مدارك الفقه الاسلامي في شرح العروة الوثقی (محمد الکاظم الیزدي)

هویه الکتاب

موسوی بحرانی محرقی، عبدالله

مدارك الفقه الاسلامي في شرح العروة الوثقی (محمد الکاظم الیزدي) / تصنيف السيد عبدالله

السيد حسن الموسوي البحراني. - قم : موسسة المعارف الاسلامية، 1428ق = 1387 ج.

(دوره) 2-90-7777 - 964-978 :ISBN

(ج1 ) 9-91 -7777- 964-978 :ISBN

الفهرسة على أساس المعلومات فیپا

ببليوغرافيا مع ترجمة

مندرجات . ج1. الاجتهاد والتقليد

1. یزدی، محمد کاظم بن عبد العظيم، 1267؟ - 1338 ؟ ق - العروة الوثقی - نقد و تفسیر . 2.

فقه جعفری - قرن 14. الف. یزدی، محمد کاظم بن عبدالعظيم، 1267 ؟ - 1338 ؟ ق-

العروة الوثقى . شرح . ب . عنوان . ج . عنوان . العروة الوثقی . شرح

رده بندی کنگره : BP183/5/ی4ع4 1387

تصنيف ديوي: 297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1 5 1 4 1 5 4

اسم الكتاب ......مدارك الفقه الإسلامي في شرح العروة الوثقی

تأليف ... آية الله في العالمين الجامع بين المعقول والمنقول السيدعبدالله البحراني

الناشر...مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة...الأولى 1439 ه.ق

المطبعة...عترت

العدد...1000

ISBN .......978-964-7777-90-2

شابك : (دوره) ....2-90-7777-964-978

:(ج)...9-91-7777-964-978

قم المقدسة - تلفون 7732009 ص ب 768 / 37185

www.maaref islami.com

E-mail :info@maarefislami.com

ص: 1

اشارة

مدارك الفقه الإسلامي

فی شرح العروة الوثقى

كتاب الاجتهاد والتقليد

تصنيف

سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله

الحاج السيد عبد الله السيد حسن الموسوي البحراني

مد ظله العالي

الجزء الأول

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما عرّفنا من نفسه وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته ودلنا عليه من الإخلاص له في توحيده، و جنبنا من الإلحاد والشك في أمره، وفقهنا في أحكام دينه، وصلى الله على أشرف خليقته وخاتم أنبيائه وصفوة بريته، محمد بن عبد الله وعلى ابن عمه صاحب الولاية الكبرى والخلافة العظمى المبرء من الشين أبي الحسن والحسين علي بن أبي طالب، وعلى زوجته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء، وعلى أولادهم الكرام البررة والأئمة السادة الخيرة، لا سيما البدر الطالع والنور الساطع والضياء اللامع ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن المهدي روحي وأرواح العالمين ومن في الوجود لتراب مقدمه الشريف الفداء .

وبعد فهذا شرح على متن العروة الوثقی لسيدنا المقدس آية الله الحاج السيد محمد كاظم اليزدي قدس الله نفسه الشريفة، كنت قد كتبته بعد أن عشت ردحا من الزمن غير يسير أمضيته في مطالعة الكتب الاستدلالية الفقهائنا الأعلام، حيث منحتني كثرة المطالعة قدرة على إنجاز هذا الشرح الجليل مضافاً إلى ما قد كنت فهمته قبلا من هذه الأبحاث العلمية على أيدي أساتذتی الكرام عندما كنت خارج البحرين، وذلك في الحوزات العلمية

ص: 5

في كل من كربلاء المقدسة، والنجف الأشرف، و قم المقدسة والمشهد المطهر، على ساكني هذه البقاع الشريفة ساداتي الكرام من أئمة أهل البيت النبوي الشريف آلاف التحية والصلاة والسلام.

وكان الذي شجعني على هذا الشرح أمور كثيرة، أذكر أهمها لقارئي العزيز، وذلك لكي يتجلى له بأنني لست ممن يدعي الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد ليس مقصورة على طبقة معينة من الناس، بل يحق لكل فرد من الناس كائن من كان أن يرتقي إلى سلمه .

أما بالنسبة إلى الإنسان المسلم المكلف، فإن فقهاء الإسلام قد أوجبوا عليه أن يجتهد في عباداته ومعاملاته، وذلك بأن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه لفهم التكليف الشرعي غير أن الوجوب المذكور مقيد عندهم بمن يكون قادرة عليه، أما غير القادر، فعليه أن يقلد أو يحتاط، ومن هنا يعلم أن وجوب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية تخييري يدور بينه وبين التقليد، والاحتياط، وهذا ما سوف تعرفه عن قريب من خلال الأبحاث القادمة إنشاء الله تعالی .

ومجمل القول فإن الاجتهاد ليس مقصورة كما قلنا على طبقة معينة من الناس، وعلى هذا يكون بإمكان أي إنسان الوصول إليه والارتقاء إلى سلمه، وذلك عبر الدرس والمذاكرة و كثرة المطالعة في الكتب الاستدلالية الفقهية والأصولية، ولذا قلت أن الذي شجعني على هذا الشرح الجليل أمور: أهمها ما يلي :

الأول : بما أنني قد كنت فيما سبق خارج بلادي البحرین مشغولا بالدرس والمذاكرة وقد اعتدتهما، بل عشقتهما عشقا لا أستطيع مفارقتهما

ص: 6

فيما تقدم، وأخشى الآن أن أكون أجنبية عنهما وذلك لفقدان الحوزة العلمية في بلادنا لأكون من روادها.

ولعدم وجود المدرس القادر على التدريس للاستفادة منه، قررت أولا :أن أقضي معظم الوقت في مطالعة الكتب الفقهية الاستدلالية للاستفادة منها بدل الدرس الذي كنت أستفيده من الأساتذة الكرام فيما سبق.

وقد رأيت ثانية: بعد كثرة المطالعة وإمعان النظر في المطالب العلمية أن أقوم بتلخيص ما فهمته منها بأسلوبي الخاص حتى يبقى ما فهمته منها مختزن في لبني ولا يشرد عن بالي، أو يغيب عن مخيلتي، فأكون بواسطة شروده و غیبته بعيدا عن العلم والمعرفة، فيصدق علي التعرب بعد الهجرة .

لأنه قد غد بعض الأعاظم ترك الاستمرار في طلب العلوم الدينية بعدالاشتغال بها مدة من الزمن قسم من أقسام التعرب بعد الهجرة .

الثاني : إن المطالعة في الكتب الفقهية الاستدلالية وإمعان النظر فيها وفهم المطالب العلمية منها يعينني أولا على التوسع والإبداع فيما ألقيه من دروس أو محاضرة أو حديث عام في المساجد والمجالس الحسينية على عامة الناس . وثانياً يمنحني إنشاء الله تعالى القدرة مستقبلا على معرفة الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية .

الثالث : بناءً على ما جاء في الحديث الشريف «ليس العلم بكثرة التعلم بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء » فلا بد لمن يروم هذا النور الرباني أن يتهيأ له بالأسباب الموجبة لحصوله، وإلا يخفى أن من جملة الأسباب من أجل نيل ذلك النور والحصول عليه هو إنعام النظر في أقوال العلماء العارفين لكي يكون من يروم ذلك النور على أهبة الاستعداد للحصول عليه.

ص: 7

الرابع : الثقة بالنفس، بعد الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه وطلب العون والمدد والسداد والتوفيق منه بأن يفقهنا في دينه، ويعلمنا من شرعةأحكامه، فإن الثقة بالنفس بعد الاعتماد على الله تعالى من الأمور المهمة في حياة الإنسان، ولولا الثقة بالنفس ما استطاع علمائنا الأفاضل أن يتوصلوا لماتوصلوا إليه من درجات عالية في العلم والمعرفة التي بدورها قد أقلتهم الأن يمتلكوا أزمة الأمور، وقيادة المجتمع الإسلامي والأخذ بيده إلى طريق السعادة والرقي .

الخامس : أردت بهذا الشرح الجليل تنبيه العلماء الأفاضل في بلادناالبحرين بأن العزوف عن الاجتهاد والتقليد والجمود على الأخبار فقط ممايسبب تجميد أفكارنا ويجعلنا نعيش في مجال ضيق لا نتطلع فيه على المعارف والأصول الإسلامية.

فنحن في الحقيقة محتاجين إلى الاجتهاد ليتسنى لنا فهم تكليفنا الشرعي إذ لا يمكن فهم ذلك إلا عن طريق تقليد مجتهد حي عادل شجاع ورع أو أن نجتهد في معرفة الأحكام الشرعية بأنفسنا، وذلك ببذل جهدنا و استفراغ وسعنا لكي تحصل لنا القدرة على استنباط الحكم الشرعي من الأدلة، أما أن نجمد على كتب الأخبار ونعتقد بصحة ما فيها من الأحاديث ككل وبلا نظر وتدقيق فيما هو الضعيف أو الصحيح والموثق والحسن منها، ونرى أن كل ما في الكتب الأربعة قطعي السند أو موثوق الصدور، ونلزم أنفسنا بالاحتياط عند الشك في التحريم، و نسقط الأدلة المذكورة في أصول الفقه دليل العقل ودليل الإجماع ونقتصر على الكتاب والأخبار فهذا ما يكون سبب في تأخيرنا ومنعنا عن التوسع أكثر في فهم الأحكام الشرعية

ص: 8

التكليفية، حتى وإن كان الدليلين المذكورين يرجعان في الحقيقة إلى الكتاب والسنة، وإنه ليس ثمة شيء من الأدلة غيرهما، فهما المعتمد وعليهما المعول في استنباط الحكم.

هذا بالإضافة إلى أن التمسك بالعمل بالكتاب والأخبار فقط، ونبذ الاجتهاد فيهما بمعرفة ما هو الصحيح مناف لما عليه أكثر علماء الإمامية القائلون : أنه يجب البحث عن أسانيد الأخبار كافة، سواء الأخبار التي اشتملت عليها الكتب الأربعة أو غيرها لمعرفة ما هو الصحيح والحسن والموثق والضعيف منها عند إرادة العمل بها، وما عليه من العلماء الأكثر من القول بالبراءة عند الشك بالوجوب أو التحريم إلا أن يسبق العلم الاجمالي بالوجوب أو التحريم، وإذا شك بالواجب أو المحرم فيجب الاحتياط، فنبذ هذا المسلك الذي اتخذه أكثر علمائنا في طريقة استنباط الأحكام واتخاذ المسلك الذي ينادي بالعمل بالأخبار بدون فحص واجتهاد، یكون منافية الجادة الحق والصواب .

السادس : أنه من المعلوم الذي لا يكاد أن يخفى على أحد أن بلادنا البحرين كانت سابقا مر کزة للتعليم الإسلامي زاخرة بل زاهرة بوجود الجم الغفير من أكابر الفقهاء والعلماء والمجتهدين حتى قيل : أن المسألة الفقهية أو الكلامية أو الأخلاقية أو غيرهما لتدور على سبعمائة فقيه ثم ترجع إلى الفقيه الذي وجهت إليه لكي يجيب عليها، ولم يكن في مخيلة الملة البحرانية آنذاك أن ترجع في أمورها الدينية والدنيوية إلى فقيه ميت لوجود الفقهاء الأحياء الأمر الذي كان أهل البحرين ينعمون بوجود الفقهاء الأحياء، حتى انعكس الأمر وأصبحت البلاد خالية من وجود الفقهاء

ص: 9

الأحياء، فاضطر الناس إلى تقليد المجتهد الميت والبقاء عليه مدة من الزمن حتى عصرنا الحاضر.

ونحن وإن كنا نعظم فقهاء آل محمدصلی الله علیه وآله وسلم علي الأحياء منهم والأموات على حد سواء إلا أنه مما لا شك فيه ولا شوب يعتريه أنه في مقام العمل ينبغي تقليد المجتهد الحي الورع التقي العادل الشجاع، وهذا ما سوف تعرفه إن شاء الله من خلال البحوث المقبلة.

وغرضنا هنا وحتى لا نبتعد عن الأمر الذي أردنا بیانه : وهو أننا قلنا فيما تقدم إن بلادنا البحرين كانت فيما سبق مرکزة للتعليم الإسلامي، فينبغي أن تكون اليوم كما هي بالأمس الدابر، زاهرة بوجود الفقهاء والعلماء الأفاضل، ولا تكون كذلك إلا بوجود حوزة علمية أو على الأقل وجود طلاب مفکرین واعين يكرسون جهودهم ويمضون معظم أوقاتهم في الدرس والمذاكرة والمراجعة.

وهذا هو الأمر الذي حدا بي وشجعني على الخوض في الأبحاث العلمية وإن كنت لست من فرسانها .

عبد الله حسن الموسوي المحرقي البحراني

25رجب المبارك سنة 1426 هجرية

على مهاجرها السلام والتحية

ص: 10

نبذة مختصرة من حياة المؤلف

اشارة

ص: 11

ص: 12

نسبه

هو العلامة الحجة الحاج السيد عبد الله بن السيد حسن بن السيد هاشم ابن السيد حسن بن السيد مرهون بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد ماجد بن السيد علي بن السيد علوي بن السيد أحمد بن السيد هاشم البحراني بن السيد علوي عتيق الحسين بن السيد حسين الغريفي بن السيد أحمد بن السيد عبد الله بن السيد عيسى بن السيد خميس بن السيد أحمد بن السيد ناصر بن السيد علي كمال الدين بن السيد سلمان بن السيد جعفر بن السيد أبي العشائر الحائري بن أبي الحمراء محمد بن السيد علي بن السيد علي الضخم بن السيد محمد الحائري بن السيد محمد العابد بن الإمام الشهيد السعيد العبد الصالح باب الحوائج موسی بن الإمام جعفر الصادق عليهما أفضل الصلاة والسلام.

وقد نظم هذا النسب الشريف سماحة الأديب الفاضل والخطيب

الجليل الحاج الشيخ حسن بن عبد الله القيسي فقال ولنعم ما قال:

یا خليلي هاك استمع لي فها قد*** قلت قولا مثل الجمان المنضد

مثل زهر الحدائق الغن حفتها ***ریاض في غصنها الطير غرد

أو كجيد الفتاة قد زانه عقد*** جميل من اللئاليء وعسجد

ناظم یا صويحبي نسب العلامة ***الفذ والخطيب المسدد

نسب السيد الجليل عنيت به*** العالم الجهبذ العظيم الأمجد

إنه السيد المبجل عبد الله ***من والدله کریم المحتد

ص: 13

حسن ذاك اسمه حسن الخير*** ومسن هاشم أبوه بلا رد

ابن طهر واسمه حسن أيضاً*** سمي الزكي من آل أحمد

ابن مرهون سید رهنت*** فيه المعالي وبالمكارم يحمد

وكذا بعده کریم السجایا ***حسن بالكمال حقا توحد

بعده طيب الخصال وفيه*** يدرك الخير والصلاح محمد

بعده سید سمي بالمعالي ***ماجد اسسمه کریم ممجد

ثم من قد علا بعز علي ***من عملا بالمكر مسات تفسرد

بعده الهاشمي العلوي الطهر*** من الكمال والجود جدد

ثم ذاك المقدس الطيب الزاكي ***المسمى بالفضل والنبل أحمد

بعده البحراني هاشم أكرم*** فيه من هاشمي عزة وسؤدد

إنه البحراني لكنه لا من ***إليه البرهان في العلم پسند

و عتیق الحسین خیر عتیق ***علوي ذاك اسمه حين يسرد

والغريفي بعده وأسمه*** فيه حسين وبالحسین تودد

حسن بعده الكريم المرجی*** باسم نجل الزكي سبط محمد

ثم ذاك الذي بفضل وجود*** وسماح دعي سمي أحمد

بعده السيد المبارك عبد الله*** ذو عفة وصون وسؤدد

ثم عيسى سمي عیسی کمالا*** وعفاف وبالحياء تأكد

وخميس مثل الخميس تراه *** مشرق الوجه خلته النجم فرقد

ثم ذو المكرمات والحسب العالي*** أخو الجود والمحامد أحمد

ناصر بعده ومن نصر المجد*** بكفيه فاستطال بلاعد

وعلي من لقبوه کمال الدين*** منه الكمال والنبل يوجد

ص: 14

وسليمان من علابالمعالي ***سل من دوحة النبي محمد

جعفر بعده وأنعم بذاك الاسم*** اسم لجعفر بن محمد

نجل مسن بالعشائري لقبوه ***فهو ذخر وللعشائر مقصد

إنه الحائري حارث ذوي الألباب فيه*** وفضله ل يس يجحد

أبوه الأمين ابن أبي الحمراء*** يدعی واسم ذاك محمد

وأبوه علي السيد الطاهر شخص ***له المحامد ت تسند

بعده الضخم الجليل علي*** بعلي علا وفي نبله جد

حسن بعده وياخير اسم*** يتلألأ بلمع نور توقد

وأبوه الحائري وإن*** تسأل عن اسمه فذاك محمد

ابن برعلا ولقب بالعابد*** من عابدين يدعى محمد

كاظم الغيظ إن سألت أبوه*** ماله قد علمت في حلمه حد

وأبوه الصادق القول واللهجة*** الإمام جعفر بن محمد

باقر العلم قد علمت أبوه*** بالطهر بالمكرمات توحد

ذاك من قد أقر معترفا فيما*** حواه من قد عتا وتعند

وأبوه السجاد عباد أهل البيت ***إن جنه الدجی تهجد

وأبو الحسين من قسارع الظلم*** بيوم من المعارك أسود

خاض نار الوغى والحرب تغلي*** كالمراجيل بالوقود توقد

وأبوه الوصي حيدرة الكرار*** مافر في مقام ولا رد

ذاك من سيد الهدى ومن قد*** صد بالسيف فيلق الكفر فانصد

إن تسلني عن أمه خير أم*** دوحة النور والهدى ليس يوجد

في الوری يا أخي لها من مثيل*** هي ست النساء بنت محمد

ص: 15

إنها الزهراء أم التقى من ***قد منها نور الإمامة فانقد

وأبوها خير الأنام رسول الله ***والمصطفى النبي المؤيد

نسب طاهر وفخر عظیم*** جاء نسور منه الظلام تبدد

هاك خذه واهنأ به يا أبا هاشم*** لازلت بالسداد مسدد

وإليكم يا طالبي العلم ما قلت ***وما قد نسبت للماجد الجد

للشریف النبيل السيد عبد الله ***أكرم به انتساب و محتد

طبق ما قاله بمنظومة الكون ***وما س اقه هناك وأورد

وصلاتي على النبي وأهل البيت ***طرأ ما طار طيرٌوغرد

ولادته

ولد المترجم في البحرين ببلدة المحرّق، في محلة يقال لها سابقا (فريق السادة)، في منزل قريب من عين تسمى (السادة)، أما الآن فتعرف المحلة المذكورة ب (فريق الصاغة)، والعين المذكورة ب (عین سمادوة) وذلك سنة1362.

وقد تنّعم وتربى في أحضان أبويه الشريفين، حيث أولياه عناية تامة واهتماماً بالغة و تربية صالحة، وقد سقته أمه التقية برضاع لا ظمأ فيه، ولبن لا شوب فيه، ألا وهو لبن الولاء والحب لمحمد وأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى ذلك قول الشاعر:

لاعذّب الله أمي إنها شربت*** حب الوصي وغذتنيه في اللبن

وكان لي والد يهوى أبا حسن*** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن

وقد نشأ في بيت عريق معروف بالفضل والسؤدد.

ص: 16

نشأته العلمية

لقد حضيت البحرين قديماً ولفترة غير قصيرة بالفقهاء الأفذاذ، والعلماء الأعلام الأكابر، الذين أغنوا المكتبات بمؤلفاتهم، وافتقر العالم الإسلامي إلى رسائلهم، وظلت على هذه الحالة ردحا من الزمن، حتی حلت بها المحن و الخطوب، و تكبلت بالإنجاز العلمي، ورغم هذا الانحسار إلا أن التشوق للدراسة شيء مألوف وأمر طبيعي.

فكان السيد المترجم له بعد أن أكمل التاسعة من عمره يعشق مجالس العلم والعلماء، حيث ظل فترة يتنقل في رياض العلماء، وذلك من قرية إلى قرية، يستمد من علومهم، وينهل من موائدهم.

فقد درس في بلاده البحرين وفي المرحلة الأولى المسماة بالسطوح على يد ثلاثة من علمائها الأفاضل وهم كالتالي:

1 - العالم الجليل، والمهذب النبيل، السيد علوي السيد أحمد الغريفي، فقد قرأ عليه متن الأجرومية وشرح ابن عقيل في النحو، وتبصرة المتعلمين في الفقه.

2 - العالم الجليل، الشيخ عبد الحسن سلمان الجد حفصي، فقد قرأ عليه ردحا من الزمن في النحو والفقه أیضاًفي نفس كتاب الأجرومية والتبصرة.

3 - العالم الجلي، الشيخ حسين نجل الشيخ عباس الجزيري، فقد قرأ عليه علم النحو في نفس الكتاب المسمى ب (الأجرومية).

وفي سنة 1381 هجرية الموافق سنة 1960 ميلادية ترك سیدنا المترجم له

ص: 17

البحرين، وسافر إلى العراق لكي يتلقى العلوم الدينية على أيدي العلماء الأكابر، فآثر سیدنا كربلاء المقدسة مقرا لدراسته، حيث بقي في جوار جده الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام پر تشف من روحانیته، بالإضافة إلى تلقي العلوم الدينية في الحوزة العلمية الكربلائية، فحصل من مشايخه في كربلاء الاهتمام الكثير، والعناية التامة في تعليمه وتهذيبه وتثقيفه، فكان أساتذته في كربلاء كالتالي:

1- حجة الإسلام الشيخ حسين المهناوي .

2- حجة الإسلام الحاج شيخ أحمد معرفة .

3- حجة الإسلام الشيخ أحمد الشذر .

4 - حجة الإسلام الشيخ جابر العفچاوي .

5 - العلامة الفقيه الحاج السيد محمد علي نجل آية الله العظمى السيد محمد طاهر البحراني .

6 - العلامة الفقيه الأديب الحاج حسين الدارمي .

7 - العلامة الفقيه الحاج السيد عبد الرضا الشهرستاني مدير مكتب أجوبة المسائل الدينية في كربلاء سابقاً .

8 - العلامة الفقيه الحاج السيد نور الدین نجل آية الله العظمى الإمام الحاج السيد عبد الهادي الميلاني رضوان الله تعالى عليه، ولقد كان إمام الروضة الحسينية سابقاً .

9 - العلامة الفقيه الحاج السيد محسن الكشميري، إمام الروضة العباسية المقدسة سابقاً .

ص: 18

10 - العلامة الفقيه السيد عبد الرحيم الجزائري عميد مدرسة شريف العلماء

11 - العلامة الفقيه الشيخ مهدي الكاظمي .

12 - العلامة الفقيه الحاج السيد عباس الكاشاني وكيل الإمام الحكيم سباقاً إمام الحرم الحسيني الشريف .

13 - العلامة الفقيه الحاج السيد عماد الدين نجل آية العظمى الحاج السيد محمد طاهر البحراني رضوان الله تعالى عليه.

14 - آية الله الحاج الشيخ علي العيثان الإحسائي .

وفي سنة 1370 هجرية هاجر سيدنا المترجم له إلى النجف الأشرف لكي يتلقى العلوم في حوزتها المباركة العلمية على أيدي العلماء الأكابر

أيضا، فكان عدد مشايخه في المرحلة المذكورة ما يلي:

ا- العلامة الفقيه المتبحر آية الله الحاج الشيخ عباس المظفر .

2 - العلامة الفقامة المتأله آية الله الحاج السيد مسلم الحلي .

3 - العلامة الفقيه المتبخر آية الله العظمى الحاج السيد حسين بحر العلوم.

4 - الحجة الفقيه المتبخر الحاج الشيخ عبد الهادي القرشي .

5 - العلامة الفقيه السيد عبد الأمير القبنجي .

أ - العلامة الحجة الحاج الشيخ حسين شرع الإسلام .

7 - العلامة الفقيه الحاج الشيخ عبد المحسن العزاوي .

هذه المجوعة من العلماء الأكابر مشایخ سیدنا المترجم له، حيث درس على أيديهم العلوم الدينية التالية:

ص: 19

1 - النحو 2 - الفقه 3 - المنطق 4 - أصول الفقه 5- علم الكلام 6 - المعاني والبيان 7 - الفلسفة 8 - التفسير 9 - التجويد 10 - الأخلاق 11 - الاقتصاد .

وأما بالنسبة على المرحلة الأخيرة المسماة بالبحث الخارج فقد حضر سیدنا المترجم البحوث الخارجية العلمية التالية:

1- بحث آية الله الإمام الحكيم رضوان الله تعالى عليه .

2- بحث آية الله الإمام الشاهرودي .

3- بحث آية الله الإمام السيد أبو القاسم الخوئي .

وفي سنة 1378 هجرية الموافق سنة 1962 میلادية ترك سیدنا المترجم له النجف ورجع إلى البحرين، وذلك للتبليغ والوعظ والإرشاد، وإقامة صلاة الجماعة في جامع فريق الحياك بالمحرق، غير أنه لم يبق إلا مدة يسيرة جدد عزمه بعدها إلى السفر نحو بلاد إيران لحضور بحوث المراجع العظام هناك، فحضر المترجم البحوث التالية:

1-بحث آية الله الحاج السيد محمد رضا الگلبايگاني رضوان الله تعالی عليه.

2 - بحث آية الله الشيخ محمد طاهر الخاقاني .

3- بحث آية الله الحاج السيد عبد الله الشيرازي رضوان الله تعالی علیه .

4 - بحث آية الله الحاج السيد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي رضوان الله تعالى عليه.

وقد أجاز المترجم في رواية الحديث وهذا نص الإجازة بقلمه الشريف المبارك :

ص: 20

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الحمد والصلوة عليه، لا يخفى على إخواني المؤمنين أن جناب الفاضل الخطيب الألمعي الشهير السيد عبد الله السيد حسن الموسوي دام مجده الشامخ من بيت العلم والشرف، وقد صرف شطرة وافية من عمره في ترویج الدين، ودعوة الخلق إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام .

وقد أجزنا له أن يقبض حق الإمام - روحي فداه - وسائر الحقوق الشرعية ويصرف ثلثها في ترويج الشرع، ويرسل ثلثيها إلينا لصرفها في حوائج المحصلين للعلوم الدينية، ويأخذ قبض الوصول منا ويسلمها إلى أرباب الحقوق.

وهو مجاز عنّا أيضاً في رواية الأخبار المأثورة عن ساداتنا الأئمة بطرقنا الكثيرة، فجدير على إخواني في الدين أن يغتنموا وجوده الشريف، ويحفظوا شؤونه، ويأتموا به في الأقوال والأفعال والصلوة وسائر الأمور، والسلام علی من اتبع الهدی .

حرره في 15 رجب سنة 1389

شهاب الدين الحسيني

* * *

كما إن لسيدنا المترجم إجازات من فقهاء كثيرين في رواية الأخبار وغيرها، إلا إنها قد فقدت من مكتبته كلها بسبب الإهمال، وعدم ضبطها في مكان أمين، ولم يبق منها إلا الإجازة المذكورة للسيد المذكور.

وكذلك إجازة أخرى من الفقيه الحاج السيد محمد علي بن السيد

ص: 21

محمد طاهر الموسوي الحائري البحراني، وقد جاء فيها ما نصه بقلمه الشريف المبارك :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله الشرفاء وبعد :

فلا ريب في أن إقامة الصلاة جماعة من أحسن العبادات، وأفضل الطاعات، وأقرب القربات، لا يضاهيها كثير من المستحبات، وقد ورد عن الأئمة المعصومين علیهم السلام في الحث عليها، والذم على تركها أخبار كثيرة لم يرد مثلها في أكثر المندوبات، أجل قد اعتبر الشارع الكريم في الإمام أمورة وشرائط ذكرت في الفقه.

هذا وإن السيد الجليل، والخطيب الفاضل النبيل، سلالة السادات الكرام، السيد عبد الله السيد حسن السيد هاشم البحراني دام بقاءه ممن اجتمعت فيه شرائط الإمامة، وقد لمسنا ذلك فيه عند مصاحبته لنا وتتلمذه لدينا، فيجدر بإخواننا المؤمنين الاستنارة منه للوصول على هذا الثواب العظيم والأجر الجسيم، والله ولي التوفيق.

في 27 ذي القعدة سنة 1392 ه

محمد علي بن محمد طاهر الموسوي الحائري البحراني

* * *

وفي مشهد المقدسة وعندما كان السيد المترجم يقصد زيارة الإمام أبي الحسن الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام فإنه بالإضافة إلى حضور بحث

ص: 22

آية الله السيد عبد الله الشيرازي المذكور فيما تقدم فإن المترجم له كان يحضر أیضاًدروس أخلاقية عند آية الله الحاج غلام حسين التبريزي نزيل مشهد الرضا علیه السلام .

وفي سنة 1399 هجرية الموافق سنة 1987 میلادية ترك المترجم له إيران ليعود مرة ثانية إلى بلاده البحرين وذلك لتبليغ والوعظ والإرشاد وإقامة صلاة الجماعة في الجامع المذكور بمحلة (فريق الحياك) وفي غيرها من المناطق في مساجد متعددة مثل : مسجد الخضر في السنابس، ومسجد الجمة في السنابس أیضاً، و مسجد الشيخ درويش في بلدة الدية قرب منزل الحاج محمد علي العكري، وفي مسجد الإمام المنتظرعجل الله تعالی فرجه الشریف ما في المدينة، وفي مسجد الماحوز، وفي مسجد العلامة الشيخ ميثم البحراني، وكذلك في غيرها من المساجد في بلاده البحرين إلا إن الغالب يقيمها في مسجد الجامع الحياك المذكور حيث إنه مسجد محلته وهو قريب من منزله .

والجدير بالذكر هو أن المترجم له كان يتقيد بعد صلاة الجماعة وبعد الوعظ والإرشاد العام بتدريس الأحكام، والأخلاق، والعقائد في حلقات يحضرها عدد كبير من طلابه أمثال: الشيخ عبد الأمير المخلوق، الشيخ نزار الساعاتي، الشيخ جعفر الشاخوري، الأستاذ حسن الملاح، الأستاذ جعفر حسين الحايكي، الأستاذ حسين علي عيسى الحايكي، الشيخ أحمد الماحوزي، الأستاذ محمد قمبر، إلى غيرهم من الطلاب الذين كانوايحضرون بعد صلاة المغرب وصلاة الظهر بالخصوص یوم الجمعة، و كانت المساجد المذكورة تغص بالمصلين .

ص: 23

مؤلفاته وآثاره العلمية

أما مؤلفات سیدنا المترجم له فهي كثيرة منها المطبوع ومنها غير المطبوع وإليكها بالتسلسل كما يلي:

1۔ کتاب : (حديث حول الجبر والتفويض) وهو كتاب قد بذل فيه جهد كبيرة في حل مسألة من عويصات المسائل الكلامية وهي مسألة الجبر والتفويض في أفعال الإنسان، والكتاب المذكور مطبوع.

2۔ کتاب : (بحث حول البداء) وهو أیضاًكتاب قد تكفل بحل مسألة ثانية من المسائل الكلامية المهمة في عقيدة الإمامية حيث قال الإمام الصادق عليه السلام في مسألة البداء إنه ما عبد الله بمثل البداء .

3- کتاب : (فضل العلم والعالم) وهو كتاب عرض فيه المترجم ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من تعظيم العلم والعالم، وكذلك عرض في الكتاب المذكور ما ينبغي للعالم أن يتمتع به من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة، والكتاب المذكور مطبوع أيضاً .

4 - کتاب : (الدنيا الفانية) وهو كتاب عرض فيه المترجم له ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الآيات الكريمة والأحاديث المعصومية المتعرضة لذم الدنيا إلا ما كان من بلاغها، والكتاب المذكور مطبوع أيضاً.

5۔ کتاب : (المنظومة الكونية في العلوم الفلكية) كتاب جید عرض فيه المترجم الهيئة القديمة والهيئة الجديدة للكون وذلك عن طريق النظم، والكتاب المذكور مطبوع مستقل .

ص: 24

6 - کتاب : (منظومة الأحكام في مسائل الحلال والحرام) وهو كتاب نظم فيه المترجم بعض المسائل الفقهية من كتاب الطهارة المطابقة لفتاوي الإمام الخميني قدس سره ورضي الله تعالی عنه، والمنظومة المذكورة مطبوعة ضمن كتاب فضل العلم والعالم .

7- کتاب : (منظومة ترجمة حياة المقدس الشيخ حسين آل عصفور قدس الله تعالى نفسه ورضي الله عنه) والمنظومة المذكورة مطبوعة ضمن کتاب فضل العلم والعالم.

8- کتاب : (شرح العروة الوثقى) وهو كتاب فقهي إستدلائي إلا إنه غير مطبوع.

9۔ کتاب : (مختصر شرح النبراس) وهو كتاب فقهي أیضاًغير مطبوع .

10۔ کتاب : (شرح مرشد العقول في علم الأصول) غیر مطبوع.

11. کتاب : موسوعة الرسول صلی الله وعلیه وآله والعترة) مطبوع.

12 ۔ کتاب : (أقوال العلماء في صلاة الجمعة) وهو كتاب فقهي إستدلالي في وجوب صلاة الجمعة تعيينة على كل مكلف، والكتاب هذا بعد لم يكمل .

محفوظاته وخطابته الحسينية

لقد امتاز سیدنا المترجم له بالإضافة إلى فضيلته العلمية بكثرة الحافظة وملازمة المذاكرة، فهو يحفظ الكثير من نصوص الدروس العلمية عن ظهر القلب وربما حفظها عن طريق الشعر أو النظم، ففي الفقه مثلا بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الدروس الفقهية المقررة من الكتب المعروفة في الحوزة

ص: 25

العلمية مثل اللمعة والمكاسب وغيرهما فإنه يحفظ أيضاً إلى جنب ذلك المسائل الفقهية عن طريق النظم، مثل:

1- منظومة السيد بحر العلوم 2 - منظومة ابن الأعسم 3 - منظومة الحاج آية الله ملا هادي السبزواري، المعروفة بمنظومة النبراس، مطلها قوله:

قد استفاض بل تواتر الأثر ***إجمالاً أو معنى على نفي الضرر

بل اشتماله على الموثقة ***غنى لحجيتها المحققة

هذا وضعف بعضها مجبور*** لما إليها استند المشهور

-وفي النحو - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الدروس النحوية والصرفية فإنه يحفظ عن طرق النظم: (ألفية ابن مالك) المعروفة وهي تشتمل على ما لا يقل من ألف بيت في علم النحو . وفي المنطق بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المنطقية المقرر دراستها في الحوزة، فإنه يحفظ أیضاًالمنظومة المنطقية وهي منظومة التهذیب، للعلامة نابغة عصره و فرید زمانه المرحوم الحاج میرزا محمد حسين الحسيني المرعشي الشهرستاني، مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد وآله قوله:

العلم تصديق إذا ما كانا*** لنسبة حاكية إذعانا

وغيرهاتصور واقتسما*** ضرورة ونضرا بينهما

وهو بان يلحظ أمر يعقل*** الكسب مجهول بذاك يحصل

وافتقروا لوضع ما يصون*** من خطأ في الفكر قد يكون

فوضعوا المنطق منه يعرف*** موضوعه الحجة والمعرف

. وفي علم الأصول - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المقرر دراستها

ص: 26

في الحوزة أیضاًمثل منظومة (مرشد العقول في علم الأصول) لناظمها سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين الحاج الشيخ فرج آل عمران الخطي رضوان الله تعالى عليه وهي منظومة قد اعتمد فيها مطالب الكفاية في علم الأصول كما جاء في مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله الطيبين الطاهرين، وقال:

فالراجي نوال المحسن*** فرج الخطي نجل الحسن

يقول إني ناظم لي رجزا*** عن كتب الأصول فيه الاجتزا

مقتصرة فيه على المهم من*** مسائل الأصول أيها الفطن

وربما أذكر ما سوى المهم*** من باب الاستطراد فافهم واغتنم

معتمدة مطالب الكفاية ***إذ هي من علم الأصول الغاية

وربمالماسواها أعتمد*** في النظم إذ أختاره وأعتقد

وفي علم الدراية - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المخصوصة لذلك فإنه يحفظ ذلك أیضاًعن طريق النظم أو الاختصار كما هو من إفادات شيخنا البهائي قدس سره في علم الرجال:

مثل قوله:

كل جميلٍ جميلٌ .

كل حمیدٍ حمیدٌ.

كل صفوانٍ صافٌ .

كل عبد السلام صالح غير عبد السلام بن صالح .

كل يعقوب بلا خيبه إلآ يعقوب بن شيبة .

ص: 27

کلّ سالم غير سالم .

كلّ طلحة صالح.

وكما هو منظوم في ذكر من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، وهو لمولانا السيد مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي بحر العلوم قدس سره حيث قال:

قد أجمع الكل على تصحيح ما ***يصح عن جماعة فليعلما

وهم أولوا نجابة ورفعة ***أربعة وخمسة وتسعه

فالستة الأولى من الأمجاد ***أربعة منهم من الأوتاد

زرارة كذا بريد قد أتی*** ثم محمد ولیث یافتی

كذا الفضل بعده معروف ***وهو الذي ما بيننا معروف

والستة الوسطى أولوا الفضائل*** رتبتهم أدنى من الأوائل

جميل الجميل مع أبان*** والعبدلان ثم حمادان

والستة الأخرى هو صفوان*** ويونس عليهما الرضوان

ثم ابن محبوب کذا محمد*** كذاك عبد الله ثم أحمد

وما ذكرناه الأصح عندنا ***وشذقول من به خالفنا

وكما هو منظوم أیضاًعن السيد المذكور مثل قوله قدس سره:

عدة أحمد بن عيسى بالعدد*** خمسة أشخاص بهم تم السند

علي العلي والعطار ***ثم ابن إدريس وهز أخبار

ثم ابن كورة كذا ابن موسی*** فهؤلاء عدة بن عیسی

وإن عدة التي عن سهل*** من كان فيه الأمر غير سهل

ص: 28

ابن عقيل وابن عوف الأسدي ***كذا علي بعد مع محمد

وعدة البرقي وهو أحمد*** علي بن الحسن وأحمد

وبعد ذین بن أذينة علي ***وابن لإبراهيم واسمه علي

وفي (علم الكلام )بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب الدراسية مثل کتاب (التجرید) و غیره مثل شرح المنظومة فإنه يحفظ المنظومة نفسها للمولى السبزواري قدس سره وهي منظومة فريدة من نوعها في هذا العلم، مطلعها

بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله قوله:

معرف الوجود شرح الاسم*** وليس بالحد ولا برسم

مفهومه من أعرف الأشياء ***وكنهه في غاية الخفاء

وفي (أصول الدين والعقائد الإسلامية) بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب

المقرر دراستها فإنه يحفظ منظومة الفيلسوف الحكيم الشيخ حسن الدمستاني

البحريني، في أصول الدين : مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله

قوله:

المبحث الأول في التوحيد*** الذي الجلال المبديء المعيد

أجلى الجليات ثبوت الصانع*** وكم عليه من دليل قاطع

سبح كل ممکن بحمده*** معترف بأنه من وجده

وفي البديهي لدى الأذهان*** والواضح الغني عن برهان

إن الذي يوجد في الأعيان*** قسمان واجب وذو إمكان

فواجب الوجود ما لا يرتفع*** وجوده أصلا بعكس الممتنع

وممكن الوجود مالم يجب*** أو يمتنع إلا بأمر أجنبي

ص: 29

وموجد الوجود موجود كما*** لا يقتضي المعدوم إلا عدما

وكذلك أیضاًمنظومة الشيخ الفاضل السماوي الجابري، المسماة بمنظومة مفتاح القواعد .

وفي (علم الأخلاق) بالإضافة إلى إتقانه وضبطه تلك الدروس الأخلاقية فإنه يحفظ أیضاًمنظومات في هذا العلم كثيرة لعدة من العلماء الخاصة والعامة، مثل منظومة سلك الدرر لجميل السيابي وهو من علماء العامة وهي منظومة جديدة نفيسة قد جمعت الكثير من الدروس الأخلاقية التي تلاها علينا رسول الله وأهل بيته في أقوالهم عليهم الصلاة والسلام.

خطاباته الحسينية

لقد كان سيدنا المترجم بالإضافة إلى كل ما ذكر قد اتخذ الخطابة الحسينية وضيفة شرعية وخدمة السيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه في بلاده البحرين ما لا يقل عن أربعين سنة من عمره الشريف.

وقد كان بداية تلبسه بخدمة الحسين عليه السلام قبل اشتغاله بطلب العلوم الدينية إلا أنه لم يكن في سنواته الأولى كما هو عليه الآن من الشهرة والصيت، فهو بلا شك قد أصبح في سنواته الأخيرة، خطيبة مرموقة بارزة، ومتمكنة قديرة وماهرة في الصناعة، وكان يتميز بصوت قل نظيره وبنبرات حزينة تأخذ بمجامع القلوب، ولم أكن مبالغ إن قلت إنه أكثر خطباء البحرين علما وحفظة وفض" وتأثير على مستمعيه فقد كان التوجيهاته وإرشاداته الإسلامية أثرا ملحوظا بالنسبة إلى أبناء بلده فقد اهتدى بفضل

ص: 30

تلك التوجيهات والإرشادات عدد كبير من أبناء البحرين الذين كانوا رواد مجالسه الكثيرة في عدة حسينيات بطول البحرين وعرضها، تلك المجالس التي كان شباب البحرين لا يستبدلها بغيرها وذلك للاستفادة من منهله.

ففي العاصمة

المنامة - في حسينية آل سلوم - يحضر في ليالي عاشوراء ما لا يقل عن ألفي مستمع من أهالي البحرين بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الأجانب الذين يردون البحرين مثل الكويت والسعودية والإمارات وغيرها، وبتلك الأرقام بل ربما أكثر منها يحضر جمع في أيام عاشوراء في حسينية الحاج حسن الصفار في المنامة أیضاًحيث يرتقي سيدنا المترجم له المنبر من أول يوم من المحرم حتى اليوم الثالث عشر منه فيستفيد الجمع من نمير علمه وخطابته الحسينية.

وفي بلدة (الدراز) يحضر عدد كبير في حسينية أنصار العدالة أيام عاشوراء عصرة للاستفادة واستماع المصيبة الحسينية.

وفي بلدة (بني جمرة) تغص الحسينية المسماة (بالإثني عشرية) من حضور المستمعين وذلك للاستفادة واستماع مصيبة الحسين عليه السلام في ليالي عاشوراء .

وفي بلدة (باریار) في حسينية آل الشويخ يحضر عدد ضخم من المستمعين للاستفادة واستماع مصيبة سيد الشهداء عليه السلام عصراً وليلاً؟.

وفي بلدة (الدية) في حسينية الحاج خميس يحضر أیضاًعدد كبير من المستمعين .

ص: 31

وفي بلدة (كرباباد) بلاد أجداد السيد المترجم له في حسينية السادة في ليالي شهر رمضان المبارك يحضر جمع كبير للاستفادة من وعظ السيد وإرشاده، و كذلك في أماكن أخرى كثيرة من مناطق وقرى البحرين سابقا في فترة ما قبل منعه من الخطابة.

وتجدر الإشارة إلى أن السيد المترجم له قبل أن تكون له الشهرة والصيت في بلاده البحرين، فإنه قد خدم المنبر الحسيني في السنوات الأولى من عمره الشريف خارج البحرين فكان يذهب على كل من السعودية، والكويت، وأبو ظبي، وقطر، فقد قرأ في الإحساء وسيهات في حسينيات عديدة، وقرأ في أبو ظبي عند البحارنة سابقا، و كذلك قرأ في الكويت وقطر في حسينيات البحارنة أيضا، كما قرأ في العراق في كل من كربلاء المقدسة، والبصرة وفي إيران عندما تشرف المترجم بزيارة الإمام الرضا عليه السلام وأخته المعصومة عليها السلام في قم المشرفة تشرف أیضاًبزيارة المراجع العظام، فقد قرأ في منزل آية الله العظمی الحاج السيد محمد رضا الگلبايگاني رضوان الله تعالى عليه، وقرأ أیضاًفي منزل آية الله الحاج غلام حسين التبريزي في مشهد الرضا عليه وفي منازل أخرى من بيوت العلماء الأعلام في قم و مشهد و شیر از سابقاً.

وبحق أقول: إنه قد قضى شطرة وافرة من عمره الشريف في خدمة الإسلام وخدمة أئمة أهل البيت بالخصوص لا سيما سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه .

محفوظاته الحسينية

أما بالنسبة إلى محفوظاته الحسينية فحدث ولا حرج فقد كان يحفظ

ص: 32

الكثير من المدح والرثاء في أهل البيت عليهم السلام ولا سيما رثاء سيد الشهداء، فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض محفوظاته فيما يلي:

1- من شعر السيد حيدر الحلي، يحفظ الكثير منه.

2- من شعر الحاج هاشم الكعبي، يحفظ ما لا يقل عن عشرين قصيدة.

3 - من شعر الحاج الشيخ حسن الجشي، يحفظ ما لا يقل عن ستين قصيدة.

4 - من شعر السيد جعفر الحلي، يحفظ ما لا يقل عن عشر قصائد.

5 - من شعر الشيخ عبد العظيم الربيعي، يحفظ الكثير منه.

6 - من شعر الشيخ اليعقوبي، يحفظ أكثره.

7- من شعر الشيخ حسن الدمستاني يحفظ أكثره.

كذلك يحفظ أيضأ ما لا يقل عن مائة قصيدة في رثاء الحسين عليه السلام لعدة شعراء .

وأما بالنسبة إلى المدائح والحسكة فيحفظ ما لا يقل عن خمسمائة مقطوعة شعرية كل ذلك يحفظه عن ظهر قلب .

سخائه وكرمه

لقد كان سيدنا المترجم له في قمة الشهامة والسخاء والكرم، بيته في البحرین معروف و مفتوح لزواره وأصدقائه ومحبيه ومبغضيه من العلماء وغيرهم على مختلف مستوياتهم، فتجده يقيم الولائم في المناسبات الدينية ومناسبات مواليد ووفيات الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام.

كما له في كل ليلة اثنين من كل أسبوع جلسة يرتقي فيها الخطباء المنبر الحسيني ويتحدثون إلى الحاضرين عن سيرة سيد الشهداء علیه السلام ثم يذكروا

ص: 33

المصيبة وبعد الانتهاء توضع المأكولات الشهية من جميع الأصناف وذلك في حب سيد الشهداء أبي عبد الله الحسین علیه السلام هذا بالنسبة لما يعمله من الولائم والخيرات للعلماء والمؤمنين الذين يقصدون بيته، أما بالنسبة لما يبذله من العطاء إلى الفقراء والمحتاجين والمساكين والسادات فحدّث ولا حرج.

ولست مبالغ إذا قلت إنه يقوم بدور كبير في العطاء لأهل بلاده لا يقل عن دور المرجع الديني الذي تجبى إليه الحقوق الشرعية في البلاد الأخرى إيران، والعراق، وغيرهما علما بأنه يصرف ذلك إلى المحاجين من ماله الخاص الذي يحصل من خدمة سيد الشهداء علیه السلام .

فتجد عندما ينتهي من الخدمة المذكورة في كل سنة خصوصا في محرم الحرام ويحصل على مبلغ من المال فإنه يقسمه على المحتاجين والفقراء والسادات، سيما أهل بيته وأقاربه، ولا يترك له من ذلك المال إلا مقدارة يسيرة لحاجته الماسة والضرورية لمؤونة السنة، فلم تكن له كغيره هواية جمع المال وادخاره في البنوك، أو كثرة الممتلكات من البيوت والعرصات وغيرها، فلم يوجد له إلا بيت سکناه المتواضع، وليس ذلك لعجز في قدرته المالية، كلا بل لأنه يؤثر غيره على نفسه بما عنده، وإلا فبوسعه وإمكانه أن يجمع ما يحصل عليه من المال من طريق المنبر الحسيني طيلة السنة و بالخصوص ما يحصل عليه في كل سنة من شهر محرم وصفر ويشتري به البيوت والعقارات وغير ذلك، إلا أن نفسه تأبى ذلك فهو يحصل على المال لا بشرط من الخدمة المذكورة وإنما يقرأ على الحسين بشرط القربة

ص: 34

المطلقة إلى الله تعالى، ولذلك فكل ما يحصل عليه من المال من هذه الخدمة يصرفه كله في سبيل الله وفي خدمة مجتمعه وأبناء جلدته وفي خدمة أهل البيت علیه السلام .

