درسات في الفکر التربوي عند الإمام الحسن علیه السّلام

هوية الکتاب

العتبة العباسيّة المقدّسة

قسم الشؤون الفكرية و الثقافية

دراسات فی الفکر التربوی

عند الإمام الحسن علیه السّلام

تأليف

الأستاذ يوسف مدن

شعبة الاعلام

وحدة الدراسات و النشرات

الناشر: قسم الشؤون الفكرية و الثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

مراجعة: وحدة الدراسات والنشرات / شعبة الإعلام.

التدقيق اللغوي: الدكتور رحيم الشريفي.

الاخراج الطباعي و التصميم: علاء سعيد الأسدي، محمد قاسم النصراوي.

رقم التسجيل في دار الكتب و الوثائق في بغداد 2319 لعام 2013م.

المطبعة: مطبعة المستقبل، بيروت لبنان.

ص: 1

اشارة

العتبة العباسيّة المقدّسة

قسم الشؤون الفكرية و الثقافية

شعبة الاعلام

وحدة الدراسات و النشرات

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: دراسات في الفكر التربوي عند الإمام الحسن علیه السّلام.

الكاتب: الأستاذ يوسف مدن.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية و الثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

مراجعة: وحدة الدراسات والنشرات / شعبة الإعلام.

التدقيق اللغوي: الدكتور رحيم الشريفي.

الاخراج الطباعي و التصميم: علاء سعيد الأسدي، محمد قاسم النصراوي.

رقم التسجيل في دار الكتب و الوثائق في بغداد 2319 لعام 2013م.

المطبعة: مطبعة المستقبل، بيروت لبنان.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000.

رمضان 1434 - تموز 2013

ص: 2

بسم الله الرّحمن الرّحیم

ص: 3

ص: 4

الإهداء

إلى سيدي

أبي محمد، كريم

أهل البيت عليهم السّلام الإمام الحسن المجتبى

سبط المصطفى و حفيده

أهدي هذا المجهود

عسى أن يفتح أذهان الباحثين على

اهتمام موسع بتراثه العلمي و الأخلاقي و الروحي

ص: 5

ص: 6

حكمة خالدة

«من أكثر من مجالسة العلماء

أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه،

و سرَّه ما وجد من الزيادة في نفسه،

و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلَّم»

من أقوال الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام

ص: 7

ص: 8

مقدمة الكتاب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

و له سبحانه و تعالى الحمد على نعمائه، و آلائه، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد بن

عبدالله خاتم الأنبياء و آله من أئمة الهدى الأطهار.

من الملحوظات في تاريخ سبط المصطفى الإمام الحسن علیه السّلام أنَّ الظلم التاريخي بمختلف أشكاله قد أحاط بهذا الإمام العظيم سواء في حياته الشريفة أو بعد مماته، و ما تزال مظلوميته نتلمسها بعد مضي قرون من الزمان، فهو - كسائر عباد الله الصالحين - تلاحقه أباطيل الطغاة و أراجيفهم و تخرصاتهم، و قد لحقت آثار هذا الظلم بجوانب عديدة في جوانب من حياته الشخصية، و مع مناوئيه، و في فكره السياسي و لاسيما قضية صلحه مع معاوية و منهم لسوء الحظ بعض أتباعه الخلّص، و تخطى الظلم مداه الطبيعي ليحاصر فكر الإمام التربوي و ثقافته و تراثه الأخلاقي حتى من بعض أتباعه المخلصين جهلاً و كسلاً و تقاعساً و تقصيراً، و لكنه مع ذلك كله لم يستطع هذا الحصار المقصود منه و غير المقصود أن يتطاول على قامته، و أن ينال من سموه و تألقه في التاريخ، فالشمس و هي في رابعة النهار تبدو ((جلية)) لا تحجبها السحب إلا في لحظات عابرة، و لكن لا تمنع نورها المضيء.

و المفجع حقاً أنَّ هذا الظلم إِنْ أتى من خصومه فأمر مألوف في علاقات المتخاصمين، بيد أن الأكثر إيذاء و أشد مضاضة أن يأتي من ذوي القربى، فكما ظلمه

ص: 9

أعداؤه ظلماً شديداً فإنَّ تقصير بعض أتباعه في فهم مراميه، بل و تطاولهم عليه تحت وهج انفعال غير رشيد، فلم يعطوا تراثه الفكري حقه من العناية و الاهتمام و الدراسة العلمية الموضوعية، و قد عانى فكره من متاعب تغييب نصوصه من خطب و أدعية و مراسلات و مكاتبات و وصايا و حكم قصار زمناً طويلاً حتى بدأت جهود بعض الباحثين في مراحل متأخرة من زماننا في جمع هذه النصوص و حصرها من مصادر مختلفة مبعثرة.

و مع أنه من الصعوبة بمكان تحديد الدراسات التي قامت بهذه المهمة إلا أنها قليلة الأهمية التاريخية و الدينية للإمام الحسن الزكي سلام الله عليه، و نذكر لا تناسب حجم من هذه المصادر الروائية التي حفظت تراثه كتاب «تحف العقول عن آل الرسول» لا بن شعبة الحراني، وكذلك كتاب «كشف الغمة في معرفة الأئمة» بجزئه الثاني لمصنفه العلامة المحقق أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي، فقد كتب السيرة الذاتية للإمام الحسن ضمن حديثه عن سائر الأئمة الأربعة عشر عليهم السّلام، و قد عرض الأربلي لتراثه الثقافي فنقل جانباً منه للمتأخرين عن عصره، و غلب على هذا الجمع الحكم القصار بالإضافة لبعض خطبه و مراسلاته و أدعيته و عدد من الروايات المتداولة في مصادر متعددة، و يدخل جهده كله فيما يسمى بعملية «النقل الروائي» أو ما يعرف لدى علماء عصرنا ب- «المنهج النقلي» و مهمته تدوين الأحاديث النبوية و حفظها و نقلها و روايات المعصومين و أقوالهم و منها ما ورد عن الإمام الحسن السبط بن علي عليهما السّلام.

ثمَّ ما دونه المحدث العلامة الشيخ محمدباقر المجلسي في سفره الكبير «بحار الأنوار»، و هذه الكتب الثلاثة اخترناها كنماذج لكتب العلماء القدماء المتقدمين على وجودنا في الزمان، فالأول من علماء القرن الرابع الهجري، أمّا البحار فمصنفه من

ص: 10

علماء القرن الثاني عشر الهجري، و قد جمع بعض آثار الإمام الحسن في أحد مجلدات هذا السفر الكبير.

و جمع جوانب من التراث الفكري و الأخلاقي للإمام الحسن عدد من العلماء المعاصرين و منهم الشهيد العلامة السيد حسن الشيرازي، إذ جمع بعض خطبه و مراسلاته و أدعيته و أشعاره و حكمه القصار في كتابه «كلمة الإمام الحسن»، و صدر هذا الكتاب في رمضان سنة 1385 ھ، و أعطت هذه المحاولة الباحثين فرصة التعرف على التراث الثقافي للإمام، و هناك محاولة جمع لهذا التراث قام بها العلامة السيد مصطفى الموسوي، فقد نظم عملية الجمع لخطبه و مراسلاته و وصاياه و أدعيته و مراسلاته و حكمه القصار في كتاب أسماه «الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن السبط و كتبه و رسائله و كلماته القصار»، و هذا الكتاب على حد تعبير مصنفه أشبه بكتاب مصغر مماثل لكتاب «نهج البلاغة و لكن في فكر الإمام الحسن و تراثه الثقافي، و صدر كتاب الروائع المختارة في سنة 1413 هجرية، 1993م.

و لهذا الجهد قيمته العلمية بالنسبة للعلماء و الباحثين في سيرة أئمة أهل البيت وتراثهم الثقافي، فمن الصعب على ذوي الاهتمام بالعلم و المعرفة كتابة هذا التراث في مجمله و تفصيله ما لم تصلنا نصوصه بواسطة عملية «النقل الروائي» و تدوينها، فالباحثون من ذوي المنهج التحليلي يؤسسون نشاطهم في دراسة و فحصها المعرفة عند الإمام الحسن و تحليلها على قواعد عملية النقل لخطب هذا التراث و كتبه و مراسلاته و أدعيته وكلماته القصار.

***

و مما يلفت النظر أن الدراسات الروائية السابقة التي بذلت جهوداً كبيرة في تعاملها

ص: 11

مع عناصر هذا التراث الثقافي و الروحي و الأخلاقي تدخل كما نرى في نطاق «المنهج النقلي» الذي يركز على عملية جمع الروايات و حصرها و نقلها من مصادر متعددة و متقدمة إلى مصادر متأخرة جديدة كي يتم التواصل مع هذا التراث و مظاهره لا بغرض معرفته فحسب، و إنَّما باستثماره في حركة حياتنا الفردية و الاجتماعية، و هذا بلا شك خطوة تقدمية للحفاظ على هذا التراث، و حركة علمية جادة تمهد سبيل الباحثين لدراسته بمناهج جديدة.

و تقتضي الحاجة اليوم إلى دراسة تراث الإمام الحسن علیه السّلام بأبحاث و دراسات تحليلية تعتمد المناهج التحليلية و التاريخية و اللغوية، و من هنا نرى أن عملية جمع تراثه لا تكفي لمعرفة الأبعاد الإنسانية في محتواه ما لم يتم تحليل نصوص هذا التراث و مظاهره و صياغة رؤاه بطرائق الكتابة الجديدة لاستخراج معانيه الإنسانية المتعددة في جوانب الثقافة و التربية و علوم حياتية قائمة في عصرنا، فالدراسات التحليلية و الكتابات التاريخية تأخذ بفكره إلى مواقع متقدمة لسبر أغواره و التنقيب في كنوزه، و يأخذ موقعه المتألق في ثقافتنا الجديدة التي نحتاجها لضبط حركتنا المعرفية و العملية على، هداها و نسترشد بإبداعات هذا التراث و أدبياته في توجيه حياتنا المعاصرة التي تشهد انقطاعاً جزئياً عن هذا التراث.

و كتابنا الذي بين يدي القارئ العزيز خطوة تقدمية لدراسة نماذج من أقوال و أفكار الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام قد اخترناها في إعداد دراسات تحليلية لبعض أقواله و نصوصه من تراثه الخالد و غرضها ليس فقط رفع الظلم عن هذا التراث، بل كذلك لإتاحة الفرصة لبعض الباحثين لدراسة هذا التراث، و إعطائه موقعه من الفكر التربوي

ص: 12

و المعرفي و الأخلاقي الإنساني، و أسمينا كتابنا «دراسات في الفكر التربوي عند الإمام الحسن علیه السّلام»، إذ انتقينا من تراثه مجموعة نصوص متفاوتة الموضوعات و المعاني، و قمنا بعملية ترتيبها في دراسات تحليلية في حلقات و مباحث موضوعية موحدة، حيث شكلت جميعاً مادة تعليمية تصلح لكتاب هو الآن بين يديك.

إنَّ هذا الكتاب محاولة علمية جادة للتحرك بفكر الإمام الحسن و تراثه الأخلاقي و الروحي و الثقافي بواسطة «المنهج النقلي» المتداول تاريخياً في عالم المسلمين عبر قرون متتالية إلى منهج تحليلي جديد يفتح أذهان الباحثين على كنوزه العلمية و القيمية، و يطلع عقولهم على مدخلاته و معطياته و إبداعاته، و هي مهمة علمية حيوية تحتاجها الأجيال المعاصرة للاتصال بتاريخهم الثقافي و إضاءته العقائدية و الأخلاقية و الروحية و الفكرية.

و يتكون هذا الكتاب من ست دراسات أنجزنا أغلبها في شهر رمضان عام 1432 ھ، و تدور جميعها حول أربعة موضوعات هي:

- التعلم والتعليم.

- الحاجات الإنسانية بخصائصها و أنواعها و كيفية تنظيم إشباعها.

- موضوع الاعتذار كفن و مبدأ في تنظيم العلاقات الإنسانية.

- أما المبحث الرابع للكتاب، فموضوعه الأخلاق و الصحة النفسية.

- و المبحث الخامس ناقشنا فيه الانفعالات النفسية.

و نظراً للمادة الإثرائية التي تضمنتها نصوص الإمام الحسن و أقواله و خطبه و كتبه

ص: 13

و مراسلاته فإننا ربطنا هذه الموضوعات في وحدة معرفية ساعدتنا على تصنيف هذا الكتاب و محتواه و مادته العلمية.

و هي كما يأتي:

. تمحورت الحلقات الثلاث من الكتاب أو مباحثه (الأولى والثانية والثالثة) حول الموضوع الرئيس لهذا الكتاب و هو موضوع «التعلم والتعليم» عند الإمام الحسن السبط علیه السّلام، فقد شكّل هذا الموضوع أكثر من نصف المادة التعليمية لهذا الكتاب بوصفه قلب الفكر التربوي في تراث الإمام الحسن علیه السّلام.

. و في الحلقتين الرابعة و الخامسة من كتابنا درسنا موضوع «الحاجات الإنسانية» بأنواعها و ضبط إشباعها.

. و في الحلقتين السادسة كانت مبحثاً لموضوع التفكير، و سيكون مبحث «القدرات العقلية في تراث الإمام الحسن» مخصوصاً بالحلقة السابعة.

. أما الحلقة الثامنة من الكتاب فتناول موضوع «الاعتذار كفن ومبدأ في العلاقات الإنسانية».

. و تبحث الحلقة التاسعة آخر موضوعات هذا الكتاب و دراساته، و عنوانها «الانفعالات النفسية».

. و في المبحث الأخير أو مبحث (الحلقة العاشرة) من كتابنا تناولنا موضوع «الأخلاق و الصحة النفسية» في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام و فكره القيمي و الثقافي و الروحي.

ص: 14

و أخيراً نرجو أن تكون مباحث هذا الكتاب خطوة معززة للجهود العلمية التي تحاول كتابة جانب من التراث الثقافي عند الإمام الحسن و صياغته بروح جديدة تناسب أذواق الأجيال الجديدة من أبناء هذه الأمة الذين يرتاحون لعملية تحليل نصوص تراثهم الثقافي و الروحي للتعرف عليه و فهمه.

و الله سبحانه من وراء القصد

يوم عيد الفطر السعيد 1432 ھ

31 من آب 2011 م.

يوسف مدن

البحرين

ص: 15

ص: 16

الحلقة الأولى

اشارة

التعلم و التعليم في التراث التربوي

عند الإمام الحسن علیه السّلام

ص: 17

ص: 18

التعلم و التعليم في التراث التربوي عند الإمام الحسن علیه السّلام

إذا ما تأملنا -كباحثين أو قراء أو مستمعين- في النصوص و الأقوال المنسوبة في مصادر عديدة إلى الزكي الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام سوف نجد اهتماماته الواسعة بالقضايا الإنسانية كإحدى واجباته الدينية و المعرفية و مسئولياته في الإمامة و التوجيه و الإرشاد و إدارة المجتمع الإسلامي الذي يعيش في أسواره، و قد عبر بنصوصه المجملة و التفصيلية عن هذه الاهتمامات الحياة الإنسانية و مع أننا عثرنا على جملة محدودة من النصوص في هذا الشأن إلا تشكل في مجموعها حركة معرفية جيدة لكتابة جوانب من النظرية التعليمية والتربوية عند الإمام الحسن و ملامحها و أسسها.

إنّ من أبرز قضايا الحياة التي تناولها الإمام الحسن بن علي في تراثه المعرفي و الروحي هي إثارته لقضية التعلم و التعليم التي هي جوهر النظرية التربوية لدى المشرع الإسلامي، حيث خطى -كجده وأبيه علیهما السّلام- طريقه الآمن لتوجيه حركة الإنسان نحو قضاياه الحياتية الكبرى و الاهتمام بها، و من هذه القضايا عملية التعلم و التعليم التي كانت موضوعاً لأول آية قرآنية هبط بها الوحي الأمين على سيدنا محمد بن عبدالله في غار حراء موضع تعبده الله سبحانه و تعالى، ومما لا شك فيه أن اهتمامات الإمام الحسن الزكي بهذه القضية مرتبطة مباشرة بموقف المشرع التربوي الإسلامي في نصوصه القرآنية و النبوية و أقوال أبيه أميرالمؤمنين الإمام علي علیه السّلام و الصلاة.

و لهذا فإن لهذه المسألة مساحتها الواسعة في تراثه التربوي و الفكري، وقد عُبّر

ص: 19

عنها بنصوص و أقوال قصيرة، و في عدد من روايات وخطب و أدعية و رسائل الإمام الحسن و خطبه و أدعية و رسائله المدونة في بعض مصادر تدوين التراث الثقافي لأئمة أهل البيت علیهم السّلام ككتاب «تحف العقول عن آراء الرسول» لابن شعبة الحراني و «بحار الأنوار» للمرحوم المحدّث محمدباقر المجلسي، و مصادر أخر جمعت بعض رواياته فيها ككتابي «كلمة الإمام الحسن» للسيد حسن الشيرازي، و «الروائع المختارة» للسيد مصطفى الموسوي، وكان تراثه مدوناً في هذه المصادر، و في غيرها كموسوعة العلامة ري شهري محمدي.. ميزان الحكمة بأجزائه العشرة وفي غيرها.

إنَّ قضية التعلم و التعليم كانت بارزة في تراثه الفكري، و جلية في أشكال من حديثه التربوي المتناثر في هذه المصادر، و تحتاج نصوصه في هذا المجال ليس فحسب لعملية جمع و حصر تمكّن الباحثين من دراسة مادتها الثقافية و تحليلها بلغة معاصرة يرتاح لها الناس في زماننا الحاضر، و إنَّما لعملية تحليل تبسط القول في تفاصيلها و خطوطها العامة لاكتشاف أسس النظرية التربوية عند الإمام الحسن الزكي و ملامحها العامة، و صياغة مبناها الفكري في إطار النصوص و المصادر الروائية المتعددة و سياقها التي حفظت لنا تراثه الفكري و الروحي.

و مما يؤسف له أنَّ الباحثين -باستثناء ثلة منهم- لم يؤدوا دورهم العلمي في دراسة هذا الفكر و فهم تراثه التربوي، و نظراً للاهتمام بعمليات التعلم و التعليم في تراثه الغني فإننا في هذه الحلقة سنبسط القول في هذه المسألة و دراسة نصوصها المستمدة من خطاب الإمام الحسن الزكي علیه السّلام، و نأمل أن نتمكن -كمحاولة أولية- من صياغة المبنى الفكري العام لنظريته التربوية و التعليمية التي هي مفتاح الحياة للإنسان.

ص: 20

و سنتناول في هذا المبحث النقاط الآتية:

. التعلم كمفهوم.

. تحديد عناصره.

. العلاقة التبادلية بين التعلم والتعليم.

. أهداف العملية التعليمية - التعلمية.

. و مبادئ التعلم التربوية العامة الملحوظة في نصوصه.

. طرائق العملية التعليمية - التعلمية وآلياتها.

. وتأثيرها التربوي في حياة الناس.. فرادى وجماعات.

***

نصوص تعليمية من أقوال الإمام الحسن:

قدم الإمام الحسن السبط علیه السّلام مجموعة من النصوص شكلت ما نسميه ب- «التراث الفكري» لديه في مجالات معرفية و تربوية و أخلاقية، و قد جمع بعض العلماء و الباحثين القدماء و المحدثين هذه النصوص في مواضع مختلفة و أبواب متفرقة، و سنذكر في هذا المبحث من دراستنا عن الفكر التربوي عند الإمام الحسن الزكي بعض النصوص القصيرة لاستخدامها في عملية تحليل هادفة لاكتشاف جوانب من النظرية التربوية عند الإمام الحسن الزكي بن علي علیهما السّلام.

ص: 21

و من هذه النصوص أقواله المباركة:

«ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم(1)».

قال علیه السّلام لبعض ولده: «يا بنيَّ لا تؤاخ أحداً حتى تعرف موارده و مصادره، فإذا استنبطت الخبرة و رضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة و المواساة على العسرة(2)».

و قال علیه السّلام: «تعلموا العلم فإنَّكم صغار القوم و كبارهم غداً و من لم يحفظ منكم فليكتب(3)».

قال: «يا بني و بني أخي، إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(4)». العمر

وفي قوله علیه السّلام: «علم الناس، و تعلم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك، و علمت ما لم تعلم(5)».

و قال علیه السّلام: «لا تأتِ رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده، أو تستفيد من

ص: 22


1- تحف العقول ص 168، الروائع المختارة ص 126
2- تحف العقول ص 168، الروائع المختارة ص 126
3- الروائع المختارة ص 131
4- كلمة الإمام الحسن ص 68
5- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78، ص 111 و كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 197 ، و كتاب (كلمة الإمام الحسن ، ص 68، و كتاب الروائع المختارة للسيد الموسوي ص و كتاب ميزان الحكمة، ج 6، ص 471

علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه(1)».

. و قال كذلك: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه، و فتق ما رتق من ذهنه، و سره ما وجد من الزيادة في نفسه، و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(2)».

. و قال سلام الله عليه: «كفاك من لسانك ما أوضح لك سبيل رشدك من غيّكَ(3)».

. و في سؤال حدد فيه بعض المفاهيم العلمية و الأخلاقية سُئِلَ علیه السّلام فقال: «ما العقل؟ فأجاب: حفظ القلب كل ما استرعيته(4)».

. و قال: «العقل خليل المرء(5)».

. و قوله علیه السّلام: «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(6)».

. و قال علیه السّلام: «ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة و لكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا و يصور الباطل بصورة الحق(7)».

ص: 23


1- الروائع المختارة ص 132
2- الروائع المختارة ص 134
3- كلمة الإمام الحسن ص 201 ، وكتاب (الروائع المختارة) ص 134
4- كلمة الحسن ص 60 ، وكتاب الروائع المختارة ص 138
5- المجلسي، بحار الانوار ، ج 71 ، ص 409 ، وكتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 197، و كتاب ميزان الحكمة 6 ص 404
6- المجلسي، بحار الأنوار ، ج 78 ص ،111، كلمة الحسن ص 63، 201، و كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 131 ، ميزان الحكمة ، ج 6 ص 434
7- الروائع المختارة ص 139

. و قال الإمام الحسن أيضاً في نص آخر: «إنَّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير، مذهبه و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به، أسلم القلوب ما طهر من الشبهات(1)».

و جاء عنه قوله علیه السّلام: «لا يغش العاقل من استنصحه(2)»

و قوله: «أوصيكم بتقوى الله، و إدامة التفكر، فإن التفكر أبو كل خير و أمه(3)».

و قال الإمام الحسن علیه السّلام: «حسن السؤال نصف العلم(4) و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المؤونة(5)».

و قوله: «و بالعقل تدرك سعادة الدارين و من حرم العقل حرمهما جميعاً(6)».. أي سعادة الدنيا والآخرة.

و قال كذلك «من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان آية محكمة و أخاً مستفاداً و علماً مستطرفاً و رحمة منتظرة و كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، و ترك الذنوب حبَّاً أو خشية(7)».

و في نص قال علیه السّلام : «و العقل أفضل ما وهب الله تعالى للعبد إذ به نجاته في الدنيا

ص: 24


1- تحف العقول عن آل الرسول، ص 170، كلمة الحسن ص 199 ، و كتاب الروائع المختارة ص 140.
2- الروائع المختارة ص 142
3- كلمة الإمام الحسن ص 200
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، ج 2 ص 201 و كتاب كلمة الإمام الحسن ص 68
5- الروائع المختارة ص 142.
6- كلمة الإمام الحسن ، ص 63، 200 و كتاب الروائع المختارة ص 131.
7- كلمة الإمام الحسن ص 41 و كتاب الروائع المختارة ص 127 - 128

من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها و قد قيل إنهم وصفوا رجلاً عند رسول الله صلّی الله علیه و آله بحسن عبادته، فقال صلّی الله علیه و آله: انظروا إلى عقله فإنما يجزى العباد يوم القيامة على قدر عقولهم و حسن الأدب دليل على صحة العقل(1)».

و قال كذلك: «عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، و يودع صدره ما يرديه(2)».

و قوله: «عليكم بالفكر، فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(3)».

و قوله: «التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور(4)».

في تفسير قوله تعالى: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، قال: هي العلم و العبادة في الدنيا و الجنة في الآخرة(5)».

سُئِل عن السياسة فقال: «هي أن ترعى حقوق الله، و حقوق الأحياء، و حقوق الأموات، فأما حقوق الله فأداء ما طلب و الاجتناب عما نهى، و أما حقوق الأحياء فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك و لا تتأخر عن خدمة أمتك و أن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته و أن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي، و أما حقوق الأموات فهي أن تذكر خيراتهم و تتغاضى عن مساوئهم فإن لهم ربَّاً يحاسبهم(6)».

***

ص: 25


1- كلمة الإمام الحسن ص 62.
2- كلمة الحسن ص 50.
3- كلمة الإمام الحسن ص 238.
4- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 199.
5- كلمة الإمام الحسن ص 238.
6- الموسوي، الروائع المختارة رقم الحديث 47، ص 134

التعلم كمفهوم:

تشير دراسات علماء النفس التربوي المعاصرين إلى تحديد مفهوم التعلم و معناه كعادتهم في تحديد المفاهيم العامة و الجزئية لهذا العلم، و قد تعددت في ذلك أقوالهم، و نحن هنا لا نجد حاجة في متابعة هذه التعريفات لأن ما يعني القارئ الكريم هو درايته بالمفهوم العام للتعلم بوصفه مثيراً إدراكياً ينقل الخبرة و ينميها من حالة الكمون إلى عالم التحقق و البروز في صيغ و أساليب متعددة تبرز في الحياة الاجتماعية للأفراد.

و هنا -يلحظ بوجه عام- أن هناك مفهوماً شائعاً للتعلم، و أنَّ نفراً من هؤلاء العلماء يحددون المفهوم العام لهذا المصطلح بقولهم بوجه عام: «إنه عملية تغير تدريجي شبه دائم في أداء الفرد المتعلم نتيجة الممارسة الهادفة في مواقف تدريب متصلة و متداخلة و متتابعة و مستمرة تؤدي إلى تنمية الإمكانيات الفطرية في سلوك تعليمي ظاهري في الحياة الفردية و الاجتماعية».

فالتعلم في معناه العام المشترك هو خبرة ناتجة عن تدريب منظم و مقصود و ممارسة معززة، و فعل ،هادف و تغير شبه مستمر في أداء الفرد لاكتساب مهارة معينة في أي مجال من مجالات النمو الإنساني لتوظيفها في دعم و تعزيز هذه المجالات.

إنَّ التعلم الإنساني وليد استثارة تبدأ من الإحساس بمشكلة تفرضها أحياناً طبيعة النمو أو تتولد عن متطلبات الواقع، و ينتهي الاستثارة و ما يعقبها من حدوث استجابات بتكوين خبرة تستجيب لمبادئ النمو و قوانينه و تراعي مبدأ الواقع، و يمر الكائن الآدمي خلال مرحلة التعلم بمعاناة نفسية و عقلية بين ولادة «الإحساس» به و إتقان الخبرة(1).

ص: 26


1- ينظر الفصل الثاني من كتابنا (التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلاميَّة).

و بواسطته يسعى الفرد لتحصيل المعرفة و اكتساب مهاراتها، و إضافة تراكمية و متصاعدة للخبرات الجديدة الناجمة عن عملية تدريب منظمة و مقصودة و هادفة، فالتعلم في علم النفس هو «العملية التي يكتسب بواسطتها الشخص خبرات يستطيع عند استعادتها أن يقلل من جهوده و يختصر ،طاقته و يحسن التصرف في المواقف الجديدة(1)».

و في تعريف آخر -من أكثر التعريفات شيوعاً في كتابات علماء النفس التربوي يرى علماء نفس بأنَّ التعلم هو «كل تغير شبه دائم في سلوك الفرد بفعل التكرار و الممارسة المعززة(2)».

و إذا تكرر نفس الموقف التعليمي للفرد فإنّه يعيده بزمن أقل، و بأخطاء أقل أيضاً، فيزداد الإتقان و يتحسن سلوكه بصورة مستمرة و دائمة، و إذا كان التعريف الشائع للتعلم يؤكد أن: «لب التعلم هو التغيير الذي يطرأ على الأداء أو الاستجابة الظاهرة و ما يترتب عنه من تغيير في الخبرة و الأداء الإنسانيين فإنَّه كما يقول أحد علماء النفس التعليمي العرب ليس كل تغيير يطرأ على الأداء يدخل في باب التعلم، فمجالات التعب أو الوقوع تحت تأثير مخدر ألوان من التغير في الأداء الناتجة عن خبرة، ومع ذلك لا نعدّها تعلماً، لأنَّ التعلم كتغير في الأداء تحت تأثير الخبرة أو الممارسة أو التدريب له صفة الدوام أو الاستمرار النسبي، و تشير إلى هذه الخاصية جميع المؤلفات في الميدان(3)، و لكن التغير في السلوك هو في حد ذاته تغير في النضج و المثيرات البيئية ، فما دام النضج و عناصر بيئة المتعلم لا تستقر على حال فإن سلوكه في تغير مستمر، فالطفل مثلاً يبدأ

ص: 27


1- د. عبدالقادر، محمود و د. فائق، أحمد / مدخل إلى علم النفس العام ص 164.
2- د. سيد خيري، محمد / علم النفس التربوي ص 125.
3- د. فؤاد، أبو حطب و د. آمال، صادق، علم النفس التربوي (بتصرف) ص 161.

نموه اللغوي بالمناغاة، و بعد أن يجتاز الشهر السادس ينطق عدة مقاطع لفظية لا معنى لها، ثم يتعلم بعد مدة و جيزة البدء بنطق كلمة أو كلمتين أو ثلاث(1).

و من تجاربنا في الميدان التربوي اليومي -مدرسياً كان أو في نطاق مواقف الحياة بأسرها- نلحظ أن أداء الفرد في تعليمه المدرسي أو في غيره من مجالات الحياة الواسعة يبدأ الفرد في تعلمه بداية عشوائية صعبة، ثم بالتدريب المستمر و الممارسة الهادفة يحدث تغير تدريجي بنحو تتغير قدرات الفرد و مهاراته حتى يتمكن من الإتقان المطلوب.

***

عناصر التعلم :

تستخلص هذه العناصر من باطن المفهوم العام للتعلم، و بتأمل بسيط نجد العناصر واضحة في طبيعة النص كمفهوم عام، و يمكن تحديدها فيما يأتي:

1. حدوث تغير شبه دائم في سلوك الفرد.

2. الممارسة الهادفة و استمرارية التدريب.

3. بروز في إمكانية الذات و تنمية خبرتها الفطرية.

***

1. حدوث تغير شبه دائم:

يبدأ المتعلم بخاماته الطبيعية و منها قابليته للتعلم، و عندما يبدأ المربي نقل المهارات المطلوبة بطريقة تدريجية و غالباً ما تكون الحركات صعبة و مجهدة حتى و إن كانت منظمة أحياناً، و بتتابع عملية الممارسة المعززة و التدريب المستمر يحدث تدريجياً تغير

ص: 28


1- انظر دراستنا (مقدمات لدراسة علم النفس عند الإمام علي، مدخل الفصل السادس).

شبه يومي لا ينقطع و لا يتوقف حتى يكتمل التغير و يأخذ مداه الأقصى و حينئذ تبرز خبرة جديدة في التكوُّن و تصبح جزءًا من النمو العام للشخصية، فعلى سبيل المثال يبدأ المتعلم في التدرب على كتابة محدد كحرف «الألف»، و يظل مع الصعوبات المتوقعة يحاول و باستمرار المحاولات و تتابعها تظهر مهارة بمستوى معين في كتابة الحرف المذكور، فمن المنطق الطبيعي أن تكون المحاولة الأولى حرفاً مائلاً و أضخم من حجمه المعتاد في الكتابة الطبيعية و غير متآزر، ثم يتحسن أداء المتعلم في محاولة ثانية و ثالثة حتى تنتظم المهارة في حدها الطبيعي التي تعبر عن إمكانية المتعلم، و هكذا فإن التغير في الأداء يتتابع فيجد المتعلم نفسه قد اكتسب الخبرة و تعلم المهارة بأداء مقبول.

2. الممارسة المعززة:

ينقسم هذا العنصر لكلمتين أو لفظين تربويين هما الممارسة و يشير إلى عملية التدريب المنظم لكي يسير الأداء من خطوة سابقة إلى خطوة لاحقة أكثر تطوراً تحت إشراف مدرب قد يكون الفرد نفسه و قد يكون فرداً آخر و بمقدار نوع الممارسة و تنظيمها يكون نوع التعلم الناتج عنها و يكون مستوى الجودة في المهارة التي تم تكوينها و اللفظ الآخر من هذا العنصر هو تعزيز عملية «الممارسة» التي يقوم بها المتعلم لتطوير الأداء، فلا يكفي تتابع التدريب من دون استخدام «محفززات» أو «مثيرات تعزيزية» للسلوك التعليمي لدى الكائن الآدمي، فالممارسة المعززة تعني إمداد المتعلم بحوافز تدفع بالمتعلم للاستمرارية في أدائه، فإعطاء هدية أو كلمة ثناء أو توجيه شكر أو الربت على كتف المتعلم مصحوبة بابتسامة تعزز الثقة لديه، و لها قوة تأثير إيجابي في سلوكه و وضعه في مسار التحسين و تطوير الأداء التعليمي لدى الفرد.

ص: 29

3. بروز تدريجي لإمكانيات الذات و خاماتها الكامنة:

التعلم تعبير عن أمرين أحدهما «قابلية» داخلية كامنة لدى الفرد المتعلم و تعبر هذه القابلية عن إمكانيات طبيعية غير نشطة حتى يبدأ المربي في التدخل فينقلها بطريقة تدريجية إلى عالم التحقق يظهر مستوى الذكاء و مستوى الجودة في المهارة التعليمية، فالعلم كما جاء في حديث الإمام علي علیه السّلام علمان أو نتاج تفاعل عقلين هما: «عقل ولادة و عقل إفادة(1)»، أو أنَّه.. إمَّا أنه «عقل الطبع و عقل التجربة و كلاهما يؤدي إلى المنفعة(2)»، و النتيجة من ظهور مهارات يبتغيها المربي تجسد مظاهر لإمكانيات الذات الطبيعية غير المفعلة قبل الممارسة و التدريب المعزز، فإمكانيات الذات هي -في أصلها- قدرات طبيعية كامنة تنتظر التحقق بجهد المربي الهادف، ثم بعد استكمال تطويرها تتحول إلى قدرات حقيقية جاهزة للعمل في حركة الذات و في حركة الواقع، و بالتالي فإن الإمكانيات تنقسم إلى ذكاء، فطري و نمو خبرات جديدة تتم من خلال عملية تعليمية متقنة و تتجلى في النتيجة التي أظهرتها عملية التدريب و التعامل مع الخامات الطبيعية للفرد من قدرات كامنة كالقدرة العقلية العامة أو الذكاء، ثم تبرز في صورة خبرات تشكل بالنسبة للفرد المتعلم قدرات عقلية «مهيأة للعمل والتوظيف والاستخدام.

***

العملية التعليمية - التعلمية

أظهر أحد النصوص التعليمية - التربوية التي قالها الإمام الحسن الزكي العلاقة التبادلية الوطيدة بين عمليتي «التعلم و التعليم» بنحو يربطهما في موقف موحد و متداخل، و كأنها في منظوره المعرفي عملية تربوية موحدة لا سبيل لتجزئتها، أو تفكيك

ص: 30


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 1 ص 160، ميزان الحكمة، ج 6 ص 413
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ص 9، ميزان الحكمة، ج 6 ص 413

بنائها التعليمي و هذا يؤكد أسبقية المشرع التربوي الإسلامي على اكتشاف هذه الحقيقة قبل الجهود التي توصلت إليها الدراسات التربوية الحديثة التي تتحدث عن ما أسماه التربويون بالعملية التعليمية - التعلمية، يقول الإمام الحسن السبط بن علي عليهما السّلام في نصه ما لفظه: «علم الناس علمك، و تعلم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك، و علمت ما لم تعلم(1)».

***

المعاني التربوية في النص :

استخرجنا من النص التربوي المتقدم ذكره بعض المعاني التربوية و هي أفكار تمثل اجتهادنا الشخصي و منها ما يأتي:

1. تأكيده على العملية التعليمية - التعلمية

يشير النص في معناه الظاهري إلى عمليتين مترابطتين يطلق عليهما مفهوم التعليم و التعلم، وتتمان بترتيب زمني متصل، بحيث تبدأ الأولى منهما بقيام الإنسان الموجه له هذا الخطاب بعملية «تعليم» الناس، ثم يستكمل الإنسان دوره التعليمي بمتابعة تعلمه العلوم الآخرين و اكتساب خبراتهم العلمية و المهنية، فكلمات النص علم الناس و تعلم علم غيرك توحي بضرورة قيام الفرد بعملية تعليم و تعلم في آن واحد و تختزن علاقة تبادلية بينهما، فعلم الناس هي عملية التعليم و تعلم علم غيرك تعني «تعلم الفرد» من الآخرين.

***

ص: 31


1- المجلسي، بموسوعة (بحار الأنوار، ج 78، ص 111 و كتاب الروائع المختارة للسيد الموسوي ص 131 و كتاب ميزان الحكمة، ج 6، ص 471

2. العلاقة التبادلية لأدوار الفرد بين عمليتي التعليم و التعلم

بالإشارة إلى الدور المزدوج للفرد من قيامه بتعليم الناس و تعلم علومهم منهم كما صرح النص في مدخله فإنّ النص التربوي الحسني يؤكد على علاقة تبادلية في حياة الفرد و هو يؤدي هاتين الوظيفتين، بحيث لا تنقطع رغبته في التعلم و التعليم في آن واحد بنحو يكون جهده عملية تعلم مستمر، و تربية مستديمة، فيكون الفرد معلماً و متعلماً في آن واحد كجزء من وظيفته الشرعية في حركة الحياة، و يتجسد المعنى الصحيح لقوله عليه أفضل الصلاة و السَّلام: «علم الناس وتعلم علم غيرك».

***

3. تكوين الخبرات التربوية الهادفة

يتحرك النص التربوي المتقدم ذكره على شكل علاقة قوامها «فعل الشرط و جوابه» بدون استخدام أداة الشرط كما في الجمل الشرطية، فإذا ما عَلَّمَ الإنسان من حوله عِلْمَهُ، وتعلَّم علم غيره يكون نتيجة هذا الدور التربوي والتعليمي المزدوج تكوين خبرات مربية و تنميتها كجواب منطقي.

و يتحدد نمو «الخبرات التربوية» الهادفة لدى الفرد في مسارين أساسيين هما:

أ. أولهما تقدم عملية التعلم في مستوياتها بالنسبة للفرد المعلم فيتقن خبراته التي اكتسبها من قبل و يزيد مستوى إتقان الفرد للخبرات التعليمية و ترسيخها بما يقوم به من تعليم علمه و خبراته للآخرين.

ب. و المسار الآخر هو تعلم الفرد «خبرة جديدة» التي تنمو تدريجياً من خلال تعلم علوم الغير بحيث تكون جزءًا من الذات بعد أن أتاحت له عملية تعليمه للآخرين إتقان محكم لمهارته السابقة وترسيخ خبراته.

ص: 32

4. المبادئ التعليمية(1) في النص

يوحي النص الإنساني المعرفي مباشرة بالتعرف على مبادئ تعليمية تضبط السلوك التعليمي لدى الفرد كمبدأ الإتقان الواضح في المقطع الثاني من النص و من هذه المبادئ ما واضح بصورة مباشرة كمبدأ الإتقان و قد عبّر النص عن ذلك بجملة «تكون قد أتقنت علمك» و من هذه المبادئ ما يحتاج إلى تدبر غير مباشر لاستخراجها، فما نلحظه في تأملنا لمادة النص المعرفية وجود إشارات لمبادئ تعليمية تم التعرف عليها بصورة غير مباشرة من السياقات الداخلية في المفردات الفظية للنص التربوي عند الإمام الحسن و من هذه المبادئ.. مبدأ التدرج و التعلم المستمر و التمايز أو الفروق الفردية و الانفتاح على خبرات الآخرين.

***

5. تحقيق مفهوم التعلم بعناصره الثلاثة

يلحظ من النص تأكيده بصوره غير مباشرة على المعنى العام للتعلم و قد طوى النص في مفرداته اللفظية العناصر الثلاثة التي اختزنها مفهوم هذا المصطلح من تغير شبه دائم في أداء الفرد و الممارسة المعززة و بروز إمكانيات الذات الكامنة بعد التدريب في شكل «إتقان الخبرات» أو «تعلم خبرات جديدة» بعد أن كانت كامنة أو قابليات مركوزة في داخل الفرد و تركيبته مصداقاً لقوله عليه السّلام: «تكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم»، فهاتان الخبرتان كانتا في مرحلة الكمون بمستويين مختلفين، فالخبرات المتقنة كانت موجودة بمستوى معين ثم تم ترسيخها بمزيد من التعليم و التدريب، أما

ص: 33


1- سنعالج في حلقة قادمة مجموعة من المبادئ التربوية التي استبطنها النص التربوي في التراث المعرفي للإمام الحسن علیه السّلام، وأن الإشارة لمبدأ الاتقان اقتضتها الإشارة للمعاني الإنسانية في النص الحسني المتقدم.

الخبرات الجديدة فتم تكوينها بتعلم جديد خلال قيام الفرد في مراحل مختلفة من عمره بالعملية التعليمية - التعلمية.

***

6. قدرة النص على الاستثارة الذاتية للفرد

و نلحظ هذه القدرة المحركة في استثارة دافعية التعلم و التعلم لدى الفرد، و في توجيه النشاط و ضبط الدور التعليمي لتحقيق هدف مرجو و كذلك نلحظها في عملية تنظيم الخبرة التعليمية المطلوبة ما تم -على حد سواء- إتقانها و ما تم اكتسابها

كخبرة جديدة، فالنص يدفع الذات نحو مزيد من الجهد التعليمي و ضبط حركته و الفرز بين ما أتقنه الفرد و ما تعلمه من خبرات و مهارات جديدة من خلال تنشيط دافعية التعلم و العمل لدى الكائن الآدمي.

***

وظيفة العقل:

يؤدي العقل في نظر الإمام الحسن دوراً مزدوجاً يمزج الدور الوظيفي بدور عبادي و یتمثل الدور الوظيفي في طلب العلم و المعرفة و تنمية القدرات العقلية و تطورها بالعلم و التدريب العلمي كما سيأتي في نصوص متفرقة من مباحث هذا الكتاب، أما الدور العبادي فيتم بالعبادة و إشباع الحاجات الروحية للفرد، فقوله عليه السّلام: «من طلب العبادة تزكى لها(1)» يعني إشباع الحاجات الروحية العبادية و كلاهما (أي العلم والعبادة) فيتم في الدنيا كما في تفسير الإمام الحسن بن علي لآية (رَبَّنَا ءَائِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) و في تفسير قوله تعالى:

ص: 34


1- ابن شعبة ،الحراني، تحف العقول ص 170

(رَبَّنَا وَائِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) قال: «هي العلم و العبادة في الدنيا، و الجنة في الآخرة(1)».

و في نص آخر قال عليه السّلام: «و العقل أفضل ما وهب الله تعالى للعبد، إذ به نجاته في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها و قد قيل: إنهم وصفوا رجلاً عند رسول الله صلّی الله علیه و آله بحسن عبادته فقال: انظروا إلى عقله فإنما يجزى العباد يوم القيامة على قدر عقولهم و حسن الأدب دليل على صحة العقل(2)».

و يلحظ من النصين ما يأتي:

1. الإشارة للذكاء الفطري و هو ما عبر عنه النص الثاني بالعقل الموهوب، أي هو القدرة العقلية الفطرية التي نولد بها أو زودنا الله بها و هي -كما جاء في النص الحسني- أفضل ما وهبنا الله تعالى أو عقل «الولادة» كما في نص آخر.

2. أنه يتم تنمية الذكاء الفطري أو العقل الوظيفي و قدراته و إظهار تمايزها في مراحل من نمو الفرد من خلال العلم أو التدريب و الممارسة المعززة.

3. أن العلم حسنة و هو بالنسبة للإمام الحسن قيمة موضوعية، كما في نظر المشرع التربوي الإسلامي و هو كقيمة إدراكية كالعبادة تماماً، لكن الحكم على المرء بحسن عبادته مرهون بالنظر إلى حصافة عقله لأنه يجزى به يوم القيامة.

.4 أن للعقل وظيفتين.. تنمية القدرات العلمية في الدنيا و استخدام قدراته و توظيفه للنجاة في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها.

ص: 35


1- كلمة الإمام الحسن ص 238.
2- كلمة الإمام الحسن ص 62

5. العقل في منظور المشرع التربوي الإسلامي -كما تبين من النص أعلاه- هو أساس المسؤولة و الجزاء الأخروي كما في الدنيا.

6 . أن مجازاة الناس يوم القيامة يكون على قدر عقولهم و في ذلك إشارة إلى تمايز قدرات الناس العقلية التي يسميها علماء النفس التربوي بظاهرة «الفروق الفردية» بين الناس.

.7 أن حسن الأدب و هو أحد نواتج التربية و اهتمامات العلم هو دليل على صحة العقل و يراد من ذلك استثمار الذكاء و العلم معاً في تحقيق تربية أخلاقية و روحية تجسد سلامة العقل و نجاح الفرد في تحقيق الهدفين.. الوظيفي و العبادي.

***

أهداف العملية التعليمية - التعلمية

لعملية «التعلم و التعليم» كسائر العمليات الاجتماعية أهدافها و مما لا شك فيه أن عبارات الإمام الحسن و أقواله و كلماته القصار استبطنت في داخلها معاني إنسانية و أهدافاً تربوية و توحي نصوصه لنا بجملة من الأهداف التربوية التي يتوخاها المشرع التربوي الإسلامي و يبتغيها تحقيقها الإمام من إثارة هذه الأقوال بين الناس و نشرها في عالمهم الاجتماعي و الشخصي و كعادتنا سنحاول و باجتهادنا الفردي معرفة بعض الأهداف التربوية التي يستهدفها الإمام الحسن من اهتمامه بالفكر التعليمي في خطابه و نأمل نجاحنا في اشتقاق ما نراه أهدافاً للنظرية التربوية – التعليمية عند إمام الحق الحسن بن على عليهما السّلام.

ص: 36

و من هذه الأهداف:

تنوعت أهداف النظرية التربوية و التعليمية عند الإمام الحسن الزكي، لكنها اجتمعت في هدفين أساسيين.. هدف عبادي و كبير هو طاعة الله و عبادته سبحانه و تعالى و هدف إنمائي أو علاجي لسلوك الشخصية أو تنمية الإمكانيات الفطرية لدى الإنسان و قد قمنا باشتقاق هذه الأهداف من مجموعة النصوص السابقة و منها :

1. تحقيق هدف عبادي و هو طاعة الله و عبادته و تجنب معاصيه ابتغاء مرضاته تعالی.

2. السعي إلى تنمية الإمكانيات الذاتية و الفطرية لدى الإنسان (عقلية و غير عقلية) و إبرازها أو تحقيقها في عالم اجتماعي متغير.

3. إتقان السلوك المرجو و تنمية الخبرات الموجودة بمستوى أفضل.

4. تعلم خبرات جديدة تساعد على إنماء «الذات» و تطويرها.

5. تعلم مهارات الحياة الاجتماعية للذات و محفزاتها.

6. اكتساب مهارات التعامل الاجتماعي الجيد للشخصية مع الآخرين والتكيف مع حياتهم و معاشرتهم بالجميل.

7. الإفادة من تجارب الآخرين و خبراتهم المؤثرة كالنخب و الجماعات العلماء و أصحاب الرأي و المشورة و البصيرة.

8. توظيف عملية التعلم و مهاراتها في خدمة عملية النمو الشامل للشخصية الإنسانية و بخاصة المؤمنة.

ص: 37

9. تنمية المهارات العقلية و اللغوية كالحفظ و الكتابة و إثارة السؤال.

10. تحقيق التنمية الروحية و الأخلاقية للشخصية الإنسانية في مختلف مراحلها النمائية .

***

تصنيف الأهداف و نماذج من نصوصها التربوية:

قمنا بتصنيف مبسط للأهداف التربوية المشتقة من بعض النصوص التعليمية للإمام الحسن بن علي و إيضاحاً للقارئ الكريم و تسهيلاً عليه أتبعنا هذا التصنيف بتوزيع بعض هذه النصوص في قبالة أهداف كل مجال على حدة و هي تغطي مجالات من نمو الشخصية و جوانبها.

الصورة

ص: 38

الصورة

ص: 39

الصورة

ص: 40

الصورة

***

العوامل المؤثرة في التعلم:

تتأثر عملية تعليم الأفراد بعوامل تخضع لها و تساعدها على التحقق في الميدان التربوي و ثمة عوامل تؤثر على عملية التعلم و التعليم لدى الفرد يتصل بعضها بطبيعة الفرد المتعلم كذكائه و حالته الجسمية و الانفعالية و عمره و جنسه و دافعية التعلم

ص: 41

لديه و استشارة العقلاء و نشاطه التعليمي أو مجهوده فيه، أما العوامل الثانية المقابلة للأولى فموضوعية و هي من خارج ذاتية الفرد كمادة التعلم و كميتها و نوعيتها و مستوى مضمونها من حيث السهولة أو التعقيد و مكان التعليم و زمانه و طرق التعلم المستخدمة و جودة التدريب و فاعلية المعلم المرشد و الموجه للأداء في الموقف التعلیمی(1) و كذلك الظروف المكانية الخاصة بالموقف التعليمي كالإضاءة و الحرارة و غيرهما.

و من الصعب القول: أننا رصدنا كل العوامل المؤثرة في العملية التعليمية - التعلمية لأنه مع توافر بعض النصوص التعليمية المنسوبة للإمام الحسن علیه السّلام إلّا أننا لم نجد وفرة كافية تمكننا -كباحثين- من رصد هذه العوامل مجتمعة كما فعلنا في دراستنا عن التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية و لسوء الحظ فإن أغلب ما رصدناه من خلال المفردات اللفظية لهذه النصوص -على قلتها- هو عوامل تتصل بطبيعة المتعلم و لهذا لم يتم تحديد العوامل المؤثرة على المتعلم من خارج ذاته كمادة التعلم و نوعيتها و كميتها و مستوى السهولة و التعقيد و ربما يعود ذلك إلى خلو النصوص التعليمية المتوافرة بين أيدينا و ما تنطوي عليه من إشارات عن العوامل المؤثرة على المتعلم من خارج كيان الفرد المتعلم و مع ذلك لم تخلو عبارات بعض هذه النصوص من إشارات لتأثير البيئة الاجتماعية المحيطة بالمتعلم.

و مما لا شك فيه أن بعض النصوص التعليمية عند الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السلام قد لفتت النظر إلى تأثيرها، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو ظروف أخرى و تعد هذه العوامل جزءًا من النظرية التعليمية في خطاب الإمام الحسن

ص: 42


1- مدن التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية، بتصرف ص 169.

طالما أنها وردت في كلماته، فهذه العوامل كما سيلحظ القارئ منبعثة من داخل الفرد أو متصلة بحياته الخارجية و بخاصة الاجتماعية المحيطة به و سنمر على هذه العوامل و بيان موجز لتأثيرها في تعلم الفرد و نمو قدراته العقلية و العلمية، بل في جوانب مختلفة من شخصيته.

***

أولاً: العوامل الذاتية للفرد

من العوامل المؤثرة على تعلم الأفراد ذكاؤهم الفطري أو مستواهم العقلي وقت الولادة و تركيز الاستماع أو الانتباه و النضج الطبيعي و حالتهم الانفعالية و دافعية التعلم لديهم و الخبرة السابقة للتعلم عند الفرد و رغبة الفرد في التفكر و تخلية النفس ما أمكن من عوائق التعلم و بتأمل بعض النصوص التعليمية نجد إشاراته إلى عوامل ذاتية تخصه من الداخل.

يقول عليه أفضل الصلاة و السّلام:

«العقل أفضل ما وهب الله تعالى للعبد، إذ به نجاته في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها و قد قيل: إنهم وصفوا رجلاً عند رسول الله صلّى الله عليه و آله بحسن عبادته، فقال صلّى الله عليه و آله: انظروا إلى عقله فإنما يجزى العباد يوم القيامة على قدر عقولهم و حسن الأدب دليل على صحة العقل»، و سُئِلَ علیه السّلام فقال: ما العقل؟ فأجاب: «حفظ القلب

كل ما استرعيته» ..

«إنَّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير مذهبه و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به، أسلم القلوب ما طهر من الشبهات(1)»

ص: 43


1- تحف العقول عن آل الرسول، ص 170، و كتاب الروائع المختارة ص 140.

«تعلموا العلم فإنَّكم صغار القوم و كبارهم غداً».

«عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه».

و في حديثه علیه السّلام عن مجالسة الفرد للعلماء قال: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه»، و في المقطع الأخیر من هذا النص حقائق مترابطة عدة ذات طبيعة سيكولوجية محضة و لاسيما «الحالة الانفعالية الإيجابية» للفرد و نوجزها كما يأتي:

1. تأكيد هذا المقطع الذي وضعنا تحت كلماته «خطاً» على علاقة إيجابية بين التعلم الجيد و التحسن الملحوظ في الصحة النفسية للفرد.

2. أن تقدم الفرد في أدائه التعليمي بنحو تدريجي متصاعد يرافقه بالضرورة تغير شبه مستمر و نحو الأفضل في حالته الانفعالية بظهور حالة سرور لديه.

3. يؤدي التعلم الجيد و تحسن حالته النفسية أو ارتفاع معنوياته النفسية إلى زيادة مستوى الثقة بنفسه.

4. أن التعلم الجيد و ارتفاع معنويات الفرد إلى إمكانية تنشيط دافعية التعلم لدى الفرد.

5. أن تلك التعديلات المذكورة من تحسن الأداء و تحسن الروح المعنوية و تنشيط دافعية التعلم يثبت حاجة الفرد للانفعال الإيجابي كالسرور بمحدد طبيعي معتدل و هو انفعال مصاحب لهذه التعديلات.

6. أوضح النص قيمة الانفعال الإيجابي ممثلاً في سرور المتعلم في النمو النفسي

ص: 44

و التدريب التعليمي و لاسيما ما حققه الفرد من نجاح تعليمي في مستوى تنمية قدراته اللغوية والعقلية.

7. أن النص بإيجابية محتواه المعرفي و السيكولوجي يقدم لنا نموذجاً لترابط الحالة الانفعالية بعملية التعلم و التعليم.

***

ثانياً: العوامل الاجتماعية (من خارج الذات)

إضافة الى وجود عوامل مؤثرة ذات علاقة بطبيعة المتعلم، فإن هناك عوامل اجتماعية تؤثر على العملية التعليمية - التعلمية كمخالطة العلماء، توافر مجالس العلم في المجتمع و التدريب العلمي أو التربوي و ظروفه المعيشية و المكافآت المادية(1) و التحفيز الاجتماعي المعنوي و مشاورة الآخرين و الشعور بالأمن و الإخاء الاجتماعي لقوله علیه السّلام:

- «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(2)».

- من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و کانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم».

«لا يغش العاقل من استنصحه».

ص: 45


1- لقد عدد الإمام الحسن عشر مكارم للأخلاق كما نقل ذلك جابر، قال جابر: «سمعت الحسن علیه السّلام: «مكارم الأخلاق عشرة: صدق اللسان و صدق البأس و إعطاء السائل و حسن الخلق و المكافأة بالصنائع و صلة الرحم و معرفة الحق للصاحب و قري الضيف و رأسهنَّ الحياء». انظر كلمة الإمام الحسن، للسيد حسن الشيرازي، ص 61
2- الروائع المختارة ص 139

«ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم».

الصورة

ص: 46

الصورة

ص: 47

أنواع التعلم:

من الحقائق الحياتية و السيكولوجية أن شخصية الإنسان متعددة الجوانب و أن كل جانب هو الآخر يتفرع إلى خطوط داخلية و يتشابك معه في حركة النمو الإنساني و سياقاتها التصاعدية و هذا ما ينسحب على عملية التعلم نفسها، فهذه العملية تمثل بأسرها جانباً من النمو النفسي و لكن في سياق هذا الجانب نجد تقسيماً لمساراته إلى فروع تجتمع فتشكل الجانب التعليمي في شخصية الكائن الآدمي، فنجد تعلماً لغوياً و تعلماً وجدانياً و مهنياً و تعلماً مهارياً و تعلماً شرعياً و آخر عقلياً و هكذا تتوزع عملية التعلم و التعليم في مساراتها الفرعية لعدد من الأنماط المتعددة التي تجتمع كلّها في مسارات واحدة غايتها تحقيق أهداف متكاملة للشخصية البشرية و قد تعرفنا على أنماط من التعلم و مساراته و ذلك في إشارات متفرقة مبثوثة بين ثنايا مفردات بعض النصوص التعليمية للإمام الحسن بن علي علیهما السّلام و هي كما نقول دائماً مجرد اجتهادات ذاتية في فهم نصوصه التعليمية.

و سنحدد هذه الإشارات معززة بمقاطع لفظية مستمدة من بعض النصوص التعليمية و هي كما يأتي:

1. التعلم اللغوي

يقول أحد نصوص الإمام الحسن الزكي علیه السّلام: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم».

إذا ركزنا النظر في الكلمات الموضوعة تحت خط و تمثلان مقطعين أوليين في النص المذكور، وجدنا ارتباطاً بين مجالسة العلماء كمتغير مستقل مؤثر و بين «النمو

ص: 48

اللغوي عند الفرد» و «نمو القدرات العقلية» كمتغيرين تابعين، فطالما كان الفرد مواظباً على حضور حلقات العلم و دروسه أدى ذلك إلى نمو تصاعدي.. في قدراته العقلية و مهاراته اللغوية.

و نلحظ على ضوء هذا الترابط بروز علاقة بين اللغة و الفكر التي أكد عليها المشرع التربوي الإسلامي و علماء المنطق، فالألفاظ كما يقول الإمام علي «قوالب المعاني»، فالنص الكريم يدعو للإكثار من مجالسة العلماء و حضور حلقاتهم التعليمية والمواظبة عليها، حيث تؤدي المجالسة المستمرة للعلماء و أصحاب الفكر و بصائر المعرفة إلى تعلم لغوي تصاعدي و تنمية القدرة اللفظية عند الأفراد بطريقة تدريجية نتيجة تعلم مفردات لغوية من المواد الدراسية التي يحضرها الفرد و نتيجة تعلمه بعض علوم اللغة و آدابها و تنمو في الوقت -نتيجة التعلم و المران التعليمي- القدرات العقلية لدى الفرد و تتمايز كلما زادت تجارب الفرد من عمليات التعلم و فرصها المتراكمة، فحضور مجالس العلم تجمع علوم مختلفة كعلوم اللغة و الحكمة العقلية و العلوم الشرعية و تزداد الثروة اللغوية و المعارف و المهارات العقلية بدراسة الأفراد لهذه العلوم.

و هنا نكرّر ما قاله الإمام علي في نص الإتقان من أن تعلم علم الغير و تعليم الناس لما يعرفه الفرد من العلوم و الحكمة و الآداب يساعدان على تعلم الخبرة الجديدة و زيادة نسبة تراكماتها الصحيحة حتى تبلغ مستوى الإتقان الكامل أو قريبة منه، كما يتم

إتقان الخبرة السابقة و ينسحب ذلك على مهارات الفرد في الجوانب اللغوية و العقلية و الشرعية و غيرها و هذا ما قصده نص الإمام من أن الإكثار من: «مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم، وإفادة لما تعلم».

ص: 49

2. التعلم الاجتماعي

و يشير الإمام الحسن في بعض نصوصه المختلفة إلى مهارات الاتصال و العلاقات الاجتماعية كالمؤاخاة بين الناس و مداراة أنفسهم لبعضهم و مشاورة الآخرين لبعضهم بعضاً و غرس مشاعر الموحدة و الحب الاجتماعي و تبادل المنفعة، كما حذرت بعض

نصوصه من إشاعة قيم سلبية منفرة و مضادة لمهارات الاتصال و العلاقات الاجتماعية و من نصوصه في هذا الشأن:

«رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(1)».

«و مدارة الناس نصف العقل(2)».

«يا بني لا تؤاخ أحداً حتى تعرف موارده و مصادره، فإذا استنبطت الخبرة و رضيت العشرة.. فآخه على إقالة العثرة و المواساة في العسرة(3)» و في ذلك إشارة لما يسميه بعض علماء النفس بالمشاركة الوجدانية.

و قوله: «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم(4)»

و قوله علیه السّلام: «القريب من قربته المودة و إن بعد نسبه و البعيد من باعدته المودة و إن قرب نسبه(5)».

و يقول كذلك: «البخل جامع للمساوئ و العيوب و قاطع للمودات من

ص: 50


1- الروائع المختارة ص 131، رقم الحديث 26
2- الروائع المختارة ص 142، رقم الحديث 100
3- لروائع المختارة ص 126
4- الروائع المختارة، ص 126، رقم الحديث 2
5- الروائع المختارة ص 126- 127، رقم الحديث 5

القلوب(1)».

و قال: «لا تأت رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده أو تستفيد من علمه أو ترجو بركة دعائه أو تصل رحماً بينك و بينه(2)».

و قال: «الوعد مرض في الجود، و الانجاز دواءه(3)».

و في نص سابق قال الإمام الحسن: من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(4)».

و قال علیه السّلام: «لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليَّ من اعتكاف شهر(5)».

و قوله علیه السّلام: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(6)»، و في نص آخر مماثل قال الإمام الحسن علیه السّلام: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به، تكن عادلاً(7)».

***

ص: 51


1- الروائع المختارة ص 128، رقم الحديث 15
2- الروائع المختارة ص 132، رقم الحديث 31
3- الروائع المختارة ص 133، رقم الحديث 38
4- لروائع المختارة ص 134، رقم الحديث 45
5- لروائع المختارة ص 139، رقم الحديث 81
6- لروائع المختارة ص 139، رقم الحديث 82
7- كلمة الإمام الحسن ص 49

3. التعلم العقلي

تلازم الحديث في نص «مجالسة العلماء» بين حضور جلساتهم و نمو القدرات اللغوية و العقلية على حد سواء و إذا كان ذلك يدخل في النمو اللغوي للفرد و زيادة قدراته اللفظية و الفهم اللفظي و طلاقة اللسان و فصاحته و زيادة مفرداته اللغوية فإنَّ ذلك يصاحبه نتيجة هذا الجلوس نمو في القدرات العقلية و كما تقدم تصحبها كذلك زيادة تصاعدية في القدرة اللفظية و الفهم اللفظي و أيضاً نمو قدرته العقلية العامة «الذكاء» و تنمية خلاياه و بروز قدراته مثل القدرات الرياضية العددية و غيرها و القدرة على الحفظ و رواية العلم و نشره و قدرته على حل المشكلات و التعامل الجيد معها و قدرته على التفكير المنطقي و القدرة على إدراك الأشياء بصورة استبصارية و القدرة على إدراك أوجه الشبه و أوجه الاختلاف و قدرات أخرى و تمايزها كالقدرة على التحليل و التفكيك و الربط بين الأشياء و الخبرات و المواقف و القدرة على التركيب و التقويم و النقد و إصدار الأحكام و أيضاً نمو قدرته على التأمل العقلي.

و قد أوردنا أكثر من نص في رغبة الإمام الحسن علیه السّلام في تأصيل التفكير و إدامة التأمل العقلي، كما انطوى النص السابق الخاص بالجلوس على مائدة علوم العلماء ربطاً بين حضور الناس لمجالسهم و نمو قدراتهم و في ذلك قال الإمام الحسن الزكي كما ذكرنا: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم».

كما أشرنا مسبقاً لمجموعة نصوص تعليمية عن العقل الفطري (الذكاء)، و يسميه الإمام الحسن بالعقل الموهوب و كذلك أشرنا للعقل المكتسب (العوامل البيئية) و توظيف قدراتهما في حركة بناء الشخصية و تطوير الواقع الإنساني.

ص: 52

و من أقواله التي عرضنا بعضها فيما تقدم:

فقال: ما العقل؟ فأجاب: «حفظ القلب كل ما استرعيته(1)».

و قال: «العقل خليل المرء(2)».

و قوله علیه السّلام: «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(3)».

و قال في نص آخر: «أسمع الأسماع ما وعى التذكير وانتفع به(4)».

و جاء عنه قوله علیه السّلام: «لا يغش العاقل من استنصحه(5)».

و قوله: «أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكر فإن التفكر أبو كل خير و أمه(6)».

و قال الإمام الحسن علیه السّلام: «حسن السؤال نصف العلم و مداراة الناس نصف العقل(7)».

و في نص قال علیه السّلام: «و العقل أفضل ما وهب الله تعالى للعبد، إذ به نجاته في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها و قد قيل إنهم وصفوا رجلاً عند رسول الله صلى الله عليه و آله بحسن عبادته فقال صلى الله عليه و آله: انظروا إلى عقله فإنما يجزى العباد يوم القيامة على

ص: 53


1- كلمة الحسن ص 60، و كتاب الروائع المختارة ص 138
2- المجلسي، بحار الانوار ، ج 71، ص 409 و كتاب ميزان الحكمة، ج 6 ص 404
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ص 111، كلمة الحسن ص 63، 201 و كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 131، ميزان الحكمة، ج 6 ص 434
4- تحف العقول عن آل الرسول، ص 170، كلمة الحسن ص 199 و كتاب الروائع المختارة ص 140
5- الروائع المختارة ص 142
6- كلمة الإمام الحسن ص 200
7- كلمة الإمام الحسن ص 68

قدر عقولهم و حسن الأدب دليل على صحة العقل(1)».

و قال علیه السّلام كذلك: «عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(2)».

و قوله: «عليكم بالفكر، فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(3)».

***

4. التعلم المهاري - العبادي

هذا النوع من التعلم له علاقة بنشاط جسم الفرد و نمو مهارات الحركية بنحو تصاعدي كالكتابة التي شددت عليها بعض نصوص الإمام الحسن علیه السّلام و كذلك المهارات البدنية - النفسية اللازمة لبعض الأعمال العبادية مثل مهارات أداء الصلاة اليومية و أيضاً مهارات آداب الطعام كغسل اليدين و الوضوء قبل أكل الطعام و مما يجدر التنبيه عليه أننا لم نوفق في العثور على نصوص عن مهارات النمو الحركي المترتبة عن مهارات رياضية محضة كركوب الخيل و السباحة و فنون القتال و الرياضات اليومية كالمشي، بينما وجدنا نصوصاً حركية ذات علاقة بالأهداف العبادية المباشرة.

و يمكننا عرض نموذج لنصين من كلمات الإمام الحسن عن التعلم المهاري - العبادي، حيث قال علیه السّلام:

«غسل اليدين قبل الطعام ينفي الفقر و بعده ينفي الهم(4)»

ص: 54


1- كلمة الإمام الحسن ص 62
2- كلمة الحسن ص 50
3- كلمة الإمام الحسن ص 238
4- الروائع المختارة، ص 129

و قال علیه السّلام: «في المائدة اثنتي عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها، أربع فيها فرض و أربع سنة و أربع تأديب.

الفرض: المعرفة، الرضا، التسمية، الشكر.

السنّة: الوضوء قبل الطعام، الجلوس على الجانب الأيسر، الأكل بثلاث أصابع و لعق الأصابع.

التأديب: الأكل مما يليك، تصغير اللقمة تجويد المضغ، قلة النظر في وجوه الناس(1)».

كل هذه المهارات يتم تكوينها بعمليات تدريب مستمرة و معززة.

***

5. التعلم الإتقاني

و مضمونه العام أن يقوم الأفراد بتعلم علم الآخرين و تعليم خبراتهم لهم بشكل مستمر و بممارسة دائمة معززة و هذا يؤدي بتكرار السلوك التعليمي و ممارسته و تعزيزه إلى نمو تصاعدي في الخبرة التي يداوم الفرد على تعلمها و تعليمها بنحو مترابط لا فكاك فيه و نذكر بنص حديث إتقان السلوك أو إتقان الخبرة دونما تفاصيل و لقد أكثرنا القول في موضوع «التعلم الاتقاني» و تحدثنا في مواضع متفرقة من هذا المبحث عن إتقان الخبرة التعليمية التي يمارسها الفرد «معلماً و متعلماً» في آن واحد و لا حاجة لنا إعادة الكلام و نستعيد فقط للتذكير بنص حديثه الشريف: «علم الناس علمك و تعلم علم غيرك فتكون قد أتقنت علماك و علمت ما لم تعلم» و هو أحد نصوص

ص: 55


1- الروائع المختارة، ص 129- 130

الإمام الحسن بن علي في التأكيد على هذا المبدأ.

6. التعلم الوجداني

و يعرف أحياناً «بالذكاء العاطفي» و هو نوع من التعلم الذي له صلة بتنمية المهارات الوجدانية كتبادل الحب و المودة معهم و مشاركة الناس في أفراحهم و أحزانهم و التعاطف الاجتماعي بينهم و تنمية القيم الأخلاقية الإيجابية التي تعز هذه المشاعر

كالكرم و المودة و التعاطف و الحب و غير ذلك، حيث يحاول العقل بفطرته السوية ابتكار أساليب تفعيل العاطفة الإنسانية لدى الطرف الآخر بطريقة إيجابية و تفعيل مشاعر الود و المحبة في العلاقات مع الناس، فالتعلم الوجداني حركة إنسانية إيجابية للحديث مع الناس بأساليب ذكية حضارية تقرب نفوسهم.

و من الأقوال في هذا المجال:

«يا بني لا تؤاخ أحداً حتى تعرف موارده و مصادره، فإذا استنبطت الخبرة و رضيت العشرة.. فآخه على إقالة العثرة و المواساة في العسرة(1)»، و في ذلك إشارة للمشاركة الوجدانية التي يؤكد عليها علماء النفس.

و قوله: «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم(2)».

و قوله علیه السّلام: «القريب من قربته المودة و إن بعد نسبه و البعيد من باعدته المودة و إن قرب نسبه(3)».

و في قوله أيضاً: «إذا ولد لأحدكم غلام فأتيتموه فقولوا له: «شكرت الواهب،

ص: 56


1- الروائع المختارة ص 126
2- الروائع المختارة، ص 126، رقم الحديث 2
3- الروائع المختارة ص 126- 127، رقم الحديث 5

و بورك لك في الموهوب، بلّغ الله به أشدَّه و رزقك بِرَّه(1)».

و يقول كذلك: «البخل جامع للمساوئ و العيوب و قاطع للمودات من القلوب(2)».

و عنه : «لا أدب لمن لا عقل له و لا مودة لمن لا همة له و لا حياء لمن لا دين له و رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(3)».

و قال: «لا تأت رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده أو تستفيد من علمه أو ترجو بركة دعائه أو تصل رحماً بينك و بينه(4)».

و في قول للإمام علیه السّلام لفظه: «أما الكرم فالتبرع بالمعروف و الإعطاء قبل السؤال و أمَّا النجدة فالذب عن المحارم و الصبر في المواطن عند المكاره و أما المروءة فحفظ الرجل دينه و إحراز نفسه من الدنس و قيامه بأداء الحقوق و إفشاء السلام(5)».

و قول الإمام الحسن الزكي بن علي سلام الله و صلواته عليهما: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(6)» و في نص مماثل قال: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً(7)».

ص: 57


1- الروائع المختارة ص 128، رقم الحديث 14
2- الروائع المختارة ص 128، رقم الحديث 15
3- الروائع المختارة ص 131، رقم الحديث 26
4- الروائع المختارة ص 132، رقم الحديث 31
5- الروائع المختارة، ص 141، رقم الحديث 92
6- الروائع المختارة ص 139، رقم الحديث 82
7- كلمة الإمام الحسن ص 49

و قال علیه السّلام: «لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليَّ من اعتكاف شهر(1)».

***

7. أماكن التعليم

كان التعليم في مجتمع المسلمين الأول و لقرون متتالية، يتم في أماكن محددة و لم يكن عصر الإمام الحسن استثنائياً، فقد عاش زمن جده المصطفى صلّی الله علیه و آله و قد أشار علیه السّلام في أثناء بعض الروايات و النصوص التعليمية إلى بعض أماكن التعليم السائدة في مجتمعه و يمكننا الوقوف عند إشاراته لأماكن التعليم في المدة الزمنية التي عاشها الإمام الحسن

المجتبى من خلال بعض النصوص التعليمية و باستعادة بعضها تجد الإشارات واضحة و هذه الأماكن التي تقام فيها عملية التعليم في مجتمع الإمام الحسن هي كما يأتي:

. البیت.

. المسجد.

. مجالس العلماء(2).

***

ص: 58


1- الروائع المختارة ص 139، رقم الحديث 81
2- كان من الممكن أن يشير الإمام الحسن إلى مؤسسات مكانية للتعليم و لكن الإمام علیه السّلام اكتفى بذكر الأماكن التي كانت شائعة في مجتمع عصره و ترك الإشارة لأماكن تعليم ليست قائمة في بيئته و سبب ذلك أنه علیه السّلام كان يخاطب الناس في زمانهم على عقولهم استجابة لحديث جده خاطبوا الناس على قدر عقولهم و وجد من غير المفيد عن أماكن تعليم ليست قائمة آنذاك.

أولاً: التعليم بالبيت

حينما نتأمل النصين الآتيين نجد إشارتهما بطريقة مباشرة إلى البيت في مجتمع الإمام الحسن كمكان للتعليم و التعلم فالإمام الحسن المجتبى كان يدعو أطفاله الصغار و أطفال أخيه للتعلم و التعليم و رواية العلم و حفظه و كتابته في البيت، جاء في النص

الأول:

«يا بني و بني أخي، إنكم صغار قوم و توشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(1)».

و نقل المعنى مع تغيير طفيف في ألفاظه نص حسني آخر فقال علیه السّلام: «تعلموا العلم فإنَّكم صغار القوم و كبارهم غداً و من لم يحفظ منكم فليكتب(2)».

و يلحظ في النص التربوي الثاني أنه خلا من تحديد مكان بعينه للتعليم كالبيت و طالما أن النص الأول ذكر البيت كمكان للتعليم و التعلم و أن النص الثاني أمر بالكتابة العلم و روايته فالمتوقع أن يتم في أماكن متعددة منها المسجد و البيت و مجالس العلماء و غير ذلك و من ثم فإن العبارة تغطي أماكن متعددة لإنجاز عملية التعلم و التعليم منها البيت و لا تعارض بينهما.

***

ثانياً: التعليم في المسجد

المسجد في عصر الإمام الحسن مكان طبيعي مألوف للتعليم لاسيما بعد أن اتخذه جده المصطفى مقرا للعملية التعليمية و إنجاز أنشطة عبادية و حياتية أخر و في أحد

ص: 59


1- كلمة الإمام الحسن ص 68
2- الروائع المختارة ص 131

نصوصه و أحاديثه ذكر الإمام الحسن المسجد كمقر المجال التعليمي و ذكر فوائد التردد على المسجد و تضمن هذا الحديث الكريم ثمان فوائد لدخول المسجد و التردد عليه و كان اكتساب العلم إحدى هذه الفوائد و ثمار الارتباط بهذا المكان المقدس لدى المسلمين و معنى ذلك أن المسجد هو مكان للتعلم و هو ما كان سائداً في عصره و ظل مكاناً للتعليم في المراحل الزمنية اللاحقة.

و نستعيد نصاً سابقاً و نلحظ إشارته للفوائد التي يكتسبها الفرد في المسجد منها العلم، جاء في النص: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان:

«آية محكمة و أخاً مستفاداً و علماً مستطرفاً و رحمة منتظرة و كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى و ترك الذنوب حبّاًأو خشية(1)».

***

ثالثاً: مجالس العلماء

يقول الإمام الحسن الزكي علیه السّلام:

«من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(2)».

و يستخدم النص التعليمي عند الإمام الحسن بوضوح تام تعبير «مجالسة العلماء» و في ذلك إشارة لأماكن التعليم دون تحديد لاسم مكان معين، فالتعبير المذكور غير محدد، بيد أن مجالسة العلماء لن تكون فحسب في بيت أو مسجد و قد تكون في خاصة يمكن تسميتها مجالس العلماء التي هي أكثر سعة و شمولية من التحديد السابق الذي

ص: 60


1- كلمة الإمام الحسن ص 41 و كتاب الروائع المختارة ص 127- 128
2- الروائع المختارة ص 134

يذكر البيت فقط أو يذكر المسجد، فالمجالس العلمية -و هي إشارة أماكن متعددة- و أكثر سعة، بحيث تغطي أماكن عديدة في مجتمع الإمام الحسن كالبيت و المسجد و أماكن الخلاء و واجهات المنازل و فضاءاتها و من هنا فإن نص الاختلاط بالعلماء و حضور مجالسهم ينسحب على الأماكن المذكورة و أماكن نجهلها كالتعليم تحت ظلال الأشجار في الخلاء أو المزارع و إن كنا لا نملك حتى الآن دليلاً تاريخياً على ذلك.

ص: 61

ص: 62

الحلقة الثانية

اشارة

المبادئ التربوية للتعلم و التعليم

في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي

ص: 63

ص: 64

المبادئ التربوية للتعلم و التعليم في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي

مدخل

إنَّ لكل نظرية في المجال السيكولوجي كالنمو النفسي و قوانين الإدراك و غيرهما مبادئ تنظيمية تتيح للفرد الاسترشاد بها و ضبط أدائه، فكذلك هناك مبادئ تربوية عامة في المجال التعليمي و نقصد ضبط الأداء التعليمي للفرد و ترشيده منذ المراحل الأول للتعلم و التعليم و لهذا ترتكز الأهمية التربوية لهذه المبادئ في قدرة هذه المبادئ على ضبط عملية التعلم و التعليم و تنظيمها و التحكم بحركة المعلم و أداء المتعلم بمجموعة قواعد إرشادية و تنظيمية و تحقيق التلاؤم المطلوب بين هذه المبادئ العامة و سيكولوجية الإنسان.. معلماً و متعلماً.. و سلوكهما في الموقف التعليمي.

إن مجموعة المبادئ التربوية التي تحكم «العملية التعليمية التعلمية» ليست من صنع العقل التربوي المعاصر و ليست من إسهامات الثقافة التربوية الحديثة حتى و إنْ أقررنا بإبداعاتها، فالعقل البشري عبر امتداداته الزمنية و فعله الحضاري التراكمي قد

توصل لمجموعة من المبادئ الاسترشادية الحاكمة للفعل التربوي و التعليمي، كما أنّ الأديان المنزلة و لاسيما الإسلام قد أدركت هذه المبادئ و أتاحت للنخب العلمية من الجنسين التفاعل معها و استثمار قيمتها العلمية و التربوية في ضبط السلوك التعليمي و يأتي أئمة أهل البيت عليهم السّلام و منهم كريمهم أبو محمد الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام في مقدمة من نص في خطابه التربوي على بعض المبادئ التي تحكم عملية التعلم و التعليم و ينتظم عليها أداء الكائن الآدمي معلماً و متعلماً على حد سواء، فخطابه امتداد لخطاب جده و أبيه و المنهج القرآني في بناء الذات و حركتها في مجال الأداء التعليمي بوجه عام.

ص: 65

و إذا ما قرأنا الخيوط العامة للتراث الثقافي و التربوي للإمام الحسن سنجد هذه المبادئ واضحة و جلية فيها سواء أكانت نصوصاً مباشرة أحياناً أم نصوصاً غير مباشرة في أحيان أخرى و تحتاج فقط إلى من يتصدى من الباحثين لمهمة اكتشافها و صياغتها بلغة جديدة و مشوقة و مبنية على خطاب تربوي له جاذبية مؤثرة في العقل المعاصر، فالحالة النفسية و العقلية لكثير من أفراد الأجيال الجديدة تجد بينها قد لا تعنى بالأساليب الثقافية السائدة في تراثنا الحضاري المجيد بفعل تدخل خارجي في بناء ذهنية هذه الأجيال بطريقة عصرية.

و من المؤكد أنه يصعب الحديث عن بناء «نظرية في التعلم و التعليم» أو جوانب مهمة منها عند الإمام الحسن بن علي عليه السّلام من دون الحديث عن إشاراتها للمبادئ التربوية العامة التي تحكم السلوك التعليمي لدى الأفراد و لهذا فإن النصوص التعليمية في خطاب الإمام الحسن السبط عليه السّلام و كلماته القصار هي في نظرنا إشارات معلنة و مدثرة لمجموعة من المبادئ التربوية التي تنتظم على أساسها العملية التعليمية- التعلمية في حياة الكائن الآدمي و ما نحاول التعرف عليه في هذا المبحث هو في نظرنا مجرد عمل اجتهادي قد لا نكون موفقين إليه كما ينبغي و مع ذلك رأينا البحث في سياقات اجتهادنا الشخصي عن بعض المبادئ التعليمية الضابطة لسلوك الأفراد في المواقف التعليمية هي خطوة ضرورية لكشف جانب من النظرية التربوية عند الإمام الحسن و من هذه المبادئ ما جاء بلغة واضحة و مباشرة و منها ما استنبطناه من النص بطريقة غير مباشرة.

***

ص: 66

و من هذه المبادئ:

أولاً: مبدأ التعزيز

و يعني إمداد الفرد و بخاصة «المتعلم» بحاجته من المكافأة المناسبة في الموقف التعليمي سواء بمكافآت مادية أو بكلمات معنوية معززة كعبارات الثناء و الشكر و الدعاء للفرد بما يحقق إليه شعوراً بالارتياح و الرضا النفسي و هذا في حد ذاته يثير لدى الفرد المتعلم دافعيته في التعلم فيزيد من نشاطه و إصراره في تكوين الاستجابة التعليمية المطلوبة التي تؤدي إلى نمو الخبرة التعليمية الإيجابية بطريقة تصاعدية.

إن التعزيز عنصر إيجابي مؤثر في عملية التعلم، فهو يستثير همة الفرد من داخله و يحرك الدافعية للإقبال عليه بهمة و نشاط و جهد أكثر تنظيماً و إذا ما تأملنا نص الإتقان و نمو الخبرة التعليمية الجديدة أو إتقانها نجد أن الإمام الحسن السبط أراد أن يشير إلى أحد أشكال التعزيز و هو في الوقت ذاته إشارة لأحد أهم مبادئ التعلم في الخطاب التربوي للإمام الحسن الزكي، فإتقان التعلم الذي يشدد عليه النص هو بحد ذاته «نوع من السلوك التعليمي المعزز» لدى الفرد و كذلك دعوة ل- «تعلم خبرة جديدة» معززة تزيد من قناعة الفرد بأهمية التعلم و متابعته و المواظبة عليه بأداء تراكمي، فاكتمال الخبرة الناقصة و استكمالها بالمران و الممارسة المعززة و تعلم الخبرات الجديدة له دلالته الإيجابية على النفس البشرية، مما يحملها على المتابعة و الاستمرار حتى استكمال الخبرة الناقصة و البدء في تعلم خبرة جديدة و من هنا فالتعزيز من العوامل المحفزة و المؤثرة على عملية تعلم الأفراد و تعليمهم.

و يؤيد هذا الفهم ما جاء في تفسير الإمام الحسن الزكي لقوله تعالى:

«ربَّنَا اتنا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ».

ص: 67

فقال: «هي العلم و العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة(1)»، فقد عدّ الإمام الحسن الزكي بن علي اعتبر «العلم» بأسره خبرة معززة لخبرات التعلم ذاته باكتساب الناقص منها و الاستمرار في التقدم لاكتساب المزيد من نسب إتقان أكثر للمادة المتعلمة و تعلم ما هو جديد و بالمفهوم العام عدّ الإمام الحسن العلم «حسنة» في الدنيا، أما في الآخرة فيثاب المرء بالمواظبة على اكتساب العلم في دنياه و من ثم كسب العلم في الدنيا حسنة للفرد و ثواب الله له في الآخرة حسنة أخرى معززة.

***

ثانياً: مَبْدَأ التوازن بين الحاجات

جميع حاجاتنا البشرية هي مزيج من التكوين الفطري و الممارسة أو الإشباع الاجتماعي المتنوع، فالمؤكد أن الحياة البشرية لها ثوابتها المحددة التي تتمثل في القابليات الوراثية و هي ما نولد مزوّدين بها و للحياة البشرية في جانبها الآخر صوراً تعبيرية متغيرة من مدة إلى أخرى على وفق مثيرات حياتنا و عالمنا الخارجي و هي مختلفة مكان إلى أخر و من بيئة لأخرى، فعلى سبيل المثال يمكن لحاظ الرغبة في «المسكن» حاجة فطرية لدى الإنسان في كل زمان و مكان، لكن يتم التعبير عنها بصور مختلفة من زمن لآخر و من بيئة مكانية لأخرى، فبعض البشر يبنون مساكنهم من الخيام و يعيش آخرون في كهوف و يبني قسم ثالث من الناس بيوتهم في أزمنة مختلفة و متتالية من الخوص و سعف النخيل، بينما يبني آخرون مساكنهم بأدوات البناء الحديثة، فالصور المعبرة عن الشكل الخارجي للبناء متغيرة و لكنها في النهاية معبرة عن رغبة فطرية و حاجة ثابتة في تكويننا النفسي و ما انطبق على حاجتنا للمسكن، ينطبق كذلك على

ص: 68


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 238

سائر الحاجات الفطرية و الفسيولوجية و الاجتماعية أو النفسية كالحاجة إلى التعلم ينطبق على حاجات عديدة.

ف «الرغبة في التعلم» تمثل حاجة فطرية في التركيبة الآدمية و هي ثابتة في التكوين الفطري الإنساني و لكن فعل «التعلم» كسلوك اجتماعي و كأداء تربوي يتم اكتسابه بفعل التفاعل بين القابليات الفطرية و بين عناصر البيئة الاجتماعية التي يعيش في كنفها الأفراد و تمارس دورها منذ الصغر و يعبّر عنها بصور مختلفة، كالتعليم الديني أو المهني أو تعلم الصناعات أو تعلم العلوم الحديثة، فالقابلية للتعلم فطرية و ثابتة في كياننا الإنساني يتم التعبير عنها بصور مختلفة، أي أن صور الإشباع متبدلة من زمن لآخر و مختلفة من مكان لآخر مع ثبات الرغبة ككيان أصيل في داخلنا البشري.

فالتعلم كرغبة داخلية مركوزة في التكوين الفطري و هي إحدى القابليات و الاستعدادات الداخلية التي نرثها دونما تدخل من أحد سوى خالق النفس و لهذا فإن التعلم و طلب العلم -كرغبة داخلية- تجسد بالنسبة للإنسان حاجة رئيسة فطرية لكنها لن تكتمل في حركها إلّا بالتحقق في عالم الوجود الاجتماعي، أي أن التعلم كحاجة إنسانية هو في النهاية مزيج من الاستعداد الفطري الداخلي و الممارسة التعليمية المستمدة من البيئة الاجتماعية التي تكسبه في النهاية إشباعاً معيناً بقدر محدد وفقاً لظروف تكوينها التدريجي، فهناك من يميل على تعلم ديني و آخر لتعلم مهني و قسم ثالث و رابع ينحو نحو تعلم صناعي و زراعي و غير ذلك.

و نظراً لأهمية حاجة الإنسان للتعلم ركز خطابه التربوي على إشباعها و طالب الإمام الحسن علیه السّلام أن تأخذ حظها من الإشباع السوي بتوازن تام لا حيف فيه و لا اضطراب كما يفعل بعض الناس، حيث يميلون -كما شاهد الإمام الحسن بنفسه- إلى

ص: 69

سلوك غير متوازن في إشباع حاجاتهم للتعلم و في مجالات أخر و هو سلوك يتجاوز الإشباع السوي لبعض الحاجات الجسدية على حساب الإشباع للحاجات المعنوية.

و الحاجة للتعلم في صدارة الحاجات المعنوية التي لا تأخذ حظها من الاهتمام في خطابه كما سيبينه نص واصح لديه، لذلك كان هذا السلوك (أي الاشباع غير المتوازن للحاجات) موضع انتقاد الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام و طالب في نص له تحقيق توازن في إشباع الحاجات الجسدية و التعليمية و تجنب مخاطر الإشباع غير المتوازن.

يقول الإمام الحسن علیه السّلام في إشارته الواضحة لمبدأ التوازن في إشباع حاجات الكائن الآدمي بشقيها المادي و المعنوي:

«عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(1)»، و سنناقش هذا المبدأ في الحلقة الخاصة بالحاجات الإنسانية و بخاصة في عنوانها الفرعي «خصائص الحاجات الإنسانية(2)».

***

ثالثاً : مبدأ التعلم المستمر

توحي كلمات النص الذي أسميناه بنص «الإتقان» بأن الإمام الحسن الزكي دعا للعمل بمبدأ التعلم المستمر أو التعلم على مدى الحياة، حيث يحثهم هذا النص الحسني كالنصوص الأخر على التعلم المستمر و عدم انقطاعه مدى الحياة، فكلماته «علم و تعلَّم و أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم» تشير إلى المراتب التصاعدية المستمرة

ص: 70


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 50
2- انظر الحلقة الخامسة (حلقة الحاجات الإنسانية) من هذا الكتاب.

في عملية التعلم و في أداء الفرد التعليمي و في نمو الخبرة التربوية الهادفة على امتداد العمر، بحيث لا تتوقف جهود الفرد في عمليات التعلم و التعليم في كل مراحل نموه المختلفة و بخاصة أن الإمام علیه السّلام دعا أبناءه و أبناء أخيه إلى التعلم و هم صغار و أبلغهم أنهم اليوم صغار قوم و يوشكوا غداً أن يكونوا كبار قوم في زمن لاحق و هنا يجعل التعلم في نظر الإمام الحسن أداءً تراكمياً في تواصل لا ينقطع منذ الصغر حتى مراحل متقدمة من العمر و هي ما سماها الإمام الحسن علیه السّلام ب- «الكبر» و أنه بين مرحلة الصغر و مرحلة الكبر «تعلم لا يتوقف و تعليم لا ينقطع، فكلاهما جهد بشري يعبر عما يسميه علماء التعلم و علماء النفس التعليمي بالعملية التعليمية- التعلمية و هذا ما أكده الإمام الحسن منذ النصف الأول من القرن الهجري الأول حينما قال علیه السّلام: «علم الناس و تعلّم علم غيرك».

و هذا الخطاب موجه للإنسان مسلماً أو غير مسلم، معلماً أو متعلماً و هذا بكل تأكيد لا يحدث عادة إلا بالرغبة في التعلم و الممارسة و التعلم المستمر الذي قد يستغرق العمر كله أو على أقل تقدير مدة كافية من الزمن حتى يتم تكوين الخبرات المطلوبة و حتى يتمكن الفرد من تنمية رغبة لديه في التعلم بلا انقطاع.

و مما هو جدير بالانتباه و الذكر أن هذا المبدأ يؤكد أن عمليتي «التعلم و التعليم» متلازمتان في حياة الفرد و لا ينبغي انقطاعهما، فيكون الفرد «عالماً و متعلماً» في زمن واحد متصل و توحي المفردات اللغوية للنص المشار إليه بالأدوار التعليمية بطريقة تبادلية للفرد، فيظل الفرد يتعلم خبرة تعليمية من أحد و يقوم في الوقت نفسه ب- «تعليم غيره» و يستفيد من تجاربه في تنمية خبرة لم تكتمل أو تعلم «خبرة جديدة» لم يعلمها بعد.

ص: 71

رابعاً: مبدأ الفروق الفردية

و يسميه بعض علماء النفس التربوي المعاصرين ب- «التمايز»، أما في القرآن الكريم فيعرف في مفهومه العام ب- «الوِسْع» انسجاماً مع قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا الله وُسْعَهَا) و في بعض الأحاديث النبوية يسمى ب- «قدْر عقولهم» «القول النبي صلى الله عليه و آله: «إِنَّا معاشر الانبیاء أُمِرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم(1)» و ما جاء في حديث لحفيده الإمام الحسن كما سيأتي في أحد نصوصه التربوية و قد اقتدى أثر جده المصطفى في استخدام اللفظ بمعناه التربوي.

