أضواءٌ علی نهج البلاغه : بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

هوية الکتاب

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 1

اشارة

بسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَحِیم

أضواء علی نَهْجِ البلاغة

الجُزءُ الأوّل

ص: 1

بَحرُ العِلم و مَدارُ الحَق

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015- 910

ص: 2

أضواءٌ عَلَى نَهجِ البَلاغِة

بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

الجُزءُ الأوّل

تأليف

الدکتور علي الفتال

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 4

المجلد 1

الإهداء

إلى مَن شطَّرتُ قولَ هاشمِ بن مرقال فيه :

أبايع غير مكترثٍ علياً*** مبايعةٌ تردُّ الروح فيّا

فلا أخشى الملامةَ من مليمٍ ***ولا أخشى أميراً أشعريّا

أبايعه وأعلم أن سأرضي*** ضميري - ما بقيتٌ بذاك – حيّا

وأني سوف أُرضي يوم حشرٍ*** بذاك اللّه حقا والنبيّا

إلى إمام المهتدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أهدي جهدي المتواضع هذا.

علي الفتال

ص: 5

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ما قرأت كتاباً - فتفاعلت معه - مثلما قرأت كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه نقل لنا درراً من البلاغة العربية في أروع صورها على لسان مبدعها وواضع أسسها الإمام علي (عليه السّلام).

إذ إنه نقل لنا - من خلال الخطب والأحاديث والكتب المرسلة إلى عماله، والكتب المتبادلة بينه وبين أنصاره وخصومه - حوادث تاريخية مهمة في تاريخ الأمة العربية منها والإسلامية.

ومن خلال تلك الخطب والأحاديث والمراسلان وما استُشْهِدَ فيها من الشَعر وقفنا على جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية للشعب العربي، والشعوب المسلمة. ومن خلال الشعر المُستَشْهد في شرح (النهج) لابن أبي الحديد وقفنا على خلفيات وأسباب الصراع على السلطة من أولئك الذين

ص: 6

اعتنقوا الإسلام مكرَهين، فعادوا به - بعد غياب الرأس النبي الأكرم (محمد صلى اللّه عليه وآله) - إلى الجاهلية الأولى، وعملوا جهدهم لإبعاده وحرفِهِ عن المنبع الأول.

وكان الإمام علي (عليه السّلام) يقف بوجوه أولئك القوم فيبصرهم بدينهم، الذي أخرجهم {...مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ... }.

فأعداء الإسلام أدركوا أهمية (النهج) في حياة الأمة (تاريخاً ولغةً وفكراً) فراحوا يشككون به ؛ فمرّةً ينفون صلة الإمام به أوصلته بالإمام (عليه السّلام) وأخرى ينسبون بعضه للإمام (عليه السّلام) وبعضه الآخر لغيره.

وأياً كان مصدره ((على أنني أرى انتسابه الشرعي للإمام علي (عليه السّلام) بالدليل القطعي، الذي سيرِد في ثنايا البحث)) فإنه مصدر عربي تفخر به الأمة العربية كتراث فكري ولغوي، وأدبي ويفخر به الإسلام كقيمة فكرية.

فقد حاول المشكِّكَون (كما سنرى) الطعنَ بتراثنا العربي والإسلامي كلما وجدوا فيه شواخص إبداعية، فكيف لا ينسبون ما في (النهج) إلى غير الإمام علي (عليه السّلام)؟

لقد فاتهم أن الشمس لا تحجب بغربال وأن الحقائق لابد أن تظهرجلية واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، كما سنرى من خلال مناقشة المشككين.

ولأهمية (النهج) فقد انبرى كثير من الأدباء والمفكرين إلى شرحه، لقيمته الفكرية، التي تلي القرآن الكريم من حيث المضمون والشكل.

ص: 7

وكان أوسع شرح وقفت عليه هوشرح ابن أبي الحديد المعتزلي. إضافة إلى ذلك ثمة من لجأ إلى (النهج) فراح يدرسه ويشير إلى ما فيه من (روائع) ومنهم من اقتطف منه الكلمات القصار كَحِكَم ومواعظَ فنشروها لأهميتها في الحياة الاجتماعية، وكذلك فعلوا في الشعر الذي ورد في ثنايا (النهج) على لسان الأمامِعليِّ (عليه السّلام).

فضلاً عن ذلك فإننا لم نرَ کتابا - بعد القرآن الكريم - نال شهرة واسعة کنهج البلاغة؛ فقد تزاحمت علية دور النشر فصارت تبذل فيه أعلى الجهود وتوظف له أحدث التقنيات الطباعية لما له من قاعدة جماهيرية واسعة ليس لدى المسلمين حَسبُ - في الوطن العربي والإسلامي - بل شمل العالم كله على اختلاف الديانات والمذاهب لأن الخطب والأحاديث والكتب التي وردت فيه قد وضعت الأسس العامة لِما يجب أن يكون عليه القائد، والعلاقة بين الراعي والرعية .ولأني وجدت أن الاستشهادات الشعرية قد شكلت عدداً كبيراً في شرح ابن أبي الحديد، بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، إضافةً إلى أنه، أي : الشعر المستشهد به - كان وثيق الصلة بالحدث الذي أشار إليه الأمام أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السّلام) في متن (النهج) ومكملاً إيَّاه.

لذا وجدتُ من المفيد جمعه وتبويبه بما ييسر للقارئ الكريم الإحاطة بمحتوى (النهج) من خلال الشعر، لأني اعتمدتُ أسلوب ربط الاستشهاد بحديث أوبخطبة أوبكتاب للأمام علي (عليه السّلام)، ولكي تكون أضواؤنا هذه إطلالة واسعة، ليس على الشعر العربي حَسْبُ، بل على قائله وجامعه وشارحه .

ص: 8

فقد حاولت إغناء القارئ الكريم عن الرجوع إلى مضان الكتب وحملت عنه عبء البحث والتنقيب.

نسأله – جل شأنه - أن نكون قد وُفِّقْنا - بعون منه تعالى - عسى أن يكون عملنا هذا شمعة تنير طريقنا في الدنيا والآخرة.

واللّه نسأل أن يوِّفقنا لِما يريده ويرضاه وهو على كل شيء قدير.

ومن اللّه العون والسداد

د. علي الفتال

كربلاء المقدسة

1 /رمضان /1423ه

6تشرين الثاني /2002م

ص: 9

التمهيد

كثيرون هم الذين تناولوا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) - منذ القرن الأوّل للهجرة حتى يومنا هذا - سواء في كتب مفردة أو مجزأة.

وليس في هذا جديد، إذ إن كثيراًمن الرموز الذين حملوا تاريخ الإنسانية على أكتافهم قد كُتِب عنهم، منذ أن وُجِدَتْ الكتابة، حاكماً كان ذلك الرمز أو غير حاكم.

ولكن الجديد في تناول الإمام علي (عليه السّلام) هوإن الذين كتبوا عنه - كلهم - كانوا حذرين وهم يمسكون بأقلامهم ليخطوا - في قراطيسهم - أول كلمة عن هذا الرمز الذي ملك الدنيا ولكن أشاح عنها وجهه لما وجد في سحنتها من قبحٍ وفي جسمها من نتنٍ وفي طولها من قِصَرٍ وفي عمرها من زوال،فعزف عنها لِيُوَلّيَ وجهه صوب محبوبة يرضاها لِما فيها من دوام العِشرة وحسن المعاشرة ورحابة الصدر فتزوجها زواجاً أبدياً غير مكترث بمغريات الحياة الفانية .

ص: 10

أقول إن الذين كتبوا عن الإمام علي (عليه السّلام) كانوا حذرين لأنهم لا يدرون من أيُّ جانبٍ يتناولونه.

فهو- في الإسلام - أول المسلمين؛ وهو - في الشجاعة - لا يباری، والتاريخ يشهد له بذلك، ويكفيه أن الرسول الأعظم، محمد (صلى اللّه عليه وآله) قال عنه - يوم خرج ليدق عنق عمروبن عبد ودِّ العامري في الخندق -:

«خرج الإسلام كُلُّهُ إلى الشرك كُلِّه».

وفي حديث آخر قال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم :

«خرج الإيمان كُلُّهُ إلى الشرك كله».

وهو في - الحق - لم يخش لومة لائم؛ وهومَنْ جرد سيفه - حتى اللحظات الأخيرة من حياته - ضد الباطل والسائرين في دروبه المظلمات؛ وهوفي – الفصاحة - فارس حلبتها؛ إذ هومن سنَّ الفصاحة لقريش، و(نهج البلاغة) خير شاهد على ما نقول.

وهو - في نكران الذات، وفي الذوبان في الذات الإلهية - لا يدانيه أحد، وقصته مع أخيه عقيل يوم جاءه يطلب مالاَ شاهدٌ - هوالآخر - على نظافتهِ وبياضِ سريرتهِ واستقامة سِيرته.

وهو - في الجود والسخاء - ما شهد القرآن الكريم له، إذ قال جل في علاه:

{ وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وأَسِيرًا }.

وهو.. وهو.. وهو.. إلخ.

ص: 11

ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في ما ذكرنا وفي ما لم نذكر كثير، والجديد في ذلك أيضاً إن الذين تناولوه (عليه السّلام) كلهم، بلا استثناء - لم يذكروه إلّا بالتجلَّةِ والتقدير ويقفون قبال شخصه وقوف العابد في المحراب،مُسْلِمين كان هؤلاء الكُتُّابُ أو غ يرَ مسلمين، عرباً كانوا أوغيرَ عرب، في عصرهِ أو في غير عصره.

وهذا ما لا يحصل لرجل غيره مهما أوتي من منزلة رفيعة في الحياة .

ونحن إذ نكتب عن هذه الشخصية المتفرِّدة إنما نريد أن نجعل الإمام في المرأة ليقف القارئ على تلك الانعكاسات الحية الزاخرة بالدفق الإيماني الصادق والروح النقية التي تستلهم دفقها من المنبع المحمدي الصافي.

لذلك فإنَّ منهجنا بسيطٌ كبساطة حقيقة الإمام علي (عليه السّلام) فقد تناولنا نسبه ومكانته في الإسلام بطريقة محببة إلى النفس ولا تتسم بالملل لدى القارئ ثم أشرنا إلى رأي مفكري السنّة من المسلمين ومفكري غير المسلمين في الإمام علي (عليه السّلام).

وتدرجنا في ذكر بعض علومه، كالعلم الإلهي، وعلم الفضاء، وعلم الفقه، وعلم القضاء، وعلم التفسير، وعلم التصوف، وعلم النحو.

أما صفاته (عليه السّلام) فقد تناولنا منها ثمانِ صفات، هي : الشجاعة ، وهوفارسها المحلِّق؛ والقوةُ، التي مُنیحَتْ إليه من اللطيف الخبيرِ؛ والسخاءُ، والجودُ، اللذان كانا توأميه؛ والحِلْمُ، الذي كان رفيقه في مسارب الحياة؛ والجهاد في سبيل اللّه، الذي كان لا يفارقه وهویری أعداء الحق يريدون النيل منه بطرقهم

ص: 12

الحربائية؛ والفصاحة التي تفرد بها منذ نعومة أظفاره فكان - وما يزال وسيبقى – مرجعاً للبلغاء وعلماء اللغة في الأزمان كُلِّها وفي أصقاع العالم جميعِها.

وكذا قل عن السماحةِ في موضعِها، وعن الزهدِ بملذات الحياة ليجعل منه صراطه المستقيم إلى ملاقاة ربه، قال تعالى :

{ يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ }.

أما إسهاماتُهُ (عليه السّلام) ودورُهُ في الإسلام فقد أشرنا إلى ثلاثٍ منها وهي : جمعُه القرآن الكريم؛ ومشوراتهُ قبل خلافتِه؛ وسياستهُ في خلافته.

وبذلك نكون قد توافرنا على صورة نزعم أنها كاملة للإمام علي (عليه السّلام) في المرأة التي حاولنا أن تكون مستويةً وصافيةً ونقيةً غيرَ محدَّبةٍ ولا مُقَعَّرة، لذلك حاولنا أن تكون الصورة مطابقةً الواقع لا لبس فيها ولا إبهام لعلَّنا نكون قد أضفنا شيئاً إلى المكتبة العربية، ومكتبة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) خاصة.

ص: 13

نسب الإمام علي (عليه السّلام) ومكانته في الإسلام

إنه لمن نافلة القول ومعادِه أن نتحدث عن نسب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)؛ فهو أعرف من يعَرّف وأشهر ممن يشار إليه، وأبيَنُ ممن يراد تبیانه، إنه ((علي)) وكفى بذلك فخراً؛ فحيثما وجدت كلمة ((علي)) وجدتها تعنيه، وحيثما وجدت ((أمير المؤمنين)) وجدتها تعنيه أيضاً.

أما نسبه (عليه السّلام)، فمعروف ب((هاشم)) وهاشم ما نعرف؛ فهوالذي كان يهشم الثريد للحاج وكانت إليه الوفادة والرفادة، وهو الذي سن الرحلتين ، رحلة الشتاء إلى اليمن والعراق، ورحلة الصيف إلى الشام، وكان اسمه عمرو، فقيل له ((عمروالعلا)).

وفيه قال مطرود بن کعب الخزاعي :

عمروالعلا هشم الثريد لقومه*** ورجالُ مكةَ مسنتون عجافُ

وهاشم بن المغيرة (عبد مناف)، والمغيرة بن زيد (قصي)، وزيد بن حکیم

(كلاب)، إذ قال فيه الشاعر :

ص: 14

حکیم بن مرَّةَ ساد الوری*** ببذل النوال وكفِّ الأذی

أباح العشيرةَ أفضاله*** وجنَّبها طارقاتِ النوى

وحکیم بن مرة بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قیس (النضر) بن كنانة بن خزيمة بن عمرو (مدركة) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ وهوما ينتهي إليه نسب الرسول محمد (صلى اللّه عليه وآله).

وقد وصف الجاحظ بني هاشم، فقال إنهم : (ملح الأرض وزينة الدنيا، وطلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر کریم وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم وينبوع العلم).

وهوابن عم الرسول محمد ((صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) )وزوج ابنته البتول فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهو كاتب وحيه، وأول من أسلم على يديه، ولازمه. أليس هومن قال فيه عمر بن الخطاب : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن». .

وعليُّ (عليه السّلام) هو أولُ من سنَّ للبلاغة أسسها وشاد بنیانها ووضع مفاتيحها، من خلال خطبه وأحاديثه ومراسلاته، فها هو المسعودي يقول في ذلك : (والذي حفظ الناس عنه من خطبه وأحاديثه ومراسلاته، في سائر مقاماته أربع مئة خطبة ونيف وثمانين خطبة ؛ يوردها على البديهة؛ تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملا).

ص: 15

فيما يقول الشريف الرضي عن بلاغته (عليه السّلام)، التي جمع منها طرفاً في کتاب : (علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكَلِمً الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب). ذلك هو علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في نسبه ومكانته في الإسلام والبلاغة. فهو - إذن - العين الساهرة على المبدأ والعقيدة، واليد القابضة على تمخضات ذلك المبدأ ومعطيات تلك العقيدة، اللذين روَّاهما - بالتالي - من دمه الطهور. هوالفكر الخلاق في الطرح والمعالجة، حتى وصلنا منه هذا الذي نحن بصدده، وأعني به (نهج البلاغة)، فكان - بحقٍ - إرثا قلّما ترك التاريخ مثله في أمةٍ من الأمم. فهو- إلى جانب قيمته اللغوية، البلاغية - عالج مفردات الحياة في مفاصلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. ولو تأملنا قول الإمام الصادق (عليه السّلام) عنه لوقفنا قبال هذا المبدع العظیم بخشوع العابد في محرابه، يقول الصادق (عليه السّلام):

«لما وُلد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فُتح لآمنة بياض فارس، وقصور الشام، فجاءت بنت أسد إلى أبي طالب مستبشرة وأعلمته بما رأت آمنة، فقال أبوطالب: أتعجبين من هذا؟ أصبري سبتاً فستحملين بمثله إلا النبوة، ويكون وصِيَّه ووزيره. والسبت ثلاثون سنة».

وصدق ما توقعه أبوطالب، إذ يقول یزید بن قعنب : (كنت أنا والعباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت اللّه الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد، أم أمير المؤمنين وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت :

ص: 16

ربِّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رُسُلٍ وكُتُب وإني مصدِّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وإنه بنی البيت العتيق فبحق هذا المولود الذي يكلمني في بطني ويؤنسني في وحشتي، الذي علم أنه آية من آيات جلالك وعظمتك إلا ما يسَّرتَ عليَّ ولادتي.

قال یزید بن قعنب : فرأينا البيت قد انشق من ظهره، ودخلت فاطمة فغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن يُفتح لنا فلم ينفتح فعلمنا أن ذلك أمراً من اللّه.

ثم خرجت في اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السّلام) كأنه فلقة قمر وهي تقول : إني فُضِّلتُ على من تقدمني من النساء لأن آسیا بنت مزاحم عبدت اللّه سراً في موضع لا يجب أن يُعبد اللّه فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت اللّه الحرام وأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ولما أردتُ أن أخرج هتف بي هاتف : (يا فاطمة : سَمِّه علياً، فهو عليٌّ، واللّه الأعلى يقول : شققتُ اسمُه من اسمي، وأدَّبتُه من أدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدي، فطوبى لمن أحبه وتابعه، وويلٌ لمن عصاه وأبغضه)).

ويقول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام):

«كنتُ أمشي مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في بعض طرق المدينة فأتيتُ إلى حديقة فقلت: يا رسول اللّه ما أحسنها من حديقة؟ فقال

ص: 17

صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها. ثم أتينا على حديقةٍ أخرى فقلت: يا رسول اللّه : ما أحسنها من حديقة فقال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها، حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول اللّه ما أحسنها ويقول لك في الجنَّة أحسن منها».

ذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بإيجازٍ شديد. وسنقف - إن شاء اللّه - على مفردات أخرى من حياته بشيءٍ من التفصيل.

ص: 18

علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في رأي مفكري (السُّنَة)

لكي نحيط بموضوعة عليٌّ (عليه السّلام) لندرك - بعد ذلك - أهمية نهج البلاغة، في جوانبه البلاغية والفكرية، نورد نتفاً من أقوال وروایات مفكري الإخوة السنّة ؛ من الشافعية والحنبلية والحنفية والمالكية في ما ورد من فضائل الإمام علي (عليه السّلام) بأسانيد لا تقبل الطعن؛ فهي مروية عن كبار الصحابة كأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعبدِ اللّه بنِ عمر وعائشةَ وغيرهم عن النبي الأكرم (صلى اللّه عليه وآله).

يقول ابن حجر في صواعقه المحرقة، وهو الشافعي (909 - 974ه):

((روی ابن السمَّان أن أبا بكر قال لعلي (عليه السّلام) : سمعتُ رسول اللّه يقول : لا يجوز أحدٌ الصراطَ إلا من كتب له عليٌّ على الجواز)).

ويقول الخوارزمي، وهويروي الحديث عن كثيرين حتى يوصله إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله)، إذ يقول : (قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) :

« يا علي إنك قسيم الجنة والنار وإنك تقرعُ باب الجنة فتدخلها بلا حساب» ).

ص: 19

فيما يقول الطبري الشافعي، (615 - 694ه) : (التقى أبوبكر وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) فتبسم أبوبكر بوجه علي (عليه السّلام) فقال له : ما لَك تبسمت ؟ قال «سمعت رسول اللّه يقول : لا يجوز أحدٌ الصراطَ إلا من كتب له عليٌّ على الجوا»).

وقد اعتمد في ذلك على ابن السمَّان في كتابه الموافقة، وعلى الخوارزمي الحنفي (484 - 568ه) في كتاب المناقب.

ويقول ابن حجر أيضاً : (لَّما جاء أبوبكرٍ وعليٌ لزيارة قبر النبي صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم قال علي لأبي بكر : «تقدم».

أي : في الدخول إلى الحجرة التي فيها القير الشريف؛ فقال أبوبكر : أتقدمُ رجلاً سمعتُ رسول اللّه يقول فيه :

«عليٌ مني كمنزلتي من ربي» ).

ويقول الموفق بن أحمد الخوارزمي في (مناقب الخطيب) : (نظر أبوبكر إلى عليٍ بنِ أبي طالب مقبلاً؟ فقال : من سرّه أن ينظر إلى أقرب الناس من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وأجودهم منزلة وأعظمهم عند اللّه غنى وأعظمهم عليه) فلينظر إلى هذا - وأشار إلى عليٍ بنِ أبي طالب - لأني سمعتُ رسول اللّه يقول :

«إنه لرؤوفٌ بالناس وإنه لأواهٌ حليم».

وقال الطبري عن عمر بن الخطاب، إذ سمع رجلاً يسب علياً فقال : (إني لأظنك من المنافقين ؛ سمعت رسول اللّه يقول لعلي:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ).

ص: 20

وقال الطبري بسنده عن عمر بن الخطاب إنه قال : (أُشْهِد على رسول اللّه

سَمِعتُهُ وهو يقول :

«لوأن السماوات السبع والأرضين السبع وُضعت في كفة، ووُضع إيمان عليٌ في كفة لرجح إيمانُ علي» ).

ويقول علي الهمداني الحنفي، في ينابيع المودة بسنده عن عمر بن الخطاب : قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

لو أن البحر مداد ، والرياض أقلام، والإنس كُتَّابٌ، والجنُّ حُسَّاب، ما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن» ).

وفي ينابيع المودة بسنده عن عمر بن الخطاب قال : (نصَّب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله) وسلم علياً (عليه السّلام) علم فقال :

من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه واخذل من خذله، وانصر من نصره، اللّهم أنت شهيدٌ عليهم».

قلت : يا رسول اللّه كان في جنبي شاب حسن الوجه طيب الريح قال لي : یا عمر لقد عقد رسول اللّه عقداً لا يحله إلا منافق، فأخذ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم بيدي وقال :

«يا عمر إنه ليس من ولد آدم لكنه جبرائيل أراد أن يؤكد عليكم ما قلته في علي» ).

ومن المعاصرين - وهو من أبناء العامة - الدكتور صبحي الصالح فقد شرح نهج البلاغة فقال : (وعليٌ (عليه السّلام) واسی نبيه الكريم بنفسه في المواطن

ص: 21

التي تنكص فيها الأبطال، وتزل فيها الأقدام، نجدةً أكرمه اللّه بها، وحسبك أنه ليلة الهجرة بات في فراش الرسول غير جازع أن يموت فداه ... سجَّل له التاريخ أجلَّ المواقف وأسماها، فهو أحد المبارزين يوم بدر، وقاتل عمر بن ودِّ في غزوة الخندق، واحد الذين ثبتوا مع الرسول الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم في غزوتي أحد وحنين، وصاحب راية المسلمين يوم خيبر، وفيها أبلی أحسن البلاء).

وها هو الشيخ محمد عبده يقول في ديباجته في نهج البلاغة عن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) : (اجتمع للإمامِ عليِّ بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخلال، وسناء الحسَب، وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال...).

ومن المعاصرين توفيق أبوعلم يقول في كتابه (الإمام علي بن أبي طالب) : (إن عليَّ بنَ أبي طالب وُلد مسلماً لأنه من معدن الرسول مولداً ونشأةً ومن ذاته خلقة وفطرة...).

ويقول أيضا : (كان الإمامُ عليُّ أولَ من رأت عيناه النبيَّ وزوجته خديجة وهما يصلِّيان، ثم أنه كان أول المسلمين وهو لم يبلغ الشباب).

