مفاهيم قرآنية

هویة الکتاب

اسم الكتاب:...... مفاهيم قرآنية

المؤلف:......سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي

الناشر:....... دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة:..... الأولى

السنة:.... 1434 ه – 2013 م

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول(صلی الله علیه و آله)

07808289364

اسم الكتاب:...... مفاهيم قرآنية

المؤلف:......سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي

الناشر:....... دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة:..... الأولى

السنة:.... 1434 ه – 2013 م

جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 4

الفصل الأول: الاستقامة

اشارة

ص: 5

ص: 6

الاستقامة

الاستقامة (1)

الحمد لله الذي هدانا لحمده، وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين، والحمد لله الذي حَبانا بدينه، واختصنا بملّته، وسبَّلنا في سُبُل إحسانه، لنسلكها بمنِّه إلى رضوانه، حمداً يتقبله منّا، ويرضى به عنّا، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

لنستفد من القرآن الكريم:

البعض يقرأ القرآن بلسانه طلباً للثواب الذي أفادته الروايات الكثيرة، والبعض يقرأ القرآن بعقله ليستخرج منه نظرية علمية أو يستدل به على مطلب ما، كاستدلال الأصولي بآية النفر(2) على حجية خبر الواحد، أو استدلال النحوي على بعض القواعد الإعرابية، والبعض يقرأ القرآن ليتدبر في آياته، ويثير مكنوناته ليأخذ منه علاجاً لأمراضه المعنوية، وبرنامجاً لسيره التكاملي لنيل رضا الله تعالى.

فالذي يريد أن يكون من المفلحين الفائزين بما عند الله تبارك وتعالى يجد وصفة العلاج المتضمنة لعدة فقرات في قوله تعالى في أول

ص: 7


1- الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1432 يوم الأربعاء الموافق 31/8/2011 م
2- يعني بها سماحة الشيخ (دام ظله) قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122) والاستدلال بها مذكور في كتب أصول الفقه.

سورة المؤمنون: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِفَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.. » إلى قوله تعالى: «أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (المؤمنون: 1-11).

وهكذا الآيات التي تصف عباد الرحمن أو المتقين وغيرهم.

مفردة الاستقامة:

واليوم نقف عند آية مباركة تتحدث عن امتيازات جليلة ومنن عظيمة وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ» (فصلت30-31-32) ووردت بتفصيل أقل في موضع آخر «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (الأحقاف: 13) فنحن أما مفردة قرآنية هي (الاستقامة) تتحقق بها آثار عظيمة نطقت بها آية سورة فصلت.

تتنزل عليهم الملائكة فتطمّئنهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وقد قيل في الفرق بين الخوف والحزن أن الأول من الأمور القادمة والثاني من الأسى على ما مضى، فلا يخافون من القادم في القبر أو أهوال يوم القيامة أو مما يخوفونهم به في الدنيا بسبب رفضهم الانصياع

ص: 8

لما سوى الله تعالى من طواغيت أو تقاليد اجتماعية وغيرها، ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا من أمورها الزائلة؛ لأنهم سيجدون أن الله تعالى قد عوّضهم بكرمه بما هو خير وأبقى. وقيل إن ((الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونهوالحرمان من الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها، والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم، فتطيّب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم))(1).

ثمرات الاستقامة:

وتبشّرهم الملائكة بالجنة التي وُعدوا بها على لسان القرآن الكريم والناطقين به (صلوات الله عليهم أجمعين) بما تتضمن من نِعم وما لا عين رأت ولا أذن سمعت خالدين فيها.

وتتولى أمورهم الملائكة بإذن الله تعالى مدبر الأمور وليسوا هم البشر الضعيف الجاهل الضال العاجز عن أن يتولى أموره، وإذا تولّتها الملائكة فإنها لا تأتي إلا بالخير وترعاهم وتداريهم أكثر مما تداوي الأم الشفيقة ولدها،وتجنّبهم كل سوء، في كل المواطن التي يحتاج فيها إلى المعونة حيث لا ناصر إلا الله تعالى في صعوبات الدنيا وعند سكرات الموت وعندما يترك وحيداً في قبره وفي أهوال القيامة وعتباتها، وتعوّضهم

ص: 9


1- الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 30 من سورة فصلت.

عماسيفقدونه من إخوان وأصدقاء وأصحاب بسبب استقامتهم على الحق وسقوط الآخرين وابتعادهم عن الاستقامة، كما نُسِب إلى أبي ذر (0): (ما ترك الحق لي صديقاً)(1).

لهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم بل أوسع من ذلك فلهم كل ما يتمنون من النعم المعنوية والحسّية من دون أن يطلبها، عن الإمام الباقر (علیه السلام) من حديث عن نعم الله تعالى في الجنة قال (علیه السلام) فيه: (فإذا دعا وليُّ الله بغذائه أُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته)(2) وهكذا ما يدّعي.

وأعظم النعم التي ذكرتها الآية الكريمة لهم أنهم يَحُلُّون ضيوفاً عند الله الغفور الرحيم معززين مكرمين مرَحَبّاً بهم وتكون النُزُل التي تقّدم للضيوف كما يليق بأي ضيف كريم عند الرب العظيم.

هذه المواهب الجليلة لا تُعطى للإنسان لمجرد أن يؤمن بالله تعالى بلسانه من دون استقامة على التوحيد ورفض الخضوع والانقياد لكل الآلهة المصطنعة من دونه، وأولها النفس الأمّارة بالسوء، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يبقى للتوحيد معنى إذا لم يستقم عليه، ويلتزم بمتطلباته.

والإيمان الحقيقي يدعو إلى الاستقامة وهي من ثمراته كما يدعو إلى العمل الصالح، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد أن تلا الآية الشريفة المتقدمة: (وقد قلتم «رَبُّنَا اللهُ»فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج

ص: 10


1- بحار الأنوار: 31/180.
2- الكافي: 8/99.

أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطع بهم عن الله يوم القيامة)(1).

معنى الاستقامة:

وفي ضوء كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) يظهر أن الاستقامة تتضمن عدة معانٍ:

(أولها) الثبات وعدم الميلان والانحراف تحت ضغط الشهوة أو الخوف أو الحرص على منصب أو المجاملة أو التقليد ونحوها فيخرج عن حد الاستقامة، في حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أن تلا هذه الآية قال (صلی الله علیه و آله): (قد قالها الناس – أي كلمة الإيمان - ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها)(2)، فعلامة الاستقامة عدم الزيغ والانحراف باتجاه المعصية أو التقصير في الطاعة، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في معنى قوله تعالى: «اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ» يعني أرشدنا إلىلزوم الطريق المؤدي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك)(3).

ص: 11


1- نهج البلاغة: الخطبة (176).
2- مجمع البيان في ذيل تفسير آية (30) من سورة فصلت.
3- معاني الأخبار: صفحة 33.

(ثانيها) المداومة على الطاعة وعمل الخير والاستمرارية فيه؛ إذ لا يصل الإنسان إلى الهدف بمجرد وضع قدمه على الطريق الصحيح بل لا بد من الحركة الصحيحة باستمرار على الطريق الصحيح، عن علي (علیه السلام) في معنى قوله تعالى: «اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ»: (يعني أدِم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا)(1).

(ثالثها) الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، لأن كلاً منهما ابتعاد عن الاستقامة، قال تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (هود: 112) والطغيان هو الخروج عن حد الاعتدال.

(رابعها) الوضوح في الإيصال إلى الهدف فلا شبهات ولا شكوك ولا غموض ولا التفاف ولا حيرة أو تردد، كما أن من صفات استقامة الطريق ذلك ليتحقق المطلوب منه بشكل كامل ولا يضل السائر عليه.(خامسها) الإخلاص، فالاستقامة لا تكون إلا إذا كانت لله تبارك وتعالى وعلى الصراط الذي أمر باتباعه، وليس لنيل غاية معينة من شهرة أو مال أو منصب أو جاه، قال تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ» لا كما تشتهي ولا أي نحو آخر.

ص: 12


1- معاني الأخبار: صفحة 33.

صعوبة الاستقامة:

إن الوصول إلى النجاح أو القمة أيسر من الثبات عليها والمحافظة على التمسك بها، وهذا معروف لدى المتنافسين في كل المجالات وهو أمر شاق لا ينال إلا بلطف من الله تبارك وتعالى؛ لذا يظهر من الآية الشريفة أن الخطوة الأولى من العبد بأن يستقيم وحينئذٍ يستحق مزيداً من اللطف الإلهي فتنزل عليه الملائكة لتتولى أمره وتقوده إلى الخير، وتثبته على الاستقامة، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (النساء: 66).

ويكون الأمر أشق حينما يكلَّف الإنسان بأن يأخذ بيد من معه في طريق الاستقامة، قال تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (هود: 112)، روى في الدر المنثور بسنده عن الحسن (علیه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ» قال (صلی الله علیه و آله): شمِّروا شمِّروا، فما رؤي ضاحكاً) وفي مجمع البيان في قوله تعالى «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ» ((قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله(صلی الله علیه و آله) آية كانت أشدَّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه -حيث قالوا له: أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله-: (شيّبتني هود والواقعة))(1).

ص: 13


1- سورة الواقعة ليس فيها أمر بالاستقامة ووجه الاشتراك مع سورة هود أنها متشابهة في ذكر أهوال يوم الفصل وأحوال القيامة الأمر الذي يخشاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمته لما علمه من عدم استقامة الكثير منهم على الصراط من بعده رغم أنهم أقروا بالإيمان بالله لساناً) (لجة التحقيق).

وأرجع البعض سبب ذلك إلى تكليفه بمن معه؛ لأن آية أخرى أمرت بالاستقامة وليس فيها هذا الذيل فلم يذكرها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو قوله تعالى: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ» (الشورى:15).

فالمسؤوليات شاقة وعديدة، إذ عليه الاستقامة في كل لحظة وفي كل قول وفعل، وهو أمر شاق، وأن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى وهو أشق، ثم عليه أن يقوّم الآخرين على هذا الطريق على اختلاف طباعهم وتباين مستوياتهم وتنوع اتجاهاتهم، وتتسع هذه المسؤولية وتزداد المشقة بسعة من كلّف بقيادتهم، حتى تكون بمستوى ولاية أمر المسلمين، وبمستوى المواجهة التي نشهدها اليوم حيث برز الشرك والكفر والفسوق والظلم والاستبداد بكامل عدته وعدده.

لنحقق الاستقامة:

هذه الاستقامة على الصراط الذي ارتضاه الله تعالى وسار عليه الصالحون من عباده، علّمنا الله تبارك وتعالى أن نسأله إياها ونطلبها منه يومياً عشر مرات على الأقل في صلاتنا، لأنه متضمن لكل خصال الخير قال تعالى: «اهدِنَ----ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» (الفاتحة:6)، ويعرفنا الله تبارك وتعالى بهذا الصراط ويدلنا على معالمه فيصفه بأنه: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ» (الفاتحة:7) ومَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟، قال تعالى: «وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم

ص: 14

مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً» (النساء:69).

فالاستقامة تتحقق بطاعة الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ومَن أمر بطاعته بعده وهم الأئمة المعصومون (b) ثم نوّابهم بالحق، فاتباع القيادة الدينية الحقة ضمان للبقاء على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي مجمع البيان عن الرضا (علیه السلام) (أنه سُئل: ما الاستقامة؟ قال: هي والله ما أنتم عليه) وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» قال: ثم استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين)، وفي الكافي بسنده عن محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» فقال أبو عبد الله (علیه السلام): استقاموا على الأئمة واحداً بعد واحد «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ..».وفي معاني الأخبار في تفسير قوله تعالى «اهدِنَ----ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» (الفاتحة:6) عن الصادق (علیه السلام) (وهي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وصراط في الأخرى، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه بالدنيا واقتدى بهداه مَّر علىالصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم(1).

ص: 15


1- معاني الأخبار:2 ح1، تفسير الصافي:1/126.

إن الإنسان إذا استقام على طاعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (b) من بعده يتنعم في الدنيا فضلاً عن امتيازات الآخرة التي ذكرناها، قال تعالى: «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً» (الجن:16) في الكافي بسنده عن الباقر (علیه السلام) (في قوله تعالى «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً» قال: يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من وُلدِه (b) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً، يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.

كيف نحقق الاستقامة؟

أيها الأحبة:

إن تحقق الاستقامة والثبات عليها التي نطلبها يومياً في صلاتنا –مما يعني أنها شيء يجب السعي لتحصيله- تتطلب أموراً:

العزم والإرادة الصادقة والشجاعة في اتخاذ القرارات والمواقف وإنجاز الأعمال المطلوبة.الوعي والمعرفة والمطالعة الواسعة لروايات المعصومين (b) وآثار السلف الصالح لأن أي عمل لا بد أن تسبقه معرفة، وبعد العمل يكتسب معرفة جديدة.