و يقصد بهذا المصطلح أن الأفراد على اختلاف ألوانهم و ألسنتهم و أعمارهم و جنسياتهم متمايزون في قدراتهم العقلية و مختلفون في ذكائهم و استعداداتهم العقلية و تجاربهم الثقافية و التربوية و الاجتماعية و في التفاعل مع مثيرات البيئة الخارجية و متغيراتها و أن لهذا التمايز أو الاختلاف الفردي أو الوسع مدى بين أقل درجة و أكبر درجة، بين أقصر شخص مثلاً و أطول شخص تتوزع درجات الطول بين الناس و هكذا في كل الصفات و السمات، فكما أن الصفات الجسدية كالطول ليست واحدة بين الأفراد، فكذلك طباعهم الوجدانية و الاجتماعية و سماتهم العقلية ليست متساوية و لا يحتاج المرء إلى كثير قول لمعرفة ذلك و إدراك الفروقات بين سمات الأفراد و صفاتهم في مجالات مختلفة من شخصياتهم.

و مما تقدمت الإشارة إليه فإنَّ الإمام الحسن الزكي علیه السّلام قاله في نص بظاهرة الفروق الفردية و تعبيره في النص المذكور «قدْر عقولهم» تعني التباين بين الأفراد في الذكاء كقدرة عقلية فطرية و هو أمر يترتب عليه اختلاف في مستويات التفكير فيما بعد و نوعيته

ص: 72


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 25

الإنتاجية و لا يوجد أحد منَّا بحاجة لدليل إثبات أو برهان بأن الأفراد متفاوتون في قدراتهم العقلية الفطرية أو ذكائهم و مستويات تفكيرهم و إنتاجهم الثقافي و العلمي.

و في نص قال الإمام الحسن علیه السّلام: «و العقل أفضل ما وهب الله تعالى للعبد، إذ به نجاته في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها و قد قيل: إنهم وصفوا رجلاً عند رسول الله صلى الله عليه و آله بحسن عبادته، فقال صلى الله عليه و آله: انظروا إلى عقله فإنما يجزى العباد يوم القيامة على قدر عقولهم و حسن الأدب دليل على صحة العقل(1)».

و يلحظ من النص ما ذكرناه من نقاط سبع عند حديثنا عن وظيفة العقل الفطري أو ما يعرفه الناس بالذكاء و هي إشارته للذكاء الفطري أو العقل الموهوب الذي نولد به أو نولد مزودين بها كأفضل ما وهبنا الله تعالى و أنه يتم تنمية الذكاء الفطري أو العقل الوظيفي و قدراته و إظهار تمايزها في مراحل من نمو الفرد من خلال العلم أو التدريب و الممارسة المعززة و أن العلم حسنة كالعبادة تماماً، لكن الحكم على المرء بحسن عبادته مرهون بالنظر إلى عقله لأنه يجزى به يوم القيامة و أن للعقل وظيفتين.. تنمية القدرات العلمية في عالمنا الدنيوي الذي نعيشه و استخدام قدراته و توظيفه للنجاة في الدنيا من آفاتها و سلامته في الآخرة من عذابها.

كما أن «العقل الإنساني» في نظر المشرع التربوي الإسلامي هو أساس المسؤولة و الجزاء الأخروي كما في الدنيا و أن مجازاة الناس يوم القيامة يكون على قدر عقولهم و في ذلك إشارة إلى تمايز قدرات الناس العقلية التي يسميها علماء النفس التربوي بظاهرة «الفروق الفردية» بين الناس أو التمايز، أما حسن الأدب و هو أحد نواتج التربية و جهدها و اهتمامات العلم فهو دليل على صحة العقل و سلامته و يراد من ذلك استثمار

ص: 73


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 62

الذكاء و العلم معاً في تحقيق تربية أخلاقية و روحية تجسد سلامة العقل و نجاح الفرد في تحقيق هدفي العقل .. الوظيفي و العبادي.

***

خامسا: مبدأ إتقان السلوك أو الخبرة التربوية

هذا المبدأ من أوضح ما تحدث عنه أحد النصوص التعليمية البارزة التي نطق بها الإمام الحسن و عدّت أحد أهم نظريته التربوية و التعليمية و أبرزها و جاءت الإشارة الى مبدأ إتقان السلوك و اكتمال تكوين الخبرة بالممارسة المعززة في المقطع الثاني من قوله علیه السّلام: «علِّم الناس و تعلم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم».

و يؤكد هذا المبدأ على أن قيام الفرد بالتعلم و التعليم بطريقة تبادلية في ترتيبها الزمني و في ظروف متعاقبة ينمي لدى الفرد «الخبرة» و يستكمل نواقصها و يبلغ بها تدريجياً و بالممارسة المعززة مستوى «الإتقان»، كما يؤكد هذا النص التربوي على تعلم الفرد لخبرات جديدة و كلاهما يعزز كما ذكرنا عملية التعزز و يجعلها مفيدة للفرد أو المتعلم و يثبت مبدأ الإتقان بأن الخبرة العلمية الناقصة تكتمل بالممارسة و تعليمها للآخرين فتثبت في الذاكرة و ترسخ و تكون أقوى من وضعها السابق و هو أمر يهيّئ الفرد لتعلم خبرات جديدة بالضرورة؛ لأنَّ الدعوة إلى إتقان الخبرة بمزاولة العملية التعليمية- التعلمية و ممارستها دونما انقطاع أو توقف و هذا يعني أنها في وضعها السابق خبرة غير مكتملة و تحتاج لتمكينها و ترسيخها إلى الاستمرار في ممارسة العملية التعليمية- التعلمية، فيزيد رصيد خبرة الفرد السابقة تدريجياً، فكلما باشر استخدام علمه و خبرته زاد من ثباتها و ترسخها أكثر و بتتابع هذه الممارسة يتقن الفرد في نهاية الأمر و يتمكن من جعلها خبرة كاملة، كما يتعلم في الوقت نفسه خبرات جديدة لا علم

ص: 74

بها و هذا ما جاء في متن النص التربوي الحسيني.

و تدل كلمات مباشرة في النص الحسني المذكور على مبدأ إتقان السلوك لتصل لمستوى خبرة مكتملة، فكلمتا «أتقنت علمك» الواردتين في المقطع الثاني من النص المذكور آنفا و تشير كلمتاه المذكورتين إلى تغير تدريجي تصاعدي في مستوى الخبرة

و نموها من خبرة غير مكتملة إلى مستوى خبرة مكتملة، و تستقر عند مستوى اكتمال الخبرة التربوية و قد عبّر النص عن اكتمالها بكلمتيه «أتقنت علمك» و هي مرحلة تعليمية تمهد لتعلم جديد أو توظيف ما أتقنه المتعلم في الكشف عن جديد بطريقة إبداعية غير مألوفة.

***

سادساً: مبدأ تكرار السلوك

هذا مبدأ يكرره علماء النفس و نقصد هنا بالمبدأ المذكور «التكرار الهادف بوصفه ممارسة منظمة تجعل التعلم يتم على مراحل موزعة بينها فواصل زمنية للراحة و هو في الوقت ذاته جهد متواصل يستمر المتعلم في القيام به حتى ينتهي إلى إتقان الخبرة المراد تعلمها أو تكوين «المفاهيم» التعليمية المطلوبة في عقل الإنسان «و التي يحتاجها في تنظيم حركة حياته»، فكل محاولة تزيد من نسبة الخبرة التي يبتغيها، فالتكرار الموجه و الهادف عملية بناء تدريجي للخبرة و الاقتراب بها من دائرة الثبات و الرسوخ(1)»

و هذا ما يجسده تماماً نص إتقان التعلم في الخطاب التربوي عند الإمام الحسن الزكي علیه السّلام.

و لا يمكن للتعلم أن يحدث من بدون تكرار السلوك و إعادة الاستجابات

ص: 75


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 324- 325

التعليمية، فلا يحدث التغير شبه الدائم كما يقول التربويون «في سلوك الأفراد إلّا بالتكرار و إعادة التعلم مراراً حتى يتقن نهائياً(1)»، فالممارسة المقصودة التي أكدتها بعض النصوص التعليمية لدى الإمام الحسن كما في نص الإتقان السالف الذكر هي ممارسة هادفة و معززة، فهذا النص -كما تقدم- تضمن في محتواه تكرار الأداء الهادف المعزز حتى ينتهي إلى تكوين خبرات تعليمية مقصودة إمّا بإتقان متزايد في النسب الكمية للخبرة التي يتم تكرار الإتيان بها فيحدث التعلم في خبرة ناقصة، أو يتم تعلم «خبرة جديدة» و رسوخها بالطريقة ذاتها .

و نلفت نظر القارئ إلى ما قلناه في مواضع متفرقة و لاسيما في أقوالنا عن نص الإتقان في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام عما تضمنه هذا النص من تأكيد معلن و مبطن على تكرار الفعل التعليمي و الاقتران و الربط بين خبرات سابقة و خبرات لاحقة، فهذا الربط ضرورة كي «تكون حركة التعلم الأولى صحيحة و متقنة لأنّ صحة الحركة الثانية متوقفة عليها و لأنَّ أثر الخبرة السابقة ينتقل إلى الخبرة اللاحقة و هكذا يفيد التعلم السابق في تعلم ما هو جديد إذا كان بينهما عنصر تماثل أو تداخل(2)»، فيكون أحدهما مؤثراً و يكون الآخر متأثراً.

و نعود إلى نص إتقان الخبرة التعليمية القائل: «علّم الناس و تعلَّم علم غيرك تكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم» فنقول أنه إنطوى على الأمور الآتية:

وجود التدريب الذي عبر عنه النص بكلمتي «علّم و تعلَّم» و هذا ما يسمى اليوم بالعملية التعليمية- التعلّمية.

ص: 76


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 324
2- یوسف مدن، مصدر السابق ص 268

تدعيم (خبرة) علمية عند المعلم إلى مستوى الإتقان.

تعلم خبرة جديدة(1) و هذا ما عناه الإمام علي بالعلم المستفاد حينما قال علیه السّلام: «و في التجارب علم مستفاد(2)».

***

كما أن تأكيدات الإمام الحسن علیه السّلام في نصوص تربوية أخرى، ففي حديثه عن مخالطة «العلماء» يؤكد دعوة صريحة على الإكثار من مجالستهم، فالنص المذكور لا يقصد من المخالطة حضور جلسات العلماء مرة واحدة أو اثنتين أو ثلاث و إنما مخالطتهم دائماً و حضورهم المستمر لجلساتهم كي تؤدي هذه الجلسات دورها التربوي المفيد في إنجاح العملية التعليمية- التعلمية لدى الكائن الآدمي و يراد من ذلك أن تكون مجالسة العلماء «مختبراً لتدريب الذات و تنمية طاقاتها الفطرية» و يكرر فيه السلوك التعليمي المراد تكوينه حتى تبدأ الخبرة في التكوُّن و الظهور و الإتقان السهل، فالتكرار الذي استنبطناه من حديث الإمام الحسن علیه السّلام في نص الإتقان و مجالسة العلماء و تكرار التأمل العقلي و ديمومة التفكر يسهل على المتعلم الاستجابة الناجحة بتقليل تدريجي للأخطاء و تلقائية الأداء و سهولته و تقليل زمن وقوع الفعل التعليمي المتقن و من ثم فإن تكرار السلوك في نصي إتقان التعلم و مجالسة العلماء هو في حقيقته مداومة هادفة و مقصودة و معززة على التعلم و التعليم و التدرب عليهما و هي مداومة تنتهي بنمو الخبرة المربية و تكوينها .

جاءت نصوص الإمام الحسن علیه السّلام في الحث على مجالسة العلماء و ديمومة التفكير:

ص: 77


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 262
2- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ج 1 ص 50

«من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(1)».

«عليكم بالفكر، فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(2)».

«أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكر فإنَّ التفكر أبو كل خير و أمّه(3)».

«يا بني و بني أخي، إنّكم صغار قوم و توشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(4)».

***

سابعاً: مبدأ التغذية الراجعة

كما دل النص التربوي الحسني بطريقة مباشرة على إتقان الفرد للخبرات العلمية التي يمارسها بمواظبة و تكرار و تتابع فإنه يدرك بجهوده الذاتية أنه «أتقن» خبرته أو أتقن علمه و بذلك يشير النص المذكور بأن الفرد يدرك مدى إتقانه في مراحل من تجاربه التعليمية و يفرق بين مستوى أقل و مستوى أقل من خلال ما يعرف في علم النفس بمبدأ «التغذية الراجعة» الذي يتيح للفرد العالم و المتعلم على حد سواء أن يعرف مقدار تقدمه العلمي (ما أتقن و ما لم يتقن) بعد تكرار الممارسة و تقويمها و هذا يعني أن المرء يجب أن يعرف نتيجة عمله و أن يتعلم من جملة ما تعلمه من خبرات نتيجة ممارسة علمه مقدار ما أتقن و مقدار ما تبقى و ما لم يتقنه بعد، فإذا كان يتعلم حفظ

ص: 78


1- الموسوي، كتاب الروائع المختارة ص 134
2- السيد الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 238
3- الموسوي، الروائع المختارة ص 129
4- السيد الشيرازي،كلمة الإمام الحسن ص 68

نص سورة قرآنية مكونة من آيات محددة رقمياً كعشر آيات على سبيل المثال فإنه بتكرار قراءة الآيات و تفسيرها بين حين و آخر يعرف أنه أتقن قراءة آيات سبع من نص السورة و حفظها و تفسيرها و أنه أدرك بحاجة لممارسة جهد متتابع لاستكمال خبرته بالنص الكامل للسورة.. قراءة و حفظاً و تفسيراً و بعد اكتمال خبرته قد يطور فهمه لمعنى آيات السورة و يطرح رؤية جديدة غير مسبوقة و هكذا فإن الفرد بتكرار علمه يعرف نتيجة عمله و يدرك مقدار ما أتقن و ما لم يتقن.

و تنطوي كلمتا «أتقنت علمك» الواردة في حديث الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام على هذا المعنى العام، فالفرد في سياق النص يكون قد عرف ما علمه من خبرة و معرفة ما يعلمه منها بنسب محددة تقريبية و بتزايد نمو الخبرات و تزايد مستويات الإتقان في تعلم خبرة معينة ترتفع نسبة الإتقان حتى تكتمل الخبرة و تصل إلى مداها الأقصى، بحيث تكون المعرفة كاملة و سهلة و تلقائية و راسخة في العقل و الذاكرة.

و هكذا فإن الفرد في الموقف التعليمي أستاذاً عالماً أو متعلماً يكون هو من يفحص معرفته باستمرار و يدرك الخبرة ما أتقن و ما لم يتمكن من إتقانه، فيبني على هذا «القدر من العلم» بمستواه خطوة جديدة لاحقة لتطوير قدراته على إتقان الخبرة التربوية التي

يسعى إلى الوصول بها إلى الكمال النهائي.

***

ثامناً: مبدأ الاقتران بين الخبرات التعليمية

و هذا المبدأ هو أيضاً من المبادئ التربوية التي يتم اكتشافها عادة عن طريق الملاحظة الدقيقة و الخبرة التخصصية للباحث، فالإتقان بين حالاته يتم في سياق الترابط و الاقتران بين مستويات من الخبرة التعليمية الواحدة و بينها و بين خبرات جديدة تتكون بالممارسة

ص: 79

و بانتباه المتعلم و تركيزه و التأمل فيه بنظرة ثاقبة .

و نعود من جديد إلى قوله عليه أفضل الصلاة و السّلام فيما سميناه بنص «الإتقان»، حيث قال: «علم الناس، وتعلَّم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم».

و يلحظ الاقتران بين نوعين من الخبرات التربوية، فالتعلم يقترن بالتعليم تعلم من المتعلم و نشاط تعليمي يقوم به الشيخ الأستاذ العالم المعلم و في سياق العلاقة بين عمليتي التعلم و التعليم يتم الاقتران بين الخبرة المتقنة و بين الخبرة الجديدة، ذلك ارتباط مقدمات و نتائج و يترتب عن هذا الاقتران ارتباط بين ما أتقن في موقف سابق بما يتقن في موقف لاحق، لهذا يمكن القول: إنَّ هناك ارتباطاً و اقتراناً بين مستويات الخبرة التربوية الواحدة التي يتم تعلمها بين مستوى سابق و مستوى لاحق، فإذا ما قام الفرد بتعليم الناس و تعلّم -في الوقت نفسه- علم غيره و إذا ما كان قد بلغ نسبة إتقان أقل لخبرة تعليمية معينة فإنه بالممارسة المعززة تزداد نسبة هذا الإتقان في موقف تعليمي لاحق و بذلك يكون هناك مستوى لاحق من الإتقان قدره (80٪) مرتبط بمستوى سابق من الإتقان قدره (70٪) و هكذا تترابط مستويات الإتقان للخبرة التربوية الواحدة، و تقترن أجزاؤها المتأخرة بالأجزاء المتقدمة حتى توشك أن تبلغ نسبة الإتقان بصورة تصاعدية (100٪).

و توحي هذه العلاقات الاقترانية المستمدة من نص «إتقان التعلم» بنتائج إيجابية تصنع حالة من التغير في أداء الفرد من مستوى أقل إلى مستوى أعلى تنتهي بأمرين:

معرفة الفرد نسبة «ما أتقنه» من مستويات الخبرة التربوية و نسبة ما «لم يتقن» و متابعة ذلك حتى الإتقان الكامل.

تعلم خبرة جديدة.

ص: 80

تاسعاً: مبدأ التدرج في تكوين الخبرة

كما تقدم فإن المصادر التي ذكرناها نوهت بوجود نصين لها علاقة بعملية نمو الأفراد و انتقالهم من مرحلة الصغر إلى مرحلة الكبر، و اكتفى النصان بمعناهما الإجمالي دون تفاصيل و تركا لنا التفاصيل مجاراة لظروف حياتنا و مثيرات بيئتينا الداخلية و الخارجية، حيث ذكر الإمام في نصيه لتوجيه أبنائه و أبناء أخيه الحسين أنهم أبناء صغار قوم و يوشك أن يكونوا غدا كبار قوم على وفق قواعد النمو الإنساني المعتاد و ذلك كما أشارت إليه عملية النمو النفسي من مرحلة الطفولة بمراحلها المتفرعة إلى مرحلة الكبر و أحكام التكليف الشرعي بمراحلها الفرعية الداخلة في نطاقها و هاتان المرحلتان يتفرع عنهما مراحل نمائية صغيرة و تشهد تغيرات نمائية تساعد تدريجياً على معرفة مستويات النضح في حياة الأفراد و فهم طبيعة هذه التغيرات و تفسر لنا كثيراً من أوجه الشبه و الاختلاف بين الناس حتى في شخصية الفرد الواحدة من مرحلة سابقة لمراحل لاحقة.

و ممّا يلحظ أن جوانب النمو المختلفة للفرد تشهد في حركتها تغيرات بطيئة حيناً و سريعة حيناً آخر من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لكنها بوجه عام تخضع في الموقف التعليمي الذي يعنينا في هذا المبحث لمجموعة مبادئ و من أهمها مبدأ التدرج و يمكن تحديد معناه بأنه توزيع جهد المربي و المتعلم و توزيع الموقف التعليمي إلى خطوات متتابعة يبدأ فيها الفرد بتعلم الخطوة السهلة و إتقانها، ثم ينتقل لما بعدها التي تحتاج إلى جهد أكبر و هكذا ينتهي المتعلم إلى الخطوة الأخيرة الأكثر صعوبة و تعقيداً، فيكون إتقانها أمراً هيناً، فالتدرج في حد ذاته توزيع منظم للجهد و الأداء و فحص نتائج الأداء التعليمي، فيسهل على الفرد المتعلم اكتساب الخبرة على خطوات تسير من خطوة أسهل إلى خطوة أشد و أكثر صعوبة.

ص: 81

و أول خطوات التعلم التدريجي أن يهيئ المعلم سيكولوجية تلميذه للتعلم أولاً إذا ما اكتشف تعثراً في استعداده و رغبته في التعلم، و ينشّط قدر المستطاع قابلية المتعلم من خلال تكوين اتجاه إيجابي لديه بقبول التعلم و ترسيخ أهميته في ذهنيته باستخدام

المحفززات المادية و المعنوية و تكوين العلاقات الحسنة بينه و بين تلميذه و من الضروري أن يقترن بهذه التهيئة النفسيّة تكوين استجابة مضادة تجعل المتعلم ينفر من الجهل ثم ينتقل المعلم بتلميذه إلى خطوة ثانية يكون فيها الموقف التعليمي متكافئاً مع وسع المتعلم و طاقته الذاتية و يتناسب مع «قَدْرِه العقلي» و بعد ذلك يترك المتعلم في موقف تعليمي أكثر صعوبة و يراقبه و لا يتدخل فيه إلا بالنصح و التوجيه و الإرشاد و تعيين أخطائه و تحديد المسارات الصحيحة لكيفية اكتساب المعلومات أو التدرب على إتقان المهارة الجديدة، أو كيفية التخلص من عادة سيئة تمهيداً لإحلال عادة حسنة مرغوبة لدى المتعلم.

إنّ تدرج الفرد في تعلمه لأشكال التدريب خطوة خطوة يشبه ما يجري في عملية النمو النفسي للكائن الآدمي، فكل جانب من جوانب هذه العلمية -كالنمو الجسمي مثلاً- يسير على وفق نظام ترتيبي واحد يبدأ من الخاصية النمائية الأقل سهولة و ينتهي عند الخاصية النمائية الأكثر صعوبة، لاحظوا كيف يمشي الطفل وحده معتمداً على نفسه و كيف تستقر اللغة لديه؟ يفعل ذلك على وفق تسلسل نمائي متدرج كما في توصيّة الإمام الصادق علیه السّلام و هذا هو منطق الحياة.

إنَّ الطفل مثلاً يجلس مستنداً إلى غيره ثم يجلس وحده دون مساعدة و قبل أن يمشي معتمداً على نفسه، يتعلَّم الوقوف بمعونة غيره أو مستنداً إلى شيء كجدار أو حائط و بعد ذلك يقف وحده بصعوبة و عدم توازن تام و لكنه بين عثراته التي يقع

ص: 82

فيها خلال عملية المشي يتمكن من المشي وحده و على نحو طبيعي و معتمداً على نفسه.

و في جانب نموه اللغوي يبدأ تعلمه للغة بالمناغاة، ثم ينطق أحرفاً و مقاطع صغيرة و محدودة من كلمات ثم ينطق كلمة واحدة فكلمتين ثمَّ ثلاث فينطق كلمات بابا و ماما و يظل فيما بعد يردد الأصوات المصاحبة لعملية نطقها، ثم يتكلم بعد ذلك عددا أكبر من الكلمات تدريجياً حتى تستقر اللغة لديه في نهاية السنة الرابعة أو منتصف الخامسة أو نهايتها .

و هكذا يكتسب الفرد خصائصه النمائية شيئاً فشيئاً بدءاً من نقطة الصفر حتى يبلغ الإتقان مداه الكامل، ثم لا يغيِّر تكرار التعلم من مستوى الأداء و إن أتيحت له فرصة صغيرة تعلم جديدة لخبرة جديدة، فالتدرج بأداء المتعلم إذن هي قاعدة المشرع الإسلامي في تكوين الاستجابة السلوكيّة سواء في عمل عبادي مباشر بين المتعلم و ربه كالتدرج في تعليمه «الصلاة، أو في مهارة أخرى كالرماية و السباحة و الاستئذان فی الدخول على الغير».

لاحظ النص الإسلامي السابق(1) كيف يتدرج بالمتعلم في تدريبه على الصلاة، فيبدأبنطق الشهادتين و التدرب على لفظهما خلال السنة الرابعة، ثم يتدرب بعد ذلك على نطق جملة «اللهم صل على محمد وآل محمد» و يترك لنهاية الخامسة من عمره ليدرب نفسه على التمييز بين الجهات.. يمينه و شماله مثلاً و بعد أن يعرف ذلك يوجهه المربي والده، معلمه إنسان آخر نحو جهة القبلة و يدربه مباشرة على الركوع و السجود و المهارات الحركية للصلاة.

فإذا أتمَّ الطفل السادسة صلّى و عُلِّم الركوع و السجود و يظل كذلك حتى يبلغ

ص: 83


1- الطبرسي، مكارم الأخلاق ص 222

السابعة فيدرب على كيفية الغسل للوجه و الكفين و يقال له مباشرة «صلِّ» و يعلم الوضوء كاملاً ثم الصلاة كاملة و يؤدب عليهما.

إنَّ المشرع طلب -هنا- تكرار التعلم و التدرج به من خطوة أقل لخطوة أكبر على وفق تدرج في الزمن و على وفق مراحل النمو التي يمر بها المتعلم حيث تتغير أشكال التدريب بتغير سن المتعلم و بتغير قدراته و بدخوله عمراً جديداً، هذا مثال في مجال معيَّن ينطبق على كل المجالات.

فالمربي -أقصد الوالدين خاصة- يعلّم الطفل على عادة الاستئذان حينما يريد الدخول عليهما، فإذا كان غير بالغ فيؤدب على الاستئذان ثلاث مرّات ذكرها النص القرآني رقم 58- 59 من سورة النور و لكن بعد بلوغه الحلم يستأذن في كل وقت و من ثم فالتدرج في الفعل متوقف على تدرج في النمو النفسي و العقلي كذلك و كما يتدرج المعلم بالمتعلم في بناء عادة دينيَّة أو سلوكية فإنَّ هذه القاعدة هي نفسها قاعدة تعلم المهارات الأخر في كل مجالات المعرفة سواء أكانت شرعيَّة أم كونية أم رياضيّة أم عسكريَّة أم اجتماعية، فالفرد المتعلم يبدأ بتعلم أسهل المهارات حتى يتقن أصعبها في مراحل آتية:

ويراعى في التدرج:

1- فكرة الإتقان المرتبطة إلى حد كبير بالتدرج و متأثرة به.

2- ينظر كذلك في التعلم المتدرج إلى مسألة الفارقيَّة بين الأفراد، فلا يعطى كل المتعلمين الخطوات و الأساليب نفسها ما داموا غير متساوين في الخلقة و القدرات و الظروف و خصائص التكوين السيكولوجي للمتعلم و لا ينبغي للمعلم أن يغفل عن مخاطبة الناس على قدر عقولهم؛ فإن الله سبحانه يؤاخذ عباده على «قدر ما أعطاهم

ص: 84

من عقول» و هي طاقات فطرية خلقوا بها منذ لحظة تكونهم و ولاداتهم، لذلك يجب أن يكون المعلم متفهماً لخصائص كل متعلم على حدة و حين يتعذر ذلك تخضع كل جماعة متقاربة في قدراتها العقلية و خصائصها النفسيَّة لعدد من أساليب التعلم و التدريب

المتماثلة.

3- و ينبغي أيضاً أن يدرك المربي، هل أنَّ التعلم لموقف جديد جاء على أنقاض تعلم عادة خاطئة يود تحرير نفسه منها، أو أنَّ هذا التعلم موقف جديد لم يتعلمه من قبل و بعبارة أخرى هل التعلم لتعديل سلوك خاطئ، أو لإضافة خبرة جديدة؟

و قبل أن أنتهي من هذا الإيضاح أشير إلى وجود علاقة بين التدرج و التعلم بالاستبصار و إدراك الموقف التعليمي كخبرة متكاملة، فعندما يرغب الفرد في تعلم مهارة الكتابة على شاشة جهاز الحاسوب فعليه أن يبدأ أولاً بتعلم أساسيات هذا المهارة، كتعلم قاعدة الارتكاز و كيفية استخدام المهارات المتصلة بها، ثم يبدأ بعد ذلك في إدراك التفاصيل الجزئية لتعلم مهارة استخدام جهاز الحاسوب في إنتاج برامج تعليمية(1).

***

ذلك ما عناه النصان للإمام الحسن السبط بن علي في مضمونها العام عن النمو التدريجي للفرد في جوانب أساسية من شخصيته في انتقالها النمائي التصاعدي من مرحلة سابقة إلى مرحلة تالية، بحيث يتحقق قوله و هو يصور نمو الأفراد بتحولهم من مرحلة «صغار قوم» في مرحلة سابقة و في زمن ماضي إلى أن يكونا «كبار قوم» آخرين في زمن لاحق.

ص: 85


1- ينظر كتابنا «التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 314- 318

يقول علیه السّلام البعض ولده في النص الأول:

«يا بني و بني أخي، إنكم صغار قوم و وشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(1)».

و قال الإمام الحسن علیه السّلام في نص مماثل: «تعلموا العلم فإنَّكم صغار القوم و كبارهم غداً و من لم يحفظ منكم فليكتب(2)».

و هناك مجموعة أفكار أساسية في النصين نذكر بعضها كما يأتي:

إشارة النصين التربويين الواضحة لعملية النمو النفسي للأفراد و انتقالهم من مرحلة الصغر إلى مرحلة الكبر و بينهما مراحل صغيرة متفرعة عنهما تشهد تغيرات نمائية في جوانب متعددة من شخصية كل فرد يمر في نموه بالمراحل الأساسية و المراحل الصغيرة المتفرعة عنها أو الداخلة في نطاقها.

و أن حركة هذا النمو تتم بصورة تدريجية كما تقدمت الإشارة في جوانب الشخصية المتعددة كي تتآزر فيما بينها و تؤدي إلى تكوين شخصية متكاملة.

أن النصين شدد فيهما الإمام الحسن الزكي علیه السّلام على التعلم «المبكر»، فالحديث الحسني الكريم كان موجهاً لأفراد صغار هم كما قال: «صغار قوم» و أنهم يصبحون بمقتضى القوانين الإلهية في النمو النفسي سيكونون كبار قوم في زمن لاحق و أنه يجب أن يقبل الصغار عليه مبكراً كي يرسخ و يثبت في الذاكرة.

يخضع «التعلم» و حفظه و روايته و كتابته لمبدأ التدرج، بحيث يتم تعلمه تدريجياً

ص: 86


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 68
2- الموسوي، الروائع المختارة ص 131

و يحافظ عليه بإمكانيات جديدة متفاوتة من مرحلة إلى أخرى.

إن التوجيه التربوي حسني لمجموعة الصغار من أبنائه و بني أخيه الحسين عليهم السّلام تجاه «قضية التعلم و التعليم المبكر للصغار» هو تركيز القناعة الداخلية لديهم بأن التعلم هو واجب ديني على الأفراد.

إن أدوات تداول التعلم ك- (أداء) و نقله ليست بالضرورة واحدة، فقد ذكر النصان في دعوتهما للاهتمام بالتعلم و التعليم آليات حفظ العلم و تداوله و قد حدد الإمام الحسن علیه السّلام في توجيهه آليتين لحفظ العلم و تداوله هما «حفظه أو روايته كآلية أولى و الآلية الثانية هي كتابته»، لهذا قال علیه السّلام: «فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته».

إنَّ الإمام الحسن الزكي بن علي عنى من «الحفظ» حفظ النصوص الدينية كالآيات القرآنية و أحاديث النبي و المعصومين عن ظهر قلب أو روايته للناس و نشره مع شروحاتهم بالطريقة ذاتها.

ذكر الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام عنصر المكان و دوره في حفظ «العلم»، فآلية حفظه الثانية و هو كتابته إنما تتم في البيت سواء كتابة النصوص الدينية ذاتها أو كتابة شروحات المعصومين و ناقلي الروايات في البيت و هكذا لا يكفي الاعتماد على حفظ العلم بروايته عن ظهر قلب لأن حامليه و رواته يموتون و يتناقصون و هذا بالتأكيد يؤثر سلباً على حفظ العلم و روايته ما لم يتمكن حملته من البقاء و تكاثرهم و لا بد من اعتماد «حفظ العلم» بالكتابة اليدوية و تداول صحفها جيلاً بعد جيل من عصر سابق إلى زمن لاحق.

أن آليتي الحفظ.. الرواية بحفظ العلم عن ظهر قلب أو كتابته في صحف لا تترك

ص: 87

أثرها على هؤلاء الصغار، بل تسري فائدتها على أجيال متعاقبة.

***

عاشراً: مبدأ «التعليم الإلزامي»

قد لا نجد أحياناً نصاً مباشرة على دعوة الإمام الحسن الزكي إلى إلزامية التعليم كمبدأ تربوي و الالتزام به في حياة الناس و ليس صعوبة عثورنا على نص يدعو إلى التعليم الإلزامي تعني بالضرورة عدم توافر نص في هذا المجال و عدم اهتمام الإمام الحسن به، فكثير من أفكاره و آراء أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و السّلام مغيَّبة تماماً في مصادر نجهلها و نجد صعوبة في الوصول إليها، أو نصوص تم همشت و أُهملت تماماً بسبب التدليس و التعتيم الثقافي و تعمد عدم إتاحة فرصة نشر فكر أهل البيت و ثقافتهم.

و إذا لم نتمكن بعد من التوصل لنص واحد للإمام الحسن الزكي يحدد تأكيده على هذا المبدأ التربوي الكبير فإنَّ ثمة نصوص نستطيع استنباط دعوته بطريقة غير مباشرة على مبدأ التعليم الإلزامي و لهذا اضطررنا للنصوص التربوية غير المباشرة لاستخراج موقف نظري و تطبيقي للإمام الحسن من مبدأ «إلزامية التعليم» الذي يجد له مساحة كبرى في النصوص التربوية و التعليمية للمشرع الإسلامي.

إنَّ كلمات متناثرة في تراث الإمام الحسن عن العقل و التفكر و ديمومته و العلم و التعلم و حفظه و روايته للناس و مخالطة العلماء تستبطن موقفه علیه السّلام من مبدأ التعليم الإلزامي و بمراجعة النصوص التي أثبتناها في صدر هذا المبحث نستطيع أن ننسج خيوط موقفه من هذه المسألة، فمضمون بعض أحاديثه عن العقل و التفكير و العلم و حفظه و روايته و دعوته لمخالطة العلماء و الاندماج بيآتهم العلمية و التربوية تعزز إيماننا

ص: 88

بموقفه الإيجابي من «التعليم الإلزامي» كمبدأ تربوي سليم.

إذا كان قد صعب علينا العثور على نصوص تربوية تؤكد إيمان الإمام الحسن السبط بمبدأ «التعليم الإلزامي» و تفتقر في سياقاتها الداخلية إلى «كلمات و عبائر و جمل مباشرة» كالقول على سبيل المثال في نصوص أو مقاطع منها: (أوجب الله العلم عليكم أو عبارة فرض الله عليكم العلم و التعلم) و عبارات مماثلة تدل على الوجوب و كان من الصعوبة استنطاق مضامين نصوصه في المجال التعليمي للتعرف على موقفه بطريقة مباشرة من مبدأ «التعليم الإلزامي»، لهذا لم نجد فكاكاً من البحث في النصوص التربوية لتحديد موقفه بطريقة غير مباشرة من مبدأ «التعليم الإلزامي» و تحديد نظرته من وجوب العلم و التعلم و التعليم.

و نشير مسبقاً إلى أن عبارات الإمام الحسن الزكي علیه السّلام التي عرضناها في بعض نصوصه التعليمية عن المبادئ التربوية الأخرى المنمية للسلوك التعليمي و حركته و ناقشنا بعضها في سياق هذا المبحث كانت كافية لمعرفة موقفه من إلزامية التعليم و تأكيد إيمانه بهذا المبدأ إلا أننا سنضطر لتعزيز ذلك بنصوص أُخر.

إن الإمام الحسن بن علي علیه السّلام على وفق أغلب النصوص المتوافرة بين أيدينا الآن شأن العلم لم يقل كلمات «يجب أوجب فرض الله، و كلمات مماثلة» و لكنَّ استخلاص رؤيته في هذا المجال غير المباشرة توحي بإيمانه القوي بمبدأ التعليم الإلزامي و ثمة صيغ تعبيرية تتناغم مع هذا الاعتقاد الديني- التربوي و سنمر على هذه الإيحاءات التعبيرية من نصوص أشرنا إليها و من نصوص أخرى معززة لها و نعتقد أن صيغ التعبير عن هذا المبدأ في خطاب الإمام الحسن بن علي علیهما السّلام تتراوح بين الأمر و التحفيز و التشجيع و الاستثنا و التعيين أو التحديد.

ص: 89

و الآن ما هي الصيغ التعبيرية؟

1. صيغة الأمر بالعلم و التعلم

وقد لمسناه في بعض النصوص الذي تضمنت بصيغة الأمر و توجيه الناس نحو التعلم بنحو أشبه بالأمر الديني الملزم و نجد ذلك في بعض العبارات و الكلمات مثل قوله: «تعلموا العلم فإنَّكم صغار القوم و كبارهم غداً و من لم يحفظ منكم فليكتب(1)» و قوله: «يا بني و بني أخي إنكم صغار قوم و توشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(2)» و في قوله علیه السّلام: «علّم الناس علمك و تعلم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك، و علمت ما لم تعلم(3)».

و بتأمل النصوص الثلاثة التي مررنا بها في أكثر من موقع من المبحث نجد تأكيده الثابت على دعوة دينية نحو التعليم و توجيه الناس نحوه بدافع الإلزام الديني لهم فقوله في النصوص الثلاثة المتقدمة: «تعلموا العلم» و قوله «فليكتب» و «ليكتبه في بيته» و قوله «علِّم الناس و تعلَّم علم غيرك» هي صيغة بالأمر و تنطوي على إلزام ديني بالعلم و كونه فريضة عبادية.

2. صيغة التحفيز و التشجيع

جاءت بعض النصوص مشجعة على التعلم و محفزة للناس و من ذلك ما قاله محفزاً على العلم و التعليم: «من أكثر من مخالطة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما

ص: 90


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 131
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 68
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78، ص 111، كلمة الإمام الحسن ص 68 و كتاب الروائع المختارة للسيد الموسوي ص 131 و كتاب ميزان الحكمة، ج 6، ص 471

رتق من ذهنه و سرَّه ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(1)» و في قول آخر للإمام الحسن الزكي علیه السّلام و هو يحدد الحقوق العامة: «أما حقوق الأحياء فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك و لا تتأخر عن خدمة أمتك(2)» و ممّا هو مؤكد أن التعلم حق عام من حقوق الأحياء و خدمة اجتماعية للأمة و واجب ديني و يجب إعطاء الأفراد الأحياء حقهم في التعلم و حقوق أخرى كالحرية و الصحة و العمل و الأمن و غيرها من الحقوق التي كفلها الدين للناس.

3. صيغة التوكيد

في الصيغتين السابقتين أمر و تشجيع و لكننا في الصيغة الثالثة توكيد على الالتزام بالتعليم في مراحل العمر كلها و دعوة صريحة للناس و منهم المسلمون في المقام الأول بأنهم ملزمون بتعلم الدين و أحكامه و تعلم العلم في مجالات الحياة.

و من النصوص في هذا القبيل التي نفهم منها تأكيده على التعلم و التفكر قوله علیه السّلام: «عليكم بالفكر فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(3)»، فهذا النص تعبير واضح عن تبني الإمام الحسن الزكي بن علي النظرة العبادية من العلم و التعلم التي تؤكد إلزامية التعلم، كما أن ينطوي على تحفيز و تشجيع على ممارسة التفكير، يقول عليه الصلاة و السّلام في نص يؤكد فيه على ديمومة التفكير و التأمل العقلي: «أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكر فإنَّ التفكر أبو كل خير وأمه(4)».

و قول آخر: «عليكم بالفكر فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة».

ص: 91


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 47 ص 134
3- الشيرازي، كلمة الحسن ص 238
4- الموسوي، الروائع المختارة ص 129

4. صيغة النهي

و نقصد نهي الإمام الحسن بن علي عن رذيلة الجهل و قد تأكدنا من ذلك في الصيغ الثلاث المذكورة، فأمّر علیه السّلام بالعلم كفضيلة أخلاقية و قيمة إدراكية و حفز عليه و شجع الناس و أوجبه بصيغة «التوكيد» الواردة في بداية النص الأخير «عليكم بالفكر فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة» و هذا نهي بطريقة غير مباشرة عن الجهل و التقاعس عنه و قال علیه السّلام: «لا تأتِ رجلاً إلا أن ترجو نواله، أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه(1)».

***

الحادي عشر: مبدأ الانفتاح على تجارب الآخرين

تستوجب العملية التعليمية- التعلمية بجميع جوانبها جهوداً و أدواراً و علاقات واسعة داخل المؤسسة التعليمية و خارجها تتسم بالانفتاح على الآخرين، فهي علاقات بين أفراد يتبادلون أدواراً و مواقف عمل في بيئة تربوية تحاول صنع حدث أو تحسين أداء أو تكوين مهارات لدى جميع الفاعلين في الموقف التعليمي، فالتعلم يكون أحياناً في نطاق الفرد الواحد و يسمونه بالتعلم الذاتي و لكنها في أحيان لا تتم إلا بعلاقات مع طرف خارجي كعلاقة المعلم بتلميذه أو العكس و علاقة بالكتب المدروسة و المكان الذي يدرس فيه.

و في سياق هذه العلاقات تتحقق الأهداف التعليمية و تتم بواسطة جهود العاملين في العملية التعلمية- التعلمية و الانفتاح على بعضهم و الإفادة المتبادلة -كل بحسب طاقته- من التجارب المفيدة، فالعلم كما يقول الإمام علي علم مستفاد، وهي عملية

ص: 92


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 132

تعلم من الآخر و تعليم للناس كما ذهب في ذلك أبو محمد الإمام الحسن الزكي علیه السّلام، فعندما يقول الإمام علیه السّلام في نص سابقه: «لا تأتِ رجلاً إلا أن ترجو نواله، أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه» إنما أكد الإمام الحسن فيه وجود علاقات منفعة متبادلة بين الأفراد و الجماعات و منها الجماعات التعليمية، فالمرء يأت غيره للحصول على نواله أو عطائه و إمَّا خوفاً منه، أو للإفادة من علمه أو رجاء بركة دعائه أو لصلة رحم.

كما أن قوله: «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم(1)» يفيد في معناه العام بتبادل تجاربهم بالمشورة و التأكيد على تحقيق الهداية في المعالجة و الحلول، فهذا الاسلوب الحواري الجماعي ينتهي إلى إنضاج العقول و صقل التجارب بينهم.

و كذلك فإن مبدأ الانفتاح على الآخرين يتجسد في دعوة الإمام الحسن علیه السّلام المخالطة العلماء و حضور مجالسهم بغرض تنمية قدراتهم اللغوية و العقلية و تحسين العلاقات الاجتماعية و تطويرها، ف- «أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(2)» و قول الإمام الحسن علیه السّلام: «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(3)» و نصوص النمو النفسي من الصغر إلى مرحلة الكبر و التعلم و التفكير مع الذات و مع الآخر و المشاورة التشاركية و إتقان التعلم و تعلم خبرات جديدة لا تحدث إلا في سياق علاقات منفتحة بين الفرد و الآخرين في عالمه الاجتماعي و التعليمي بوجه خاص.

ص: 93


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 168، الروائع المختارة ص 126
2- الموسوي، الروائع المختارة ص 134
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ص 111، كلمة الحسن ص 63، 201 و كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 131، ميزان الحكمة، ج 6 ص 434

و ثمة أقوال تدل على علاقة منفتحة بين الأفراد كقوله علیه السّلام في نص تربوي سابق الذكر هو قوله: «إنَّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير مذهبه و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به، أسلم القلوب ما طهر من الشبهات(1)» و جاء عنه قوله علیه السّلام: «لا يغش العاقل من استنصحه(2)» و قال الإمام الحسن علیه السّلام: «حسن السؤال نصف العلم(3) و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المؤونة(4)»، فطرح الأسئلة و مدارة الناس في علاقات حميمية هي صور للعلاقات التعليمية و الاجتماعية المنفتحة التي أكد عليها المشرع التربوي الإسلامي و آمن بها الإمام الحسن في خطابه التربوي.

و كذلك قال الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في مقطع من نص آخر يشير فيه للعلاقة المنفتحة و التفاعل بين الإفراد و الآخرين: «إنَّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير مذهبه و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به(5)».

***

ثاني عشر: مبدأ «التعلم بالعمل»

و لهذا المبدأ التربوي عناوين و أسماء كالتعلم بالمشاركة و التعلم بالطريقة الفعَّالة في التربية أو «التعلم بالممارسة العملية أو التعلم بالتجربة و نسميه نحن بمبدأ «تطبيق المعرفة» أو «تطبيق المادة المتعلمة» أو «التعلم بالتطبيق و بمقتضى هذا المبدأ يترابط

ص: 94


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 170، كلمة الحسن ص 199 و كتاب الروائع المختارة ص 140
2- الموسوي، الروائع المختارة ص 142
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 68
4- الموسوي، الروائع المختارة ص 142
5- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 170، كلمة الحسن ص 199 و كتاب الروائع المختارة ص 140

الجانب النظري بالجانب التطبيقي كجناحين للعلم أو الترابط بين العلم و العمل، فكلاهما قرين للآخر و مكمل له، فالمتعلم يسترشد ب- «قواعد توجيه عملية» للتحكم بالسلوك التعليمي و ضبط حركة تعلم، كما أن التعلم النظري لا يبلغ مداه و لا يحقق أهدافه ما لم يعزز بتطبيقات عملية، بل لا يستفاد من قيمته الفعلية بدون نجاحه في الميدان العملي، لهذا فإنَّ «التعلم بالممارسة العملية و المشاركة الفعالة في عمليات التدريب المستمرة يكون أفضل و أسرع من التعلم الذي يقوم على أقوال نظرية أو التعلم الذي يقوم على مجرد نصائح أو توجيه نظري بعيد عن الممارسة العملية للسلوك المراد تعلمه(1)».

و على أرضية التوازن بين جناحي العلم (النظر و العمل) فإن النصوص التربوية الإسلامية تدعو في وحدة معرفية منظمة إلى «العمل بالعلم و العلم بالعمل» و حذرت هذه النصوص من العمل بلا علم أو «العلم» بلا عمل، فكلاهما لا يحقق للذات المسلمة أغراضها في النمو و التربية و تنمية قدراتها العقلية و غيرها، فالعلم حركة «رشد» ضابطة للسلوك في مجالات الحياة بأسرها و «ما زكا علم بمثل العمل» كما جاء في روايات أهل البيت علیهم السّلام لأنه يكشف نجاحاته، بل و يسمو بالذات في حركة الحياة.

و لهذا المبدأ قيمته التربوية من حيث تثبيت التعلم و استبقائه بالعمل به و مقاومة ضموره و أنه يساعد على تنمية القدرات العقلية و حفظ الشخصية من الازدواجية و تناقض مكوناتها المعرفية و الوجدانية و السلوكية و تحسين أداء المتعلم و معالجة حالات القصور كالنسيان و قلة الانتباه و تعديل السلوك و صيانة الشخصية من غوائل الانحراف و لهذا المبدأ دور أساسي في تأكيد الإحساس بالذات و قيمتها و إثبات

ص: 95


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 104

إبداعها بعد تجاوز الفرد مرحلة الإتقان(1)».

و أهم نتائج العمل بهذا المبدأ التربوي الإسلامي هداية الفرد لعبادة الله و طاعته سبحانه و تعالى و إرضائه و البحث المخلص عن تقدير إلهي كما حققه العبد من انجاز يستحق هذا التثمين و لم يغفل الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام عن هذا المبدأ، فقد أشار إليه في أكثر من نص تربوي فعندما تعرّض ض للقرآن الكريم و هو المصدر الأول لدى المسلمين في العلم بدينهم و معارفهم العقائدية، قال علیه السّلام:

«ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلُّكم على هداكم و إنَّ أحق الناس من عمل به و إن لم يحفظه و أبعدهم من لم يعمل به وَإنْ كان يقرأه(2)» أو «يقرؤه(3)».

و تكمن استخلاصاتنا من النص المذكور التي يمكن توضيحها في نقاط جوهرية، و هي كما يأتي:

أن القرآن كتاب مقدس مهم في حياة المسلمين و هو ذخيرتهم الروحية و العقائدية و الأخلاقية و السلوكية في ترشيدحياتهم الدنيوية.

أن الإمام الحسن علیه السّلام طلب من الناس في مجتمعه و في مجتمعات لاحقة على مدار التاريخ اتخاذ القرآن إماماً لهدايتهم.

دعا الإمام علیه السّلام إلى العمل ب- «المحتوى التعليمي و التربوي و العقائدي و العلمي» للنص القرآني لا مجرد قراءته أو حفظه، و إنما الاسترشاد به کمنهج عمل و برنامج

ص: 96


1- يوسف مدن، مصدر السابق ص 106، 323، 324
2- الشيرازي ، كلمة الإمام الحسن ص 23
3- الموسوي، الروائع المختارة ص 141

هداية ربَّانية و توجيه مستنير لحركة الحياة.

أنَّ أحق الناس ارتباطاً بالقرآن الكريم من عمل بمعانية حتى و إنْ لم يحفظ آياته و سوره

و أن أبعد الناس عن القرآن الكريم «من لم يعمل به و إنْ كان يقرؤه يومياً» و لا يتفاعل مع معانيه بالعمل و التطبيق كما أراد الله سبحانه.

ص: 97

ص: 98

الحلقة الثالثة

اشارة

الطرق التعليمية و أساليبها

عند الإمام الحسن علیه السّلام

ص: 99

ص: 100

الطرق التعليمية و أساليبها عند الإمام الحسن علیه السّلام

تعددت أساليب التوجيه التربوي في الخطاب التعليمي عند الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام بما يتفق مع فلسفة المشرع التربوي الإسلامي و منهجه و بما يجاري التجارب البشرية السليمة في المجال التربوي خلال تاريخها المتعاقب و ذلك على نحو يرضي الله سبحانه و تعالى و قد لمحنا بين كلمات النصوص التعليمية و سطورها التي نسبها علماء الرواية أو الحديث لأبي محمد الإمام الحسن الزكي بعض أساليب التوجيه التعليمي و غايتها ضبط حركة المتعلم و حاولنا في هذا المبحث حصر بعض ما نراه من «أساليب تعليمية - تعلمية» جمعها و انتقائها دعا الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام إلى استخدامها سواء كانت لغة هذه النصوص حديثاً مباشراً أو تضمنت دعوات و معاني غير مباشرة تتيح للباحث جعلها أساليب توجيه تربوي للمتعلم، فهذه الأساليب هي جزء من خطابه التربوي بشكل عام و يمكننا الحديث عن بعضها.

و من هذه الأساليب:

1. طريقة حفظ العلم بالاستظهار

في نهاية أحد أحاديث الإمام الحسن الزكي علیه السّلام قال لبنيه الصغار و بني أخيه من نظرائهم في السن: «و من لم يحفظ فليكتب(1)» بعد أن أسدى لهم نصيحته الخالدة ب- : «التعلم» منذ المراحل الأولى في الصغر و في حديث مماثل له في المضمون و مفرداته

ص: 101


1- الروائع المختارة ص 131

اللفظية مع تغيير هيّن في بعض كلماته قال علیه السّلام: «فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(1)» و هنا يقصد حفظ العلم بالرواية أو بالكتابة اليدوية.

لقد تنبه علیه السّلام في توجيه السابق على خطر يواجه دائماً المتعلمين و لاسيما في سن الصغر إذا لم يحفظوا علمهم الذي اكتسبوه بأدواتهم المتاحة في أي مدة من تاريخهم و لفت علیه السّلام أنظار صغاره و صغار أخيه الذين توجه إليهم بخطابه الذي هو وثيقة تربوية تاريخية بأنَّ «تعلم العلم» و اكتسابه ليس كافياً و إنما لا بد من حفظه و بخاصة أنهم صغار قوم سيكونون في المستقبل كبار قوم و أنه سوف سيضمر علمهم و يتراجع مستوى ما تعلموه في الصغر ما لم يثبت هذا العلم و يرسخ في أذهانهم و أمام هذا الخطر الداهم في نمو الأفراد «خطر ضمور العلم» ما لم يتداركوا أمر تثبيته و ترسيخه فإنّه علیه السّلام اقترح عليهم في توجيهه بالنصين السابقين لحفظه بطريقين و هما:

أ- حفظ العلم بالرواية أو الاستظهار

المراد بحفظ العلم روايته عن ظهر قلب و استعادة رواياته و دروسه عن ظهر قلب وقت الحاجة و نقلها و تداولها من جيل إلى جيل بعده و قد استعمل الإمام الحسن في أحد النصين المتقدمين جملة «و من لم يحفظ فليكتب» للإشارة إلى الطريقة التقليدية السائدة في البيآت التربوية منذ تاريخ طويل و هي طريقة حفظ الرواية عن ظهر القلب و إبقائها في الذاكرة، ثم استظهاره وقت الحاجة و اللزوم و الميزة التي تنفرد بها هذه الطريقة المعتادة في التاريخ التربوي الإنساني أنها تبقى في ذاكرة الراوي و السامع الذي سيتحول بعد تکرارها لراوٍ آخر و أن الراوي يستطيع استعادتها بالنص الكامل و بمضمونها حينما يريد و عندما يتطلب الموقف التعليمي بطريقة سهلة و تلقائية في حديثه و تتوقف رواية

ص: 102


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 68

الرواية بموت راويها إلّا إذا قام الراوي بتدريب مقصود للآخرين ليقوموا بمهمة نقلها روايتها بحفظها و استظهارها شفوياً و ربما يكون «حفظ» العلم بهذا الطريق شائعاً في السنوات الأول من تاريخنا الثقافي الإسلامي، ثم بقي طريقاً يسلكه كثير من الرواة في القرون القابلة.

ب- طريقة حفظ العلم بالكتابة

و إذا لم يستطع المرء حفظ العلم و استظهاره قلبياً فهناك الطريقة الأخرى لحفظ الرواية و العلم و هي كتابتها كما نصح بذلك الإمام الحسن الزكي في المقطعيين النهائيين من النصين السابقين، حيث أمر علیه السّلام ب- «الكتابة اليدوية» و ترسيخ المادة المتعلمة في وثيقة

مكتوبة و عادة ما تكون الكتابة اليدوية في مجتمع الإمام إما بكتابة العلم في صحيفة، أو رقعة جلد، أو قطعة خشب مأخوذة من جريد النخيل، و إذا كان أحد النصين أمر بالكتابة دون تحديد مكانها فإنّ النص الثاني قال ما لفظه: «فليكتبه في بيته» كإشارة إلى مكان التعلم و الكتابة اليدوية للعلم و ميزة هذه الطريقة بقاء «الرواية» مكتوبة بعد موت كاتبها لأن الوثيقة المكتوبة لا تموت و تظل محفوظة بيد الناس و تتيح هذه الوثيقة المادية قراءتها بمجرد الاطلاع على الوثيقة المكتوبة و هكذا يستمر العلم و يحفظ إما بروايته محفوظاً في ذاكرة المتعلمين و العلماء و يستطيعون استعادة رواياته عن ظهر قلب أو كتابته باليد فى وثيقة مادية ( صحيفة و رقية رقعة جلد أو غيرهما) و قد قال الإمام الصادق علیه السّلام: «اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا» و جاء عنه أيضاً: «احتفظوا بكتبكم فأنكم سوف تحتاجون إليها» و قال للمفضل بن عمر: «اكتب و بث علمك في إخوانك، فإن مِتَّ فأورث كتبك بينك فانه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم(1)» و هذا التأكيد معناه أنّ النص المكتوب نشر للعلم و المعرفة التي يؤكد عليها

ص: 103


1- القزويني، الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية، ص 225- 226

الإسلام و علمائه و أئمته و منهم الإمام الحسن كما نص على ذلك في الحديثين المتقدمين.

***

2. المواعظ و التوجيه الإرشادي

و هي التي يسميها علماء الأخلاق و الإرشاد النفسي و السيكولوجيون بالطريقة الإرشادية لتقويم السلوك و ضبطه و تعديله و تحسينه و تطويره، فهذه الطريقة تسمح للمرشد في أي موقع له كونه معلماً، مربياً، إدارياً، مسؤولاً جماعياً أن يتابع سلوك الأفراد و تقويم أدائهم و إعطائهم كمسترشدين ما هم بحاجة إليه من مواعظ و نصائح و أفكار إرشادية هادفة، لأنها تتيح لهم المعرفة المسبقة بنتائج ما يفعلونه و يمنحهم القدرة على إدراك نتائج أعمالهم في مواقف السلوك المختلفة سواء في موقف تعليمي أو أخلاقي أو تعامل اجتماعي أو موقف آخر، فعلى اثر تقديم هذه المعرفة الإرشادية و ما تتضمنه من مواعظ فاعلة في إثارة الانتباه و إحداث حركة داخل الذات نحو التغيير و تعديل السلوك، فإدراك الفرد ما فعله من سلوك صحيح و ما أخطأه و ما لم يتقنه له أهمية كبرى في تغيير القناعات الداخلية للأفراد و استثارة الهمة الداخلية لهم في تحسين سلوكهم نحو الأفضل من خلال الاستجابة للموعظة أو النصيحة أو التوجيه الإرشادي و محاولتهم التلاؤم معها.

فالمواعظ و النصائح و الأفكار الإرشادية التوجيهية خطوة ضرورية لمعرفة السلوك و ضبطه و السيطرة عليه و التنبؤ بحركته و مساراته المستقبلية و الوصول به إلى معايير الصحة النفسية و محددات النظرة العبادية الإيمانية التي يتبناها الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في تراثه الأخلاقي و الإرشادي القويم الذي يوافق رؤية المشرع الإسلامي.

إنَّ العملية الإرشادية بمختلف صيغها من نصائح و مواعظ و توجيهات و أفكار

ص: 104

تنظيمية للسلوك تتيح للفرد تفهم نفسه و التأمل في دوافعها و إمكانياتها و إدراك بواعثها بنحو يساعد المسترشد على الإفادة من العون النفسي و الفكري المقدم له من المرشد، مما يؤدي إلى تفهم الذات و الاستعداد لتطوير قدراتها بما يرضي الله سبحانه و تعالى و هو أمر مفيد في إحداث تعلم اجتماعي و أخلاقي جديد ينتقل فيه الفرد من مستوى أقل لذاته إلى مستوى أفضل.

و يمكن جعل كثير من النصوص التربوية، لاسيما كلماته القصار نماذج أو وثائق إرشادية يختزنها تراثه الفكري و الأخلاقي و مواعظه القيمية و ما ذكرناه من نصوص الخطاب التربوي الحسني في مواضع متفرقة من هذا المبحث هو في حقيقته جزء من مواعظه و تراثه الإرشادي التوجيهي القيم لضبط عملية تعلم السلوك في مجالات عديدة سواء كان هذا التعلم في مجال مهاري أو في مجال اجتماعي أو حركة و وجداني.

و من مواعظه و نصوصه الإرشادية :

«يا ابن آدم: عف عن محارم الله تكن عابداً و أرض بما قسم الله تكن غنياً و أحسن جوار من جاورك تكن مسلماً و صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً(1)»، «إنه كان بين يديكم أقوام يجمعون كثيراً و يبنون مشيداً و يأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً و عملهم غروراً و مساكنهم قبوراً، يا ابن آدم: لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لم بين يديك، فإنَّ المؤمن يتزود ، والكافر يتمتع(2)».

ص: 105


1- ذكر العلامة المحقق الشيخ علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي كلمة «عدلا» بدلًا مما جاء في هذا النص من قوله: «تكن عادلاً» أ انظر كتابه كشف الغمة في معرفة الأئمة ج 2 ص 199
2- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 198- 199 و كتاب كلمة الإمام الحسن ص 45

- و من مواعظه كذلك قوله علیه السّلام: يا ابن آدم! من۟ مث۟لُك؟ و قد خلا ربُّك بينه و بينك متی شئت أن تدخل إليه، توضأت و قمت بين يديه و لم يجعل بينك وبينه حجاباً و لا بوَّاباً، تشكو إليه همومك و تطلب منه حوائجك و تستعينه على أمورك(1)».

***

نماذج من المواعظ والوثائق أو النصوص الإرشادية

الصورة

ص: 106


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 246

الصورة

ص: 107

طريقة التعلم بالأضداد:

لعل من أكثر الطرائق الإسلامية في التعلم بقسميه الوقائي و العلاجي طريقة العلاج النفسي بالأضداد و فكرتها الجوهرية علاج الصفات بأضدادها، فيعالج البخل كسلوك مذموم بالسخاء و التسخي و الخوف و الجبن بالشجاعة و اللؤم بالكرم و المروءة و الجهل بالعلم و المعرفة و السفه بالحكمة و الكفر بالإيمان و هكذا يعالج السلوك غير السوي بسلوك سوي و تستبدل الرذائل بالفضائل و قد شرحنا هذه الطريقة بشروطها و عواملها و أنماطها في كتابنا «العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد» و مما لاشك فيه أن هذه الطريقة أخذت موقعها في الخطاب التربوي و الإرشادي للإمام السبط الحسن بن علي، فعلى سبيل المثال قوله علیه السّلام:

«و اعلموا علماً يقيناً، أنكم لن تعرفوا التقى حتى تعرفوا صفة الهدى و لن تمسكوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نبذه و لن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرَّفه(1)».

و قوله علیه السّلام: «إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره، فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى(2)».

ونقل المحدث العلامة محمد باقر المجلسي في بحاره عن المبرد و ابن عائشة أنَّ شامياً رأى الإمام راكباً، فجعل يلعنه و الحسن لا يرد عليه، فلما فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه

ص: 108


1- كلمة الحسن ص 46
2- كلمة الحسن ص 199 و الروائع المختارة ص 135

و ضحك، ثم قال كنموذج على استخدامه لطريقة معالجة السلوك الخاطئ بضده و في موقف عملي للطريقة: «أيُّها الشيخ أظنك غريباً و لعلّك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك و لو سألتنا أعطيناك و لو استر شدتنا أرشدناك و لو استحملتنا أحملناك و إن كنت جائعاً أشبعناك و إن كنت عرياناً كسوناك و إن كنت محتاجاً أغنيناك و إن كنت طريداً آويناك و إنْ كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رجلك إلينا و كنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً و جاهاً عريضاً و مالاً كثيراً(1)».

***

3. طريقة توجيه الأسئلة

إثارة الأسئلة و توجيهها للناس لاسيما العلماء و المعلمين و أصحاب الفكر و البصيرة و الحكمة طريقة سائدة في التاريخ التربوي الإنساني منذ مراحله الأولى و قد استخدمها لا استثناء كل التجارب التربوية ..كبرى و صغرى.. على حد سواء، كما أنَّ الأديان السماوية و كتبها المقدسة لاسيما القرآن الكريم، بل و جميع المذاهب الدينية الوضعية كانت دائماً تستخدم طريقة طرح السؤال بأغراض متعددة كالبحث عن جديد أو حل معضلة أو إثارة انتباه الفرد و دفعه للتفكير في حل المشكلات و السعي للإجابة عن التساؤلات التي يطرحها العقل البشري و تمتلئ سجلاتها الثقافية و الروحية بكثير من الأسئلة في مجالات التفكير المتعددة.

و ما تزال طريقة الأسئلة و إثارة إشكاليات العقل البشري لها حظ وافر و حضور كبير في التراث التربوي المعاصر و مدارسه المختلفة، بل إن مدارس علماء النفس التربوي و التعليمي و رجالات التربية قد بذلوا جهوداً كبيرة لتطوير هذه إمكانيات المربية في

ص: 109


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص192

استخدام هذه الطريقة و جعلها فعالة في التربية الحديثة و بيآتها المتعددة.

و ليست تجربة الإمام الحسن الزكي بدعاً عن الجهود البشرية و تجارب العلماء و المربين و رجال الفكر و المعرفة، فهو علیه السّلام ينتمي لإحدى المدارس التربوية الكبرى في التاريخ الإنساني، فقد استخدم طريقة طرح الأسئلة و إثارتها ورد عليها لحل إشكاليات

العقل و ما يدور في داخله من غموض و خضع الإمام بنفسه لتربية تعتمد طريقة الأسئلة لتربية الجانب العقلي من شخصيته الكريمة و قد وجه والده إليه في نص تربوي إسلامي جملة من الأسئلة كان غرضها تحديد بعض المفاهيم المعرفية و الأخلاقية و اختبار قدرة الإمام الحسن علیه السّلام في الإجابة عليها، بل أن بعض الباحثين يجدون في تراثه التربوي و المعرفي و الروحي متعة نفسية و عقلية.

و تقول بعض مصادر دراسة السيرة الذاتية للإمام الحسن بن علي أنه علیه السّلام كان يجلس في مسجد رسول الله صلّی الله عليه و اله و يجتمع الناس حوله، فيتكلم بما يشفي غليل السائلين و يقطع حجج القائلين(1)»، فهذا النص يتضمن مهمتين:

إحداهما التدريس في مسجد جده.

و المهمة الثانية الرد على أسئلة الجالسين، فمفاد النص المتقدم أنه علیه السّلام «يتكلم» في مسجد رسول الله و أنه بكلامه «يشفي غليل السائلين و يقطع حجج القائلين» یعنی تصديه لعمليتي التدريس و الحوار التعليمي و الردود على تساؤلات بعضٍ ممن يحضر مجالس دروسه بمسجد جده رسول الله صلّی الله عليه و اله و أنه يملك القدرة الحوارية التي تقطع حجج القائلينممن يسمعون دروسه.

و على الرغم من اهتمامات الإمام الحسن علیه السّلام بالسؤال في تجربته التربوية و حياته

ص: 110


1- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 169

الشخصية و الاجتماعية فإنه من الصعوبة تتبع نصوصه في هذا الشأن لأن ذلك قد يحتاج إلى دراسة مستقلة و منفردة لا سبيل لهذا في هذا المبحث لهذا فإننا سنقف على بعض النماذج من اهتمامه بالسؤال كطريقة تعليمية و آلية تربوية لتوليد المعرفة الصحيحة و معرفة الحقيقة و تأصيلها و تثبيتها في الواقع الإنساني.

يقول الإمام الحسن الزكي علیه السّلام في نص قصير عن الأهمية التربوية للسؤال:

«حسن السؤال نصف العلم(1)».

و قوله كذلك: «و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المؤونة(2)».

و قال علیه السّلام في تعجب من سلوك بعض الناس الذين يُخِلُّون بالتوازن في إشباع الحاجات فيفرطون في إشباع بعضها و يفرطون في إشباع أخرى:

«عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(3)».

***

النص الأول: و هو قوله علیه السّلام: «حسن السؤال نصف العلم(4)».

هذه الكلمات الأربع هي المقطع الأول من نص مكون من ثلاثة مقاطع كما تقدم، كل مقطع يمثل جملة ذات معنى تربوي و اجتماعي و معيشي.

ص: 111


1- كلمة الإمام الحسن ص 68
2- الروائع المختارة ص 142
3- كلمة الحسن ص 50
4- الأربلي، كشف الغمة، ج 2 ص 201

یكشف الإمام الحسن الزكي بن علي علیهما السّلام في المقطع الأول و هو ما يعنينا، عن القيمة العلمية- التربوية للسؤال في تنمية المعرفة و التفكير، حيث جعل منه «نصف العلم» كما يوضح النص التربوي السابق، فالنص في خطاب الإمام ليس غاية في ذاتها، بل هو وسيلة الباحث عن الحقيقة و لا بدّ من جعله سؤالاً حسناً كي يتمكن من تحقيق أهدافه التربوية، لهذا وصف الإمام عليه «السؤال الجيد» بأنه نصف العلم و يستفاد من ذلك أن يتمتع السؤال بمواصفات سماها علماء النفس التربويون بالسؤال الجيد أو السؤال الحسن، كما أنه يعكس الإمكانيات الفكرية للشخص الذي يثير السؤال.

فالنص التربوي الحسني المذكور في أعلاه لا يطالب بمجرد طرح أي سؤال و إنما حدد لنا أهمية الطرح الجيد للسؤال و مواصفاته و طالبنا بنوعية جيدة للسؤال كي تكون مادته علمية تمكن الباحث و السائل و المجيب من الحوار العلمي الذي يحقق ما وصفه الإمام الحسن ب-«نصف العلم» و بلغة واضحة يجب أن يكون السؤال علمياً كي يكون نصف العلم و الإجابة عليه نصفه الثاني.

و نعتقد في ضوء تجربتنا التربوية ما يأتي:

1. أن الإمام أعطى السؤال أهميته التربوية و المعرفية و دوره في توليد المعرفة و تكوينها.

2. أَنَّ النص حدد أبرز مواصفات «السؤال الجيد» القادر على توليد المعرفة و الفاعل في تنمية التفكير السليم بقوله: «حسن السؤال نصف العلم» و قد وصف النص التربوي الحسني السؤال الجيد بأنه «نصف المعرفة» على وفق هذه المواصفات و ستكون الإجابة عليه نصفه الآخر و اتضح ذلك من قوله: «حسن السؤال نصف العلم» و بذلك يكون السؤال الجيد و الإجابة الكاملة و الصحيحة هي العلم الصحيح

ص: 112

و الحقيقة المطلوبة.

3. و يدخل في وصف «السؤال» بأنه نصف العلم مجموعة مواصفات تجعله سؤالاً جيداً يحظى بقيمته التربوية الفاعلة في تنشيط الفكر و توليد المعرفة و حل إشكاليات العقل البشري و من هذه المواصفات التي أراد الإمام الحسن أن يكون السؤال «حسناً» و هذا ما عناه علماء النفس التعليمي ب- «السؤال التربوي الجيد».

4. إنَّ من مواصفات السؤال كي يكون «حسناً» بلغته كما في نصه التربوي المتقدم ذكره و كي يكون جيداً بلغة علماء النفس التعليمي ما يأتي:

أ- الصياغة الجيدة للسؤال بنحو واضح لا يثير الحساسية.

ب- قدرة السؤال على طرح أفكار حوارية تشغل العقل و تثير الانتباه و تجعل المشاركين في الإجابة عليه نشطة أشبه بخلية «نحل».

ج- أن يكون السؤال الجيد قصيراً و محدداً و مركزاً على موضوع معيّن بعيد عن الشخصنة و الحساسية الانفعالية.

د- أن يكون السؤال هادفاً لكشف المعرفة و توليدها.

ھ- أن يكون السؤال موصولاً بفكرة منظمة حتى لا تكون الأفكار مبعثرة.

***

النص الثاني: يقول الإمام الحسن في نقد سلوك بعض الناس:

«عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه».

ص: 113

و نستخلص من النص الحقائق الآتية:

أن النص الحسني هو سؤال ناقد للسلوك الاجتماعي عند بعض الناس و النص المتقدم -كسؤال تربوي- يثير الانتباه لدى الناس على وجود خلل في حياتهم الاجتماعية و في طريقة إشباع حاجاتهم، فبعضهم يبالغ في إشباع حاجته إلى الأكل و الشراب بنحو أثار تعجب الإمام الحسن علیه السّلام، حيث يفرط بعضهم في تلبية حاجة بطنه و يفكر بإسراف في إشباع متطلبات مأكوله و شرابه و يكاد إهمال متطلبات حاجاته العقلية و الروحية.

أن الإمام علیه السّلام استخدم السؤال للإثارة في اتجاه تغيير سلوك خاطئ و تعديله باتجاه سلوك إيجابي آخر و هو التوازن في الإشباع بين تلبية حاجة العقل و تنمية قدراته أسوة بتلبية حاجة الإنسان للأكل و الشراب.

كذلك استعمل الإمام الحسن علیه السّلام سؤاله لإثارة انتباه الإنسان كي يربط بين الإشباع الخاطئ و السوي و بين نتائجهما في حياته، فقال: عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه» و معناه أن الإفراط في لإشباع الحاجات البطن له نتائج سيئة و إن إهمال اشباع تلبية حاجات العقل نتائج سيئة أيضاً و لهذا أراد أن يتمكن نصه التربوي المذكور من تحقيق مهمة توجيهية هي «تعديل السلوك لدى الأفراد المفرطين في اشباع حاجاتهم» بتحقيق توازن الاشباع لحاجات

متعددة تلامس جميع عناصر الشخصية المتكاملة و بالتفكير في اشباع الحاجات العقلية و كل ما هو معقول كتفكيره في كل ما هو «مأكول» بنسبة متعادلة لا غلبة فيها لطرف على الأقل.

النص كان في حقيقته سؤالاً للإثارة انتباه الفرد نحو خلل الإشباع بين حاجات البطن و حاجات العقل و التفكير و تضمن هذا النص تحذيراً من الإفراط و التفريط في

ص: 114

الإشباع، فأراد بيان بأن الغاية من تعديل السلوك الخاطئ بسلوك بديل عنه هو: «تجنيب البطن ما يؤذيه» و «أن لا يودع صدره ما يرديه».

أنَّ الإمام الحسن علیه السّلام باستعمال السؤال كإثارة كان هدفه محو طريقة سلوكية خاطئة مستخدمة في حياة بعض الناس و هذا مقدمة لنتيجة هادفة هي «توليد معرفة جديدة» تستهدف في نهاية الأمر تصحيح الخطأ في حياتهم.

***

النص الثالث:

خضع الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام لتجربة تربوية في موقف تعليمي أشبه بعملية إعداد و تدريب و امتحان معرفي بأساليب متعددة منها تدريبه على الإلقاء و طرح الأسئلة و الإجابة عليها و قد روى الأربلي صاحب كتاب «كشف الغمة» أن أباه علياً بن أبي طالب عليه السّلام قال لابنه الحسن عليه السّلام: «قم فأخطب لأسمع كلامك، فقام فقال: الحمدلله الذي من تكلم سمع كلامه و من سكت علم ما في نفسه و من عاش فعليه رزقه و من مات فإليه معاده، أما بعد فإن القبور محلتنا و القيامة موعدنا و الله عارضنا، إنَّ عليَّاً باب من دخله كان مؤمناً و من خرج عنه كان كافراً، فقام إليه علي فالتزمه فقال: بأبي أنت و أمي ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم(1)».

و قد تم ذلك بطريقة طرح الأسئلة و كان مجيباً عليها و والده سائلاً و كانت نتيجة هذا اللقاء التعليمي تحديداً دقيقاً لمفاهيم معرفية يمكن استخدامها في ثقافتنا لفرز معاني روحية و تربوية و ثقافية و تحديدها و تدل هذه الطريقة الحوارية على نشاط طرفين، معلم سائل و متعلم مجيب و قد أثنى الإمام علي عليه السّلام على إجابات ابنه و تكشف هذه التجربة

ص: 115


1- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 198

عن قدرة الإمام الحسن على الإجابة عن سلسلة من التساؤلات و عن قدرته في أن واحد على «تحديد المفاهيم» بدقة في جانبيها اللغوي و المعرفي كما سيأتي بيانه و بذلك تمكن الإمام الحسن في إجاباته من الربط السليم بين اللغة و الفكر كما يقول علماء المنطق.

و فيما يأتي النص الحواري القيم القائم على السؤال و الجواب و هي طريقة تسمى في التربية الحديثة ب- «الطريقة الاستجوابية»و هذا الحوار يمثل أنموذجاً للنص الحواري في هذا المجال و لنتأمله كما جاء من مصادره الروائية المتعددة.

قيل له عليه السّلام: ما الزهد؟ قال: الرغبة في التقوى و الزهادة في الدنيا.

قيل: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ و ملك النفس.

قيل: ما السداد؟ قال: دفع المنكر بالمعروف.

قيل: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة و حمل الجريرة.

قيل: فما النجدة؟ قال: الذب عن الجار و الصبر في المواطن و الإقدام عند الكريهة.

قيل: فما المجد؟ قال: أن تعطي في الغُرم و أن تعفو عن الجرم.

قيل: فما المروَّة؟ قال: حفظ الدين و إعزاز النفس و لين الكنف و تعهد الصنيعة و أداء الحقوق و التحبب إلى الناس.

قيل: فما الكرم؟ قال: الابتداء بالعطية قبل المسألة و إطعام الطعام في المحل.

قيل: فما الدنيئة؟ قال: النظر في اليسير و منع الحقير .

قيل: فما اللؤم؟ قال: قلة الندى و أن ينطق بالخنا.

قيل: فما السماح؟ قال: البذل في السراء و الضراء.

ص: 116

الطرق التعليمية وأساليبها عند الإمام الحسن السلام

قيل: فما الشح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً و ما أنفقته تلفاً.

قيل: فما الإخاء؟ قال: الإخاء في الشدة و الرّخاء.

قيل: فما الجبن؟ قال : الجرأة على الصديق و النكول عن العدو.

قيل: فما الغنى؟ قال: رضى النفس بما قسم لها و إنْ قلّ.

قيل: فما الفقر؟ قال: شره النفس إلى كل شيء.

قيل: فما الجود؟ قال: بذل المجهود.

قيل: فما الكرم؟ قال: الحفاظ في الشدة و الرخاء.

قيل: فما الجرأة؟ قال: موافقة الأقران.

قيل: فما المنعة؟ قال: شدة البأس و منازعة أعز الناس.

قيل: فما الذُّل؟ قال: الفرق عند المصدوقة.

قيل: فما الخرق؟ قال: مناوأتك أميرك و من يقدر على ضرّك.

قيل: فما السناء؟ قال: إتيان الجميل و ترك القبيح.

قيل: فما الحزم؟ قال: طول الأناة و الرفق بالولاة و الاحتراس من جميع الناس.

قيل: فما الشرف؟ قال: موافقة الإخوان و حفظ الجيران.

قيل: فما الحرمان؟ قال: تركك حظك و قد عرض عليك.

قيل: فما السفه؟ قال: إتباع الدناءة و مصاحبة الغواة.

قيل: فما العي؟ قال: العبث باللحية و كثرة التنحنح عند المنطق.

ص: 117

قيل: فما الشجاعة؟ قال: موافقة الأقران و الصبر عند الطعان.

قيل: فما الكلفة؟ قال كلامك فيما لا يعنيك.

قيل: فما السفاء(1)؟ قال: الأحمق في ماله، المتهاون بعرضه.

قيل: فما اللؤم؟ قال: إحرز المرء نفسه و إسلامه عرسه(2).

***

4. مشاورة «الجماعة» و المشاركة الحوارية الهادفة

دعا الإمام الحسن علیه السّلام في أحد نصوصه القصار التي تعرفنا عليها في جملة نصوصه التعليمية المنظمة للسلوك الفردي و الاجتماعي في حياة الإنسان إلى التشاور بين الأفراد و أعضاء الجماعات دون تحديد لنمط المشورة أو شكل الاستشارة، حيث قال الإمام الحسن بن علي علیهما السّلام في هذا الشأن: «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم(3)».

***

المكونات المعرفية للنص

للنص أعلاه مكونات لفظية و معرفية يمكن تحديدها في بعض العناصر التي استنبطناها من التركيبة اللفظية و العقلية الداخلية و هي كما يأتي:

أولا: المكون اللفظي:

ص: 118


1- ربما المقصود من الكلمة «السفيه»
2- ابن شعبة الحراني، تحفة العقول عن آل الرسول، ص 162- 163 و كشف الغمة في معرفة الأئمة ( للعلامة علي بن عيسى الأربلي، ج 2، ص 194- 195
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 168 و كتاب الروائع المختارة المصطفى الموسوي، ص 126

و هو ما يعرف في علم النفس التربوي ب- «القدرة اللفظية» التي هي إحدى القدرات العقلية الكبرى لدى الإنسان و يبلغ عدد كلمات هذه القدرة كلمات سبع.

ثانياً : المكوِّن المعرفي :

و هو المحتوى الفكري للنص السابق، أي مادته الثقافية التي أراد الإمام الحسن علیه السّلام تبليغها للناس و ترسيخها في عقولهم و ممارساتهم اليومية و ينطوي هذا المكون على عناصر فرعية متصلة مع بعضها و هي كما يأتي:

1. وجود جماعة من الناس لم يحدد عدد أفرادها و قد جاء النص بلفظ الحسني «قوم» و هو تعبير قرآني أصيل عن جماعة متفاعلة، تؤثر في غيرها و تتأثر بهم.

2. و العنصر الفرعي الثاني للمكون المعرفي هو «الدور» الذي تقوم به الجماعة المعبر عنها بلفظ «القوم» كما جاء في نص الإمام الحسن علیه السّلام و هو الفعل أو النشاط المتداول بين الجماعة في زمن محدد و في مكان معيّن.

3. المادة الثقافية للمشورة: (أو المشورة ذاتها)، و تشمل الأفكار و الطريقة التعبيرية و آلية التداول و هي عبارة عن موضوع المشورة و محتواها و آلية تداول أفكار محددة بين جماعة معينة أو قوم الناس حول موضوع معيَّن.

ثالثاً: المكون السلوكي أو التنفيذي:

و هو تنفيذ القرار الذي اتخذته الجماعة بعد تشاورها في موضوع معين و هو كما ينبئ النص التربوي الحسني «قرار رشيد» و مسؤول توصل إليه قوم أو نفر من الناس تحت ضمانة الحوار الجماعي و هذا القرار تتخذه الجماعة نتيجة تداول جماعي بين المتشاورين في موضوع تمت مناقشته و انتهوا إلى اتخاذ قرار وصفه الإمام الحسن بالرشد و لم يحدد علیه السّلام الشكل النهائي للقرار الذي عبر عنه محتوى النص بمقطع لغوي

ص: 119

واضح المعنى و هو مكون من كلمات أربع تصفه بالقرار الرشيد و الهداية، جاء المقطع:

«إلّا هدوا إلى رشدهم».

***

5. الحاجة إلى المشورة

بحسب التركيبة الآدمية فإن الإنسان بسبب طبيعته الناقصة التي قد تعييه الحيلة عن اتخاذ قرار سليم حاسم في مواجهة بعض الظروف قد يحتاج إلى الخروج منها أو معالجة التقصير عن طبيعة النقص في التركيبة الداخلية للإنسان و تشكل الحاجة إلى استشارة أطراف من ذوي الرأي و الخبرة و التفكير العقلاني إحدى آليات الخروج من الموقف أو المأزق و ثمة مسوغات لهذه الحاجة في طلب الاستشارة و منها ما يأتي:

1. أن الإنسان كما تقدم قد تعييه الحيلة نتيجة طبيعته الناقصة أو قلة خبرته أو ضعف إمكانياته أو حجم المشكلة فيضطر إلى طلب المشورة من أشخاص يعنيهم الأمر أو من ذوي الخبرة و الرأي الحكيم.

2. أن المشورة تعني اتخاذ قرار جماعي منظم و في ذلك موقف ديمقراطي حتى و إنْ كان رأي الأغلبية مضاداً لرأي شخص معتبر الأهمية في التفكير.

3. المشورة قرار صائب و حركة عقلية راشدة يطلبها شخص للإفادة من تجارب الآخرين و استثمار خبراتهم في مجال محدد يكون طالب الاستشارة بحاجة إليها و تقديم العون النفسي و الفكري له.

4. قد يحتاج المرء لطلب المشورة من غيره من ذوي الخبرة ليدفع عن نفسه تهم الآخرين و ليخفف عن نفسه ضغوط القرار الانفرادي يصاحبه حالة من الندم، أو

ص: 120

مهددة حياته بعواقب و خيمة.

5. تعني المشورة توظيف منظم للعقل الجماعي بدلاً عن العقل الفردي لمواجهة مشكلة بتفكير أكثر من شخص لوضع حلول لها، فإذا كان التفكير لا يتفجر إلا بمواجهة مشكلة أو عقبة فإن حلها و التغلب عليها بتفكير جماعي أنسب من التفكير الفردي في غالب الأمر و هذا ما عناه إلا: «هدوا إلى رشدهم».

6. إن المشورة في صورتها العامة و ضمان نتائج سليمة ينتهي باتخاذ قرار صحيح تنمي مشاعر الثقة بالذات و تمنح الأفراد فرص تمحيص الآراء و غربلتها و تخصيب العقل فالإبداع بأفكار غير مألوفة.

7. إن المشورة في حقيقتها تجسيد فعلي لتعلم عقلي جماعي يتيح لمجموعة من الأفراد مناقشة موضوع محدد أو مشكلة و تحديدها و وضع احتمالات المعالجة و تفسيرها و اتخاذ قرار سليم وصفه الإمام بالرشد و هذه خطوات «عقلية» منهجية.

8. تمثل المشورة اسلوباً تربوياً أراد الإمام الحسن علیه السّلام اعتماده في تربية «الذات الفردية» و تربية «الذات الجماعية» » حتى تتعود عليه كسلوك حواري و حضاري فعال مع نفسها و مع الآخر.

***

المشورة و التعلم:

لا يحتاج أحد منا إلى إدراك العلاقة بين طريقة «المشورة» كشكل حواري تقدمي لحل المشاكل و بين التعلم كعملية تربوية، فالمشورة تحتاج إلى مهارات حوارية هادفة كتحديد مشكلة البحث أو موضوع الحوار التشاوري و تدريب النفس على الاستماع

ص: 121

للآخر و صياغة احتمالات المعالجة و التفسير و الجرأة في اتخاذ القرار السليم بناءً على توافر أدلة عقلية موثوقة لا غلبة فيها للعاطفة الشخصية لدى الإنسان.

كما أن الأفراد «المتشاورين» في أي ظرف بحاجة إلى تعلم فن قواعد الحوار و آلياته و الحوار التشاوري فرصة لتحقيق ذلك و عن طريقه يتاح لهم العمل كفريق في تداول الأفكار و احترام آراء الأفراد و نقل الخبرة الهادفة من شخص لآخر و تقويمها و تقبلها بعد فحصها معرفياً و من ثم فإن طريقة «المشورة» تؤدي إلى تعلم مهارات في مجالات عقلية و اجتماعية و غيرهما و هذه النتائج -كما يدرك القارئ- هي جميعاً أفعال متعلمة و تدخل في إطار ما يهتدي إليه القوم في مواقف «التشاور» من نتائج راشدة و إيجابية للمشورة التي تداولوها في بحث موضوع معيَّن و معالجته و قد جعلها الإمام الحسن ابن علي نتيجة لازمة و منطقية لعملية التشاور و ضرورة من ضرورات «التداول العقلي» الجماعي للموضوعات و المشكلات التي تحتاج إلى بحث منظم بآراء فريق من الأفراد لا برأي شخصي.

***

6. طريقة الصحبة و المصاحبة

يتحدث علماء الاجتماع و المشتغلون بالدراسات النفسية عن الدور التربوي للصحبة و تأثيرها في حياة الأفراد و الجماعات، كما أن نصوصاً كثيرة من نصوص المشرع التربوي الإسلامي أوضحت التأثير الحضاري و الاجتماعي و الشخصي للصحبة، و صداقة الأفراد لبعضهم، فالمصاحبة وفاقاً للنصوص التربوية الشرعية و دراسات العلماء بيئة تربوية و اجتماعية تسهم في تنشئة الأفراد و التطبيع الاجتماعي لشخصياتهم في مراحل مختلفة من أعمارهم و تحدد الصحبة نوع التأثير السائد بين الأصحاب،

ص: 122

فإن۟ كانت الصحبة ذات طابع إيجابي انعكس ذلك على العلاقة بينهم و إذا غَلُبَ على الصحبة طابع سلبي سادت بين الأصدقاء علاقة سيئة.

و أشار الإمام الحسن بن علي علیه السّلام -كقائد للمسلمين و إمام روحي و موجه أخلاقي- في عدد من نصوصه و كلماته إلى الأهمية التربوية للصحبة و المصاحبة بين الناس في مواقف الحياة الاجتماعية المتعددة.

و من هذه النصوص:

قال علیه السّلام: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن تصاحبوك به(1)».

و قال: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن تصاحبوك به تكن عدلاً(2)».

و في نص آخر قال علیه السّلام: «يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً و أرض بما قسم الله تكن غنياً و أحسن جوار من جاورك تكن مسلماً و صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً، إنه كان بين يديكم أقوام يجمعون كثيراً و يبنون مشيداً و يأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً و عملهم غروراً و مساكنهم قبوراً، يا ابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإنَّ المؤمن يتزود و الكافر يتمتع(3)».

دخل جنادة بن أبي أمية على الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام بعد أن تجرع السم من الظالمين فطلب منه جنادة أن يعظه في هذا الموقف الصعب، فقال له في نص مطوَّل إلى حد ما و نقتطع منه نصاً قصيراً هو المراد هنا في حديثنا: «اعمل لدنياك كأنك تعيش

ص: 123


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 242 و الموسوي في كتابه الروائع المختارة ص 139
2- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 199
3- الشيرازي، كلمة الحسن ص 45 و كتاب الروائع المختارة للموسوي ص 19

أبداً و اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً و إذا أردت عزّاً بلا عشيرة و هيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزّ وجل و إذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب مَن إذا صحبته زانك و إذا أخذت منه صانك و إذا أردت منه معونة أعانك و إن قلت صدَّق قولك و إنْ صِلت شدَّ صولتك و إنْ مددت يدك بفضل مدَّها و إنْ بدت منك ثلمة سدَّها و إنْ رأى منك حسنة عدّها و إنْ سألته أعطاك، و إنْ سكت عنه ابتدأك و إنْ نزلت بك إحدى الملمّات واساك، من لا تأتيك منه البوائق، و لا

تختلف عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق و إنْ تنازعتما منقسماً آثرك(1)».

***

استخلاصات النصوص الثلاثة:

1. تأكيد الإمام الحسن بأن «الصحبة» حاجة سيكولوجية في حياة الأفراد و تكوينهم النفسي و الاجتماعي سواء كان من أمِرَ بالصحبة أو الشخص الذي سيصاحبه، لهذا أمر الإمام الحسن بن علي بالصحبة الناس بقوله علیه السّلام في صيغة أمر واضحة لتوجيه الإنسان: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن تصاحبوك به»، فالمأمور بحاجة لصحبة الناس و مرافقتهم و عقد صداقة معهم و هو إحساس مماثل لدى الآخرين، فكما يحب المرء أن يصاحبه الناس ليحقق إحساسه بالانتماء و الاندماج مع الجماعة التي يعيش معها فكذلك يجب عليه أن يصاحبهم في حياته و يتخذ من بعضهم أصحاباً له، فالرغبة في الصحبة و المصاحبة شعور وجداني متبادل بين الفرد و الأفراد الآخرين، حيث إنه شعور طبيعي ركّزه الخالق في التركيبة النفسية و الداخلية لدى الكائن الآدمي.

2. أنَّ الإمام الحسن في موعظته للناس و توجيههم بالكلمات بنفسها مع تغيير في

ص: 124


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 52

اللفظ، فقال علیه السّلام: «و صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً»، ففي هذا النص لا يختلف مضمونه عن النص السابق باستثناء الإضافة في نهاية هذا المقطع من نص أكبر، فإذا أراد الراغب في صحبة الآخرين أن يكون عادلاً في مشاعره و في تقدير إحساسات الآخرين فعليه أن يكون، فقسمة المشاعر بينه و بين الناس في موضوع الصحبة و في غيرها تكون بتحسس مشاعر الناس كما يتحسسها الفرد لنفسه، فالعدالة هنا أن يكون الفرد «عادلاً» في توزيع الإحساسات بنحو لا يحرم الآخرين فيها مما يرغبون فيه و بذلك يكون إحساسه طبيعياً و عادلاً و محباً للآخرين، فكما يحب لنفسه شيء ما فكذلك يحب لهم و كما يحب أن يصاحبه الناس فعليه أن يرتضي صحبتهم لنفسه و بمشاعر عادلة متوازنة.

3. أما في التوجيه الأخلاقي و التربوي الثالث فحدد الإمام شروط الصحبة و طبيعتها و فوائدها، فقال علیه السّلام: «و إذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك و إذا أخذت منه صانك و إذا أردت منه معونة أعانك و إن قلت صدّق قولك و إنْ صِلت شدَّ صولتك و إن مددت يدك بفضل مدَّها و إن بدت منك ثلمة سدَّها و إن رأى منك حسنة عدَّها و إن سألته أعطاك و إن سكت عنه ابتدأك و إن نزلت بك إحدى الملمّات واساك، من لا تأتيك منه البوائق و لا تختلف عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق و إن تنازعتما منقسماً آثرك»، ففي هذا النص حقائق سيكولوجية و اجتماعية و شروط للصحبة الجيدة و منها:

أ- أن الصحبة في حياة الناس حاجة نفسية طبيعية و لا يمكن الاستغناء عنها، فالفرد يحتاجها كما يحتاجها الأفراد الآخرون.

ب- أن النص يوجه الإنسان للاختيار الجيد للصاحب أو الصديق بنحو يزين

ص: 125

صاحبه لا أن يشينه.

ت- أن النص حدد شروط الصحبة الجيدة فقال علیه السّلام الجنادة بن أبي أمية: «و إذا أخذت منه (أي من الصاحب) صانك و إذا أردت منه معونة أعانك و إن قلت صدّق قولك و إنْ صِلْت شدَّ صولتك و إن مددت يدك بفضل مدَّها و إن بدت منك ثلمة سدَّها و إن رأى منك حسنة عدَّها و إن سألته أعطاك و إن سكت عنه ابتدأك، و إن نزلت بك إحدى الملمات واساك، من لا تأتيك منه البوائق و لا تختلف عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق و إن تنازعتها منقسماً آثرك».