وعن حصر الإمامة به (عليه السّلام) يقول عباس محمود العقاد : (ولكن الإمامة - يومئذٍ - کانت وحدها في ميدان الحكم بغير منازع ولا شريك، ولم يُكتب لأحدٍ منهم أن يحمل علم الإمامة ليناضل به علم الدولة الدنيوية، ولا أن يتحيَّز بعسکر يقابله عسكر، وصفة تناوئها صفة، ولا أن يصبح رمزاً للخلافة يقترن بها ولا يقترن بشيء غيرها، وكلهم إمام حيث لا اشتباه، وذلك هو عليٌّ بن

ص: 22

أبي طالب لما لقبه الناس، وجرى لقبه على الألسنة فعرفه به الطفل وهويسمع أماديحه المنغومة في الطرقات بغير حاجة إلى تسمية وتعريف).

ذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) برأي مفكري السنّة. فقد أوردنا جزءاً يسيراً من رواياتهم وآرائهم، ولم نُرِد الإطالةَ، لأننا بصدد التمهيد للدخول في (أضواء على نهج البلاغة).

وقبل أن نترك هذه الفقرة نرى من الواجب ذکر رأي غير المسلمين بعليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام) لكي نمهد للفقرة التي تليها فيكون موضوعنا مترابطاً ومتماسكاً في وحدته العضوية والموضوعية .

ص: 23

علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في رأي غير المسلمين

فهذا سلیمان کتاني يناجي عليَّ ابنَ أبي طالب (عليه السّلام) بقوله :

(أصحیح يا سيدي أنهم - بدل أن يختلفوا إليك - اختلفوا فيك ؟

فمنهم من فقدوك وما وجدوك.

ومنهم من فقدوك ثم وجدوك .

ومنهم وجدوك ثم فقدوك .

إنه لعجبٌ عجاب ...

فكيف لهؤلاء أن يفقدوك ولا يجدونك، أو يجدونك ثم يفقدونك .

ويا لسخرية القدر.

حتى هؤلاء الذين وجدوك كيف تراهم حدَّدوك ؟

لوأدرك الذين فقدوك، وحتى الذين وجدوك أنك لعملاق ولو بقامة قصيرة، وإن وجهك - ولومن تراب – هو من لون الشمس، لما وصفوك، ولما صدَّقوا - حتى اليوم - أنهم فقدوك).

إلى أن يقول - بهذه المناجاة -:

ص: 24

(أحببتُ أن أقرع الباب في دخولي على عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وأنا أشعر بأن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب. وإني أدرك الصعوبة في كل محاولة أقوم بها في سبيل جعل الحرف يطيع لتصوير هذا الوجه الكريم ....

فهوم يأتِ دنياه بمثل ما يأتيها العاديُّون من الناس).

ثم يقول أيضا : (وهوأول المؤمنين وأقوى المدافعين، وأشجع المناضلين

وأصمد المقتحمين، وأبلغ المحققين).

ثم يخاطب الإمام بقوله : (عفوك يا بن أبي طالب ...

فأنت من الرسالة كقطب الرحى...

إن الدروب التي مشيتها برفقة الرسول تشهد بثقل خطاك، بضع سنين ربما مشاها وحده...

وأنت إلى جانبه - فيما عداها، في وحدة العيش وفي وحدة المصير - وفي وحدة النهج، وفي وحدة التفكير).

فأيَّةُ اعتلاجة من اعتلاجات روحه..

لم يكن من نفسك فيها اعتلاجة؟

وهذا جورج جرداق يعترف أن (الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) نسخة مفردة لم يرَ لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لحد الآن).

ويتحدث عن تماسك شخصية الإمام فيقول : (وهذا التماسك في شخصية علي بن أبي طالب (عليه السّلام) واضح ساطع حيث مشيت في دروب نهجه وأنّی

ص: 25

اتجهت، فإذا الفكرة الأساس التي يبني عليها لهذا الوالي هي الأساس التي يبني عليها عهده لكل والٍ لا تناقض بين عهدين منهما ولا تضارب في الجذور المقامة ولا في الفروع النامية عليها، ثم إنما هي نفس الفكرة الأساس التي بني عليها خطبته وقوله، قبل أن يستخلفه المبايعون والتي يبني عليها خطبته وقوله اليوم وقد استُخلف، والتي سيبني عليها خطبته غداً في حالة السلم، وبعد غد، وفي الغد الأبعد).

أقول : قبل أن أواصل في طرح رأي جورج جرداق بالإمام علي (عليه السّلام) أرى أن أقف قليلاً لأشير إلى أن النهج الذي اختطه (عليه السّلام) في مسيرته قبل الخلافة وبعدها، بِعَدِّهِ نهجاً ثابتاً لا يتغير - كما أشار جورج جرداق - لا يعني الجمود على الخط وعدم التفاعل مع المعطيات الجديدة للعصر المعاش، بل يعني أن الإمامَ عليّاً (عليه السّلام) التزم بمبادئ الإسلام ولم يَحُد عنها لأنها تتفق - في معطياتها - مع كل عصر وبيئة وتجمُّع سكاني.

قلت ذلك لكي لا يتبادر إلى الذهن أن الإمام (عليه السّلام) غير مستشرف آفاق المستقبل وغير متفاعل معها، فحاشاه من ذلك. ويواصل جورج جرداق التحدث عن تماسك شخصية الإمام فيقول : (وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع كذلك في الفكرة الأساس التي يتوجه بها إلى الصديق والعدومعاً، وإلى القريب والبعيد والمحارِب والمحارِب الأقرب يدفعه في طريق التبديل والتغيير في هذه الفكرة. ولا مودة ولا مجازية، ولا بعد يميل به عن هذه الفكرة ولا عداء ولا خصومة. فالأساس الذي ينزع عنه بآرائه وتعاليمه واحد لا يجوز عليه رضاً أوغضب، ولا يزحزحه سلم أو قتال ولا يبدل وجهه وعدٌ أو وعيد).

ص: 26

وهنا يعني أنه (عليه السّلام) كان يضع مبادئ الإسلام مَعلَماً في طريقه فيسير على وفق هداها لا يحيد عنها بسبب من محسوبية ومنسوبية، فهوذو خط واضح وثابت في معالجة الأمور.

ويردف جورج جرداق قائلا : (وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع في هذا التمازج المطلق بين تعاليمه وعهوده وخطبه ووصاياه، وبين مسلکه مع نفسه ومع الناس).

ويقول جورج جرداق : (إن ابن أبي طالب لم يكن ينفذ تعاليمه وأوامره بنفسه ليكون قدوة لغيره شأن الكثيرين من أصحاب التعاليم والأوامر بل كان أسلوبه في ذلك أبسط وأعمق وأجل شأناً، كان يحيي فكرته بقلبه ودمه قبل أن تصبح فكرة مصوغة بألفاظ وتعابير، فإذا هي تنبثق انبثاقاً طبيعياً صافياً، لا يدٌ فيه للصنعة ولا عملٌ فيه لحمل الناس على ما لا تطيق).

وعن تماسك لغة الإمام (عليه السّلام) وبلاغته قال جورج جرداق : (أما البيان فقد وصل عليٌ سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المَّتحِدَ بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً إلى البيان الإسلامي الصافي المهذَّبِ المتَّحِدَ بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحاداً لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض، فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي، ما حدا ببعضهم أن يقول في كلامه : (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)).

ص: 27

علوم علي بن أبي طالب (عليه السّلام)

إشارة

لقد تجمعت في شخصية الإمام علي (عليه السّلام) مزايا كثيرة ومن تلك المزايا - بل هي في رأسها - مزية العِلم.

فقد برز الإمام (عليه السّلام) في هذا الميدان، مثلما برز في ميادين أُخَر، فكان فارس حلبته في الميادين تلك، كلها.

ولكي نعزِّز قولنا بسند تاريخي، نقول :

إن ابن عباس كان تلميذاً للإمام علي (عليه السّلام)، وعُرِف ابن عباس بالتبحر في العلم، حتى وُصف بأنه (حبر الأمة وترجمان القرآن) ولما سُئل ابن عباس : (أين علمك من علم ابن عمك؟) قال :

كنت قطرة من المطر إلى البحر المحیط).

وقال له عمر بن الخطاب : (لا أبقاني اللّه بأرضٍ لستَ بها يا أبا الحسن).

كما قال : (لولا علي لهلك عمر).

ص: 28

وروى أبوالفرج في كتابه الأغاني : (إن ابن عباس سمع قصيدة لعمر بن أبي ربيعة مرة واحدة فحفظها وأعادها، وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحاً - أي : مروراً - ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة.

فقال له بعضهم : ما رأيت أذكى منك قط، فقال ابن عباس : لكنني ما رأيت قط أذكى من عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام)).

وقال ابن عباس : (واللّه لقد أُعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم اللّه لقد شاركهم في العُشر العاشر). ویسند ذلك قول الرسول الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

«أنا مدينة العلم وعليٌ بابها ، فمن أراد العلم فليأتها من بابها».

وفي حديث آخر قال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها».

وكان الإمام علي (عليه السّلام) يقول :

سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة، وفضل مئة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها».

حتى أن معاويةَ بن أبي سفيان - عندما جاءه ابن أبي محفن وقال له : (جئتك من عند أعيی الناس) - ويعني به عليَّاً (عليه السّلام) - قال له معاوية : (ويحك، كيف يكون أعىی الناس، فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره). وينقل لنا الجاحظ - في البيان والتبيين - قوله (عليه السّلام) :«قيمة كل امرئ ما يُحسِن» .

ص: 29

أقول : فلولم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية ومجزية مُغْنِيُة، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة على الغاية .

أما ابن عائشة فيقول عنها : (ما أعرف كلمة بعد كلام اللّه ورسوله أخصر لفضاً ولا أعم نفعاً من قول عليٍ : «قيمة كل امرئٍ ما يُحسِن».

ثم أليس هو القائل :

«سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل؟ »

وأليس هو القائل :

لوكُسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرق انهم؟ » ويكفي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال له (عليه السّلام) يوماً :

«يا علي إن اللّه أمرني أن أدنيَكَ وأعلِّمَكَ لتعي».

وأُنزلت قوله تعالی :

{... وتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }.

فأنت أُذُنٌ واعيةٌ لعلمي. ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في مجال العلم، فما هي العلوم التي وصلتنا عنه (عليه السّلام)؟ إن الأمة العربية، والدين الإسلامي، لولم يكن عندهما - بعد رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أحد لكفاهما فخراً أن منهما وفيهما علي بن أبي طالب (عليه السّلام).

ص: 30

كان وعاءاً للعلم حقاً، فما العلوم التي وصلتنا عنه (عليه السّلام)؟

إننا سنشير إلى بعضها إشارات سريعة تنسجم مع هذا التمهيد وهي :

العلم الإلهي: أوعلم الفضاء

يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : (وقد عرفت أن أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه شرف الموجودات ، فكان هوأشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السّلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى؛ ومنه ابتدأ).

وقد صدق ابن أبي الحديد، أليس هوالقائل (عليه السّلام)، في خطبةٍ له يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض، وخلق آدم؟ فقال (عليه السّلام) :

«أنشأ الخلق إنشاءاً وابتدأه ابتداءاً، بلا روِيّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها ، أحال الأشياء لأوقاتها ، ولأم بين مختلفاتها ، وغرز غرائزها وألزمها أثباجها ، عالماً قبل ابتدائها محيطاً بحدودها وانتهائها، غارقاً بقرائنها وأحنائها، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة، فأمرها بردِّهِ، وسلّطها على شدِّهِ، وقرنها إلى حدِّهِ، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبَّها وأدام مربَّها، وأعصفَ مجراها ، وأبعد منشاها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخار،

ص: 31

وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السِقاء وعصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوله إلى آخره وساجيه إلى مائره، حتى عبَّ عُبابَه ورمى بالزبد ركابَه، فرفعه في هواء منفتق، وجومنفهق، فسوَّى منه سبعَ سماوات جعل سفلاهنَّ موجاً مكفوفاً وعلياهن سقفاً محفوظاً وسمكاً مرفوعاً بغير عمد، ولا دِسار ينظمها».

وهكذا يستمر الإمام (عليه السّلام) بوصف السماء وصفاً دقيقاً كأنه رافق هذا العمل الخلاق قبل وأثناء إنشائه.

إن العلم الإلهي الذي علَّمه إيَّاه مُعلِّمهُ الأول، الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، ومن يُرِد الاستزادة فليقرأ تلك الخطبة التي تحتاج إلى كثير من التأمل وإعمال الفكر في هذا الرجل الذي سبر أغوار العلم سبر

خبيرٍ مقتدر.

علم الفقه

ومن العلوم التي برز فيها (عليه السّلام) علم الفقه، فقد وضع أسسه وسن قوانينه ونشر معطياته.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج : (وكل فقيه في الإسلام فهوعيالٌ عليه ومستفيدٌ من فقهه؛ أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما أخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة؛ وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد اللّه بن عباس وقرأ عبد اللّه بن عباس على عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر).

ص: 32

ويؤيد هذا قول العقاد في (عبقرية الإمام علي) : (فالمزية التي امتاز بها علي بين فقهاء عصره إنه جعل الدين موضوعاً من موضوعات التفكر والتأمل، ولم يقصر على العبادة، وإجراء الأحکام، فإذا عُرف في عصره أناس فقهوا في الدين ليصححوا عباداته ويستنبطوا منه قضيته وأحكامه، فقد امتاز عليٌّ بالفقه الذي يُراد به الفكر المحض والدراسة الخاصة وأمعن فيه يغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية، كما نسميه اليوم).

فعليٌ - إذن - ليس فقيهاً في جانب واحد من الأحكام ولا لعصره حسبُ بل هو فقيه في كل أحكام الدين الإسلامي ومنفتح على تلك الأحكام بما يجعله مستشرفاً آفاق المستقبل بصورة تنسجم مع كل عصر لأنه أخذ تلك الأحكام من منبعها الأوّل فوضع لها الأجوبة المنسجمة وروح الشريعة الإسلامية الصافية.

علم القضاء

القضاء جزء من الفقه في أي تشريع قضائي، بل هو معبِّرٌ عنه وناطقٌ بلسانه، فهما متلازمان، فإن قلت : فلان قاضٍ أردت به أنه من الفقهاء، وهكذا كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) فقيهاً قاضياً.

فقد نقل الكليني، والصدوق، والشيخان، والرضي، والسروري - في الكافي، والفقيه، والإرشاد، والتهذيب، وخصائص الأئمة، والمناقب - عدداً مما قضى به الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام)، سواء في عهد الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم أو بعده؛ فقد لجأ في قضاياه (عليه السّلام) إلى أساليب مبتكرة في كشف

ص: 33

الجريمة وإظهار الحق وحِيَل المحتالين واستنطاق المنكر، مما جعل عمر بن الخطاب و عبد اللّه بن عباس يأخذان منه، بل اعتمد عمرٌ على الإمام علي (عليه السّلام) في حل كثير من قضايا أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقد قال عمر : (لولا عليٌ لهلك عمر)، وقال : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن)، وقال : (لا يفتينَّ أحدٌ في المسجد وعليٌ حاضر).

أما الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم فقد قال عبارته الصريحة :

«أقضاكم علي».

وعندما بعثه إلى اليمن قاضياً قال :

«اللّهم اهدِ قلبه وثبِّت لسانه».

مما جعل الإمامَ علياً (عليه السّلام) يقول :

«ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين».

وعن ابن مسعود قال : (إن أقضى أهل المدينة عليٌ بن أبي طالب).

وعنه أيضاً قال : (أعلم أهل المدينة بالفرائض عليٌ بن أبي طالب).

وعن عمر بن الخطاب قال : (علي أقضانا).

وينقل القرطبي - في تفسيره عند الكلام على تفسير قوله تعالى:

{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً }.

إن عثمان قد أتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له عليٌّ (عليه السّلام) ليس ذلك عليها، قال تعالى :

{ وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً }).

ص: 34

وهوالذي قال في المنبريّة، أي التي سُئِل عنها وهو على المنبر :

«صار تحتها تُسُعاً».

إذ إنه (عليه السّلام) سُئل في ابنتين وأبوين وامرأة فقال (عليه السّلام) :

«صار تحتها تسعاً».

وأراد أن الأسهم عالت حتى صار للمرأة التُّسُعُ، ولها في الأصل الثُّمْنَ وذلك إن الفريضة لولم تعل كانت من أربعة وعشرين.

فلما عالت صارت من سبعة وعشرين، فللابنتين الثلثان؛ ستة عشر سهماً، وللأبوين السدسان، ثمانية أسهم، وللمرأة ثلاثة من سبعة وعشرين؛ وهوالتسع، وكان لها قبل العول ثلاثة من أربعة وعشرين، وهوالثمن.

علم التفسير

لا غرابة إذا ما كان للإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) باعٌ طويلٌ في علم التفسير فهومَن لازم الرسول الكريم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم قبل - ومنذ وبعد- الدعوة الإسلامية؛ فقد سمع القرآن من فم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم مباشرةً أي : إنه ثاني شخص يسمع بالقرآن بعد النبي محمد صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم فضلاً عن الرعاية الأخلاقية التي شمله بها ابن عمه محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، إذ ربّاه صغيراً وغذَّاه من أخلاق بيت النبوة حتى إذا ما شبّ واشتد عوده صار يتأمل في كلام اللّه عز وجل ويستلهم معانيه من المنبع الأول، وإذا ما رأى رسول اللّه فيه ذلك وتأكد من امتلاكه مفاتيح المغاليق القرآنية

ص: 35

ارتاحت نفسه وأراد أن يعلم الإمام (عليه السّلام) بذلك لينطلق في رحاب الجزيرة العربية فيفتح تلك المغاليق للناس بمفاتيح لا يمتلكها غيره بعد الرسول الكريم.

لذلك خاطبه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم بقوله :

«تختصم الناس بسبع، ولا يحاجك أحد من قريش، أنت أولهم إيماناً باللّه وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمر اللّه، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند اللّه مزية».

ولم يخاطب الرسول علياً (عليه السّلام) بتلك الكلمات إلا بعد تأكده من امتلاكه - بحق - الصفات والمزايا تلك.

الملازمته الطويلة إيَّاه وسماعه الوحي منه مباشرةً، بل إن الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم هو الذي غرس فيه (عليه السّلام) تلك الصفات والمزايا ليكون وزیره وسفيره إلى الناس، ودليلنا أنه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم لما نزل قوله تعالى :

{ وَ تَعِيَها أَنْ واعِيَةُ }.

قال :

سألت اللّه أن يجعلها أُذُنك يا علي».

ففعل فكان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) يقول :

«ما سمعتُ من رسول اللّه كلاماً إلا وعيتُهُ وحفظتهُ ولم أنسهُ.»

وثمة أخرى عن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن رسول اللّه (صلى

اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال :

ص: 36

«يا علي إن اللّه أمرني أن أدنيك وأُعَلِّمَك لتعي».

وأُنزل قوله تعالى :

{ وَ تَعِيَها أَنْ واعِيَةُ }.

إذن ليست مصادفة أن يكون الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) هو المفسِّر الأكثر عمقاً والأكثر ثقةً والأكثر درايةً ومعرفةً بآيات القرآن الكريم لأنه استقاها من منبعها الأول.

وبسبب من تلك الروايات وغيرها أُخذ علم التفسير عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) (ومنه فُرِّغ، وإذا رجعتَ إلى كتب التفسير علمتَ صحَّةَ ذلك، لأن أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته إيَّاه

وانقطاعه إليه، وإنه تلميذه وخريجه، إذ قيل له : أين علمك من علم ابن عمك؟

فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط).

علم التصوف

إن أساس التصوف ليس مظهرياً كلبس الصوف أوالتزهُّد في الملبس والمأكل والمشرب والتعامل الاجتماعي والسلوك اليومي مع الناس، بل هوالانقطاع إلى ملكوت اللّه والذوبان في الذات الإلهية ورؤية الأشياء برؤية استبطانية – إذا صح التعبير – أي : معرفة بواطن الأمور من خلال عظمة الخالق بعد تمحيصها وتقليبها والتعمق في أغوارها فتبدومفردات الحياة الدنيا ليست ذات أهمية قياساً إلى مفردات الحياة العليا، حياة الآخرة التي وعدنا اللّه بها.

ص: 37

فقال عز وجل :

{ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى }.

ولأن اللّه - جل وعلا - هوخالق الكون كُلُّه؛ بسماواته وشموسها وكواكبها وأجرامها ومجرَّاتها وأرضه وتضاريسها ومياهها ونباتها وإنسانها وحيوانها، لذلك فإن المتصوف يحاول جاهداً الاتصال بالنبع ليستقي منه معارفه.

لهذا نراه ينصرف عن كثير من مفردات الحياة الدنيا ومفاصلها الهامشية وينقطع - كُلِّيِّةً في كثيرٍ من تفاصيل حياته - إلى خالق الكون ومبدعه ومصوّره؛ إلى اللّه جلَّ في علاه.

وعليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام)، كان من ذلك النوع من الرجال الذي وجد في اللّه مُعَلِّمَهُ ومُلهِمَهُ وراسمَ خريطةَ حياته في الدنيا والآخرة، لذلك فقد انقطع إليه انقطاعاً كُلِّياً عجيباً؛ فهويقول عن الدنيا إنها :

«تقوى وتسلم، وتذل وتضرى، وهي أمدٌ، والآخرة تسر، وهي أبدٌ»

والدنيا عنده - (عليه السّلام) -:

«محل الغِيَرِ ودارِ المِحَنِ، وغنيمةُ الحمقى وضحكةُ المغترِّ، وأمنيةُ الأرجاسِ، ومُطَلِّقَةُ الأكياسِ، إذ هي ظلٌّ زائلٌ ومنقطعة، وعواريها مرتجفةٌ وفانيةٌ، كيومٍ مضى وشهرٍ انقضى، وهي العاجلةُ، الفرحُ بها حمقٌ والاغترارُ بها خرقٌ، لأنها دارُ الغرباءِ، وسوقُ الخسران، المواصلُ لها مقطوعٌ، والكمالُ فيها مفقود، هي مصرعُ العقولِ، وعالَمُ النقائضِ والآفات، الوَلَهُ بها أعظمُ فتنةِ، وهي كما تُجبِرُ تكسرُ، وكما تُقبِل تَدبر».

ص: 38

ويقول (عليه السّلام) عن الدنيا أيضاً :

« إنها دارُ الفناءِ والآخرةُ دارُ البقاء.. والحازمُ من ترك الدنيا للآخرة، والرابحُ من باع العاجلةَ بالأخرة». .

