوّل: الآباء والأبناء... 95

النموذج الثاني: النبي موسى (عليه السلام) وبنو إسرائيل... 98

النموذج الثالث: أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 99

مقدمات الضلالة والهداية بيد الإنسان... 102

(13) الإنسان مختار في أفعاله... 106

نماذج من الاختيار... 108

النموذج الأوّل: النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه... 108

النموذج الثاني: الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) وأصحابه... 109

النموذج الثالث: الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه... 113

(14) الاختيار وطينة الخلق... 114

(15) بين الجبر والاختيار... 118

نماذج من الاختيار... 120

النموذج الأوّل: خلق إبليس... 120

النموذج الثاني: دعاء إبراهيم (عليه السلام)... 121

النموذج الثالث: قتل الأنبياء (عليهم السلام)... 121

النموذج الرابع: استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)... 122

(16) القضاء والقدر والبداء... 124

معنى القضاء... 125

معنى القدر... 126

ص: 677

معنى البداء... 128

(17) بين الخوف والرجاء... 133

الحالة الأولى: الخوف من اللّه تعالى... 133

الحالة الثانية: الرجاء برحمة اللّه... 135

بين الرجاء والأمل... 136

للرجاء شرطان... 137

الشرط الأوّل: العمل... 137

الشرط الثاني: معالجة الانحراف قبل استفحاله... 138

الأمل في أهل البيت (عليهم السلام)... 140

(18) أهمية الأمل برحمة اللّه مقروناً بالعمل... 143

حب الخلود... 146

(19) كسب رضا اللّه تعالى... 149

(20) الأسباب الظاهرية والواقعية... 158

المثال الأوّل: الموت... 159

المثال الثاني: رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين العمل والتوكل... 161