***

الأثر التعليمي للصحبة الجيدة

بعد تأمل النصوص الثلاثة نجد أنها تشير لدور الصحبة في تعلم السلوك الاجتماعي التوافقي المرغوب من الناس و من المشرع التربوي الإسلامي، فأول ما ينبغي تعلمه أن يعلم المرء الأصالة الطبيعية للصحبة في حياة البشر و أنها حاجة فطرية مركوزة في تكويننا الداخلي و أن يتحسس -كتعلم آخر- عدالة توزيع مشاعره، فيتعلم محبة صحبة الآخرين له كما يحب أن يصحب الناس، أما التعلم الثالث للصحبة و المصاحبة فاختيار الصاحب الجيد الذي توافر فيه شروط محددة عيَّنها النص و بذلك يدرك الفرد أنه لا يكفي اختيار صاحب ما و إنما التدقيق في اختياره بنحو يكون صاحباً مقبولاً على وفق مواصفات النص و شروطه و بعد ذلك يقدم النص الشروط اللازمة للصحبة الجيدة و هذا أبرز أثر لها في تعلم السلوك الاجتماعي كي يبلغ المرء بصحبته هذا أو ذاك نتائج إيجابية تجعل الصحبة مقبولة و مريحة للنفس و ذات تأثيرات سوية على سيكولوجية الفرد و الجماعة معاً.

ص: 126

إنّ الدرس التربوي المطلوب تعلمه أن يتمكن الفرد الراغب في صحبة صديق من معرفة شروط اختياره للصاحب الذي يود إقامة علاقات مصاحبة، لهذا كان النص صريحاً لا بتحديد الرغبة في الصحبة و إنما بتحديد قرار صائب في اختيار الصاحب و هذا في غاية الأهمية لنجاح طريقة الفرد في إشباع حاجته للصحبة، فقال علیه السّلام: «و إذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك» و هي كلمة تعني أن يكون الصاحب مقبولاً بمواصفات المشرع التربوي الإسلامي و بمحددات اجتماعية و سيكولوجية مقبولة تجعل الصاحب «زيناً على صاحبه لا شيناً عليه».

أما شروط المصاحبة السليمة و هي أهم ما يجعل الاختيار تعلماً اجتماعياً جيداً، فحددها الإمام الحسن علیه السّلام في النص نفسه بما سبقت الإشارة و نعيدها مرتبة على النحو الآتي من دون شروحات لها لوضوحها لمن له دراية باللغة العربية و من هذه الشروط ما يأتي:

. و إذا أخذت منه (أي من الصاحب) صانك.

. و إذا أردت منه معونة أعانك.

. و إن قلت صدّق قولك.

. و إِنْ صِلت شدَّ صولتك.

. و إن مددت يدك بفضل مدَّها.

. و إن بدت منك ثلمة سدَّها.

. و إن رأى منك حسنة عدَّها.

. و إن سألته أعطاك .

ص: 127

. و إن سكت عنه ابتدأك.

. و إن نزلت بك إحدى الملمات واساك.

. من لا تأتيك منه البوائق و لا تختلف عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق.

. وإن تنازعتما منقسماً آثرك.

و بذلك يتحقق قوله: «لا يغش العاقل من استنصحه(1)» باستشارة شخص من ذوي الخبرة أو بالتأمل و التفكر العقلي و تمكنه من التوفيق في هداية نفسه بأفكار العقل السليمة التي يقدمها لصاحبه دون غش و بإخلاص تام، فحكم العقل دائماً موضوعي و عادل و متسام على انحرافات الشهوة و زوائدها الضارة بشخصية الإنسان و حياته.

***

8- التفكير والتفكر

يُعدّ التفكير من أظهر أساليب التعليم و تنمية القدرات العقلية و ثمة علاقة كبيرة بينهما و سنبحث هذا الموضوع في مبحث مستقل.

***

ص: 128


1- الروائع المختارة ص 142

9- الطريقة الإلقائية (المحاضرة(1))

المحاضرة كما يعرفها رجال التربية شكل من أشكال الإلقاء اللفظي المباشر أو المباشر و هو أسلوب تعليمي قديم عرفته المجالس التربوية في كل مكان و ظل شائعاً في أزمنة متعاقبة و بالرغم من اتجاه المربين المحدثين نحو الاستعانة بطرق تجعل المتعلم أكثر فعالية، فما يزال الإلقاء، متداولاً حتى عصرنا و ما يزال أسلوبا يستخدمه كل معلم وقت الحاجة و هذه الطريقة التعليمية المتجذرة في التاريخ التربوي الإنساني لم تستطع الاستغناء عنها أية مؤسسة تعليمية، بل أن طرق التدريس نفسها لا تخلو في قليل أو كثير من الإلقاء و يقوم على عاتق المعلم أو المحاضر أو الملقي عبء «الجهد» و الفعالية التعليمية من إعداد الدرس و تجميع المعلومات و تقديمها للسامعين بالشرح و الإيضاح و إثارة دافعية التعلم عند التلاميذ و ترغيبهم مع مراعاة سهولة «الإلقاء» و حسن معاملة التلاميذ، فالمحاضرة تبدأ من عقل المعلم و تصب نتائجها في عقل المتعلم و في هذا الشأن يقول أحد الباحثين: و تعتمد طريقة المحاضرات و الإلقاء على أسلوب عرض الحقائق و المفاهيم و توضيحها و تفسيرها و تقوم على شرح المعلومات و تبسيطها ليسهل على التلاميذ استيعابها و يتوسل المعلم بها في درسه للتأثير على شعور

ص: 129


1- استفدنا في غالب حديثنا عن أساليب المحاضرة و الخطبة و الدعاء و المراسلة أو المكاتبة من كتابنا التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية فقد كتبنا بتصرف أفكارنا عن هذه الأساليب من المصدر السابق و أحدثنا في محتواه تعديلاً يناسب خطاب الإمام الحسن من خطب و أدعية و أقوال و كلمات قصار و مراسلات أو مكاتبات فالإمام الحسن علیه السّلام قد دعا في خطابه المعرفي و التربوي و العقائدي إلى استعمال هذه الأساليب، بل إنّ تراثه الفكري و الروحي يحوي على مجموعة خطب و أدعية و مراسلات تخدم العملية التعليمية- التعلمية لأغراضها الدينية و التربوية و الإنسانية، ينظر كتابنا التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 493 - 509

التلاميذ و إثارة عواطفهم و حفزهم على العمل و النشاط(1)».

و يستعمل المربي هذه الطريقة التعليمية التي يكون فيها التلميذ متلقياً في الأغلب و يتداولها في مجالس التحديث التي عرفتها التجربة التربوية الكبرى عند المسلمين بدءاً من عصر النبوة كما سنرى و على امتداد عصور متتابعة من هذه التجربة و يبدأ «المتكلم» في هذه المجالس بإلقاء دروسه أو ينتظر أن يسأله تلاميذه و الحاضرون و قد يطلب أن توجه له الأسئلة، لكنه قبل أن يأتي إلى مجلس التحديث يحضر درسه جيداً، ثم يترك لتلاميذه فرصة توجيه الأسئلة و بعض المناقشات بمقتضى الحاجة و كذلك الترويح، لقد ذكر ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه و آله كان: «يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا(2)» و كان الرسول صلّى الله عليه و آله يعقد مجلساً «للتحديث» يذكّر فيه أصحابه بالله عز وجل و يحثهم على مكارم الأخلاق و يضرب لهم الأمثال للوعظ و يعلمهم دقائق الشريعة و على هذا كان الصحابة يسيرون مهتدين بهدي الرسول في تطيبه و تجمله و طريقة جلسته و تحديثه(3)».

و لتعليم المسلمين بدأ الأئمة المعصومون و منهم الإمام الحسن تثقيفهم بالمعرفة الإسلامية، فقد بدأ الإمام علیه السّلام حلقة من البحث و الدرس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله يُحدِّث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير و حديث و فقه و يفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين و كان الأسلوب التعليمي المتبع في المحاضرة ما يتخللها بين حين و آخر من إثارة الأسئلة و الأجوبة، أو «أسلوب الاستماع» بالتعبير التربوي الإسلامي.

و ينقل العلامة الأربلي عن الشيخ كمال الدين بن طلحة قوله أن الإمام الحسن:

ص: 130


1- د. حسن عبد العال / فن التعليم عند ابن جماعة ص 206
2- المكي أقلانيه، النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى ص 61
3- المرجع السابق ص 59

«كان يجلس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله و يجتمع الناس حوله، فيتكلم بما يشفي غليل السائلين و يقطع حجج القائلين(1)» و روى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ما لفظه:

«دخلت مسجد المدينة فإذا أنا برجل يُحدِّث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله فقلت له أخبرني عن وَ «شَاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ»(2) فقال: نعم، أمَّا الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدِّث فقلت له: أخبرني عن «شاهد ومشهود» فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم النحر، فجزتهما إلى غلام كأنَّ وجهه الدينار و هو يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله فقلت له: أخبرني عن «شاهد و مشهود» فقال نعم: أما الشاهد فمحمد صلّى الله عليه و آله و أما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: «يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَكَ شَهدًا»(3) و قال تعالى:«ذَلِكَ يومٌ مَجموعٌ لَهُ النَّاسُ و ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»(4).

فسألت عن الأول؟ فقالوا: ابن عباس.

و سألت عن الثاني؟ فقالوا: ابن عمر.

و سألت عن الثالث؟ فقالوا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السّلام و كان قول الحسن أحسن(5).

***

ص: 131


1- الأربلي/ كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 169
2- سورة البروج: 3
3- الأحزاب: 45
4- هود: 103
5- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 169

10- طريقة الدعاء

تتفرد الأديان المنزلة بأسلوب الدعاء على مدار تاريخها و انعكس هذا الامتداد على عمق الإنسان المتدين و أصبح الدعاء أحد المصادر الإسلامية للمعرفة لديه، فلا يتعلم بواسطة الدعاء سوى الإنسان المتدين الذي يؤمن بالله و يناجيه -سراً و علناً- و يطلب منه و هو حركة صاعدة من الإنسان و هابطة منه سبحانه و تعالى.

إنَّ الدعاء في حقيقته علاقة روحية بين الإنسان يناجي ربه و يتجه إليه بنية خالصة في هذه الخلوة ليكاشفه بمعاناته، مع أن الإنسان المتدين الداعي يقر في نفسه بأن ما يخفيه ليس سراً على الله تعالى، فكل ما يطويه من أفكار و مشاعر و نوايا تحت «علم» الله عزّ و جلَّ و بالرغم من تفرد «الدعاء» بطابعه الروحي و تعدد مزاياه المرتبطة بهذا الطابع، إلا أن ما يطويه من مفاهيم و حقائق و آراء و معانٍ سامية جعل «للدعاء» طابعاً تعليمياً مؤثراً في العقل المسلم و موجهاً لسلوكه في عالمه الدنيوي، فلهذا ارتبطت مكونات النسيج الثقافي للمسلم بالدعاء و بمعانيه و قيمه و أصبحت «مادته المعرفية» مصدراً أساسيا في تكوين هذا النسيج و المحافظة عليه.

و يمكننا التعرف -في عجالة- على بعض جوانب الوظيفة التعليمية للدعاء:

أولاً: يوجه الدعاء قلب الإنسان و عقله -بخاصة المسلم- نحو عملية التعلم و يرغبه في طلب المعرفة حتى إتقانها .

ثانياً: يعد الدعاء أسلوباً تعليمياً إلقائياً لأن الإنسان المسلم يقوم بدور مزدوج يمكننا تصنيفه -في نهاية الأمر- في قائمة الأساليب التعليمية الإلقائية، إن «الإنسان» المسلم يقرأ الدعاء كنص، فيسمعه شخصياً أو يتلقاه مسموعاً من غيره إذا كان «نص الدعاء» مقروءا من الآخرين و سواء كان النص مقروءاً من «الداعي» أو من غيره،

ص: 132

فان طبيعة هذا الجهد التعليمي إلقائية ، لأن الداعي «يقرأ» و المستمع «يتلقى» و من ثمّ لا مجال فيه لمناقشة لحظة ممارسة «الدعاء» و لا تثار فيه أسئلة و إجابة إلا إذا جعل المسلم «الدعاء» درساً يتناوله مع الآخرين بالشرح و التحليل و الحوار و تبادل الأفكار، لكنه يتيح للباحثين باستخدام الطريقة التحليلية في فهم مضامين نص الدعاء المدروس كما فعلنا في دراستنا التحليلية عن دعاء الاهتمامات العامة للإمام المهدي(1)، و حيث يبقى نص الدعاء مقصوراً على القراءة و الاستماع، فإن الإنسان الذي يمارسه يكون «قارئاً و مستمعاً و متلقياً» في آن واحد و بهذا المعنى قد يكون الدعاء نوعاً أو نمطاً من التعلم الذاتي، فالفرد يقرأ لنفسه نص الدعاء و يستمعه بمفرده بواسطة إحدى الوسائل التقنية الحديثة كالراديو و أشرطة التسجيل و الفيديو و يتعلم منه دون معونة أحد سواء بحفظ «نصه» أو تفهم معانية و استيعابها أو بزيادة حصيلته اللغوية.

ثالثاً: يعد الدعاء -بطابعه التعليمي- أسلوباً واقعياً اعتمده المشرع الإسلامي لتنمية القدرات العقلية عند الأفراد و يكاد نجد في نص «الدعاء» تعدداً و تنوعاً في القدرات التي ينميها المربي المسلم بواسطة هذا الأسلوب، فالدعاء:

أ- يعد «نصاً» للحفظ و غالباً ما يميل المسلم إلى حفظ نصوص من الأدعية لترديدها في مواقف العبادة أو «التعلم» أو مواقف «تقوية» ذاكرته بالمعاني التربوية التي حواها النص التربوي الحسني أو غيره من أئمتنا الأطهار.

ب- لا يقف العقل المسلم عند حدود الاستظهار أو «الحفظ الأصم» أو التذكر الآلي الذي يخلو من الفهم، بل يحاول فهم محتوى «نصوص الأدعية» و التفاعل مع معانيها و قد يتعداه إلى ممارسة عملية «تحليل» هذه النصوص و فهم مضامينها

ص: 133


1- ينظر كتابنا «بناء الشخصية في خطاب الإمام المهدي»

و استثمارها كمعرفة ضابطة للسلوك و قد يترتب عن عملية «التحليل» نمو قدرات الفرد على «الربط» بين فقرات النص و نمو قدرة الاستنتاج و المقارنة و النقد و التطبيق و إصدار الأحكام.

ج- ينمي الدعاء أيضاً أساليب التعبير العربي و يصقل القدرات اللغوية للفرد و يمونه بثروة كبيرة من مفردات اللغة و ألفاظها و ذلك لأن الدعاء -بخاصة ما صاغه الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و أئمة أهل البيت علیهم السّلام- يمتاز بأعلى أساليب البيان العربي و هذا يؤدي بالتأكيد إلى تنمية هادفة لقدرات الفرد على الفهم اللغوي و تدريبه على الطلاقة اللفظية، فالعقل المسلم بعد ممارسته للدعاء -كتجربة وجدانيّة حيَّة- يتقمص هذه الثروة الهائلة من مفردات اللغة و يتمثلها في أحاديثه و مواقفه الحوارية.

رابعاً: يوفر الدعاء للعقل الإنساني فرصة التفكير و التأمل العقلي في مجال العقائد و قضاياها و بيان أصولها كالتوحيد و معرفة صفات الله(1) و النبوة و المعاد، قال

الإمام الحسن بن علي في دعاء: «اللهم سبحانك يا قيّوم، سبحان الحي الذي لا يموت(2)» و دعاؤه في موضع آخر: يا من بسلطانه ينتصر المظلوم و بعونه يعتصم المكلوم سبقت مشيَّتك و تمت كلمتك و أنت على كل شيء قدير و بما تُمْضِه خبير، یا حاضر كل غيب و عالم كلّ سرّ و ملجأ كلّ مضطرّ ضلّت فيك الفهوم، و تقطّعت دونك العلوم، أنت الله الحي القيّوم الدائم الديموم، قد ترى ما أنت به عليم و فيه حكيم و عنه حليم».

خامساً: يقدم الدعاء معرفة تحليلية مستفيضة للنفس الإنسانية و دراسة حالاتها

ص: 134


1- أنظر على سبيل المثال ما جاء في دعاء يوم عرفة في الصحيفة السجادية
2- كلمة الحسن (دعاء الدخول على ظالم)، ص 217

المتعددة سواء في حالتها السوية، أو في حالتها غير السوية و يحدد طرق تشخيص أمراضها و سبل معالجتها و يرشد العقل المسلم بالأساليب الصحيحة التي تعينه على مواجهة المشكلات النفسية و أمراض السلوك الأخلاقي و يمده بمعرفة «القيم» السوية و تهذيب الأخلاق و التمييز بين سمات السلوك السوي و سمات السلوك العصابي من خلال إمداد المسلم بمفاهيم عبادية في حقل الصحة النفسية و تأصيل مبادئها المستمدة من الأدعية في عقل الإنسان المسلم(1) و هكذا يركز الدعاء على المعرفة الأخلاقية و القيم الإنسانية كثقافة سيكولوجية و مرجعية للسلوك العبادي، فالدعاء منهج إرشادي يستعمل التكرار و معالجة السلوك بأضداده و إثارة العاطفة و التنفير من الرذيلة و الترغيب في الفضيلة و يستعمل أسلوب الوقاية و المعالجة في تربية الشخصية العبادية وتعديل سلوكها.

***

11- أسلوب الخطابة

الخطابة أسلوب تقليدي مألوف في الحياة العربية قبل الإسلام ثم عززه بنصوصه القرآنية و النبوية و ما يزال نمطاً ثقافياً مقبولاً حتى زماننا و عدَّه المشرع طريقة تعليمية سمعية(2) وهي بالنسبة للمربي المسلم -آنذاك- أشبه بوسيلة إعلامية لأن «العرب» كانوا يملكون آنذاك ناصية اللغة و متمكنين من مفرداتها تمكناً متقناً، لهذا تابعوا استخدام هذا الأسلوب من عصر النبوة حتى عصور مختلفة و كان الرسول صلّى الله عليه و آله يحث على استعمال جيد لطريقة الخطابة و يأمر بقصر الخطبة و هدفيتها و تعلم الموعظة منها،

ص: 135


1- عز الدين الجزائري / شرح الصحيفة السجادية ص 23
2- أصبحت هذه الطريقة فيما بعد إحدى آليات التعليم والأدب العربي المكتوب في التجربة التربوية الإسلامية التاريخية و أسهمت في بناء النسيج الثقافي للأمة في حقبة ازدهارها الحضاري

«و كان النبي صلّى الله عليه و آله يخطب كلمات يسيرات و يركّز على هدفها التعليمي(1)».

و هذا الأسلوب من أساليب الإلقاء الواضحة التي يكون «المستمع» متلقياً في أغلب الأحيان و قد يسأل و يسمع الرد لكن لا يتحول السؤال إلى حوار -إلا نادراً- و يمكن في ضوء طبيعة فن الخطابة الشائع في ثقافتنا أن نصنف هذا الفن التعليمي الجماهيري ضمن مجموعة الأساليب الإلقائية لأن الخطيب عادة يكون متكلماً و ملقياً بينما المتعلم مستمعاً و متلقياً للخطاب اللفظي المنطوق، ف- «المكاتبة» إذا كانت رسائل مكتوبة، تكون الخطبة رسالة شفوية منطوقة يتلقاها المرء من متكلم ثم يبث مضمونها بلفظ شفوي أو يتداولها الناس عن طريق السماع و النقل اللفظي و قد تكتب فتحفظ و تؤدي وظيفتها التربوية في أجيال تالية و حققت الخطابة فعالية كبيرة في الحياة العربية الإسلامية و ما تزال مادتها ذات جاذبية تربوية مؤثرة لاسيما إذا التزمت ببعدها العبادي.

و يمكننا الآن تحديد موجز لبعض الوظائف التعليمية للخطبة الموجهة لفرد أو لجماعة:

1- تنمي الخطابة قدرات عقلية عند الخطيب و المستمع والناقل معاً لأنهم يتعلمون من مضمونها و هم يقرؤونها أو يكتبونها أو يناقشونها أو يحفظونها و تمثل هذه التنمية جانباً تربوياً مهماً سواء في عمليات التدريب على فن الخطابة أو تطبيقه في موقف تعليمي قائم فعلياً و من ذلك أنه المتعلم يتعلم فن «الإنصات» و التدرب على مهارة الاستماع، حيث ينمي المستمع قدرته على الفهم اللفظي والتعامل بسرعة مع الكلمات المنطوقة المسموعة و تنمية قدراته على التذكر من خلال استظهار نص «الخطبة» و حفظه عن ظهر قلب و ربما إعادته على الغير ما أمكن، أو التمرن على مهارة النقل و النشر لمادة

ص: 136


1- انظر ميزان الحكمة، ج 3 ص 49

الخطبة أو تحليل محتواها التعليمي، كذلك التدرب على مهارة صياغة الأسئلة و توجيهها -إن أمكن- للمتكلم، فيتعلم جانباً من الأسلوب الحواري في موقف تطبيقي قائم فعلاً.

2- و بالنسبة للخطيب «المتكلم» فعادة ما يؤدي هذا الأسلوب التعليمي إلى تنمية قدرات عقلية مهمة كقدرة الخطيب على الطلاقة اللفظية و سرعة التعبير و التمرن عليها، كذلك إظهار قدرته على تجميع الأفكار و سلامتها و ترتيبها و تذكر الحكم و الأمثال النصوص كافة التي تشكل جزءاً من الخطبة و تنمية منطق الاستدلال عند المتكلم و اثبات قوة «الحجة» لديه و هو يقدم للطرف الآخر أدلة الإثبات و البرهنة على صحة ما يؤمن به و تحديث الناس من غير إملاء أو كتابة، جاء في نص: «البلاغة قلب عقول و لسان قائل(1)».

3- إن الخطيب يقوم بدور المعلم الذي يرسل أفكاره للآخرين و كأنه يقرأ عن ظهر قلب نصاً في لغة محكمة بينما يمثل «المستمع» تلميذاً يتلقى المعرفة و بعبارة أخرى تمثل الخطبة خيطاً متصلاً أحد طرفيه هو «قدرات الإرسال» عند المتكلم، و الطرف الآخر هو «قدرات الاستقبال» عند المستمع.

4- و يعتمد الأسلوب الخطابي على الإثارة العاطفية التي تخدم عملية التعلم، لأن فن «الخطابة» ليس في الواقع مجرد قدرات و مهارات لفظية محضة، بل هو من وجه آخر فهم لسيكولوجية المستمع، فيحاول الخطيب المتكلم التأثير عليه من خلال الإثارة العاطفية التي هي جزء من طبيعة الأسلوب الخطابي ذاته و مقدمة لتكوين اتجاه إيجابي -نفسياً و عقلياً- لتقبل المعرفة و التفاعل معها بطريقة هادئة و من هنا اشترط المشرع

ص: 137


1- ميزان الحكمة ج 1 ص 464

التربوي الإسلامي على الخطيب قصر الخطبة و هدوئه و هدفية المادة التعليمية التي تتضمنها خطبته، لهذا يقول أحد النصوص التربوية الإسلامية مبيناً أهمية الهدوء النفسي للمتكلم -محاوراً أو خطيباً أو متلقياً- «شدة الغضب تغير المنطق، وتقطع مادة الحجة و تفرق الفهم(1)».

***

تتضمن الخطبة -عادة- مادة تعليمية مربيَّة و تظل هذه «المادة» منقولة، متداولة في التراث التربوي للأمة و خالدة في المخزون الثقافي للبشرية، فالخطبة تمثل عمقاً ثقافياً و توجيهاً معرفياً و عقائدياً و سلوكياً للإنسان و لهذا السبب تلجأ بعض الأقلام المثقفة المسؤولة في حقول المعرفة و التعلم و الإعلام و التوجيه الديني إلى الاستفادة من المضمون التعليمي المؤثر لنص الخطبة و اعتماده كمصدر توجيه و تنشئة، إذ تعرض المناهج الدراسية نصوصاً من الخطب الإسلامية لدراستها كمادة تعليمية و ذلك لأن للخطبة جاذبية التأثير في عقول الناشئة.

***

و لقد جمع السيد مصطفى الموسوي صاحب كتاب «الروائع المختارة» ستاً و خمسين خطبة من خطب الإمام الحسن التي تنوعت موضوعاتها و كانت تنطوي على أفكار تعليمية في مجالات عقائدية و روحية و الوعظ و التوجيه الأخلاقي و حكمة تشريع الفرائض و وصف المتقين و صلحه مع معاوية و الجهاد بأشكاله و غير ذلك من موضوعات دينية و ما يخص أحداث عصره مع مناوئيه و قد نقلنا في أثناء هذه الصفحات بعض المقاطع اللغوية من بعض خطبه، حيث نقلنا مقطعاً من نص الخطيتين

ص: 138


1- ميزان الحكمة ج 7 ص 232

رقم (7، 12) من كتاب الروائع المختارة عن موضوع الصحبة و المصاحبة و تأثيراتها التربوية على الفرد و في العلاقات الشخصية الاجتماعية للأفراد و هذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الإمام الحسن اعتمد الخطب كأسلوب تربوي و تعليمي خدمة لدينه و مجتمعه.

***

12 - أسلوب المراسلة أو المكاتبة

هذا الأسلوب قديم و شائع في حياة الناس قبل مجيء الدين الإسلامي و أقره المشرع التربوي الإسلامي كما نجد مثلاً في النص القرآني الذي تحدث عن مراسلة لفظية مكتوبة بين سيدنا سليمان و السيدة بلقيس ملكة سبأ، كما أقره الرسول الكريم و استفاد منه في الدعوة و التبليغ و التوجيه السياسي و التعليم أيضاً، حيث بعث صلوات الله عليه رسائله إلى عدد من الملوك و الأمراء يدعوهم للدخول في الدين الجديد، ثم استعمله مع ولاته في نطاق تدبير شؤون الدولة و في توجيه حركتها و ضبطها و معنى ذلك أن المربي المسلم بدأ باستعمال أسلوب المكاتبة أو المراسلة المكتوبة منذ عصر النبوة و ما بعدها من عصور متتالية و أصبحت المراسلة فيما بعد أسلوبا تعليمياً متداولاً بين علماء الأمة و معناه أنَّ طرفاً من الناس يراسل طرفاً آخر بالمكاتبة عن طريق إثارة سؤال حول مشكلة معينة محيرة، فيأتيه الجواب مكتوباً، فالمراسلة أو المكاتبة أن يكتب السائل سؤالاً أو نوع المشكلة التي تثير ذهنه، ثم يكتب المجيب جواباً لها و قد تتطور المراسلة بين أكثر من طرفين و تكون «المكاتبة» في شكل خطاب وأحياناً «رسالة شفوية» و كلاهما يحمل مضموناً أو معنى واحداً هو السؤال أو المشكلة التي تتطلب حلا و هي تحديث من غير إملاء أو كلام مسموع مباشرة.

قال الإمام الصادق «علیه السّلام»: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا» و جاء عنه:

ص: 139

«احتفظوا بكتبكم فأنكم سوف تحتاجون إليها» و قال للمفضل بن عمر: «اكتب و بث علمك في إخوانك، فإن مِتَّ فأورث كتبك بينك فانه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم(1)» و هذا التأكيد معناه أنَّ المكاتبة أو «المراسلة» المكتوبة نشر للعلم و المعرفة التي يؤكد عليها المشرع و لهذا استجاب لها الوسط التربوي المسلم لفعالية هذه الطريقة و نشرها العلماء و المربون المسلمون في بث المعرفة و حل المشكلات.

فالرسالة المكتوبة تحمل في الحقيقة «مادة» تعلم تبدأ من فكرة أو رأي أو سؤال أو لفت نظر إلى مشكلة و تنتهي بجواب و إذا لم تتكرر المراسلة حول المشكلة ذاتها و أصبح جواب «المجيب» مقنعاً صنفت المراسلة ضمن أساليب الإلقاء غير المباشر، بيد أنه يحتمل أن تتحول «المراسلة» إلى محاورة غير مباشرة توضح فعالية السائل و المجيب في حل مشكلة علمية و تكشف عن مستوى «المادة التعليمية» التي تضمنتها المكاتبة و مع ذلك فهي -في الأغلب- أقرب إلى طرق الإلقاء لأن السائل يظل متلقياً يبعث «بسؤاله» و ينتظر جواباً عنه.

***

و مما سبق تتضح الوظيفة التعليمية للمراسلة أو المكاتبة فيما يأتي:

1- تعدّ «الرسالة» المكتوبة وثيقة تربوية يطمئن لها الناس بصورة أفضل و يمكن تناقلها جيلاً بعد جيل و تقل إمكانية تصحيفها مما لو كانت المراسلة شفوية.

2- تداول المعرفة و حفظها و نقلها و تخزينها في نص موثق تعد وثيقة تربوية يرجع لها الباحثون متى شاءوا و تحفظ «آراء» أصحابها على امتداد الزمان اللاحق و تبقى دليل إثبات على وجهة النظر المعتبرة.

ص: 140


1- القزويني، الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية ص 225- 226

3- تسهم المراسلة «المكتوبة» و المكاتبة بين السائل و المجيب على تنمية الفكر التربوي و تقوي الصلة بين علماء الأمة و طلبة العلم و تظهر مدى التعاون بينهم في حل «المشكلات» التي تواجه الأمة.

4- و من إيجابيات «المراسلة» المكتوبة إنها تساعد على تدريب التلاميذ على صياغة التساؤلات و الافتراضات حول المسائل و معرفة الردود عليها و لهذا كله أثره الإيجابي على تنمية القدرات العقلية كالقدرة على التعبير اللفظي و فهم محتوى «النصوص» و تحليلها.

***

و في الباب الثاني من كتاب «الروائع المختارة» جمع أحد العلماء (12) نصاً من مراسلات و مكاتبات الإمام الحسن علیه السّلام و كانت متعددة الموضوعات، منها مراسلة مع بعض أصحابه يعزيه بموت ابنته و مراسلات أخرى مع معاوية و ابن زياد و عمرو بن العاص في قضايا سياسية و ردود على افتراءاتهم و كتابه في الصلح مع معاوية بن أبي سفيان و أهم ما يعنينا في الجانب التعليمي من رسائله و كتبه رسالته إلى العالم الجليل الحسن البصري رداً على سؤال في موضوع الحرية الإنسانية و القضاء و القدر(1)، التي عرضها الموسوي في كتابه «الروائع المختارة(2)» تحت رقم (8).

و سنعرض نص رسالته للبصري كاملة في هذا المبحث بعد قليل و إشارات مضمونها الإرشادي في ضبط السلوك التعليمي لدى الأفراد.

***

ص: 141


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 166
2- الموسوي، الروائع المختارة ص 118

إنَّ من المراسلات «المكتوبة» التي تناولت قضاياً وقع فيها الجدل بين العلماء قضية الحرية الإنسانية، إذ كتب الحسن البصري رسالة مكتوبة إلى الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام يسأله عن الرأي الصحيح في هذه القضية الشائكة التي تنازعت فيها فرق العقائد الإسلامية في زمانه، فقد كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى أبي محمد الحسن ابن علي عليهما السّلام:

«أما بعد، فإنكم معشر بني هاشم، الفلك الجارية في اللجج الغامرة و الأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح «علیه السّلام» التي نزلها المؤمنون و نجا فيها المسلمون، كتبت إليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في القدر و حيرتنا في الاستطاعة فأخبرنا بالذي عليك رأيك و رأي آبائك علیهم السّلام، فإنّ من علم الله علمكم و أنتم شهداء على الناس و الله الشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم».

فأجابه الحسن «علیه السّلام» بقوله:

بسم الله الرحمن الرحيم

«وصل إليّ كتابك و لولا ما ذكرته من حيرتك و حيرة من مضى قبلك إذا ما أخبرتك، أما بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شره إن الله يعلمه فقد كفر و من أحال المعاصي على الله فقد هجر.

إن الله لم يطع مكرها و لم يعص مغلوباً و لم يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً و نهاهم تحذيراً، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً و ان انتهوا إلى معصية، فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم و بينها فعل و ان لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً و لا ألزموها كرهاً، بل منَّ عليهم بأن بصرهم و عرفهم و حذرهم و أمرهم و نهاهم، لا

ص: 142

جبلاً لهم على ما أمرهم به فيكون كالملائكة و لا جبراً لهم على ما نهاهم عنه و لا الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين، والسلام على من أتبع الهدى(1).

ص: 143


1- تحف العقول ص 166

ص: 144

الحلقة الرابعة

اشارة

التفكير و العملية التعليمية

ص: 145

ص: 146

التفكير و العملية التعليمية

تمتع الإنسان -بنحو متمايز عن كل الكائنات الحية و غيرها من العجماوات- بقدرات فريدة جعلته كائناً حضارياً، فاعلاً في حركة التاريخ و في الفعل الحضاري، فالمزايا التي حظاها رب العباد للكائن الآدمي كثيرة و لكن أبرز ما ميزَّه.. القدرة التفكير و القدرة على النطق، فكلاهما (العقل و اللغة) منحت هذا الكائن مكانته اللائقة في الوجود و مكنته عبر تاريخ طويل من صنع حضارته و إظهار إسهاماته و إبداعاته التي تناسب خصائصه.

لقد ارتبطت حياة الإنسان منذ بدء ظهوره في التاريخ بظاهرة التفكير و بمختلف العمليات العقلية الكامنة في داخل ذاته حتى و إن تباينت في مستوياتها من حيث السهولة والتعقيد و هي عمليات لها علاقة بالعقل الإنساني و قدراته المتميزة و أنشطته المتعددة و قد حقق الإنسان بدوره انجازات حضارية عديدة هي في الواقع وليدة حركة التفكير الإنساني، فقد واجه الإنسان في عالمه الداخلي و عالمه الخارجي و بيئته مشكلات كثيرة و متنوعة و معقدة أحياناً و واجه هذه المشكلات بالاستعانة بالتفكير و عملياته العقلية و أنشطته لإيجاد حلول لها.

و مع أن التفكير كعمليات عقلية لا تفتر أبداً في كيان الإنسان منذ ولادته حتى وفاته إلا أنها تنشط حينما يواجه الإنسان مشكلة تتحداه و يحاول الاستجابة لها برد معيَّن و لا يفتر نشاطه، بل و لا يضعف تأزمه النفسي حتى يتغلب عليها، فالتفكير

ص: 147

الإنساني هو بمثابة دافع لمواجهة المشكلة و البحث عن حل لها و من ثم فإنَّ التفكير يقترن دائماً بوجود مشكلة و من هنا فالتفكير في نظر العلماء من أرقى العمليات العقلية لدى الإنسان، حيث يدرك فيها الإنسان العلاقات القائمة بين موضوعين أو ظاهرتين أو أكثر من أجل حل مشكلة غامضة أو تحتاج إلى تفسير أو كشف قوانين علاقتهما.

و من المنطقي أن ينال التفكير -كظاهرة عقلية إنسانية- باهتمامات العلماء و المفكرين و قادة الأديان و يشجعون في مجهوداتهم الثقافية بتفعيلها من أجل حركة تقدم اجتماعي و علمي للبشرية و دفع مسيرتها لوضع حضاري أفضل و قد حظيت هذه الظاهرة باهتمام الإمام الحسن بن علي سبط رسول الله صلوات الله عليه و آله في عدد من التعليمية لا للإشادة بها و التنويه فحسب و إنما ليأخذ الإنسان مكانته في حركة التقدم الحضاري و لفت نظره بأن مدخل هذا التقدم يمر من بوابة العلم الذي هو نتاج عملية التفكير الإنساني و أن مكمن وظيفته العبادية ترتكز على احترام العقل و ممارسة

التفكير، فالعقل أساس التكليف الشرعي و قلب إنسانية الإنسان و جوهر حياته.

يقول أحد الباحثين:

«امتاز الإنسان عن سائر الكائنات الحية بالقدرة على التفكير و ما يترتب على ذلك من تقدير دقيق لأمور حياته و قد مكنته هذه القدرة على التفاعل بذكاء مع عناصر البيئة و مثيراتها المحيطة به و ذلك بغرض فهمها و السيطرة عليها ثم الاستفادة منها و يكشف تاريخ الإنسان عن استخدامات متنوعة لأنماط من التفكير و يظهر السجل الثقافي للإنسان أنَّه استخدم التفكير بأسلوب المحاولة و الخطأ و مارس التفكير الخرافي القائم على الوهم و البعد عن الحقيقية و خضع الإنسان في تفكيره أيضاً لسلطة الآخرين و استقر به جهده الدؤوب عند نقطة حاسمة بعد تعرفه على قواعد التفكير السليم

ص: 148

العلمي و ممارسته في مجالات شتى من حياته و ذلك بسبب موضوعية هذا النمط من التفكير و دقته و ضوابطه الصحيحة و اعتماده على المنطق و الحجة الرشيدة و الاستدلال السليم.

و يدين للتفكير السليم كل إنجاز حضاري حققه الإنسان و كل تنمية لمهاراته و قدراته الفردية و الاجتماعية، فالعقل و ما امتاز به من تفكير جعل التحدي الذي واجه الإنسان أكبر قوة دفع له لتحقيق إنجازات حضارية تتطور تدريجياً بتطور القدرات العقلية للإنسان، فالثمار الحضارية الأولى -و ما تزال حتى الآن- ناجمة عن استخدام الإنسان فكره و عقله و قد تنوعت قدراته و إنجازاته بنمو قدراته و إنجازاته بنمو قدرات الإنسان على استخدام عقله، فعندما لجأ الإنسان في بداية حياته العقلية لاستخدام أسلوب المحاولة و الخطأ في فهم ما يحيط به كان التعلم ضعيفاً و الحلول الناجمة عنه أقرب إلى الفسل منها للنجاح لهذا حاول الإنسان استخدام نمط آخر من التفكير يقوم على الخرافة و الوهم و البعد عن الواقع و تضخيم الأمور، فاخترع لنفسه وسائل السحر و الشعوذة و أوهم نفسه بسيطرته التامة على الطبيعة التي تسبب له الخوف و القلق و اعتقد أنَّه يواجه الواقع بهذا الأسلوب، ثم كشفت له التجارب ضعف التفكير الخرافي في تغيير الواقع و تطويره.

و قد دفعه هذا إلى مزيد من الجهد لمعرفة من التفكير أكثر دقة و تطوراً، فتوصل بعد معاناة تاريخية إلى التفكير العملي المنظم و إن اضطر في تاريخه الثقافي إلى الخضوع المذل للتفكير بعقل الغير و تقليد آرائهم و لا نستطيع بالتأكيد تحديد مراحل تاريخية دقيقة و حاسمة لتطور أنواع التفكير السابقة، فيحتمل أن تتداخل في مرحلة تاريخية معينة بعض هذه الأنماط و تجتمع في مدة زمنية و ما يزال هذا التداخل قائماً حتى الآن

ص: 149

بعد الثورة العلمية، فالالتزام بخطوات التفكير العلمي ليس رهناً على عصرنا الحديث و ليس مرتبطاً به فحسب، لأنَّ العقل الإنساني مارس التفكير العلمي في عصور سابقة و تعلم منه في حل ما واجهته من مشكلات و مع أنَّ هذا الاستخدام كان محدوداً و على مستوى أفراد قلائل إلا أنّ الإنسان استخدمه لحل مشكلاته في مرحلة سابقة، ثم ظل ينمو هذا الاستخدام حتى أصبح شائعاً و منتشراً في عصرنا و أضحى القوة الحاسمة في تنوع الإبداعات الإنسانية(1)».

***

و يلحظ من بعض النصوص التعليمية التي تم دوّنت في هذا المبحث و في مواضع متفرقة من مباحث أخر أن الإمام الحسن علیه السّلام قد استخدم في التنويه بظاهرة التفكير لدى الإنسان بعدد من المصطلحات الدالة عليها و المعبرة عن نشاطها و نتائجها و منها مصطلحات «التفكر، التفكير الفكر، يفكر، العقل، العاقل، رأس العقل، معقوله، القلب البصير، قلب البصير، الحكمة، التذكير، و فتق ما رتق منه ذهنه، استرعيته» و غيرها من الكلمات الذهنية المعبرة و قد ربطتها هذه النصوص بالهدف الأكبر للوجود .. و هو تقوى الله و طاعته و عبادته، فقال الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في مدخل أحدها ما لفظه: «أوصيكم بتقوى الله».

و يجسد التفكير أحد أهم المفاهيم الذي حظيت باهتمام الإمام الحسن في تراثه الثقافي و الروحي و الأخلاقي، فأغلب المفاهيم التي حددها علیه السّلام في نص «تحديد المفاهيم» السابق من خلال مجموعة الأسئلة التي وجهها له والده الإمام علي كانت ذات طبيعة عقلية محضة حتى في المفاهيم الاجتماعية و الأخلاقية و غيرها، فالتفكير -كعملية ذهنية

ص: 150


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية 457- 458

-هو أحد المصطلحات التي وردت في قائمة المفاهيم باسم العقل و لفظ السداد، فقال الإمام الحسن الزكي عندما سئل عن العقل : «حفظ القلب ما استرعيته(1)».

و إذا كان العلم سخر عملية التفكير لكشف العلاقة بين ظواهرها و كشف غوامضها فإن بعض نصوص الإمام تربط بين ظاهرة و أخرى في المجال السلوكي، فعلى سبيل المثال نجد في النص التربوي و الأخلاقي المنسوب للإمام الحسني علیه السّلام تطبيقاً لكشف جوانب العلاقة بين ظاهرتين سلوكيتين، قال علیه السّلام: «البخل جامع للمساوئ و العيوب و قاطع للمودات من القلوب»، فهذا النص هو في حقيقته مثال للعلاقة بين مشكلتين أو ظاهرتين، بين البخل كسلوك شخصي منفَّر في حياة الإنسان و بين تمزق العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمع ما كمجتمع زمانه و يحتاج هذا النوع من العلاقة بين ظاهرتين سلوكيتين لتفسير ذهني و هناك نصوص أخر مماثلة تفسر هذه العلاقة الاجتماعية في مجال السلوك بوجه عام.

***

التفكر و التفكير في معاجم اللغة

التفكر و التفكير من المصطلحات الواضحة في الحياة الإنسانية التي وجدت نفسها في معاجم اللغة و في الدراسات و الأبحاث و في ثقافة الناس و لكن الباحثين يجدون معاجم اللغة ملجأهم لتحديد مفهومها باطمئنان و تفيد بعض معاجم اللغة أن التفكر في الأمر هو إعمال العقل في أمر معيَّن أو مشكلة ما بالتأمل و التدبر و طلب المعاني للتوصل إلى حلها و معرفة المجهول عن نظر و رويّة، فكلّ ما يخطر بالقلب أو العقل

ص: 151


1- السيد حسن الشيرازي كلمة الإمام الحسن، ص 60، والموسوي، الروائع المختارة ص 137

من المعاني يقال له «فكر» و ترى هذه المصادر أن التفكير في الأمر -بوصفه نشاطاً ذهنياً- يسمح للعقل الإنساني بترتيب بعض ما يعلمه ليصل به إلى مجهول، فكل ما يخطر بالقلب أو العقل أو المعان يقال له «فكر(1)».

و هذا يعني أن «التفكير» حركة داخلية لحل مشكلة أو كشف حقيقة أو هداية الإنسان أو توجيه سلوك أو تنمية قدرات و طاقات(2).

***

مفهوم التفكير

لا نريد أن ندخل في تعريفات العلماء المعقدة لهذه الظاهر و يكفي التحديد العام لمفهومها في معجم لغوي و نعتقد أن التفكير -كظاهرة بشرية- هو بلغة سهلة: حركة ذهنية أو نشاط عقلي يبذله الفرد بغرض التغلب على عقبة أو مشكلة تعترض طريقه و تسبب له توتراً أو تأزماً نفسياً لا يزول إلا بالغلبة على هذه العقبة أو المشكلة و توظيف هذه الحل في خدمة الإنسان و المجتمع.

***

أهداف عملية التفكير

يتوخى الفرد المفكر من «تفكره و تفكيره» مجموعة أهداف تربوية و هي كما يلي:

1. إشباع لذة الإنسان في التفكر و إعمال فكره كحاجة عقلية محضة.

2. تدريب الإنسان نفسه أو الآخرين على التفكر و التفكير الدائم.

ص: 152


1- المستجد في اللغة والإعلام ص 591 و كذلك المعجم الوسيط، ج 2 ص 724
2- یوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 459

3. تنشيط العمليات العقلية المتصلة بظاهرة التفكر ذاتها كالتعلم و الإدراك الحسي و التذكر و حل المشكلات و فهمها و غيرها.

4. التعرف على عوامل نمو القدرات العقلية و اكتشاف معوقات نمو عملية التفكير من خلال تجارب عقلية ذاتية.

5. توظيف عملية التفكر و التفكير في تنمية قدرات الذات و إحياء «القلب البصير» لدى الشخصية الإنسانية بخاصة المؤمنة.

6. استثمار عملية التفكر و التفكير في تحقيق رضا الله سبحانه من خلال اكتشاف حقائق الذات و العالم أو الكون الخارجي.

7. إظهار القيمة التربوية لعملية التفكر و التفكير.

***

نصوص التفكير:

لدينا في هذا الجزء من مبحثنا مجموعة نصوص تشير للتفكير و الفكر و تأثيره في عمليات التعلم و التعليم و بعض هذه النصوص تذكر ألفاظ الفكر و التفكر و التفكير مباشرة و بعضها لا تذكر الألفاظ السابقة و لكنها تعني كإشارات غير مباشرة مظاهر للألفاظ الثلاثة كاستخدام كلمات.. أسمع الأسماع، وعي التذكير، أو تشاور قوم، هدوا إلى الرشد، أو رشدهم، تعرف موارده و مصادره کلمات العقل، استرعيته و جملة «وفتق ما رتق من ذهنه» و غيرها من الكلمات أو الجمل أو المقاطع اللفظية و سنكتفي في حديثنا عن موضوع «التفكر» كطريقة للتعلم ببعض النصوص التي ذكرت مباشرة مصطلح «التفكير» أو كلمات مرتبطة به بالرغم من أنه ظاهرة بحث واسعة و مهمة في

ص: 153

حياة الإنسان كما في النصوص:

. و قوله: «أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكر، فإن التفكر أبو كل خير و أمه(1)».

. و قوله: «عليكم بالفكر ، فإنه حياة قلب البصير، ومفاتيح أبواب الحكمة(2)».

. و قال الإمام الحسن كذلك في نص آخر: «التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور(3)».

. و قال كذلك: عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(4)».

. و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به، أسلم القلوب ما طهر من الشبهات(5)».

. و قول الإمام الحسن الزكي بن علي عليه أفضل الصلاة و السّلام في مقطع من نص يدعو فيه الناس للارتباط بالعلماء و مجالسهم و فيه إشارة للآثار الايجابية الناجمة عن الاختلاط بالعلماء في تكوين المهارات اللغوية و العقلية: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه».

. و في سؤال حدد فيه بعض المفاهيم العلمية و الأخلاقية سُئِلَ علیه السّلام فقال: «ما

ص: 154


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 200
2- السيد حسن، كلمة الإمام الحسن ص 238
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 199
4- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 50
5- الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 170 و الشيرازي، كلمة الحسن ص 199 و الموسوي، كتاب الروائع المختارة ص 140

العقل؟ فأجاب: «حفظ القلب كل ما استرعيته(1)».

. و قال: «العقل خليل المرء(2)».

. و قوله علیه السّلام: «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(3)».

. و جاء عنه قوله علیه السّلام: «لا يغش العاقل من استنصحه(4)».

***

المعاني العامة للتفكير في النصوص السابقة

1. تأكيد أحد هذه النصوص على «إدامة التفكير» و يوحي التعبير برغبة الإمام في حث الناس على التفكر المستمر لإظهار قدرات العقل و انجازاته الإبداعية و تهيؤه في مواجهة المشكلات و إيجاد حلول لها و التعبير عن مستوى الإمكانيات التي يمتلكها العقل الإنساني كنعمة إلهية، لهذا وصفه علیه السّلام بأن التفكير هو أبو الخير و أمه كما في النص الأول و هو مفاتيح أبواب الحكمة كما أشار النص الثاني و تتجسد في العلوم العقلية و علوم الحكمة التي هي من أهم نواتج التفكير السليم المستمر.

2. يشير النص الأول إلى العلاقة بين تقوى الله و التفكر المستمر و يعني هذا أنّ التفكير مجرد أداة إنسانية في خدمة هدف عبادي كبير هو تقوى الله سبحانه و تعالى،

ص: 155


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 60 و الموسوي، كتاب الروائع المختارة ص 138
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج 71، ص 409 و الري شهري، كتاب ميزان الحكمة، 6 ص 404
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ص 111 و الشيرازي، كلمة الحسن ص 63، 201 و كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 131، ميزان الحكمة، ج 6 ص 434
4- الموسوي، الروائع المختارة ص 142

لذلك أمر الإمام الحسن في ربط تربوي هادف بتفعيل القدرات العقلية بعمليات تفكير من أجل فتح أبواب الخير و منها تحقيق تقوى الله و استخدام المعرفة الناجمة عن عملية التفكير في خدمة هذا الهدف و توظيفهما في خدمة الإنسان، فالتفكير يخدم الإنسان بفتح أبواب الحكمة عليه و تعميم نتائج العلوم العقلية في حياته الخاصة و الاجتماعية، أمَّا تقوى الله فهي ضمان انحراف الإنسان في استخدام نتائج العلم ضد الإنسانية، فالعلم لم يستطع ضمان السعادة للإنسان، لهذا يحتاج الإنسان لتقوى الله كيلا تنحرف نواياه في استخدام العلم استخداماً سيئاً، فتقوى الله هي مصدر القيم النبيلة التي تحقق سعادة معززة بنتائج العلم و بالتالي فإنّ الربط بين تقوى الله و ديمومة التفكير بغرض استثمارهما -كعاملين متآزرين- في توفير سعادة الإنسان لا بمجرد تحقيق عبادي محصور في أعمال تعبدية من قبل الإنسان لله تعالى.

3. و يشير النص التربوي الثاني إلى معاني النص الأول و يوجب على الناس ممارسة عملية التفكر بوصفها وظيفة عبادية و تنمية للقدرات العقلية عند الإنسان و قول الإمام الحسن علیه السّلام: «عليكم بالفكر» يتضمن الأمر بوجوب ممارسة الناس للتفكر و يعلل الإمام ذلك إن التفكير هو «حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(1)» و هكذا فإن النصين يتحدثان عن عقل وظيفي يتم تنميته بعمليات التفكير المستمرة و الديمومة عليه، أما العقل الآخر فهو العقل العبادي الذي يتيح للإنسان تحت وهج تقوى الله سبحانه أن يستفيد من إبداعات العقل الوظيفي و جعلها في خدمة الإنسان و جعلها أبواباً للحكمة و بذلك يكون التفكير مفتاحاً لحياة قلب البصير، أي يفتح على

قلب الإنسان العلم بالحقائق و استبصاره بها و هذا يعزز العلاقة بين تقوى الله و عملية التفكير السليم في تحقيق أهداف نبيلة.

ص: 156


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 238

4. أمّا قوله علیه السّلام: «و أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به» فيشير إلى استخدام المعرفة و نتائج التفكير السليم في تحقيق الأهداف النبيلة التي يسعى إليها الإنسان و تحرير نفسه من معوقات التفكير و أصفاد الشهوة ليكون قلبه مستعداً للوعى بالحقائق الصحيحة التي استبصرها و أدركها بتجليها أمام قلبه و عينه نتيجة تأمل عقلي ذاتي أو تقبل نصيحة من شخص أخلص له و من ثم هيّأ قلبه للتطهر من الشبهات التي تشغل القلب عن التفكير السليم و من هنا قال الإمام الحسن بأنّ «أسلم القلوب ما طهر من الشبهات(1)» لتشجيع الناس على تحرير قلوبهم من الشبهات حتى تكون عملية التفكير مثمرة و ذات علاقة بتقوى الله سبحانه و تعالى.

5. و في قوله: «عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه» إشارة إلى تحرير النفس من أصفاد الشهوة بتغليب ملذات البطن على ملذات التفكير و حاجات العقل، لهذا دعا -كما تقدم قولنا في موضع من مبحث سابق- إلى التوازن في إشباع الإنسان لحاجاته و أن لا يكون إشباع حاجاتنا الفسيولوجية على حساب تلبية حاجات العقل، فيؤثر سلباً على عملية «التفكير» لدى الإنسان، مما يعوق الوصول للحقائق الصافية و يحول دون تحرير النفس من أصفادها و أدرانها و هذا كله يمنع من جعل التفكير «باباً للحكمة و مفتاحاً للخير و حياة لكل قلب بصير» كما جاء في النصوص السابقة، لهذا ركزت فكرة النص على تحقيق توازن بين حاجات الإنسان و إشباع سوي بين الحاجات «المأكول» و الحاجات «المعقول».

6. و يذهب الإمام الحسن علیه السّلام في مقطع من نص عن الارتباط بالعلماء و مجالسهم إلى أثر ذلك في تكوين المهارات اللغوية و العقلية: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق

ص: 157


1- الحسن بن شعبة،الحراني تحف العقول عن آل الرسول، ص 170 كلمة الحسن ص 199 و كتاب الروائع المختارة ص 140

عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه» و هنا يحدد الإمام الحسن أهمية هذه المجالس في تنمية القدرات اللغوية و العقلية و علاقتها مع بعض و في موضع سابق من هذا المبحث أشرنا للعلاقة بين اللغة و التفكير حينما تحدثنا عن آثار مجالسة العلماء في النمو اللغوي و تنمية القدرات العقلية، فقول الإمام الحسن الزكي بن علي علیه السّلام في النص التالي إنَّما يربط بين اللغة و الفكر و تكوين مهاراتهما لدى المتعلم كناتج لتأثير الارتباط بالعلماء و حضور مجالسهم و يقول عليه أفضل الصلاة و السّلام «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه»، أي تنمو القدرات اللغوية و تتفتح قدرات العقل الفطري و تبرز الإمكانيات العقلية للذكاء.

إنَّ الإنسان ينتج أفكاراً و يلجأ إلى تكوين معانٍ فيحتاج إلى لغة انسجاماً مع قول الإمام علي علیه السّلام «الألفاظ قوالب المعاني(1)» و هو بحاجة إلى الاحتفاظ بهذه المعاني بهذه المعاني التي اكتسبها في مصادر أو سجلات ثقافية، كما يحتاج في الوقت نفسه إلى وسيلة تجعل الإنسان قادراً على التعبير عن أفكاره بلغة مخاطبة مفهومة و ينقلها إلى الآخرين، فالتفكير -كما أنَّ اكتشف الإنسان- لا يكفي و إنّما اضطر إلى التعبير عنه بوسيلة هي اللغة التي تتمثل في رموز حسية و كلمات و أعداد و علامات و معادلات رياضية يستخدمها العقل الإنساني لحفظ المعاني من الضياع و نقلها و التمييز بينها و بذلك يستطيع بهذه الخطوات الإفادة من خبرات الآخرين و الاطلاع على إنتاجهم الفكري و الأدبي و الثقافي بواسطة اللغة في الحاضر و في الماضي لأنَّ اللغة تجعل التفكير يحتفظ بالمعاني التي اكتسبها الإنسان عبر تاريخ طويل ليستفيد منها في حاضره ومستقبله و ليست اللغة بالضرورة كلاماً ينطق به بحروف و ألفاظ، فقد يدرك الصغار معاني من بيئتهم بالحركات و الانفعالات و الإشارات و اللمس دون أن يتكلم أو يستخدم ألفاظاً

ص: 158


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 8، ص 452

كأن يضع طفل يده في غفلة منه على إناء ساخن، فيدرك معنى السخونة و يفهم ضررها أحياناً و يتجنب لمسها من جديد لارتباط «اللمس» بألم الحرارة و وهج سخونتها.

7. إنَّ نصوص الإمام الحسن و كلماته القصار في موضوع التفكير و في قضايا أخرى كالإلهيات و المواعظ الأخلاقية و الأدعية و موضوع الاعتذار و غيرها تحتضن وسائل عقلية لتنشيط عملية التفكير في حياة الإنسان و من وسائل التفكير ما يأتي:

أ. العلاقات بين الأشياء و المفاهيم و الأفكار كإشارته للعلاقة بين الأحداث و بين البخل كسلوك منفر و بين قطع مشاعر المودة بين البخيل و الآخرين من أفراد المجتمع سواء كانوا من الفقراء المحتاجين أو غيرهم.

ب. المفاهيم: و نعني بالمفهوم الصورة الذهنية عن شيء معين أو فكرة ما، ظاهرة، سلوك محدد، أو هو مجموعة الصفات التي تنطبق على شيء ما فتحدده بدقة، بحيث يكون المفهوم مجالاً لتفكيرنا و للمفاهيم ذات أهمية بالغة في التعبير عن الشيء لتكوين صورة ذهنية عنه و تجسيده باللغة و التفاعل الاجتماعي، كما وجدنا في الأسئلة التي وجهها الإمام علي لابنه الحسن عليهما السّلام قدرته على تحديد دقيق للمفاهيم و قد نشرنا النص كاملاً عند حديثنا عن النص الثالث من طريقة (السؤال و الجواب) السابقة الذكر أو كما يسميها علماء التربية بالطريقة الاستجوابية و قوله على سبيل المثال و هو يحدد مفهوم «البخل» فقال علیه السّلام: «هو أن يرى الرجل ما أنفقه تلفاً و ما أمسكه شرفاً(1)» و هناك حوالي (28) مفهوماً متنوعاً في قائمة المفاهيم التي حددها الإمام الحسن علیه السّلام بناءً

ص: 159


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 128 تحف العقول عن آل الرسول، لابن شعبة الحراني قال الإمام الحسن في رده على تحديد مفهوم الشح: «أن ترى ما في يديك شرفاً و ما أنفقته تلفاً» انظر ص 162 و كذلك كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، ج 2 ص 201. و كتاب الروائع المختارة للسيد مصطفى الموسوي، ص 128

على أسئلة والده أمير المؤمنين الإمام علي عليه أفضل الصلاة و السّلام.

ت. الرموز: الرمز هو كل ما ينوب عن الشيء أو ما يشير إليه مثل الحروف و الألفاظ و الكلمات و الأرقام و العلامات و يلحظ أن الإنسان يعزز صلته بالواقع الخارجي باستخدام الرموز و تعدّ الحروف و الكلمات التي تتكون منها خطب الإمام الحسن و أدعيته و رسائله و كلماته القصار و نصوصه الأخلاقية و الروحية و العقائدية و التعليمية رموزاً لغوية قوية تنقل المعنى لشيء ما، فنتصور معنى البخل أو اللؤم أو الاعتذار أو الإساءة و من هنا يمكن وصف هذه الرموز أدوات لغوية مهمة لعملية التفكير الإنساني.

ث. الصور الذهنية: و هي عبارة عن صور معبرة عن أحداث، مشاهد من الواقع فنستعيدها بعد غيابها كاستحضار لمسة الطفل لأبيه و هو يحنو عليه أو يربت على كتفه، أو استحضار صورة صديق و هو يسدي نصيحة و نحن هنا نستحضر بواسطة هذه النصوص حركة الأحداث في زمان الإمام الحسن الزكي علیه السّلام حتى لو لم تشهدها بعينك مباشرة.

ج. الإشارات: و هي من أوضح وسائل التفكير، وتدل على أحداث ملحوظة في حركة الواقع الإنساني، فجرس «المدرسة» يدل زمنياً على بدء الدوام، الحصة، انتهاء الدوام و نحن نتصور أن بعض نصوص الإمام الحسن تعبر عن إشارات لأحداث معينة، فطرح الأسئلة في هذه النصوص و إبداء المواعظ و إثارة التعجب و الترغيب و التحذير و التشبيه و ذكر بعض الكلمات المعبرة كلفظ «ما تشاور قوم» إنما هي إشارات عقلية لنوعية التفكير و طبيعته و تدل على حركة يفهمها الفرد و يتفاعل معها فيستجيب بما يناسب حركة الإشارة و نوعيتها، فالتفكير كما يقول الإمام في أحد نصوصه التعليمية

ص: 160

هو: حياة القلب البصير ثم قال: «كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور(1)».

8. عندما سُئِلَ علیه السّلام فقال: ما العقل؟ فأجاب: «حفظ القلب كل ما استرعيته(2)» و هنا يؤكد هذا النص على علاقة إيجابية بين التفكير و عملياته الداخلية و بين الذكاء و أنشطته الداخلية كقدرة عقلية فطرية، فالتفكير مرتبط بالذكاء أو العقل الموهوب على حد تعبير الإمام الحسن علیه السّلام و لا يأخذ مداه أو فعاليته القصوى بقدر معين بتفاوت فيه البشر إلا بوجود نسبة ذكاء فطري و الواقع أن التفكير حركة إيجابية في تركيز الذهن و تفعيل القدرة العقلية الفطرية أو الذكاء لاستخلاص أفكار كامنة فتجد طريقها إلى البروز بتركيز الذهن في قضايا تكون مجالاً للتفكير و الوصول إلى قوانين استرشادية تضبط حركة التفكير و توجه سلوك الإنسان مستلهماً نتائج تفكيره السليم و من هنا قال الإمام الحسن الزكي بن علي علیه السّلام: «لا يغش العاقل من استنصحه(3)».

9. و لا يكفي أن يكون الداخل الإنساني مجالاً للتفكير و حركته، فثمة حاجة لإبراز تأثير التفكير و نتائجه الإيجابية كنشاط عقلي في حركة الواقع الإنساني و انعكاس بصماته على توجيه الحياة الفردية و الاجتماعية للإنسان و السمو بها كتوجيه سلوك الذات و تحسين إدارة العلاقة مع الناس في المجتمع إدارة صحيحة و إيجابية، فمدارة الناس نصف العقل و قوله علیه السّلام الله و بركاته في نص آخر: «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(4)».

ص: 161


1- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 199 و كتاب كلمة الإمام الحسن للعلامة الشيرازي، ص 23
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 60 و الموسوي، كتاب الروائع المختارة ص 138
3- الموسوي، الروائع المختارة ص 142
4- المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ص 111، السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 63، 201 و الموسوي، كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 131، ميزان الحكمة، ج 6 ص 434

العوامل المؤثرة في التفكير

يتأثر التفكير ك- «نشاط عقلي» في حياة الإنسان بعدد من العوامل المباشرة و يأتي بعضها من داخل الفرد نفسه و طبيعته و بعضها الآخر تأتي من بيئته الخارجية و من المقبول أن يهتم الخطاب التربوي الحسني بإشارات لهذه في باطن نصوصه كما تبين من بعضها و من العوامل المؤثرة في ظاهرة التفكير ما يأتي:

أولاً: عوامل من طبيعة المتعلم (الفرد) و هي مثل ذكائه أو ما سماه الإمام الحسن ب- «العقل الموهوب» و كذلك عمر المتعلم و جنسه.

ثانياً: عوامل من خارج ذاته و نقصد بيئته الخارجية كالتدريب و نوع التدريب و الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها.

***

عوامل من طبيعة المتعلم أو الفرد

1. الذكاء «العقل الموهوب»:

و هو ما ذکرنا أنه قدرة الفرد العقلية الفطرية التي ورثها عن أسلافه و بخاصة والديه، فهذا العامل له علاقة كبيرة بظاهرة التفكير الإنساني و عملياته الذهنية و نتائجها و قد تتفاوت قدرات الفرد في القيام بهذه المهمة بناء على تفاوت نسبة الذكاء الموروثة، لهذا أشار الإمام الحسن بن علي إلى هذا التفاوت في تفاوت الجزاء الأخروي، فجزاء الأفراد على قدر ما وهبهم من عقل موهوب.

2. الفروق الذاتية العقلية

و يظهر الفروق الفردية أو ما يسميه علماء النفس التربوي المعاصرين بالتمايز في

ص: 162

الذكاء الطبيعي و في أنشطة التدريب نفسها و في تلقي الخبرات التعليمية من مجالس العلماء و من غيرها، فالأفراد لا يتساوون في نسب ذكائهم و لا في فرص تعلمهم و لا تنطبق تجاربهم في تنمية التفكير بجهد متساوٍ، كما أن بيآت التعلم و مجالسة ليست واحدة في ظروفها و لا في الجهد و من ثم فالمنطقي حدوث تفاوت في تنمية التفكير و اختلاف مستويات التعليم و عدم تساوي خبرات الأفراد في تعلمهم.

3. دافعية التعلم:

لها كبير في التعلم و في مواقف التفكير، فالقلب البصير كما عبر الإمام الحسن يستقبل المعرفة و يفكر فيها الشخص بطريقة تختلف عن صاحب قلب منغلق و غير بصير فكلاهما لديه دافعية بالتأكيد، لكن دافعية أحدهما بصيرة، واعية و ناضجة و قادرة على الاستيعاب و الانفتاح، أما صاحب الدافعية الأقل فقلبه منصرف عن التفكير بعمق، فالمؤمن لا يلهو كما قال و لا يغفل و لهذا إذا تفكر حزن لأنه بعملية تفكره تنكشف له الحقائق المغيبة لدى غيره و يطلع عليها فيحزنه مستواه و موقعه المتواضع بالقرب من الله أو البعد عن طاعته و هذا لا يدرك صاحب القلب غير البصير.

عوامل من طبيعة المتعلم أو الفرد

1. مرحلة المتعلم:

يرتبط التفكير بعملية تعلم الفرد منذ سنين باكرة، فإذا ابتدأ التعلم في مرحلة مبكرة كانت فرص التعلم و التفكير أيسر و أقوى فاعلية و تتناقص هذه الفرصة و لا نقول بنهايتها أبداً، كلما تأخرت بيئة تعلمه و انعكس هذا على فرص التفكير التي يعيش فيها، مما يسرع بنمو قدرات الأول و يبطئ بقدرات الآخر و هذا يترك بصماته على تفكيره و مستوياته و أدواره في مواجهة مشكلات الفرد و حلها.

ص: 163

2. التدريب الموجه الهادف:

لا يكفى أن يوهب الفرد نسبة عالية من الذكاء الطبيعي و إنما يحتاج إلى تدريب موجه و هادف يؤدي إلى تنشيط القدرة على التفكير و عملياته، فيؤدي إلى مزيد من تنمية القدرات التعليمية و لهذا أشارت نصوص الإمام الحسن الزكي بن علي إلى التعلم من الصغر و مواصلته حتى إتقان الخبرات و تعلم ما هو جديد و إدامة التفكير و الاختلاط بالعلماء و حضور مجالسهم و الاهتمام بتنمية القدرات اللفظية و العقلية الناس للارتباط بالعلماء و مجالسهم و تكوين المهارات اللغوية و العقلية كما جاء في قوله علیه السّلام: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه» و يظهر التدريب أيضاً في نص «تحديد المفاهيم» الثمانية و العشرين و كذلك يتم تدريب عملية التفكير بالتشاور الجماعي و حفظ القلب البصير كل ما استرعاه من خبرات تجارب.

3. طرق التعلم و أساليب التدريب:

لا يتاح للمتدرب دائماً طرق تفكير واحدة، فهناك معلمون متفاوتون في إمكانياتهم الذاتية و اتجاهاتهم النفسية و اختلاف أهدافهم من العمل في المجال التربوي، لهذا ليس بالضرورة أن تكون طرائق تدريب طلابهم متساوية أو متشابهة و ليس هناك من نتيجة لهذا التباين سوى تباين أيضاً في نوعية التفكير و مساراته و حدوده، فبعض المعلمين لهم اتجاهات دينية محضة و ربما منحرفة في عقائدها، فلا يتوقع في بيئة تفكير كهذه أن يكون مسار التفكير و منتجاته من الآراء في وضع صحيح يطمئن المفكر العابد لله سبحانه و تعالى على مسار تفكره و تأمله العقلى.

***

ص: 164

خصائص التفكير في خطاب الإمام:

كما للتركيبة الآدمية في كثير من ظواهرها المتعددة خصائص أساسية، فثمة خصائص للتفكير الإنساني استنتجناها من نصوصه التعليمية و المعرفية و في مجال التفكير و من تلك الخصائص التي تعرفنا عليها في مجال التفكير الإنساني ما يأتي:

1. ربانية التفكير و علاقته (بتقوى الله و طاعته)، فتأكيد الصلة بين التقوى و عملية التفكير ذاتها هو تحديد لهدفية التفكير و صبغه بطابع عبادي روحاني، لذلك قال: « أوصيكم تقوى الله سبحانه و تعالى».

2. استمرارية التفكير و ديمومته، يظل الإنسان في تفكير مستمر سواء واجه مشكلة أو أنه يتفكر خارج عالمه الدنيوي استعداداً لمعرفة مصيره في الآخرة.

3. هدفية التفكير هناك تفكير لحل مشكلة آنية ثم يجمد تفكير المرء عند رتابة الحياة و بساطتها و لا يتمنى استخدام هذه الطاقة أبعد من أرنبة أنفه، فيقضي على طموحاته المستقبلية و هناك من يكبر عن رتابة الحياة و يفكر في كل الظواهر المحيطة به لينتج شيئاً جديداً.

4. توازن التفكير و توزعه على كل المجالات الإنسانية يتحرك التفكير السليم ليتوزع على مجالات حياة الإنسان و عالمه المادي لا ليحقق أحلامه بحياة قصيرة و إنما ليمد أعناقه لما بعد دنياه بأجلها القصير.

5. واقعية التفكير، فكل مجالات التفكير لديه هي حقيقية واقعية و يمكن للفرد أن يتخذ منها موضوعاً للتأمل و التدبر و إعمال عقله للوصول إلى حقيقة جديدة أو تثبيت حقيقة قائمة أو حل مشكلة معينة.

ص: 165

أدوات التفكير

إذا كان الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام قد دعا في نصوصه -كما تقدم الحديث- للتفكر و التفكير و التدبر في الأمور و إعمال العقل فيها فإن أدوات الإنسان في ذلك:

1. الحواس و لاسيما حاستَي النظر أو البصر و حاسة السمع و في ذلك يشير النص الآتي و هو يتحدث عن القرآن الكريم: «و اعقلوه إذا سمعتموه عقل رعايته و لا تعقلوه عقل روايته، فإن رواة الكتاب كثير و رعاته قليل(1)» و يدعوهم في نص آخر إلى قراءته و حفظه و العمل بأحكامه، فيقول الإمام الحسن علیه السّلام: «إن هذا القرآن فيه مصابيح النور و شفاء الصدور، فلْجُلِ جال بضوئه و ليُلجم الصفة قلبه، فإنَّ التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور و ما بقي في الدنيا غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلكم على هداكم و إنَّ أحق الناس من عمل به و إن لم يحفظه و أبعدهم من لم يعمل به و إنْ كان يقرؤه(2)».

2. العقل أو القلب و هذه الأداة ضرورية في التدبر و التفكير و تكوين المعرفة فمن الصعب أن تنتج التجربة الحسية علماً و معرفة إذا لم يكن هناك عقل يدرك أو يتفهم و يفسر و يستخدم مهاراته الإدراكية الأخرى، لهذا يعد العقل أو القلب مصدراً

للمعرفة.

3. الوحي: و هذا المصدر خارج عن الذات الإنسانية، لكنه في نصوص المشرع مصدر رئيس للمعرفة و التعلم(3) و الدعوة للتفكر من نصوص لها علاقة بالوحي واضحة في مجمل النصوص المتقدمة للإمام الحسن علیه السّلام و إشارته لقراءة القرآن الكريم

ص: 166


1- الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول ص 164
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 23
3- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 464

و حفظه و العمل به تعبیر عن الارتباط بالوحی الإلهی.

***

مجالات التفكير

يمكن استعادة النصوص الثلاثة التي ذكرت مصطلحات الفكر و التفكر و التفكير للتعرف مباشرة على مجال التفكير في تركيبتها اللفظية.

. فقوله: «أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكر، فإن التفكر أبو كل خير و أمه(1)».

. و قوله: «عليكم بالفكر، فإنه حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة(2)».

. و قال الإمام الحسن كذلك في نص آخر: «التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور(3)».

إذا أمعن الكائن الآدمي بعقله الفطري و المكتسب النظر و التأمل في النصوص الثلاثة يصعب عليه الجزم بتحديد مجال معين لتفكيره حتى و إن ظهرت بعض الدلائل على ذلك، فكلمات «الفكر، التفكر، التفكير» تتوسع قرآنياً في مجالات ثلاثة هي الذات و عالمها الداخلي و الكون أو العالم الخارجي و التاريخ أو المجتمع البشري و لكن ما نلحظه مباشرة في النصوص الثلاثة أن مجال «التفكير» هو الذات فعلياً و تأمل عالمها الداخلي.

و توحي بعض كلمات النصوص الثلاثة السالفة الذكر بتركيزها على هذا المجال، فعبارات «حياة القلب البصير و حياة قلب البصير و مفاتيح أبواب الحكمة و كما

ص: 167


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 200
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 238
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 199

یمشي المستنير في الظلمات بالنور و أوصيكم بتقوى» تدل على خطاب موجه للذات الإنسانية، بيد أن «إحياء القلب» و جعله بصيراً لا يتم بالتأمل في عالم الذات الإنسانية وحدها و إنّما بتأمل أوسع يمتد إلى التأمل في الآفاق لا يقل أثراً عن التأمل في النفوس.

فالعالم المادي أو الكون الخارجي أحد أهم مجالات التفكير لدى الإنسان و أوضحها و هو بوابة الوصول إلى بعض أهداف عملية التفكير، بل أن كلمة «الأنفس» القرآنية كما نفهمها لا تتوقف عند حدود حياة فرد أو نمط معيشة لجماعة و إنما تشمل مجال التفكير في حركة المجتمعات و سبرها في التاريخ لقول الإمام الحسن علیه السّلام:

«اتقوا الله عباد الله وجدوا في الطلب و تجاه الهرب و بادروا العمل قبل مقطعات النقمات و هاد اللذات فإن الدنيا لا يدوم نعيمها و لا تؤمن فجيعها و لا تتوقى في مساويها غرور حائل و سناد(1) مائل، فاتعظوا عباد الله بالعبر و اعتبروا بالأثر و ازدجروا بالنعيم و انتفعوا بالمواعظ، فكفى بالله معتصماً و نصيراً و كفى بالكتاب حجيجاً و خصيماً و كفى بالجنة ثواباً و كفى بالنار عقاباً و وبالاً(2)».

و مع ذلك فإنَّ ما يعنينا وفاقاً لمعاني النصوص الثلاثة هو التركيز على مجال «عالم الذات و التأمل في عالمها الداخلي» و لكن يمكن النظر للنص الرابع على أنه تحديد المجال ثانٍ للتفكير هو «دراسة التاريخ و قوانين حركة المجتمع الإنساني»، مع إشارات الفكر و التفكر و التفكير توحي بطريق غير مباشر للتفكر في:

1. مجال الآفاق.. أي التأمل في ظواهر الكون و العالم الخارجي المادي.

ص: 168


1- السناد: ككتاب الناقة الشديدة القوية و من الشيء عماده «انظر تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 170»
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 170

2. و عندما نطق الإمام بالأقوال الثلاثة قصد المجالات الثلاثة إلا أن المعاني الظاهرية تتجه نحو دراسة «عالم الذات و تأمل خصائصها» في النصوص الثلاثة الأول.

3. و أما في النص الرابع فيتجه للأمر في دراسة حركة المجتمعات و سيرتها في التاريخ.

و لا نجد ذكراً مباشراً للآفاق بالتعبير القرآني في النصوص الأربعة، كما لم نعثر مباشرة على إشارة تذكر الآفاق في نص تربوي حسني، لهذا نرى أن الدعوة للتفكر شاملة تمتد للمجالات الثلاثة .. الذات و الكون و المجتمع أو التاريخ مع ذكر مباشر للأول في الأحاديث الثلاثة الأول و ذكر مباشر لدراسة التاريخ أو المجتمع في النص الرابع.

و في النص الخامس تأكيد على التفكر في الذات و عالمها، فقد جاء رجل للإمام الحسن مستصعباً القدرة على «عدم صدور فعل الذنب» منه، فرد عليه الإمام الحسن بقوله و هو دعوة للتفكر: «افعل خمسة أشياء و اذنب ما شئت:

لا تأكل رزق الله و اذنب ما شئت.

و اطلب موضعاً لا يراك الله و اذنب ما شئت.

و اخرج من ولاية الله و اذنب ما شئت.

و إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك و اذنب ما شئت.

و إذا دخلك مالك النار، فلا تدخل النار و اذنب ما شئت(1)».

***

ص: 169


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 241

أنواع التفكير

حصرنا عملية التفكير أكثر من نوع، فهناك خمسة أنواع:

أولاً: أنواع التفكير من المنظور العبادي- السيكولوجي و هما:

نوع سوي مأمور به و يركز على التأمل العميق في آلاء الله و صنعته في الكون و في أحوال الأمم الماضية و في السلوك العام للأفراد (عالم الذات و أفعالها) كما في نصوص التفكر و التفكير التي مررنا عليها، فقد أوصى في مدخل أحد نصوصه التربوية بقوله: «أوصيكم بتقوى الله و إدامة التفكير».

و نوع آخر من التفكير غير السوي يسميه المعالج النفسي الوضعي بالتفكير العصابي و قد نهى المشرع التربوي الإسلامي عنه لأنه موجه لأهداف لا تتفق مع الإطار العام للفلسفة و تتمثل المعاصي و اللذات المحرمة و الإكثار من التفكير في ذات الله لا في مخلوقاته مظاهر سلبية للتفكير العصابي(1) كما في نص حديث «اذنب ما شئت» المتقدم ذكره.

***

ثانياً: أنواع التفكير من الناحية الوظيفية و هما:

1. التفكير الاستنتاجي كما في النصوص، هناك مقدمات في باطن كل النصوص التي اشرنا إليها و هي مدخل منطقي تمكن الفرد من التفكر في معاني هذه المقدمات و استخراج نتيجة منها يتم التوصل لها بفعل إعمال العقل فيها و التدبر في مضامينها.

2. و نوع ثانٍ من التفكير هو التفكير الناقد أو النقدي كما أوضحه الإمام الحسن علیه السّلام

ص: 170


1- يوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية ص 465

في حديثه عن «المأكول و المعقول» الذي انتقد فيه مبالغة الناس في إشباع حاجاتهم الجسدية و إهمال حاجات عقولهم و طالب علیه السّلام في هذا النص بالدعوة إلى تحقيق التوازن في اشباع حاجات الجسد و حاجات العقل على حد سواء.

3. تفكير تأملي في أفعال الذات و ظواهر الكون و سير المجتمعات.

4. تفكير مادي حسي يعتمد على إثارات الحواس الخمس و فعاليتها، فالحواس نافذة التعلم و المعرفة و التفكير.

5. التفكير الواقعي، كالذي يهدف إلى حل مشكلة قائمة فعلياً.

***

القيمة التربوية للتفكير

العلاقة بين التفكر و التعلم جدلية و تبادلية فالتفكير يوجه عملية التعلم في مساراتها الصحيحة و عملية التعلم ترفع من فعالية التفكير باستخدام طرائق متجددة تناسب كل ظرف يعيشه الإنسان و تجعله علامة على تأثره بمستوى المفكر إن كان عالماً من العلماء أو كان من الناس العاديين أو بحسب الموقف المثير.

و من هذه الجوانب التي تمثل مظاهر للتعلم الناجم عن عملية التفكير:

1. التفكير أساس التخطيط، فالفرد عن طريق هذه العملية يدرس الواقع و يبدأ في التخطيط لحاضره و مستقبله بنحو أفضل.

2. استخدام مبدأ التغذية الراجعة على أساس عملية التفكير، فهذه العملية تطلع الفرد على نتيجة عمله و تحيطه بأدائه، فيدرسه بدقه مما يتيح له أن يتعلم جيداً و يتقن أداءه بصورة أفضل.

ص: 171

3. كشف الحقائق و استجلاء الأمور و استبصارها.

4. توجيه السلوك (خاصة في جانبه العبادي) و الدنيوي أو الوظيفي كما ذكرنا ذلك في حديثنا عن أنواع التفكير بقسميه العبادي و الوظيفي.

5. ربط السابقة و اللاحقة، فتتراكم خبراتنا بعمليات التفكير و تفعيله في مواجهة التحديات و المثيرات، فتتوالد حينذاك هذه الخبرات فالتفكر في خبرة سابقة يجعل الإنسان يتقن علمه و يفهم ما لم يكن يفهم، أي أنَّ فهم الخبرة السابقة و رغبة الإنسان في تطويرها يؤدي إلى نمو خبرة جديدة و هذه النمو مظهر لقدرة الفرد على التعلم و هكذا فالتفكير طريقة رشيدة لربط الخبرات و تثبيتها و تطويرها و هو أفضل من تكرار أعمى أو حفظ أصم جامد و تشهد عبارات الإمام الحسن بن علي في حديثي (إتقان التعلم و مجالسة العلماء) و نصوص أخر ربط الخبرات مع بعضها و تعلم الخبرة القائمة و السعي لتعلم خبرة جديدة.

6. اكتساب خبرة نافعة كما في نص حديثي «الإتقان و مجالسة العلماء».

7. تنشيط الحواس و تفعيلها، فإن الحواس أدوات أساسية لإنتاج تفكير مفيد و فعال.

8. و من الفوائد التربوية المترتبة عن عملية التفكير و مجالاته التي تؤدي في نهاية الأمر إلى تعلم ناجح في تنمية الاتجاه العلمي لدى الأفراد و إكسابهم عادات التفكير الصحيح و أساليب كيفية استخدام الطريقة العلمية في التفكير و حل المشكلات، إذ لا يكفي في نظر المشرع الإسلامي مجرد التفكير، بل لا بد أن يتعلّم الإنسان كيف يفكر؟ أي أنَّ الإنسان بحاجة إلى تعلم طرق التفكير و التدريب على مهاراته.

ص: 172

فكما أنَّ الكائن الآدمي يتعلم لمدة طويلة في سنوات طفولته -و ما بعدها- كيف يشرب و يأكل و يتعامل مع الآخرين، فإنَّه أيضاً بحاجة لكثير من التوجيه لتعلم طرق التفكير و أساليبه، ليتجنب أخطاء التفكير غير المنطقي و ينمي عادات التفكير السوي، فيتعلم بالتفكير النظر إلى الأمور بعقلانية مستنيرة و الاعتماد على الدليل العلمي في إثبات الحقائق و يتعلم المرونة العقلية و الموضوعية مع القضايا و الأحداث و المشكلات و يتعلم أساليب و طرق إنماء قدرات عقلية كالنقد و التحليل و إصدار الأحكام و الاستدلال و استخدام أسلوب الشك المنهجي و ربط الخبرات مع بعضها و التخطيط و التعبير الكمي عما يستخدمه الإنسان من ألفاظ و مصطلحات و كذلك القدرة على إدراك العلاقات بين الأشياء، فهذه القدرات و غيرها لا تنمو إلا في بيئة التفكر السليم و هكذا نجد أنَّ التفكير المنظم أسلوب تعلم جديد و طريقة لاكتساب معرفة علميَّة صحيحة(1).

ص: 173


1- یوسف مدن، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية (بتصرف) ص 470- 471

ص: 174

الحلقة الخامسة

اشارة

القدرات العقلية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام

ص: 175

ص: 176

القدرات العقلية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام

ذكرنا من قبل مراراً في أكثر من موقع من مباحث هذا الكتاب التي بين يديك أن الإنسان يولد «بعقل موهوب فطري» يسميه علماء النفس المحدثون بالذكاء أو يطلقون عليه أحياناً «القدرة العقلية العامة» و له التسمية نفسها في التراث العربي بلفظ الذكاء و تلك حقيقة علمية أجمع على تأكيدها علماء النفس و التربية الحديثة و علماء الأخلاق و الدين و الثقافات الإنسانية و هو قوة عقلية فطرية خام تحتاج إلى جهد منظم لتنميتها و تقوية أدائها.

كما أن للعقل الموهوب أو «الذكاء» مسميات في مصادر الفكر التربوي الإسلامي و نصوصه و منها «عقل ولادة» و «عقل الطبع» و «العقل المطبوع» و يقابل الذكاء و هذا العقل الفطري الموهوب عقل آخر يتم تكوينه من خلال تجارب المربي على امتداد عمر الفرد منذ طفولته حتى مراحل متقدمة من عمره و يعرف في أدبيات علم النفس المعاصر بالتجارب أو العقل المكتسب أو العقل المسموع أو البيئة الخارجية، أما بعض الروايات التربوية الإسلامية فتسميه ب- «عقل التجربة » و «عقل إفادة» و «العقل المستفاد» و «العقل المسموع» و «عقل الخبرة».

و مهما تعددت أسماء «العقل» و مفرداته اللفظية بنوعيه «الفطري و المكتسب» فإنّ ذكاء الإنسان يتفاعل منذ اللحظات الأولى لوجوده مع تجارب المربين و تدخلاتهم في كل زمان و مكان، فينتج هذا التفاعل «علماً» أو نمواً «للقدرات العقلية الذاتية» أو

ص: 177

«عقلاً مكتسباً» و هو في أصلها مجموعة قدرات كامنة فطرية مركوزة في داخل التركيبة الآدمية تحمل قابلية التطوير و تنتظر التدخل الإيجابي لتنميتها، ثم تتحول بعد تدخل المربي و رعايته المستمرة إلى قدرات عقلية حقيقية تؤهل الفرد لممارسة دوره في حركة الحياة، وقد ينعكس الأمر إذا ما اتجه المربي بتدخل سلبي إلى نتائج غير محمودة العواقب كاستخدام الذكاء و قدراته في تحقيق أهداف شريرة كما فعل الأشرار في تاريخنا البشري.

و مما لا شك فيه أن المشرع التربوي الإسلامي سواء في القرآن أو أحاديث النبوة أو أقوال المعصومين قد أدرك أهمية التوجيه الإيجابي للعقل و تنمية قدراته، فحشد في مصادره المتعددة عدداً ضخماً من النصوص التربوية في مجال التربية العقلية و بخاصة اهتمامه بتنمية القدرات العقلية لدى الإنسان و شكلت هذه النصوص مرجعية في الثقافة التربوية الإسلامية و تم تأسيس هذه المرجعية التربوية لهذا الموضوع في المرحلة الأولى من قيام الإسلام كدين و كدعوة إنماء إنساني لقدراته في إطار تفعيل الأحكام الإسلامية التي تربط بين طاعة الله و عبادته و بين القدرات الذاتية للإنسان و تكرَّس هذا التأصيل للثقافة المرجعية التربوية عند المشرع التربوي الإسلامي منذ لحظة قيام الإسلام بدعوته و استمر في عصر النبوة الكريمة، ثم امتد في حياة الأئمة المعصومين خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى.

و كان الإمام الحسن الزكي من الأئمة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام الذين تعهدوا هذه المرجعية بالتأصيل لرعاية القدرات الذاتية لدى الإنسان في مجالات متعددة و في صدارتها القدرات العقلية و أبرز هذه المرجعية عناية الإمام الحسن علیه السّلام من خلال عنايته بالتعلم و التعليم و التوجيه الوعظي و التربية الروحية و هي عناية تدل على اهتمامه علیه السّلام بتنمية قدرات العقل الإنساني و تربيتها و إذكائها و تفعيل إمكانياتها الفطرية و مما لحظناه

ص: 178

في مباحثنا أنه علیه السّلام ركز على إثارة اهتمامنا بعملية التعلم و التعليم كمسئولية شرعية و كواجب ديني و اجتماعي و ذاتي و لهذا فإن نصوصه في موضوع التعليم قد حظيت بنصيبها الأكبر في هذا الكتاب لدورها في التنمية العقلية و إثراء الذكاء و تطوير قدراته بطرائق إيجابية.

لقد ذكرنا أن نصوص الإمام الحسن السبط بن علي عليه السّلام أشارت لعدد من القدرات العقلية لدى الإنسان و لكن دون تركيز ملفت لهذا لم تأخذ حظها كما ينبغي في المباحث المتقدمة و أننا لم نستطع فيها تفصيل الحديث عنها بنحو يجعلها أفكاراً ملحوظة تستحق الاهتمام و مع ذلك مررنا على بعضها في ذلك مررنا على بعضها في أثناء حديثنا عن المبحث الأساسي لهذا الكتاب و هو موضوع «التعلم و التعليم» الذي هو قلب الفكر التربوي عند الإمام الحسن و نعتقد أن لهذه القدرات العقلية أهميتها في التكوين التربوي لشخصية الإنسان و في تحديد قيمته كصانع للفعل الحضاري و انجازاته و إبداعاته و لهذا فإنه من الضرورة إعادة جمع نصوص الإمام الحسن و حصرها في هذا الموضوع و صياغته كوجهة نظر موضوعية موحدة صياغة معاصرة أو مناسبة لاهتمامات القارئ في هذا الزمان.

***

مفهوم القدرة العقلية

ليس مطلوباً من الخطاب التربوي للإمام الحسن أن يبين علیه السّلام كل شيء من معانٍ و مصطلحات و مفاهيم و إن كان قد فعل في بعض المواقف و مسوغات ذلك أن لغة العرب بالنسبة لمن خاطبهم الإمام كانت واضحة و أن العرب اعتادوا على فهم حتى الكلمات التي نجدها اليوم كلمات صعبة و غير مألوفة لدى الأجيال الجديدة من العرب، لهذا كان منطقياً أن لا يحدد الإمام علیه السّلام مفهوم القدرة العقلية بمسماها الجديد

ص: 179

في كتابات علماء النفس المحدثين و لاسيما علماء النفس التعليمي و بنفس ألفاظهم و تعبيراتهم و إن كانت كلماته توحي للقارئ الكريم بدلالة محتواها المعرفي. و القدرة العقلية لدى الإنسان هي بلغة سهلة «تمكن الفرد من إتقان مهارة في المجال العقلي أو أداء سلوك إدراكي بنحو يجعل الأداء سهلاً و حركته تلقائية و انجازه سريعاً مألوفاً لا يحتاج إلى طول تفكر و تأمل و يكون مستعداً لتوظيفها في مجالات تطبيقية بحياته الذاتية و حياة الآخرين»، فأصحاب القدرات العقلية هم «أولو العقول(1)» كما في أحد أحاديث النبي صلّی الله علیه و آله.

***

أهداف الاهتمام بالقدرات العقلية

تنمية الذكاء الفطري كقدرة عقلية عامة و كقدرات فرعية متمايزة.

تنمية المهارات العقلية المتمايزة كالحفظ و الفهم و القراءة و الكتابة و الإتقان و النقد و التطبيق و الاستنتاج و غيرها من قدرات العقل بالمران و التدريب الموجه.

معرفة شروط نمو القدرات العقلية لدى الفرد و تحديد عوامل تطورها.

التعرف على النصوص التعليمية في تراث الإمام الحسن التي اشتملت على إشارات إيجابية عن القدرات العقلية.

تدريب و تأهيل العقل و تأهيله فالصقل «الموهوب» لتنميته وظيفياً من جهة و ليؤدّي من جهة أخرى وظيفته العبادية.

***

ص: 180


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 66

شروط نمو القدرات العقلية

القدرة العقلية في أصلها ذكاءً فطرياً ولدنا كبشر مزودين به أو هي في أصلها «عقلاً موهوباً» فطرياً يحتاج إلى تنمية و تفعيل و بين كمونه و تحققه مسافة كبيرة تختصرها خطوات تدريبية تتفاعل فيها شروط محددة و ينتج عنها حركة نمو تصاعدية في قدرات الذات العقلية و يراد لها أن تكون في خطة المربي أو تخطيط المدرب أيا تكون صفته و مسماه و يلحظ من هذه الشروط أن بعضها تأتي من طبيعة المتعلم كمستوى ذكائه و دافعية التعلم لديه و مدى توافر الأمن و الحرية بالنسبة إليه و بعضها الآخر يأتي من خارج ذاته ككفاءة المدرب أو نشاطه و استخدام المعززات التربوية أو نوع التدريب

و مدى جديته.

و من هذه الشروط:

. الذكاء الفطري

. دافعية التعلم.

. وجود مدرب كفء.

. نوع مادة التدريب لتنمية المهارات العقلية.

. الإحساس بالأمن و الحرية.