لذلك فهو يناجي ربَّهُ بما يُنسبُ إليه فيقول :

يا ذا المعالي إليك معتمدي*** طوبى لمن کنتَ مولاهُ

طوبى لمن كان نادماً أرقاً*** يشكو إلى ذي الجلال بلواهُ

وما به علَّةٌ ولا سَقمٌ*** أكثر من حبِهِ لمولاهُ

إذا خلا في الظلام مبتهلاً*** أجابهُ اللّه ثم لبٌ اه

سألتَ عبدي وأنت في كنفي*** وكل ما قلتَ قد سمعناهُ

صوتكَ تشتاقهُ ملائکتي*** فذنبكَ الآن قد غفرناُه

في جنَّة الخُلدِ ما تمنَّاه*** طوباه طوباه ثم طوباه

سلني بلا خشيةٍ ولا رَهَبٍ*** ولا تخف إنني أنا اللّه

ويذوب في الذَّاتِ الإلهيةِ وينقطع - بِكُلِّيتهِ - إلى الخلَّاق العظيم فيناجيه بهذه الترتيلة النقية التي تدل على نقاء روحه وصفائها، إذ يقول :

لك الحمدُ يا ذا الجودِ والمجدِ والعُلا*** تبارکتَ تعطي من تشاءُ وتمنعُ

إلهي وخلَّاقي وحِرزي وموئلي*** إليك لدى الإعسارِ واليسرِ أفزعُ

إلهي لئن جلَّت وجمَّت خطيئتي*** فعفوكَ عن ذنبي أجلُّ وأوسعُ

إلهي لئن أعطيتَ نفسيَ سؤلَها*** فها أنا في أرض الندامة أرتعُ

ص: 39

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي*** وأنتَ مناجاتي الخفيَّةَ تسمعُ

إلهي فلا تقطعْ رجائي ولا تُزغ*** فؤادي فلي في سيبِ جودكَ مطمعُ

إلهي لئنْ خيبتني أوطردتني*** فمن ذا الذي أرجوومن ذا أشفِّعُ

إلهي أجرني من عذابكَ أنني*** أسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لك أخضعُ

إلهي فآنسني بتلقين حجَّتي*** إذا كان لي في القبر مثوى ومضجعُ

إلهي فإن عذَّبتني ألفَ حَجَّةٍ*** فحبلُ رجائي منكَ لا يتقطَّعُ

إلهي أذقني طعمَ عفوكَ يوم لا*** بنون ولا مالٌ هنالك ينفعُ

إلهي إذا لم تَرْعني كنتُ ضائعاً*** وإن كنتَ ترعاني فلستُ أُضَيّعُ

إلى آخر هذه الترتيلة الرائعة، التي تدل على نفسٍ صافيةٍ ونقيةٍ وصادقةٍ وذائبةٍ في ملكوت اللّه.

ذلك هو التصوف الذي سنَّه الإمامُ ووضع أسسه بعيداً عن الشعوذةِ والدجلِ والمراءاة.

وكلُّ المتصوفةُ عيالٌ على الإمام عليّ (عليه السّلام) وتلاميذٌ صغارٌ في مدرسته النقية، وقد اعترف بذلك الشبليُّ، والجُنَيْدُ، وسريُّ المفلس السقطي ، وأبويزيدٍ البسطامي، وأبومحفوظ معروف الكرخي، وغيرهم.

ويكفيك دلالةً على ذلك الخرقةُ التي هي شعارهم إلى اليوم، وهم يسندونها بإسنادٍ متصلٍ إليه (عليه السّلام).

ص: 40

عِلْمُ النحو

ومما لا يختلف فيه اثنان أن الإمامَ عليَّ بن أبي طالب (عليه السّلام) هو أوّل من وضع اللَّبِناتِ الأولى في أساس النحو، فقد ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأُصوله، و(كان الهدفُ الأوّلُ والأخيرُ - من التقعيد - هو تخليصها (أي : اللغة العربية) من اللحن، كما فعل أبو الأسود الدؤلي من بادرة بدرت على لسان ابنته إذ قالت - لأبيها متعجبة، وقد نظرت إلى السماء ونجومها في ليلة صافية -: (ما أحسنُ السماء) فرفعت أحسن، وحقُّها - في التعجب - النصبُ وفي الاستفهام الرفع، ففهم أبوها - على ظاهر ما تكلمت به - فقال لها - في الجواب -: نجومُها، أي :أحسنُها نجومُها.

فأدركت خطأها وقالت : (أنا متعجبةٌ ولست مستفهمة).

فأتى عليَّ بنَ أبي طالب (عليه السّلام) فقال : يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لِما خالطتِ العجمَ وتوشك - إن تطاول عليها زمان - أن تضمحل، فقال له (عليه السّلام) :

«وما ذلك؟ »

فأخبره خبر ابنته فأمره فاشترى صحفاً بدرهمٍ وأملى عليه : إن الكلامً كلَّهُ لا يخرج عن اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ جاء لمعنى، ثم رسم أُصول النحوكلِّها، فنقلها النحويون وفرَّعوها). كما أنه (عليه السّلام) قسَّم الكلمةَ إلى معرفةٍ ونكرة، وقسَّم وجوهَ الإعراب إلى الرفع والنصب والجرِّ والجزم.

ص: 41

و تلك –لعمري-هي االمعجزةُ التي تمثَّلتْ فیه بأعلی معانیها وأدقِّ تفاصیلِها.

وسنری- في فقرة النحو)هذه-کیف کان (علیه السلام) موضعَ استشهادِ في کثیر من المطالب النحویة فی التوظیف و التصریف علی حدِّ سواء-أنه إمامُ اللغةِ والفصاحةِ وسیِّدُ العرب، کما قال عنه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه وآله و سلم)

ص: 42

صفاتُ عليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام)

إشارة

لقد اتصف الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) بصفات قلَّما اتصف بها مَنْ سبقوه ، أوأعقبوه، فإذا ذُكِرتِ الشجاعةُ فلا تتعداه وإن ذُكرتِ القوةُ فلا تتجاوزه، والسخاءُ والجودُ لازماه ملازمةَ ظِلِّه إيَّاه، أما الحكمةُ فكانتْ تنساب من بين شفتيهِ انسياب أشعَّةِ الشمس من قِمَّةِ جبلٍ في فجرٍ ربيعيِّ جميل.

وأما الجهادُ فكان بهِ هاشّاً باشّاً، ويغضب إن لم يُدْعَ إليه، وأما الفصاحةُ فهو فارس حلبتها، والسماحةُ فهوسیِّڈ میدانها، والأخلاقُ فبمثل عظمته، والزهدُ رَفَعَهُ إلى مقام لم يرتفع إليه أحدٌ غيره من بني آدم منذ أن خُلق آدمُ حتى يوم الناس هذا، وأهمُّ ما فيه الصدقُ مع النفسِ في مجاهدتها والصدقُ مع اللّه في التقرُّب منه .

ذلك هو الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام) في صفاته التي استطعنا تشخيصها والتي سنتعرض إليها بشيء من التوضيح في تمهيدنا هذا.

ومما لا شكَّ فيه أنّه (عليه السّلام) يتصف بصفاتٍ أخرى قد يراها غيرُنا إلَّا أننا نبغي الإشارة من غيرِ التَّوَغُّلِ أكثر، لطبيعة وظيفتنا في هذا التمهيد.

ص: 43

الشجاعة

لقد عُرِفَ الإمامُ (عليه السّلام) بالشجاعة واقترنت باسمه ووسمتْه بسِمتها ، سواء في بدء الدعوة الإسلامية، أو بعد نجاحها؛ فما من غزوةٍ إلَّا كان الإماُم قائدَها، أومن أبلى فيها بلاءاً لا نظير له، ولعل غزوة الخندق شاهدٌ ساطعٌ على ما نقول؛ إذ لم يتقدم إلى فارس قریش، عمر بنِ عبدِ ودٍّ العامريِّ أحدٌ، سواه يوم عبر الخندق وصار ينادي المسلمين بسخرية لاذعة ويدعوهم لمبارزته، وكان الإمام (عليه السّلام) أوّل من لبَّى نداء الإسلام فيما صمّ الآخرون آذانهم عن دعوته، وإذا ما برز إليه الإمام (عليه السّلام) برز إليه بروز المقتَدرِ؛ هكذا كان في معارك المسلمين كلها.

يقول ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه شرح نهج البلاغة في شجاعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (أنسى الناسَ فيها ذكرَ مَنْ كان قبله، ومحا اسمَ مَنْ يأتي بعده، ومقاماتُه في الحرب مشهورةٌ تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة؛ وهو الشجاعُ الذي ما فرَّ قطُّ ولا ارتاع من كتيبةٍ، ولا بارز أحداً إلَّا قتله، ولا ضرب ضربًة قطُّ فاحتاجت الأولى إلى الثانية، وفي الحديث :

«كانت ضربته وِتراً».

ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو : لقد أنصفك، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم، أتأمرني مبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرِق، أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته (عليه السّلام)، وأمام

ص: 44

قتلاه کافتخار رهطهم بأنه قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمر بن عبد ودّ ترثيه :

لوکان قاتل عمر وغيرُ قاتلهِ*** بكيتُهُ أبداً ما دمتُ في الأبدِ

لكن قاتله من لا نظير له*** وكان يُدعى أبوه بيضة البلدِ

وفي حرب الجمل نراه يقتحم الجمل بنفسه في كتيبة من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه، فيغوص في عسكر الجمل حتى يطحن العسكر ثم يرجع، وإذا ما انحنى سيفه قوَّمه بركبتيه، ولم يلتفت إلى توسُّلات أصحابه بأنهم يكفونه، بل ظل يزأر زئير الأسد.

وحمل ثانيةً وحده فدخل وسطهم يضربهم بالسيف قدماً قُدُماً والرجال تفر من بين يديه، وتنحاز عنه يمنةً ويسرة حتي خضَّب الأرض بدماء القتلى ثم رجع، وقد انحنى سيفه فقوّمه بركبتيه، ولمّا ناشده أصحابه في نفسه وفي الإسلام قال (عليه السّلام):

واللّه ما أريد بما ترون إلا وجه اللّه والدار الآخرة».

ويوم صفِّين لبس سلاح العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقتل اللخميين والحِمْيَرَ، الذين لم يكن في الشام أشهرُ منهم بالبأسِ والنجدة.

ومع شجاعته النادرة اتصف بأسمى الصفات هي التورُّعُ عن المباغتة والغدرِ والبغي؛ إذ إنه لم يبدأ أحداً بالقتال، وكان يوصي ابنه الحسن (عليه السّلام) :

«لا تدعُوَنَّ إلى مبارزة، فإن دُعيت إليها فأجب فإن الداعي إليها باغٍ، والباغي مصروع».

ولما قيل له إنّ جنودَ الخوارج خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك قال : «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون».

ص: 45

وموقفه مع عمرو بن العاص يوم بارزه في صِفِّين فصرعه فكشف عمروعن عورته فكفَّ عنه الإمام (عليه السّلام) دليل لم يستطع التاريخ إنكاره؛ تلك هي شجاعته وتلك هي مروءته (عليه السّلام) في المعارك.

القوة

كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) يستمد قوّته ليس من بنيانه الفسلجي حسب؛ فعلى الرغم مما كان يتمتع به من بنية قوية فإن قوة أخرى كانت كامنةً فيه غيرَ منظورةٍ عياناً، إنما منظورة بالمحصلة، تلك هي قوة الإيمان بما حَبَتْهُ به السماء بوساطة ابن عمِّهِ ومُعَلِّمهُ الأوّل الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم.

لقد كان مؤمناً بمبادئ الإسلام، ليس كغيره من المؤمنين؛ وتقيّاً ليس كغيره من الأتقياء؛ وزاهداً بالحياة وملذاتها الفانية ليس كغيره من الزُهَّاد، إنّه (عليه السّلام) كان مرآةً صادقةً لعقيدة الإسلام المستوحاةِ من السماء، بل كان مرآةً صافية مستوية غير محدبة ولا مقعرة، اعتمدها في سلوكه اليومي وفي ذبِّه عن مبادئ الإسلام.

فمدَّته بقوةٍ كامنةٍ فيها تفوق قوة الأرض كلها، لذلك نراه - كما يقول ابن قتيبة في كتابه : (ما صارع أحداً إلا صرعه، شديدُ الوثبِ، قويُّ الضربِ، وهو الذي قلع بابَ خيبر، واجتمع عليه عصبةٌ من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه). وهو الذي اقتلع هُبَلَ من أعلى الكعبة، وكان عظيماً جداً، وألقاه إلى الأرضً،

ص: 46

وهو الذي اقتلع الصخرةَ العظيمة في أيام خلافته (عليه السّلام) بيده بعد أن عجز الجيش كله عنها وانبطَّ الماء من تحتها.

قد يقول قائل : كيف يتوافر لإنسانٍ مثل ذلك وهو كسائر البشر؟

الجواب : إن التاريخ يروي لنا أشياء قد نستغربها أمثال تحريك ورفع الأجسام بخارقية عند بعضهم، والتي سُميت في عصرنا هذا، ب(الباراسايكولوجي) وإن من يريد أن يرفع ثقلاً من الأرض ينتخي بأحد رموز معتقده فنراه يستطيع رفعه فيما لم يكن يستطيع ذلك في الحالة الاعتيادية، فما هو السبب؟ إنها القوة الكامنة في الإنسان، فإذا كان صادقاً مع نفسه وصادقاً في معتقده استطاع أن يأتي بالعجائبيات والخوارق، فكيف بالإمام عليٍّ (عليه السّلام)، وهو ربيبُ بيتِ النُّبُوَّة وتلميذ صاحب الرسالة التي أخرجت الناس {مِّنَ الظُلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ }، وإنّه الإيمان الصادق.

السخاء والجود

إنّ سخاءَ وجودَ عليِّ (عليه السّلام) مثلُ صفاته الأخرى، إذ تفرَّد بها أيضاً.

فقد كان (عليه السّلام) - كما يذكر ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه شرح نهج البلاغة - : (يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أُنزل :

{ ویُطعِمُون الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ویَتِيمًا وَ أَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُکُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْ جَزاءٍ وَ لا شُكُوراً } وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سرأ وبدرهم علانيةً، فأُنزِل فيه :

ص: 47

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُم أَ جْرهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفُ عَلَيْهِ وَ لَا یًحْزَنُونَ }.

و رُويَ عنه (عليه السّلام) أنه كان يسقي بيده نخلَ قوم من أهل المدينة، حتى ثخن جلد يده، ويتصدق بالأجر ويشد على بطنه حجراً).

وقال الشعبي عنه (عليه السّلام) : كان أسخي الناس؛ كان على الخُلُق الذي يحبه اللّه : السخاء والجود، ما قال (لا) لسائلٍ قط.. وقال معاويةُ بنُ أبي سفيان لمحفن بن محفن الضَبِّي لَمَّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس، فقال : ويحك كيف تقول أبخل الناس، لوملَكَ بيتاً من تِبرٍ وبيتاً من تِبنٍ لأنفد تبره قبل تِبنه .

وهو الذي كان يکنس بيوت الأموال ويصلّي فيها.

وهوالذي قال :

یا صفراء ويا بيضاء غُرّي غيري».

وهو الذي لم يُخلِف میراثاً، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. وهو الذي نزلت فيه هذه الآية المباركة :

{ إِنَّما وَليُّکُمُ اللّه وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهْمُ راكِعُونَ }.

إذ نزلت هذه الآية الكريمة في حقه (عليه السّلام) حين كان يُصَلَّي في المسجد وهو راكع، قام سائلٌ يسأل، فمدَّ عليٌّ (عليه السّلام) يدهُ إلى خلفِه وأومأ إلى السائل بخاتمه فأخذه من إصبعه).

ص: 48

وقد قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) :

مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».

وغيرها من الروايات الكثيرة تحجم عن ذكرها لئلا نطيل.

الحِلْم

الحِلمُ من مرتكزات الرجال ذوي النفوس الكبيرة والنظرة الشاملة إلى الحياة ، الذين يضربون بأزاميلهم في العمقِ ليأتوا بعملٍ خلَّاقٍ يخلِّدُهم مدى الزمن.

والإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) كان من ذلك الطراز من الرجال؛ فهو مع ما كان يتمتع به من قوة وشجاعة إلا أنه كان حليماً في معاملة الآخرين، لاسيما خصومه؛ فكثيراً ما كان يصفح عنهم في أشد حالات صَلَفِهم.

وهو القائل :

« إذا دعتكَ قدرتُك على أذى الناس فتذكّر قدرةَ اللّه عليك».

فقد كان (عليه السّلام) - كما يقول ابن أبي الحديد - : (أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد طبَّق ذلك يوم الجمل؛ حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له، وأشدَّهم بغضاً - فصفح عنه).

وكان عبد اللّه بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وكان علي (عليه السلام) يقول : «ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت».

حتى شبَّ عبد اللّه، فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال له : اذهب فلا أرنيك.

ص: 49

لم يزد على ذلك، وظفر بسعید بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة - وكان عدواً - فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وظفر بعائشة يوم الجمل فأكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأةً من نساء عبد القيس فعمَّمَهنَّ بالعمائم وقلدهُنَّ السيوف.

فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يُذكَر به، وتأففت وقالت : هتكَ ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي، فلما وصلت المدينة ألقي النساء عمائمهنَّ، وقلن لها : إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يُتْبَعُ موَلِّ، ولا يُجهز على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبی ذراريَهم ولا غنم شيئاً من أموالهم ولو شاء أن يفعل ذلك كلَّه لفعل، ولكنّه أبى إلَّا الصفح والعفو؛ وتقَّيد سُنَّةَ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، ولما ملك عسکر معاوية عليه الماء وحرموا عسكره منه ولم تنفع معهم لغة العقل حمل عليهم حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم، ومع ذلك فسح لهم عن بعض (الشِريعة)، ليشربوا منها.

الجهاد

إنَّ جهاد الإمامِ عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام) كان على جبهات عديدة؛ فقد جاهد مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، في نشر الدعوة وتثبيت دعائمها.

ص: 50

فما من غزوةٍ إلّا كان (عليه السّلام)، صادقَ الضربةِ فيها مُدِلاً على حرصه لتنظيف أرض الجزيرة العربية من المشركين لتكون قاعدةً لانطلاق المسلمين إلى العالم في نشر الإسلام، فهو - إذن، كما يقول ابن أبي الحديد - : (سيد المجاهدين) في سبيل اللّه، ولعل غزوة بدر الكبرى شاهدٌ تاريخيٌّ لا يقبل النقض، فقد قَتل الإمامُ (عليه السّلام) - فيها - نصف عدد مَنْ قُتِلوا من المشركين البالغ عددهم سبعون مشركاً.

ليس ذلك حَسْبُ، بل إنّه (عليه السّلام) كان سيِّدَ المجاهدين في النفس؛ كبح جماحها ولوی عناها عن ملذات الدنيا وتوجه بها نحو الحياة الباقية التي صممها خالقها للمتقين المجاهدين الصادقين مع أنفسهم، وهذا هوالجهاد الأكبر.

قال تعالى :

{ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ... } ولكن عند عليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام) كانت لا تعرف السوء، بل كانت مطواعةً بين يديه يوجهها حيث يشاء وكيف يشاء وإلى أي اتِّجاه يشاء، ذلك بصدق إيمانه وقوته ونقائه.

الفصاحة

إنّ فصاحة الإمام علي (عليه السّلام) لا تحتاج إلى مَنْ يكتب عنها في عصرنا هذا، فمن أراد التأكد يجد بغيته في (نهج البلاغة) وكفى بنهج البلاغة شاهداً ثبتاً، لقد جعل (عليه السّلام)، مِنَ اللغةِ العربيةِ مورداً عذباً للواردین،

ص: 51

سواء في المعاني أوفي هندستها المعمارية المنسجمة مع العصور كلها، بل قل : إنه (عليه السّلام) استطاع - من خلال خطبه وأحاديثه وكتبه ومراسلاته - أن يحافظ على لغة الضاد - جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم - من الضياع ومن التلوث البيئي، فجعلها نقيةً صافيةً كصفاء سمائنا في تلألؤ نجومها؛ فهو إمامُ الفصحاءِ وسيِّدُ البلغاء، بل واضعُ أُسسها.

قال الشريف الرضي في مقدمته : (كان أمير المؤمنين (عليه السّلام)، مشرعَ الفصاحة وموردَها، ومنشأَ البلاغة ومولدَها؛ ومنه (عليه السّلام)، ظهر مكنونُها، وعنه أُخذت قوانينُها، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظٍ بليغ، ومع ذلك فقد سبقَ وقصَّروا، وتقدَّم وتأخَّروا، لأنّ كلامه (عليه السّلام)، الذي عليه مسحةٌ من العِلْمِ الإلهي، وفيه عبقةٌ من الكلام النبوي...).

وقال ابن أبي الحديد: (وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابةَ والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت، وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزده الإنفاق إلا سعةً وكثرةً، حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السّلام).

وحتى معاوية بن أبي سفيان لم يستطع إلَّا أن يقولً - مُرْغماً -: (ما سن الفصاحة لقريشٍ غيرُه)).

وسيجد القارئ الكريم - في فقرة البلاغة - ما يؤكد تلك الأقوال ويرسِّخ عنده أنه (عليه السّلام) لا يُجاري في الفصاحة ولا يُباري في البلاغة، لم يُدَوِّن لأحدٍ

ص: 52

من فصحاء الصحابة العُشْرَ ولا نصف العُشْرِ ما دُوِّنَ له، وما دُوِّنَ له إلا القليل. وها هوالرسول الأعظم محمد صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم يقول لعبد الرحمن بن عوف - كما رواه ابن عباس -:

«يا عبد الرحمن أنتم أصحابي، وعلي بن أبي طالب مني وأنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، ومن آذاني فعليه لعنة ربي، يا عبد الرحمن، إن اللّه أنزل علىَّ كتاباً مبيناً، وأمرني أن أبيَّن للناس ما نزل إليهم، ما خلا عليٌّ بن أبي طالب فإنه لم يحتجّ إلى بيانٍ لأن اللّه جعل فصاحته ودرايته كدرايتي، ولوكان الحِلم رجلاً لكان علياً».

ذلك هو الإمام علي في الفصاحة مثلما هو في صفاته الأخرى.

السماحة

إن اتَّصاف الإمام علي (عليه السّلام) بأخلاق عالية لَهُومن المسلَّمات البدهية لأنه نشأ وتربَّى في حجر ابن عمه الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهومَنْ خاطبه اللّه تعالى في الذِّكْرِ الحكيم :

{ وَ إِنَّكَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِيمُ }.

وتغدَّى من لبان النبوة، إذ عُرف بسماحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحّيا والتبسم، فهو المضروب به المثل حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام : (إنه ذودعابة شديدة)، فردّ عليه (عليه السّلام) : «عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنَّ فيَّ دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس»..

ص: 53

فقد استكثرا عليه تلك الصفة، (سجاحة الأخلاق وبِشر الوجه وطلاقة المُحَيَّا والتبسّم) لأنهما يفتقران إليها.

لنقرأ قول صعصعةِ بنِ صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : (كان فينا كأحدنا، لِينَ جانبٍ، وشدَّةَ تواضعٍ، وسهولةَ قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه).

ليس ذلك حَسْبُ، بل إن معاوية نفسه قال لقیس بن سعد : (رحم اللّه أبا حسنٍ؛ فلقد كان هشَّاً بشَّاً، ذا فكاهة، فأجابه قيس : نعم، كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يمزح ويبتسم إلى أصحابه وأراك تسر حسواً في ارتقاء وتعيبه بذلك ؛ أما واللّه لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهْيَبَ من ذي لبدتين قد مسّه الطوى).

تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام.

ويقول ابن أبي الحديد : (وقد بقي هذا الخُلُق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك).

إنَّ أخْذَ عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب ثم (غمزَ) معاوية نابعٌ من نمط حياتهم الاجتماعية وسلوكهم اليومي مع الناس، سلوك التعالي على (الدون) والإشاحة عن (الرعية) [فكل إناء بالذي فيه ينضح] و[شبيه الشيء منجذب إليه]، وإلا ماذا نقول عن وصية الإمام علي (عليه السّلام) إلى واليه مالك الأشتر، إذ يقول - وهويوصيه بالناس خيراً - :

ص: 54

«فالناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخَلق، يفرط منه الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووليُّ الأمر عليك فوقك، واللّه فوق مَنْ ولَّاك».

وقوله (عليه السّلام) أيضاً :

«لا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا تطوُلْنَ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقِلَّهُ علمٍ بالأمور، والاحتجابُ عنهم يقطع عنهم علمَ ما احتجبوا دونه، فيصغرُ عندهم الكبير ويعظمُ الصغير، ويقبحُ الحسن، ويحسنُ القبيح، ويشابُ الحقُّ بالباطلِ، وإنما الوالي بَشَرٌ لايعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور».