الالتفات إلى موجبات الانحراف عن صراط الاستقامة مقدمة لاجتنابها وهي اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا بزخارفها الباطلة أو الخوف من فقدان شيء أو القلق من فوات أمور، ومن

ص: 16

موجبات الانحراف أيضاً أمور تبدو خارجة عن إرادة الإنسان، لكن مقدماتها بيده فيستطيع تجنبها بإزالة مقدماتها كالجهل والنسيان والغفلة والسهو فقد يشذّ الإنسان عن الصراط المستقيم لا عن عمدٍ بل جهلاً وغفلة، وبالنتيجة فقد فاته خير كثير.

ولذلك فإن الإنسان يدعو يومياً عشر مرات على الأقل في صلواته بعد طلب الهداية للصراط المستقيم أن يعصمه الله ويحميه من كلا النوعين من موجبات الانحراف عن الاستقامة، ابتداءً واستدامة لأنه معرض في أي لحظة للزلل والانحراف والإغواء إلا أن يمدَّه الله تعالى بلطفه ونوره.

مفردات عملية لتحقيق الاستقامة:

ولتحصيل الاستقامة مفردات عملية وبرامج ذكرتها الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ولو التفتنا فإن الآيات التالية لقوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ» تتضمن مفردات أساسية لهذا البرنامج وهي عدم الركون إلى الظالمين والمحافظة على الصلاة في أوقاتها والصبر، قال تبارك وتعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِمِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فإن اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (هود: 113-115).

ص: 17

موعظة وتذكير:

وأُورد هنا للموعظة والتذكير روايتين تتضمنان وصفتين مهمتين لتطهير القلب وتهذيب النفس لمن أراد الكمال على طريق تحقيق الاستقامة.

(الأولى): رواية صحيحة رواها الثقات في كتبهم جميعاً كالكليني والصدوق والشيخ الطوسي (قدس الله أسرارهم والبرقي في المحاسن عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (علیه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية: الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة: الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة: بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليكبمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).

ص: 18


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 4، ح2.

(الثانية) وصية الإمام الصادق (علیه السلام) لعنوان البصري وكان شيخاً كبيراً حضر عند مالك بن أنس ثم هداه الله إلى الإمام الصادق (علیه السلام) وجاء في الرواية (ثم قال (علیه السلام): ما مسألتك؟ فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد الله (وهي كُنية عنوان البصري أيضاً) ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت: يا شريف فقال: قل يا أبا عبد الله، قلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُلِلْمُتَّقِينَ». قلت: يا أبا عبد الله أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى،

ص: 19

والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك والتهاون بها، قال عنوان: ففرغت قلبي له. فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه(1) فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

وأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنى(2) فعده بالنصيحة والرعاء.

وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً و تجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وِردي، فإني امرؤٌ ضنين بنفسي)(3).

ص: 20


1- أي لا تأكل شيئاً قبل أن تجوع فتشتهي.
2- الخنى: الفحش في الكلام.
3- بحار الأنوار: 1/224.

الفصل الثاني: الحب الإلهي

اشارة

ص: 21

ص: 22

أحبوا الله تعال-ى وحبّبوه وتحبّبوا إليه

أحبوا الله تعال-ى وحبّبوه وتحبّبوا إليه (1)

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكملهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

حببوا الله تعالى للناس:

ورد في حديث نبوي شريف أنه توجد فئة من الناس لهم مقام رفيع يوم القيامة يغبطهم عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتشرأبُّ أعناق طالبي الكمال إزاء مثل هذه الأحاديث ويقبلون عليها بكلّهم، والحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبّون الله ويحببونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(2).

فمن الغريب أنك تجد بعض الناس يتحمّس في الدعوة إلى محبة حزبه أو فريقه الرياضي الذي يشجعه، أو الشخص الذي يعجبه، ويغفل عن الدعوة إلى محبة خالقه الكريم ويزهد في هذا المنزلة الرفيعة وهي منزلة قد لا يبدو من الصعب وصول الإنسان إليها بلطف الله تبارك وتعالى

ص: 23


1- خطبة سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في صلاة عيد الأضحى سنة 1430 التي أقيمت بتأريخ 28/11/2009.
2- مجمع الزوائد للهيثمي: 1/126.

وتوفيقه إذ ليس عليه إلا أن يحبّبَّ الله تعالى إلى مخلوقاته.

يأمر الله تعالى النخبة من عبادة ليكونوا من الدعاة إلى محبة الله تعالى، ففي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام): أحببني وحببني إلى خلقي، قال موسى: يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً)(1)،

وورد مثله(2) عن النبي داود (عليه السلام).

كيف تحبب الله تعالى؟

وهذا الحديث يبين طريقاً لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بتذكيرهم بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى، ولا تحتاج معرفتها إلى مؤونة كبيرة، وليقم الإنسان بمراجعة لنفسه وحاله ليعرف سعة النعم، فمثلاً إذا جلس على الطعام ورأى أنواع المواد الداخلة في إعداده، وكم بُذل عليها من جهود لتصل إليه بهذا الشكل، ولننظر في الخبز الذي هو طعام مشترك لكل الناس كيف تعب الزرّاع لإنتاج حبات القمح ثم طحنت وعُجنت وخبزت، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم عليها عمال ومكائن ولوازم أخرى كالوقود والماء وغيرها، فإذا تأمل الإنسان في هذه المنظومة الواسعة من النعم التي تشترك لتقدم له رغيف الخبز، أحبَّ الإنسان خالقه الذي هيّأ له كل هذه الأسباب وذلّل له كل الصعوبات، وإذا تأمل في الأنواع

ص: 24


1- بحار الأنوار: 13/351.
2- بحار الأنوار: 14/38.

الأخرى من طعامه وشرابه فإنه سيعجز عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. لذلك حكي عن البعض أنه كان يبكي حينما يقدَّم له الطعام لما يراه من أعظم النعم.

وهذا لا يعني اقتصار النعم على المطعم والمشرب، ومن ظن ذلك فهو جاهل، فإن لله تبارك وتعالى على عبده نعماً لا تحصى على رأسها الإيمان بالله تعالى وتوحيده ونعمة الإسلام وولاية النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وقد تضمن دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفه جملة من تلك النعم من قبل خروجنا إلى هذه الدنيا، ولو تعرّف الإنسان على عجائب بدنه لرأى عجباً. في أمالي الشيخ الطوسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من لم يعلم فضل الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقدقصر علمه ودنا عذابه)(1)

فإذا علم الإنسان بعض ما أنعم عليه ربه –وهي لا تعد ولا تحصى- أحبه، لأن الإنسان مجبول فطرياً على حب من أحسن إليه، ولو أن شخصاً وفّر لآخر واحدة من نعم الله كالحياة بإنقاذه من غرق أو موت محقق أو وفّر له نعمة البصر أو السمع أو الطعام لأحبه وكان مديناً له طول حياته بذلك الإحسان. فكيف لا يحب الله تعالى الذي وفّر له كل هذه النعم.

ومن الوسائل الأخرى لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بيان صفاته الحسنى وتعريفه إلى خلقه بما هو أهله من الكمال فإن الإنسان ينجذب فطرياً إلى الجمال والكمال، وذلك يتطلب معرفة فإنه لا حب إلا بمعرفة، فنحن لم نرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أمير المؤمنين

ص: 25


1- بحار الأنوار: 20/69.

(عليه السلام) ولا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) ولم نعايشهم ولكنهم وُصفوا لنا بمحاسن الأخلاق واطلعنا على سيرتهم الكريمة وسمو ذواتهم ومواقفهم النبيلة فأحببناهم، أما الجاهل بهم فإنه لا يعرفهم حتى يحبهم، وهكذا العلماء من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) فإن العامي الذي لا يعرف قيمة إنجازاتهم العظيمة يكون حبه هامشياً مجملاً، أما العلماء الذين وقفوا على مؤلفاتهم وسبروا أغوار علومهم وعلموا قوة ملكاتهم والجهود المضنية التي بذلوها فإنهم يحملون لهم كل الحب والإجلال والتعظيم.

وهكذا إذا تعرّف الإنسان على الصفات الحسنى لخالقه أحبّه، فمثلاً إذا عرف سعة عفوه عن المذنبين وقرأ قوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّاللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (الزمر:53) وقرأ بعض الروايات في ذلك كقول الإمام الكاظم (عليه السلام) في الشاب الذي قتل مائة بريء وكان يائساً من عفو الله عنه فقال (عليه السلام): (إن يأسه من رحمة الله أعظم من قتله مائة نفس محرمة).

أو عرف سعة رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأنه تعالى وزّع جزءاً من مائة جزء من رحمته على مخلوقاته فبها تتراحم)، تصوروا أن رحمة الأمهات والآباء بأبنائهم لدى الإنسان والحيوان والمشاعر النبيلة التي تتدفق عند رؤية مبتلى أو عاجز أو ذوي عاهة، تشكّل هذه كلها جزء من مائة جزء من رحمة الله تعالى التي لا حدود لها، والقصص في رحمة الله

ص: 26

تعالى وتدبيره لأمر خلقه ورعايتهم عجيبة.

أو عرف كيف أن الله يستر على المذنبين والخاطئين ويحفظ كرامتهم ويصون سمعتهم بين الناس كقصة السيد بحر العلوم (قدس سره) الذي أمره الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) بأن يزور رجلاً عادياً من عامة الناس ويبشره بعلو منزلته لخصلة أحبّها الله تعالى فيه وهي أنه لما تزوج امرأة لم يجدها باكراً فطلبت منه الستر عليها وعدم فضحها فاستجاب لطلبها قربة إلى الله تعالى.

أقول: إذا تعرف الإنسان على مثل هذه الصفات لخالقه أحبه قطعاً.

ومما يحبّب الله تعالى إلى عباده التعرف على سيرة أنبيائه ورسله وأوصيائهم المنتجبين وسمو أخلاقهم وطهارة نفوسهم، فإن رباً يكون رسله وسفراؤه إلى خلقه مثل نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون أولياؤه مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) لجدير بأن يستأثر بحب عباده، لأنهم يعكسون صورة عنصفات ربهم. وكمثال على ذلك أن بعض الناس يحبون مرجعية ما ويقلدونها لأن وكيلها ومعتمدها عندهم حسن السيرة محبوب عندهم.

حب الله تعال-ى:

ولا بد للإنسان قبل أن يحبب الله تعالى إلى خلقه أن ينطوي قلبه على حب الله تعالى، ويظهر من الآيات الكريمة والروايات الشريفة أن هذا الحب علامة الإيمان، بل لا يؤثر عليه حب غيره، قال تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ

ص: 27

اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (التوبة:24) وقال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ» (البقرة: 165) وقال تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (المائدة: 54).

وروي أنه سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)(1) وفي حديث آخر (لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين). ويحصل الحب لله تبارك وتعالى بعد تحقق مقدمتين، كلما قويتا قوي الحب وكمُل:الأولى: تطهير القلب من حب الدنيا وتهيئته بتفريغه لحب الله تعالى، فإن القلوب أوعية لا تستوعب أمراً ما حتى تخليها من غيره، قال تعالى: «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (الأحزاب: 4) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله تعالى) ولذا وردت الوصية فيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله).

وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى مصعب بن

ص: 28


1- الحديث والذي يليه تجده في مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): 1/223.

عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون)(1).

الثانية: المعرفة بالله تعالى، فإنه لا حب إلا بعد المعرفة، ولا يحب الإنسان شيئاً يجهله؛ ويكرر القرآن الكريم كثيراً الأمر بالتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله للوصول إلى المعرفة، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصلت:53).

وتفاوت الناس في حبهم لله تبارك وتعالى بمقدار تفاوتهم في هاتين المقدمتين، وتبعاً لذلك تتفاوت درجاتهم عند الله تبارك وتعالى.

آثار حب الإنسان لله تعال-ى وعلاماته:

إذا كان الحب صادقاً فإن آثاره ستظهر على سلوك الإنسان وعلاقته بالآخرين، فهذه الآثار تكون علامات على صدق الحب، ومن دون تحققها يكون ادعاء الحب وهماً:

طاعة المحبوب والقيام بكل ما يقربه من محبوبه ويطبّق ما يكسبه رضاه ويجتنب ما يسخطه، ففي الحديث: (قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله علّمني شيئاً

ص: 29


1- المحجة البيضاء، كتاب مقامات القلب: 114.

إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء وأحبني الناس من الأرض، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) له: ارغب فيما عند الله عز وجل يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس)(1)

قال الله تبارك وتعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (آل عمران:31)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما أحب اللهَ عز وجل من عصاه، ثم تمثّل فقال:

تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبّهُ

ه-ذا لعمري في الفعال بديعُ

لو كان حبّ-ك صادقاً لأط-عتَهإن المحب لمن أحبَّ مطيعُ (2)

ولا يجتنب المحرمات فقط بل يترك المكروهات لأن الله تعالى لا يحبها.