المثال الثالث: الرزق والعلم... 162

المثال الرابع: علم الدين... 162

(21) سنن اللّه لا تتغير ولا تتبدل... 164

السنن التكوينية والتشريعية... 164

غلبة الإسلام على الأديان... 165

ص: 678

كيفية عمل الرسول وأمير المؤمنين (عليهما السلام)... 166

آية الغار... 167

تكليفنا في نشر الدين... 170

ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)... 172

(22) كل ما في الكون هو حق... 174

مشاكل العصر... 176

الإسلام نظام متكامل... 176

سنن اللّه تعالى... 178

الصبر والتحمّل... 179

(23) نظام التكوين والتشريع... 181

1- عدم سلطة الكفار على المؤمنين... 184

2- حرمة الخمر... 185

3- عدم مداهنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 186

آثار عدم تطبيق أحكام اللّه تعالى... 187

(24) السير على طريق الحق قانون كوني إلهي... 190

معنى اللطيف... 190

القوانين الإلهية بالحق... 191

العاقبة للحق... 192

معنى للحق دولة... 195

(25) سبب خلق المخلوقات واختلافهم... 198

ص: 679

العبادة طريق إلى الرحمة الخاصة... 199

الاختلاف في الخلق من سنن اللّه... 200

المطلب الأوّل: حول سؤال آدم (عليه السلام)... 202

المطلب الثاني: حول جواب اللّه تعالى... 205

(26) الرحمة الإلهيّة حكمة خلق الناس... 210

القابلية للرحمة الخاصة... 211

نفس واحدة للحق... 213

(27) من لطف اللّه تعالى... 217

لطف اللّه في النبي وآله (عليهم السلام)... 217

(28) العبادة والطاعة... 221

أقسام العبودية... 221

تمرد إبليس... 223

تمرد العصاة... 224

الإخلاص والرضا... 226

سبب إطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام)... 226

(29) التقية من دين اللّه... 228

العناوين الأوّلية والثانوية... 228

حكومة الأحكام الثانوية... 229

الولاية والبراءة... 230

أمر أهل البيت (عليهم السلام) بالبراءة وبالتقية... 232

ص: 680

إطلاق دليل التقية... 234

بين الإفراط والتفريط... 235

(30) التقية المداراتيّة... 237

تكالب الأعداء وموقف العلماء الربانيين... 239

أفضل الطرق للدفاع... 241

أثر التقية المداراتيّة في نشر الحق... 244

(31) بين المداراة والمداهنة... 248

(32) آثار الذنوب... 253

الأثر الأوّل: سواد القلب... 253

الأثر الثاني: عدم استجابة الدعاء... 254

الأثر الثالث: التقتير في الرزق... 254

الأثر الرابع: كثرة المشاكل... 255

الأثر الخامس: على الذرية... 255

الأثر السادس: الدخول في النار... 257

الدنيا ليست ثواباً أو عقاباً... 259

نعمة اللّه على المؤمنين... 261

عاقبة كفران النعمة... 261

(33) الامتحان الإلهي... 264

الأمر الأوّل: الاصطفاء... 264

الأمر الثاني: الاختبار... 265

ص: 681

ابتلاء إبراهيم (عليه السلام)... 266

الإمامة عهد اللّه تعالى... 267

كيفية معرفة هذا العهد... 269

ابتلاء الرسول والأئمة (عليهم السلام)... 271

(34) الثواب والعمل... 274

الثواب تفضل... 275

محبطات الثواب... 276

رضوان اللّه تعالى... 277

(35) بين النية والعمل... 279

نية المؤمن خير من عمله... 280

النية لا التمني... 281

اللاعنف في القلب... 281

العرب قبل وبعد الإسلام... 281

الاهتمام بالعقيدة الصحيحة... 283

عدم العقاب على النية... 284

الهمة العالية... 285

(36) الدعاء والاستجابة... 288

الأسباب الغيبية والطبيعية... 288

علة تأخير استجابة الدعاء... 290

1- عدم المصلحة الدنيوية... 291

ص: 682

2- اختلاف الأدعية... 292

3- مصلحة الآخرة... 294

4- الدعاء في معصيته... 294

فضيلة الدعاء في بعض الأمكنة والأزمنة... 295

(37) بين المرتدين والمؤمنين... 297

القرآن كتاب هداية... 297

الارتداد بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 298

من صفات المؤمنين... 300

1- حب اللّه... 300

2- التواضع للمؤمنين... 300

3- العزة على الكافرين... 300

4- الجهاد وعدم خوف اللوم... 301

رؤية وشهادة الرسول والأئمة (عليهم السلام)... 301

(38) القرآن الكريم كتاب الحياة... 304

وظيفتنا تجاه القرآن الكريم... 305

الوظيفة الأولى: احترام القرآن الكريم... 305

الوظيفة الثانية: تعلّم القرآن الكريم... 308

الوظيفة الثالثة: العمل بالقرآن الكريم... 308

الوظيفة الرابعة: تعليم القرآن الكريم... 310

القرآن منهجاً... 312

ص: 683

(39) القرآن الكريم والعمل... 315

1- ظاهر القرآن... 315

2- المتشابه في القرآن... 320

(40) النظام الإسلامي... 324

دعائم النظام الأكمل... 324

1- القيادة... 324

2- الأتباع... 325

3- الدستور... 325

الاهتمام بالقرآن... 326

(41) مفاهيم القرآن عامة... 330

بين بني إسرائيل والأمة الإسلامية... 331

1- استبداد الطغاة... 331

2- مِنّة اللّه تعالى... 332

3- استضعاف الناس... 333

بين التقية واستضعاف النفس... 334

معنى انتظار الفرج... 335

(42) القصص القرآني... 337

العبرة بالقصة... 338

نماذج من قصص القرآن... 339

(43) رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأسوة الحسنة... 342

ص: 684

التفاضل في كل شيء... 342

المقامات ليست من الغلو... 345

نماذج من سيرة الرسول وآله (عليهم السلام)... 346

النموذج الأوّل: عفو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أعدائه... 346

النموذج الثاني: عفو الإمام زين العابدين (عليه السلام)... 347

النموذج الثالث: عمل أمير المؤمنين (عليه السلام)... 347

(44) البعثة النبوية المباركة... 350

أبدان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من عليين... 350

خلق النبي وأهل بيته (عليهم السلام) قبل خلق الناس... 352

عبادة الأصنام... 354

استحالة إطفاء نور اللّه... 358

تكليفنا تجاه هذا النور... 359

(45) الاهتداء بالرسول وآله (عليهم السلام)... 361

المطلب الأوّل: التمسك بالرسول وآله (عليهم السلام)... 362

المطلب الثاني: هداية الناس إلى منهج الرسول وآله (عليهم السلام)... 366

(46) أثر البشارة والتمهيد في تثبيت القناعة والإيمان... 370

سبب البشارات... 370

السبب الأوّل: التمهيد... 371

السبب الثاني: الامتحان... 373

بين اليهود والمؤمنين... 374

ص: 685

أوصاف الرسول في الكتب السماوية... 377

البشارة بالإمام المهدي (عليه السلام)... 380

(47) ضرورة التمسك بالقرآن والعترة... 383

الأمر الأوّل: وجود الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)... 383