وتجدر الإشارة إلى أنه حفظه الله لم يكن يستلم من أهل المجالس شيئا من المال مقدمة على القراءة، وكان يقول: لا أعلم هل إن الله تعالى يوفقني إلى خدمة سيد الشهداء في هذه السنة أم لا ؟ فإذا وفقت لذلك فلا مانع من أن أستلم منكم شيء من المال لا بعنوان الأجرة وإنما بعنوان الإكرام والهدية.

ومن هنا فإنه يصرفه في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته، لأنه يرى أن الخدمة المذكورة هي وظيفة شرعية لا يحق له في المقابل أن يستلم عليها شيء من المال.

ص: 35

الصورة

ص: 36

إجازتين مصورتين بخط من منحها للمؤلف.

الصورة

ص: 37

الصورة

ص: 38

مسالةرقم واحد

اشارة

قال رضوان الله تعالی علیه علی کل مکلف فی عباداته ومعاملاته ان یکون مجتهداً او مقلداً او محتاطاً.

ص: 39

ص: 40

موضوعات البحث في الاجتهاد

اشارة

ص: 41

ص: 42

قوله : « أن يكون مجتهدة » أقول : أن شرح هذه العبارة يعلم من خلال البحث في المواضيع التالية :

الأول : تعريف الاجتهاد في اللغة والاصطلاح بصورة إجمالية .

الثاني : مدرك الوجوب التخييري بين الاجتهاد والتقليد والإحتياط .

الثالث : مدرك جواز العمل بالاجتهاد .

الرابع : أدلة الإخباريين على حرمة الاجتهاد .

الخامس : نقض أدلة الإخباريين على الحرمة المذكورة .

السادس : نقل قول بعض الأكابر الذي يوضح لنا فيه الفرق بين الاجتهاد

الثابت عندنا والاجتهاد المنفي .

السابع : التكلم في أربعة جوانب مهمة يشتمل عليها مبحث الاجتهاد :

أولها : في تعريفه .

ثانيها : في شروطه .

ثالثها : في تقسيمه .

رابعها : في أحكامه .

ص: 43

ص: 44

الموضوع الأول تعريف الاجتهاد في اللغة والاصطلاح بصورة إجمالية

قال في الصحاح والقاموس والمجمع : إن الاجتهاد في اللغة بذل الجُهد و استفراغ الوسع.

و( الجُهد ) بضم الجيم هو المشقة، والوسع والطاقة « وبالفتح » معناه المشقة، فيقال : اجتهد في حمل طاق الرحی، ولا يقال : اجتهد في حمل النواة وربما جاء ( الجهد ) بالفتح أو الضم بمعنى الاجتهاد .

وفي الاصطلاح : قال : العلامة الحلي وابن الحاجب وغيرهما من أكابر علمائنا المتقدمين من الأصوليين : « استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بالحكم الشرعي » أو هو « استفراغ الوسع لفهم التكليف الشرعي » أو هواستفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الفرعي».

قال بعضهم : وعليه فيكون المعنى الاصطلاحي منقولاً من الاجتهاد،بمعنى بذل الجهد بالضم لأنه يكون من نقل الأعم إلى الأخص الذي هوالغالب في المنقولات بخلاف معني بذل الجهد بالفتح، فإنه يكون من نقل اللازم إلى الملزوم، إذ لازم استفراغ الفقيه وسعه هو بذل المشقة والشيءيحمل على الأعم الأغلب.

والمراد باستفراغ الفقيه وسعه هو بذل الطاقة بمقدار اللازم، والمرادبالظن هو الظن المعتبر الذي يكون حجة وإلا فالظن الغير المعتبر بمنزلة

ص: 45

العدم، والتقيد به لإخراج الضروريات واليقينيات، وتقييد الحكم الشرعي الإخراج الأحكام غير الشرعية كالعقلية، وقد أورد بعض العلماء على التعريف المذكور بعض الإيرادات سوف نتعرض إليها وإلى نقضها إنشاء الله تعالى وذلك عند التكلم حول الجانب الأول من جوانب الاجتهاد والذي قد عنوناه في الموضوع السابع بعنوان أولها: في تعريفه، فهناك سوف نتحدث عن تعريف الاجتهاد في اللغة والاصطلاح بصورة أوسع ونكتفي هنا بهذا القدر المشار إليه .

ص: 46

الموضوع الثاني مدرك الوجوب التخييري في العمل على طبق الاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط

اشارة

أقول : قبل بیان مدرك الوجوب التخييري في العمل على طبق الاجتهادأو التقليد والاحتياط ينبغي لنا أن نعرف أولا أن المسألة بكاملها تشتمل على ثلاثة بحوث :

الأول : بحث الاجتهاد .

الثاني : بحث التقليد .

الثالث : بحث الاحتياط .

ولا يخفى إننا قبل الخوض في بحث الاجتهاد قد رسمنا المواضيع التي يدور عليها البحث، وبقيت علينا مواضيع بحثي التقليد والاحتياط نرسمها إنشاء الله تعالى بعد الانتهاء من هذا البحث ثم نشرع في بيانها .

لكن يجب علينا أیضاًأن نعرف بیان ثلاثة أمور مهمة تتضمنها المسألة ولو بنحو الإجمال وذلك ليكون لدينا معرفة كاملة بشرح المسألة.

أولها : معرفة (يجب).

ثانيها : معرفة (على كل مكلف).

ثالثها : معرفة ما هو المراد بالمعاملات .

فنقول : قوله : «يجب» معناه أن الوجوب بمعنى الحكم اللزومي على

ص: 47

فعل شيء يذم على تركه ويحث على فعله حث بالغة أكيدة.

وهو ينقسم إلى: عقلي، وفطري، وشرعي . وكل واحد منها محتمل فيمانحن فيه.

فالعقلي : مناطه وجوب شكر المنعم . والفطري : مناطه وجوب دفع الضرر المحتمل . والشرعي : مناطه الأمر المولوي الشرعي .

قوله : «المكلف» أراد به من جمع شرائط صحة التكليف الشرعية من البلوغ وغيره، والعقلية من العقل والالتفات و احتمال التكاليف وغير ذلك .وقوله : «في عباداته ومعاملاته» أراد بالمعاملات الأعم من سائر الأحكام.

إذا عرفت ذلك بصورة اجمالية فاعلم هنا : أن مدرك الوجوب التخييري أعني وجوب العمل على طبق الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط هو قاعدة لزوم دفع الضرر إذا كان الضرر المزبور من العقوبات الأخروية، أو الأضرار الدنيوية المهمة غير المتداركة، كتلف النفس أو الأطراف .

كما لا يخفى أن الوجوب المذكور فطري ليس مختصة بالعقلاء، بل يعم الحيوانات، فإن الشاة مثلا بمجردإحساسها بالذئب أو احتماله فإنها تفر منه،وهو أیضاًعقلي في نفس الوقت بمناط وجوب شكر المنعم، حيث أن ترك العمل المزبور ترك للشكر، وهو معرض لزوال النعمة ونزول النقمة .

فيكون بناء على ما ذكرنا من الوجوب العقلي الإرشادي مدر که علی ذلك هو قاعدة الاشتغال.

والدليل عليها أمور نذكرها فيما يلي :

الأمر الأول:

إن العبد عند بلوغه حد التكليف يعلم إجمالا بتوجه

ص: 48

تكاليف عليه من الشارع المقدس يستحق على مخالفتها العقاب وإلا لزم إهمال الشارع لعباده فيحكم عقله بوجوب الخروج عن عهدة تلك التكاليف فرارة عن العقاب المذكور، ولا يحصل له الخروج عن عهدتها إلابأحد الأمور المذكورة من الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط فيها، وعلى هذا التقرير يكون الدليل على القاعدة المذكورة هو قاعدة الاشتغال التي مرجعها إلى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني .

الأمر الثاني:

: أن شكر المنعم واجب بحكم العقل خوفا من سلب نعمته وقطع فيوضاته بترك شكره، والمنعم هو المشرع للتكاليف الدينية،وشكره إنما يكون بتنفيذ مآربه وامتثال أوامره وإطاعة نواهيه، وهي إنما تكون بأحد هذه الطرق المذكورة من الاجتهاد والتقليد والاحتياط، وعلى هذا فالواجب المذكور في القاعدة يكون أیضاًوجوبا عقلية من باب وجوب شكر المنعم الذي هو وجوب عقلي .

الأمر الثالث:

: أن مقتضى الجمع بين أدلة التفقه كقوله تعالی :« لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين»وأدلة الأمارات والأصول الآمرة بالرجوع إليها وبين أدلة الاحتياط كقوله علیه السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» وبين أدلة التقليد كقوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْر» هو التخير الشرعي بين هذه الطرق الثلاثة، وعلى هذا يكون الوجوب شرعية طريقياً .

ولكن هذا يتم إذا قلنا أدلة وجوب الاحتياط والتقليد ثبت وجوبهما الشرعي، وهو في غاية الإشكال، لأن الظاهر أن أدلة الاحتياط إرشادية.

والذي ذهب إليه الكثير من علمائنا أن وجوب التقليد عقلي ووجوب

ص: 49

الاجتهاد أیضاًعقلي، ولو فرضنا أن بعضها عقلي وبعضها شرعي كان المراد بالوجوب في القاعدة أعم من الوجوب الشرعي والعقلي .

وأما الدليل على الحصر بهذه الأمور الثلاثة فهو أن يقال: أن التكليف في مقام امتثاله إما أن يأتي العبد بسائر محتملاته أولا والأول هو الاحتياط والثاني أما أن يرجع إلى رأيه أو إلى غيره والأول هو الاجتهاد والثاني هو التقليد .

ولكن هذا الدليل على الحصر لا يتم إلا بضميمة الاستقراء أو بدعوی الإجماع، إلا أن الاستقراء والإجماع لو تما فكل واحد منهما دلیل مستقل على الحصر ولا يحتاج إلى الدليل المذكور، هذا غاية ما يمكن من تقریب القاعدة المذكورة وتوضيحها.

والذي يمكن أن يورد عليها أو أورد عليها به أمور :

الأمر الأول:

: أن هذا التخير منهم إن كان لبيان وظيفة العبد وإن وظيفته العبد في مقام العبودية لا تخلو من أحد هذه الأمور الثلاثة بحکم العقل فهو غير صحيح .

لأن وظيفة العبد هو الرجوع لعقله في كيفية الإطاعة، فما أدى إليه عقله فهو المتبع، فلو أدى عقله إلى العمل بالظن كفاه ذلك، ولو أدى عقله إلى العمل بالاحتياط تعين عليه ذلك، ولا يجوز أن يعدل عنه إلى التقليد أو الاجتهاد.

وإن كان هذا التخيير منهم لبيان التقسيم الواقعي، بمعنى أن العبد في مقام العبودية في الواقع لا يخلو من هذه الأمور، فهو مع أنه خلاف وظيفة

ص: 50

الفقيه غير صحيح، لأن الكثير من العوام يفعل بعض الأحكام كالمعاملات،بل وحتى بعض العبادات بدون هذه الأمور الثلاثة، خصوصا إن كان مرادهم بها الاحتياط الصحيح والتقليد الصحيح والاجتهاد الصحيح،الوضوح أن أغلب العوام في أوائل بلوغهم ليس في أعمالهم عندهم من ذلك شيئا.

فالأولى أن يقال : أنه يجب على المكلف أن يرجع لعقله في تعيين ما هو وظيفته و طریقه في امتثال التكاليف الشرعية.

اللهم إلا أن يقال أن ذلك هو مقتضى الجمع بين الأدلة كما تقدم في الدليل الثالث، أو مقتضى الاستقراء أو الإجماع، ولا يخفى ما فيه، فإن العقل من جملة الأدلة، وهو قد يرى طريقة غيرها أو تعبين واحدة منها، والاستقراء والإجماع غير مسلّمَين .

الأمر الثاني:

: أن العلم الإجمالي بالتكاليف منحل بالعلم التفصيلي بها،ضرورة أن كل أحد يعلم بوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج و حلية البيع ونحو ذلك، وحينئذ فما عدا ذلك من التكاليف يرجع فيها إلى أصالةالبراءة.

وجوابه : أن العلم الإجمالي بالتكاليف لم ينحل بذلك، بل في باق الموارد يكون أیضاًعلم إجمالي بوجود التكاليف فيها، سلمنا، لكن لا مجال لجريان أصل البراءة في باق التكاليف، إذ أن أصل البراءة في الأحكام لا يجري إلا بعد الفحص، ولا أقل من احتمال عدم جریانه فلا يستقل العقل بالبراءة، بل يستقل العقل بالاشتغال والاحتياط لعدم المؤمن له من مخالفة التكليف .

ص: 51

الأمر الثالث:

: إن القاعدة المذكورة لا دليل عليها في المعاملات إذ لا تكليف فيها يحتمل على مخالفته العقاب فلا يحكم العقل بتعيين الوظيفة لها لعدم استحقاقه العقاب فيها .

وجوابه : إن العقل إنما يحكم في المعاملات بالقاعدة المذكورة فراراًعما يترتب على المعاملات من الكاليف فإذا شك في صحة المعاملة احتمل حرمة تصرفه بالمال الذي انتقل إليه بالبيع وغير ذلك .

الأمر الرابع:

: إن القاعدة المذكورة لا دليل عليها في الوقائع التي تكاليفها غير منجزة عليه لكونها غير ملتفت إليها أو ليست بمحل ابتلائه، إذا فسرنا المكلف بالبالغ العاقل كما هو المعروف عندهم .

وأما إذا فسرناه بمعناه الوصفي وهو من كان مكلفة فعلية فلا يرد عليها بالوقائع الخارجة عن محل الابتلاء التي يعلم بأن تكاليفها غير إلزامية عليه،لعدم احتمال العقاب في ذلك .

وهكذا لا دليل عليها في التكاليف اليقينية لاستقلال العقل بوجوب متابعة اليقين والقطع، فالواجب تقييد القاعدة بذلك.

اللهم إلا إذا احتمل أنه بترك التقليد أو الاجتهاد في ذلك عقاب عليه بحيث يعاقب على نفس ترك ذلك، وإن لم يخالف الواقع ولم يعص المولی .

الأمر الخامس:

: إنهم ذكروا أنه لابد في الاحتياط من أن يكون مجتهداً أو مقلداً، لأن مسألة جواز الاحتياط خلافية .

وعليه فالقسمة ينبغي أن تكون ثنائية لا ثلاثية، بأن يقال أن المكلف إما

ص: 52

مجتهد أو مقلد( على رأيهم ) وإن كان الحق أن الاحتياط جوازه عقلي فطري .

ما يستثنى من القاعدة
اشارة

قد عرفت في الإيراد الرابع على القاعدة المذكورة أنه ينبغي أن يستثنی من قاعدة (أن المكلف لابد أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً) الوقائع التي تكون أحكامها معلومة بالضرورة أو باليقين، لحصول المؤمن له عقلاً من العقاب، فلا يحتاج إلى الاجتهاد ولا التقليد، بل لا يصح له الرجوع إلى التقليد ولا إلى سائر الأمارات المجعولة، لأنها إنما جعلها الشارع المقدس للشاك لا للعالم بالواقع ولم يبق موضوع للاحتياط لانكشاف الواقع عنده،والاحتياط يكون مع الجهل بالواقع.

وقد يستثنى من القاعدة المذكورة في مقابل ذلك الوقائع المجمع عليها، ولكن الإجماع إن كان دليلا اجتهادياً لمن حصل عنده فهو مجتهد، وإن لم يكن دليلا اجتهادياً كما لو حصل للعامي فإن حصل له اليقين بالمسألة اجتزی به، لحصول المؤمن له من العقاب والوقوع في خلاف الواقع،فتكون من الوقائع التي أحكامها معلومة وإلا فلا يصح له العمل بالإجماع، لعدم المؤمن له من العقاب لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع.

عمل العامي بدون الأمور الثلاثة إذا طابق الواقع هل يكون مجزياً أم لا ؟

أقول : قد تقدم أنه يجب على المكلف أن يكون مجتهدا أو مقلداً أومحتاطاً في عباداته ومعاملاته، ولا شك أن عمله بموجب الأمور الثلاثة

ص: 53

يكون مجزياً ومؤمناً له من العقوبة.

لكن لو عمل الجاهل بدون الأمور الثلاثة واتفق مطابقته للواقع فهل يكون مجزية له وأنه معذور في عمله أم لا؟

المعروف أن الأصحاب قد اختلفوا في (معذورية الجاهل) على أقوال.

فقول : بعدم معذورية الجاهل مطلقا، سواء طابق الواقع أم لا، مع القصور أوالتقصير.

وقول : بمعذورية الجاهل مطلقا حتى مع عدم المطابقة ومع التقصير ،ونسبه صاحب الحدائق إلى السيد نعمة الله الجزائري.

وقول : بالمعذورية عند المطابقة للواقع، وعدم المعذورية مع عدمها ينسب للأردبيلي رحمه الله.

وقول : بالمعذورية مع القصور دون التقصير وهو المحكي عن الوحيد البهبهاني رحمه الله وينسب للمحقق الثالث .

حجة المشهور القائلين باعتبار كون العمل مستنداً لأحد الطرق المعتبرة وإن الجاهل غير معذور مطلقاً، قاصراً كان أو مقصراً، مطابقأ عمله للواقع أم لا، وجوه أو أمور :

الأمر الأول:

أصالة الاشتغال المقتضية لاشتراط صحة العبادة بتعلم مسائلها الواجبة، وقضية ذلك فساد عبادة الجاهل مطلقاً، وإن كان قاصراً، وإن طابق عمله الواقع لفقدان شرط الصحة، وهو تعلم المسائل الواجبة، فتكون عبادته باطلة، فيجب إعادتها في الوقت وقضائها خارج الوقت .

وجوابه : أن الأصل مقطوع بما أثبته بعضهم بالأدلة الاجتهادية من أن

ص: 54

التعلم ليس بشرط للصحة.

وقد يجاب عنه أيضاً بأنه: غير جار بالنسبة إلى القاصر على مذهب العدلية لكونه غير مكلف بالعلم لعدم قدرته عليه، فإذا أتی بالعمل على طبق الواقع فقد أجزأه .

وفي هذا الجواب ما يمكن للخصم أن يدعي بأن العمل إذا كان مشروطاً بالعلم وهو لم يأت به مع شرطه، فلو تمكن بعد ذلك من تحصيل الشرط وجب عليه إعادة العمل، إلا إذا قيل بأن الميسور يجزي عن المعسور .

الأمر الثاني:

: من أدلتهم أن الجاهل مأمور بتحصيل المسائل الواجبةكما مر، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو عدم الأمر بضده، وعبادته ضد لتحصيل الأمر، فعلى التقديرين تكون عبادته فاسدة.

أما الأول : لتعلق النهي بالعبادة وهو فيها موجب للفساد .

وأما على الثاني : فلأن صحة العبادة تتوقف على بقاء الأمر بها، وبعد تعلق الأمر بتحصيل المسائل ارتفع الأمر بالعبادة، فإن الأمر بالتحصیل دل على عدم الأمر بالعبادة فتكون عبادته فاسدة.

ويمكن الجواب عنه أولاً : بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص ولا عدم الأمر به كما هو المختار .

ثانياً :أنه لا يتم في القاصر لعدم تعلق الأمر بالتحصيل في حقه وإلا لزم التكليف بما لا يطاق، فلم يكن هناك أمر بشيء حتى يدل على النهي عن ضده أو عدم الأمر به.

ثالثاً : أن العبادة قد لا تكون ضد لتحصيل المسائل كما في التروك التي

ص: 55

تجتمع و تجامع كل فعل، فلو قصد الصوم وشرع في تحصيل مسائل الصوم،أو لم يشرع فيها لا يدل الأمر بالتحصيل على النهي عن الصوم وعلى عدمالأمر به، لعدم كونه ضداً له كما لا يخفى .

الأمر الثالث:

: من أدلتهم : أن شرط قصد القربة في صحة كل عبادة لازم، وهو لا يحصل مع الجهل بالمأمور به، إذ لا يتمكن الجاهل من قصد القربة، إذ القربة هو الامتثال للأمر، ولا يدري الجاهل أن ما يريد إتيانه هو المأمور به أم لا، فلا يحصل منه قصد القرية، لا سيما إذا كان عالما بلزوم تحصيل المسائل اجتهاداً أو تقليداً وقصر في ذلك فيكون عمله باطلا، لعدم تحقق الامتثال العرفي للزوم الجزم بالإطاعة، ومع العلم بوجوب التحصيل والأخذ عن المجتهد لا يبقى له اطمئنان بظنه و تقليده، فيصير ما يعتقد كونه مأمور به موهوما فلا يحصل الامتثال العرفي، لأنه لا يحصل إلا بقصدالامتثال، وقصد الامتثال بالفعل لا يحصل إلا بمعرفة أن هذا الفعل هو نفس المأمور به، والمفروض أن الجاهل لا يعلم ذلك.

ويمكن الجواب عنه : بأن قصد القربة يحصل للجاهل مطلقاً .

أما القاصر الذي يعتقد أن ما سمعه من أبيه أو أمه أو معلمه هو المأمور به الواقعي فتحقق قصد القربة في حقه من الواضحات و منکره مکابر .

وأما المقصر الذي علم وجوب تحصيل الأحكام وأخذها من المجتهد وقصر في ذلك فيتحقق قصد القربة في حقه أيضاً، لأن ما يأتي به مع التقصير في أخذ مسائله يحتمل أن يكون مطلوبة وأنه عين ما أمر بإتيانه،ويكفي في تحقق قصد القربة في الفعل احتمال کون ذلك الفعل هو

ص: 56

المأمور به، وقولك: أن قصد الامتثال لا يحصل إلا بمعرفة أن هذا الفعل هونفس المأمور به ممنوع.

نعم ما ينافي قصد القربة هو الجزم بعدم كونه مأمورة به، بل يكفي في تحقق قصد القربة احتمال كون الفعل مأمور به كما يتحقق قصد القربة في فعل يحتمل مطلوبيته ودل على استحبابه دلیل غیر معتبر، و كذلك العمل بالاحتياط حيث يأتي بالمشكوك باحتمال كونه مأمور به .

ولا ريب أن المحتاط والفاعل المستحب الذي دل عليه دلیل غیر معتبر يقصدان القربة لاحتمال کون فعلهما مأمورة به .

فإن قلت : أن المحتاط أو المتسامح يقطعان بكون فعلهما مأموراً به لقوله علیه السلام : خذ الحايطة لدينك، احتط لدينك، وقوله علیه السلام : (من بلغه ثواب على عمل)، فهما يقصدان القرابة بهذا الأمر الثاني المقطوع به لهما .

قلت : أولاً : لو سلمنا ذلك فإنهما كما يقصدان القرية بامتثال الأمر الظاهري من خطاب احتط لدينك وائت بما يحتمل ندبيته كذلك يقصدان القربة بالأمر الواقعي .

ثانيا : لا يتم ذلك في من يأتي بفرد استحباباً ويقصد القربة باحتمال کونه فردا للكلي الذي دل على استحبابه دلیل غیر معتبر، كما لو أخبره فاسق بأن في التختم بالعقيق اليماني ثواب عظيم، وفاسق آخر بأن هذا الفص عقيق يماني فيقصد القربة بالتختم به مع أن (من بلغه ثواب) دلّ على جواز التسامح في المستحبات من الأحكام لا الموضوعات.

مضافاً إلى أن المقصر إذا عصي بالتقصير إلى آخر الوقت فأمُره دائر بين

ص: 57

الترك عن أصل وبين أن يعمل بما يحتمل كونه مأموراً به .

ولا ريب أن مقتضى الاحتياط هو الأخير فيتحقق قصد القربة في حقه القطعه بأن عمله هذا مأمورة به لقوله علیه السلام : خذ الحايطة لدينك.

ثالثا : بناء العقلاء، ألا ترى أنه لو أمر المولی باصطياد غزال وأمره بتحصيل معرفة الغزال من الشخص الخاص وقصر ولم يتعلم منه إلى آخر الوقت فأخبره صبي بأن هذا الحيوان الذي تراه يركض هو الغزال لبادر إلى اصطياده وإن علم كونه عاصيا من جهة ترك الأمر بالتعلم والأخذ عن عينه المولى فهو يقصد الامتثال بصيده مع أنه لم يجزم بكونه غزالا بل يحتمل ذلك عنده .

وبالجملة: أنه لا يشترك في تحقق قصد القربة الجزم بكون الفعل هو المأمور به كما يشهد به الوجدان السليم والطبع المستقيم.

الأمر الرابع:

: من أدلتهم قولهم : الناس صنفان إما مجتهد وأما مقلد،والظاهر إجماعهم عليه وهو ظاهر في بطلان عمل غيرهما كما هو صريح بعضهم، وأن عبادة الثالث فاسدة .

والمفروض أن الجاهل مطلقا ليس بمجتهد ولا بمقلد فتكون عبادته فاسدة بالإجماع المستفاد من قولهم .

ويمكن الجواب عنه أولاً:

: أنه ليس بحديث، بل هو كلام الشهيد ومن تبعه.

ثانياً:

: سلمنا كونه كلام جماعة كثيرة ممن تقدم على الشهيد وتأخر عنه، لكنه لم يبلغ حد الإجماع.

ص: 58

ثالثاً:

: أنه منزّل على الأغلب وإلا فلا ريب في وجود صنف ثالث خارج عن الصنفين وهو المحتاط، ولم يقل أحد ببطلان عمله لكونه غير داخل في الصنفین، بل المحكي أنه صرح بعضهم كالسيد بحر العلوم في المنظومة بصحة عباداته .

نعم لابد للمحتاط في كثير من المسائل أن يجتهد أو يقلد کدوران الأمر بين المتباينين وبين الوجوب والحرمة فيدخل في أحد الصنفین، وإن كان بالنسبة إلى المسائل التي يمكن له الاحتياط غیر داخل في أحد الصنفین،فلما لم يكن حصرهم الناس في الصنفين تاماً لوجود المحتاط، فينبغي أن ينزل كلامهم هذا على العمل الغير المطابق للواقع لا يثمر للعامل إلا إذا كان على سبيل الاجتهاد أو التقليد، ولا يصح ولا يصير سبباً لسقوط القضاء والأجزاء إلا أن يأتيه بأحد الطريقين، وأما المطابق للواقع فصحته لا يلازم أن يكون على أحد الطريقين .

رابعاً:

: اتفاقهم في المعاملات على أن المدار فيها على الواقع ومعاملة الخارج عن الصنفين أي الجاهل صحيحة في صورة المطابقة فليس كلامهم هذا باق على عمومه وإطلاقه .

الأمر الخامس:

: من أدلتهم الآيات الدالة على وجوب التعلم و تحصيل العلم، والأخبار الواردة في ذلك كقوله علیه السلام : (الناس إما عالم أو متعلم، والناس كلهم هالكون إلا العالمون).

وما روي في الفقيه (إن القضاة أربعة والناجي منهم واحد والباقي في النار)، مثل : (بني الإسلام على خمس إلخ) الدالة على أنه لا تنفع الطاعة إلا

ص: 59

أن تكون بولاية ولي الله وبأن يكون جميع أعماله بدلالته إليه، ومثل ما ورد أنه (لا ينفع عمل إلا بالفقه والمعرفة وبالعلم وباصابة السنة).

وما رواه في الكافي في الصحيح قال أبو عبد الله علیه السلام لحمران ابن أعين في شيء سأله : إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون.

ويمكن أن يجاب عنها على ما سيجئ إن شاء الله في وجوب التعلم والمعرفة وإنهما غير واجبين بالذات مع أن بعضها ظاهر في الرد على أهل الرأي والقياس، مع أن ما ورد في أن الجاهل هالك بترك السؤال الكل يقول به، لأنه بترك السؤال وعدم بنائه على أخذ الأحكام عن الطريق المعتبراجتهاداً أو تقليداً في معرض الهلاك، إذ ربما لايصادف عمله الواقع فتكون أعماله باطلة ووجب عليه قضاء عباداته الفاسدة في سبعين سنة ويعسر عليه ذلك فيتركها فيهلك بذلك.

الأمر السادس:

: من أدلتهم : إن التفصيل بين الجاهل الذي طابق عمله للواقع فالحكم بصحته للعمل وبين الجاهل الذي لم يطابق علمه للواقع، فالحكم بعدم صحة عمله، وإثابة الأول دون الثاني مع كونهما متساويين في الأعمال البدنية والحركات والسكنات الاختيارية يستلزم مخالفة القواعد العدلية، لأن مصادفة الواقع في الأول أمرغير اختياري، بل هو حاصل بضرب من الاتفاق، فإذا فرضنا قاصرين أو مقصرين في أول الوقت صليا بصلاة مع تساويهما في الجدوالجهد و العمل فاتفق مطابقة صلاة أحدهما للواقع دون الآخر، فالحكم للأول بعدم وجوب الإعادة والقضاء وإعطاء الثواب دون الثاني مع كون المفروض تساويهما في

ص: 60

الحركات والسكنات الاختيارية يستلزم الظلم للثاني لأن المصادفة للواقع لم يكن باختياره .

ويمكن الجواب عنه : بأن المصادفة لما كانت ترجع إلى الاختيار لكون مقدماتها صح الثواب عليها بخلاف من لم يصادف فإنه لم يتحقق العمل الموجب للثواب منه حتى يستحق الثواب .

وبما أفاده المحدث الجليل فقيه أهل البيت علیهم السلام علی مولانا الشيخ يوسف البحراني : حيث أفاد أولاً: أنه متى قام الدليل من خارج على معذورية الجاهل وصحة عباداته إذا طابقت الواقع، فهذا الاستبعاد العقلي لا يسمع وإن اشتهر بينهم ترجح الدليل العقلي على النقلي .

وثانياً : أن المدح والذم على هذه الحركات الاختيارية إن كان من الله تعالى، فاستواؤهما فيه ممنوع إذ إيجاب الحركات للمدح والذم ليس لذاتهما وإنما لموافقة الأمر وعدمها تعمدا أو اتفاقا، وحينئذ فمقتضى ما قلنا من قيام الدليل على صحة عبادة الجاهل إذا صادفت الواقع فإنه، تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت، وتكون حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف فإنها تكون موجبة للذم لعدم المصادفة .

وثالثاً : أن الغرض من التكليف الإتيان بما كلف به حسب الأمر ومن صادفت صلاته الوقت يصدق عليه أنه أتى بالمأمور به وامتثال الأمر يقتضي الأجزاء .

ورابعاً : أنه منقوض بما وقع الاتفاق عليه نصة وفتوى من صحة صلاة الجاهل بوجوب التقصير فصلی تماماً مع كونها غير مطابقة للواقع، فإذا كان الجهل عذرة مع عدم المطابقة، فبالأولى أن يكون عذراً معها .

ص: 61

وخامساً : بأنه معارض بما صرح به الأصحاب كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية من أن من صلى في النجاسة جاهلا بها وإن صحت صلاته ظاهراً إلا أنها غير صحيحة ولا مقبولة واقعة، فإن للقائل أن يقول فيها أيضا: أنه يلزم خلاف العدل لاستواء حركات هذا المصلي مع حركات من اتفق كون صلاته في طاهر واقعاً في المدح والذم فكيف تقبل إحداهما دون الأخرى، إذ كل منهما قد بني على ظاهر الطهارة في نظره، وإنما حصلت الطهارة الواقعية في أحدهما دون الآخر بضرب من الاتفاق الخارج الذي لا مدخل له.

ومثل ذلك أیضاً: في من توضأ بماء نجس واقعاً مع كونه طاهرة في الظاهر فإن بطلان طهارته وعبادته دون من توضأ بماء طاهر ظاهراً وواقعاً مع اشتراكهما فيما ذكر من الحركات والسكنات، وكون الطهارة والنجاسة واقعا بنوع من الاتفاق دون التعمد خلاف العدل أيضأ والأصحاب لا يقولون به .

وسادساً : لو كان الاتفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الاطلاق كما زعمه لما أجزأ صوم آخر يوم من شعبان عن أول شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك، ويسقط القضاء عمن أفطر يوماً من شهر رمضان لعدم الرؤية ثم ظهرت الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقاً على الخلاف في ذلك، ولو وجب الحد على من زنی بامرأة ثم ظهر كونها زوجته، ولصح شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثم ظهر کونه غصباً، وأوجب القضاء والكفارة على من أفطر يوم الثلاثين من شهر رمضان

ص: 62

ثم ظهر كونه من شوال، وأوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدواناً ثم ظهر كونه ممن قتله قوداً، ولو جب العوض على من غصب مالأ و تصرف فيه ثم ظهر کونه له، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع واللوازم كلها باطلة اتفاقاً .

الأمر السابع:

: من أدلتهم : الجاهل بالعبادة مأمور بطلب العلم و تحصيل المعرفة بالعبادات فعمله الذي أتى به عن جهل عمل بما وراء العلم والعمل بما وراء العلم حرام للعمومات الناهية، وإذا كانت عباداته محرمة منهيا عنها كانت فاسدة، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد فتكون عبادة الجاهل وإن طابقت الواقع فاسدة .

ويمكن الجواب عنه : أولاً:

: بأن النهي عن العمل بما وراء العلم حرام مقدمي غيري لإفضائه إلى خلاف الواقع وإتيانه بما ليس بمأمور به لأنه العمل بما وراء العلم غالبا غير مصیب للواقع وغير موصل إليه، فنهی الشارع عنه لئلا يقع عباده في خلاف الواقع، ولذا في بعض الأخبار (محق الدين).

والحاصل : أن النهي عن العمل بما وراء العلم نظير الأمر بتعلم المسائل عن الطريق المعتبر لإصابة الواقع، فإذا أتی بذي المقدمة وهو المأمور به الواقعي فلا دليل على وجوب الإعادة والقضاء عليه، والنهي المقدمي لايقتضي الفساد.

ثانياً:

: هذا يتم لو قلنا : أن العمومات الناهية مثل: «لا تقف ما ليس لك

ص: 63

به علم» وغيرها معناه النهي عن الشروع في العمل، وإلا فلو قلنا : أنها دالة على حرمة الاكتفاء بما وراء العلم فمعنى الآية الشريفة مثلا: لا تكتف بما ليس لك به علم، فلم يكن في المقام نهياً مقدمياً أيضا، فإن معناه حينئذ أنه إذا أتيت بعمل من غير علم لا تكتف به، بل تفحص في العمل الصادر عنك جهة، فإن كان غير مطابق للواقع فأعده وإلا فلا، فتدبر فإنه تعالى العالم .

الأمر الثامن:

: من أدلتهم : الأدلة على حرمة إتباع الهوى والرأي .ويمكن الجواب عنه : أنها ناظرة إلى لزوم تحصيل الواقع فهي إرشاد إليه، ولو سلمنا فغايتها هو حرمة اتباع الهوى والظن ولا يقتضي ذلك فساد العمل وبطلانه .

هذا مع أنه يمكن أن يجاب عن الجميع بما تقدم من الأدلة على صحته العمل بدون المعرفة فتكون مخصصة وحاكمة على هذه الأدلة، أما حجة القول بالتفصيل بين القاصر والمقصّر فالمعذورية في الأول وعدم المعذورية في الثاني هو الوجوه المذكورة للمشهورة، لكنها مختصة بالمقصر، لأن القاصر لمكان جهله وقصوره وغفلته لا يجري فيه الأدلة المذكورة، إذ هو مكلف بما فهمه وإلا لزم التكليف لما لا يطاق وقد أتی به والأمر يقتضي الإجزاء، فلا يجب عليه الإعادة ولا القضاء، لأنه بفرض جديد والفرض الجديد متوجه إلى من فات عنه فريضة، والقاصر لم يفت منه شيء.

ويمكن الجواب عنها بما مرّ: بأن لزوم التكليف بما لا يطاق لا يرفع إلا الإثم والعقاب، ونحن نقول : بأن القاصر مطلقاً غير آثم ولا معاقب، إلّا أنه

ص: 64

بعدما تفطن بوجوب تحصيل الأحكام وأخذها عن المجتهد الجامع للشرائط، فإن ظهر له المطابقة لرأيه فلا شيء عليه وضع كما لا شيء عليه تكليف وإلا وجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء خارج الوقت وهو مستلزم للتكليف بما لا يطاق، فإن التكليف بالقضاء كما في المقصر ليس تكليف بما لا يطاق كذلك في القاصر .

وأما أصالة عدم وجوب القضاء فهي مقطوعة بالأدلة الواردة مثل : «من فاتته فريضة فليقضها» وغيره، ودعوى عدم صدق الفوات في القاصر لأنه لم يفت منه ما كان مكلفا به عرفا غير سديدة، لأنه إنما خرج عن عهدة التكليف الظاهري .

أما تكليفه الواقعي فلم يأت منه شيئاً، فإن القاصر في زمان جهله كان مكلفة بإتيان الصلاة الواقعية فإذا التفت في أثناء الوقت توجه الأمر بها نحوه لعدم سقوطه عنه، وإن التفت خارج الوقت توجه نحو الأمر بقضائها الصدق موضوع القضاء وهو الفوت.

هذا وقد نسب للمحقق الثالث رحمه الله صحة عمل الجاهل القاصر وسقوط الإعادة والقضاء عنه وإن كان عمله غير مطابق للواقع .

واستدل على ذلك بوجوه :

الأول:

: إن الأمر يقتضي الإجزاء فلا يجب عليه الإعادة والقضاء .

الثاني:

: إن التكاليف إنما تثبت على حسب أفهام المكلفين ولذلك لايشترط في صحة صلاة المجتهد موافقتها للواقع.

الثالث:

: إن الجاهل القاصر لو كان مكلفاً بالإتيان بالعبادات الواقعية وبما يوافق الواقع لزم التكليف بالمحال .

ص: 65

الرابع:

: أنه لا معنی محصل لموافقة نفس الأمر ولم يظهر أن المراد منه هو حكم الله الواقعي الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله، أو ما وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد أو أحد المجتهدين، وما المبين والمميز له وحكم المجتهد بعد اطلاعه بالموافقة وعدم الموافقة أي فائدة فيه لما فعله قبل ذلك؟

وقال : اللهم إلا أن يقال: المراد الحكم بلزوم القضاء وعدمه فيتبع ذلك أي المجتهد الذي يقلده بعد المعرفة فيحكم بأنه فات منه الصلاة أو لم يفت .

وأنت خبير بأن الحكم بالفوات وعدم الفوات تابع لكون المكلف حينئذ مكلفا بشيء ثم فات منه وهو أول الكلام، ومنع صدق الفوات في حق الجاهل الغافل إذ لا تكلف عليه بغير معتقده حتى يصدق في حقه الفوات، وثبوت القضاء في حق النائم والناسي إنما ثبت بالنص وإلا فمقتضی القاعدة عدم لزوم القضاء عليهما .

الخامس:

: عموم الأخبار الدالة على أصل البراءة وعدم التكليف في ما لا يعلمه المكلف.

يمكن الجواب عن الأول: فبأن الأمر إنما يقتضي الإجزاء إذا أتی المكلف بالمأمور به على وجهه، ضرورة أن المكلف بالصلاة الواقعية لا يجزيه بالنسبة إلى هذا التكليف إلا الإتيان بالصلاة الواقعية أو ما جعله الشارع بدلاً عنها .

ولا ريب أن إيتانه بما يعتقد أنها صلاة واقعية إنما يقتضي الإجزاء عنه ظاهراً إذا لم ينكشف له الخلاف ولم يتفطن بوجوب معرفة الأحكام ولم

ص: 66

يتمكن منها إلى زمان موته، أما بعد التفطن والتمكن صار تكليفه بالعبادات الواقعية تنجيزية ففي صورة عدم الموافقة لا يكون ما أتی به معتقدا أنه صلاة مجزيةً عن الصلاة الواقعية .

وعن الثاني : أن المسلم هو كون التكاليف الظاهرية تابعة لأفهام المكلفين وأنها تتبع أفهامهم وتثبت بحسب إدراكهم .

وأما التكاليف الواقعية لاتتبع أفهام المكلفين قطعاً وإلا لزم القول بالتصويب وهو باطل بإجماع الفرقة وأخبارهم، فيتجه وجوب الإعادة والقضاء حین ثبوت التكليف الواقعي بما أتی به مع مغایرته له وعدم مطابقته لما جعله الشارع بدلاً عنه، ولا فرق في ذلك بين القاطع بالحكم وغيره .

فكما أن الجاهل القاصر الظان بعدم جزئية الركوع في الصلاة وأتي بها من غير رکوع، ثم علم أن الركوع ركن وتر که عمداً أو سهواً أو جهلاً مبطل وجب عليه الإعادة أو القضاء، فكذلك لو قطع بذلك فصلی من غير رکوع ثم تبين له الحال وجب عليه الإعادة أو القضاء .

وعن الثالث : أن تكليف الجاهل القاصر بالواقع إذا كان مطلقاً ومنجزاً مستلزم للتكليف بالمحال ونحن لا نقول به .

وأما إذا كان تنجیزه معلقاً على الشعور وزوال غفلته كما هو الشأن في جميع التكاليف الواقعية فلا يستلزم التكليف بالمحال فهي بعد الشعور وزوال الغفلة تصير منجزة، إذا لم يكن مطابقاً لها ولم يأت بها على وجه أمرها وجب عليه الإعادة أو القضاء.

وعن الرابع : بأن المراد بالواقع وإن كان نبت في اللوح المحفوظ ونزل

ص: 67

به الروح الأمين على خاتم النبيين صلی الله علیه وآله إلا أن الشارع جعل له طرقاً كواشفاًعنه مثل العلم الشرعي الحاصل من الاجتهاد والتقليد المعتبرين، فإذا أتی المكلف بعمل من طريق غیر معتبر لجهله بالطرق المعتبرة أو عدم تمکنه منها لم يكن آثماً، لكن بعد التفطن والتمكن يجب عليه الرجوع إلى الطريق المعتبر لتمسك عند ربه في براءة وخروجه عن عهدة التكليف بحجة صحيحة و طريقة معتبرة .

والحاصل : أنه عند انکشاف بطلان الطريق الذي عول عليه في الإتيان بالعمل يجب عليه أولاً الرجوع إلى العلم الوجداني أو ما جعله الشارع حجةله حتى عند التمكن من العلم، فإن لم يتمكن منهما وجب عليه المراجعةإلى العلم الشرعي الحاصل من الاجتهاد الصحيح، وإن لم يتمكن من ذلك أیضاًوجب عليه الرجوع إلى التقليد الصحيح، فإن وجد عمله الذي أخذه من طريق غیر معتبراً موافق للطريق المتعين في حقه فقد خرج عن عهدة التكليف لإتيانه بالواقع، وإن كان بطريق غير معتبر، غاية ما في الباب أنه لوفرض تقصيره في تحصيل الطريق المعتبر وإتيانه بالعمل منه كان متجرياً.

فإذا قلنا بعقاب المتجري كان قد أثم واستحق العقاب لإتيانه بالعمل بطریق غیر معتبر، وإن كان مثاباً ومأجوراً و خارجاً عن عهدة التكليف لإتيانه بالمأمور به الواقعي، وإذا وجده مخالفاً للطريق المعتبر المتعين له وجب عليه التدارك من الإعادة في الوقت وقضائه خارج الوقت ليخرج عن عهدة التكليف بالواقع لما مر من الأدلة التي أقمناها على وجوب الإعادة عند عدم مطابقة عمل الجاهل للواقع .

والفرق بين الجاهل الذي لم يطابق عمله للواقع لا سيما مع عدم التقصير

ص: 68

وبين النائم والناسي غير واضح .

نعم في صورة التقصير يكون آثماً ولا إثم على النائم والناسي مع أنه ربما يمكن أن يقال : أن النائم والناسي أيضاً آثمان معاقبان كما لو أوجد مقدمات النوم الذي لا يمكن معه الإتيان بالصلاة أو أكل دواء موجب للنسيان، لأن ينسی عن الصلاة أو سائر التكاليف .

وعن الخامس : بأن الأخبار الدالة على البراءة مثل (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم، وكل شيء مطلق حتى يرد فيه نهی، ورفع عن أمتي تسعة ومنها ما لا يعلمون) وغيرها، إنما تدل على عدم تعلق التكليف بالواقع تکليفة فعلية على وجه التنجيز فالجاهل الغافل غير منجز عليه الواقع ما دام جاهلاً.

وما برح علم الله تعالی عنه محجوباً فلا يكون مفادها منافياً، لكون الجاهل مكلفة بالواقع تکليفاً معلقاً تنجيزه على الفهم والشعور وزوال الجهل وإلّا لكان مفادها سقوط التكاليف عن الجاهل بها وهو مع كونه فاسداً في نفسه،

للزوم التصويب غير مستفاد من الأخبار ولا يفهم منها من له أدنى دراية .

حجة القول بمعذورية الجاهل التارك للطرق الثلاثة مطلقاً قاصراً أو مقصراً سواء طابق عمله الواقع أم لا.

إن هذا القول في الحقيقة لا يوجد له حجة ولم نجد قائلاً به صریحاً لكن حكاه المحدث الجليل والمحقق النحرير فقيه أهل البيت الشيخ يوسف البحراني في درره عن جمع من الإخباريين منهم السيد نعمة الله الجزائري، والمولى الأمين الاسترآبادي، والشيخ سليمان بن عبد الله

ص: 69

البحراني، والمحدث الكاشاني، والمولى الأردبيلي، والسيد محمد صاحب المدارك إلا إنه اعترف بأن المولى الأردبيلي كلامه ظاهر في التفصيل بين المطابق للواقع وعدمه، وبأن تلميذه صاحب المدارك بعد ما نقل شطراً من كلام أستاذه قال : والمفهوم من كلام السيد نعمة الله طاب ثراه هو المعذورية وإن لم يطابق بمعنى أن يخل ببعض الواجبات أو يرتكب بعض المنهيات جهلاً، ثم إنه بعد حكاية القول بالمعذورية مطلقأ عنهم قال : وهو الحقيق بالاتباع.

قال بعض الأكابر : الأظهر هو الخطأ في القائل بهذا القول في من وجدنا كلماته في هذا المقام عند التأمل حتى يظهر من استدلال الناقل - أي صاحب الحدائق - التفصيل بين القاصر والمقصّر، وكذا يظهر ذلك عن السيد نعمة الله الجزائري، وكأن هؤلاء الأعلام جعلوا محل النزاع هو الجاهل القاصر، ولذا اختاروا القول بالمعذورية مطلقاً ونقله صاحب الحدائق عنهم.

وكيف ما كان الدليل على القول بالمعذورية مطلقأ عندهم من وجوه :

الأول:

: ما حكاه صاحب الحدائق في الدرر النجفية عن السيد نعمة الله الجزائري أنه قال في شرح کتاب غوالي اللئالي بعد نقل ذلك - أي بطلان عبادة الجاهل - عن الشهيدين : ويلزم على هذا بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار وما قاربها، وذلك أن وجود المجتهد في كل صقع وبلد متعذر، لأن صروف الليالي قد أذهبت العلماء ولا بقي من يرجع إلى قوله إلا القليل في بلد من البلدان أو صقع من الأصقاع .

فكأنما برق تألق بالحمى ***ثم انثنى فكأنه لم يطلع

ص: 70

وإذا كان العامي في أقاصي البلدان كيف يتمكن من الوصول إلى المجتهد في أكثر أوقاته؟

فيلزم الحرج على الخلق - إلى أن قال : والناس في الأعصار السابقة واللاحقة كانوا يتعلمون العبادات وأحكامها من الواجبات والسنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد ولا تقليد، والعوام في جميع الأعصار حتی في أعصار الأئمة علیهم السلام علي كانوا يصلون ويصومون على ما أخذوا من الآباء ومن حضرهم من العلماء وإن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد على أن الصلاة المأمور بها شرعا ما كان يتفق إلا من آحاد العلماء، ألا ترى إلى حماد کیف كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة فلما صلى بحضور الإمام الصادق عليه السلام قال: (يا حماد لا تحسن أن تصلي؟!)، فقام علیه السلام فصلی رکعتین تعليما له .

هذا وحماد من أهل الرواية ومن أصحاب الأئمة علیهم السلام ، فما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم علیه السلام على أن الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب و كانت مأخذوة من أهل الإيمان فما السبب في بطلانها؟

وشيء آخر وهو أنهم صرحوا بأنه لا فرق بين تارك الصلاة وبين من أوقعها على غير الوجه المطلوب ولو بالإخلال بحرف من القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود أو غير ذلك مما حرروه في كتبهم.