إدامة ذكر الله تبارك وتعالى، فإن المحب لا يغفل عن ذكر حبيبه ومن أحب شيئاً أكثر ذكره بلسانه أو بقلبه وعقله وأحبّ ذكر الله تعالى، عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (علامة حب الله تعالى حب ذكر الله، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله تعالى)(3)،

ودوام ذكر الله تعالى حصن الإنسان من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويبعد منه

ص: 30


1- بحار الأنوار: 70/5 عن ثواب الأعمال والخصال.
2- بحار الأنوار: 70/15 عن أمالي الصدوق.
3- ميزان الحكمة: 1/510.

ومفتاح الارتقاء في الكمالات وسبب لذكر الله تعالى إياه «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (البقرة: 152).

إيثار محبة الله على ما يحبه العبد، فإذا خُيِّر بين أمرين اختار أرضاهما لله تبارك وتعالى وإن كان على خلاف هواه وما تشتهيه نفسه، لأن المحب يؤثر رضا محبوبه على رضا نفسه ففي البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام): (دليل الحب، إيثار المحبوب على من سواه).

إنه سيحب كل ما يرتبط بمحبوبه فيحب الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) لأنهم مبعوثون من الله تبارك وتعالى، ويحب الأئمة والأوصياء (عليهم السلام) لأنهم منتجبون من الله تبارك وتعالى، ويحب القرآن لأنه رسالة ربه إلى عباده، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبوا الله لمايغذوكم به من نعمة وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي)(1) ويحب العلماء والفقهاء لأنهم يهدونه إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الشعائر والمشاعر المقدسة لأنها تذكّره بالله تعالى، ويحب المؤمنين لأنهم أهل طاعة الله تعالى، عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض

ص: 31


1- بحار الأنوار: 70/16 عن علل الشرائع والأمالي للصدوق.

أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب).

وإذا أحبَّ العبدُ ربَّه نشطت الأعضاء للعبادة ولم يستثقلها واستزاد منها فلم يقتصر على الواجبات، بل يكثر من المستحبات لأنها محبوبه عند الله تعالى، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان فيما ناجى الله عز وجل به موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال: يا بن عمران كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، هذا أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا بن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظلم الليل وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)(1).

ومن علامات حب الله تعالى أن العبد لا يكره الموت قال تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (الجمعة:6) في الرد على زعمهم «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ»(المائدة:18)، وكيف يكرهه وبه ينتقل الإنسان من سجن

ص: 32


1- بحار الأنوار: 70/14 عن أمالي الصدوق.

الدنيا إلى حظيرة القدس ولقاء ربه وأوليائه ((وإذا علم أنه لا وصول إلى هذا اللقاء إلا بالارتحال عن الدنيا بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فارٍ منه، فالمحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته. والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ))(1).

نعم قد يحب الإنسان البقاء في الدنيا للاستزادة من طاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه وهذا لا ينافي الحب ((وفي الخبر المشهور أن إبراهيم (عليه السلام) قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه، فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض))(2).

«بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وَالْعَصْر، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ».

ومن علامات حب الله تعالى وآثاره أنه يسعى للاتصاف بصفاته الحسنى، فالمحب يتمثل في حياته كل حركات وسكنات بل رغبات محبوبه، كما نجد من يحب عالماً أو بطلاً فيقلّده في ملبسه ومشيته ومطعمه وحركاته ونحوها، فالعبد إذا

ص: 33


1- المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب.
2- مجموعة ورام: 1/223.

أحب ربه اتصف بصفاته الحسنى.ومن علامات حبّ الله تعالى حبّ عباده ومخلوقاته والرحمة بهم والشفقة عليهم لأنهم من صنع ربه وإبداعه ولأنهم رعاياه فيسعى لإسعادهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم ورفع الظلم عنهم. فالذي يقابل حاجة الناس ومعاناتهم بقسوة قلب وعدم اكتراث لا يحلّ في قلبه حبّ الله تعالى.

ومن علامات حب الله تعالى الرضا بقضائه والتسليم لأمره روي (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقومٍ فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مؤمنون برب الكعبة)(1) وقال أيضاً: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم

ص: 34


1- مجموعة ورام: 1/229.

في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)(1).

وأن يكون الحب ممزوجاً بالخوف من الإعراض أو الإبعاد أو أن يستبدل به غيره، يروى أن الإمام (عليه السلام) إذا أحرم ولبى وقال: (لبيك اللهم لبيك) كانت ترتعد فرائصه ويقول:أخشى أن يجيبني الله تبارك وتعالى: لا لبيك. وقد يكون الخوف من التوقف وعدم التوفيق لمزيد القرب من الله تعالى فيكون من أهل الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون)(2).

جزاء من يحب الله تبارك وتعال-ى:

إذا أحب العبد ربه أحبه وقرّبه منه وأدخله جنته قال تعالى: (يُحِبَّهُم وَيُحِبُّونَهُ)، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده)(3)

ويشرح الحديث الآخر كيفية معرفة ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من أراد منكم أن يعلم كيف

ص: 35


1- مجموعة ورام: 1/230.
2- معاني الأخبار للصدوق: 242.
3- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/18 عن معاني الأخبار والخصال.

منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى)، وفي حديث آخر عن علي (عليه السلام) قال: (من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلته عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده)(1).

وروي في أخبار داود (عليه السلام) (يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، منطلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم)(2).

وإذا أحب الله عبده: وفقه لطاعته وجنّبه معصيته، روي أن موسى (عليه السلام) قال: (يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيئ عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أحب الله عبداً ألهمه طاعته). وفي حديث آخر (إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه).

وإذا أحب الله عبده: تولى أمره وتدبير شؤونه، ونصره على أعدائه، وأولهم نفسه التي بين جنبيه فلا يخذله ولا يكله إلى نفسه وشهواته، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 36


1- بحار الأنوار: 70/26.
2- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 70/26.

(عن جبرئيل قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لم يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)(1) إلى آخر الحديث.

وإذا أحب الله عبده: كان دليله وسدد خطاه وأنار بصيرته وما أحوجنا إلى دليل يسدّدنا ويميّز بين الحقّ والباطل ويبصّرنا بحقائق الأمور، في الحديث النبوي المتقدم: قال الله تباركوتعالى: (وما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يبتهل إليّ حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلاً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)(2).

وإذا أحبّ الله عبداً حشره مع من أحب، جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أنّي أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المرء مع من أحب. قال: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك)(3).

ص: 37


1- علل الشرائع: 12 الباب 9، ح7.
2- وفي المحاسن: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) (بحار الأنوار: 70/22).
3- مجموعة ورام: 1/223.

ما يحببكم إل-ى الله تعال-ى:

من خلال استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحصل على قائمة طويلة بما يحببك إلى الله تعالى، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة: 222) وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» (الصف:4).ومن الأحاديث الشريفة(1)

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقه، والتواضع لخلقه والإحسان لعباده) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يحبها الله: قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها ا لله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يقول الله تعالى: إنّ أحبَّ العباد إلي المتحابون بحلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في حديثه محافظ على صلواته وما افترض الله عليه مع أدائه للأمانة) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة نبيه وتفكّر في عيوبه وأبصر وعقل وعمل) وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (ما عبد الله بشيء

ص: 38


1- هذه الأحاديث نقلت من بحار الأنوار ومجموعة ورام.

أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله من أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1).

أوثق عرى الإيمان:

أيها الأحبة:

إن الله تبارك وتعالى يحبُّكم لأنه خالقكم وصانعكم وأبدع في صنعكم وجعلكم في أحسن تقويم وكرّمكم وفضلكم على كثير ممن خلق وسخّر لكم ما في الأرض جميعاً ويباهي بكم ويتحدى بكم من اتخذوهم أرباباً من دونه وأنداداً له «هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (لقمان:11) يروى أن أبا تمام الشاعر المشهور يقول إن كل بيت من شعري عندي كابني، أقول: هذا وهو بيت من الشعر مهما كان بديعاً، فما هو محل هذا الكائن العجيب عند خالقه ومبدعه.

أتحسب أنّك جرمٌ صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر

فأحبوا الله تبارك وتعالى وحببوه إلى عباده وأحبوا عباد الله

ص: 39


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب استحبابه، ح4.

ومخلوقاته، واجعلوا دليلكم في من تحبون ومن تبغضون حب الله لهم وبغضه إياهم، في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مِن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)(1)

وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع له فهو ممن كمل إيمانه).

ص: 40


1- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 69/238-239.

الفصل الثالث: بمَ تتحقق السعادة؟

اشارة

الفصل الثالث: بمَ تتحقق السعادة؟ (1)

ص: 41


1- الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1431 الموافق 10/9/2010 م.

ص: 42

بمَ تتحقق السعادة؟

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف خلقه وأكرمهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أهمية السعادة:

السعادة: حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة، ونحن حينما نتبادل التهاني في العيد، يدعو بعضنا لبعض: (أسعد الله أيامكم) وإن كنا نحن في العراق نقولها وقلوبنا تعتصر ألماً لما يمرُّ به شعبنا من قتل ودمار ونقص مريع في الخدمات الأساسية، وانتشار الفقر والبطالة والمرض والجهل والفساد وأمثالها من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تنخر بنية المجتمع وتدمره إلا من عصم الله تعالى.

ولا زالت دماء الضحايا والأبرياء لم تجف بعد في بغداد والبصرة والكوت وكربلاء والأنبار وغيرها من المدن العراقية المحرومة المنكوبة. وقد مرّت ستة أشهر على الانتخابات من دون تحقيق خطوة تذكر لتشكيل الحكومة، والزعماء السياسيون منهمكون بالصراع على السلطة وغنائمها وامتيازاتها.

وأقل من هذه البلاءات بكثير دفعت شاعراً مثل المتنبي إلى القول:

ص: 43

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

ويوجد اليوم في الكتّاب والمثقفين من يخاطب العيد بقول المتنبي، ويسخر ممن يقول (أيامك سعيدة) و(أسعد الله أيامكم) مع أنها كلمات دعاء وطلب من الله تعالى بجعل أيامالعمر سعيدة وهانئة وليست إخباراً عن الواقع المعاش حتى يجد البعض أنها غير لائقة وغير منطبقة على هذا الواقع المؤلم.

الفوز الحقيقي:

وأين المتنبي وأمثاله من سمو أهل البيت (عليهم السلام) وحياتهم السعيدة وهم الذين لم يؤذَ أحدٌ كما أوذوا، انظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول: (فُزتُ وربّ الكعبة)، والإمام الحسين (عليه السلام) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (عليه السلام): (ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(1).

والإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون وظلمات المطامير ويقول (إلهي طالما طلبت منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلتَ).

ص: 44


1- بحار الأنوار: 44/192.

روى صالح بن سعيد قال: (دخلت على أبي الحسن - الهادي- (عليه السلام) يوم وروده - سامراء- فقلت له: جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.فقال (عليه السلام): ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (عليه السلام) لي: حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)(1).

علامة السعادة:

إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء «أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى؛ لذا يعلمنا الأئمة (عليهم السلام) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك.

فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ

ص: 45


1- بحار الأنوار: 50/202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (هود:108).

متى تحصل الشقاوة؟

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ» (الزخرف: 36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (طه: 124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ» (هود:106-107).

السعادة والشقاوة تنبعان من النفس:

أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله؛ فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية،

ص: 46

وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعةوالعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

الدنيا للعبور والسعادة من المساعدة:

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى.

وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.

مخاطبة عوالم الإنسان:

وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من

ص: 47

مختصات شريعة الله تبارك وتعالى الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسيرالسعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط –كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

السعادة بالتوازن بين الإفراط والتفريط:

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (الروم:30) ففي الوقت الذي تؤكد فيه على الجوانب المعنوية والكمالات الروحية حين تجعل التقوى وتهذيب النفس أساس السعادة والفلاح «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس:9-10) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإن السعداء بالدنيا غداً هم

ص: 48

الهاربون منها اليوم)(1).فإنها تدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة التي توفر الطمأنينة والراحة والسكون للنفس فنرى الحث الأكيد على العمل والكسب بالتجارة أو الزراعة أو غيرهما وتجعل العمل لطلب الرزق الحلال من أفضل القربات إلى الله تعالى ففي الحديث النبوي الشريف (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة)(2) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أكل من كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء) وفي الحديث (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله) وفي حديث آخر (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها) وفي حديث نبوي شريف (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة).

وتجعل تلبية الحاجة الجنسية من طرقها المحللة - أي الزواج- من آيات الله تبارك وتعالى وسننه التي يُتقرب إليه تبارك وتعالى بإقامتها، وإن الإعراض عنه خروج عن هذه السنة قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم:21) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (شرار أمتي العزاب).

ص: 49


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (223) قالها عند تلاوته «يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ».
2- بحار الأنوار: 103/9، ح35.