. تعزيز التعلم بالإثابة.

***

1. توافر الذكاء الفطري

هذا من أهم شروط نمو القدرة العقلية و أهم عواملها تطويرها، فلا بد أن تتوافر

ص: 181

كهبة إلهية في الكائن الآدمي نسبة طبيعية من القدرة العقلية و يسميه علماء النفس المحدثين بالقدرة العقلية العامة، و يطلق عليه الإمام الحسن ب- «العقل الموهوب» كما جاء في أحد نصوصه و هو طاقة عقلية فطرية نرثها بقدرة الله، فالله سبحانه يزودنا بها و تنمو فيما بعد بالتدريب و لكن البشر ليسوا متساوين في ذكائهم كما أبلغنا الإمام علیه السّلام لا بسبب توزيع غير عادل من الله سبحانه عن ذلك و تعالى علواً كبيراً و إنما بسبب معوقات وراثية أو نوع الأغذية التي تتناولها الأم أثناء الحمل أو بتأثير عوامل وراثية لا دخل فيها للفرد و الملحوظ أنه كلما كانت نسبة الذكاء أعلى لدى الفرد كانت فرصة نمو قدراته العقلية و ترقيتها أفضل، بحيث يكون تعلمه أسرع و أثبت في مجالات عديدة و فرصة نمو القدرات العقلية الفرعية و تمايزها كالحفظ و القراءة و الكتابة و الاستنتاج و النقد و غيرها تكون أحسن و بهذا الشرط و قد هيأه الله تعالى لكل الأفراد بنسب عادلة، يتمكن كل فرد بحسب طاقته العقلية الفطرية من تنمية قدراته العقلية و مهاراته الذهنية و تحقيقها.

***

2. دافعية تعلم نشطة

الذكاء ذو طبيعة عقلية محضة، أما «دافعية التعلم» فذات طبيعة وجدانية و سيكولوجية و تعني مدى انتباه الفرد و تركيزه بعملية التعلم و مدى قناعه بعملية التعلم بأسرها من جهة و تعني حماسه و مستوى حالته النفسية و ظروف التشوق إليه أو عدم الإقبال عليه بدافع من داخله أو من مؤثرات عالمه الخارجي و بلغة سهلة تعني دافعية التعلم في جانبها الوجداني بمدى حب الفرد للتعلم أو نفوره منها فكثير من الأذكياء -لسوء الحظ- لم يتمكنوا من استثمار طاقتهم العقلیة بسبب فتور طاقتهم

ص: 182

الدافعية و فتور دافعيتهم في التعلم و نظرتهم السيئة إليه و قلة اهتمامهم بالعلم و قيمته الحضارية في مستقبل الأفراد و تطور المجتمع الذي يعيشون في أحضانه و لهذا فإن خطاب الإمام الحسن في بعض نصوصه قد أكثر علیه السّلام من التوجيه لأبنائه و أبناء أخيه لتنشيط دافعية التعلم لديهم و تكوين موقف إيجابي، محب للتعلم و لعل القارئ يتذكر كلماته علیه السّلام في أكثر من نص كلماته التي تستثير دافعية التعلم لديهم و تقويها و تعزز إيمانهم بقيمة العلم كقوله لهم «تعلموا العلم» و قوله: «و تعلم علم غيرك» و قوله: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق له من ذهنه».

إن الوظيفة التربوية و السيكولوجية لمثل هذه الكلمات هو شحذ همة الأفراد و تحريك دافع التعلم في داخلهم بالإثارة و التنشيط و التشويق حتى تكون الدافعية مؤثرة و مفيدة و قادرة على النشاط و لهذا ابتدأ الإمام الحسن علیه السّلام بإثارة حماس أطفاله و أبناء أخيه و تشجيعهم و هم صغار في مرحلة مبكرة من أعمارهم على التعلم و محبته و تشويق نفوسهم إليه و بتساند الذكاء و دافعية التعلم لدى الفرد و عوامل أخرى تتهيأ شخصيته للتعلم و تتيح لقدرات العقل أن تنمو منذ المراحل الأولى من العمر.

***

3. وجود مدرب كفء

قد يكون المدرب أباً أو معلماً و هذا من ظروف التعلم و لوازمه و لكن يشترط أن يكون على دراية و كفاءة في مجال لتعلم «الخبرات» التعليمية المطلوبة لانجاز مهمته في مساعدة الفرد على إنماء قدراته العقلية و لا ينحصر دور المدرب في كفاءته المهنية فحسب و إنما في استخدامه الطرائق التدريبية التي يستخدمها و في قدرة هذا المعلم على تنشيط دافعية التعلم و مقاومة كل ميل طبيعي مضاد للتعلم و في حل مشكلات

ص: 183

المتعلم الشخصية أو التي لها صلة بالتدريب، فالمدرب قوة تأثير لتوجيه الفرد نحو مسار يضمن منه التعلم الجيد الذي يسهل على المتعلم تنمية قدراته و حديث الإمام علیه السّلام عن الإتقان لا يخص المتعلم وحده، فالنص التربوي الحسني إنما لتوجه المعلم و المتعلم نحو قيادة العمل التعليمي بكفاءة تحقق لهما إتقان عملهما و إحداث «تعليم» اتقاني بنفس القدر الذي يحقق «إتقان الخبرة» التعليمية لدى المتعلم.

***

4. نوع مادة التدريب

هذا الشرط في غاية الأهمية لنجاح تعلم الفرد، فهناك «برنامج تدريب» ينبغي تجهيزه من قبل المدرب و المعلم، أو مادة تعليمية يجب اختيارها من قبل المتعلم لتنمية هذه القدرة العقلية المراد الاهتمام بها و على المدرب توجيه المتعلم أو المتدرب إليها و مساعدته في اختيارها بدقة فالبرنامج التدريبي الجيد يسهم بإيجابية في عملية التنمية أما إذا كان البرنامج ضعيفاً فيعوق نموها، فإذا كانت المادة التدريبية و طرائقها فعالة و محبوبة من المتعلم و تراعي بعملية الكيفية الصحيحة التي تحقق النمو السليم كانت نمو القدرة العقلية بطاقتها الكاملة أو أدنى فرصة أفضل و حينما تكون المادة متخلفة و لا تحمل ثقافة جديدة، فإن القدرة ستنمو بمستوى اقل لا يتيح للفرد استخدامها في تطوير إمكانيات ذاته.

و هكذا فنوع مادة التدريب يؤثر على نوع الخبرات التي يرعاها برنامج التربية للقدرة، فإمَّا تدريب مفيد يأخذ القدرة العقلية إلى مداها الأفضل و تدريب عقيم قد يحركها لمستوى لا يبلغ بها الحد الأدنى من النمو الفعال.

***

ص: 184

5. الأمن و الحرية

الأمن و الحرية شرطان للتعلم و لإشباع حاجات الفرد العقلية، فمن الصعوبة بمكان أن يتعلم في أجواء الخوف و الضغط و اغتصاب حرية الفرد المتعلم، فالأمن حالة نفسية إيجابية، بل هو حاجة مهمة و حيوية لتحريك نشاط سيكولوجية المتعلم و تتهيأ ذهنية لاستقبال المعرفة و تلقي العلم حتى لحظة تكوين الخبرة و اكتمال نموها التدريجي، ثم ظهورها في حركة الحياة باستخدامات من الفرد، أما الحرية فهي رديف لمشاعر الأمن، فإذا ما فقد المتعلم حريته في اختيار مادة الدراسة و اختيار معلمه و أنواع الأنشطة التعليمية التي يرغب في أدائها لتقوية المهارات المطلوبة فإن نفسه تشعر بالضيق و يداهمه الفتور و نقص الهمة و قلة الحماس، مما يؤدي إلى متاعب في عملية التعلم و الشعور بخطر يتهدده و يتهدد مستقبله التعليمي و هذا يصرف طاقته النفسية و العقلية عن الاهتمام بالتعلم، مما يؤثر سلباً على اشباع حاجاته العقلية و النفسية و تنمية مهاراته الذهنية التي يسعى المدرب «معلم أو أب أو قائد ورشة أو غيره» إلى تكوينها و إظهارها.

و لعل القارئ الكريم يستعيد كلمات الإمام الحسن في مقطع من حديث «مجالسة العلماء» و عندما قال أحد نصوص: «و سره ما وجد من الزيادة في نفسه»، فإن هذه الجملة تعبير عن حالة نفسية يستشعر فيها الفرد المتعلم الأجواء الطبيعية للتعلم من أمن و حرية و سرور و شعور بالثقة بالنفس و بنتائج عملية التعلم و معرفة أدائه مباشرة و بخاصة بعد أن اكتشف بنفسه زيادة مستوى التقدم لديه في الأداء التعليمي و في المشاعر النفسية و في ذلك إحساس بالحرية و الطمأنينة تترك بصماتها على بيئة التعلم و سيكولوجية المتعلم.

ص: 185

6. التعزيز و الإثابة

يؤثر في أداء المتعلم أكثر من عامل و بتساندها تتهيأ الفرصة لنمو قدرات عقلية تترك أثرها الإيجابي على مستقبل الفرد و من ذلك تعزيز الأداء التعليمي و إثابته، فكلما تقدم في أدائه و نجحت استجابته بالانتقال من مستوى أقل إلى مستوى أعلى تعزّز هذا التقدم بالثناء أو بالمدح أو بالتوجيه و بالشكر أو بجائزة أو بأية إثابة مادية و معنوية و بتتابع الأداء التعليمي و تقدمه المستمر تبدأ بعض القدرات في التكوُّن و التأصل و الرسوخ حتى تصل لمستوى الإتقان التام و باختصار فإنَّ إتقان التعلم و تعلم جديد مظهران للإثابة.

فإذا أتقن الفرد بالتدريج خبرته التعليمية التي يمارسها و ينتقل فيها من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة أعلى منها بنحو أفضل تعلم مزيداً من الخبرة العقلية و تهيأت نفسيته و ذهنيته لتعلم خبرة جديدة تزيد من مستواه التعليمي و لو لم يكن للمتعلم إلا هذا التقدم في خبراته التعليمية و الاستزادة من الخبرات الجديدة لكفى ذلك إثابة و تعزيزاً يشعر بقيمتها المتعلم، يقول الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام:

«علم الناس و تعلم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم».

و قال كذلك: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(1)».

فالنص الأخير يبشر المتعلم بنمو قدراته اللغوية و العقلية بالتدريب المعزز و تكون للفرد المتعلم ما أسماه الإمام ب- «ولاية لما لا يعلم»، أي تعزيز مستوى ما يعلمه من خبرات

ص: 186


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134

يمارسها و تكون له «إفادة لما تعلم» بتعلم جديد و من ثم فإن تعزيز الخبرة المتقنة و تعلم أي خبرة جديدة يفتحان الثقة في النفس و يساعدان على تعزيزها و يعكسان مساحة لظهور القدرات العقلية، لأن نجاح الفرد في التعلم الجديد و تعزيز التعلم السابق هو في حد ذاته إثابة ينالها المتعلم على تقدمه في الأداء التعليمي و هناك أنواع أُخر من الإثابة يمكن استخدامها لتعزيز التعلم و مساعدة الفرد على إحداث تعلم جديد كأنواع الإثابة المادية و الشكر و الثناء و غيرها، كما أنه يمكن التبشير للمتعلم بإثابة أخروية على تعلمه بلحاظ أن التعلم فضيلة يثاب المرء عليها بالجنة .

***

أنواع القدرات العقلية

لم نجد في تراث الإمام الحسن تصنيفاً للقدرات العقلية، فليست مهمة الإمام الحسن فهرسة خطابه التربوي بثقافتنا المعاصرة و إنما ذكر في أثنا نصوصه المتناثرة في عدد من المصادر عدداً من القدرات، بل أنه علیه السّلام لم يحدد أسماءها، فكل ما فعله أنه علیه السّلام وضع بين أيدينا مجموعة نصوص تحمل إشارات لبعض القدرات العقلية عند الإنسان و ترك لنا اكتشاف هذه القدرات و تصنيفها باجتهادنا، فمهمة العقل التربوي مقاربة التراث و تفهمه و الإفادة منه في اكتشاف معانٍ جديدة، أو وضع تقسيم يتماشى مع الثقافة التربوية المعاصرة.

و يمكننا باجتهاد شخصي تصنيف القدرات العقلية في الخطاب التربوي عند الإمام الحسن بن علي عليه السّلام إلى قسمين يدخل في إطار كل منهما مجموعة قدرات عقلية و يتفرع عن كليهما قدرات متمايزة عن بعضها و إن كانت مترابطة.

ص: 187

و القسمان هما كما يأتي:

القدرات العقلية الأساسية الدنيا.

القدرات الإنمائية العليا.

***

و نقصد من كلمتي «دنيا و عليا» أن المتعلم يمر أولاً بتكوين مسبق لمهارات عقلية أولية هي بالنسبة للفرد خطوة ضرورية في مرحلة لاحقة لنمو مهارات عقلية قد تكون أكثر تعقيداً، فالمهارات الدنيا لا تعني أنها قدرات دنيا في مستواها العقلي أو الذهني و إن كانت درجة تعقيدها قد تبدو أقل و لكن بحسب النمو النفسي و العقلي للفرد فإنّ مستواها الذهني لا يبدو سهلاً على الفرد لأن نموه ما يزال في بداياته و خبرته أقل لم تنضج بعد و إنما المقصود أنها تأتي في المرتبة الأولى لتكوينها.

أما المهارات العقلية العليا فنحتاج أولاً إلى تمكن الفرد من المهارات الدنيا التي تكوّنت في المرحلة السابقة بمستوى إتقاني، ثم تحتاج المهارات العليا إلى عمليات تدريب أكثر رقياً و أكثر تطوراً و هي لذلك تبدو لنا أشد تعقيداً في نموها الذهني و لكنها في النهاية مهارات يستكمل فيها الفرد نمواً أفضل لقدراته و مهاراته العقلية المنبثقة عن نسبة ذكائه و عن تدخل المربي بتدريب جيد.

إنَّ العقل كما يقول الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام: «العقل عقلان، عقل ولادة و عقل إفادة(1)» و في هذا النص و في نصوص مماثلة محاولة أولية أساسية تصنيف للقدرات العقلية إلى نوعين من الذكاء.. فطري و مكتسب و يشير التصنيف إلى نمو

ص: 188


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 6 ص 466

قدرات عقلية هي نتاج تفاعل العقل الفطري و العقل المكتسب، منهما تتفرع عنهما مجموعة قدرات عقلية يتمايز فيها الأداء التعليمي للأفراد.

***

أولاً: القدرات الأساسية

و تمثل هذه القدرات «البنية التحتية» للمتعلم و تأتي في صدر اهتمامات المربين و في مقدمة وظيفته لتكوينها لدى المتعلمين و من دونها يصعب الإفادة -في حدها الأدنى- من سائر القدرات و لاسيما قدرات القسم الثاني و يتكون هذا القسم من قدرات عقلية متفاوتة في مستوى تركيزها الذهني، لكنها في نهاية الأمر متطلبات عقلية أولية لتحقيق تنمية عقلية شاملة تبدأ من تنمية المهارات أو القدرات الأساسية و من هذه القدرات:

. القدرة على التعلم.

. القدرة على القراءة.

. القدرة على الكتابة.

. القدرة على الحفظ و الرواية.

. القدرة على الاستماع الجيد (الانتباه).

. القدرة على تعليم الآخر (تعليم الناس).

. القدرة على تطبيق مادة التعلم.

. القدرة على تعلم اللغة.

. القدرة على طرح الأسئلة و إثارتها.

ص: 189

. القدرة على إتقان الخبرة التعليمية .

. القدرة على تعلم الخبرة الجديدة.

***

ثانيا: القدرات الإنمائية العليا

و هي قدرات إنمائية للذات و في الوقت نفسه (قدرات عقلية عليا) لأنها تبنى على أساس القدرات الأساسية بعد أن نجح المربي في تنمية القدرات الأساسية السابقة و هی لذلك تمثل بنية فوقية و لكنها ضرورية لأنه من دونها لا تتحقق القدرات الحقيقية و لا تظهر الإمكانيات الفطرية العقلية للإنسان، فهي على أرضية القدرات تنمو هذه القدرات و تتشعب جذورها و يستكمل العقل نموه الجزئي أو الكامل و نظراً لصعوبة ترتيبها الذهني من حيث مستوى صعوبتها أو سهولتها فقد تم رتّبت

دون مراعاة المستوى الذهني القائم على التسلسل و الانتقال من مستوى السهولة إلى مستوى الصعوبة الأكثر تعقيداً.

و من هذه القدرات التي استنبطناها من باطن بعض النصوص التراث الثقافي و التربوي لدى الإمام الحسن ما يأتي:

. القدرة على التفكر و التفكير.

. القدرة على صياغة المفاهيم.

. القدرة على الاستنتاج من مواقف التفكير.

. القدرة على النقد.

. القدرة على التمييز و الفرز و فحص المعرفة.

ص: 190

. القدرة على التفسير.

. القدرة على التسويف.

. القدرة على الخطابة.

. القدرة على الحوار.

. القدرة على المشورة.

. القدرة على حل المشكلات.

. القدرة على العظة و الاعتبار.

. القدرة على الربط بين الخبرات السابقة و الخبرات اللاحقة.

***

أولاً: قدرات العقل الأساسية:

1. القدرة على التعلم

تُعدّ هذه القدرة بداية الفرد في التعلم للخبرات من حوله أو ما يريد المربي تعليمه لها، فالقدرة على التعلم هي القدرة العقلية الأم و رأس كل القدرات و على مساحتها تتفرع كل القدرات العقلية الأخرى سواء ما اندرج تحت القدرات الأساسية أو القدرات الإنمائية، فجميع القدرات العقلية التي ينجح المربي في تدريب الفرد عليها و تنميتها تعد مظاهر لهذه القدرات و قد حث الإمام الحسن علیه السّلام على البدء بعملية «التعلم» منذ الصغر و أبرزت بعض نصوصه التعليمية تأكيده على التعلم في المرحلة المبكرة من عمر الفرد تعليماً منظماً و مقصوداً، فكلما تعلموا العلم و تعلم علم غيرك و غيرها من الجمل القصيرة هي أمر بالتعلم و تنمية هذه القدرات كلما تأخذ القدرات الأخر حظها من

ص: 191

النمو كالقدرة على الكتابة و القراءة و الحفظ و القدرة على إتقان الخبرة المتعلمة أو تعلم خبرة جديدة و غيرها كما أوضحت نصوص الإمام الحسن علیه السّلام التالية و هي قوله علیه السّلام في أكثر من نص تعليمي:

قال لبنيه و بني أخيه :

«تعلموا العلم، فإنكم صغار القوم و كبارهم غداً و من لم يحفظ .. فليكتب(1)».

و قال في نص مماثل: «يا بنيَّ و بَني أخي، إنَّكم صغار قوم و توشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم، فمن لن يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتبه في بيته(2)».

و قال علیه السّلام: «علَّم الناس، وتعلَّم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم(3)» و في قول له: «علَّم الناس علمك».

و بتأمل النصوص الثلاثة نجد أنها انطوت صراحة على قدرات خمس هي (القدرة على التعلم و هي قدرة عامة تفرعت عنها قدرات مرتبطة بها كمصاديق واقعية تشهد على حدوث التعلم قدرات الحفظ أو الرواية و القدرة على القراءة و القدرة على الكتابة و القدرة على تطوير التعلم تدريجياً حتى إتقانه و القدرة على تعلم خبرة جديدة)، فالتوجيه الحسني ب- «التعلم العام» هي نقطة البداية لتكوين مهارات عقلية متصلة بها و هي توجيه لتنمية العقل الموهوب بجهود المربي و بعلوم العلماء أنفسهم كما قال في نص مجالسة العلماء و مخالطتهم، حيث جاء في نص المجالسة ارتباط حضور

ص: 192


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحدیث 27، ص 131
2- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، باب الأخلاق، ص 68
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 28، ص 131 و كلمة الإمام الحسن ص 68

مجالس العلماء بنمو قدرات عقلية و لغوية.

و في هذا الشأن يقول النص التعليمي للإمام الحسن علیه السّلام و الصلاة: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(1)».

فكلمات هذا النص تؤكد على تنمية قدرة الفرد على التعلم من حيث تنمية قدراته اللفظية و تنمية قدراته العقلية و تمكنه من تعلم المزيد من خبراته التي يعلمها و أيضاً يستفيد أكثر بتعلم جديد عبر عنه المقطع الأخير من النص بقوله: «و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم» و هذا يؤدي إلى تحسن في النمو العقلي و إحداث حالة من السرور النفسي و الرضا عن تقدم أداء الذات التعليمي و عبر عن هذا الحالة المقطع ما قبل الأخير من النص حيث قال علیه السّلام: «و سره ما وجد من الزيادة في نفسه».

***

2. القدرة على الحفظ

طريقة تقليدية في البيئات التعليمية و هي شائعة في التاريخ التربوي الإنساني سواء في مجتمع المسلمين أو بيئات التعليم الأخرى خارج بلادهم قبل وجودهم أو بعدهم و لهذا لا يختلف المربون من مختلف الجماعات و الأجناس في الاهتمام بهذه الطريقة التاريخية، فلا تخلو بيئة تربوية من الاستفادة منها بقدر معين في التعلم و تنمية قدرات العقل، فالناس في هذه البيات و في خارجها يلجؤون لحفظ تراثهم الثقافي و نصوصهم الدينية و أبيات الشعر و معادلات علمية عن ظهر قلب و بعضهم يفعل ذلك دون فهم لمعناها و آخرون يجمعون بين الحفظ عن ظهر قلب و بين فهم معاني ما يحفظونه.

ص: 193


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134

و قد عثرنا على أكثر من نص واضح الدلالة للإمام الحسن في تراثه الفكري و التعليمي يدعو فيها علیه السّلام إلى حفظ العلم و روايته كما تقدم الحديث في حلقة سابقة و تداوله بهذه الطريقة كإحدى الطرق الشائعة في عصره و الإفادة منها في تمكين طلبة العلم من حفظه و روايته شفهياً و نقله من جيل إلى آخر و بخاصة إذا كان بعضهم يصعب عليه استخدام طريقة سواها، ففي المقطع الأخير من نص تربوي سابق طالب الإمام الحسن علیه السّلام أبناءه و أبناء أخيه بتعلم العلم و حفظه و روايته و من لم يستطع ذلك فعليه أن يستخدم طريقة تدوينه و كتابته كما أوضح نصان سبق لنا الإشارة لهما في مباحث من هذا الكتاب.

و لم يكن الدعوة إلى استخدام الحفظ كطريقة تعليمية مجرد غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة المربي لتحقيق الغرض التعليمي و هو حفظ المادة المتعلمة عن طريق الاستظهار و تداولها خوفاً عليها من الضياع و لتثبيتها و ترسيخها في مجتمع يفتقر لطرائق تعليم أكثر فاعلية.

و عادة ما تتركز عملية حفظ المادة المتعلمة في زمن الإمام الحسن علیه السّلام في حفظ الآيات القرآنية و أحاديث النبي صلّی الله علیه و آله و أقوال الأئمة الطاهرين علیهم السّلام وعلماء الحديث و أئمة التفسير و تجارب العلماء و المحدثين سواء في شكل خطب أو مراسلات أو مكاتبات أو نصوص أدعية أو أحاديث قصيرة و قد وصلنا كثير من هذه المعرفة عن

طريق حفظها من فرد لآخر حتى بلغنا بعض العلم و لو لا تحمل مشقة الحفظ لنصوص طويلة و قصيرة على حد سواء لضاع من علم القدماء الكثير منه و بخاصة ما يخص المعرفة الدينية و لهذا نبه الإمام الحسن علیه السّلام على صغاره باستخدامها آنذاك و من يستطع فليكتب العلم، فالمهم بقاء العلم و حفظه و تداوله بين الأجيال البشرية كما حدده النصان

ص: 194

السابقان اللذان ذكرناهما في مناقشة القدرة الأم.. القدرة على التعلم.

***

3. القدرة على الكتابة

من النصين المتقدمين يستوقفنا إشارة إلى قدرة ثالثة هي القدرة على الكتابة، فالأمر الحسني للأبناء الصغار باستخدام كتابة العلم و تدوينه بخط اليد لحفظه و روايته إذا لم يستطيعوا حفظه عن ظهر، فالتوجيه يحسب أن المتعلمين ليسوا متساوين في قدراتهم العقلية و لهذا انتبه الإمام الحسن علیه السّلام لكون بعض الناس و قد يكون بعض صغاره منهم لا يستطيعون الحفظ عن ظهر قلب و بخاصة النصوص المطولة المعروفة في ثقافة العرب و بيئة المسلمين و لم يغلق النص عليهم باب التعلم و المحافظة عليه إذا لم يكونوا على مقدرة من الإفادة من طريقة الحفظ لظروف ذاتية أو لأسباب خارجية، فدعاهم إلى حفظه بطريقة ثانية كانت مألوفة في مجتمعه و هي كتابته بأيديهم و قد حدد أحد النصين مكان الكتابة في البيت بعد أن يتفرغ الصغار من دروسهم للكتابة في البيت و تدوين المعرفة.

فالكتابة ليس مخرجاً للعاجزين عن الحفظ و الرواية عن ظهر قلب فحسب، بل كانت أكثر أمناً لنقل المعرفة لتكون الإفادة منها أكثر سعة في مجتمعه و ليبين الإمام الحسن علیه السّلام بأن العلم يمكن تداوله بأكثر من طريقة و لا عذر لأحد بأن لا يمكنه الحفظ و لهذا حدد الإمام مسئولية العلماء و المتعلمين في رعاية العلم رعاية عقل لا رعاية حفظ و رواية فقال: «و اعقلوه إذا سمعتموه عقل رعايته و لا تعقلوه عقل روايته(1)».

لم تكن الكتابة في عصر الإمام الحسن علیه السّلام أمراً هيناً لعدم توافر الأدوات اللازمة

ص: 195


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 164

للكتابة من دون مشقة كما هو حالها في زماننا و لكن تحمل مشقتها بحفظ العلم بطريقة أكثر أمناً من الرواية الشفهية اللفظية أو حفظها عن ظهر قلب، فالكتابة أثر مادي على الحضور المادي للعلم و مادته المرئية و بواسطتها يتاح للعلماء و طلبة العلم الاطلاع على آثاره و معاينته بأدوات مكتوبة لدهور متعاقبة و تمكن العلماء من كشف التغيير و التزوير غير الأمين إن حدث و بذلك فإن الإمام الحسن علیه السّلام لم يأمر بالكتابة لمجرد عدم قدرة بعضهم على الحفظ أو النقل الشفهي اللفظي للعلم و روايته فحسب و إنما لإيمانه علیه السّلام بالأثر الإيجابي للعلم المكتوب و اطمئنانه للمعرفة المدونة أو المخطوطة باليد، فالكتابة إذن ليست تنوعاً في حفظ العلم بأكثر من آلية، بل لإتاحة الفرصة للناس بأن يؤدوا واجبهم تجاه العلم بأكثر من أداة.

كما أن توجيه الصغار في غاية الأهمية لهم، فقد أراد علیه السّلام تعويد هؤلاء الصغار على تعلم العلم و حفظه بأدوات متاحة آنذاك، فلا يكسل أحدهم عن القيام بواجبه لأنه يستثقل الحفظ عن ظهر قلب امرئ يجد صعوبة في الحفظ أو أن الذاكرة تواجه بعد مرور فترة من الزمن تشويهاً أو تشويشاً قد يؤدي إلى ضمور المعرفة لدى الإنسان ضموراً جزئياً أو تاماً.

***

4. القدرة على القراءة

من مستلزمات قدرتنا الأولى أننا نتمكن بالتدريب من أداء مهارات عقلية أساسية كالقراءة و الكتابة بوصفهما مهارتين أساسيتين، بل إن هذه القدرة تبدأ كما يشدد الإمام الحسن في تكونها منذ الصغر و قبل تعلم مهارة الكتابة لديه، لهذا يستحيل عليه أن يكتب شيئاً ما يكن قادراً على معرفة الحروف و الكلمات و يكون قادراً على معرفتها و قراءتها

ص: 196

و لفت الإمام الحسن في أحد نصوصه إلى هذه القدرة بطريقة مباشرة حينما استخدم علیه السّلام مفردة «يقرؤه» في حديثه للناس يدعوهم للاهتمام بالقرآن قراءة و عملاً به و الاستفادة من محتواه المعرفي و الروحي و الأخلاقي و العقائدي فقال الإمام الحسن الزكي علیه السّلام في وصف القرآن الحكيم: «ما بقي في هذه الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلكم على هداكم و إنَّ أحق الناس بالقرآن.. من عمل به و إن لم يحفظه و أبعدهم منه من لم يعمل به و إن كان يقرؤه(1)».

و تعني مفردة «يقرؤه» القدرة على القراءة لدى الإنسان و هي إمكانية النطق بمفردات اللغة المكتوبة سواء كانت قرآنية أو مكتوبة في مصادر أخر عن موضوع آخر كأحاديث النبوة و أقوال المعصومين و شعر البيت و كتاباتهم، فالقراءة عملية ذهنية و معرفية لفظية و سمعية و جهرية تجعل الفرد يربط حروف الأبجدية العربية و كلماتها لينطقها بلسان عربي مبين على مسمع من الناس أو بقراءة صامتة و هي إحدى القدرات التي تطلق «عقال اللسان» على حد تعبير الإمام الحسن في حديث مجالسة العلماء، ف- «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه».

***

5. القدرة على تعليم الناس

في مدخل حديث الإتقان أمر مباشر من الإمام الحسن علیه السّلام بأن يعلِّم «الإنسان» الناس علمه و كلمته في هذا الشأن لا تحتاج إلى قول كثير أو تفسير، فهي مباشرة «علِّم الناس»، و في نص «مجالسة العلماء» تمييز بين علماء و متعلمين و كلاهما يقوم بوظيفة، فالمتعلمون يطالبهم الإمام علیه السّلام بأن يكثروا من حضور مجالس العلماء و العلماء مأمورون

ص: 197


1- الموسوي، الروائع المختارة رقم الحديث 93 ص 141و كلمة الحسن ص 23

بتعليم الناس و نقل خبراتهم للآخرين في المجال الذي حذقوا فيه و برعوا و هكذا كما يمكن الفرد «التعلم» من غيره و يتلقى المعرفة عن طريقه كذلك يمتلك القدرة على تعليم الناس، فالتعلم و التعليم صنوان في حياة الإنسان و لذلك يوصف بأنه معلم و متعلم في آن واحد، فإذا تصدى لهذه المهمة أدى إحدى فرائضه الشرعية و أظهر واجباته الدينية نال في حياته مكاسبه المباشرة بإتقان خبرة يمارسها و بتعلم خبرة جديدة و نمو قدراته اللغوية و العقلية و تحقيق حالة من الرضا النفسي، أمّا في آخرته فأجره عند ربه، كما للمتعلم أجره أيضاً، فالمتعلم و المعلم في الأجر سواء و خيرهما من يبتدئ.

***

6. القدرة على الاستماع الجيد

يحتاج التعلم في كل خطواته إلى عملية إصغاء جيد و انتباه شديد من طرف المتعلم كمستقبل للمادة التعليمية و متلقي لها، ثم بعد يصدر استجابته التعليمية بمقدار مستوى انتباهه و كلما كانت درجة انتباهه أو استماعه أو إصغائه عالية و جيدة كان مستوى استجابته ناجحاً بدرجة متساوية معها، بل أن أحد نصوص الإمام الحسن علیه السّلام حدد بدقة العلاقة بين مستوى الإصغاء و نوع الاستماع و بين ما أسماه ب-«التذكير» و الوعي به، فمتى كانت العلاقة إيجابية بين الإصغاء و وعي التذكير بالمادة التعليمية تحققت المنفعة و الانتفاع بالتذكير أو مادة التعلم، فيقول الإمام الحسن علیه السّلام: «أسمع الأسماع ما وعى التذكير و انتفع به(1)».

و بتأمل مركز في المحتوى الداخلي للنص نجد أنَّ الإمام الحسن ذكر بطريقة غير

ص: 198


1- تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 170 و كتاب كلمة الإمام الحسن للشيرازي، ص 57، 199 و الروائع المختارة للموسوي، الحديث رقم 84 ص 140

مباشرة مجموعة عناصر للتعلم الجيد نذكر منها ما يأتي:

أ. مستوى الانتباه و طالب أن يكون الاستماع عالياً و جيداً.

ب. وجود مادة للتعلم يتم الوعي بها و استيعابها.

ت. وجود علاقة إيجابية -كما في النص- بين درجة الانتباه و الوعي بمادة التعلم.

ث. تطبيق مادة التعلم.

ج. تحقق المنفعة المعرفية عندما يتفاعل المتعلم مع مادة التعلم و الوعي بها و تطبيقها.

ح. يستفاد من نص الحديث وجود مبدأ تربوي مهم هو ضرورة تكوين اتجاه إيجابي لدى المتعلم قبل أن تبدأ عملية فهم «مادة التعلم و محتواها المعرفي و اللفظي(1)».

***

7. القدرة على تعلم اللغة

يتحدث علماء النفس التربوي عن قدرات لغوية ضمن تصنيفاتهم «للقدرات العقلية» لدى الإنسان و تتنوع هذه القدرات و منها قدرات الفهم اللفظي و الطلاقة و الخطابة و معرفة قواعد اللغة و غيرها و تدرج هذه القدرات ضمن هذا التصنيف لوجود علاقة بين اللغة و الفكر و قد مررنا على هذه العلاقة في موقع سابق من أحد مباحث كتابنا و أشار الإمام الحسن علیه السّلام كأحد كبار قادة و علماء الإسلام و علمائها إلى القدرة على الفهم اللفظي و تعني قدرة الفرد على فهم و استيعاب معاني المفردات اللفظية للنص و استيعابها، للجملة للعبارة اللغوية للرواية، للآية القرآنية و العمل على تطبيقها و هكذا فالفرد يمتلك قابلية داخلية «لتعلم اللغة و مهاراتها» للتخاطب مع الآخر.

ص: 199


1- انظر كتابنا «التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية»/ المؤلف

و في نص «مجالسة العلماء» قال علیه السّلام:

«من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه».

ففي هذا المقطع من النص نستخلص مجموعة حقائق:

1. أن هناك أطرافاً مشاركة في العملية التعليمية و هم المتعلم الفرد، الأفراد، العلماء.

2. يوجد بالنص إشارة لبيئة التعلم و مكانها كمجالس العلماء التي قد تكون بلغة عصرنا صفوف مدرسية، معاهد، حلقات تعليم مسجدية و غيرها الخ.

3. هناك دور للمتعلمين و هو حضور مجالس العلم و آخر للمعلمين أو العلماء كما أسماهم النص.

4. ثمة علاقة بين مكونات النص و يسمها بالعلاقة الإيجابية، فهناك علاقة بين حضور مجالس العلماء و تنمية القدرات العقلية.

5. تنطوي عملية تنمية القدرات العقلية إلى نوعين هما:

أ- إطلاق (عقال لسان الفرد) و هذه إشارة إلى لغته و قدراتها كالقدرة على الفهم و الطلاقة و الخطابة و تعلم العلوم اللغوية كالنحو و الصرف و العروض و غيرها و نعتقد بأن الإمام تجاوز في إشارته بالنص لمجرد قدرات ذكرها علماء النفس و إنما امتدت

عبارته للعلوم اللغوية السائدة في البيئة العربية.

ب- و النوع الثاني تنمية القدرات العقلية بالممكن المتاح.

6. يؤدي تنمية القدرات اللغوية و العقلية إلى تحقيق حالة من الرضا النفسي في

ص: 200

داخل المتعلم و ما أشار إليه النص بقول الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام:

«و سره ما وجد من الزيادة في نفسه».

***

8. القدرة على طرح الأسئلة و إثارتها

ولد الإنسان كائناً سؤولاً، فكل ما حوله يبدو له غامضاً حتى يتعرف على سره و يكشف غموضه، فإذا ما انكشف سر الشيء تابع تساؤلاته عن أشياء أخر و هو كثير الأسئلة منذ طفولته حتى ليصفه البعض من الفلاسفة بأنه فيلسوف، فالسؤال طريقة

الإنسان في توليد المعرفة و تحصيل الإجابة و هذا سر جمال هذه الطريقة انها تكشف ما غمض.

و مما لاشك فيه أنه في المجال التربوي و التعليمي لا يستغني عن هذه الطريقة بوصفها قدرة عقلية تولد في داخله قابلية لها و بالمران و التدريب عليها يستطيع تحويلها إلى قدرة فعالة و في تراث الإمام الحسن إجابة على تساؤلات من آخرين و تساؤلات

من الإمام نفسه حول مسائل أو ظواهر سلوكية خاطئة و يدل ذلك على كون طرح الأسئلة قدرة علمية إن توافرت فيها شروط السؤال الجيد و قد قال الإمام الحسن بن علي علیهما السّلام بأن «السؤال الحسن هو نصف العلم» كما تقدم في حلقة ثانية و هذا لا يعني أنه يحسن طرح الأسئلة بلا تدريب جيد لتكون فعالة في توليد المعرفة، حيث قال الإمام كما أشرنا من قبل: «حسن السؤال نصف الإجابة(1)».

***

ص: 201


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 18

9. القدرة على إتقان التعلم

يبدأ الفرد التعلم اعتماداً على طاقة عقلية يتم تفعيلها و على مشروع تدريبي يقوم به مدرب و بمرور بعض الوقت من تتابع الأداء يحدث تعلم أو تغير شبه دائم في الأداء التعليمي، بيد أن هذا التغير لم يصل إلى منتهاه و لم يبلغ مداه، فيظل المتعلم بحاجة لجهد جديد لاستكمال الخبرة لديه و إتقان ما لم يتقنه بعد فإذا ما تواصل الجهد اكتمل نمو الخبرة و بلغت حالة من النضج، بحيث تمكن الفرد من إتقانها بنحو يكون أداؤه سهلاً في موقف تعليمي جديد و لن يتمكن الفرد المتعلم من الإتقان إلا بحركة مزدوجة تجمع بين عملية تعليم الآخر و تعلمه منه لكسب الخبرة و إتقانها كما أوضح نص الإتقان الذي ذكرناه مراراً في مباحث دراستنا.

***

10. القدرة على تعلم خبرة جديدة

القدرة على التعلم لدى الإنسان لا تتوقف عند مرحلة معينة، فالكائن الآدمي ينتقل من مستواه الأدنى أو من نقطة الصفر و يظل التعلم كأداء في «تغير صاعد شبه دائم» حتى يقف عند حد معيَّن يشعر فيها المتعلم بإتقان السلوك كما أشار إليه نص

سابق و لكن في مرحلة التغير التصاعدي شبه المستمر و استكمال الخبرة التي يمارسها بغرض إتقانها يواجه المرء مواقف تعلم جديدة ربما لم يقصد الوصول إلى نتائج محددة فيها، فإذا كان المرء يحاول من خلال عملية التعلم و التعليم أن يستكمل ما لم يتقنه فإنه بواسطة استمراره في أدائها يصل إلى إتقان خبرته و في الوقت نفسه يتعلم شيئاً جديداً كأن يحفظ قصيدة لكثرة تكراره لها في أثناء عملية التعلم و التعليم أو يهديه تفكيره إلى تفسير نص برؤية جديدة أو إدراك حقيقة تخالف ما يعتقده فكرياً أو دينياً.

ص: 202

و أتذكر شخصياً محاولتي كتابة نظرية تربوية للمشرع الإسلامي في موضوع التعلم و التعليم و بتتابع جهدي في البحث عن نصوص تؤصل هذه النظرية وجدت نفسي أمام نظرية سلوكية مثيرة لمعالجة أمراض السلوك بطريقة الأضداد و تعديل أداء الأفراد

بهذه الطريقة العلاجية، فتحول جزء من اهتمامي بالنظرية التربوية الإسلامية في التعلم و التعليم إلى دراسة الطريقة الإسلامية العلاجية لأمراض السلوك بالأضداد، ثم أثمر هذا الجهد بحمده تعالى إلى استكمال كتابنا عن التعلم في النظرية التربوية الإسلامية و البدء في فهم نظرية علاجية و تأصيلها و صياغتها للمشرع الإسلامي في المجال السلوكي بطريقة الأضداد و قد قمت بجمع مادة هذه النظرية من نصوصها التي كنت استخدمها في صياغة نظرية إسلامية في موضوع التعلم و في صياغة نظرية علاجية مستمدة من قيم القرآن و تعاليم السنة و توجيهات أئمة أهل البيت عليهم السّلام و هكذا فإنّ استكمال الخبرة التعليمية عملية تعبر عن تعلم مستمر يؤدي إلى إتقان تعلم خبرة و يستثير الذهن أيضاً في تعلم خبرة جديدة.

يقول الإمام الحسن علیه السّلام في نصين أشرنا لهما:

- «علم الناس و تعلم علم غيرك، تكون قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم».

- «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم».

***

11. القدرة على تطبيق مادة التعلم

و المراد من هذه القدرة ما أسماه علماء التربية «التعلم بالعمل أو التعلم بالمشاركة الفعالة» أو ما سماه علماء القدرات العقلية أمثال بلوم بالقدرة على التطبيق و مضمونها

ص: 203

أن يقوم المتعلم بتطبيق ما تعلمه من آراء و أفكار و نقل المعرفة النظرية لحركة الواقع و ميادينه، فلا يكفي تعلم العلم النظري و إنما لا بد من تنفيذ مادة التعلم في حركة الحياة التي يعيشها الفرد و قدم الإمام الحسن علیه السّلام أكثر من موقف يدعو فيه لتطبق ما تعلناه في الحياة و من ذلك قوله في وصف القرآن الحكيم:

«ما بقي في هذه الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلكم على هداكم و إنَّ أحق الناس بالقرآن.. من عمل به و إن لم يحفظه و أبعدهم منه من لم يعمل به و إن كان يقرؤه(1)».

و قد شدد الإمام على ربط المعرفة النظرية بالعمل في موقف حياتي كقوله:

«أما حقوق الله فأداء ما طلب و الاجتناب عمّا نهى و أما حقوق الأحياء فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك و لا تتأخر عن خدمة أمتك و أن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته و أن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي(2)».

***

ثانياً: قدرات العقل الإنمائية العليا:

كما ذكرنا فإن ثمة قدرات عقلية تأتي بمستوى أعلى من القدرات السابقة و هي معززة للقدرات السابقة و عاكسة لقدرة الفرد على التعلم و للقدرات المتفرعة عنها بعد تطور النمو العقلي له و استخلصنا بعضها من سياق مفردات أحاديث الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام و هي في نظرنا مجرد اجتهاد شخصي منّا و نذكر منها ما يأتي:

***

ص: 204


1- الموسوي، الروائع المختارة رقم الحديث 93 ص 141 و كلمة الحسن ص 23
2- الموسوي، الروائع المختارة رقم الحديث 47، ص 134

1- القدرة على حل المشكلات

قدرة عليا في سلم القدرات العقلية و هي تتطلب خطوات متقدمة من التفكير و تعدّ مثالاً تطبيقياً لحركة العقل الصحيحة و تفعيله و التزام قواعد المنطق العلمي في التعامل مع مشكلات الإنسان و قضاياه كمشكلة سيدنا إبراهيم مع «الإله الآفل» كما بينت ذلك سورة الأنعام في الآيات القرآنية من (رقم 75 إلى 80) و قد واجه الإمام الحسن نفسه مشكلات تحتاج إلى مستوى راقٍ من التفكير كما في مشكلة القضاء و القدر و الحرية الإنسانية التي أثارت مستوىً عالياً من التفكير المعقد و أسئلة ملك الروم للإمام الحسن بن علي(1) و أسئلة الأعرابي(2) و مشكلة مساحقة امرأة متزوجة لجارية بكر فحملت الأخيرة و قد أشرنا لهذه المشكلة في مكان من كتابنا(3).

فقد كتب له الحسن البصري يسأله عن القضاء و القدر فكتب له رسالة تضمنت جوابه على إشكاليات البصري و هي كما يأتي.

«أما بعد، فإنكم معشر بني هاشم، الفلك الجارية في اللجج الغامرة و الأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح علیه السّلام التي نزلها المؤمنون و نجا فيها المسلمون، كتبت إليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في القدر و حيرتنا في الاستطاعة فأخبرنا بالذي عليك رأيك ورأي آبائك علیهم السّلام، فإنّ من علم الله علمكم و أنتم شهداء على الناس و الله الشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم».

ص: 205


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 226- 228
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 230
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 229

فأجابه الحسن علیه السّلام بقوله:

بسم الله الرحمن الرحيم

«وصل إليّ كتابك و لولا ما ذكرته من حيرتك و حيرة من مضى قبلك إذا ما أخبرتك، أما بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شره إن الله يعلمه فقد كفر و من أحال المعاصي على الله فقد هجر.

إن الله لم يطع مكرها و لم يعص مغلوباً و لم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً و نهاهم تحذيراً، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً و ان انتهوا إلى معصية، فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم و بينها فعل و ان لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً و لا ألزموها كرهاً، بل منَّ عليهم بأن بصرهم و عرفهم و حذرهم و أمرهم و نهاهم لا جبلاً لهم على ما أمرهم به فيكون كالملائكة و لا جبراً لهم على ما نهاهم عنه و لا الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين و السلام على من أتبع الهدى(1)».

***

و نقل أحد العلماء من مصادر روائية أسئلة «ملك الروم» و كتابه لمعاوية يسأله فيه عن مسائل لم يعرف معاوية أجوبتها، فأرسل معاوية رجلاً الى الحسن يسأله عنها و هي:

أين هو وسط السماء في الأرض؟.

و ما هي أول قطرة دم وقعت على الأرض؟.

و ما هو المكان الذي طلعت عليه الشمس مرَّة ؟.

ص: 206


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 166

و ما هو المكان الذي لا قبلة له؟.

و من هو الذي لا قرابة له؟.

فقال له الحسن علیه السّلام:

أكتب: وسط السماء الكعبة و أول قطرة دم وقعت على الأرض دم حوّاء و المكان الذي طلعت عليه الشمس مرة أرض البحر حين ضربه موسى و ما لا قبلة له فهي الكعبة و ما لا قرابة له فهو الرب تعالى(1)».

***

2- القدرة على الربط بين خبرة سابقة و خبرة جديدة

في حديث الإتقان المشار في مواضع متفرقة هناك إشارة غير مباشرة يستنبطها الباحث من باطن النص و هي إشارته للربط بين خبرة سابقة و خبرة لاحقة، إذ يقوم عقل الفرد بعملية ربط بين خبرته السابقة بخبرة جديدة لاحقة و قد أوضحنا التلازم

بين التعلم السابق و التعلم اللاحق حتى في نطاق الخبرة الواحدة، فإذا كان التعلم السابق ناقصاً و غير مستكمل بنسبة (70٪) فإنه بتعلم جديد متتابع يتمكن من بلوغ نسبة أعلى كأن تصل لدرجة (80٪) و بتتابع الأداء و التدريب عليه تكتمل الخبرة لمستوى الإتقان، إلّا ذلك يكون عن طريق الربط بين أداء سابق و أداء جديد لاحق و معنى ذلک أنه ما استكمل المرء خبرة معينة بإتقان تام فإنه قد يتولد عن تعلمه السابق علم جديد بمهارة جديدة و في كلا الحالين ثمة ربط بين خبرة قبلية و خبرة بعدية يؤدي الربط بينهما إلى مزيد من التعلم تضاف للخبرة السابقة و تمهد لخبرة لاحقة و نذكر القارئ بمضمون حديث الإتقان عندما قال الإمام الحسن علیه السّلام: «علم الناس و تعلم علم غيرك، فتكون

ص: 207


1- السيد حسن الشيرازي، كتاب كلمة الحسن ص 227- 228

قد أتقنت علمك و علمت ما لم تعلم».

و حديث مجالسة العلماء قال الإمام الحسن أنَّ: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم» و هذا بالتأكيد يجسد خبرة تعليمية لدى الفرد بمجرد حضوره و لكن تردده على مجالسهم و بيآتهم تحقق أمرين كلاهما يمثل خبرة تعلم جديدة، فالأمر الأول ينطلق «لسانه» و تتفتح قدراته اللفظية، أمّا الآخر فينمو لديه لدیه مزيد من قدرات العقل و تتمايز بحسب الظروف المتاحة لها و في هذا و ذاك تترابط الخبرات.. سابقها و لاحقها، فالمقطع الأخير من النص الثاني يؤكد الترابط بين خبرتين سابقة و لاحقة بقوله علیه السّلام: «و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم» و هذا يؤدي إلى تحسن في النمو العقلي و إحداث حالة إيجابية من السرور النفسي و الرضا عن تقدم الأداء التعليمي للذات البشرية بمزيد من التعلم على ما سبقه و تعلم ما لا يعلمه.

3- القدرة على التحليل

تعاملنا في مباحث هذا الكتاب مع مجموعة من النصوص التربوية و الفكرية و الروحية نسبها العلماء إلى الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام و كانت المادة العلمية لهذا الكتاب مستخرجة من مضامين نصوصه علیه السّلام و من قدرتنا على التفاعل مع مادتها العلمية، لقد كانت هذه النصوص و مفرداتها اللفظية في أصلها «مادة لغوية و علمية خام» و ما تزال محتفظة بمفرداتها اللفظية و بمادتها الثقافية طالما بقيت في تراثنا الثقافي و الفكري و لهذا فإنّ هذه النصوص من خطب و مراسلات و أدعية و كلمات قصار هي مصدرنا الأول في صياغة أفكار الإمام الحسن و آرائه التربوية بنحو تتناغم مع النفسية الجديدة و الذهنية المعاصرة.

ص: 208

بيد أن التعاون مع هذه النصوص لا يتوقف عند عملية جمعها من مصادر متفرقة في كتب المسلمين و تراثهم و هي بحاجة إلى دراسات تحليلية ليستفاد منها في معرفة نظرياته مكتوبة بلغة معاصرة تناسب ثقافة الأجيال الجديدة و بنائها المعرفي و يستفاد منها أيضاً في تربية الأفراد من هذه الأجيال و كتابنا الذي بين يديك أحد هذه الدراسات التحليلية التي ما تزال في بداياتها و ستنمو مع تزايد الاهتمام بها في الأيام القادمة.

لقد استبطنت نصوص الإمام الحسن بن علي علیه السّلام مادة معرفية قابلة لعملية التحليل و التفكيك و الربط بين عناصر معها و قد قمنا بعملية تحليل لبعض النصوص اعتماداً على قدرتنا الذاتية و اجتهادنا الشخصي و ساعدتنا الثروة اللفظية المتوافرة في هذه النصوص على تحليلها و هذا ما يؤكد لنا بصورة غير مباشرة بأن الإمام الحسن في بعض نصوصه و بخاصة النصوص المطولة أو النصوص القصيرة ضمنها مكونات أساسية، فعملية التحليل التي قصدناها محاولتنا تفكيك المحتوى اللفظي و المعرفي إلى أجزائه الأولية و مكوناته الأساسية، ثم تفسير ترابط هذه الأجزاء بعملية تركيب جديدة لأفكاره بطريقة معاصرة تناسب ثقافة الأجيال في عصرنا كما فعلنا في حديث الإتقان و حديث «أسمع الإسماع ما وعى التذكير و انتفع به».

***

4- القدرة على العظة و الاعتبار

يشير الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام على قدرة عقلية يستفيد منها عقلاء الناس في تجنب المخاطر و أخذ العبرة مما جرى في حياة الآخرين، حيث تمر على الناس مواقف معقدة تنطوي على عظة أخلاقية و إرشادية و تستوجب من الفرد أخذ الاعتبار مما جرى على غيره فالطاغية الذي يكثر إيذاءه للناس قد يكون مصيره الثورة عليه و تصفيته

ص: 209

بطريقة مأساوية، بيد أنَّ كثيراً من الناس لا يتأمل فيما جرى له و عليه و لا يستثير تفكيره مصائر الآخرين و يظل تحت وهج القوة معطلاً لقدرته على معالجة الأمور بحكمة و غير مستفيد من مضامين العظة التي مرت بآخرين و الاعتبار منها، فهناك قال الإمام الحسن عائق هو «العزة الآثمة» أو ما يعبر عنها بالعزة بالإثم.

يقول أحد نصوص الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام: «بينكم و بين الموعظة حجاب العزة(1)»، فالقدرة المذكورة متوافرة في التركيبة البشرية و تؤكد -كقدرة عقلية- على إمكانية استفادة الإنسان من موعظة التجارب و المآسي التي تمر على الناس و أخذ العظة كخبرة مربية و لكن عائقها الوحيد أن الآثم قد تأخذه مشاعر العزة بالإثم، فلا يستفيد مما جرى.

و في نص آخر يدعو فيه للعظة و العبرة فقال: «فاتعظوا عباد الله بالعبر و اعتبروا بالأثر و ازدجروا بالنعيم و انتفعوا بالمواعظ، فكفى بالله معتصماً و نصيراً و كفى بالكتاب حجيجاً و خصيماً و كفى بالجنة ثواباً و كفى بالنار عقاباً و وبالاً(2)».

***

5- القدرة على نقد السلوك

لم نجد نصاً من أقوال الإمام الحسن يتحدث محتواه المعرفي مباشرة عن ظاهرة نقد السلوك و إنما وجدنا أكثر من نص و موقف ينتقد فيه حال الناس و سلوكهم سواء كان اجتماعياً كما في حديث المأكول و المعقول، أو انتقاده لمناوئيه من زمرة الظالمين و ردّ على

ص: 210


1- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 170 و كتاب كلمة الحسن للسيد حسن الشيرازي ص 200
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 170

أقوالهم و تخرصاتهم و ما يهمنا من مواقفه الناقدة سوى إشارته للنقد كقدرة عقلية في حياة الناس و أنه بإمكانهم توظيف هذه القدرة في تعديل سلوكهم و تحسين وجهات نظرهم المعرفية، فعملية نقد الأفكار و السلوك لدى الإمام هادفة و ليست موجهة لأغراض انتقامية كما يفعل بعض الناس و الملحوظ في خطابه للناس أنه يركز تفكيره النقدي على ظواهر سلوكية كنقده لسلوكهم في اشباع الحاجات الجسدية و إهمال إشباع الحاجات العقلية لهذا كان حديثه يركز تعجبه على هذا الخلل السلوكي.

***

6- القدرة على التفكر و التفكير

قدمنا في مبحث سابق كلاماً عن التفكر و التفكير كطريقة في التعليم، فهو في نظر الإمام الحسن حياة كل قلب بصير و هو أبو الخير و أمه(1)، فالتفكير نشاط عقلي يمنح مختلف قدرات العقل على النمو الطبيعي و يتيح على سبيل المثال القدرة على حل المشكلات و هي قدرة فرعية أن تنجح في هذه المهمة و أن تتمكن القدرة على تمييز الحق من الباطل و أن يتمكن العقل من الاستنتاج السليم لظواهر يراها في عالمه الذاتي و العالم الخارجي و أن يتغلب العقل بتفكير سليم سوي و إتباع قواعد صحيحة على حجاب العزة بالإثم حتى يفيد الإنسان من العظة و يأخذ منها الاعتبار المناسب المربي.

و هكذا فإن ظاهرة التفكير في حياة الإنسان ليس مجرد تأمل في داخل الدماغ و إنَّما تظهر آثاره في نشاطنا الخارجي بنحو ينعكس على علاقاتنا بأنفسنا و بالآخرين و بالأشياء من حولنا و بذلك فإنّ التفكير ليس مجرد عملية عقلية محضة، بل هو أحد

ص: 211


1- یمكن مراجعة كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الحديث 19، س 129، السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 200، 238

الوسائل العملية لتحقيق «تقوى الله» في بنية التكوين التربوي و الروحي و العلمي للشخصية الإيمانية و من هنا تقدمت جملة «أوصيكم بتقوى الله» في حديث الإمام الحسن عن التفكير ليربطه بهذا الهدف التربوي الكبير و نفهم منه قول الإمام الحسن ابن علي علیه السّلام عن المؤمن: «إذا تفکر حزن(1)»، خاصة حينما ينتهي تفكره إلى نتيجة سلبية بمنظوره الخاص و غالباً ما تكون في حياة المؤمن فإنه يحزن على مصيره لأنه يشعر دائماً بالتقصير في مسؤولياته العبادية تجاه الله سبحانه و تعالى و لذلك فالمؤمن كما قال الإمام السبط علیه السّلام: «لا يلهو حتى يغفل(2)» عن مصيره خارج عالمه الدنيوي، أي في عالمه بعد الدنيا .. الآخرة.

***

7- القدرة على التمييز بين الحق و الباطل

للعقل وظائف متعددة إدارة سلوك الذات البشرية، بيد أن ذلك يرتكز على قدرات هي الأخرى متعددة و منها قدرة العقل على الفرز المعرفة و فحصها و التمييز بين الحق و الباطل و تمتد فعالية هذه القدرة إلى مجالات من حياة الإنسان الاجتماعية و الروحية و غيرهما، فالحديث المنسوب للإمام الحسن بأنه: «إذا أضرت النوافل بالفريضة فاتركوها(3)» و في رواية «فارفضوها(4)»، يعني أن قدرة عقلية لدى الفرد تمكنه من إدراك ضرر النوافل بالفريضة و أنه كانسان يستطيع بقدرته على التمييز بين مأكول زائد عن الحاجة يضر بالبدن و بين معقول لم يأخذ حظه من الإشباع الطبيعي السوي فيختار

ص: 212


1- الموسوي المختارة الحديث 19، ص 129
2- الموسوي، الروائع المختارة، 18، ص 129
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 199
4- ابن شعبة الحراني، تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 170

بعد إدراك الخلل القيام بمهمة الإشباع المتوازن للحاجات المتعددة عنده و أنه أيضاً قادر على التمييز بين رأي صائب و بين رأي خاطئ حتى و إن۟ كان في موقف انفعالي غاضب، ف- «لا يُعرف الرأي إلّا عند الغضب(1)».

و في موقف اجتماعي و إرشادي يوجه الإمام الحسن بن علي أحد أولاده فقال علیه السّلام: «يا بُنَيَّ لا تؤاخ أحداً حتى تعرف موارده و مصادره، فإذا استنبطت الخبرة و رضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة و المواساة في العسرة(2)».

و في قول الإمام الحسن علیه السّلام: «كفاك لسانك ما أوضح لك سبيل رشدك من غيِّك(3)» إنما عنى قدرة العقل الإنساني بفطرته السوية أو بتنميته على التمييز بين الرشاد و الغي في قول اللسان، فيحرص الإنسان في مواقف حياتية جديدة على النطق بقول منطقي لا يؤذي أحداً و يتجنب قول الكلام الذي يسبب للناس أذى، فالعقل الإنساني من خلال قدرته على التمييز يبسط سيطرته على الانفعالات و العواطف الذاتية و الشهوات الزائدة و على فحص المعرفة بدقة و على معرفة الخلل في إشباع الحاجات و إضرار النافلة بالفريضة، فيعيد الأمور إلى نصابها أو حتى يتجنبها قبل أن تحدث لأن مهمة العقل وقائية و علاجية و إنمائية في آن احد.

***

8- القدرة على تقديم المشورة للآخرين

تواجه الأفراد مشكلات محيِّرة تهدد حياتهم أو تعوق نمو شخصياتهم أو تسبب لهم

ص: 213


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 223
2- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 168، الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 1، ص 126
3- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 199

صراعاً داخلياً و تأزماً، فيضطرون إلى استشارة بعض من يرونه قادراً على مساعدتهم و تقديم الدعم النفسي لإخراجهم من المأزق الذي هم متورطون فيه، أو البحث عن حل لمشكلتهم ممن يستطيع خدمتهم و المشورة في حد ذاتها نشاط ذهني لمواجهة مشكلة فعلية يستشعرها بعض من الناس و قد تكون المشورة بنمط فردي موجهة لشخص بعينه له اعتبار عند طالب الاستشارة و ينجح المستشار في تقديم المشورة اللازمة التي تتضمن فكرة صائبة و قد تتشعب المشورة إلى معالجة «جماعية» كما في قوله علیه السّلام: «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم(1)» و قد ناقشنا المعرفي و السيكولوجي لهذا النص في مبحث سابق(2) من كتابنا هذا.

و مما يلحظ أن المشورة نشاط ذهني للتغلب على مشكلة أو تدبير فكري وقائي لتجنب حدوث مشكلة أو معالجة موقف بحل مقبول، فيذهب طالبو الاستشارة إلى ذوي العقول بغرض الوصول إلى نتيجة مرضية و نحن نعتقد بأن هؤلاء ممن نسميهم بذوي العقول أو ما اسماهم النبي محمد بن عبدالله بأولي العقول هم من يتمتعون بقدرة عقلية تملك فكراً تقدمياً و قادرة على إنتاج أفكار منتجة و راقية تعين طالبي الاستشارة على حل بعض مشكلاتهم.

***

9- القدرة على التفسير

ثمة أمور في حياتنا تبدو «غامضة» بالنسبة لبعض الناس و يعجزون عن فهمها، فيحتاجون إلى معونة أولي العقول كما قال رسول الله صلّی الله علیه و آله لتفسير غوامض «الأشياء»،

ص: 214


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 168
2- انظر المبحث الثالث الخاص بمعالجة الأساليب و الطرائق التعليمية

مما يضطرون إلى البحث عن معونة تقدم لهم في هذا السبيل و فك ما يرونه غير واضح لهم و تختزن الحياة مواقف كثيرة في هذا الشأن و قد جاء إلى الإمام الحسن علیه السّلام رجل من أثرياء زمانه يسأله عن أمر يحيره لغموضه بالنسبة إليه فقال له: يا ابن رسول الله: «إني أخاف الموت، فقال علیه السّلام له : ذاك لأنّك أخرت مالك و لو قدمته لسرك أن تلحق به(1)».

و المضمون العام للنص و هو موقف حواري قصير أن الرجل الثري بخل بماله فجعله خلفه محافظاً عليه أكثر من نفسه فاستشعر القلق في داخله، فالعمر يطوي نفسه و هو يشعر أنه لم يقدم لآخرته ما يكفي، فاستشعر الرجل الثري بفطنته الفطرية قدوم الموت فجأة أو بمرض أو بحالة أخرى و شعوره ببقاء نفسه تحت رهن المال و قيوده و أصفاده و جثم هذا الشعور على قلبه فجاء ابن رسول الله الإمام الحسن يشكو همه و خوفه من الموت الذي هو سنة الله على جميع خلقه، فأجابه الإمام بما أزاح «الألم» و الغشاوة عن قلبه حينما دعاه إلى مواجهة الأمر و تعديل نظرته و سلوكه ببذل المال و تسخيره لخدمه مستقبله بين يدي الله سبحانه و خدمة وظيفته العبادية ليشعر بالسرور و السعادة و يلحق به سعيداً مسروراً و في موقف آخر عن الشاهد و المشهود ينقل العلامة الأربلي عن الشيخ كمال الدين بن طلحة قوله أن الإمام الحسن: «كان يجلس في مسجد رسول الله صلّی الله علیه و آله و يجتمع الناس حوله، فيتكلم بما يشفي غليل السائلين و يقطع حجج القائلين(2)».

و روى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ما لفظه: «دخلت مسجد المدينة فإذا أنا برجل يُحدّث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله فقلت له أخبرني عن «وَ شَاهِدٍ وَ مَشْهُود(3)»

ص: 215


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 20 ص 129
2- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 169
3- سورة البروج: 3

فقال: نعم، أمَّا الشاهد فيوم الجمعة و أمَّا المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدّث فقلت له: أخبرني عن «وَ شَاهِدٍ وَ مَشْهُود» فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم النحر، فجزتها إلى غلام كأنّ وجهه الدينار و هو يحدِّث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله فقلت له: أخبرني عن «وَ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» فقال نعم: أما الشاهد فمحمد صلّی الله علیه و آله و أما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: «يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَٰهِدًا(1)» و قال تعالى: «ذَلِكَ يَوْمٌ تَجَمُوعُ لَهُ النَّاسُ وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ(2)».

فسألت عن الأول؟ فقالوا: ابن عباس.

و سألت عن الثاني؟ فقالوا: ابن عمر.

عن الثالث؟ فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السّلام و كان قول الحسن أحسن(3)».

و هكذا فسر الإمام الحسن عليه السّلام ما غمض على السائل في كلمتي «شاهد و مشهود» و نال ثقة السائل بعد أن قارن تفسيره بأقوال غيره كما في النص المتقدم.

و مع أن كلمة «حسنة» واضحة في لغة العرب إلّا أن الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام قام بتفسير هذه الكلمة لتحديد معناها و كشف الغموض عنها، ففي قوله تعالى: «رَبَّنَا ءَائِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ»، فقال: «هي

العلم و العبادة في الدنيا و الجنة في الآخرة(4)».

ص: 216


1- الأحزاب: 45
2- سورة هود: 103
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 169
4- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 238

و في موقف تفسيري آخر كان الإمام الحسن بن علي علیه السّلام «يطوف في بيت الله الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد فقال له: «إنَّ لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنَّ الجواد الذي يؤدي ما افترض عليه و البخيل الذي يبخل بما افترض عليه و إن كنت تسأل عن الخالق، فهو الجواد إن أعطى و هو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له و إنْ منع منع ما ليس له(1)».

تلك مجرد أمثلة و مشاهد على تفسير الإمام الحسن بن علي علیه السّلام ما غمض للناس و هي قدرة اختزنها العقل البشري و تحتاج فقط إلى تنميتها لتفعيل دورها في التفسير و البحث عن اللغز غير المكشوف.

***

10- القدرة على التسويف

و هي في ظاهرها تعني المماطلة الذي لا يريد أن تصل الأمور إلى خواتيمها بدوافع غير نبيلة، فيميل للتسويف و إبطاء الفعل لمنع وقوعه أو تأخيره على الأقل و هذه العادة يمارسها كثير من الناس حتى لو كانت في سبيل هدف باطل لا يرضاه الله سبحانه.

و للتسويف كعادة سلوكية جانبها السلبي كما تقدم و لكن تقترن كعادة سلوكية مَرَضِية بأعذار يختلقها «المسوِّف» تظهر قدرته على استخدام تفكيره من أجل أهداف غير نبيلة أحياناً أو لترتيب أموره الشخصية لموعد يحدده بنفسه دون أن يمنح الآخرين فرصة استسلامه لهم و نحن نعدّ «التسويف» ذكاءً، لكنه -لسوء الحظ- لأهداف غير سوية و هذا ما يسميه علماء الأخلاق ب- «الجربزة»، فالتسويف و إن كان تسويغاً إلّا أنه يمثل مقدرة على إنتاج أفكار تبريرية يماطل فيها و تحميه مؤقتاً و تساعده على

ص: 217


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 22- 23

218

انجاز خطته كما يريد و يتيح له التلاعب على الآخرين بمسوغاته التي تعكس قدرته على التفكير لصالح نفسه لا للآخرين و في سياق فهمنا للتسويف من هذا المنظور نقرأ قول الإمام الحسن علیه السّلام: «كل مؤجل يتعلل بالتسويف(1)».

***

11- القدرة على الخطابة

الخطابة ملكة نفسية عقلية في آن واحد و قد عرف العرب بحذقهم فيها و براعتهم في تطبيقاتها و أوضحنا في أحد مباحث كتابنا قيمتها التربوية و قد ذكرنا فيما تقدم قدرتنا -كما أشارت هذه النصوص- على تعلم اللغة و هي مهمة تربوية- تعليمية تشتمل على مهارات لغوية كالقدرة على الفهم اللفظي و الطلاقة اللفظية، فضلا عن مهارة الالتزام بقواعد النحو العربي و النطق السليم و نقل المفردات العربية الأصيلة.

لقد جمع السيد الموسوي (56) خطبة في موضوعات متعددة و متفاوتة في طولها و قصرها و اشتملت على وصف مفاهيم و مواعظ و بيان مواقف سياسية و التوجيه الاجتماعي و النصح و الإرشاد و بعض المناظرات و الحث على الجهاد و وصف للمنافقين و المتقين و غير ذلك من الموضوعات و نعود إلى الإشارة من جديد للقدرة على الخطابة باعتبارها في نظرنا قدرة عقلية إنمائية عليا لأنها تشتمل على القدرات اللفظية أو اللغوية السابقة الذكر و لأنها تمد الشخصية بخصائص إيجابية مكتسبة مثل:

1. تقوم الخطبة بتزويدنا بثروة لفظية هائلة كالمفردات اللغوية و الكلمات و النصوص اللغوية الكاملة و تدفعنا على البحث عن معاني بعض المفردات و الكلمات

ص: 218


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 170 و السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 201

و مضامين عامة للجمل و العبارات.

2. تجعلنا الخطبة في تراثنا الثقافي على إحاطة جيدة بالمحتوى المعرفي للخطبة و التركيز على مضمونه و الإفادة منه في حركة حياتنا.

3. تتساند الثروة اللفظية و المحتوى المعرفي للخطبة في إنماء شخصياتنا و صقل قدراتها في المجالين المذكورين على حد سواء.

4. تنطوي الخطبة على أجواء روحية نشعر بأهميتها في التربية الذاتية للشخصية العربية- الإسلامية.

5. تتيح لنا خطب الإمام الحسن علیه السّلام و استخدامها فرصة تحقيق مكاسب إيجابية تساعدنا على توظيفها في تنمية القدرات العقلية للأفراد الذين يتم تعهدهم بالرعاية و التربية العقلية.

***

12 - القدرة على الحوار

هذه القدرة شديدة الوضوح في تاريخه السياسي و مساحتها أقل في الجانب التعليمي بحسب النصوص المتوافرة لدينا، فأعداء الإمام الحسن و خصومه و المناوئين أكثروا من أكاذيبهم، فاضطر إلى مناظراتهم مراراً كما فعل مع معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و كان غالب هذه المناظرات ذات طابع ثنائي و أحياناً تتجاوز المناظرات هذا الطابع لتكون بين الإمام الحسن نفسه و جماعة من مناوئيه السياسيين ممن أشرنا إليهم.

و بالنظر في بعض النصوص التربوية نلحظ بعض أنماط الحوار اللفظي و الثنائي

ص: 219

220

القصير سواء بين الإمام الحسن و أبنائه أو بينه و الآخرين و قصة تحديد المفاهيم المذكورة مثال على هذا الحوار العلمي الباهر كما وصف علیه السّلام صديقاً صالحاً له فقال: «كان إذا جامع العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول(1)» و في ذلك إشارة الى مشاركة الصديق في الاستماع لمعلميه بدرجة أشد من القول لهم، إلا أن الحرص على الحوار لم يهمل تماماً، فهو بمقدار حاجته يشارك في موقف تعليمي حواري متى تطلب الأمر ذلك و غرضنا من هذه الإشارات إثبات تشجيعه للحوار التعليمي كقدرة فعالة في المجال التربوي، كما أن «المشورة» التي دعانا إلى ممارستها نموذج تطبيقي على الجماعي الحوار لحل مشكلة ما بصرف النظر عن نوعها ، ومدى قربها أو بعدها من هذا المجال

أو ذاك.

***

13- القدرة على الاستنتاج

تتطلب المعرفة في حركتها المنهجية مقدمة واحدة أو مقدمتين أو أكثر للوصول إلى استنتاج محدد يطابق مقدمات المعرفة، بحيث تكون حركة البحث ملتزمة بقواعد علمية منتظمة تنتهي بخاتمة واضحة يتم التعرف على النتيجة و يكشف عن حقيقة معينة إما بالإثبات أو بالنفي و مثال ذلك حركة التفكير التي مارسها نبي الله سيدنا إبراهيم علیه السّلام مع «الإله الآفل»، حيث لاحظ كمشكلة عبودية الناس لغير الله و تتبع حركة «الإله الآفل» من كوكب آفل إلى قمر آفل إلى شمس آفلة حتى انتهى إلى نتيجة بأن هذا الأفول مخالف لمفهومه عن الإله الحقيقي و مواصفاته فرفض «الإله الآفل» و تبرأ منه و دله هذا الاستنتاج إلى الإله الحقيقي الذي لا يأفل و لا يغيب(2).

ص: 220


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 169
2- انظر سورة الأنعام، آيات 76- 80

و هذه القدرة لها مصاديقها الواقعية في التراث الثقافي و الروحي للإمام الحسن، فكل ما كتبناه في هذه المباحث هو عملية استنتاج من مقدمات مثبتة في باطن نصوصه الكريمة و تقود إلى استنتاجات مطابقة لهذه المقدمات، فمن أقواله عن الموعظة و المشورة و طرح الأسئلة و التعلم بالمشاركة العملية و طريقة الأضداد و غيرها قادنا إلى استنتاج ظاهر و هو أن في المنهج التربوي للإمام الحسن علیه السّلام أساليب و طرائق تنظيمية لعمليتي التعلم و التعليم، فالإشارات عن هذه الطرائق مقدمات في منهجه و تراثه و قد دلتنا على تجميعها في استنتاج مهم هو اليقين بوجود أساليب و طرائق تنظم سلوكنا في العملية

التعليمية- التعلمية و قد عقدنا حلقة خاصة للحديث عنها.

كما أنّنا في أثناء عملية تحليل نصوص الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام كنّا ننطلق من محتواها المعرفي كمقدمات منهجية في حركة تفكيرنا لتنتهي على استنتاجات تفسر هذه المقدمات في حقائق مرتبطة بها و هكذا فإن كل نصوصه قائمة في محتواها المعرفي و الروحي على علاقة بين المقدمات و النتائج قد تكون إيجابية أو سلبية.

***

14- القدرة على تحديد المفاهيم

المفهوم في لغة علماء المنطق مجموعة صفات تنطبق على شيء معين فتحدده بدقة و تمايزه عن غيره من الأشياء (و الأجناس و الأنواع) كقولنا (الإنسان: كائن عاقل) و يقابله عندهم المصداق و هو ما انطبقت عليه صفات المفهوم، فالإنسان مصداقه.. الإنسان العربي و الإنسان الأعجمي، فكلاهما مصداق لمفهوم واحد هو أن الإنسان كائن عاقل .

و في الخطاب الأخلاقي و الروحي و المعرفي عند الإمام الحسن علیه السّلام أمثلة على

ص: 221

صياغاته للمفاهيم أظهرها ما ذكرناه من مجموعة الأسئلة التي وجهها الإمام علي لابنه الحسن و هي ما سميناها بالطريقة الاستجوابية على حد تعبير علماء التربية و كانت طريقة حوارية تعليمية أشبه بموقف تعليمي تقويمي ليختبر فيها الإمام علي ابنه الحسن و معرفة نوع إجاباته عن الأسئلة المطروحة، فقد نجح الإمام الحسن في تحديد المفاهيم المعروضة عليه بدقة تامة أعجبت الإمام علي و أثنى على ابنه عليهم السّلام و قد نقلنا النص بأكمله في موقع من أحد مباحث كتابنا و بقيت هذه الأسئلة و إجاباتها وثيقة تربوية خالدة تظهر قدرة الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام على صياغة دقيقة للمفاهيم بمحددات علماء اللغة و الأخلاق الشرعية و توحي المحاولة لنا بضرورة الاقتداء بها و تنمية قدرتنا على صياغة المفاهيم و تحديدها و تنميتها في ثقافتنا اليومية الحياتية.

***

ص: 222

الحلقة السادسة

اشارة

الحاجات الإنسانية في تراث الإمام الحسن علیه السّلام

ص: 223

ص: 224

الحاجات الإنسانية في تراث الإمام الحسن علیه السّلام

اقتضت حكمة الخلق الإلهي أن يكون الإنسان مخلوقاً ناقصاً في قبال الكائن الأعلى الكامل و هو الله سبحانه تعالى و لا ينفرد الإنسان بطبيعته الناقصة دون سائر المخلوقات و الكائنات التي تحتضنه و يحتضنها في علاقات تفاعلية هي الأخرى من مقتضيات الخلق الإلهي و حكمته و إنما يمتد ذلك إلى نظام المخلوقات بأسرها دون استثناء، فكل مخلوقات الله سبحانه و تعالى في كونه الواسع ذات طبيعة ناقصة و يعتريها الضعف و عدم الاكتمال و لم يميز الله سبحانه مخلوقاً في هذا الشأن دون غيره و إنْ ميّز -بحكمته أيضاً- عباده البشر بخصائص لا تتوافر في سائر المخلوقات كقدرتهم على التفكير و التعقل و قدرتهم كذلك على النطق أو استخدام اللغة الناطقة و الخلق النبيل الكريم.

و إذا كانت طبيعة الإنسان -كمخلوق متميّز- النقص و الضعف كما صرحت نصوص قرآنية كثيرة فإنَّه يولد كائناً ناقصاً محتاجاً لربه، بل و محتاجاً لأخيه الإنسان و يعيش على وفق هذا النظام البشري محتاجاً في عالمه الخاص و في علاقته بالكون و المجتمع و أخيه الإنسان، ثم يطوي حياته و هو بحاجة لعون كل من يحيط به أسوة بجميع المخلوقات التي هي الأخرى تحتاج إلى بعضها و لدعم الإنسان نفسه و يشهد على هذا النقص شواهد كثيرة كمرضه و فقره و حزنه و تشاؤمه و سوء تفكيره و ضعف قدرته على تدبير أمره و عدم قدرته على الإنجاب أحياناً و موته، بل و تعفن جسده ما لم يُوَارَ بالتراب كما حكى ذلك القرآن الكريم في آيات قرآنية خمس من (27- 31) من سورة المائدة المباركة.

ص: 225

و لهذه الحاجة حكمة ربانية بأن يشعر بأنه مخلوق إلهي يحتاج لربه سبحانه و تعالى و الرغبة في التواصل مع الأشياء المحيطة به سواء كانت من طبيعة جنسه كالكيان الإنساني أو من أصناف النباتات أو من الأشياء و سائر الكائنات الجامدة العجماوات، فالله تبارك و تعالى كنز مخفي أراد من خلقه أن يعرفه مخلوقاته و أن يدركوا أنهم مخلوقون ناقصو في طبائعهم و تركيبتهم و أنه في نظره الكائن الكامل الأعلى.

إنَّ الحاجة -بمقتضى الخلق الإلهي- جزء من التركيبة الفطرية للكائن الآدمي و تكوينه الداخلي منذ بدايات التاريخ الإنساني و ما تزال حاجته مركوزة و قائمة في كيانه الذاتي، فأول مشهد للحاجة و العجز و طلب الدعم و المعونة من خارج ذاته أن الله سبحانه و تعالى أمده بكل مقومات حياته في مدة ما قبل وجوده بعالمنا الدنيوي، أي في مرحلة الحمل نفسها التي تستمر لأشهر تسعة و كذلك في أثناء حياته بعد ولادته و في أثناء موته و ما بعد موته و في يوم الحساب الأكبر، فالعجز «سمة الإنسان» في مراحل حياته و مماته كلّها و مظهر كامن في كينونته بإرادة الله الخالق سبحانه و لهذا وضع سبحانه تشريعات تنتظم عليها حياة الإنسان و تضبط مسيرته و تحميه من غوائل نواقصه، فأنزل عليه وفرة وافرة من النعم و سخر له مخلوقات متعددة في الكون و أمده بأسباب الحياة حتى موعد محدد ثم ينقله لعالم آخر مع بقاء طبيعته الناقصة جزءًا من كيانه و قد أثرى الله حياة الإنسان بمرشدين و قادة و أنبياء يلهمونه القدرة على الاكتمال أو السعي إليه.

من هؤلاء القادة العظام سيدنا الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام و هو من رجال الله و عباده الذين بحاجة لربهم تعالى، فقد سخر علیه السّلام كثيراً من أقواله و نصوصه في مسألة الحاجات الإنسانية و علاقتها بإشباع ما يريده الإنسان في جوانب كثيرة من شخصيته للبقاء و لحفظ نوعه و بالتأكيد لا أحد من الباحثين يتوقع أن يتحدث عنها في

ص: 226

نصوصه بطريقتنا المنهجية و التنظيمية و إنّما تتفرق كلماته و نصوصه في عدد من خطبه و أدعيته و مراسلاته و مكاتباته و للباحثين حرية قراءتها و استخلاص ما يريدونه حينما يريدون كتابة موضوع محدد تبين رؤية الإمام الحسن علیه السّلام سواء كانت عقائدية أو روحية أو أخلاقية أو تعليمية أو سياسية أو غير ذلك، فمصادر تراثه الفكري متنوعة و من حق الباحثين استثمار هذه المصادر و ما تختزنه من رؤى في إعداد مادة تعليمية ثقافية، نظرة سياسية و غيرها للتعرف على إسهاماته الإبداعية في هذا المجال أو ذاك من مجالات المعرفة الإنسانية.

***

نصوص في حاجات الإنسان

قدمت المصادر الروائية التي نقلت لنا في هذا الزمان قسماً من التراث الفكري و الروحي و القيمي عند الإمام الحسن علیه السّلام في ضوء عددٍ من النصوص التربوية و الأقوال المأخوذة من خطبه و مراسلاته و كتبه و كلماته القصار في مجال الحاجات

الإنسانية و كيفية ضبط إشباعها سواء في مجال الإشباع البيولوجي للحاجات التي ترتبط بجسد الإنسان أو في مجال الاشباع النفسي- الاجتماعي للحاجات التي تتصل بالجانب السيكولوجي للإنسان.

***

أولاً: في مجال الإشباع البيولوجي:

استطعنا جمع و حصر عدد من النصوص و الأقوال و حصرها من تراث الإمام الحسن علیه السّلام و هي ترتبط بدوافع ذات علاقة بالجسد الآدمي و تشمل دوافع الجوع و العطش و الجنس و الأمومة و البنوة و الحاجة إلى إخراج الفضلات و سنقوم بتوزيع

ص: 227

النصوص على أساس توزعها بيولوجياً بحسب ورودها السابق الذكر على النحو التالي:

. اشباع دافع الجوع.

. دافع العطش.

. الدافع الجنسي.

. دافع الأمومة.

دافع الإخراج.

***

أ- اشباع حاجتي الطعام و الشراب

لا يحتاج القارئ لمزيد من القول بأهمية الحاجة إلى إشباع هاتين الحاجتين في حياة كل كائن حي بخاصة الإنسان و سائر الحيوانات و قد وردت نصوص في هذا المجال عن حاجتي الطعام و الشراب لدى الإنسان لتلازمهما بيولوجياً، بل إن بعض نصوصه تجاوزت الإشارة لإشباع حاجتي الطعام و الشراب لتشير لحاجات مادية ملحة في حياة الكائن الآدمي كالحاجة إلى المال و اللباس و المأوى أو السكن و هي نصوص واضحة في معانيها و دلالاتها اللفظية

و من هذه النصوص ما يأتي:

1- قال الإمام الحسن الزكي: «فرض (و يقصد هنا الله سبحانه و تعالى) عليكم لأوليائه حقوقاً، فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم و مشربكم و يعرِّفكم بذلك البركة و النماء و الثروة و ليعلم من

ص: 228

يطيعه منكم بالغيب(1)».

2- و شتمه رجل شامي و هو راكب فلم يرد عليه الحسن، فلما فرغ من سبابه جاءه ضاحكاً و أقبل عليه بقوله: «أيها الشيخ أظنك غريباً و لعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك و لو سألتنا أعطيناك و لو استرشدتنا أرشدناك و لو استحملتنا أحملناك و إن كنت جائعاً أشبعناك و إن كنت عُرياناً كسوناك و إن كنت محتاجاً أغنيناك و إن كنت طريداً آويناك و إن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رجلك إلينا و كنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً و جاهاً عريضاً و مالاً كثيراً(2)».

3- و جاء عنه قوله علیه السّلام: «إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك(3)».

4- و في قوله علیه السّلام: «غسل اليدين قبل الطعام ينفي الفقر و بعده ينفي الهم(4)».

5- و قال علیه السّلام: «في المائدة اثنتي عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها، أربع فيها فرض و أربع سنة و أربع تأديب.

الفرض: المعرفة، الرضا، التسمية، الشكر.

السنة: الوضوء قبل الطعام، الجلوس على الجانب الأيسر، الأكل بثلاثة أصابع و لعق الأصابع.

التأديب: الأكل مما يليك، تصغير اللقمة، تجويد المضغ، قلة النظر في وجوه

ص: 229


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 27
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 192
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص199
4- الموسوي، الروائع المختارة ص 129

الناس(1)».

6- و قال ناقداً سلوك الناس في الإخلال بتوازن إشباعهم للحاجات الجسدية و المعنوية: «عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه(2)».

7- و قال سلام الله عليه عن صديقه: «كان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يحل و لا يكنز إذا وجد(3)».

***

ب- الاشباع الجنسي

و في مجال إشباع الحاجة إلى الجنس لتحقيق التناسل و حفظ النوع الإنساني كحال جميع المخلوقات الحيّة المماثلة جاء عن الإمام الحسن علیه السّلام عدد من النصوص التي تشير مباشرة لأنماط الفعل الجنسي الحلال و المحرم و بيان الحكم الشرعي إزاءها و من اقواله علیه السّلام:

1- إِنَّ ابن عبّاس في قوله تعالى: «وَ شَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَدِ» قال: «أنه جلس الحسن بن علي و يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يأكلان الرطب، فقال يزيد: يا حسن! إني مذ كنت أبغضك، قال الحسن: اعلم يا يزيد! أن إبليس شارك أباك في جماعه، فاختلط الماءان فأورثك عدائي، لأن الله تعالى يقول: «وَ شَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ

ص: 230


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 129- 130
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 50
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، ص 67 و الموسوي، كتاب الروائع المختارة ص 132

وَ الْأَوْلَد» و شارك الشيطان حرباً عند جماعه، فولد له صخر، فلذلك كان يبغض جدي رسول الله(1)».

2- ورداً على سؤال عن الشبه بين الرجل و أبناء عمه و أخواله فقال علیه السّلام: «و أما ما ذكرت من أمر الرجل يشبه ولد أعمامه و أخواله فإنَّ الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن و عروق هادئة و بدن غير مضطرب، استكنت تلك النطفة في تلك الرحم، فخرج الولد يشبه أباه و أمه و إن هو أتاها بقلب غير ساكن و عروق غير هادئة و بدن مضطرب اضطربت تلك النطفة في جوف تلك الرحم، فوقعت على عرق من العروق، فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه و إن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله(2)».

3- ورد الإمام الحسن بن علي علیه السّلام على سؤال عن المؤنث فقال: «و أمّا المؤنث فإنسان لا يدري امرأة هو أو رجل، فينتظر به الحلم، فإن كانت امرأة بانت ثدياها و إن كان رجلاً خرجت لحيته(3)» إشارة إلى التمايز الجنسي بين الذكور و الإناث و التغيرات البيولوجية المصاحبة لهذا التمايز.

4- و قال الإمام الحسن في إحدى وصاياه الأخلاقية: «ترك الزنا و كنس الفناء و غسل الإناء مجلبة للغنى(4)» و هنا يشير نص الإمام إلى السلوك الجنسي المحرم و هو «فعل الزنا»، لهذا دعا إلى تركه.

5- و سئل الإمام الحسن الزكي بن علي عليه أفضل الصلاة و أزكى سلام عن

ص: 231


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 169
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 187
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 190
4- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 200

امرأة جامعها زوجها فقامت بحرارة جماعه فساحقت جارية «بكراً» و ألقت النطفة إليها فحملت فقال علیه السّلام: أما في العاجل فتؤخذ المرأة بصداق هذه البكر، لأن الولد لا يخرج منها حتى تذهب عذريتها، ثم ينتظر بها حتى تلد فيقام عليها الحد و يؤخذ الولد فيرد إلى صاحب النطفة و تؤخذ المرأة ذات الزوج فترجم(1)» و في هذا النص إشارة الى الفعل الجنسي الحلال بين زوجين شرعيين و إشارة الى أنماط من الفعل الجنسي الشاذ و المحرم و هو مساحقة النساء لبعضهن و بيان حكمه برجم المرأة ذات الزوج و كذلك إقامة الحد على المرأة البكر بعد أن تلد.

***

ت- اشباع الحاجة للأمومة

في النصوص السابقة للإمام إشارة إلى المرأة البكر التي ساحقت امرأة ذات زوج و إشارة إلى انتظار المرأة البكر حتى تلد فيقام عليها الحد، ثم يؤخذ الولد فيرد إلى صاحب النطفة و في هذا المقطع من النص السابق تأكيد لولادة المرأة البكر كإشارة لولادة كل امرأة و أنها تلد ولداً.. ذكراً أو أنثى و ما يترتب عن ذلك من مشاعر الأمومة منبثقة من داخل المرأة و تركيبتها الفطرية الداخلية، ففي هذا النص إشارة الى الحاجة إلى الأمومة و إشباعها بطريق مشروع كما يطالب النص و وأد كل إشباع لهذه الحاجة بطريق محرم.

و جاء في بعض المصادر نصوص ما يشير لهذا الدافع الفطري و ضرورة إشباعه بطريقة حلال و تجنب أي اشباع محرم، قال الإمام الحسن.

1- و قال الإمام الحسن علیه السّلام: «ابن آدم ! إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك فإنَّ المؤمن يتزود و إنَّ الكافر يتمتع،

ص: 232


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 229

و تزودوا فإنّ خير الزاد التقوى(1)».

2- إن الله تعالى أوحى إلى آدم: أنْ زَکِّ نفسك يا آدم! قال: يا ربّ و ما الزكاة؟ قال: صلِّ عشر ركعات فصلّى، ثم قال ربِّ هذه الزكاة عليَّ و على الخلق؟ قال الله: هذه الزكاة عليك و على وِلْدِكَ بالمال من جمع من وُلدكَ مالاً(2)».

3- و تقول هذه المصادر: إن الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام كان: «يحضر مجلس رسول الله صلّی الله علیه و آله فيسمع الوحي و يحفظه، فيأتي أمه فيلقي إليها ما حفظه، فلما دخل علي علیه السّلام وجد عندها علماً فسألها عن ذلك فقالت: من ولدك الحسن، فتخفى علي علیه السّلام يوماً في الدار و قد دخل الحسن علیه السّلام و قد سمع فأراد أن يلقي إليها فارتج عليه، فعجبت أمه من ذلك، فقال علیه السّلام: لا تعجبي يا أماه فإنَّ كبيراً يسمعني و استماعه قد أوقفني، و في رواية أخرى: يا أماه قلَّ بياني و كلَّ لساني، لعل سيداً يرعاني، فخرج على علیه السّلام فقبله(3)».

***

ث- اشباع الحاجة للإخراج

ذكرنا أن الإنسان بفطرته يقوم بإشباع حاجاته الفطرية اليومية كالحاجة للطعام و الشراب ليستفيد جسم الكائن الحي من الغذاء، ثم يطرد فضلات الطعام عن طريق الإخراج ليحمي نفسه من سمومها و هذا ينسحب كما يعلم القارئ على الإنسان في المقام الأول و يمكن القول: بأنه كما الطعام و الشراب حاجات فطرية فإنه كذلك

ص: 233


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 199
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 41
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 230- 231

بحاجة للإخراج ليتخلص من فضلات الطعام و زوائده التي يمكن تسميم جسمه مع بقائه في داخله و كما أشار الإمام لحاجتي الطعام و الشراب فكذلك أشار لحاجة الإنسان فخراج فضلات الطعام و التخلص منه حماية للجسم من سمومه.

و في النص الحسني التالي: سأل أحد الناس الإمام الحسن فقال: ما الغائط؟ فقال: «لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها(1)»، ففي هذا النص إشارة للتغوط كأحد أنماط الإخراج و بيان كيفية قيام الفرد بالتغوط بعدم استقبال القبلة و لا استدبارها كأحد آداب الإخراج لدى المشرع التربوي الإسلامي.

***

ثانياً: مجال الإشباع النفسي- الاجتماعي

الحاجات الاجتماعية عديدة و متنوعة و تمتد خيوطها لكل زوايا الحياة البشرية و جوانبها و أن لكل نمط منها أساليب عديدة في الإشباع و سنورد نماذج هنا و نماذج أخر في مواضعها و بخاصة في الفصل القادم حينما نناقش الحاجات المعنوية و أساليب

إشباعها.

1- «فرض عليكم لأوليائه حقوقاً، فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم و مشربكم و يعرِّفكم بذلك البركة و النماء و الثروة و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب(2)».

2- «يا بن آدم: من مثلك و قد خلّى ربك بينه و بينك؟ متى أن تدخل إليه، توضأت و قمت بين يديه و لم يجعل بينك و بينه حجاباً و لا بوّاباً، تشكو إليه همومك و فاقتك،

ص: 234


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 231
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 27

وتطلب منه حوائجك و تستعينه على أمورك(1)».