فهل ذلك كلِّه من فعل ال(دعابة)؟ اللّهم إذا كان كذلك ف(عليٌّ) سيِّدُ الدعابة ورمزُها ومشیِّد بنیانها.

الزهد

الزهد، واحدة من صفات الإمام علي (عليه السّلام) التي فاقت التصور وتجاوزت المعقول؛ لقد كان (عليه السّلام)، زاهداً بحياته في مجمل تفاصيلها؛ في المأكلِ والمشربِ والملبسِ وما إلى ذلك من أساسات (الدنيا) التي يعتمدها الناس ويقيمون لها وزناً ويولونها اهتمامهم، ولكنه (عليه السّلام)، كان يستعيض عن ذلك

ص: 55

الزخرف بما وهبه اللّه من الصبر في مجاهدة النفس والتوجه بقلب سليم إلى اللّه وأداء فروضه وتنفيذ ما أُوكل إليه من أمر الدِّينِ والرعية.

يقول أبن أبي الحديد : (وأما الزهدُ في الدنيا فهو سيِّدُ الزُّهَّادِ، وبدلُ الأبدال وإليه تُشَدُّ الرحالُ، وعنده تُنفض الأجلاسُ؛ ما شبع من طعامٍ قطْ، وكان أخشنَ الناس مأكلاً وملبساً.

قال عبد اللّه بن أبي رافع، دخلت إليه يوم عيد فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعيرٍ يابساً مرضوضاً، فقُدِّم فأكل، فقلت : يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه ؟ قال (عليه السّلام):

«خفت هذين الولدين - أي: الحسن والحسين عليهما السلام - أن يُلتّاه بسمنٍ أوزیت».

وكان ثوبه مرقوعاً بجلدٍ تارةً وليفٍ أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، وكان يأتدم بخلٍّ أوبملح، فإن ترقِّی عن ذلك فيُعوَّض بنبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبانِ الإبل، ولا يأكل اللحم إلّا قليلاً ويقول؛ لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان، وكان مع ذلك أشدَّ الناس قوةً... ولا ينقض الجوع قوته، وهو الذي طلق الدنيا،وكانت الأموال تجي إليه من جميع بلاد الإسلام، إلّا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول :

هذا جنايّ وخيارهُ فيه*** إذ كلُّ جانٍ يدهُ إلى فيه

ولنقرأ قول الشريف الرضي في مقدمة النهج، إذ يقول : (ومن عجائبه التي انفرد بها وأمِنَ المشاركة فيها كلامه في الزهد والمواعظ، إذا تأمله المتأمل وخلع من

ص: 56

قلبه إنه کلام مثله، ضمن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملکه لم يعترض الشك في إنه من كلام مَنْ لا حظَّ له غير الزهادة، ولا يطل له غير العبادة، فقد قبع في کسر بيت أوانقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلّا نفسَه).

فكلامه (عليه السّلام) ينطبق على فعله، فقد روى النَّظْرُ بن المنصور عن عقبة بن علقمة قال : (دخلت على عليٍّ (عليه السّلام) فإذا بين يديه لبنٌ حامضٌ آذتني حموضته وكِسَرٌ يابسةٌ فقلت : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال لي :

«يا أبا الجنوب: كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا – وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به ألَّا الحق به» ).

وكان (عليه السّلام) يأكل الشعير وتطحنه الزهراء بيديها، وكان يختم الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول :

«لا أحب أن يدخل بطني إلّا ما أعلم».

وقال عبد اللّه بن أبي الهذيل : (رأيت علياً خرج وعليه قميص غلیظ دارس إذا مدَّ كُمَّ قميصه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد).

وينقل لنا صاحب أسد الغابة : (إن على عليٍّ (عليه السّلام) إزاراً غليظاً قال : اشتريته بخمسةِ دراهم فمن أربحني فيه درهماً بعته، فيما ينقل عن الأرقم قوله : رأيت عليَّاً وهويبيع سيفاً له في السوق، ويقول :

«من يشتري مني هذا السيف؟ فوالذي خلق الحبَّة لطالما كشفتُ به الكربَ عن وجه رسول اللّه ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته».

ص: 57

ودخل عليه عَديُّ بنُ حاتم فرأى بين يديه شنَّة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال : إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال عليٌّ (عليه السّلام) :

علل النفس بالقنوع وإلَّا*** طلبتْ منك فوق ما يكفيها

ثم قال (عليه السّلام) :

«كأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوتُ ابنِ أبي طالبٍ فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان ألا وإن الشجرةَ البريةَ أصلبُ عوداً، والروائعَ الخضرةَ أرقُّ جلوداً، والنباتاتِ البدويةَ أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالصنومن الصنو، والذراعِ من العضد، واللّه لوتظاهرت الدنيا على قتالي لما ولّيتُ عنها».

وكان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يخاطبه بقوله :

«يا علي، إن اللّه، عزَّ وجل، قد زيَّنَكَ بزينةٍ لم يتزيِّنْ العبادُ بزينةٍ أحب إليه منها.. الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ولا تنال الدنيا منك شيئاً...».

وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز : ( أزهد الناس في الدنيا عليُّ بنُ أبي طالب). وقد اعترف أبو سفيان بأن (علياً لم يبنِ آجرةً فوق أجرةٍ ولا لبنةً على لبنةٍ ولا قصبةً على قصبة). ويُروي عن الإمام الحسنِ بن علي، (عليهما السلام) أنه قال : «لم يترك أبي إلا ثمانِ مئة درهم أوسبع مئة درهم فضلت من عطائه كان يعدُّها لدار الخادم يشتريها لأهله». فالإمامُ عليُّ (عليه السّلام) - إذن - كان سيِّدَ الزُّهَّادِ في الدنيا وسيِّدَ عُشَّاقِ الآخرة.

ص: 58

إسهامات عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ودورةُ في الإسلام

جمعه القرآن

يمكن القول إن القرآنَ وعليَّ بنَ أبي طالب (عليه السّلام) لم يفترقا يوماً، والسببُ بسيطٌ جداً، وهو أن الإمامَ (عليه السّلام) تربِّى في بيت النبوة، والقرآن بعدُ لم ينزل على صدر النبي.

ولما حانت ساعة الوحي وبدأ يدق باب ذلك البيت كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) قد بلغ من العمر ما يجعله يدرك معناها فتلقى ذلك الوحي من فم رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) مباشرةً؛ آيةً فآيةً وسورةً فسورةً، فلا شك في أنه حفظ القرآن وأدرك معانيه بسبب من لصوقه بالرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وقد اتفق الكل - كما يقول ابن أبي الحديد - على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ولم يكن غيره يحفظه، وهو الذي كان يقول :

ص: 59

«سلوني واللّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه ما من آية إلَّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل».

ثم هو أوّل من جمعه ، ومهما قيل في سبب تأخره عن بيعة أبي بكر فإننا نميل إلى أنه (عليه السّلام) استغل مُدة بُعْدِهِ عن الخلافةِ بجمع القرآن، وهذا يدل على أنه أوّل من جمع القرآن، لأنه لوكان مجموعاً في حياة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لَما احتاج إلى أن يشتغل بجمعه بعد وفاته (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وإذا رجعتَ إلى كتب القراءات - يستمر ابن أبي الحديد - وجدتَ أئمة القُرَّاءَ كلهم يرجعون إليه؛ كأبي عمروبن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم لا يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السُلَمي القارئ، وأبوعبد الرحمن كان تلميذه، وقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً مثل كثير مما سبق.

مشوراته

مما لا شك فيه أن الإمامَ عليَّاً(عليه السّلام) يتمتع بقدراتٍ ذهنية جعلته يتفرَّد، لا بين أقرانه في عصره حسب، بل على طول التاريخ الإنساني، قبلاً وبعد، وإذا ما دقّشقنا النظر في نهج البلاغة لتأكد لنا ذلك، ويعود سبب تفرده إلى عوامل عديدة منها :

1. التركيب الفسيولوجي، وأعني به خلايا تلافيف دماغه التي أبدعها وصممها خالق الكون والناس لتكون متفرِّدة.

2. نشأته في بيت أنزل اللّه تعالی رسالته فيه على نبيه الأكرم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فتلقفها الصبي (عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام)) بتَلهُّف الجائع

ص: 60

رغيف خبزٍ حار، فعاش - منذ صباهُ - في محيط يتضوّع في أرجائه بخور التقوى والتوحيد والإيمان، بل قل الثورة على القيم البالية التي عاشها العرب دهوراً مديدة، مما جعله دائم التفكر والتأمل.

3. إيمانه المطلق برسالة ابن عمه محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) جعله ينطلق في إبلاغها إلى الناس بصدق وبروحيةٍ صافيةٍ ونظيفةٍ وبعزيمةٍ لا تعرف الكللَ ولا المللَ، ولا تعرف المداهنةَ والمحاباة، ولا التوفيقيةَ والوسطية، بل سار في خطِّ مستقيم واحد حتى آخر لحظةٍ من حياته الكريمة، ويظهر ذلك جليَّاً في خطبه وأحاديثه ووصاياه ومراسلاته، المجموع بعضها في نهج البلاغة.

4. شعوره بأنه المُكَلَّف بعد وفاة الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بتبليغ رسالة السماء إلى الناس وتثبيت دعائمها والحفاظ على قيمها لأنه أولى الناس بحمل هذا التكليف، وهو الذي قال فيه الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) :

«من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أنت مني كمنزلة هارون من موسى ...».

فرجلٌ تلك مكانته من الإسلام ومن رسول الإسلام لابد له أن ينهض في

إتمام ما بدأ به الرسول (صلّى اللّه عليه وآله).

لتلك الأسباب وغيرها لابد للناس أن يرجعوا إليه في كثير ما أشكل عليهم من تفاصيل الرسالة المحمدية، لذلك نراه - كما يقول ابن أبي الحديد -: (كان

ص: 61

أسَدَّ الناس رأياً وأصحَّهم تدبيراً، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لَمَّا عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الرومِ والفُرْسِ بما أشار، وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ولو قبِلها لَما حدث عليه ما حدث).

بل هومن قال عنه عمر بن الخطاب : (لولا علي لهلك عمر).

فلا غرابة في ذلك لأن سلاحه كان أمضى سلاحٍ وأنفذَ سلاحٍ وأصدقَ سلاحٍ وأنقاهُ وأصفاهُ وأكثرَ تجذُّراً في عمق العقيدةِ والمبدأ.

أليس هومن خاطب الرسول الأكرم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أصحابه قائلاً : «أ قضاكم علي».

ثم هومن بعثه قاضياً على اليمن فمسح على صدره وقال :

«اللّهم اهدِ قلبه ولسانه».

مما جعل الإمام يقول :

«فواللّه ما شككتُ بعدها في قضاء قضيتُ به بين اثنين».

ثم أليس هومن قال فيه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - عندما أُنزل قوله تعالى : {وَتَعِیَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }-:

«سألت اللّه - عز وجل - أن يجعلها أذنك يا علي»..

فقال الإمامُ عليُّ (عليه السّلام) :

«فما نسيت شيئاً بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى».

وأخيراً، أليس هومن تولى تسميته وتغذيته أيَّاماً من ريقه المبارك، وأمصه لسانه، والقصة في ذلك ما روي عن فاطمة بنت أسدٍ أمِّ عليِّ في حديث طويل

ص: 62

قالت : نظر إليّ أبوطالب وقال : - يا أم مالكِ؟ مالي أراكِ حائلة اللون؟ فقال محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لعمه أبي طالب : «إن كانت حاملاً أنثى فزوجنيها».

فقال أبوطالب علیه السلام : (إن كان ذكَراً فهولك عبدٌ، وإن كانت أنثي فهي لك جاريةٌ وزوجةٌ). فلما وضعتهُ جعلته في غشاوة، فقال أبوطالب : (لا تفتحوها حتى يجيء محمد فيأخذ حقه).

فجاء محمد ففتح الغشاوة، فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسمّاه عليَّاً، وبصق في فيه، وأصلح أمره، ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام؛ وهكذا فعل معه في اليوم التالي). ذلك هو الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) ربيبُ الطهرِ والنقاءِ والعقلِ والمعرفةِ والمنبعِ الصافي الأوّل لرسالة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لذلك فلا غرابة - أقولها ثانيةً - أن يشير على الصحابة بآرائه التي ما أخطأتْ يوماً بل جعلتهم لا ينصرفون لغيره ويهابونه في إعطاء الرأي عندما يكون حاضراً بينهم، لأنه أسدُّهم رأياً وأرجحهم فكراً وأقضاهم، وأفتاهم وأصدقهم وأكثرهم إيماناً وتمسكاً بأهداب العقيدة والمبدأ.

سياسته

كانت سياسة الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) منحازة كُلِّيةٌ إلى الأسس التي أوحى بها اللّه - جلت قدرته - إلى رسوله الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) من غيرِ أن يخشی لومة لائم.

ص: 63

لذلك ترك لنا ثوابتَ لا تقبل الطعن، بل كانت - وما زالت وستبقى - روافدَ ثرَّةَ ينهل منها أيُّ حاكمٍ ينشد الحقَّ والعدل.

(فقد كان ثاقب الفكر، راجح العقل، بصيراً بمرامي الأمور، وقد اُثِرَتْ عنه مواقفٌ وأقوالٌ وتصرفاتٌ تقوم دليلاً على سياسته الحكيمة، وقيادته الرشيدة، لكن مُثُلُهُ العليا تحكمت في حياته، فحالت دون تقبُّله الواقع ورضاه بأنصاف الحلول).

ومَن يرجع إلى (هج البلاغة) يجد فيه عشرات الخطب... تعطي صورة واضحة عن نظرته الثاقبة وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة، وأساليب حکم الرعية، وإدارة شؤونها، والحرص على دفع الفتن عنها، حتى تعيش في بحبوحة العز والرخاء).

ولكي تتدبر هذا الأمر، ما عليك إلّا أن تقرأ خطبه لدی بیعته وإعلانه منهاجه في الحكم، أوتستعيد مواقفه مع عائشة، ووساطاته بين عثمان والثائرين عليه، وصبره الجميل في معالجة الأمر مع معاوية وأهل الشام، وطول أناته في تفهم آراء شيعته، ومناظرته الخوارج قبل أن يخوض معهم ساحة القتال.

وقد خاطب الخوارج بقوله (عليه السّلام) :

«فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطتُّ على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكَماً يحكم ما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء».

ص: 64

ويقول لرجل وفد عليه من أهل البصرة :

«أرأيت لوأن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنتَ صانعاً؟ ».

قال : كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال الإمام (عليه السّلام) : «فامدُدْ - إذن - يدك».

وإذا بالرجل يقول : فواللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ فبايعته).

وأخيراً كتابه (عليه السّلام) إلى عامله الأشتر النخعي الذي يقول فيه :

«أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً وأثَرَةً فإنهم جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوځَّ منهم أهل التجربة والحياة من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام، فإنهم أكثر أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إسرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةً لهم في استصلاح أنفسهم، وغنىً لهم في تناول ما تحت أيديهم، وحجةً عليهم إن خالفوا أمرك أوثلموا أمانتك، ثم تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية».

ويحسن بك - أيها القارئ الكريم - أن ترجع إلى (نهج البلاغة) لتقف - بنفسك - على خُطَبِهِ وأحاديثه ومكاتباته ووصاياه (عليه السّلام)، لتجد فيها أُسس

ص: 65

أحدث المُسَلَّمات السياسية وأكثرها عدالةً.

لقد أسهم الإمامِ عليٌّ (عليه السّلام) في حقل السياسة إسهاهماتٍ جوهريةً حتى أن أكثر الحاكمين - إذا لم نقل كلَّهم - الذين تعاقبوا بعده من العرب، بل من غير العرب - أيضاً - حتى عصرنا الراهن يتعكزون على مُسَلَّماتهِ السياسية، وسياسته الرشيدة في الرعية.

ذلك هو الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السّلام) في نسبه ومكانته من الإسلام، ورأي علماء (السُّنةِ) فيه ورأي غير المسلمين أيضاً، وعلومه، وصفاته ، وأخيراً إسهاماته ودوره في الإسلام.

ويمكن أن نختم تلك الفقرات بقول ضرار بن ضمرة الكناني، إذ دخل يوماً على معاوية فقال : صف لي عليَّاً، فاستعفاه ضرار، قال معاوية : لتصفنّه ...!

فقال ضرار : أما إذا لابد من وصفه فإنه كان - واللّه - (بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهوتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، ويعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويلبِّينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيانا وقربه منَّا لا نكاد نکلمه هيبة له، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظِّم أهل الدين، ويقرِّب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سدولَه وغارب نجومَه - قابضاً على لحيته يتململ

ص: 66

تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه الآن وهويقول :

«یا ربنا يا ربنا».

يتضرّع إليه ثم يقول :

«يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضتِ أم إليّ تشوّقتِ؟ هيهات! هيهات! قد بِنْتُكِ ثلاثاً لا رجعة فيها؛ فعمرك قصير، وخطركِ كبير ، وعيشكِ حقير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد ، وبعد السفر، ووحشة الطريق» ).

ص: 67

ص: 68

الضوء الأوّل: المشككون بنهج البلاغة

إشارة

ص: 69

ص: 70

قديماً قيل : (من ألّف وصنّف فقد استُهدِف).

ذلك القول يصدق في كل زمان ومكان.

فالذين يتعاملون مع الفكر والقلم مُسْتَهْدَفُوْنَ أبدأ لماذا ؟

لأنهم :

1. سيطرحون آراءً قد لا تتفق مع هذا وذاك من حملة الأقلام فتبدأ السهام تتراشق في ما بينهم.

2. قد يكون هذا المفكر أوذاك متفوقاً على بعض أقرانه فيحاول هؤلاء الأقران أن يظهروا (فسادَ) قول هذا المتفوق عليهم، غَيرةً وحسداً، أو تقرباً من ذوي السلطة والجاه.

3. قد يسلط هذا المتفوق الضوء على بعض الظواهر المدانة التي تمس بعض من يمتّون بصلة إلى أصحاب الظواهر المدانة تلك فيحملون معاول الهدمِ للنَّيل من هذا المتفوق الذي ينشد الحق في ما يطرح بهدف قلب الحقائق وتشويهها حتى

ص: 71

لوكانت على حساب المبدأ والعقيدة.

وهكذا كان الإمام (عليه السّلام) في (نهج البلاغة).

إذ لمجرد ورود خطبة أوكلام له لا يتفق مع الرأي الآخر صار هذا (الآخر) يشكِّكُ بما جاء في (النهج) هذا.

ولأنهم لا يستطيعون النيل من شخص الإمام علي (عليه السّلام) فقد لجؤوا إلى طرق ملتوية ومنافقة تُظْهِر غير ما تُبْطنُ.

وهذه الطرق تناولت (هج البلاغة) تناولاً ظاهره الحق وباطنه يجأر بالباطل. فقد شككوا في جامع النص؟ أهوالشريف الرضي أم الشريف المرتضی؟

ثم راحوا يشككون في عائدية النهج نفسه : فمنهم من قال إنه ليس من کلام الإمام علي (عليه السّلام)، ومنهم من قال إن بعضه للإمام وبعضه من وضع الشريف الرضي وبعضه من وضع ابن أبي الحديد.

وهكذا صاروا يتخبطون خبط عشواء وهم يدركون أن ما في نهج البلاغة كله للإمام علي ولكن ما الحيلة وقد وردت فيه (خطبة) تمس (بعض) من التفّوا على مبدأ الحق فحرفوه عن جادته التي رسمها لهم صاحب الدعوة الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهؤلاء يسيرون في خط أولئك المحرِّفِينَ؛ فهم قالوا إن في (نهج البلاغة) [غثاثة] لا يمكن أن يكون هذا الكلام للإمام علي (عليه السّلام) وهومن (سن الفصاحة لقريش)، إنما كلمة حق يراد بها باطل.

ص: 72

وقالوا إن في النهج تعريض بالصحابة وعليٌّ (بريءٌ...!!) من كلام يتعرض بالصحابة.

إذن فالنهج لا يمكن أن يكون - بزعمهم، كله - من [كلام الإمام علي (عليه السّلام)..!!].

ومما قالوا - أيضاً - : إن (الوصي) أو (الوصية) كمصطلح لم تكن معروفة في زمن الإمام علي (عليه السّلام) فهي عرفت في عصور لاحقة.

ثم إن الإطناب والإيجار - في رأيهم - لم يكن معروفاً إلّا في عصور متأخرة کالعصر العباسي.

وقل مثل ذلك عن السجع الذي زعموا أنه ما كان له أثر في زمن الإمام (عليه السّلام) لذلك (قرروا !!) : (إن الكلام المسجوع هومن [وضع شخص أو أشخاص عاشوا في عصور لاحقة بعد عصر الإمام (عليه السّلام) ]).

أما دقة وصف الطاووس والنحلة والجرادة والخفَّاشِ فقد استبعدوا أن يكون هذا الوصف الدقيق للإمام علي (عليه السّلام) لأنه لم يكن معروفاً في زمانه (عليه السّلام).

وهكذا صاروا يفتشون في مفردات نهج البلاغة ليجدوا ما يعينهم على إبعاد نسبة كتاب (نهج البلاغة) إلى الإمام (عليه السّلام) وكلما (اكتشفوا...!!) واحدة من تلك اللُّقى فرحوا بها وصاروا يفتشون عن (لقْيَةٍ) أخرى تعينهم على (منهجهم العلمي ..!!) هذا فالألفاظ الاصطلاحية التي وردت في (النهج) لا يمكن

ص: 73

أن تكون من كلام علي (عليه السّلام) لأنها من كلام (فلاسفة) متأخرين عن عصر الإمام (عليه السّلام) بقرون.

وكذلك التقسيمات العددية التي وردت في (النهج) لا يمكن أن تكون - حسب زعمهم - للإمام علي (عليه السّلام) لأنها [غير معروفة...!!] في زمانه أيضاً.

أما التنبؤات، أوالتَّوِقُّعاتُ فهي [موضوعة ومنسوبة إليه ...!!] (عليه السّلام)، وهكذا عابوا عليه الزهدَ في الحياة.

كما أنكروا الوصف الدقيق للحياة الاجتماعية في زمان الإمام (عليه السّلام) وقالوا : (إن الذي ورد في (النهج) لم يكن من قول الإمام نفسه لما فيه من مصطلحات هي بعيدة عن عصره (عليه السّلام)).

ونحن في هذا الكتاب نحاول تسليط الضوء على ما أوردنا من أقوال المشككين ومناقشتها والرد عليها بمنهج علمي معتمدين الحقائق التاريخية والمنطقية التي لا تقبل الطعن بها.

وقد تَوَخَّيْنا - بعملنا هذا - مرضاة اللّه جل في علاه وإعادة الحق إلى أصحابه وتبصير من زاغوا عن طريق الحق أما جهلاً منهم أوعناداً.

بهدف أن يعودوا إلى جادة الصواب فيتخذوا من شخصية الإمام (عليه السّلام) مثلهم الأعلى في مناصرة الحق ومحاربة الباطل وبذلك نكون كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً فنقف بوجه من يحاولون جاهدين حرفنا عن الدين الذي جاء به الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)

ص: 74

من اللّه تعالى ليخرجنا مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى الثَّوْرِ بإِذنِه وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - كمقدمة - للقضاء على نور هذا الدين الحنيف الذي وجدوا فيه النور الذي عَشَتْ أبصارهم منه.