وأنت إذا اتبعت عبادات عوام المذهب لا سيما في الصلاة ما تجد أحداً منهم إلا والخلل في عباداته خصوصاً الصلاة ولا سيما القراءة مما يوجب بطلانها بكثير، فيلزم بطلان صلاتهم كلها فيكونون متعمدين في ترك الصلاة مدة أعمارهم بل مستحلين تركها، لأنهم يرون أن الصلاة المشروعة هي ما أتوا به وقد حكمتم ببطلانه فهذه هي الداهية العظمى والمصيبة

ص: 71

الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثرهم ووفورهم .

فإن قلت : فما المخلص من هذه البلية العامة ؟

قلت : قد استفاض في الأخبار عن النبي صلی الله وعلیه وآله وأهل بيته علیه السلام : (الناس في سعة ما لم يعلموا) فمن كان جاهلا للأصل أو للحكم يكون داخلاً تحت عموم الخبر فيعذر في جهله حتى يعرف الحكم فيطلبه، وحينئذ فيكون الأولى أن يحصل الضابط هكذا : الجاهل معذور إلا ما قام الدليل عليه والأكثر عكسوا الكلية وقالوا الجاهل كالعامد إلا ماخرج بالدليل .

فلزم ما تقدم من الضيق والحرج، وللنظر إلى ما حررناه وردت الأخبار المتضمنة لقولهم علیهم السلام : (ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا - إلى أن قال . والحاصل أن الجهال معذورون حتی تأتي إليهم علوم الأحكام والمعرفة بها من علماء الدين انتهى كلامه قدس الله نفسه .

أقول : قوله رضوان الله تعالى عليه : الجهال معذورون، بعمومه يشمل القاصر والمقصر وصريح كلماته السابقة في أن الجهال معذورون سواء طابق عملهم للواقع أم لا، فحاصل دلیله هذا أنه لو لم يكن الجاهل مطلقاً معذوراً لزم الضيق والحرج.

وأجيب عنه أولاً: بمنع العسر والحرج في معرفة الأحكام وتحصيلها عن الطريق المعتبر ولو بالتقليد الصحيح، ولا يشترط فيه مشافهة المفتي، بل يكفي الأخذ عن كتابه أو عن واسطة عدل، هذا إذا أراد أن تحصیل الأحكام مستلزم لذلك.

ص: 72

أما إذا أراد أن الحكم بالقضاء على الجاهل عليه عسر شديد، ففيه أولاً :

أنه ليس بعسر إلا في بعض الموارد والحالات التي تكاد أن تكون بحكم العدم لندرتها، وليس هناك حرج نوعي يوجب رفع التكليف من أصله وإنما هو حرج شخصي في بعض الحالات والأوضاع كما في الجاهل أنتنهرم

إذا رجع آخر عمره فوجد أن ما أتبع به أباه ومعلمه مخالفا للواقع .

وثانياً: أن نفس العسر والحرج ليس مما يستقل العقل بثبوته وإلا امتنع وقوعه مع أن التكاليف العسيرة كانت في الأمم السابقة وتوجد في شريعتنا کالجهاد، بل إنما ثبت نفيه بالظواهر والعمومات وهي موهونة جداً باعراض المشهور القائلين بعدم المعذورية .

وثالثا: أن هذا التكليف المعسور في المقصر مسبب من سوء اختياره فهو أقدم على تحمل هذا العسر، وما دلّ على نفي العسر دلّ أنه تعالى لم يجعل حكمة ابتداء معسورة مثل : «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» فلا منافاة.

وأما في القاصر فيندفع بالحكم بلزوم الإتيان بالقضاء على حسب وسعه أي إلى حد لم ينجر إلى العسر لقوله صلی الله وعلیه وآله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وقوله صلی الله وعلیه وآله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوامنه مااستطعتم» وقوله علیه السلام : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» وما بقي عليه يوصي بقضائه فتدبّر .

الثاني:

: من أدلة القول بالمعذورية مطلقاً الأخبار الكثيرة .

منها : ما رواه صاحب الحدائق عن عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : جاء رجل يلبّي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه، فوثب

ص: 73

إليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا له : شق قميصك وأخرجه من رجليك فإن عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجك فاسد، فطلع أبوعبدالله عليه السلام فقام على باب المسجد فكبر واستقبل الكعبة، فدني الرجل من أبي عبد الله عليه السلام وهو ينتف شعره ويضرب وجهه، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : اسکن یا عبد الله، فلما كلمه و كان الرجل أعجمياً، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما تقول ؟ قال كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحد عن شيء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي وإن حجي فاسد وأن علي بدنة، فقال عليه السلام: متى لبست قميصك أبعد ما البيت أم قبل ؟ قال : قبل أن ألبي، قال : فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل أي رجل ركب أمر بحالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعة وصل ركعتين عند مقام إبراهيم واسع بين الصفا والمروة وقصر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس .

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : من لبس ثوب لا ينبغي البسه وهو محرم ففعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو جاعلاً فلا شيء عليه ومن فعله متعمداً فعليه دم.

ومنها : مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعي، قال عليه السلام :تجزیه نیته إذا كان قد نوى فقد تم حجه، ونظير هذه روایات واردة في أعمال الحج بحيث لا تكاد أن تحصى .

ص: 74

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : رجل صام في السفر فقال عليه السلام: إن كان بلغه أن رسول الله صلی الله وعلیه وآله نهی عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه، وبمضمونها بالنسبة إلى الصيام في السفر بجهالة صحيحة العيص وصحيحة أبي بصير وصحيحة عبد الرحمن .

ومنها : ما ورد في النكاح في العدة كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبداً، قال عليه السلام: لا، أما إذا كان بجهالة فيتزوجها بعدماتنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة . بما هو أعظم من ذلك، فقلت :بأي الجهالتين أعذر ؟ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة، فقال عليه السلام : إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله حرم عليه ذلك، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت : هو في الأخرى معذور ؟ فقال عليه السلام: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها.

وبمضمونها روايات عديدة رواها صاحب الوسائل في أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

ومنها : ما ورد في الحدود کموثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل شرب الخمر على عهد أبي بكر وعمر واعتذر بجهله بالتحريم، فسألا أمير المؤمنين عليه السلام فأمر بأن يدار به على مجالس المهاجرين

والأنصار، وقال عليه السلام: من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك، فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله، وبمضمون ذلك في الحدود روایات

ص: 75

عديدة إلى غير ذلك من الأخبار التي ذكرها دليلاً على المقام تركناها خوف الإطالة .

وأجيب : عنها مضافاً إلى أن بعضها ظاهر في الغفلة لا مطلق الجهل والغافل قاصر فهو معذور وأن هذه الأخبار (أولاً) معارضة بالروايات الدالة على عقاب الجاهل كالمروي في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم و برید العجلي أن أبا عبد الله عليه السلام قال : إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، إلى غير ذلك من الأخبار التي هي بمضمونها فلابد من الجمع بينها بحمل هذه على الجاهل المقصر الذي خالف عمله للواقع وحمل تلك على القاصر .

و(ثانياً) أن تلك الأخبار لا بد من الاقتصار فيها على موردها للزوم كثرة التخصيص بالأخبار الدالة على القضاء والإعادة عند مخالفة الواقع جهلاً.

و( ثالثاً ) بأنه لو كان الجاهل مطلقأ معذورة حتى المقصر لزم تضييع الأحكام الدينية إذ لا موجب للبحث عنها ولا داعي لمعرفتها .

الثالث:

: مما استدلوا به : صعوبة معرفة الأحكام الشرعية بالطرق المعتبرة، لأنه إما من طريق الاجتهاد وهو مبني على عدالة الوسائط أو بالتقليد وهو مبني على عدالة المجتهد ومعرفة العدالة صعبة جداً،لأنها لاتحصیل غالباً إلا بمعرفة المحرمات والواجبات، وهم بعد لم يحصلوا شيئاً منها، لأن الغرض أنهم لم يقلدوا ولم يجتهدوا وهكذا لا يمكنهم معرفتهم بالشياع أو شهادة العدلين إذ ليس معلوم لهم حجيتهما.

قال : بعض الإخباريين : أن جماعة من الشيوخ والنساء وسكان القرى والصحارى ومن في طبقتهم لو كلفوا بأحد الطريقين لزم منه التكليف بما لا

ص: 76

يطاق، وحجج الله ما كانوا يأخذون الجهال بأمثال ذلك.

وأجيب: بأنه أريد بذلك خصوص الجاهل القاصر عن إدراك ذلك أوالغافل غير المتفطن كما هو ظاهر الاستدلال بصعوبة المعرفة فهو صحيح،وإن أرادوا مطلق الجهال كذلك سواء كانوا قاصرين أم مقصرين فهو غيرصحيح إذ طرق معرفة العدالة كثيرة وسهلة، منها أن من رأى شخصامواظبة على صلاته في أوقاتها ويكثر الاستغفار يحصل له اليقين العادي بعدالته، ومنها الشياع المفيد للعلم بالعدالة، ومنها أن نوع الواجبات والمحرمات بديهية فلا تحتاج إلى المعرفة بالاجتهاد ولا التقليد، فإذا رأى الإنسان مطيعة لمولاه فيها علم بعدالته علماً عادياً.

والحاصل : إننا بعد عرض مسالك الأصحاب مع أدلتها إنتهينا بعد التأمل والنظر إلى الاقتناع التام بأدلة القائلين بعدم معذورية الجاهل مطلقاً سواء طابق الواقع أم لا في حالتي القصور أو التقصير، وارتأينا بطلان عمل الجاهل المقصر وإن طابق الواقع، وذلك وفاقا لما ذهب إليه المصنف أولاً، و ثانياً : القوة الأدلة المذكورة واعتبارها .

ص: 77

ص: 78

الموضوع الثالث مدرك جواز العمل بالاجتهاد

اشارة

أقول : مدرك جواز العمل بالاجتهاد، هو عموم حجية مدارك الاستنباط من ظواهر ألفاظ الكتاب والسنة لمن عرف مدالیلها وإطلاق حجية خبر الثقة وهكذا سائر الأمارات والطرق، غاية الأمر تقيد حجية الأمور المذكورة بمن يقدر على دفع المعارضات و كيفية علاجها، ولا يخفى أن المجتهد قادر على ذلك.

ولهذا عُرّف الاجتهاد بأنه: « استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الفرعي »، ولا يمكن للإخباريين انكار الاجتهاد بهذا المعنى المذكور، فإنه لابد لهم من إقامة الحجة على الحكم، حتى وإن كان الاجتهاد فسر بتفاسير أخرى.

ومجمل الكلام: فلا ريب في عموم حجية الظهورات و خطابات الكتاب والسنة سنداً ودلالة.

نعم لما كان المقلد غير قادر على دفع المعارضات وعلاجها لم يكن مدارك الاستنباط حجة له. قال بعض المعاصرين : لا ريب في حجية الظواهر من الكتاب والحديث الزاهر .

إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي يدل على جواز الاجتهاد بالمعنى المذكور هو الأدلة الأربعة :

ص: 79

الدليل الأول (الكتاب)

: فقد جاء في كتاب «جامع أحادیث الشيعة» لمولانا الإمام المقدس السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه طوائفا من الآيات الكريمة بعضها يدل على حجية ظواهر الكتاب ووجوب العمل بها، والبعض الآخر يدل على حجية سنة الرسول صلی الله وعلیه وآله وآيات أخرتدل على حجية كلام الأئمة المعصومين عليهم السلام ،وطائفة رابعة تدل بدلالات الالتزام، أو الإشارة ونحوها على حجية أخبار الثقة عن النبي صلی الله وعلیه وآله والأئمة المعصومین علیهم السلام ونحن بدورنا ننقل عنه بعض ما نحتاج إليه من تلكم الآيات الكريمة في طوائف كما يلي :

الطائفة الأولى

: الآيات الدالة على حجية ظواهر الكتاب ووجوب العمل بها نذكر منها ما يلي :

1- قوله تعالى : «وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم» .

2- قوله تعالى : «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ » .

3- قوله تعالى : «هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً ».

4- قوله تعالى : «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم» .

5- قوله تعالى : «وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُم».

الطائفة الثانية

: الآيات الدالة على حجية سنة الرسول صلی الله وعلیه وآله له نذكرمنها النماذج التالية :

1- قوله تعالى : «ْفَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ ».

2- قوله تعالى : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّه» .

ص: 80

3- قوله تعالى : «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» .

4- قوله تعالى : «الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّي» .

الطائفة الثالثة

: الآيات الدالة على حجية كلام الأئمة المعصومین علیهم أفضل الصلاة والسلام نذكر بعضها فيما يلي :

1- قوله تعالى : «أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم ».

2- قوله تعالى : «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ » .

الطائفة الرابعة

: الآيات الدالة بدلالات الالتزام، أو الإشارة ونحوهما على حجية أخبار الثقاة عن النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام نذكر منها ما يلي :

1- قوله تعالى : « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».

2- قوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون» .

3- قوله تعالى : «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون» .

الدليل الثاني (السنة)
اشارة

: ودليلنا على وجوب الاجتهاد وجوازه من طريقها طوائفا كثيرة من الأخبار ذکر صاحب کتاب « أحادیث الشيعة » سیدنا المقدس البروجردي رحمه الله ما يقارب خمسمائة حديث، ونحن بدورنا نذكر بعض ما ذكره السيد المذكور .

أولها

: الأحاديث الدالة على حجية ظواهر الكتاب نذكر منها ما يلي :

1- ما رواه « مجمع البيان » إن هذا القرآن - إلى أن قال :- عصمة لمن

ص: 81

تمسك به ونجاة لمن تبعه .

2- عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل أوله : أي [ للقرآن ]ظهر وبطن فظاهره حكم الله تعالی .

3- عن أمير المؤمنين علیه السلام في وصيته لإبنه محمد بن الحنفية قال : وعليك بقراءة القرآن والعمل بما فيه والزم فرائضه وشرائعه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه .

ثانيها

: الأحاديث الدالة على حجية سنة رسول الله صلی الله علیه وآله نذكر منها ما يلي :

1- عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: عليكم بآثار رسول الله صلی الله علیه وآله وسنته .

2- وعنه عليه السلام أنه قال : حجة الله على العباد النبي صلی الله علیه وآله.

3- عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال جدي رسول الله صلی الله علیه وآله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، وقد بينهم الله عز وجل في الكتاب، وبينتهم في سنتي .

ثالثها

: الأحاديث الدالة على الأخذ بروايات الأئمة المعصومين علیهم السلام نذكر منها ما يلي .

1- قال رسول الله صلی الله علیه وآله : مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.

2- وقال أيضاً: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً .

رابعها

: الأحاديث الدالة على حجية أخبار الثقاة الناقلين عن النبي صلی الله علیه وآله

ص: 82

وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام نذكر منها ما يلي :

1- ما جاء في رجال الكشي من التوقيع الوارد للقاسم العلي وفيه : « لا عذر الأحد من موالينا في التشكيك فيما روي عنّا نقاتنا ».

2- ما جاء في الروايات الكثيرة التي أمر فيها الأئمة عليهم السلام بعض أصحابهم بأن يجلس في المسجد ويعظ الناس . وكما أمروا أن يراجع الناس أبان،أو الثقفي، أو العمري وابنه، وغيرهم.

وإليك بعضها فيما يلي :

1- ما روي عن قول عبد العزيز للإمام عليه السلام: ربما احتاج ولست ألقاك في كل وقت أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟ قال عليه السلام: نعم وظاهر أن قول الثقة في الرواية والفتوی کان معلوماً عند السائل،

وتقرير الإمام عليه السلام له على ذلك يدل على حجية قول الثقة وأخذ معالم الدين منه - أعم من أن يكون بطريق الرواية أو الفتوى - وهكذا في بقية الروايات .

2- ومنها قوله عليه السلام لأبان بن تغلب : إجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك .

3- ومنها قوله عليه السلام حينما سأله ابن أبي يعفور عمن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة ؟ قال عليه السلام: فما يمنعك عن الثقفي - يعني محمد بن مسلم - فإنه قد سمع من أبي أحاديث و كان عنده وجيهاً .

خامسها

: الروايات العلاجية، التي تدلّ على علاج تعارض الروايات،وما به الترجيح، والجمع، وغيرها مما يدلّ بالالتزام على حجية الاجتهاد،والنظر في الأحاديث، واستنباط الأحكام منها .

ص: 83

الدليل الثالث (الإجماع)

: ولا يخفى أنه قولي، وعملي فالقولي محصل مسلم لم يرده إلا جمع من العامة، ولا كلام لنا معهم، وأما العملي وهو المسمى بسيرة الفقهاء . فهو أيضاً مسلم لفقهاء الشيعة من زمان رسول الله صلی الله علیه وآله إلى زمان الأئمة المعصومين علیهم السلام وحتى زماننا هذا يتمسكون في کل مسألة بالآيات والروايات الواردة فيها، ويجتهدون فيها، حتى أن أصحاب الأئمة علیهم السلام كانوا لا يعبأون ببعض الروايات بحجة «أنها من جراب النورة» وهي الروايات الصادرة تقية .

الدليل الرابع (العقل)

: فإنه يلزم العبد المطيع أن ينظر في كلمات المولى تبارك وتعالى، ويميز الخاص عن العام، والمطلق عن المقيد، والوارد والمورود، والحاكم والمحكوم، ويجمع بينها، ويأخذ بما يستنبطه أنه مراد المولى وأمره، فيعمل عليه، لأن على العبد الطاعة، والطاعة متوقفة على فهم كلمات المولى وفهم كيفية الجمع بين متعارضاتها، واستنباط المراد من بينها، وليس الاجتهاد إلا بذل الجهد في فهم الآيات والروايات التحصيل الحكم الشرعي منها، وهو طريق الإطاعة والحاكم فيه العقل .

ص: 84

الموضوع الرابع(أدلة الإخباريين على حرمة الاجتهاد)

اشارة

لقد أوردنا بصورة إجمالية الأدلة على وجوب الاجتهاد أو جوازه، وذلك من الكتاب والسنة والعقل والإجماع، وقبل الخوض في مبحث الاجتهاد بصورة موسعة من ذکر شروطه وأقسامه وأحكامه، تجدر بنا الإشارة إلى ذکر من أفتى من العلماء بعدم جوازه فضلاً عن وجوبه وحجيته بل واعتقد بعضهم بحرمته، والمخالف في ذلك فريقان :

(الفریق الاول).

: علماء العامة في القرون المتأخرة فانسد عليهم باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي القرن السابع الهجري أفتى الفقهاء منهم بوجوب اتباع المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وتحريم ما عداها وصارت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة عندهم، وجرى الخلاف بين المتمسكين بها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية، والأدلة الفقهية حتى أنه لم يول قاضي ولا تقبل شهادة أحد ولا يقدم للخطابة والإمامة للجماعة والتدريس ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب الأربعة .

فكتب لهذه المذاهب الأربعة البقاء من سنة 665ه- في سلطنة الظاهر(ولي برس) والتغلب على غيرها من المذاهب التي كانت عندهم كمذهب سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالمدينة، والشافعي بمكة، والليث بن سعد

ص: 85

بمصر، والأوزاعي بالشام والأندلس، والحسن البصري بالبصرة، وابن جریرالطبري ببغداد، وداود الظاهري في كثير من البلدان الذي عد في القرن الرابع رابع المذاهب بدل الحنبلي، إلى غير ذلك من المذاهب، وحجتهم في ذلك هو إجماع الأمة على هذه المذهب الأربعة.

ثم ما زال فقهاؤهم إلى يومنا هذا يفتون بوجوب اتباعهم، و تحریم ماعداها وللإنسان أن يجتهد في أحد هذه المذاهب بأن يبني على أصوله ويستنبط من اجتهاداته، ويقيس ما سكت عنه على ما نص عليه، ويسمى عندهم بالاجتهاد في المذهب کالمزني، ودونه في المرتبة عندهم الاجتهاد في الفتيا وهو المتبحر في مذهبه، المتمكن من ترجیح قول له على آخر،أطلقهما أو وجه على آخر.

وقد عدوا من المجتهدين في الفتيا من علمائهم النووي : فقد حكي عن الشيخين وسبقهما إلى القول بمثله الرازي .

أن الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد . ونقل ابن حجر عن بعض الأصوليين إنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد، أي مستقل، وهذا السيوطي مع سعة اطلاعه في العلوم ادعي الاجتهاد النسبي لا الاستقلالي فلم يسلم له وقد تجاوزت مؤلفاته الخمسمائة، ومنع بعضهم حتى من الاجتهاد في المذهب .

هذا ولم تبق من العقيدة عندهم إلا عقيدة الأشعري لتقدم السلطان صلاح القائم سنة 564 ه بحمل كافة المسلمين عليها .

ويرد عليهم : أولا

: بعدم وجود الإجماع لوجود مذاهب إسلامية أخرى كالتشيع ونحوه في تلك العصور، ولو سلم فالإجماع إنما يكون حجة

ص: 86

إذا كشف عن دليل قاطع على الحكم، وإلا فهو ليس له موضوعية، ولذا استدلوا على حجية بأن العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع بالحكم إلا عن دليل بلغهم في ذلك كما عن إمام الحرمین .

والمذاهب الأربعة لم تكن موجودة في عصر الرسول صلی الله علیه وآله تا حتی يستكشف من الإجماع عليها وجود دليل من الشرع عليها وعلى نفي ما عداها، وما حكي عن رسول الله صلی الله علیه وآله أن أمتي لا تجتمع على ضلالة، وما هو بمعناه مع ضعفه سنداً لا يعلم شموله لما عدا عصره صلی الله علیه وآله حتى للمواضيع المخترعة.

وثانيا

: إن المسلمين بأجمعهم حتى أصحاب المذاهب الأربعة كانوا مجمعين على جواز الاجتهاد، فلا وجه لمخالفيهم بالمنع من الاجتهاد .

وثالثا

: مخالفة ذلك لصريح القرآن لأمره بالتفقه في الدين على سبيل الوجوب الكفائي .

ورابعا... 87

: أن العقل لا يرى صحة ترك الاجتهاد في الكتاب والسنة والانصراف عنه إلى الاجتهاد في كلمات المذاهب الأربعة مع احتمال الخطأ فيها.

وخامسا

: أنه طالما يوجد من الموضوعات المستحدثة التي لم تكن من ذي قبل بحسب مرور الزمن و تطوره فلو لم يفتح باب الاجتهاد فيها لزم الاحتياط، وفيه من العسر الذي لا تقتضيه سعادة البشر .

ولعل لهذا ونحوه عدل أكابر علمائهم وجهابذة رجالهم عن هذا الرأي

ص: 87

في مؤتمر الدراسات الإسلامية المنعقدة في لاهور سنة 1377 ه- وقرروا وجوب فتح باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية .

الفريق الثاني

: الذي خالف في جواز الاجتهاد هم علمائنا الإخباريون فحرموا العمل به .

وقال شيخنا الأمين الاسترآبادي رضوان الله تعالى عليه أنه مذهب الأقدمين من الإمامية وترجع مخالفتهم في ذلك إلى ستة أمور :

الأمر الأول

: في صحة نفس الاجتهاد من حيث هو اجتهاد، فإنهم يقولون ببطلانه وأنه ورد الدم والطعن عليه من الأئمة علیهم السلام .

الأمر الثاني

: حرمة العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد وأنه ليس بحجة في الأحكام الشرعية، لأن باب العلم بالأحكام الشرعية مفتوح لوجود الأدلة القطعية عليها من دون فرق في أدلتها بين الأخبار المتواترة وبين أخبار الآحاد المودعة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة، لأنها عندهم محفوفة بقرائن تفيد القطع بصدورها ودلالتها ككون الراوي ثقة، وكتعاضد بعضها البعض.

ونقل العالم الورع للرواية في كتابه الذي ألفه ليكون مرجعاً للشيعة وكونها في أحد الكتب الأربعة لشهادة أصحابها على صحة أحاديثها،وتكون الراوي ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح منه، أو ممن وتقهم الأئمة علیهم السلام من غير فرق عندهم في قطعية الأخبار بين الأخبارالمتعلقة بعقائد الإسلام أو بفروعه.

ويقولون : أنه بناءاً على مذهب العامة المنقطع عنهم الطرق القطعية

ص: 88

بالأحكام الشرعية من عدم رجوعهم للأئمة علیهم السلام لا مناص لهم من العمل بالظن الاجتهادي، ولذا عملوا به في زمن الأئمة علیهم السلام فضلاً عن زمن الغيبة .

الأمر الثالث

: مخالفتهم في توقف الاستنباط الأحكام الشرعية على العلوم التي اعتبرها الأصوليون في الاجتهاد من العلوم الأدبية والمنطق وعلم الرجال والأصول، فإنهم لا يقولون بالتوقف عليها .

الأمر الرابع

: مخالفتهم في توقف الاجتهاد على الملكة القدسية، فإنهم لا يقولون باعتبارها في الاجتهاد .

الأمر الخامس

: مخالفتهم في حجية الأدلة ما عدا الكتاب والسنة، بل ما عدا السنة عند الكثير منهم فقد حصر الكثير منهم مستند الأحكام في السنة . وبعضهم أضاف إليها الكتاب، وأنكروا حجية الإجماع والعقل .

الأمر السادس

: إن بعضهم اعترف بصحة الاجتهاد وحجية ظن المجتهد في حقه لكنهم أنكروا حجيته في حق مقلده فحكموا بوجوب الاجتهاد عينة وحرمة التقليد على المكلف، وإن على العامي أن يرجع إلى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم الشرعي والفرعي من الكتاب والسنة .

ومما استدل به الإخباريون أیضاًعلى حرمة الاجتهاد والذم عليه وعلى عدم حجية الظن الحاصل منه وجوهاً نذكرها فيما يلي :

الوجه الأول

: ما رواه علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال : حدثني جعفر عن أبيه عليه السلام : (من دان الله تعالى بالرأي لم یزل دهره في ارتماس).

ص: 89

وفي كتاب المحاسن عنه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم أن قوما من أصحابنا قد تفقهوا و أصابوا علما و رووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون برأيهم، فقال عليه السلام : (لا، وهل هلك من مضى إلا بهذا وأشباهه)، إلى غير ذلك مما ورد عن الأئمة عليهم السلام من المنع عن العمل بالرأي والاجتهاد .

الوجه الثاني

: ما ذكروه من أنه وردت أخبار كثيرة دالة وجوب الاقتصار في أخذ الأحكام عن الأئمة المعصومين عليهم السلام والمنع عن الأخذ من غيرهم، ولا ريب أن أخذ الأحكام من الاجتهاد، وأخذ العامي من المجتهد أخذ من غير حجج الله تعالی .

الوجه الثالث

: وجود الآيات الناهية عن العمل بالظن.

منها : قوله تعالى :« إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّن» .

ومنها قوله تعالى : «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ».

ومنها قوله تعالى : « إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً » ، و غيرها من الآيات والروايات التي نستفيد منها القطع بالمنع عن العمل بالظن .

الوجه الرابع

: أن العمل بالظن قبیح عقلاً لمخالفته للواقع غالباً فلا يعقل جعل الشارع له حجة للملازمة بين العقل والشرع.

الوجه الخامس

: أن العلم حجة باتفاق القريقين والظن لم يقم دلیل على حجيته .

الوجه السادس

: ما جاء عن الرضا عليه السلام أن لكلامنا حقيقة وعليه نور

ص: 90

فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك للشيطان .

وقد حکی تواتر ذلك عن المعصومين عليهم السلام والمراد بالنور هو العلم لما اشتهر أن العلم نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء .

الوجه السابع

: أن الروايات قد عرض الكثير منها على الأئمة عليهم السلام وكذا الكتب ككتاب عبد الله الحلبي الذي عرض على الصادق عليه السلام، و ككتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الإمام العسكري عليه السلام، والأصحاب قد نقدوا والأخبار وهذبّوها فلو كان الظن حجة لما صنعوا ذلك ولعملوا بكل خبر لأنه يفيد الظن، فلابد أن يكون عملهم هذا لتمييز ما يفيد العلم من الأخبار عن غيره .

الوجه الثامن

: أنه قد تواتر « أن حلال محمد صلی الله وعلیه وآله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة ».

ولو جعلنا الظن لم يكن الأمر كذلك لتبدل الظن وتغيره، فقد يظن المجتهد بحرمة شيء ثم يتبدل ظنه بحليته وقد يعكس الحال فلم يكن الحلال حلال إلى الأبد، ولا الحرام حراماً إلى الأبد.

ومن هنا يتولّد عندنا الشكل الأول على بطلان العمل بالظن الاجتهادي وهو أن كل حكم اجتهادي قابل للتغيير و كل قابل للتغيير مناف للشريعة الإسلامية الأبدية، فكل حكم اجتهادي مناف للشريعة الإسلامية الأبدية .

الوجه التاسع

: أن الشريعة الإسلامية قد ثبت أنها سهلة سمحة فكيف تكون مبنية على استنباطات صعبة مضطربة ؟

الوجه العاشر

: أن جواز الأخذ بالظن يؤدي إلى تسهيل العذر لليهود

ص: 91

والنصارى ونحوهم بدعواهم حصول الظن لهم بملتهم.

الوجه الحادي عشر

: أنه يلزم من جواز العمل بالظن إثارة الفتن، وإقامة الحروب، وسفك الدماء، وقتل النفوس كما هو المشاهد .

قال ابن أبي الحديد في مقام الاعتذار عن الحروب والفتن الواقعة بين الصحابة : أن السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالی .

الوجه الثاني عشر

: أن الظن الاجتهادي يختلف باختلاف الآراء والأذهان والأحوال و مدار که غير منضبطة، وكثيرا ما يقع فيه التعارض واضطراب الأنفس فإنه قد رجع كثير من فحول العلماء عما أفتى به، فهو لا يصلح أن يجعله الله تعالی مناطاًلأحكامه المشتركة بين الأمة إلى يوم القيامة.

الوجه الثالث عشر

: أن الظن الحاصل بالاجتهاد مبني على حصول الملكة القدسية التي اعتبروها في معنى الفقيه والمجتهد، وأيضاً اعتبروا في الاجتهاد بذلك الوسع بقدر مخصوص .

ولا يخفى على اللبيب أن الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران مخفیان غير منضبطين فلا يصلحان أن يكونا مناطاً للأحكام .

الوجه الرابع عشر

: إنه لو جاز العمل بالظن الاجتهادي في حين أنه يستلزم جواز الخطأ لم تجب عصمة الإمام عليه السلام لأن وجوبها مبني على أنه يجب على الله تعالى إيصال العباد إلى الأحكام الواقعية .

وبعبارة أخرى: إن اعتبار العصمة في الإمام عليه السلام لأجل تحصيل الواقع والأمن من الوقوع في خلافه لينقطع به العذر للأنام .

ص: 92

وهو يقتضي عدم جواز الأخذ بالظنون الاجتهادية لعدم تحصيل الواقع بها ولا يأمن من مخالفتها للواقع.

وإن شئت قلت : أن دليل العصمة القبح من الحكيم أن يوجب على كافة الخلق الرجوع إلى من يجوز عليه الخطأ وتجويز الشارع الرجوع إلى الظن معناه تجويز الحكيم الرجوع إلى ما فيه الخطأ .

وهذا الإيراد أورده رئیس المشككين الرازي على الإمامية، وذكره صاحب الفوائد المدنية .

الوجه الخامس عشر

: إن قاعدة اللطف وهي الوجوب على الله تعالى أن يصنع ما يقرب العبد للطاعة ويبعده عن المعصية تقتضي أن يفتح الله تعالى باب العلم بالأحكام الشرعية كما تقتضي بعث الأنبياء ونصب الأوصياء، فلا بد على الله تعالى أن يدل على الأحكام الواقعية وأن يحفظ الأدلة عليها من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع كالخطأ،والنسيان، والضياع، والدس فيها فبواسطة قاعدة اللطف يحصل لنا العلم بالأحكام الشرعية من الأدلة، أو يقال أن التكليف بتحصيل العلم بالحكم الشرعي لطف، والتكليف بالظن خلافه فيجب على الله تعالى الأمر بتحصل العلم .

الوجه السادس عشر

: أن المجتهدين قد يعملون بالقياس و نحوه ويتركون العمل بكثير من أخبار الأئمة عليهم السلام .

الوجه السابع عشر

: إن مذهب الإخباريين أوفق بالاحتياط لأنه أخذ، بالعلم واليقين .

ص: 93

الوجه الثامن عشر

: ما روي حتى كاد أن يكون متواترة عنهم علیه السلام أنه ليس شيء من أحكام الله إلا وقد جاء به كتاب أو سنة .

ففي الكافي عن عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول : إن الله تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الناس إلا وقد جاء فيه کتاب و سنة ،و کفی قول الله تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ » .

وعليه فلا وجه للعمل بالظن الاجتهادي، لأن محل الاجتهاد ما لم يكن دلالة قطعية على الحكم وقد دلت هذه الروايات على أن لكل واقعة تحتاج إليها الأمة دلالات من أهل العصمة وبعد ذلك فأي حاجة إلى بذل الجهد في استنباط الأحكام وتحصيل المقدمات .

الوجه التاسع عشر

: إن الاجتهاد موافق للعامة ومخالف لطريقةالأئمة علیهم السلام الخاصة، وقد تواتر أن الرشد في خلافهم.

الوجه العشرون

: إن الطريقة المستمرة بين أصحاب النبي صلی الله وعلیه وآله والأئمة عليهم السلام إنهم إذا سمعوا آية أو رواية يعملون بها من غير تأمل أو فحصولا قراءة علوم أخر، وهكذا كان الأمر إلى زمان الصادق عليه السلام فكان بعض أصحابه يجمعون بعض الأخبار المتعلقة ببعض الأحكام يسمونه بالأصل فكان الجامع ومن عنده يعملون به من دون فحص أو تحصيل أو مقدمات .

کیف و خطابات الشارع مثل الخطابات العرفية فإن العرب في عرفهم إذاخاطبهم أحد يعملون بمقتضى ما فهموه من الخطاب من دون توقف على فحص أو مقدمات واجتهاد .

ص: 94

الوجه الواحد والعشرون

: أنه لو كان أخذ الأحكام موقوفاً على السعي والاجتهاد والمقدمات لبينها الأئمةعليهم السلام بل الأخبار الدالة على وجوب العمل بأحاديثهم من غير اشتراط شيء يدلّ على عدمه .

ص: 95

ص: 96

الموضوع الخامس نقض أدلة الإخباريين

اشارة

لقد تحدثنا فيما سبق عن جواز العمل بالاجتهاد وحجيته، وذكرنا أن هناك من خالف في ذلك وهم فريقان :

(الفريق الأول)

: العامة في القرون المتأخرة فانسد عليهم باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية .

(الفريق الثاني)

: الذي خالف في جواز الاجتهاد هم الإخباريون من علمائنا فإنهم حرموا العمل به.

ثم إننا قمنا بعرض موجز من أدلة الطرفين أو الفريقين وأجبنا في نفس الوقت عن أدلة الفريق الأول وهم العامة، وبقي علينا الإجابة عن أدلة الفريق الثاني وهم الإخباريون، وقد حان وقت الإجابة عليها فلنستعرضها فيما يلي :

جواب الدليل الأول

: من جنبتين:

أما الأولى: فخلو المذكور من الأخبار عن الاجتهاد، وإنما كان المذكور فيها العمل بالرأي وباطل عندنا كالعمل بالاستحسان.

وأما الثانية: فلو سلمنا وجود الاجتهاد فيها فالمراد منه هو استنباط الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية كما لو استنبط حكماً شرعياً بالقياس أو

ص: 97

الاستحسان أو الرأي أو المصالح المرسلة في مقابل الأئمة علیهم السلام .

قال المجتهدون من علمائنا الأعلام : ويدل على ذلك ما رواه ابن مسکان عن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله علیه السلام : (إن الناس سلكوا سبلاً؟ شتی فمنهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برأيه وإنكم أخذتم بما له أصل) يعني الكتاب والسنة، وقوله علیه السلام: (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أغنتهم عن السنن أن يحفظوها)، وقوله علیه السلام : (في أصحاب الرأي استغنوا بجهلهم وتدابيرهم من علم الله واكتفوا بذلك دون رسول الله صلی الله علیه وآله و القوام بأمره، وقالوا لا شيء إلا ما أدركته عقولنا).

فإن هذه الأحاديث الشريفة تدل على الأخذ بما له أصل، ليس أخذا بالرأي ولا عملا بالظن بل هو أخذ بالكتاب والسنة .

والحاصل : إن العمل بظواهر الكتاب والسنة ليس إلا أخذ بالكتاب والسنة كما هو الشأن في كل من يأخذ بكتاب أو بقول، فإن أخذه له هو العمل بظاهره .

نعم الاستحسانات والقياسات والتخريجات الغير المنتهية للعلم يكون طرح للكتاب والسنة .

وبعبارة أخرى نقول: إن الإجتهاد نوعان:

أحدهما : أخذ الأحكام الشرعية من غير الأدلة الشرعية كالقياس ونحوه.

والثاني : اجتهاد في أخذ الحكم من الأدلة الشرعية.

والمنظور في التحريم هو الأول وهو الذي أجمع علماء الإمامية على بطلانه، ويحمل عليه تصريح الشيخ المفيد في المجالس، وشيخنا الطوسي في

ص: 98

العدة والمرتضى في الذريعة، و كذلك في كتابه الشافي، وابن قبة وغيرهم، لأنه هو الذي كان في قبال الأدلة الشرعية دون الثاني فإنه عمل بالأدلة الشرعية.

ولذا تراهم في رده يقولون : إنه اجتهاد في مقابل النص ويقرنونه بالقياس وقد يعبرون عنه بالرأي.

جواب الدليل الثاني

: قال النراقي رحمه الله في رده والإجابة عليه : أنه لا ينافي توقف أخذ الأحكام من كلامهم علیهم السلام على العلم بالمقدمات التي

يتمكن بها من الاستنباط من حديث آل محمد علیهم السلام وحديثهم صعب مستصعب لا يحتمله كل أحد، وفيه عام و خاص، ومطلق ومقید، و محکم و متشابه و تقية، فهذه الأخبار لا تدل على أن أخذ الأحكام من أخبارهم لا يتوقف على شيء.

نعم تصلح هذه الأخبار للرد على اجتهاد العامة لأخذهم الأحكام من مقدمات عقلية وقياسية واستحسانية من غير توسط الكتاب والسنة، وأما اجتهادنا فغير خارج عن أخذ الأحكام عن الكتاب والسنة غاية الأمر قد استنبطها الماهرون المجتهدون من ظواهر الكتاب والسنة بصريح الدلالة أو فحواها أو بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو الإيماء أو الإشارة أو المفهوم أو المنطوق أو بالأولوية أو النص على العلة أو الملازمة العقلية .

جواب الدليل الثالث

: إن هذه مخصصة بالأدلة القطعية التي قامت على حجية الظن في الأحكام الشرعية حتى دليلهم الانسداد فإنه أخص نظیر تخصيصها بالأدلة التي قامت على حجية البينة واليد و سوق المسلمين .

جواب الدليل الرابع

: قال المجتهدون : إنه لو كان المراد به أنه

ص: 99

قبيح مع عدم جعل حجيته فهو مستم، وإن كان المراد أنه قبيح مع جعله حجة، فهذا خلاف الوجدان بحكم العقل بحسن العمل بالحجة المجعولة من قبل المشرع للحكم فإن بناء العقلاء وحكم العقل بجواز العمل بما يجعله المولى طريقاً للواقع، وإن كان المراد عدم إمكان جعله حجة كما نسب ذلك إلى ابن قبة .

فقد بين الأصوليون بطلانه في مباحث حجية الظن على أنه مخالف لما ذهب إليه الخصم من جعل الظن حجة في الموضوعات كقيم المتلفات، وأرش الجنايات، وأضرار الصوم بالمريض، وعدد الركعات، و تعیین جهة القبلة، ودعوى أنه لولا جعل الظن في المذكورات للزم الحرج بخلاف ما نحن فيه، فاسدة، فإن الحرج أيضاً لازم علينا لو لم يجعل الظن في الأحكام حجة علينا لعدم حصول العلم لنا من الأخبار والكتاب وإن فرض حصوله منها للخصم .

مضافاً إلى أن الحرج لا يرفع محالية الجعل ويقلبها إلى إمكان الجعل وفعليته .

جواب الدليل الخامس

: أن علمائنا الأصوليون قد تعرضوا إلى أدلة حجية الظنون في علم الأصول مفصلاً و كون العلم حجة عند الفريقين لا يوجب عدم حجية غيره وإنما الذي يوجب عدم حجية الغير هو عدم قيام الدليل عليها، والعلماء إنما يقولون بحجية ظن المجتهد الذي قام الدليل على اعتباره .

جواب الدليل السادس

: قال العلماء : أنه لو كان المراد كما فهمه

ص: 100

الخصم، فلماذا كان أصحاب الأئمة علیهم السلام يعرضون الروايات على الكتاب والسنة، فإن النور لا يخفى على أحد.

اللهم إلا أن يكون النور يظهر للإخباريين فقط دون غيرهم، وعليه فلا بد الغيرهم من الرجوع للظن إذ لا طريق لهم للتكاليف سوى الظن .

ولعل المراد أن لبعض كلماتهم دلالة على أنها لهم كآيات الكتاب الشريف الدالة على أنها منه .

جواب الدليل السابع

: قال المجتهدون : إن عرض الروايات ونقدها وتهذيبها لتمييز ما هو مفيد للظن المعتبر عن غيره وخوفاً من الخطأ فيها لا لتميز ما يفيد العلم عن غيره كما هو الحال في هذا الزمان .

جواب الدليل الثامن

: أجاب العلماء المجتهدون : بالنقض عليهم إذا عملوا بالعام الدال على الإباحة ثم وجدوا بعد ذلك المخصص له أو فهموا من الخبر شيئا ثم عدلوا عن ذلك لفهمهم خلافه .

وبالحل بأن المراد به الأحكام الواقعية فإنها هي حلال محمد صلی الله وعلیه وآله وحرامه الذي لا يتغير بتغير الزمن خلافا للقائلين بالتصويب .

وأما الأحكام الظاهرية فلا مناص من اختلافها بحسب اختلاف الآراء والأحوال والعلم والجهل، كما إذا وجد المسلم شيئاً في سوق المسلمين فحكم بحليته، ثم بعد ذلك ظهر حرمته أو أخذ لحمة من يد مسلم فحكم بأنه حلال ثم ظهر حرمته أو أجرى اصالة الطهارة في شيء ثم بان نجاسته .

جواب الدليل التاسع.

: قال الأصوليون : إن سهولة الشريعة لاتجوز طلب العلم والقطع بها كما يرومه الخصم لعسر ذلك من جهة قدم

ص: 101

العهد بالأئمة الأحد عشر عليهم السلام وحصول الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الشريف الفداء، بل حتى في أيام الأئمة عليهم السلام السابقين بعد أمير المؤمنين عليه السلام، لأنهم في الغائبين صلوات الله عليهم أجمعين .

ثم أي حرج وضيق في ترتيب الأحكام على الظنون بل الحرج والعسر يكون بالإلزام بتحصيل العلم بالأحكام الشرعية لاختلاف الروايات وضعف القرائن وغير ذلك ما يوجب عدم إمكان القطع بالأحكام.

جواب الدليل العاشر

: قال الأصوليون : إنا لو جوزنا العمل بالظن في الأصول أمكن الإيراد المذكور لكن نحن نقول به في الفروع، وإنا نقول التعذيب على التقصير في تحصيل العلم بأصول الدين .

جواب الدليل الحادي عشر

: قال الأصوليون : إنا لا نرى في اجتهاد المجتهدين مع كثرته عندنا ما يترتب عليه ذلك إلى زماننا هذا فكيف يدعي إنه من المشاهد له ذلك ؟

ولعل نظر المستدل إلى العامة في حربهم أهل الردة وأخذهم فدك وقتلهم بعض الصحابة، وقتل الإمام الحسين عليه السلام، ولكن هؤلاء إنما عملوا حبا للرئاسة والملك، ولو كان ذلك في نظرهم اجتهاداً وحاشا أن يكون ذلك اجتهاداً حتى في نظرهم فهو اجتهاد باطل، لأنه لم يكن مستنداً لدليل ولا لتبصر و تأمل و تفحص في الحكم الشرعي، فلا يكون قدحا في الاجتهاد الصحيح ، كما أن الأعمال القبيحة الصادرة عن العلم الباطل لا تكون قدحاً في العلم الصحيح.

ص: 102

والاجتهاد المذكور كان منهم في مقابل النص والقطع، ونحن کلامنا في الاجتهاد في معرفة النص والدليل الصحيح .

جواب الدليل الثاني عشر

: قال الأصوليون في جوابه : إن العلم أیضاًكذلك، فإنه يختلف باختلاف الآراء والأذهان و مدار که غير منضبطة على أن المدارك للظن الاجتهادي عندنا منضبطة وهي الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ثم بعد قيام الحجة على العمل به من المشرع الأعظم أي محذور في ذلك خصوصا مع عدم تمكننا من العلم بالواقع فتكون شبهة في مقابل البداهة .

جواب الدليل الثالث عشر

: قال الأصوليون : أنها تعرف بآثار التصرف و تکرار مواردها وصحة لوازمها الموجبة لشهادة أهل العلم وهي قريبة من ملكة العدالة نسب هذا إلى المرحوم السيد نور الدين .

وقال مولانا کاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه ولا خفاء فيها لدلالة الآثار عليها وإلا لم يميز الكريم من البخيل ولا الشجاع من الجبان، ولا الذكي من البليد.

والحاصل : أنه إن أريد الخفاء على المجتهد فممنوع، وإن أريد الخفاء على المقلدين فلا مانع، لأن المقلد لا يجب عليه إلا معرفة أن هذا مجتهد ولو بنحو الإجمال بالبينة ونحوها .

جواب الدليل الرابع عشر

: قال الأصوليون : أن بالعلم أیضاًيقع الخطأ، فالإشكال الوارد فيه مشترك بالحل، أن الإمام له مقام يقتضي العصمة دون المجتهد فإنه ليس له هذا المقام .

ص: 103

إذ الإمام يخبر عن الله ورسوله من دون واسطة فلا بد من العصمة ليعلم بعدم خطأه واشتباهه، وإلا لأحتاج إلى إمام آخر يرشده وهلم جرا، فيلزم التسلسل بخلاف المجتهد، فإنه يأخذ من الأدلة المعتبرة عنده علم أو ظنا وهي ممكنة المخالفة للواقع حتى القطعي منها.

جواب الدليل الخامس عشر

: قال الأصوليون بالنقض :

أولاً : بأن الإخباريين أنفسهم قد يختلفون في الأحكام الشرعية،

كالصدوق رحمه الله فإنه جوز القنوت بالفارسية كما في المحكي عن الفقيه مستدلا عليه بكل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وبصحيح ابن مهزیار قال : سألته عن الرجل يتكلم في صلاة الفريضة بكل شيء يناجي به ربه ؟ قال عليه السلام:(نعم).

وخالفه في ذلك جملة من الإخباريين ومنهم صاحب الحدائق رضوان الله تعالی علیه مدعيا أن معنى الحديث هو جواز الدعاء لكل شيء من المطالب لا باعتبار اللغات المختلفة، إلى غير ذلك من الاختلافات بينهم يجدها من يرجع إلى كتبهم.

فلو كانت الأدلة محفوظة من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع لما وقع بينهم هذا الاختلاف في الأحكام الشرعية .

ثانيا : بالحل بأن قاعدة اللطف إنما تقتضي أن يكون ما يرجع أمره إلى الله تعالى من الدلالة على الواقع أن يصنعه، من إرسال الرسل ونصب الأوصياء وإظهار المعاجز الموجبة للعلم بصدق مقالتهم وعصمتهم عن الخطأ والخطئية، وليس عليه أن يرفع ما يحدثه العباد من الموانع لعدم

ص: 104

اطلاعهم على الواقع من قتلهم الأئمة علیهم السلام وعدم رجوعهم إليهم، والافتراء عليهم، والدس في أحاديثهم، وأخطائهم وسهوهم في نقلها .

وبعبارة أخرى: إن قاعدة اللطف إنما تقتضي على الله تعالى أن يفعل بعض الأمور التي تقرب العبد للطاعة لا مطلقا وإلا لوجب على الله أن يجعل في العباد الإرادة لامتثال التكاليف وصرفهم عن المعاصي، وإنما يجب عليه من تلك الأمور خصوص ما يرجع أمره إليه، ولا يتمكن العباد عليه .