3- ضمن ما عدده من مكارم الأخلاق قال علیه السّلام: «و المكافأة بالصنائع(2)».. أي إثابة العمل و مكافأته.

4 - «فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها» و قال الإمام الحسن محدداً من هم أهل الحاجة: «إذا طلبتم الحوائج، فاطلبوها من أهلها، قيل يا بن رسول الله! و من أهلها؟ قال: الذي خص الله في كتابه و ذكرهم فقال: «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ» هم أولو

العقول(3)».

***

الإشباع كمفهوم سيكولوجي:

مصطلح سيكولوجي يراد ب- إعطاء الفرد في الموقف التعليمي أو في موقف آخر «قدراً منسباً من المعزز» ليسد النقص في حاجته من الطعام أو الشراب أو النوم أو الإشباع الجنسي أو في مجال آخر من الحاجات المعنوية سواء كانت نفسية أو اجتماعية، فإذا كان المطلوب من عملية توفير قدر معيَّن من «الطعام» لإشباع حاجة الكائن الآدمي و التغلب على جوعه فإنَّ تقديم الطعام و الأكل للفرد يعني لدى علماء النفس و غيرهم من علماء السلوك إشباع حاجته من الطعام بقدر مناسب يعرض عليه و قد يزداد المعزز بتوفير قدر أكبر من الطعام لا يحتاجه في تلك اللحظة فيتحول إلى إشباع زائد عن الحد يسمى في لغة العرب، وفي النصوص الإسلامية «بالتخمة».

ص: 235


1- ارشاد القلوب للديلمي، ص 79- 80 و السيد حسن الشيرازي، في كتابه كلمة الحسن ص 41
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 61
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 66

و ما انطبق على الإشباع الفسيولوجي للحاجات الجسمية كالحاجة إلى الغذاء ينسحب كذلك على الحاجة في مجالات دافعية أخرى كالحاجة إلى الشراب و الإشباع الجنسي و غيرهما من الحاجات، فإما إشباع معتدل يعرفه الناس بالإشباع السوي بشروط أُخر ككونه حلالاً على سبيل المثال أو إشباع زائد عن الحد فيدخل في دائرة الاشباع المحرم و غير السوي أو يكون ناقصاً عن ضروراته الفسيولوجية و في حفظ التوازن الحشوي للبدن فيوصف الإشباع بالجوع و قد يزيد سوءاً لحد المجاعة كما يعاني الإنسان أحياناً في مناطق من أرض الله الواسعة.

إنّ الاشباع بالتأكيد مثير «معزز» لسلوك الذات البشرية و يترتب عليه آثار سيكولوجية إيجابية، إذ يزيح «الإشباع ألم النقص في الكيان الداخلي» كرفع الجوع أو العطش أو الجوع الجنسي أو التخفيف من الحرمان منه، كما يتيح الإشباع السوي و الحلال فرصة تحقق الراحة الجسدية مصحوبة بتحقق حالة من الرضا النفسي و حالة من الصحة النفسية المقبولة و هو يسهل على الفرد -كما نعتقد- الإحساس الطبيعي بالرضا عن الذات و عن الآخر، فكمية «الإشباع » المعزز للسلوك تنعكس إيجابياً على

حركة النفس و انضباطها في الحياة الاجتماعية و لهذا فإن النصوص التربوية في خطاب الإمام الحسن يؤكد على الإشباع «الحلال» و السوي و المتوازن كي لا يترك آثاره الإيجابية على الصحة النفسية و الجسدية و من هنا نفهم تعجب الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما أفضل الصلاة و السّلام في أحد نصوصه السيكولوجية و الأخلاقية عندما قال علیه السّلام متعجباً من إفراط الناس في تحقيق الإشباع المادي بخاصة فيما أسماه ب- «المأكول».. أي الحاجات المادية و الغذائية مقابل حالة حرمان جزئي أو تام أو شبه تام لإشباع الحاجات العقلية و من صنع الفرد الإنسان نفسه كما جاء في كلامه الكريم: «عجبت لمن تفكر في

ص: 236

مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله(1)».

و هنا يتقابل في هذا المقطع من النص حالتان.. حالة حرمان من الإشباع و حالة إشباع زائد عن الحد و كلتاهما في نظر الإمام الحسن علیه السّلام سلوك غير سوي و لعل هذا ما يفسر قوله عن الحرمان عندما طلب منه والده الإمام علي بن ابي طالب تعريف الحرمان فقال الإمام الحسن علیه السّلام: الحرمان.. تركك حظك و قد عُرِضَ عليك(2)»، فبعض الناس يتركون حظوظهم الطبيعية المتاحة و المطلوبة في إشباع حاجاتهم عقولهم و حاجاتهم المادية و الاجتماعية و النفسية و قد عرض الله عليهم فرصة الإشباع الكامل لهذه الحاجات مع ضياع إثابتهم، فالعقل هبة إلهية و إشباع حاجاته نعمة يثاب المرء عليها و ترك إشباعها حرمان معيب، فقد ترك الإنسان حظه من الإشباع الطبيعي و قد عرض عليه من هذا أو ذاك.

***

الحرمان من الاشباع

نعود لمقطع سابق من نص مطوّل إلى حد ما نقلناه في إحدى حلقات كتابنا(3) و يقول فيه الإمام الحسن حينما سأله والده.. ما الحرمان؟

فقال علیه السّلام: «الحرمان.. تركك حظك و قد عُرِضَ عليك(4)».

ص: 237


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 50
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 163 و كتاب الروائع المختارة للسيد مصطفى الموسوي، ص 139
3- نظر الحلقة الثالثة (طرق و أساليب العملمية التعليمية- التعلمية عند الإمام الحسن)
4- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 163 و كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، ج 2، ص 195 و كتاب الروائع المختارة للسيد مصطفى الموسوي، ص 139

238

و الحرمان هنا في مقابل الإشباع، فالمفهوم الأخير إعطاء «النفس» ما تحتاجه من المعززات الفسيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو المادية و يكون الاشباع بقدر معيَّن تحتاجه النفس أو العقل أو الجسم، أو بقدر زائد عن حد الإشباع و بذلك يتميّز الإشباع السوي عن الإشباع غير السوي فيكون الأول توفير معزز يحقق الإشباع الحلال المقبول بمعايير الصحة النفسية و يكون الثاني حالة نقص في توفير المعزز بنحو يصل للجوع.. جوع الطعام و جوع الرغبة الجنسية و جوع الحاجة إلى تأكيد الذات و نقصان المعرفة و غير ذلك.

أمَّا الحرمان فهو «منع النفس من الحصول الطبيعي على إشباع مناسب بقدر ما تحتاجه النفس في ظروف طبيعية قادرة على توفير الإشباع أو في ظروف عاجزة عنه»، أو هو بلغة الإمام الحسن علیه السّلام: «تركك حظك و قد عُرِضَ عليك».

فيكون الحرمان حالة نقص في توفير المعزز (المادي أو المعنوي أو معاً) بنحو يصل على سبيل المثال.. للجوع الجسدي .. جوع الطعام و جوع الرغبة الجنسية و جوع الحاجة إلى تأكيد الذات و نقصان المعرفة و غير ذلك من الحاجات الإنسانية و هذا المنع يأخذ أكثر من شكل، فإما أنَّ المتسلطين قد فرضوا على الناس بتسلطهم و أنانيتهم و عدوانيتهم و عدم إحساسهم بمعاناة الآخر و من ثمّ يكون هذا النوع من الحرمان إفقاراً متعمداً أو تجويعاً مقصوداً أو إيذاءً موجهاً ضد الذات من طرف خارجي يترك أثره السلبي على النفس و على حياتها الفرد و على علاقتها بالمجتمع، لكن هناك نوعاً آخر من الحرمان يثيره النص التربوي الحسني السابق الذكر القائل في تحديد مفهوم الحرمان و مضمونه اللفظي و المعرفي، يقول هذا النص: (الحرمان تركك حظك، و قد عرض عليك).

ص: 238

و هو كما ترى عزيزي القارئ أقسى و أشد و أصعب لأنه يتم باختيار الفرد نفسه و بإرادتها صائباً في قراره أو مخطئاً، فقد يعرض على المرء شيء من الطعام أو الماء أو المال الحلال لإشباع حاجة الإنسان منه، لكنه تحت ظروف تكون مجهولة أو معلومة

-بالنسبة بالفرد- يترك حظه من الاستفادة من المتاع المتاح و المباح أو يتنازل عن حاجته بنظرة خاطئة فيحرم نفسه مما تحتاج إليه من نعم الله سبحانه و من ثم يضع الفرد نفسه في حرمان حقيقي باختياره الذاتي.

و نتصور أن الإمام الحسن الزكي بن علي علیه السّلام قد عنى في إجابته عن سؤال أبيه أمير المؤمنين علي هذا النوع الأشد و الأصعب من حرمان «الذات» من إشباع سوي لحاجاتها، فهو لسبب يترك حظه عاثراً مما تحتاجه نفسه و قد عرض عليه قدر من الإشباع، فيكون قد أضاع بنفسه الفرصة للحصول عليه و توفيره حتى و إن اختار الزهد و تنظيم الإشباع و ضبطه بما يتفق و محددات المشرع التربوي الإسلامي و معايير الصحة النفسية التي تجعل لسلوكه معنىً.

***

الثابت و المتغير في الحاجات

جميع حاجاتنا البشرية هي مزيج من التكوين الفطري و الممارسة أو الإشباع الاجتماعي، فالمؤكد أن الحياة البشرية لها ثوابت محددة تتمثل في القابليات الوراثية التي نولد مزودين بها و لها في الجانب الآخر صور تعبيرية متغيرة من مدة إلى أخرى و مختلفة من مكان إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يمكن لحاظ الرغبة في «المسكن» حاجة فطرية لدى الإنسان في كل زمان و مكان، لكن يتم التعبير عنها بصور مختلفة من زمن لآخر و من بيئة مكانية لأخرى، فبعض البشر يبنون مساكنهم من الخيام، و يعيش آخرون في

ص: 239

كهوف و يبني قسم ثالث من الناس بيوتهم في أزمنة مختلفة و متتالية من الخوص و سعف النخيل، بينما يبني آخرون مساكنهم بأدوات البناء الحديثة، فالصور المعبرة عن الشكل الخارجي للبناء متغيرة و متحركة و لكنها في النهاية معبرة عن رغبة فطرية ثابتة و ما ينطبق على سائر الحاجات الفطرية و الفسيولوجية و الاجتماعية أو النفسية كالحاجة إلى التعلم ينطبق على حاجات عديدة.

فالرغبة في التعلم تمثل حاجة فطرية في التركيبة الآدمية و هي ثابتة في التكوين الفطري الإنساني و لكن فعل «التعلم» كسلوك اجتماعي و أداء تربوي يتم اكتسابه بفعل التفاعل بين القابليات الفطرية و بين عناصر البيئة الاجتماعية التي يعيش في كنفها الأفراد و يتم التعبير عنه بصور مختلفة، كالتعليم الديني أو المهني أو تعلم الصناعات أو تعلم العلوم الحديثة، فالقابلية للتعلم فطرية و ثابتة في كياننا الإنساني يتم التعبير عنها بصور مختلفة، أي أن صور الإشباع متبدلة من زمن لآخر و مختلفة من مكان لآخر مع ثبات الرغبة ككيان أصيل في داخلنا البشري.

فالتعلم حاجة و رغبة داخلية مركوزة في التكوين الفطري و هي إحدى القابليات و الاستعدادات الداخلية التي نرثها دونما تدخل من أحد سوى خالق النفس و لهذا فإن التعلم و طلب العلم -كرغبة داخلية- تجسد بالنسبة للإنسان حاجة رئيسة فطرية في كيانه لكنها لن تكتمل في حركها إلا بالتحقق في عالم الوجود الاجتماعي، أي أن التعلم كحاجة إنسانية هو في النهاية مزيج من الاستعداد الفطري الداخلي والممارسة التعليمية المستمدة من البيئة الاجتماعية التي تكسبه في النهاية إشباعاً معيناً بقدر محدد وفقاً لظروف تكوينها التدريجي.

و نظراً لأهمية حاجة الإنسان للتعلم ركز خطابه التربوي على إشباعها و طالب

ص: 240

الإمام الحسن علیه السّلام أن تأخذ حظها من الإشباع بتوازن تام لا حيف فيه كما يفعل الناس، حيث يميلون -كما شاهد الإمام الحسن بنفسه- إلى سلوك غير متوازن في الإشباع و هو سلوك يتجاوز الإشباع السوي لبعض الحاجات الجسدية على حساب الإشباع للحاجات المعنوية و الحاجة للتعلم في صدارة الحاجات المعنوية التي لا تأخذ حظها من الاهتمام، لذلك كان هذا السلوك موضع انتقاد الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام و طالب في نص له تحقيق توازن في إشباع الحاجات الجسدية و التعليمية و تجنب مخاطر الإشباع غير المتوازن.

***

مصدر الإشباع

يولد الإنسان مزوداً بقابليات فطرية للحاجات بمختلف أنواعها و بعد تفاعله مع عناصر البيئة الداخلية و مثيراتها الخارجية تبدأ حاجاته في نشاطها حتى يتم الإشباع أو يتحقق الشبع على حد تعبير بعض الروايات الإسلامية و إذا تأملنا في طبيعة الإشباع نجده من مصادر متعددة ترتد جميعها إلى مصدر أساسي أصيل هو الله سبحانه واهب «النعم» المختلفة المختلفة و صانعها و خالقها، فالإشباع يأت من نعم داخل الإنسان و محيطة كالعقل و أعضاء الجسم و من مصادر في عالمه الخارجي كالنباتات و الأشياء و الأسماك و المعادن و غيرها، لكن جميع هذه النعم بما فيها الإنسان نفسه من خلق الله سبحانه، بل حتى مصادر الشبع التي وفرها الإنسان بجهده الذاتي هي نعم إلهية لأن الله سبحانه مخلوق إلهي و الأدوات التي استخدمها الإنسان في توفير هذه النعم هي من نعم الله سبحانه و من ثم فالإنسان و الأشياء و النباتات و ما يصدرها عنها هي في حقيقتها

ص: 241

نعم مخلوقة من رب العباد، ف- «بإحكام قدرته خلق جميع ما خلق(1)» كما يقول الإمام الحسن علیه السّلام، فالأطعمة بأشكالها و أنواع الأشربة و العقول و الأرزاق و الإنسان نفسه و الأشياء من حوله في عالمه المادي هي جميعاً «نعم إلهية» مخلوقة تظل مجهولة ما دامت في أيدينا، فإذا ما زالت و ذهب أثرها عرف الناس قيمتها و هي عين ما قاله الإمام الحسن في نص قصير هو: «تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولَّت عُرِفَت(2)» و هو خالقها.

و هكذا يدرك الناس بأن الطعام بألوانه الكثيرة و مختلف طيباته و كذلك النباتات بتدخل الإنسان أو من دونه و أيضاً الأشربة و مختلف الأشياء هي جميعاً (نَعَمُ) من صنع إلهي و أن الإنسان و ما يصنعه من مواد خام أو من مواد تحويلية هي صناعة إلهية و بذلك نعدّ المصدر الذي يموّل الإنسان بحاجاته و بقابلياتها و بأدوات و مواد إشباعها هو الله سبحانه و تعالى و قد قال الإمام الحسن الزكي بن علي في دعائه للاستسقاء: «أرنا الرزق موجوداً(3)».. أي اجعله مائدة بين أيدينا و حاضرة في متناول الخلق و عباد الله سبحانه.

***

خصائص إشباع الحاجات:

ثمة خصائص تطبع عملية الإشباع للحاجات الإنسانية لتكون عملاً عبادياً سوياً كما أراده المشرع الإسلامي و كما يرغب فيه علماء الصحة النفسية بمعاييرها العلمية و هي بالضرورة لا تلتقي مع بعض القيم الدينية الإسلامية، بل تفارقها أحياناً و لكن مع ذلك ثمة مشتركات في الرؤيا، فالعقل الإنساني الفطري يمكنه أن يوحد

ص: 242


1- الموسوي الروائع المختارة، رقم الخطبة 2، ص 13
2- الموسوي، الروائع المختارة، الحديث رقم 37، ص 133
3- لموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 24 ص 49

النظرة الصحيحة من هذه القضية أو تلك.

وقد تتبعنا بعض النصوص التربوية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام فتعرفنا على بعض الخصائص من باطنها و من هذه الخصائص نذكر ما يأتي :

1. الإشباع الحلال بطابع عبادي عفيف

يبحث الإنسان بفطرته السليمة عن إشباع لحاجاته المختلفة و بخاصة حاجاته الفسيولوجية الملحة حتى لو تفاوتت مستوياته من حيث كميته و زمنه و مدى توافقه مع معايير الحلال و الحرام فالمرء منذ لحظة ولادته يود الحصول على إشباع مستمر لحاجاته لا سيما المادية شديدة ،الإلحاح و ليست المشكلة في الإشباع ذاته و إنما في نوع الاشباع و مدى انضباط صاحبه و التزامه بمعايير الحلال و الحرام، بل إنه إذا لم يبحث المرء عن إشباع حلال و سوي فإنّ «آثم» بالمعايير الإيمانية و بمحددات المشرع التربوي الإسلامي، فالإشباع التوافقي عمل عبادي تؤيده صراحة النصوص الشرعية في القرآن الكريم و أحاديث النبوة و أقوال المعصومين علیهم السّلام، إذ تشجع هذه النصوص على طلب الرزق الحلال و تدفع الناس لإشباع حاجاتهم بعفاف و ضبط و استقامة في الأكل و الشراب و الجنس و البحث عن المعرفة و التقدير و النجاح و الأمن و غيرها بأساليب توافقية مطابقة للمحددات الإيمانية و ضبطه بمعايير الصحة النفسية التوافقية مع هذه المحددات.

و كان موقف الإمام الحسن علیه السّلام خارجاً عن هذه النظرة لموضوعية الإشباع و ذاتيته و ضرورة تلبسه بمعايير الحلال و الحرام و دفع الالتزام به، فمصادر تراثه الروحي و الثقافي و الأخلاقي تنقل لنا بعض أقواله التي تشدد على عفاف الإشباع و طابعه الأخلاقي كما في الحديث التالي، حيث يقول عليه الصلاة و السّلام:

ص: 243

- «لا تجاهد الطلب (و يقصد طلب الرزق) جهاد الغالب و لا تتكل على القدر اتكال المستسلم، فإنَّ ابتغاء الفضل من السُّنَّة و الإجمال في الطلب من العفة و ليست العفة بدافعة رزقاً و لا الحرص بجالب فضلاً، فإنَّ الرزق مقسوم و استعمال الحرص استعمال المأثم(1)».

و قوله علیه السّلام: «إن۟ لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره، فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى(2)».

و قال علیه السّلام: «يا بن آدم عف عن محارم الله(3) تكن عابداً و أرض بما قسم الله تكن غنيّاً و أحسن جوار من جاورك تكن مسلماً و صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عدلاً(4)».

و قوله في نصيحة لجنادة بن أبي أمية «استعد لسفرك و حصل زادك قبل حلول أجلك و أعلم أنك تطلب الدنيا و الموت يطلبك و لا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق رأسك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك و أعلم أنَّ في حلالها حساباً و في حرامها عقاباً و في الشبهات عتاباً، فانزل الدنيا بمنزلة الميتة و خذ منها ما يكفيك فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها و إن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة وإن كان العتاب فإنَّ

ص: 244


1- الموسوي، الروائع المختارة، الحديث رقم 4، ص 126
2- الموسوي، مصدر السابق الحديث رقم 50، ص 135
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 198- 199
4- الموسوي، الروائع المختارة، الخطبة رقم 7، ص 19 و كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 199

العتاب يسير(1)».

و هكذا تضفي هذه النصوص التربوية عند الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام على الاشباع طابعاً عبادياً عفيفاً لا مجال فيه للأكل الحرام و لا اللباس الحرام و لا تناول الملذات الشهوية الآثمة و لا انغماس في شهوات محرمة ليتم إشباع الحاجات بلا قيم صحيحة و لا صلة لها برضا الله تعالى، فدعوته صريحة في تحقيق الإشباع السوي بمعاييره السليمة التي تعانق رضا الله سبحانه.

2. القصد و الاعتدال في الاشباع

ينصرف مفهوم القصد -هنا- إلى معنيين أحدهما بمعني ضبط نية الاشباع و ربطها بنية القربى لله عزّوجلّ لا بنوايا أُخر، فإذا قصد من الاشباع الحصول على معزز يسد النقص في حاجة ما لديه بنية القربى الله و الاستجابة لأوامره و نواهيه كما تقدم في حديث سابق (رقم 50) فإنَّ الاشباع يكون بصيغة روحية و عفيفة و هذا يتناغم تماماً مع ما أسميناه في الخاصية السابقة الأولى ب- «الإشباع الأول».

أمّا إذا كان القصد من الاشباع الضبط و الاعتدال بلا إفراط و لا تفريط و تجنب الإشباع الزائد عن الحد و الإفراط في الشهوات فإن المشرع التربوي الإسلامي يؤكد على هذا المعنى و ينسحب أكثر من نص للإمام الحسن علیه السّلام على هذا المعنى، حيث ذكرنا قوله الجنادة: «و خذ منها ما يكفيك (أي بمقدار الحاجة)، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها و إن كان حراماً لم يكن فيه وزر» و لا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق رأسك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك» و في توجيه آخر لضبط الإشباع على روح الاعتدال الذي لا إفراط

ص: 245


1- الموسوي، الروائع المختارة، الخطبة رقم 12، ص 27- 28

فيه و لا تفريط قال علیه السّلام: «القصد في المعيشة نصف المؤونة(1)».

و يتسق مفهوم «القصد في المعيشة» مع مفهوم القصد في الإشباع، فكلاهما يعني توفير الإشباع و ضبطه من دون إفراط أو تفريط، فإذا اقتصد المرء في معيشته، في تناول الطعام و الشراب و استخدام الملذات الأخرى يكون قد وفّر على نفسه «نصف المؤونة» و احتفظ بنصفها الآخر ليوم يحتاج فيه إلى «مخزونه الاحتياطي» بمعناه المادي المحض ليسد حالة العجز و يساوي بين إشباع اليوم الذي هو فيه و بين إشباع اليوم الذي لم يأت بعد.

و هكذا فإن القصد في المعيشة ليس في الطعام وحده، بل في مختلف حاجات المرء و ملذاته بخاصة المادية التي تكثر في إلحاحها و ضغطها على الفرد و من ثم تعني القصد في المعيشة توفير نصف المؤونة ليوم قادم لم يأتِ بعد قد يكون صعباً و قاسياً أو حتى لتكاليف طارئة غير محسوبة في اليوم الذي يعيشه المرء .

***

ثالثاً : خاصية توازن الاشباع للحاجات.

لاحظ الإمام الحسن -كما يوحي نص منسوب إليه- أن الناس في مجتمعه يَفْرِطُوْنَ في إشباع حاجات البطن (الطعام و الشراب و غيرهما) و أنهم في الوقت نفسه يفرطون كذلك في إهمال إشباع حاجات عقولهم و يبدو أن هذه مشكلة الناس في عصور مختلفة و ما تزال لسوء الحظ تبسط هيمنتها على سلوك الناس في هذا الزمان، فجلُّ اهتماماتهم و تفكيرهم البحث عن الطعام و الشراب و الشره في تناولهما و هذا ما أثار تعجب الإمام الحسن علیه السّلام من إخلالهم بمبدأ إشباع الحاجات.

ص: 246


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 100، ص 142

إنّ مهمة الإمام الحسن ليس نقد السلوك الاجتماعي فحسب بل و تعليله و تفسيره و تحديد خطئه، ثم دعوتهم للتفكير في السلوك البديل و هو التوازن في الاشباع و تجاوز الإمام الحسن في حديثه (نقد سلوك الناس) في الإخلال بإشباع حاجاتهم المادية و العقلية، فبدأ في تحديد آثار هذا الخلل على الحياة الشخصية للفرد و بيَّن مخاطره عليه، يقول الإمام الحسن علیه السّلام في إشارته للمبدأ الإشباع المتوازن بين حاجات الكائن الآدمي المادية و المعنوية، الجسمية و النفسية و العقلية و عبّر علیه السّلام عن الأولى بتعبير «المأكول».

و عبّر الإمام الحسن عن النوع الآخر من الحاجات ب- «المعقول»:

«عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(1)».

و بمقتضى النص السابق:

1. نقد إفراط الناس في إشباع حاجتهم «المأكولهم» إلى مداه الأقصى دون الالتفات إلى إشباع «المعقول» و هذا جانب مهم من الشخصية الإنسانية.

2. أن من مقتضيات نقد السلوك الاجتماعي في الإخلال بمبدأ إشباع الحاجات الدعوة إلى تغيير هذا السلوك و تعديله بنحو يحقق التوازن في الإشباع.

3. التعجب الذي أثاره الإمام الحسن بن علي عند طرح مشكلة الخلل في إشباع الحاجات كان هادئاً يصل للناس بلا استفزاز و تبليغهم خطأ ما يفعلون و هذا ديدن النفسية التي يكون عليها أئمة أهل البيت علیهم السّلام .

4. لم يتوقف النص عند مستوى نقد السلوك الاجتماعي و إنَّما تخطاه إلى تحديد

ص: 247


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 50

نتائج التعديل المطلوب (تجنب البطن الأذى و إيداع الصدر الردى).

5. أنه بالتفكير في إشباع «المعقول» و تقليل الإشباع الشره للمأكول يتجنب المرء «ما يؤذي بطنه» و أن يودع صدره المعرفة و العلم و الروحانيات ما يردي شره «المأكول الديه» و يحدث توازناً سوياً بين إشباع حاجات الجسد و العقل معاً.

6. أن شهوات البطن هي من الحاجات الملحة، بل شديدة الإلحاح و هي بالطبع لا تترك من دون ضبط، لذلك فإن إشباع «الحاجات» العقلية يخفف من اهتمام الفرد بهذه الشهوات و في الوقت نفسه يتيح للحاجات العقلية أن تشبع كما ينبغي و من ثمّ يسهل على العقل السيطرة على شهوات البطن و بخاصة الأكل من خلال الاشباع المتوازن لمختلف الحاجات.

7. أن الإمام الحسن الزكي بن علي عبر عن حاجتين أساسيتين لدى الإنسان بوجه عام و هما حاجتنا للأكل و الطعام و حاجتنا للعلم و المعرفة بكلمتين هما «ماكوله و معقوله»،فاللفظ الأول (مأكوله) يعني الحاجة إلى الطعام و ما يأكله الإنسان و هذه الحاجة من حاجات بقاء الذات كما يذهب إلى ذلك علماء النفس و النصوص الدينية الإسلامية، بينما اللفظ الثاني المقابل له (معقوله) يشير للعلم و المعرفة و كلاهما يحتاج إلى إشباع، إلّا أن الإنسان أخل بمبدأ الإشباع المتوازن للحاجتين الأساسيتين المذكورتين.

8. أثار علیه السّلام تعجباً من سلوك الناس في الإخلال بإشباع الحاجات بنحو تجدهم يفكرون في إشباع حاجتهم للأكل و ما يرتبط به من إشباع حاجتهم للشراب.

9. أن الإخلال في الإشباع كان لصالح حاجات مادية تعد شديدة الإلحاح على سيكولوجية الإنسان و هو الإخلال في إشباع حاجة الناس إلى الأكل و تفكير الناس في تحقيقها دون مبالاة بالتفكير في إشباع حاجة الإنسان إلى طلب العلم .

ص: 248

10. أنه علیه السّلام يدعو إلى التفكير في إشباع الحاجات المعرفية أسوة بإشباع الحاجة إلى الطعام و الأكل و الشراب و الجنس و غيرها من الحاجات البيولوجية.

11. يعلل الإمام الحسن الزكي تعجبه من إخلالهم بإشباع الحاجات الرئيسية بتحذيره من سوء النتائج فيقول لماذا لا يفكر المرء في التفكير بتعادل الإشباع حتى يجنب بطنه ما يؤذيه من جهة و حتى يودع صدره ما يرديه و هنا تشير كلماته إلى نتائج و خيمة من أضرار التخمة في تناول الطعام و خواء العقل من العلم و المعرفة و تعطيل نشاطه كما ينبغي.

12. أن الإمام الحسن السبط يقدم نصاً توجيهياً لإصلاح ما أخطأه الناس بدعوته إلى التفكير في التفكر و الحاجات العقلية أسوة بتفكير الناس في إشباع حاجاتهم للحاجات الفسيولوجية و بخاصة الأكل و ما يرتبط بها و في ذلت خطوة توجيهية لتحقيق التوازن في الإشباع بين الجانب المادي من كيان الإنسان و الجانب المعنوي في شخصيته.

13. توازن الإشباع و عدم الشره في جانب دون جانب (رقم الحديث 50 و حديث المأكول و المعقول و حديث رقم 74 و كذلك حديث «القصد في المعيشة نصف المؤونة» رقم الحديث 100 و أقرب ما نفهمه من هذا المقطع من نص الإمام الحسن الزكي بن علي و حديثه أن يكون في المجال المعيشي أو الاشباع في الجوانب المادية الأخرى لا المجال المعرفي فحسب).

14. ظاهر النص التربوي الحسني في المقطع الثاني منه أنه يدعو إلى إشباع حاجات «المعقول» المهمل و هو تعبير لا نراه خاصاً بحاجات العقل وحده و إنّما يتجاوزه إلى إشباع الحاجات النفسية كالأمن و النجاح و الانتماء و التقدير و إن۟ كان المعنى الظاهري يتمركز حول إشباع الحاجات العقلية.

ص: 249

رابعاً: أخلاقية الاشباع و سموه

كل سلوك -سيئاً كان أو حميداً- هو في نهايته موصول بأخلاقيات و مما لا شك فيه أنَّ الإشباع بمختلف صوره و أساليبه يعد سلوكاً له علاقة بهذه الأخلاقيات و إذا كان نمطها مادياً اصطبغ الإشباع بنزعة مادية و حينما نمطها الأخلاقي ربانياً و عبادياً يكون شكل الإشباع سوياً موسوماً بأخلاقيات دينية و لهذا فإننا قصدنا من أخلاقية الاشباع مطابقتها الكاملة بالأخلاق التي يقرها الدين المستمدة من رؤى المشرع التربوي الإسلامي، أو على الأقل تأثرها في كثير أو قليل بهذه الأخلاق.

إنَّ أخلاقية الإشباع بالنسبة للإمام الحسن عمل عبادي و ثمة صلة بين عملية الاشباع للحاجات و عملية التوجيه القيمي الأخلاقي الموزع في تراث الإمام الحسن علیه السّلام في خطب و رسائل و أدعية و كلمات قصار و هي مصادر تفيض بالمعاني الأخلاقية، فالرزق على سبيل المثال حاجة مادية يحتاج فيها الإنسان إلى إشباع تحقيق الرضا الداخلي لدى الفرد، لكنه في نظر الإمام يجبا أن يكون عفيفاً، فالإجمال، كما يقول: «الإجمال في الطلب من العفة و ليست العفة بدافعة رزقاً و لا الحرص بجالب فضلاً، فإنَّ الرزق مقسوم و استعمال الحرص استعمال المأثم(1)» و الطلب هنا هو طلب الرزق أو الحاجة إليه و لا بد من بضبطه بالعفاف و تحدث الإمام الحسن عن صديق كان يصفه فقال عنه: «كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يتشهى ما لا يحل و لا يكنز إذا وجد(2)»، فالإمام الحسن يدعو للتحرر من سلطان البطن و زوائد شهواته غير الطبيعية.

و متى اصطبغت عملية البحث عن الرزق وطلبه بالعفة الداخلية والخارجية معاً

ص: 250


1- الموسوي، الروائع المختارة، الحديث رقم 4، ص 126
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، ص 67 و كتاب الروائع المختارة للسيد مصطفى الموسوي، الحديث رقم 32، ص 132

كانت عملية إشباعه سلوكاً أخلاقياً مؤسساً على قيم ربانية إلهية و حين يطلب المرء إشباعاً لحاجته في العلم و المعرفة من أجل رضا الله سبحانه و تجنب نواهيه و العمل بأوامره يكون هذا الإشباع ربانياً يتجلى في قيم و أخلاقيات تسود حياة الجماعة و تحكم التزامها و انضباطها و من تداهمه غائلة الانحراف من الناس يشعر يوماً بالحاجة إلى الله، فيحاول التقرب إليه بالتوبة، لكن التوبة ليست مجرد علاقة مع الله، بل هي حركة أخلاقية في خدمة المجتمع، فكف النفس عن النميمة و الغيبة و سوء الظن بالناس هو عمل أخلاقي يحقق للإنسان إشباعاً لحاجته إلى التوبة و العودة لله سبحانه و تعالى و حاجته لترميم العلاقة من جديد مع الناس و البدء بتقوية مشاعره في الانتماء للجماعة و رغبته في الحصول على تقدير اجتماعي جديد.

و هذه قيم تجعل الاشباع عملاً أخلاقياً يحظى برضا الله و الرضا الاجتماعي و من هنا فإننا نجد في التراث الثقافي و الأخلاقي و الروحي عند الإمام الحسن حديثاً صريحاً عن قيم أخلاقية ربانية المصدر تحقق للفرد صحة نفسية من بوابة الاشباع السوي لحاجاته التي تنظمه القيم الأخلاقية بتوجيهاته، فكما قال الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام:

«من احتجت إليه هنت عليه(1)».

نماذج العلاقة بين القيم الأخلاقية و عملية الإشباع.

و سنضع أمام القارئ الكريم ثلاثة نماذج من النصوص التي تكشف عن علاقة القيم الأخلاقية التي وردت في خطاب الإمام الحسن و بين عملية الاشباع السوي بمعايير عبادية لبيان أخلاقية «إشباع الحاجات الإنسانية» بمحددات إيمانية و النماذج

ص: 251


1- الآمدي التميمي، كتاب غرر الحکم و درر الکلم، رقم الحديث 955، ج 2 ص 202

الثلاثة هي:

1. نموذج النص الأول

يقول الإمام الحسن: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(1)».

و في نص مماثل للحديث السابق زاد عليه «تكن عدلاً أو تكن عادلاً(2)» فقال عليه الصلاة و السلام: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً» و في رواية: «تكن عادلاً(3)».

الحاجة هنا في النصين ذات طبيعة اجتماعية و هي البحث عن انتماء للجماعة و محاولة الحصول على تقديرها و تدل عملية البحث على رغبة المرء في البحث عن إشباع عملي سوي لهذه الحاجة و تدل كذلك على رغبة الناس جميعاً في إشباعها، فالتوجيه الحسني في النصين مرتبط بسمة أخلاقية واضحة فيهما هي العدالة، فالنص الثاني ينادي بالعدالة في قسمة مشاعرنا الاجتماعية- السيكولوجية في البحث عن انتماء اجتماعي لوجودنا الفردي، فهذا النص يربط بين العدالة كقيمة أخلاقية و عملية الإشباع كحاجة سيكولوجية، فإذن .. أحدهما أخلاقي و الآخر نفسي.

إنَّ النصين -بصورة مباشرة و غير مباشرة- يجعلان من العدالة كقيمة أخلاقية قوة مؤثرة في سلوك الأفراد الباحثين عن إشباع لحاجتهم في الانتماء الاجتماعي و الحصول على تقدير الجماعة أو المجتمع و المضمون الأخلاقي للعدالة المطلوبة في النصين أن يشعر الفرد بأنه كالآخرين يود -كما يودون- في مصاحبة الناس بنفس المعاملة التي

ص: 252


1- الموسوي، الروائع المختارة، الحديث رقم 82، ص 139
2- الموسوي، الروائع المختارة ص 19
3- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 45، 49

يود المرء أن يصاحبوه بها، فالقسمة عدل، فعلى الفرد أن يصاحبهم بمثل ما يحب أن يصاحبوه، فالإحساس الموحد بالآخرين و الاتحاد بوجدانهم في صحبتهم بنفس ما يرغب هو عدالة في توزيع الشعور الاجتماعي و في تحقيق الاشباع لهذه الحاجة لديه و لدى الآخرين.

2. نموذج النص الثاني

و يقول الإمام الحسن علیه السّلام في نص أخلاقي آخر:

«أمَّا الكرم فالتبرع بالمعروف و الإعطاء قبل السؤال(1)».

إن الكرم -كما في ثقافتنا الاجتماعية اليومية- سمة أخلاقية لها علاقة بإشباع حاجة الفرد للمال لكن عملية الاشباع لم تترك بدون ضبط و هنا يتجلى السمو الأخلاقي في عملية إشباع حاجتنا إلى المال و مضمون الحديث أن الشخص الكريم يتبرع بماله لشخص أو يعطي المحتاج و غير المحتاج دون منّ أو معايرة أو إهانة و هذا ما عناه النص التربوي الحسني بالتبرع بالمعروف و هو يصف سلوك الكرم كقيمة أخلاقية، حيث يوصف سلوكه بالتبرع بالمعروف و الإعطاء قبل السؤال لأنَّ العطاء قد تم بالمعروف على يد المعطي للمحتاج أو للشخص الذي خصه الكريم بعطائه و بنبل أخلاقي يخلو من استكبار في النفس أو من أو تعيير و إهانة و دون اضطرار المرء المحتاج أو المهدي له بهدية أو الضيف دون إراقة ماء الوجه و يفسر نص آخر المعروف هنا بهذا المعنى الأخلاقي فقال الإمام الحسن بن علي علیهما السّلام بما لفظه:

«المعروف ما لم يتقدمه مطل ولا يتبعه منُّ و الإعطاء قبل السؤال من أكبر

ص: 253


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141

السؤدد(1)».

و تقول بعض المصادر الروائية أنه أتى الإمام الحسن رجل في حاجة، فقال عليه أفضل الصلاة و السّلام له: «اذهب فاكتب حاجتك في رقعة و ارفعها إلينا نق۟ضِها لك، فرفع إليه حاجته فأضعفها له، فقال بعض جلسائه: ما أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول الله؟ فقال علیه السّلام: بركتها علينا أعظم حين جُعِلْنا للمعروف أهلاً، أما علمت أن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته أبِكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد و قلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(2)».

لهذا كان عطاء الكريم و تبرعه موصوفاً بالمعروف بمعناه المتقدم، فيعطي من يعطي من المحتاجين و غيرهم ممن يستحق التقدير قبل أن يطلب منه و قبل أن يسألوه الإعطاء و يلحظ من النصين تحقق الإشباع بدرجة عالية من السمو الأخلاقي بدرجة عالية لا يداخل قلبه من أو تعيير أو استكبار و علو في النفس على الغير و لم يصاحب إحساسه مشاعر عدائية كالمن و التعيير التي تسيء للمعطى و تريق ماء وجهه، كل ذلك في أمر يخص المال و هو كما يعلم الناس صعب في النفوس، لذلك وصف موقف الكريم بالمعروف كمظهر عملي على عفاف النفس و استقامتها الأخلاقية في إشباع حاجة الناس للعطاء المادي و غير المادي.

ص: 254


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 203
2- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 231- 232

***

3. نموذج النص الثالث

و في هذا النص يقول المجتبى الإمام الحسن الزكي بن علي عليه السّلام: «فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها(1)»، سواء كانت الحاجة هنا «مادية» أو «غير مادية» فإنّ النص أعلاه ينطوي على احتمالين أساسيين و هما:

أولاً: طلب الحاجة من أهلها

في هذا الخيار ينجح الفرد في تحديد الجهة التي يطلب منها حاجته، فيكون طلبه لحاجته من أهلها، لكن يواجه المرء هنا بأكثر من موقف يتباين فيه حجم تحقق «الاشباع» لدى الفرد و ترتفع بالكلية مشاعر الإساءة:

الموقف الأول: هو لموقف طرف من أهل الحاجة لكنه لا يملك ساعة الطلب القدرة على الاستجابة لتحقيقه و هنا يضمن طالب الحاجة تحقق أمرين أحدهما أن لا يعاير أو يمن عليه و الآخر وعد لطالب الحاجة بتحقيق طلبه أو مساعدته.

الموقف الثاني: و موقف ثانٍ لطرف هو فعلاً موقف موفق بنسبة محددة لأن طلب تم من «أهل الحاجة» و يملك تحقيق الطلب بقدر أقل من مستواه و في هذا الموقف يضمن طالب الحاجة تحقيق بعض الطلب دون مستوى الاشباع المطلوب و لكن في الوقت نفسه يخلو التحقق الجزئي للطلب من المن و من المعايرة بنحو يريق ماء الوجه.

الموقف الثالث: و هذا الطرف الثالث قادر على قضاء الحاجة كاملة مع ضمان عدم المعايرة و في هذا يحدث تحقق كامل للإشباع و هو أفضل من المستويين السابقين بمقاييسنا الدنيوية، لكن مسألة الإثابة بيد الله وحده.. سبحانه و تعالى.

ص: 255


1- الموسوي، الروائع المختارة من الحديث 90، ص 140- 141

256

الموقف الرابع: و هذا الطرف يملك القدرة على قضاء حاجة الفرد دون منٍّ أو تعيير مع زيادة في حجم العطاء و بنحو يتجاوز الطلب و مقدار الحاجة كأن يضاعف حجم الحاجة ضعفين فيعطي بدل المائة دينار مائتين.

***

ثانياً: طلب الحاجة من غير أهلها

و هنا يرى الإمام الحسن المجتبى في غير محله على الإطلاق لما ينطوي عليه الطلب من إحباط متوقع أو فشل ذريع أو شعور بالإهانة كالمنّ و التعيير، فهذا الخيار مرفوض أخلاقياً لدى الإمام لأنّ الاشباع قد يتحقق، لكنه مصحوب بالمنّ و التعيير و الإساءة للكرامة الإنسانية و نعتقد أن الإمام الحسن علیه السّلام طالب جموع الناس على مختلف مشاربهم ب- «تفويت الحاجة» و عدم طلبها من أشخاص ليسوا أهلاً لها و خيار التفويت المصرح به في باطن النص هو خيار صحيح و موقف أخلاقي نبيل لأنه لا يوجد إنسان يرضى بجرح كرامته إلّا لئيماً في داخله، فالمألوف في التركيبة الإنسانية السوية أن يتحسس الفرد مشاعر العزة و يأبى الإهانة لنفسه أو سلب كرامته و من ثم لا فرار من الاستجابة الكاملة لكلام الحسن و تنفيذه بلا تردد «فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها(1)» و بمقتضى هذا الموقف يفضل الإمام الحسن علیه السّلام في توجيهه للناس التنازل عن إشباع لحاجته بطريقة مذلة كأن يسمع كلاماً مشيناً أو ينظر إليه بنظرة احتقار أو يدفع إليه بطريقة مسيئة، فترك طلب الحاجة من غير أهلها يفسره قول الإمام علي علیه السّلام: «من احتجت إليه هنت عليه(2)».

ص: 256


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 201
2- التميمي الآمدي، كتاب غرر الحكم و درر الكلم، ج 2، رقم الحديث 955، ص 202

و في نص حدد الإمام الحسن «أهلها .. أي أهل الحاجة» المعنيين في النص السابق، فقال: «إذا طلبتم الحوائج، فاطلبوها من أهلها، قيل يا بن رسول الله! و مَن أهلها؟ قال: الذي خصّ الله في كتابه و ذكرهم فقال: «إنَّما يتذكر أولو الألباب» هم أولو العقول(1)».

***

و بعد السرد المتقدم يلحظ أن -كلا الاحتمالين- يرتبط الإشباع فيهما بأحد موقفين أخلاقيين متنافرين لا يلتقيان، أحدهما هابط النزعة و مصحوب بالمنّ و التعيير و إراقة ماء الوجه من طالب الحاجة، أمَّا الموقف الثاني فموقف إنساني نبيل يعبر عن سمو أخلاقي و أريحية، فالإشباع في الموقف الثاني غير أخلاقي حتى لو تحقق في أحسن حالاته، أما الاشباع في الموقف الأول موقف نبيل حتى لو لم يتحقق في أسوأ حالاته.

***

خامساً: هدفية الإشباع

من المعالجة التفسيرية للخصائص الأربع السابقة يتجلى لنا الهدف النبيل لإشباع «الحاجات» في الخطاب المعرفي و الأخلاقي للإمام الحسن علیه السّلام و ينتشر هذا الهدف على مستويين.. الفرد و المجتمع.

1. على مستوى الفرد

و على هذا المستوى يتجلى هذا الهدف فيما يأتي:

أ- تحقيق الفرد قدراً طبيعياً من الاشباع النفسي و المادي بطريقة سوية.

ب- تحقق قدر مقبول من الصحة النفسية بعد تحقق مستوى مقبول من الإشباع.

ص: 257


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 66

ت- شعور الفرد بانتمائه للمجتمع و بتقديره

الإحساس بالرضا الإلهي في أعماق النفس.

***

على مستوى المجتمع

و يتضح تحقق الهدفية النبيلة من عملية الاشباع للحاجات في النقاط التالية.

أ. إسهامات الأفراد في تحقيق خدمات حيوية للمجتمع.

ب. ظهور رعاية اجتماعية للأفراد و تنمية مطالبهم النمائية.

ج. كما تحقق قدر من الاشباع لحاجات الفرد فإنه يتاح لكثير من الأفراد إشباع حاجاتهم.

***

ص: 258

الحلقة السابعة

اشارة

أنواع الحاجات الإنسانية و تنظيم إشباعها

ص: 259

ص: 260

أنواع الحاجات الإنسانية و تنظيم إشباعها

بعد استجلاء جانب من نظرة الإمام الحسن بن علي علیه السّلام لموضوع الحاجات الإنسانية في حلقة سابقة نحاول في هذه الحلقة و هي حلقة متصلة بها، التوقف قليلاً عند نماذج من إشاراته لها في طوايا خطابه المعرفي و الثقافي و الروحي و الأخلاقي و سنذكر نماذج من أنواع الحاجات بشقيها الجسدي و السيكولوجي- الاجتماعي و قد لا نوفق في تحديد كل الحاجات فهذا أمر لا يخلو من صعوبة بالتأكيد، لكننا بحمدالله سبحانه و تعالى تعرفنا على بعض نصوص خطاب الإمام الحسن و أدركنا إشاراته لبعض الحاجات بقسميها المادي و «المعنوي أو النفسي أو الاجتماعي».

***

تصنيف الحاجات و أنواعها:

يمكن تجاوزاً تصنيف الحاجات الإنسانية في الخطاب المعرفي و التربوي عند الإمام الحسن على أساس بعض المعايير منها جوانب الشخصية و مكوناتها (أي تكاملها) و مطالب النمو و التوجيه الإرشادي الديني في عملية ضبط الإشباع و استجابة الفرد لإشباع مناسب.

1. جوانب الشخصية و تكاملها:

اتفق علماء النفس على تحديد بعض عناصر الشخصية و التكامل بين جوانبها و مكوناتها، فهناك الجانب الجسمي و العقلي و الوجداني أو الانفعالي و الجانب

ص: 261

الاجتماعي و الدافعي و الأخلاقي و الروحي أو العبادي و قد أغفلوا لسوء الجانب الأخير و لم يعترفوا بوجوده في الحياة البشرية كما فعل سيجمند فرويد و حواريوه و من الملفت للنظر أن هذه الجوانب لا تعمل منفردة و لا تتحرك مستقلة و نرى أن علماء النفس صنفوا حاجات الإنسان على أساس جوانبها و تعدد عناصرها فوقعوا مرة أخرى في خطئهم التاريخي، خطأ إنكار الجانب الديني.

و هذه الجوانب هي كما يأتي:

. الجانب الجسمي بطبيعته البيولوجية.

. الجانب العبادي أو الروحي أو الديني.

. الجانب المعرفي أو العقلي.

. الجانب الاجتماعي.

. الجانب الانفعالي أو الوجداني.

. الحانب الأخلاقي.

2. مطالب النمو:

تتطلب عملية النمو النفسي للإنسان في دورته الطويلة مجموعة مطالب يسميها علماء النفس التطوري ب- «مطالب النمو» و هي مطالب حيوية و أساسية مرتبطة بالتكوين الفطري للإنسان و تفاعله الاجتماعي و بنموه النفسي في مراحل مختلفة متقادمة، فكل مرحلة من دورة العمر لها مطالبها النمائية سواء الجسمية أو المعنوية أو العقلية و غيرها و أن كل مطلب من هذه المطالب هو تلبية فعلية لحاجة من حاجات الإنسان.

ص: 262

3. الضبط الإسلامي للإشباع

قدم الإسلام رؤيته لضمان ضبط اشباع الحاجات في حياة البشر و شارك أئمة أهل البيت عليهم السّلام في تقديم توجيهات المشرع التربوي الإسلامي للسيطرة على الاشباع غير السوي و كانت نصوص الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في جوانب مختلفة من السلوك الإنساني و في موضوعات التعلم و التعليم و الحاجات الإنسانية و الصحة النفسية تسهم في صياغة هذه الرؤية و عرضنا هنا و هناك جوانب منها.

***

ملحوظتان:

و قبل مناقشة بعض أقوال الإمام الحسن علیه السّلام و مناقشتها في الإشارات للحاجات الإنسانية و كيفية تنظيم إشباعها نود بيان الملحوظتين التاليتين و هما:

1. أنَّ ما سنعرضه من أقوال للإمام الحسن هي نماذج مختارة و ليس كل ما عثرنا عليه من نصوص و أحاديثه في هذا المجال، فالقصد هو بيان الأفكار ذات الصلة بموضوع الحاجات و ليس مناقشتها بطريقة شاملة.

2. أن المحتويات المعرفية لهذه النصوص و الأقوال متداخلة مع بعضها في بعض الأحيان و أنَّ بعضها الآخر استقل بالإشارة إلى عملية إشباع هذه الحاجة أو تلك و تنظيمها من الحاجات الإنسانية التي سنتناولها بإيجاز.

***

أولا: الحاجات البيولوجية و المادية

يندرج تحت هذا الصنف حاجات عديدة شديدة الإلحاح في التكوين النفسي

ص: 263

للفرد و قد وردت في بعض كلمات الإمام الحسن سواء ما دوناه في هذا المبحث أو لم ندونه بعد، فهذه الحاجات واضحة في كلماته و لا يحتاج القارئ الكريم إلى قول كثير لإدراكها، حيث تدل هذه الحاجات على نفسها من الكلمات العربية السائدة في ثقافتنا اليومية و حياتنا الاجتماعية و سوف نذكر ما أمكننا من هذه الإجابات بكلام موجز لأن الناس على علم بها، كما تكررت إشاراتنا لها في أثناء حديثنا المتقدم و فضلاً عن ذلك نشعر بنقص ما جمعناه من روايات في هذا الشأن، فترك هذا النقص أثره على البنية المعرفية التي تكونت لدينا و مع ذلك لا يترك الميسور بالمعسور كما يقال و تدخل جميع هذه الحاجات فيما سماه أحد نصوص الإمام ب- «المعيشة» عندما وصفها بأنها نصف المؤونة و من هذه الحاجات.

1- الحاجة إلى الطعام

هذه الحاجة في صدارة الحاجات البيولوجية أو الفسيولوجية و تمثل القاعدة الأساس «للحاجات» البشرية في نظر فريق من علماء النفس و يعبر عنها في نصوص الإمام الحسن عليه أفضل الصلاة و السّلام بألفاظ و كلمات مثل كلمات «الأكل» أو «آداب الطعام» و «الوضوء قبل الطعام» و «غسل اليدين قبل الطعام» و «سلطان البطن» و «بطنه» و «مأكوله» و «الأكل مما يليك» و «تصغير اللقمة» و «تجويد المضغ» و «لعق الأصابع» و «الأكل بثلاث أصابع» و «الإطعام في المحل(1)» و «مأكلكم و مشربكم» تعبيرات لفظية تشير إلى الطعام و كلّ ما يرتبط به كطريقة تناوله و آدابه و تنظيم إشباع حاجة الإنسان منه.

قال الإمام الحسن الزكي: «فرض و (يقصد هنا الله سبحانه و تعالى) عليكم لأوليائه

ص: 264


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 63

حقوقاً، فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم و مشربكم و يعرفكم بذلك البركة و النماء و الثروة و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب(1)».

«و شتمه رجل شامي و هو راكب فلم يرد عليه الحسن، فلما فرغ من سبابه جاءه ضاحكاً و قال: «أيها الشيخ أظنك غريباً و لعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك و لو سألتنا أعطيناك و لو استرشدتنا أرشدناك و لو استحملتنا أحملناك و إن كنت جائعاً أشبعناك و إن كنت عُرياناً كسوناك و إن كنت محتاجاً أغنيناك و إن كنت طريداً آويناك و إن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رجلك إلينا و كنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً و جاهاً عريضاً و مالاً كثيراً(2)».

و في قوله علیه السّلام: «غسل اليدين قبل الطعام ينفي الفقر و بعده ينفي الهم(3)».

و قال علیه السّلام الله: «في المائدة اثنتي عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها، أربع فيها فرض و أربع سنة و أربع تأديب.

الفرض: المعرفة، الرضا، التسمية، الشكر.

السنة: الوضوء قبل الطعام، الجلوس على الجانب الأيسر، الأكل بثلاثة أصابع و لعق الأصابع.

التأديب الأكل مما يليك تصغير اللقمة تجويد المضغ، قلة النظر في وجوه

ص: 265


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 27
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 192
3- الموسوي، الروائع المختارة ص 129

الناس(1)».

و قال الإمام علیه السّلام ناقداً سلوك الناس في الإخلال بتوازن إشباعهم للحاجات الجسدية و المعنوية: «عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه و يودع صدره ما يرديه(2)».

و قال سلام الله عليه عن صديقه: «كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يحل و لا يكنز إذا وجد(3)».

***

المعاني التربوية العامة للنصوص في تنظيم الاشباع:

و انطوت النصوص السابقة على معاني عقلية و نفسية عامة ضرورية في عملية تنظيم اشباع هذه الحاجة، فبعد تأكيد الإمام الحسن على وجود دافع الجوع و ضرورة البحث عن إشباعه بصورة مشروعة تراعي المحددات الإيمانية نلحظ بوضوح حرصه علیه السّلام و دعوته لتنظيم الاشباع لهذا الدافع الحيوي في الكيان الآدمي.

فقد طالبت نصوصه بإشباع متوازن لحاجات البطن و الجسد و عدم إهمال الإشباع لحاجات العقل و الروح، كما شدد أحد النصوص علل ضرورة خروج الإنسان من سلطان بطنه و عدم الاستسلام لشهوات البطن و رغبات الجسد و أن لا يتشهى ما لا يحل و لا يكنز في بطنه ما يعرضه للتخمة أو ما يؤذي بطنه على حد تعبير أحد النصوص

ص: 266


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 129- 130
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 50
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، ص 67 و كتاب الروائع المختارة للموسوي، ص 132.

السابقة الذكر و اتجهت نصوص أخرى على تأكيد انضباط الاشباع على قواعد صحية کغسل اليدين و الوضوء قبل الأكل و تصغير اللقمة و تجويد المضغ و الأكل مما يلي الفرد، أي تناول الطعام المعروض بالقرب منه لا أن يمد يده إلى ما هو أمام الآخرين بعيداً عنه و قد أحد النصوص اثنتي عشرة خصلة لتناول الطعام و هي عملية تنظيمية للإشباع.

قال علیه السّلام الله في تدريب الناس على ضوابط الاشباع السوي الحلال:

في المائدة اثنتي عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها.

أربع فيها فرض و أربع سنة و أربع تأديب.

الفرض: المعرفة، الرضا، التسمية، الشكر.

السنة: الوضوء قبل الطعام، الجلوس على الجانب الأيسر، الأكل بثلاثة أصابع و لعق الأصابع.

التأديب: الأكل مما يليك، تصغير اللقمة، تجويد المضغ، قلة النظر في وجوه الناس(1)».

تلك توجيهات و نصائح إرشادية أخلاقية ذات طابع عبادي و لكنها قواعد سلوكية عملية لتنظيم الإشباع لدافع الجوع و من المؤكد أن هذه التوجيهات لن تكون مفيدة و لن ينتفع منها سوى من يسترشد بها في حياته.

***

ص: 267


1- الموسوي، الروائع المختارة ص 129- 130

2- الحاجة إلى الشراب

هذه الحاجة حيوية و مرتبطة بالتوازن الحشوي للجسم الإنساني، فالفرد يسعى إلى التغلب على ما يعانيه من عطش و نقص في الماء و السوائل و كلّما زادت حالة العطش لديه نشطت عملية بحثه عن إشباع لهذا الدافع الفطري و ربما لم نجد في النصوص التي عرضناها إشارات مباشرة إلى إشباع العطش و كل ما يرتبط به بقدر كاف من النصوص، لكنَّ النص المتقدم يشير بكلمتي «مأكلكم و مشربكم» اللتين تعنيان الحاجة إلى الطعام في كلمة «مأكلكم» و الحاجة للشاب في كلمة «مشربكم».

قال الإمام الحسن الزكي: «فرض [و يقصد هنا الله سبحانه و تعالى] عليكم لأوليائه حقوقاً، فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم و مشربكم و يعرِّفكم بذلك البركة و النماء و الثروة و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب(1)».

إنه قد ورد كما تقدم في النص المذكور آنفاً مفردتان لفظيتان هما «مأكلكم و مشربكم» كإشارة من الإمام الحسن لدافعين أساسيين في التركيبة الآدمية هما دافع الجوع و دافع العطش اللذان يفرضان على الفرد متى أحس بهما البحث عن الطعام و الشراب و لا يوحي تقدم إحدى الكلمتين على الأخرى بضرورة اشباع دافع الجوع قبل اشباع دافع العطش، فأسبقية الإشباع للدافعين لا تحددها أسبقية لفظ على آخر و إنما يتوقف على الحالة البيولوجية و النفسية التي يكون عليها الفرد لحظة الحاجة، فإذا كانت حالته جوعاً بنحو أشد من عطشه كان من الطبيعي أن يرغب الفرد في اشباع حاجته للطعام قبل أي دافع و ينقلب الحال تماماً حينما تكون شدة العطش أقوى من جوع الفرد، فحينها

ص: 268


1- الشيرازي ، كلمة الإمام الحسن ص 27

تكون درجة عطشه أشد و جوعه أقل و عملية بحثه عن الماء أو أي سائل لإشباع حاجته للمشرب و يستفاد من النص المعني تأكيد الإمام الحسن على الإقرار الواضح بوجود دافعي الجوع و العطش و حثه على ضرورة اشباع حاجة الفرد للطعام و الشراب.

و يتضح من النص إشارته السابقة للدافعين منطقية لتلازمهما مع بعضهما في حياة الإنسان، أما تفصيلات الإشباع و ضوابطه، فقد شددت عليها النصوص أثناء معالجتنا لهذه المسألة عند حديثنا عن خصائص الإشباع و محدداته الإيمانية المقيدة بضوابط الحلال و الحرام و توازنه.

و يلحظ أن الطعام في زمن الإمام الحسن أكثر تنوعاً من الشراب، حيث تضيق دائرة هذا التنوع بالنسبة لمشرب الإنسان في عصره عن زماننا، فالماء هو النوع السائد الذي يحقق الفرد إشباعه التام و السوي لحاجته من الشراب و قد تكون هناك سوائل من المعصرات الطبيعية كالفواكه و غيرها و لكن الإنسان في عصرنا أضاف معصرات كثيرة.. طبيعية و صناعية على حد سواء، بينما تكثر آنذاك.. أي في زمانه.. أنواع الأطعمة عن المشروبات و من ثم تكون فرص الإشباع المتنوع لحاجة الإنسان من الطعام أكثر تنوعاً، بينما تقل فرص الإشباع السوي للحاجة إلى الشراب عدا الماء و ما سواه كالخمر فصورة محرمة للإشباع و قد يكون إشباع هذا الدافع مرتبط بحاجة الفرد إلى الطعام لأن بعض الأطعمة تحوي على كميات كبيرة من الماء كالفواكه و الخضروات.

***

3- الحاجة إلى الإشباع الجنسي

ذكرت كلمات في عدد من نصوصه الرجل و المرأة و تعبيرات ذكورية و أنثوية و أسماء المؤنث والثدي و الزواج و بعض ما يشير إلى علاقات الجنسين الشرعية من

ص: 269

ألفاظ كريمة و على وفق للنصوص المتوافرة لدينا لم نجد تفصيلات لهذا النوع من الاشباع البيولوجي- النفسي و لكن ثمة إشارات لفظية تدخل في سياق الحديث عن الدافع الجنسي و إشباعه بعضهما محرم و بعضها الآخر حلال و سوي و تبين هذه الإشارات حيوية هذا الدافع كحاجة داخلية في التركيبة الآدمية حتى و إن۟ برزت أحياناً في صورة منحرفة أو في شكل إشباع محرَّم يلزم عنه عقوبة في الدنيا و الدين و ترافقها حالة استياء ناجمة عنه كفعل محرم من الناحية العبادية و قد جاء في بعض أقوال الإمام الحسن كإشارات منه لهذا الدافع و ضرورة إشباعه بالصورة الشرعية السليمة و من هذه الأقوال:

. قال علیه السّلام: «إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك(1)» كإشارة إلى حفظ العرض بالزواج و غيره من صور المحافظة على شرف العفاف الداخلي و استخدام المال لحماية «العرض».

. و سئل الإمام الحسن علیه السّلام عن امرأة جامعها زوجها فقامت بحرارة جماعه فساحقت جارية بكراً و ألقت النطفة إليها فحملت فقال علیه السّلام: «أما في العاجل فتؤخذ المرأة بصداق هذه البكر، لأن الولد لا يخرج منها حتى تذهب عذريتها، ثم ينتظر بها حتى تلد فيقام عليها الحد و يؤخذ الولد فيرد إلى صاحب النطفة و تؤخذ المرأة ذات الزوج فترجم(2)».

. ورد الإمام الحسن السبط علیه السّلام على سؤال عن المؤنث فقال: «و أما المؤنث فإنسان لا يدري امرأة هو أو رجل فينتظر به الحلم، فإن كانت امرأة بانت ثدياها و إن

ص: 270


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 199
2- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 229

كان رجلاً خرجت لحيته(1)».

. ورداً على سؤال عن الشبه بين الرجل و أبناء عمه و أخواله فقال علیه السّلام: «و أمّا ما ذكرت من أمر الرجل يشبه ولد أعمامه و أخواله فإنَّ الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن و عروق هادئة و بدن غير مضطرب، استكنت تلك النطفة في تلك الرحم، فخرج الولد يشبه أباه و أمه و إن هو أتاها بقلب غير ساكن و عروق غير هادئة و بدن مضطرب اضطربت تلك النطفة في جوف تلك الرحم، فوقعت على عرق من العروق، فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه و إن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله(2)».

. و قال الإمام الحسن بن علي عليهم السّلام في إحدى توصياته الأخلاقية و الإرشادية: «ترك الزنا و كنس الفناء و غسل الإناء مجلبة للغنى(3)».

. و عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ شَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ» أنه جلس الحسن بن علي و يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يأكلان الرطب، فقال يزيد يا حسن! إني مذ كنت أبغضك، قال الحسن: أعلم يا يزيد! أن إبليس شارك أباك في جماعه، فاختلط الماءان فأورثك عدائي، لأن الله تعالى يقول: «وَ شَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ» و شارك الشيطان حرباً عند جماعه، فولد له صخر، فلذلك كان يبغض جدي رسول الله(4)».

***

ص: 271


1- لسيد حسن الشيرازي، مصدر السابق ص 190
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن 187
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 200
4- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 169

استخلاصات النصوص السابقة:

و من المعاني المستخلصة من النصوص الخمسة ما يأتي:

أ. أن الإمام الحسن علیه السّلام أشار مباشرة إلى مسألة الجماع و هي العملية الجنسية المشروعة بين الزوجين على وفق التعاليم الإسلامية و الأديان الأخرى و ذلك في رده على يزيد بن معاوية حينما ذكر أنه يبغضه فقال علیه السّلام: «إنَّ إبليس شارك أباك في جماعه» و قوله كذلك في النص نفسه: «و شارك الشيطان حرباً عند جماعه فوَلَدَ له صخر».

ب. و عاد الإمام الحسن بن علي علیه السّلام مرة أخرى فذكر في نص آخر العملية الجنسية من خلال تأكيده على استقرار النطف في الرحم و إشارته في هذه التوصية الأخلاقية لحالة «الشبه الوراثي للولد» .. شبه الولد لأخواله و أعمامه من الناحية الوراثية، فحالة الشبه الوراثي مرتبطة بالعملية الجنسية بتعبير علماء الجنس المعاصرين أو الجماع بالتعبير الفقهي الإسلامي.

ت. و في بعض النصوص التربوية المذكورة و المتقدمة آنفاً ذكر الإمام الحسن الزكي علیه السّلام حالة «الزنا» كعملية جنسية محرمة و دعا إلى ترك هذا الفعل الآثم في إحدى وصاياه الأخلاقية القصيرة فقال علیه السّلام: ترك الزنا و كنس الفناء و غسل الإناء مجلبة للغنى(1)».

ث. ورد الإمام الحسن علیه السّلام في أحد الأسئلة فذكر الجماع «الحلال» بين الزوجين، بين رجل و امرأته بالطرائق المشروعة دينياً و اجتماعياً، ثم ذكر في النص ذاته حالة فعل محرم بين زوجة هذا الرجل و جارية بكر، حيث ساحقت امرأة الرجل هذه الجارية فنقلت ماءه المنوي إلى فرجها و التقت مع بويضتها فحملت و بيَّن النص الحكم الشرعي لهذه

ص: 272


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 200

الحالة الجنسية المحرمة.

ج. أنَّ النصوص التربوية السابقة تضمنت تمييزاً واضحاً بين الفعل الجنسي الحلال المحدد بضوابط إيمانية و الأفعال الجنسية الآثمة ك- «الزنا و المساحقة، و حضور إبليس لحظة الجماع بأفكاره الشيطانية»، و في ذلك التمييز إشارة مؤكدة لعملية ضبط الإشباع الجنسي و تنظيمه بين الناس رجالاً و نساءً.

ح. يؤكد الإمام الحسن علیه السّلام على أهمية حفظ العفاف الأخلاقي للفرد و ضرورة استخدام المال لتحقيق العفة الداخلية للرجل و المرأة على حد سواء، لهذا قال الإمام علیه السّلام:

«إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك» كإشارة إلى الاستثمار الوقائي للمال في جعل المرأة تميل بقلبها إلى زوجها الرجل من خلال الإنفاق عليها، أو تحسين علاقته بزوجته، أو عدم استخدام هذا المال من قبل الرجل في حالات الفعل الجنسي المحرم كالزنا بأخريات فيعرض شرفه للانتهاك الأخلاقي.

***

3- الحاجة إلى الأبوة و الأمومة

الأمومة حاجة مركوزة في التكويني الفطري لدى الإنسان، فأنثى الإنسان و نقصد المرأة، تحمل في بطنها جنينها بعد جماع زوجها لها و استقرار نطفته في رحمها، ثم يظل في بطنها عمره المقدر، فتلده بعد ذلك و تمارس فيما بعد مشاعر أمومتها لأبنائها حتى الممات و هذا لا يحتاج إلى حديث أحد ليفهمه الغير، فالناس يدركون أنهم أناس ولدتهم أمهاتهم و سقطوا من بطون أمهاتهم بعد دورة نمائية استغرقت ما بين ستة و تسعة أشهر و أنهم تربوا تحت دفء مشاعر الأمومة و في أحضانها و قد وردت كلمات غير مباشرة عن العلاقة بين الأم و من ولدته، حيث قال علیه السّلام: «ابن آدم! إنك لم تزل في هدم عمرك

ص: 273

منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك فإنَّ المؤمن يتزود و إنّ الكافر يتمتع و تزودوا فإنّ خير الزاد التقوى(1)».

و النص يشير لأكثر من مسألة:

1. يشير إلى وجود أم للإنسان.

2. و يشير إلى خروجه من بطنها.

3. و يؤكد على أن الإنسان يظل في حالة عبث بمصيره الأخروي و هدم عمره و فنائه بعيداً عن الله سبحانه و تعالى في دورة العمر لما بعد خروجه من بطن أمه.

4. و يتضمن النص توجيهاً للإنسان بالتزود بالتقوى و الاستعداد للسفر فيما بعد دنیاه.

و يشير نص آخر إلى ارتباط الطفل الصغير بأمه و تأثره بها عاطفياً و فكرياً و سلوكياً و تنقل بعض المصادر الروائية هذا الموقف لبيان العلاقة الإيجابية بين الصغار و أمهاتهم و آبائهم، تقول هذه المصادر أن الحسن علیه السّلام كان:

«يحضر مجلس رسول الله صلّی الله علیه و آله فيسمع الوحي و يحفظه، فيأتي أمه فيلقي إليها ما حفظه، فلمّا دخل علي علیه السّلام وجد عندها علماً فسألها عن ذلك فقالت: من ولدك الحسن، فتخفى علي علیه السّلام يوماً في الدار و قد دخل الحسن علیه السّلام و قد سمع فأراد أن يلقي إليها فارتج عليه فعجبت أمه من ذلك، فقال علیه السّلام: لا تعجبي يا أماه فإنَّ كبيراً يسمعني و استماعه قد أوقفني، و في رواية أخرى: يا أماه قلَّ بياني و كلَّ لساني، لعل سيداً

ص: 274


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 199

يرعاني، فخرج على علیه السّلام فقبله(1)».

و في نص آخر عن الأبوة قالت بعض الروايات عن الإمام الحسن: «إن الله تعالى أوحى إلى آدم: أنْ زَکِّ نفسك يا آدم! قال: يا ربِّ و ما الزكاة؟ قال: صلِّ عشر ركعات فصلَّى ثم قال: ربِّ هذه الزكاة عليَّ و على الخلق؟ قال الله: هذه الزكاة عليك و على ولدك بالمال من جمع من وُلدكَ مالاً(2)».

***

4- تنظيم الحاجة للإخراج

و في هذا الصدد عثرنا هذا النص و هو رد على سؤال من رجل، حيث سأل الإمام الحسن علیه السّلام أحد الناس: «ما الغائط؟».

فقال: «لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها(3)».

كان السؤال يكشف بصورة غير مباشرة أن بعض الناس يعرف الغائط كإخراج يصدر عنه يومياً من كل إنسان و هو ناتج فضلات الطعام بعد هضمه و كانت صيغة السؤال تنطوي على هذه المعرفة من خلال مشاهدات السائل اليومية لأنه يمارس فطرياً عملية إخراج فضلات الطعام، إلّا أن بساطة السائل جعلته يطالب الإمام الحسن علیه السّلام بالإجابة على شيء يشاهده يومياً، فسال ببساطة.. ما الغائط؟.

و لا يبدو أن الإمام علیه السّلام وجد في هذا الطلب بذي بال أو بذي قيمة، فأجابه علیه السّلام بأمر أهم و هو بيان أهمية الانضباط السلوكي أثناء عملية «إخراج فضلات» الطعام

ص: 275


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 230- 231
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 41
3- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 231

بضوابط إيمانية و تدريب السائل على هذا الانضباط برؤية شرعية كي يسمو السائل بسلوكه و هو يقوم بعملية الإخراج، فيميِّز نفسه عمن لا يمارس الإخراج دون قواعد انضباط سلوكي شرعية.

و في السؤال المتقدم و الإجابة عليه إشارة إلى حاجة الإنسان إلى إخراج فضلات الطعام المعروف في لغة العرب ب- «الغائط» و أنه علیه السّلام أجاب على السؤال في النص المتقدم إجابة تضمنت مباشرة إشارة إلى حاجة المرء للإخراج و بكيفية التخلص منها، فالكلمات التي طالب فيها بطرد فائض الطعام و فضلاته من جسم الإنسان إنّما قصد الاعتراف بوجود حاجة لدى الفرد للتخلص من فضلات طعامه و لكن ليس بأية كيفية تكون، بل بتوجيهات تجعل عملية التخلص مطابقة للتوجيهات الدينية بنحو تعير عن سمو الطريقة التي يتم بها الإخراج، ثمّ يعقب عملية إخراج فضلات الطعام إحساس داخلي بالراحة لدى الشخص، فأمر الإمام الحسن السبط أن لا يتم استقبال القبلة و لا استدبارها أثناء عملية الإخراج و كذلك لا يتم استقبال الريح و لا استدبارها، ففي التوجيه الأول تشديد على احترام قبلة المسلمين بيت الله الحرام بمكة المشرفة و في التوجيه الثاني وجوب ستر العورة عن الناس و ممارسة إخراج فضلات الطعام في مكان ساتر ما أمكن، فالريح لا تشتد إلا في خلاء و لذلك أمر علیه السّلام بستر العورة و عدم الجلوس في مكان خلاء لممارسة إخراج فضلات الطعام من جسد الإنسان.

***

5- النوم و الخلود للراحة

السوء الحظ لم نجد في مجال هذه الحاجة أية إشارة في نصوص الإمام الحسن التي اطلعنا عليها و قد تكون مبثوثة في نصوص أخرى لم تتح لنا الاطلاع عليها و بصرف

ص: 276

النظر عن العثور على نصوص في مجال الاعتراف بهذه الحاجة و إشباعها فإن المنطقي أن هذه الحاجة يدركها القاصي و الداني و لا تحتاج إلى عقل كبير لإدراكها.

***

6- الحاجة إلى الرزق

يصف الله نفسه برزاق العباد لأنه سبحانه يفيض عليهم بسابغ نعمه، فالرزق عطاء الله و نواله المفتوح و المتنوع غير المحدود لعباده من لحظة بدء التخلق في الرحم حتى لحظة الممات و ما بعد الممات و الرزق هو ما يهبه الله تعالى للعباد من سوابغ النعم المادية و المعنوية التي تسهم في إمدادهم بالطاقات و الخيرات و إشباع حاجاتهم خلال دورة النمو التي تستغرق عمر الفرد الواحد منهم حتى آخر مراحل هذه الدورة النمائية، فالرزق الذي يسعى إليه العبد بأمر من ربه سبحانه و تعالى هو محاولة طلب النعم الحلال و تحصيلها بطرق مشروعة و هو مؤونة الاكتساب و الرغبة في المعيشة لكسب ما يسد رمق الإنسان و تأمين قوته و مما يلحظ أن بالحصول على الرزق يتم إشباع الحاجات و بخاصة الأساسية شديدة الإلحاح على الفرد و هي حاجات الغذاء و الشراب و السكن و كذلك الحاجة للمال غيرها(1).

و قد أفاضت نصوص الإمام الحسن الزكي بن علي بن أبي طالب بعبارات و مقاطع موجودة في بعض أدعيته و كلماته القصار تؤكد على حاجة العباد إلى طلب الرزق من ربهم و تفيد بشكر الإمام علیه السّلام لله تعالى على ما أنعم و أسبغ و أفاض و سوف نكتفي بتسجيل جمل و مقاطع لفظية محددة معبرة عن حاجة الإنسان للرزق الإلهي.

يقول الإمام الحسن علیه السّلام:

ص: 277


1- يوسف مدن، مدخل لنظرية تربوية في فكر الإمام الحسين، الفصل الرابع

و من دعاء الاستسقاء قال في نهايته مقطعاً موجزاً يختتم به دعاءه فقال طالباً نزول المطر على الأرض: «و اسق سهلنا و جبلنا و بد۟ونا و حضرنا حتى تُرخص به أسعارنا و تبارك به في ضياعنا و مدننا، أرنا الرزق موجوداً و الغلاء مفقوداً، آمين يا رب

العالمين(1)».

و قال علیه السّلام: «و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك و أعلم في حلالها حساباً و في حرامها عقاباً و في الشبهات عتاباً، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة و خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها و إن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة و إن كان العتاب فإنَّ العتاب يسير(2)».

و قال: «لا تجاهد الطلب جهاد الغالب و لا تتكل على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الفضل من السنة و الإجمال في الطلب من العفة و ليست العفة بدافعة رزقاً و لا الحرص بجالب فضلاً، فإنَّ الرزق مقسوم و استعمال الحرص استعمال المأثم(3)».

و قال علیه السّلام: «تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولَّت عرفت(4)».

***

ص: 278


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 217
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 12، ص 28
3- الموسوي، مصدر السابق، رقم الحديث 4، ص 126
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 37، ص 123

ثانياً: الحاجات المعنوية

تقدم الحديث و القول بأنَّ هناك حاجات ترتبط بالجسد و إشباعها بيولوجي محض مع تدخل من المشرع التربوي الإسلامي لضبطه كما تقدم الإمام الحسن في مجموعة إرشاداته الأخلاقية و التربوية و قد عرضنا نماذج من الحاجات البيولوجية الجسدية مع إشارات من ضوابط اشباعها معززة بنصوص من أقوال الإمام الحسن علیه السّلام.

أما في موضوع الحاجات المعنوية فهي تدخل (في مجال الاشباع النفسي- الاجتماعي) لكيان الإنسان و تركيبته الفطرية و يتوزع هذا النوع من الحاجات على اتساعه في حياتنا على جوانب عديدة من الشخصية الإنسانية و مساحة الحياة التي تعيشها و تعد في نظرنا حاجات لا تقل أهمية عن حاجات الاشباع البيولوجي، فهي في الكيان البشري «قابليات» فطرية مركوزة في التركيبة الآدمية لكنها غير نشطة لحظة الولادة و تظل كامنة حتى تنزع النفس بمحاولات سلوكية تستغرق العمر كله إلى تنميتها اجتماعياً و غالباً ما تنجح محاولات الإنسان في إشباعها بقدر يتفاوت من فرد لآخر.

إنَّ هذه الحاجات يتم إشباعها في عالم الذات و في محيطها الاجتماعي بتأثيراته المختلفة، فتساند الحاجات البيولوجية المرتبطة بالجسد الإنساني من جهة و تتيح لنفسها النمو الظاهري و التحقق الاجتماعي الواسع و من ثمّ تمكن عملية الاشباع من تنمية الشخصية و تحقيق كيانها الذاتي و من هذه الحاجات.

أ- الحاجات العبادية أو الروحية (الدينية)

و هي الحاجة إلى الله و عبادته و طاعته و ما يتفرع عنه و هذه الحاجة في نظرنا و في أنظار عقلاء الناس هي «رأس الحاجات و أمها» التي تفرعت عنها حاجاتنا البشرية و لكنها لم تأخذ حظها من الاهتمام في كتابات بعض علماء النفس الوضعيين، بل أن

ص: 279

بعضهم كالمحلل النفساني (سيجمند فرويد) عمل بكامل جهده على إقصاء الدين من حياة الناس، بل و تشويه القيم الدينية و الأخلاقية و عَدَّ التدين «عصاباً» أصاب البشرية في طفولتها و بقي كمرض مؤثر في حياتها و مسيرتها كما جاء في بعض دراساته مثل «مستقبل وهم، قلق في الحضارة، موسى و التوحيد، الذات و الغرائز».

أمَّا بالنسبة للبشر الأسوياء و عقلاء الناس فهي حاجة فطرية في تكوينهم النفسي و قد شهد بفطرتها أكثر من نص قرآني و أكثر من موقف سوي في حياة الإنسان، فنحن «البشر» نولد مزودين بقابلية التدين و عبادة الله التي تنشط بذاتيتها حتى لو حاول معارضو التدين و أعداؤه إطفاء جذوتها الإيمانية في النفوس و لذلك فإن هذه الحاجة بالنسبة لكل مخلوق طبيعي في مشاعره هي «رأس كل حاجة» في كيانه و تنبثق عنها حاجات متصلة مع بعضها كحاجتنا لله الكائن الأعلى و الاستغاثة به في الخوف و طلب الأمن و طلب الرزق منه و البقاء و التوبة النصوح و العفو و كل صور الإشباع الكامل لحاجاتنا البيولوجية و النفسية ذات الطابع الاجتماعي.

فالله سبحانه و تعالى هو في نظرنا الممول الحقيقي لنا في الوجود و لحاجاتنا المتفرعة عن كياننا البشري المحتاج و ذاته الإلهية هي الكائن الأعلى الدائم البقاء، الكامل و الإنسان كائن ناقص و مخلوق محتاج لله في بقائه و رزقه و تزويده بالنعم و محتاج إليه في العفو و التوبة و الأمن و كل حالة إشباع -جزئي أو كامل- في كل شيء من حياتنا و من ثم تؤسس حاجتنا لله سبحانه لعلاقة بيننا و بينه عز وجل تقوم على حركة صاعدة منَّا كبشر في الأرض إلى حركة نازلة من الله إلينا.

و من هنا شدد الإمام الحسن علیه السّلام في نصوص كثيرة على تحقيق إشباع كامل أو «معتبر» على أقل تقدير لهذه الحاجة الأم و نرى تأكيداته على طاعة الله و عبادته و تقواه

ص: 280

و اللجوء إليه و الارتباط به و التوبة إليه من ذنوبنا و عَدّه ملاذنا الأول و الأخير في كل خطبه و مراسلاته و كتبه و كلماته القصار و سنأخذ بعض النصوص القصار للدلالة على تأكيداته في تنمية هذه الحاجة و توثيق علاقتنا بالكائن الأعلى الكامل رب العباد ممولنا الحقيقي لكل حاجاتنا.

و من أقواله في هذا الشأن و جلُّها تدل على حاجتنا لله سبحانه:

- «خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدع ما ابتدع و فعل ما أراد و أراد ما استزاد، ذلكم الله ربي رب العالمين(1)».

- «فاحترسوا من الله بكثرة الذكر و اخشوا الله بالتقوى و تقربوا إلى الله بالطاعة فإنه قريب مجيب(2)».

- «اعملوا .. إنَّ الله لم يخلقكم عبثاً و ليس بتارككم سدیً، کتب آجالكم، و قسَّم بينكم معائشكم، ليعرف كل ذي لب منزلته و إنه ما قدر له أصابه و ما صرف عنه فلن يصيبه و قد كفاكم مؤونة الدنيا و فرغكم لعبادته و حثكم على الشكر و افترض عليكم الذكر و أوصيكم بالتقوى و جعل التقوى منتهى رضاه و التقوى باب كل توبة و رأس كل حكمة و شرف كل عمل بالتقوى، فاز من فاز من المتقين(3)» ثم قال «اتقوا الله(4)».

- «اتقوا الله عباد الله و جدُّوا في الطلب و تجاه الهرب و بادروا العمل قبل

ص: 281


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 5 ص 17
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 13 ص 29
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 14 ص 31
4- الموسوي، مصدر السابق رقم الخطبة 14 ص 31

مقطعات النغمات و هادم اللذات، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها و لا يؤمن فجيعتها و لا تتوقى مساويها، غرور حائل و سناد مائل، فاتعظوا عباد الله بالعبر و اعتبروا بالأثر و ازدجروا بالنعيم و انتفعوا بالمواعظ فكفى بالله معتصماً و نصيراً و كفى بالله جحيماً و خصيماً و كفى بالجنة ثواباً و كفى بالنار عقاباً و وبالاً(1)».

- «الحمد لله الذي من تكلم سمع نطقه و من سكت علم ما في نفسه و من عاش فعليه رزقه و من مات فعليه معاده(2)».

- قال في نص دعاء الاستسقاء: «اللهم.. أرنا الرزق موجوداً والغلاء مفقوداً(3)».

- «إن الله عز وجل بمنّه و رحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه، لا إله إلّا هو ليميِّز الخبيث من الطيِّب و ليبتلي ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم و لتتسابقوا إلى رحمته و لتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج و العمرة و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الصوم و الولاية لنا أهل البيت و جعلها لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض و مفتاحاً إلى سبيله [ثم قالوا في الخطبة ذاتها]: «و اعلموا أن من يبخل المودة فإنما يبخل عن نفسه، إنَّ الله

هو الغني و انتم الفقراء إليه، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون، ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون و العاقبة للمتقين(4)».

لقد تضمنت هذه النصوص أكثر من حاجة في تركيبتنا الإنسانية تجاه الله و الحياة

ص: 282


1- الموسوي، الروائع المختارة رقم الخطبة 15 ص 33
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم 9 ص 22
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 24 ص 49
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 19 ص 41- 42

و أنفسنا كالحاجة إلى معرفته سبحانه و عبادته و طاعته و تقواه و التقرب إليه و الحاجة إلى تشريعاته و الحاجة رحمته و الحاجة إلى التوبة إليه و حاجتنا لحكمته و الحاجة للاعتبار و ثواب الجنة و تجنب عقاب الآخرة و الحاجة إلى نعم الله في عالمنا الدنيوي كالحاجة على الرزق المادي و المعنوي على حد سواء، فالرزق لا يعني كسب المال وحده و إنما يعني طلب الأمن و الطمأنينة و الرحمة و العلم و العفو و غير ذلك من النعم الإلهية التي تلبي حاجاتنا البيولوجية و النفسية معاً .

***

ب- الحاجات المعرفية

و هي في عرف علماء النفس التربوي تعرف بالحاجات العقلية و هي التي سماها الإمام الحسن الزكي علیه السّلام ب- «المعقول» في أحد نصوصه و قد أفضنا في الحديث عنها على امتداد خمسة مباحث من هذا الكتاب بدءً من مبحث الحلقة الأولى حتى مبحث الحلقة

الخامسة، فالتعلم و التعليم و مبادؤه و أساليبه و التفكير و القدرات العقلية و علاقتهما بالعملية التعليمية- التعلمية تجسد كموضوعات أساسية لهذه الحاجات الأصيلة في الكيان البشري و يمكن للقارئ الكريم متابعة حديث الإمام الحسن عن هذه الحاجات من المباحث الخمسة السابقة الذكر .

***

ج- الحاجات الوجدانية أو (الانفعالية)

الانفعالات بمختلف أشكالها حاجات طبيعية في التركيبة الداخلية للكائن الآدمي و تظهر في عالم الشخصية و في علاقتها بالأفراد و الأشياء المحيطة بها من مثيرات متعددة و هي طبيعية في كياننا لأنها تؤدي وظائفها في عملية النمو النفسي في

ص: 283

ضوء دورة العمر كلها حتى و إن۟ داخلها في بعض الأحيان قليل أو كثير من الانحراف عن معايير الصحة النفسية و محددات المشرع التربوي الإسلامي، فكل من الناس في كل عصور حياتهم و أماكن عيشهم يفرح و يحزن و يغضب و يحب و يحنو على غيره أو يحقد و يشارك الآخرين وجدانياً في هذه الانفعالات و هي حاجات طبيعية في حدود أداء وظائفها النمائية، بل إنها هي المنطق الطبيعي في ظروف الحق و الباطل و مواقف السواء و الانحراف.

و إذا ما استثار الإنسان موقف أو مثير -كتصرف سيء من إنسان آخر أو ظهور حيوان متوحش أمام عينيه أو بروز شيء مخيف- و حدوث استجابة غير سوية فإنّ انفعالاً لكائن آدمي آخر كغضبه في ذات الله لنوع الاستجابة السابقة و حزن فيما فعله الناس في الموقف الانفعالي المتقدم.

و إذا ما تفكر المرء بمصيره بالدنيا و الآخرة و حزن خوفاً على مدى قربه أو بعده من الله سبحانه فإن غضبه و حزنه و ثورته الانفعالية هي استجابات عقلية تتسَّم بالسَّواء و المصداقية، بل إنه لا يعرف الرأي -الغث منه و السمين- كما في بعض أقوال الإمام الحسن- إلّا عند الغضب و هو انفعال ثائر يمحق الحكمة و يؤدي إلى ضعف القدرة على التفكير و الاستجابة لنزعة شهوية بعيدة عن التعقل و التصرف الرشيد المطابق لوجهة نظر المشرع التربوي الإسلامي و قد يتفكر المؤمن و يكتشف «خللاً» غير مقبول في نتيجة عمله حزن كأن أدرك تقصيره في عمله العبادي فالمنطقي أن يحزن المرء و إلّا وصف «بالبلادة الانفعالية» و هنا تكون الانفعالات حاجة أصيلة في كياننا لأنها تقوم بدور وظيفي في حركة الذات و نموها و تقدمها .

ص: 284

تقول الروايات :

«لا يعرف الرأي إلّا عند الغضب(1)».

و عن تفكر قال علیه السّلام: «و إذا تفكر حزن(2)».

و قال علیه السّلام: «من عرف الله أحبَّه و من عرف الدنيا زهد فيها و المؤمن لا يلهو حتى يغفل و إذا تفكر حزن(3)».

و في نص يربط بين التعلم و الحالة الانفعالية قال الإمام الحسن سلام الله عليه و صلواته: «من أكثر من مجالسة العلماء، أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سرَّه ما وجد من الزيادة في نفسه(4)».

فالملحوظ -في النص الأخير- يكشف لنا بوضوح تام العلاقة بين نتائج «التعلم الجيد» الصحيح و بين الصحة النفسية، إذ يوحي النص الحسني السابق في مقطعه الأخير بترابط هذه العلاقة و قوتها، فكلما تقدم أداء الفرد أو المتعلم في زيادة خبراته التعليمية انعكس ذلك على صحته النفسية و ارتفاع معنوياته بزيادة مستوى الثقة بنفسه و الإحساس بقيمة الذات و بانجازها و هذا ينعكس دون شك على دافعيته في التعلم من حيث تنشيطها و زيادة مستوى الحماس للتعلم من قبل المتعلم و من ثمّ فإن الزيادة المقصودة -كما نفهمها هنا- ليست تقدماً في الأداء التعليمي وحده و إنّما يعني أيضاً زيادة تصاعدية في عنصر «الروح المعنوية» للفرد التي يحتاجها الفرد في إشباع حاجاته

ص: 285


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 243
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 18 ص 129
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 18 ص 129
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134

و منها حاجته المعرفية و هكذا يكون «للسرور» كانفعال نفسي قيمته التربوية و التعليمية و يؤكد على الاستفادة من وجوده في داخلنا كحاجة في نمونا النفسي سواء كنَّا أفراداً أو جماعات.

***

د- الحاجة إلى القيم الأخلاقية

جعل الله نفوسنا بحاجة لقيم و فضائل تكون قادرة على إدارتها من داخلها و مع الناس و تكون مؤسسة على قيم الاعتراف بوجود الله و قيمومته علينا كخالق لنا و متفضل علينا بسابع نعمه و آلائه، فزودنا سبحانه تعالى بقابلية «القيم و الفضائل» في داخلنا و قوة تأثيرها في صناعة أنفسنا و تربيتها من أجل مساعدتنا على تشكيل «الجهاز القيمي» الفاعل الذي يتولى مهمة العمل التربوي و يقوم بدوره في ضبط السلوك الإنساني و توجيهه في مواقف الحياة المختلفة بحيث يتناغم دوره في تحقيق الأهداف الإلهية التي تحقق سعادة الإنسان.

إن الأخلاق و القيم جزء أصيل من كياننا و من الدين نفسه و تشريعاته و فرائضه، فالأخلاق و الدين صنوان لا ينفصلان عن بعضهما و كلاهما يؤدي حركته التربوية من أجل تشكيل شخصية «الإنسان العابد» لله سبحانه و بناء قواها المتعددة بغرض تحقيق الهدف العبادي المرجو و المحدد لها في عالمنا الدنيوي و كما اهتم الإمام الحسن في نصوصه و خطبه و كتبه بالفرائض الدينية و تشريعاتها في تربية الذات فقد أفاض علیه السّلام في خطابه عن القيم الإنسانية و مكارم الأخلاق و قد مررنا على بعض إشاراته الأخلاقية في تفعيل حركة الذات الإنسانية و ضبط اشباع حاجاتها و هذه إحدى أهم و أبرز وظائف القيم و الأخلاق في الحياة البشرية.