عسى أن نكون ممن أسهموا في وضع الحقائق في نصابها فإن استطعنا فمن اللّه التوفيق وإن أخفقنا فنسأله جل شأنه أن يغفر لنا وأن يسدد خطانا لما فيه نصرة ديننا الذي ارتضاه لنا إنه هو القدير المكين، ومنه نستمد العون والتمكين.

الرد على المشككين

إذا ما رجعنا إلى سيرة الشريف الرضي سنعرف أنه هو الذي جمع مفردات (النهج) وذلك في عام (400ه) ولكن ثمة من نسب جمع النهج إلى الشريف المرتضى، أخي الرضي؛ من هؤلاء جورجي زيدان إذ قال : (والصحيح إنه من جمع الشريف المرتضی)، وكذا قال بروكلمان.

أما شوقي ضيف فقد قال في كتابه : (إن اعتراف الشريف الرضي بجمعه (النهج) دليل على وضعه إياه، وبذلك قد خلط بين الوضع والجمع).

في الحقيقة إن تلك الأقوال لا تريد التشكيك بمن جمع (النهج) بقدر ما تريد التضبيب حول عائدية (النهج) أصلاً إلى الإمام علي (عليه السّلام)، وذلك للتقليل من شأنه وشأن أمير المؤمنين (عليه السّلام).

والمسألة قديمة، إذ أن خصومه (عليه السّلام) - منذ بزوغ نجمه، سواء في الغزوات والحروب في بدء الدعوة الإسلامية وفي تقريب النبي محمد (صلّى اللّه عليه

ص: 75

وآله) إياه قولاً وعملاً - أخذوا ينالون منه بوسائل شتى، إنْ ظاهرة أو مبطنة، ويرجع تاريخ تلك الخصومة والعداء إلى يوم غدیر خم، الذي رفع الرسول الأكرم عليّاً (عليه السّلام) وقال :

«من کنت مولاه فهذا علي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ منم عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

أو قبل ذلك، يوم زوّجه ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن خلال أحاديثه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) الكثيرة في حق الإمام علي (عليه السّلام) كقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - وهو يخاطبه -:

«يا علي، حُبُّك إيمان ، وبغضك نفاق؛ وأوّل من يدخل الجنة مُحِبُّك،

وأوّل من يدخل النار مُبْغِضُك».

وقد أحسّ خصوم الإمام بأنه سيكون له شأن في البنيتين الفوقية والتحتية للهيكلية الإسلامية فصاروا ينالون منه بطرق خبيثة، حتى في زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، أو بعده.

ففي زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نذكر الرواية التي تقول :

(إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعث علياً (عليه السّلام) في سريّة ليقبض الخمس فاصطفى منه سبيّة؛ واتفق أربعة من شهود السريّة أن يبلغوا ذلك رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) متعاقبين واحداً بعد واحد في قول واحد، فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - وقد تغيّر وجهه - فقال :

ص: 76

«ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه، وهووَلِيُّ كُلُّ مؤمنٍ ومؤمنة».

وقال لأحدهم :

«أتبغض عليا؟ ».

قال : نعم، فقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«لا تبغضه، فإن له الخمس أكثر من ذلك».

أي : أكثر من السبية التي اصطفاها ...

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) له :

«لا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً»).

[وإن كنتُ أشكُّ في هذه الرواية في ما يخصُّ (اصطفاء السَّبيَّةِ) لأن الإمام عليَّاً (عليه السّلام) أكبر مما يسلك هذا السلوك قبل الرجوع إلى الرسول محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم).

والرواية التي تقول : (إنه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعث الإمام علياً (عليه السّلام) إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن يُرْكِبَهُمْ إبل الصدقة ليريحوا إبلهم فأبى فشكوه إلى رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعد رجوعهم، وتولی شکایته سعد بن مالك الشهيد، فقال : يا رسول اللّه، لقينا من علي الغلظة وسوء الصحبة والتضييق.. ومضى يعدد ما لقيه، حتى ضاق به الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ذرعاً فهتف به - وهوفي أثناء كلامه -:

«يا سعد بن مالك الشهيد ، بعض قولك لأخيك علي، فواللّه لقد

ص: 77

علمت أنه جيش في سبيل اللّه».

وفي رواية أخرى قال : (صلّى اللّه عليه وآله) للشاكين من الإمام علي عليه السلام :

«أيها الناس لا تشكوعلياً إنه لجيش في ذات اللّه».

والرسول (صلّى اللّه عليه وآله) كان يعلم أن ثمة من يضمر العداوة والبغضاء للإمام علي (عليه السّلام) حسداً له من قربه من ابن عمّه فكان رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم) يؤكد - كما يقول ابن عباس - لهم منزلته العالية في الدنيا والآخرة، فقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) مخاطباً علي بن أبي طالب (عليه السّلام) :

«أنت سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، من أحبّك فقد أحبّني ، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدواللّه، طوبى لمن أحبّك والويل لمن أبغضك».

وبعد زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) صاروا يقلبون الحقائق ويحوِّرون الكلم بما يقلِّل من شأن الإمام عليّ (عليه السّلام)؛ فقد روى البخاري أن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وجده - أي علياً (عليه السّلام) - في المسجد نائماً وقد ترب جبينه فجعل يمسح التراب عن جبينه ويقول :

«قم يا أبا تراب».

ويرى العلّامة محمد صادق الصدر إن كلمة (أبا تراب) كناية عن كثرة عبادته وصلواته، لأن المسلمين في السابق كانوا يسجدون على التراب، وكان الإمام علي (عليه السّلام) معقَّر الجبين لكثرة ما يسجد.

ص: 78

فقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :«قم یا أبا تراب» على حد قوله : (قم یا كثير العبادة).

وقد كانت هذه الكنية من أحب الكنى إليه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إذ كان كثيراً ما يدعوه بها.

ولكن معاوية بن أبي سفيان، ومن حوله أحسّوا برفعة هذه الكنية وميزة صاحبها، فأخذوا يموِّهون على الناس بأن سبّوه بها على المنابر مظهرين أنهما منقصة له.

كانت تلك البداية؛ إذ بدؤوا بشخص الإمام (عليه السّلام) فنالوا منه ما يشاؤون ليأتوا إلى معطياته الجهادية والأخلاقية والفكرية والإبداعية فيحطّوا من قدرها ويقللوا من شأنها، فلا غرابة - إذن - إذا ما قرأنا، هنا وهناك، وفي هذا العصر أوذاك، تشکیكاً في عائدية (النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) أو الطعن في بعضه بطريقة مبطّنة كتبطين كلمة الحق يراد بهما الباطل.

فظهرت الأصوات صريحة مرة ومبطَّنة أخرى وخفّية تارة وصارخة حيناً؛ ف(محمود محمد شاكر) يرى إن (نهج البلاغة موضوع وملفَّق على الإمام علي (عليه السّلام)) (لأنه كلام كثير الغثاثة).

تلك غمزة لم يكن محمود محمد شاكر وحده قد غمز با (النهج) وصاحبه ، فقد شاركه بما - وبطريقة أكثر ضلالاً - الدكتور شفيع السيد.

فكتب يقول : (... فضلاً عما اشتهر به الإمام من بلاغة القول ورصانة

ص: 79

العبارة، على نحولا تستبعد معه نسبة تلك النصوص إليه من حيث تركيبها اللغوي وتشكيلها البياني).

لاشك أن القاريء الكريم قد لفتت نظره عبارة : (لا تستبعد نسبة تلك النصوص إليه..).

إذن فهو يشكك بنسبتها إليه (عليه السّلام) ولكنه لا يستبعد ذلك، ليس هذا حسب، بل إنه يذهب إلى غمزة أخرى للنيل من (النهج) وصاحبه إذ يقول الدكتور شفيع السيد عن الشيعة : (إن بعضاً منهم غالي في تقديره له - أي للإمام علي (عليه السّلام) - حتى رفعه إلى مستوى من اصطفاهم اللّه بالوحي، ومن هؤلاء الرضي نفسه في مقدمته للكتاب، فقد علل سبقه في مضمار البيان وتفوقه على كل من عداه من الخطباء والبلغاء؛ بأن كلامه (عليه السّلام) : (الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي).

وعدَّ ذلك غلواً من الشيعة؛ وقد نسي الدكتور شفيع السيد وغيره ، ممن هم على شاكلته في نمط التفكير، إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نفسه كان يقول : «إن النظر إلى وجه علي عبادة».

ونسي - هووغيره - قول الرسول الأكرم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لعبد الرحمن بن عوف :

«يا عبد الرحمن أنتم أصحابي وعلي بن أبي طالب مني وأنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، ومن آذاني فعليه لعنة ربي، يا عبد الرحمن إن اللّه أنزل علىَّ كتاباً مبيناً وأمرني أن

ص: 80

أبيّن للناس ما أُنزل إليهم ما خلا علي بن ابي طالب فإنه لم يحتج إلى بيان لأن اللّه تعالى جعل فصاحته ودرايته كدرايتي».

لا أدري ماذا يقول (السيد) وغيره في : (ما خلا) وفي : (لم يحتج إلى بيان) وفي (درايته كدرايتي)؟

فأيهما (غالی) أكثر، الشيعة - ومنهم الرضي في (مسحته) و(عبقته) - أم الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) في ما نقلنا؟

إن قليلاً من التأمل وقليلاً من الركون إلى الحق وقليلاً من الخروج إلى دائرة الضوء تجعلهم يقولون الحق وينظرون إلى الأشياء بمنظار الحق والإنصاف فلا يغمزون ولا يلمزون. فقال عزّ وجل :

{وَيْلُ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.

إن علي بن أبي طالب عربي وإنه ابن عم الرسول وكاتب وحيه وربيب بيته ورفيقه في حله وترحاله، أكثير على كلامه أن تكون فيه (مسحة العلم الإلهي وعبقة من الكلام النبوي)؟

ألا يدعوذلك إلى الفخر أن عربياً ومسلماً وقريباً من الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يحمل إلينا هذا المعطى العظيم والفكر الخلّاق في بلاغة وفصاحة ومنهج علمي ثابت، وينبري عربي آخر، بل مسلم؛ ومن البيت نفسه إلى جمع هذا المعطى في كتاب أسماه (نهج البلاغة) أليس ذلك مما يجب أن نفخر به؟

لا أدري لم هذا التشكيك؟ هل لأنه يحمل اسم الإمام علي (عليه السّلام)؟ أم

ص: 81

لأنه حظي بما لم يحظ به أي كتاب قبله وبعده من اهتمام المؤلفين والشُراح؟

وقد بلغت شروحه (75) شرحاً، بقول الأميني في كتابه الغدير و(101) شرحاً بقول الشيخ عبد الزهراء الخطيب الحسيني.

ولم تقتصر الشروح تلك على الشيعة، بل كان معظمهم من غير الشيعة وليس كما ذهب الدكتور شفيع السيد إلى القول : (إن معظم شراح (نهج البلاغة) هم من الشيعة).

لنترك قول الشريف الرضي ولنقرأ قول الشيخ محمد عبده، الذي هوليس (شيعياً) ولا من (أهل البيت)، إذ يقول : (وليس في أهل هذه اللغة إلّا قائل بأن کلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام اللّه وكلام نبيه ، وأغزره مادة وأرفعه اسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني).

أما الدكتور زكي نجيب محمود، وهو مثل الشيخ محمد عبده في المذهب، فيقول : (ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970ه - 1016م) وأطلق عليها (نهج البلاغة)؛ لنقف ذاهلين امام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها؛ وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسة ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسة التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء ألا وهي : اللّه والعالم والإنسان.

إذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فیلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في إن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ

ص: 82

ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه).

في الواقع إن بذرة التشكيك بذرها ابن خلکان إذ قال عن (نهج البلاغة) : (إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه).

وأيده في ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات، واليافعي في مرآة الجنان، وابن حجر في لسان الميزان.

ويبدو أن بذرة ابن خلكان قد نمت وصارت شجرة ولكنها شائكة فتفيأ - في ظلالها - بعض کتابنا الذين عزَّ عليهم أن يكون عليُّ بن أبي طالب (عليه السّلام) هو قائل کلام (نهج البلاغة)، فصاروا يُرَدِدُونَ أقوال ابن خلکان وغيره من تابعوه من القدماء؛ فجرجي زيدان يقول : (إن كنا نرى إن كثيراً من تلك الخطب ليس العلي بدلیل اختلاف الأسلوب ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره).

وظل شوقي ضيف يتأرجح في كلامه : (يبدوأن النهج قد (دَّوخه) فراح يخبط خبط عشواء؛ فمرة يقول : (إن علياً قد خلف خطباً كثيرة) وأخرى يقول : (إن - النهج - من وضع الشريف الرضي) ولكي يعزز قوله هذا ويدعمه يقول : (إن الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي).

أية (حزّورة) هذه التي (حزرها) شوقي ضيف؟

أما محمود محمد شاكر فقد قال وهو يرد على قول الدكتور زكي نجيب محمود : (لننظر کم اجتمع في هذا الرجل - يعني الإمام علي (عليه السّلام) - من أدب وحكمة وفروسية وسياسة ؛ قال محمود محمد شاكر : (ألم يكن أسلم له في

ص: 83

طريقه - ویرید : طريق الدكتور زكي نجيب محمود - أن يسأل وإن يحاول أن يفكر على الأقل حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي (رضي اللّه عنه)؟ إنه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحیح النسبة إلى علي، كان استخراج صورة علي منه ضربا من العبث).

ولكن محمود محمد شاكر هذا لم يكتفِ بما قال إذ أراد أن يؤكد شيئاً آخر في نفسه ظل يتغرغر به زمناً طويلاً فقال : (إن النظرة الأُولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجرِ على لسان علي - (عليه السّلام) - إلّا أقل من العشر..).

وهنا سيتنفس محمود محمد شاكر الصعداء بعد أن يؤكد (إن إبن سلام عندما شرح غريب ما في النهج لم يكن فيه من كلام علي (عليه السّلام) ربع من حديث عمر).

وبهذا خرجت الغرغرة وارتاح الرجل لهذه المقارنة التي جهد لها في مقاله، ف(ربع حديث عمر) هي ركيزة المقال ومقصوده.

وعلى غرار بعض الكُتَّاب الذين يوردون جملة من الأدلة أوالأمور، ولما لم يكن في حوزتهم شيء آخر يقولونه ختموا ذلك التعداد بقولهم : (وغيرها وغيرها) أو(وما إلى ذلك) أو (الخ..).

وهكذا فعل محمود محمد شاكر وهو يحاول جاهداً تأكيد بطلان (كون ما في النهج ل(علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فقال : (وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين) لأنه عجز أن يورد (أدلة أخرى) كأنه

ص: 84

أدرك أن ما أورده من (أدلة) لم تقم حجة على (بطلان) نسبة ما في النهج إلى الإمام بل قامت دليلاً على بطلان كلامه هو، وأعني كلام محمود محمد شاکر، ولأنه أدرك ذلك أراد أن (يستغفر) لنفسه ويكفر عنها هذا الخطأ في المنهج (العلمي) في تناول موضوعات كهذه، أسرع إلى القول، ولكنه قول مبطن أيضاً فقال : (فكتاب كهذا الكتاب، يدل صريح العقل والنظر وصريح النقل والتثبت على إنه کتاب قریب النسب ...).

وممن يعني هذا القرب بالنسب؟ هل من الإمام علي (عليه السّلام) أم من الشريف الرضي رحمه اللّه؟

هكذا (غلَّف) قوله ليموِّه على القارئ في نظره.

ومع ذلك فإنه يؤكد أنه (كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه دون أن يفحصه ويتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة - وقد كتب أكثره بعد دهور متطاولة - ممثلاَ لعلي بن ابي طالب وممثلاً للقرن الأوّل من الهجرة).

سامحك اللّه يا رجل..! إنك أردت أن تُعرف بين الناس ک(کاتب) و(باحث) و(أديب) و(محقق) فشهرت سيفك هذا ولكنه كان سيفاً نابياً فصرت کالبائل في بئر زمزم.. ونحن نقول لك : (ما هكذا تورد - يا سعد - الإبل).

إذ إنك أردت أن تتواصل مع ابن خلكان في تشکیکه بصحة نسبة النهج إلى الإمام علي (عليه السّلام) ولكنك، وابن خلکان وغيركما كثير، ركبتم أفراساً كبت

ص: 85

وشهرتم سيوفاً نبت، فبقيتم في صحرائكم تلهثون وماء زمزم تنشدون، حتى قيض اللّه لكم من يرشدكم إن بئر زمزم لا يجعل من أيِّ منكم (رسولاً) كمحمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ولكنكم بقيتم تغطون وجوهكم بغربال لئلاً ترون شمس الحقيقة، وإلّا ماذا يعني قول الدكتور شفيع السيد إن (نسبة الشريف الرضي - جامع الكتاب - إلى البيت العلوي.. يمكن أن تكون مدعاة للشك ودافعاً إلى الإتهام بالتحيز والتعصب .. وقد قال عنه بعض واصفيه : كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ .. وكان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي - (عليه السّلام) - في جزالة الألفاظ ومتانة السبك).

إن الدكتور شفيع السيد مثل (ربعه) يغالط نفسه، بل يدينها من فمه،كيف؟

إذا كان يعترف إن الشريف الرضي (شاعر مفلق) و(فصيح النظم) و(ضخم الألفاظ) و(كاتب بليغ) و(متين العبارة) فماذا يمنعه أن ينسب ما في النهج إلى نفسه ليحلق بشهرته في سماء الأدب والفكر أكثر؟ نحن نعرف، والدكتور..! يعرف إن ثمة من ينشدون الشهرة يسطون على هذا العمل الإبداعي أوذاك لينسبوه إليهم لأنهم قاصرون أن يأتوا بمثله.

ونحن قد اعترفنا بعدم قصور الشريف الرضي، بل وتمكنه من أدواته، فما الداعي أن ينسب كلاماً لنفسه وهولغيره؟ هذه أول إدانة للدكتور الفاضل..! وثاني إدانة أنه اعترف إن كلام الإمام علي (عليه السّلام) يتسم ب(جزالة اللفظ

ص: 86

ومتانة السبك).

إذن، إذا كان ما جاء به الشريف الرضي (جزل اللفظ ومتين السبك) فما يمنع أن يكون للإمام علي (عليه السّلام)؟ بل أليس الأقرب والأكثر معقولية أن يكون له (عليه السّلام) من أن يكون للرضي رحمه اللّه ؟ لاسيما نحن نعرف مكانة الإمام علي (عليه السّلام) الفكرية والأدبية، وقد مر بنا شيء منها كثير، وهولا يقبل الطعن.

ولكنه بئر زمزم..! يا له من بئر مغرٍ قصّاده الواهمين..! الحاملين على أكتافهم مقولة : (خالف تُعرف).

لعلهم وجدوا خيطاً هنا وخيطاً هناك فشدوا أنفسهم بهما، وإن كان من خيوط العنكبوت، ليتأرجحوا فيراهم الناس وبذلك يحققون الشهرة التي يريدون والمجد الذي ينشدون.

وكان أحد الخيوط العنكبوتية ما ذكره ابن أبي الحديد وهو يختم (شرح نهج البلاغة) بكلمات حكميّة قصار، إذ قال : ( ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه - أي إلى الإمام علي (عليه السّلام) - فبعضه مشهور عنه، وبعضه ليس بذلك المشهور ولكنه قد روي عنه وعُزي إليه، وبعضه من كلام غيره من الحكماء لكنه كالنظير لكلامه، والمضارع لحكمته، ولما كان ذلك متضمناً فنوناً من الحكمة نافعة رأينا أن لا نخلي هذا الكتاب منه، لأنه كالتكملة والتتمة لكتاب (نهج البلاغة)، وربما وقع في بعضه تکرار يسير شذ عن أذهاننا التنبه له لطول

ص: 87

الكتاب، وتباعد أطرافه، وقد عددنا ذلك كلمة كلمة فوجدناها ألف كلمة).

فراحوا يشككون بالنهج كله فيدّعون بأنه ليس من كلام الإمام علي عليه السلام.

وبذلك حاكوا ابن خلکان، الذي بذر بذرة التشكيك الأُولى - كما ذكرنا - إذ قال في وفيات الأعيان : (وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من کلام الإمام علي - (عليه السّلام) -، هل جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه).

كما حاکی - من قبل - كل من الصفدي في (الوافي بالوفيات) واليافعي في مرآة الجنان) وابن حجر في (لسان الميزان).

وغير أولئك من القدامى والمحدثين منهم الذهبي في (میزان الاعتدال) في ترجمة الشريف الرضي : إنه هو المتهم بوضع (نهج البلاغة)، ثم قال : (ومن طالع كتابه (نهج البلاغة) جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصريح، والحط على السيدين أبي بكر وعمر.. الخ).

ومنهم محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته لشرح النهج إذ يقول : (إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي).

وأنكر آخرون أن يكون النهج للإمام علي (عليه السّلام) سبب ما فيه من ذكر (الوصي والوصاية)، أوطول بعض الخطب والكتب، كالقاصعة والأشباح، وعهد مالك بما لم يك مألوفاً في صدر الإسلام.

ص: 88

والسجع قام دليلاَ آخر - عندهم - على عدم نسبته إلى الإمام (عليه السّلام) إذ (لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه، وإنما طرأ ذلك على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتتن به أُدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم).

ليس ذلك حسب بل الوصف ودقته دليلهم الآخر على ذلك الإكتشاف (الذرّي) إذ إن (فيه استفراغ صفات الموصوف، وأحكام الفكرة، وبلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش والطاووس، والنملة والجرادة، وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأوّل، ولا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية، ويدخل في هذا استعمال الألفاظ الاصطلاحية التي عرفت في علوم الحكمة من بعد، کالأين والكيف ونحوهما، وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل، وفي تقسيم الفضائل أوالرذائل مثل قوله - ويعني الإمام علي (عليه السّلام) -:

«الاستغفار على ستة معانٍ».

وقوله (عليه السّلام) :

« الإيمان على أربع دعائم، الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شُعب».

و(علم الغيب) كان ركيزتهم الأخرى في هذا الاكتشاف، لأنهم وجدوا في الكتاب ما يُشَم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسالة، ورأى نور النبوة.

ص: 89

ثم ماذا بعد هذا؟ هل انتهى ما في جعبتهم من (أدلة ..!)؟

کلا، فهم أخذوا عليه (ما فيه من الحث على الزهد، وذكر الموت، وقرض الدنيا على منهاج المسيح (عليه السّلام)).

و(وصف الحياة الاجتماعية على نحولم يُعرف إلا في عصور متأخرة، ترى في هذه الخُطب طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق، وفي الذمم والضمائر، واصفاً القضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة).

ثم إن بعض ما رُوي عن علي في (نهج البلاغة) عن غيره في غيره، (كقوله : «كان لي فيما مضى أخٌ عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيه».

وهذا مرويّ عن ابن المقفع، وكقوله (عليه السّلام) :

«الدنيا دار مجاز...».

يُروى لسحبان وائل).

وأخيراً : (خلوالكتب الأدبية من كثير مما في (نهج البلاغة)) .

ص: 90

الضوء الثاني : الرد على المشك كين بنهج البلاغة

إشارة

ص: 91

ص: 92

تلك كانت أهم (اکتشافات) المشككين بنسبة ما في (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام) فهل نتركهم ينعمون..! بما توصلوا إليه؟

ونحن نعرف أهم وارثوا (تطلع ..!) صاحب بئر زمزم..!

فقد كان يريد أن يُعرف ويُشار إليه بالبنان.. كما عُرف محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وأشير إليه بالبنان.