ونرى رفض الرهبنة والانعزال وحرمان النفس والجسد من بعض ما تشتهيه بالمعروف وبما أحل الله تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيلِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأعراف: 31-32).

هذا التوازن والنهي عن الإفراط والتفريط معاً لتحقيق السعادة يظهر جلياً مما ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: (ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى، إن شئتَ بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال (عليه السلام): وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال (عليه السلام): عليَّ به، فلما جاء قال (عليه السلام): يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال (عليه السلام): ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على

ص: 50

أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره)(1).

كيف نحقق السعادة؟

ونذكر هنا مجموعة من الروايات الشريفة التي أرشدتنا إلى ما تتحقق به السعادة في الآخرة وما يعين عليها من أمور الدنيا:

عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) أنه قال: (حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء)(2)،

فإن الإنسان لا تكتمل سعادته إلا عندما يختم عمله بخير فإننا نرى كثيرين يعملون عمل السعداء لكنهم في منعطف من حياتهم ينقلبون ويغويهم الشيطان ويلتحقون بالأشقياء وقد يحصل العكس أحياناً كما في قضية الحر الرياحي حتى قال فيه الإمام الحسين (عليه السلام): (أنت حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة) فلا تتحقق السعادة إلا بالمداومة على الخير والثبات عليه.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من سعادة المرء خفة لحيته)(3) أي قلة أتباعه ورعيته سواء كان على صعيد العائلة أو السلطة أو الزعامة الدينية أو الاجتماعية؛ لأن التابع يتمسك بلحية المتبوع -كما يقال في العرف- وقد

ص: 51


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (209).
2- بحار الأنوار: 5/154 عن الخصال: 5 ب1 ح14.
3- بحار الأنوار: 73/113.

يتحمل المتبوع مسؤولية تكثير أتباعه بتكبير لحيته الظاهرية فيتبعه من يراعي تلك المقاييس.

وفي (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) قراءة أخرى للحديث (خفة عارضيه) أي خفة لحييه وعارضيه بذكر الله تعالى وعدم غفلته عن ربّه.عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرجل يرزق معيشة يغدو على إصلاحها ويروح على عياله)(1).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الهنيء والولد الصالح)(2).

فالزوجة الصالحة المطيعة المتوددة، والمسكن اللائق بشأن الإنسان، والأولاد البارّون الصالحون، ووسيلة التنقل المناسبة التي تغنيه عن الطلب من الناس وغيرها من الحاجات الأساسية في الحياة يؤدي توفّرها إلى الحياة السعيدة المعينة على طاعة الله تعالى ونيل السعادة الحقيقية.

على أن لا تتحول هذه الأمور إلى هدف وشاغل عن الله تعالى بل يجعلها الإنسان وسائل مساعدة ومعينة على

ص: 52


1- بحار الأنوار: 103/6 عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- بحار الأنوار: 104/98، ح64.

الوصول إليه تبارك وتعالى قال عز من قائل: «رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ» (النور:37) فالمشكلة ليست في وجود تجارة أو مال وإنما في تحولها إلى مانع عن الوصول إليه تبارك وتعالى، وقال: «إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» (التغابن: 14).

وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (السعيد من استهان بالمفقود)؛ لأن الحزن على ما فات موجب للشقاء والنكد والسعيد من صبر وتسلّى عنه واحتسبه عند الله تعالى.وقال (عليه السلام): (في لزوم الحق تكون السعادة) لأن معرفة الحق واتباعه هو أساس السعادة الحقيقية الموجبة للفوز.

وقال (عليه السلام): (من حاسب نفسه سعد) لأنه بالمحاسبة يستطيع تصحيح الأخطاء وتلافي النقص ورد المظالم إلى أهلها ويقرّر حياة أفضل وكل ذلك يوجب السعادة.

وقال (عليه السلام): (خلوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد) فإن أشقى الناس من امتلأ قلبه حقداً وحسداً وغلاً وخيانة وحياته تكون معذبة ويعيش مهموماً.

وقال (عليه السلام): (السخاء إحدى السعادتين).

ص: 53

وقال (عليه السلام): (سعادة المرء –في- القناعة والرضا) فإذا قنع استقر ورضي ولم يحزن على فوات شيء أو يقلق حرصاً على تحصيل شيء.

وقال (عليه السلام): (سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته) لأن العمل بما يرضي الله تعالى والسير على هدى أوليائه يحقق السعادة الأبدية.

وقال (عليه السلام): (إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة).

وقال (عليه السلام): (أمَارة السعادة إخلاص العمل) لأن عمله إن لم يكن بنية مخلصة لم يكن مقبولاً ولم يحقق السعادة المطلوبة، فعلامة سعادته كون عمله مخلصاً لله تبارك وتعالى.في كتاب مكارم الأخلاق (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه)(1)؛

لأنه بها يستغني عن الحاجة للآخرين ويتمكن من قضاء حوائج الناس التي هي من أعظم القربات.

عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره في بلاده ويكون خلطاؤه صالحين ويكون له وُلدٌ يستعين بهم)(2). فمن كان متجره في بلاده

ص: 54


1- مكارم الأخلاق: 138.
2- بحار الأنوار: 103/7 ح 27 عن الخصال: 1/159 باب الثلاثة.

كفاه الله مؤونة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ومخاطر الأسفار، ومن كان شركاؤه وأقرانه في العمل صالحين تجنب المشاكل والخصومات والخوض في الباطل، ومن كان له ولد يعينه خفّت أعباء الحياة عليه وسعد برؤيتهم.

(من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود)(1).

(ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن فهناك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه) فهكذا تجتمع الأسباب لتحقق السعادة: الإرادة من الإنسان وتيسير الأسباب والوسائل الطبيعية لإنجاز العمل وتوفيق الله سبحانه.

(ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهمبنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه)(2) فالإلفة بين المؤمنين وتواددهم وتراحمهم سبب قوي لسعادتهم ونزول الرحمة عليهم.

ص: 55


1- بحار الأنوار: 6/46.
2- الاحتجاج: ج2، رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد.

كيف نحذر من الشقاوة؟

ونذكر بعض الروايات الواردة في الشقاوة لتعرف الأمور بأضدادها:

قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اعدلْ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد شقيتَ (شقيتُ) إن لم أعدل)(1).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أشقى الناس الملوك)(2) بعكس ما يتصور أغلب الناس فيحسدونهم على ما هم عليه فإذا انكشف لهم الواقع تبرأوا منه كما في قصة قارون التي حكاها الله تبارك وتعالى: «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (القصص:82).وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أربع خصال من الشقاء: جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء)(3).

سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): أي الخلق أشقى؟ قال (عليه السلام): (من باع دينه بدنيا غيره)(4).

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (إن الشقي من

ص: 56


1- رواه البخاري: 3138.
2- بحار الأنوار: 75/340.
3- بحار الأنوار: 73/164.
4- بحار الأنوار: 75/301.

حُرم ما أوتي من العقل والتجربة)(1).

ومن كلماته (عليه السلام) في غرر الحكم: (من علامات الشقاء غش الصديق) (من الشقاء فساد النية) (من الشقاء أن يصون المرء دنياه بدينه).

وننبه هنا إلى شبهة يثيرها الغارقون في المعاصي العاجزون عن التغلب على أهوائهم فيصوّرون لأنفسهم أنه مكتوب عليهم الشقاء ولا يمكن تغييره، وقد دعمت هذا الاتجاه الفكري جهات سياسية منذ عصر صدر الإسلام لتمنع الأمة من الحركة نحو الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد وإزالة الظلم، وينقل القرآن الكريم عنهم قولهم: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ» (المؤمنون:106) لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) فسر الآية بقوله: (بأعمالهم شقوا)(2).فالإنسان باختياره عمل ما يوجب شقاءه، وقد جرى القضاء الإلهي - أي مجموعة القوانين والسنن الإلهية- بأن من يعصي ويعرض عن الله تعالى يشقى، قال (عليه السلام) في دعاء كميل: (إلهي ومولاي أجريتَ عليَّ حكماً اتبعتُ فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء) فالعبد باختياره اتبع الشيطان وساعد على غوايته السنة الإلهية بإيكاله إلى نفسه وسلب التوفيق منه.

وفي احتجاج الإمام الصادق (عليه السلام) على الزنادقة لما سألوه:

ص: 57


1- شرح نهج البلاغة: 18/74.
2- بحار الأنوار: 5/157.

(فما السعادة وما الشقاوة؟ قال: السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكلٌّ بعلم الله تعالى)(1) فالله تبارك وتعالى قضى تلك الأسباب، والإنسان بإرادته تمسك بهذا أو ذاك منها، وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (أما أهل السعادة فييسّرون لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة) ولذا فُسرت السعادة بما يناسب أصلها المأخوذ منه وهي المساعدة فقيل أن السعادة والسعد: ((معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادّه الشقاوة وأعظم السعادات الجنة))(2).

تلخيص السعادة الحقيقية:

أيها الأحبة..

نستطيع تلخيص أسباب السعادة الحقيقية بالإيمان بالله تعالى وتقواه والالتزام بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) بإخلاص ونشاط وعزيمة لا تلين، وتطهير القلب من أمراض الحسد والحقد والبغضاء والبخل والحرص والخوف والقلق وتنقية العقل، من الشبهات والشكوك والظنون والتهم والأوهام والوساوس (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن) وتهذيب النفس من الأهواء المنحرفة وضبط الغرائز على وفق ما يصلح

ص: 58


1- بحار الأنوار: 10/184.
2- المفردات للراغب: مادة (سعد).

حال الإنسان في دنياه وآخرته وتجنب الإفراط والتفريط.

والزواج بالمرأة الصالحة الودودة الجميلة وطلب الأولاد وتربيتهم ليكونوا صالحين، والسعي لطلب الرزق الحلال الذي يسدّ احتياجاته ويغنيه عما في أيدي الناس ويوفّر له فرص الطاعة والقرب من الله تبارك وتعالى.

وقد وجدت في الأحاديث الشريفة أن أكثر ما يوجب السعادة بعد التقوى محبة الآخرين ومواددتهم وبذل الوسع في إسعادهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ابتداءً من الوالدين والزوجة والأولاد إلى الجيران والأرحام ثم عامة الناس.

وإن أكثر ما يوجب الشقاء بعد الإعراض عن الله تعالى هو الحزن والقلق، الحزن على ما فات من عزيز أو مال أو شهوة أو شيء حريص عليه، والقلق مما يأتي كالتاجر يخاف أن يخسر والمرأة تقلق أن يفوتها قطار الزواج أو يتزوج عليها زوجها امرأة ثانية. فينكد عيشهم باحتمالات لم تقع، والحل في تجنب هذه الحالات، وإيكال الأمر إلى الله تبارك وتعالى والأخذ بالأسباب المتيسرة قال تعالى في علاج هذه الحالة: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِوَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (الحديد:22).

ولم تحصل هذه الحالات إلا بسبب الحرص والفخر والاختيال بما في اليد.

ص: 59

ص: 60

الفصل الرابع: الذكر

اشارة

الفصل الرابع: الذكر (1)

ص: 61


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك التي أقامها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله يوم الجمعة الموافق 26/10/2012.

ص: 62

ذِكر الله تعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سادة خلقه أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أولانا.

المعنى الحقيقي للتزين:

من مستحبات العيد التزيّن، والمعنى المعروف منه هو التزيّن الظاهري الشكلي ولا بأس به، لكن أهل البيت (عليهم السلام) يدلّوننا على المعنى الحقيقي الواعي للتزين؛ روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (زيّنوا أعيادكم بالتكبير) وعنه (صلى الله عليه وآله): (زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس)(1).

معنى التكبير:

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحبَّ إلى الله من التكبير والتهليل)(2)، ويشرح الإمام (عليه السلام) معنى التكبير فيرواية عن أحد أصحابه قال: (قال

ص: 63


1- ميزان الحكمة: 6/323، باب 2962.
2- ثواب الأعمال: 18، باب ثواب لا إله إلا الله، ح13.

لي أبو عبد الله (عليه السلام): أي شيء الله أكبر؟ فقلتُ: الله أكبر من كل شيء، فقال (عليه السلام): فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: فما هو؟ فقال: الله أكبر من أن يوصف)(1).

وفي رواية أخرى (قال رجلٌ عنده: الله أكبر، فقال (عليه السلام): الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): حدّدته! فقال الرجل: وكيف أقول؟ فقال (عليه السلام): الله أكبر من أن يوصف).

الذكر في القرآن الكريم:

لقد أولى القرآن الكريم قضية (الذِكر) أي ذكر الله تعالى اهتماماً بالغاً لأهميتها وعظيم آثارها، حتى أن هذه المفردة ومشتقاتها تكررت في عشرات الآيات، والملاحظ أن ورودها في الآيات المكية حوالي ثلاثة أضعاف الآيات المدنية تقريباً حيث كان القرآن المكي يركّز على بناء عقيدة التوحيد وعلاقة المسلم بالله تعالى ونبذ الشركاء والأنداد وتطهير القلب وتهذيب النفس.