أما الأمور التي تقرب العبد للطاعة والبعد عن المعصية التي يتمكن العباد منها فلا يجب على الله تعالى فعلها كجبر العباد تكوينا على الرجوع إلى الرسل والأئمة عليهم السلام، وسلب قدرة العباد على قتلهم عليهم السلام ، و تشريدهم عليهم السلام وإخراس العباد عن الكذب عليهم، وجعل العصمة في العباد عن الخطأ في نقل الأدلة على التكاليف فإن هذه الأمور لا تقتضيها قاعدة اللطف كما يشهد بذلك الوجدان والبرهان، فإن على الله تعالى الإحسان وما عليه لو أوقعنا أنفسنا في الحرمان وقد دون هذا في كتب علم الكلام .

ودعوى أن يجاب تحصيل العلم من اللطف . فاسدة، لأن إيجاب تحصيل العلم بالأحكام في هذا العصر يوجب تضييع أغلب الأحكام لعدم تیسر العلم بها .

جواب الدليل السادس عشر

: قال العلماء الأصوليون : أن دعوی الإخباريين علينا بأننا قد نعمل بالقياس باطلة بل افتراء منهم على الأصوليين، لأن المعروف عنهم إنهم منعوا أشد المنع من العمل بالظن الغير المعتبر، فكيف يعملون بالقياس الذي قام الدليل القطعي من الأئمة عليهم السلام على المنع بها :

ص: 105

منه أشد المنع؟

جواب الدليل السابع عشر

: نقول في جوابه : إنهم إن أرادو أن الأخذ بالقطع أرجح من الأخذ بالظن الغير المعتبر مع التمكن من العلم، فهومما لا نزاع فيه، وإن أرادوا أن ذلك أرجح مع عدم التمكن من العلم بحيث إن الإنسان في هذه الصورة لا يأخذ بالظن أیضاًفهو باطل، لأنه مستلزم الأحد أمرين:

إما تکلیف ما لا يطاق وهو التكليف بتحصيل العلم، وإما ارتفاع التكاليف عنه .

وإن أرادوا أن ذلك أرجح مع الظن المعتبر فهو غير مسلم، فإن المشرع إذا كان بنفسه أكتفي بالظن عن العلم فأي رجحان إلزامي للعلم على الظن المذكور، على أن الأوفق بالاحتياط هو حكم من لا يأخذ بالرواية إلا بعد الفحص عن المعارض والمقيد، والبحث عن السند والترجيح بالمرجحات،الا من يعمل بالرواية من دون فحص عن المعارض والموافقة للعامة وعمل المشهور بها ونحو ذلك . كما قال بعض العلماء: إن الآخذين بالاحتياط هم المتأملون المتدبرون فيما يصلهم من الأخبار ولا يعولون عليها إلا بعد أن ينقدوها نقد الدرهم والدينار ولا يسمعون كل ناطق، وهم المجتهدون الذين أشغلوا أنفسهم في الليل والنهار وصرفوا الأعمار في معرفة الصحيح من الأخبار، وعرضها على كتاب الله وسنة النبي المختار صلی الله علیه وآله ، ولم يقلدوا في نقدها المحمدين الثلاثة محمد بن يعقوب الكليني رضوان الله تعالی عليه، ومحمد بن علي بن بابويه القمي قدس سره ، ومحمد بن الحسن الطوسي عليه الرحمة والرضوان وغيرهم.

ص: 106

جواب الدليل الثامن عشر

: قال العلماء في الجواب عنه ولكن نحن بأعمالنا وسوء تصرفاتنا ضيعنا ذلك .

وقد ورد عن أبي الحسن عليه السلام : (إن الله تعالی لم يقبض نبيه صلی الله علیه وآله حتى أكمل له دينه وإنه مخفي عند أهل بيته).

وجاء عن المعلی بن خنیس عن أبي عبد الله علیه السلام : (ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب أو سنة ولكن لا تبلغه عقول الرجال) .

هذا مضافاً إلى عدم المنافاة بين وجود الأحكام في الكتاب والسنة وبين اختصاص فهمها بشخص معين وهو من اجتهد فيها، ألا ترى أن الله تعالی يقول : «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ في كِتابٍ مُبين» مع أنه لا يفهم ذلك إلا الراسخون في العلم.

جواب الدليل التاسع عشر

: نقول في جوابه إن الاجتهاد بمعنی التعويل على القياسات والاستحسانات والاعتبارات فهو مما ندين الله تعالی ببطلانه .

أما الاجتهاد بمعنى أخذ الأحكام عن أدلتها المعتبرة على النهج الصحيح فهو ما يريده الأئمة علیهم السلام وأمرونا به من أنهم علیهم السلام قالوا : (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع عليها)، كيف والاجتهاد بالبحث عن المعارض أو المخصص أو الناسخ أو الموافق للكتاب أو للعامة، وعن حقيقة اللفظ ومعانيه لازم للأخذ بكلامهم علیهم السلام .

جواب الدليل العشرون

: نقول في جوابه : أنه بالنسبة إلى أصحابهم تكون خطابات شفاهية لا تحتاج إلى إثبات حجية صدورها

ص: 107

ووضوح دلالتها ولو وقع في دلالتها شك أمكن السؤال.

فلذا لا يحتاجون في معرفة الأحكام منها إلى مقدمات ولا إلى فحص،بخلاف ما نحن فيه فإنه لبعد الزمان بيننا وبينهم وكثرة القالة عليهم علیهم السلام ووقوع التقطيع والتصحيف في كلماتهم وكثرة المخصص والمعارض الخطاباتهم مع اختلاف العرف بيننا وبينهم، وخفاء القرائن الحالية والمقالية علينا في كلماتهم كان كل ذلك يوجب الفحص و تحصيل المقدمات لمعرفة المراد من كلامهم علیهم السلام .

جواب الدليل الحادي والعشرون

: قال العلماء في جوابه : إن الأخذ لما كان لا يحصل إلا بذلك فهو مقدمة وجود له نظير مقدمات الواجبات، فكما إن المعصومین علیهم السلام اعتمدوا على العقل في لزوم الإتيان بمقدمات الواجبات الوجودية، فكذا ما نحن فيه.

هذا مضافاً إلى أن الأخذ في زمانهم علیهم السلام لم يحتاج إلى تلك المقدمات الموجودة في زماننا حتى يذكرونها فأوكلوا مقدمات الاجتهاد في كل زمان إلى عقولهم لأنها لا تخطأ في ذلك.

ص: 108

الموضوع السادس الاجتهاد الثابت عندنا

بعد تفنيد مسلك الإخباريين وبطلانه في حرمة الاجتهاد، وذلك بما أوردناه من أجوبة علمائنا المجتهدين الأعلام الحاكمة والقاضية ببطلان أدلتهم وإن كان ما ذكره الإخباريون في محله إلا أنه في الحقيقة طعن على تعريف الاجتهاد لا طعن على المجتهدين بوجه، فإنهم أیضاًلا يقولون بحجية الظن ما لم يرد من الشرع دليل على اعتباره، والإنكارالمذكور إنما نشأ من التعريف .

فلو بدلت كلمة الظن بكلمة الحجة، فقلنا : إن الاجتهاد: «هو استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي» لارتفع الإشكال .

فالاجتهاد في الحقيقة هو تحصيل الحجة على الحكم، وعليه فلا يظن بالإخباري أن ينكر جواز العمل بما قطع بحجيته، وبما هو الوظيفة الفعلية من قبل الشارع، كما أنه لا ينكر جواز رجوع الجاهل إلى العالم.

وعلى هذا يصبح النزاع في جواز العمل بالاحتياط نزاعاً لفظياً .

نعم يمكن أن يقع النزاع بين الفريقين في حجية بعض الأمارات أو الأصول العملية .

ولا يخفى أن هذا أمر آخر وأجنبي عن جواز العمل بالاجتهاد، وقد وقع

ص: 109

نظير ذلك بين الإخباريين أنفسهم، كما وقع بين الأصوليين(1) .

وكيف كان الأمر فإنه تجدر بنا الإشارة لزيادة الاستنارة، أن نذكر بيان بعض الأكابر الذي يوضح لنا فيه الفرق بين الاجتهاد الثابت عندنا والاجتهاد المنفي الذي تشير الروايات إلى حرمته وعدم الجواز بالتعبد به.

وإليك نص البيان قال قدس سره : إن الاجتهاد كثيرا ما يطلق في الأخبار على الرأي والاستحسان من غير دليل من الشرع، فصار العمل بالاجتهاد، العمل بالظن والاستحسان، وهذا هو الباطل عندنا بالضرورة من الأخبار كالقياس وباقي الاستحسانات .

ثم قال: وقد صنف بعض قدماء أصحابنا كتاباً في إبطال الاجتهاد بهذا المعنى، وأورد الأخبار الواردة في ذمّه .

ولا يخفى أن جميع المتأخرين من أصحابنا مصرحون ببطلانه .

قال رضوان الله تعالى عليه : ولعل هذا هو المتعارف عند العامة حيث يجعلونه مقابلاً للنص . وكأن محله عند فقدان النص، وأبطلوا الاجتهاد في مقابل النص .

وعليه ورد خبر معاذ بعد ما بعثه رسول الله صلی الله علیه وآله له قاضياً إلى اليمن . فقال له : بم تحكم ؟ قال بما في كتاب الله . قال فإن لم تجد قال : بما في السنة قال : فإن لم تجد ؟ قال : اجتهد برأيي ....

وعليه جرى تعريف السيد في الذريعة من أن الاجتهاد عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية بغير النصوص ... بل بما طريقه الظنون والأمارات .

ص: 110


1- الإمام الخوئي .

والمنفي في كلام الإخباريين هو هذا المعنى، لا المعنى المصطلح عليه عند الخاصة، لا سيما عند المتأخرين منهم، (وهو استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي)، فإنه لا محيص عنه ولا وجه لتأبي الإخباريين عنه .

ثم قال أیضاًوبهذا التفصيل معنى الاجتهاد، صرح بعض العلماء حيث قال : إن المتقدمين من علمائنا لا يقولون بجواز الاجتهاد والتقليد، ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنة من وجوه الاستنباطات الظنية، ومن المعلوم أن طريقة المتقدمين هي الموافقة للأئمة عليهم السلام وإلى أحاديثهم المتواترة، فإن الله منهم شا ذٌأحياناً أنكر عليه الأئمة عليهم السلام إن كان في زمان ظهورهم.

وهذه الطريقة مباينة لطريقة العامة مباينة كلية، فإنهم آخذون بهذه الطريقة المنهية إلى أن قال : وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعية وعدم جواز العمل بالاستنباطات الظنية كان معلوماً من مذهب المتأخرين، واشتراك اللفظ صار سبباً للطعن .

وإلا فالاجتهاد الذي نقول به ليس بهذا المعنى، بل هو استفرغ الوسع في تحصيل الحجة القطعية على الحكم الشرعي، إذ الملاك ليس عندنا هو الظن بالحكم لا شخصاً ولا نوعاً .

فعلى هذا ينسد باب الطعن علينا من معاشر الإخباريين، إذ الاستفراغ الكذائي لا بد لهم حتى على القول بمقطوعية الأخبار، كما كان ذلك عند من فتح له باب العلم من الأصوليين .

وإن كان هناك نزاع . فإنما هو في بعض الصغريات، كالقول بحجية

ص: 111

الإجماع والشهرة ومطلق الظن، فالقائل بحجية الظن عند انسداد باب العلم، والعلم إنما يقول بذلك بالدليل النقلي أو العقلي وإن كان معه نزاع كان في ذلك .

وهذا النزاع كثيراً ما يكون بين المجتهدين كما هو أيضاً ثابت بین الإخباريين في كثير من المسائل، ألا ترى أن بعضهم يقول بحجية الاستصحاب في الجملة، وبعضهم ينكره، وبعضهم يقول بحجية بعض أقسام القطع، وبعضهم ينكره، وهكذا فهذا النزاع لا ربط له ببطلان ما ذكره من معنى الاجتهاد .

إذا عرفت هذا فافهم إن الاجتهاد بالمعنى الذي عندنا وهو بذلك الجهد الاستنباط الحكم الشرعي عن الحجة المعتبرة شرعاً فهو مأمور به في كثير من الروايات، وهو اتباع الآثار والسنن، وهو طاعة الله تعالی وطاعة رسوله وأولي الأمر.

وقد ورد لفظ الاجتهاد كثيراً في باب الطاعة التي منها الجهد لفهم الحكم الشرعي وذلك كقول الإمام علي عليه السلام : «ولا يؤدي حقه المجتهدون» وقوله : «فعليكم بالجد والاجتهاد» .

ص: 112

الموضوع السابع الكلام في جوانب الاجتهاد

بعد أن عرفت الاجتهاد الثابت عندنا بالتعريف المذكور وهو استفراغ الوسع في تحصيل الحجة القطعية على الحكم الشرعي، وعرفت أنه لا وجه التأبي الإخباريون عنه وذلك بما أوردناه لك من الأدلة العقلية والنقلية الحاكمة والقاطعة بثبوته، عليك أن تعرف جوانب الاجتهاد الأربعة التي أشرنا إليها في العنوان والتي يشتمل عليها مبحث الاجتهاد، فلا بد لنا من التكلم حولها بصورة تفصيلية فيما يلي :

الجانب الأول: في تعريف الاجتهاد

اشارة

قد عرفت فيما تقدم أن الاجتهاد في اللغة : هو بذل الجهد واستفراغ الوسع .

وبعبارة أخرى نقول : هنا أنه (صرف الطاقة وبذلها) وهو من الجهد - بالضم أو الفتح - بمعنى الطاقة أو أنه بمعنى (طلب المشقة وتحملها) من الجهد بمعنى المشقة .

وعرفت هناك أیضاًأن الجهد) بضم الجيم هو المشقة فيقال : اجتهد في حمل طاق الحي، ولا يقال : اجتهد في حمل النواة، وربما جاء (الجهد) بالفتح أو الضم بمعنى الاجتهاد .

وذكرنا أیضاًفيما تقدم أن الاجتهاد في الاصطلاح هو « استفراغ الفقيه

ص: 113

وسعه في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ».

وهنا نقول : أن التعريف المذكور لا يستقيم على مذهب الإمامية، إذ لا اعتبار للظن في ثبوت الأحكام الشرعية ، وإنما العبرة في ذلك بالعلمالوجداني، سواء أكان متعلقه ثبوت الحكم في الواقع، أم كان متعلقه ثبوت الحكم بالتعبد.

وإن شئت فقل : لابد للمجتهد من تحصيل العلم، فقد يعلم بثبوت الحكم المجعول أولا.

وقد يعلم بقيام الحجة فيحكم بثبوت الحكم تعبداً ، كما في موارد الأمارات والأصول المعتبرة شرعاً، فإنها وإن لم تكن موجبة للقطع بالحكم الواقعي، لأنها تكون - لا محالة . ظنية من جهة الدلالة أو السند أو الجهة، إلا أنها مقطوعة الحجية، ويكفي ذلك في حصول الأمن من العقوبة .

ولعل ما ذكر من تعريف الاجتهاد هو الذي أوجب إنكار الإخباريين أشد الإنكار بجواز العمل بالاجتهاد للمجتهد نفسه وللعامي، نظراً إلى عدم قيام الدليل على حجية الظن الاجتهادي، ولزوم العلم بما ثبتت حجيته شرعاً، وطرح الظنون الحاصلة من إعمال الرأي والإجتهاد .

والإنصاف أن ما ذكروه في محله، إلا أنه في الحقيقة طعن على التعريف لا طعن على المجتهدين بوجه، فإنهم أیضاًلا يقولون بحجية الظن ما لم يرد من الشرع دليل على اعتباره والإنكار المذكور نشأ من تعريف الاجتهاد بما ذكر .

فلو بدلنا كلمة الظن بالحجة، وقلنا: إن الاجتهاد «هو استفراغ الوسع

ص: 114

التحصيل الحجة على الحكم الشرعي » لارتفع الإشكال .

فالاجتهاد في الحقيقة هو تحصيل الحجة على الحكم، وعليه فلا يظن بالإخباري أن ينكر جواز العمل بما قطع بحجيته(1) .

وبالجملة: إننا قد ذكرنا أیضاًهذا التعريف فيما تقدم في جملة التعريفات المذكورة للاجتهاد وهو أصحها وبه يرتفع الإشكال كما ذكر السيد الأستاذ.

وعلى أية حال: فإنه لو لم نبدل الظن بالحجة وبقي كما هو في بعض التعريفات، فإنه ليس المراد منه مطلق الظن، وإنما أرادوا به الظن المعتبر الذي يكن حجة، وإلا فالظن غير المعتبر بمنزلة العدم، والتقييد به لإخراج الضروريات واليقينيات و تقييد الحكم بالشرعي لإخراج الأحكام غير الشرعية كالعقلية .

غير أنه أورد على التعريف المذكور بما يلي :

الإيراد الأول

: أن الفقيه هو العالم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية وهو لا يتحقق إلا بالاجتهاد فتكون معرفة الفقيه متوقفة على الاجتهاد، وقد أخذ الفقيه في تعريف الاجتهاد فلزم الدور .

والجواب عن التوقف : أن الفقيه وجوده مستلزم للاجتهاد لا أن تصوره وإدراكه موقوف على إدراك الاجتهاد، والذي يلزم منه الدور هو الثاني لا الأول، على أن الفقيه قد يأخذ الحكم من الإمام عليهم السلام بدون اجتهاد .

الإيراد الثاني

: أن مقتضى هذا التعريف أن يكون الاجتهاد متوقفاً على كون الشخص فقیهاً لأخذه في الحقيقة مع أن الفقيه متوقف على .

ص: 115


1- السيد الخوئي

الاجتهاد لا الشخص لا يكون فقيهاً إلا إذا كان عنده اجتهاد، بأن يستنبط الحكم الشرعي عن دلیله باجتهاد، أما بدون اجتهاد فلا يكون استنباطه صحيحة ولا يسمى معه فقيها فليزم الدور بحسب الوجود.

وجوابه : أن المراد بالفقيه في تعريف الاجتهاد هو من عنده القدرة على الاستنباط بمعرفته علم الأصول ونحوه مما يتوقف عليه الاستنباط من العلوم، ولا شك أن الاجتهاد موقوف على هذه الملكة والقدرة، لأنها في الحقيقة هي ملكة الاجتهاد والقدرة عليه، ومن المحال أن يحصل الشيء من شخص قبل قدرته عليه.

ومن المعلوم أن هذه القدرة لا يتوقف حصولها على الاجتهاد، لأن الاجتهاد من فروعها ومرتب عليها فلا دور بين الاجتهاد والفقه بهذا المعنى بحسب الوجود، مع أنه يمكن أن يقال: أن لفظ (الفقيه) في التعريف عنوان إشارة لا أنه مأخوذ في موضوع الاجتهاد بمعنى أن المراد أن الاستفراغ الذي يوجد عند الفقيه هو الاجتهاد .

نظير ما يقال: أن النجارة هي ملكة النجار، فإنه لا يقتضي أن تكون الملكة موقوفة على النجارة بحسب الوجود، مع أنها سابقة عليها بحسب الوجود.

نعم إنما يقتضي الملازمة معها وإن كانت هي أسبق رتبة في الوجود.

الإيراد الثالث

: أن لا وجه للتقييد بالظن لأن استفراغ الوسع لتحصيل القطع في الأحكام القطعية أیضاًمن الفقه واستنباطها من أدلتها يسمى إجتهاداً .

ص: 116

وجوابه : أنه لا يسمى في الاصطلاح اجتهادة، ولذا ما قام عليه الإجماع لا يسمى اجتهاداًوإن سمي فقه .

ولذا عرف الاجتهاد في محكي الذريعة بأنه إستنباط الأحكام الشرعية بغير النصوص، بل بما طريقة الأمارات والظنون، وإلى ذلك نظر البهائي رحمه الله حيث قال: القطعيات ليست فقها إذ لا اجتهاد فيها، ظناً منه أن الفقه منحصربالاجتهاد، وحيث كان لا اجتهاد فيها فليست بفقه .

وأنت إذا تتبعت حدود القوم للاجتهاد يتبين أن المعتبر في أصله النازل منزلة فصله هو الظن، وإن من لم يأخذ الظن في تعريفه أخذ ما يجري مجراه من الاستنباط أو الترجيح أو نحوهما .

وقد صرح في الفصول أن مصطلح القوم على تخصيص الاجتهاد بالظنیات ناسب ذلك إلى الأكثر، مع أن جملة من مباحثهم مختصة بذلك كبحثهم عن حجية الاجتهاد و تجزئته، مع أن القطعي لا يبحث عن حجته والمتجزي قطعه حجة في حقه، بل لعله لهذا حكم الإخباريون ببطلان الاجتهاد بقول مطلق .

ولو سلمنا أنه اجتهاد فالتعريف يشمله، لأنه معه قد استفرغ وسعه التحصيل الظن، غاية الأمر قد حصل له القطع، و كيف كان فملكة الاجتهاد موجودة عنده بالنسبة لما حصل القطع عليه، وأما الاجتهاد فلم يحصل له وإنما حصل له القطع بالحكم.

الإيراد الرابع

: أنه يشمل تحصيل الظن غير المعتبر .

وجوابه : أن الظاهر من إطلاقهم هو الظن المعتبر، أعني الحاصل من

ص: 117

الأدلة المعتبرة بقرينة إنما يستفرغ الفقيه لتحصيله هو الظن المعتبر وإلا فالظن غير المعتبر في حكم العدم فلا يستفرغ الفقيه وسعه لتحصيله .

الإيراد الخامس

: أنه يدخل فيه الاجتهاد لتحصيل الأحكام الشرعية الأصولية، سواء كانت من أصول الدين كوجوب معرفة المعاد، أو من أصول الفقه کوجوب التعبد بالخبر، فكان عليهم أن يقيدوا الأحكام بالفرعية ليخرج ذلك حيث أنه ليس باجتهاد في اصطلاحهم.

وجوابه : أن التقيد بالفقيه يقتضي ذلك، لأن الفقه مأخوذ فيه الحكم الشرعي الفرعي، لكن على هذا لا حاجة لأخذ الشرعي في التعريف إلا للتوضيح .

الإيراد السادس

: أن هذا التعريف إن كان تعريفاً للاجتهاد الصحيح فهو غير صحيح لاحتياجه إلى قيود أخرى ككونه له ملكة قدسية ونحو ذلك، وإن كان للأعم فقيد (الفقيه) لا حاجة له لتحققه بدونه .

وجوابه : أنه تعريف للصحيح كما هو شأن سائر التعاريف ولا يحتاج إلى قيد زائد، لأن المراد به استفراغ الفقيه وسعه على الوجه المعتبر بقرينة مناسبة الحكم للموضوع)، وهو لا يكون بدون الملكة وأخذ الفقيه للاحتراز عن تفريغ العامي وسعه لتحصيل الحكم الشرعي.

وإن شئت قلت: إن الشروط المذكورة للاجتهاد ما كان منها شرطاً لجواز العمل به فلا وجه لأخذه في حقيقته، وما كان شرطاً لوجوده فهو مأخوذ في التعريف، على أن الملكة القدسية مأخوذة في التعريف بأخذ لفظ الفقيه .

الإيراد السابع

: أن كثيراً من المسائل ما تحصل بأدنی نظر لظهور

ص: 118

مدرکها فلا تحتاج إلى تفريغ الوسع، فإن منها ما يرجع فيه لنفس الإمام علیهم السلام .

وجوابه : أنه إن كان يحصل اليقين من مدرکها فهو كما عرفت ليس باجتهاد، وإن كان مدركها يفيد الظن فلا يعقل أن يحصل ذلك بأدنی نظر، فإنه لا أقل من البحث عن وجود معارض لذلك المدرك أو مخصص له أو مقيد.

نعم الاستفراغ قد يحتاج في بعض الأحكام إلى كثرة الفحص وبعضها إلى قلته حسبما يقتضيه مدرك الحكم من الظهور والخفاء، والرجوع لنفس الإمام علیه السلام لا يسمی اجتهاداً، ولذا لا يسمى الرواة عن الأئمة علیهم السلام مجتهدين، لأن معرفتهم بالأحكام تحصل بمجرد السماع من الإمام علیه السلام شفاهاً من دون إعمال قوة نظرية في تحصيلها .

نعم في زمان الغيبة لا يمكن تحصيل المعرفة بأحكامهم عليه السلام إلا بإعمال النظر، ولذلك لا يسمى النبي صلی الله علیه وآله ونفس الأئمة علیهم السلام مجتهدين، لأنهم يعلمون بالأحكام وعلمهم من دون أعمال قوة نظر بل بالوحي والانكشاف للواقع .

الإيراد الثامن

: أن بعض الأدلة طرق تعبدية لا تفيد الظن كأصل البراءة والاستصحاب.

وجوابه : أن المعتبر في الاجتهاد بذل الوسع لتحصيل الظن، ولا يلزم من ذلك أن يحصل الظن فهو نظير الفحص عن الشيء ونظير السعي لتحصيل شيء فإنه لا يلزم في تحققها حصول ذلك الشيء.

والاجتهاد كذلك فإنه لا يلزم في حصوله أن يحصل الظن، ولا ريب إنما يكون الرجوع إلى الأصول بعد بذل الوسع لتحصيل الظن المعتبر بالحكم الشرعي فقد حصل الاجتهاد عند الرجوع إليها .

ص: 119

الإيراد التاسع

: أن الفقيه قد يبذل وسعه ولا يحصل شيئاً، بل يتوقف في المسألة أو يحتاط .

وجوابه ما سبق في جواب الإيراد الثامن .

الإيراد العاشر

: أن المجتهد قد يجتهد ليحصل الظن بالموضوعات لا بالحكم الشرعي كمعرفة الصلاة و كمعرفة ماهية الصلاة و كمعرفة الظهر والقبلة .

وجوابه : أن اجتهاده في الموضوعات إن كان يرجع إلى الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي كالاجتهاد في معرفة ماهية الصلاة، فإنه يرجع إلى معرفة ما يجب عليه من أجزائها وشرائطها، فلا إشكال في دخوله في التعريف، وإن كان لا يرجع إلى ذلك فلا نسلم أنه يسمى اجتهادة عند الأصوليين، فإن من قامت عنده البينة الشرعية على أن هذا المال لزيد لا يسمى ذلك اجتهاداً عندهم .

الإيراد الحادي عشر

: أن الاجتهاد إنما يطلق على خصوص تحصيل الظن من غير الكتاب والسنة والتعريف المذكور غیر مخصوص بذلك، كما في خبر معاذ حين بعثه النبي قاضية على اليمن فقال صلی الله علیه وآله : (بما تحكم ؟ قال بما في كتاب الله تعالى، قال علیه السلام : فإن لم تجد ؟ قال بما في السنة، قال : فإن لم تجد ؟ قال : اجتهد برأيي) . الخبر .

وجوابه : أن الاجتهاد له إطلاقات:

(الأول): ما كان في الصدر الأول فإنه كان يطلق على تحصيل الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية، كاجتهادات أبي حنيفة، وعليه يحمل ما ذكره علماء الرجال من أن بعض أصحابنا صنّف كتاباً في الرد على الاجتهاد.

ص: 120

وعليه يحمل ما عن الذريعة والسرائر من بطلان الاجتهاد عند أصحابنا، وما ورد عن أئمتنا عليهم السلام من العمل بالرأي والاجتهاد، كما كان عمل علماء السنة في قبال الأئمة الأطهار علیهم السلام .

الثاني): ما عرفته وهو المصطلح في علم الأصول.

الثالث): ما هو المعروف في كلام المتشرعة من أصحابنا من إطلاقه على تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الفرعي، سواء كانت علمية أو ظنية، وعليه فتتدرج القطعيات في الاجتهاد ويتساوى الاجتهاد والفقه بحسب الوجود، وعليه يحمل تعريف الشيخ الأنصاري رحمه الله بأنه إعمال النظر في تحصيل الحكم الشرعي كما يظهر لمن تتبع كلامه .

الرابع): اطلاقه على ما يعم المتعلق بالمسائل الأصولية عملية أو اعتقادية، ومنه قولهم : هل يجوز التقليد في أصول الدين ؟

الخامس): قد يطلق على كل تحري واحتياط حتى في الموضوعات كما يقال : اجتهد في القبلة .

السادس): إطلاقه على الملكة التي يقتدر أن يستنبط بها الحكم الشرعي الفرعي من الأصل كما ذكره شيخنا البهائي رحمه الله وعليه يحمل ما نظمه بعضهم بقوله :

الاجتهاد عرفوه ملكة ***لمن وعي الفقه وراعی مدرکه

يقوى على استنباط حكم شرعي ***بها من الأصل الصحيح المرعي

فإن يك استنباطه للبعض خص*** فالاجتهاد بالتجزي اسما يخص

وإن يكن لكل حكم عما ***فالاجتهاد مطلقا یسمی

ص: 121

والثاني بالأول عقلا سبقا*** فكونه محصلا تحققا

لكن رجوع غير من به اتصف ***إليه في المسألة التي عرف

ليس بجائز نعم يجوز له*** لا غيره الأخذ بتلك المسألة

أما للذي له اجتهاد مطلق ***فحكمه قضا وفتوی مطلق(1)

الإيراد الثاني عشر

: أن الفقيه قد يستفرغ وسعه للظن بعد الحكم.

وجوابه : أنه على هذا قد تحقق منه استفراغ الوسع للظن بالحكم الشرعي غاية الأمر لم يحصل عنده، على أن المراد بالحكم وجوداً أو عدماً .

الإيراد الثالث عشر

: أن الظاهر من هذا التعريف أنه يجب على الفقيه قصد تحصيل الظن من أول الأمر وليس كذلك، بل لا بد له أولاً من قصد تحصيل العلم، ومع تعذر العلم أو تعسره يكفي تحصيل الظن، ولا أقل من أن يكون قاصدة لتحصيل الاعتقاد .

وجوابه : أن هذا بيان الحقيقة الاجتهاد عند الأصوليين وليس لبيان واجب الفقيه .

الإيراد الرابع عشر

: إن المراد باستفراغ الوسع إن كان طول العمر فلا يتحقق رتبة الاجتهاد إلا عند الوفاة، وإن أريد في وقت التكليف والحاجة إلى المسألة، فإن كانت شرائط الاجتهاد غير موجودة فهو لا يصح اجتهاداً، وإن كانت موجودة فهي لابد وأن تكون على سبيل الاجتهاد، ومراتبه متفاوتة فهو يحتمل عدم الكفاية ولا يصح أن يعتمد على ظنه.

ص: 122


1- الحاج الشيخ فراج العمران من المعاصرين

وجوابه : إنا نريد استفراغ الوسع بالمقدار المتعارف الذي تطمئن به النفس، وهذا يكون قبل الحاجة إلى المسألة، وأما عند الحاجة إليها فإن تمكن من استفراغ الوسع المذكور فهو وإلا قلد فيها .

وأما استجماعه للشرائط فهو أمر وجداني فإن آنس من نفسه ذلك اجتهد وإلا فلا.

الإيراد الخامس عشر

: ما في الفصول من صدق التعريف على استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بفتوى غيره بإعمال القوانين اللفظية في استنباط مرامه، إذ يصدق على فتوى المفتي أنه حكم شرعي ولو في الجملة .

ولا ريب أن الاستفراغ المذكور لا يسمى اجتهاداً في الاصطلاح و کان الواجب أن يزاد في التعريف عن أدلته التفصيلية .

وجوابه : أن المراد من الحكم الشرعي، بمناسبة الحكم والموضوع هو حكم المستفرغ ومقلديه لا حكم غيره و غیر مقلدیه .

اللّهم إلا أن يقال بانسداد باب العلم وحجيته فتوى المجتهد إذا أفادت الظن بالحكم الشرعي فحينئذ يكون استفراغ الوسع المذكور من الاجتهاد .

الجانب الثاني : في شروط الاجتهاد

اشارة

الكلام هنا في شروط الاجتهاد، وقد ذكر العلماء أنها نوعان :

النوع الأول

: نوع شرائط لتحققه .

والنوع الثاني

: نوع شرائط لصحته .

كما أن منها ما هي شرائط للاجتهاد الملكي، وما هي شرائط للاجتهاد

ص: 123

الحالي، ولا بد من إحراز المجتهد لها بالنسبة إلى إفتائه وحكومته .

لذا ينبغي الإشارة إلى بعضها في هذا المقام ولو على جهة الاختصار فنقول :

الشرط الأول: معرفة العربية

وذلك بأن يعرف اللغة والعربية مادة، والمتكفل لذلك علم متن اللغة، لأنه معاني الألفاظ العربية، وبأن يعرف اللغة العربية هيئة وتركيباً والمتكفل لذلك علم النحو والصرف ويدخل في ذلك معرفة المعاني العربية الثابتة في زمان النبي صلی الله وعلیه وآله والأئمة علیهم السلام واصطلاحات الفقهاء .

والدليل على ذلك: أن اللازم على المجتهد تحصيل الأحكام من مدار کها، ولا ريب أن مداركها الكتاب والسنة وهي واردة باللغة العربية كما عليه أن يراجع كلمات الفقهاء لمعرفة الإجماعات والشهرة وأدلة الخصم وهي أیضاًنوعها باللغة العربية، فما لم يعرفها الإنسان بموادها و هیئتها لم يكن يفهم الكتاب والسنة ولا كلمات الأصحاب .

وقد أورد بعض العلماء على هذا الشرط:

أولاً : بأن معرفة ما ذكر ليس بشرط مطلقاً، إذ يمكن أن يعرف الأحكام الشرعية بالكشف والجفر والرؤيا والرمل ونحو ذلك.

وثانياً : بأنه يمكن استخراج الحكم من الكتاب والسنة بالكشف والرمل والجفر ونحو ذلك ولا حاجة للعلوم المذكورة.

والجواب عن الأول : أن الكلام بحسب المتعارف والعادة وما ذكر هو خلاف المتعارف والعادة .

مضافاً إلى أنها لا تفيد إلا الظن ولا دليل على حجية الظن الحاصل منها .

ص: 124

وعن الثاني : أنه كما تقدم من أن الكلام بحسب المتعارف، فالعلوم المذكورة شروط بحسب جریان العادة .

مضافاً إلى أن مثل الجفر ونحوه إن أوجب بالدلالة فلا كلام لنا فيه، وإن أوجب الظن أو الظهور للفظ في المعنى فلا دليل لنا على حجية هذا الظن والظهور .

قال بعض المعاصرين : عن طريق النظم ولنعم ما قال في ذكر العلوم التي يحتاج إليها الاجتهاد بل هي شروطه :

الجملة من العلوم افتقرا ***ونیله بدونها تعذرا

كلغة نحو وصرف منطق*** فقه أصول والأصول حقق

فإنه أهم تلك الجملة*** جهلت فرعا إن جهلت أصله

واحتاج أیضاًللأصول الأربعة ***من آية وسنة متبعة

إجماع أو دلیل عقل معتبر ***واحتاج أیضاًبعد ذلك وافتقر

القوة لطيفة نورية*** ومنحة شريفة قدسيه

صاحبها يمكنه من أجلها ***رد فروع الفقه نحو أصلها

يقذفها الله بقلب من يحب ***ولا تنال باکتساب مكتسب

نعم لدرس العلم والسؤال ***والبحث مع أفاضل الرجال

دخل كبير في حصولها ومن ***جاهد في الله ينل أسنى المنن

الشرط الثاني : تعلم العلوم العقلية

وذلك كعلم المنطق وعلم الكلام لتوقف الاجتهاد عليهما التميز الدليل الصحيح من غيره بعلم المنطق وتوقف استنباطات بعض الأحكام الشرعية على بعض قواعده، کاستنباط طهارة الغسالة فيما لو ثبت «كل نجس ينجس

ص: 125

ملاقيه» على عكس قاعدة النقيض، وكردّ القول ببقاء الجواز بعد نسخ الوجوب باستحالة بقاء الجنس بعد زوال الفصل، ودعوى أن بعض مطالب المنطق کسبية وإلا لما احتاج أحد إليه.

وهذه المطالب الكسبية عرفت من غير علم المنطق وإلا لزم التسلسل، فلا بعد أنها عرفت بالاستدلال الصحيح من دون توقف على المنطق، فكذلك الأحكام تعرف من غير حاجة إلى المنطق، فاسدة، فإن علماء المنطق قالوا إن مطالبه الكسبية تؤخذ من طالبه البديهية فهي تعرف من المنطق .

وأما علم الكلام فتوقف الاجتهاد عليه من جهة استنباط بعض الأحكام على بعض قواعد علم الكلام من قبيح التكليف بما لا يطاق، وأن الله تعالی لا يفعل القبيح فلا يخاطب بما له ظاهر ویرید خلافه .

وابتناء بعض مسائل الفقه على إبطال الدور والتسلسل، وقاعدة اللطف وترجيح المرجوح على الراجح، والترجيح بلا مرجح، والواحد لا يصدر منه إلا الواحد وغير ذلك مما هو مذكور في علم الأصول.

الشرط الثالث : معرفة علم الحديث

وذلك من حيث الإسناد والإرسال والصحة والضعف وغير ذلك مما بيّن في علم الدارية ومعرفة الراوي من حيث أنه عادل أو فاسق أو ثقة أو مجروح ونحو ذلك مما يتكفّل بيانه علم الرجال .

ضرورة أن أخبارنا المدوّنة في الكتب الأربعة وغيرها ليست بأسرها معتبرة يصح الأخذ بها فيتوقف تميز ما يعتبر فيها عن غيره على ذلك، وكذلك يتوقف تمیز ما هو أرجح سنداً عند التعارض على ذلك خصوصاً مع العلم الإجمالي بأن كثيراً من الرواة قل في حقهم أنهم كذّابون ولا

ص: 126

يمكن تمييزهم عن غيرهم إلا بعلم الرجال .

ولو كان علم الرجال مستغنا عنه لكان المتقدمون أشد استغناء عنه، الأقدم فالأقدم لمكان القرب من ظهور القرائن، مع إنا وجدنا صدور التأليف منهم بذلك في عصور الأئمة الأطهار علیهم السلام .

ففي المحكي عن النجاشي : أن أبا محمد عبد الله بن جبلة الكناني قد صنف کتاب الرجال ومات سنة 219 وهو من الشيعة، وتلاه من المتقدمين العياشي والكشّي وحمدويه وابن نوح بين من كان في زمن ظهور الأئمة علیهم السلام وبين من كان في زمن الغيبة الصغرى .

وتوضيح ذلك وتحقيقه: أن حجية الأخبار إن كانت من باب حجية الخبر الواحد العدل فنحن نحتاج إلى علم الرجال لتميز الراوي العادل عن غيره والضابط عن غيره، والمؤمن عن غيره، وليتميز المراد بالاسم المشترك عن غيره الذي هو من أصعب مطالب علم الرجال، ولترجيح أحد الخبرين على الآخر عند التعارض بأعدلية الراوي ونحوها .

إن قلت»: إن علم الرجال لا يثبت الصفات للرواة، لأنه ليس من باب الشهادة إذ ليس تتوفر فيه شروط الشهادة، وليس من باب حجية الخبر الواحد إذ هو ليس من الأخبار بالأمور الحسية وإنما علم الرجال يفيد الظن والظن ليس بحجية .

«قلنا»: المطلوب من حصول العلم العادي بصفات الراوي من علم الرجال ....

نعم الرجوع إلى علماء الرجال من باب الرجوع إلى أهل الخبرة يكون من التقليد، إلا أنه لا يجوز للمجتهد بالحكم الشرعي أن يعتمد عليه في

ص: 127

مقام الفتوى بالحكم الشرعي لمقلديه للزوم التقليد في فتواه، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات .

هذا إذا كانت حجية الأخبار من باب حجية الخبر العدل .

وأما إن كانت من باب حجية الظن المطلق، فإن العامل بالظن لابد له من تحصيل أسباب الظن - وأكثر أسباب الظن تعرف بمعرفة الرواة - فإن الخبر بملاحظة حال رواته قد يفيد الظن وقد لا يفيده، فخبر العادل الضابط الإمامي يفيد الظن، وخبر الفاسق الكذاب المفترى لا يورث الظن، وهكذا خبر غير الضابط وإن كان إمامياً عادلاً فإنه نوعاً لا يفيد الظن، فإذن لابد من ملاحظة حال الرواة لتمييز أحد القسمين عن الآخر.

وإن كانت حجية الأخبار من باب إفادتها القطع بأن كانت الحجة منها خصوص المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع كما هو المنسوب للسيد المرتضی وابن زهرة وابن إدريس رحمهم الله، فالقرائن لا تفيد القطع غالباً إلا بملاحظة حال الرواة ورجال السند و كونهم محترزين عن الكذب .

سلمنا، لكن لا أقل من احتياج المجتهد لعلم الرجال حال التعارض بين الأخبار للزوم بالأعدل والأروع من مخبري الخبرين المتعارضين، إلا إذا قيل بتساقطهما وهو خلاف ما عليه الأدلة .

وإن كانت حجية الأخبار من جهة الاطمئنان بالصدور عن المعصوم وهو يحصل بعمل المشهور بها كما هو الظاهر من البهباني رحمه الله في حاشيته على المدارك، فيحتاج إلى علم الرجال في الخبرين المتعارضين إذا كان كل منهما مشهوراً .

هذا مضافاً إلى أن فتوى المشهور إنما تنفع من جهة كونها توجب

ص: 128

الوثوق بالصدور وهي إنما توجب ذلك لو علم استناد المشهور إلى الخبر، وفي كثير من الموارد لا يعلم استنادهم إلى الخبر ولا إعراضهم عنه، فلا بد أن يرجع لعلم الرجال لتحصيل الوثوق بالصدور . وهكذا المسألة غير المعروفة إذا كانت فيها رواية لزم في تحصيل الوثوق بصدور تلك الرواية من مراجعة علم الرجال لعدم عمل المشهور بذلك ولا يصح الطرح.

وقد نسب إلى طوائف، المخالفة في الاحتياج لعلم الرجال وإنكارهم الحاجة إليه نذكرهم فيما يلي :

الطائفة الأولى : «الحشوية» القائلون بحجية كل خبر فإنهم لا يحتاجون العلم الرجال، لأن كل حديث عندهم معتبر، ولكن مع هذا عند التعارض يحتاجون لعلم الرجال في الترجيح بالأعدلية والأروعية والأضبطية .

اللهم إلا أن يلتزموا عند التعارض بالتساقط أو التخيير أو الترجيح بغیر صفات الراوي من الأعدلية ونحوها، فحينئذ لا يحتاجون إلى علم الرجال أصلا.

ويكون الجواب عنهم : أن لا وجه لهذا القول مع ما تواتر عن المعصوم عليه السلام أنه قد دس في أخبارهم، و کذب عليهم القالة، فلابد من تمييز الرواة الكذابة عن غيرهم، وهو لا يحصل إلا بعلم الرجال . .

الطائفة الثانية : «جماعة من العلماء» وهم القائلون بعدم حجية الخبر الواحد بدعوى قطعية الأحكام من الكتاب والإجماع والأخبار المتواترة أو المقترنة بالقرائن المفيدة للقطع وهو المذهب المنسوب لمولانا السيد المرتضی و ابن زهرة وابن إدريس .

ص: 129

الطائفة الثالثة : «الإخباريون» وهم المدّعون لقطعية الصدور في كتب الأخبار المعتبر أصحابها أو خصوص الكتب الأربعة المعروفة الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والاستبصار، والتهذيب للمحمدين الثلاثة، بل ادعی غیر واحد من علمائهم كالاسترابادي وغيره في المحكي عنهم قطعية الأخبار سندة ودلالة، وتنزل بعض مؤلفيهم ومن يميل إليهم، كالفاضل التوني في الوافية و غيره بعدم القطعية من حيث السند والدلالة، وادّعي قطعية الاعتبار وقال لاحاجة لمعرفة علم الرجال فيما لا معارض له وإن كنا محتاجين إليه عند التعارض .

الطائفة الرابعة : القائلون بحجية الخبر المجبور بالشهرة أو المرجحة له، فإنه لا يرجعون إلى علم الرجال، حتى أن الخبر لو كان صحيحا وأعرض عنه المشهور لا يعملون به، ولو فرض أن الخبر ضعیف و عمل به المشهور صار حجة، كما هو ديدن الوحيد البهبهاني علي في حاشيته على المدارك في العمل بروايات عمل بها المشهور قائلاً : إن ضعفها منجبر بالشهرة رداً على صاحب المدارك المسقط للرواية بمحض ضعف سندها بحسب القواعد الرجالية مستنداً في ذلك على أصله من حجية الخبر المصحح المزکی بتزكية عدلين، ولا يخفى وجه الاحتياج لعلم الرجال على هذا المبنى .

ص: 130

إيراد بعض العلماء على الاحتياج لعلم الرجال

اشارة

أقول : بعد أن عرفت أن من جملة شروط الاجتهاد معرفة علم الحديث وذلك من حيث الإسناد والإرسال والصحة والضعف وغير ذلك مما بين في علم الدراية ومعرفة الراوي من حيث أنه عادل أو فاسق أو ثقة أو مجروح ونحو ذلك مما يتكفل ببيانه علم الرجال .

وقد عرفت أن توفر هذا الشرط في المجتهد من الضروريات وأنه لامحيص للمجتهد عنه كما أسلفنا كان من اللازم أيضاً أن تعرف أن بعض العلماء قد أورد على احتياج المجتهد لهذا العلم المذكور بایرادات نذكرها فيما يلي :

الإيراد الأول

:هو وقوع الاختلاف في معنى العدالة وعدد الكبائر النافية للعدالة و كفاية الواحد في مقام التنزيه . ونحن لا نعلم من أهل كتب الرجال أنهم في مقام التعديل على أي معنی فسروا العدالة وهل اكتفوا بتزكية الواحد فزكوا الراوي وهل ارتكاب بعض الأشياء التي هي من الكبائر عندنا ليست عندهم من الكبائر فإن الكبائر قد وقع الاختلاف في عددها.

والحاصل: أنهم في مقام التعديل أو الجرح لا نعلم إنهم بنوا على الآراء الفاسدة في نظرنا أم الصحيحة، فكيف يصح الاعتماد على قولهم في مقام التزكية ؟

ص: 131

هذا مع أن تعديلهم للراوي أخذوه من كتب غيرهم وشهادة الفرع غير مسموعة على أن غيرهم الذي أخذوا منه ذلك لم يعلم عدالته حتى نعلم صحة اعتمادهم عليه، بل قد اعتمدوا على أناس فاسدي المذهب كابن عقدة، فإنه كان زيدياً جارودياً على ما نصوا عليه، و كعلي بن الحسن بن فضال فإنه كان فطحياً فاسد المذهب، فإن علماء الرجال كثيرة ما يعتمدون على أقوالهم في أحوال الرجال، مع أن لازم فساد مذهبهم عدم الاعتماد عليهم.

هذا مضافاً إلى أن تعديلات علماء الرجال للرواة و تصنيفهم لهم مبنية أغلبها على اجتهاداتهم وترجيحاتهم، لأن العدالة لا تعرف إلا بالآثار ولا يجوز للمجتهد أن يبنى على اجتهاد غیره.

الإيراد الثاني

: قالوا إن لم نحرز تقارن زمان رواية الراوي مع زمان عدالته من الرواة ممن كان على خلاف المذهب ثم رجع وبالعكس، والكثير منهم لا نحرز أنهم على العدالة من زمان بلوغهم إلى زمان وفاتهم، فلعله كانت الرواية منهم زمان عدم عدالتهم وكثير منهم كانوا فاسدي العقيدة كبني الفضّال، وكعلي بن أسباط، والحسين بن يسار فإنهم كانوا من غير الإمامية ثم تابوا، وكذلك علي بن محمد بن الواقفي.

الإيراد الثالث

: قالوا أن ملكة العدالة أمر باطني فلا تثبت بالخبر ولا الشهادة .

الإيراد الرابع

: أن علم الرجال علم محرم، لأنه فيه تجسس على أحوال الناس وهو منهي عنه، وهكذا فيه اغتياب المؤمنين وهو محرم، فليس بمطلوب في الاجتهاد .

ص: 132

الإيراد الخامس

: وقوع الاشتباه في أسماء الرواة وكناهم وآبائهم وألقابهم، والغفلة في الأسانيد بسقوط راوي أو اثنين، كما حكي عن الشيخ رحمه الله أن كثيرا مما رواه عن موسى بن القاسم العجلي قد أخذه من كتابه وهو أیضاًيأخذ من كتب جماعة فينقل عنهم من غير ذكر الوسائط اتكالا على ذكرها في أول كتابه فينقل الشيخ قدس سره عن أحد الجماعة من غير إشارة للواسطة فيظن الاتصال مع أن الواقع كان هو الإرسال .