فكان له ما أراد..! ولكن شتان بين ما عُرف به الرسول الأعظم محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم) وما أشير إليه بالبنان، وما عُرف به صاحب بئر زمزم..! وما أشير إليه بالبنان..!

فأينما كان يولّي وجهه كان يُشار إيه بقولهم : (هذا الذي بال في بئر زمزم.. جاء.. ذهب.. قام.. قعد.. الخ) فذكره التاريخ واشتهر ...! حتى جاء أحفاده فأرادوا السير على منهجه فلم يجدوا بئر زمزم وعصر بئر زمزم وأهمية بئر زمزم لقوافل العرب، فلجؤوا إلى (نهج البلاغة) فأدلوا فيه بآرائهم..! تلك فكان لهم ما أرادوا

ص: 93

من الشهرة.. والصيت .. وإنهم كانوا فرسان حلبتهم ..! في التشكيك بأقوال الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وبذلك تواصلوا مع (صاحب بئر زمزم) وابن خلكان.

أقول : هل نتركهم و(اکتشافاتهم).. تلك؟

بالتأكيد، لا.. لذلك سنرد عليهم بما يرضي اللّه جل وعلا وما يرضي رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وما يرضي العقيدة والمبدأ وما يرضي الضمير وما يرضي المنهج العلمي وما يرضي التاريخ النظيف مستعينين باللّه الواحد الأحد وما توفر لدينا من مصادر في هذا المجال.

ص: 94

1- جامع النهج

قال الشريف الرضي، في كتابه (المجازات النبوية) عندما ذکر حدیث الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذوحظ من صلاة».

قال : ويبين ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في كلام له :

«تخففوا تلحقوا».

وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم (نهج البلاغة) الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه (صلّى اللّه عليه وعلى الطاهرين من أولاده).

وفي كلامه على الحديث الشريف :

«أسرعكن لحاقاً بي، أطولكن يداً».

قال : (ومثل ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) :

«من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة».

وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة)).

ص: 95

وعند كلامه على الاستعارة في قوله (صلّى اللّه عليه وآله) في خطبة له :

«ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة».

قال : (ويُروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وقد أوردناه في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة) وهوالمشتمل على مختار كلامه (عليه السّلام) في جميع المعاني والأغراض والأجناس والأعراض).

وحول قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهرٌ وبطنٌ، ولكل حرف حد ولكل حد مقطع».

قال : (المراد إن القرآن يتقلب وجوهاً ويحتمل من التأويلات ضروباً كما وصفه أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في كلام له فقال :

«القرآن حمّال ذووجوه...».

وقد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة)). وعن قوله (صلّى اللّه عليه وآله) :

«القلوب أوعية بعضها أوعى من بعضها».

قال : (وربما نُسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) على خلاف في لفظه، فقد ذكرناه في جملة كلامه لكميل بن زياد النخعي في كتاب (نهج البلاغة).

إضافة إلى ذلك فإن الرضي كان يذكر (المجازات النبوية) أثناء شرحه النهج كقوله (عليه السّلام) :

«العين: وكاء له».

ص: 96

فقال الرضي : وهذا من الاستعارات العجيبة.. وقد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم ب(مجازات الآثار النبوية).. ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وقد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرد في کتاب (المقتضب) في باب اللفظ بالحروف، وفي الأظهر الأشهر إنه للنبي عليه الصلاة والسلام.

فعلى ماذا تدل عبارة (وفي الأظهر الأشهر) ألا تدل على أمانة أدبية في نقل النصوص والتثبت من صحة نسبتها؟ فلوكان (النهج) من وضع الرضي لما احتاج إلى أن يحتاط هذا الاحتياط فيرفع كلاما ظهر له أنه ليس للإمام علي (عليه السّلام) بل هو للرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، تلك واحدة.

وفي كتابه الموسوم ب(في حقائق التأويل)، الذي طُبع منه الجزء الخامس فقط يقول الرضي : (وإني لأقول أبداً : لوكان كلامه يلحق بغباره، أو يجري في مضماره بعد كلام رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لكان ذلك كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إذ كان متفرداً في الفصاحة، لا تزاحمه عليه المناكب، ولا يلحق بعقوه الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب(نهج البلاغة)، ويشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، في جميع الأنحاء والأغراض، والأجناس والأنواع من خطب وكتب، ومواعظ وحكم...)، وتلك ثانية.

والثالثة قال الرضي رضيَ اللّه عنه في جانب من مقدمة نهج البلاغة : (فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في (خصائص

ص: 97

الأئمة) يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر کلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، ولما فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً (صلوات اللّه عليه)، وعاقت عن إتمام الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبواباً ، وفصلته فصولاً فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه (عليه السّلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب).

وقوله وهويذكر قول الإمام علي (عليه السّلام) : («تخففوا تلحقو» فما سمع کلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة، وأنفع نطفتها من حكمة، وقد نبهنا في كتاب (الخصائص) على عظم قدرها، وشرف جوهرها.

تلك الثلاث تدل، بما لا يقبل الطعن، أن الشريف الرضي هوجامع (نهج البلاغة) وليس المرتضی رحمه اللّه.

ومن يرى غير ذلك - بعد تلك التصريحات من الشريف الرضي - فهو: (سفة الرأي وإصرار على الخطأ .. فالرضي روي ما رأي وأورد ما ورد...).

ص: 98

2- الغثاثة

إشارة

مررنا بكلام لمحمود شاكر تجنى فيه على الإمام علي (عليه السّلام) فقال إن في كلامه - في النهج - كثيراً من الغثاثة) وكان في طرحه هذا (الاكتشاف) مفتقراً إلى الحجة المنطقية المقنعة، لذلك فإننا سنسلك معه طرقاً علمية ومنهجية لعله يستنير بها هو وغيره، مما أرهقت أبصارهم وبصائرهم ظلمة الطريق التي سلكوها والدرب الذي اختاروه لأنفسهم.

يقول الشريف الرضي في مقدمة نهج البلاغة : (كان أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) مشرِّع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنوها، وعنه أخِذَت قوانينها، وعلى أمثلته أخذ كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصَّروا، وتقدّم وتأخروا؛ لأن كلامه (عليه السّلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي.. وهو البحر الذي لا يساجل، والجسم الذي لا يُحافَل).

أما الشيخ محمد عبده فقد قال في مقدمة شرحه (نهج البلاغة) : (فقد أوفي

ص: 99

لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفةً بلا تعمد، أحبته على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية فتصفّحت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يُخَيل إليَّ في كل مقام إن حروباً شبت وغارات شُنّت، وإنّ للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة.. وإن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج.. وإن مدبّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد؛ فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حُلَل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية وتدنو من القلوب الصافية .. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فُصِل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاثيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ، ونما به إلى مشهد النور الأجلي، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس).

وهذا عبد الحميد الكاتب يقول : (حفظت سبعين خطبة من خطبه (أي من خطب الإمام علي (عليه السّلام)) ففاضت ثم فاضت).

ولما سُئل ما الذي خرّجه في البلاغة؟ قال : (خطب الأصلع).

ومثل ذلك قال ابن نباتة المصري : (حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده

ص: 100

الإنفاق إلا سعة، حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).

أما الشريف المرتضی فقد روى : (إن الحسن البصري كان بارع الفصاحة بليغ المواضع كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أوجلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أومعنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، فهوالقدوة والغاية).

وكان ابن المقفع يقول عن خطب الإمام علي (عليه السّلام) : (شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً، ففاضت ثم فاضت فلا هي نظاماً، وليس غيرها کلاماً).

أما الأستاذ أحمد محمد الحوفي فقد أوجز لنا في كتابه (بلاغة الإمام علي) صفات تعبيرات الإمام علي (عليه السّلام) فقال :

1. تخير المفردات

(بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها والفكرة التي أملتها).

ويورد أمثلة على ذلك مثل قوله في كتاب إلى عماله على الخراج :

« إنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأمة».

وقوله لمعاوية :

«لست بأمض على الشك مني على اليقين».

ص: 101

وقوله (عليه السّلام) :

«كلما أطل عليكم منسر... أغلق كل رجل بابه، وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها».

وقوله (عليه السّلام) :

«من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم».

2. قوة التعبير

«ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها».

ومن الأمثلة والنماذج قوله :

«واللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي عليَّ يومي».

وقوله (عليه السّلام) :

«ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم ينقم به الهدى يجربه الضلال،

ص: 102

ألا وإنكم قد أمرتم بالضعن، ودللتم على الزاد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل».

وقال في خطبة يخوّف بها أهل النهروان :

«فأنا نذيرٌ لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم، قد طوّحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم عليَّ إباء المخالفين، المنابذين، حتى صرفت رأيي إلى هواكم، وأنتم معاشر أخفّاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آتِ - لا أبا لكم - بجراً، ولا أردت بكم ضرا».

3. سهولة التعبير

مثل قوله في كتاب إلى عبد اللّه بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر :

«فعند اللّه نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقفة، ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءا ، فمنهم الآتي کارهاً، ومنهم المعتل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً».

وقوله في رسالة إلى عمر بن العاص قبل التحكيم :

«أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولن يصيب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً يؤيده فيها رغبةً، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، والسعيد من وُعظ بغيره، فلا تحبط أبا عبد اللّه أجرك».

ص: 103

وقوله (عليه السّلام) في خطبة له :

«اسمعوا قولي، وأطيعوا أمري فواللّه لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون، خذوا للحرب أهبتها، وأعدّوا لها عدّتها ، فقد شبّت نارها.. ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم. إني واللّه لولقيتهم فرداً وهم ملأ الأرض ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقةٍ وبيّنة ويقين وبصيرة. فانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون».

4. قِصر الفقرات

مثل قوله (عليه السّلام) لمّا أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر :

«منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دينٌ يجمعكم، ولا حمية تحشّمكم، أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام».

أوكقوله (عليه السّلام) :

«فتداكوا عليۀ تداك الإبل يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتليَّ، أو بعضهم قاتل بعض لديّ، وقد قلبت

ص: 104

هذا الأمر بطنه وظهره، حتى منعني القوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أوالجحود بما جاء به محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب ، وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة».

وقوله (عليه السّلام) في كتاب إلى أمراء جيوشه :

«ألا وإن لكم عندي ألّا احتجز دونكم سراً إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقاً عن محلّه، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت واللّه عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، ولا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق».

5. كثرة الصيغ الإنشائية

وهي (الأمر والنهي والاستفهام والترجّي والتمني والنداء والقسم والتعجب).

وهي أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً للسامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم، وهي في الوقت نفسه أدق في تصویر مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها، ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء. وهذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية أخرى).

ص: 105

ذلك ما قاله الدكتور أحمد محمد الحوفي، ولكي يعزز قوله بالدليل أورد أمثلة على ما قال وهي :

1. من الأمر قوله :

«فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ».

وقوله (عليه السّلام) :

«فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته، ووقائعه ومَثُلاته، واتعضوا بمثاوي خدودكم، ومصارع جنوبكم، واستعيذوا باللّه من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر».

وقوله (عليه السّلام) :

«ليتأسّ صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم».

2. من النهي قوله (عليه السّلام) :

«فلا تجعلن للشيطان فيك نصيباً، ولا عن نفسك سبيلاً».

وقوله (عليه السّلام) :

«ولا ترخصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية، ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب، ولا تباغضوا فإنها الحالقة».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هوظل ممدود إلى أجل معدود».

ص: 106

وقوله (عليه السّلام) :

«فإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا».

وقوله (عليه السّلام) :

«عباد اللّه لا تركنوا إلى جهّالكم، ولا تركنوا إلى أهوائكم».

وقوله (عليه السّلام):

«لا يؤنسنكم إلا الحق، ولا يوحشنكم إلا الباطل».

وقوله (عليه السّلام):

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الجرب».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قبل لي، فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق أومشورةٍ بعدل».

3. ومن الاستفهام قوله (عليه السّلام):

«أبعد إيمان برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وهجرتي معه، وجهادي في سبيل اللّه، أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت، إذن، وما أنا من المهتدين».

وقوله (عليه السّلام) :

«هل يُحس به - ملك الموت - إذا دخل منزلاً؟ أم تراه إذا توفّى أحداً؟ بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؛ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم

ص: 107

الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هوساكن معه في أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟ ».

وقوله (عليه السّلام) :

«أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى؟ أين القلوب التي ذهبت لله وعوقدت على طاعة اللّه؟».

4. ومن الترجي قوله (عليه السّلام) :

«فاسمعوا قولي، وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السيوف».

وقوله (عليه السّلام) :

«لعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة».

وقوله (عليه السّلام) :

«لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفورٌ له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذبٌ عليها».

وقوله (عليه السّلام) :

«هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع».

5. ومن التمني، قوله (عليه السّلام) :

«یا أشباه الرجال ولا رجال... لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم».

وقوله (عليه السّلام) :

ص: 108

«قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكمالمجاج، وعرفتكم ما أنكرتكم، وسوغتكم ما مججتكم، لوكان الأعمى يلحظ، أوالنائم يستيقظ».

6. ومن النداء، قوله (عليه السّلام) :

أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة».

وقوله (عليه السّلام) :

«فاتقوا اللّه عباد اللّه، وفروا إلى اللّه من اللّه».

وقوله (عليه السّلام) يخاطب فئة من الناس :

«أيها الناس المجتمعة، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهم الصم الصلاب، وفعلكم يُطمع فيكم الأعداء...».

7. ومن القسم قوله (عليه السّلام) :

«أما واللّه ما أتيتكم اختياراً ولكن جئت إليكم سوقاً».

وقوله (عليه السّلام) :

«واللّه لوقتلتم على هذا دجاجة لعظم عند اللّه قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند اللّه حرام؟ ».

8. ومن التعجب، قوله (عليه السّلام) :

«سبحانك ما أعظم شأنك، سبحانك ما أعظم ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا ، وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك، وما أصغرها في نعم الآخرة».

وقوله (عليه السّلام) :

ص: 109

« إستتموا نعم اللّه عليكم بالصبر على طاعته والمجانية لمعصيته، فإن غداً من اليوم قريب».

وقوله (عليه السّلام) :

«ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر».

وقوله (عليه السّلام):

«فيا عجباً، عجباً واللّه يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم».

9. السجع والترسل، جاء في إحدى خطبه (عليه السّلام) :

«فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله ومعارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من یرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه، واستفتح التوبة وأحاط الحوبة، فقد أقيم على الطريق وهدي نهج السبيل».

ومن قوله (عليه السّلام) حين أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال :

«إنّا لم نحكِّم الرجال؛ إنما حكَّمنا القرآن ، هذا القرآن إنما هوخط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال، ولما دعانا القوم إلى أن نحكِّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب اللّه - سبحانه وتعالى - وقد قال اللّه - عز

ص: 110

من قائل -:

{ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ }.

فردُّه إلى اللّه أن نحكِّم بكتابه وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) في التحكيم، فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل، ويثبت العالم، ولعل اللّه أن يصلح في الهدنة أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكضامها – أي مخارج الأنفاس-».

10. التوازن : كثيراً ما تجيء الجمل في (نهج البلاغة) متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أوتتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير يحببه إلى السمع ويقربه إلى الذوق.

يقول الدكتور الحوفي : (والتوازن أوالموازنة بهذا المعنى أهم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أوالفواصل على حرف واحد مثل : القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل : القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف).

ومن الموازنة قول الإمام علي (عليه السّلام) :

«لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقف عجزاً عما خلق، ولا ولجت عليه شبهته فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن وعلم محكم، وأمر مبرم».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائباً يحدوه الجديدان، الليل والنهار، لحري بسرعة الأوبة، وإن

ص: 111

قادماً يقدم بالفوز أوالشقوة لمستحق لأفضل العدة، فيالها جسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، وأن تؤديه أيامه إلى الشقوة، نسأل اللّه، سبحانه، أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره النعمة، ولا تقصر عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم، وإن ضحكوا... ويشتد حزنهم وإن

فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقهم».

ويقول الدكتور الحوفي : (وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله (عليه السّلام) : الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلومن نعمته، ولا ميؤوسٌ من مغفرته، ولا مُستَنكَفٌ عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تُفقد له نعمة).

فقد وازن (عليه السّلام) بين مقنوط ومخلوق وميؤوس، إضافة إلى السجع، كما استعرض الدكتور الحوفي مطالب بلاغية أخرى كالجناس والطباق والمقابلة والتوشيح.. مما ورد في خطب وأحاديث ومراسلات ووصايا الإمام علي عليه السلام.

كما استعرض التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز.. التي برع فيها الإمام (عليه السّلام) براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر والدين والدنيا.

وقبل الدكتور الحوفي قال معاوية، وهويرد على من قال له : جئتك من عند

ص: 112

أعيا الناس، قال له معاوية : (ويحك، كيف يكون أعيا الناس فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره).

قال الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أنا مدينة العلم – أو الحكمة – وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه ).

صدق رسول اللّه وكذب محمود محمد شاكر في ادعائه إن في قول الإمام (غثاثة).

اللّهم اشهد إن كانت البلاغة بفروعها والفصاحة بأصالتها، ونقائها وصفائها التي وردت على لسان إمام البلاغة وسيد الفصحاء الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام والتي وقفنا على بعضها في ما نقلنا من فقرات... أقول : إن كانت تلك البلاغة والفصاحة (غثاثة) فأنا أوّل المتمسكين بها؛ فغث الإمام سمين وسمين أعدائه غث، لأنه رضع لبانها من منبع النبوة الصافي فوضع لنا أسسها وشيد بنيانها فكانت أقوى الأسس وأجمل بنيان وأحكمه.

ولا نريد أن نضيف شيئاً إلى ما جاء به الدكتور الحوفي عسى أن تكون تلك الشواهد على بلاغة وفصاحة الإمام علي (عليه السّلام) شموعاً تنير درب التائهين الحيارى، أمثال محمود محمد شاكر وقاه اللّه يوم لا مفر منه.

ص: 113

3_ عائدية نهج البلاغة

إشارة

لقد تكلمنا في الضوء الأوّل(جامع النص) وبيّنا بالدليل الواضح إن الشريف الرضي - وليس المرتضى - هوجامع (النهج) ورددنا على المشككين في كون (النهج) للإمام علي (عليه السّلام) أوأن بعضه له وبعضه ليس له، ثم رددنا على محمود محمد شاكر في الضوء الثاني (الغثاثة)، وعلينا في هذه الفقرة أن نتبسط في الكلام فنبين - بالحجة الدامغة، كما هومنهجنا دائماً - إن ما في (نهج البلاغة) ألفه إلى يائه يعود إلى الإمام علي (عليه السّلام) وللرضي جهد الجامع لا الواضع.

وقبل أن نورد ما عندنا من دليل على عائدية ما في (النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) علينا أن نستأنس بأقوال قيلت في بلاغته وفصاحته (عليه السّلام) لأنها ستساعدنا على فهم شخصية علي بن أبي طالب في هذا المجال وبذلك نكون قد مهدنا لموضوعنا وسهلنا على المشككين كثيراً من مغاليق أفهامهم ليمكن فتحها ليطلوا على رحاب الحقيقة الواضحة.

ص: 114

لنقرأ قول غيره فيه :

قال معاوية بن أبي سفيان : (ما رأيت أحداً يخطب ليس محمداً أحسن من علي إذا خطب، فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره).

وقال الحارث الأعور : (واللّه لقد رأيت علياً وإنه ليخطب قاعداً ك-قائم ومحارباً كمسالم).

وقال الشريف الرضي : في مقدمة (النهج) : (وعلى أمثلته حدا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ).

أما ابن الجوزي فقال في التذكرة : (كان علي ينطق بكلام قد حفَّ بالعصمة، ويتكلم بميزان الحكمة، كلام ألقى اللّه عليه المهابة، فكل من طرق سمعه راقه فهابه، وقد جمع اللّه له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم تسقط له كلمة ولا بارت له حجة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق في السابقين).

ولنقرأ قول محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤال) : (الفصاحة تنسب إليه - أي الإمام علي (عليه السّلام) - والبلاغة تنقل عنه والبراعة تُستفاد منه، وعلم البيان والمعاني غزيرة فيه).

ونكرر قول عبد الحميد الكاتب : إذ سُئل ما الذي خرجك في البلاغة؟

قال : ((حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت)).

وكذا قال ابن المقفع.

ولنقرأ قول ابن أبي الحديد المعتزلي في طيات شرح (النهج) : (واعلم إننا لا

ص: 115

يخالجنا الشك في أنه (عليه السّلام) أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين إلا من كلام اللّه سبحانه، وكلام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)..) حتى يقول : ((واعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يُتعب، وصاحبه منسوب إلى السفه، وجاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً أشد سفهاً ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها.

وأخيراً قال محمد عبده في مقدمة شرح ((نهج البلاغة)) ((مهما اختلفت الناس في شيء من مناقب أمير المؤمنين وفضائله وميزاته وخصائصه فإنهم لا يختلفون بأنه إمام الفصحاء وسيد البلغاء وإن كلامه أشرف الكلام وأبلغه بعد

كلام اللّه وكلام نبيه، وأغزره مادة وأرفعه أسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني)).

تلك كانت نتف من أقوال منها من مضطرين ومنها من منصفين ولكنها جميعاً كانت تقول : إن علي ابن أبي طالب (عليه السّلام) سيد البلغاء وسيد الفصحاء. وإذا ما عرفنا إن مدة تولي الإمام (عليه السّلام) كانت صاخبة؛ فمن حرب الجمل إلى حرب صفين فالنهروان، فإنه من الطبيعي أن يعالج الإمام (عليه السّلام) تلك الأحداث بكتبه وخطبه ووصاياه. وهي مسألة طبيعية لكل حاكم وفي كل عصر، وإذا كان ذلك طبيعي - وهوطبيعي فعلاً - فإن من الطبيعي جداً أن ينبري من المختصين إلى جمع تلك الخطب والأحاديث والمراسلات والوصايا، سواء في زمانه أوبعد زمانه، كوثائق تاريخية عن عهده (عليه السّلام).

وقد بلغ اهتمام الناس بكلامه (عليه السّلام) وشغفهم به أن أطلقوا على بعض خطبه أسماء خاصة للتعريف بها، والتمييز بينها، مثل :

ص: 116

((التوحيد، الشقشقية، الهداية، الملاحم، اللؤلؤة، الغراء، القاصفة، الافتخار، الأشباح، الدرة اليتيمة، الأقاليم، الوسيلة، الطالوتية، القصبية، النخيلة، السليمانية، الناطقة، والدامغة الفاضحة المخزون، الديباج، والبالغة، المنبرية والمكاييل، المؤنقة، - أي الخالية من الألف -، العارية عن النقط ، والزهراء.

إذن، اهتم الناس بجمع خطب وأحاديث وكتب ووصايا الإمام (عليه السّلام) ولم يكن الشريف الرضي رحمه اللّه هوالسابق إلى جمع كلام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ولا الأوّل في تدوينه؛ فقد عني الناس به عناية بالغة، وحظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء - على كثرتهم - قبل الإسلام وبعده، ودوّنوه في عصره، وحفظوه في أيامه، وكتبوه ساعة إلقائه.

هذا زيد بن وهب الجهني، وكان من أصحابه، وشهد معه بعض مشاهده، جمع كتاباً من خطبه، سلام اللّه عليه، وهذا الحارث الأعور، صاحبه وكان من المنقطعين إليه، والمجاهدين بحبه وتفضيله على غيره، روى عنه وأخذ من علومه،

الذي توفي سنة 65 ه-. فقد دوّن بعض خطبه (عليه السّلام) ساعة إلقائها.