قال تعالى: «وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ» (آل عمران:41) وقال تعالى: «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ» (الأعراف:205) وقال تعالى: «وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ»

ص: 64


1- الحديث والذي يليه في معاني الأخبار: 11

(الكهف:24)،وقال تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ» (البقرة:152) وقال تعالى: «وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ» (البقرة:203)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» (الأحزاب:9)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» (الأحزاب: 41-42)، وقال تعالى: «وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (الجمعة : 10) وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» (الأعراف : 201) وقال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ» (آل عمران:191) وقال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد : 28) وقال تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (العنكبوت:45) وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (المنافقون : 9) وقال تعالى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً» (المزمل:8).

وجاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد هذه الأهمية، وتدعوا المؤمنين إلى ذكر الله تعالى على كل حال، ففي الخصال عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك الأخ في الله عز وجل، وذكر الله تعالى على كل حال)، وروى الحسن بن علي

ص: 65

(عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بادروا إلى رياض الجنة، فقالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حَلَقُ الذِكر)(1).

معنى (ذكر الله تعالى على كل حال):

ونفهم من (على كل حال) عدة مستويات وكلها صحيحة ومستفادة من الآيات المتقدمة:

أي في كل زمان وفي كل آن، كما في الآية (41 من آل عمران) «بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ» و (الآية 205 من الأعراف) «بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مكتوب في التوراة أن موسى سأل ربه فقال: إني أكون في حال أُجِلُّك أن أذكرك فيها، قال: يا موسى اذكرني على كل حال وفي كل أوان)(2).

أي في كل وضع من أوضاع الإنسان قائماً وقاعداً وعلى جنوبهم كما في (الآية 191 من آل عمران) «قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ»، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً إن الله تعالى يقول: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ»).

ص: 66


1- معاني الأخبار: 321، أمالي الصدوق: 297، المجلس 58، ح2.
2- هذا الحديث وما بعده بحار الأنوار: 93/160.

في كل مكان وموضع كان فيه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذن ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال لأن ذكر الله حسن على كل حال) ثم ذكر (عليه السلام) المكتوب في التوراة أعلاه، وفي كتاب الخصال في حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اذكروا الله في كل مكان فإنهمعكم، وقال (عليه السلام): (أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تُكتبوا من الغافلين)(1).

في كل قضية تعرض لك وكل معاملة وكل قضية، فإن كان فيها رضا الله سبحانه فعلتها، وإلا تركتها، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (ألا أحِّدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه، قلتُ بلى، قال، قال: إنصاف الناس من نفسك مواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر –وإن كان هذا من ذاك- ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته)(2).

وفي حديث آخر عنه: (وذكر الله على كل

ص: 67


1- الخصال: 2/614، باب الأربعمائة، ح10.
2- معاني الأخبار: 192.

حال فإن عرضت له طاعة لله عمل بها وإن عرضت له معصية تركها)(1).

في كل حال من أحوال النفس من الغضب أو الرضا، والفرح أو الحزن، والغم والضيق أو الانشراح والسرور، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولاأمحقك في من أمحق)(2).

وفي حديث: (إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له)(3).

أن يُعِدَّ لكل حالٍ ذِكره الخاص به، فللنعمة ذكر وللمصيبة ذكر وللقتال ذكر وللوضوء ذكر ولتناول الطعام ذكر وللنوم ذكر وللنكاح ذكر وللتخلي ذكر ولركوب السيارة ذكر، وهكذا، وهذا معنى شرحناه مفصلاً في كتاب (شكوى القرآن).

وخلاصة الوجوه أن معنى الذكر الكثير أن يكون الإنسان في جميع أحواله مطيعاً لله تبارك وتعالى، عن الإمام الصادق (عليه السلام)

ص: 68


1- أمالي الطوسي: 88، المجلس (3)، ح135.
2- أمالي الطوسي: 279، المجلس (10) ح 532.
3- الكافي: 2/183.

عن آبائه (عليهم السلام) (قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته)(1).

جزاء الذكر وآثاره وفضل مجالس الذكر:

فضل مجالس الذكر: كهذا الحشد الذي نذكر فيه الله تعالى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:-عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا فقد بدّلتُ سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعاً، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلا قعد معهم عدة من الملائكة).

وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله

ص: 69


1- معاني الأخبار: 399.

تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارّين والمقاتل في الفارّين نزوله الجنة)(1)

فأكثر اجتماعات الناس تتخللها أحاديث فارغة لا جدوى منها، وقد تتضمن محرمات، فمن يلتفت حينئذٍ إلى ذكر الله تعالى يكون من أهل هذا الحديث.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض) ولتلافي الغفلة التي تحصل في بعض المجالس والأحاديث، فقد ورد استحباب أنيقول الشخص عند قيامه من المجلس: «سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ».

جزاء الذكر وآثاره:

إن التوفيق لذكر الله تعالى من أعظم النعم على العبد، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك

ص: 70


1- المحاسن: 1/110، ح99.

لنزّهتك عن ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أُجعلَ محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا) إلى أن يقول (عليه السلام): (وقلتَ وقولك الحق: «فَاذكُرُونِي أذكُركُم» فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين)(1).

ومما ورد في كتاب الله تعالى:-

ذكر الله سبب لطمأنينة القلب وما أعظمها من نتيجة، قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد : 28)، ومن آثار الطمأنينة الأُنس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر) وعنه (عليه السلام): (ذاكر الله مؤانسه) وعنه (عليه السلام): (إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك).أنه سبب ليقظة القلب من غفلته، وحياته بعد قسوته، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» (الأعراف : 201)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من ذكر الله استبصر) وعنه (عليه

ص: 71


1- مفاتيح الجنان: 206، المناجاة (13) مناجاة الذاكرين.

السلام): (من كثر ذكره استنار لبّه) وعنه (عليه السلام): (دوام الذكر ينير القلب والفِكر).

إن الله تعالى يذكر من ذكره، قال تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ» (البقرة : 152)، وفي عدة الداعي: (يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة)(1).

إن الذكر سبيل موصل إلى الله تعالى، قال تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً» (المزّمِّل : 19) (الإنسان:29).

جزاء الذكر في الأحاديث الشريفة:

أما الأحاديث الشريفة فقد ورد فيها الشيء الكثير:-

ص: 72


1- أكثر الأحاديث المذكورة نقلناها عن مصادرها بواسطة: بحار الأنوار: 93/148-175، وميزان الحكمة: 3/341-360.

1- إن الذكر يوجب محبة الله تعالى للذاكر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (يا ربّ وددتُ أن أعلم من تحبُ من عبادك فأحبّه، فقال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته وأنا أبغضته)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أكثر ذكر الله أحبَّه).

2- وأن الله تعالى يتولى أمر الذاكر وجميع شؤون حياته في دنياه وآخرته، فكم يكون الإنسان سعيداً حينما يتولى شؤونه محبٌّ له شفيق عليه حكيم بأفعاله عالم بكل شيء إلى غيرها من الأسماء الحسنى، ففي بعض الأحاديث القدسية قال الله تعالى: (أيما عبدٍ اطلعتُ على قلبه فرأيتُ الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنتُ جليسَه ومحادثه وأنيسه)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (قال الله سبحانه إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردتُ أن أهلك أهل الأرض عقوبةً زيتها عنهم من أجل أولئك الأبطال)، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إن الله تبارك وتعالى يقول: من شُغِل بذكري عن مسألتي أعطيته

ص: 73

أفضل ما أعطي مَن سألني)، وروي فيما ناجى به موسى (عليه السلام) ربَّه عز وجل: (إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال: يا موسى أُظلُّه بظل عرشي وأجعله في كنفي)(1).

3- أنه يوجب الثواب العظيم فعنهم (سلام الله عليهم): (إن في الجنة قيعاناً فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(2). وعن أحد الإمامين الصادقين (عليهما السلام) قال: (لا يكتب الملك إلا ما أسمع نفسه وقال الله: «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً» قال: لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس العبد لعظمته إلا الله)(3).

4- الذكر الطيب، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره)، ومن وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر قال: (عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)(4).

ص: 74


1- أمالي الصدوق: 173، المجلس (37) ح8.
2- بحار الأنوار: 93/162-164.
3- بحار الأنوار: 93/159، ح36.
4- معاني الأخبار: 334، الخصال: 2/525، أبواب العشرين وما فوقه، ح13.

5- يقيه الكثير من الحوادث، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الصاعقة لا تصيب ذاكراً لله عز وجل)(1).

6- في الذكر إعمار القلب وصلاحه وهذا القلب هو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (أوصيك بتقوى الله أيْ بُني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره) وعنه (عليه السلام): (وأصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله)وعنه (عليه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) وعنه (عليه السلام): (من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر).

7- وبالذكر تحيى القلوب، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (بذكر الله تحيى القلوب، وبنسيانه موتها)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة) وعنه (عليه السلام): (من ذكر الله سبحانه أحيى الله قلبه ونوّر عقله ولبّه).

8- وبه شفاء القلوب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذكر الله شفاء القلوب)، وعنه (صلى الله عليه وآله

ص: 75


1- أمالي الصدوق: 375، المجلس (71) ح3.

وسلم): (عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وفي دعاء كميل: (يا من اسمه دواء وذكره شفاء).

9- بالذكر يطرد الشيطان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الشيطان واضع خطمه –أي فمه- على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذكر الله مطردة الشيطان) وعنه (عليه السلام): (ذكر الله رأس مال كل مؤمن، وربحه السلامة من الشيطان).

10- وأن في الذكر أماناً من النفاق، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق).

خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في فضل الذكر:

ولأمير خطبة جامعة في فضل الذكر والذاكرين قالها عند تلاوته (عليه السلام) قولَه تعالى: «رَجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ» قال (عليه السلام): (إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرة، وتُبصر به بعد العَشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للهِ عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة

ص: 76

ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين)(1).

من مصاديق الذكر الكثير:

1- تسبيح الزهراء (عليها السلام) عقب كل فريضة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث يقول في آخره: (تسبيح فاطمة من الذكر الكثير الذي قاله عز وجل: «فَاذْكُرُونِيأَذكُركُم»(2)

وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): إنه (التسبيح في دُبُر كل صلاة ثلاثين مرة)(3).

2- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم وسلامه) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله) من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته).

ص: 77


1- نهج البلاغة.
2- معاني الأخبار: 194.
3- ميزان الحكمة: 3/344، ويحتمل أن المقصود به هنا (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله الأكبر).

3- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «اذْكُرُوا اللهَ ذِكراً كَثِيراً» قال (عليه السلام): (إذا ذكر العبد ربَّه في اليوم مائة مرة كان ذلك كثيراً)(1).

4- وعنه (عليه السلام) قال: (من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر قال تعالى: «يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً» (النساء:142) )(2).

خسارة الغفلة والإعراض عن الذكر:

قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى» (طه: 124-126)، وقال تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (الزخرف: 36) وقال تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (الحشر:19).

ص: 78


1- بحار الأنوار: 93/160، ح38.
2- بحار الأنوار: 93/160، ح41.

الروايات المحذرة من الغفلة:

ومن الروايات المحذِّرة من الغفلة عن ذكر الله تعالى:-

1- روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسِر عليها يوم القيامة)(1).

2- وفي عدة الداعي روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم).

3- وفي تتمة الحديث السابق(2) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر فيه الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين).

4- وروى الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (عليه السلام): لا

ص: 79


1- ميزان الحكمة: 3/344.
2- مرّ الحديث في كلام سماحته في النقطة الرابعة من (فضل مجالس الذكر) وهو قول الإمام الصادق (عليه السلام): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته ..) الحديث.

تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري تقسي القلوب)(1).

5- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من (نسي الله سبحانه أنساه الله نفسه وأعمى قلبه)(2).

حقيقة الذكر:

قالوا: إن الذكر بمعنى الحفظ، إلا أن الاختلاف بينهما باللحاظ، فيقال الحفظ باعتبار إحراز المحفوظ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.

وأقول: إنه تارةً يراد بالذكر معناه المصدري فيكون معناه حضور الشيء في القلب أو على اللسان، وتارة يراد به المعنى اسم المصدري، فيعبر عن قابلية عقلية وقلبية بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.

والمعنى الحقيقي لذكر الله تعالى هو حضوره في القلب والالتفات إليه لأنه الذي تتحقق به الآثار، أما حركة اللسان به فهي تعبير وكاشف عنه ومظهر ومبرز له، وليست ذكراً حقيقياً إلا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول به، ولا تترتب الآثار المتقدمة عليه وحده.

أترى لو أن إنساناً كان له حصن يحميه من عدوه فهل يكفيه أن يكرّر: أعوذ بهذا الحصن من عدوي لحمايته من العدو إذا هجم عليه، أم

ص: 80


1- الخصال: 1/39، باب الاثنين، ح23.
2- غرر الحكم : 8875.