ص: 286

و إذا ما تفحصنا تراثه الثقافي و الروحي سنجد خطاباً مركزاً القيم و الأخلاق و ضرورة تفعيلها في التربية الإسلامية للذات الإنسانية، فحديثه عن القيم و مكارم الأخلاق يأخذ في خطابه مساحة واسعة و بخاصة بعض القيم لديه كالكرم حتى أنه يسمى بكريم أهل البيت علیهم السّلام و يمكن أن نتذكر مثلاً موقفه مع الشامي الذي شتم فردّ عليه بكلام في غاية اللطف و الاحترام و الحنو العاطفي و الرعاية الأبوية بنحو أخجل الرجل الشامي فاعتذر إليه فوراً و بذلك أعاد الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام تشکیل موقفه المعادي بموقف «المحب» و بنفس جديدة تحترم أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و السّلام بدلاً من كراهيتهم تأثراً بأقوال أعدائهم و هذا الموقف في حد ذاته هو موقف عملي يعبر عن نفس سوية و متألقة في أخلاقياتها و يجسد نبل مشاعرها الإنسانية الأصيلة و يتيح مثل هذا الموقف و غيره للنفس السوية المستقيمة -و بكل إيجابية- استثمار القيم و محتواها المعرفي و الروحي و الأخلاقي في تصميم و إدارة العلاقات مع الآخر و مع اتساع الخطاب القيمي في تراث الإمام الفكري و حياته الشريفة إلّا سنجد أنفسنا مضطرين إلى ذكر بعض الأمثلة من القيم الأخلاقية التي دعا إليها الخطاب الحسني، فالغرض من ذلك بيان اهتمام الإمام الحسن بالأخلاق و القيم الإنسانية كحاجات أصيلة في كياننا البشري و كقوة توجيه لنا في حركة الحياة، فالمرء يستقوي بالأخلاق و القيم في عبادة الله سبحانه و تعالى و من هذه البوابة يتمكن الفرد من عبادة ربه و طاعته و تقواه و من ثم فالقيم الأخلاقية هي حاجات أصيلة مركوزة في كياننا البشري تحتاج لإشباع طبيعي و سوي و منطقي لتقوم بوظيفتها و دورها العبادي في صناعة الذات و تشكيل جهازها القيمي و الوجداني و رعاية وعيها المعرفي و ترشيد سلوكها بما يرضي الله سبحانه.

و قد اخترنا نماذج من وصاياه في مجال القيم الأخلاقية مجموعة قيم أخلاقية تبلغ في

ص: 287

عددها اثنتي عشرة و من إشاراته وصاياه لنا و للناس في زمانه قوله علیه السّلام:

1- ففي الزهد كإحدى القيم الأخلاقية البارزة و البعد عن الاهتمام الزائد بملذات الدنيا قال علیه السّلام: «من عرف الله أحبَّه و من عرف الدنيا زهد فيها و المؤمن لا يلهو حتى يغفل و إذا تفكر حزن(1)»، فهذا النص يشير للزهد كسمة أخلاقية- روحية لها دور كبير في تنظيم الاشباع للحاجات و ضبطه و يعني الزهد أخذ ما يحتاجه الفرد من ملذات الدنيا بمقدار ما يكفيه بطريقة حلال و الاستغناء عن الاشباع فوق الزائد للحاجة بخاصة إذا نوع الاشباع محرماً و غير سوي و عزز هذا الاتجاه الأخلاقي للزهد نص آخر يقوله فيه الإمام الحسن علیه السّلام: «و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك و أعلم في حلالها حساباً و في حرامها عقاباً و في الشبهات عتاباً، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة و خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها و إن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة. و إن كان العتاب فإنَّ العتاب يسير(2)»، و قال أيضاً: «يا بن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً و ارض بما قسم الله تكن غنياً(3)»، و قوله في توجيه للناس: «فازهدوا فيما يفنى و ارغبوا فيما يبقى و خافوا الله في السر و العلن(4)»، و في نص سئل عن الغنيمة و في رواية أخرى سئل عن الزهد فقال علیه السّلام: «الرغبة في التقوى و الزهادة في الدنيا(5)».

ص: 288


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 18، ص 129
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 12، ص 28
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 للأربلي، ص 198- 199 و كتاب الروائع المختارة، رقم الخطبة 7، ص 19
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 3، ص 15
5- تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 164 و الأربلي في كتابه كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 194

2- و في صفة الصبر كإحدى القيم و السمات الوجدانية التي تنمي الثبات العاطفي و تقويه قال علیه السّلام حينما تحدث عن مكارم الأخلاق: «الصبر عند المكاره(1)» و قال عليه أفضل الصلاة و السّلام في حديث ثانٍ و هو يحث المؤمنين على الجهاد: «اصبروا.. فإن الله مع الصابرين، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون(2)».

3- و عن العفة و القناعة قال علیه السّلام: «الإجمال في الطلب.. أي طلب الرزق.. من العفة و ليست العفة بدافعة رزقاً(3)» و نصح الناس بقوله لهم: «يا بن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً و أرض بما قسم الله تكن غنياً(4)» و قال كذلك: «اعلم أن مروءة القناعة و الرضا أكبر من مروءة الإعطاء و تمام الصنيعة خير من ابتدائها(5)».

4- و قال علیه السّلام في مجال الأمانة و النصيحة : «و لا يغش العاقل من استنصحه(6)» و قال علیه السّلام: رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة، فأدُّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً(7)».

5- و قال علیه السّلام عن بعض مكارم الأخلاق: «أما الكرم فالتبرع بالمعروف و الإعطاء قبل السؤال و أما النجدة فالذب عن المحارم و الصبر عند المكاره و أما المروءة

ص: 289


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92 ص 141
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 42 ص 79
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحدث 4، ص 126
4- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 198- 199 و كتاب «الروائع المختارة»، رقم الخطبة 7 ص 19
5- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 95، ص 141- 142
6- تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 170
7- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 79 ص 139

فحفظ الرجل دينه و إحراز نفسه من الدنس و قيامه بأداء الحقوق و إفشاء السلام(1)» و قال عن الجود: «الوعد مرض في الجود و الانجاز دواؤه(2)».

6- و عن الكرامة قال: «فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها(3)».

7- و عن صفة الحلم قال عليه أفضل صلوات الله و سلامه و هو يجيب على تساؤلات أبيه: «ما الحلم»، فقال: «كظم الغيظ و ملك النفس(4)».

8- و في تحديد مفهوم السماحة قال الإمام الحسن ردّاً على سؤال موجه إليه من أبيه أمير المؤمنين: «البذل في العسر و اليسر(5)».

***

و كما يلحظ القارئ الكريم فإنَّ عدداً كبيراً من القيم و مكارم الأخلاق قد تضمنتها النصوص المتقدمة كالزهد و القناعة و العفة و الوفاء و الكرم و الصبر و معاشرة الناس بالجميل و صحبتهم، كما الإنسان أن يصاحبوه و الأمانة و الرضا و الشكر و الصمت و حفظ اللسان و المروءة و الشرف و السماحة و الإخاء و الحلم و الغنى و النجدة و الذب عن المحارم و الصبر عند المكاره و إفشاء السلام و مداراة الناس و نحن بالتأكيد لا يسعنا الحديث التفصيلي عن هذه القيم و يكفي الإشارة الى بعضها مأخوذة من بعض نصوص ينسبها علماء الحديث للإمام الحسن علیه السّلام، فالقارئ ليس بحاجة في هذا الشأن لمزيد من الكلام ليفهمها.

ص: 290


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 38 ص 133
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 90، ص 142
4- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 164 و كلمة الحسن ص 59
5- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 59

ھ- الحاجات الاجتماعية

اقتضت مشيئة الله تعالى أن يعيش الفرد -ككائن عاقل- وسط جماعة تنقل إليه تجاربها و معتقداتها و قيمها الثقافية و الأخلاقية و عاداتها السلوكية و يكتسب من حياتها سمات اجتماعية تحقق التكيف الاجتماعي لشخصيته بمحددات تتفق مع معايير الصحة النفسية أو تبتعد عنها بحسب نوع التربية الاجتماعية التي تلقّاها، فالإنسان مخلوق اجتماعي و يولد مزوداً بهذه القابلية منذ اللحظة لوجوده بعالمه الدنيوي القصير.

و يحتاج الإنسان خلال تفاعله الاجتماعي مع أفراد و جماعات مجتمعه و المحيط الذي ينشأ فيه إلى مطالب واسعة و واقعية تؤثر على تفاعل الحياة الاجتماعية مع شخصية الفرد و سيرة نموه خلال دورة عمره النمائي منذ لحظة ولادته إلى مماته، فالفرد يحتاج إلى تلبية مطالبه الاجتماعية- النفسية كي تنمو شخصيته نمواً طبيعياً و يتسع تأثير هذه المطالب على الفرد كلَّما اتسعت دوائر الحياة الاجتماعية له و كلَّما كبر في السن، فهو يحتاج إلى الانتماء و التقدير الاجتماعي و صحبة الأصحاب و الأقران و تكوين صداقات و توفير جو ديمقراطي في حياته و مقابلة الآخرين و الاختلاط بالناس و تحسس مودتهم القلبية و العاطفية و الإحساس بوجودهم و التآلف الاجتماعي معهم.

و نظراً لاتساع دوائر الحياة الاجتماعية للفرد فإنَّ حاجاته في هذا الجانب من حياته تتعدد هي الأخرى حتى يصعب حصرها، فالحاجات الاجتماعية بطبيعتها السيكولوجية ليست محدودة كالحاجات الجسمية البيولوجية و إنما تغطي خيوط الحياة الاجتماعية للفرد و نذكر منها حاجة للميل إلى الجماعة و الحاجة للانتماء و التقدير و النجاح و الحرية و الاستقلال و الحاجة للعمل و الحاجة لتأكيد الذات و قيمتها الاعتبارية و الحاجة إلى إثبات الهوية و الحاجة للسلطة و تحقق الانجاز و الحاجة للاعتراف

ص: 291

و القبول الاجتماعي و الحاجة للأمن الاجتماعية و الطمأنينة و عدم الخوف.

***

و من النصوص الاجتماعية التي تحقق إشباعاً تاماً أو جزئياً لهذه الحاجة ما جاء في بعض المصادر الروائية كقول الإمام الحسن علیه السّلام:

- «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(1)».

- «رأس العقل معاشرة الناس بالجميل(2)».

- «لا تأتِ رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه(3)».

- «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه و فتق ما رتق من ذهنه و سره ما وجد من الزيادة في نفسه و كانت له ولاية لما لا يعلم و إفادة لما تعلم(4)».

- «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم(5)».

- قال علیه السّلام لبعض ولده: «يا بني لا تؤاخ أحداً حتى تعرف موارده و مصادره، فإذا استنبطت الخبرة و رضيت العشرة فآخ على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة(6)».

ص: 292


1- الموسوي، الروائع المختارة، حديث رقم 82 ص 139
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 26، ص 131
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 198 و كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الحديث 31، ص 133
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134
5- ابن شعبة الخراني تحف العقول ص 168، الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 2، ص 126
6- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 168، الموسوي، الروائع المختارة، قم الحديث 1 ، ص 126

- و قال: «القريب مَن قربته المودة و إنْ بَعُد نسبه و البعيد مَن باعدته المودة و إنْ قَرُبَ نسبه(1)».

- و من فوائد التردد على المسجد قال: «من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان آية محكمة و أخاً مستفاداً و علماً مستطرفاً و رحمة منتظرة و كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى و ترك الذنوب حياءً أو خشيةً(2)».

***

و يلحظ أن كلمات الإمام الحسن و كلماته في مجال الاشباع إشارة لحاجة إلى الاجتماع الإنساني تحقق مجموعة أهداف في حياة الناس، فأحد النصوص يؤكد على الصحبة و المصاحبة و الصداقة و مؤاخاة الإنسان و لكن على أن تكون مؤسسة على معرفة موارده و مصادره و أن تكون مؤاخاة على إقالة العثرة و المواساة في العسرة أو مشاركة وجدانية بلغة علماء النفس المعاصرين و أحياناً يستهدف اشباع هذه الحاجة لتحقيق التشاور و الوصول إلى أفكار راشدة منتجة، أو يستفاد من اشباع هذه الحاجة في كسب علم أو كلمة هدى و تجنب باطل أو ترك ذنوبه أو تنمية قدرات لغوية و غير ذلك.

و سؤالنا.. كيف تكون عملية الاشباع الحاجة إلى الاجتماع بالآخر؟

من بعض نصوص الإمام يمكن القول بأن اشباع الحاجة للاجتماع لن يكون سوياً إلّا إذا حقق بعض الأهداف و منها كما تقدمت الإشارة:

ص: 293


1- تحف العقول لابن شعبة، الحراني ص 168 و كتاب الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 5، ص 126- 127
2- تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 169، الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 12 ص 127- 128

1. الإفادة العلمية.

2. معاشرة الناس بالجميل و التكيف معهم بمحددات سليمة.

3. مصاحبة الناس بمثل رغبة المرء في مصاحبة الآخرين له.

4. التناصح و المشاركة الوجدانية.

5. التشاور الجماعي لتحقيق الرشد الفكري و العاطفي.

6. تحقيق الهداية الإيمانية للفرد و ضبط السلوك.

***

و- الحاجات الأمنية :

الشعور بالأمن -و بغيره من المشاعر- نشاط حركي و دينامي و لا يمكن أن يصدر إلّا إذا كان هناك كائن حي يشعر بنشاط محدد تترتب عليه استجابة مناسبة، فالأمن بالنسبة للأمن ضرورة إنسانية لا للحفاظ على وجوده الذات فحسب، بل لتقدمه الاجتماعي.

و قد أشرنا في موقع سابق إلى الأمن و الحرية كشرط للتعلم و نمو القدرات العقلية و ممارسة التفكير و تنميته و كذلك تبدو الحاجة إليه شديدة و في غاية الأهمية بالنسبة لاستقامة العلاقات الاجتماعية و إبعادها عن التأزم النفسي الذي يهدد حركة التقدم في المجتمع الإنساني و يعبر الأفراد و الجماعات البشرية عن حاجتهم للأمن و الطمأنينة و قبر الخوف بأشكال من السلوك الحضاري كإفشاء السلام و التقبيل و العلاقات الاجتماعية السليمة و الأمن الداخلي بحل حالات الصراع النفسي و الزهد و صور العبادة و البحث عن اشباع للحاجات الفسيولوجية و البيولوجية و قضاء حاجات المؤمنين و تجنب القلق

ص: 294

و تقبل الإحباط بغرض تحقيق أمن الذات الداخلي و الاجتماعي و المصاحبة و المؤاخاة و معاشرة الناس بالجميل و البحث عن أشكال السلوك العبادي بحثاً عن أمن الذات في عالمها الأخروي بعد الممات.

و قد وجدنا في بعض نصوص الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام إشارات مباشرة و غير مباشرة لحاجات الإنسان الأمنية و تأثيراتها في الحياة الشخصية و الاجتماعية و هي نصوص -كما سترى عزيزي القارئ- مستمدة في أفكارها و معانيها و أهدافها من رؤية المشرع التربوي الإسلامي و أخلاقياته في تحقيق حاجة الفرد للأمن و السلام الاجتماعي.

و سنضع أمامه مجموعة من النصوص على وفق تقسيماتنا لنظرته علیه السّلام:

1. للحاجات الأمنية إلى أمن الذات في دنياها.

2. و أمنها في عالم الآخرة.

***

أولاً: حاجات الفرد للأمن في عالم الدنيا

و في مقدمتها:

1. الحاجة إلى المحافظة على الذات و بقائها الجسدي بتوفير متطلباته من خلال عملية بحث عن إشباع مناسب لحاجاتها الفسيولوجية الجسدية كالحاجة للطعام و الشراب أو حاجة المحافظة على النوع الإنساني و استمراره كالبحث عن الاشباع الجنسي و قد أشرنا إليها في مدخل هذا المبحث من خلال معالجتنا للإشباع في مجال الحاجات الجسدية ذات الطابع البيولوجي و الفسيولوجي.

2. تأكيد نصوص الإمام الحسن على وجود دوائر و علاقات اجتماعية سليمة كتوافر

ص: 295

الأنظمة و القوانين و معاشرة الناس بالجميل الذي وصفه أحد نصوص الإمام الحسن ب- «رأس العقل(1)» و المصاحبة بالمثل لحفظ أمن الذات، حيث يدعو الإمام الحسن إلى تحقيق هذا السلوك بقوله الكريم: «صاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به(2)»، و كمفهومه عن المروءة التي هي في نظر الإمام الحسن علیه السّلام: «حفظ الرجل دينه و إحراز نفسه من الدنس و قيامه بأداء الحقوق و إفشاء السلام(3)»، فمثل هذه النصوص بمثابة أنظمة و قوانين لضبط السلوك و العلاقات الاجتماعية و التعامل الشخصي مع الآخرين.

3. تحقيق الأمن بصور العلاقات الاجتماعية المقبولة و مظاهرها كالسلام و التقبيل و قضاء حاجات المؤمنين بدافع عبادي و كف أذى اللسان عن الناس بالصمت و المؤاخاة كما تقدم، فالإمام الحسن بن علي يقول علیه السّلام: «من بدأ الكلام قبل السلام فلا تجیبوه(4)»، و كقوله عليه الصلاة و السّلام في دعوته للمؤمن بتقبيل أخيه عندما يلقاه فقال: «إذا لقي أحدكم أخاه فليقبِّل موضع النور من جبهته(5)»، و قوله: «لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليَّ من اعتکاف شهر(6)»، و قوله وقد سئل عن الصمت: «هو ستر

ص: 296


1- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 197، الروائع المختارة للموسوي، رقم الحديث 26، ص 131
2- الأربلي من كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 198- 199، و كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الحديث 82، ص 129
3- الموسوي، روائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141
4- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 201، السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 66، و الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 46 ص 135
5- ابن شعبة الحراني تحف العقول ص 170، و كتاب كلمة الإمام الحسن، للشيرازي، ص 66
6- الروائع، رقم الحدیث 81، ص 139

العي و زين العرض و فاعله في راحة و جليسه في أمن(1)».

4. تحقيق الأمن الداخلي يرفع حالات الصراع النفسي أو تقليلها و تجنب القلق ما أمكن و مواجهة الإحباط بنظرة إيجابية و السيطرة على الشهوات الضارة و في هذا الصدد يقول: «إنْ لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره، فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى(2)» و قوله لمواجهة إحباطات الحياة المستمرة: «اجعل ما طلبت من الدنيا فلم تظفر به.. بمنزلة ما لم يخطر ببالك(3)».

***

ثانياً : حاجات الفرد للأمن في عالم الآخرة

يشغل تحقق هذا الأمن أو عدم تحققه بال كل مؤمن ما يزال بعيش في دنياه القصيرة و يبذل سعيه لضمان الوصول إلى هذا الهدف العبادي، فالأمن الأخروي حاجة إيمانية ينفرد بها المؤمنون دون غيرهم و هم من أجل مستقبلهم الإيماني الآمن بيوم المعاد لا يسهون حتى يغفلوا و إذا تفكروا في مصيرهم حزنوا و هم في الدنيا بأبدانهم -كما قال الإمام الحسن- و في الآخرة بقلوبهم و ذلك لضمان تحقق أمنهم في اليوم الآخر، حيث قال:

- «كن في الدنيا ببدنك، وفي الآخرة بقلبك(4)».

ص: 297


1- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 197، و كتاب الروائع المختارة، للموسوي، رقم الحديث 29، ص 132
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 50، ص 135
3- الروائع المختارة للموسوي، رقم الحديث 34، ص 133
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 33، ص 133

- و في نص آخر: «من تذكر بعد السفر اعتد(1)».. بمعنى استعد.

- و قال الإمام الحسن علیه السّلام لجنادة بن أمية في توجيه له: «استعد لسفرك و حصل زادك قبل حلول أجلك(2)».

و يعزز إحساس المؤمنين بأمنهم الأخروي كل ما جاء في توجيهاته على امتداد مباحث هذا الكتاب بأسره سواء بطلب العبادة و أدائها أو بالتقوى و بالزهادة في الدنيا أو بمعاشرة الناس بالجميل أو بالعظة و الاعتبار أو بالتفكر و الحزن على واقعهم من تقصير بحق الله أو بمحبته و التفاني في حبه، فمن «طلب العبادة تزكّى لها(3)» و عندما سئل الإمام الحسن عن معنى الغنيمة و في رواية.. سُئِل ما الزهد، قال: «الرغبة في التقوى و الزهادة في الدنيا(4)».

إنَّ «الدنيا» و العمل فيها هي -بالنسبة للمؤمن- بوابة الأمن النفسي للناس في عالم الآخرة، و لهذا قال الإمام الحسن في توجيه دقيق: اعملوا.. إن الله لم يخلقكم عبثاً و ليس بتارككم سدىً، كتب آجالكم و قسَّم بينكم معائشكم، ليعرف كل ذي لب منزلته و إنه ما قدر له أصابه و ما صرف عنه فلن يصيبه و قد كفاكم مؤونة الدنيا و فرَّغكم لعبادته و حثكم على الشكر و افترض عليكم الذكر و أوصيكم بالتقوى و جعل التقوى منتهى رضاه و التقوى باب كل توبة و رأس كل عمل بالتقوى، فاز من

ص: 298


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 170
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 12، ص 27
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 170، وكتاب الروائع المختارة للموسوي، الحديث 35، ص 133
4- ابن شعبة،الحراني تحف العقول، ص 162، و كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الحدیث 71، ص 138

فاز من المتقين، قال الله تبارك وتعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا».

و قال: «وَ يُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ» فاتقوا عباد الله! و أعلموا من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن، و يسدده في أمره، و يهيئ له رشده، و يفلجه بحجته، و يبيض وجهه، و يعطيه رغبته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقاً(1)».

و في نص قال الإمام الحسن: «فاتعظوا عباد الله بالعبر، و اعتبروا بالأثر، و ازدجروا بالنعيم، و انتفعوا بالمواعظ، فكفى بالله معتصماً و نصيراً، و كفى بالكتاب حجيجاً و خصيماً، و كفى بالجنة ثواباً، و كفى بالنار عقاباً و وبالاً(2)».

***

ص: 299


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 14، ص 31
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 170

ص: 300

الحلقة الثامنة

اشارة

فن الاعتذار مبدأ في العلاقات الإنسانية

قراءة تحليلية لخطاب الإمام الحسن السبط علیه السّلام

ص: 301

ص: 302

فن الإعتذار مبدأ في العلاقات الإنسانية

تتنوع في حياتنا البشرية أنماط متقابلة من السلوك و يتسم بعضها بالسواء، أمّا بعضها الآخر فيظهر بصبغة غير سوية، فهناك التفاؤل في مواجهة حالة التشاؤم و الشعور بالحرية تقابله الرغبة في استعباد الذات، و الأمل في قبال اليأس، و الكرم و الشجاعة ضد البخل و الجبن أو الخوف المرضي، و المروءة في مقابلة اللؤم، و المثوبة في مواجهة العقوبة، و الاعتذار في مواجهة العناد و العصبية، و هكذا يتقابل هذا النمط السوي من السلوك مع نمط آخر عصابي و غير سوي.

و تجسد حركة الحياة و المخزون الثقافي للعقل البشري و محفوظاته الثقافية في مراحل متعاقبة و متصلة من التاريخ الإنساني أشكال مختلفة من أنماط السلوك المتقابلة و يعبر عن هذا التنوع مجموعة نصوص و سجلات ثقافية و كتب و رسائل تجسد أقوال عظام الرجال و تراثهم الفكري و الروحي و يمتد بواسطتها عبر التاريخ إلى حياتنا المعاصرة في توجيه مستنير يضيء طريقنا نحو الخير و الاستقامة و شعلة الأمل.

إن حياتنا الاجتماعية تتسع لكثير من الظواهر المتنوعة المتفاوتة في شدتها، المتباينة في استقامتها و انحرافها و المختلفة في فوائدها و أضرارها للناس و من هذه الظواهر السائدة في الحياة البشرية ما يرتكبه الناس ضد بعضهم من إساءات متفاوتة في نواياهم و مع أن منطق الحياة يقتضي أن يعالج الناس أخطاءهم بأساليب عديدة متاحة إلّا أن «الاعتذار» أحد هذا الأساليب المكنة و مما هو ملحوظ في تاريخنا البشري أن الإساءة

ص: 303

كحالة سيكولوجية متجذرة فيه و تمتد لحياة العائلة الأولى.. عائلة سيدنا آدم عندما أساء الظن أحد الأخوين بالآخر فلم يعتذر لما بدر منه و لم يصحح علاقته معه، فتطور الموقف إلى جريمة قتل حينما أقدم «قابيل على قتل أخيه هابيل» و هذه أول حالة قتل في التاريخ البشري كما صرحت بذلك آيات من القرآن الكريم في سورة المائدة، قال الله تعالى في كتابه المجيد:

«وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُتِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَلَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَب النَّارِ وَ ذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّلِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ, قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتى أَعَجَرْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّدِمِينَ (31)(1)».

و قد ترك لنا أئمة أهل البيت عليهم السّلام تراثاً ضخماً في موضوع الاعتذار و الصفح و العفو عن المسيئين أفراداً أو جماعات و كان غرضهم من ذلك تنقية العلاقات الاجتماعية بين الناس و تحرير أنفسهم من ضغوط أخطاء السلوك و من آثار النتائج السيئة المترتبة عن أفعال المسيئين و ما تتركه من تداعيات غير محمودة العواقب في حياتهم و يغري هذا القدر الكبير من النصوص بدراستها و تفسيرها و تكوين نظرة معرفية موحدة و موسعة و متساندة في موضوع معين يستحق البحث و الدراسة و يمثل كلام السبط الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام جانباً حيوياً من المخزون الحيوي لتراثه الفكري و المعرفي و الأخلاقي و القيمي الذي تركه لنا أئمة أهل البيت عليهم السّلام و قد حفظت لنا بعض

ص: 304


1- انظر سورة المائدة، آیات 27- 31

مصادر دراسة التراث الإسلامي على امتداد تاريخ طويل جزءً من هذا المخزون الذي نحن بحاجة شديدة إليه في عالم صعب يتغير بسرعة و يتجه نحو الالتحام غير السوي بالماديات و بقيم الانحطاط و النفعية الشخصية التي تلوث حياة الإنسان المعاصر باللؤم و الخسة و الاستغلال النفعي و الانحراف الشخصي و الاجتماعي.

و تجد في تراث الإمام الحسن علیه السّلام مخزوناً كبيراً من الخطب و الرسائل و الأدعية و العبارات القصار و يستوعب حديثاً عن القضايا الإلهية و القيم و الأخلاق، فضائلها و رذائلها، و المفاهيم الأخلاقية، و يدخل في إطار هذا التراث قضايا الحرية و التنمية الروحية و الحاجات الإنسانية و الآداب الاجتماعية و الوعظ و الإرشاد و التوجيه التربوي و العملية التعليمية- التعلمية و العلاقات الاجتماعية و الجهاد بمختلف أشكاله و مواقفه السياسية مع مؤيديه و خصومه.

و لم يتوقف المشرع الإسلامي عن معالجة حالات الإساءة البشرية و تنوعت جهوده للتغلب عليها بأساليب عديدة و تجسدت هذه المعالجات في نصوصه القرآنية و النبوية و أقوال الأئمة المعصومين عليهم السّلام و كانت معالجاته بالاعتذار و تأجيل العقوبة و صبر الناس على أذى بعضهم أبرز ما دعا إليه المشرع الإسلامي و تبناه رجالات الدين و علماء الأخلاق المسلمين و قادتهم و منهم كريم أهل البيت أبو محمد الإمام الحسن ابن علي عليهما السّلام و هذا يتطلب دراسة تفصيلية، بيد أننا في هذا المبحث الصغير سنكتفي بتفسير أحد نصوص الاعتذار المنسوبة للإمام الحسن السبط و استخراج بعض معانيه التفصيلية و المجملة عسى أن نتوصل لنظرية معرفية و رؤية تربوية و سيكولوجية في هذا المبحث.

و المبحث الذي بين يديك -عزيزي القارئ- هو دراسة تفصيلية لموقف الإمام

ص: 305

الحسن السبط بن علي بن أبي طالب من مشكلة الإساءة و رؤيته العلاجية القائمة على اعتماد طريقة «الاعتذار» قبل لجوء المعتدى عليه لتطبيق العقوبة العاجلة ضد المسيء و سيركز هذا المبحث على دراسة نص للإمام الحسن و تفسيره و استخراج معانيه و بيان

حاجتنا في هذا الزمان لمنافعه الأخلاقية و التربوية و السيكولوجية و الاجتماعية.

و سنتناول في هذا المبحث مضمون «النص الحسني» كمفهوم تربوي إنساني تقدمي و بيان معانيه الداخلية في الحياة البشرية فردية كانت أو جماعية و تحديد منهجيتنا في التعامل مع مفردات النص اللغوية أو اللفظية و معرفة مكوناته الأساسية و توضيح بعض الأهداف المشتقة من باطنه و مسوغات العمل بمبدأ الاعتذار كفن تطبيقي في بناء العلاقات الإنسانية و إصلاحها و شروط تحققه في حركة الناس، كما سنمر على بعض الخصائص العامة لدعوة الإمام الحسن إلى الاعتذار ثم معالجة الاعتذار بين المحفزات إليه و تحذيرات المشرع من عدم استخدامه و الإشارة الى الاعتذارات غير السوية و غير الشرعية و تأجيل العقوبة و ختام هذا المبحث دراسة معانيه الأخلاقية و التربوية و السيكولوجية و الاجتماعية.

***

النص كمفهوم إنساني:

النص الذي نقصده «مجموعة المفردات اللفظية التي تستبطن معاني عقلية» يلتقي فيها المفهوم المعرفي بالهدف و الوسيلة أو الأداة و هو هنا ما قاله كريم أهل البيت الإمام الحسن الزكي بن علي تحديداً من ألفاظ لم تتجاوز ثمان كلمات قصار واضحة المعنى و الدلالة التربوية الهادفة و هذا ما نسميه في هذا المبحث بالنص الحسني، حيث جاء في بعض مصادر التراث الثقافي الإسلامي نص قصير منسوب للإمام أبو محمد الحسن بن

ص: 306

علي بن أبي طالب قال فيه عليه أفضل الصلاة و السّلام:

«لا تعاجل الذنب بالعقوبة و أجعل بينهما طريقاً للاعتذار(1)».

إنَّ النص التربوي الحسني المتقدم ذكره يمثل بالنسبة إلينا كلمات ثمان تختزن «توجيهاً معرفياً و أخلاقياً و قيمياً و اجتماعياً» فاعلاً في حياة الإنسان و توجيه حركة سلوكه في عالمه الخاص و في دوائر علاقاته الاجتماعية العامة و سنقوم في هذا المبحث بدراسته و تحلیل مفرداته و معانيه الداخلية في سياق وحدته الموضوعية و تحليلها سواء كانت معرفية أو لفظية، فالنص -بمعناه العام- هو في مجموعه تركيبة لفظية ذات فهم لغوي بمعاني عقلية و مجموعة أهداف و طريقة عمل و آلية تقويم و ترك النص للعقل البشري اكتشاف هذه العناصر و تنظيمها، فلا ينتظر أن يحددها النص الحسني بكلمات مباشرة و بذلك كان من مهمة العقل البشري على امتداد زمني لاحق معرفة هذه العناصر كتحديد الأهداف و اشتقاقها من النص و معرفة طريقة العمل و كيفية تقويم عملية «الاعتذار».

و الاعتذار و العفو و الصفح الجميل عن المسيئين -كما جاء في عدد من نصوص المشرع التربوي الإسلامي- هي مفاهيم سلوكية بمعاني واحدة حتى و إنْ اختلفت الألفاظ و الكلمات، فالنص الحسني الذي نحن بصدد دراسته «لا تعاجل الذنب بالعقوبة و اجعل بينهما طريقاً للاعتذار» هو على سبيل المثال لا الحصر مساوٍ تماماً لمعنى الحديث الوارد عن أبيه الإمام علي علیه السّلام، إذ قال ابن أبي طالب الكلام نفسه مع اختلاف

ص: 307


1- المجلسي، موسوعة بحار الأنوار، ج 78 ص 115، و كتاب الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن و كتبه و رسائله و كلماته القصار للسيد مصطفى الموسوي، ص 133، و كلمة الإمام الحسن للسيد حسن الشيرازي ص 202، و موسوعة ميزان الحكمة، ج 6، ص 116، و كذلك ص 392

يسير في اللفظ:

«لا تعاجل الذنب بالعقوبة، و اترك بينهما للعفو موضعاً تحرز به الأجر و المثوبة(1)».

و في نص آخر مماثل مع اختلاف يسير في اللفظ و المعنى قال الإمام علي:

«لا تعاجل الذنب بالعقوبة و اترك بينهما للعفو موضعاً تحرز به الآخرة و المثوبة(2)».

***

منهجنا(3) في التعامل مع النص:

على الرغم من قصر هذا النص في مفرداته اللفظية و قلة كلماته التي لا تتجاوز في مجموعها كلمات ثمان، إلّا انه احتاج منّا -كمادة ثقافية- لتعامل منهجي جعلنا نسير

ص: 308


1- محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 6 ص 392
2- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ج 2، ص 331، و رقم الحديث 191
3- يحتاج الباحث في دراسة التراث الفكري للإمام الحسن بن علي إلى استخدام بعض مناهج البحث لدراسة هذا التراث و مخزونه المعرفي و الروحي و القيمي، و تتعدد هذه المناهج التي لها علاقة بتعدد اتجاهات الباحثين أنفسهم، و بطبيعة المادة الثقافية لهذا التراث الثري، فهناك مادة محددة من هذا التراث كخطب الإمام الحسن و رسائله و بعض أدعيته و جمله القصار التي تعرف في مصادر هذا التراث بالكلمات القصار، و هذه متناثرة في مصادر الحديث وكتب التاريخ الإسلامي، و تحتاج إلى الجمع و الحصر في مصادر موحدة يسهل الوصول إليها و الإفادة منها، و يمكن تسمية هذا المنهج بالنقلى القائم على جمع هذه الخطب و حصر الرسائل و تناقلها، و لكن هناك منهجاً آخر يمكن توظيفه في خدمة تراث الإمام الحسن بن علي و فكره المعرفي و الروحي و الأخلاقي، و هو المنهج التحليلي الذي يتيح للباحث الذي له خبرة بالخطب و المراسلات و الأدعية بتحليل نصوص الإمام الحسن و خطبه و رسائله بطريقة معاصرة تمكن القارئ الجديد من الاستفادة من هذا التراث و مخزونه المعرفي و الروحي و القيمي، و ثمة أنواع أخرى من مناهج البحث يمكن توظيفها في خدمة فكر الإمام الحسن و تراثه.

من خطوة سابقة إلى خطوة لاحقة، و تطلبت عملية التعامل مع مفردات النص و محتواه المعرفي أو مادته الثقافية ثلاث خطوات أساسية تأتي إحداها في التسلسل قبل الأخرى و كأنها بناء واحد، و هذه كما يأتي:

1. القيام بعملية «تأمل ذهني مركز» و يتكرر من قبلنا على دفعات زمنية متعاقبة في مدة محددة لا تتجاوز يومين أو ثلاثة على الأكثر، و في كل دفعة يتم التعرف على أفكار مجملة و تفصيلية في النص أحياناً بطريقة استبصار عقلي يركز على الأفكار المجملة للنص ثم النظر للأفكار الجزئية الداخلة في نطاقها العام.

2. عملية تحليل لمفردات النص للأفكار المجملة المكتشفة التي تم التعرف عليها الخطوة السابقة، ثم تفكيك هذه الأفكار للوصول إلى أفكار تفصيلية تدخل جميعها في سياق موضوع موحد كموضوع مبحثنا هذا.

و تطلبت عملية التحليل:

. تحديد مشكلة البحث و هي مشكلة وقوع الناس في أخطاء السلوك المتفاوتة بنحو يقارب الإساءة لهم أو إهانتهم، مم يتطلب اعتذاراً أو لجوءً للعقوبة.

. وضع افتراضات المعالجة و تتمثل في مراجعة احتمالات دراسة المشكلة و تفسيرها كتأجيل إنزال العقوبة، و فسح المجال للاعتذار، و الاستماع لتفسيرات المسيء، و الحكم التقويمي لأقوال المسيء و مسوغاته.

. استخدام أدوات الحكم التقويمي على تفسيرات المسيء كالاستماع لرأيه، المقابلة، و تحكيم أطراف محايدين موضع ثقة الطرفين كتابة اتفاق أو تعهدات إذا كان في مؤسسة، القسم، التعهد الشفهي.

ص: 309

. وضع المعالجة التحليلية للنص في إطارها العام، و هذا ما أسميناه بتدوين نهائي للأفكار التحليلية للدراسة مجملة أو تفصيلية.

3. كتابة الأفكار المجملة و التفصيلية و تدوينها و صياغتها نهائية بطريقة تدريجية، و ربطها في سياق نظرة معرفية موحدة بحيث نتمكن في نهاية الأمر من تكوين موضوع بنظرة متكاملة و موحدة و معززة بنصوص مماثلة و إثرائية.

***

الأهداف التربوية للنص:

ليس النص الحسني مجرد كلمات ذات شكل محدد، بل هو في حقيقته حركة فكر متجددة تنطوي على عناصر تسهل قدرتها على تحقيق الفعل الإيجابي في حياة الفرد و دوائر العلاقات السائدة بين الجماعة، ففي هذا النص -مع حجمه الصغير- شبكة متساندة من المرتكزات و أركان النظرة المعرفية و المنهجية التي تحدد قيمة النص كمحتواه المعرفي و أهدافه التربوية، و تكشف عن فاعليته في التنمية الثقافية و الروحية و الاجتماعية للشخصية الإنسانية.

و كما تضمن النص الحسني عناصر محددة ستتناولها عملية تحليل هذا النص فإنَّ الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام استهدف في نصه المذكور تحقيق أهادف محددة في حياة الأفراد و الجماعات سواء في مجتمع مسلم كمجتمعنا العربي- المسلم أو في دوائر مجتمع عالمي آخر يخالفه في الهوية العقائدية، و قد ترك لنا النص حركة إيجابية في هذه الأهداف و اكتشافها و تحديدها، و نلفت النظر إلى قدراتنا كباحثين تتفاوت بالتأكيد في معرفة هذه الأهداف و اشتقاقها من باطن النص الحسني الذي نحاول دراسته مادته الثقافية و تحليلها و إجمالاً يمكننا تحديد بعض هذه الأهداف من التركيبة اللفظية للنص الحسني،

ص: 310

و منها ما استطعنا تحديده بما يأتي:

1. تدريب النفس الإنسانية و ترويضها في مواقف متعددة على الاعتراف بالخطأ و إقراره بجرأة على تصحيحه في ظروف مختلفة سواء في نطاق علاقات فردية أو في نطاق علاقات جماعية موسعة و ضمان نجاحه على مستوى الأفراد، و على مستوى الجماعة على حد سواء.

2. حث النفس الإنسانية على مبدأ تقبل الاعتذار و تفعيله من طرفين أحدهما .. «المخطئ» بأن يكون بادئاً في الاعتذار أو من طرف «من وقع الخطأ عليه» فيكون متفهماً أخطاء الآخرين بقبول اعتذارهم ، و العفو عنهم بلا عتب و لا تقريع و لا أدنى تشهير.

3. تعليم الفرد المعتذر مبدأ «كف السلوك الخاطئ» بوعي فاعل و تشجيعهم على تقدير الآخرين و احترامهم بلا إهانتهم أو تحقيرهم.

4. أن يقوم الطرفان «مخطئ و مخطئ عليه» بتفعيل قدراتهما العقلية و الروحية لمعالجة الموقف السلوكي بطريقة إما وقائية أو علاجية.

5. تدريب النفس البشرية على معالجة مواقف التحدي و الاستجابة لها و تذليل الصعاب و حلولها الجريئة بثقة تامة.

6. تحقيق قدر معقول من الصحة النفسية و حالة الرضا النفسي و الاجتماعي للفرد المخطئ و المعتذر و تفاعلهما لتصحيح علاقاتهما بالاعتذار.

7. تصحيح العلاقات الاجتماعية بين الأفراد و إعادتها إلى مجراها الطبيعي السائد قبل وقوع الخطأ و توجيه الإساءة من طرف لآخر.

ص: 311

8. تحقیق معنی سوي لعبادة الله سبحانه و طاعته بنية إيمانية من خلال تقبله لهذا المبدأ، و العمل بروح عبادية، و بنية القربى لله سبحانه على تصحيح العلاقة مع الناس و أفراد المجتمع البشري في ميدان الحركة الاجتماعية.

9. تحقيق الأجر و المثوبة الإلهيين في عالم الآخرة للطرفين.. المعتذر في إقراره بالخطأ و الندم عليه بصدق و إخلاص و المعتدى عليه العافي عن الناس.

***

مكونات النص:

يُعدّ النص -بمحدودية كلماته و قلة ألفاظه- وحدة لفظية و معرفية، فأما وحدته اللفظية فمكونة من مقطعين أو جملتين لا تتجاوز ثمان كلمات، و تقول الجملة الأولى «لا يعاجل الذنب بالعقوبة» و تقول العبارة الثانية «و اجعل بينهما طريقاً للاعتذار»، أما وحدته المعرفية فتضطلع بموضوع واحد هو «الاعتذار» كسلوك ناضج و راشد و علاقته بعنصرين أساسيين هما الذنب و العقوبة و بتفسير المفاهيم الثلاثة المترابطة سنجد أنفسنا أمام موضوع موحد للنص.

و هذا النص الكريم ينطوي على مكونات أربعة:

1. تركيبة لفظية:

يلحظ القارئ أن هذا النص يتكون من ثمان كلمات متسقة نعتقد أنها تعبر عن نظرة معرفية و حركة عمل في الحياة الإنسانية قد تكون عائقاً للنمو الشخصي أو سبباً في تقدمه و قد تجسدت -كما أراد الإمام الحسن- أن يكون «الاعتذار»مبدأ تقدمياً في حركة الحياة الاجتماعية البشرية، و نهجاً تنظيمياً في الدين و قواعد السلوك و العلاقات البشرية، و بتأمل ذهني هادف نرى أن التركيبة اللفظية للنص تنقسم جزأين تتساوى كلماتها،

ص: 312

كلمات أربع متصلة مع بعضها تطلب من الفرد أن «لا يعاجل الذنب بالعقوبة»، بينما تطلب الكلمات الأربع المتأخرة في الجزء الثاني من التركيبة اللفظية للنص من الفرد أن يقابل تأجيل العقوبة إلى «تقبل الاعتذار» كقيمة أخلاقية اعتبارية، فقول الإمام الحسن السبط: «و اجعل بينهما طريقاً للاعتذار، و هو في نظر علماء الأخلاق و المعالجين النفسانيين طريق سوي هادف للتكفير عن الذنب أو لتعديل السلوك أو فتح المجال إعادة العلاقة لوضعها الطبيعي، و في ذلك دلالات إيجابية للنتائج الإيجابية المرغوبة و بخاصة في حقلي الصحة النفسية و السلوك الديني القويم، و على مستوى العلاقات الشخصية و الاجتماعية كذلك.

***

2. معرفة الفعل المراد تعديله بسلوك عبادي هادف

و هو كما يتجلى من باطن النص المتقدم معرفة فعل ظاهر في البنية المعرفية و السلوكية، و يتجسد هذا الفعل فيما هو واضح في «أمر.. و نهي»، ففي هذا النص القصير كما نلحظ «نهياً عن فعل» و في الوقت نفسه نلحظ كذلك «أمراً بفعل عبادي مضاد و يقابله»، فأما الأول فهو نهي عن معاجلة كل ذنب يصدر عن الأفراد بعقوبة دون إتاحة فرصة لتعديل السلوك و تحسينه أو تفسيره على الأقل من قبل المسيئين، و في ذلك تعميق للسلوك الخاطئ و استمرار للعلاقات غير السوية، و غير التوافقية بمعايير الصحة النفسية و محدداتها المهنية، كما أنَّ المعاجلة في نظر الإمام كعالم أخلاق و معالج للسلوك خطأ ديني يؤجج الأحقاد و يأخذ بالخطأ إلى طريق الإثارة الغرائزية المليئة بمشاعر الغضب و الرغبة في الانتقام، أما الفعل الآخر في النص و هو «انتظار الاعتذار من المخطئ» فيهتم بتوجيه الفعل نحو «الأفضل» في تعاملنا السلوكي مع

ص: 313

بعضنا، و يتأسس هذا الأمر على نجاحنا في القيام بفعل «النهي»، فإذا ما تمكن الفرد من ترك العقوبة و توقيعها على الآخرين بعد صدور الذنب مباشرة فإنه تلقائياً يتجه نحو اختيار الفعل الآخر و هو «الأخذ بالأمر» الذي ارتضاه الإمام الحسن علیه السّلام و هو «أن يتيح للاعتذار فرصته الكافية» في إدانة السلوك الخاطئ و تقويمه، و فتح الطريق لكلمة «آسف» أو «اعتذر » أو «أنا مخطئ» أو «أرجو الصفح عمَّا بدر من سلوك غير مقبول» لا في دائرة مفاهيم الدين فحسب، و لا في نطاق القيم الأخلاقية و الاجتماعية و منظورها الواسع كذلك، بل في عالم المعالجين و مباحث علم الأخلاق التي عادة ما تكون نظريات عمل تطبيقية توجه حركة الواقع البشري لا مجرد نظريات مثالية تحلق في خيالاتهم و أدمغتهم.

***

3. القدرات العقلية:

ينطوي النص الحسني -بصغر حجمه اللفظي- على بعض القدرات العقلية الأساسية عند الإنسان، و هي قدرات تفسح المجال للتفاعل الجيد معه كالقدرة اللفظية أو اللغوية و تعني هنا ما يتكون منه النص من «كلمات و ألفاظ ذات معاني هادفة» و معبرة، أما القدرة على الفهم اللغوي فهي عملية فهم ما تدل عليه كلمات النص و استيعابها و إدراكها، و كذلك «القدرة على الربط الإيجابي» بين كلمات النص و معانيه في آن واحد و السير بها من خطوة سابقة إلى خطوة إيجابية لاحقة وأيضاً توافر «القدرة العلاجية» في التركيبة اللفظية للنص لتعديل السلوك أو كفه، و تحتاج هذه القدرات منَّا إلى وعي عقلي من الفرد لمعرفتها و فهمها و استيعابها و التجاوب معها لضمان التعامل الحسن مع المضمون المعرفي للنص و التحرك الطبيعي في سياقاته التربوية اللازمة، و حينذاك تتجلى

ص: 314

في حركة تعامل الفرد مع النص الحسني مهاراته الخاصة لا سيَّما مع «من وقع عليه الخطأ» في السير بإجراءات المعالجة أو تعديل السلوك لتصحيح العلاقات بينه و بين المخطئ أو استبقاء منها ما يسهل الأمور في خطوة مصالحة و توافقية قادمة و مستقبلية.

***

4. نتيجة مرجوة:

وهي محصلة تعامل الفرد مع مفردات النص اللغوية و معانيه العقلية لتربط في حركته السلوكية و الوجدانية و المعرفية بين فعلي.. الأمر و النهي، فيتولد عنهما علاقة جديدة في الحياة البشرية، فالنتيجة التي يتوخاها النص الحسني هي النهاية التي تؤدي إلى تصحيح العلاقات و تعديل السلوك، و ضبط حركة حياتنا على قواعد الدين و مبادئ فن الصحة النفسية و معاييرها السوية و محدداتها المقبولة، و هذه النتيجة ليست محددة في النص مباشرة، و إنما وجدت في تعبير الإمام الحسن في القسم الثاني من النص حينما قال «و اجعل بينهما طريقاً للاعتذار»، فدعوته الكريمة لقبول الفرد الذي «وقع عليه الخطأ» عذر المخطئ بحقه تنطوي على النتيجة المأمولة التي يتوخاها عقلاء الناس من أية عملية «اعتذار» إيجابية تتم بين الأفراد، و يساند هذا الاستنتاج الواقع الإنساني و آراء المعالجين و علماء الأخلاق و نصوص دينية، و هنا يلتقي العقل البشري في استنتاجاته مع دعوات الدين من خلال مجموعة نصوص(1) متشابكة و متآزرة، و نذكر من هذه النصوص ما جاء في مصادر دراسة التراث السيكولوجي و الأخلاقي و المعرفي لأئمة أهل البيت علیهم السّلام كقول الإمام علي بن أبي طالب في كلمات معبِّرة و مؤثرة، و تستبطن المعنى ذاته:

ص: 315


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 6 ص 109- 116

- «اقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم(1)».

- و قوله: «اقبل عذر أخيك ، و إن لم يكن له عذر فالتمس له العذر(2)».

***

القابليات الثلاث:

الخطأ و الاعتذار و العفو قابليات ثلاث مركوزة في تركيبتنا الآدمية الداخلية و تكويننا الفطري، ف- «كل بني آدم خطّاؤون، و خير الخطائين التوابون» كما أفاضت في الإشارة إلى ذلك أحاديث جمة، و نحن نرث القابليات الثلاث بإرادة الله سبحانه و تعالى، فهو الخالق الصانع بإبداعه كل إمكانياتنا، و قد ركز هذه القابليات الثلاث و غيرها في داخلنا الفطري اختباراً لإرادتنا في فعل الخير و الشر، فقد أرادت مشيئته أن يجعل فعلنا حراً، و مستقلاً، فأمدنا سبحانه بالقدرات التي نتصرف فيها بوحي هذه الإرادة و بمقتضى حركة نوايانا الداخلية، فالقابليات من صنع الله تعالى، أما إدارة دفة حركتها صوب هذا الاتجاه أو ذاك فمن صنع أيدينا و تعبيراً عن إرادتنا انسجاماً مع منطق الآية القرآنية الكريمة: «وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّنَهَا (7) فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَنَهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَنَهَا (9) وَ قَدْ خَابَ مَن دَسَّنَهَا (10)(3).

القابلية للخطأ مركوزة في داخلنا، و طبيعتنا ناقصة، لذلك نخطئ، و تبقى هذه القابلية كامنة في كياننا حتى نبدأ خلال معاملاتنا الاجتماعية حركة أو أكثر تقتضي لأسباب عديدة الوقوع في الخطأ أو تتسبب فيه، و إذا ما حدث خطأ ما تبدأ قابليتنا الثانية

ص: 316


1- ميزان الحكمة، ج 6 ص 112
2- بحار الأنوار للمجلسي، ج 74، ص 164، و كتاب ميزان الحكمة للعلامة محمدي ري شهري، ج 6 ص 111
3- سورة الشمس / آيات 7- 10

«الرغبة في الاعتذار» في العمل بدوافع محفزة ممن وجهنا إليه الإساءة باي مستوى، و في أي مجال، و تتوقف حركة هذه القابلية على محددات معينة في موقف المسيء كقوة دافعه الديني في احترام الناس أو نتيجة وعيه و مراجعة سلوك الذات، و إحساسه بالندم، و تحسسه لكرامة الناس بنحو مساوٍ تماماً لشعوره الشخصي بالكرامة لنفسه.

و لدى جميع الناس كذلك بلا استثناء قابلية ثالثة، و هي واحدة من قائمة القابليات الكثيرة في الكيان الإنساني، و تعبر عن نفسها في مواقف مختلفة، و أراد المشرع التربوي الإسلامي إضعاف نشاط القابلية للخطأ، و إنماء القابليتين الثانية و الثالثة «للاعتذار و العفو» في سلوكنا اليومي، فهذه القابليات نزود بها منذ لحظة الولاة، و تظل كامنة، و غير نشطة في داخلنا حتى يظهر شيء ما يحركها في الحياة الاجتماعية للأفراد، فإذا ما أخطأ أحدنا، و هذا أمر واقعي في حياة الناس فإن القابليتين تعملان بمحفزات ذاتية و خارجية كالحوافز و التحذيرات الإلهية و الاجتماعية، و حينما تستجيب قابليتنا للاعتذار على إثر وقوع خطأ فإنه من المنطقي أن تستجيب قابليتنا للعفو، و تكون فعلاً واضحاً في حركة ذواتنا الاجتماعية حتى و إنْ ظهرت بعض العوائق، فهي لا تموت أبداً.

و مما ينبغي لفت النظر إليه أن ضمور هذه القابليات و نشاطها موصول بقابليتنا الكبرى على الخير و الشر كما أكدت ذلك نصوص المشرع الإسلامي في الكتاب و السنة و أقوال الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و قد تنبه الإمام علي علیه السّلام -كنموذج فحسب- على وجود هذه الثنائية في الطبيعة البشرية و تدافعها في داخل النفس و حركة الحياة فقال:

-«إن الله ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة و ركب في البهائم شهوة بلا عقل و ركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، و من غلبت

ص: 317

شهوته عقله فهو شر من البهائم(1)».

- و يقول علیه السّلام في نص آخر:

«الشر كامن في طبيعة كل أحد، فإن غلبه صاحبُه بَطَن، و إِنْ لم يغلبه ظهر(2)».

و قد اعتمد الإمام علي سيد الأتقياء في تأكيده على وجود هذا التكوين الثنائي في طبيعتنا البشرية و وجود قابلية ثنائية داخلية للخير و الشر في كياننا الإنساني على رؤية قرآنية و استلهام نصوصه الكريمة ذاتها، و قد استمد هذه الرؤية الواقعية من أقوال الله عزّ وجل في بعض النصوص و الآيات القرآنية المجيدة كما في قوله سبحانه:

«وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوّٮٰهَا(7) فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقُوٮٰهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّٮٰهَا(9) وَ قَدْ خَابَ مَن دسّٮٰها(3)».

«وَ هَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ»(4) .. يعني إما نجد و طريق الخير أو نجد و طريق الشر.

«إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا(5)».

«فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَ اتَّقَىٰ(5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ(7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنَىٰ(8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ(9) فَسَنُیسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ(6)».

«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا

ص: 318


1- الوسائل / باب 9 ج 2 / جهاد النفس، و كذلك ميزان الحكمة ج 1 ص 362
2- غرر الحكم و درر الكلم / ج 1 ص 121
3- سورة الشمس / آيات 7- 10
4- سورة البلد / 10
5- سورة الإنسان / 3
6- سورة الليل / 5- 10

يَرَهُ(1)».

***

توجيه الخطاب للإنسان لانجاز نمطين من السلوك العبادي:

يستبطن النص التربوي الحسني بلغته التربوية و الإسلامية الواضحة مفهوماً سيكولوجياً و أخلاقياً هادفاً، و توجيهاً عاماً لضبط حركة سلوك الأفراد و الجماعات في مختلف الظروف للقيام بأداء أربع مهام عبادية أساسية و محددة، و هما:

1. عدم التعجل في تطبيق مبدأ العقوبة على الفاعل.

2. يتاح له من قبل الشخص الذي تعرض للإساءة فرصة «الاعتذار»، و تفسير ما صدر عنه لإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي السابق على الفعل الخطأ.

3. إتاحة الفرصة للمخطئ في العودة عن خطئه، و إتاحة الفرصة له في التفكير بإيجابية مع الفرد التي أخطأ بحقه أو مع الجماعة التي أخطأ بحقها.

4. قيام الشخص المعتدى عليه بالعفو عن المسيء المعتذر بصفاء نفس، و لا تقريع و لا عتب و لا أدنى تشهير.

***

مفهوم الاعتذار في لسان العرب(2):

للاعتذار معانٍ مختلفة(3) تفهم في ضوء المعاجم اللغوية، و ما يعنينا -من كل هذه

ص: 319


1- سورة الزلزال / 7
2- لسان العرب لابن منظور، باب كلمة «عذر» بتصرف
3- أورد ابن منظور في لسان العرب معانٍ عدة للفظ «العذر» و «الاعتذار»، منها العذر بمعنى الحجة التي يعتذر بها، و الاعتذار بمعنى الدروس و محو أثر الموجدة، و الإعذار، أي أتى بعذر، و اعتذر من ذنبه تنصل منه كما أكده حديث شريف سنذكره في باطن هذا المبحث و هو قوله صلّی الله علیه و آله: «من أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك منه، محقاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض»، و قوله كذلك: «من لم يقبل العذر من متنصل صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي»، ميزان الحكمة، ج6 ص 112

المعاني- مفهومه القريب من موضوع مبحثنا هذا، فالعذر في مفهومه العام هو «الحجة التي يعتذر بها المرء» و جمعها أعذار ، و يقال أحياناً معاذير بمعنى الحجج، أي جادل المرء عن حجته و لو بأدنى حجة يعتذر بها أمام الطرف الآخر، و الاعتذار محو أثر «الموجدة»، و هو بمعنى الإعْذَار، و يوصف الشخص الذي إذا أتى بعذر بالمعتذر، و يكون محقاً أحياناً، و قد يكون في بعض الأحيان غير محق ، أي عذره غير مقبول أو لا عذر منطقي له، و من معانيه كذلك (اعتذر من ذنبه) .. تَنَصَّل منه .. أي بَرِأَ من فعله.

***

مسوغات العمل بمبدأ الاعتذار:

1. أننا بشر جبلت طبيعتنا الفطرية الكامنة في عالمنا الداخلي على النقص و الخطأ.

2. أننا -كذلك- مجبولون على طباع أصيلة في تركيبتنا كطباع الخير فينا، و أنَّ اعتذار الفرد «المسيء المخطئ» و «تقبله ممن وقع الخطأ عليه».. طبعان فطريان أصيلان في تركيبتنا الآدمية، فكما نخطئ و نرجو الصفح من الآخرين فكذلك علينا أن نعتذر و نقبل الاعتذار و نتفهم دوافع الناس فيما وقعوا فيه من خطأ و سوء تصرف، فإذن تنمية الطباع الشخصية بالاعتذار مسوغ للأخذ به كعادة سلوكية وجدانية في حركة الذات الإنسانية.

3. أن الأشخاص المعتدى عليهم أو الذين وقع عليهم الخطأ أو وجهت لهم

ص: 320

الإساءة هم أنفسهم يقعون في أخطاء بمواقف أُخر بل و يُسيؤون لبعض الناس أحياناً، و قد يحتاجون إلى الاعتذار للآخرين بقدر حاجتهم لاعتذار الآخرين لهم، و هذا يعني أن عملية «الاعتذار» حاجة إنسانية للجميع، و ضرورة لتطوير العلاقات بينهم و إزالة كل معوقات نموها نحو الأفضل.

4. أن لمبدأ «الاعتذار و قبول الصفح» نتائج إيجابية فاعلة للطرفين.. المخطئ، و الفرد الذي وقع السلوك الخاطئ، و أول هذه النتائج الشعور بالعزة و الكرامة و التقدير الإيجابي للذات، و ترميم العلاقات مع الآخر و إعادتها إلى مجراها الطبيعي السابق.

5. يحقق الاعتذار و قبوله إشباعاً لحاجات سيكولوجية كتحقيق الأمن الاجتماعي و النفسي و الشعور بالمودة و التآخي مع الناس، و الانتماء و الإحساس بتقدير اجتماعي، و إزالة شحنات انفعالية عالقة في النفس.

***

شروط تحقق الاعتذار:

حينما تتحقق بعض الظروف المحددة في أجواء صدور سلوك خاطئ و ظهور حالة وجدانية مليئة بشحنات انفعالية يكون الاعتذار ضرورة نفسية و شرعية، و يمكن أن نسمي هذه الظروف ب- «شروط الاعتذار» و هي كما يأتي:

1. وقوع «فعل خاطئ» يستوجب اعتذاراً من الشخص الفاعل كالسباب و الشتيمة و النظرة القبيحة التحقيرية و غير ذلك.

2. وجود «قناعة داخلية بالاعتذار بدافعية أخلاقية(1) و عبادية» محضة من طرفي

ص: 321


1- من المألوف في الحياة اليومية للناس أن يكون الاعتذار في بداياته عملًا أخلاقياً يتم عادة بنحو ودي بين طرفين كان أحدهما مخطئاً و الآخر ممن وقع عليه الفعل الخاطئ أو صدرت تجاهه الإساءة، و يفترض من سياقات النص التربوي الحسني المشار إليه في هذا المبحث أن تتم مبادرة الصلح من الفاعل المخطئ بالاعتذار لتصحيح سلوكه الخاطئ، و أن ينتظر الطرف الآخر المعتدى عليه الذي تعرض للإهانة تلك المبادرة الأولية لحل المشكلة قبل أن يتحول الموقف إلى إجراءات قانونية ألمحت إليها كلمات الإمام الحسن و لم تسقطها نهائياً.

المواجهة.. بين المسيء و الشخص المعتدى عليه بإساءة.

و يتجلى في تحقق أمرين هما:

أ- قبول طوعي للاعتذار من جهة الطرف الذي وقع عليه الفعل الخاطئ فألحق به المسيء ضرراً معيناً قد يكون مادياً أو معنوياً.

ب- توافر نية القربى لله تعالى، و هي نزوع داخلي للإقدام على فعل الاعتذار عن قناعة داخلية و بنوازع عبادية تبتغي تحقيق رضا الله سبحانه و تعالى، و إظهار نية صالحة في التفاعل مع أجواء الاعتذار بما يرضي الله تعالى.

3. و تمثل «التصفية الأخلاقية لآثار الفعل الخاطئ و تداعياته»، و العمل على تحقيق ذلك بطريقة ودية شرطاً .

***

خصائص الدعوة للاعتذار:

يمكن -بصورة مباشرة حيناً و غير مباشرة حيناً آخر- استنباط بعض الخصائص الواضحة في دعوة الإمام الحسن لممارسة الاعتذار عن أخطاء السلوك و تقبلها من المخطئين، و حددناها في الخصائص التالية:

الخاصية الأولى: طابعها الإنساني

ليست دعوة الإمام الحسن -كما نلحظ- موجهة للمؤمنين وحدهم، فالمعنى

ص: 322

البارز في المفردات اللفظية للنص دعواه علیه السّلام إلى تأجيل العقوبة على ذنب صدر من آخرين و إلى تقبل الاعتذار منهم، و هي في السياق العام للنص موجهة لكل إنسان بغض النظر عن اعتبارات المعتقد الديني و اللون و الانتماء الاجتماعي و السياسي، فكلنا كبشر خطّاؤون، و نحمل طبيعة ناقصة، حيث لم يحدد النص الحسني دعوة للاعتذار خاصة بجماعة أو قوم، فالإمام الحسن علیه السّلام يدرك أن الأخطاء التي تصدر عادة عن الأفراد ليست محصورة في نطاق محدد و لا علاقة لها بمعتقد أو اتجاه، و إنما يمكن أن تكون شاملة لمجالات عديدة من حياتنا، و بذلك فإن لكل إنسان قابلية لكي يخطئ فيعتذر بصرف النظر عن اعتبارات اللون و الجنس و الدين و المعتقد السياسي، و نوع المهنة و مجال العمل، و التوقيت الزمني، لذلك اختفت من النص مفردة «المؤمن» الدالة على توجيه الدعوة للمؤمن و حصرها في عالمه و إنما ترك الإمام الحسن علیه السّلام دعوته مفتوحة لتتسع لكل إنسان و لتلبس طابعاً إنسانياً.

***

الخاصية الثانية: ربانية الدعوة

مع تأكيد الإمام الحسن في نص المذكور على الطابع الإنساني في ممارسة الاعتذار لدى الناس فإن دعوته علیه السّلام لا تعني بالنسبة للإنسان المؤمن أن لا تعنيه، و أن لا يوظفها في نطاق الدعوة الربانية و الاستجابة لممارستها بهدفية القربى لله سبحانه و تعالى و نيل رضاه، فالاعتذار و تقبله عملية عبادية، و لن ينظر لها كذلك بمعيار جيد إلّا بربطها بالنظرة العبادية الربانية التي تستحق الأجر و المثوبة الإلهية، و هنا تكمن هدفيتها التي تبتغي تحقيق الرضا الإلهي كمدخل طبيعي لتحقيق أهداف المؤمن بوجه خاص و الإنسان بوجه عام تحقيق الإخاء الاجتماعي و استعادة قدر معين مطلوب من التوازن

ص: 323

النفسي للفرد، و قد تقدمت الإشارة إلى بعض الأهداف التي تجعل عملية الاعتذار وسيلة لأهداف ربانية و اجتماعية و نفسية، و بذلك فإن طبيعة دعوته للاعتذار ربانية محضة حتى و إن كانت موجهة لجميع البشر، فالمؤمن جزء منهم و مكلف بممارسة «الاعتذار و تقبله» بمعيار ديني يتقرب فيه لله سبحانه.

***

الخاصية الثالثة: الوسطية

هذه الخاصية -كما يعلم القارئ الكريم- من أبرز سمات المنهج الإسلامي في خطوطه العامة، و هو منهج يتبناه صاحب النص، و ليست الوسطية ميزة ينفرد بها هذا النص وحده، بل هي خاصية عامة في كل دعوة ربانية، و قد ارتكز منهج الله سبحانه على الوسطية بنحو يؤدي إلى إشباع متوازن للحاجات عند الإنسان دون إفراط أو تفريط، و كذلك فإن من الخصائص التي لحظناها في المضمون المعرفي العام لهذا دعوة الإمام الحسن السبط بن علي عليهما السّلام إلى الوسطية المتوازنة بين فعلي «الذنب و العقوبة»، و كلمة «بينهما» إشارة لهذه الوسطية، فالنص الذي نحن بصدد دراسته و تحليله لم يطالب بترك العقوبة نهائياً، و لا توحي كلماته بذلك، و لم يطالب في الوقت نفسه بنزع قابليتنا نحو الذنب و ارتكابه، و إنّما اعترف بوجود الاثنين «الذنب و العقوبة معاً» و جعل الاعتذار طريقاً بينهما تهذيباً لسلوك المسيء و إعلاءً لنفسية الشخص المعتدى عليه.

فالنفس البشرية بسبب ما جبلت عليه طبيعتها الداخلية من نقائص تميل إلى مقارفة الذنوب، و أن «العقوبة» هي إحدى وسائل المشرع التربوي الإسلامي و أساليبه و إجراءاته العلاجية لها، بيد أن النص الحسني لم يجنح إلى إهمال العقوبة أو المبالغة في استخدامها، و لم يدعو في الوقت نفسه إلى إهمال الذنوب أو التغافل عنها، لهذا نجد

ص: 324

النص الحسني قد وجد في «الاعتذار» إجراءً عملياً لحركة وسط معتدلة قائمة على مبدأ التوازن بين فعلي «الذنب و العقوبة» ، و جعله خطوة وسط بين ذنب لا يهمل و عقوبة مؤجلة لا يبالغ فيها، حيث يبسط الشخص المعتدى عليه جهوده لحل المسألة ودياً عن طريق الاعتذار كحل وسط يمحق العجلة في توقيع العقوبة، و يتيح للمسيء أن يعتذر فيعيد الاعتبار للشخص الذي وقعت عليه الإساءة الذي بدوره مكلف بالصفح الجميل و العفو عن المسيء.

***

الخاصية الرابعة: طابعها الاكتسابي

لا يولد المرء «مخطئاً»، و لا يولد الإنسان في الوقت نفيه معتذراً، و لا يولد كذلك طرف يتقبل الاعتذار دونها اكتساب من البيئة التي يعيشها المرء ، فالوقوع في الخطأ، و الإقبال على الاعتذار من الآخرين عن أخطاء السلوك، و تقبلهم من المخطئين علامات على وجود قابلية فطرية محايدة، فنحن نرث كبشر هذه القابلية فطرياً، و لكن الوقوع في الخطأ و الاعتذار، و قبوله من هذا الفرد أو ذاك لاعتذارات الناس هى أنماط سلوكية مكتسبة من واقع بيئاتنا الاجتماعية و مأخوذة من عالمنا الاجتماعي الذي قدر الله تعالى لنا العيش فيه منذ لحظة الولادة أو في مراحل لاحقة، فالإنسان يتعلم الخطأ من بيئته الاجتماعية، كما أن هذه البيئة تمده الفرد بالقدرة و الشجاعة على ممارسة الاعتذار حينما يسيء لأحد عامداً أو عن سهو و غفلة، أو تزيده عناداً و إصراراً و تمسكاً بمشاعر العزة بالإثم، و لا يختلف هنا مجتمع عن آخر إلّا بوعيه العقلي و نوع التربية الاجتماعية و مدى تفاعله مع قيم الدين المحفزة على العفو و الصفح و الاعتذار، و المستوى الحضاري للمجتمع.

ص: 325

326

الخاصية الخامسة: الحركة المتجددة للأخطاء و أساليب الاعتذار

لا تسير الحياة على نمط محدد أو وثيرة رتيبة، فهي بطبيعتها متجددة في حركتها، و متبدلة في أخطائها و أساليب معالجتها، و هذا ينسحب على أساليب الاعتذار، فطالما أن الأخطاء تتجدد -بنفس مظاهرها السابقة أو مختلفة في شيء ما- فإن أساليب الاعتذار تعاود ظهورها إما بعودتها برتابة أو بقدر من التجديد، و ربما يدخل هذا التجديد بصيغ غير مباشرة تدل على روح إبداعية، فالعبارات الدالة على الاعتذار قد يستعملها المخطئ برتابة سابقة، و قد يدخل «المسيء للآخرين» من أبواب مشوقة ليقدم اعتذاره بلا اهانات و خالية من مشاعر المذلة التي تخالج عادة مواقف الاعتذار.

***

الخاصية السادسة: تنوع الأخطاء و أساليب الاعتذار

تتسع الحياة كما نعلم لكثير من أخطاء السلوك سواء صدرت عن عمد أم عن سهو و ضعف في إمكانيات الذات أم جهلاً بنتائج الفعل، لكنها في الوقت نفسه تتسع لأساليب متعددة من الاعتذار ، و قد يكون هذا التعدد بعدد الأخطاء، فلكل «خطأ» اعتذاره الخاص و المهم أن ينجح المخطئ المعتذر مع الطرف الآخر على معالجة الخطأ باعتذار مناسب لجنسه يبدأ أولاً بشرح وجهة نظره للمعتدى عليه، فالخطأ الأخلاقي الشخصي يناسب اعتذار مختلف عن اعتذار في مجال نشاط آخر كالعمل السياسي أو النشاط الرياضي، و بذلك فإن صيغ الاعتذار ليست واحدة و ليست على نسق واحد حتى و إن تشابهت في إطارها اللغوي العام بقول المخطئ حين الاعتذار..

أنا أعتذر.

و أنا آسف.

ص: 326

و اعتذر عما بدر مني.

و أرجو المسامحة.

و أقدم أسفي.

و كلمات مماثلة، و بأية لغة متداولة توحي بالندم و الشعور بالخطأ، و الرغبة في تصحيح السلوك.

و هكذا دواليك يعبر المخطئ المسيء «المعتذر» بهذه الكلمات، و يعبر كل مخطئ بأساليبه الذاتية و لغته الخاصة التي يتحدث بها في كل مكان، و في أزمنة أو بكلمات مماثلة عن هذه الحالة الوجدانية - السلوكية.

***

الاعتذار بين المحفزات و التحذيرات:

إذا ما تأملنا النص التربوي الحسني موضوع مبحثنا في هذه الدراسة وجدناه متوازناً في قضية الاعتذار بين التحفيز و التحذير ، فالنص المذكور يتجه إلى تحفيز الإنسان على ممارسة الاعتذار من قبل المخطئ أولاً، ثم -ثانياً- تشجيع الطرف الآخر الذي وقع عليه الخطأ على قبول الاعتذار لحل أية خصومة طارئة أو موقف سلوكي خاطئ متجذر، و حذره من عدم قبول اعتذار مسلم أو إنسان آخر.

و في الوقت نفسه فإن النص لفت نظر الإنسان إلى التعجل في توقيع العقوبة قبل مبادرات الحل الودي، و في صدارتها اعتذار المخطئ عمّا بدر منه، و طلب العفو عنه، و مع أن هذه الإشارة واضحة في النص إلّا أنها خالية من تفاصيل موسعة، و لكنَّ إشارات مؤكدة من نصوص نبوية و أحاديث الأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلوات و السّلام

ص: 327

قد أبرزت موقفاً متوازناً و معززاً للتحذيرات و المحفزات في آن واحد كما يتضح من بعض النصوص التي سنعرضها.

تقول بعض النصوص الشريفة من أحاديث نبوية و أقوال بعض الأئمة الهداة المعصومين بالأمرين معاً:

التحفيز للناس -فرادى و جماعات- و ترغيبهم بممارسة الاعتذار من الآخرين عند إهانتهم و الإساءة لهم.

و التحذير من عدم الاستجابة لقبول الاعتذار من الغير.

***

أولاً: نماذج من نصوص التحفيز

كثرت -في هذا الشأن- كلمات أقوال المعصومين عليهم السّلام في هذا الشأن، و سنذكر كنموذج بعض أقوال الإمام علي عليه السّلام بوصفه ولداً و مربياً لابنه الإمام الحسن الذي تأثر بمعارفه و قيمه و اتجاهاته و سلوكياته.

قال الإمام علي:

«لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره ، و إِنْ علمتَ أنه كاذب(1)».

«اقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم، و ألقهم بالبشر تَمُتْ أضغانهم(2)».

«أعقل الناس أعذرهم للناس(3)».

ص: 328


1- ميزان الحكمة، ج 6، باب الاعتذار ص 111
2- المصدر السابق، ص 112
3- المصدر السابق، ص 112

«لا تعاجل الذنب بالعقوبة، و اترك بينهما للعفو موضعاً تحرز به الأجر و المثوبة(1)».

«إن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوَّلَ إلى يسارك، و اعتذر إليك فاقبل عذره(2)».

«احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، و عند صدوده على اللطف و المقاربة ... و عند جرمه على العذر حتّى كأنك له عبد، و كأنه ذو نعمة عليك(3)».

«لا يكونَنَّ أخوك على الإساءة أقوى منك على الإحسان إليه(4)»، و ليكن قبول اعتذاره إحدى صيغ الإحسان إليه، و عدم معاجلة المخطئ المسيء بعقوبته وجَدَ عنها المعتدى مندوحة صيغة أخرى للإحسان.

***

ثانياً: نماذج من نصوص التحذير

و بمقابل نصوص التحفيز على ممارسة «الاعتذار» للناس عما بدر من أخطاء ضدهم جاءت نصوص تربوية مضادة تحذر من عدم قبول أعذار الناس لا لتشجيعهم فحسب على هذه العادة السلوكية الإيجابية و التربوية، بل كذلك تشجيع «الناس المعتدى عليهم» على صفاء نفوسهم و تنقية علاقاتهم بالآخرين.

جاء في حديثه صلّی الله علیه و آله:

«من أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك منه، محقاً كان أو مبطلاً، فإنْ لم يفعل لم

ص: 329


1- محمدي الري شهري ميزان الحكمة، ج 6 ص 392
2- المصدر السابق، ص 111
3- نهج البلاغة، كتاب 33، و كتاب ميزان الحكمة، ج6، ص 111
4- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ج 2، ص 334، رقم الحديث 216

يرد عليَّ الحوض(1)».

و في حديث نبوي آخر قال صلّی الله علیه و آله: «من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل منه لم يرد عليَّ الحوض(2)».

و قوله صلّی الله علیه و آله: «من لم يقبل العذر من متنصل صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي(3)».

و يقول الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام في أحد أدعيته: «اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره.... و من مسيء أعتذر إلىَّ فلم أعذره(4)».

و يؤكد أبو عبد الله جعفر بن محمد الإمام الصادق علیه السّلام أن: «أنقص الناس عقلاً من ظَلَمَ دونه، و لم يصفح عمّن اعتذر إليه(5)».

«أعظم الوزر منع قبول العذر(6)».

***

الاعتذارات غير المقبولة شرعاً:

لحظنا مما تقدم من نصوص تربوية إسلامية موقف الترغيب و التشجيع للمشرع الإسلامي من مسألة الاعتذار للناس و جعله سلوكاً شائعاً بينهم، إذ تنطوي هذه النصوص على حالة ترغيب عامة لممارسة عادة «الاعتذار» عن الأخطاء بحق الآخرين

ص: 330


1- ميزان الحكمة، ج 6، باب الاعتذار ص 112
2- المصدر السابق، ص 112
3- محمدي الري شهري، ميزان الحكمة، ج6 ص 112
4- الإمام السجاد الصحيفة السجادية، دعاء 38، ميزان الحكمة، ج 6 ص 113
5- ميزان الحكمة، ج 6، باب الاعتذار ص 112
6- المصدر السابق، ص 113

و الإساءات لهم، كما انطوت هذه النصوص من زاوية أخرى على تشجيع الناس بلا استثناء على قبولهم لاعتذارات الآخرين إذ حذرت من تعنت بعض الناس في قبول «اعتذار» المسيئين، و رأينا في بعض كلمات النبي محمّد صلّى الله عليه و آله تشدده فيمن لا يقبل عذر مسلم، بيد أن المشرع التربوي الإسلامي وضع في المقابل بعض النصوص يمنع فيها حالات من الاعتذارات، و نهى عن ممارستها، و من تلك الاعتذارات غير المقبولة التي نهى عنها المشرع الإسلامي قد تجسدت في بعض نصوصه و منها ما سنعرضه للحالات الأربع من الاعتذارات الممنوعة:

الحالة الأولى:

و يصور أحد هذه النصوص حالة مرضية و عصابية لدى بعض الأفراد ممن لا يحبون لطبع لئيم في أنفسهم عدم قبول «اعتذار» من الناس رغبة منهم في إذلالهم أو تشفياً بكراهيتهم أو تلذذاً ببغضهم، فمثل هؤلاء الناس يودون في داخلهم بقاء العدوانية ضد الناس، لذلك لا يقبل اعتذاراً، و في مثل هذه الحالة جاء النهي بعدم الاعتذار لأشخاص لا يحبون أن تعتذر لهم لأنهم لن يقبلونه أبداً حتى لو تكرر مئات المرات، و من هنا قال الإمام علي علیه السّلام: «لا تعتذر إلى من لا يُحب أن يجد لك عذراً(1)».

***

الحالة الثانية:

و في هذه الحالة يطلب من شخص أطاع الله في أمر تقديم اعتذاره، فعلى سبيل المثال كشف أحد الموظفين المتدينين الذين يخافون ربهم تعالى حالة تزوير و سرقة مال لأحد المسؤولين و أبلغ المعنيين بالمؤسسة فغضب عليه هذا المسؤول، و توترت العلاقة

ص: 331


1- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم ج 2 ص 325، رقم الحديث 120

بينهما، فاقترح وسيط ثالث إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي و إلى سابق عهدها باعتذار الموظف للمسؤول عن فعله في اكتشاف سرقته للمال و التعهد بعدم العودة إلى هذا الموقف النبيل.

فهنا يطلب المشرع التربوي الإسلامي رفض هذا النوع من الاعتذار لأن ما فعله الموظف هو امتثال لأوامر الله في تتبع الفساد و محاربته و الاعتذار هو تراجع عن هذه الأوامر و معصية لله سبحانه ، لذلك جاء في أحد النصوص التربوية الإسلامية ما يمنع الاعتذار من أمر كان فيه لله طاعة و التزام بأوامره و نواهيه.

يقول الإمام علي في النص: «لا تعتذر من أمر أطعت الله سبحانه فيه.. فكفى بذلك منقبة(1)».

***

الحالة الثالثة:

يقول أحد النصوص الإسلامية أن بعض الناس يبخلون حتى بشيء يسير من العطاء، فيتعللون بالاعتذار و يفهم من النص أن «الاعتذار» حالة مرضية في مجال العطاء المادي، إذ يتعلل بعض الناس ب- «الاعتذار» حين يراد منه تقديم عطاء ء يسير و هنا يطالب أحد نصوص المشرع التربوي الإسلامي بأن يكون: «يسير العطاء خير من التعلل بالاعتذار(2)»، فالمشرع ممثلاً في قول الإمام علي علیه السّلام يرفض من خلال هذا النص اختلاق أعذار للهروب من العطاء حتى لو كان يسيراً، و دعا الناس إلى العطاء حتى بمستواه اليسير فإنه خير كما قال من «التعلل بالاعتذار» الذي يمثل في هذا الموقف أو

ص: 332


1- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ج 2 ص 331، رقم الحديث 188
2- الآمدي ، ج 2، ص 379، رقم الحديث 15

في موقف آخر مماثل حالة مرضية، إذ تتخذ الأعذار -هنا- للتنصل و الهروب من أداء المسؤولية الأخلاقية و الاجتماعية.

إنَّ هذه الأنواع من الاعتذارات غير مقبولة من الناحية الشرعية الإسلامية، و مرفوضة من قبل علماء الأخلاق و المعالجين السلوكيين، بل و لا تستجيب لمنطق العقلاء و هي أحرى أن تتنافى مع دعوة الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في الاعتذار التي أرادها أن تكون فعلاً «عبادياً» يحقق للأفراد و الجماعات غاياتهم النبيلة من حسن علاقات و نقاء مودة، و فهم و تقارب بينهم، و تصحيح أخطاء السلوك غير السوي.

***

الحالة الرابعة:

هناك أشخاص من يعبر عن هذه الحالة العصابية لأسباب عديدة بعضها متلبس بالنفاق، و بعضها الآخر يلف النفس بمرض نفسي كحالة الشعور بالنقص أو تلذذ بعض الناس في استصغار نفوسهم للآخرين و لاسيما العتاة الطغاة، و تتمثل هذه الحالة في اعتذار بعض الناس من غير حصول ذنب فعلي لأنَّ فعل ذلك يعني أن الفرد الذي يعتذر بلا ذنب قد أوجب على نفسه الذنب، فهذا النوع من الاعتذار يجسد حالة عصابية في معايير الصحة النفسية، و هو من الناحية الدينية محرَّم شرعاً، و قد عبرت كلمات أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب بدقة تامة عن الموقف الديني من جهة و من موقف علماء العلاج النفسي فقال علیه السّلام: «من اعتذر من غير ذنب أوجب على نفسه الذنب(1)».

طبيعة الإساءة و طبيعة الاعتذار

ليس الاعتذار حالة وجدانية محضة، بل موقف عقلي مصحوب بشحنة انفعالية

ص: 333


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 6 ص 115

سوية أو مرضية و طبيعة «الاعتذار» مرتبطة بطبيعة الفرد نفسه التي يحددها التعامل الشخصي بين المسيء و المعتدى عليه فإن كان المسيء المعتذر «لئيماً و منافقا» فطبيعة اعتذاره لؤم و نفاق و ندم غير صادق، و حينما يكون المعتذر بسجية طيبة و خيرة فإن اعتذاره تعبير عن ندم سوي في داخله، و صادق يريد به تجاوز الخطأ و محو آثار إساءة صدرت منه فاستشعر الندم و هذا ما جعلنا نعتقد أن الاعتذار بهذه الحالة العقلية و الوجدانية علامة نضج عقلي و انفعالي لأن داخل المسيء انطوى على اعتراف صادق فتبعته حالة ندم صحية و سوية تصاحبها توبة نصوح لله تعالى.

و في سياق التركيبة الداخلية للمسيء المعتذر تتحدد استجابة المعتدى عليه إمّا بقبول «اعتذاره»، و لن يتم ذلك إلّا حينما يتحسس الطرف المعتدى عليه ندماً فعلياً للمسيء، و إمّا يرد «اعتذاره»، و يتحرك صوب العقوبة العاجلة حينما يتبيَّن له.. أي للشخص المعتدى عليه بإساءة.. لؤم المسيء و نفاقه و تكرار خطئه ضده، فالاعتذار المتكرر لشخص تمت الإساءة إليه هو في حقيقته لؤم و نفاق، و عدم شكر قبول المعتدى عليه الذي يعتبر «نعمة» منَّها الله على المسيء ففرَّط فيها، و عاد بلؤمه و تقصيره إلى تكرار إساءته بنحو فهمها المعتدى عليه و كل المحيطين به على أن تكرار إساءاته قد اصطبغ بالنفاق و اللؤم، و هذه العلامة فارقة بين المؤمن و المنافق كما جاء على لسان الإمام الحسين عندما حذر و قال: «إيَّاك و ما تعتذر منه فإنَّ المؤمن لا يسيء و لا يعتذر، و المنافق كل يوم يسيء و يعتذر(1)»، أمّا الإمام الحسن علیه السّلام فيرى «اللؤم أن لا تشكر النعمة(2)»، و الاعتذار أحد مصاديقه، فحين يقبل الناس منك اعتذاراً فاعلم بأن الله سبحانه منَّ عليك ب- «نعمة».

و يلحظ من التركيبة اللفظية للنص التربوي الحسني عن موضوع «الاعتذار» تأكيد

ص: 334


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 178
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 168

الإمام الحسن السبط بصورة مباشرة على الطبيعة الخيرة للشخص المعتدى عليه، لذلك دعاه علیه السّلام إلى استثمار هذا العنصر الإيجابي لديه في فحص موقف المسيء الذي يتراوح بين لؤم المنافقين و إخلاص النادمين، و من هنا حث الإمام الحسن الشخص الذي تقع عليه الإساءة أن يتفهم بطبيعته الخيرة دوافع الإساءة و يتيح لصاحبها أن يراجع موقفه، و يمنحه فرصة الاعتذار لكشف نواياه الداخلية، فإذا ما ألف منه تكراراً في الإساءة إليه فهمه كشخص لئيم أو منافق أو عدواني، و أما إذا استطاع المسيء تجاوز إساءته بعلاقات جديدة خالية من الإساءة و اللؤم و النفاق عرفه نادماً مخلصاً، و ربما جعله صديقاً حميماً، و أعانه على تحسين سلوكه و تنمية شخصيته.

و ربما هذا ما قصده و عناه الإمام الحسن السبط بن علي عليهما أفضل الصلاة و السّلام في نصيحة مباشرة لبعض وِلْدِه: «إذا استنبطت الخبرة، و رضيت العثرة، فآخه على إقالة العثرة، و المواساة في العسرة(1)».

الاعتذار و العفو في حركة أخلاقية:

كما تقدم قوله فإن الاعتذار في معناه البسيط عملية إقرار من المسيء بخطئه و تحسسه داخلياً بالندم عمّا صدر منه من ذنب، و سعيه لإنهاء الحساسية، و حالة الاستياء الناجمة عن التصرف الخاطئ، و هو، أي الاعتذار مقدمة أولية لاتخاذ قرار من الشخص الذي وقعت عليه الإساءة ينهي حالة الاستياء بما يسميه المشرع الإسلامي بالعفو أو الصفح، و إسقاط الضغائن بين الطرفين، و إذا كان الاعتذار ليس بالضرورة صادقاً، و هو أمر قد لا يؤدي إلى عفو نهائي فإن المشرع الإسلامي يدعو الطرفين إلى تقديم اعتذار صادق و تحقق عفو فعلي.

ص: 335


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 168

و قد عزز المشرع التربوي الإسلامي كليهما بنصوصه الكثيرة، و أوردنا عن الاعتذار بعضها و ترغيب المشرع فيها و تحذير من لا يفعل، أما العفو فهو سلوك روحي و أخلاقي بسط المشرع الإسلامي آيات القرآن و النصوص النبوية و أحاديث المعصومين ليعززه في نفوس الناس، و من ثمّ يحقق العفو للمعتذر الصادق غايته التربوية المأمولة، و يغرس في نفوس العافين إحساسات العزة و الكرامة و مشاعر الصفاء النفسي و تنمية قدراتهم الروحية على كظم الغيظ، و تحسس محبة الله سبحانه لهم كما أفصحت عن ذلك آيات عديدة(1) من القرآن الكريم، فالاعتذار و العفو يتساندان في حركة أخلاقية موحدة أهداف النظرة العبادية التي يتوخاها المشرع من علاقة الناس مع بعضهم.

أما الجانب الروائي في موضوع العفو و ثمراته النفسية و الأخلاقية فقد سردت مصادر علم الحديث الكثير من الروايات نذكر منها -كنماذج- قول رسول الله صلّی الله علیه و آله:

«تعافوا تسقط الضغائن بينكم».

و قوله: «العفو لا يزيد العبد إلّا عزّاً، فاعفوا يعزكم الله».

و قول الإمام علي علیه السّلام: «قلة العفو أقبح العيوب، و التسرع إلى الانتقام أعظم الذنوب».

و في نص آخر: «و لا تندمن على عفو، و لا تبجحنَّ بعقوبة».

و قول الإمام الصادق علیه السّلام: «الصفح الجميل أن لا تعاقب على الذنب».

ص: 336


1- انظر على سبيل المثال ما جاء في سورة الشورى آيتي، 40، 41، و سورة النساء في آية 149، و سورة آل عمران آية 134، و البقرة رقم 109، و المائدة في آية 17، و آية 199 في سورة الأعراف، و آية 23 من سورة الرعد، و 86 من سورة الحجر، و آية 99 من سورة المؤمنون، و النور 23، و الفرقان 65، و القصص 55 ، و السجدة 35، 36، و الزخرف 90، و الجاثية 14، و التغابن آية 15

و قول الإمام الرضا علیه السّلام: «العفو من غير عتاب» في تفسير قوله تعالى: «فَأَصْفَح»(1).

***

تأجيل العقوبة

تتجلى أمام الباحث و القارئ معاً في القسم الأول من النص الحسني المذكور دعوة واضحة و مكشوفة إلى ضرورة تأجيل العقوبة ضد المسيئين، و تتوقف عملية «تأجيل للعقوبة» على مسألة حيوية، و في غاية الأهمية و هي ضرورة الاستماع للمسيء حتى يفهم منه عذره، فيقرر الطرف الآخر الذي تعرض للإساءة ما ينبغي له اتخاذه من قرار بعد استماعه للمسيء.. إمّا بقبول اعتذاره أو مطالبته بحقه في الاعتذار إليه أو إتاحة فرصة له لتعديل سلوكه و تنقية العلاقات الأخوية بين الطرفين.

و يفهم من كلمات الإمام الحسن في القسم الأول من نصه المذكور، و كذلك يفهم من القسم الثاني القائل «و اجعل بينهما طريقاً للاعتذار» أن المطالبة بعقوبة المسيء حق للمعتدى عليه، و لكن بعد الاستماع إليه ليفهم عذره، و يتاح للطرفين تفسير الموقف عن قرب، و تعبير «لا تعاجل الذنب بالعقوبة» هو في حقيقته إقرار «بمبدأ العقوبة» أولاً ، و ثانياً تأجيلها لإتاحة فرصة «اعتذار المسيء عن خطئه» و الاستماع لوجهة نظره فيما بدر منه من إساءة، و بعملية التأجيل يتم تنقية العلاقات كخطوة أولية قبل تنفيذ العقوبة كخطوة لاحقة، فإن هذا المقطع من النص الحسني «لا تعاجل الذنب بالعقوبة» قد أقر بنيته اللغوية و تركيبته اللفظية «أربع قضايا» أساسية واضحة و متلازمة في ترتيبها الزمني و الأخلاقي و القانوني، و قضية خامسة لم تذكر مباشرة.

ص: 337


1- ميزان الحكمة، ج 6، باب العفو ص 365- 372

و هذه القضايا هي كما يأتي:

- وقوع ذنب أو خطأ أو إساءة متعمدة أو غير متعمدة من شخص ضد شخص آخر أو جماعة أو من كليهما ضد شخص أو جماعة أخرى.

- استماع المعتدي عليه لوجهة «نظر المسيء» بعد صدور الإساءة منه، و كشف مسوغات الإساءة و بيان أسبابها.

- دعوة «لاعتذار المسيء» بعد أن يفسر موقفه و يشرح وجهة نظره في سلوكه الخاطئ من أجل إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي.

- خيار «العقوبة» و هو قرار يتخذه من وقعت عليه الإساءة بعد مرور عملية الإساءة بخطوتين سابقتين هما:

أ- الاستماع لوجهة نظر المسيء.

ب- و اعتذاره الفعلي.

أمَّا القضية الخامسة التي لم يذكرها النص أو لم يستبطنها مباشرة فهي «إثابة الطرفين» المسيء على جرأته في طلب الاعتذار ممن أخطأ بحقه، و إثابة الطرف الثاني المعتدى عليه لأنه استمع لوجهة نظر المسيء ، وَ قَبِلَ اعتذاره، و عفا عنه أو صفح عنه صفحاً جميلاً، و هذا ما أشار إليه نص مماثل لنص الإمام الحسن السبط، فكلمات تحمل المعنى ذاته و تتضمن القضايا الخمس، يقول والده الإمام علي علیه السّلام: «لا تعاجل الذنب بالعقوبة، و اترك بينهما للعفو موضعاً تحرز به الأجر و المثوبة(1)»، و بهذا فإن الأمر

ص: 338


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 6 ص 392 نقلا عن كتاب «غرر الحكم و درر الكلم» للعلامة عبد الواحد الآمدي التميمي

الوارد في النص بفعل معين و النهي عن فعل آخر هو عملية عبادية من وجهة نظر المشرع التربوي الإسلامي، و الامتثال في تنفيذ الأمر و النهي يترتب عليه إثابة و أجر للمكلف .. إنْ كان مسيئاً فاعتذر ، و إنْ كان معتدى عليه فتقبل عن طيب خاطر و بنية القربى لله اعتذار المسيء، و بخلاف ذلك يتحول عدم الامتثال لله سبحانه لمعصية

تستوجب العقوبة الإلهية.