وهذا الأصبغ ابن نباتة المجاشعي، وكان من خاصة أمير المؤمنين، روى للناس عهده للأشتر النخعي لما ولّاه مصر، ووصيته لولده محمد بن الحنفية وشريح القاضي وكميل بن زياد النخعي، ونوف البكالي، وضرار بن ضمرة

الضبائي.. كلهم سمعوا بعض كلامه فحفظوه، ورووه للناس كما سمعوه.

ص: 117

وذكر الجاحظ : إن خطب علي (عليه السّلام) كانت مدونة محفوظة مشهورة. وقال إبن واضح في كتابه (مشاكلة الناس لزمالهم) :

كان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) مشتغلاً أيامه كلها في الحرب إلّا أنه لم يلبس ثوباً جديداً، ولم يتخذ ضيعة، ولم يعقد على مال (أي لم يجمعه) إلّا ما كان بينبع والبعبعة (عين بالمدينة) مما يتصدق به، وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب أربعمئة خطبة، حفظت عنه، وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم)) .

وأحصى المسعودي - في مروجه - ما كان محفوظاً - ما كان محفوظاً من خطبه (عليه السّلام)

فقال :

(والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمئة ونيف وثمانين. وقال سبط بن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص ((أخبرنا الشريف أبوالحسن علي بن محمد الحسيني باسناده إلى الشريف المرتضى قال : ((وقع إليّ من خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) أربعمئة خطبة).

وذكر القطب الراوندي أنه وجد بمكة كتاباً في واحد وعشرين جزءً كله في كلام الإمام علي (عليه السّلام))).

تلك هي أقوال من تقدموا على الشريف الرضي بزمان طويل، إذ أكّدت أن خطب الإمام علي (عليه السّلام) كانت مدونة ومحفوظة وقد أربت على أربعمئة خطبة. وإذا ما علمنا أن الشريف الرضي لم يختر منها إلّا (121) خطبة فقط ظهر

ص: 118

لنا جلياً إن ما في ((النهج)) هوللإمام علي (عليه السّلام) وليس من وضع الشريف الرضي أوغيره، ما خلا ما صرّح به إبن أبي الحديد؛ أنه اختار جملاً قصاراً في آخر النهج منها للإمام ومنها لغيره ولكنها تشبه كلامه، وليته ما اختارها وليته ما صرّح به لأنها كانت قميص عثمان في يد المشككين، ولكن الحقيقة تبقى كما هي لا يمكن نكرانها إذا ما انبرى لها من يكشف عن وجهها الناصع، وها نحن فعلنا ذلك مع من فعل من قبلنا.

وزيادة في التأكيد على أن ما في ((النهج)) هوللإمام علي (عليه السّلام) نشير إلى بعض المؤلفات التي أُلّفت قبل ((النهج)) الذي ألّفه الشريف الرضي، وكلها تتحدث عن كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وهي :

1 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها، لزيد بن وهب الجهني، وهوأوّل كتاب جمع في كلامه (عليه السّلام)، إذ إن مؤلفه أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة 96 ه.

2 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) المروية عن الإمام الصادق (عليه السّلام). وقد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيد علي بن طاووس (قُدِّس سِرُّه) وكتب عليها إنها كتبت بعد المئتين من الهجرة. وعن هذا الكتاب، والذي بعده نقل الرضي خطبة الأشباح في ((نهج البلاغة)).

3 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، لمسعدة بن صدقة العبدي، وهومن علماء الجمهور، وكان هذا الكتاب موجود إلى زمن السيد هاشم البحراني المتوفى

ص: 119

سنة 107 أو109 ونقل عنه كثيراً في تفسيره (البرهان) وذكره في مقدمة كتابه المذكور.

4 _ كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين لأبي مخنف لوط بن يحيى بن مخنف بن سليم الأزدي شيخ أصحاب الأخبار في الكوفة المتوفى سنة 157 ه.

5_ خطب أمير المؤمنين :

لإسماعيل بن مهران بن أبي النصر زيد السكوني الكوفي، ذكره النجاشي في فهرسه.

6 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) : للسيد الجليل عبد العظيم بن عبد اللّه بن زید بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلّام).

7 _ خطب علي (عليه السّلام) : لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري. وقد ذكره الطوسي في فهرسه، وهومن أصحاب أواخر القرن الثاني.

8_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) : برواية الواقدي أبي عبد اللّه محمد بن عمر بن واقد المدني المتوفى سنة 207.

9 _ خطب علي (عليه السّلام) : لأبي الفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار، وكان من علماء الأخبار وشيخ أصحاب المغازي والسير، وصاحب كتاب ((صفّين)) الذي احتوى على كثير من خطب الإمام وكتبه ووصاياه، يوافق بعضها بعض ما جاء في ((نهج البلاغة)). وهومن علماء القرن الثاني. إذ قال ابن النديم عنه إنه من طبقة أبي مخنف، وقيل إن وفاته كانت سنة 202 ه. ولا شك إن

ص: 120

الرضي اعتمده مصدراً من مصادره في (النهج).

10_ خطب علي كرّم اللّه وجهه : لأبي المنذر بن محمد بن السائب الكلبي المتوفي سنة 205 ه وقيل 206 ه. وكان قد نشأ في الكوفة، وهو نسّابة وعالم بأخبار العرب وأيامها، وقد اتصل ابوه بالإمامين الباقر والصادق (عليهما السلّام)، فأخذ هشام عن أبيه أخباره وعلومه، ولأنه من بیت معرفة بالتشيع، لأهل البيت (عليهم السلّام) لم يدخله الذهبي بين الحفاظ المشاهير وسماه محمد بهجة الأثري - من المعاصرين - ب(الزنيم)) في حاشيته على ((بلوغ الإرب)) 2/5. ولهذا السبب انمحت آثاره.

11 _ خطب علي وكتبه إلى عمّاله : لأبي الحسن علي بن محمد المدائني، وقد ذكره إبن النديم في فهرسه. وقد صنّف كتباً كثيرة منها : ((خطب النبي صلّى اللّه عليه وآله)) و((خطب علي وكتبه إلى عماله)) و((كتاب من قتل الطالبيين)) و(کتاب الفاطميات).

وقال صاحب الكنى والألقاب إنه قد توفي سنة 225 ه.

12_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام):

لصالح بن حماد الرازي، وقد عدّه النجاشي في فهرسه من رجال المئة الثالثة، إذ كان قد صحب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام).

13 _ مئة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب : وقد اختارها الجاحظ من كلام الإمام علي (عليه السّلام)، واختار الرضي منها في ((النهج)) وذكرها

ص: 121

الخوارزمي في ((المناقب)) بسنده عن أبي بكر محمد بن دريد صاحب أبي عثمان الجاحظ فقال : كان الجاحظ يقول لنا زماناً إن الأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مئة كلمة كل كلمة منها تفي بألف كلمة من محاسن كلام العرب، قال : وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها لي، ويمليها عليَّ، وكان يعدني بها، ويتغافل عنها، ظناً بها.. فلما كان آخر عمره أخرج جملة الكلمات المئة هذه ثم ذكرها.

وروي ذلك في ((الحدائق الوردية)) عن كتاب ((جلاء الأبصار)) عن الحاكم بإسناده إلى الجاحظ.

ولم يرض الآمدي عن الجاحظ لاقتصاره على هذه المئة وقال عنها :

إنها (بعض من كل، وطلّ من وبل) مما دعاه إلى تأليف كتابه (الحكم ودرر الكلم).

14_رسائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخباره وحروبه :

ذكره الطوسي في فهرسه بأنه إبراهيم بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي

الكوفي، وكان زيدي الرأي ثم تحول إلى الإمامية، كما قال صاحب تأسیس الشيعة، وذكر وفاته بأنهما في سنة 283 ه.

15 _ الخطب المعربات : لإبراهيم بن جلال بن عاصم بن مسعود الثقفي صاحب کتاب ((رسائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخباره وحروبه الذي ذكرناه بالرقم (14).

قال عنه السيد هبة الدين في كتابه ((ما هوهج البلاغة)) - وهو ينقل عن

ص: 122

النجاشي -: ((إن هذا الكتاب من جملة المؤلفات في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام))).

ويحتمل عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه ((مصادر نهج البلاغة وأسانيده)) أن يكون اسم هذا الكتاب ((الخطب المقريات)) إذ قال : [وقد يسمى هذا الكتاب بالخطب المقريات (بالقاف بعد الميم والمثناة التحتانية بعد الراء)].

16 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام):

ذكر النجاشي لأبي إسحق إبراهيم بن سلیمان بن عبيد اللّه بن خالد الحراز الكوفي النهمي (نسبة إلى بطن من همدان) بعنوان (الخطب) وذلك عن رواة آخرهم حمید بن زیاد المتوفي سنة 310 ه مما يدل على إن النهمي كان في أواخر القرن الثالث الهجري، وذكره السيد هبة الدين في كتابه (ما هو نهج البلاغة) بأنه لأمير المؤمنين (عليه السّلام))).

17_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) مع شرحها :

للقاضي النعمان المصري المتوفي سنة (363 ه) عدّه من تصانيفه في كتابه (الهمّة في معرفة الأئمة) وقد ألّفه سنة 310 ه. وكان الرضي قد ولد سنة 359 ه. وهذا يعني إن الكتاب لم يكن شرحاً ل((نهج البلاغة)) كما صدر عن البعض، وقد نبّه إلى ذلك صاحب کتاب ((الذريعة)).

18 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام).

19 _ مواعظ علي (عليه السّلام).

ص: 123

20 _ رسائل علي (عليه السّلام)، وقد ذكره النجاشي في فهرسه.

21 _ كلام علي (عليه السّلام).

22 _ الملاحم، وقد ذكره النجاشي في فهرسه.

قال عبد الزهراء الخطيب في كتابه ((مصادر نهج البلاغة وأسانيده)) (وهويعتمد کتاب ((المراجعات الريحانية)) للإمام کاشف الغطاء مصدراً له):

إن ((هذه الكتب - وهويشير إلى الخمسة المذكورة آنفاً - كلها مجموعة من کلام علي (عليه السّلام)، ألّفها الشيخ عبد العزيز يحيى الجلودي البصري المتوفي سنة (332 ه)، وهو من أكابر علماء الإمامية، والرواة للآثار والسير، عدد له علماء الرجال ما ينيف على مئتي كتاب بل ما يقرب من ثلاث مئة كتاب كلها من عجائب الكتب. منها أربعون كتاباً فيما يتعلق بخصوص أمير المؤمنين (عليه السّلام) في غزواته مع النبي (صلّى اللّه عليه وآله) وحروبه من الجمل وصفين والغارات والحكمين، وبني ناجية، وما نزل في الخمسة، وتزويج فاطمة، ومن أحبه ومن أبغضه، ومن سبّه من الخلفاء، وكتاب التفسير عنه، وما نزل في القرآن في خصوصه، وكتاب شعره وكتاب خطبه وخلافته وعمّله وولاته، والشوری وما كان بينه وبين عثمان، وقضائه، ورسائله، ومن روى عنه من الصحابة، وكتاب شیعته، ومن مال بعده .

أفرد لكل هذه المذكورات كتاباً، ثم على مثل هذا ألّف في كل واحد من أهل البيت كتاباً، .. وله عشرات من الكتب تتعلق بعبد اللّه بن عباس.. ثم بقية كتبه في سائر العلوم وأحوال سائر الأمم عامة والعرب خاصة، والشعراء على

ص: 124

الأخص.

بعد تلك الجولة مع الكتب المؤلفة في خطب وأحاديث أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) قبل جمع ((نهج البلاغة))، بل قل قبل ولادة الشريف الرضي، وهي بعض من كل، إذ لاشك أن ثمة غيرها قد أُلِّفت ولكن عوادي الزمن لم تحفظها لنا مثلما لم تحفظ كثيراً مما ذكرنا عنواناتها. وثمة الكتب التي أُلِّفت بعد صدور ((نهج البلاغة)) للرضي، ولكنها كانت مستقیاتها في كثير منها غير نهج البلاغة، وغير الشريف الرضي.

أقول.. بعد تلك الجولة : ألا يكفي ذلك دليلاً على إن دور الشريف الرضي كان دور الجامع حَسْب محتویات ((نهج البلاغة)؟

وإن تلك المحتويات هي من كلام الإمام علي (عليه السّلام) بقضها وقضيضها ومن ألفها إلى يائها؟

وأخيراً لا بد لي أن أتساءل بما تساءل به عبد اللّه حسين في كتابه (مصادر نهج البلاغة) :

((أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي وكلامه؟ وأين ذهبت الأربع مئة من كلماته؟ أليس في كل هذا ما يؤكد إن ما اختاره الرضي في ((نهج البلاغة)) هو بعض ما كان مدوناً ومحفوظاً ومشهوراً بين الناس؟ أليس هذا ما يدفع أولئك القائلين بأن ما في ((النهج)) موضوع ومنحول على لسان الإمام علي؟))

ثم ماذا نقول عن أقوال الأُدباء والمفكرين والفلاسفة في ((نهج البلاغة)) وفي

ص: 125

كونه من كلام علي (عليه السّلام)؟ هل نضع هؤلاء كلهم في ((خانة)) الخطأ؟

لنقرأ أقوالهم عسى أن تكون - ليس رداً على المشككين - بل شمسا تضيء لمن يريد أن يستضيء بنور الحقيقة، وتحرق من يصر على ((تعصيب)) عينيه بخرقة سوداء. ولأهمية تلك الأقوال نضعها تحت عنوان مستقل هو :

أقوال المنصفين في نهج البلاغة

قال ابن أبي الحديد : ((إن سطراً واحداً من ((نهج البلاغة) يساوي ألف سطر من كلام ابن نباتة، وهو الخطيب الفاضل الذي اتفق الناس على إنه واحد عصره في فنّه)).

وقال الدكتور زكي مبارك : ((لا مفر من الاعتراف بأن ((نهج البلاغة)) له أصل وإلّا فهوشاهد على أن الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ)).

أما خليل هنداوي فقال : (لا نكاد نری کتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة، والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة) لذا نقرر ونكرر أن (النهج لا يمكن أن يكون إلا لشخص واحد، نفخ فيه نفساً واحدة).

وقال محقق شرح النهج الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمته : ((ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، أشأم وأعرق وأنجد وأتهم، وأعجب به حيث كان وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من

ص: 126

اللفظ المنتقى، والمعنى المشرق، وما احتواه من جوامع الكلم، في أسلوب متساوق الأغراض محكم السبك، يعد في الذروة العليا من النثر العربي الرائع)).

وقال السيد الأميني في أعيان الشيعة : ((وغير خفي أن من يريد اختيار أنفس الجواهر من الجواهر الكثيرة لا بد أن يكون جوهرياً حاذقاً، فكان الرضي باختياره أبلغ منه في كتاباته، كما قيل عن أبي تمام لما جمع ((ديوان الحماسة)) من منتخبات شعر العرب : إنه في انتخاباته أشعر منه في شعره)).

وقد لاقى ديوان الحماسة من القبول عند الناس إقبالاً كثيراً وشرحه أعاظم العلماء، وكذلك ((نهج البلاغة) من الشهرة والقبول ما هوأهله، وشرح بشروح كثيرة تنبوعن الإحصاء وكان مفخرة من أعاظم مفاخر العرب والإسلام)).

في حين قال الشيخ محمد عبده في مقدمة شرحه على ((نهج البلاغة)) :

((وقد جمع الكتاب ما يمكن أن يعرض للكاتب والخطيب أغراض الكلام، فيه الترغيب والتنفير والسياسات والجدلیات، والحقوق، وأصول المدنية، وقواعد العدالة، والنصائح والمواعظ، فلا يطلب الطالب طلبته إلا ويرى فيها أفضلها، ولا تختلج فكرة إلا وجد فيها أكملها)).

وقال محمد حسن نائل المرصفي : و((نهج البلاغة)) ذلك الكتاب الذي أقامه اللّه حجة واضحة، على إن علياً كان أحسن مثال حي النور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته ، وإعجازه وفصاحته.

اجتمع لعلي في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة

ص: 127

ونوابغ الربانيين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، وحسبنا أن نقول إنه الملتقى الفذ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.

وأوجز الشيخ ناصيف اليازجي في قوله فأبدع إذ قال :

أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء فعليك بحفظ القرآن و(نهج البلاغة).

وقال الشيخ أبوالثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي :

((نهج البلاغة)) الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد المرتضى (كذا) الموسوي خطب لأمير المؤمنين كرّم اللّه وجهه وكتبه ومواعظه وحكمه وسمي ((نج البلاغة)) كما إنه قد اشتمل على كلام يخيل إنه فوق كلام المخلوقين، دون کلام الخالق، عز وجل، قد اعتنق مرتبة الإعجاز، وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز وللّه در الناظم حيث يقول فيه :

ألا إن هذا السفر ((نهج البلاغة ))*** لمنتهج العرفان مسلکه جلي

على قمم من آل حرب ترفعت*** (كجلمود صخر حطّه السيل من علِ)

وثمة كلمة للأستاذ أمين نخلة في مقدمة كتابه ((مئة كلمة من كلام الإمام علي، قال فيها :

(إذا شاء أحد أن يشفي صبابة قلبه من كلام الإمام فليقبل عليه في (النهج)

ص: 128

من الدفة إلى الدفة وليتعلم المشي على ضوء (نهج البلاغة).

وقال محمد أمين النووي في كتابه ((جولات إسلامية)) :

لقد كان علي في خطبه المتدفقة، يمثل بحراً خضمّاً من العلماء الربانيين وأسلوباً جديداً لم يكن إلّا لسيد المرسلين، وطرق بحوثاً من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه، فسلست في منطقه وأدبه)).

وقال : ((حفظ عليّ القرآن كله، فوقف على أسراره، واختلط به لحمه ودمه، والقارئ يرى ذلك في ((نهج البلاغة)) ويلمس فيه مقدار استفادة علي من بیانه وحكمته)).

((.. وهكذا نجد في كلام علي الدين والسياسة والأدب والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر)).

أما عباس محمود العقاد فقال في كتابه ((عبقرية الإمام)) :

(في كتاب نهج البلاغة) فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكم التوحيد).

وأما محمد محيي الدين عبد الحميد لم يستطع إلا أن يقول :

[(نهج البلاغة) هوما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه)، وهوالكتاب الذي ضم بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة

ص: 129

ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق - بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) - منطقاً وأشدهم اقتداراً، وأبرعهم حجة، وأملكهم لغة يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي ملأ القلب سحر بیانه، العالم الذي تهيأ له من خلاط الرسول، وكناية الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحدٍ سواه].

ونعود إلى الدكتور جورج جرداق، إذ نقلنا رأيه في الإمام علي فننقل هنا، رأيه في نهج البلاغة وهويقول :

نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؛ مترابط بآياته متساوق، متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع؛ متألف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول، والشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدله أن يكون بالضرورة إلى غير كَوْن (بيان لونطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولوهدد الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء وأصوات ؟ ولو انبسط في منطق لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كل باب على حجّة غير ما يتبسط فيه! ولودعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما یریده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً ،

ص: 130

وهولوراعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي!

أما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!).

(أحس علي إحساساً مباشراً عميقاً بين الكائنات روابط لا تزول إلا بزوال هذه الكائنات، وإن كل ما ينقض هذه الروابط ينقض معنى الوجود ذاته).

(بیان هوبلاغة من البلاغة، وتنزيل من التنزیل، بیان اتصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه إن كلامه دون کلام الخالق وفوق كلام المخلوق).

وأكثر إنصافاً قول المستشرق الفرنسي هنري کوربال في ((النهج))، فإذا كان جورج جرداق، وهو مسيحي، قال ما قال في ((النهج)) فإنه عربي تربطه بالإمام (عليه السّلام) صلة الانتماء القومي ولكن هنري كوربال لم يكن عربياً ولم تربطه بالإمام علي أية رابطة سوى نظرته الموضوعية المنصفة إلى ما ضمّه ((النهج)) من روائع خلّدها التاريخ، لنقرأ قول هذا الرجل المنصف هنري كوربال :

((وتأتي أهمية هذا الكتاب (أي النهج) بالدرجة الأولى؛ بعد القرآن وأحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً وحسب، بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي، ويمكن اعتبار نهج البلاغة منهلاً من المناهل التي استقى منها المفكرون الشيعة .. وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمّة من

ص: 131

الترابط المنطقي في الکلام؛ ومن استنتاج النتائج السلیمة؛ وخلق بعض المصطلحات التقنیة العربیة التي أدخلت علی اللغة الأدبیة والفلسفیة فأضفت علیها غنی وطلاوة، وذلك أنها نشأت مستقلة عن تعریب النصوص الیونانیة)).

ص: 132

4_ التعريض بالصحابة

إن رابع عکازة تعكز المشككون عليها بنسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) هي ((التعريض بالصحابة))؛ فقد وقفنا على قول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على (النهج)) إذ قال : ((إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي..)). اه.

قبل الرد على محمد محيي الدين عبد الحميد ومن تعكز على مثل عكازته يحسن بنا أن نتعرف على ((الصحبة)) لغة واصطلاحاً بشيء من الإيجاز؛ فالصحبة لغة : هي المعاشرة. وتطلق على المعاشرة في الزمن القليل والكثير، ولذلك قيل صحبت فلاناً حولاً وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم القليل على ما يقع منها كثير، وتقع بين المؤمن والكافر، كما تقع بين المؤمن والمؤمن، قال تعالى :

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (الكهف/37) }.

وقال تعالى مخاطباً مشركي قريش :

ص: 133

{ مَا ضَلَّ صَاحِبُکُم وَ مَا غَوَى} {النجم /2 }.

وقال تعالى :

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (سبأ/46) }.

قال (صلّى اللّه عليه وآله) وقد أُشير عليه بقتل عبد اللّه بن أُبي رأس المنافقين ؛ ((بل نحن صحبته، ونترفق به ما صحبنا ولا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)).

أما اصطلاحاً فهي : (إن الصحابي من رأى رسول اللّه – (صلّى اللّه عليه وآله) وقد أدرك الحلم فأسلم، وعقل أمر الدين ورضيه وصحبه ولوساعة من النهار). وطبيعي إن من صحابة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لم يكونوا على درجة واحدة من الإدراك المعرفي، بل حتى من الإخلاص والإيمان؛ ففيهم من بقي على صلته الروحية والإيمانية بالرسول العظيم فكان مثالاً في القول والعمل، في السلم والحرب وفي الرقة والشدة، وفيهم من نكص عن قيم الدعوة المحمدية وأدار وجهه عنها لينشغل بمغريات الدنيا، وهذا الفريق ما تحدث عنه البخاري في صحيحه؛ إذ روى عن إبن مسعود : قال النبي : أنا فرطكم على الحوض ليرفعنَّ إلىّ رجال منكم حتّى إذا هویت لأناولهم، اختلجوادوني، فأقول : ربي أصحابي، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك (وفي رواية سهل بن سعد.. فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي) وقد نزلت في ذلك الفريق آیات کریمات تصفهم بأنهم :

ص: 134

{ اِبْتَغَوُا الْفِتْنَةَ } و {.. اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَکُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ }. و{.. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسُ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفوُنَ لَکُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ }.

وثمة آيات كثيرة عرّضت ببعض من صحبوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في حلّه وترحاله، وقد أفرد - جل وعلا - لهم سورة أسماها : ((المنافقين)).