المطلوب الدخول فعلاً في الحصن، وهكذا كل الأذكار لها حقائق تترتب عليها الآثار ولا يكفي مجرد لقلقة اللسان، كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة لرجل قال بحضرته: أستغفر الله، فعلّمه الإمام (عليه السلام) حقيقة الاستغفار.

لكن الله تعالى بكرمه جعل ثواباً حتى على مجرد تحريك اللسان بالذكر وإن كان ليس ذا قيمة مقابل ما يقترن بالذكر القلبي، لذا لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله بعض الصوفية من أن الذكر باللسان دون حضور القلب لا قيمة له وتركه أولى، فهذا من تسويلات الشيطان؛ لأن لكل جارحة ذكراً، والذكر اللساني يحقق طاعة بمقداره ويصونه من استعماله في المعاصي اللسانية بمقداره أيضاً، وفيه إرغام للشيطان ولو بأدنى مستوياته فلا ينبغي تركه.يقول السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن قيمة الذكر القلبي إنه ((من أعظم الرياضات التي توصل إلى المدارج والمقامات التي فوقه بلطف الله سبحانه. وإن من أفضل أشكال الذكر القلبي هو استحضار مضمون الأسماء الحسنى ذات المدلول الطيب أعني ليس من قبيل (شديد العقاب) و (ذو الانتقام) ونحوها، بل نحو (العظيم) و (الرحيم) و (الحليم) و (الغفور) و (الشكور) وغيرها.

ثم التفكير في الخلق الذي يرجع إلى مضمون مجموعة أخرى من الأسماء الحسنى كالخالق والرازق والمدبّر والمنعم والمعطي والحنّان والمنّان ونحوها.

ص: 81

ثم التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه وسبحانه ونحو ذلك))(1).

مجالس أهل البيت (عليهم السلام) من الذكر:

ومن حلق الذكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها رياض الجنة: المجالس التي تعقد لذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومصائبهم، وللوعظ والإرشاد وتعليم أحكام الشريعة، عن الباقر (عليه السلام) قال: (ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها، إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان)(2)،

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلواذكروا الله (إن ذِكرنا من ذكر الله) إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدونا ذُكر الشيطان)(3).

ص: 82


1- قناديل العارفين: 148.
2- سفينة البحار: 3/207.
3- الكافي، ج2، باب تذاكر الإخوان، ح1.

الفصل الخامس: الدعاء أفضل العبادة وسلاح المؤمن

اشارة

الفصل الخامس: الدعاء أفضل العبادة وسلاح المؤمن (1)

ص: 83


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك للعام 1429 المصادف 9/12/2008.

ص: 84

الدعاء أفضل العبادة وسلاح المؤمن:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

الأعمال بآثارها وخواتيمها:

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من أحبَّ أن يعلم قُبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قُبلت صلاته)(1).

والإمام (عليه السلام) ناظر إلى قوله الله تبارك وتعالى: «أُتلُ مَا أُوحِيَ إِلَيكَ مِن الكِتَابِ وَأَقِم الصَلاةَ إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَن الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللهِ أكبَرُ وَاللهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُون» (العنكبوت: 45).

وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً).وروي أن فتىً من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرتكب الفواحش فوُصِف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (إن صلاته تنهاه يوماً ما).

فقيمة العمل تقاس بما يحقق من الغرض الذي جُعل من أجله، وبمقدار ما يحسن من العمل ويرتب عليه الآثار المرجوّة تزداد قيمة العمل

ص: 85


1- هذا الحديث والذي يليه من البحث الروائي الملحق بتفسير الآية (45) من سورة العنكبوت في كتاب الميزان في تفسير القرآن.

وتزداد تبعاً له قيمة الإنسان العامل نفسه وإلا فلا قيمة للعمل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قيمة كل امرئٍ ما يحسنه).

تحصيل التقوى هو الغرض من التشريع:

والمتتبع لأغراض الشارع المقدس من جعل الأعمال والتكاليف يجد أن الهدف هو تحصيل ملكة التقوى وذكر الله تبارك وتعالى ومراقبته في السر والعلن، كما تقدم في أثر الصلاة على سلوك الإنسان، وقال الله تبارك وتعالى في الصوم: «يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ» وقال عز من قائل في الهدي الذي يتقرب به الحاج: «لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُها وَلَكِن يَنَالُه التَقوَى مِنكُم» وقال تعالى في عموم الشعائر من حج وغيره: «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فإنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ» حتى في المعاملات فإن الله تبارك وتعالى يذكّر عباده بالتقوى ففي سورة الطلاق المؤلفة من اثنتي عشرة آية وردت مفردة التقوى خمس مرات.

وهذا التركيز على التقوى لأنها خير وسيلة لتحصيل الكمال والفوز والفلاح قال تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فإن خَيرَ الزَادِ التَقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألبَابِ» وقال تعالى: «إنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتّقَواوَالذينَ هُم مُحسِنُونَ» وإذا كانت الأمور والأعمال بخواتيمها فإن الله تبارك وتعالى يقول: «وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ».

ص: 86

يوم عرفة يوم التوبة:

وبالأمس كان يوم عرفة وهو يوم دعاء وتوبة واستغفار فإذا أردنا أن نعرف أننا ممن قبلهم الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم واستجاب لهم وجعلهم من أهل طاعته فلا بد أن تنعكس آثار هذا اليوم على سلوكنا وتصرفاتنا بالندم عما تقدم منا مما لا يليق بوظائف العبودية لله تبارك وتعالى وعقد العزم على أن لا نعود لأمثالها وأن نبذل الوسع لرد المظالم إلى أهلها والاستحلال منهم والبدء بصفحة جديدة بفضل الله تبارك وتعالى.

ومن وسائل تحصيل التقوى بل تحقيق كل أمنية وطلب: الدعاء قال تعالى: «ادْعُونِي أستَجِبْ لَكُم» وقال تعالى: «وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ» (البقرة: 186).

ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: «مَا يَفتَحِ اللهُ للنَاسِ مِنْ رَحمَةٍ فَلا مُمسِك لَهَا» قال (عليه السلام): (الدعاء)(1).

الدعاء أيسر الوسائل إل--ى أعظم الخزائن:

أيها الأحبة..

هذه حقيقة نغفل عنها وهي امتلاكنا لهذه الوسيلة التي تفتح خزائن

ص: 87


1- الروايات الواردة في الخطبة موجودة في كتاب بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر، عن مصادرها الأصلية، وأصول الكافي.

رحمة الله تبارك وتعالى التي وسعت كل شيء من خلال الدعاء، تصوروا لو أن لأحدكم وسيلة إلى مسؤول كبير وشخصية ذات نفوذ وقوة فإنه سيكون حريصاً على إبقاء تلك الوسيلة والاستفادة منها، وها نحن نمتلك أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن وهو الدعاء، ولا نستثمره، يقول الإمام السجاد (عليه السلام): (ولو دلّ مخلوق مخلوقاً من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان ومنعوتاً بالامتثال ومحموداً بكل لسان، فلك الحمد ما وُجِد في حمدك مذهب، وما بقي للحمد لفظ تُحمد به، ومعنى ينصرف إليه)(1)،

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يُفتح لصاحبه).

وللدعاء أهمية كبرى في كتاب الله تبارك وتعالى والأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) ففي خبر صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قول الله تبارك وتعالى: «إَنَّ الذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر: 60) قال (عليه السلام): (هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء) ويشهد لذلك صدر الآية «ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُم»، وفي تفسير قوله تعالى: «إنَّ إِبرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» (التوبة: 144) قال (عليهالسلام): (الأواه هو الدَعّاء) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (وكان أمير المؤمنين رجلاَ دَعّاءً).

ص: 88


1- الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان.

وقال تعالى: «قُلْ مَا يَعبَؤ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم فَقَد كّذّبتُم فَسَوفَ يَكونُ لِزَاماً» (الفرقان: 77) وقال تعالى: «وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ، إنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيماً» (النساء: 32).

الدعاء لكل حاجة:

والدعاء لكل حاجة مهما صغرت ونحن في كل نفس وكل طرفة عين محتاجون إلى الله تبارك وتعالى الغني فلا نتوقف عن اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في كل شيء حتى إذا كان تافهاً بنظرك أو أن الحصول عليه سهل يسير فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) وقال: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من عدوكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: نعم، قال: تدعون بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء) وروي أن الإمام الكاظم سئل عما قيل: لكل داء دواء فقال (عليه السلام): (لكل داء دعاء فإذا أُلهم العليل الدعاء فقد أُذن في شفائه)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها فإن صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر).

ص: 89

الدعاء في كل زمان:

والدعاء في كل زمان حتى زمان اليسر والرخاء ويشتد في زمان العسر والضيق والبلاء، يروي أحد أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) الثقات في شدة المحنة التي فرضها المنصور العباسي بعد استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) وسيفه يقطر دماً من شيعة أهل البيت يقول: (دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) بالمدينة وكان معي شيء فأوصلته إليه فقال: أبلغ أصحابك وقل لهم: اتقوا الله عز وجل فإنكم في إمارة جبار -يعني أبا الدوانيق- فأمسكوا ألسنتكم وتوقّوا على أنفسكم وادفعوا ما تحذرون علينا وعليكم منه بالدعاء، فإن الدعاء - والله- والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل: صُرف البلاء صرفاً، فألحوا في الدعاء أن يكفيكموه الله، قال أبو ولاّد: فلما بلّغت أصحابي مقالة أبي الحسن (عليه السلام) قال: ففعلوا ودعوا عليه وكان ذلك في السنة التي خرج فيها أبو الدوانيق إلى مكة فمات عند بئر ميمون قبل أن يقضي نسكه فأراحنا الله منه، قال الراوي: وكنت تلك السنة حاجاً فدخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال: يا أبا ولاد كيف رأيتم نجاح ما أمرتكم به وحثثتكم عليه من الدعاء على أبي الدوانيق، يا أبا ولاد: ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه الله الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء).

وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ

ص: 90

المكاره) وهو من أدعية الصحيفة السجادية: (إن آل محمد صلى الله عليهم أجمعين يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر وغيرها).

الدعاء يمنع اليأس والإحباط:

ولمنع الإنسان من الوقوع في حالة اليأس والإحباط والقنوط والاستسلام لما يصيبه فقد نبّه الأئمة سلام الله عليهم إلى أن الدعاء يبقى مؤثراً وكفيلاً بتغيير الحال حتى لو أحكم القضاء والقدر ومهما كان التغيير عسيراً قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ادعُ ولا تقل: إن الأمر فُرغ منه، إن عند الله منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعطَ شيئاً فسل تعطَ) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الدعاء يرد القضاء بعدما أُبرم إبراماً).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما زالت نعمة عن قوم ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها، إن الله ليس بظلاّم للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لم تنزل، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا إلى الله بصدق من نيّاتهم ولم يهنوا ولم يسرفوا: لأصلح الله لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح).

ظروف استجابة الدعاء:

ولا شك أن ليس كل لقلقة لسان هو دعاء بل لا بد من توفّر ظروف لاستجابة الدعاء، روي أن رجلاً من أصحاب الإمام الصادق

ص: 91

(عليه السلام) (قال: إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما، قال (عليه السلام): وما هما؟ قال الرجل: «ادْعُونِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ» فندعوه فلا نرى إجابة، قال: أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال (عليه السلام): فمه؟قلت: لا أدري، قال (عليه السلام): لكني أخبرك: من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قال الرجل: وما جهة الدعاء؟ قال (عليه السلام): تبدأ فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلّي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال (عليه السلام): وما الآية الأخرى؟ قلت: قوله: «وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فهُوَ يُخلِفُهُ» وأراني أنفق ولا أرى خلفاً، قال (عليه السلام): أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفقه في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه).

وهنا نصحح فكرة وهي أننا حينما نقول: إن لاستجابة الدعاء ظروفاً فهذا لا يعني تضييقاً في كرم الله تبارك وتعالى وأنه سبحانه يشترط شيئاً لعطائه فإن نعمه تفضلٌ ويبتدئ بها من لا يستحق كما ورد في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)، والإنسان الكريم لا يشترط ثمناً لعطائه فكيف يشترطها الكريم الحقيقي، يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة: (إلهي تقدس رضاك أن يكون له علّة منك، فكيف يكون له علة مني) وهكذا كل صفاته عز شأنه ومنها الكرم تقدست أن يكون لها علة منه تبارك وتعالى

ص: 92

لأنها ذاتية فكيف يكون لكرمه سبب من خلقه. وإنما أراد الأئمة (عليهم السلام) بذكر تلك الظروف تربية الإنسان وتكامله ليسعد وليكون لائقاً بمقام العبودية لله تبارك وتعالى ومحلاً قابلاً لنزول الفيوضات الإلهية، هذا المقام الذي يفخر به أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يقول: (إلهي كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب).