الأمر الثاني: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)... 384

الأمر الثالث: جميع علوم القرآن عند أهل البيت (عليهم السلام)... 384

وجوب التمسك بالقرآن والعترة معاً... 385

(48) النظام الحياتي الشامل في أقوال أهل البيت (عليهم السلام)... 388

معنى الغلو... 388

الموقف الأوّل: الراغب عنهم... 390

الموقف الثاني: المقصر في حقهم... 391

الموقف الثالث: اللازم لهم... 393

(49) الوجاهة عند اللّه تعالى بالإمام الحسين (عليه السلام)... 395

1- وجيهاً... 395

2- عندك... 397

3- بالحسين (عليه السلام)... 398

شرط قبول العمل... 399

خدمة أهل البيت (عليهم السلام)... 401

(50) نزول الملائكة لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام)... 403

ابتلاء الأولياء... 403

ص: 686

درجات الرسول وآله (عليهم السلام)... 404

نزول الملائكة للنصر... 405

وظيفتنا... 407

(51) بركة ولادة الإمام الجواد (عليه السلام)... 408

منشأ مذهب الوقف... 408

بداية إمامة الإمام الجواد (عليه السلام)... 410

العبرة... 412

(52) الأسباب الطبيعية والغيبية في ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)... 414

المثال الأوّل: الموت... 415

المثال الثاني: الرزق... 416

المثال الثالث: إحراق النار... 417

المثال الرابع: تدبير أمور العالم... 417

المثال الخامس: النصر من اللّه تعالى... 419

أنصار الإمام المهدي (عليه السلام)... 421

(53) الغيبة والانتظار... 426

المحور الأوّل: الغيبة... 426

أوّلاً: الامتحان الإلهي... 426

ثانياً: عقوبة أهل الأرض... 428

المحور الثاني: انتظار الفرج... 429

(54) بين الانتظار الإيجابي والسلبي... 433

ص: 687

الأمل وتحمّل المشاكل... 434

قصة حميد بن قحطبة... 435

الانتظار والأمل... 437

الانتظار لأجل الدين... 439

(55) بين الأمل والانتظار... 442

الأمل... 442

العمل... 444

بين الانتظار والأمل... 445

النموذج الأوّل: انتظار ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)... 445

النموذج الثاني: انتظار بني إسرائيل ظهور موسى (عليه السلام)... 447

كيفية الانتظار... 448

(56) الإرادة التكوينية في ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف)... 451