ومع هذا الاحتمال فلا أثر لتوثيق الرواة المذكورين في السند لاحتمال سقوط ما هو ليس بعادل ولا ثقة .

وفي المحكي أن صاحب منتقى الجمال رحمه الله قد أوضح ذلك وحققه .

الإيراد السادس

: هو اشتراك أسماء الرواة بين العدل والممدوح وغيره، فإنه مانع عن العلم بالثقة .

الإيراد السابع

: دعوى الإجماع على حجية جميع ما في الكتب الأربعة وأضرابها من الخصال والعيون والعلل ونحوها ممن كان أصحابها من عدول الإمامية، وعليه فلا حاجة لعلم الرجال .

الإيراد الثامن

: أن الاحتياج لعلم الرجال إما لإعتبار صفة في الراوي من الإسلام والإيمان أو عدالة أو ضابطية أو نحو ذلك، كما لو بنینا على حجية خبر العدل الضابط فهو غير صحيح، لما قد عرفت إن قول الرجالي ليس بحجة لا من باب الشهادة، ولا من باب حجية خبر الواحد، لأنه إنما يكون حجة في الأحكام دون الموضوعات، ولا ريب أن الأخبار بصفات الراوي من الأخبار بالموضوعات .

ص: 133

نعم ربما يكون حجة من باب كونه من أهل الخبرة ولكن لا يجوز للمجتهد أن يعتمد في فتواه عليه، لأن الرجوع لأهل الخبرة تقلید .

ولا ريب أنه لا يجوز أن يكون التقليد من مقدمات الاجتهاد والفتوى، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات .

وأما أن يكون الاحتياج إلى علم الرجال من جهة تحصيل الظن والوثوق بالصدور فهو غير صحيح، كما ذكره صاحب مناهج الأصول، لأنه إنما يتم لو لم يكن يحصل من غير علم الرجال الظن أو الوثوق بالصدور .

والأخبار المأخوذة من الكتب المعتبرة لما كانت معلومة الانتساب المؤلفيها، وكان مؤلفوها من أهل الإيمان والتقوى والمعرفة بصحة الخبر وسقمه، والتمكن من تمييز الخبر الصحيح عن غيره، مثل الكتب الأربعة و کتاب الخصال وعلل الشرائع والعيون والاحتجاج كانت الأخبار الموجودة فيها موثوقاً صدورها، لكون أربابها ممن سهروا الليالي وأفنوا الأيام في تميز الأخبار الصحيحة من غيرها، فأثبتوا فيها ما صح عندهم بعد أن هذبها المتقدمون على المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على الثلاثمائة سنة وضبطوها خوفا من تطرق النسيان .

وقد عرضوا بعض الكتب على الإمام الصادق علیه السلام ككتاب عبد الله بن علي الحلبي فاستحسنه علیه السلام وعلى الإمام العسكري علیه السلام ككتاب يونس ابن عبد الرحمن والفضل بن شاذان، فأثنى عليهما و كانوا علیهم السلام يوقفون شیعتهم على الكذّابين ويأمرونهم باجتنابهم.

وبالجملة: من اطلّع على اهتمام أصحابنا بالأحاديث يحصل له الظن أو

ص: 134

الوثوق بما دونّوه مع ملاحظة أن أصحاب هذه الكتب المعتبرة كلهم عدول ضابطون، و كانوا في زمان تكثر فيه القرائن، بل يمكن تحصيل القطع لهم غالبا لما بأيديهم من الكتب المعروضة على الأئمة علیهم السلام، ويريدون أن تكون كتبهم مرجعا للناس و دستورا يعمل به مع قرب زمانهم من زمان الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف .

فقدكان الكليني رحمه الله مخالطة للسفراء عشرين سنة و كان متمكنا من استعلام حال الروايات من الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف ،بل من العسكري عليه السلام كما قيل، فحينئذ يحصل للإنسان بملاحظة ما ذكرناه الوثوق بصدور ما في الكتب المعتبرة أزيد من شهادة علماء الرجال بالعدول، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك دعوی الإجماع من الشيخ الطوسي رحمه الله وغيره على العمل بهذه الأخبار .

ففي المحكي عنه: إني وجدت الفرقة مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم .

وفي المحكي عن شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله في شرح الدراية : أن الإمامية استقرت على أربعمائة مصنف سموها أصوة، فكان عليها اعتمادهم فتداعت الحال إلى ذهاب معظمها ولخصها جماعة في كتب خاصة، وأحسن ما جمع منها الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه .

وقال البهائي في المحكي عنه : أن قدماءنا قد جمعوا أربعمائة كتاب تسمى أصولاً، ثم تصدی جماعة من المتأخرين لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلاً للانتشار و تسهيلاً على طالبي تلك الأخبار .

فألفوا كتباً مضبوطة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة

ص: 135

کالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار ومدينة العلم والخصال والأمالي وعيون الأخبار وغيرها.

ودعوى عدم حصول الظن والوثوق بصدور روایات کتب مشايخنا، لأن فيها ما يعارض البعض بعضا، أو مخالف للإجماع أو الكتاب أو لم يعمل به أحد.

و كذا نرى بعض المشايخ لم يعمل بما في كتاب آخر أو يرده فاسدة، لأن ما ذكر لا يمنع من الصدور إذ الدواعي للأئمة عليهم السلام لصدور الأخبار المنافية كثيرة على أن لبعض الأحاديث معاني و تأويلات قد لا تصل إليها أفهامنا، كما أن عدم العمل قد يكون من جهة الدلالة أو العثور على معارض أرجح في نظره.

ودعوى أن من أحاديث تلك الكتب المعتبرة ما قد صرح مؤلفه بوهنه وضعفه فكيف يكون الجميع صحيحاً ؟

وقد صرح المحدث البحراني قدس سره و فيما يزيد على أربعين مورداً من كتابه بأن الصدوق لم يلتزم في أثناء الكتاب بما وعد به في أوله أنه لا يورد في هذا الكتاب إلا ما يحكم بصحته.

فإن من لاحظ هذا الكتاب يرى كثيرا ما يورد الصدوق خبراً ويفتي بخلافه . فاسدة، لأن مرادنا من صحة الجميع هو صحة جميع ما فيها إذا لم يكن دليل من الراوي على ضعفه، وإلا فالأمر فيه واضح، بل تصريحهم في بعض المواضع ببعض نواحي ضعف الحديث قرينة على خلو ما لم يصرّحوا به عنها .

ص: 136

نعم المتقدمون على زمن تأليف الكتب المعتبرة يحتاجون إلى علم الرجال لمعرفة حال الرواة ولكثرة الكذّابين في زمانهم .

فتلخّص: أن من نظر إلى الكتب المعتبرة وزمانها و تورع أصحابها والإجماعات المتقدمة يحصل له الوثوق بصدور ما فيها من الأخبار أزيد من ملاحظة علم الرجال .

فكيف يعقل أن يكون قول الكشي فلان عدل يوجب الوثوق بالصدور، وقول الكليني قدس سره بأن الخبر صحيح أو حجة بيني وبين الله تعالى لا يوجب ذلك؟

هذا إذا كان علم الرجال من جهة تحصيل الظن أو الوثوق بالخبر . وأما إذا كان احتیاج علم الرجال من جهة الترجيح في مقام التعارض بالأعدلية والأوثقية والأصدقية فهو أیضاًباطل .

لأن قول الرجالي ليس بحجة شرعية حتى يثبت به ذلك، وأیضاًلم یکن الترجيح بالأعدلية والأوثقية وغيرهما من صفات الراوي إلا لروايتين أحدهما لا دخل لها بعلاج تعارض الخبرين وإنما لتعارض الحاکمین والأخرى لا حجية لها، كما ذكرت ذلك في مبحث التعارض .

ص: 137

ص: 138

أجوبة الإيرادت المذكورة
اشارة

أقول : قد عرفت فيما تقدم أن لبعض الأصحاب قد أورد على احتياج المجتهد لعلم الرجال والحديث ببعض الإيرادات التي قد مر ذكرها .

وبما أننا قد ذكرناها ولم نذكر معها أجوبتها تحتّم علينا هنا أن نشير إلى أجوبة الإيرادات بالتسلسل فيما يلي :

جواب الإيراد الأول

: قال العلماء في الرد على هذا الإيراد، إنا لو سلمنا أن ذلك يمنع من قبول شهادتهم في حين حصول القطع لهم بالعدالة فالجواب : إن المقصود من علم الرجال هو الثتبت والتبين، وكذلك حصول الوثوق .

ولا ريب أن البحث عن حال الراوي فيه نوع من التثبت، والتعديل له يوجب الوثوق بقوله، وليس المقصود من علم الرجال تحصيل الشهادة

حتی یعتبر في تزكيهم للرواي ما يعتبر في الشهادة من كونها أصل، ومن كونها مشافهة ونحو ذلك، ولا يعتبر فيه ما يعتبر في حجية الخبر الواحد .

ولكن هذا الجواب إنما ينفع على القول بحجية الخبر من باب الظن والوثوق .

وأما إذا قلنا من باب التعبد بخبر العدل، فعلم الرجال لا يثبت صفات الراوي من كونه عدلاً أو ضابطاً، إذ لا دليل على حجية الظن الحاصل من

ص: 139

قول العالم بالرجال، إذ هو ليس بشهادة، ولا تشمله أدلة حجية الخبر الواحد، لأنها مختصة بخبر الواحد في الأحكام دون الموضوعات .

والعدالة والضبط من الموضوعات، ولا يجوز للمجتهد أن يرجع لقول الرجالي من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، لأنه يلزم أن يكون مقلداً في مقدمات اجتهاده .

نعم إنما ينفع الرجوع إلى أقوال الرجاليين لو حصل لنا العلم العادي منه .

جواب الإيراد الثاني

: قال العلماء في الجواب: أن ظاهر حال علماء الرجال إذا وصفوا شخصاً بالعدالة أو الفسق أو جهل الحال إنما نظرهم إلى زمن روايته لا إلى زمن آخر وهو كاف في حصول الوثوق بالرواية .

والفاسدي العقيدة إذا كانوا ممن يوثق بهم صح الاعتماد عليهم، مع أن الشيعة كانوا يتجنبون من رجع من مذهب التشيع ويسمّون الواقفية بالكلام الممطورة، والأئمة علیهم السلام نهوا عن معاشرتهم .

وحينئذ إذا روى أحد الشيعة عن أحدهم فلا يرويه عنه إلا على وجه الصحة، إما بالسماع منه قبل عدوله أو بعد توبته .

وقد قبل المحقق رحمه الله في المعتبر رواية علي بن حمزة الواقفي عن الصادق علیه السلام معللاً ذلك بأن تغيره إنما كان في زمن الكاظم علیه السلام، وقبل العلامة رحمه الله حديث إسحاق بن حريز الواقفي عن الصادق عليه السلام لأن انحرافه لم يكن في زمن تأليفه لكتابه .

جواب الإيراد الثالث

: قال العلماء: إن الأمور الباطنية تعرف بآثارها.

ص: 140

مضافاً إلى ما قد عرفت في جواب الإيراد الأول من أن الأخذ بأقوال علم الرجال ليس من باب الخبر ولا الشهادة، كذلك بالإضافة إلى أن القول بكون العدالة ملكة، إنما هو للعلامة رحمه الله ومن تأخر عنه دون المتقدمين عليه.

جواب الإيراد الرابع

: قال العلماء: إن الأمر بالتثبت يكون مخصصاً الأدلة النهي عن التجسس والاغتياب، نظير جواز الجرح والتعديل في مقام المرافعات فإنه مستثنی من حرمة الغيبة .

مضافاً إلى أن الأئمة علیهم السلام قد جرحوا بعض الرواة ووثقوا البعض الآخر وهذا أدل دليل على جواز ذلك .

جواب الإيراد الخامس

: قال العلماء: إن هذا الاحتمال ينفيه ظاهر اللفظ، فإن الظاهر هو النقل عن نفس الشخص من دون واسطة فلا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلا بالقرينة اللفظية أو المقالية، كما إن احتمال السهو والغفلة منفي ببناء العقلاء في محاوراتهم على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال .

جواب الإيراد السادس

: قال العلماء : إن هذا أمر قليل وغالباً يحصل التمييز بالمميزات والطبقات و قرائن الأحوال ومع عدم الحصول هذا لا يحصل التوثيق في خصوص ذلك المورد، لا أنه يسقط بواسطة هذا المورد علم الرجال . .

جواب الإيراد السابع

: قال العلماء : إن هذا الإجماع غير ثابت لرد قسم من أخبارها وعدم العمل بها ومخالفة قسم منها للإجماع والكتاب،ورد جملة من أصحابنا بعض أخبارها حيث لا يعمل إلا بالصحيح، ورد

ص: 141

جملة منهم ما لم يعمل به المشهور وغير ذلك . نعم هي معتبرة بمعنى أن ما فيها صحیح النسبة لراوي سند الخبر، وإن رواية مؤلفها عن الراوي لسند الخبر ثابتة، وإن نسبة الكتب المؤلفيها ثابتة، وليس معنى ذلك أن الخبر الذي سنده ضعيف يكون معتبراً.

جواب الإيراد الثامن

: قال العلماء : إنا نختار حجية خبر العدل، وعلم الرجال إنما يفيد القطع العادي بصفات الراوي نظير ما ذكرناه في حجية قول اللغوي، وإنا نختار حجية الخبر الواحد من باب الظن أو الوثوق.

ولكن مجرد وجود أمارات الصحة لمؤلفي الكتب المعتبرة لا توجب الظن لنا بصدور هذه الرواية مع اعتماد ذلك الفقيه عليها كذلك وجودها في تلك الكتب، كيف وقد ردّ بعضهم على بعض .

فقد رد الشيخ الطوسي رحمه الله في التهذيب بعض أحاديث الكافي ورماها بالضعف وجهل الراوي كما في باب المحتلم الخائف على نفسه من البرد، وناهيك في ذلك طعنه رحمه الله على أخبار عدد أيام شهر رمضان مع رواية الكليني رحمه الله. والصدوق لها .

وقد طعن الشيخ المفيد رحمه الله في رسالته فيها برمي بعض رواتها كمحمد بن سنان و غیره بالضعف .

والحاصل: أن ردّ الصدوق رحمه الله على الكليني ورد الشيخ المفيد رحمه الله والطوسي رحمه الله عليهما مع قرب العهد بينهم، مما يدل على عدم حصول الوثوق بمجرد كون الرواية في كتبهم.

ولو كان تكفي الصحة عند صاحب الكتاب لما صح طرح شيء من الأخبار المروية فيه .

ص: 142

وإنك لتجد في كتاب التهذيب من الطرح والتضعيف لروايات الكتب ما شاء الله .

ففي (ج 1 ص 220 من طبع إيران) ضعف رواية الكافي في باب زكاة الحنطة والشعير حيث قال : فإن هذين الخبرين الأصل فيهما سماعة ... إلى أن قال: وهذا الاضطراب في الحديث مما يضعف الاحتجاج .

وفيه أیضاً(ج 1ص268 طبع إيران) المنع من الاحتجاج برواية الكافي، وقال الصدوق رحمه الله في كتاب الفقيه ( ج ص 101 طبع النجف) في باب الرجلين يوصي إليهما فيفرد كل واحد منهما بنصف التركة ما هذا لفظه :

وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن أحمد بن محمد - إلى أن قال -: ولست أفتي بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه السلام . نعم لو استند جماعة من الفقهاء إلى الرواية أو نقلها غير واحد من الكتب المعتبرة حصل الوثوق بصدورها .

وعليه إذا كانت الرواية في الكتب المعتبرة قد أفتى بها بعضهم وأعرض عنها آخرون لضعف في سندها و عدم حصول وثوق بها كان على الفقيه مراجعة علم الرجال لمعرفة سندها والتأكد منه على أن قسماً من الروايات

منقولة من كتب خاصة ليست بأيدينا لم نعلم أن أصحابها كانوا يروون ما يعتقدون صحته أم لا.

نعم لنا وثوق بنقل أرباب الكتب المعتبرة عمّن روى لهم ذلك لا بصدور الرواية عن المعصوم علیه السلام على أن العلم الإجمالي بوجود روایات مكذوبة على الأئمة عليهم السلام أو وقوع السهو فيها والاشتباه بين هذه الروايات في الكتب المعتبرة لا ينحلّ إلا باعتبار تحصيل الظن بالصدور من غير جهة رواية الكتب

ص: 143

المعتبرة لها، إذ من هذه الجهة متساوية في الظن بالصدور فيسقط اعتباره .

على إنا نقول : إن الوثوق والظن لا يحصل بمجرد رواية الكتب المعتبرة للخبر، لأنا رأيناهم يعتمدون على كثير من المراسيل والروايات الضعاف وروايات بعض المخالفين للمذهب، وروايات التجسيم وقدم العالم ووقوف الأرض على قرن ثور .

فكل رواية لم نطّلع على رجالها ونعرفهم أنهم محل ثقة لم يحصل لنا الظن بصدورها ولا الوثوق بها، على أن كثيراً من الروايات لم توجد في الكتب المعتبرة بل توجد في كتب أخرى .

الشرط الرابع( اللاجتهاد) : معرفة علم الأصول

وذلك لأن الاجتهاد كما عرفت استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي .

ومن المعلوم أن علم الأصول هو القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي من دليله .

فهل يعقل أن يستطيع من يريد أن يستفرغ الوسع لتحصيل الظن أن يستغني عن تلك القواعد؟

وهل هو إلا كالداخل للحرب بلا سلاح؟!

اللهم إلا أن يكون الوحي ينزل عليه، وهذا خارج عن محل البحث .

کیف و علم الأصول يعرف به الظن المعتبر بالحكم الشرعي الذي يجب على المجتهد تحصيله دون غيره من الظنون، ويعرف ما هي الوظيفة عند عدم تحصيله .

فهل يعقل أن يستغني المجتهد عن هذا العلم الذي يرتكز عليه الاجتهاد؟

ص: 144

و کفی دليلاً على احتياج المجتهد إليه هو ابتناء نوع مسائل الفقه عليه،

فإنك لو راجعت الفقه لرأيت أغلب مسائله مبنية على مسألة أو أكثر في علم الأصول.

ص: 145

ص: 146

الإخباريون يقولون بمنع اعتبار علم الأصول
اشارة

أقول : وقد ذهب علمائنا الإخباريون إلى منع اعتبار علم الأصول في استنباط الأحكام الشرعية بأُمور :

الأمر الأول

: إن العلوم العربية تغني عن علم الأصول لتكفلها لبيان مقدمات الاستنباط کمباحث الأمر والنهي ونظائرها، وما يزيد على ذلك من المباحث المذكورة في علم الأصول لا ربط لها بالاستنباط، وليس صرف الوقت فيه إلا تضيعاً للعمر الشريف .

الأمر الثاني

: أنه لو ترك العبد الامتثال للتكاليف معتذراً بجهله لعلم الأصول ذمه العقلاء وعاقبه المولی .

فليس علم الأصول شرطاً لوجوب معرفة الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، وإلا لما صح الذّم لأن المقدمة الوجوبية ليست بواجبة .

الأمر الثالث

: إن هذا العلم مما أحدثه العامة فتسرّي منهم إلى أصحابنا الإمامية في زمن الغيبة ولم يكن يعرفه أصحاب الأئمة علیهم السلام ، بل كان المعصوم علیهم السلام يحدث أصحابه فيفهمون من قوله عليه السلام حكم الله تعالی من غير توقف لاحتمال معارض أو مخصص أو مقيد .

وكان هذا ديدنهم إلى زمان العُماني رحمه الله والإسكافي رحمه الله، وبعد ذلك حدثت تدوين الأصول بين الشيعة .

ص: 147

فلو أنه من البدع المستحدثة والطرق المخترعة الممنوع عنا في الشرع لما أهمل بيانه أصحاب الأئمة عليهم الصلاة والسلام .

ص: 148

رد الأدلة المذكورة
اشارة

وقد رد علمائنا أدلة الإخباريين بما يلي :

جواب الأمر الأول

: أن أكثر مباحث علم الأصول لا ربط لها بالعلوم العربية مثل مباحث حجية الأدلة نفياًوإثباتاً، وأحكام تعارضها وتعادلها، والمباحث العقلية كمبحث مقدمة الواجب، واقتضاء الأمر للأجزاء، و کون القضاء بأمر جديد، واجتماع الأمر والنهي، وجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط، وتحرير مجاري الأصول وغير ذلك من المباحث المهمة .

مضافاً إلى عدم تنقیح علماء العربية للمباحث الأصولية المذكورة فيها، وعدم التعرض لمواردها الموجودة في الكتاب والسنة مع شدّة حاجة المجتهد إليها .

جواب الأمر الثاني

: إن هذا لو دل على عدم وجوب تعلم علم الأصول لدل على عدم وجوب مراجعة النبي والأئمة علیهم السلام في تعلم الأحكام، لأنه لو ترك العبد الامتثال للتكاليف معتذراً بعدم مراجعته للرسل المبعوثين والأئمة المعصومین علیهم السلام ذمه العقلاء وعاقبه المولی .

مضافاً إلى أن ذلك من قبيل مقدمة الواجب بالنسبة لمعرفة الأحكام الشرعية وإن كان من قبيل مقدمة الوجوب للاجتهاد .

مضافا إلى أن الدعوى إن الاجتهاد لا تحصل طبيعته إلا بمعرفة علم

ص: 149

الأصول، فيكون وجوب معرفة علم الأصول تابعة لوجوب الاجتهاد أو عدم وجوبه .

جواب الأمر الثالث

: إن في المحكي عن كتاب النجاشي أن هشام ابن الحكم وهو من أشهر أصحاب جعفر الصادق علیه السلام صنف كتاب الألفاظ و مباحثها وهو من أهم مباحث علم الأصول، وأن يونس بن عبد الرحمن

صنف کتاب مباحث اختلاف الحديث ومسائله وهو مباحث التعادل والتراجع.

ورواه عن الإمام موسى الكاظم علیه السلام كيف والأئمة علیهم السلام قد سألوا عن أحكام التعارض وخبر الواحد و تعیین من له أهلية الفتوى والتقليد، وعن أحكام الشبهات ومجاريها ولقنهم الأئمة علیهم السلام أجوبتها .

وإنما لم يحتج أصحاب الأئمة علیهم السلام إلى كثير من مباحث الأصول خصوصاً مباحث الألفاظ لقرب العهد وتوفّر القرائن وهم من أهل اللغة والمحاورة .

ثم إن المشافهة لها مدخلية في فهم الكلام لا تحتاج إلى إعمال قواعد ولو وقع فيها خفاء أمكن السؤال، ولا يقع فيها إضمار ولا إرسال ولا تقطيع ولا تصحيف ولا تشكيك في أنها حجة أم لا.

ثم عدم تدوين العلم لا يدل على عدم وجوده رأساً، فإن مسائل كل علم لها قضايا واقعية تظفر بها العقول فتدون، وقد كان أغلب مسائل علم الأصول مركوزاً في أذهان المتقدمین و کانوا عليها معوّلين وبها متمسکین وإن لم تكن مدونة ولا مبوبة .

ويستفاد أكثر هذه المسائل من الآيات والروايات، وقد أتعب نفسه بعض علمائنا السيد عبد الله السيد محمد رضا الحسيني في كتابه المصباح بجمع

ص: 150

جملة من الروايات الدالة على المسائل الأصولية فليراجعه من أراد .

الشرط الخامس للاجتهاد : التمكن من الرجوع للأدلة على الأحكام الشرعية الفرعية

بأن يقدر قدرة قريبة على معرفة الأدلة المتعلقة بالمسألة التي يريد أن يستنبط حكهما فيستطيع أن يعرف أن هناك آية أو رواية أو إجماع أو دلیل عقل يدل على حكمها أم لا، حتى لو كان في غير بابها، إلا أنه لله الحمد قد تصدی علماؤنا رحمهم الله إلى جمع ما في القرآن الشريف من آیات الأحكام البالغة خمسمائة آية تقريباً في كتب خاصة مبوبة على أبواب الفقه منها كتاب آيات الأحكام للجزائري، و آيات الأحكام للأردبيلي، وللرواندي، وكفقه القران وکنز العرفان وزبدة البيان وغيرها مما قد جمعوا فيها آيات الأحكام فسهل على الإنسان معرفة ما يتعلق بالمسألة من الآيات.

وهكذا تصدی علماؤنا إلى جمع الروايات المتضمنة للأحكام في كتب الحديث المعروفة، وقد دونوها على أبواب سهل بذلك على الإنسان معرفة كل ما يتعلق بالمسألة من الروايات .

وأما الإجماع والعقل فيعرفان بالمراجعة للكتب الاستدلالية الفقهية المطولة فقد أغنانا، أربابها رحمهم الله عن إتعاب النفس في المراجعة الغيرها شكر الله مساعيهم الجميلة .

الشرط السادس للاجتهاد : الملكة القدسية

اشارة

وقد عبّر عنها الكثير من الأصوليين بقوة ردّ الفروع إلى الأصول بمعنی معرفة ما اندرج في إطلاق الموضوع أو عمومه مما يخفی اندراجه ککون

ص: 151

الملفق من المائين النجسين كراً، وكون القادر على دفع العدو بالمال مستطيعاً للحج والاغتسال بما يقرب من الدهن غسلا والمسح بالكف والماء يتقاطر منها مسحاً، ومن يراوح رجليه في الصلاة مستقراً وابتلاع النخامة أو الحصاةأكلاً فيكون مفطراً والمعاطاة بيعاً ونحو ذلك، لا سيما تمیز موارد الأصول بعضها عن بعض.

وقال عنها آخرون : هي استخراج الجزئيات من الكليات بمعنی تناول الفروع من مداركها خطاباً أو اجماعاً أو عقلاً .

والظاهر من هذا أن مرادهم بها هو : (الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي عن الأصل) التي تقدم تفسير المتأخرين للاجتهاد بها وإلا فرد الجزئيات الحقيقة الخارجية إلى القواعد الفقهية، كمعرفة أن هذا الماء المخصوص کراً للحكم بعدم انفعاله ومعرفة أن هذه الجهة قبلة للحكم بجواز الصلاة إليها ليس من وظيفة المجتهد .

والذي يظهر من كلام الفاضل الجواد رحمه الله في شرح الزبدة هو ذلك، أعني أن المراد بالملكة القدسية هو الملكة المذكورة كما هو ظاهر من عبر عنها بالقوة الاستنباطية، وعليه فيكون مرادهم بشرطية هذه الملكة للاجتهاد هو الاجتهاد الفعلي أعني استفراغ الوسع .

ولكن المتأمل في كلماتهم رحمهم الله يظهر له أن مرادهم بالملكة القدسية غير ذلك، لأن الكثير منهم ذكرها شرطاً للاجتهاد بالمعنی المذكورة أعني بمعنى الملكة فيلزم اتحاد الشرط والمشروط، سلمنا إنها ليست بشرط للاجتهاد بالمعنى المذكور، وإنها شرط للاجتهاد الفعلي، إلا أنه

ص: 152

لا وجه لعدها شرطاً للاجتهاد الفعلي في مقابل تعلم العلوم المذكورة فإنها إنما تحصل بحصول العلوم المذكورة التي يتوقف على معرفتها الاجتهاد الفعلي .

وعليه يكون التحقيق الصحيح أن يقال : إن ملكة الاجتهاد والقوة عليه القريبة تنحل إلى قوتين .

إحداهما : القوة المكتسبة من معرفة العلوم المذكورة .

والثانية : عبارة عن قوة الفهم وشدة الإدراك ومزید فطنة بضم القواعد بعضها إلى بعض و تطبقيها على صغرياتها لاستفادة الحكم الشرعي منها،

فإن نوع الأحكام الشرعية تحتاج في استفادتها من أدلتها إلى معرفة تركيب تلك القواعد ترکیباً ليستطيع أن يدرك الحكم الشرعي منها .

فمثلا آية (أقيموا الصلاة) يحتاج في استفادة وجوب الصلاة للظهر منها إلى القوة والقدرة على معرفة أن هذه صيغة الأمر، لأن الأمر من أقام (أقم) والخطاب للجمع أقيموا، وإن صيغة الأمر تدل على الوجوب إذ لم يكن معها قرينة على الخلاف، وإن هذه الآية من صغريات هذه القاعدة، وإن لفظ الصلاة ليس مستعملاً في معناه اللغوي وهو الدعاء، وإن لها إطلاق بالنسبة إلى الظهر وليس للآية ما ينسخها ولا ما يقيدها بغير الظهر .

فهذه أبسط المسائل الفقهية كان استفادتها من هذه الآية الكريمة الواضحة يحتاج إلى هذا المقدار من الفطنة والذكاء والفهم والجمع، فكيف بباقي الأحكام الفقهية التي ليس عليها الأدلة الواضحة والبراهين الجلية .

فلذا كان المجتهد في الفقه لا بد له من قوة في الفهم وشدة في الإدراك

ص: 153

و مزيد من الفطنة يتناول فيها الفروع من الأصول والجمع عند التعارض حيث يمكن الجمع الدلالي والترجيح عند عدمه، ورد الجزئيات إلى کلیاتها لا سيما الخفية كما تقدم أمثلتها، وإجراء قواعد الأصول في الخطابات، كقواعد الأمر والنهي، والعموم و الخصوص، والإطلاق والتقييد،واستفادة الأحكام من الملازمات، كباب المقدمة، ومسألة الضد، والمفاهيم، والتعريض، والتلويح، والكناية وغير ذلك .

فهذه تحتاج إلى مزيد فطنة وحسن إدراك وهي موهبة إلهية، ولذا بالقوة القدسية إذ ليست هي حاصلة لكل أحد .

وفي المحكي عن الشهيد الثاني رحمه الله إن هذه القوة هي العمدة في هذا الباب، وإلا فتحصيل تلك المقدمات قد صار في زماننا في غاية السهولة لكثرة ما حققه العلماء .

وأما تلك القوة فبيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمه ومراده .

ولكثرة التوسل بالله والمجاهدة في ذات الله مدخل عظيم في تحصيلها، فإن من جاهدوا في الله تعالى يهديهم سبلهم والله مع المحسنين .

ولعل ما في الرواية من اعتبار مخالفة الهوى في مرجع التقليد لأجل تحصيل هذه القوة القدسية .

أما توهم أن المراد بالملكة القدسية هي القوة المكتسبة من شدة الممارسة للاستنباط کملكات الطب والنجارة ونحوها من الحرف والصنائع المكتسبة من ممارسة الأعمال، فهو باطل لصحة الاجتهاد لأول مرة .

ص: 154

كيف وهذه مرتبة تحصل بعد تحقق الاجتهاد فلا يعقل أن تكون شرطاً وأرد على هذا التعريف بخمسة إيرادات نذكرها أولاً، ثم نذكر أجوبتها بالتسلسل فيما يلي :

الإيراد الأول... 155

: قال العلماء: أنه لا شك في اختلاف المجتهدین المعتبرين في المسائل الفقهية ولابد من أن يكون واحد منهم مصيباً والباقون مخطئين ولا في كون المخطئين فاقدين للملكة القدسية في المسائل التي اخطأوا فيها، فيلزم أن يكون المجتهد هو المصيب فقط والباقون ليسوا بمجتهدين لفقدهم للملكة القدسية التي هي شرط الاجتهاد .

الإيراد الثاني

: أن اعتبارها ينافي القول بوجوب الاجتهاد عيناً أو كفاية، لأن المكلف إما أن لا تكون له تلك الملكة فلا يجب عليه الاجتهاد لعدم تمكنه منه، وإما أن تكون له الملكة وهو لا يعلم بحصولها عنده، وهي شرط وجوب لا شرط وجود، لعدم قدرة المكلف عليها لكونها موهبة من الله تعالى، ومع عدم العلم بالشرط لا يجب المشروط لعدم إحراز التمكن منه .

الإيراد الثالث

: إن اعتبار الملكة القدسية تنافي وجوب التقليد على العامي إذ لا طريق له إلى احرازها في المدعي للاجتهاد .

الإيراد الرابع

: إن الأحكام الشرعية إما أن تستنبط من قواعد شرعية كقاعدة الحل والطهارة، وعدم نقض اليقين بالشك فلا تحتاج إلى الملكة المذكورة .

ص: 155

ولذا كل عامي يتمسك بها في الشبهات الموضوعية ولم تكون لكل واحد من العوام تلك الملكة، إذ لو كانت موجودة في الجميع لما كانت شرطاً يختص بها بعض الناس .

وإما أن تستنبط من الأخبار، ولا يحتاج استفادة الأحكام منها إلى تلك الملكة بدلیل تقرير المعصومين عليهم السلام معاصريهم من العالم والعامي على العمل بأخبارهم علیهم السلام بمجرد السماع لمن فهمها من دون توقف على حصول شرط آخر وهو الملكة القدسية، بل ولا على حصول غيرها .

الإيراد الخامس

: ذكره بعضهم فقال : بأن مصنفي الكتب الأربعة مصرحون بجواز العمل بالأحاديث من دون توقف على ملكة أو غيرها سوى في فهم الحديث .

أما تصريحهم فلقول الصدوق رحمه الله في من لا يحضره الفقيه بأن وضع هذا الكتاب إنما هو لكي يرجع إليه ويعمل بما فيه من لم يكن الفقيه عنده .

ولتصريح صاحب الكافي بأنه كتاب يرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به .

ولتصريح الشيخ الطوسي رحمه الله أن تهذيبه يصلح أن يكون مذخوراً يرجع إليه المبتدي في تفقهه والمنتهي في تذکره والمتوسط في تبحره .

هذا مجمل من إيرادات القوم على التعريف المذكور، وقد أجاب عنها العلماء فيما يلي :

جواب الإيراد الأول

: إن المعتبر هو قوة الفهم وليس المعتبر مطابقة الفهم للواقع .

ص: 156

فخطأ المجتهد في المسألة لا يوجب سلب الملكة القدسية عنه، كما ذكره بعضهم، على أن الاختلاف بين المجتهدين غالباً ينشأ من الاختلاف في المبنى .

جواب الإيراد الثاني

: مضافاً إلى أن الكثير من الناس من يحرزها عنده - إن الشك في القدرة على العمل والتمكن منه لا يعتني به، إذ ما من واجب إلا والمكلف لا يعلم قبل الإتيان به بتمكنه منه واقعا لاحتمال طرو العجز في الأثناء أو عدم القدرة عليه .

ولذا أصالة عدم القدرة على العمل عند الإتيان به أو عدم العقل غير جارية، وبناء العقلاء على وجوب العمل مع هذه الاحتمالات.

جواب الإيراد الثالث

: أقول إنها يظهر العدالة ومعرفة العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد فإنها تعرف بالرجوع لأهل الخبرة وشهادتهم على ذلك .

وقد تعرف بالاختبار والمخالطة فإن العامي قد يحصل له الاطمئنان بقدرة الشخص على ذلك إذا رأى فيه قوة الذكاء في باقي الأمور .

جواب الإيراد الرابع

: نقول عنه - أن استفادة الأحكام من القواعد الشرعية في الشبهات الحكمية تحتاج إلى مزيد ذكاء وفطنة ليفحص الأدلة ويحرز دلالتها أو عدم دلالتها على المسألة، وهكذا استفادة الأحكام من الأخبار في هذا العصر فإنه يحتاج إلى مزيد فهم وفطنة وبصيرة لتعارضها وتخصيصها وتقيدها وتخصصها وإعمال الأصول اللفظية، فلا يستغنی الإنسان عن الملكة .

ص: 157

وهذا بخلاف الملقي للعامي من الإمام علیه السلام فإن العامي إذا ألقى إليه الإمام علیه السلام الحكم في مسألته يعلم أنه هو حكم مسألته لعدم اختلاف الوارد مع المورد من المعصوم، فهو نظير إلقاء الفتوى من المجتهد لمقلده .

جواب الإيراد الخامس

: نقول في الجواب عنه : إنما يلزم جواز الرجوع إليها لمن كان يفهم الأحاديث ومستجمعاً لشرائط الاستنباط، فلا يلزم من كلامهم رحمه الله عدم اعتبار شرائط الاجتهاد التي منها الملكة .

ص: 158

الوحيد البهبهاني والملكة القدسية

قال الوحيد البهبهاني : إن جواز الاعتماد على الملكة القدسية يستدعي أموراً نتعرض إليها فيما يلي :

الأمر الأول

: أن لا يكون معوج السليقة والفهم، فإن اعوجاج السليقة آفة للحاسة الباطنة، كما أن الحاسة الظاهرة ربما تصير مؤوفة كما تكون بالعين آفة تدرك الأشياء بغير ما هي عليه، أو بالذائقة أو غيرهما كذلك . والأعوجاج ذاتي كما ذكر، و کسبي باعتبار العوارض مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته .

وبالمناسبة : أنه على ذلك ما روي أن في زمان الإمام الباقر علیه السلام كان رجل يسرق ويتصدق به محتجباً بقوله تعالى : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها»، معتقداً أن عشر حسناته بأزاء سيئة سرقاته، ويبق له تسعة أعشارها وهي تنفعه، وكان يكابر مع الإمام علیه السلام ولا ينتهي بقوله ونهيه .

وكذا الرجل الذي في زمان الصادق علیه السلام يوجب غسل دبره بخروح الريح ومنشأ خالية ظاهر .

وقد بلغ اعوجاج السليقة ببعضهم بدعواه طهارة المني لقوله تعالی «كَرَّمْنا بَني آدَمَ ».

ويحكي أن بعض القضاة حكم بدفن رجل حي شهد الشهود بموته في

ص: 159

زمن غيبته وثبت عنده موته وحكم به زاعماً أنه ميت شرعأ والميت يجب دفنه شرعاً .

قال بعض الأكابر : وطريق معرفة الاعوجاج هو العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم، فإن وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله ويشكره، وأن يجد في مخالفتها فليتهم نفسه، كما أن من ذاق شيئاً فوجده مراً فقال له أهل الذوق: أنه ليس بمر بجزم بأن ذائقته مؤوفة مغشوشة، لكن ربما يلقى الشيطان في قلبه أن موافقة الفقهاء تقليداً لهم، ونقص فضيلة له فلابد من مخالفتهم حتى يصير الإنسان مجتهداً فاضلاً، ولا يدري أن هذا غرور من الشيطان، وإن حاله حينئذ حال ذي الذائقة المؤوفة حين ما قالوا إنه ليس هنا مرارة فيقول : أنا أراه مراً ولا أقلدكم وتكونون أفضل مني.

الأمر الثاني

: أن لا يكون رجلاً في قلبه محبة الاعتراض والميل إليه بحيث متی ما سمع شيئا يشتهي أن يعترض عليه، إما حباً لإظهار الفضيلة أو أنه مرض قلبي، ومثل هذا لا يكاد يهتدى ولا يعرف الحق من الباطل، بل ربما رأينا بعض الفضلاء الزاهدين البالغين أعلى درجة الفضل والزهد فسد عليه بعض أصول دينه فضلاً عن الفروع بسبب هذه الخصلة الذميمة . وقد شبه المرحوم البهبهاني هذا البعض بالكلب العقور .

الأمر الثالث

: أن لا يكون لجوجاً عنوداً، فإنا نرى كثيراً من الناس أنهم إذا حكموا بحكم في بادئ نظرهم، أو تكلموا بكلام غفلة أو تقليداً أو الشبهة سبقت إليهم يلحون و يكابرون لإثباتها من قبيل الفريق (يتشبث بكل

ص: 160

حشیش) للتميم والتصحيح، وليس همهم متابعة الحق، بل جعلوا الحق تابعاً لقولهم، وهؤلاء أیضاًكسابقيهم لا يهتدون، بل ربما ينكرون البديهي ويدعون خلافه، فإذا كان هذا حالهم في البديهيات فما ظنك بالنظريات القطعية فضلا عن الظنية .

فإن الظن قريب من الشك والوهم وبأدنی قصور أو تقصیر یزول، لا سيما الظنيات التي وقع فيها الاختلال من وجوه متعددة يحتاج رفعها وعلاجها إلى شرائط كثيرة.

الأمر الرابع

: أن لا يكون في حال قصوره مستبداً برأيه، فإنا نرى كثيراً من طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع وفقدان الاطلاع ومع ذلك هم مستبدون برأيهم القاصر، فإذا رأوا كلام المجتهدين ولم يفهموا مرامهم لقصورهم وفقدان اطلاعهم يشرعون في الطعن عليهم بأن ما ذكرتم من أين ؟ بل كل ما لا يفهموهه ينكرونه ويشنّعون عليه، ولا يتأملون أن الإنسان في أول أمره قاصر عن كل علم و كذا عن كل صنعة، وأنه ما لم يكة ويجد في الطلب والتعب في تحصيل ذلك لم يحصل له، فكيف يتوقع درك الأمور المشكلة العظيمة والوصول إلى مرتبة المجتهدين، ولم يدر من طلب شيئا وجدّ وجد، ومن قرع باباً ولجّ ولج.

الأمر الخامس

: أن لا يكون له حدة ذهن زائدة بحيث لا يقف ولا يجزم بشيء مثل أصحاب الجريزة . واعلم أن الجربزة يراد بها غاية سرعة الذهن وسرعة الانتقال بحيث لا يثبت على ما يرجحه من شدّة سرعة خاطره، فينتقل ذهنه إلى وجه يرجح

ص: 161

ضد ما رجحه أولا، ولا يقف ذهنه من شدّة سرعته على شيء. والجربزة هو جانب إفراط الجودة، كما أن البلادة جانب تفريطها، فالجودة واسطة معتدلة، وهي من المكملات كالشجاعة، ولا ضير في تجدد الرأي مع تجدد النظر أحياناً .

الأمر السادس

: أن لا يكون بليداً قاصر النظر، قليل الإدراك، لا يتفطن للمشكلات والدقائق، ويقبل كلما يسمع ويميل مع كل قائل، بل لا بد فيه من حذاقته وفطنته يعرف الحق من الباطل ورد الفروع إلى الأصول، ويدري في كل فرع يوجد ويبتلی به أنه من أي أصل يؤخذ، ويجري مسائل أصول الفقه في الآيات والأخبار وغيرهما في مجاريها ومواضيعها بمقداره و کیفیته.

الأمر السابع

: أن لا يكون مدة عمره مشتغلاً في علم الكلام أو الرياضيات أو الأصول أو النحو أو غير ذلك مما طريقته غير طريقة الفقه، ثم يشرع بعد ذلك في الفقه فإنه يخربه، بسبب أنس ذهنه بغير طريقته ألفه بطريقة غيره، كما شاهدنا كثيراً من الماهرين في العلوم من أصحاب الأذهان الدقيقة السليمة، أنهم خربوا الفقه من الجهة التي ذكرناها .

قال الوحيد البهبهاني رحمه الله: أنه قد يحدث من شدة الأنس بها والاستناد إليها والاعتماد عليها الغفلة عن قرائن الحديث، مثل ما حقق في علم الأصول من عدم محبة مفهوم الوصف، فإنه في كثير من الأحاديث يظهر اعتبار المفهوم باعتبار خصوصية المقام، فيعترض عليها بأن مفهوم الوصف ليس بحجة، مثل ما ورد في صحيحة الفضل في خيار الحيوان، فإنه قال : قلت : ما الشرط في الحيوان ؟ فقال: ثلاثة أيام للمشتري، قلت: فما الشرط

ص: 162

في غير الحيوان ؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا . وهذا كالصريح في تخصيصه بالمشتري ومع ذلك يعترض بأن مفهوم الوصف ليس بحجة .

الأمر الثامن

: أن لا يأنس بالتوجه والتأويل في الآية والحديث إلى حد تصير المعاني المأولة من جملة المحتّمة المساوية للظاهر المانعة عن الاطمئنان به كما شاهدنا من بعضهم ذلك، ولا يعود نفسه بتكثير الاحتمال في التوجيه فإنه أيضأ ربما يفسد الذهن .

الأمر التاسع

: أن لا يكون جريئاً غاية الجرأة في الفتوى، كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة، فإنهم يقتلون كثيرا من الناس بخلاف المحتاطين منهم.

وقد قيل: إن الجريء في الفتوى ربما يكون من قبيل قاطع الطريق إلى الله تعالی .

الأمر العاشر

: أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط، فإنه أيضاً ربما يخرّب الفقه . شاهدنا ذلك في الكثير ممن أفرط في الاحتياط، بل كل من أفرط فيه لم تر له فقه لا في مقام العمل لنفسه ولا في مقام الفتوى لغيره .

هذا ما استفدناه من المحقق البهبهاني رحمه الله وتبعه غير واحد على ذلك .

قال : بعض الأستاذة الماهرين معلقاً على ما ذكره البهبهاني بما يلي :

ولكن التحقيق أن هذه الأمور المذكورة ترجع كلها إلى اعتبار اعتدال السليقة، واستقامة الطبيعة، وحسن الفطنة دون بلادة في الذهن، وشذوذ في

ص: 163

التفكير، واعوجاج في الفهم.

ولعل ذلك إنما يحصل بالتوجه نحو الله تعالى والتوسل بالنبي صلی الله علیه وآله فإن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء كما أن دراسة الكتب الفقهية الاستدلالية الموسعة والحضور على يد الأساتذة المهرة، والمذاكرة في المسائل لها أبلغ الأثر في القوة على الاستنباط والاطمئنان بحصول الملكة القدسية والقدرة الكاملة على الاستنتاج .

هذا ما ذكره العلماء من شروط الاجتهاد، وهناك أمور مشروطة في المجتهد سوف نتعرض إليها إنشاء الله تعالی عند شرحنا إلى المسألة الثانية والعشرون .

ص: 164

الجانب الثالث في تقسيم الاجتهاد..165
اشارة

الجانب الثالث من جوانب الاجتهاد في تقسيمه ومراته وفيه نقول : إن

الاجتهاد ينقسم إلى مطلق ومنتجزئ .

فالمطلق من يقتدر على استنباط جميع الأحكام، والمتجزي من يقتدر

على استنباط بعضها .

ولكل منهما مراتب و مواقع للكلام، فينبغي التكلم فيها في المقامین :

الأول : في المطلق، وفيه خمس مراتب أو ست :

المرتبة الأولى

: في إمكانه ووقوعه، فنقول : لا إشكال في إمكانه ووقوعه للأعلام.

أما الأول : فواضح حيث أنه من الممكن ثبوت ملكة الاقتدار على استنباط الأحكام من مدارکها .

و توهم جماعة عدم إمكانه، ووجه التوهّم أمران :

أحدهما: توهم أن الاجتهاد هو الحال - أعني استفراغ الوسع فعلا - في تحصیل جميع الأحكام واستحضارها فعلا، فقالوا إن الأحكام ممتنع أن بها جميعها لعدم انتهائها .

وثانيها: توهّم أن المراد بالأحكام هو الأحكام الواقعية، فقالوا إن الظن بجميع الأحكام الواقعية مما لا يمكن، إذ تردّد بعض المجتهدين في بعض المسائل مما لا ينكر .

ص: 165

وأما الثاني : وهو الوقوع، فتوهّم أیضاًمنعه بناءً على أن ما ذكر في الوجه الأول لو سلّم بأنه ليس سببا للامتناع فلا محالة سبب لعدم الوقوع في الخارج، كما نشاهد من تردد من هو أعظم المجتهدين في كثير من المسائل .

وهذا التوهم مدفوع، لابتنائه على أن متعلّق الاقتدار هو الأحكام الواقعية، وقد عرفت أن المتعلق هو الأحكام الفعلية لا الأحكام الواقعية، كما أن المراد من العلم بالأحكام هو ملكتها لا العلم الفعلي .

المرتبة الثانية

: في جواز العمل باجتهاد نفسه ولزوم عمله على طبق ما رآه حكماً .

لا ينبغي الإشكال في لزوم العمل على طبق رأيه لعموم الأدلة الدالة على حجية المدارك من ظواهر الألفاظ وحجية الأمارات والأصول لكل من عرف مدالیلها وعرف أحكام المعارضة وعلاجها، ولا شك أن المجتهد عارف بما ذكر له .

المرتبة الثالثة

: في جواز رجوع الغير إليه وتقليده في تلك الأحكام.

ولا إشكال في حصول هذه المرتبة له أيضاً لما دلّ عليه من أدلة التقليد وسوف يأتي شرحها في مبحث التقليد .

المرتبة الرابعة

: في نفوذ حكمه وقضائه في مقام الحكومات والمخاصمات .