***

المعاني الأخلاقية و التربوية و السيكولوجية للاعتذار:

تشتمل دعوة الإمام الحسن علیه السّلام على ممارسة عادة «الاعتذار» و «تقبله من الطرف الآخر» على معانٍ مهمة ذات صلة بالنمو الشخصي للفرد، و تطوير أنماط العلاقات الاجتماعية بين المجتمع الإنساني، و هذا ما يمكن بيانه من وجهة نظر تربوية من ثمرات «الاعتبار و تقبله» كمبدأ أخلاقي و روحي و سلوكي بين الأفراد و الجماعات على حد سواء.

و من هذه المعاني:

1. أنَّ الاعتذار و قبوله على حد سواء هو علامة على حالة نضح نفسي طبيعي للمخطئ المعتذر، و الطرف الآخر الذي يتقبل الاعتذار لأن فعل الطرفين كان قراراً مستقلاً، و سيكون هذا القرار عقلانياً رشيداً و شجاعاً.

2. أن الاعتذار يعني إقراراً من الأفراد بأن أي خطأ منهم لا يصلحه غير الاعتذار و تعديل السلوك بما يرضاه الطرفان (المخطئ، و من وقع عليه الخطأ)، و فيها اختيار عقلي واضح لقرار سليم في إدارة السلوك مع نفسه.

3. تعني عملية الاعتذار مراجعة ناقدة للسلوك الصادر عن الطرف المخطئ، كما

ص: 339

يعني من جهة أخرى تفهم نفسية الطرف الآخر حتى لا يتكرر الخطأ ذاته أو خطأ من نوع آخر من السلوك الإنساني.

4. و يدل الاعتذار على قدرة بعض الأفراد الناضجين الذين يمتلكون الجرأة في الاعتذار على حسم موفق لحالة الصراع النفسي التي تكتوي بها نفوسهم، فالوقوع فى الخطأ حتى إذا كان فاحشاً يُولّد قلقاً داخل النفس و يوقعها في تدافع بين الرغبة في التكفير عن الخطأ و بين موانع الاعتراف بالتقصير أو صعوبة تفهم كوامن خطئه ضد الآخرين، و حين يتمكن الفرد من التغلب على هذه الحالة، و هو أمر ممكن، يكون حسمه موفقاً إزاحة الألم الداخلي عن نفسه، و إدخال السرور على قلب الآخر.

5. وفق ما أسميناها العلاج بطريقة «الأضداد» يتقابل سلوك الاعتذار من طرف مع سلوك «تقبل الاعتذار من طرف آخر» تمت الإساءة إليه، و يدل موقف الطرفين على رشد و تعقل و نضح نفسي، إذ قام المعتذر بتجاوز حالة «الخطأ» إلى حالة «الموقف الصحيح»، فإذا كان المعتذر قد ارتكب فعلاً خاطئاً كالسب و الشتيمة و النميمة و القول القبيح ضد شخص فالاعتذار هنا ليس بلفظ محدد، و إنما بتحول نفسي و سلوكي يستأصل عاداته في السب و الشتيمة و غيرها من كيانه النفسي، و يلتحم بالقول الليّن و الممارسة الصحيحة مع متطلبات الاعتذار كموقف سلوكي جديد بتقمص سلوك مضاد، و إذا لم يتمكن الفرد أو الشخص من حسم نزعته للإساءة للآخرين و الاكتفاء بالاعتذار القشري الذي لا يسمن و لا يغني من جوع فإنه يتحول إلى منافق، و يصبغ نفسيته بالنفاق، و لهذا جاء في حديث للإمام الحسين بن علي عليهما السّلام محذراً من تكرار اعتذارات ميتة في تأثيرها، و لا تجعل المسيء يغير من سلوكه، و لا يسمو بنفسه فقال ما نصّه: «إيَّاك و ما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيئ و لا يعتذر، و المنافق كل يوم يسيء

ص: 340

و يعتذر(1)».

6. يفترض في عملية «الاعتذار» تحرير النفس من مشاعر الإثم و حالة الاستياء الناجمة عن وقوع الخطأ، فقبول «مَنْ وقع عليه الخطأ» لاعتذار المخطئ يخفف غلواء هذه المشاعر و يريح نفسيته من ضغط الندم و تبكيت الضمير، كما أنَّ عملية التحرير الداخلي من وزر الخطأ و تداعياته على الحياة الشخصية و علاقاته الاجتماعية تفتح المجال للتعامل من جديد مع المخزون القيمي للفرد، فيعود بعملية الاعتذار إلى الحب و المودة و صفاء النفس، و الشعور بالانتصار على الذات ،و غيرها فالنص الديني -كما تقدمت الإشارة هنا و هناك- يؤكد على استمتاع المعتذر بالإخاء الإنساني، و من هنا قال الإمام علي بن أبي طالب علیهما السّلام في هذا الشأن: «اقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم(2)».

7. هناك أشخاص بين الناس تغلب عليهم مشاعر العزة بالإثم، و تتملكهم هذه الإحساسات المرضية بنحو يغلق طريق «الاعتذار» في بدايات الأمر، و لكن بتشجيع الأفراد على تغيير موقفهم من مسألة الاعتذار يحملهم تدريجياً على تقبل الاعتذار من المخطئ، و يفتح الاعتذار بعد تدربه عليه باباً للتخلص من تبعات الذنب و التخلص

التدريجي من ضغوطات مشاعر العزة بالإثم و مقاومة رواسبها الساكنة في داخل النفس، فالاعتذار -كأية عادة سلوكية- أمره صعب، و بدايات الاستجابة له أكثر صعوبة، و هو لتعديل السلوك جهد نفسي صعب في أية بداية و ممارسة، فالتغلب على الشحنات الانفعالية المقاومة للاعتذار ممكن كما تدل الوقائع، و كما تحث النصوص الدينية الإسلامية، و لهذا فإن الدعوة إليه واقعية.

ص: 341


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول ص 178
2- ميزان الحكمة، ج 6 ص 112

342

8. و بالمقابل فإنّ تشجيع الناس على تقبل الاعتذار و تشجيع ممارسته كما دعا إلى ذلك الإمام الحسن السبط في نصه المتقدم هناك محاولة هادفة لتحرير النفس من أحقادها و من التسرع المألوف في حياة كثير من الناس - بصورة انفعالية- في توقيع العقوبة بعد صدور كل خطأ أو ذنب، و النظر بواقعية بعيدة ما أمكن عن الرغبة المريضة في الانتقام كهدف أولي في حركة رد العدوان عن الذات من طرف خارجي عنها، و الاعتذار كما نفهمه هو بوابة هذا التحرير و طريق وقف عملية توجيه اللوم إلى المسيء و الحد من حالة التأزم بين المسيء و المعتدى عليه الذي وقعت عليه الإساءة.

9. تحرير النفس من النفاق كما جاء في حديث الإمام الحسين السابق الذكر، فقد قال في تحذير واضح بعدم تكرار المسيء لأخطائه حتى لا يتحول اعتذاره إلى كذب و نفاق و هزء بالناس لا يتوقف ، يقول علیه السّلام: «إياك و ما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء و لا يعتذر، و المنافق كل يوم يسيء و يعتذر(1)».

10. و هناك قيمة تربوية فعالة جديرة بالأهمية و لفت النظر إليها حتى و إن لم تبرز واضحة في باطن النص الحسني مباشرة و هي مسألة «الإثابة» للطرفين.. المسيء و المعتدى عليه بإساءة على حد سواء، و قد أشرنا إليها على عجل في كلام سابق، ف- «إثابة الطرفين» و مكافأتهم عملية معززة للسلوك الإيجابي و كف للاستجابة السلوكية الخاطئة غير المرغوبة في قوانين علم النفس الوضعي و لدى المشرع التربوي الإسلامي، و تعطى الإثابة للمسيء على جرأته في طلب الاعتذار ممن أخطأ بحقه و تعدّه النظرية التربوية عملاً عبادياً يقوم به المكلف، بينما يثاب الطرف الثاني المعتدى عليه لأنه قام هو الآخر بأفعال تعد في نظر المشرع الإسلامي سلوكاً عبادياً كالاستماع لوجهة نظر المسيء،

ص: 342


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 178

و قبول اعتذاره، و العفو عنه أو الصفح عنه صفحاً جميلاً، و هو أخوه في الدين و نظيره في الخلق، و هذا -كما تقدم حديثنا- ما ذكرناه في نص مماثل لنص الإمام الحسن السبط و كلماته الحكيمة التي انطلقت من والده الذي احتضنه بالعلم و المعرفة و تعهده بالتربية الميدانية، فوالده الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام قال كلمات تحمل المعنى ذاته بما لفظه: «لا تعاجل الذنب بالعقوبة، و اترك بينهما للعفو موضعاً تحرز به الأجر و المثوبة» أو «تحرز به الآخرة و المثوبة»، و في ذلك إشارة إلى القضايا الخمس التي أوضحتاها سابقاً و هي «وقوع الفعل المسيء، و تأجيل العقوبة، والاستماع لوجهة نظر المسيء، و الاعتذار و قبوله، و الإثابة» على الأفعال السوية من هذه القضايا، كما أن مضمون النص الحسني مستمد تماماً من قول الإمام علي علیه السّلام، و يؤكد هذا التداخل الفظي على وحدة الشعور الوجداني و التفكير المعرفي و الممارسة التربوية التطبيقية.

11. تجنب العقاب الإلهي، و قد وردت نصوص مما تقدم تحذر من نتيجة غير مأمونة في الآخرة كعدم ورود الشخص الحوض على النبي و عدم نيل شفاعته، و تحذير هذه النصوص بأن من أعظم «الوزر منع قبول العذر».

***

ص: 343

ص: 344

الحلقة التاسعة

اشارة

الانفعالات النفسية و آثارها

في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي

ص: 345

ص: 346

الانفعالات النفسية و آثارها في خطاب الإمام الحسن التربوي

مدخل:

يشهد الأفراد على -مختلف أعمارهم و أعراقهم- في حياتهم اليومية استجاباتهم المتنوعة لمجموعة من الانفعالات السوية و غير السوية المرتبطة بسيكولوجيتهم الذاتية و بتكوينهم الداخلي و يتقلبون في تشكيلاتهم بمثيرات متعددة، و هذه الحياة الانفعالية كما تثبت حياتنا اليومية لا تسير على وتيرة واحدة و لا تنتظم على نمط معيَّن، فحياتنا الاجتماعية و الوجدانية عبر تاريخ طويل مليئة بخبرات و تجارب مستمرة و متكررة و متنوعة، فالانفعالات النفسية أحوال وجدانية متبدلة و حالات شعورية متعددة تمر بها النفس البشرية من حزن و فرح و سرور و غضب و حنو و دهشة و غيرها، فكل انفعال من هذه الأنواع هو في حقيقته حالة شعورية واضحة لدى تجليها في الموقف الانفعالي بنحو واضح يدركه كل الناس فوراً كإدراكهم لمظاهر الفرح و الحزن و الغضب و غيرها بينهم، و بالتأكيد فإن لكل انفعال حالته الشعورية الخاصة به التي تميزه عن غيره، و عادة ما يصاحب كل حالة انفعالية تغيرات داخلية و فسيولوجية و خارجية ظاهرة و مؤثرة في شخصية الفرد، و تترك هذه التغيرات أثرها الإيجابي و السلبي على الأفراد في وظائفهم الداخلية و سلوكهم الخارجي مثل خفقان ضربات، و تعبيرات ملامح الوجه، و تصبب العرق، و رعشة اليدين، و اضطراب عملية التنفس، و زيادة سرعته و ارتفاع ضغط الدم، و التغيرات في نسبة السكر في الدم، و زيادة إفراز الغدد و غيرها من التغيرات الداخلية

ص: 347

و الخارجية الشديدة و الخفيفة على حد سواء.

و مما يلحظ أن التغيرات الجسمية المصاحبة للحالات و الاستجابات السلوكية الانفعالية تتوزع على جوانب ثلاثة مترابطة كما يقول الأطباء و علماء النفس المحدثين، و أول هذه الجوانب الجانب الشعوري لدى الفرد كإحساسه بانفعال معين مثل شعوره بالفرح أو الحزن أو الخوف أو البكاء، أما الجانب الآخر فهو ما يحدث في الجانب الفسيولوجي الداخلي من تغيرات كالتي تصيب وظائف الجسم الداخلية مثل اضطرابات دقات القلب و خفقانها بسرعة غير منتظمة، و ما يتم في عملية تنفس الفرد، و غيرها من التغيرات المصاحبة للانفعال، و تظهر الاستجابة الانفعالية في جانبها الظاهري الخارجي كتعبيرات الوجه من ابتسامة و تجهم و إيماءات و تصبب العرق و التغير في ملامح الوجه، و غالباً ما تكون هذه التغيرات في هذا الجانب دليلاً على معرفة نوع الانفعال و مستوى شدته، فالناس يشاهدون الموقف الانفعالي في مشهد خارجي ملحوظ.

***

الانفعال في معجم لغوي:

بعض المعاجم اللغوية العربية التي بأيدينا لم تذكر هذا اللفظ و لم نعثر عليه لسوء الحظ، و قد يكون تقصيراً في جهدنا ، أمَّا البعض الآخر من هذه المعاجم فذكر المصطلح هكذا «انفعل انفعالاً، اشتد تأثره(1)»، إذ ذكرته في صيغة المفعول المطلق، و المهم أنها أشارت إليه، بيد أن هذا اللفظ جاء في كلام للإمام الحسن بن علي حينما قال في دعائه: «أنت المستعان، و عليك التوكل، و أنت وليُّ من توليت، لك الأمر كلّه، تشهد الانفعال

ص: 348


1- جبران مسعود، رائد الطلاب، باب انفعل، ص 161

و تعلم الاختلال(1)».

***

مفهوم الانفعال

حدد علماء النفس أسوة -بغيرهم من العلماء- المفاهيم التي يستخدمونها عادة في دراساتهم و أبحاثهم و من ذلك تعريفهم لمصطلح و مفهوم الانفعال بأنه مجموعة استجابات سيكولوجية و فسيولوجية و سلوكية ظاهرة تؤثر في جميع أوجه النشاط التي يقوم بها الكائن الحي، فالانفعال النفسي كما في تعريفات علماء النفس المعاصرين هو «تغير مفاجئ يصيب الكائن الحي فتظهر آثاره في وظائف جسمه الداخلية و الخارجية، و تتجلى آثار الاضطراب و الاستثارة على السلوك الخارجي للفرد»، فالانفعال النفسي في معناه العام هو كلّ «تغير ملحوظ يصيب كلّ كائن حي فيترك بصماته على وظائفه الداخلية، و يتجلى في السلوك الخارجي الملحوظ للفرد» بنحو يكون قابلاً للمشاهدة و القياس و التحكم.

فحين يستثير شخص بوجود مثير معيَّن يجد نفسه أما خيارات متعددة من الاستجابات قد يتسم بعضها بطابع سوي ومناسب لنوع الموقف الانفعالي، وربما يأخذ بعضها طابعاً خاطئاً، فهناك من يختار موقف الحليم والسيطرة الداخلية على المثير کمواجهة مثير غاضب أو مثير حزين أو مبكي، بينما يستجيب آخر بحسب عادته في الميل لسلوك الحمقى بطريقة غير سوية، فيختار استجابة غير سوية، ويقيم الدنيا ولا يقعدها كرد فعل على ما أثار غضبه، ويملأها غضباً وحماقة وعدواناً، وهذا يختلف بالتأكيد عن غضب الإنسان للحق ومبادئه التي يؤمن بها، فمن لا يغضب لنفسه، ومن

ص: 349


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 56، ص 105

جفوة الآخرين له فهو ذليل.

***

الانفعال طاقة سيكولوجية

زود الله سبحانه و تعالى عباده على مختلف أعراقهم و أجناسهم بمجموعة طاقات كالغرائز و الدوافع و الانفعالات اللازمة لنموهم الارتقائي، إذ تنتظم حياة الإنسان في تطوره النمائي و الارتقائي على مقومات دفع و ضبط ضرورية لاستمرار ديمومتها کالانفعالات بمختلف أنواعه و ما استودعهم في فطرتهم من رصيد قيمي أخلاقي يوجه حركة هذه الانفعالات و يحكمها وقت الحاجة فالانفعالات -كما نفهمها- هي طاقة نفسية تنشط سلوكنا كأفراد، فيزيد ذلك من خصوبة الخيال، و يمكنهم من تنشيط تفكيرهم، و تسهيل تدفق المعاني و الأفكار كما في انفعال الفرح، و تنشيط الحركة و الميل للعمل، و زيادة طلاقة اللغة كما في انفعال الغضب، و تنشيط قوة الإرادة و التصميم على تحدي المصاعب و العزم على تخطيها بالرغم من مخاطر الانفعالات النفسية أحياناً.

فالفرد لا يمكن أن يقوى على تلبية حاجته للطعام من دون انفعال الجوع، و لا يمكن مقاربة زوجته مجرداً من انفعال الحب و الرغبة في الجنس، و لا تستطيع المرأة اشباع حاجتها للأمومة و تؤدي دورها في هذا المجال طالما أنها لا تستطيع الانفعال بحنو و حب و عطف على وليدها، فالانفعال طاقة فعالة ضرورية لحركة الكائن الحي و حياته، و هكذا فالحياة البشرية بدون طاقة الانفعالات -حتى بسلبياتها أحياناً- فهي رتيبة، و ليست بذي قيمة، بل و تصبح جامدة، خالية من الاستثارة اللازمة للنشاط الإنساني سكوناً و اضطراباً.

***

ص: 350

شروط تحقق الانفعال

اتفق علماء النفس على أن الانفعال لا يحدث من دون عناصر حيوية يعدونها شروطاً ثلاثة لحدوثه في حياتنا السيكولوجية و هي كما يأتي:

1. وجود مثير

و هو قوة داخلية أو خارجية تستثير شعورنا كأفراد، و تنبه و عينا لوقوع شيء ما كتذكره حادثة مؤلمة أو ظهور حيوان مفترس أمامنا يتهدد وجودنا بالخطر، و يتحدد نوع الاستجابة الانفعالية علي وفق لنوع الاستثارة و حسب الموقف النفسي للفرد و نوع القوة السيكولوجية لديه، بحيث تكون استجابة الهرب إنْ كان جباناً أو المواجهة إن كان شجاعاً أو يمتلك أدوات المواجهة كالسلاح ، و قد يكون المثير ألماً من داخل جسد الفرد فيبدأ في الصراخ و الألم و تحريك بعض أعضاء الجسم كاليدين و الرجلين.

2. جهاز عصبي لكائن حي

و الشرط الثالث هو وجود كائن حي يملك جهازاً عصبياً يستقبل المثيرات، و يرسل الاستجابات الانفعالية، فالجمادات لا تنفعل و لا تستجيب لمثير ما، و كذلك النباتات، و لا تكون الجمادات و النباتات مهيأة و مستعدة لاستقبال مثير أو مستعدين لإرسال استجابة ، فالكائنات الجامدة، و النباتات لا تمتلك جهازاً عصبياً قادراً على

استقبال المثيرات الداخلية و الخارجية و إرسال الاستجابات الانفعالية، فالاستجابة السلوكية التي تحدث لدى الكائن الحي تمر من خلال الجهاز العصبي.

3. استجابة انفعالية

و يسميها بعض علماء النفس المحدثين في كلماتهم، و بعض تعبيراتهم السيكولوجية ب- «رد الفعل» الصادر عن الكائن الحي بعد صدور المثير، فيتصرف الفرد بسلوك

ص: 351

معيَّن كالهرب من مواجهة أسد مفترس و هائج، و يصاحب هذه الاستجابات تغيرات شعورية كالشعور بالخطر، و كذلك تغيرات جسدية كخفقان دقات القلب، أو صدور سلوك خارجي معبِّر كخوف الفرد و صراخه استجابة استثارة انفعالية، فإذا ما اكتملت هذه العناصر في حركتها، و تفاعلت هذه الشروط مع بعضها حدث تحقق الانفعال النفسي بتشكيلات مختلفة و متنوعة لتؤدي وظائفها في الحياة البشرية كإشباع حاجاتها عن طريق حركة الانفعالات، و يتم ذلك بجانبيها الإيجابي المفيد في نمو الشخصية، و جانبها السلبي الذي يتهددها و يعوق حركتها الطبيعية.

***

أنواع الانفعالات:

قسم بعض علماء النفس كالعالم الأمريكي و اطسن الزعيم المؤسس للمدرسة السلوكية الانفعالات إلى أقلية فطرية و أغلبية مكتسبة، فالنوع الأول من الانفعالات، و نقصد الفطرية، يولد الكائن الحي مزوداً بها، و هي عامة مشتركة بين جميع أفراد النوع الإنساني، و هي محصورة و محددة بعدد أقل من عدد أصابع اليدين لارتباطها بالدوافع الفطرية، و يدرج في هذا النوع ثلاثة انفعالات هي الخوف و الغضب و الحب كما ذهب إلى ذلك واطسون الأمريكي مؤسس المدرسة السلوكية و اعتبرها من الانفعالات الأساسية الفطرية أكثر من كونها مكتسبة.

أمَّا النوع الآخر فأغلب انفعالاته مكتسبة يتم تعلمها و اكتسابها من البيئة و مؤسساتها و ظروفها، فنحن كما يقول أنصار هذا الاتجاه نتعلم الفرح و الحزن و الغضب و التقزز من خبراتنا اليومية الأولى مع كثير من المواقف الجديدة اللاحقة لها التي لم تثر فينا الانفعال من قبل، و هي انفعالات تختلف باختلاف بيئات الأفراد و ثقافاتهم، و لا يمكن حصرها

ص: 352

کالانفعالات الفطرية الثلاثة عند زعيم السلوكيين، حيث تختلف من بيئة إلى أخرى، و باختلاف الأفراد.

بيد أن هذا التقسيم الثنائي لم يتضح كصورة واحدة لدى غالبية علماء النفس، و لم يحظ بقبولهم بموافقة كاملة، بل أدرجه بعضهم ضمن عملية «نمو الانفعالات» لا تصنيفها كأنواع إلى فطرية و مكتسبة، لهذا لم يأخذ حظه في الانتشار العلمي بين مصادر الدراسات السيكولوجية، و لم يثبت كتصنيف علمي، بينما برز تقسيم آخر بنحو واضح و موسع و بارز بالنسبة للدوافع النفسية، لهذا لن نستخدمه في توزيع الانفعالات النفسية، و لكن علماء آخرين مهتمين بالدراسات النفسية قد قسَّموا الحالات الانفعالية الظاهرة في حياة الناس إلى نوعين أساسين، و يندرج في كليهما مظاهر انفعالية يطلقون عليها تسميات تميز كل انفعال عن غيره من الانفعالات الأخرى و لاسيما في ظروف الاختلال و الاضطراب الانفعالي الذي يؤثر على راحة النفس و استقراها.

. انفعالات ثائرة و نشطة و قادرة على تهييج الحالة الشعورية و تنشيطها لدى الفرد و من هذه الانفعالات النفسية كالغضب و الفرح و السرور و البكاء، ما يترتب عنها من سلوك عنيف و تدميري أو غير منضبط كما في انفعال الفرح.

. و النوع الآخر من الانفعالات السيكولوجية ما يسميه بعض علماء النفس في مصادرهم و أدبياتهم بالانفعالات الفاترة الخامدة التي تجعل الفرد منقبضاً في داخله، و منكمشاً على نفسه و منكفئاً على ذاته كانفعالي الحزن و الخوف، و ما يترتب عنهما من تهيج انفعالي يرتد على الفرد في داخله فيتركه مشلولاً بقدر، و عاجزاً عن العمل الطبيعي فاقداً للقدرة على مواجهة الأحداث و الأمور حتى لو كان ذلك لمدة مؤقتة يمكن بعدها من العودة إلى وضعه الطبيعي متى تمكن من معالجة سلوكه بأداء أفضل.

ص: 353

أولاً: الانفعالات الثائرة النشطة

و هذا النوع يحدث لدى الكائن و بخاصة الإنسان تحت تأثير مثير قوي، و يحدث لديه استجابة نشطة، و سلوكاً مهيِّجاً يؤثر على تفكيره و مشاعره و رؤاه و جسمه، و يندرج تحت هذا النوع كما تقدم انفعال الفرح و ما يتصل به من فرح و سعادة، و كذلك انفعال الغضب، و البكاء إذا أصبح عويلاً، و يصاحب هذه الانفعالات المهيّجة كانفعال الفرد الذي يسيطر عليه التهيج(1) فيبرز في نشاط مخيلة الإنسان و جسمه و تفكيره، مما يجعله يؤدي إلى ظهور صور متنوعة و معانٍ تفيد في توليد أفكار جديدة و إنتاجها قد تمهل السبيل للإتقان و الاختراع و الابتكار.

أما انفعال الغضب، و هو من الانفعالات الثائرة المدمرة الذي يحدث أثراً مهيَّجاً، و عند ظهوره و تهيّجه خاصة في صورته العنيفة يخلو الذهن من الصور و المعاني الدقيقة الواضحة، و يؤثر على مخيلة الإنسان و تفكيره، و يصبح المرء الغضوب عاجزاً إلى حد ما عن التفكير المنظم، و القول و العمل الجيد، و يجعله عاجزاً عن الفهم للمواقف المحيطة به و إدراك الظروف المصاحبة لهذا الانفعال، و ربَّما لا يتمكن من تذكر آثار ما فعله الفرد الغاضب أثناء مدة غضبه، و تتداخل معلوماته السابقة بالآنية حتى يهدأ و يستقر.

***

ص: 354


1- یعتقد بعض علماء النفس النمو أن بداية نمو الحالة الانفعالية لدى الإنسان تكون من ظهور حالة انفعالية غير واضحة في أول أمرها و يطلقون عليها اسم التهيج أو عدم الارتياح، و يعتبرونه تهيجاً عاماً و غير منظم فالأطفال يتميز بحالة من التميز العام، ثم يتفرع منهما انفعالات متضادان هما الانشراح و الضيق، و بعد ذلك كما يرون ينقسم كل منهما لانفعالات نوعية أكثر، فمن الانشراح تكون المحبة و البهجة، بينما تكون انفعالات الغضب و الاشمئزاز من انفعال عام هو الحسرة، ثم تأخذ الانفعالات الآخر في الظهور بعد.

ثانياً: الانفعالات الخامدة أو الفاترة

و هي كما ذكرنا انفعالات تجعل الفرد خامداً في سلوكه، منكمشاً على نفسه حينما يواجه الموقف الانفعالي الحزين أو حين ينتابه الخوف، إذ يصبح الفرد المنفعل خائفاً أو حزيناً في حالة جمود و ركود فيبطئ تفكيره و تجمد حركاته و ترتعد فرائصه، أو حين تنتابه الرعشة، و تزول عن ملامح الوجه تعابير الفطنة و اليقظة، و يظهر المنفعل الحزين أو الخوف كالشخص التائه، و قد يظهر فاقداً للتفكير مؤقت لحظة خوفه أو حزنه العميق.

و لهذا فإنَّ نفراً من الخائفين، و من استبد بهم طوق الحزن في دائرتهم يبقون تحت وهج انفعالي الخوف و الحزن و كأن الخطر يداهمهم و لا يفارقهم، و يتهددهم كل حين بالخطف بلا رحمة، و لا يعني هذا أنه لا وجود لانفعالات خوف و حزن حقيقية، و إنما للأسف تنحرف بوصلتهما تحت تأثير عوامل عصابية، و ذات طابع مرضي، فتظهر أشكال منها كالخوف من قط أو الخوف من رؤية مكان عال، أو حزن على فقد مبلغ مالي بنحو مبالغ فيه، و مع فإنّ الخوف و الحزن (1) ليسا دائماً انفعالين سلبيين كما يذهب في ذلك بعض علماء النفس التحليلي و المرضي، فثمة إيجابيات ينطوي عليهما هذان النوعان من انفعالاتنا البشرية، بل حتى الخوف في طابعه المعتدل يشجع الفرد من الاستجابة

ص: 355


1- هناك بالتأكيد أنماط من الخوف و الحزن ذات طابع سوي، تمكن الأفراد من تكوين استجابات صحيحة، فخوفهم من الله عزّ و جلّ و حزنهم على مستوى أدائهم العبادي يحملهم على ممارسة عملية نقد ذاتي لأنفسهم، و الخائفون من ربهم يمتنعون عن فعل الأفعال الإجرامية في السر و العلن، و يحملهم التفكير الصحيح على الشعور بالخطر متى أدركوا أنهم ما يزالوا مقصرين في انجازاتهم العبادية تجاه الله سبحانه و تعالى، و تجاه عوائلهم و الناس مجتمعين فالخوف و الحزن يساعدهم على توليد مواقف عمل تقدمية تزيد من حركتهم بإيجابية، و صناعة مستقبل أفضل، فالأمن و الحزن محاولة لتأمين مستقبل مأمون، فهم حريصون على الاستمرار في تطوير أعمالهم العبادية و البلوغ بها للمستويات التي يرونها أكثر قرباً من الله ، و أكثر ظهوراً في التعبير عن إمكانياتهم في خدمة أنفسهم و المجتمع و عامة الأفراد المحيطين بهم.

لفعل معين كهرب الفرد التي هي في نهايتها استجابة لنجاته على سبيل المثال، و طلب الحماية من خطر قاب قوسين أو أدنى، و بالتالي يدفع عن نفسه البلاء.

***

الانفعالات في نصوص الإمام الحسن علیه السّلام:

و قد تسللت الثقافة الانفعالية بمختلف تشكيلاتها و أنواعها في مصادر ثقافية بشرية و دينية و فلسفية على امتداد التاريخ الإنساني، فلا يخلو مصدر من الإشارة إليها إجمالاً و تفصيلاً، فالحياة الانفعالية جزء من تكويننا الثقافي الإنساني، و لا يمكن إهمالها لا في مصدر ثقافي و لا دهاليز تاريخ او حياة شعب أو تجربة بشرية، و لا في نشاط عملي هنا و هناك.

و كانت إشارات الإمام الحسن علیه السّلام إحدى مظاهر تراثه الثقافي و الروحي و الأخلاقي، و قد أشار علیه السّلام في عدد من نصوصه التوجيهية إلى أنماط متنوعة من الانفعالات النفسية، و أنه أتى على ذكر هذه الأنماط من وحي علمه و خبرته بالنفس الإنسانية و مساربها، و من تجارب حياته الشخصية في مجالاتها المختلفة، و من تربيته الخاصة، فقد ذكر علیه السّلام انفعالات الحب و الحنو و الفرح و السرور و الغضب، و انفعالات الحزن و الخوف و البكاء و غيرها، حيث جاءت في كلمات في خطاب روحي حيناً، أو في جمل أو مقاطع لغوية من نصوص قصيرة، و بيَّن فيها دور الانفعالات في تسيير الحياة الشخصية للفرد بصرف النظر عن نوعه و جنسه و بيئته و العوامل المؤثرة في نموه خلال مراحل من عمره.

***

مصطلح الانفعال في دعاء القنوت:

ص: 356

مصطلح «الانفعال» شائع في مصادر العلوم الإنسانية لاسيما في كتب علم النفس و دراساته المتعددة، و هو لفظ علمي متداول منذ تاريخ بعيد للدلالة على مفهوم محدد في ثقافتنا و في ثقافتنا السيكولوجية المعاصرة، و حاولنا تتبع ذكره في بعض المصادر الروائية الإسلامية التي حفظت تراث الإمام الحسن علیه السّلام، لكننا لم نعثر عليه سوى في نص واحد هو «دعاء القنوت»، و أنه لم يأت ذكره إلّا مرة واحدة في هذا الدعاء، و قد اقتطعنا الكلمات التالية من الدعاء المذكور، قال الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في دعائه المذكور مخاطباً الله عزّ وجل: «أنت المستعان، و عليك التوكل، و أنت وليّ من توليت لك الأمر كلّه، تشهد الانفعال و تعلم الاختلال(1)».

و يعني أن الله سبحانه و تعالى يشهد بإرادته كخالق لهذا الوجود بكل مكوناته انفعال جميع مخلوقاته بخاصة الحية و تأثرها بغيرها فالله سبحانه رب العباد شاهد على انفعال جميع الكائنات، و هو يشهد على تأثرها به و بما خلق من مخلوقات، و يشهد سبحانه على انفعال الناس به سبحانه و بأنفسهم، و بالمخلوقات الحية، و يعلم عزّ و جلّ بما يجري في هذا العالم و الروحي من اختلال و عدم تآزر الظواهر في عالم الإنسان، و عالم الكون المادي، و إذا صحّ فهمنا للمحتوى العقلي للعبارة أو الجملة السابقة فإنَّ مدلول لفظ «الانفعال» أوسع من معناه المتداول في مصادر حياتنا الثقافية و بخاصة كتب علم النفس، فكل الكائنات لها انفعال خاص يشهد عليها رب العباد، و لكن انفعال الكائنات الحية تختلف عن انفعال الكائنات الجماد العجماوات، و نحن لا نشهد و لا ندرك سوى الانفعال لدى الكائن الحي الذي نتحسسه بأنفسنا، أمّا رب العباد سبحانه فشهادته حاضرة عزّ و جلّ في كل زمان و مكان على جميع مخلوقاته حيَّة و جامدة على حد سواء، و من ثم فكلام الإمام الحسن باجتهادنا الشخصي يمتد للكائنات و المخلوقات

ص: 357


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 56، ص 105

بلا استثناء.

***

نماذج من الانفعالات في نصوص الإمام الحسن و كلماته:

و نقسم هذه النصوص القليلة المختارة لنوعين من الانفعالات النفسية في موضوعات مختلفة كمعرفة الله سبحانه و تعالى و محبته و عبادته و طاعته و بث الهموم إليه و الاستعانة به، و الزهد في ملذات الدنيا، و كذلك في قضايا التعلم الإنساني و قضاء حاجات المؤمنين المعوزين و التهنئة للآخرين بمواليدهم الجدد و المزاح و المدح و تمييز الآراء في مواقف الغضب و الهدوء، فاختلطت إشاراته عن الانفعالات بحديثه عن هذه القضايا، فالمعرفة الإنسانية متشابكة و متداخلة كدليل على وحدة التوجيه الحسني و ترابطه و ترابط الشخصية كوحدة، و قد وضعنا خطوط تحت الألفاظ التي تدل على الحالات الانفعالية سواء كانت من الانفعالات الثائرة و النشطة أو من الانفعالات الخامدة أو غير النشطة.

***

و النوعان الأساسيان للانفعالات النفسية هما:

اولاً: الانفعالات الثائرة أو النشطة

1. انفعال الفرح و السرور

قال علیه السّلام:

. و عن فوائد الاختلاط بالعلماء و ما ينتج عنها من بروز بعض الانفعالات النفسية قال الإمام الحسن بن علي علیه السّلام: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال

ص: 358

لسانه، و فتق ما رتق من ذهنه و سرَّه ما وجد من الزيادة في نفسه، و كانت له ولاية لما لا يعلم، و إفادة لما تعلم(1)».

. و في نص عن موقف تطبيقي قال الإمام الحسن السبط بن علي عندما: «أتاه رجل في حاجة» و طلب معونته فقال علیه السّلام له: «اذهب فاكتب حاجتك في رقعة(2)، و ارفعها إلينا نقضها لك، فرفع إليه حاجته فأضعفها له، فقال بعض جلسائه: ما أعظم

ص: 359


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 53، و كتاب الروائع المختارة للسيد الموسوي، رقم الحديث 45، ص 134
2- قدر الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام أن طلب الحاجة و قضاؤها مباشرة و بلغة صريحة و علنية أمر في غاية الصعوبة بالنسبة لإنسان كريم في نفسه، و رأى الإمام الحسن أن هذا الطلب ينطوي على حالة من الذل يجرح مشاعر الإنسان و يحط من كرامته و بخاصة إذا كان أمام الملأ، و تقديراً للسائل أو طالب الحاجة و حفاظاً على كرامته و ستراً لمعاناته الخصوصية طلب علیه السّلام من السائل أن يكتب ما يريد من حاجته في رقعة ليكون طلبه مخفياً عن علم الناس و أخبارهم و تطاول ألسنتهم، بحيث لا يعلمه سوى الله و الإمام و طالب الحاجة نفسه، فامتثل السائل لأمره علیه السّلام، فكتب حاجته، و بقي الطلب بينهما لا يعلمه سوى الله سبحانه و تعالى، و بهذه الطريقة ستر الله سبحانه و تعالى بتصرف الإمام على الرجل الذي أتاه في حاجته و أسدل عليه باباً منيعاً، و كف ألسن الناس عن القيل و القال، و حجب تماماً أية فرصة للمن و التعيير، و علّمهم أدب حفظ كرامة الناس لبعضهم بعضاً، كما قلّل الإمام الحسن علیه السّلام من تحسس طالب الحاجة للمذلة، و ما بذله من إراقة ماء وجهه، و هي بالتأكيد مشاعر ثقيلة على سيكولوجية السائلين و المحتاجين و من ثم فإنّ استخدام «الرقعة» كوسيلة إخفاء معاملة حققت غاياتها بحجب نوع الطلب للأبد عن الحاضرين الجالسين، وإبقائه مخفياً بين الرجل و الإمام، و هذا يجعل الإحساس بالذل الناجم عن إراقة ماء وجهه لا وجود له أو في مستوى الصفر أو على أقل تقدير ضعيفاً يتفهم فيه السائل إنسانيته، و كان توجيه الإمام علیه السّلام باستخدام الرقعة كآلية إنما لإضفاء النزعة الإنسانية على فعلنا تجاه من يطلب معونة من غيره و لرفع الحرج تعدّ نفسيته، و قد جعلها تتحسس الشعور بالكرامة بديلاً عن تحسس مشاعر المذلة التي هي كما عبّر الإمام تعتبر أعظم على نفس الإنسان السائل من أي معروف يبذل له ردّاً على طلبه.

بركة الرقعة عليه يا بن رسول الله؟ فقال علیه السّلام: بركتها علينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أنَّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(1)».

. و سئل الحسن بن علي بن أبي طالب علیهم السّلام: ما الموت الذي جهلوه؟ قال: «أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جهنَّم إلى نار لا تبيد و لا تنفذ(2)».

. «إذا ولد لأحدكم غلام فأتيتموه فقولوا له : شكرت الواهب، و بورك لك في الموهوب، بلغ الله به أشده، و رزقك برّه(3)».

. و قال الإمام الحسن علیه السّلام في خطبة معروفة ينتقد فيها على خصومه من أهل الكوفة: «و أيّم الله لا رأيتم فرحاً، و لا عدلاً أبداً مع ابن آكلة الأكباد و بني أمية، و ليسوا منكم سوء العذاب حتى تتمنوا أن يليكم عبد حبشي مجدع، فأفِّ لكم، و بعداً، و ترحاً يا عبيد الدنيا و موالي الحطام(4)».

. و انتقد الإمام الحسن السبط بن علي علیه السّلام في نص من كلماته القصار سلوك

ص: 360


1- معالي السبطين للشيخ مهدي المازندراني ص 19، و كتاب «كلمة الحسن» للسيد الشيرازي ص 231- 232
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 53
3- الموسوي، الروائع المختارة رقم الحديث 14، ص 128
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 23، ص 48

بعض الناس في الإكثار من المزاح كأحد مظاهر السلوك الساخر، فقال علیه السّلام في تصوير هذا السلوك غير المرغوب فيه و طرح في باطنه علاجه: «المزاح يأكل الهيبة، و قد أكثر من الهيبة الصامت(1)».

. و سأل الإمام الحسن الزكي بن علي علیه السّلام رجل أن يكون صديقاً له و جليساً فقال علیه السّلام له: «إيَّاك أن تمدحني، فأنا أعلم بنفسي منك أو تكذبني، فإنه لا رأي لمكذوب، أو تغتاب عندي أحداً(2)».

***

2. انفعال البكاء

خطب الإمام الحسن مباشرة بعد استشهاد والده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام و هو يرثيه، فذكر فضل أبيه، و بعد أن أنهى خطبته: «خنقه البكاء، فبكى و بكى الناس معه(3)»، و في رواية أخرى لناقلها قوله عنه: «و خنقته العبرة، فبكى و بكى الناس معه(4)» أي غطّ الإنسان بدمعته و حبست العبرة صوته.

***

3. انفعال الغضب

بالرغم من شيوع العلاقة بين الغضب و التغيرات النفسية و العقلية و الجسمية للفرد في مصادرنا الروائية إلّا أننا لسوء الحظ لم نعثر على نصوص عن الغضب و تأثيراته

ص: 361


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 36، ص 133
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 24، ص 130
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 8، ص 20
4- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 198

سوى نص واحد تناقله صاحب البحار ، ثم نقله علماء آخرون بعده، و في هذا الصدد قال الإمام الحسن بن علي علیه السّلام في نص قصير و دقيق عن انفعال الغضب: «لا يعرف الرأي إلّا عند الغضب(1)».

***

ثانياً: الانفعالات الخامدة أو الفاترة

1. انفعال الخوف

. و قال الإمام الحسن علیه السّلام عندما جاء إليه: «رجل من الأثرياء، فقال: يا بن رسول الله إني أخاف من الموت، فقال علیه السّلام له: «ذاك لأنك أخَّرت مالك، و لو قدمته لسرَّك أن تلحق به(2)».

. و قال علیه السّلام: «لا تأتِ رجلاً إلّا أن ترجو نواله، أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه(3)».

. و مرّ علیه السّلام على ميت يراد دفنه فقال: «إن أمراً هذا آخره، لحقيق بأن يزهدَ في أوله، و إنَّ أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف من آخره(4)».

***

انفعال الحزن

ص: 362


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 243، ميزان الحكمة، ج 7، ص 243 نقلا عن بحار الأنوار، ج 78، ص 113
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 20، ص 129
3- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 198، و كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الحدیث 31، ص 132
4- كلمة الحسن ص 53

. و قال الإمام الحسن علیه السّلام: «من عرف الله أحبَّه، و من عرف الدنيا زهد فيها، و المؤمن لا يلهو حتى يغفل، و إذا تفكر حزن(1)».

. و قوله في رجل أتاه لطلب حاجة رداً على سؤال أحد الجالسين معه: «و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد ، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(2)».

. و في علاقة بين الله سبحانه و عبده الإنسان قال الإمام الحسن بن علي علیه السّلام عن عملية بث هموم الإنسان و أحزانه لله تعالى و إبداء الفاقة له من خلال الأدعية: «يا بن آدم، من مثلك و قد خلَّى ربّك بينه و بينك؟ متى شئت أن تدخل إليه، توضأت، و قمت بين يديه، و لم يجعل بينك و بينه حجاباً و لا بوّاباً، تشكو إليه همومك و فاقتك، و تطلب منه حوائجك، و تستعينه على أمورك(3)».

***

أولاً : جدولة نماذج من الانفعالات النشطة أو الثائرة في نصوص الإمام

الصورة

ص: 363


1- الموسوي، روائع المختارة، رقم الحديث 18، ص 129
2- الشيخ مهدي المازندراني، معالي السبطين، ص 19، و كتاب كلمة «الحسن للسيد الشيرازي، ص 231- 232
3- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 41، 246

الصورة

***

ثانياً: جدولة نماذج من الانفعالات الخامدة أو الفاترة في نصوص الإمام.

الصورة

ص: 364

الصورة

***

تحليل عام للنصوص السابقة

تتكون عملية التحليل من خطوتين هما:

1. تسجيل ملاحظات على هذه النصوص الكريمة.

2. تفسير المادة الثقافة و المعرفية و معالجتها.

أولاً: ملاحظاتنا العامة على النصوص

سجلنا على المحتوى المعرفي العام للنصوص التي أخذناها من المصادر الروائية

ص: 365

لتراث الإمام الحسن الثقافي و الأخلاقي بعض الملاحظات، و هي كما يأتي:

1. تمثيل هذه النصوص للنوعين الأساسيين سواء من الانفعالات الثائرة أو الخامدة على حد سواء، و قد تفرع عن كليهما انفعالات فرعية بنحو يتوافق مع ما عثرنا عليه من نصوص في انفعالات القسمين.

2. أن أغلب انفعالاتنا في قائمة الانفعالات النفسية المشار إليها هي في عالم دنيانا القصير، بيد أن بعضها يمتد لعالمنا الآخر بعد مماتنا و فراقنا لهذه الدنيا، و ذلك انسجاماً مع نظرة المسلم للدنيا و الآخرة و امتدادهما مع بعضهما كزمان واحد، كقوله علیه السّلام: «أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جهنَّم إلى نار لا تبيد و لا تنفذ(1)».

3. بعض النصوص الحسنية في موضوع الانفعالات قد تداخلت فيها مجموعة الانفعالات الفرعية، فاشتمل بعض هذه النصوص على نوع واحد كما في حديث الغضب و حديثه عن محبة الله و الزهد و اشتمل بعضها الآخر على أكثر من انفعال من القسمين كما في حديث خوف الرجل الثري من الموت، و قد اجتمعت بعض الانفعالات الفرعية في نص واحد و بلغت ثلاثة انفعالات متنوعة كما في نص الرقعة لرجل أتاه في حاجة فأمره علیه السّلام بكتابة ما يحتاجه في رقعة، و هي أشبه بورقة استمارة بحث.

4. تعكس بعض نصوص الإمام الحسن بن علي عن الانفعالات علاقة إيجابية أو سلبية مع التغيرات الجسمية المصاحبة لوقوع الانفعالات و حدوثها كما يشير إلى ذلك حديث الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام لرجل أتاه في حاجة فطلب منه أن يكتب حاجته في رقعة و يرفعها إليه، و في بكائه علیه السّلام و بكاء الناس في رثاء أبيه الإمام علي بعد استشهاده

ص: 366


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 53

المفجع في اليوم الواحد و العشرين من رمضان سنة 40 من الهجرة الشريفة.

5. جسد أحد النصوص من نصوص الإمام الحسن بن علي و أقواله انفعالاً خاصاً به عليه أفضل الصلاة و السّلام، بينما اختصت نصوص أخرى بانفعالات خاصة بالناس و أصحابه القريبين منه، و كان حديث «بكائه» هو المعني بذلك.

6. تضمنت كل النصوص المتقدمة شروط الموقف الانفعالي التي تحدث عنها علماء النفس، و إذا ما طبقنا ذلك على النص الذي أشار لانفعال بكاء الإمام على سبيل المثال وجدنا هذه الشروط متوافرة، فتذكره لأبيه و ذكر سيرته هو مثير هذا الانفعال، و هو الشرط الأول، و ان عملية بكاء الإمام على أبيه و بكاء أصحابه الذين استمعوا إلى خطبته هو الشرط الثاني الذي يتمثل في صدور الاستجابة السلوكية الطبيعية عنه، أما الشرط الثالث فهو الجهاز العصبي لدى الإمام و أصحابه، و استقبال هذا الجهاز للمثيرات و إرسالها في شكل استجابات سلوكية هي «بكاؤهم» قد صدرت عن الإمام نفسه و المقربين من حوله، و دور جهازهم العصبي في عملية الربط بين المثيرات و الاستجابات ليتم تكوين حالة انفعالية ملحوظة و ظاهرة في انفعال البكاء الذي قام به الإمام الحسن و من تأثر بموقفه الانفعالي.

7. و في مجموعة هذه النصوص عن الانفعالات النفسية ربط الإمام الحسن الزكي ابن علي علیه السّلام الانفعالات التي ذكرها بأهداف عبادية توخاها علیه السّلام في دنياه من أجل نيل رضا الله سبحانه و تعالى في جعل كل أنماط السلوك لدى المسلمين بهدف عبادي يتحقق برضا الله و طاعته، فليست هذه النصوص و سواها ليست سوى أداة لتحقيق هذا الهدف العبادي الرئيسي المرجو.

***

ص: 367

ثانياً: تفسير المادة الثقافية و المعرفية للنصوص

فضلاً عن إلى الملاحظات السابقة تتناول المادة الثقافية و المعرفية للنصوص التي قالها الإمام الحسن بن علي في موضوع الانفعالات ثلاث قضايا هي على النحو التالي:

1. فوائد الانفعالات في حياة الأفراد.

2. العلاقة بين الانفعالات و التغيرات الجسدية.

3. قياس السلوك الانفعالي.

***

1. فوائد الانفعال على نفسية بعض الأفراد

يُولَّد «الانفعال» لدى الكائن الحي كما في حالة الغضب حالة من التهيؤ للدفاع عن نفسه و التصدي لأي خطر يداهمه ليحمي نفسه منه، و يولد لديه حماسة لحفظ الذات و الدفاع عن أهله و مجتمعه و عن الوطن و الأمة، و يتمكن الفرد بتعرضه اليومي للانفعال لطلاقة لفظية تعينه على تنمية قدرته على التخاطب مع الآخرين، و في بعض الانفعالات كالفرح يزداد خياله خصوبة، و تتدفق المعاني العقلية و الأفكار بتنشيط عملية التفكير، أما انفعال السرور فيدفع الأفراد نحو العمل و تنشيط الحركة فيه، كما يعينه بعض الانفعالات إذا وعى فائدتها في ضبط نفسه و التحكم فيها و التغلب على أي سلوك بدائي غير مناسب لأخلاقياته، و يهيئ نفسه لتقبل بعض الأفكار الناقدة و مراجعتها و الاستفادة منها، بل و تجنب الأمراض الناشئة عن الانفعالات الشديدة، كما تكون بعض الانفعالات محفزاً على مزيد من التعلم.

و يلحظ أن الفوائد لها دور وقائي، و دور آخر علاجي، و قد استنتجنا ذلك من

ص: 368

نصوص قدمها الإمام الحسن علیه السّلام.

أولاً: الدور الوقائي

و يتمثل في عدة فوائد عدة نذكر منها بعض نماذج التأثير الوقائي لبعض الانفعالات التي ذكرها الإمام الحسن بن علي في أقواله و نصوصه، و هي متنوعة تهتم بحفظ الذات و الدفاع عنها أو زيادة خبراتها و صقل إمكانياتها و إثبات قدرتها.

و من فوائدها الوقائية -على سبيل المثال- ما يأتي:

1. دفع الإنسان الخطر عن ذاته من بطش بعض الناس و لاسيما الظالمين منهم و قسوتهم، و تجنب إيذاءهم، فيستخدم خوفه منهم لاتقاء خطرهم، يقول الإمام الحسن: «لا تأت رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك و بينه(1)»، فالخوف من إيذاء هذا الرجل أو قسوة ذاك انفعال يحمل بعض الناس على الاتصال به اتقاء خطره و تجنب إيذاءه قبل أن يأكله بمظالم لا أول لها و لا آخر.

2. تحويل الفرد بعض انفعالاته إلى أنماط عبادية و سوية من السلوك كتحويل حزنه إلى تفكير و معرفة بنتيجة عمله و متابعة أدائه و ممارسة عملية نقد ذاتى لسلوكه و فكره، و تحسسه بخوف طبيعي على مستقبله بخاصة فيما بعد الدنيا، أي يتحول الحزن و الخوف إلى مواقف تفكير جادة يتم بها تعديل السلوك نحو الأفضل بما يتوافق مع محددات النظرة العبادية الإسلامية، و تعيد الأمور الخاطئة إلى نصابها الصحيح، يقول:

«و المؤمن لا يلهو حتى يغفل، و إذا تفكر حزن(2)» لكنه حزن طبيعي و منطقي، فالإنسان

ص: 369


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحدیث 31، ص 132
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 18، ص 129

بعد أن يتفكر في نفسه و يرى حالها يحزن على واقعها الذي لم يبلغ به الهدف فينتابه شعور بالتقصير في عمله، و يترتب عنه حزن الصادقين و رغبته في تعديل سلوكه باستمرار، كما أن خوف الفرد من رجل يأتيه هو نموذج آخر لتحويل مشاعر الخوف إلى قوة طبيعية لحماية للذات و الدفاع عنها فقال: «لا تأت رجلاً إلا أن ترجو نواله أو تخاف يده»، و في قوله علیه السّلام لرجل جاءه يبث حزنه و خوفه من الموت فقال له راجياً تعديل سلوكه في استخدام المال بما يرضي الله سبحانه: «ذاك لأنّك أخَّرت مالك، و لو قدمته لسرّك أن تلتحق به(1)».

3. توظيف الانفعالات ذات الطبيعة الإيجابية كالسرور و الفرح في إحداث تعلم جديد، و تتابع اكتساب خبراته و في تغيير سيكولوجية الفرد و تحسين سلوك الذات، و ترتيب أمرها من مشاهدات يمكنها الاعتبار منها، و في هذا الصدد نشير لحديث قاله الإمام يشجع الناس على مجالسة العلماء و حضور مجالسهم: «من أكثر من مجالسة العلماء أطلق عقال لسانه، و فتق ما رتق من ذهنه» ثم قال استكمالاً لما تقدم: «و سرَّه ما وجد من الزيادة في نفسه(2)»، ففي المقطع الأخير من النص المتقدم تأكيد من الإمام الحسن بن على العلاقة بين الانفعال ممثلاً في انفعال «السرور» و تحسين التعلم و تطويره، فنجاح الفرد في تعلم خبراته في مجالي القدرات اللغوية و القدرات العقلية يعقبه حالة وجدانية مليئة بالسرور و الفرح و السعادة، و هذا محفز هام في العملية التعليمية- التعلمية، و يُولِّد مشاعر الثقة بالتأكيد لدى الفرد و الطمأنينة على مستقبله العلمي و المهني، و الاستمرار في كسب المزيد من الخبرات التعليمية، فحالة السرور الناجمة عن نجاح تعلم الفرد يخلق فاعلية في نفسية الإنسان فيركز جهوده في حاضره و مستقبله

ص: 370


1- الموسوي الروائع المختارة، رقم الحدیث 20، ص 129
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 45، ص 134

على تحقيق هدف معين والعمل على الوصول إليه.

***

ثانياً: الدور العلاجي

و كما للانفعال في النص الحسني بعض النماذج على أدوار وقائية فإنها كذلك تؤدي أدواراً علاجية تدخل تحسيناً على الصحة النفسية و العقلية للأفراد، و تؤدي إلى مراجعة السلوك الخاطئ و تعديله بما يؤدي تحقق الأهداف العبادية كما دلت على ذلك مضامين بعض النصوص و الأقوال التي ينسبها الرواة للإمام الحسن بن علي عليهما السّلام.

و من النماذج الملحوظة في النص الحسني في مجال «الدور العلاجي» باستخدام السلوك لانفعالي عند الإمام الحسن ما يأتي:

1. التعبير عن هموم النفس، و مع أن المهمة قد تكون وقائية في بعض الأحيان إلّا أن لها دور علاجي في تحسين الداخل النفسي للفرد، و تغيير واقع السيكولوجي إلى ما هو أفضل، و تحقيق بعض الاشباع لحاجاته، و الاستعانة بقدرته لتحقيق أموره، و يمكننا أن نجد في أحد نصوص الإمام الحسن مثلاً على هذا الدور المزدوج و بخاصة الدور العلاجي، إذ قال الإمام الحسن علیه السّلام: «يا ابن آدم، من مثلك و قد خلَّى ربّك بينه و بينك؟ متى شئت أن تدخل إليه، توضأت و قمت بين يديه، و لم يجعل بينك و بينه حجاباً و لا بوّاباً ، تشكو إليه همومك و فاقتك، و تطلب منه حوائجك، و تستعينه على أمورك(1)»، فالهموم قد تكون أحزاناً، و كآبات، و الفاقة هو عجز الإنسان و حاجته، و قد تأخذ معنى مادياً، و قد تأخذ أحياناً معنى الحاجة للمعونة النفسية و الفكرية كالمشورة و تقديم طرائق علاج نفسي لتعديل السلوك الخاطئ، و يستطيع الفرد المؤمن بالدعاء و الانفتاح على ربه

ص: 371


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 41، 246

في أشكال مختلفة من العبادات لتأمين هذا الدعم و تفريج الهموم، و تفريغ ما في النفس من متاعب و أحزان و نكبات و أحاسيس ضغط تجثم على كيان الإنسان و عواطفه.

2. تقدم بعض نصوص الإمام و أقواله علیه السّلام معالجة لحل حالات الصراع النفسي كما في حديث «الرقعة» لطالب الحاجة، و عرض الحديث أكثر من حالة صراع نفسيِ، و هو موقف سلوكي برزت فيه بعض الانفعالات، و كانت غايته علیه السّلام أن يدرك الناس مواقف الصراع في الحياة السيكولوجية لآخرين، فيعينونهم على حل مواقف الصراع قبل وقوعها، و معالجتها بعد أن تقع في النفوس، و في هذا النص ثلاث حالات صراع داخلي و قدم الإمام الحسن تشخيصه للحالات الثلاث، و طالب معالجتها بالتكرم و تقديم المعروف و تغيير الواقع السيكولوجي لطالبي الحاجات و قضائها بالمعروف و مع ذلك وجد الإمام الحسن أن ما عانه هؤلاء المحتاجون من تدافع نفسي بين يأس و أمل، و معاناة المذلة، و حيرة تائهة هي أعظم من المعروف المقدم لهم، حيث قال: «فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك»، لذلك اقترح على رجل أتاه في حاجة أن يسجل حاجته في رقعة أو استمارة لقضائها بدون مذلة .

3. و من النصوص التوجيهية التي يتجلى فيها الدور الوقائي و العلاجي على حد سواء ما قاله الإمام الحسن بن علي: «المزاح يأكل الهيبة، و قد أكثر من الهيبة الصامت(1)»، و كان غرض هذا التوجيه مزدوجاً، فتوصيته الإرشادية بأن لا تكثر من المزاح لأنه يحط من شأن الشخص و وقاره و يقلل من هيبته، و بالتأكيد ليس غرض هذا النص الحث على الإلغاء التام لهذا النمط من السلوك مادام في دوائره الصحيحة

ص: 372


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 36، ص 133

التي تراعي قواعد المشرع التربوي الإسلامي، و لتعزيز القيمة التربوية لهذا التوجيه عرض في أثنائه نموذجاً للشخص الوقور و هو الصامت الذي يكثر من الهيبة، و وقاره بصمته، لكن أمور الناس لا تنتظم دائماً على هذه الوتيرة، حيث يميل كثير منهم للمزاح و الإكثار منه، و دون التزام بمحددات إيمانية و لا بضوابط شرعية، و يسبب الإغراق في هذا السلوك مشكلة سلوكية اجتماعية أراد المشرع التربوي الإسلامي من خلال هذا التوجيه أن يعالجها بخطوات متتابعة.

أ. تعرض الإمام الحسن الزكي بن علي علیه السّلام في الخطوة الأولى بالنقد لهذا السلوك سواء كان شخصياً كان أو اجتماعيا، و الدعوة إلى التقليل من كثرة المزاح بخاصة حينما يكون غير منضبط بالقواعد الشرعية في الخطاب مع الآخر، و في إدارة العلاقة معه، و هذه الخطوة ضرورية حتى يكون الفرد على وعي بمخاطر هذا السلوك و تجنبه، بل و القيام بمهام إعادة تدريبه على الصمت كسلوك عبادي مرغوب من أجل استرداد وقاره الاجتماعي و هيبته المفقودة.

ب. و في الخطوة الثانية يحدد الإمام الحسن بن علي علیه السّلام نتيجة لإغراق النفس في مزاح يلحق الضرر بالذات و الآخرين، فالنتيجة المتوقعة من إكثار بعض الناس لمزاحهم بصورة غير سوية سقوط هيبة المرء، و تداعي وقاره الاجتماعي، و اعتباره شخصاً ساقط الهيبة، يخلط الحق بالباطل، و الجد بالهزل، فلا يتبين له عند الناس قدر من الحشمة و الثقة به، و هي نتيجة خطرة ضد المكانة الاجتماعية للفرد حينما يصبح في موضع غير موثوق

به و غير جدير بالاحترام.

ج. أمَّا ثالث خطوة في هذا التوجيه الإرشادي فيرتكز على عرض نموذج تطبيقي لمعالجة هذا السلوك المرضي أن يكفوا عن هذا السلوك، و أن يتعلموا فن الصمت، فقد

ص: 373

أكثر من الهيبة الصامت على حد قوله، و تقوم هذه الطريقة العلاجية لهذا السلوك في توصية الإمام الحسن الإرشادية على استخدام طريقة العلاج بالضد(1)، و هي طريقة تحاول علاج سلوك خاطئ متعلم من بيئة غير سوية كالرذائل أو الذنوب و غيرها بسلوك سوي مضاد يرتضيه المشرع التربوي الإسلامي، و بالتالي فإن توصيته الإرشادية بالتغلب على مشكلة كثرة المزاح بالصمت هم نموذج للطريقة العلاجية بأضداد السلوك، و ذلك ليحتفظ الفرد بوقاره الاجتماعي و حسن الظن به و النظر إلى مكانته الاجتماعية بعين الاعتبار و التقدير، فالصمت هو السمة المقابلة للسلوك المنبوذ ، و نقصد إكثار بعض الناس من «المزاح» بصورة مرضية.

4. و في نموذج رابع يبين العلاقة بين (التفكير و انفعال الغضب) عالج النظرة الخاطئة عن دور الغضب في تدمير التفكير و الاخلال بنشاطه و مساره في التوجيه، فمن هذا الانفعال أنه يثير حمية الفرد و تزداد حماسته و تنشط الحركة، و تزداد لغته طلاقة، و تقوى لدى الفرد قوة الإرادة و التصميم على التحدي و مواجهة الأحداث و الأشياء، و لكن من جهة ثانية يؤثر سلبياً على التفكير و عملياته العقلية كتشويه الإدراك و تعطيل عمليات التذكر و تشتيت الفكر، و إضعاف قدرة الأفراد على ضبط النفس، و اللجوء إلى التدمير و الصياح و التلفظ بالقول الفاحش الذي يأباه وقت هدوئه، و من هنا فالغضب أحد الانفعالات الثائرة التي تدمر أخلاقيات المرء، و ربما يدفعه إلى الأفعال الانتقامية الإجرامية المؤذية للآخرين، بل من الملحوظ أن الغاضب لا يستمع لأحد، و لا يقبل في لحظة غضبه بالحكمة و لا بالموضوعية في إصدار الأحكام، و في حديث الإمام الحسن:

ص: 374


1- یمكن للقارئ الكريم الاطلاع على تفاصيل هذه الطريقة العلاجية و أسسها، و شروطها في كتابنا « العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد».

«لا يعرف الرأي إلّا عند الغضب(1)» و يبين النص علاقة التفكير بانفعال الغضب بنظرة مخالفة لمعتقدات كثير من الناس، و يبدو من ظاهر النص السابق أن الإمام الحسن يتجه بنتائج العلاقة بينهما في اتجاه مضاد للعلاقة السلبية بين التفكير و انفعال الغضب، إذ حدد علیه السّلام أنه لا يعرف «الرأي» الجيد الحكيم إلّا في المواقف الغاضبة، فالإمام الحسن ابن علي يدرك كغيره من الناس أن الغضب انفعال مدمر ، و تأثيراته سلبية على الإدراك و التذكر و تشتت التفكير و تقبل النقد و إصدار الأحكام الموضوعية، و لكنه علیه السّلام يطالب الناس بقلب هذه العلاقة النشاز بعلاقة إيجابية مضادة تقوم على استثمار قوة هذا الانفعال على عمليات التفكير، و في السيطرة على النفس و التحكم في الإرادة و ضبط الأعصاب لدراسة ما يراد التوصل إلى أفكار بشأنه، و أن يتعلم المرء كيف يتدرب على التكيف في الموقف الانفعالي لتوليد أفكار صحيحة، و أن يتعلم كل إنسان التحكم في الانفعالات و عدم الاستسلام للانفعال الشديدة لتسيطر عليه فتمحق العقل و عملياته الداخلية، ف- «الراي» الصحيح يتولد من لحظة انفعال نشط بقوة انفعال الغضب بصورة معتدلة، فيزيد خيال الإنسان خصوبة، و يشعر صاحبه بالتحدي، و يصمم على إنتاج أفكار مفيدة تحت تأثير زيادة الخيال و طلاقة اللغة، و لهيب الإحساس بالتحدي، فالرأي العقلي في هذه الأجواء لا ينشأ عقيماً، بل قد يكون رأياً سديداً و مبدعاً، و هذا بخلاف ما هو مألوف في حياة الناس عن التأثير التدميري لانفعال الغضب على مستوى التفكير و عملياته العقلية، و مجالات اجتماعية أخرى، و ثمة احتمال للمفهوم العام لهذا النص و هو أن الرأي السديد يتمايز عن غيره وقت الغضب، و لا ينجز هذا الرأي إلّا عن طريق إنسان قادر على ضبط نفسه بالحلم و السيطرة على انفعال غضبه و إدارة نفسه بعيداً عن الموقف الغاضب.

ص: 375


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 243

***

2. الصلة بين الانفعال و التغيرات الجسدية لدى الأفراد

ذكرنا أن ثمة علاقة بين الانفعالات و تغيرات تصاحبها في جوانبها الثلاثة التي أشرنا إليها و منها الجانب الجسدي و قد أوضحت كلمات مبثوثة في نصوص الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام، و تدل على هذه العلاقة بين الحالات الانفعالية و ما يطرأ على الجسد من تغيرات في داخله و في سلوك الأفراد الخارجي، و سنضع أمام القارئ مقاطع من هذه النصوص لتأكيد الصلة بين الانفعالات و التغيرات الجسدية.

و قبل عرض نموذجين للعلاقة بين الانفعال و التغيرات الجسدية اخترناهما من نصوص الإمام الحسن بن علي و تراثه الفكري و الأخلاقي، و تختزن علاقة بينهما نود أن نضع أمام القارئ الكريم ملاحظتين:

1. أن الانفعال النفسي يتجلى في سلوك جسدي ملحوظ كما يختنق المرء في بكائه أو في شكل علاقة بين الانفعال و التغيرات الداخلية في الجسم كالعلاقة بين الانفعال و التعلم أو و التفكير و غيرهما .

2. أنَّ الانفعال النفسي قد لا يكون دائماً سلوكاً ظاهرياً أمام طرف آخر كما في طلب صاحب الرقعة حينما قال الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب علیهم السّلام: «فإذا أعطيته بعد مسألة (أي قضاء حاجته بعد عرض حاجته) فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه، و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممّا نال من معروفك(1)».

ص: 376


1- الشيخ المازندراني، معالي السبطين، للشيخ مهدي ص 19، و كتاب «كلمة الحسن» للسيد الشيرازي ص 231- 232

أو يكون غير ظاهر كقوله عليه أفضل الصّلاة و السّلام في العلاقة بين التعلم الجيد و ما يصاحبه من انفعال الفرح و السرور: «و سرّه ما وجد من الزيادة في نفسه» فالسرور انفعال حدث كاستجابة سلوكية بعد ما حقق الفرد تعلم جيداً، و نجح في تعلمه و إتقانه للخبرات التربوية، فكانت نتيجة ذلك التوفيق، و ما يسر قلب الفرد و يسعده، و ليس من الضروري أن تظهر ابتسامته كل حين، و يكفي إظهار سعادته الداخلية التي تعبر عن سروره الذاتي بهذا النجاح في حركة جسمية أو إيماءة بدنية.

و لنتأمل المقاطع التالية:

الموقف الأول:

العلاقة بين انفعالي الحزن و السرور و التغيرات الجسدية

يعكس أحد النصين علاقة الحالة النفسية لطالب الحاجة و انفعالاتها من حزن و سرور بالتغيرات الجسدية المرتبطة بها، فقد أراق ماء وجهه، و شعر بالمذلة لقضاء حاجته، و ربما كما قال الإمام علیه السّلام قد بات ليله متململاً، و قلقاً أرقاً، و تتأرجح مشاعره الداخلية بين يأس من العطاء و أمل في نيله و الحصول عليه، كما كشف النص عن حيرة واضحة في قصد طالب الحاجة للجهة التي يمكنها قضاء حاجته، بل و تتخاطر في ذهنه فكرتان تتصارعان في داخل نفسه، و هما مستمدتان من ردود فعل الناس المتوقعة في مواجهة طلبه قضاء حاجته، فهو لا يعلم برد الناس.. أبكابة الرد على حد تعبير الإمام الزكي، و هو رد سلبي يمكن أن يواجهه، أم بحصول استجابة ناجحة تملأ قلبه سروراً و سعادة أسماها الإمام: «سرور النُّجْح»، و في النص المتقدم مشهدان.. في المشهد الأول وصف فيه الإمام الحسن علیه السّلام طالب الحاجة بحالة نفسية أراق فيها ماء وجهه، و بات

ص: 377

ليله متململاً، قلقاً، أرقاً، حائراً، حزيناً، و يعيش في داخله صراع بين استجابة كئيبة أو استجابة ناجحة بقدر معيَّن، و تنازع في نفسه بين يأس و أمل، و قد يكتوي بناره لمرحلة ظهور استجابة الرد، أما المشهد الثاني من النص فيكشف عن علاقة واضحة بين حالته النفسية و بخاصة كآبته و حزنه و خوفه على رزقه و من رد طلبه و ما يحدث من تغيرات جسدية عبرت عنها كلمات الإمام بقوله: «فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق»، إذ ربط الإمام الحالة النفسية الموصوفة في المشهد الأول بالتغيرات الجسدية المصاحبة لانفعالات طالب الحاجة من حزن و كآبة و يأس و حيرة و صراع نفسي و أمل و سرور متوقع، فالكلمات التي تصف التغيرات الجسدية المتقدمة من رعشة في اليدين و زيادة في دقات القلب، و تغير في نبرة الصوت، و هذه التغيرات الجسدية مصاحبة لانفعالات كالحزن و الكآبة و الخوف و قد تركت أثرها فكانت التغيرات الجسدية المذكورة، بل تنتابه كما وصف الإمام الحسن إحساسات مذلة لطالب الحاجة وصفها علیه السّلام بأنها أعظم مما ناله من معروف الناس، فقال: «فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإِنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك»، أمّا حالة السرور فمرتبطة بتحصيل ما أسماه الإمام الحسن بالمعروف، أو قضاء الحاجة له مهما كان شكلها حتى و إن لم تعادل ما ناله من إراقة ماء وجهه .

***

الموقف الثاني:

العلاقة بين انفعال البكاء و احتباس مؤقت لصوت الإنسان

أمّا ما جاء في خاتمة خطبة للإمام الحسن عقب استشهاد أبيه و ذكر أبيه و تذكر فضله انتحب الإمام لأجله و أبكى الناس من حوله حتى قال ناقل الخطبة: «ثم خنقه

ص: 378

البكاء فبكى، و بكى الناس معه»، فهذا المقطع من نهاية خطبته عبَّر عن انفعال طبيعي في السلوك الإنساني، فالبكاء سلوك فطري، و قد أقرب إلى التحقق حينما يغيب قريب و بخاصة إذا في مثل الإمام علي عن الدنيا و يرحل إلى بارئه سبحانه، و يتفاوت الناس بالتأكيد في نحيبهم لأغراض عديدة لسنا في محل مناقشتها، و لكن بعضهم منهم يشتد بكاؤه حتى تخنقه عبرته كانفعال نفسي فيؤدي إلى تغير في الصوت كاحتباسه أو انخفاض نبرته أو صعوبة النطق لحظة الانفعال الشديد، و كذلك بروز تعابير جسمية بتأثير الانفعال المذكور على ملامح الوجه كالحزن، و التجهم حتى لو كان راضياً بقدر الله و قضاؤه، و همل دموع العين على وجنات وجه الفرد الحزين و أماكن من الوجه، و يدل المشهد الانفعالي كله على إمكانية ربط هذا التغير الانفعالي بتغيرات جسدية مصاحبة لها، و كذلك إمكانية قياس شدة مستوى الانفعال و هنا انفعال البكاء من بعض التعبيرات اللفظية كقوله ناقل الخطبة: «ثم خنقه البكاء» للإشارة على شدة الانفعال و قوة تأثيره سواء من ملاحظة بكاء الآخرين و ملاحظة ذلك في تعبير وجوههم و نبرات أصواتهم و نحيبهم الحزين و إضافة إلى ذلك فإن الإمام كان يصف عملياً و بسلوكه حالته الانفعالية و هو يذكر والده في موقف انفعالي مؤثر و شديد القوة، و خلاصة القول إنَّ البكاء كأي انفعال إنساني يترك أثره في داخل الفرد و في شكل تغيرات جسدية تبدو في جريان دموع الفرد من مقلتي عينيه، و في تعابير وجهه، و احتباس مؤقت لصوته أو ضعف في النطق، أو تغير في نبرات الصوت، و يظل حتى يتم التخلص من انفعال البكاء و حدته و تأثيره الوجداني بصورة تدريجية، و عودة الإنسان إلى وضعه الانفعالي الطبيعي

***

3. كيف يمكن التعرف على الانفعالات و قياسها

ص: 379

ليست مهمة الإمام الحسن كقائد للمسلمين و مرشد ديني أن يتحدث عن أدوات قياس للانفعالات النفسية، و لكن ثمة أدوات مألوفة في حياة الناس منذ تاريخ طويل في مسيرتهم الاجتماعية يمكن الاستفادة منها أو تساعدهم على استخدامهم في التعرف على بعض الانفعالات الظاهرة أمام أعينهم أو القريبة من أدوات فحصهم للسلوك الانفعالي.

و بالتأمل في التراث الثقافي و الروحي للإمام الحسن و التركيز في مشاهد من مادته المعرفية وقفنا على بعض الأدوات التي تعين الأفراد على معرفة الانفعالات النفسية التي تواجههم في حياتهم اليومية التي ألفوها.

و من تلك الأدوات:

1. الملاحظة الظاهرية كسماع صراخ فرد أو رؤيتنا لتعبيرات خارجية على وجه إنسان تدل على غضبه أو خوفه أو ارتعاش فرائصه، فهنا بالنسبة للفرد المشاهد يتم مشاهدة مباشرة لموقف انفعالي بأدوات الحس المادية المتوافرة بأيدي الناس، و هذه الظاهرة العلمية بطابعها التاريخي الطويل تمكننا كأفراد من قياس مقبول لحد ما للانفعال و معرفة نوعه، و شدته و بخاصة في المواقف الانفعالية التي يشاهدها الناس في حركة حياتهم الاجتماعية اليومية و من خلال تفاعلهم مع بعضهم، و هذا ما كان بعض علماء النفس يسمونه بطريقة «ملاحظة السلوك الانفعالي» في مواقف تثير الانفعالات حتى و إن ظهرت فيها بعض الفروق الفردية في طرائق تعبير الناس عن انفعالاتهم لتجعلهم متمايزين إلى حد ما في استجاباتهم الانفعالية، و ينبغي أن ترتكز هذه الطريقة على مراقبة هيئة الجسد كملامح الوجه و تعبيراته، و حركات اليدين، و نبرات الصوت و دموع العينين و غيرها، و هناك في تراث الإمام الحسن إشارات على اعتماد هذه الطريقة

ص: 380

في فهم المواقف الانفعالية و تفسيرها كقوله علیه السّلام في رجل أتاه لطلب حاجة رداً على سؤال أحد الجالسين معه: «و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(1)»، و ما آل إليه أمره و من استمع لخطبته بعد تذكر أبيه و فضله في حادثة استشهاده، حيث بكاه و خنقته عبرته و بكى الناس معه(2)، و في كلمات مماثلة استبدل الراوي كلمة «عبرته» باستخدام لفظ «العبرة» ، فقال الراوي في التعبير عن الحالة الرثائية ذاتها: «ثم خنقته العبرة فبكى، و بكى الناس معه(3)»، و في هذا الموقف الانفعالي امتزج الحزن بالبكاء فغصَّ الإمام الحسن علیه السّلام بدمعته و سالت من مقلتي عينيه فترك ذلك أثراً في حباله الصوتية فانعكست واضحة في نبرة الصوت و في تجهم وجهه الكريم، و في زمن الإمام الحسن علیه السّلام لا توجد بالأكيد أجهزة لقياس الحالات الفسيولوجية و الكشف عن الانفعالات الداخلية المرتبطة بها، لهذا اكتفى الناس بملاحظة التغيرات الجسدية و مراقبتها مثل النظر لملامح الوجه و تعبيراتها، و تحسس خفقان القلب و ضرباته و دقاته التي تتسارع في اضطراب و عدم النظام، و كذلك عملية التنفس و ارتعاش فرائص الفرد للتعبير عن خوفه و قلقه و هلعه و تعبيرات الإمام الحسن في المقطع اللغوي المتقدم ما يؤكد ذلك، فكآبة الرد و سرور النجاح تعرف من ملامح الوجه، و ارتعاد فرائص الفرد، و معرفة خفقان قلب الفرد تدرك من خلال هيئة البدن و حركات اليدين و بعض أعضاء الجسم، و نبرة الصوت حدة و ضعفاً، و خلاصة ما تقدمنا فالعلاقة بينة بين الانفعال

ص: 381


1- الشيخ مهدي المازندراني، معالي السبطين ص 19، و كتاب «كلمة الحسن» للسيد الشيرازي ص 231- 232
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 8، ص 20
3- الاربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 164

و بعض التغيرات الجسدية سواء في داخل الفرد أو في خارج جسمه.

2. وصف الشعور الذاتي، و هو إحساس خاص بالفرد نفسه، فيقوم الفرد بوصف أحاسيسه بنفسه من خلال مجموعة الأقوال التي يعبر فيها عن مواقفه الانفعالية التي مرَّت عليه في حياته الشخصية، و كانت هذه الطريقة تقليدية في تاريخهم الاجتماعي و تفاعلهم مع بعضهم، و هو أشبه بما يسميه علماء النفس بالاستبطان، فالفرد يستطيع -بكونه كائناً حياً- أقدر الناس على وصف حالته الانفعالية، و ما يعانيه من ألم أو سرور أو حزن، فهو وحده يتحسس خفقان قلبه، و يشعر بضغط الألم الداخلي الذي يجثم عليه، و مع ذلك فتطور حياتهم جعل العلماء يضيفون إلى ذلك استخدام مقاييس لفظية، و استفتاءات لمعرفة استجابات الأفراد في المواقف الانفعالية و ردود أفعالهم كحالات غضبهم و خوفهم، و غير ذلك .

3. التحليل اللفظي، و من خلال هذه الطريقة يتم معرفة انفعال شخص معين باستخدام اللغة التي ينطق بها، فكلماته تدل على مشاعر حزن أو خوف أو بكاء أو غضب أو سرور أو تدل على ارتباك أو استقرار و ثبات عاطفي و سكينة نفسية، فيكون بعد ذلك متاحاً للقادرين على فهم كلام الناس تحليل ألفاظهم و فهم سلوكهم الانفعالي، و هذه الطريقة يقوم بها أفراد آخرون حتى في مواقف تفاعلهم الاجتماعي اليومي كمعرفة شخص من كلام آخر أنهم قد غضب عليه أو على ناس آخرين أو فرح من خبر سار باستخدام ألفاظها و تحليلها بطريقة سهلة و غير معقدة، فكما قال الإمام على علیه السّلام: «الألفاظ قوالب المعاني(1)».

دراسة محتوى النص، و هذه الدراسة التي بين يديك هي أحد مصادر معرفة

ص: 382


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 8 ص 478

السلوك الانفعالي في زمانه، و مع أنها لا تختلف كثيراً عن المواقف الانفعالية السائدة في عصرنا إلّا أنها مدخل لفهمها، و معرفة أوجه التشابه و الاختلاف، و ما نفعله نحن في هذه المبحث من كتابنا هو مجرد محاولة لمعرفة دور النص الحسني في تعريفنا بالانفعالات النفسية و أنواعها، و قياسها، و علاقة الانفعالات النفسية بالتغيرات الجسدية و تأثيراتها الايجابية و السلبية، و هو مظهر لقياس ما هو ظاهر من السلوك الانفعالي.

الموقف الأول:

العلاقة بين انفعالي الحزن و السرور و التغيرات الجسدية

يعكس أحد النصين علاقة الحالة النفسية لطالب الحاجة و انفعالاتها من حزن و سرور بالتغيرات الجسدية المرتبطة بها، فقد أراق ماء وجهه، و شعر بالمذلة لقضاء حاجته، و ربما كما قال الإمام علیه السّلام قد بات ليله متململاً، و قلقاً أرقاً، و تتأرجح مشاعره الداخلية بين يأس من العطاء و أمل في نيله و الحصول عليه، كما كشف النص عن حيرة واضحة في قصد طالب الحاجة للجهة التي يمكنها قضاء حاجته، بل و تتخاطر في ذهنه فكرتان تتصارعان في داخل نفسه، و هما مستمدتان من ردود فعل الناس المتوقعة في مواجهة طلبه قضاء حاجته، فهو لا يعلم برد الناس.. أبكابة الرد على حد تعبير الإمام الزكي، و هو رد سلبي يمكن أن يواجهه أم بحصول استجابة ناجحة تملأ قلبه سروراً و سعادة أسماها الإمام: «سرور النُّجْح»، و في النص المتقدم مشهدان.. في المشهد الأول وصف فيه الإمام الحسن علیه السّلام طالب الحاجة بحالة نفسية أراق فيها ماء وجهه، و بات ليله متململاً، قلقاً، أرقاً، حائراً، حزيناً، و يعيش في داخله صراع بين استجابة كئيبة أو استجابة ناجحة بقدر معيَّن و تنازع في نفسه بين يأس و أمل، و قد يكتوي بناره لفترة ظهور استجابة الرد، أما المشهد الثاني من النص فيكشف عن علاقة واضحة بين حالته النفسية و بخاصة كآبته و حزنه و خوفه على رزقه و من رد طلبه و ما يحدث من تغيرات

ص: 383

جسدية عبرت عنها كلمات الإمام بقوله: «فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق»، حيث ربط الإمام الحالة النفسية الموصوفة في المشهد الأول بالتغيرات الجسدية المصاحبة لانفعالات طالب الحاجة من حزن و كآبة و يأس و حيرة و صراع نفسي و أمل و سرور متوقع، فالكلمات التي تصف التغيرات الجسدية المتقدمة من رعشة في اليدين و زيادة في دقات القلب، و تغير في نبرة الصوت، و هذه التغيرات الجسدية مصاحبة لانفعالات كالحزن و الكآبة و الخوف و قد تركت أثرها فكانت التغيرات الجسدية المذكورة، بل تنتابه كما وصف الإمام الحسن إحساسات مذلة لطالب الحاجة وصفها علیه السّلام بأنها أعظم مما ناله من معروف الناس حيث قال: «فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك»، أمَّا حالة السرور فمرتبطة بتحصيل ما أسماه الإمام الحسن بالمعروف، أو قضاء الحاجة له مهما كان شكلها حتى و إن لم تعادل ما ناله من إراقة ماء وجهه.

***

الموقف الثاني:

العلاقة بين انفعال البكاء و احتباس مؤقت لصوت الإنسان

أما ما جاء في خاتمة خطبة للإمام الحسن عقب استشهاد أبيه و ذكر أبيه و تذكر فضله انتحب الإمام لأجله و أبكى الناس من حوله حتى قال ناقل الخطبة: «ثم خنقه البكاء فبكى، و بكى الناس معه»، فهذا المقطع من نهاية خطبته عبَّر عن انفعال طبيعي في السلوك الإنساني، فالبكاء سلوك فطري ، و قد أقرب إلى التحقق حينما يغيب قريب و بخاصة إذا في مثل الإمام علي عن الدنيا و يرحل إلى بارئه سبحانه، و يتفاوت الناس بالتأكيد في نحيبهم لاعتبارات عديدة لسنا في محل مناقشتها، و لكن البعض منهم

ص: 384

يشتد بكاؤه حتى تخنقه عبرته كانفعال نفسي فيؤدي إلى تغير في الصوت كاحتباسه أو انخفاض نبرته أو صعوبة النطق لحظة الانفعال الشديد، و كذلك بروز تعابير جسمية بتأثير الانفعال المذكور على ملامح الوجه كالحزن، و التجهم حتى لو كان راضياً بقدر الله و قضاؤه، و همل دموع العين على وجنات وجه الفرد الحزين و أماكن من الوجه، و يدل المشهد الانفعالي كله على إمكانية ربط هذا التغير الانفعالي بتغيرات جسدية مصاحبة لها، و كذلك إمكانية قياس شدة مستوى الانفعال و هنا انفعال البكاء من بعض التعبيرات اللفظية كقوله ناقل الخطبة: «ثم خنقه البكاء» للإشارة على شدة الانفعال و قوة تأثيره سواء من ملاحظة بكاء الآخرين و ملاحظة ذلك في تعبير وجوههم و نبرات أصواتهم، و نحيبهم الحزين و إضافة إلى ذلك فإن الإمام كان يصف عملياً و بسلوكه حالته الانفعالية و هو يذكر والده في موقف انفعالي مؤثر و شديد القوة، و خلاصة القول بأن البكاء كأي انفعال إنساني يترك أثره في داخل الفرد و في شكل تغيرات جسدية تبدو في جريان دموع الفرد من مقلتي عينيه و في تعابير وجهه و احتباس مؤقت لصوته أو ضعف في النطق، أو تغير في نبرات الصوت، و يظل حتى يتم التخلص من انفعال البكاء وحدته و تأثيره الوجداني بصورة تدريجية و عودة الإنسان إلى وضعه الانفعالي الطبيعي

***

4. كيف يمكن التعرف على الانفعالات و قياسها

ليست مهمة الإمام الحسن كقائد للمسلمين و مرشد ديني أن يتحدث عن أدوات قياس للانفعالات النفسية، و لكن ثمة أدوات مألوفة في حياة الناس منذ تاريخ طويل في مسيرتهم الاجتماعية يمكن الاستفادة منها أو تساعدهم على استخدامهم في التعرف على بعض الانفعالات الظاهرة أمام أعينهم أو القريبة من أدوات فحصهم للسلوك

ص: 385

الانفعالي.

و بالتأمل في التراث الثقافي و الروحي للإمام الحسن و التركيز في مشاهد من مادته المعرفية وقفنا على بعض الأدوات التي تعين الأفراد على معرفة الانفعالات النفسية التي تواجههم في حياتهم اليومية التي ألفوها.

و من تلك الأدوات:

1. الملاحظة الظاهرية كسماع صراخ فرد أو رؤيتنا لتعبيرات خارجية على وجه إنسان تدل على غضبه أو خوفه أو ارتعاش فرائصه، فهنا بالنسبة للفرد المشاهد يتم مشاهدة مباشرة لموقف انفعالي بأدوات الحس المادية المتوافرة بأيدي الناس، و هذه الظاهرة العلمية بطابعها التاريخي الطويل تمكننا كأفراد من قياس مقبول لحد ما للانفعال و معرفة نوعه، و شدته و بخاصة في المواقف الانفعالية التي يشاهدها الناس في حركة حياتهم الاجتماعية اليومية و من خلال تفاعلهم مع بعضهم، و هذا ما كان بعض علماء النفس يسمونه بطريقة «ملاحظة السلوك الانفعالي» في مواقف تثير الانفعالات حتى و إن ظهرت فيها بعض الفروق الفردية في طرائق تعبير الناس عن انفعالاتهم لتجعلهم متمايزين إلى حد ما في استجاباتهم الانفعالية، و ينبغي أن ترتكز هذه الطريقة على مراقبة هيئة الجسد كملامح الوجه و تعبيراته، و حركات اليدين، و نبرات الصوت و دموع العينين و غيرها، و هناك في تراث الإمام الحسن إشارات على اعتماد هذه الطريقة في فهم المواقف الانفعالية و تفسيرها كقوله علیه السّلام في رجل أتاه لطلب حاجة رداً على سؤال أحد الجالسين معه: «و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النَّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم

ص: 386

ممَّا نال من معروفك(1)»، و ما آل إليه أمره و من استمع لخطبته بعد تذكر أبيه و فضله في حادثة استشهاده، حيث بكاه و خنقته عبرته و بكى الناس معه(2)، و في كلمات مماثلة استبدل الراوي كلمة «عبرته» باستخدام لفظ «العبرة» ، فقال الراوي في التعبير عن الحالة الرثائية ذاتها: «ثم خنقته العبرة فبكى، و بكى الناس معه(3)»، و في هذا الموقف الانفعالي امتزج الحزن بالبكاء فغصَّ الإمام الحسن علیه السّلام بدمعته و سالت من مقلتي عينيه فترك ذلك أثراً في حباله الصوتية فانعكست واضحة في نبرة الصوت و في تجهم وجهه الكريم، و في زمن الإمام الحسن علیه السّلام لا توجد بالأكيد أجهزة لقياس الحالات الفسيولوجية و الكشف عن الانفعالات الداخلية المرتبطة بها، لهذا اكتفى الناس بملاحظة التغيرات الجسدية و مراقبتها مثل النظر لملامح الوجه و تعبيراتها، و تحسس خفقان القلب و ضرباته و دقاته التي تتسارع في اضطراب و عدم النظام، و كذلك عملية التنفس و ارتعاش فرائص الفرد للتعبير عن خوفه و قلقه و هلعه، و تعبيرات الإمام الحسن في المقطع اللغوي المتقدم ما يؤكد ذلك، فكآبة الرد و سرور النجاح تعرف من ملامح الوجه، و ارتعاد فرائص الفرد و معرفة خفقان قلب الفرد تدرك من خلال هيئة البدن و حركات اليدين و بعض أعضاء الجسم، و نبرة الصوت حدة و ضعفاً، و خلاصة ما تقدمنا فالعلاقة بينة بين الانفعال و بعض التغيرات الجسدية سواء في داخل الفرد أو في خارج جسمه.

2. وصف الشعور الذاتي، و هو إحساس خاص بالفرد نفسه، حيث يقوم الفرد بوصف أحاسيسه بنفسه من خلال مجموعة الأقوال التي يعبر فيها عن مواقفه الانفعالية

ص: 387


1- الشيخ مهدي المازندراني، معالي السبطين ص 19، و كتاب «كلمة الحسن» للسيد الشيرازي ص 231- 232
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 8، ص 20
3- الاربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 164

التي مرَّت عليه في حياته الشخصية، و كانت هذه الطريقة تقليدية في تاريخهم الاجتماعي و تفاعلهم مع بعضهم، و هو أشبه بما يسميه علماء النفس بالاستبطان، فالفرد يستطيع -بكونه كائناً حياً- أقدر الناس على وصف حالته الانفعالية، و ما يعانيه من ألم أو سرور أو حزن، فهو وحده يتحسس خفقان قلبه، و يشعر بضغط الألم الداخلي الذي يجثم عليه، و مع ذلك فتطور حياتهم جعل العلماء يضيفون إلى ذلك استخدام مقاييس لفظية، و استفتاءات لمعرفة استجابات الأفراد في المواقف الانفعالية و ردود أفعالهم كحالات غضبهم و خوفهم، و غير ذلك.

3. التحليل اللفظي، و من خلال هذه الطريقة يتم معرفة انفعال شخص معين باستخدام اللغة التي ينطق بها، فكلماته تدل على مشاعر حزن أو خوف أو بكاء أو غضب أو سرور أو تدل على ارتباك أو استقرار و ثبات عاطفي و سكينة نفسية، فيكون بعد ذلك متاحاً للقادرين على فهم كلام الناس تحليل ألفاظهم و فهم سلوكهم الانفعالي، و هذه الطريقة يقوم بها أفراد آخرون حتى في مواقف تفاعلهم الاجتماعي اليومي كمعرفة شخص من كلام آخر أنهم قد غضب عليه أو على ناس آخرين أو فرح من خبر سار باستخدام ألفاظها و تحليلها بطريقة بسيطة و غير معقدة، فكما قال الإمام على علیه السّلام: «الألفاظ قوالب المعاني(1)».

دراسة محتوى النص، و هذه الدراسة التي بين يديك هي أحد مصادر معرفة السلوك الانفعالي في زمانه، و مع أنها لا تختلف كثيراً عن المواقف الانفعالية السائدة في عصرنا إلّا أنها مدخل لفهمها، و معرفة أوجه التشابه و الاختلاف، و ما نفعله نحن في هذه المبحث من كتابنا هو مجرد محاولة لمعرفة دور النص الحسني في تعريفنا بالانفعالات

ص: 388


1- محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 8 ص 478

النفسية و أنواعها، و قياسها، و علاقة الانفعالات النفسية بالتغيرات الجسدية و تأثيراتها الايجابية و السلبية، و هو مظهر لقياس ما هو ظاهر من السلوك الانفعالي.