أوّلاً: بين الحكم التكويني والتشريعي... 451

ثانياً: إرادة اللّه في ظهور الإمام... 455

(57) بين اللعن والصلاة... 457

1- اللعن... 457

2- الصلاة... 458

الحوافز والمنفّرات... 459

ذكر أهل البيت (عليهم السلام)... 460

(58) الإسلام منظومة سلوك وتعاليم متكاملة... 463

ص: 688

أوّلاً: النظام المتكامل... 463

ثانياً: التصرف الصحيح... 465

(59) مقومات النظام المتكامل... 469

أوّلاً: المنهج الصحيح... 470

ثانياً: القيادة الحكيمة... 471

ثالثاً: القاعدة المطيعة... 473

الفرار عن المسؤولية... 474

تحمل مسؤولية الانتظار... 477

(60) الدين ظاهر وباطن... 478

عبادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام)... 479

(61) أهمية العقيدة الصحيحة والعمل والأخلاق... 482

محاور الدين... 482

الخطوات اللازمة... 485

عرض أعمال العباد على النبي والأئمة (عليهم السلام)... 487

وظيفتنا... 488

(62) دعائم الدين وأصوله... 490

أعمدة الدين... 490

آيات اللّه... 491

محاربة آيات اللّه... 491

1- رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 491

ص: 689

2- أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)... 493

3- القرآن الكريم... 494

4- أحكام الشرع... 494

حواجز بين الإنسان والمحرمات... 498

(63) الإسلام والموازنة بين الجانبين المادي والروحي... 500

التخلّص من الرذائل... 502

نماذج من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)... 502

(64) الأمة الإسلامية أفضل الأمم... 507

الجانب الأوّل: الاصطفاء... 507

الجانب الثاني: الاتّباع... 509

الأحكام الإسلامية... 512

غزوة أحد... 514

(65) عدم استصغار العمل للّه تعالى... 519

(66) أحقية منهج الإسلام في التطبيق العملي عالمياً... 522

بين القوانين التكوينية والتشريعية... 522

مشكلة العنوسة... 523

الحق يفرض نفسه... 523

اختيار الإنسان... 526

تحديات اليوم... 528

1- تحدي الحضارة الغربية... 528

ص: 690

2- التحدي الإرهابي... 529

3- تحدي المنهزمين فكرياً... 530

(67) الشعائر تحافظ على القيم الثقافية... 531

من أمثلة التطوير الجائز... 531

النموذج الأوّل: خط القرآن الكريم... 532

النموذج الثاني: تعظيم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 532

النموذج الثالث: مودة أهل البيت (عليهم السلام)... 533

معنى البدعة والسنة... 534

أهمية الشعائر... 534

الاستهزاء سلاح أعداء الأنبياء... 536

التمسك بالشعائر... 537

(68) الشعائر الدينية من النظرية إلى السلوك العملي... 539

الروح والمظهر في الشعائر... 540

(69) أهمية استثمار الأمكنة والأزمنة المباركة... 544

معنى البركة... 544

معنى النحس... 546

بركة شهر رمضان... 549

(70) فضائل شهر رمضان المبارك... 552

الروتين في الحياة... 552

كسر الروتين... 553

ص: 691

من الوظائف في شهر رمضان... 556

(71) حفظ الإيمان... 558

(72) القرارات المصيريّة... 563

1- التوحيد والشرك... 564

2- ارتكاب الذنوب... 565

3- حول الشفاعة... 566

(73) دواعي عمل الإنسان... 569

القسم الأوّل: الداعي الشهوي... 569

القسم الثاني: الداعي العقلي... 570

القسم الثالث: الداعي الإلهي... 571

الكافر الذي خدم البشرية... 572

درجات الداعي الإلهي... 573

استثمار الفرص... 575

(74) الصبر والظفر... 576

أقسام الصبر... 577

صبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 579

(75) الشعور بمسؤولية التصدّي... 581

تهيأة مقدمات التصدي... 586

(76) الوصول للنتائج الكبيرة... 588

صعوبة طريق الجنة... 588

ص: 692

من أسباب صعوبة طريق الجنة... 589

العمل حين البلاء... 591

مفهوم التوكل والصبر... 591

(77) التسويف وخطورة منهج التبرير... 594

الحالة الوسطية... 594

الأمل وطول الأمل... 594

ثقافة التبرير... 596

(78) مخاطر اليأس على الإنسان... 599

الغاية هي المحرك للإنسان... 599

اليأس في الحياة... 600

اليأس من رحمة اللّه تعالى... 601

(79) كيفية التعامل مع المعوّقات... 604

بين الصبر والزهد... 604

من المعوقات... 605

النوع الأوّل: الأمور غير المهمة... 605

النوع الثاني: العواطف والأحاسيس... 608

النوع الثالث: اختلاف الأذواق وطريقة التفكير... 610

(80) من أسباب انحراف الإنسان... 613

1- الشبهات... 613

2- الشهوات... 615

ص: 693

(81) مع المبلغين... 618

أوّلاً: تبليغ رسالات اللّه... 618

ثانياً: خشية اللّه تعالى... 619

ثالثاً: عدم خشية غير اللّه... 621

رابعاً: الاكتفاء باللّه... 623

(82) المواعظ واستمرارها... 624

استمرارية المواعظ... 627

(83) بالحكمة والموعظة الحسنة نحقق أهدافنا... 631

الوظيفة الأولى: الدعوة بالحكمة... 633

الوظيفة الثانية: الموعظة الحسنة... 633

الوظيفة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن... 634

دور المنطق والبرهان في تحقيق النصر... 634

(84) لغة الحوار... 639

فائدة الحوار... 641

ثقافة الاختلاف... 642

(85) الأسباب والمسببات... 644

أقسام الأسباب... 646

(86) من أسباب ضعف المسلمين... 651

الأمر الأوّل: الاستبداد... 651

من مضار الاستبداد... 651

ص: 694

1- الاستغناء... 652

2- المزاجيّة... 653

3- انعدام الفرص... 653

4- قتل الإبداع... 653

5- التدخل الأجنبي... 655

6- ضعف التدين... 656

الأمر الثاني: ضعف التعليم والتعلّم... 656

(87) أولو الألباب... 658

إدراك الحقائق... 658

من هم أولو الألباب؟... 660

الاحتياج إلى العلم... 663

(88) التحكّم في الصفات... 667

وحدة طبيعة الإنسان... 667

1- الحب والبغض... 668

2- الشدة والرحمة... 669

(89) الرؤيا الصادقة والكاذبة... 671

فهرس الموضوعات... 675

ص: 695

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.