ولا إشكال أيضاً في حصول هذه المرتبة له للأدلة الدالة على نفوذ حكمه وعدم ردّه وحرمة استخفافه .

ص: 166

والعمدة في المقام هي مقبولة عمر بن حنظلة التي تلقاها الأصحاب بالقبول لما روی من قوله عليه السلام : «أنه لا يكذب علينا» حين سئل عنه، فإن من فقرات هذه الرواية قوله عليه السلام : «ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثاً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حكماً فإني قد جعلته حاكما فإذا حكم بحكمنا ...» إلخ.

المرتبة الخامسة

: هو تصديه للأمور الحسبية التي لابد من القيام بها في عصر الغيبة .

أیضاًلا ريب في جوازه للمجتهد المطلق، بل اختصاصه له مع وجوده وإمكان الوصول إليه .

ولكن يظهر من العلامة الأنصاري قدس سره في كتاب مكاسبه: أن اختصاصه به إنما هو من باب القدر المتيقن في زمان الغيبة، لأن المفروض إحراز مطلوبيتها مطلقا، ومع الشك في أنها يجوز القيام بها لكل أحد أو المتقين هو المجتهد المطلق يكون الثاني هو المتعين .

ولكن التحقيق عدم الاحتياج إلى ما قال قدس سره لأن الأمور المزبورة من توابع القضاء فإذا ثبت اختصاص القضاء به يلزم اختصاص ما يتبعه من الأمور المزبورة .

بيان ذلك: أن المناصب في عصر الحضور . كما دلّت عليها التواریخ المعتمدة على نحوین :

منها ما كان للولاة : كجباية الزكوات، وأخذ الخراج، والمقاسمة، وإقامة الحدود، وصلاة العيدين والجمعات، والأمور السياسية ونحوها .

ص: 167

وقسم منها كان موکولا إلى القضاة : كالقضاوة بين الناس، وترافع الناس إليهم، وقطع الخصومات في الموضوعات الخارجية ونحوها .

وكانت الأمور الحسبية كتجهيز الميت الذي لا ولي له ونصب القيم على الصغار والتصرف في الأموال المجهولة ونحوها داخلة في القسم الثاني منها، فظهر أن الأمور الحسبية كانت تابعة للقسم الثاني .

المرتبة السادسة

: هي الولاية العامة - وبالكسر . هي الإمارة والسلطنة.

وهي تارة تكون على جهة خاصة: وهي السلطنة على التصرف بالشيء بنحو خاص کالمتولي على التصرف بمال الصغير أو القاصر بنحو الإيجار والاستيجار فقط وتسمى هذه بالولاية الخاصة .

وتارة تكون على جهة العموم: وهو السلطنة على التصرف بالشيء بأنحاء التصرفات المشروعة، كما لو جعل له الولاية على التصرف بمال الصغير أو القاصر بما فيه المصلحة للمولى عليه من البيع والإجارة والصلح ونحو ذلك وتسمى هذه بالولاية العامة .

أقول : لا يخفى إنه قد وقع النزاع بين الفقهاء في أن الولاية المجعولة للفقيه الجامع لشرائط المرجعية هي الولاية الخاص في موارد مخصوصة، کالرجوع إليه في الفتيا، وقطع الخصومات، وكل مورد قام الدليل على ولاية الفقيه فيه، بحيث لو شك في مورد أنه له الولاية فالأصل عدمها.

أو أن المجعول للفقيه الولاية العامة بمعنى أن المجعول له هو الولاية العامة المجعولة للإمام عليه السلام ، بحيث تكون الولاية ثابتة له في كل مورد، إلا

ص: 168

إذا قام الدليل على عدمها، ولا نحتاج في ثبوتها للفقيه في موارد الشك في ثبوتها إلى دليل خاص .

والحق هو الثاني، وذلك بأن الله تعالى قد جعل للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة من الولاية ما جعله للإمام عليه السلام من السلطة الدينية، والسطنة الزمنية، والولاية العامة لأمور الناس، والرياسة المطلقة، والزعامة الشاملة فيما يخص تدبير شؤون المسلمين العامة، الداخلية والخارجية، الدينية والدنيوية، وما يرجع لمصالحهم وما يتوقف عليه نظم البلاد وانتظام العباد، ورفع الفساد بنحو الذي هو ثابت للإمام عليه السلام ، بل له الولاية على الأنفس، ونواميس الناس ونحوهما، وإن كان بعض الفقهاء قد توقف في الولاية على الأنفس والنوامیس، لأنها من الولاية الخاصة للنبي صلی الله علیه وآله وأوصيائه علیهم السلام .

والدليل على ثبوت الولاية للمجتهد الجامع للشرائط أمور :

الأمر الأول : العقل

: حيث إن العقل الحاكم بوجوب نصب الإمام على الله لحفظ البلاد وانتظام أمر العباد من حيث الأمور الدينية والدنيوية يحكم بوجوب نصب من يقوم مقامه عند غيبته، وعدم تمکن وصول الملة إليه، وعدم تيسر مراجعة الناس في شؤونهم لديه، ليكون مرجعاً للعباد، ورافعاً للظلم والفساد، إذ لولا النصب لاختل نظام العباد، واستولى الظلم والفساد .

كما يحكم بوجوب نصب من ينوب عنه علیه السلام في البلاد النائية، والأمصار البعيدة التي يتعسر أو يتعذر مراجعتها في كل شؤونها له في زمن حضوره وظهوره.

ص: 169

وكما أن العقل حاکم بوجوب أن يكون الإمام أفضل الرعية معرفة بالأمور الدينية، وأبصرهم بتدبير شؤونهم الدنيونية مع التلبس بتقوى وإيمان يمنعانه عن الخروج عن حدوده الدينية، ويستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل زمانه في ذلك أنه منصوب للإمامة عليهم.

وكذلك يحكم العقل بوجوب أن يكون الشخص النائب مناب الإمام، والساد مسدّه، والقائم مقامه عند غيبته أفضل الرعية معرفة بالأمور الدينية، وأبصرهم تدبيرة بالشؤون الدنيوية، مع تقوى وإيمان يمنعانه عن الخروج عن الحدود الدينية، ويستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل الرعية في ذلك أنه المنصوب والنائب عن الإمام علیه السلام عند غيبته وانقطاعه عن الناس .

وبالجملة: إنه لا ريب في ولايته في تدبير الشؤون الكلية الداخلية والخارجية الدينية والدنيوية التي تكون وظيفة من له الرياسة والزعامة العامة .

الأمر الثاني: الكتاب

: والذي استدل به منه آيتان :

أحداهما) قوله تعالى : «أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم» فإنها بمقتضى عموم الخطاب فيها لكل زمان حتی زماننا أن يكون في زماننا ولياً للأمر، وليس في زماننا هذا غير الفقيه الجامع للشرائط يصلح أن يكون ولية للأمر، لأنه الذي له الأهلية لأن ترجع الناس إليه في أمورهم المادية والمعاشية، لا سيما الأمور المتجددة الحادثة ولعدم القائل بغيره .

وأما دعوى أن الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف و هو ولي الأمر في هذا الوقت فهي مسلّمة، ولكن لا يمكن الرجوع إليه وإطاعته في الأمور الحادثة المتجددة .

ص: 170

هذا مضافاً إلى أن ما في التوقيع الشريف الذي سيجئ انشاء الله تعالی من قوله عليه السلام : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» يدل

على أن الفقهاء ولاة الأمر في هذا العصر، وسوف نتعرض لشرح الحديث ووجه الدلالة فيه فيما يأتي انشاء الله أكثر مما ذكرناه .

وثانيها : قوله تعالى : ( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض »ومن نظر في الآية الكريمة مع التأمل يجد أنه لا يعقل أن يكون كل مؤمن ولياً على كل مؤمن، وإلا لكان كل واحد من المؤمنين ولياً و مولی عليه .

على أن ذلك يذهب الاستفادة من جعل الولاية، فلا بد من إرادة ولاية المؤمن الذي يصلح للمرجعية والزعامة عليهم، وليس عندنا غير الفقيه العادل الجامع للشرائط .

ويمكن المناقشة :

أولاً : أن ظاهر التعبير هو الولاية بمعنى الحب التي مقتضاها الرأفة والرحمة، كما هو ظاهر النسبة للعموم، إذ لو كان أراد الرئاسة لكان التعبير بغير هذا النحو .

وثانيا : بأن المراد بها الولاية في الأمور الحسبية .

وفيه : أنه لو كان المراد بها ذلك لقيدها بالأمور الحسبية فحذف المتعلق يدل على إرادة المطلق .

وثالث : أن ظاهر الولاية من جهة الإيمان بقرينة أخذ الإيمان في العنوان، ولا ريب أن الولاية من جهة الإيمان لا تقتضي إلا الرأفة بينهم والإحسان، والمقصود هو إثبات الولاية من جهة الحكومة والزعامة والآية لا تثبت ذلك.

وفيه: أن المقصود هو إثبات الولاية من أي جهة كانت سواء كان من

ص: 171

جهة الإيمان أو من جهة الفقاهة أو غير ذلك، وإذا كانت الآية الشريفة تثبت الولاية المطلقة من دون تقييدها بشيء كان من آثارها الحكومة والرأفة والإحسان .

الأمر الثالث : الإجماع بقسميه المنقول والمحصل

أما المنقول فقد نقل الكثير الإجماع على ثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع الشرائط المرجعية كالشيخ ملا کتاب رحمه الله.

وفي البلغة أن حكاية الإجماع على ذلك فوق حد الإحصاء، وهكذا في العوائد حيث ذكر أنه عليه نص كثير من الأصحاب، بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات .

وعن المحقق الكركي أنه قال: اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الجامع الشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى علیه السلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل .

وربما استثني بعض الأصحاب القتل والحدود، ولعل المقصود ببعض الأصحاب ابن زهرة وابن إدريس على ما يحكى عنهم .

وأما المحصل فيمكن استفادته من فتاوي الفقهاء بثبوت الولاية الفقيه في عدة مواضع، معللين ذلك بثبوت عموم الولاية له، كما في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد وصوله إلى بلده إلى الفقيه .

وفي وجوب دفع الزكاة ابتدأ أو بعد الطلب إليه، وتخيره في أخذ خمس أرض الذمي أو منفعتها، وولايته على مال الإمام و میراث من لا وارث له .

وفي توقف إخراج الودعي الحقوق على إذنه، وولايته في إجراء

ص: 172

الحدود، وفي أداء دين الممتنع من ماله، وتوقف حلف الغريم على أذنه، وفي القبض في الوقف على الجهات العامة في نظارته لذلك، وتوقف التقاص من مال الغائب على إذنه، ومن الحاضر في وجه، وفي بيع الوقف حيث يجوز ولا ولي له، وفي قبض الثمن إذ امتنع البائع، وقبضه عن كل ممتنع عن قبض حقه، وفي الدين المأيوس عن صاحبه، وبيع الرهن المتسارع إليه الفساد بإذنه، وتولية إجارة الرهن لو امتنعا، وتعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا، وتعيينه ما يباع به الرهن مع تعدد النقد، وفي باب الحجر على المفلس، أو السفيه في قول، وولايته على الذي حدث جنونه أوسفهه بعد بلوغه مع وجود أبيه أو جده أو الوصي عنهما على المشهور، وفي قبض وديعة الغائب أو احتياج الآخذ، وفي إجبار الوصيين على الاجتماع أو الاستبدلال بهما، وفي ضمّ المعين إلى الوصي العاجز، وفي عزل الخائن على القول بعدم انعزاله بنفسه، وفي إقامة الوصي فيمن لا وصي له، أو مات وصيه أو كان وانعزل، وفي غير ما ذكرناه من الأمور التي له الولاية فيها .

الأمر الرابع : الأخبار الكثيرة القاضية بالعموم

: وهي على طوائف نذكر منها ما يلي :

الطائفة الأولى

: ما دل على أن العلماء ورثة الأنبياء، والكلام يقع تارة في سندها، وأخرى في دلالتها .

أما الأول : فهو لا إشكال فيه، لكثرتها وشهرة روايتها الموجبة للوثوق بها، بل وصحة سند بعضها كصحيحة أبي البحتري عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام :

ص: 173

أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» .

وأما الثاني : فلأنه لا إشكال في عدم إرادة الإرث بمعناه الحقيقي، إذ لا نسب موجب لانتقال المال من الأنبياء إلى العلماء، فلا بد أن يكون المراد هو المعنى المجازي، وأقرب المجازات هو انتقال ما هو ثابت لهم من المقامات والمنازل للعلماء إلا ما أخرجه الدليل .

ولا ريب أنه كان للأنبياء الولاية والسلطة على الرعية مطلقاً فينبغي ثبوت ذلك للعلماء وهو المدعی .

ويرشدك إلى ذلك أنه في مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح موسی ابن جعفر عليه أفضل الصلاة والسلام : أنه ذكر فيها أن نصف الخمس لولي الأمر بعد رسول الله صلی الله علیه وآله له ووارثه، مع أن وارثه هو سيدة النساء فاطمة عليها السلام وزوجاته، وولي الأمر هو الإمام المرتضی، فلا بد أن يكون المراد بوارثه هو الوارث لمقامه وولايته لشؤون المسلمين، ولذا عبر فيها بالوالي .

وقد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة :

أولاً : أن المراد بالعلماء هم الأوصياء، لأن إضافة الأرث إلى الأنبياء تقتضي أن يكون المورث بلا واسطة هو النبي والذي يرث النبي صلی الله علیه وآله بلا واسطة هو الوصي لا العالم، فإن العالم يرث من الوصي والوصي من النبي صلی الله علیه وآله فالعالم ليس بوارث للنبي، فلابد من حمل لفظ العلماء على الأوصياء فإن لكل نبي وصي.

وبعبارة أخرى: إن الأمر هنا يدور بين المجازاً بأن نحمل مجازا على الأعم من الإرث بلا واسطة أو مع الواسطة ونبقي العلماء على عمومها، وبين أن تخصص العلماء بالأوصياء، وقد تقرر في محله تقديم التخصص على المجاز.

ص: 174

وقد أكد هذا الإشكال صاحب البلغة ولم يجب عنه، وقد أجاب عن ذلك بعض الفضلاء بهذا الجواب بقوله : أن الظاهر من الخبر العموم، والأوصياء عليه السلام داخلون في عموم العلماء، فتكون نسبته الوارثية للمجموع فلا يلزم مجاز ولا تخصیص، بل أن بعضها يأبی حملها على الأئمة لاشتمال بعضها على أمور لا تناسب جلالة شأنهم، مثل قوله علیه السلام ما لم يدخلوا في الدنيا ونحوه.

هذا مع أن في بعضها التعبير (بالفقهاء) وهو يأبی عن الحمل على الأوصياء أیضاًكما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لولده محمد: تفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء. فإن مورده محمد وهو ليس بوصي.

مضافاً إلى أن تخصيصه بالأوصياء لعله من التخصيص المستهجن، لكثرة الخارج وقلة الداخل، إلا أن يحمل على العهد وهو خلاف الظاهر .

وأورد على الاستدلال بها ثانياً : بأن المراد بالإرث العلم، لأن المتبادر من كون العالم يرث النبي هو الأرث في العلم، خصوصا بمناسبة الحكم للموضوع، وأخذ عنوان العالم في مورد البيان إلى آخره .

وأذكر في هذا الإيراد والجواب أن الإرث مطلقاً، فتقيده بالعلم لا وجه له، ومناسبة الحكم للموضوع تقتضي ثبوت الإرث في جميع المقامات والمنازل، وأخذ الإرث بالعلم لا يوجب تقيد باقيها، على أنها ظاهرة في التقية، فإن الأنبياء يورثون الأموال، كما احتجت بذلك السيدة الصديقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، إلا أن يحمل ذلك فيها على أن الأنبياء ليس بشأنهم

ص: 175

ذلك، أو بمعنى أنهم لم يقصدوا ولم يسعوا إلى توريث المال، وإنما يقصدوا ويهتموا لتوريث العلم كما هو ظاهر مادة ( ورث ) فلا ينافي في ذلك توريثهم المال .

وأرد أيضاً على هذه الطائفة بإيرادت آخر تركناه وتركنا أجوبتها خشية الإطالة .

الطائفة الثانية

: ما ورد( من أن العلماء أمناء)، وفي بعضها الفقهاء أمناء الرسل، وفي بعض آخر (المؤمنون الفقهاء حصون الإسلام).

وتقريب الاستدلال بها: أن الأمين هو الذي يعتمد عليه في حفظ مال الغير، ولا إشكال أنه لا إيراد بهذا المعنى هنا، فلا بد أن يراد به بقرينة الحال والمقال الاعتماد عليه في حفظ ما كان على النبي صلی الله علیه وآله حفظه ومسؤولاً عنه من الأحكام الشرعية والأمور العائدة للرعية شؤونهم ومصالحهم ورفع الفساد عنهم.

وهذا لازمه رجوع أمر الرعية إليه، وجعل الولاية العامة له . وهكذا معنی حصون الإسلام.

وقد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة بما ذكره صاحب العناوين وصاحب البلغة بما حاصله : أن متعلق المتعلق الأمانة هو خصوص الدين وأحكام شريعة سيد المرسلين، بمعنى أن ما جاء به الرسل من الأحكام فهو محفوظ و مؤمن عند الفقهاء فيرجع لهم فيه، لأن هذا المعنى هو المنصرف له من تلك المطلقات كما يعطي تصريح بعضها بالأمناء على الحلال والحرام، و كذلك كونهم حصون الإسلام معناه كونهم حفظة أحكام

ص: 176

الإسلام من الضياع .

وجوابه : أن إطلاق الأمانة وإطلاق الحصن من دون ذکر متعلّقه يقتضي العموم لكل ما على الرسل حفظه وتحصينه من التلف، كحفظ النظام وإدارة الشؤون والمصالح التي تتعلق بالنفوس والأعراض والأموال، ودعوى» أن إطلاقات هذه الأخبار مهملة من هذه الجهة وغير مسوقة البيانها (فاسدة)، لأنها دعوی بلا برهان، والأصل يقتضي كونها في مقام البيان، و تقیید بعضها بالحلال والحرام لا يقتضي تقيد جميعها.

وبهذا يظهر ما في كلام بعض المحققين حيث قال : الأمانة تكون في الودائع والوديعة المستودعة عند العلماء هي الأحكام فتختص الرواية بمقام الفتوى دون

إعطاء سائر مناصب الرسل.

ووجه الظهور: أن هذا إنما يتصور في الأمانة بمعناها الحقيقي لا في الأمانة بمعناها المجازي، فإنه يصح نسبتها لكل أمر يوكل أمره للغير من الأحكام وحفظ النظام وإدارة شؤون الإسلام والمسلمين.

وقد أورد عليها أیضاًبأن المراد بها الأئمة علیهم السلام.

وجوابه : إن هذا ينافي في ما في بعضها، کرواية السكوني عن أبي عبدالله علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله : «الفقهاء أمناء الرسول ما لم يدخلوا في الدنيا قيل : یارسول الله صلی الله علیه وآله وما دخولهم في الدنيا ؟ قال عليه السلام اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم». .

الطائفة الثالثة

: ما دل على أن العلماء خلفاء رسول الله صلی الله علیه وآله کمرسلة الفقيه عن أمير المؤمنين علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه وآله أنه قال : «اللهم

ص: 177

ارحم خلفائي، قيل : ومن خلفائك يا رسول الله صلی الله علیه وآله ؟ قال الذين يأتون بعدي ویروون حديثي وسنتي» .

ووجه الاستدلال بهذه الطائفة واضح، فإن إطلاق الخليفة عرفاً حتى في زمان الصحابة على من يكون له التصرف في شؤون الرعية ما لولي الأمر من التصرف والسلطنة، والولاية عليهم تنزيلاً للخلف بمنزلة السلف،كيف لا والخليفة للشخص بقول مطلق من يقوم مقامه في كل ما كان له من الصلاحيات والأهليات والولايات.

فالمنزلة الثابتة له ثبتت لمن استخلفه عنه، ويرشدك إلى ذلك تفريع قوله تعالى: «ِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاس»على قوله تعالى «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْض» فإن مقتضى هذا التفريع أن يكون جعل الخلافة ليس لخصوص تبليغ الأحكام.

وقد أورد على هذه الطائفة بأكثر الإيرادات المتوجهة على الاستدلال بالطائفة الأولى والثانية والجواب .

نعم احتمال أن يكون المراد بهم الأوصياء علیه السلام لا يجيء في الرواية المتقدمة، لأنها كما في قضاء الوسائل ظاهرة في ورودها في أبان بن تغلب.

نعم في رواية مخاطبة أمير المؤمنين علیه السلام لكميل قال : أولئك خلفائي يحتمل فيها ذلك.

ويورد أیضاًعلى الاستدلال بهذه الطائفة أن ذلك يقتضي ثبوت کلما كان النبي صلی الله علیه وآله للعلماء وليس كذلك فيلزم التخصيص بالأكثر .

وجوابه: الظاهر أنه خليفة عليهم فيما يحتاجونه فيه لا في غيره من الأشياء.

ص: 178

ولو سلمنا فمقتضی استخلافه النبي صلی الله علیه وآله لهم هو جعله بمكانه ومنزلته، وهو يستدعي ثبوت كلما جعل له الشارع من الأحكام من تعظيمه واحترامه

وإطاعة أوامره ونواهيه وزعامته للعلماء، فالآثار الشرعية تثبت للخليفة إلا ما دل الدليل على عدمه، فلا يلزم التخصيص بالأكثر.

ويورد أیضاًعلى الاستدلال بهذه الطائفة بضعف السند .

وجوابه : أن ضعف سندها منجبر بالاشتهار، ونقل الإجماع على مضمونها كما تقدم في الاستدلال بالإجماع، وموافقتها لعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقاعدة نفي الضرر، ونفي العسر والحرج، وقاعدة الإحسان، وكل معروف صدقة وغير ذلك مما يشرف بصاحبه الجزم بعموم الولاية .

الطائفة الرابعة

: ما ورد في أن الفقهاء قادة، فقد روي عن المفيد بسنده إلى محمد بن علي عليهما السلام عن آبائه أنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

«المتقون سادة والفقهاء قادة والجلوس إليهم عبادة» .

ووجه الاستدلال بها ظاهر ويؤيده ما في رواية أخرى الأنبياء قادة والفقهاء سادة .

الطائفة الخامسة

: ما ورد في جامع الأخبار أن العلماء كسائر الأنبياء قبلي، وفي آخر أنهم كسائر أنبياء بني إسرائيل .

وفي خبر ثالث عن رسول الله صلی الله علیه وآله مله : «علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل»، كما هو المحكي عن مفتاح الفلاح للشيخ البهائي، وعن تقریرات الأنصاري رحمه الله في مسألة تقليد الميت .

ص: 179

وفي خبر رابع : أن فضل العلماء على الناس كفضل رسول الله صلی الله علیه وآله على أدناهم.

وفي الفقه الرضوي إنه قال : منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل .

ووجه الاستدلال بها : أن النبي صلی الله علیه وآله لا ريب في ثبوت الولاية العامة له، ومقتضى التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت ما للمشبه به للمشبه خصوصا الرواية الأخيرة إذ التعبير فيها المنزلة .

فهذه الروايات تقتضي ثبوت كل ما للنبي صلی الله علیه وآله للعالم إلا ما أخرجه الدليل.

ويرد على الاستدلال بها ما أورد به على الاستدلال بالطائفة الأولى وجوابه نفس الجواب .

نعم قد يقال هنا أنه لم يعلم ثبوت الولاية العامة لأنبياء بني إسرائيل وإنما ثبت تبليغهم للأحكام الشرعية فلا ينفع التشبيه مع هذا الاحتمال .

ولا يخفى ما فيه فإنه لا إشكال في أن بعضهم كان له ذلك، ثم إن النبوة الحقيقية تقتضي الولاية إذ الولاية لا تكون إلا لأفضل الرعية والنبي هو أفضل الرعية.

وقد يقال أن الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة والعلماء والفقهاء والحكام مقام النبي والوصي صلوات الله عليهم في الأمور الثابتة لهم صلوات الله عليهم من حيث النبوة والرسالة لا في مطلق الأمور الثابتة لهم ولو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم.

توضيح ذلك: إن تعليق الحكم بالوصف يشعر خصوصاً في المقام المحفوف بقرائن عقلية ونقلية شيء بالعلية فتشبيه العالم بالنبي أو تشبیه

ص: 180

الراوي بحجة الله لا يفيد إلا التنزيل والتشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين الله وعباده أو من الإمامة التي هي وساطة بين النبي والرعية، فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه واسطة بين الله وخلقه وهي حيثية تبليغ الأحكام فهو ثابت لمن ناب منابه وقام مقامه.

وأما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة كخصائص النبي صلی الله علیه وآله من الأمور الشرعية والعادية فالتشبيه والتنزيل المزبوران لا يعطيان المشاركة فيها أيضا، لأنها خارجة عن الحيثية المشار إليها، بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الأحكام وتبليغ الحلال والحرام، حتى أنه لولا أدلة القضاء وحكم العقل بوجوب إقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة دونه خرط القتاد .

ولا يخفى ما فيه فإن حيثية النبوة تقتضي الولاية العامة إلا إذا قام الدليل على عدم الثبوت بل التحقيق أن الوالي لما كان بحكم العقل أن يكون أفضل الرعية والنبي صلی الله علیه وآله يلزم فيه أن يكون أفضل الرعية.

فالنبوة تقتضي الولاية، بل هي أظهر آثارها ثم مجرد أخذ العنوان في مقام التشبيه لا يقتضي أن يكون وجه الشبه بخلاف العنوان أن يكون منافاة في الكلام أو فيه تجوز، بل مقتضى التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت جميع ما للمشبه به للمشبه إلا ما أخرجه الدليل أو ثبوت صفات المشبه به للمشبه .

الطائفة السادسة

: ما ورد من أن العالم ولي من لا ولي له ونحوه، كالنبوي المشهور على الألسن وتداولته بعض الكتب من قوله صلی الله علیه وآله : السلطان ولي من ولا ولي به .

ص: 181

وجه الاستدلال بهذه الطائفة: هو أنه مقتضی جعل الولاية للعالم والسلطان على كل من لا ولي له أن يكون له الولاية على المسلمين في زمن الغيبة، لأنه لا ولي لهم فعلاً يدير شؤونهم ويرجعون له في مهمات أمورهم.

وبعبارة أخرى : إن هذه الطائفة تدل على أن كل ما له صلاحية لأن يكون له ولي فالفقيه وليه، إذ لا يعقل أن يكون المراد بالذي لا ولي له مطلق من لا ولي له، وإلا لزم أن يكون العاقل الرشيد أیضاًالعالم وليه، لأنه الاولي له فلا بد أن يكون المراد بالذي لا ولي له هو خصوص من كان له قابلية الولاية وشأنية نصب الولي له، ولا شك أن المسلمين في زمن الغيبة لهم القابلية لأن يكون ولي لهم يدير شؤونهم ويدير أمورهم.

الطائفة السابعة

: ما ورد کما في كنز الكراجكي عن الصادق عليه السلام أنه قال : إن العلماء حكام على الملوك كما أن أن الملوك حكام على الناس.

ووجه الاستدلال: أن الظاهر من الحكام في الرواية هو السلطة عليهم والتحكم في أمرهم ومقتضى كونهم لهم السلطة على الملوك أن يكون لهم السلطة على الناس بالأولوية .

الطائفة الثامنة

: ما دل على أن العالم حجة الإمام على الناس كقوله في التوقيع المشهور عن الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف : (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله). قال بعض العلماء عن الجواهر: أنه في بعض النسخ (فإنهم خليفتي عليكم)، وعليه فيكون التوقيع من قبل الطائفة الثالثة، إلا أن المشهور هو النسخة الأولى

ص: 182

وقد وصفه المرحوم الشيخ محمد طه نجف بأنه مقطوع به أو كالمقطوع.

ووجه الاستدلال: أن الحجة يجب اتباعها فيكون العالم واجب الاتباع، وهذا يقتضي أن يكون له الولاية، وحذف المتعلق يقتضي العموم لكل ما كان للإمام عليه السلام الولاية عليه .

الطائفة التاسعة

: ما ورد من أن العلماء كافلون لأيتام آل محمد صلی الله وعلیه وآله .

ووجه الاستدلال: أنه مقتضى الكفالة لهم هو التولي لشؤونهم، وأن المراد بأيتام آل محمد هم المسلمون بأعتبار أبوة الأئمة عليهم السلام لهم لقوله صلی الله علیه وآله : (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة). ويشهد لذلك المروي عن الاحتجاج عن مولانا الكاظم عليه الصلاة والسلام أنه قال : فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعة عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد .

الطائفة العاشرة

: ما دل على أن من عرف أحكامهم فهو حاكم وقاضي كمقبولة ابن حنظلة ومشهورة أبي خديجة .

ووجه الاستدلال: بهما أن ظاهرهما اعطاء منصب القضاء الذي تعطيه سلاطين العصر لقضاتهم.

ولا ريب أن سلاطين ذلك العصر كانوا يعطون لقضاتهم علاوة على ولاية فصل الخصومات والولاية على القصر والأوقاف ونصب القيم على مال اليتيم والحكم في الهلال إلى غير ذلك .

الطائفة الحادية عشرة

: ما دل على أن مجاري الأمور والأحكام

ص: 183

على أيدي العلماء بالله الأمناء على الحلال والحرام، كما ورد في الخبر عن سید الشهداء علیه السلام في كتاب تحف العقول، ورواه عنه صاحب کتاب

الوافي في كتاب الأمر بالمعروف .

وكما في التوقيع الشريف عن الحجة علیه السلام المروي في إكمال الدين وفي الاحتجاج للطبرسي الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب: «وأما

الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» .

ووجه الاستدلال بهذه الطائفة: أن مقتضی جعل جریان أمور المسلمين على يد الفقيه ورجوعهم في حوادثهم إليه هو ثبوت الولاية العامة له عليهم .

وأوردنا على الاستدلال بها المرحوم أغا ضياء العراقي في كتاب البيع بأن مثل هذا العنوان مختص بالأئمة علیهم السلام ولا أقل من كونهم قدراً متيقناً في مقام التخاطب المانع من إطلاقه .

ولا يخفى ما فيه فإن العنوان ( العلماء والرواة ) كل منهما جمع محلی باللام يفيد العموم بالوضع لا بالاطلاق فلا وجه للأخذ بالقدر المتيقن في مقام التخاطب.

هذا مع إنا لا نسلم أنه هو القدر المتيقن، بل لعل قرائن الأحوال تقتضي أن المراد بها الفقهاء لا الأئمة لمعلوية أن الأئمة علیهم السلام يرجع لهم في الحوادث و بیدهم مجاري الأمور .

(إن قلت: أن المراد بالأمور وبالحوادث هي الأحكام الشرعية .

قلنا: إن مقتضی عطف الأحكام على الأمور أن يكون المراد بها غير الأحكام، لأن العطف يقتضي المغايرة، والتأسيس أولى من التأكيد وعطف تفسير شاذ نادر .

ص: 184

مضافاً إلى أن إضافة المجاري إلى الأمور يشعر بتجددها وحدوثها وقتاً بعد وقت .

والأحكام الشرعية لا تتصف بذلك، وبهذا تعرف أن الحوادث لا يكون المراد بها الأحكام الشرعية، بل المراد بالحوادث مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس المتعين لحفظ النظام.

قال بعض المحققين رحمه الله : إن الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء من البدهيات في الإسلام من السلف إلى الخلف مما لا يمكن أن يخفی على مثل إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد المسائل التي أشكلت عليه .

(إن قلت: إن المراد بالحوادث الواقعة هي الأمور التي لا بد من وقوعها فتختص الرواية بالأمور الحسبية فإنها هي الأمور التي يريد الشارع وقوعها في الخارج كما احتمل ذلك المرحوم أغا ضياء العراقي .

قلنا: هذه الأمور لا توصف بالوقوع وإنما توصف بالمطلوب أو غير ذلك .

(إن قلت): أنه لا بد من تنزيلها على الأمور المعهودة الجارية بين المسلمين إذ لو لم تحمل على ذلك لزم كثرة التخصيص البالغة حد الاستهجان في ارتكابها .

(توضيح) ذلك: أن كثرة التخصيص إذا بلغت حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود، ولذا حكموا في كلمة الناس في قوله تعالى: « الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم» الآية بأن المراد في الأول (نعیم بن مسعود) وفي الثاني (أبو سفيان وأصحابه لعنهم الله) على طريق

ص: 185

العهد دون التخصيص حذراً من استهجان تخصيص الأكثر، بل كثرة التخصيص وإن لم تبلغ حد الاستهجان توجب وهن العمل بالعام فلا يعمل بالعام إلا بعد الاطمئنان بعمومه لذلك المورد .

ولذا قلنا في لا ضرر واشباهها و ک (لا حرج) وأمثالها و آیات القصاص أنه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج من تحتها إلا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها .

قلنا: لا يلزم في ذلك كثرة التخصيص المستهجن فإن الظاهر منها أن الأمور والحوادث التي يرجع فيها الرعية للرئيس بقرينة المقام والحال المعلومية أن مثل شرب الماء وأكل الخبز ونحوها من الأمور لا يسأل عنها السائل ولا هي مورد التوهم، وإنما المنصرف من ذلك هو الأمور التي يرجع فيها للرئيس فلا يلزم التخصيص المستهجن على أنه من قال بالولاية العامة بالمعنى الأعم بنحو يشمل المقام الثاني والثالث للإمام لا يلزم عليه التخصيص بأكثر وتكون هذه الرواية له لا عليه .

(إن قلت): إن الظاهر أن مجاري جمع مجرى اسم مكان لا مصدر ميمي يعني محال جریان الأمور والأحكام، وعليه فيكون المراد بها المصالح والمفاسد الجارية منها الأحكام جریان الماء من النبع ومن المعلوم إنها بيدهم بمعنى أنها لا يعرفها غيرهم .

(قلنا): إن الظاهر من قوله عليه السلام بأيدهم أو على أيديهم هو كون أمرها يرجع لهم المعرفة مختصة بهم وإلا لقال مجاري الأمور أعرف بها، فيكون المعنى إن الموارد التي تجري فيها الأمور والأحكام بأيديهم وتحت سلطنتهم إن شاؤا أوجدوها وإن شاؤا أزالوها وهذه كناية عن الولاية التامة .

ص: 186

(إن قلت): إن الظاهر منها الأئمة علیهم السلام لأن في رواية التحف بعد ما وبّخ العصابة المشهورة بالعلم بعد التزامها بالأمر بالمعروف وغصبهم لمنزلة غيرهم قال عليه السلام: إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

وهذا يقتضي أن المراد بهم خصوص الأئمة علیهم السلام لأنهم هم الذي غصبوا حقهم.

(قلنا): الكلمة عامة والغصب يكون في كل وقت للعالم العادل الذي يستحق المنصب فلا دلالة في الرواية على إرادة خصوص الأئمة علیهم السلام من

هذا اللفظ في هذه الفقرة.

نعم يكون الأئمة عليه السلام أحد مصاديقها في عصرهم عليه السلام على أن هذه التدقيقات في ألفاظ الأخبار لا وجه لها، فإنها إنما وردت لإفهام بسيطة فينبغي أن يؤخذ بمفاهيمها العرفية .

واستغرب بعض المحققين منهم المحقق الإيرواني رحمه الله حيث فسر مجاري الأمور بالأحكام حيث قال: هذه العبارة تدلّ على أن المجری بید العلماء والمجرى الذي يمكن فرض كونه بيدهم هو الأحكام والقوانين الشرعية التي ينبغي أن يصدر المكلفون في حركاتهم وسکناتهم عنها ولا يتخلفون عنها .

قال المستغرب : ووجه الغرابة ظاهر في أنه أولاً : أن الأحكام الشرعية ليست أمرها بيد العلماء، وإنما أمرها بيد المشرع وهو الله تعالی .

وثانياً : عطف الأحكام على الأمور في الحديث المذكور حيث إن الرواية (مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء) يمنع من ذلك حيث إن

ص: 187

العطف ظاهر في المغايرة.

(إن قلت): أن قوله عليه السلام في التوقيع الشريف (وأما الحوادث الواقعة ) إنما يستفاد منه العموم حيث لا عهد، ولم نعلم أن المسؤول عنه أي شيء هو، فلعله كان أمرة خاصة وحوادث مخصوصة فتكون اللام إشارة لها وللعهد بها، والدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال .

(قلنا): تقدم العهد لا يرفع دلالته الوضعية على العموم لا سيما إذا كان الكلام ما يصح الابتداء به ويصلح لضرب القاعدة، ألا ترى أنه لو قال القائل: (إنه كان عندي اليوم جماعة من العلماء والعلماء يجب إكرامهم)

فهل يصح رفع اليد عن عموم العلماء بجعله للعهد، ولذا اشتهر أن خصوصية المورد لا توجب تخصص الوارد ولو سلمنا ذلك فمقتضى اقتصار الراوي على ذلك وعدم نقله للسؤال يدل على إرادة العموم وألا يكون قد أخل بالنقل .

(إن قلت): أن تعليل الرجوع في الحوادث الواقعة لرواة الحديث بأنهم حجته علیه السلام في التوقيع الشريف يقتضي الرجوع إليهم في خصوص تبلیغ الأحكام الشرعية فقط، لأن الحجية إنا تكون في التبليغ لأمر، وهو إنما يكون في المقام تبليغ الأحكام الشرعية، ولا يشمل التصرفات الشخصية في النفوس والأموال أو التصدي للمصالح العامة من الحكومة وفصل الخصومة، فإن ذلك كله أجنبي عن مفهوم الحجية .

فالتوقيع الشريف أجنبي عن المدعي كما ذكره بعض الأكابر، ولكن تعليل الحكم بالحجية لا يتقضي تخصیص عموم الحكم، فإنه أي منافاة بين وجوب الرجوع للرواة في سائر الحوادث و کون العلة في ذلك هو كونهم

ص: 188

حجة في تبليغ الأحكام، فإنه من الممكن أن يكون صحة تبليغهم للأحكام جعلت لهم أهلية الرجوع إليه في سائر الحوادث، بل لعل الحقيقة الواقعية في المعصومين هو ذلك فإن أهليتهم لتبليغ الأحكام على الوجه الأكمل اقتضت جعل الولاية لهم لمعرفتهم بأحكام التصرفات والأعمال، وإذا كان الأمر كذلك فليس التعليل موجبة لانثلام عموم العام.

(إن قلت): إن رواية مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء بالله هي منقولة عن تحف العقول وسياقها يدل على أنها مخصوصة بالأئمة علیهم السلام والظاهر

كذلك فإن المذكور فيها هم العلماء بأحكام الله .

ولعل المراد بها بیان مقام الأئمة علیهم السلام وإن الأمور بحسب التكوين بيدهم نظير ما في الزيارة من قوله (بکم ینزل الغيث) فهي دليل على الولاية التكوينية لا الولاية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة .

(قلنا) : ليس في سياقها ما يقتضي ذلك كيف وقد ذكر في الرواية لفظ الأئمة علیهم السلام قبل هذه العبارة فقال الأئمة علیهم السلام: «فاستخففتم بحق الأئمة علیهم السلام » فلو كان مراده الأئمة علیهم السلام لذكرهم بهذه العبارة ولما عبر عنهم بالعلماء وإما تقيد العلماء (بالله) فهو أیضاًلا يقتضي إرادة الأئمة علیهم السلام لأن الفقهاء أیضاًلهم علم بالله قال الله عزوجل «إنما يخشى الله من عباده العلماء » وهذا التخصيص لا بد أن يكون من جهة زيادة معرفتهم بالله تعالی .

مضافاً إلى أن الرواية في أغلب فقراتها لفظ الجلالة كقوله علیه السلام قبل تلك الفقرة (القيام بحق الله)، وقوله علیه السلام : (عاديتموها في ذات الله أنتم تتمنون على الله)، وقوله علیه السلام : «لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله تعالی»، وقوله عليه السلام : «لأنكم بلغتم من كرامة الله»، وقوله عليه السلام : «ومن يعرف الله»، وقوله علیه السلام :

ص: 189

وأنتم في عباد الله»، وقوله عليه السلام : «عهود الله»، وقوله علیه السلام : «وذمة رسول الله صلی الله علیه وآله» .

فهذه الفقرات كلها قبل تلك الفقرة فكان السياق يقتضي إتيان لفظ (الله) مع العلماء والله العالم .

ص: 190

موضوعات البحث في التقليد

اشارة

ص: 191

ص: 192

قوله : « أو مقلدة، أقول : إن شرح هذه الكلمة يعلم من خلال البحث في المواضيع التالية :

الأول : تعريف التقليد في اللغة بصورة إجمالية .

الثاني : الدليل على وجوب التقليل أو جوازه من الكتاب الكريم .

الثالث : الدليل على وجو التقليد أو جوازه من طريق السنة الشريفة .

الرابع : الدليل على وجوب التقليد أو جوازه من طريق الإجماع .

الخامس : الدليل على وجوب التقليد أو جوازه من طريق العقل .

السادس : الدليل على وجوب التقليد أو جوازه ببناء العقلاء .

السابع : الدليل على وجوب التقليد أو جوازه بسيرة المتشرعة .

الثامن : الدليل على وجوب التقليد أو جوازه بارتكاز المتشرعة .

التاسع : من هو القائل بحرمة التقليد وما هي أدلته على ذلك .

العاشر : تفنيد أدلة القائل بحرمة التقليد .

ص: 193

ص: 194

الموضوع الأول تعريف التقليد بصورة إجمالية

اعلم وفقك الله إلى جادة الصواب إنه قد اختلف العلماء في تعريف التقليد، فقال بعضهم : «أنه الأخذ بقول الغير من غير حجة» .

ومراده من قول الغير هو رأيه وإلا فيصدق التعريف المزبور على الآخذ بقول البينة في الموضوعات، وكذا الأخذ بقول المعصوم علیه السلام مع أنه ليس من التقليد في شيء، وقوله : «من غير حجة» يعني من غير مطالبة دليل على رأيه.

وقال البعض : إن التقليد هو قبول قول الغير، وعن بعضهم : أنه العمل بقول الغير .

وأردأ التعاريف ما في العروة من أن التقليد معناه : الالتزام بالعمل بقول الغير، وقال بعضهم : إنه الالتزام والتعلم كلاهما .

والحق هو القول الثالث وهو نفس العمل برأي المجتهد والتعلم أو الالتزام في بعض المقامات من مقدماته لا أنه نفس التقليد، وهذا هو الموافق للعرف العام والمعنى اللغوي، كما اعتبره صاحب الفصول حيث قال: « وقول العلامة قدس سره في النهاية بأن التقليد هو (العمل بقول الغير من غیر حجة معلومة) بيان لمعناه اللغوي، كما يظهر من ذیل کلامه، وإطلاقه على هذا شائع في العرف العام، وإنما أعرض عن هذا والتزم بأنه إلا التزام

ص: 195

بقول الغير، زعماً منه بأنه يستلزم المحذور ولزوم الدور ونحوه، و تخیل التقليد بالإضافة إلى العمل، كصعود الدرج بالإضافة إلى السطح في كونه مقدمة إلى العمل، غافلا عن أنه نظير الستر أو الاستقبال بالإضافة إلى الصلاة من الأمور المقترنة لا المتقدمة .

فالتقليد تطبيق غير المجتهد عمله موافقاً لفتوى المجتهد ورأيه في الأحكام الشرعية، ويلزم الدور المتقدم لعدم توفقه على سبق التقليد، ولا يلزم من عدم سبقه كون العمل بلا تقلید، فصحة العمل لا تتوقف على أزيد من كونه مطابقة لرأي الغير عند المكلف.

نعم لا بد من العمل بقول الغير، وفتواه العلم بأن العمل الكذائي مطابق له ومجرد العلم وتعلم فتواه لا يكون تقليدة، فما وجب على المكلف العامي هو إيجاد العمل على طبق فتوى الغير وتعلم الفتوى أو الالتزام أو البناء من مقدمات التقليد لو احتج إليها لا أنها نفس التقليد ».

ولا يبعد أن يكون المراد من الأخذ بقول الغير أو قبول قول الغير الذي ذكر في تعاريف العلماء - هو نفس العمل كما هو المراد من قوله عليه السلام : «خذ ما وافق الكتاب»، أو «خالف العامة»، أو «ما اشتهر بين أصحابك»، وأما الالتزام أو البناء والتعبد بمقتضاه بحيث يكون هناك واجب آخر متعلق بالجنان - من قبيل الالتزامات والتدينات فلزومه على المكلف في الفرعيات ممنوع، كتوقف صحة العمل عليه أيضاً.

والحاصل: أن الجامع بين المجتهد والمقلد هو العمل بالتكاليف بحسب أدلة التكليف، غاية الأمر أن الأول يعمل برأيه وفتواه والثاني يعمل برأي مجتهده، فكما أن معرفة الأحكام مقدمة للعمل برأيه في الأول كذلك تعلّم

ص: 196

فتوى الغير في الثاني .

ومما يؤيد أن التقليد هو نفس العمل قولهم : «يحرم على المجتهد تقلید غيره، ويحرم على العامي تقليد غير المجتهد، فإن متعلق التحريم ليس إلا العمل المنطبق على رأيه لا مجرد العلم برأيه أو الالتزام والبناء القلبي.

كما أن الذي يحكم به الفطرة وبديهة العقل هو وجوب العمل بقول الغير وعلمه.

وبالجملة: الأدلة العقلية والنقلية القائمة على التقليد دالة على وجوب العمل بقول الغير .

ومن جميع ما ذكرنا يظهر أن التفصيل الذي ذكره بعضهم من أن التقليد هو نفس العمل في مسألتي البقاء على التقليد وعدم جواز العدول من الحي إلى الحي غير الأعلم، وفي غيرهما هو التعلم والبناء في غير محله، فإن التقليد له معنى واحد وليس له معنيان.

وما الدليل على التفكيك بين الموارد؟

فإن قلت : إن التقليد بالمعنيين المزبورين لعله يستفاد من الدليل العقلي الفطري حيث يحكم بالفرق بين المعنيين المذكورين .

قلت : لا نسلم ذلك لما مر من أن الظاهر منه في جميع الموارد هو نفس العمل ليس إلا هذا كله مع اتحاد المجتهد .

أما مع تعدّده، فإما أن يتفقوا في الفتوى أو يختلفوا فيها .فإن اتفقوا فيها فالظاهر على أنه لا دليل على تعيين واحد منهم فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم، وأدلة حجية الفتوى كأدلة حجية الخبر، وسائر الطرق

ص: 197

والأمارات إنما تدلّ على حجية الفتوى بنحو صرف الوجود الصادق علی القليل والكثير، فكما أنه لو تعدد الخبر الدال على حكم معين يكون الجميع حجة على ذلك الحكم كما يكون البعض كذلك ولا يجب تعیین واحد منها معيناً أو مردداً كذا لو تعددت الفتوى فإن الواقع صار مکشوفاً بالحجة .

ومنه ظهر ضعف أخذ التعيين للمجتهد في مفهوم التقليد كما هو ظاهر المتن وإن اختلفوا في الفتوى، فلما كانت الحجية بنحو الطريقية امتنع أن يكون الجميع حجة للتكاذب الموجب للتناقض، ولا واحد معين، لأنه بلا مرجح، ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى، لأنه خلاف الإجماع والسيرة.

فتعين أن يكون الحجة هو ما يختاره، فيجب عليه الاختيار مقدمة لتحصيل الحجة، وليس الاختيار إلا الالتزام بالعمل على طبق إحدى الفتويين أو الفتاوی، وحينئذ يكون الالتزام مقدمة للتقليد لا أنه عينه .

ومما ذكرنا ظهر أنه لا مدخلية للالتزام في التقليد، بل لا يكون مقدمة له إلا في مثل المقام، وأن القول بأن التقليد هو الالتزام أردأ التعاريف .

ص: 198

الموضوع الثاني الدليل القرآني على صحة التقليد

اشارة

لقد ذكرنا فيما تقدم أقوال العلماء في معنى التقليد بما لا مزيد عليه وباختصار هنا نقول: أنه عبارة عن عمل العامي في الأحكام الشرعية بفتوى العالم بها، استناداً إلى استنباط العالم من الأدلة الشرعية، لا استنادا إلى نفس الأدلة .

وهذا المعنى من التقليد يدلّ على صحته أو جوازه من القرآن الكريم آیات عديدة نشير إلى بعضها بما يلي في تسلسل منتظم بالأرقام :

الآية الأولى : آية النفر

: هذه الآية الشريفة تسمى آية النفر وهي قوله تعالى : «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون»(1) .