ص: 389

ص: 390

الحلقة العاشرة

اشارة

الأخلاق و الصحة النفسية

في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي

ص: 391

ص: 392

الأخلاق و الصحة النفسية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي

منذ البدايات الأولى للتاريخ تفاعل الإنسان مع عناصر مؤثرة من داخله و مع قوى خارج كيانه الذاتي، فقد تفاعل مع الأخلاق و عقله الفطري أو مع ذكائه الموهوب و كلاهما من داخل ذاته و من قواها الذاتية و تفاعل في الوقت نفسه مع متغيرات خارجية كمتغيرات بيئته الطبيعية و الاجتماعية، و ظواهر الكون، و إذا انتقينا المؤثرات الكبرى فإنَّنا نرى أنها قوى ثلاث جوهرية في حركة الحضارات الإنسانية و هي الدین و العلم و الأخلاق.

و نقصد بالعلم «حركة التفكير المنطقي السليم داخل العقل الإنساني الموهوب (الذكاء) و ما أنتجه من أفكار صنعت حضارة نبيلة في أهدافها و أدواتها و نتائجها، فالعلم هو حصيلة و منجزات التفكير المركز و عصف الذكاء الفطري أو العقل الموهوب كما جاء في أحد نصوص الإمام الحسن التعليمية في مواجهة المثيرات التي واجهته مع

ذاته و مع العالم الخارجي».

و بعبارة أكثر تركيزاً تعد القوى الثلاث (العلم و الدين و الأخلاق) جوهر حركة الوجود الحضاري للإنسان و قلبه النابض، و قد ساعدته على صنع إنجازاته و إبداعاته، و يعزز هذه القوى مجموعة النعم الإلهية التي أسبغها الله سبحانه على عباده كخيرات الأرض و السماء، فهذه القوى -بطبيعتها النبيلة و الخيرة- استخدمها الإنسان إلى تحقيق السعادة في حياة الإنسان، و تسخير إمكانيات العلم و الأخلاق و وهج الدين و تأثيره

ص: 393

الروحي و الذهني في تحقيق المعنى الحقيقي لوجود الإنسان في هذه الحياة و شعوره بالعزة و الكرامة و قيمة الذات بنحو يمهد الطريق لتحقيق الصحة النفسية للفرد و الجماعة.

***

و الصحة النفسية بمسماها الجديد علم فرعي من علوم الثقافة السيكولوجية المعاصرة، و بالرغم من جذوره البعيدة في تاريخ الفكر البشري، و من الإضافات التي قدمها المعالجون على مختلف مدارسهم في هذا الزمان فإن متفرقات معرفية مبثوثة في مصادر تراثنا الروائية تشكل ركائز مهمة في تاريخ نشأة علم الصحة و العقلية، فهذا الفن ممتد بجذوره في التاريخ الثقافي الإنساني، و يجد الباحثون و المتخصصون ، بل و بعض قراء الثقافة النبهاء الملامح العامة و المجملة، و التفصيلية أحياناً لهذا العلم المتأصل في التاريخ الثقافي الإنساني كأفكار متفرقة و آراء جزئية بخاصة في كتب الدين و الأخلاق و بعض العلوم ذات الصلة بالطابع الإنساني المحض كعلم التصوف و علم الأخلاق و الأدب و الشعر و أقوال حكماء البشرية الذين أفرغوا بعض الحقائق السيكولوجية في مجالات علوم النفس المختلفة كل ما جعبتهم من اجتهادات و خبرات معرفية.

و مع ذلك فإن بعض علماء الصحة النفسية المعاصرين لا يعترفون بالجذور التاريخية لهذا العلم و صلته بالعلوم الإنسانية لا سيّما علم الأخلاق و التصوف و علم السلوك لدى رجالات الصوفية و الأدباء و الفلاسفة، فالصحة النفسية و إن كانت قد بلغت مستوىً تقدمياً في تطورها التاريخي إلّا أنها نتاج جهود تراكمية تداخلت فيها ثقافات الأديان و العلوم و الخبرات الإنسانية على امتداد تاريخ طويل، و بذلك فإن الصحة النفسية هي كسائر العلوم ثمرة تجارب بشرية حيناً كما في تجارب علماء الأخلاق و التصوف و الفلاسفة الأخلاقيين و غيرهم، و رؤى دينية حيناً آخر.

ص: 394

مفهوم الصحة النفسية

وضع لهذا المفهوم -كسائر المفاهيم السيكولوجية- تعريفات عدة، و قد عدَّد بعض علماء الصحة مفهومها بأكثر من تعريف لها مثل قولهم: «إنّ الصحة هي الخلو أو البرْء من الأعراض المرَضِيَّة(1)»، و يذهب تعريف آخر معتمداً على الطريقة الإيجابية لتحديد مفهومها إلى القول أنها: «توافق الفرد الاجتماعي(2)» مع الآخرين و الأشياء، و أنها «حالة و مستوى فاعلية الفرد الاجتماعية، و ما تؤدي إليه من إشباع الحاجات الفرد(3)»، أمَّا كيلاندر فيقول: «إنَّ الصحة النفسية للفرد تقاس بمدى قدرته على التأثير في بيئته، و قدرته على التكيف مع الحياة بما يؤدي بصاحبه إلى قدر معقول من الإشباع الشخصي و الكفاءة و السعادة(4)»، و يعرفها عالم النفس المصري الأستاذ الدكتور عبدالعزيز القوصى بأنها: «التكامل بين الوظائف النفسية المختلفة القدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التي تطرأ عادة على الإنسان، و مع الإحساس الإيجابي بالسعادة و الكفاية(5)».

***

العوامل المؤثرة على الصحة النفسية للفرد

كما للفرد صحة جسدية، فجسمه يمرض و يشفى فإنّ صحته النفسية -كسائر

ص: 395


1- عبدالسلام عبدالغفار، مقدمة في الصحة النفسية، ص 18
2- عبدالسلام عبدالغفار، مصدر سابق ص 19
3- عبدالسلام عبدالغفار، مصدر سابق ص 19
4- عبدالسلام عبدالغفار، مصدر سابق ص 20
5- عبدالسلام عبدالغفار، مصدر سابق ص 21

مكونات الذات الإنسانية تخضع في نموها لعدد من العوامل التي تؤثر فيها، فهي الأخرى تختل وظائفها و تعتل و تحتاج لبرنامج علاج لإعادتها للصحة و الشفاء، و بعد التأمل المعمق في المفردات اللفظية لبعض نصوص الإمام الحسن و استبصار محتواها المعرفي فاجتهدنا في فهمها ما أمكننا في ذلك، فالتحديد للعوامل المؤثرة على الصحة النفسية للفرد مجرد اجتهاد شخصي.

و يمكننا بإيجاز تحديد بعض العوامل التي تتأثر بها الصحة النفسية للفرد في عوامل أربعة، متداخلة و مترابطة التأثير، فهذه المكونات تترك أثرها على الصحة النفسية للفرد و مستوياتها، و هذه المكونات هي كما يأتي:

1. الدين.

2. العلم.

3. الأخلاق، و سنبحث تأثير هذا المكون ممثلاً في عدد من القيم لا تتجاوز أربع قيم من مكارم الأخلاق المقبولة لدى المشرع الإسلامي.

4. قدرة الفرد و موقفه على التفاعل الإيجابي مع المكونات الثلاثة.

5. الواقع الإنساني للفرد كالاحباطات، و يشير لذلك حديثه التالي: «اجعل ما طلبت من الدنيا، فلم تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك(1)».

و في طوايا مباحث هذا الكتاب أشرنا لعدة مؤشرات للصحة النفسية مثل القدرة على اشباع الحاجات الإنسانية و استمتاع الفرد بعلاقات جيدة مع الناس و قيامه بمسئولياته الشخصية و الاجتماعية، و سمو السلوك الأخلاقي، و الاتزان الانفعالي

ص: 396


1- الموسوي، الروائع المختارة، حديث رقم 34، ص 133

و العاطفي، و تقبل الفرد لحدود إمكانياته بنفسه، و إتقانه الخبرات، و تنمية القدرات العقلية، و قواعد السلوك الاجتماعي.

***

فرضية العلاقة بين الأخلاق و الصحة النفسية:

نحاول -ما أمكننا- في هذا المبحث من كتابنا مناقشة نظرية العلاقة بين الأخلاق و قيمها كمتغير مستقل فاعل و بين متغير آخر ناتج عن تأثيرها و هو «تحقق الصحة النفسية» للفرد، فالمفردات اللفظية لمجموعة النصوص المتوافرة و المنسوبة للإمام الحسن بن علي عليهما السّلام في مصادر روائية تحتوي على علاقة مباشرة حيناً، و غير مباشرة حيناً آخر بين قيم الأخلاق كمكون أساسي في بنية الذات العربية- الإسلامية و بين الحالة النفسية و الذهنية لها، و بصياغة ثانية لما سبق يمكن القول: بأنَّ ثمة علاقة بين هذا المكون الحيوي لدى الإنسان و الصحة النفسية و العقلية لديه، و نبذل جهدنا بإثبات هذه العلاقة و تحليلها بنحو يقدم للقارئ فهماً و علماً بالترابط بين الأخلاق و قيمها كمكون سالف الذكر و تحقق مستوى معقول من الصحة النفسية للفرد سواء كان متعلماً أو معلماً أو خارج عن دائرتهما التربوية، و في نطاق أوسع من الحياة البشرية .

و نفترض بأن «الصحة النفسية» هو متغير تابع لأكثر من متغير مستقل هي.. الدين، الأخلاق، و العلم، فهذه العوامل تسهم بإيجابية في تكوين حالة جيدة من الصحة النفسية، و أن المعاني العقلية لنصوص الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام في قضايا التعلم و التفكير و الأخلاق و الحاجات تشير إلى حتمية تحسن تصاعدي في الحالة النفسية و الانفعالية للأفراد و ارتفاع معنوياتهم الروحية، و رأينا في مواضع متفرقة من مباحث متقدمة من كتابنا هذا تأكيدات على العلاقة بين هذه المكونات و صحة

ص: 397

الفرد نفسياً و ذهنياً، و كان من المنطقي مناقشة تأثير المكونات الثلاثة .. الدين و العلم و الأخلاق.

و فرضياتنا -لو كنّا نريد البحث الموسع- هي كما يأتي:

. هناك ارتباطٌ بين «التعلم» كمفهوم إيجابي أكدت عليه نصوص الإمام الحسن و بين تحسن الحالة المعنوية و ارتفاعها لدى الأفراد.

. أنّ هناك ارتباطاً بين المفاهيم الأخلاقية في نصوص الإمام الحسن و بين الحالة المعنوية للأفراد و تنشيط دافعيتهم في التعلم.

. و توجد في إثناء النصوص التربوية في تراث الإمام الحسن بن علي ارتباطات إيجابية بين إشباع حاجاتنا البيولوجية و الفسيولوجية و النفسية و بين تحقق قدر مقبول من «الصحة النفسية» للأفراد.

. أنَّ للعقل الإنساني قدراته التي تحقق الارتباط بين الصحة النفسية للأفراد و بين مفاهيم المشرع التربوي في مجالات الدين و الأخلاق و العلم.

. ثمة ارتباط بين تحقيق مستوى مقبول من «الإشباع» بقيم أخلاقية و بين الصحة النفسية و الذهنية.

بيد أننا لن نناقش الفرضيات جميعها، فهذا يحتاج لكتاب مستقل، بل سنبحث فرضية العلاقة بين بعض القيم الأخلاقية و تحسن الصحة النفسية.

و بالتأكيد لن تكون مناقشتنا للفرضية الأساسية المتقدمة إحصائية رقمية كما يفعل الباحثون في معالجة قضايا العلم و التربية و الاجتماع الإنساني، و إنما ستسلك معالجتنا للفرضية منهجاً نظرياً يقوم على جمع بعض النصوص و ترتيبها و تنظيمها و تحليلها

ص: 398

و استخدامها في مواضعها المناسبة و استخراج المعاني الرابطة بين الأخلاق و بين «تحسن الصحة النفسية للأفراد» و ستكون المعالجة في مناقشتنا لنماذج مختارة من نصوص الإمام الحسن في المجال الأخلاقي التي تضمنتها هذه النصوص الدينية، و اكتفينا لإثبات هذه العلاقة بين الأخلاق و الصحة النفسية بأربع من القيم و مكارم الأخلاق التي أشارت لها أقوال الإمام الحسن علیه السّلام.

***

نماذج من نصوص الإمام الحسن في مجال الصحة النفسية:

كان التراث الثقافي و الروحي و الأخلاقي للإمام الحسن بن علي أحد مصادر التطور التاريخي للصحة النفسية و مفاهيمها أو على أقل تقدير إسهاماته في هذا المجال من نصوص و خطب و أدعية و كلمات قصار لتحديد بعض معايير الصحة النفسية و مفاهيمها المعرفية و الإشارة إليها في بعض نصوصه التربوية و الأخلاقية.

و من المؤكد أن الصعوبة في حصر نماذج من هذا الإسهام في تطور الصحة النفسية لدى علماء المسلمين و علمائهم هو أمر لا مفر منه لحفظ رؤية الإمام الحسن و تأصيلها في هذا المجال، و لاستخدامها في عملية تحليل النصوص التي استبطنت بعض الأفكار السيكولوجية في مجال الصحة النفسية، و سبب هذه الصعوبة أن هذه النصوص هي للأسف متناثرة في مصادر روائية عديدة، و موزعة في بعض المفقودة أو حتى التالفة، و هنا كما قلنا مكمن الصعوبة في جمع ما تركه الإمام الحسن علیه السّلام من روايات و أقوال و حكم قصار ممن لها علاقة من قرب أو بعد بالصحة النفسية، و مع ذلك فعدد من النصوص المتوافرة بين أيدينا يمكن الاستفادة منها في صياغة نظرة عن «الصحة النفسية» للفرد و محدداتها الإيمانية- التوافقية في فكر الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السّلام.

ص: 399

و ستأخذ عملية البحث عن النصوص ذات العلاقة بالصحة النفسية من منظور الإمام الحسن و فكره الإنساني مسارين أساسيين هما:

1. مسار جمع نصوص الإمام الحسن علیه السّلام و ترتيبها للإفادة منها في خطوات لاحقة من الدراسة و بخاصة في عملية التحليل لمعرفة معانيها و علاقتها بمفاهيم الصحة النفسة.

2. و المسار الآخر هو تفسير بعض النصوص لاسيّما المفاهيم الأخلاقية بما يتفق بحسب معايير الصحة النفسية- العقلية.

و سنذكر هنا -في هذا المبحث من كتابنا هذا- على عدد من هذه المفاهيم الأخلاقية- السيكولوجية و تحليلها و استنباط مكوناتها المعرفية و الروحية و الإرشادية، و قد فعلنا ذلك في معالجاتنا لبعض القضايا في المباحث الثمانية السابقة.

***

مجال العلاقة بين الأخلاق و الصحة النفسية

هناك أكثر من سمة أخلاقية أقرها خطاب الإمام الحسن تحقق للأفراد صحتهم النفسية و العقلية، بل إن الوظيفة التربوية الأساسية لكل القيم الأخلاقية -بلا استثناء- بناء الشخصية الإنسانية و تكوين مفاهيمها الإيجابية عن نفسها، و المجتمع و الكون و الذات الإلهية، و قد وردت في توجيهات الإمام الحسن نصائحه علیه السّلام لأفراد مجتمع عصره، و للناس فيما زمانه متحدثاً عن مجموعة من القيم الأخلاقية و بتفعيلها في حركة الحياة كي تحقق الذات أمنها الداخلي في الدنيا، و تجعل من أعمالها العبادية حصناً آمناً لها في عالم الآخرة.

ص: 400

و لكننا لن نستطيع في مبحث محدود المساحة معالجة الآثار السيكولوجية لكل القيم الأخلاقية التي جاءت في تراثه الفكري، فذاك جهد يحتاج لمهمة علمية أوسع، و لهذا فإننا سنضع أمام القارئ الكريم نماذج تتراوح بين نموذجين أو ثلاثة من القيم و مكارم الأخلاق تنطوي على دلالات إيجابية في حقل الصحة النفسية ك- (الزهد، العفة، و الصبر) مع أن قائمة الفضائل و القيم الأخلاقية تتسع لشبكة متداخلة في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام كما في نص «تحديد المفاهيم الأخلاقية» المكون من (27) مفهوماً أخلاقياً و سمة إدراكية، و هو مجموعة أسئلة من الإمام علي أجاب عنها بألفاظ دقيقة و معبرة، و كما في النص التالي مشيراً لست قيم من مكارم الأخلاق:

«أما الكرم فالتبرع بالمعروف و الإعطاء قبل السؤال، و أما النجدة فالذب عن المحارم، و الصبر عند المكاره ، و أما المروءة فحفظ الرجل دينه و إحراز نفسه من الدنس، و قيامه بأداء الحقوق و إفشاء السلام(1)»، و قال عن الجود: «الوعد مرض في الجود، والانجاز دواؤه(2)».

***

السمة الأولى: الزهد

من السمات و القيم الأخلاقية الكبرى في خطابه الإنساني عليه الصّلاة و السّلام، و قد عثرنا على بعض النصوص التي تلفت أنظارنا إلى أهميتها في تربية الذات البشرية و تكوين سلوكها و اتجاهاتها و مشاعرها، و لنقرأ بتمعن بعض النصوص عن مفهوم الزهد، و من محتواها المعرفي و تركيبتها اللفظية نتعرف على آثار سمة الزهد و وظيفتها

ص: 401


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 38، 133

التربوية و الإنسانية في تحقيق الصحة النفسية، و في استعادة التوازن المفقود لدى الشخصية الإنسانية.

1. قال علیه السّلام في الزهد كقيمة أخلاقية:

«من عرف الله أحبَّه، و من عرف الدنيا زهد فيها، و المؤمن لا يلهو حتى يغفل، و إذا تفكر حزن(1)» فهذا النص يشير للزهد كسمة أخلاقية- روحية لها دور كبير في تنظيم الاشباع للحاجات و يربط بينها و بين محبة الله، فكل من عرف الله أحبه و ضحى بملذات الدنيا من أجله، فالزهد يعني أخذ ما يحتاجه الفرد من ملذات الدنيا بمقدار ما يكفيه بطريقة حلال و الاستغناء الوعي، و بقناعة داخلية عن الاشباع فوق الزائد للحاجة بخاصة إذا نوع الاشباع محرماً، و غير سوي، لهذا قال الإمام الحسن بن علي في مقطع لفظي من نص آخر: «و خذ منها ما يكفيك».

2. و عزز هذا الاتجاه الأخلاقي للزهد نص آخر يقوله فيه الإمام الحسن علیه السّلام:

«و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك، و أعلم في حلالها حساباً، و في حرامها عقاباً، و في الشبهات عتاباً، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، و خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها، و إن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة. و إن كان العتاب فإنَّ العتاب يسير(2)»، فهذا النص يجعل من ضبط الحاجة إلى التملك مدخلاً طبيعياً للسيطرة على إشباعها بالحلال، و تحذير الأفراد من إغراق النفس في شهوة جمع المال بالحلال و الحرام على حد سواء، فقال المقطع الأول من النص: «و أعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك

ص: 402


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 18، ص 129
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 12، ص 28

إلّا كنت فيه خازناً لغيرك»، و تلك محصلة نشاز لا ينتبه عليها كثير من الناس، فالإنسان بطبعه بل و طمعه الزائد عن الحد، يميل إلى جمع المال و تخزينه، ليستفيد منه ورثته،، و قد يكون من سوء حظ الموروث جامع المال قد ترك المال لوارث سيئ السلوك فيتصرف فيه بطريق غير شرعي فينال الموروث جانب من المسئولية، و قد يرثه وارث يحسن التصرف فيه فينال ثواب التصرف الشرعي بالمال، و كسب المال لدى المشرع ليس محرماً، و لكن المراد أن يتصرف فيه المرء كمستخلف، و في خدمة هدف عبادي يحقق للفرد مهمته في الحياة كما أراد الله له و إلّا أصبح وبالاً عليه أو استثمره الوارث بنحو يرضي الله فينال جزاءه و مثوبته.

3. و قوله في توجيه للناس في زمانه و في العصور اللاحقة لهم: «فازهدوا فيما يفنى، و ارغبوا فيما يبقى، و خافوا الله في السر و العلن(1)»، هنا يتقدم فكر الإمام الحسن بتوضيح أكثر للناس في تحديد الفائدة من استخدام سلوك الزهد، فأوضح الإمام علیه السّلام أنَّ الزهد هو ضرورة لضبط السلوك و السيطرة على اشباع حاجات الإنسان ليس في مجال المال، بل في كل جوانب الحياة، و أشكال الحاجات البيولوجية الأكثر إلحاحاً على الناس لهذا نبه الإمام بأن الزهد لا فكاك منه بالنسبة للعقلاء و الأسوياء، و هو خطوة عملية للسيطرة على نوازع الشهوة الزائدة عن الحد، فقال علیه السّلام في تعليل: «ازهدوا فيما يفنى»، فما يرغبنا فيه الإمام الحسن بالزهد فيه و صرف الرغبة عن أشياء تفنى، فالزهد فيما يفنى، فالمال يفنى و كل الأشياء التي يسعى الإنسان لتملكها تفنى، فلماذا التمسك بها إذا كانت فانية؟، بل الإنسان نفسه يفنى و يترك ما خلَّفه لغيره، و الغير و ما ترك من مال و أشياء هي في نهاية الأمر تفنى، و أصبح المنطقي الزهد فيها ، و الرغبة فيما يبقى كالأعمال العبادية التي يكلف المرء بأدائها في دنياه، فاليوم عمل و لا حساب كما قال الإمام

ص: 403


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الخطبة 3، ص 15

علي، و غداً حساب و لا عمل، و باختصار فهذا التوجيه ينطوي على نصيحة أخلاقية، و عملية تدريب للفرد على مواجهة شهوات النفس و إخضاعها لرشد العقل، مما يؤدي إلى طمأنينة لدى الزاهد و تحقيق استقرار و أمن داخلي لديه و استعادة للتوازن النفسي حتى و إنْ كان قد فقد منه لفترة، و بالتالي فالزهد مفهوم أخلاقي واقعي و تقدمي لإدارة النفس بنظرة صحيحة، و ضبط حركتها مع الشهوات و في تعاملها مع الأشياء دون متاعب مؤلمة للنفس، فالإنسان لن يستطيع الحصول على كل شيئ، و لن يتاح له تحقيق الاشباع لكل حاجة من حاجاته، و حتى لو تحقق فقد يتجاوز الإشباع حده الطبيعي و المنطقي فيتحول لإشباع زائد يلحق الضرر بالفرد، فلا مانع أن يتقلد الفرد منصباً أو يمتلك مالاً، أو يكون صاحب جاه و نفوذ، و أن يكون الخير بين يديه، و له الحق في امتلاك كل شيئ، و لكن لا حق له أن يكون مملوكاً لهذا النصب أو ذاك المال أو النفوذ و الجاه، فإذا ما تطلبت الحاجة أن يتخلى عن هذا الاشباع سارع إلى التضحية، فالحسين كان يملك النفوذ و الجاه و بيده المال و يتقلد منصب إمامة الناس، و حينما استوجب واجبه حماية الإسلام نزع عن نفسه، و قام بجرأته النادرة على فعل تضحيته التاريخية و قدم نفسه كبشاً للإسلام و الإنسانية جمعاء، و من هنا فالزهد لا أن لا تملك شيئاً، و لكن أن لا يملكك شيء كما قال أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب.

4. و في نص سئل الإمام الحسن من والده الإمام علي عن الغنيمة، و في رواية أخرى سأله عن الزهد فقال علیه السّلام ضمن تحديد عدد من المفاهيم الأخلاقية: «الرغبة في التقوى و الزهادة في الدنيا(1)»، و نلحظ أن هذا النص يساند النصوص المتقدمة، و يحدد طريقين للفرد ليكون العمل بهذا التوجيه مجدياً، و هو أن يرغب الإنسان في تقوى الله، و أن يمر

ص: 404


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص 164، والأربلي في كتابه (كشف الغمة في معرفة الأئمة)، ج 2 ص 194

ذلك من بوابة الزهد في الأشياء الفانية، لهذا أراد الإمام لنا أن نزهد فيما يفنى، و أن نرغب فيما يبقى لنا بعد مماتنا فيكون حصيلة أعمالنا يوم نلقاه سبحانه فيثيبنا بشآبيب رحمته و فيوضاته الربانية.

5. و في نص ثالث قال الإمام الحسن الزكي أيضاً:

«يا بن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً، و ارض بما قسم الله تكن غنياً(1)»، فهذا النص لم يأت على ذكر لفظ «الزهد» مباشرة، و لكن النص انطوى عليه في تركيبته، فالعفاف رغبة النفس في تحقيق اشباع منطقي بلا تدنيس للنفس أو هو بتعبير الإمام الحسن «إحراز نفسه من الدنس»، و لا يصاحبه من أو تعيير، و إذا كان الزهد كف النفس

عن الاشباع الزائد حتى في الشيء الحلال فإن العفاف حركة النفس في تجنب محارم الله و ضبطها على الاشباع السوي سواء بكفها عن الزائد من الحلال أو بمنعها من الاستجابة للمحرمات، فكلاهما يحققان للنفس أمناً داخلياً يجنبها الوقوع في حالة صراع نفسي قد يمهد للأمراض السيكولوجية و العقلية، و بتآزر قدرة الفرد في كف نفسه عن اشباع زائد مع قدرته على تجنب فعل المحارم يكون الفرد قد حقق العفاف الداخلي، و دخل في نطاق العابدين الآمنين يوم الحشر، أما المقطع الثاني من النص: «و أرض بما قسم الله تكن غنيا» فهي القناعة بعدالة التوزيع الإلهي بما قسمه للناس من أرزاق و أعمار و نعم متعددة بصرف النظر عن الزيادة و النقصان فيها، و تسبب هذه القناعة حالة من التوازن الداخلي و إحساساً بالأمن و الطمأنينة و سيطرة كاملة للعقل على حركة الشهوات غير المنضبطة بقواعد المشرع التربوي الإسلامي، فالغنى هنا ليس تملكاً لأشياء فانية، و إنما امتلاكاً للأمن و الطمأنينة و النهاية السعيدة بين يدي الله سبحانه، و بذلك تظهر حالة

ص: 405


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 للأربلي، ص 198- 199، و كتاب الروائع المختارة للموسوي، رقم الخطبة 7، ص 19

الغني في أمرين أحدهما استقرار أمني بالدنيا يتمتع فيها الفرد بالصحة النفسية و العقلية و الرضا النفسي و تكون خالية من أمراض الطمع و القلق و اللهث وراء الشهوات

بلا فائدة و البحث المجهد التائه عن ملذات و شهوات قد تكون بعيدة المنال، و الثاني اطمئنانها على مصيرها السعيد في يوم الجزاء الأكبر.. يوم البعث.

***

المعاني التربوية و السيكولوجية للزهد

أمامنا خمسة نصوص ذكر مصطلح «الزهد» مباشرة في أربعة منها، و اختفى المصطلح كلفظ في النص الخامس ، و لكنه طوى معناه العقلي في تركيبته اللفظية، و في كل النصوص أراد الإمام الحسن تأكيد بعض المعاني التربوية، و هي معاني ذات صلة بآثار

سيكولوجية مؤثرة بإيجابية على الوظيفة العبادية للذات المسلمة، و منها على:

1. تحقيق اشباع مناسب و سوي و بمقدار الحاجة، ف- «الزاهد ينظر إلى الحياة كمتاع عابر، و يعيش فيها بمفهوم قصر الأمل، و يكتفي عادة بإشباع على قدر حاجته، و ربما إلى حد الكفاف، و هو بالتأكيد تأمين بسيط لمتطلبات الحياة، فهو لا يطلب داراً فخمة،

ولا يلهث وراء جاه أو منصب أو مكانة اجتماعية أو عقار أو امتيازات(1)»، و يأخذ منها ما يكفيه و يسد رمقه و يعينه على انجاز مهمته العبادية في عالمه الدنيوي الفاني، و عادة ما يكون وراء ذلك دافع قوي كالرغبة في الإثابة الأخروية، و الرغبة في تحقيق استقرار النفس في الدنيا.

2. تدريب النفس المؤمنة على تقبل مبدأ الاحباطات المستمرة و المتراكمة أحياناً في حياة الإنسان، و في هذا الصدد قال الإمام الحسن علیه السّلام: «اجعل ما طلبت من الدنيا، فلم

ص: 406


1- یوسف مدن، العلاج النفسي و تعديل السلوك بطريقة الأضداد ص 356.

تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك(1)»، فقناعة الزاهد بإشباع على قدر الحاجة الإحباط، و يتفادى الوقوع في حالة صراع نفسي، فهو لا يصاب بإحباط لأنه لا يجري وراء اشباع زائد عن حاجته، و لا يعتريه صراع لأنه بزهده يتيح لنفسه هدوءًا و توازناً داخلياً(2)، و هذا بالتأكيد يحقق للإنسان الزاهد راحة داخلية تترك آثارها الإيجابية على شخصيته، و لهذا فإن خياره هنا بالزهد خير له من القلق و الألم و اللهاث وراء الشهوات بلا طائل.

3. تقبل مبدأ ضبط الاشباع و تأجيله إلى حين اللحظة المطلوبة، و مواجهة الاشباع العاجل و التخلي عن الإشباع في اللحظة الحاضرة بانتهازية و نفعية لا تطابق محددات المشرع التربوي الإسلامي و لا تلتقي مع معايير الصحة النفسية، و لاسيّما إن كان محرماً و غير سوي، و مصحوباً بآثام دينية.

4. تمكن الفرد من حسم حالة الصراع النفسي في داخل كيانه، و هيَّأ نفسه لحالة رضا داخلي يشعر فيها بغنى النفس مصداقاً لقوله علیه السّلام: «إنْ لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره، فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى(3)»، و قد تقدمت إشارتنا إلى دور الزهد في التغلب تربية الشخصية و بنائها.

5. إنَّ تحقيق الاشباع الزائد عن الحاجة بخلاف مفهوم الزهد و معانيه الروحية و الأخلاقية يجعل الاشباع سمة مرضية تؤدي إلى نشوء خلل في النفس، و قد أطلق المشرع الإسلامي على ذلك مصطلح «الرغبة»، أما المصطلح المضاد له فهو «الزهد» الذي له فاعلية كبيرة في تحقيق التوازن الداخلي للشخصية المؤمنة(4).

ص: 407


1- الموسوي، الروائع المختارة، حديث رقم 34، ص 133
2- يوسف مدن، العلاج النفسي و تعديل السلوك بطريقة الأضداد ص 356.
3- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 50، ص 135
4- یوسف مدن، العلاج و تعديل السلوك بطريقة الأضداد، ص 356.

6. يتمكن الإنسان المؤمن بزهده من تحقيق توازن داخلي فعال لشخصيته العبادية،

فالزاهد قد حرر نفسه من ضغط الشهوات، و من سيطرة الاستجابات الخاطئة لحاجاته، فهو يتحكم في إخضاع الأشياء التي يمتلكها، و يضعها تحت تصرفه، و يتغلب على سلطانها، و قد أشرنا لموقف الإمام الحسين، فكما تقدم «بمقدور الإنسان أن يملك» أن يملك الدار و المال و الزوجة، و لكن هي جميعاً بيده لا أن تمتلكه، و «يتصرف بالزائد منها في سبيل تحقيق و إنجاز مهمته العبادية في الحياة(1)».

***

السمة الثانية: الصبر

الصبر ضمن «المنظومة القيمية» الفعالة في تنظيم السلوك الإنساني و تفعيله لدى الإمام الحسن و إحدى أهم مكارم الأخلاق في خطابه التربوي و الثقافي و الأخلاقي، و قد وردت في أكثر من نص يتفاوت في حجمه و مفرداته اللفظية و معانيه العقلية، فالصبر قوة روحية تبنى إرادة الأفراد و تجعلهم يقاوم إحباطات الحياة و قسوة ظروفها،

و تصنف بلغة علماء النفس المعاصرين في قائمة السمات الوجدانية لارتباطها بالثبات العاطفي و تأثيراته الإيجابية على سلوك الأفراد و شخصياتهم الاجتماعية، و توحي مفردات لفظية مباشرة بهذه السمة، بينما توحي كلمات أخرى غير مباشرة بالإشارة إلى هذه الصفة الحيوية في الشخصية الإنسانية.

و مررنا على بعض النصوص تحمل بين طياتها معاني الصبر و الثبات النفسي في مواجهة الشدائد و أثره في بناء إرادة الإنسان و تكوين جانبه الوجداني و مدى ثباته

العاطفي كقوله علیه السّلام لنا في توجيه يستبطن الصبر و الإرادة و توجيه حركة النفس

ص: 408


1- یوسف مدن، المصدر السابق ص 356.

و دوافعها الداخلية في مسار الخير و الإرادة النبيلة و عدم الاستسلام لنوازعها غير

الصحيحة كقوله: «إنْ لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره، فلا تطعها فيما

تحملك عليه مما تهوى(1)».

وسنعالج حديث الإمام الحسن لهذه الصفة الأخلاقية وأثرها في تحقيق القدر الطبيعي السوي من الصحة النفسية في نصين يمثل أحدهما مقطعاً من نص أطول، وهو توجيه عام لمقاومة صعاب الحياة والشدائد التي سماها الإمام بمصطلح «المكاره» الذي هو قدرنا كبشر في حياتنا التي نعيشها، أما النص الثاني فتوجيه خاص بالمجاهدين، ولكنه

مصداق لمفهوم الصبر بمعناه العام وهو مسك النفس من داخلها عن الجزع والهلاك، وثباتها عن الانهيار النفسي، فكلا النصين يعطيان مفهوماً موحداً مع اختلاف بسيط في

دلالتهما السيكولوجية.

***

من أقوال الإمام الحسن

يقول في صفة الصبر كإحدى القيم و السمات الوجدانية التي تنمي الثبات العاطفي و تقويه.

1. قال علیه السّلام حينما تحدث عن مكارم الأخلاق: «الصبر عند المكاره(2)».

2. و قال الإمام الحسن بن علي عليهما أفضل الصّلاة و السّلام في حديث ثانٍ و هو يحث المؤمنين أفراداً و جماعات على الجهاد: «اصبروا.. فإن الله مع الصابرين، فلستم أيها

ص: 409


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 50، ص 135
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92 ص 141

الناس نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون(1)».

***

الدلالات السيكولوجية و التربوية للصبر

ثمة دلالات سيكولوجية ترتبط بحياة الصابرين و تصبغ أنفسهم، فالصبر -كسمة أخلاقية- تؤثر في سلوك الناس الذين يتحلون بها، و تعطي نتائجها الإيجابية في حركة الحياة بنحو تجعل إدارة الأفراد لأنفسهم أكثراً تكيُّفاً و توافقاً في مواجهة الأزمات و المحن، و مختلف الابتلاءات و مكاره الدنيا، و من هذه الدلالات التي استخلصنا مضمونها القيمي و التربوي من النصين:

***

تحليل النص الأول

1. تضمن النص الأول «الصبر في المواطن عند المكاره» إشارة للصبر ك- «استجابات عقلية و عاطفية»، و مكاره في الدنيا تواجه الأفراد كمثيرات و تحديات كالشهوات و المحن و الابتلاءات كالأمراض و الفقر و الحروب و الفتن الداخلية و مشكل الأسرة و الأبناء، و غير ذلك، و هذه المكاره تمثل بالنسبة للناس تحديات في حياتهم، يضعف بعضهم عنها و يقوى عليها آخرون، و هي بلغة علماء النظرية المدرسة السلوكية مثيرات تواجه استجابات سلوكية تستثير الأفراد، و يعبر عنها الأخلاقيون ب- «الصبر»، فالسلوك لدى السلوكيين علاقة إرتباطية بين مثيرات و استجابات، فإذا صدر مثير تبعته في الصدور استجابة سلوكية، فالأفراد وفقاً لمحددات النظرية السلوكية تعبر لدى بعض الأفراد عن صبرهم.

ص: 410


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 42 ص 79

2. أنه عندما يواجه الأفراد تحديات مختلفة الشدة و التأثير لا يبقى أما الأفراد سوى الاستجابة لمواجهة هذه التحديات و هم الذين قلنا عنهم أنهم استقووا على مواجهة الأزمات بالصبر و الثبات العاطفي و عدم اضطراب شخصياتهم، أما استجابات بعض الناس غير الصابرين فضعف و هزيمة و استسلام، فاستجابات الأفراد تتنوع في مواجهة الأزمات و الشدائد إما معبرة عن جزعهم أو صبرهم و ثبات إرادتهم، و حينما تتسم استجاباتهم بالنضج و الثبات و الصبر أمام شدائد الحياة و محنها، فإن صور الانهزام و حالات الصراع النفسي و التبرم و الجزع و إحساسات الفشل تختفي أو تضعف، و لهذا الثبات العاطفي و الاتزان الانفعالي أثره الكبير في صقل شخصية الإنسان و تنمية قدرته على المقاومة النفسية و صموده، حقاً من هزم الجزع في داخله أنجاه صبره.

3. يحقق الإنسان الصابر ثباتاً عاطفياً فيحفر الفرد في شخصيته سمة أخلاقية و وجدانية ذات أهمية بالغة لديه، إذ يتمكن الصابر من بلوغ مستوى ناضج من الاتزان الانفعالي يسمح للفرد المتزن من التعبير عن انفعالاته و هو في حالة «ضبط داخلي» لها حينما يواجه مشاكل الحياة و مصاعبها، فيصمد أمامها بالهدوء و الثبات و التفكير الواقعي و ليس بالبكاء و العويل، و تتحول هذه المشاكل إلى تحديات تستوجب تفكيراً أكثر نضجاً لمعالجتها بالذكاء و ليس بالتسويف و التعليل، فالصبر بمسماه الإنساني القديم خيار الأفراد في مواجهة المشاكل، و خيارهم في معالجة أمورهم بنجاح.

4. للصبر -كما يلحظه كل من يهتم بالشأن التربوي- طابع تعليمي فهو سلوك يتم اکتسابه من تربية اجتماعية و روحية و التدرب عليه في وسط مثيراتها، فالجزع مشهد انفعالي يدل على سوء تكيف الأفراد و عدم اتزانهم و لمواجهة هذه الحالة يتعلم كل فرد

كيفية التحكم في انفعالاته و عواطفه و التدرب على ضبط نفسه من التفاعل السلبي مع

ص: 411

مثيرات الحياة ،و مصاعبها و لهذه الحالة أثرها التربوي كاستعداد الفرد لتقبل و تنمية

السلوك المعتدل، و تحرير النفس من سيطرة الانفعالات و العواطف الإنسانية، و يمهد

لإعداد أشخاص أسوياء و ناضجين انفعالياً و عاطفياً، و واقعيين قادرين على مواجهة

الحياة، و التكيف مع مثيراتها.

5. و يتميز الإنسان الصبور و الثابت أمام الأزمات و المحن بمستوى أفضل من الثقة بنفسه و بقدراته الذاتية، و بدرجة عالية و طبيعية على الاستقرار و التحرر من سطوة الاضطراب النفسي الذي يجعل الذات في حالة توتر و تأزم داخلي.

6. و من حقائق الحياة «أنَّ الشخص الجزع لا يتعامل مع نفسه كعابر سبيل في هذه الدنيا، لذلك ينافس أهلها في عزها، و قد لا يستطيع أن ينجح في هذه المنافسة، و في الوقت نفسه يعجز عن أن يحرر نفسه من جزع ذلها، لذلك أبقى كيانه في توتر و صراع نفسي مأزوم، لا لأنه لم يتمكن من تجنب حالة الصراع في عمق الذات، بل لأنه لم يوفق في حسم صراعه الداخلي حسماً سوياً و إيجابياً من النظرة الإيمانية، أما الصبور فتأثيره في النفس مضاد تماماً لحالة الجزع، فهو ثبات النفس عاطفياً، و عدم اضطرابها في الشدائد، إذ تستوي عند الصبور مختلف حالات المواقف النفسية، و ينظر إلى تقدير الله للأمور بعين الرضا، فلا يتبرم، و لا تضجر نفسه، و لا يلهث وراء إشباع عاجل لحاجات يعلم بأن الله عز وجل هو مصدر تأمينها للناس جميعها، فهو الرزاق، و هو وحده عز وجل الذي يعوض الصابرين، و يستبدل إشباعهم العاجل بآخر أسمى منه في دنياهم، و هو مطمئن إلى تأجيل إشباعه، و أجره في عالم الآخرة، فإذا فقد الإنسان الصبور عزيزاً احتسبه عند الله، و إن ضاع منه مال أو فقد داراً أو جاهاً فما عند الله خير و أبقى(1)».

ص: 412


1- يوسف مدن، العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني ص 342.

7. و نستبطن من سمة الصبر كسمة وجدانية و أخلاقية تأثيرها على النفس من حيث حمايتها من الأمراض النفسية و إخلائها من أجوائها المرضية كحالات الصراع النفسي الصعبة بين رغبات الغرد المتعارضة التي تسبب أزمة داخلية للذات البشرية، و من ثم تعيش الشخصية في ظلال الرحمة الإلهية و السكينة و الطمأنينة و التوافق، فلا يرى الفرد في داخله: «تعارضاً بين إرادته و بين إرادة الله، و هذا عكس ما يشعر به الجزوع الذي يرى فعل الله مخالفاً لهواه، و يشعر بأن المجتمع يتهدده بالخطر(1)».

8. يقدم الشخص الصبور نفسه في صورة جميلة للناس حتى و إن كان لا يقصد ذلك في داخله، فهو لا يبدو أمامهم جزوعاً، هلعاً، فاقداً للطمأنينة، فيكسب بصدقه و إخلاصه لقيمه ثقة الناس به، و يحظى بتقديرهم و مكانة مرموقة تستوجب التأسي به كقدوة حسنة، و لهذه الصورة دلالتها النفسية من حيث تدريب الشخصية على الصمود و الثبات العاطفي، و النضج الإيماني بمعاييره العبادية النقية.

***

تحليل النص الثاني

و في النص الآخر و هو يحمل في تركيبته اللفظية نفس معانيه الروحية و العقلية و الجهادية: «اصبروا.. فإن الله مع الصابرين، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون» إشارة إلى أهمية هذه السمة في تحقيق النصر بالنسبة للمجاهدين المقاتلين، و يبين النص اقتران النتائج المرجوة و ما يحبه الأفراد بالصبر، و ينطوي هذا النص على بعض الدلالات السيكولوجية و التربوية.

***

ص: 413


1- يوسف مدن، المصدر السابق ص 343

و من الدلالات المستفادة من النص الأخير ما يأتي، و هي تعزز الملاحظات التي

سجلناها في تحليلنا للنص الأول.

1. عالج النص كذلك مسألة الصبر على مكاره الحياة كالنص الأول، لكن النص الثاني خص معالجته بقضية تقاعس الناس عن الجهاد، فأراد الإمام الحسن علیه السّلام من خلال محتوى نصه الثاني إثارة همتهم الجهادية و تنشيطها و تفعيلها لخدمة الأهداف التي تساند الدولة التي يقودها الإمام علیه السّلام.

2. عرض النص القيمي نظرة علاجية واقعية، فإذا واجه الإنسان مشكلة ما كتقاعس الناس عن جهاد أعدائهم، فليس الحل التبرم و الضجر و البكاء و التململ و إِنَّما بالصبر حتى لو كرهوا الحرب أو الفعل الذي يقومون به لنيل ما يرغبون و ما يحبون، فالصبر على المكاره كصبرهم الحروب و معالجة التقاعس عنها، و القتال ببسالة و التخطيط للمبارزة القتالية هي همل واقعي يتطلب خطة فعلية لمواجهة المشكلة التي استشعرها الإمام الحسن علیه السّلام من أتباعه المثخنين بجراح الحروب السابقة التي حدثت في عصر والده مع أتباع معاوية، و قد تضمن النص كما أشرنا لمعالجة عملية لمشكلة تقاعس الناس عن الحرب و الجهاد، فالناس في زمانه و بعد سلسلة حروب مجهدة تعبوا فسئموا القتال، و استشعر الإمام رخاوتهم و قلة الناصر، فحثهم علیه السّلام لنيل ما يحبون حتى لو كان عن طريق ما يكرهونه، و تحركت المعالجة بين محفزات الصبر، و تأكيد الإمام الحسن لنصر الله للمجاهدين، و حتمية تحقيق النصر لهم.

3. انطوى النص الكريم في آن واحد على عنصرين مهمين هما التحفيز و التعزيز، فأما التحفيز فمهمته إثارة دافعية الناس نحو العمل الجهادي و تحقيق النصر بهذا الخيار وحده، فإن الناس كما قال الإمام ليسوا نائلين ما يحبون إلا بما يكرهون و هو الحرب

ص: 414

و الجهاد و القتال، و أما التعزيز فيتحقق في النص بمحفزات ثلاثة هي كما يلي:

أ. بالصبر و نتائجه المباشرة على الشخصية.

ب. من خلال الدعم الإلهي .. أي بعون الله للمجاهدين الصابرين في معاركهم مع أعدائهم و أعداء الدين فالله معهم كما أوضح النص.

ج. و تحقيق النصر و استثمار نتائجه الإيجابية في النفوس.. أي نتائج الجهاد.

4. أشار النص إلى التعزيز و الحصول المؤكد على إثابة العمل الجهادي و الصبر عليه بقوله علیه السّلام: «فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون»، و إذا كان ما يحبه المجاهدون هو النصر على أعدائهم في الحرب و القتال فإن ذلك لن ينال كثواب لهم إلّا بالصبر على ما يكرهون، فالثواب و التعزيز الطبيعي لسلوكهم الجهادي أوضحه النص الثاني بأن ما يرغبون في الحصول عليه ممن يحبونه هو تحقيق نصر الله تعالى لن يتم بغير الصبر و الثبات العاطفي أمام الشدائد و الأزمات، و يوحي النص المتقدم بأن الإثابة ليست فقط في تحقيق نصر مؤزر على الأعداء و إنما باكتساب عون الله سبحانه للمجاهدين و ثقته بهم و تأكيد مثوبته للمجاهدين، و قول الإمام الحسن بأن الله مع

الصابرين ليس من أجل رفع معنويات المجاهدين فحسب و إنّما لتأكيد الأجر الإلهي في يوم المعاد بعالم الآخرة، و هكذا فإنَّ معززات النص تتحرك بين عالمين.. دنيا الإنسان القصيرة ،و آخرته، ف- «الدنيا مزرعة الآخرة» كما في قول الإمام علي علیه السّلام.

5. كما يلحظ القارئ الكريم بأن النص التربوي الحسني قد انطوى في مفرداته اللفظية و محتواه المعرفي على مقابلة واضحة بين نمطين من أنماط السلوك المتقابلة و المتضادة و هما «الحب و الكراهية»، و «الجهاد و النكول عنه»، «و اليأس و الأمل» و غيرها، و قد ذكر الحب و الكراهية بلفظ صريح، فالمحبوب هو تحقيق النصر في الحرب

ص: 415

إنْ كان المراد من المحتوى اللفظي للنص هو الثبات في الحرب، بيد أن الحروب مكروهة لدى كثير من الناس بخاصة ممن عاشوا الرخاوة في حياتهم، و هنا يقدم النص علاجاً لهذه الحالة التي قد تكون حالة مرضية لدى بعض الناس، و ذلك بمعالجة ما يكره الناس بالصبر عليه لنيل المحبوب أو السلوك المرغوب.

***

السمة الثالثة: صفة الحلم

و عن الحلم -كصفة أخلاقية- قال الإمام الحسن الزكي بن علي عليه أفضل صلوات الله و سلامه و هو يجيب على تساؤلات أبيه:

1. ما الحلم فقال: «كظم الغيظ و ملك النفس(1)»، و اكتفينا في هذه المعالجة العلمية بمعرفة آثاره السيكولوجية على الصحة النفسية للفرد.

2. قد سئل عن مفهوم «الصمت» فقال: «هو ستر العي، و زين العرض و فاعله في راحة و جليسه في أمن(2)».

***

الحلم و مجالات السيطرة الأخلاقية على النفس:

ربما يكون من الصعوبة تحديد مجالات استخدام هذه الصفة بدقة في إدارة النفس و ترتيب سلوكها في علاقتها مع الذات، و مع الآخر، و لكن يمكن حصر أبرز هذه المجالات، أو على أقل تقدير نواحي السيطرة الفاعلة لهذه الصفة الأخلاقية في توجيه

ص: 416


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 164، و السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 59
2- الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2 ص 197، و كتاب الروائع المختارة، للموسوي، رقم الحدیث 29، ص 132

النفس و ضبطها و مراقبتها بحركة الحياة التي تعيشها، و على أساس ذلك نجد أن الأهم في استخدام هذه الصفة بطريقة إيجابية في نواحي العملية التربوية للذات البشرية مع الاعتراف بأن الآخرين من الناس يمكنهم الإضافة و الحذف و التعديل.

و من مجالاتها ما يأتي:

1. مجال ضبط الداخل أو النية أو الإرادة القلبية من الانحراف، و لعل هذا من أكثر المهام الوظيفية لصفة الحلم.

2. ضبط السلوك و تعديله و بخاصة الانفعالات و العواطف الثائرة.

3. توجيه الاتجاهات النفسية و العقلية في مسارات مفيدة.

4. السيطرة على اللغة و توجيهها في مسار الهدف العبادي (كموقفه مع الشامي) ضمن معالجته بالأضداد.

***

الدلالات السيكولوجية للحلم و تأثيرها على الصحة النفسية للأفراد

إذا ما تأملنا بعمق في مفردات النص الأخلاقي الأول «الحلم.. كظم الغيظ و ملك النفس» نجده قد استبطن في داخله بعض الدلالات التربوية و السيكولوجية ذات الأهمية البالغة في التربية الشاملة للشخصية الإنسانية و تحقيق صحتها النفسية و العقلية، و يمكننا في تأمل باطن النص استجلاء بعض الحقائق التي ينبغي للقارئ الكريم إدراكها و تفهمها و تمثلها كمعرفة و سلوك و قيم وجدانية حية، و من هذه الدلالات:

1. كظم الغيظ تعبير أخلاقي يخص قدرة الفرد على تحقيق قدر مناسب من السيطرة على انفعال الغضب، و هو انفعال يصنفه علماء النفس كأحد الانفعالات الثائرة الظاهرة

ص: 417

في حياتنا البشرية، و الكظم هو تعبير أخلاقي عن عملية «إبقاء الانفعال» المقصود هنا و هو انفعال «الغضب» سواء بإخفائه عن الناس أو إظهاره لهم بدون حدة انفعالية شديدة و متطرفة تلحق الأذى بصاحبه و بالآخرين، و المراد هنا عملية الإخفاء الانفعالي أو السيطرة الانفعالية الهادفة المتقيدة بأدب الله كما فعل الإمام الحسن مع الرجل الشامي حين شتمه، و لهذا الإخفاء أثر سيكولوجي إيجابي كبير من حيث تجنب الحماقة و السلوك الأحمق في العلاقات البشرية القائمة في فكر الإمام الحسن على المحبة و التعاطف الإنساني النبيل.

2. يتحدث علماء الطب السيكوسوماتيكي أو ما يسمى ب- «الطب الجسمي النفسي» عن علاقة سلبية بين الانفعالات الشديدة بخاصة الغضب و الخوف و غيرهما و نشوء مجموعة من الأمراض العضوية الجسدية، فمن الحقائق الظاهرة في هذا المجال كما يقول هؤلاء العلماء أن كثرة الانفعالات و تراكمها يؤدي إلى نشوء بعض الأمراض العضوية الجسمية و النفسية، و قد اهتم علماء النفس و بعض الأطباء بدراسة هذه العلاقة بين الانفعالات و نشأة الأمراض العضوية و النفسية التي يشكو منها الناس، و قد أحصى بعض العلماء ثلاثين مرضاً جسدياً و عضوياً ناجمة عن تأثير الانفعالات كأمراض القلب لدى الإنسان و الإمساك و الإسهال و الشلل و الجلطة الدماغية و الذبحة الصدرية، و قرحة المعدة، و قرحة الاثني عشر و الربو الشعبي، و السكر و الضغط و غيرها، و هنا يكمن الدور الوظيفي للحلم كسمة أخلاقية في حياة الناس، و في تحقيق قدر معقول من الصحة النفسية و الجسدية و العقلية، فهذه الصفة تمكن الفرد من ضبط انفعالاته و تجعلها سلوكاً معتدلاً بنحو لا يسمح لظهور مثل هذه الأمراض في شخصيته لا جسدياً و لا نفسياً و لا ذهنياً.

ص: 418

3. يمثل الحلم خلقاً إنسانياً نبيلاً قد تبنته الأديان السماوية، و ارتضته الشرائع و الفلسفات الوضعية و الإيديولوجيات البشرية، و هو في نظر الأخلاقيين و التربويين منهجاً وقائياً فعالاً في تربية الإنسان، فإذا ما تمكن المربي من تربيته على هذا الخلق و تدريبه منذ الصغر على كظم الغيظ و ملك النفس و إضعاف نزعة الغضب إلى حد غير فاعل فإن النتائج المستفادة ستكون باكتساب هذا الخلق من جهة، و السيطرة المبكرة على الانفعالات الشديدة التي تسبب الأمراض النفسية و الجسدية، و ربما العقلية و من ثمّ تجنب نشوئها لدى الإنسان، كما ستتيح للإنسان فرص إشباع شوي و طبيعي لحاجاته في الانتماء و القبول الاجتماعي و تقدير الآخرين المحيطين بالشخص في وسطه الاجتماعي.

4. و الحلم الأخلاقي بمعانيه العبادية السامية يحقق للفرد إشباعاً سوياً و طبيعياً لبعض حاجاته القيمية و الأخلاقية و الاجتماعية عن طريق الوصول -بحلمه و ضبط انفعالاته- إلى قلوب الناس، و تبوأ «مكانة اجتماعية» جيدة بينهم، و تشعره بالأهمية و التقدير و الانتماء و قبول الناس لشخصيته، فالإنسان «الحليم» محبوب بين جموع الناس و يجللونه بالاحترام، و يضفون عليه طابع «تقديرهم الاجتماعي» حتى و إن اختلفوا معه في فهم و تفسير قضايا معينة و تفسيرها يعيشونها جميعاً في وسط بيئة اجتماعية.

5. يحقق الحلم «توازناً» بين سطوة الانفعالات النفسية و قوتها و بين إرادة الفرد، فيمكن للفرد أن يكتشف قدراته الذاتية الفاعلة لإدارة نفسه و تجنيبها مشاكل سيكولوجية و اجتماعية باستخدامه لخلق «الحلم» و حكمة العقل، و بذلك يتيح لنفسه فرصة استعمال أفضل للعقل و تنمية قدراته المتمايزة بدلاً من صرف طاقته الذاتية في مواجهة غير مجدية مع الانفعالات الشديدة على مدار حياته.

6. يتيح الحلم للعقل الإنساني الرشيد تقليل تأثير الانفعالات على الشخصية

ص: 419

و مكانتها الاجتماعية، فتنعكس السيطرة الانفعالية برشد التفكير على الانفعالات من حماية الشخصية و حفظ وقارها الاجتماعي بين الناس، فالوقار الاجتماعي بُعْد مهم للشخصية، فإذا ما خضع الفرد لانفعالاته و استجاب لها لأتفه الأسباب و من دون تعقل يفقد تدريجياً وقاره الاجتماعي في الوسط الاجتماعي، و فقدان لمشاعر مودة الآخرين له، بل و تجنب إقامة علاقات معه إلّا إذا كانت عابرة لا تسمن و لا تغني من جوع، و هذا بكل تأكيد يؤثر سلباً على تكيف الفرد الاجتماعي و اتزانه النفسي، لهذا نصح الإمام الحسن علیه السّلام الناس بالحلم و كظم الغيظ و ملك النفس للسيطرة عليها و التحكم في انفعالاتها و ضبطها على معايير الصحة النفسية و المحددات الإيمانية العبادية التي أقرها المشرع الإسلامي في منهجه الأخلاقي، و أن الحلم يكسب الفرد تقديراً اجتماعياً يؤثر بإيجابية على صحته النفسية، فقال علیه السّلام في إشارة إلى أثر الحلم كسمة أخلاقية في التقدير الاجتماعي للفرد: «اعلموا -و هو يخاطب أهل الكوفة- أن الحلم زينة و الوفاء مروءة(1)»، و في نص آخر قال علیه السّلام و الصّلاة: «اعلموا أن العقل حرز و الحلم زينة و الوفاء مروة(2)».

7. ليست دعوة الإمام الحسن علیه السّلام بتمثل الحلم الأخلاقي كسلوك نبيل و كظم غيظنا و ملك أنفسنا و إدارتها جيداً منع الانفعال التام، فالانفعال جزء من تركيبتنا الفطرية أو الاستعداد له على أقل تقدير، و إنما ينبغي السيطرة عليه و ضبطه لإظهار حركة الفرد في أداء وظيفته العبادية أولاً، و ظهار مقدرته على مواجهة انفعالاته الشديدة و المتطرفة بمنهج عقلاني رشيد ثانياً، و توحي هذه الدعوة بأن الانفعالات هادئة و عنيفة هي حقيقة سيكولوجية، و لا يمكن إلغاؤها تماماً من تركيبتنا الآدمية، فنحن كبشر كائنات

ص: 420


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 67
2- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 62

حية و لسنا كائنات عجماء، فمن الصوبة أن نميت نهائياً استعداداتنا للانفعال، و لكن من المستقبح ظهور استجابات انفعالية لأتفه سبب، و من هنا ينبغي علينا أن ننفعل باعتدال و بنحو يفيد الإنسان، و بإمكانية السيطرة عليه و التحكم فيه.

8. إنّ بعض الانفعالات في نظر الإمام الحسن ضرورية في الحياة البشرية كالغضب و الحزن، و هذا هو منطق الواقع، و العقلاء، فلا يعرف «الرأي» -و تمييزه عن الرأي الفاسد كما يقول- إلّا بالغضب(1) و تمييز القادر على التفكير و العاجز عنه لحظة انفعال الغضب، فالغضب لحظة حاسمة يفرز فيها بين صاحب فكرة و متمكن من السيطرة على نفسه و بين شخص آخر غير قادر على التفكير الصحيح و هو في لحظات الغضب بل إن من اللؤم من لا يغضب في مواقع الغضب، و عندما سئل الإمام علیه السّلام عن الذل و اللؤم فقال عن الذل: «من لا يغضب من الجفوة(2)» أي يواجه بموقف عدائي مهين لكرامته، و لا يستثير فيه هذا الموقف المذل غضبه لنفسه و لا يحرك كرامته في داخله فيظل صامتاً يلعق عاره خانعاً، و لا يعني هذا أن يكون انفعاله ضجة و صراح، بل المطلوب الرد على الإهانة، و إفهام الطرف الآخر بأن العدوان يرد بمثله، و عندما سئل عن اللؤم و اللئيم قال علیه السّلام من: «لا يشكر النعمة(3)».

9. و إذا كان النص الأول يوحي لنا في معنى الحلم بأنه حركة مقصودة للسيطرة على النفس بحكمة العقل و رشده لحظة انفعالاتها و بخاصة وقت الغضب فإن تعبير «ملك النفس» الوارد في آخر هذا المفهوم القصير يتجاوز لحظة الغضب إلى لحظة الهدوء، فالتعبير يبسط السيطرة على النفس وقت الغضب و الهدوء ليتحقق لنا ما نراه

ص: 421


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 243
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 64
3- السيد حسن الشيرازي، مصدر سابق ص 64

مفهوماً كاملاً «للحلم» كصفة أخلاقية ذات أهمية بالغة في تحقيق قدر سوي من الصحة النفسية و العقلية، كما يجعل كل شيء لدى الإنسان ملكاً للشخص الحليم، ملك الكلمة، و ملك الإرادة النية الداخلية القلبية، و ملك القرار و الفعل و المشاعر.

***

الصفة الرابعة: فضيلة السخاء

وُصِفَ الإمام الحسن الزكي بن علي علیهما السّلام في عدد من المصادر الروائية بصفة «كريم أهل البيت» و عرف بها على ألسنتهم، و تدل مواقفه السلوكية العملية كما مع الأعرابي و الرجل الشامي، فضلاً عن أقواله و كلماته القصار على اتصافه بهذه الصفة الأخلاقية التي تمثل نبلاً و شرفاً في كيانه الإنساني، و كما تحدث عن الجود و الكرم و السخاء فإن المصادر التي حفظت تراثه الفكري و الأخلاقي تحدثت كذلك عن البخل و الشح، و هذا منطقي ينسجم مع طريقته في مقابلة أضداد السلوك بما يناسبها من جنسها، فالبخل يقابله الكرم و الرغبة يقابلها الزهد و الكراهية يقابلها الحب، و اليأس يواجه الرجاء، و النكول عن الحرب يقابله الصبر عليها، و هكذا يضع أنماط السلوك المتضادة مع بعضها حتى و إن كانت إشاراته متفرقة في بعض الأحيان، فالتقابل بين أضداد السلوك منهج أخلاقي و تربوي و علاجي إسلامي قمنا بدراسته في كتاب مستقل(1).

***

ص: 422


1- يوسف مدن، « العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد»

من نصوصه و مواقفه العملية و شعره في السخاء

و هي تقسم إلى قسمين .. معرفة نظرية، و معرفة تطبيقية.

أولا: المعرفة النظرية

يقول علیه السّلام:

- «أما الكرم فالتبرع بالمعروف، و الإعطاء قبل السؤال، و أما النجدة فالذب عن المحارم، و الصبر في المواطن عند المكاره، و أما المروءة فحفظ الرجل دينه و إحراز نفسه من الدنس، و قيامه بأداء الحقوق و إفشاء السلام(1)».

- و في نص أخلاقي قال جابر في مكارم الأخلاق: سمعت الحسن علیه السّلام يقول: «مكارم الأخلاق عشرة: صدق اللسان، و صدق البأس، و إعطاء السائل، و حسن الخلق، و المكافأة بالصنائع و صلة الرحم و التذميم على الجار و معرفة الحق للصاحب و قري الضيف، و رأسهن الحياء(2)».

- و قال عن الجود: «الوعد مرض في الجود، و الانجاز دواؤه(3)».

- و قال أيضاً: «الانجاز دواء الكرم(4)».

- و في نص آخر قال: «المعروف ما لم يتقدمه مطل، و لا يتبعه منُّ، و الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد(5)».

ص: 423


1- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141
2- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 61
3- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 203 و كتاب الروائع المختارة للسيد مصطفى الموسوي، رقم الحديث 38، 133
4- الشيرازي ، كلمة الحسن ص 244
5- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 203

ثانياً: المعرفة التطبيقية

-و في نص تطبيقي عندما أتاه رجل في حاجة فقال علیه السّلام له: «اذهب فاكتب حاجتك في رقعة و ارفعها إلينا نقضها لك، فرفع إليه حاجته فأضعفها له، فقال بعض جلسائه: ما أعظم بركة الرقعة عليه يا بن رسول الله؟ فقال علیه السّلام: بركتها علينا أعظم حين جَعِلْنَا للمعروف أهلاً، أما علمت أنَّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه، و عسى أن يكون بات ليله متململاً أرقاً يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته، أبكآبة الرد أم بسرور النُّجح؟ فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(1)».

- وقف رجل على الحسن بن علي علیه السّلام، و قال: يا بن رسول الله بالذي أنعم عليك بهذه النعمة التي لم تلِها منه بشفيع إليه، بل إنعاماً منه عليك إلّا ما أنصفتني من خصمي، فإنه غشوم ظلوم، لا يوقر الشيخ الكبير، و لا يرحم الطفل الصغير، و كان علیه السّلام متوكئاً فاستوى جالساً، فقال علیه السّلام له: «و من خصمك حتى انتصف لك منه»؟ فقال: الفقر، فأطرق علیه السّلام رأسه ساعة، ثم رفع رأسه إلى خادمه و قال له: «أحضر ما عندك من موجود»، فأحضر خمسة آلاف درهم فقال: «ادفعها إليه، ثم قال علیه السّلام: بحق هذه الأقسام التي أقسمتَ بها عليَّ، متى أتاك خصمك جائراً إلّا ما أتيتني منه متظلماً(2)».

- و جاء أعرابي إلى الحسن علیه السّلام، فقال: «أعطوه ما في الخزانة»، فَوُجِد فيها عشرون ألف درهم فدفعها إلى الأعرابي، فقال الأعرابي يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي

ص: 424


1- الشيخ مهدي المازندراني، معالي السبطين، ص 19، و كتاب «كلمة الحسن» للسيد الشيرازي ص 231- 232
2- لسيد شبر، جلاء العيون، ج 1، ص 327، و كلمة الحسن ص 232

و أنشر مِدْحتي؟ فأنشأ الحسن:

نحن أناس نوالنا حنظل يرتع فيه الرجاء و الأمل تجود قبل السؤال أنفسنا خوفاً على ماء وجه من يسل لو علم البحر فضْلَ نائلنا لغاض من بعد فيضه خَجِلُ(1) و من شعره في فضيلة الكرم و السخاء قال علیه السّلام:

خلقت السخاء من قدرة فمنهم سخي و منهم بخيل فأمّا السخي ففي راحة و أمّا البخيل فحزن طويل(2) -و في أبيات أخرى نظمها قال:

إنَّ السخاء على العباد فريضة لله يقرأ في كتاب مُحْكم وعد العباد الأسخياء جنانه وأعدَّ للبخلاء نار جهنّم من كان لا تندى يداه بنائل للراغبين فليس ذاك بمسلم(3)

***

شروط فضيلة الكرم كقيمة أخلاقية في النص الحسني

حددت نصوص الإمام و أقواله و كلماته التربوية و الاجتماعية و مواقفه الأخلاقية من النوال و عطاء الناس بمعروفه أو كرمه مجموعة شروط استنبطنا ذلك من داخل هذه النصوص و تركيبتها اللفظية و محتواها المحتوي المعرفي، و من هذه الشروط:

1. أن يتم العطاء بنية القربى لله سبحانه و تعالى، فالعطاء بمفهوم الإمام فريضة

ص: 425


1- السيد شبر، جلاء العيون، ج 1 ص 335، و كلمة الحسن ص 232- 233
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الحسن ص 210
3- السيد حسن الشيرازي، المصدر السابق ص 211

دينية و أخلاقية، و يتطلب قبوله كعمل تعبدي أن يعقد الفرد نيته خالصة لله سبحانه و تعالى.

2. أن تكون طريقة العطاء و آليته منسجمة مع الهدف العبادي كما في حكاية كتابة المسألة أو الحاجة بآلة لا تريق ماء الوجه كالكتابة على رقعة(1) دونما حاجة لإراقة ماء الوجه.

3. الانجاز، و يراد به الممارسة الفعلية بالجود و السرعة المباشرة في التبرع به لأنه قد يتم الوعد بالعطاء و يؤخر بالمماطلة أو بسبب ما كالسهو و الغفلة و التباطؤ، لهذا فإن الوعد مرض كما قال أحد أحاديث الإمام الحسن علیه السّلام: «الوعد مرض في الجود، و الانجاز دواؤه(2)»، و في نص آخر قال علیه السّلام علاجاً لمرض الوعد: «الانجاز دواء الكرم(3)».

4. أن يتم العطاء مع احترام كامل لكرامة الإنسان و طالب الحاجة بنحو يخلو تماماً من المن و التعيير و الإساءة.

5. الجود قبل السؤال، بمعنى إعطاء السائل و التبرع إليه قبل أن يطلب حاجته أو يسأل إعطاءه، و المراد هنا كما أن لا يراق ماء وجه السائل، فالكرم كما قال الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام هو «التبرع بالمعروف، و الإعطاء قبل السؤال(4)».

6. اليقين القلبي بجزاء العطاء و النوال لا بد أن يتفق مع الإيمان بحساب العباد يوم المعاد و أخذ أجرهم أو عقوبتهم فيه.

ص: 426


1- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 231
2- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 38، 133
3- الشيرازي، كلمة الحسن ص 244
4- الموسوي، الروائع المختارة، رقم الحديث 92، ص 141

الفرق بين العطاء و المعروف أو الجود:

في حديث الإمام الحسن للكرم قال: «فأما الكرم فالتبرع بالمعروف»، و حينما طلب الإمام الحسن من السائل أن يكتب حاجته في رقعة قال علیه السّلام لأحد جلسائه السائلين: «جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة(1)» كما أن سلوك سام لا يتقدمه مماطلة، و ليس مصحوباً بمن يتبعه، قال الإمام الحسن: «المعروف ما لم يتقدمه مطل، و لا يتبعه منُّ، و الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد(2)».

أما العطاء فاستجابة متأخرة عن طلب السائل، أي يكون نوالاً بعد أن يطلب السائل المعونة، و قد يريق ماء وجهه من أجل تلبية طلبه، لهذا قال الإمام الحسن مميزا بين الكرم كمعروف يتبرع منه المسلم أو إنسان معين، و بين العطاء: «أن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما أعطيته بعد مسألة فإنَّما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه(3)».

***

الوظيفة التربوية لفضيلة الكرم في تحقيق الصحة النفسية

كالصفات الأخلاقية التي أشار إليها الإمام الحسن علیه السّلام تترك فضيلة السخاء و الكرم -كقيمة أخلاقية- آثارها في سيكولوجية الأفراد المتبرعين منهم بمعروفهم أو المحتاجين أو من ينالهم العطاء قبل السؤال و بعده، فهذه الصفة ذات علاقة بتحقق الصحة النفسية في حياة الأفراد كما وجدنا في النصوص السابقة و أبيات الشعر و من مواقف العطاء في حياة الإمام الحسن بن علي، و هي دائماً آثار إيجابية، فالكرم و السخاء

ص: 427


1- الشيرازي، كلمة الحسن ص 231
2- السيد حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 203
3- الشيرازي، كلمة الحسن ص 231

يفعل سحره الإيجابي في النفوس، و هذا بخلاف النتائج السلبية التي تتركها رذيلة البخل في سيكولوجية البخلاء و الآخرين الذين يحرمونهم من المال الذي بأيديهم.

و كما قدمنا فقد قسمنا النصوص و مواقف الإمام إلى قسمين، نظري اقتصرت على عدد قليل من أقواله و كلماته القصار، و قسم آخر عملي فوجدنا العطاء و فيض كرمه و نواله حقيقة واقعة في سلوك الإمام نفسه، و عون مباشر للمحتاجين و من شملهم عطاؤه الكريم، و إننا في التركيز على بعض الدلالات السيكولوجية المترتبة عن نصوص المعرفة النظرية و المواقف العملية سنحاول دمج هذه الدلالات في سياق واحد.

و من هذه الدلالات السيكولوجية المؤثرة على الصحة النفسية للأفراد ما يأتي:

1. أن السخاء و الكرم في نظر الإمام الحسن -كما في بعض أبياته الشعرية المشار إليها سابقاً- هي فريضة أو عمل عبادي فرضه الله على عباده المؤمنين، و أنه سبحانه و تعالى وعد الأسخياء منهم بالإثابة في اليوم الآخر، و أن تكون جناته مثواهم و دار سكناهم، وقد توعد الله عزّ وجل البخلاء منهم ب- «نار جهنم» كما في مقطع من بعض أبياته الشعرية، بل يرى الإمام الحسن بن علي -كما في أحد مقاطعه الشعرية- أن من يحرم الناس الراغبين من نواله و عطائه فهو ليس بمسلم، و الإيمان القلبي بأن الجود فضيلة دينية يحقق في داخل الإنسان و سيكولوجيته إحساساً سوياً بالرضا النفسي، و هذا أحد أهم أركان الشخصية السوية التي ترغب في تحقيق الرضا النفسي و الرضا عن

الذات.

2. أن الله سبحانه و تعالى خلق السخاء و البخل كاستعداد داخل النفس الإنسانية، و أنَّ الناس انقسموا -بإراداتهم الذاتية- إلى سخي و بخيل و أن الأول منهما في راحة، و الثاني في حزن طويل كما قال الإمام الحسن علیه السّلام، و أن الخلق المقصود هنا في مدخل

ص: 428

أخد الأبيات الشعرية للإمام الحسن هو التكوين الإلهي للاستعداد الفطري للسخاء و البخل، فكلاهما قابلية في تركيبتنا الآدمية، أما تنمية الاستعداد في سلوك من السخاء أو في سلوك من البخل فمن صنع الناس أنفسهم، فالإنسان بجهده الاجتماعي يضفي على نفسه الجود و الكرم، أو يصبغها برذيلة البخل، لهذا يستحق السخي ثواباً، و البخيل نار جهنم لأن قرار الاختيار لهذا الفعل.. فضيلة أو رذيلة.. من نفسه و بإرادته الذاتية، و المفارقة بين إنسان سخي و بخيل يعني أن يضاعف الأول من جوده و نواله و كرمه، و أن يقوم الثاني بتعديل سلوكه بدافع تحقيق رضا الله و رضا النفس.

3. و الإنسان السخي يؤدي واجبه تجاه أوامر الله في البذل و الإنفاق، و تعمير الكون، و الحياة باستثمار ما استخلفه الله فيه، و يوفر لنفسه جزيل الأجر، و يبعد نفسه عن غضب الله عز وجل و يشعر بالانسجام و التوافق، و الرضا، هذا إذا كان السخي مؤمناً يتصرف فيما تحت يده من مال بسهولة، و لا يجد هناك شداً و جذباً خلال اتفاقه؛ لأنه هو الذي يتصرف في شهوته، و ليست هي التي تحكم سلوكه، فعن طريق السخاء يحقق المسلم توازناً في شخصيته باسترضاء الله عز وجل، و البحث عن تقديره الذي لا حدود له، فليس المال الذي بيد الإنسان السخي ملكاً خاصاً به، بل هو مستخلف

فيه، يؤجر عليه بسلامة نية الإنفاق و بمقدار كيفية التصرف فيه، و ليس للإنسان من حق سوى الإنفاق ليحقق الرضا في نفسه من خلال تطبيق مبدأ الاستخلاف الإلهى للإنسان في الأرض، و موقف المجتمع من السخي يختلف عن موقفه من البخيل، فقد انتفت المعايرة التي كانت توجه دائماً للبخيل، و برزت محلها البشاشة في وجه السخي، و تذكر الجميع له بالخير ، و امتداحهم المستمر لخصاله الطيبة، بل إن هذا المدح يمتد إلى أكثر من جانب في شخصية السخي، فيغطي حتى عيوبه و مساويه، و محاولة تفسيرها دائماً بشيء من حسن الظن، و مما لا شك فيه أن نفسية السخي لا تعرف القلق العصابي،

ص: 429

و لا تكتوي بشدة المرض النفسي الذي يعاني منه البخيل، لأنه لا وجود لمصادر القلق أبداً، فهو يعبد الله سبحانه بما يبذل مما استخلف فيه من المال، و يبحث عن تقدير الله عز و جل بالعطف على الفقراء و المساكين، و إكرام الضيف، و توجيه المال في المشروع الخيِّر هنا و هناك، قال تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(1)»، بل إن شخصية السخي تصل إلى قمة التوافق، و الرضا النفسي بالإيثار، و الجود بما عنده رغم الحاجة إليه(2)، و هذا ما أشار إليه الإمام الحسن السبط علیه السّلام في أحد أبياته الشعرية بأن السخي في راحة، و البخيل في حزن طويل، و أنه جامع المساوئ و العيوب و قاطع جسر المودة بين القلوب.

4. قدم الإمام الحسن بن علي علیه السّلام مواقف تطبيقية لاحترام كرامة الإنسان و تقديره و احترام إنسانية، و تجنب أية إساءة مشينة تستغل حاجة المحتاجين أو الراغبين في طلب المال، و نقلنا ثلاثة نماذج من هذه المواقف التي انطوت على علاقة إيجابية بطابعها الإنساني النبيل بين صفة الكرم و الجود و السجاد و ارتفاع الروح المعنوية لدى الأفراد المحتاجين و تحسن حالتهم السيكولوجية، و ارتفاع معنوياتهم، مما يسعدهم نفسياً، و يؤثر بإيجابية على صحتهم النفسية، فالنصوص الثلاثة التطبيقية تحدد لنا قواعد التبرع بالمعروف و إعطاء المحتاجين بنحو لا يسيء لأحد و لا يعايره، و لا يمن عليه بنواله و عطائه، و بتأمل بعض النصوص المتقدمة في مدخل الإشارة لصفة الكرم نجد في باطنها إشارات لهذه العلاقة التي تؤكد تحقق الصحة النفسية للأفراد بتأثير نبل هذه الفضيلة الأخلاقية.

5. و إذا كان السخاء صفة تنمي الإحساس بالذات و ترفع معنوياتها بنحو يساعد على تحقيق الصحة النفسية بمقدار معين فإن البخل بخلاف الكرم و الجود يوجد نفوراً

ص: 430


1- سورة الحشر، آية 9، و سورة التغابن آية 16
2- يوسف مدن، العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني، ص 366- 367

بين الناس و يضعف العلاقات بينهم و يدمرها، و بل يحقق للأفراد شعوراً طبيعياً بالأمن، فالبخل جامع للمساوئ، و قاطع المودة من قلوب الناس، و يجعل في أنفسهم موجدة ضد بعضهم بعضاً ، فالإمام الحسن يقول علیه السّلام في ذم البخل و التحذير منه: «البخل جامع المساوئ و العيوب، و قاطع للمودات من القلوب(1)»، بل إنَّ البخيل يرى أن ما ينفقه هو تلف و خسارة، و أن ما بيده من مال و أملاك هو شرف يفخر به قد خصه الله به دون الناس، و عندما سئل الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام عن معنى الشح فقال محدداً هذا المفهوم: «أن ترى ما في يديك شرفاً، و ما أنفقته تلفاً(2)»، و هذا ما يجعله في حزن طويل كما قال الإمام الحسن في بيت من أبياته الشعرية إنْ تبرع بشيء من ماله كان تصرفه لأنه نظر لتبرعه کخسارة و تلف، و أنّ الشرف الذي بين يديك تناقص بتبرعه بقليل مما يراه شرفاً.

6. تتعرض النفس الإنسانية لحالات مختلفة من المواجهة و الصراع بين دافعين أو قوتين متقابلتين في داخل نفسية الفرد يعبر أحدهما عن اتجاه ما، و يعبر الآخر في اتجاه آخر، و ينشأ عن ذلك صراع نفسي بين القوتين، و قد أشار علیه السّلام في أحد نصوصه إلى ظاهرة الصراع النفسي في داخل الإنسان، و هي مرتبطة هنا -كما في النص- بمسألة ذوي السؤال و حاجتهم لمعونة الآخرين و دعمهم في مواجهة الفقر و التغلب عليه، فقد أتاه رجل في حاجة و طلب منه أن يكتب حاجته في رقعة ثم يرفعها إليه ليرفع عن نفسه الحرج النفسي و هو يطلب حاجته، و عندما طلب منه أحد جلسائه تفسير ذلك قال عليه الصّلاة و السّلام له: «جُعِلْنا للمعروف أهلاً، أما علمت أن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه،

ص: 431


1- الموسوي، كتاب الروائع المختارة، رقم الحديث 15، ص 128
2- الشيرازي، كلمة الحسن ص 59

و عسى أن يكون بات ليله متململاً، أرقاً، يميل بين اليأس و الرجاء، لا يعلم لما يتوجه من حاجته.. «أبكابة الرد أم بسرور النُّجْح»؟ ، فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك(1)». و في النص ثلاث إشارات للصراع النفسي و هي:

أ. صراع في داخل نفسية السائل بين يأسه من تلبية طلبه و قضاء حاجته، و بين أمله في الحصول على حاجته بالعطاء أو اضطراره للحصول عليه بأساليب تهين كرامته و تريق ماء وجهه.

ب. حيرة لدى السائل في التوجه لجهة تحقق له حاجة، و يظل الشخص السائل في صراع بين إقدام و إحجام.. و يبقى أسيراً لصراع بين قوتين في كيانه الداخلي، بين إحساسه «بكآبة الرَّد» المتوقعة، و هي استجابة فشل متوقعة قد يواجهها السائل من الطرف المقصود، و بين دافع آخر هو «سرور النُّجح» كاستجابة إذا ما تمكن من تحقيق طلبه و قضاء بعض حاجته أو كلها بدافع نقي و سوي يخلو من المن و المطل، و هذه الحالة تعبر عن حالة إحجام بقوله: «أبكابة الرد» و حالة إقدام بقوله: «أم بسرور «النُّجْح» الذي يعبر عن حالة تفاؤل واقعي جسدته حالات متعددة من مواقف الكرم و التبرع بمعروفه، فكلا الدافعين يتجاذبان نفسية السائل.

ت. صراع بين مشاعر نزعته فيما يبذل من ماء وجهه، و بين نتائج ما يحصله من معروف أو تبرع، و قد عبر الإمام الحسن بن علي عن ذلك بقوله علیه السّلام: «فيأتيك و فرائصه ترتعد، و قلبه خائف يخفق، فإنْ قضيت له حاجة فيما بذل لك من ماء وجهه، فإنَّ ذلك أعظم ممَّا نال من معروفك»، فالإحساس لدى السائل بأنه أراق من ماء وجهه أعظم

ص: 432


1- الشيرازي ، كلمة الإمام الحسن، ص 232

مما نال من معروف المتبرع له أو جود الآخر عليه، و تعبر هذه الحالة عن صراع إحجام -إحجام، حيث تتقاذف الفرد دافعان أحدهما الخوف و خفقان القلب و ارتعاد الفرائص من الإقبال على طلب المعونة، و الدافع الآخر هو أنه لا تقتضى حاجته حتى يريق ماء وجهه، و كلاهما منفران لنفسه، و ثقيلان عليها.

ث. و ما هي الآن آليات حل الصراع النفسي و إحداث توازن في سيكولوجية الفرد؟

1. الانجاز و السرعة في التبرع بالمعروف.. أي السرعة و المبادأة الفورية في انجاز الكرم و إبعاد «الوعد» الذي عدّه الإمام الحسن مرضاً في الجود كما تقدمت الإشارة، ف «الوعد» كما قال الإمام «مرض في الجود و الانجاز دواؤه(1)» أمّا «الانجاز دواء الكرم(2)».

2. الإعطاء قبل سؤال السائل و طالب الحاجة فالإعطاء قبل السؤال -كما جاء في نص قصير- من أكبر السؤدد(3)، و هنا يقوم مقدم المعرف و المتبرع بالخير للسائل بتفهم نفسيته، و إنهاء حيرته بمبادرة ذكية فيعطيه و يقضي حاجته قبل أن يقول كلمة.

3. أو يستخدم الطرف المطلوب منه التكرم آلية مادية سامية و نبيلة كاستخدام الإمام لكتابة الحاجة في رقعة لرفع الحرج النفسي عن السائل، و المحافظة على كرامة السائل و تفيد هذه الخطوة بأنه من الأفضل أن تقدم الطلبات بطريقة موثقة و مؤسساتية و في سجلات محفوظة.

4. سمو الإعطاء بنية عبادية و أخلاقية.. نية القربى لله تعالى، و خلوه من نزعة

ص: 433


1- كلمة الإمام الحسن ص 203
2- كلمة الإمام الحسن ص 244
3- كلمة الإمام الحسن ص 203

المن، و المعايرة، و الغمز ، فالمعروف كما جاء في توصية الإمام الحسن عليه أفضل الصّلاة و السّلام: «ما لم يتقدمه مطل، و لا يتْبَعه منّ، و الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد(1)».

5. اختيار الطرف الثاني المواجه للسائل استجابة «سرور النُّجح» على استجابة «كآبة الرد» ليرفع معنوياته النفسية، و تحقيق قدر معقول من التكيف النفسي و الاجتماعي، و تعميق إحساسه بالأمن في مجتمعه، و تحسيسه بأنه منتمي لمجتمعه، و يتمتع بقدر من الحماية من الناس المحيطين به، فمن شأن هذه الخطوة مساعدته على التوافق النفسي، و إطلاق بسمة على ثغره.

6. إن الخطوات السابقة في إبداء المعروف و التبرع به لقضاء حاجة السائل و التغلب على حيرته و حل ما يواجهه من حالات الصراع النفسي تحقق الكرم و التبرع بالمعروف لدى قاضي الحاجة، كما أن ذلك ينعكس أثره على سيكولوجية السائل، المحتاج أو طالب الحاجة، و تقديره اجتماعياً و بناء مشاعر الثقة بنفسه و بأهميته، و بأمنه النفسي الاجتماعي، و تعميق مشاعر الارتياح بحفظ كرامته ، و غرس إحساسات حب الناس لنفسه، و هذه جميعاً مؤشرات عن دور «انجاز الكرم» و التبرع بالمعروف في تحقيق الصحة النفسية للأفراد.

7. تمكن الإمام الحسن من حسم حالة الصراع النفسي حسماً موفقاً و سوياً يتوافق مع المحددات الإيمانية في تحقيق الصحة النفسية و معاييرها، و هذا مشهد تربوي أراد الإمام الحسن أن يستفيد منه الناس في نشاطهم التعبدي اليومي و علاقاتهم مع بعضهم، فأهل البيت و منهم الإمام الحسن يخاف على إسالة ماء وجه السائل و يرغب في حفظ كرامته، لهذا فإنهم علیهم السّلام تجود أنفسهم كما في أحد الأبيات الشعرية للإمام قبل أن يسألهم السائل و يذل نفسه، و حتى لو أدركهم سائل فسألهم حاجتهم فإنهم يستحون و يطرقون

ص: 434


1- كلمة الإمام الحسن ص 203

برؤوسهم نحو الأرض ثم يقضون حاجاتهم، و من ذلك قصة الإعرابي مع الإمام الذي دفع له الإمام مبلغاً قبل أن يسأله الإعطاء، فقال الإعرابي للإمام: «يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي و أنشر مدحتي(1)»، فأنشد يقول:

نحن أناس نوالنا حنظل يرتع فيه الرجاء و الأمل تجود قبل السؤال أنفسنا خوفاً على ماء وجه من يسَّلُ

لو علم البحر فضلَ نائلنا لغاض من بعد فيضه خَجِلُ(2)

و كما في قصة الإمام الحسن علیه السّلام صاحب الرقعة(3) الذي أتاه فأمره بكتابة حاجته رقعة (استمارة، ورقة)، و كما في قصة الرجل الذي وقف على الحسن بن علي عليهما السّلام و قال: يا بن رسول الله بالذي أنعم عليك بهذه النعمة التي لم تلها منه بشفيع منك إليه، بل إنعاماً منه عليك إلّا ما نصفتني من خصمي، فإنه غشوم ظلوم، لا يوقر الشيخ الكبير، و لا يرحم الطفل الصغير، و كان علیه السّلام متوكئاً فاستوى جالساً، فقال علیه السّلام له: «و من خصمك حتى انتصف لك كمه»؟ فقال: الفقر، فأطرق علیه السّلام ساعة، ثم رفع رأسه إلى خادمه، و قال له: «أحضر ما عندك من موجود»، فأحضر خمسة آلاف درهم، فقال:

«ادفعها إليه، ثم قال علیه السّلام: بحق هذه الأقسام التي أقسمت بها عليَّ، متى أتاك خصمك جائراً إلّا ما أتيتني منه متظلماً(4)».

ص: 435


1- الشيرازي، كلمة الإمام الحسن ص 232
2- السيد حسن الشيرازي، مصدر سابق ص 210، 233
3- السيد حسن الشيرازي، مصدر سابق ص231
4- السيد حسن الشيرازي ، مصدر سابق ص 232

ص: 436

المصادر والمراجع

ص: 437

ص: 438

مصادر الكتاب و مراجعه

أولاً: الكتب الدينية المقدسة

القرآن الكريم.

-الأنصاري، ابراهيم بن عبد الله، إرشاد الحيران لمعرفة آي القرآن، تحقيق عبد الله ابن ابراهيم الأنصاري مطابع قطر الوطنية، الدوحة، قطر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1400 ھ - 1980م.

-عبد الباقي، محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار القلم، بيروت، لبنان، سنة طبعة الكتاب 1939م.

***

ثانياً: الكتب الإسلامية

1- الأربلي، العلامة المحقق أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1401 ھ - 1981م.

2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، 71، 78، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، سنة 1990م.

3- الحراني، أبو علي الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة، تحف العقول عن آل

ص: 439

الرسول، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، سنة الطبعة 1394ھ - 1974م.

4- التميمي، عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، (ج1، 2)، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1407ھ - 1987م.

5- الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، تحقيق الأستاذ شيخ الأزهر الإمام محمد عبده، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، سنة 1400ھ - 1980م.

6- الري شهري، محمدي، ميزان الحكمة (ج 1، 3، 6، 7، 8)، الدار الإسلامية للطباعة و النشر و التوزيع و مؤسسة الإعلام الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1405 ھ - 1985م.

7- الإمام زين العابدين السجاد، علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، الصحيفة السجادية، دعاء مكارم الأخلاق (رقم 38)، منشورات دار الحياة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1995م.

8- الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، شرح الصحيفة السجادية، شرح عز الدين الجزائري بدون تحديد دار الطباعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة الطباعة 1498 ھ - 1978م.

9- الموسوي، السيد مصطفى، الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن و كتبه و رسائله و كلماته القصار، تقديم مؤسسة الغري للمطبوعات، منشورات دار الكتاب

ص: 440

الإسلامي، الطبعة الأولى، 1413ھ - 1993م.

10- الشيرازي، العلامة الشهيد السيد حسن، كلمة الإمام الحسن، منشورات دار الصّادق للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، سنة الطبعة، شوّال 1388ھ - 1968م.

11 – الطبرسي، العلّامة المحدث رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة، سنة الطبعة 1392 ھ - 1972م.

***

ثالثاً: الكتب التربوية الإسلامية

1- مدن، يوسف، التعلم و التعليم في النظرية التربوية الإسلامية، دار الهادي للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة الطبعة 2005م، 1426 ھ.

2- مدن، يوسف، العلاج النفسي و تعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد، دار الهادي للطباعة و التوزيع و النشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة الطبعة 2005 م، 1425ھ.

3- حسن عبد العال، فن التعليم عند بدر الدين بن جماعة، مكتب التربية لدول الخليج العربي، الرياض، المملكة العربية السعودية، طبعة 1405 ھ - 1985م.

4- اقلاينة، المكي، النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى، سلسلة كتاب الأمة القطرية، تصدر عن وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، دولة قطر، العدد

ص: 441

الرابع و الثلاثين، الطبعة الأولى، سنة الطبعة 1992م - 1402ھ.

5- القزويني، السيد علاء الدين بن السيد أمير بن السيد محمد، الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية، مكتبة الفقيه، دولة الكويت، الطبعة الثانية، سنة الطبعة 1986 م - 1407ھ.

***

رابعاً: الكتب العلمية و التربوية

1- أبو حطب، فؤاد، و آمال صادق، علم النفس التربوي، الناشر: دار النهضة العربية، جمهورية مصر العربية، سنة الطبعة 1989م.

2- عبد القادر، محمود، و أحمد فائق، مدخل إلى علم النفس العام، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1974م.

3- خيري و آخرون، سيّد محمد، علم النفس التربوي، مطبوعات جامعة الرياض، مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1975م - 1395 ھ.

4- عبد الغفّار، عبد الغفّار، مقدمة في الصحة النفسية، الناشر: دار النهضة العربية، جمهورية مصر العربية، سنة الطبعة 1990م.

***

خامساً: معاجم اللغة

1- لسان العرب لابن منظور.

2- المستجد في اللغة و الإعلام.

ص: 442

3- المعجم الوسيط، ج2.

4- مسعود جبران، رائد الطلاب، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة عشر، سنة الطبعة 1995م.

ص: 443

ص: 444

المحتويات

الإهداء...5

حكمة خالدة...7

مقدمة الكتاب...9

الحلقة الأولى

التعلم و التعليم في التراث التربوي عند الإمام الحسن علیه السّلام...19

الحلقة الثانية

المباديء التربوية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوية...65

الحلقة الثالثة

الطرق التعليمية و أساليبها عند الإمام الحسن علیه السّلام...101

الحلقة الرابعة

التفكير و العملية التعليمية...147

الحلقة الخامسة

القدرات العقلية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام...177

الحلقة السادسة

الحاجات الإنسانية في تراث الإمام الحسن علیه السّلام...225

الحلقة السابعة

أنواع الحاجات الإنسانية و تنظيم إشباعها...261

ص: 445

الحلقة الثامنة

فن الإعتذار مبدأ في العلاقات الإنسانية...303

الحلقة التاسعة

الانفعالات النفسية و آثارها في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي...347

الحلقة العاشرة

الأخلاق و الصحة النفسية في خطاب الإمام الحسن علیه السّلام التربوي...393

مصادر الكتاب و مراجعُه...439

المحتويات...445

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.