ويمكن من خلال الأحاديث الشريفة الحصول على ظروف الاستجابة.فمنها: زمانية، كليلة الجمعة ويومها وما بين الطلوعين وعند الزوال وأيام الأعياد كهذا اليوم وغيرها من المذكورات في كتب السنن والمستحبات.

ومنها: مكانية، كالروضات الشريفة للمعصومين (سلام الله عليهم) والمساجد خصوصاً الأربعة المعظمة وعند قبر الوالدين ونحوها.

ومنها: حالية، كحال نزول المطر وإذا كان الدعاء جماعياً وإذا كان يدعو لغيره.

ومنها: ذاتية مرتبطة بنفس الشخص، ككونه متطهراً وفي حالة السجود وبعد الصلاة خصوصاً الفريضة فإن للمؤمن دعوة مستجابة إثر كل صلاة مفروضة(1) وأن يسبق الدعاء بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) وأن

ص: 93


1- عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أدّى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة).

يعترف بذنبه ويستغفر وأن يكون متوجهاً لما يقول وليس ساهياً(1)

غافلاً ويلحّ في الدعاء ولا يمل من تكراره وأن يكون بحال الاضطرار ومن تقطعت به الأسباب واثقاً بالإجابة وإن تأخرت فلعل تأخيرها خير له(2) وأن يدعو لإخوانه المؤمنين أولاً بالمغفرة والرحمة وقضاء الحوائج(3) وأن يطلب من الغير أن يدعو له(4) خصوصاً الإمام العادل والوالدين(5).

إن من مفاخر شيعة أهل البيت (سلام الله عليهم) هذا العطاء

ص: 94


1- عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة).
2- في صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام): (والله لَمَا أخَّرَ اللهُ عن المؤمنين مما يطلبون في هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم منها) ثم قال (عليه السلام) له: (أخبرني عنك لو أني قلت قولاً كنت تثق به مني؟ قلت له: جعلت فداك: وإذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله تبارك وتعالى على خلقه، قال: فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله، أليس الله تبارك وتعالى: «وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذا دعَانِ» وقال: «وَلا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ» وقال: «وَاللهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وفَضلاً» فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً فإنكم مغفورٌ لكم.
3- عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا دعا أحد فليعم فإنه أوجب للدعاء ومن قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من مؤمن أو مؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة إلا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه: اللهم اغفر للمؤمنين== ==والمؤمنات وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه فيشفعهم الله فينجو).
4- روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عليه السلام): (يا موسى ادعني على لسان لم تعصني به، فقال: أنى لي بذلك؟ فقال: ادعني على لسان غيرك)، وبذل الإمام الهادي (عليه السلام) مالاً لأحد أصحابه كي يذهب إلى كربلاء ويزور جده الحسين (عليه السلام) ويدعو له.
5- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أربع لا ترد لهم دعوة: الإمام العادل لرعيته، والأخ لأخيه بظهر الغيب يوكل الله به ملكاً يقول له ولك مثل ما دعوت لأخيك، والوالد لولده، والمظلوم يقول الرب عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنتقمن لك ولو بعد حين).

المبارك الوفير من الأدعية التي صدرت عن أهل بيت العصمة وغطّت كل حاجات الإنسان، ولولا أنهم (سلام الله عليهم) علّمونا كيف ندعو الله تبارك وتعالى وأدب الوقوف بين يديه لما علمنا كيف نناجي ربنا، وماذا تقتضي وظائف العبودية لله العظيم سبحانه.

لقد تضمنت تلك الأدعية أرقى معاني المعرفة بالله تبارك وتعالى وأسمى الأخلاق الكريمة وأفضل العلاقات الإنسانية وأعمق العلوم مما لا يمكن صدوره عن غيرهم (سلام الله عليهم) وليتأمل من يطلب الشواهد على ذلك في الأدعية الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والإمام الحسين والإمام السجاد (سلام الله عليهم أجمعين) ومنها الأدعية التي ورد الحث على المواظبة عليها كدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة.

فوائد الدعاء:

إن الأدعية المأثورة لا تتلى فقط لأنها عبادة بل أفضل العبادة كما ذكرنا ولا طلباً للثواب المرصود لها وإن كان عظيماً وإنما للتزود مما فيها من علوم ومعارف، وللتعرض للنفحات والألطاف الإلهية المودعة فيها فيطلب من الله تبارك وتعالى أن يحققها له ويتحفه بها، ولمعرفة الحلول لكل المشاكل والعقد النفسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية والأخلاقية، بل حتى السياسية والاقتصادية.وخلاصة ما تقدم أن نكثر من الدعاء في كل صغيرة وكبيرة وأن نحرص على توفير ظروف استجابته وهي يسيرة ومتوفرة وأيسرها أن لا

ص: 95

ننفتل من صلاتنا المفروضة حتى نسبّح تسبيح الزهراء (عليها السلام) ونسجد شكراً لله تعالى ثم نقول: (يا أرحم الراحمين) سبعاً ونصلّي على النبي وآله أجمعين ثم نستغفر الله تعالى مما صدر منا ونطلب العصمة منه تبارك وتعالى لما يأتي وندعو لإخواننا المؤمنين والمؤمنات بحوائجهم العامة والخاصة ثم ندعو لأنفسنا.

والأفضل أن نضم إليه مجالس الدعاء الجماعي في المساجد وعقيب صلاة الجماعة وغيرها وبذلك تحققون أكثر ظروف الاستجابة المذكورة.

اللهم صلِ على محمد وآل محمد (صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت، وأن تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم من عبادك المؤمنين يا ربَّ العالمين، وأن تغفر لنا ولهم إنك على كل شيء قدير، اللهم إليك تعمدّت بحاجتي، وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإني بمغفرتك ورحمتك أوثق مني بعملي، ولَمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد وتولَّ قضاء كل حاجة هي لي بقدرتك عليها، وتيسير ذاك عليك، وبفقري إليك، وغناك عني، فإني لم أُصِب خيراً قطّ إلا منك، ولم يَصرف عني سوءاً قط أحدٌ غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك)(1).

وأفضل الدعاء وأكمله لسيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) أن يجمع الله تبارك وتعالى له الخير كله.

ص: 96


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في يوم الأضحى.

الفصل السادس: الجاهلية في القرآن الكريم

اشارة

الفصل السادس: الجاهلية في القرآن الكريم(1)

ص: 97


1- من كتاب شكوى القرآن لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله).

ص: 98

الجاهلية في القرآن الكريم

جاهلية اليوم

إنّ البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة –وان تسمى بعضهم بالاسلام- بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية إذ انه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الاسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى اليها الأمة وينتكس اليها المجتمع كلما اعرض عن شريعة الله سبحانه (َفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(1)1)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)(2)2) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف واللواط يُسنُّ بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وامراضه الفتاكة كالايدز ونحوه في كل ارجاء العالم والبخس في الميزان منتشر بجميع اشكاله ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد انصاف في العلاقات بين المجتمعات البشريةوهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين) واتخاذ الاحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ارباباً من دون الله يحرمّون ما أحلّ ويحلّون ما حرّم، والآلهة التي تُّعبد من دون الله سبحانه قد تعدّدت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق

ص: 99


1- 1) المائدة : 50.
2- 2) الأحزاب : 33.

عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويصدوّن عن صراط الله المستقيم (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(1)3) (وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً)(2)4) وما أكثر هؤلاء الذين يصدُّون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والاغراء إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب إلى فنانين لا عمل لهم الا تدمير الاخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.

كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.

ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم وأريد بهذا البيان عدة أهداف:تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وازالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن وإعمال العقول فيه من دون الرجوع اليه.

استيعاب الحاجة إلى القرآن اذا فهمنا ان البشرية عادت إلى جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى ان يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الاسلام الحقيقي.

تعزيز فكرة الإمام المهدي (ارواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العملي عليها إذ ان البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فان

ص: 100


1- 3) الأعراف : 16 – 17.
2- 4) الأعراف : 86.

القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في انقاذها بل لا بد له من حامل يجسده على ارض الواقع كما فعل رسول الله(صلی الله علیه و آله) وهذا الشخص لا بد ان يكون بمثل صفاته 9وان لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به 9ولا تجتمع هذه الاوصاف الا في الحجة بن الحسن (ارواحنا له الفداء)، وها هي ارهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود(1)1) وتفصيل الكلام في بحث خاص به(علیهم السلام).

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:

وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم(علیهم السلام) في تفسير قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم(علیهم السلام) في تفسير قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)1) قال(علیهم السلام): (اما والله ما دعوهم إلى عبادة انفسهم ولو دعوهم إلى عبادة انفسهم ما اجابوهم ولكن احلوا لهم حراماً وحرمّوا عليهم

ص: 101


1- 1) لذا ورد في الخبر انه (عليه السلام) يأتي باسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لانه (عليه السلام) لا يخرج عن دائرة اسلام وقرآن جده (صلى الله عليه وآله وسلم) وانما يراد به انه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.
2- 1) التوبة : 31.

حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1)2) هذه العبادة كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(2)3) فكانت الطاعة لالهة متعددة يومئذ (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(3)4) (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)(4)5) (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(5)6) (فَاتَّبَعُواْأَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(6)7) (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)(7)8) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون)(8)9) (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ

ص: 102


1- 2) وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في اذهان المجتمع فيظنون ان العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم ان يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما انزل الله وهو معنى خطير يجب ازالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) قوله: (من اصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس) تحف العقول : 336.
2- 3) العلق : 19.
3- 4) الزمر : 3.
4- 5) آل عمران : 64.
5- 6) الأحزاب : 67.
6- 7) هود : 97.
7- 8) مريم : 59.
8- 9) البقرة : 170.

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(1)10) (إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)(2)1) هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تُعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الاصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الامارة بالسوء وشهواتها، ابليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(3)2) فهل اختلف حال الناس اليوم ؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمّي انفسها متحضرة فانها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها ولكن هلّم بنا إلى الخطب الأفضعإلى الذين يسمّون انفسهم مسلمين وهم يسيرون في ركاب اولئك الكفّار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدّرون اليه من الهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تُمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلّون ما حرم الله ويحرمّون ما احلّ الله تبارك وتعالى، وما زالت الاعراف والتقاليد وسنن الاباء والاجداد تطاع اكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى

ص: 103


1- 10) الحج : 3 – 4.
2- 1) الفتح : 26.
3- 2) القصص : 50.

المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه الاعراف والتقاليد ولسان حالهم يقول (النار ولا العار) خلافاً للإسلام الذي مثله الإمام الحسين(علیهم السلام) في كربلاء بقوله:

الموت اولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

وهذا واضح في السنينةِ العشائرية وغيرها، وهذه المراة المسكينة تطيع المودة ودور الازياء وما يقتضيه الاتكيت وما يصدّره الغرب من ملابس وادوات زينة وكماليات حتى لو كان مخالفاً للشريعة فهل بقي من العبادة والطاعة والولاء شيء ؟ هذا على مستوى الشرك الجلي والقرآن يخبرنا ان هذه الالهة كلها ستتبرأ من عبّادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذٍ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ)(1)1).ويصف هذه الالهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله تبارك وتعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(2)2) وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ

ص: 104


1- 1) البقرة : 165 – 167.
2- 2) العنكبوت : 41.

وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب)(1)3).

وهذا بحث جدير بالاهتمام لانه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وانهم بعيدون عن التوحيد الخالص وان طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الاصنام المتعددة وليكن البحث بعنوان (اصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات اليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.

اما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة اعظم وقلّما تجد عملاً مخلصاً وان ظن صاحبه ذلك فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمن بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟

والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي ان الشريعة التي تنظم امورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(2)4) فكل حكمبغير ما انزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن ونحن نرى ان اكثر افراد مجتمعنا منضوون تحت عشائر تحكمها سنائن عشائرية ما انزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى وهذا كمثال ويمكن ان تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية اخرى لترى مصداق ذلك وها انت ترى ان دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين وتشريعات و(ايديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى ابعد من ارنبة انفه، فتراه كل يوم يغيّر

ص: 105


1- 3) النور : 39.
2- 4) المائدة : 50.

مادة ويضيف فقرة ويلغي اخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقها جاهلية نحو قوله(علیهم السلام): (من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية).

ففرعون الذي يقول: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)(1)1) ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون انفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.

ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها واليها اشير بقوله تعالى: (يظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)(2)2) فقد كانوا يعتقدون مثلاً انه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فانه ينجو من العقاب اذا قرّب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسّخه خطباء المنبر الحسيني في اذهانهم يعتقدون انه مهما فعل من منكرات وكبائر فان دمعة واحدة على الحسين(علیهم السلام) تكفيه لدخول الجنة انطلاقاً من الحديث الشريف: (من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة وجبت له الجنة) واستدلوا بقول الشاعر:فان النار ليس تمسُّ جسماً

عليه غبار زوار الحسينِ

ونحن لا ننكر كرامة الحسين (عليه السلام) على الله تبارك وتعالى

ص: 106


1- 1) غافر : 29.
2- 2) آل عمران : 154.