بتقريب : وجود الملازمة العرفية بين الإنذار وبين الحذر عقيبه .

وليس هذا إلا جعلاً تعبديلاً لحجية إنذار المنذرين ، وإلا فلو لم يحذر المنذرون ۔ بالفتح - لزم لغوية إيجاب الإنذار، لأن المقصود من الإنذار الحذر، وكذلك اطلاق وجوب الحذر من دون قيد بحصول العلم من الإنذار يقيد حجّية الإنذار بما هو إنذار لا بما هو مفيد للعلم.

ص: 199


1- سورة التوبة : 122

ونوقش في دلالة هذه الآية على المطلوب بمناقشات أصحّها هو : أن العرف الملتفت البعيد عن المناقشات المنطقية واللغوية ونحوهما، إذا عرض عليه معنى هذه الآية لا يفهم منها تأسيس أو تشریع شيء جديد، وإنما يفهم منها بیان طريقة تكوينية عرفية لنشر الأحكام وعمل الناس بها، وهي أن يتعلم جماعة الأحكام ويبلغونها لسائر الناس .

وطبيعي أن يحصل الاطمئنان - المعبر عنه بالعلم العادي، والعلم العرفي - لكل سامع من قولأحدهم أو اثنين منهم، وليس معنى الآية إنه إذا كان في المنذرين أبو هريرة - مثلا: فأنذر بشيء وجب اتباعه لمجرد إنه منذر .

نعم، المنذر الصادق اللهجة فيما نحن فيه . يجب اتباعه لا لأنه منذر، بل لأن صدق لهجته يجعل إنذاره طريقة عرفية لتحصيل الحكم الشرعي، التي يعذر فيها مع انكشاف المخالفة للواقع ولا يعذر مع انكشاف الموافقة، وما قيل : من أنه مع عدم الوثاقة وصدق اللهجة لا يصدق عليهم عنوان المنذرین،فمثل أبي هريرة وأضرابهم هم خارجون بالتخصّص لا بالتخصیص .

وفيه : تأمل واضح، إذ الإنذار ليس فيه للشارع اصطلاح جديد، والمعنى اللغوي المعروف يشمل الثقة وغيره، وصادق اللهجة وغيره.

وما ذكره بعض المحققين رحمهم الله في تقرير بحث الأصول من الأمور الثلاثة التي بملاحظتها جعل دلالة الآية تامة وما صرحه غيره من أن الآية أصرح دلالة على حجية الخبر الواحد من آية النبأ، ففيهما : ملاحظات ذكرها العلماء في كتب الأصول .

نعم يمكن أن يقال في جواب المناقشة : بأن الطريقة العرفية قد أقرها الشارع المقدس .

ص: 200

وأما بقية المناقشات في الآية : من أن الآية دلت على قبول الإنذار لا على قبول الإفتاء، وبينهما عموم من وجه .

فالإنذار أخص وأعم من وجه، والإفتاء أعم وأخص من وجه، لأن الإنذار معناه التبليغ مع التخويف وليس هذا في مطلق الإفتاء الذي محل البحث حجيته .

أو احتمال تقيد وجوب الحذر بما إذا حصل العلم القطعي بصدق المنذر، أو اختصاص الآية بموارد نقل الأحاديث والأخبار الشريفة .

كما كان ذلك دأب و دیدن الصدر الأول ومن تأخرة من أصحاب النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة وأكمل التحية والسلام، وما ورد في تفسيرها مستفيضاً: من أن المراد بالتفقه هو معرفة الإمام بعد ارتحال الإمام السابق، فلا ارتباط لها بتعلم فروع الدين، أو نحو ذلك، فهي لا تنافي الدلالة وقد نوقشت في كتب الأصول عند البحث عن حجية الخبر الواحد.

الآية الثانية : آية السؤال

: وهي قوله تعالی :« فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون»(1) .

بتقريب : إن غير العالم يلزم رجوعه إلى العالم، وهذا هو معنى التقليد .

وفي دلالتها على المطلوب أیضاًمناقشات : أصحها نفس المناقشة المذكورة في الآية السابقة وهي : أن الله سبحانه و تعالی أراد أن يحمل اليهود على الاعتراف بالسلام فقال لهم : إنكم إن تقولوا لا نعلم کون

ص: 201


1- سورة النحل : 43

محمد صلی الله علیه وآله نبياً فلا يحق لكم عدم الإيمان به لمجرد عدم علمكم بنبوته، بل يجب عليكم عقلاً أن تسألوا علماء كم الذي تعتقدون بهم عن علامات نبی آخر الزمان .

وليس معنى هذا أن مجرد سؤال الجاهل من العالم يجعل قول العالم حجة لأنه عالم، بل لأن الجاهل إذا سأل العالم الذي يعتقد به عن شيء، يحصل له الإطمئنان، أي : العلم العادي بقوله غالبا، وذلك الاطمئنان هو الحجة، لا قول العالم، لأنه قول عالم حتى ولو حصل الشك العرفي في صدقه، لعدم الثقة به، أو لغير ذلك .

وهذا نظير أن ينقل شخص فتوی مجتهد، لمقلّده، فإذا لم يقتنع المقلّد يقول له : إن كنت لا تعتقد بقولي فراجع رسالة هذا المجتهد، فهل هذا القول معناه جعل الحجية لرسالة المجتهد بما هي رسالة وإن كانت مشحونة بالأغلاط بحيث يسلب عرفاً الاعتماد عنها ؟

کلا، وإنما هو لأن الرجوع إلى الرسالة يوجب سکون النفس والاطمئنان بفتوى المجتهد غالباً، وهكذا في آية السؤال .

والحاصل : إن الآية تأكيد لموضوع عرفي خارجي، لا تشريع لطريق جديد شرعي.

نعم، العالم الثقة الصادق اللهجة، يجب الأخذ بقوله، لانقطاع العذر مع مخالفته .

وهذه هي أهمّ مناقشة يمكن أن تعتبر صحيحة وموجبة للإشكال في استفادة الاطلاق من هذه الآية وقد عرف الجواب عنها في الآية المتقدمة .

ص: 202

وأما بقية المناقشات في دلالتها على ما نحن بصدده وذلك : بأن السياق في علماء اليهود، و تأويلها في الأئمة علیهم السلام، وليس في شيء منهما مراجعة العامي إلى العالم.

أو معنى ذلك السؤال من أهل الذكر، حتى تعلموا علماً خارجياً .

أو معنى ذلك حجية قول العالم إذا سئل، لا إذا ما لم يسأل أو غير ذلك فهي أيضاً غير تامة .

ذكرها العلماء بالتفصيل مع أجوبتها في كتب الأصول في موضوع حجية

الخبر الواحد .

الآية الثالثة : آية النبأ

: وهي قوله تعالى : «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين»(1) .

لقد دلت . بمفهومها - على حجية قول المخبر العادل، والفقيه العادل ينبئ عن حكم، فيجب قبول قوله وهذا هو التقليد .

وما يقال : من أن الفقيه يخبر عن رأيه، مردود بأنه يخبر عن حكم الله ولكن بحدسه كأهل الخبرة الذين يخبرون عن القيمة الواقعية بحدسهم.

وما نوقش به في دلالة الآية على المفهوم من مناقشات كثيرة ربما بلغت النيف والعشرين ليس بشيء، لأنها مناقشات لا تصادم الظهور العرفي سوی مناقشة احتمال أن يكون « إن جاءكم» من قبيل الشرط المحقق للموضوع مثل : إن رزقت ولدا فاختنه، فلا يكون للشرط مفهوم أصلاً، فظاهر «وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» هو أن خبر الفاسق يوجب التبيّن من دون لحاظ

ص: 203


1- سورة الحجرات : 6

إن خبر العادل يوجب التبين أو لا يوجب، وليس الموضوع : الخبر إن جاء به الفاسق، حتى يكون مفهومه الخبر إن جاء به العادل لقدم خصوصيته، ولا لحاظ المجئ، أصلا وإنما الملحوظ هو صدور الخبر عن الفاسق، فكون مفهومه مفهوم اللقب المتسالم على عدمه بين المتأخرين .

ولعلّ هذه المناقشة هي التي ربما تصادم الظهور اللفظي، وإن كان قد يقال بأن الأصل في الشرط أن يكون قيداً للموضوع لا محققة للموضوع، فإذا شك في شرط إنه قيد للموضوع، أو محقق له يحمل على القيدية، فيكون للجملة الشرطية مفهوم مطلقاً، إلا إذا علم الشرط فيها محقق للموضوع، فتأمل .

الآية الرابعة : آية قبول ما أتى به الرسول

: وهي قوله سبحانه : « وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون»(1) .

رتب الله سبحانه الدم على الكفار بأنهم قلدوا آباءهم ولو كان آباؤهم لايعلمون شيئا ولا يهتدون، فتدل بمفهوم الغاية على أنه لا ذم إذا كان الأباء يعلمون شيئاً ويهتدون، والمجتهد العادل يعلم أحكام الله تعالى ويهتدي إليها فيجوز تقليده واتباعه .

الآية الخامسة : أية اتباع الوحي

: وهي قوله تعالى :« وَ إِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ

ص: 204


1- سورة المائدة : 104

لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون»(1) . وهي كسابقتها في وجه الدلالة .

وما يقال : من أن الآيتين و أمثالهما إنما وردت في أصول الدين، التي لا يجوز التقليد فيها فالمراد حصول العلم، وإنهم إنما ذموا لعدم حصول العلم لهم من قول الآباء، فكيف تدل على جواز التقليد في الأحكام مع خروج موردها عن عن هذه الأدلة - وخروج المورد مستهجن لا يصار إليه في كلام الحكيم ؟ وفيه : إنه حقق في الأصول جواز التقليد في أصول الدين إذا أوجب الاطمئنان والعلم العادي، ولا دليل على لزوم الاستدلال في أصول الدين، زيادة على المعرفاً التي تطلق على التقليد الموجب للجزم وسكون النفس، كما هو الغالب بل المتعارف في تقليد العوام لعلمائهم فإنهم يجرمون، بل يطعنون بالشيء بمجرد تفوه العالم المجتهد به .

وما أجاب به بعض الأساتید : بأن إطلاق الآيتين تام وإن كان خرج من الإطلاق أصول الدين . فمنظور فيه . إذ خرج المورد عن الإطلاق مستهجن بذاته، وليس كخروج فرد آخر من الإطلاق كما هو مذكور مفصلا في بحوث الأصول .

الآية السادسة : آية الأمانة والعدل

: وهي قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ »(2) . دلت الآية على وجوب الحكم بالعدل، وهو بدلالة الاقتضاء وصون كلام

ص: 205


1- سورة البقرة : 170
2- سورة النساء : 58

الحكيم عن اللغوية يدل على وجوب قبول الحكم بالعدل، فإذا حكم المجتهد بالعدل أي : حكمة بالموازين الشرعية - لأنه من الحكم بالعدل - وجب على الناس تقليده والأخذ بحكمه.

ولذا قال أبو عبد الله علیه السلام في رواية المعلی بن خنيس في تفسير هذه الآية : « عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأن الأئمة بالعدل، وأمر الناس أن يتبعوهم »، فأمر الناس باتباعهم يستفاد عرفاً من وجوب الحكم بالعدل .

وأرد عليه : بأن الآية خاصة بالأئمة المعصومين علیهم السلام بقرينة هذه الرواية وأمرت الأئمة بالعدل» و ظاهر : «الأئمة» هم الأئمة المعصومون علیهم السلام ولا إشكال في وجوب اتباع المعصومين، إنما الكلام في غيرهم، أي المجتهدين .

ونوقش هذا الإيراد أو الإشكال بما معناه وهو : إن آيات القرآن عامة لكل زمان و كل شخص، لرواية مضمونها: « إنما مثل القرآن مثل الشمس فكما أن الشمس تشرق كل يوم على أشخاص جدیدین، كذلك القرآن، ورواية : « إنما نزل القرآن با ياك أعني واسمعي يا جار ».

ولا ينافي ذلك كون التأويل في الأئمة علیهم السلام ككثير من الآيات التي أولت فيهم علیهم السلام أو كونهم عليهم السلام أظهر المصادیق .

ولذا كان الحق المحقق الذي عليه المشهور : إنّ ظواهر القرآن حجة يؤخذ بها وإن كان تأويلاتها فيهم علیهم السلام ويعضد ما ذكرناه : ما في صدر الآية «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها »في أنها دالة على ما نحن بصدده .

ص: 206

وكذلك ما جاء عن يونس بن عبد الرحمن قال : «سألت موسی بن جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها » فقال علیه السلام : هذه مخاطبة لنا خاصة، أمر الله تبارك وتعالى كل إمام منا أن يؤدي إلى الإمام الذي بعده ويوصي إليه، ثم هي جارية في سائر الأمانات، ولقد حدثني أبي، عن أبيه، أن علي بن الحسين عليهما السلام قال لأصحابه: «عليكم بأداء الأمانة» . وفي هذا الحديث دلالة واضحة على ما نحن بصدده أیضاًوأنها أي الإمامة من باب المصداق الأكمل، لا من باب الحصر .

وأشكل أیضاً: بأن الآية وردت في الحكم بين الناس بين المتخاصمين، وأين هو عن الفتوى التي هي محل الكلام ؟

وأجيب : إن الحكم لغة هو : الالزام، وهو مرادف للافتاء تقريبا، وأعم

من أن يكون في خصومة أصلا، وكذلك عرفاً وشرعا، يقال : حكم فلان على ابنه بالدرس، وحكم الزوج على زوجته بلزوم الدار، وحكم المعلم على التلميذ بحفظ القرآن.

وهكذا قال تعالى: «وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فيها حُكْمُ اللَّهِ »(1) ، وقال تعالى:« أَلا لَهُ الْحُكْمُ »(2)، وقال تعالى : «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّه »(3)، وقال تعالى : « وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه »(4)، وقال تعالى : «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً

ص: 207


1- المائدة : 43
2- الأنعام : 62
3- يوسف : 40
4- المائدة : 47

وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّون»(1)، وقال تعالى : «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّه»(2) .

وقد ورد في الأحاديث : «الحكم حكمان، حكم الله عز وجل، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله، حكم بحكم الجاهلية».

وفي الحديث أیضاً: «إن الله جنة لا يدخلها إلا ثلاثة : أحدهم من حكم في نفسه بالحق»، وفي موضع آخر: «ومن حكم بحكم فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت»، وفي حديث ثالث : «على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل عن حكم الله وحكم رسوله»، وحديث رابع : «حکم الله عزوجل في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة»، إلى غير ذلك من الموارد التي ورد الحكم فيها بمعنى : الإلزام، والإفتاء، في القرآن والسنة وهو كثير جداً.

ويقول الفقهاء : إن حكم الحاكم الشرعي لا يجوز نقضه، بریدون به الأعم من الحكم الابتدائي، والحكم بين المتخاصمين .

مضافاً إلى أنه على فرض اختصاص الآية بالحكم بين المتخاصمين، فإنه يتعدى عنه إلى الحكم الابتدائي بالمناط القطعي، وهو : إن حجية حكم الحاكم بين المتخاصمين ليس لأنه تخاصم، بل لأنه عارف بالحكم، كما هو ظاهر أدلة الرجوع في الحكم إلى العارف بأخبار المعصومين عليهم السلام فإذا كان حجية قوله لأجل معرفته بالحكم، كانت هذه العلة موجودة أیضاًفي المفتي ابتداءً بلا خصومة .

ص: 208


1- المائدة : 44
2- المائدة : 44، 45، 67

إذن: فالآية دالة على وجوب تقليد الحكم بالعدل، والمجتهد من مصادیقه.

الآية السابعة

: وهي قوله تعالى : «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّه»(1).

والخطاب فيها لرسول الله صلی الله علیه وآله والمعنى : إنا أنزلنا القرآن بالحق لتحكم بين الناس بما أعلمك الله من القرآن، فإذا كان نزول القرآن لكي يحكم عليه للناس، كان اللازم على الناس قبول حكمه، ويتعدى هذا الحكم عن نفس رسول الله صلی الله علیه وآله إلى سائر المجتهدین بدلیلین : الأول : الأسوة: لقوله تعالى : « لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة »فكلما كان لرسول الله صلی الله علیه وآله فهو لسائر المسلمين إلا ما خرج بالدليل .

الثاني : سياق نفس الآية: فإنه لو كان نزول القرآن ليحكم به شخص النبي صلی الله علیه وآله بين الناس فقط، لتعطل حكم القرآن بارتحال رسول الله صلی الله علیه وآله من بينهم، والضرورة قائمة على بقاء حكم القرآن مدى الدهر .

ويؤيد ذلك : إن الحكم الصادر عن الأدلة المتخذة من النبي صلی الله علیه وآله وأهل بيته الأطهار علیهم السلام بتوسع عرفي - امتداد لما أرى الله نبيه .

والإشكال بأنه في مقام الحكم، لا الإفتاء، وسوف تعرفت الجواب عنه في ذيل الآية الثامنة.

الآية الثامنة : آية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت

: وهي قوله تعالى : « أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ

ص: 209


1- سورة النساء : 105

مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه»(1).

قال العلماء: أن مفهوم هذه الآية هو : إن الذين لا يريدوه أن يتحاكموا إلى الطاغوت، بل يتحاكمون إلى المجتهد الذي يفتي على الكتاب والسنة فهم ممن أمنوا صدقة بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وليس إيمانهم زعميا، فيكون تقليدهم له جائز صحيحة وإيمانا بما أنزل على النبي صلی الله علیه وآله وما نزل من قبله .

ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال : « يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور يقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله تعالى : « أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ » وأشكل بعضهم هنا : بأن المفهوم للوصف، ولا حجية له على المشهور بين المتأخرين .

والجواب : إن الوصف الذي تضمن عرف معنى الشرط له مفهوم، القضاء العرف به .

وهنا منه فإن ظاهر الآية إنهم إن أرادوا التحاكم إلى الطاغوت فإيمانهم بالرسول صلی الله علیه وآله زعم لا واقع له، ومفهومه : إن لم يتحاكموا إلى الطاغوت

فإيمانهم صدق وحق.

وأشكل أيضاً : بأن الآية لا إطلاق لها من جهة حاكم العدل، والقدر

ص: 210


1- سورة النساء : 60

المتيقن منه هم الأئمة المعصومون علیهم السلام فلا دلالة في الآية على حجية قول المجتهد للعاصي .

والجواب : أن المجتهد الذي يحكم على طبق القرآن والسنة لا يسمى طاغوتاً، ويكفي في جواز الخصومة عنده وقبول قوله أن لا يكون طاغوت، لأن المذموم هو مراجعة الطاغوت فقط .

ويؤيده صحيح أبي بصير المتقدم ونحوه خبر ثاني مروي عنه يرفعه إلى الصادق عليه السلام قال : « أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه

إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعها إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : «ألم تر إلى الذين يزعمون ... » .

وبالجملة: إن ظهور قوله عليه السلام « فدعاه إلى رجل من إخوانه » في فقهاء الشيعة، واضح جلي، كما أن إطلاق : « حاكم أهل العدل » على الفقيه الذي يفتي بحسب روايات أهل البيت عليهم السلام ظاهر لا غبار عليه .

الآية التاسعة : آية الولاية والطاعة

: وهي قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم »(1).

وقد استدل بها على حجية قول المجتهد، وجواز التقليد - بالمعنى الأعم - بتقريبين :

التقريب الأول : إن «أولي الأمر» جمع مضاف، وهو يفيد العموم، وقد خرج منه الحكام الجائرون بالنص والإجماع، وبقي الباقي وهم المعصومون علیهم السلام و مجتهدوا الشيعة العدول أعلى الله كلمتهم .

ص: 211


1- سورة النساء : 59

وقد أشكل على هذا التقريب بأن المراد من « أولي الأمر » هم الأئمة المعصومون علیهم السلام لا غير، بقرائن :

إحداها : إن الظاهر من « أطيعوا » المحذوف المتعلق هو : وجوب عموم الطاعة في كل شيء في الأحكام والموضوعات الخارجية .

وهذا النوع من الطاعة، المطلقة مختصة بالأئمة المعصومين علیهم السلام كما ثبت في محله بأدلته.

ثانيها : اقتران طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله يعطي وحدة نوع الطاعة الله ولرسوله، ولأولي الأمر.

ثالثها : المستفيضة التي قد يدعي تواترها معنى، وليس بالبعيد، والتي منها رواية الكافي بسنده، عن بريد العجلي، عن الباقر علیه السلام في حديث : «ثم قال

للناس :« يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم»إيانا عني خاصة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا». ونحوها كثير غيرها .

رابعها : تعقيبه تعالی ذلك بقوله :«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِر» وهو يشعر بأن عدم طاعة أولي الأمر يخرج الشخص عن ربقة الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم طاعة المجتهد ليس كذلك، لقيام الضرورة على أن غیر المقلد ليس خارجاًعن الإيمان .

التقريب الثاني : إن التقليد وطاعة المجتهد العادل في الأحكام الشرعية هو امتداد لطاعة الأئمة المعصومين علیهم السلام لا لقوله عليه السلام : « وأما الحوادث الواقعة » وغيره من الأحاديث الإرجاعية حتى يورد عليه بأن الاستدلال بالآية لا بالأحاديث .

ص: 212

بل لأن المجتهد العادل يتعب نفسه في استخلاص فتاوى الأئمة المعصومین علیهم السلام بإخلاص .

فكلما توصل إليه واستنتجه من الأحكام الشرعية التي اعتقد أنها التكاليف الواصلة إلينا بطريق المعصومين عليهم السلام فتقليده فيها ومتابعته، والأخذ بقوله يعتبر - عرفاً . طاعة وانقيادة للأئمة عليهم السلام فإن لم يكن من الانقياد اللازم فلا شك إنه من الانقياد المستحسن عند العقل والعقلاء .

ألا ترى إنه لو كتب مولى أوامره إلى عبيده في كتب، وجاء عبد مخلص وعادل وأتعب نفسه في استفادة مرادات المولى من تلك الكتب، ثم ذكر أنه استفاد من كلمات المولى وأقواله أن أوامره کیت و کیت، كان من الانقياد والطاعة للمولى : أن يأخذ سائر العبيد بقوله ولعملوا بما رآه أنه أوامر المولی .

وهذا التقريب يفيد دلالة الآية الكريمة على حجية قول المجتهد العادل، لزوما، أو جوازاً على الأقل في مقام الإطاعة والمعصية لدى العقلاء . ولا يرد عليه ما أورد على التقريب الأول .

ص: 213

ص: 214

الموضوع الثالث الاستدلال للتقليد بالسنة الشريفة

اشارة

لقد تحدثنا بما لا مزيد عليه عن المدرك أو الدليل القرآني على حجية قول المجتهد العادل و تقليده في نفس الوقت لزومة أو جوازة على الأقل وذلك بما أوردناه من الآيات الكريمة الدالة على ذلك .

وهنا في هذا الموضوع نتحدث عما جاء من السنة الشريفة من الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الدالة على وجوب التقليد أو جوازه، فنقول : قد استدل العلماء من طريقها على جواز التقليد بأنحاء الدلالات المختلفة .

وقد رتبوا ذلك في طوائف عدّة تزيد على أقل مراتب التواتر الموجب للقطع بالصدور، وربما تعد بالمئات ونحن نذكر ما تيسر لنا ذكره فيما يلي :

الطائفة الأولى

: الأخبار الدالة على وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الشيعة التي تدل - بالالتزام - على حجية فتاواهم، لأن الرجوع إليهم أعم من سؤال الرواية أو الاستفتاء .

أولها : (صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن الهادي عليه السلام « قال : سألته وقلت : من أُعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟

فقال عليه السلام : العمري ثقتي فما أدى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك

ص: 215

عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون ».

فإطلاق : « ما أدّى ، و كذا : « ما قال » مؤيداً بذيله « فاسمع له وأطع » كل ذلك، أو عمومه، يشمل قسمي نقل الحديث، والفتوى .

ألا ترى لو أن أحمد بن إسحاق، سأل عن الشك بين الثلاث والأربع، فقال له العمري: ابن على الأربع، فعمل به، كان عاملاً بقول الإمام عليه السلام ؟

وقد جاء هذا الخبر في البحار عن الشيخ في كتاب الغيبة بتعبير آخر نورده إتماماً للفائدة :

قال أحمد بن إسحاق بن سعد القمي : « دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام، فقلت : يا سيدي أنا أغيب وأشهد ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت، فقول من تقبل ؟ وأمر من نمتثل ؟

فقال لي عليه السلام : هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعني يقوله، وما أذاه إليكم فعتي يؤديه، فلما مضى أبو الحسن علیه السلام وصلت إلى أبي محمد، ابنه : الحسن صاحب العسكر عليه السلام ذات يوم، فقلت له مثل قولي لأبيه، فقال لي، هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في الحياة والممات، فما قاله لكم فعني يقوله، وما أدى إليكم فعني يؤديه » .

وفي هذا الحديث دلالة واضحة على التعميم فيما نحن بصدده .

ثانيها : ( رواية ابن يقطين ) وهو الحسن بن علي بن يقطين، عن الرضا عليه السلام قال : « قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم دیني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة أخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟فقال : نعم».

ص: 216

ومن الواضح أن أخذ معالم الدين يكون بالسؤال عن الرواية، والاستفتاء، كما إن هذه الرواية تدلّ على المفروغية عن الكبرى، وهي حجية قول الثقة في نظر الحسن بن علي بن يقطين، وإنما سأل الإمام عليه السلام عن الصغرى، وإن يونس بن عبد الرحمن هل هو مصداق للكبرى وثقة أم لا؟ والإمام أقره على الكبرى .

ثالثها : (رواية الهمداني) وهو علي بن المسيب الهمداني قال : « قلت للرضا عليه السلام : شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن أخذ معالم ديني ؟

قال علیه السلام : من زکریا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا، قال عليه السلام ابن المسيب : فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه .

رابعها : (حسنة ابن المهتدي » وهو عبد العزيز بن المهتدي، قال : «قلت للرضا عليه السلام : إن شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت . فأخذ معالم دیني عن يونس مولي آل يقطين ؟ قال عليه السلام : نعم» .

خامسها : ( التوقيع الشريف بالإرجاع إلى الفقهاء ) وهو عن مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف ، وجعلنا من أنصاره والتابعين له - إلى إسحاق بن يعقوب :« وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي علیکم وأنا حجة الله » .

والإرجاع إليهم يشمل الفتوى والإشكال فيها بأن لام «الحوادث » للعهد، ولا أقل من احتمال ذلك فلا يكون فيها عموم، يدفعه : إن الظاهر من اللام في مثل المقام الاستغراق، وكونه للعهد يحتاج إلى قرينة لا يصار إليه

ص: 217

إلا بدليل أظهر .

مضافاً إلى أنه الأصل فيها . كما حققه المحققون، في روايات الاستصحاب من الأصول ..

واحتمال قرينية شيء ساقط عن الرواية أو غير مذكور من أجل تقطع الأحاديث الذكر كل قطعة في بابها المناسب لها، مدفوع بالأصل، فضلا عن القطع بالقرينة الذي ادعاه العراقي حيث قال : « نظير الحوادث الواقعة المعلوم اقترانها بما يصلح للقرينة، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتمسك بالإطلاق ».

وذلك لعدم العلم والاحتمال مدفوع بالأصل العقلائي ظاهراً في مثله، مع أن التعليل به « أنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله » يقتضي العموم.

ونوقش في سند الرواية ودلالتها على المطلوب الذي نحن بصدده .

والجواب : أنه المناقشة في السند بإسحاق بن یعقوب و محمد بن محمد ابن عصام لعدم التوثيق لهما، تقدم تفنيدها.

وأما في الدلالة بأن الإرجاع إنما هو إلى الرواة لا إلى المجتهدين، يدفعها ما يلي من الردود التي من جملتها :

أولاً : بأن المجتهدين من أظهر مصاديق الرواة، فهم رواة وزيادة واجتهادهم عن الروايات لا يخرجهم عن كونهم رواة .

أترى لو أن الرجل سأل الكليني قدس سره عن المذي، فقال له الكليني هو طاهر وعمل الرجل بقوله أفلا يكون مصداقا للتوقيع الشريف ؟ أو ليس قد رجع في حكم الحادثة إلى رواة الحديث ؟

فهل يجب أن ينقل الكليني - في الجواب عن المسألة - رواية حتى

ص: 218

يصدق أن الرجل رجع إلى الرواة وإلا لا يصدق ؟

وكذلك المجتهدون، رواة ينقلون للناس ما استفادوه من الروايات في الحوادث الواقعة .

وثانية بعدم الفرق فيما لو سأل زید وعمرو ومجتهداً عن المذي، فقال الزيد : هو طاهر ونقل لعمرو رواية وقال له : في الحديث إنّه «ليس به بأس».

فهل رجوع عمرو إلى المجتهد من الرجوع إلى الرواة، وليس رجوع زید رجوعاً إلى الرواة ؟

وثالثا : بأن تعليل الإمام عليه السلام بقوله : «فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله » دليل على عمومه لنقل الرواية والفتوى، إذ الحجة لا تنحصر فيمن ينقل متون الأحاديث، بل إن شمول « الحجة » للمجتهدين اللذين ينقلون متون الأحاديث مع بيان مراداتها أولى .

ثم المقابلة بين : «فإنهم حجّتي » وبين « وأنا حجة الله » يعطي ذلك أيضا.

فهل كان الإمام عليه السلام حينما يسأل عن المسائل ينقل عن الله آية أو حدیث قدسية في الجواب أم كان ديدنه، و دیدن أجداده الأئمة علیهم السلام أنهم يفتون في جواب المسائل .

فكما إن الإمام عليه السلام حجة الله، وليس معناه أن ينقل عن الله نصا، كذلك الرواة حجة الإمام، وليس معناه أن ينقلوا عن الأئمة علیهم السلام نصوص الروایات، والتفريق بين الحجتين - في معنى الحجية للفرق بين موردیها بلافارق ظاهراً.

ورابعاً : بأنّه لو لم يجز الرجوع في الاجتهادیات، لإيماء « رواة حديثنا »

ص: 219

بالرجوع لسماع نصّ الحديث، لكان في فقرة « الحوادث الواقعة » كفاية في العموم، إذ لا شك إن كل الحوادث الواقعة ليس في الروايات جزئياتها، فتأمل .

مضافاً إلى أن المعنى «الحجة» لغة وعرفاً هو المعتبر قوله سواء نقل عن غيره شيئا أو أفتى عن نفسه ما استفاده من كلام مولاه.

فلو قال زيد لعبيده ابني حجتي عليكم، كان معناه : إن كل ما يأمركم به وينهاكم عنه ابني فهو معتبر عندي، ويشمل عرفاً ذلك أن يقول الابن للعبيد: قال أبي : اصنعوا الغذاء الفلاني، أو يقول : بدون قال أبي - اصنعوا الغذاء الفلاني، ولو عصى العبيد، ولم يأتمروا حينما أمر الأبن - بدون نقل عن أبيه - كان للمولی معاقبتهم، والاعتذار بأنه لم ينقل الابن عن المولى شيئاً ليس بنافع عرفا.

وكذلك يقال : فلان حجة في النحو، أو حجة في اللغة، معناه : إن كل ما يقوله في النحو أو اللغة معتبر سواء نقل عن سيبويه النحوي، او الطريحي اللغوي شيئا، أو لم ينقل عن أحد، ولكن قال : الفاعل يجب رفعه، أو الصعيد مطلق وجه الأرض، وهكذا.

سادسها : (رواية الاحتجاج) عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال : قال الصادق عليه السلام في حديث طويل : «و كذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا و حرامها - إلى أن قال عليه السلام -: فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم» .

تدلّ بمفهوم الحصر المستفاد من تقسيم الفقهاء إلى قسمين على أن

ص: 220

الفقيه الذي ليس له فسق ظاهر، وعصبية شديدة، وتكالب على حطام الدنيا، يجوز تقلیده .

وفي فقرة أخرى من نفس هذه الرواية الطويلة : « فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظا لدينه، مخالفة على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه» .

وفي فقرة ثالثة منها أیضاً: «فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ولا كرامة» .

تدل بالمفهوم العرفي على قبول قول المجتهد الذي لم يركب مراكب فسقة فقهاء العامة .

وفي بعض فقرات أخر من الرواية دلالات وإشارات على المقصود لم نذكرها لطولها .

ونوقش في هذه الرواية سنداً ودلالة :

أما سنداً : فبأن التفسير لم تثبت صحة نسبته إلى الإمام العسكري عليه السلام ، لان الناقل للتفسير هو يوسف بن محمد بن زیاد، وعلي بن محمد بن يسار، وهما مجهولان، وما روي في توثيقهما فطريقه هما بأنفسهما، والاعتماد عليه دوري .

وردّت المناقشة السندية : بأنه لا يبعد القول بحجية التفسير لاعتماد کثیر من أساطين الحديث والفقه عليه .

ونسبته إلى الإمام علیه السلام قديماً وحديثاً من أمثال الصدوق رحمه الله النظر في من لا يحضره الفقيه، الذي ضمن ما فيه وقال : «إنه حجة فيما بيني وبين رأيي ...

وجميع ما فيه مستخرج من کتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع »

ص: 221

وفي « العلل » و« الأمالي » وغيرهما، وكذلك رواه عن الصدوق رحمه الله جمع من أساطين الدين كالمفيد، والطوسي، والطبرسي في الاحتجاج، والرواندي في الخرائج، ابن شهر آشوب في المناقب، والمحقق الكركي،

والشهيد الثاني : والحبرين : المجلسيين، والمحقق الوحيد البهبهاني، وفقه أهل البيت المحدث الأكبر والمحقق الأجدر والأكثر في التحقيق مولانا الشيخ يوسف البحراني في : كتابه الفوائد النجفية، والمولى العلم الحاج محمد جعفر الخراساني في أكليل الرجال، والحر العاملي في : الوسائل، والمحدثين : الجزائري والتوبلي، وتلميذ الشهيد الأول الحسن الشريف بن سليمان الحلي، والشيخ الحويزاوي صاحب : نور الثقلين، وأبي الحسن الشريف، والعلم النحرير الحاج میرزا حسين النوري، وجمع من المعاصرين.

وقد يستظهر من الشهيد والمحقق الثانيين كون التفسير والرواية في غاية الاعتبار .

وهذا المقدار کاف في السيرة العقلائية للاعتماد على مثل هذا التفسير، وليس في المقام إشكال سوی تضعیف العلامة رحمه الله للتفسير والرواية، ووجود بعض القصص الغريبة فيه.

قال في الخلاصة . عن محمد بن القاسم راوي التفسير - : « ضعيف كذّاب، روی - یعني الصدوق رحمه الله - عنه تفسیرة يرويه عن رجلين مجهولين: أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، والآخر بعلي بن محمد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث علیه السلام والتفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير».

مضافاً إلى أن المعظم من فقهائنا المعاصرين والمقاربين لا يعتمدونه

ص: 222

ولذلك فالتردد والشك قائم .

ويجد الباحث التفصيل حول التفسير المذكور في خاتمة مستدرك الوسائل وشرّاح العروة، والمصنفون المعاصرون بين مصحح ومضعف ومتردد .

ولكن بما أن الأصحاب قد عملوا به فهو مجبور بشهرة وعمل الأصحاب والله العالم .

ثم أن هذا كله هو البحث في هذا التفسير الموجود الآن والمطوع المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام .

وهناك كتاب آخر في التفسير منسوب إليه علیه السلام لم يعثر عليه يقال إنه في مائة وعشرين مجلداً.

وأما المناقشة في دلالتها على ما نحن بصدده : فبأن الفقرة الثانية وقعت في الرواية بين الفقرتين الأولى والثالثة ودلالتهما بالمفهوم، ودلالة الثانية بالمنطوق .

والفقرتان الأولى والثالثة بالمفهوم تدلان على ما نطقت به الفقرة الثانية، والفقرة لا دلالة لها، فلا دلالة للرواية على لزوم التقليد على العامي أصلاً، وذلك لأن لام «فللعوام» رخصة وجواز .

لا لزوم فيه كما يقال - مثلاً - إذا صار المغرب في شهر رمضان فللناس الإفطار .

وقد ردّت المناقشة الدلالية بما يلي:

أولاً : اللام هنا بمعنی علی، نظير اللام في قوله تعالى : «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ

ص: 223

سُجَّدا(1) وقوله تعالى : دَعانا لِجَنْبِه (2) وقوله تعالى : وَتَلَّهُ لِلْجَبين (3) وقوله تعالى : وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (4).

وقول الشاعر : (فخر صريعا لليدين وللفم) إلى غير ذلك من الأمثلة، ومجئ اللام بمعنی : على، أي فعلی، غیر عزیز .

والمتبادر إلى الذهن - غير المشوب بهذه الشبهات - هو كون اللام بمعنی على، أي : فعلى العوام أن يقلّدوه .

وثانياً : يمكن أن يكون اللام لدفع توهم الخطر من قبيل قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (5)) ونحوهما، وذلك في مقابل عدم جواز

تقلید فسقة الفقهاء .

وثالثاً : إن الكلام ليس في وجوب التقليد، وإنما هو في جوازه مقابل الإخباريين، وبعض علماء حلب، الذين حرّموا التقليد .

ورابعاً : بعد عدم تمكن العامي من الاجتهاد والاحتياط يتعين عليه التقليد، ولا يجوز له ترکه، فالجواز أعم من الوجوب.

والحاصل : إن الحديث الشريف حجة دلالة بما يقطع العذر عرفاً وإن أشكل فيه سنداً.

الطائفة الثانية

: الأخبار الدالة على جوازم الإفتاء الملازم عرفاً

ص: 224


1- سورة الاسراء : 107.
2- سورة يونس : 12.
3- الصافات : 103.
4- الإسراء : 7.
5- البقرة : 158.

الجواز الأخذ به و تقليد الغير له، نذكر منها ما يلي :

1. (رواية عطية العوفي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال لعطية العوفي : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك» .

فلو لم يجب للمستفتي العمل بالفتوى، كانت لغواً والإمام علیه السلام لا يأمر باللغو .

2۔ (صحیح معاذ النحوي) عن مولانا الإمام الصادق علیه السلام قال : « بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت : نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج إني أقعد في المسجد فيجى الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجئ الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، أما إذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، فقال علیه السلام لي : اصنع كذا فأني كذا أصنع » .

والرواية بإطلاقها تشمل الإفتاء ونقل الرأي : المستنبط من أقوالهم عليه السلام ، بل كلمة «فتفتي» شبه صريحة في مثل ذلك، وأيضاً : « فأدخل قولكم » یعم نقل الخبر والإفتاء، وصدق مثل هذه الرواية - عرفاً - لمثل المجتهدين في العصر الحاضر، الذي يستفتهم الناس، ويفتونهم لعله مما لا ينبغي الارتياب فيه .

3- (عن رجال الكشي) في رجال الكشي عن محمد بن مسعود، عن أحمد

ابن منصور، عن أحمد بن الفضل الكناسي قال : قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «أي شيء بلغني عنكم ؟ قلت : ما هو ؟ قال عليه السلام : بلغني أنكم أقعدتم قاضياً

ص: 225

بالكناسة، قال : قلت : نعم جعلت فداك رجل يقال له : عروة القتات، وهو رجل له حظ من عقل نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل، ثم ير ذلك إليكم، قال علیه السلام : لا بأس».

وظاهر « يرد ذلك إليكم » الأعم من نقل الرواية أو الإفتاء المستنبط من الروايات .

الطائفة الثالثة

: الأخبار الناهية عن الإفتاء بغير علم وارد عن المعصومین علاء الدالة بمفهومها على جواز الإفتاء مستنداً إلى ورود الحكم عنهم عليه السلام وجواز هذا يلازم جواز العمل به عرفا .

ونحن نذكر بعض الأخبار فيما يلي :

1- (صحيحة أبي عبيدة) عن أبي جعفر علیه السلام : « من أفتي الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه ».

2- (مرسلة الكافي) عن الإمام الباقر عليه السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم ».

3- (قرب الإسناد) بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « من أفتى الناس برأيه فقد دان بما لا يعلم ».

4- (مرسل العوالي) ما في المستدرك عن عوالي اللثاليء عن النبي صلی الله علیه وآله قال في حديث : «ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه، فقد هلك وأهلك .

5- (وفي منية المريد الشهيد الثاني) : عن النبي صلی الله علیه وآله : « من أفتى بفتيا

ص: 226

من غير تثبت . وفي لفظ بغير علم - فإنما إثمه على من أفتاه » .

وهذا وإن كان مفهوم وصف وهو غير حجة على المشهور إلا إن تردّده بين اثنين يجعله ذا مفهوم عرفة نظير النهي عن شرب الماء واقفاً بالليل فتأمّل.

ومثل الأحاديث الواردة بهذه المضامين في النهي عن القياس،والاستنباطات الظنية، والاستحسانات، والإفتاء بالرأي، مما تدلّ بمفهومها على جواز الإفتاء بما ورد عنهم عليهم السلام وبالعلم، وبالتثبت، وبغير الرأي، وهو يعلم الناسخ من المنسوخ، ونحو ذلك، الملازم ذلك كله - عرفاً - لجواز العمل به، وكتاب القضاة من الوسائل والمستدرك، ومقدمات کتاب جامع أحاديث الشيعة، فيها غنيمة باردة بطائفة من أمثال هذه الأحاديث التي هي فوق أدنى التواتر قطعاً، ويوجب العلم الذي لا يشوبه ريب لجواز تقليد المجتهد الجامع للشرائط، الأخذ علمه من روايات المعصومين عليهم السلام وإن كان بعضها، أو معظمها مما خدش فيه البعض واحداً واحداً، سنداً أو دلالةً ولكن المجموع من حيث المجموع يورث العلم بلا ريب .

فلا وجه لما نقله بعض المعاصرين عن بعض مشايخه المحققين : من الإشكال في شمول دلالتها للتفقه بأعمال النظر، وهذا الإشكال إن كان ربما وجه في دلالة : آية النفر، فلا يوجّه فيما نحن فيه، كما هو ظاهر .

ص: 227

ص: 228

الموضوع الرابع الدليل على وجوب التقليد أو جوازه من طريق الإجماع

اشارة

لقد تحدثنا عن المدرك أو الدليل من طريق السنة الشريفة على حجية قول المجتهد العادل و تقليده في نفس الوقت لزوم، أو جواز على الأقل وذلك بما أوردناه من الأخبار الشريفة الدالة على ذلك .

وهنا في هذا الموضوع نتحدث عن الدليل على وجوب التقليد أو جوازه من طريق (الإجماع) فنقول : أن الإجماع قام على جواز التقليد من جهتين :

الجهة الأولى : (الإجماع القولي)

: وقد نقله جمع من العلماء .

وأشكل بأنه محتمل الاستناد، بل مقطوعه - كما ربما أدعي لما تقدم من الآيات والأخبار وفيه : إنه ربما يقال : بصحة الاستناد إلى الإجماع المحتمل الاستناد بما حاصله : إن الأدلة الشرعية - على المبنى المشتهر بين المتأخرين خصوصا المعاصرين - ليست إلا منجزات ومعدرات عرفية، فما كان عرفاً منجزاً أو معذراً صح الاستناد إليه في مقام صدق الإطاعة والمعصية عرفاً.

وإجماع فقهاء الشيعة إذا قام على حكم كان ذلك - عرفاً - موجباً لتنجز مضمونه إذا طابق الواقع، ومعذراً إذا خالفه .

ص: 229

غاية ما يقال فيه : إن الإجماع المحتمل الاستناد فرع حجية تلك الأدلة التي احتمل استناد الإجماع إليها، وتلك الأدلة إن تم صدورها ودلالتها فهي المنجزة والمعذرة لا الإجماع، وإن لم يتم صدورها أو دلالتها فما لا يثبته الأصل، لا يثبته الفرع بطريق أولى، ولكنه مخدوش .

وإنما هو مخدوش، لأن الصدور والدلالة، كلاهما يجبران بالإجماع .

إما الصدور : فظاهر مشهور بين الفقهاء في كتبهم الفقهية والأصولية .

وما أصرّ عليه بعض مراجع العصر تبعا لصاحب المدارك رحمه الله من عدم جبر السند بالإجماع، بل بالغ في الإنكار حتى عبّر عنه بالحجر في جنب الإنسان، لا توافقه سيرة العقلاء، المتبعة في طرق الإطاعة والمعصية - كما يبدو لنا وتقدم .

وأما الدلالة : ففي الأصول : صرح بعضهم بجبرها بالإجماع أیضاًإذا كان اللفظ مجملاً ووهنه بالإجماع أیضاًإذا كان ظاهرة في شيء وتم الإجماع عليه خلاف ظاهره.

وفي الفقه : حمل عامة المتأخرين تبعاً لسلفهم المتقدمين على الجبر والوهن إلا النادر ممّن اضطربت كلماته في الموارد و تخالفت أقواله في4و ألهمه المسائل . )

ووجه ذلك : إنه لو رأينا رواية صحيحة السند ولكن كان في دلالتها على الحكم قصور من إجمال أو نحوه، وقام إجماع على ذلك الحكم. فلو تركنا الرواية لقصور الدلالة، وطرحنا الإجماع لاحتمال استناده إلى تلك الرواية، مع ما في المجمعين من فطاحل وأساطين وأعيان اجتمع فيهم

ص: 230

دقة النظر والتقوى الشديدة من أمثال الكليني، والصدوق، والمفيد، والطوسي، والمحقق، والشهيدين، و كاشف الغطاء، وبحر العلوم، والمقدس الأردبيلي، والشيخ الأنصاري، والمجدد الشيرازي، والشيخ محمد تقي الشيرازي، وغيرهم من كبار فقهائنا رضوان الله عليهم أجمعين .

فإن ظهر واقعاً صحة ذلك الحكم لم يكن لنا عرفاً معذر، كما أن استندنا إلى هذا الإجماع، ثم ظهر واقعا عدم صحة الحكم كان ذلك معذراًعرفاً أو بالعكس كما لو كان دليل لفظي مطلقاً أو عاماً ولم يكن له مقيد أو مخصص لفظي سوی فهم الفقهاء جميعا عدم شمولها لبعض الجزئيات، فهل الأخذ بالعموم أو الإطلاق التارك لفهم الفقهاء تقديمهم وحديثهم يكون معذوراً عند الإصابة ومنجزاً عليه عند الخطأ عرفاً؟

والعرف ببابك، فاختبر نفسك بما إذا صدر أمر من السلطان بلزوم حضور الحكام بحضرته يوم الأضحي مثلاً ثم رأي حاكم من حكام أحد البلدان نص الأمر فلم يفهم منه الوجوب، ولكنه رأى جميع الحكام متجهين إلى حضرة السلطان، وحضر الجميع عند السلطان إلا هذا الحاكم فهل العقل والعرف پریانه معذوراً إذا كان الأمر كما فهم الحكام ؟

وهل يقبل عذره بأنه لم يفهم من الأمر ذلك مع أنه رأى جميع الحكام

فهموا منه ذلك ؟

فإن وجدت من نفسك معذورية هذا الحاكم وصحة عمله كان طرح الإجماع المحتمل الاستناد أیضاًكذلك، وإن كان العكس فالعكس .

ومما يؤيد ذلك، ظهور العسر والضرر والحرج في الإطلاق الشامل لكل

ص: 231

المحرمات حتى الزنا واللواط والسحق ونحوها مع أن الفقهاء لم يفهموا هذا الشمول، فهل يصح لفقيه - لدى العرف والعقلاء أن يفهم الإطلاق الشامل الأمثالها ويفتي بجواز اللواط والزنا - والعياذ بالله - إذا كان حرجاً على الرجل والمرأة الصبر عنهما، لمجرد أن أدلة الضرر والحرج مطلقة ولا مقيدلها بغير الزنا واللواط ؟ خصوصا وبعض المطلقات والعمومات آبٍ عن التقيد والتخصيص - كما قيل - .

وكما لا يخفى أن معظم أصحاب الكتب الفقهية من السابقين واللاحقين رضوان الله عليهم يجبرون ضعف الدلالة بفهم الفقهاء، ويوهنون قوة الدلالة بعدم فهمهما عند الفقهاء، وكتاب الجواهر وغيره مليئة بذلك .

ولنذكر نماذج لذلك من هذا الكتاب، ودفعاً لما لعله أصبح في زماننا من المتسالم عليه عند بعضهم من عدم جبر الدلالة ولا وهنها بموافقة ومخالفة

الأصحاب.

ومنها في المندوب من الوضوء قوله : «والوهن في الدلالة مجبور بفتوى كثير من الأصحاب».

ومنها : في تغير الماء من حمل الغلبة في الروايات على خصوص التغير بقوله : «وأيضاً بقرينة الشهرة ونحوها الغلبة على إرادة التغير».

ومنها : في ماء الحمّام قال : «وما كان في هذه الروايات من ضعف في السند أو الدلالة فهو منجبر بما سمعت من الإجماع المنقول بل المحصّل ...).

ومنها: ما في ماء الغسالة من قوله : « ولعلّ إمكان ذلك إنما هو من جهة الإجماع الجابر لفهم ذلك من الأخبار .

ص: 232

ومنها : في موارد عديدة ذكرت في غير هذا الكتاب نعرض عنها خشية الإطالة .

إلا أنه أشكل أولاً : بأن مرجع الجبر والوهن الدالين إلى تقييد حجية الظواهر أو ظهورها بما إذا لم يوهن بمخالفة المشهور، وحصر إجمال المجمل -موضوعاً حكماً - فيما لم ينجبر بعمل المشهور، ومعنى ذلك : عدم حجية الظواهر مطلقاً و خروج المجمل عن الإجمال غير وارد بعد أن كان عمدة الدليل لظهور الظواهر وحجيتها بناء العقلاء .

والوجدان حاكم بأن بناء العقلاء ليس مطلقاً، بل محصور بما لم يفهم المشهور من أهل الخبرة العدول خلافها، وبعد أن كان عمدة الدليل لعدم حجية المجمل مستنداً إلى عدم بناء من العقلاء على حجية وحكومة الوجدان، بأن عدم الحجية مطلقاً، بل هو ما دام لم يفهم المشهور من أهل الخبرة الثقات منه شيئاً مبيناً، والمسألة جديرة بالتأمل.

وأشكل ثانياً : بأن هذا سد لباب الإجتهاد، إذ كلّ مسألة لا تخلو من فتوى المشهور فيها على طرف من أطرافها، وكل فقيه يجب عليه متابعة المشهور، غير تام لما يلي :

أولاً : بأن المشهور ذهبوا إلى الجبر والوهن الدلاليين _ مما تقدم كلمات بعضهم آنفاً _ ولم يستلزم سد باب اجتهادهم، بل مثل صاحب الجواهر، والشيخ الأنصاري، والمحقق العراقي من فحول المجتهدين وكبار الفقهاء كان فيهم.

وثانيا : بأنا أبناء الدليل، وحيثما مال نمیل، فما دام دليل الحجية وعدمها بناء العقلاء، وعدمه، وما دام البناء وعدمه . في طرفي الجبر والوهن -

ص: 233

محصور فكيف نطلقه نحن ؟

وثالثاً : بأن الكثير من المسائل الفرعية ليست فيها شهرة مقابل الشذوذ، أو لم تحرز فيها ذلك، والمتتبع للفقه يجد ذلك عياناً .

وأشكل ثالثاً : معنى ذلك حجية الشهرة بنفسها كدليل مستقل، وليس بالمبنى كذلك، غير صحيح، إذ لا تلازم بين الأمرين كالظنون التي ليس كل واحد منها حجة برأسه، ولكن إذا اجتمعت أورثت الاطمئنان و كانت حجة و كذلك الاطمئنان حجّة برأسه، ولكن إذا شكك مشك فيه، ينقلب إلى الظن ويسقط عن الحجّية .

ونقل عن بعض تلاميذ المجدد الشيرازي قدس سره :أنه كان يمثل جبر الدلالة ووهنها بالإجماع،بل بالشهرة أيضاً، بما إذا حضر شخص سفرة طعام، وكان فيها طعام حسن المنظر جيد الظاهر، إلا أنه رأى المجتمعين على تلك السفرة وكلهم عقلاء وحکماء تركوا ذلك الطعام مع ما بهم من شدة الجوع، وأقبلوا على أكل طعام لا حسن في منظره،ولا جودة في ظاهره، و كلما تأمل هذا الشخص في سبب إعراضهم عن الطعام الجيد الظاهر، والإقبال على ما لا جودة في ظاهره لم يظهر له وجهه، ومع ذلك فإنه لو أقدم على الأكل من الطعام الجيد الظاهر وإصابة مرض أو سوء منه،ألا يلام لدى العقلاء بأنك رأيت أهل الخبرة من الحكماء العقلاء يتركونه فلماذا أكلت منه؟

ولو أصابه مرض أو سوء من ترکه وأكل ذلك الطعام غير الجيد الظاهر ألا يكون معذوراً لدى العقلاء لمتابعة أهل الخبرة فيما لم يظهر له وجهه ؟

نعم، إننا لا ندّعي كون الجبر والوهن الدالين أقوى من كل الأدلة،

ص: 234

بحيث إنه حتى لو علم الشخص خطأ الفقهاء في الفهم وجب مع ذلك اتباع فهمهم أيضأ بل إننا ندعي - وفاقأ لعامة الفقهاء إلا من شذّ - كونهما من طرق الاطاعة والمعصية .

الجهة الثانية : الإجماع العملي أو سيرة الفقهاء

وتقريره : إنا نرى عمل الفقهاء طراً من زمن الغيبة إلى زماننا هذا وقد استقر بناؤهم، واستمر دیدنهم على أن يسألوا عن مسألة لا يعرفونها عمن يعرفها من الثقات من غير نكير من أحد، وحتی جمع من الإخباريين الذين اعتبروا معارضي التقليد ومحرّمية نراهم إذا سألهم العوام عن مسائل شرعية أجابوهم بأجوبتها، ولم ينكروا على العامي السؤال، ولم ينكر بعضهم على بعض إجابة المسؤول عنه للسائل، مع أنه لو لم يجز كان إغراءاً بالجهل، وهل التقليد - بمعناه العرفي إلا هذا ؟

والإشكال في كلا قسمي الإجماع بأنه ليس تعبدياً كاشفاً عن رضی المعصوم عليه السلام مما لا يقتضيه التأمل التامّ في مثل هذه المسألة.

فإن حدس موافقة المعصوم علیه السلام - الذي هو مبني المتأخرين غالباً .

ملاکه اتّفاق الكل مطلقاً، الحاصل فيما نحن فيه .

ص: 235

ص: 236

الموضوع الخامس الأدلة العقلية على صحة التقليد

اعلم وفقك الله تعالى إلى جادة الصواب أنه قد ذكرنا فيما تقدم الدليل من طريق الإجماع على جواز التقليد المصطلح بما لا مزيد عليه.

والآن نتحدث عن الدليل العقلي على صحة التقليد، فتقول : لقد دل العقل على جواز التقليد لدعوته كل جاهل في شيء إذا احتاجه أن يرجع إلى العالم بذلك الشيء، فالذي يبني داراً ويجهل النباء يدعوه عقله إلى مراجعة العارف البناء، والذي يريد سلوك طريق وهو جاهل بها يدعوه عقله إلى مراجعة العارف بذلك الطريق، وهكذا المكلف الذي وجب عليه طاعة الله، وتحصيل الأحكام للعمل بها يدعوه عقله إلى أن يراجع العالم بالأحكام الشرعية .

وإطباق العقلاء كافّة في كل زمان ومكان على ذلك واستمرار بنائهم عليه خير شاهد على ذلك، فإنّه يكشف عن حكم العقل بذلك .

ومن خدش في دلالة الآيات والأخبار والإجماع على التقليد فلا مجال له في أن يخدش في هذا، حتى قيل : أنه الدليل الوحيد للتقليد، السالم من المناقشات.

ص: 237

ص: 238

الموضوع السادس الدليل للتقليد ببناء العقلاء

اشارة

لقد تحدثنا فيما تقدم عن الدليل العقلي على صحة التقليد، وقلنا هناك إنه الدليل الوحيد للتقليد، السالم من المناقشات .

وهنا : نشير إلى الدليل للتقليد ببناء العقلاء، فنقول : إن من جملة الأدلة الدالة على صحة التقليد (بناء العقلاء) فإنه : قد استقر العقلاء على مراجعة الجاهل بالأحكام الشرعية إلى العالم بها - شأنه في شأن مراجعة أي جاهل بأي أمر إلى العالم بذلك الأمر - وليس التقليد سوى هذا، ومدرك حجيةهذا البناء العقلائي لنا - كما مر في بحث حجية الاجتهاد - أمران على سبيل منع الخلو :

أحدهما .

: إن التقليد من طريق الإطاعة والمعصية، ولا شك كما لا خلاف على الظاهر في أن المرجع في طرق الإطاعة والمعصية هو : بناء العقلاء، ما لم يردع الشارع عنه ردعاً خاصاً، ولعدم وجود ردع عام كما حقق في الأصول .

ثانيهما.

: إن الظاهر اتصال هذا البناء بعصر المعصومين عليهم السلام وعدم ردعهم عنه دليل حجيته، فيدخل في السنة الشريفة من جهة تقرير المعصوم علیه السلام .

ص: 239

وبعبارة أخرى : هو السيرة المستمرة للمتقدمين وقد اعتبره بعضهم أقوى أدلة حجية العديد من الحجج الشرعية مثل حجية الاجتهاد، وحجية التقليد، وحجية الظواهر، وحجية الخبر الواحد، وغيرها من الأصول المسلمة في أصول الفقه وفروعه .

وقد يقال : بحجية هذا البناء العقلاني، حتى مع عدم إحراز اتصاله بعصور المعصومين عليهم السلام وعدم إحراز تقريرهم له .

ص: 240

الموضوع السابع الدليل للتقليد بسيرة المتشرعة

اشارة

وفي هذا الموضوع نتحدث عن الدليل للتقليد بسيرة المتشرعة فنقول : أما الاستدلال للتقليد المصطلح بسيرة المتشرعة : فإنه قد استقرت .

صغری - على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعية إلى العالم بها، خلفا بعد سلف، حتی اتصلت بعصور المعصومين عليهم السلام من غير ردع منه علیه السلام لها .

وهذا يكشف عن رضاهم بهذه السيرة، الموجب ذلك لدخلها في السنة بطريقة اللم من کشف العلّة من معلولها .

وقد حقق في الأصول حجية مثل هذا البناء بهذين الشرطين : الاتصال بعصور المعصومين عليهم السلام ورضاهم بها .

ولا إشكال في السيرة المتشرعية مع هذين الشرطين : وقد تطابقت كلمات الفقهاء المتقدمين والمتأخرين منهم رضوان الله تعالى عليهم على ذلك في شتى أبواب الفقه وفي مختلف المسائل الشرعية .

إنما الكلام في حجية السيرة المتشرعية مطلقا حتى مع عدم إحراز الشرطين - لا مع إحراز العدم كما لا يخفی -

وقد ذكر ذلك العلماء في علم الأصول، وخلاصته بكل إيجاز : إنه قد يقال بحجية سيرة المتشرعة إذا انعقدت على شيء حتى مع عدم إحراز الشرطين للأُمور التالية :

ص: 241

الأمر الأول

: إن بناء العقلاء، علی کشف نظر رئیس قوم من عمل جمهرة أتباعه حتّى يثبت الخلاف .

وهذا المقدار كافٍ في مقام التنجيز والأعذار لدى العقل والعقلاء ولا يقل هذا اعتباراً عن بنائهم على حجية قول الثقة .

والمطلب تام صغری بمراجعة العرف . و كبرى بما تسالموا عليه من أن طرق الإطاعة والمعصية عقلائية إلا ما وسع الشارع الأقدس أو ضيق .

والإشكال تارةً بأن مثل هذه السيرة لا توجب العلم بل غايتها إيجابها للظن، وهو لا يغني عن الحق شيئاً .

وأخرى : بالعلم الإجمالي بمخالفتها للواقع .

وثالثة : بالردع عنها بالأدلة الناهية عن غير العلم .غير وارد بعد كونها من الظنون الخاصة ببناء العقلاء .

وبعد النقض - في الأخرى - بالظواهر، وقول الثقة، ونحوهما، مع نظير العلم الإجمالي المذكور فيها أيضا، والحل : بالخروج عن محلّ الابتلاء في بعض أطرافه، أو التدرّج في الوجود، وعلى القول بتنجيزه مطلقاً، حتى في الفرضين فهو مستثنی نظير قول الثقة والظواهر.

وبعد الجواب بمثل ما في الخبر الواحد عن نظيره - في الثالثة .

الأمر الثاني

: مفهوم قوله تعالى : «يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ الْمُؤْمِنين ».

الأمر الثالث.

: إطلاق الشهرة في رواياتها مثل : « خذ بما أشتهر بین أصحابك ونحوه،الشامل للشهرة العملية حتى من غير الفقهاء .

والإشكال : بانصرافها إلى القولية غير وارد لكونه بدوياً لفهم عدم مه

ص: 242

الخصوصية، نظير حجية خبر الثقة والبينة ونحوهما مما أفتوا بشمول إطلاقهاتها للأعمال كالأقوال - إذا كانت دلالتها - صغری - ظاهرة، ولم يكن فيها إجمال .

الأمر الرابع

: تعليل آية النبأ «أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» بتقريب : أن العمل بسيرة المتشرعية ليس فيها جهالة و سفاهة، ولا فيها ندم، لكونها منجّزة ومعذّرة لدى العقلاء، إذ الندم ليس على مجرد مخالفة الواقع، وإلا لم يبق حجيته غير العلم.

والإشكال في الاستدلال به صغری : بأنه لا يخرجه عن كونه سفهاً وجهلاً .

و کبری : باحتمال كونها حكمة لا علّة، وتقديم كونها حكمة على كونها علة مع الشك، وعدم الدليل على كونها منحصرة على فرض العلّية ونحو ذلك أجاب عنها العلماء في بحوث الأصول .

وحاصل ما قد يقال : إن سيرة المتشرعة - بما هي هي - حجة إلا ما خرج بدلیل، وسيرة المتشرعة قائمة على تقليدهم للعالم بالأحكام الشرعية فيكون التقليد حجة .

ص: 243

ص: 244

الموضوع الثامن الدليل للتقليد بارتكاز المتشرعة

بعد أن تحدثنا فيما تقدم عن الاستدلال للتقليد - بسيرة المتشرعة تجدر بنا الإشارة إلى الحديث عن الاستدلال على صحة التقليد بارتكاز المتشرعة فنقول : وأما ارتكاز المتشرعة من غير إحراز سيرة عملية منهم، فقد يستدل به على جواز التقليد - بالمعنى الأعم - أما صغری : فلتحققه خارجاً برجوع الجاهلين بالأحكام الشرعية إلى العالمين بها، فإن المتشرعة تراهم إذا ابتلوا بموضوع لا يعرفون حكمه الشرعي دعاهم ارتكازهم إلى استطراق أبواب العلماء بالأحكام الشرعية، والسؤال عنهم، وهذا واضح لا غبار عليه.

والإشكال فيه : بأن ذلك بما هم عقلاء، ولا خصوصية لكونهم متشرعة في ذلك، فهو جزئي من جزئیات ارتكازات العقلاء، وليس دليلاً آخر غير وارد، وذلك - مضافاً إلى أن ارتكاز المتشرعة ينفع فيما لم يوافق ارتكاز العقلاء سعة وضيقاً، حتى فيما يشك في الموافقة وعدمها - أن توارد دلیلین على أمر لا ينفي أحدها، لأن الأدلة ليست علل عقلية حتى لا يمكن اجتماعها على معلول واحد.

وأما كبری : فيستدل له بما ذكر في سيرة المتشرعة للسببية والمسبية بينهما، فما يجري في أحدهما يجري في الآخر - عرفاً- وأعمّية السبب من

ص: 245

المسبب، وبالعكس - عقلاً - لا تنافي تلازمهما عرفاً، خصوصاً في باب المعرفات والعلامات التي ملاك الأحكام من قبيلهما .

ويؤيد ذلك : تواتر کلمات الفقهاء في شتى الأبواب في الفقه على الاستدلال بمرتكزات المتشرعة، وحمل الأحكام الشرعية عليها، فيما يلي نذكر نماذج منها :

قال في الجواهر - في مقام بیان ملاكات الكبائر وما تعرف به - : « أو مابقي عظمته في أنفس أهل الشرع وإن لم نعثر على غير النهي عنه ... لأن الظاهر من العظمة عندهم، وعدم المسامحة فيهم ... أن يكون ذلك مأخوذاً من صاحب دینهم »، وقد أفتى بذلك في نجاة العباد أیضاً.

وقد ترك التعليق عليه الأعاظم من تلاميذه ومعلّقي الكتاب، أمثال الشيخ الأنصاري، والشيرازيين والآخوند، واليزدي، والهمداني، وآخرين، وتجد نظائر ذلك في التفريج الفاحش في قام الصلاة .

وفي العروة في صلاة الجماعة، في نفس الموضوع قال : «أو كان عظيما في أنفس أهل الشرع» .

وقد ترك التعليق عليه أیضاًمعظم المحققين من أمثال : العراقي، والنائيني، والحائري، وآية الله السيد میرزا مهدي الشيرازي، والبروجردي، والقمي، و آخرین .

وفي التنقيح في الاستدلال على اشتراط العقل والإيمان والعدالة في مرجع التقليد قال : « والوجه في ذلك أن المرتكز في أذهان المتشرعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد، عدم رضى الشارع بزعامة من لا عقل له، أو لا

ص: 246

إيمان، أو لا عدالة له ...

ولعل بعض ما ذكره بعض العلماء من الارتكاز المتشرعي هو المراد مما وقع في كلام شيخنا الأنصاري قدس سره من الإجماع على اعتبار الإيمان والعقل والعدالة في المقلّد إذ لا نحتمل قيام إجماع تعبدي بينهم على اشتراط تلك الأمور».

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في مختلف كلمات الفقهاء في شتی أبواب الفقه على اختلاف مبانيهم الأصولية والفقهية، فكأنهم مجمعون على الكبرى في المقام، وإنما الإشكال - إن كان - فهو في الصغرى فتدبر .

ص: 247

ص: 248

الموضوع التاسع القول بتحريم التقليد ورده

لقد تحدثنا حول مبحث التقليد المصطلح، وأثبتنا صحته أو جوازه، وذلك بالأدلة النقلية من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، والأدلة العقلية من طريق العقل والإجماع وسيرة المتشرعة، وأوضحنا ذلك بما لا غبار عليه.

لكن بقي علينا بيان أمر مهم قبل أن نشرع في الحديث عن القول بتحريم التقليد ورده، وهو أنه ورد في القرآن الكريم آیات کریمة تدل على ذم التقليد كقوله تعالى :« وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون»وغيرها آیات دالة على مذمومية التقليد .

ولتنبيه نقول :

أولاً : إن مصبّ الآيات المذكورة هو التقليد في أصول الدين، وتقليد المجتهد فيما نحن فيه إنما هو في فروع الدين .

وثانياً : إن الآيات المشعرة بذم التقليد إنما هي في تقليد الجاهل من جاهل آخر بقرينة قوله تعالى : «أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون».

وقوله تعالى : « أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون»» وما نحن فيه من تقليد الجاهل من العالم بالأحكام والفقيه فيها .

وثالثاً : الآيات إنّما ذقت التقليد مع وضوح أن الحق مع الرسول صلی الله علیه وآله

ص: 249

وإن آباؤهم كانوا على ضلال بقرينة إنهم حين قيل لهم : «اتبعو ما أنزل الله» أو «تعالوا إلى ما أنزل الله » لم ينكروا إنه الذي أنزله الله، بلاعترفوا بكونه منزلا من عند الله، ومع ذلك ولوا إلى ما وجدوا عليه آباءهم، والتقليد الذي نقوله غير هذا.

ورابعاً : على فرض شمول الآيات الذامة لما نحن فيه، يخرج عن ذم التقليد بالروايات المتواترة الدالة على لزوم التقليد أو جوازه مثل : « فللعوام أن يقلدوه » ومثل : لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » ونحو ذلك .

إلا أن يقال : إن الآيات آبية عن التخصيص .

إذا عرفت هذا فتعال معي لبيان معرفت القول بتحريم التقليد ورده ولا يخفى أن القائل بتحريم التقليد هم جمع من علماء حلب وجل الإخباريين فإنهم ذهبوا إلى تحريم التقليد بالأدلة الأربعة الدالة على حرمة العمل بالظن، ظانين أن التقليد من العمل بالظن .

وفيه أولاً : التقليد إنما هو طريق امتثال، وطريق الامتثال أمره موکول بید العقل والعقلاء، ولا تشمله الأدلة اللفظية المحرمة للظن وأمثاله، لخروجه التخصصي منها، لأنه نوع من العلم العادي .

فرجوع الجاهل في كل شيء إلى العالم به، ليس من العمل بالظن، بل من الأخذ بالعلم المتعارف في طريق الامتثال، لا أقل من كونه معلوم الحجية، ولا يضر كون المتعلق مظنونا بعد أن كانت الحجية متعلقة العلم .

وثانياً : أن العمل بالظن الخاص الذي خرج عن دائرة حرمة العمل بمطلق له الله

ص: 250

الظن يجوز العمل به لقيام الأدلة الأربعة عليه، وقد مرت مفصلة على جواز التقليد، نظير الخبر الواحد، وقول ذي اليد، والاستصحاب وغيرها من سائر الأمارات والأصول .

وثالثاً : انصراف أدلة حرمة العمل بالظن عن مثل تقليد الجاهل للعالم الذي استقر بناء العقلاء طراً في كل الملل والأزمان على حجيته والعمل به -كما تقدم -

ورابعاً : انسداد باب الاجتهاد على معظم الناس .

ص: 251

ص: 252

موضوعات البحث فی الاحتیاط

اشارة

ص: 253

ص: 254

قوله رضوان الله تعالى عليه : « أو محتاطا » .

أقول : أنه يعلم شرح هذه الكلمة من خلال البحث في المواضيع التالية :

ما هو الاحتياط ومن هو المحتاط ؟

ما وجه انحصار الطرق في هذه الثلاث .

ص: 255

ص: 256

الموضوع الأول ما هو الاحتياط ومن هو المحتاط ؟

اشارة

هذه الكلمة الأخيرة من المسألة الأولى وهي قوله ... أو محتاطاً .

فنقول : إن الإحتياط هو : إما الإتيان بكل ما يحتمل كونه مأموراً به جمعاً : کالجمع بين القصر والتمام في الشك في المكلف به.

أو إتيانه وحده كالشبهة البدوية الحكمية قبل الفحص، مثل وجوب صلة الرحم .

وإما الإتيان بما يحتمل دخله في صحة المأمور به منضماً إلى غيره جزءاً کجلسة الإستراحة، أو شرطاً : کالوضوء بعد دخول الوقت بنية تلك الصلاة، فعلا كان كما ذكر، أو تركاً كالرياء والعجب المقارنين للعمل .

ووجه كون العمل الاحتياطي صحيحاً، ومجزياً، هو القطع معه بإتيان المأمور به، ولا نريد في الأجزاء، وسقوط التكليف، أكثر من هذا، وبترتب على هذا القطع، الأمن من العقوبة لأنه فرع القطع بإتيان المأمور به.

فذكر بعض الأعلام لهما مرادفين بواو العطف، يراد به العطف التوضيحي التفسيري على الظاهر .

ثم لا يخفى أنه ينقسم الاحتياط بالنسبة للصور العقلية فيه إلى أقسام، وله ثمان صور : فمن أقسامه ما هو مذموم، ومنه ما هو ممدوح .

ص: 257

فالاحتياط المذموم هو الاحتياط مع العلم الوجداني بالحكم الشرعي، کمن حصل له العلم القطعي - بطريقة التشرف أو بغير ذلك - بوجوب صلاة الظهر لا الجمعة، فأراد الجمع بينهما احتیاطاً.

أو كمن أراد الجمع الإتيانة بصلاة الظهر أربع ركعات وبين الإتيان بها خمس رکعات، مع علمه بأنها أربع ركعات لا خمس .

ولا يخفى أن هذا القسم من الاحتياط يعدّ لغواً، بل ولا يسمى الاحتياط فيه طاعة، ولا رجاء طاعة، بل ولا الانبعاث عنه انبعاثاً عن أمر المولی، ولا عن احتمال أمره .

ولعله لا يتمشى فيه قصد الطاعة أصلاً، اللهم إلا لغير الملتزم بالموازين العقلية والعرفية كالوسواسي الذي يشكك في وجدانياته، وهو خارج عن مسير البحث ومصيره .

وأما الاحتياط الممدوح : فهو الاحتياط مع عدم العلم الوجداني بالحكم الشرعي .

وهذا القسم له ثمان صور نعرضها فيما يلي :

الصورة الأولى

: الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ويستلزم التكرار و كان في عبادة كالجمع بين القصر والتمام للمجتهد المتمكن من تحصيل الحجة على أحدهما بالنظر أو للمقلد المتمكن من تحصیل فتوی الفقيه .

الصورة الثانية

: الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ولا يستلزم التكرار وكان في العبادة، كالاحتياط بإتيان السورة، أو جلسة

ص: 258

موضوعات البحث في الاحتياط الاستراحة، للتمكن من تحصيل الحجة على الحكم.

الصورة الثالثة

: نفس الصورة الأولى في غير العبادة، كالجمع بين صيغ للنكاح.

الصورة الرابعة

: هي نفس الصورة المتقدم ذكرها في غير العبادة کالاحتياط بإجراء صيغة النكاح بالعربية .

الصورة الخامسة

: الاحتياط في العبادة مع استلزامه التكرار وعدم التمكن من الامتثال التفصيلي، كالصلاة إلى أربع جهات مع اشتباه القبلة .

الصورة السادسة

: نفس هذه الصورة في غير العبادة، كالجمع بين صيغ النكاح مع عدم التمكن من تحصيل الحجة على الحكم.

الصورة السابعة

: الاحتياط في العبادة مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي ولا يستلزم التكرار في العبادة كجلسة الاستراحة لمن لا يقدر على تحصيل الحكم الشرعي .

الصورة الثامنة

: نفس هذه الصورة في غير العبادة، كالعربية في صيغة البيع مع عدم التمكن من تحصيل الحجة على الحكم التفصيلي .

ص: 259

ص: 260

الموضوع الثاني وجه انحصار الطرق في هذه الثلاث

لقد تحدثنا فيما تقدم حول الاحتياط وبعض أقسامه وصوره، وهنا وفي خاتمة بحث الأحيتاط، تجدر بنا الإشارة إلى ذكر « وجه انحصار الطرق في هذه الثلاث ) فنقول :

وأما وجه انحصار أداء التكليف في الاجتهاد والتقليد والاحتياط، أي في هذه الطرق الثلاث فهو : عدم دليل على أجزاء غيرها، وهو يكفي دليلاً لعدم الحجية .

لأن الشك في الحجية هو موضوع عدم الحجية، وبتعبير آخر : احتمال مخالفة العمل - من غير هذه الطرق الثلاث - للواقع، ولا مؤمن مع هذا الاحتمال، فالاستخارة، والرؤيا، والجفر، والرمل، وقول العرفاء، و آراء الفلاسفة، والقياس والمصالح المرسلة، والاستحسان، ونحوها، لا تثبت حكماً، ولا تسقط تکليفاً، وقد بينا هذا بما لا مزيد عليه في مبحث الاجتهاد.

ومسألة حجية قول المعصوم في الرؤيا لمن رآه، لقوله عليه السلام : « من رآني في منامه فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ...»

أو حجية مطلق رؤيا المؤمن في آخر الزمان، فرواياتهما بين ضعيف السند أو الدلالة أو كليهما، وبين معرض عن دلالته إطلاقا و مخالف للواقع كثيراً

ص: 261

و مخالف لأدلة أخرى عليها الاعتماد والمعول، كما أوضح علماء الأصول طلانها .

وقد وجهوا الروايات الواردة بصددها وإن كان بعضها تام السند، مثل ما رواه في البحار، عن الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سمعته يقول: « رأي المؤمن ورؤيا في آخر الزمان على سبعين جزءاً من أجزاء النبوة ».

هذا ما لزم بيانه هنا في مبحث الاحتياط في المسألة الأولى وسوف يأتي في المسائل الآتية مزيداً من البحث فيه والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 262

المسألة رقم 2

اشارة

قال رضوان الله تعالى عليه : « الأقوى جواز العمل بالاحتياط، مجتهداً كان أو لا ... » . « ... لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد ». أن يحتاط في العمل .

أقول : يجلى البحث في هذه المسألة في المواضيع التالية :

1- هل العمل بالاحتياط جائز ؟

2- شروط العمل بالاحتياط .

3- الاحتياط في أصل الاحتياط .

4- الاحتياط في كيفية الاحتياط .

ص: 263

ص: 264

الموضوع الأول هل العمل بالاحتياط جائز؟

لقد تقدم الكلام في المسألة الأولى حول الاحتياط وبعض أقسامه وصوره، وهنا نقول : الأقوى جواز العمل بالاحتياط المذكور (مجتهداً كان) المحتاط (أو لا) أي : سواء كان قادراً على الاستنباط أو غير قادر .

وأريد با « المجتهد » من له قدرة الاجتهاد ولم لم يجتهد في مسألة -مثلا - فيجوز لمن له قدرة الاجتهاد أن لا يجتهد ويعمل بالاحتياط، كما يجوز لمن لا قدرة اجتهادية له أن يعمل بالاحتياط، أو سواء كان مجتهداً فعلا في هذه المسألة التي يحتاط فيه، أو لا يكون له اجتهاد فعلي في المسألة التي يحتاط فيها، فيشمل المجتهد، غير المستنبط بعد في هذه المسألة وكلا المعنيين محتمل وصحيح، لما سبق من أن الاحتياط في عرض الاجتهاد والتقليد لا في طولهما، فيجوز لمن اجتهد واطمأن بكفاية صلاة الجمعة، أن يحتاط بالجمع بين الجمعة والظهر .

إذا لم يكن الجمع في نظره خلاف الاحتياط من جهة أخرى - كما يجوز لمن له قدرة الاستنباط، ولكن لم ينظر في الأدلة ليطمئن إلى طرف واحد أن يحتاط في العمل .

ص: 265

ص: 266

الموضوع الثاني شروط العمل بالاحتياط

قلنا فيما تقدم أنه يجوز العمل بالاحتياط بل الأقوى ذلك، وهنا نقول : لكن العمل به له شروط، فمن شروطه أن يكون العامل بالاحتياط ( عارفاً بكيفية الاحتياط) بأحد الطرفين أي: « بالاجتهاد أو التقليد ) وهذا الوجوب إرشادي عقلي من قبيل وجوب الطاعة، وليس وجوبا مولوياً شرعياً، وإنما يجب ذلك إما لأنه شرط عقلي، إذ غير العارف بكيفية الاحتياط لا يتحقق منه موضوع الاحتياط، فموضوع الاحتياط متوقف على معرفة الكيفية، وما يتوقف عليه الاحتياط، هو مقدمة وجود الاحتياط، ومقدمة الوجود دلیل وجوبها العقل، أو لأن الجهل بالكيفية مانع عن حصول الأمن من العقاب، ولعل الثاني هو الأصح .

وعليه : فلا يجب التقليد والاجتهاد إذا كان العامل بالاحتياط متيقناً بكفايته فطرياً أو عقلياً كما هو واضح، إذ مع التيقن يكن المؤمن من استحقاق العقاب حاصلاً، فلا يحتاج إلى تحصيله .

نعم مع الشك في أصل جوازه، أو في كيفيته، لا يكفي إلا الاجتهاد أو التقليد، لأن الشك في الطريقية والحجية هو موضوع عدم الطريفية وعدم الحجية .

ص: 267

ص: 268

الموضوع الثالث الاحتياط في أصل الاحتياط

ذكرنا فيما تقدم ( شرط العمل بالاحتياط ) وهنا نقول : هل يصح الاحتياط في أصل الاحتياط -لا في الكيفية - ؟

الظاهر : أنه يصح، وهو حسن عقلاًعلى كل حال، ومقتضاه : ترك الاحتياط في المسائل الفرعية للإجماع على كفاية العمل بالاجتهاد أو بالتقليد، واختلاف الفقهاء في كفاية الاحتياط، فمقتضى الاحتياط العمل بما يكفي على جميع الأقوال، وهو : الاجتهاد أو التقليد .

لا يقال : كيف يصح الاحتياط الذي يكون مقتضاة ترك الاحتياط ؟

وهل هذا إلا الحال الذي يلزم من وجوده عدمه ؟

فإنه يقال : ليس كذلك، فالاحتياط الأول هو في المسألة الأصولية والثاني في المسألة الفرعية، فالموقوف عليه غير الموقوف عليه.

توضيحه : إنّنا نسأل : هل يكفي الاحتياط في الفروع ويكون المحتاط آتياً بالمكلف به؟

والجواب : مقتضى الاحتياط في المسألة الأصولية : عدم الاحتياط في المسائل الفرعية، للقول بعدم كفاية الموافقة الاحتمالية حين العمل .

ص: 269

ص: 270

الموضوع الرابع الاحتياط في كيفية الاحتياط

بعد أن أوضحناه في الموضوع المتقدم (الاحتياط في أصل الاحتياط) وقلنا إنه يصح، وهو حسن عقلاً على كل حال.

تجدر بنا الإشارة هنا إلى ذكر (الاحتياط في كيفية الاحتياط) فنقول : هل يصح الاحتياط في كيفية الاحتياط ؟

الظاهر : نعم لعدم وجود ما يحتمل مانعاً، سوى الإشكالات الواردة على الموافقة الاحتمالية في العبادات و كذا الإنشائيات على ما تقدم، وهي غير واردة هنا ، إذ مع كون المسألة محتاطاً فيها في أصلها، فالموافقة التفصيلية مفقودة، فلا يقدح الاحتياط في هذا الاحتياط، فيصح في كيفية الاحتياط، حتى إذا أوجب هذا الاحتياط الثاني التكرار في العبادة.

كما لو أتي بصلاتي : الظهر والجمعة، مرة بتقديم الظهر مع قصد الوجه، ومرة بالعكس مع قصد الوجه أيضا.

نعم كثيراً ما لا يمكن الاحتياط التام من جميع الجهات، إذ في المثال هذا مناف للاحتياط لشبهة التشريع في قصد الوجه.

و كما لو كرر صلاة الظهر من يوم الجمعة، مرّة بالجهر في قرائتها، ومرة بالإخفات فيها، فإن الجهر احتياط عند البعض، والإخفات احتياط عند

ص: 271

آخر، وذلك : لأن هذا ليس من التكرار الذي منعه البعض، المغايرة بينهما .

ثم إن الجواز في المتن إن أريد به الوضعي بمعنى الصحة -كما لعله هو الظاهر - فلا يفرق فيه استلزامه لاختلال النظام غير الإلزامي، أو للحرج أو غير ذلك، وعدمه، وذلك : لأن الصحة لا تحتاج إلا إلى مطابقة المأتي به للمأمور به، وقد وجدت المطابقة في بعض أفراد الاحتياط .

وأما إن أريد بالجواز التكليفي - كما هو محتمل أیضاًوإن نفاه بعض المعاصرين بإصرار فسيأتي إن شاء الله تعالى في ذلك شرح المسألة الرابعة الإشكال فيه .

ص: 272

المسألة رقم 3

اشارة

قال رضوان الله تعالى عليه : « قد يكون الاحتياط في الفعل، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً، و كان قاطعاً بعدم حرمته، وقد يكون في الترك، كما إذا احتمل حرمة فعل و كان قاطعاً بعدم وجوبه، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار، كما إذا لم يعلم أن وظيفته القصر أو التمام ».

يتجلی شرح هذه المسألة الثالثة في موضوعين قصيرين نبينهما فيما يلي :

1- أقسام الاحتياط .

2- الاحتياط وصورة العشرة .

ص: 273

ص: 274

الموضوع الأول أقسام الاحتياط

المسألة الثالثة : موضوعها الأول ( أقسام الاحتياط) فنقول : (قد يكون الاحتياط في الفعل، كما إذا احتمل كون الفعل واجبا، وكان قاطعاً بعدم حرمته )، وذلك كالسورة، وجلسة الاستراحة .

( وقد يكون في الترك، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ) کالدعاء بالفارسية في الصلاة مثلاً .

( وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ) و كلمة مع التكرار مستغنى عنها لأنها عين الجمع « الجمع بين أمرين » وقد ذكرت للتأكيد كما إذا لم يعلم أن وظيفته القصر أو التمام فيكرر الصلاة قصراً مرة، و تماماً مرة أخرى.

ثم ليعلم أن الأقسام الثلاثة التي ذكرها المصنف رحمه الله غير منحصر الاحتياط فيها فقط، بل الصور المتصورة الرئيسية عشر فالاحتياط إما في فعل واحد، أو فعلين فما زاد أو ترك واحد، أو ترکين فما زاد، أو فعل وترك معا، وكل واحد من هذه الخمسة، أما يكون بعمل مستقل أو بعمل ضمني، فالأقسام عشرة يتكفل بتفصيلها الموضوع الثاني .

ص: 275

ص: 276

الموضوع الثاني الاحتياط وصوره العشر

هذا هو الموضوع الثاني المتعلق بالمسألة الثالثة، وفيه نبين صور الاحتياط العشر التي وعدنا ببيانها فيما يلي بالتفصيل والمثال :

1- الاحتياط في فعل واحد، مع كون العمل مستقلا، كالدعاء عند رؤية الهلال. اجرا و

2- الاحتياط في فعل واحد مع كون العمل ضمنياً، كالسورة و كجلسة الاستراحة .

3- الاحتياط في إتيان فعلين أو أكثر، مع كون العملين مستقلين، كالصلاة إلى أربع جهات مع اشتباه القبلة .

4- الاحتياط في إتيان فعلين أو أكثر، مع كون العملين ضمنيين كالعلم بوجوب إما الجهر، أو الإخفات في ظهر يوم الجمعة .

5- الاحتياط بترك فعل واحد، مع كون العمل مستقلا كترك شرب التبغ.

6- الاحتياط بترك فعل واحد، مع كون العمل ضمنياً، كالشك في بطلان الصلاة بقول: « آمین » بعد الحمد وعدم البطلان، فإنه يحتاط بترکه.

7- الاحتياط بترك فعلين أو أكثر، مع كون العملين مستقلين، كترك الخنثی الألبسة المختصة بالرجال، والمختصة بالنساء .

ص: 277

8- الاحتياط بترك فعلين أو أكثر، مع كون العملين ضمنيين كالاحتياط بترك : آمين والتكفير، إذا علم أن أحدهما غير المعين يبطل الصلاة .

9- الاحتياط بإتيان فعل وترك آخر، مع كون العملين مستقلين کموارد تردد الأمر بين الحيض والاستحاضة، فتجمع، بين تروك الحائض وأعمال المستحاضة .

10- الاحتياط بإتيان فعل وترك آخر، مع كون العملين ضمنيين، كتردد الأمر بين وجوب السورة وبطلان الصلاة بامين، إذا علم لزوم أحدهما فعلاً وتركاً.

ص: 278

المسألة رقم 4

اشارة

قال رضوان الله تعالى عليه : « الأقوى جواز الاحتياط،ولو كان مستلزماً للتكرار، وأمكن الاجتهاد أو التقليد ».

يتجلی شرح المسألة الرابعة في موضوعين أیضاًنعرضهما فيما يلي :

1- الأول : في قوة جواز الاحتياط .

2- الثاني : في تقسيم الاحتياط إلى الواجب وغيره .

ص: 279

ص: 280

الموضوع الأول في قوة جواز الاحتياط

الحديث هنا في هذه المسألة الرابعة وفي موضوعها الأول فنقول : (الأقوى جواز الاحتياط) حتى في العبادات ( ولو كان مستلزماً للتكرار، وأمكن الاجتهاد أو التقليد ).

والمراد با « بالجواز» هو : الوضعي بمعنی : الاكتفاء وصدق الامتثال والطاعة به، الذي هو غير الجواز بالمعنى التكليفي.

نعم، لو قلنا بأن الاحتياط فيه شبهة اللعب بأمر المولى، فيكون حراماً تكليفا، ويكون - حينئذ - الجواز في مقابله تكليفاً .

وعليه : فلا مانع من تعميم الجواز في المتن للوضعي والتكليفي جمعاً .

ثم إن الجواز - في مقام الثبوت - يمكن أن يكون فطرياً وعقلياً وعقلائياً وشرعياً، كما مر مثل ذلك في تفسير الوجوب في المسألة الأولى .

وأما في مقام الإثبات وأن الجواز هنا فطري، أو عقلي، أو عقلائي، أو شرعي، أو اثنين، أو ثلاثة منها، أو كلها، فالكلام فيه أیضاًما مر في شرح « يجب » في المسألة الأولى، فلا نعيد الحديث في التفصيل .

ص: 281

ص: 282

الموضوع الثاني في تقسيم الاحتياط إلى الواجب وغيره

اشارة

لقد تحدثنا فيما تقدم عن جواز الاحتياط، ولو كان مستلزماً للتكرار، وهنا في هذا الموضوع نشير إلى تقسيم الاحتياط إلى الواجب وغيره، فنقول: لقد قسم بعض العلماء الاحتياط إلى الأحكام الخمسة، لعروض أحكامها عليه باعتبار انطباق عناوينها عليه وإليكها فيما يلي :

1- الاحتياط الواجب

: ومثلوا للاحتياط الواجب بالشبهة التحريمية أو الوجوبية في موارد وجوب الاحتياط فيها من أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، سواء كان دلیل وجوب الاحتياط الشرع، أو الملازمة العقلية بين حكمي العقل والشرع - على الخلاف -.

وقد يؤيد ذلك : الصحيح في الفقه، عن إبراهيم بن هاشم، مرفوعاً عن الإمام الصادق عليه السلام والكليني صحيحة عن يونس، عن رجل عن الإمام الصادق عليه السلام : «فإذا اختلف على الإمام من خلفه، فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة »(1)

2- الاحتياط المحرم

: وأما الاحتياط المحرم: فهو مثل ما كان وسواساً، أو مؤدياً إليه، أو إلى اختلال النظام، أو متلفة للنفس أو الأطراف أو

ص: 283


1- راجع الوسائل باب 26 من أبواب الخلل في الصلاة ح8

نحو ذلك، بانضمام ثبوت التحريم بمثل هكذا انطباق، إما لصدق بعض العناوين المحرمة عليه، أو للقبح العقلي المضاف إلى الملازمة بينه وبين التحريم الشرعي في سلسلة العلل، فتأمل .

3- لاحتياط المستحب

: وله موارد كثيرة، وهي كل ما كان احتمال المحبوبية - عاماً أو خاصاً - قائماً، مع عدم احتمال المبغوضية خصوصاً أو عموماً .

ويدل عليه أخبار الاحتياط، مثل خبر أبي هاشم الجعفري، عن الإمام الرضا عليه السلام ، إن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لكميل بن زیاد : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت »(1)

ومرسل الشهيد في الذكري عن الإمام الصادق عليه السلام : « لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك ».

ومرسلة أخرى عن صفوان البصري، عن الإمام الصادق عليه السلام : في حدیث قال : « وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً».

4- الأحتياط المكروه

: وأما الاحتياط المكروه : فكما انطبق عليه عنوان من العناوين المكروهة مع ثبوت رجحان الكراهة على الاستحباب من القرائن الداخلية أو الخارجية، مثل الصلاة في الثياب المكروه : «کالأسود، والقرمز» ونحوهما، إذا كان ذلك لأجل الاحتياط غير اللازم للعلم الوجداني بطهارتها، وقاعدة الطهارة في غير المكروه من الثياب عنده.

ص: 284


1- راجع الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 41

5- الاحتياط المباح

: وأما الاحتياط المباح : فكلما تزاحم عنوانان لزومیان، أو اقتضائیان غير لازمین، ولم يعرف الرجحان الشرعي لأحدهما على الآخر، كما لو دار أمر الاحتياط بين الواجب والحرام، مثلما لو دار أمر القبلة بين أربع جهات، وكان فريداً في الصحراء، واحتمل أن أربع صلوات توجب هجوم السباع عليه، واحتمل أن الأربع تدفع عنه السباع لخوفهم من كثرة حركاته، أو دار بين المستحب والمكروه، كما لو شك في أن صوم عرفة يضعفه عن الدعاء أم لا - مع عدم كون هذا الشك مسرحاً لأصالة

عدمه تعبداً -وفي هذه الموارد يباح الاحتياط، لعدم دليل لا على رجحانه ولا على رجحان ترکه .

ص: 285

ص: 286

المسألة الخامسة

اشارة

قال رضوان الله تعالى عليه : « في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهدا أو مقلداً، لأن المسألة خلافية ».

في هذه المسألة موضوعين :

1- لابد في الاحتياط من اجتهاد أو تقلید .

2- الاستناد في الاحتياط .

ص: 287

ص: 288

الموضوع الأول لابد في الاحتياط من اجتهاد أو تقلید

أقول : في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً، لأن المسألة خلافية . أي غير يقينية ولا ضرورية كما ذكره صاحب البيان، نقلاً عن مهذب الأحكام - وإلا فمجرد وجود الخلاف في مسألة لا يبرر لزوم الاجتهاد أو التقليد فيها، حتى إذا اطمأن بها المكلف، فمسألة وجوب تقلید الأعلم، ومسألة أصل جواز التقليد خلافيتان، ومع ذلك لايقال : إنه يجب فيهما إما الاجتهاد أو التقليد، لأن المسألتين خلافيتان .

والأنسب التعليل بعدم تمشي الاحتياط في هذه المسألة وانحصار الطريق في الاجتهاد والتقليد، لما ذكره العلماء من تعارض الاحتياط في الفروع للاحتياط في الأصول، فإما يتساقطان، أو يتقدم الاحتياط الأصولي لسبيته، فلا احتياط في الفروع، فتأمل .

نعم لو حصل له الاطمئنان الشخصي بجواز الاحتياط کفی، لحجيته الذاتية، و كذا إذا كان جواز الاحتياط في مورد مقطوعة به عند المتشرعة، فإن الظاهر جواز الاعتماد عليه، لكونه طريقة عقلائية للاطاعة والمعصية كما حققه العلماء في الأصول .

لكن قد يقال بخروج مثلهما موضوعاً وتخصصاً من مسائل الاجتهاد

ص: 289

والتقليد لجريانها في المشكو كات لا مطلقاً .

وقد يقال : بأن مسألة أصل جواز الاحتياط اجمالاً لا يحتاج إلى الاجتهاد أو التقليد، لكونه ضرورياً عقلياً وشرعياً، ولكن الذي يحتاج إليهما هو الاحتياط في بعض الموارد، کالعبادات، والإنشائيات، ونحو ذلك مما يكون الاحتياط في ترك الاحتياط لتعارض الاحتياطين أو الاحتياطات .

ص: 290

الموضوع الثانی :الاستناد فی الاحتیاط

لقد عرفت فيما تقدم في الموضوع الأول إنه لا بد في الاحتياط أن يكون المكلف مجتهدا أو مقلدة، لأن المسألة خلافية كما ذكرنا.

وهنا نقول : فاللازم أن يعتمد الشخص في جواز الاحتياط على أحدثلاثة أشياء : أحدها : حكم العقل البات بصدق الطاعة والامتثال مع الاحتياط، وعدم لزوم الجزم بالنية في صدق العبادة، وعلى هذا لا يكون الجاهل مجتهداً، بل يحكم المجتهد في تنجز هذا الحكم العقلي عليه .

ثانيها : أن يثبت له حجية قول مجتهد، فيفتي له ذلك المجتهد بجوازه.

ثالثها : كون الاحتياط في مورد مقطوعاً به عند المتشرعة .

قال بعض الأكابر : ولعل نظر المصنف رحمه الله في هذه المسألة ليس إلى انحصار الطريقية في الاجتهاد والتقليد لهذه المسألة، وإنما إلى أنه ليس مسألة جواز الاحتياط من البديهيات التي لا تحتاج إلى الاجتهاد والتقليد، كما هي الحال عليه فيما يذكره في المسألة السادسة، بل هي من المسائل النظرية التي يحتاج فيها إلى إعمال الحجية من اجتهاد أو نحوه، أو الرجوع إلى قول العالم بعد ثبوت حجية قول العالم للجاهل، وصحة رجوع الجاهل إلى العالم فطرة أو عقلاً .

ص: 291

الصورة

ص: 292

الصورة

ص: 293

الصورة

ص: 294

الصورة

ص: 295

الصورة

ص: 296

الصورة

ص: 297

الصورة

ص: 298

الصورة

ص: 299

الصورة

ص: 300

الصورة

ص: 301

الصورة

ص: 302

الصورة

ص: 303

الصورة

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.