فهو يستحق هذا التكريم وازيد، لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في اوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(1)3) وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) (لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة) ومنافٍ للآية الشريفة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(2)4) الا ان يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.

وهذا الانحراف في الاعتقاد له اثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلّة وعيهم بعد ان خُدِّروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم اليها فتركوا العمل بالقرآن.ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة قال تعالى: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)(3)1) والمجتمع اليوم قد فاق تلك الامم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخّر كل امكانياتها المتطورة لترويجها وكما كانت الجاهلية تبتكر الاساليب وتضع قوانين لاشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية فمثلاً سنت قريش قراراً يقتضي حرمة الطواف بالبيت بثيابه لانه قد عصى الله بها وارتكب الماثم فيها فلا بد ان يطوف بملابس من اهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً فكان من لا يجد ذلك يطوف بالبيت –رجلاً كان أو امرأة-

ص: 107


1- 3) الأنبياء : 28.
2- 4) الزلزلة : 7 – 8.
3- 1) الأحزاب : 33.

عارياً.

واولياء الشيطان اليوم سنّوا اساليب لاشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عمّا يجري في تلك الملاهي بل الملاهي ارحم لانها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحي صاحبها ان يُلصق به عارها اما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع أترى أي العوبة هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء وهكذا العناوين والاسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الازياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه الا من عصم الله والهدف واحد هو ان تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.

ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لانهم يرون انفسهم فوق الآخرين وهم ما يُسمَّونب-(الحُمُس) وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة ولعل اوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانهم لا يزوجون نسائهم الا لسيد مثلهم وقد تعنّس بناتهم ويفوتها الزواج وتحرم من ممارسة حق مشروع لها في التنعم بتكوين اسرة وتعيش سعادة الامومة كل ذلك بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فاين هذه التصورات من مبادئ القرآن (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ

ص: 108

مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً)(1) ومن تعاليم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اذا رضيتم الرجل عقله ودينه فزوجوه) واذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان شرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بانتسابه للاسلام ولطاعة الله تعالى وليس لانه محمد بن عبد الله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(2)2) (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ - فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(3)3) ويقول هو (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولو عصيت لهويتُ) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يخالفون شريعته ؟

ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من الهية حقيقية إلى شيطانية وهمية فالقرآن يصرّح (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم)(4)4) (قُلْبِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون)(5)5) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)(6)6) (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً

ص: 109


1- النساء : 1
2- 2) الزمر : 65.
3- 3) الحاقة : 44 – 47.
4- 4) الحجرات : 13.
5- 5) يونس : 58.
6- 6) التكاثر : 1.

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(1)7) وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا احتاج إلى ذكر امثلة والايتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة بين المقاييس (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ - قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(2)1).

ويقول تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)(3)2).

ومن الخصائص المشتركة للجاهليتين انتشار الرذائل الخلقية واوضحها شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ)(4)3) (وَلاَ تَبْخَسُواْالنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)(5)4) (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(6)5)

ص: 110


1- 7) سبأ : 35.
2- 1) آل عمران : 14 – 15.
3- 2) سبأ : 37.
4- 3) العنكبوت : 29.
5- 4) الاعراف : 85. هود : 85. الشعراء : 183.
6- 5) المطففين : 1-3.

بل يستهزءون من الانسان النظيف (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(1)6) بحيث ان جعفر بن ابي طالب سُجِّل اسمه في التأريخ على انه ممن حرّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية، ومن رذائل اخلاقهم ان القوي يأكل الضعيف وانعدام الاخلاق والمثل الانسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً بكاملها وتهللك الحرث والنسل من اجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم اما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك والفوز في الاخرة فهذا تخلّف ورجعية قال تعالى: (وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ)(2)7) فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الامر من شيء.

ومن اهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذّر منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كيف بكم اذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له: ويكونذلك يا رسول الله ؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم اذا امرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم اذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر

ص: 111


1- 6) الأعراف : 82.
2- 7) آل عمران : 154.

معروفاً)(1) وهذا ما وصلت اليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن اداء وظيفتهم واوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة قال تعالى: (وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)(2) (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)(3) وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الاسلام وهي موالاة الذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (اما بعدُ فانه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والاحبار عن ذلك، وانهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والاحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فامروا بالمعروف وانهوا عنالمنكر واعلموا ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقرّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(4) وبدون

ص: 112


1- 1) الوسائل : مج11 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ، باب1 ، ح12.
2- 2) المائدة : 62 – 63.
3- 3) المائدة : 79 – 80.
4- 4) الوسائل : مج11 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ، باب1 ، ح7.

القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنين قيمة لا عند الله ولا عند رسوله بل ولا حتى عند اعدائهم لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الاحناف الذين نبذوا عبادة الاصنام وتفرّغوا لعبادة الله سبحانه لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لانهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.

بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق (كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(1) (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور)(2) (َلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر)(3) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ-ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(4) وغيرها كثير ولسنا هنا بدد الاستقصاء فان هذا البحث مبني على الاشاراتفقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه الف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.

ص: 113


1- آل عمران : 110
2- الحج: 40-41
3- آل عمران 104
4- التوبه : 71

ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والاساطير فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرافون والكهنة وراجت سوقهم واليوم نرى اقبال الناس على قارئي الكف والرمل والابراج والطريحة واصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسُذَّج.

ومن سمات الجاهلية الصدّ عن هذا القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلّم من اخبار ملوكهم يتعقب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاذا قام (صلى الله عليه وآله وسلم) من مجلس جلس اليهم النضر وتحدث لهم ثم يقول: بالله ايّنا احسن قصصاً انا أو محمد وكانوا يصفون القرآن بانه اساطير الأوليين أو احاديث اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً واصيلا أو حديث يفترى مبين أو يصفقون بصوتٍ عالٍ عند تلاوته (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن ليحولوا دون سماعه ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله:

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون)(1) وقال تعالى: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ)(2) وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الاوصاف انه من كلام محمد ويمثل نبوغاً انسانياً وليس وحياً الهياً وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لماعجزوا

ص: 114


1- فصلت : 26
2- القمر : 2

واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا -بما اوتوا من خبث ومكر وخداع- إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحولّوه إلى ما يشبه الاناشيد والاغاني التي يترنم بها المطربون ويعبّر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحولّوه إلى تعويذات يعلّقوه على صدورهم أو في بيوتهم لا ازيد من ذلك وهذا الاسلوب كما ترى اخطر من اسلوب النضر بن الحارث وامثاله واشد مكراً وافتك اثراً.

ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وان قام الدليل والحجة على خلافها وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار ان الشيء الذي تتوالى عليه اجيال من الاباء والاجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها وقد كرّر القرآن هذا المعنى كثيراً بحيث نستطيع ان نفهم منه انّ هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع الانبياء قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(1) (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ)(2) (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا

ص: 115


1- 3) البقرة : 170.
2- 4) الصافات : 69 – 70.

إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(1) (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ- وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّاوَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ- قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ )(2) فالايتان الاخيرتان تدلان على ان هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد ان يحرر مجتمعه ويسعى لاصلاحه لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك)(3) وليست مختصة بالانبياء وحدهم.

وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبير احد المفكرين الحوزويين..

ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منّا تجاه صاحب العصر (ارواحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لم اعرف نبيّك اللهم عرفني رسولك فانك ان لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك اللهم عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) والضلال عن الدين

ص: 116


1- 5) الأعراف : 70.
2- 1) الزخرف : 22 – 24.
3- 2) الزخرف : 23.

هو عين الجاهلية.

وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الامام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الامام (عليه السلام) والاجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الامام (عليه السلام) مما هو غائب عن ذهنالمؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به اصلاً بينما هم (عليهم السلام) (باب الله الذي لا يؤتى الا منه) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه فماذا بعد الله الا الضلال المبين.

ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وانكار الغيب (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(1)1) (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )(2)2) فيأتي القرآن ليؤسس لهم اهدافاً سامية يعيشون من اجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(3)3) (َالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَ-هٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)(4)4) (مَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ

ص: 117


1- 1) الأنعام : 29.
2- 2) الجاثية : 24.
3- 3) الذاريات : 56.
4- 4) هود : 61.

تَعْمَلُونَ)(1)5) فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لاخرته وخالقه يحصي عليه اعماله لينظر كيف يعمل ويأتي التوبيخ الالهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى- أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى- ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى- فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَوَالْأُنثَى- أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى)(2)6)، بلى سبحانك اللهم انت قادر على لك وكل شيء، نعم، لكن هذا لا يمنع من ان يأخذ نصيبه من الدنيا من دون ان يجعله هدفاً وغاية وانما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(3)7) فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا وانما النقص في ان تُجعَل هدفاً ولا تستثمر في الازدياد من الطاعة وهل درجات الآخرة الا من حصاد استثمار هذه الدنيا لذا قيل (الدنيا مزرعة الاخرة) وفي حديث آخر (الدنيا متجر اولياء الله) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.

ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ- مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا

ص: 118


1- 5) يونس : 14.
2- 6) القيامة : 36 – 40.
3- 7) القصص : 77.

شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون)(1)1) وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب ان يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلدان أولاً حتى وصل عدد دول العالم اليوم ازيد من (180) دولة ويتمزق اجناساً ويتمزق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم ابناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون ايدلوجياً حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفةتنقسم على نفسها فرقاً وهكذا (كل حزب بما لديهم فرحون) وقد نبه القرآن إلى ان هذا التفرق هو احدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الآلهي قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)(2)2) وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(3)3) (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ- وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ

ص: 119


1- 1) الروم : 31 – 32.
2- 2) الأنعام : 65.
3- 3) آل عمران : 103.

مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ-كِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1)4).

ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير اليه وذلك لانهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم اشباع شهواتهم واطماعهم (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ- وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِمِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)(2)1) (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ- وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(3) (فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت)(4) لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(5) (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا

ص: 120


1- 4) الأنفال : 62 – 63.
2- 1) البقرة : 94 – 96.
3- البقره: 94-96
4- الاحزاب : 19
5- الجمعه : 8

قَلِيلاً)(1) (اينَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)(2) (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)(3) فالخوف من الموت لا يكون الا بالاستعداد له بالايمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.واشعر انني إلى هنا قد قدمت اشارة كافية وفتحت باب التفكير بمقدار كافٍ في هذا الاتجاه لانَّ أهم خطوة في معالجة امراضنا الاجتماعية هي تشخيص الداء بدقة ومن ثم وصف العلاج المناسب.

واتضح لدينا الآن من خلال هذه النقاط العديدة تحقق عنوان الجاهلية في البشرية اليوم وعلمنا ان لطف الله بعباده دائم ولا يختص بقوم دون قوم فجاهلية الأمس ليست أولى من جاهلية اليوم ولا خصوصية لها حتى ينزل اليها تبارك وتعالى قرآناً ويبعث اليهم رسولاً ويترك جاهلية اليوم سدى فما أحوجها إلى مصلح وهو الحجة بن الحسن (ارواحنا له الفداء) وما احوجنا إلى القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الاسلام ولنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج امراض البشرية والارتقاء بها في سلّم الكمال، فان القرآن خالد وحيّ ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا الا ان نستشير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا وامراضنا الاجتماعية والفردية فاذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواؤهم (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً

ص: 121


1- الاحزاب: 16
2- النساء : 78
3- 7) آل عمران : 154.

وَلاَ تَفَرَّقُوا)(1) بعد معرفة ان حبل الله هما القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) بحسب الحديث الشريف، واذا أصيبت الأمة بالجبن والخَوَر فعلاجهم (اينَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)(2) (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)(3) واذا مرّ المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنتَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(4) واذا شعروا بالاحباط واليأس فعلاجه (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(5) (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)(6) (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(7) واذا القينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك)(8)8) (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(9)9) (وَمَا

ص: 122


1- آل عمران 103
2- النساء 78
3- الجمعه 8
4- البقرة: 214
5- یوسف: 87
6- الحجر: 56
7- غافر: 51
8- 8) النساء : 79.
9- 9) الرعد : 11.

ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَ-كِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(1)10) واذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقّل وروية وبصيرة أجابهم القرآن (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(2)1) (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنيَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(3)2) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون)(4)3) ومن الامراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الاشاعة) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل افكاره فقال فيها وفي علاجها: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(5)4) وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.

ص: 123


1- 10) آل عمران : 117.
2- 1) يوسف : 103.
3- 2) الأنعام : 116.
4- 3) يوسف : 106.
5- 4) النساء : 83.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.