وإذا كانت ثمة إشارات تعريضية ببعض الصحابة في ((نهج البلاغة))، فالقرآن الكريم - كما مر بنا - قد عرّض بهم وهوسبق ((النهج)، فضلاً عن أن أصحاب الصحاح والأسانيد المعتبرة قد نقلوا لنا كثيراً من ذلك التعريض؛ فالإمام ليس وحده من عرض بالمنافقين من الصحابة، فما جاء في (النهج) إذن، (يصح صدوره عن مثل الإمام علي) بعكس ما تصور محمد محيي الدين عبد الحميد وغيره من المشككين، لأن أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) - كما بينا - ليسوا على درجة واحدة من الإيمان والإخلاص، والصحابة أنفسهم تلاعنوا وتساببوا وتناقدوا فيما بينهم، وهذا ليس بالأمر الغريب، لأن مشارکم مختلفة ودخولهم في الإسلام لم يكن - أصلاً - متفقاً، تمام الاتفاق في الهدف والمرمى، فضلاً عن أن الكل إنسان رؤيته في تفاصيل الحياة الفكرية - خاصة - لذلك فإن النقد والطعن واللعن، بل حتى التكفير لم يكن هدفه نیل طرف من طرف آخر لغرض النيل حسب، بل بسبب اختلاف النظرة إلى مفردات الحياة ودرجة الارتفاع إلى مستوى

ص: 135

المتغيرات الجديدة. والدعوة المحمدية ليست بالمتغير الجديد السهل على مجتمع کان غارقاً في جهله العقائدي وغافياً غفوة عميقة على معتقداته حتى جاء الإسلام فأحدث خضّة قوية في ذلك المجتمع فاستوعب فريق تلك القيم الجديدة بعمق إيماني واضح وتأرجح فريق آخر فجاري المتغيرات الجديدة تلك للحفاظ على مركزه الاجتماعي، وهذا ما يحصل في كل زمان ومكان.

وإلا ماذا نقول عن طلحة والزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمروبن العاص وغيرهم قبلهم وبعدهم هل يتساوون في درجة الإيمان مع أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ؟ أمثال بلال الحبشي وسلمان المحمدي وعمار بن یاسر وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة (النظاف)) من تلوث أفكار الجاهلية الأولى؟

فالصحابة : ((قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم)).

فهل يقف الإمام علي (عليه السّلام) - وهو المسلم الأوّل والمؤمن الأوّل والمجاهد الأوّل والمدافع الأوّل عن قيم الإسلام قولاً وعملاً بشواهد تاريخية لا تُرَد - أقول.. هل يقف مثل ذلك الرجل مكتوف اليدين حيال ما يرى من افتتات على الإسلام وحرف مبادئه ومحاولة إفراغه من محتواه من قبل أُولئك الذين صحبوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) زمناً قلّ أوكثر فسمّوا ب(الصحابة))؟ إن التاريخ حفظ لنا، وما يزال يسجل شواهد عن إن كثيراً ممن فجروا الثورات وأحدثوا الانقلابات السياسية في هذا القطر أوذاك وفي هذا العصر أو غيره، كانوا في البداية (أصحابًا) تربطهم ((صحبة)) الوسيلة والغاية، إلا أن عقدهم سرعان ما انفرط بعد تلك الثورات والانقلابات فبدأت السقوطات على الطريق وبدأت

ص: 136

التصفيات الجسدية والسياسية والفكرية عموماً فيما بينهم، فماذا نسمي ذلك؟

إنه قانون الحياة الطبيعي لأن الناس كلهم ليسوا سواء في النظر والرأي والمشرب والانحدار الطبقي والنَسَبي، وعند انخراطهم في بوتقة الثورة أوالانقلاب نراهم يختلفون حول هذه المسألة أوتلك فيتساقطون على الطريق، لذلك قيل في المصطلح السياسي (الثورة تأكل أبناءها)).

فإذا ما عرفنا ذلك فإنه سيتوضح لنا، بیسر، أن صحابة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) - وهم ليسوا على درجة واحدة من الوعي والإدراك والاستيعاب - لابد - والأمر كذلك - أن يختلفوا فيما بينهم، على هذه المسألة أو تلك، وإذا ما علمنا أن ثورة الإسلام تفوق أية ثورة قبلها وبعدها لما أحدثته من انقلاب جذري في الكم والكيف، أدركنا فوراً إن السقوطات على الطريق أمر طبيعي أيضاً.

لذلك إن أي نقد أو((تعريض))، كما يسمونه، لأولئك الذين لم يستطيعوا مواجهة معطيات الثورة، أمر طبيعي كذلك.

وإذا ما عدنا إلى (نهج البلاغة) نجد أن جميع التعريض والسباب -على حد تعبيرهم - ما هو إلا نقد بنّاء، ووصف للأعمال، بلغة مهذبة، وألفاظ متزنة لم يخرج بها عن حق، ولم يدخل فيها بباطل، ونظرة واحدة في ثنايا الكتاب تغني عن سرد الشواهد، وتسطير الأدلة)).

وإذا ما وجد في ثنايا (النهج) ما يسمونه (التعريض)، وهو نقد كما بيَّنا، فإن في ((النهج)) إشادة بالصحابة الذين ترسموا خطی رسول اللّه (صلّى اللّه عليه

ص: 137

وآله وساروا على منهجه حتى النهاية، كقوله (عليه السّلام) :

((لقد رأيت أصحاب محمد (صلّى اللّه عليه وآله) فما أری أحداً منكم يشبههم)). وقوله (عليه السّلام) : ((وأوصيكم بأصحاب محمد الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يأووا محدثاً ولم يمنعوا حقا، فإن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أوصانا بهم ولعن المحدث منهم ومن غيرهم.

إذن فليس كل صحابي منزهاً من الذم، وليس كل صحابي محرم من الثلب، لذلك فلا مانع - أبداً - أن يذكر علي بالذم والثلب من يستحق ذلك منهم، خصوصاً أن بعضهم قد شهر السلاح بوجهه وأعلن الحرب علیه وكان يود قتله وسفك دمه مهما كانت الوسائل وبأي سبيل كان.

ومن هنا نرى أن كلمات الذم هذه لم تكن بالشكل الذي ((لا يليق صدورها عن رجل مثل علي في دينه وعلمه وتقواه)) كما يزعم محمود محمد شاكر، ولم تكن ما يجب إنكاره ((تنزيهاً لعلي عن الهبوط إلى هذا المستوی))، كما يدعي الدكتور شفيع السيد.

فهل يُعد ذم الناكثين والقاسطين والطعن في المارقين والمنحرفين عملاً منافياً التقوى، ومخالفاً أحكام الدين؟

لذلك فلم يكن من المستبعد أن يذم علي هؤلاء وأشباههم، وليس في ورود مثل هذا الذم في كلامه ما يحمل على الشك في انتساب ذلك الكلام إليه، خصوصاً إنه قد أثنى على الصحابة الملتزمين الأثبات ثناءً جميلاً بلغ حد التأوّه والحنين على فراقهم وعلى حنينه عليهم لأنهم ((تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا

ص: 138

الغرض فأقاموه، أحيوا الستة وأماتوا البدعة.. الخ).

أيكفي ذلك دليلاً على إن ما في ((النهج) للإمام علي (عليه السّلام)، وإن عکازة ((التعريض)) منخورة لابد أن تُسقِط صاحبها يوماً ما فيدرك ما كان عليه من خطأ في الرأي وقصور في النظرة. وإذا كان ذلك لا يكفي نقولها بصريح العبارة : إن الإمام علي (عليه السّلام) كان يعني ما يقول، وما قاله كان من إفراز معاناته من حق اغتصبوه منه؛ فخطبته (الشقشقية) التي أغضبتهم وبسببها صاروا يشككون ب(النهج) لأنه كان مخزوناً من صدق المعاناة، وليس كما يدعي ((صبري إبراهيم السيد)) في كتابه ((تحقیق وتوثیق نهج البلاغة) إذ يقول :

((ويبدو أن اشتداد التشيع لعلي أعمی شیعته عن حق السلف الصالح، فقالوا فيهم ما لا يقبله عقل ولا يؤيده تاریخ. وظنوا أن مكانة علي لا ترتفع إلا بالحط من قيم هؤلاء حطاً لا يقبله منصف، ولا يرضى به على نفسه)).

فما أودع خطبته ((الشقشقية) إن هو إلا أمر في غاية المعقولية، ومن ((إيداعات)) الإمام (عليه السّلام) نفسه وليس ((دساً في كلام مثبوت الرواية معروف للقدماء حتى يجوز على العقول ويصعب فيه التمييز)).

وأي رجل في موقع الإمام علي (عليه السّلام) من حيث قرابته من الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وإسهاماته في الدعوة الإسلامية وشجاعته وعلمه وحصوله على (وصية) رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بأمر من اللّه، جلت قدرته، في (غدير خم) بأن يكون ((ولي كل مؤمن ومؤمنة).. أقول.. أي رجل في موقعه

ص: 139

وموقفه كان يفعل أكثر مما قاله الإمام علي (عليه السّلام) في ((الشقشقية)) ولكن الإمام علي (عليه السّلام) خاف على الإسلام أن ينفرط عقده فتسقط حباته في أيدي الجاهلية الأولى ف((سكت)) على مضض، ولكن سکوته ذاك لا يعني رضاه ، ولا يعني أنه ملزم أن لا يظهر ما يعتلج في صدره، لاسيما وهو إبن بيت النبوة والمسلم الأوّل والمؤمن الأوّل وصاحب الخندق الذي قال عنه الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) يومها : [خرج الإيمان كله إلى الكفر (أو الشرك) كله] وكان الخلفاء الثلاثة شهوداً على موقفه ذاك، إذ لو أخذناه وحده شاهداً على أحقيته بالخلافة، لكفي، إذ كانت معركة الخندق فيصلاً حاسماً بين أن يكون الإسلام أولا یکون، فثبتت أركانه واتسع بفضل سيف علي بن أبي طالب وشجاعته وغيرته على التكليف الإلهي. فأية غرابة في كلامه (عليه السّلام) في خطبته الشقشقية؟ أليست هي تشخيص واقع حصل؟ ألم يحصل ذلك في بيعة السقيفة والرسول (صلّى اللّه عليه وآله) مسجي في فراشه وعلي (عليه السّلام) إلى جانبه وحده ؟ أكثير على الإمام علي (عليه السّلام) أن يقول : [وإنه (أي أبا بكر) ليعلم إن محلي منها (أي من

الخلافة) محل القطب من الرحي. ينحدر عني السيل ولا يرقى إلىَّ الطير))؟

ألا يدل ذلك على أمرٍ (قد بُيِّت في ليل) مما دعا الإمام أن يقول :

.. فيا عجباً بينا هو(أبوبكر) يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر (عمر بن الخطاب) بعد وفاته لشدما تشطر ضرعيها فصيَّراها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أساس لها تقحّم فمني الناس لعمر اللّه، بخبط ومشماس وتلون

ص: 140

واعتراض)).

ألم تكن تلك الصورة فوتوغرافيا لمسلسل ظهرت خطوطه فيما بعد، بوضوح إنه تآمر على، ليس الإمام علي (عليه السّلام) حسب، بل على الإسلام برمته لحرفه عن نقائه وصفائه وصدقه وجذره الإلهي .

ودليلنا الأوّل: ما حصل في (يوم السقيفة).

ودليلنا الثاني : ما أوصى الأوّل للثاني.

ودليلنا الثالث : دعوة عمر (رجال الشوری) وعهده إليهم باختيار الخليفة بعده .

وقد عرف الإمام هذا (المقلب) بثاقب بصيرته فصوره بكلمات قصار فقال : ((فصغي رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن)).

وكان الإمام (عليه السّلام) يقصد في كلامه كلاَ من سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن أبي بكر وعثمان، الذي قال فيه : ((إلى أن قام ثالث القوم، نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أمية، يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتکث عليه قتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنه)).

ودليلنا الرابع : ما أسفرت عنه الأحداث بعد مقتل عثمان إذ كشف (بنو أمية) عن أوراقهم، وكان ما كان في حرب الجمل وصفين حتى مقتل الإمام علي (علیه السلّام) فإذا كانت تلك المعاني التي وردت في الشقشقية (لا تتفق وسيرة علي مع الخلفاء، ولا تتلاءم مع ما أثر عنه من أقوال). كما يقول السباعي بيومي في

ص: 141

كتابه (تاريخ الأدب العربي في العصر الإسلامي).

فنحن نقول إن ما جاء في الشقشقية، شيء - وهوإفراز معاناة - والانعكاسات السلوكية للإمام علي (علیه السلّام) على مجريات الأحداث - ومنها علاقته بمن تولوا الخلافة شيء آخر. إذ أنه كان في ذلك بعيد النظر يريد منه الحفاظ على قيم الإسلام ومعانيه وعدم انفراط حباته - كما قلنا سابقاً - ولا يعني الرضا عنهم وعن مسلسلهم كما يُصَور لبعضهم.

ص: 142

5_ الوصي والوصاية

مثلما أخذوا على (النهج) أنه عرّض بالصحابة فقد أخذوا عليه ورود مصطلح (الوصية والوصاية) وبنوا على ذلك رأيهم بأن محتواه كان منحولاً في نسبته إلى الإمام (عليه السّلام) لأن ذلك المصطلح هو من المصطلحات التي عرفت بعد عهد الإمام علي (عليه السّلام).

إن هذا الإدعاء يفتقر إلى الدليل العلمي كسابقه لذلك سنرد على مطلقيه - كعادتنا - بالدليل القاطع والمقنع فنقول :

إن مصطلح (الوصي والوصاية) ضارب بجذوره في عمق التاريخ العربي قبل ((نهج البلاغة)) بقرون. وكتب التفسير أوالحديث أوالتاريخ أوالسير والأدب مليئة بذلك المصطلح.

جاء في صحيح البخاري ومسلم عن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قوله :

((ما حق امرءٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلته إلا ووصيته مكتوبة

ص: 143

عنده)). مما جعل عمر يقول : ((ما مرّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال ذلك إلا وعندي وصيتي)).

وجاء في مشكاة الأنوار قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية)). وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله)).

وجاء في مستدرك الحاكم : إن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال لعلي (عليه السّلام) :

((أما إنك ستلقى بعدي جهداً)).

قال علي :

- أفي سلامة ديني؟

قال :

- ((في سلامة دينك)).

ومما أخرجه ابن عساکر والمحب الطبري في (الرياض) .. قوله (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) لعلي :

- ضغائن في صدور قوم لا يبيدوفها إلا من بعدي.

ونقل لنا صاحب الغدير قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((يا علي إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن)).

صدق رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فقد عاني ما عاناه الإمام علي

ص: 144

(عليه السّلام) من خصومه بعد النبي الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وهولم يسلم من سهامهم حتى بعد موته وهاهم يوجهون سهامهم إليه في معطی من معطياته الفكرية ألا وهو((نهج البلاغة)) فيشككون في نسبته إليه ل (إقحام مصطلح الوصية والوصاية) في طياته. وقد نسوا، أوتناسوا أن ذلك المصطلح ولد في (مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهوره وحين أنزل اللّه تعالى عليه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) { وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً أوينقصون، وفيهم أعمامه أبوطالب وحمزة والعباس وأبولهب. إذ قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ((يا بني عبد المطلب إني واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازريني على هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟)).

فأحجم القوم غير علي وكان أصغرهم إذ قام وقال : أنا يانبي اللّه أكون وزیرك عليه فأخذ رسول اللّه برقبته وقال : ((إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا..)).

ونقل لنا محمد بن جرير الطبري في (الولاية) إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : ((إن اللّه تعالى أنزل إلىَّ { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }. وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقول في هذا المشهد. وأُعلِم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام بعدي)).

ص: 145

وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (يا معاشر الناس، هذا أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي).

وجاء في كفاية الطالب أنه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : (علي وعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتي منه).

وفي (إكمال کنز العمال) جاء : أن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال لفاطمة : إن اللّه اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار أباك فبعثه نبياً. ثم اطلع الثانية فاختار بعلك وأوصى إلي فاتخذته وصياً)).

وفي فرائد السمطين جاء قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (أنا أفضل أنبياء اللّه ورسله، وعلي بن أبي طالب أفضل الأوصياء ..)) وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (علي أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن ومؤمنة).

ونقل لنا الخوارزمي في مناقبه عن ابن عباس قوله : قال رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لأم سلمة : ((هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهومني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سَلمة هذا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتي منه أخي في الدنيا والآخرة ومعي في المقام الأعلى..)).

وعن سلمان المحمدي - كما جاء في (الولاية) لمحمد بن جرير الطبري قال :

((قلت لرسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : یا رسول اللّه إنه لم يكن نبي إلا وله وصي فمن وصيك؟ قال وصيي وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي،

ص: 146

مؤدي ديني ومنجز عداني علي بن أبي طالب)).

وعن المصدر نفسه قال النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((يا أنس يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، قال أنس قلت اللّهم اجعله رجلاً من الأنصار، وكتمته، إذ جاء علي فقال : من هذا يا أنس؟ قلت : علي، فقام مستبشراً واعتنقه)).

وجاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) :

((إن اللّه عز وجل عهد إلي في علي عهداً، إن علياً راية الهدى وإمام أوليائي ونور من طاعتي، وهوالكلمة التي ألزمها المتقين من أحبه أحبني، ومن أبغضه أبغضني فبشر، فجاء علي فبشرته بذلك، فقال : يا رسول اللّه أنا عبد اللّه وفي قبضته، فإن يعذبني فبذني وإن يتم الذي بشرني به فاللّه أولى به، قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قلت : اللّهم اجْلُ قلبه، واجعله ربيعة الإيمان، فقال ربي عز وجل، قد فعلت به ذلك، ثم قال تعالى : إني مستخصه بالبلاء، فقلت : يا رب إنه أخي ووصيي، قال تعالى : إنه شيء قد سبق إنه مبتلى ومبتلى به)).

وعن أحمد بن حنبل في مسنده : قال أنس بن مالك : قلنا لسلمان : سل النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) عن وصيه فقال سلمان : یا رسول اللّه مَن وصيُّك؟ فقال : ((یا سلمان مَن وصي موسى؟)) فقال : يوشع بن نون، قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((وصيي ووارثي يقضي ديني، وينجز موعدي علي

ص: 147

بن أبي طالب)).

وذكر الخوارزمي حديث طويلاً روته أم سلمة جاء في آخره : ((إن اللّه اختار من كل أمة نبياً واختار لكل نبي وصياً فأنا نبي هذه الأمة وعلي وصيي في عترتي وأهل بيتي وأمتي من بعدي)).

وفي ينابيع المودة عن أبي الطفيل عامر بن وائلة وهو آخر من مات من الصحابة قال : قال رسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((يا علي أنت وصيي حربك حربي وسلمك سلمي..)).

وفي كتاب مودة القربى للهمداني : ((عن خالد بن معدان رفعه : ((إن مَن أحب أن يمسي في رحمة اللّه فلا يدخل قلبه شك بأن ذريتي أفضل الذريات، ووصيي أفضل الأوصياء)).

وفي المحاسن والمساوئ للبيهقي : إن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : ((هبط عليّ جبرئيل (عليه السّلام) يوم حنين فقال : يا محمد إن ربك تبارك وتعالى يقرؤك السلام وقال : ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب فدفعتها إليه، فوضعتها في كفه، فانفلقت نصفين فخرج منها رق أبيض مكتوب فيه بالنور : من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب)).

وجاء في المنتقى من تاريخ بغداد لابن الحداد الحنفي : (في الحديث ينادي مناد (أي يوم القيامة) : هذا علي بن أبي طالب وصی رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.. الحديث).

ص: 148

وسجل لنا نصر بن مزاحم في كتابه (صفين) شعراً للإمام علي وردت فيه كلمة (الوصي) فيه قال (عليه السّلام) :

يا عجباَ لقد سمعت نكرا*** كذباً على اللّه يشيب الشعرا

يسترق السمع ويغشي البصرا*** ما كان يرضى أحمداً لوخبرا

أن يقرنوا وصيه والأبترا

ويريد بالأبتر : عمروبن العاص، إذ نزلت في أبيه الآية :

{ إِنَّ شانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ (الكوثر (3) }.

أما الخوارزمي فنقل في مناقبه قوله (عليه السّلام) : (أنا أخورسول اللّه ووصيه).

وخطب الإمام الحسن (كما في مستدرك الحاكم) فقال :

(أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي).

أما الإمام الحسين (عليه السّلام) فقد قال في خطبته يوم عاشوراء :

((أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وابن وصيه، وابن عمه، وأول المؤمنين باللّه ..؟ الخطبة ...)).

كثيرة هي الأحاديث التي وردت فيها كلمة (الوصية والوصي)، ونحن إذا اقتصرنا على ما ذكرنا من أحاديث فلأننا نتوخى المرور بالشواهد والأدلة لئلا نطيل على القارئ الكريم، وغير الأحاديث ثمة آيات قرآنية كثيرة وردت فيها تلك

ص: 149

الكلمة (الوصية) يمكن الرجوع إليها.

أما الشعر العربي، قبل ظهور ((نهج البلاغة))، فكان هو الآخر قد حمل لنا تلك الكلمة يحسن بنا أن نلم بشيء منه :

قال عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

ومنا علي ذاك صاحب خیبرٍ*** وصاحب بدرٍ يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه*** فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

وقال عبد الرحمن بن جعيل :

العمري لقد بايعتم ذا حفيظةٍ*** على الدين معروف العفا موفقا

علياً وصي المصطفى وابن عمه*** وأول من صلى أخا الدين والتقى

ومن البدريين الهيثم بن التيهان إذ قال :

قل للزبير وقل لطلحة إننا*** نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا*** يوم القليب أولئك الكفار

كنا شعار نبينا ودثاره*** يفديه منا الروح والأبصار

إن الوصي إمامنا وولینا*** برح الخفاء وباحث الأبصار

وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول :

نحن بني ضبة أعداء علي*** ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي

وفارس الخيل على عهد*** ما أنا عن فضل علي بالعمي

ص: 150

وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضاً :

يا ربنا سلم لنا عليا*** سلم لنا المبارك المرضيا

المؤمن الموحد التقيا*** لاخطل الرأي ولا غويا

بل هادياً موفقاً مهديا*** ثم ارتضاه بعده وصيا

أما خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وكان بدرية فقد قال يوم الجمل :

يا وصي النبي قد أجلت الحر*** ب الأعادي وسارت الأضعانُ

واستقامت لك الأمور من الشا***م وفي الشام يظهر الإذعانُ

حسبهم ما رأوا وحسبك منا*** هكذا حيث كنا وكانوا

وأما كتب التاريخ فقد نقلت لنا في طياتها مصطلح (الوصي والوصية) هي الأخرى يجدر بنا الوقوف عندها بمرور سریع :

قال ابن واضح في تاريخه : ((ومن جملة احتجاج الخوارج على أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنه ضيع الوصية فكان من جوابه (عليه السّلام) : ((أما أقوالكم أني كنت وصياً فضيعت الوصية فإن اللّه عز وجل يقول :

{ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعالَمِينَ }.

أفرأيتم هذا البيت لولم يحج إليه أحد كان البيت كفر؟ إن هذا البيت لوترکه من استطاع إليه سبيلا كفر وأنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا بتركي لكم..)).

وقال واضح أيضاً : ((وقال مالك بن الحارث الأشتر لما بويع أمير المؤمنين

ص: 151

(عليه السّلام) : ((أيها الناس هذا وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء الحسن المضاء، الذي شهد له كتاب اللّه بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل)).

أما أبو جعفر الإسكاني المعتزلي فقال في (نقض العثمانية) :

((وقال عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

وإن ولي الأمر بعد محمدٍ*** علي، وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول اللّه حقاً وصنوه*** وأول من صلى ومن لان جانبه

ونقل لنا الخوارزمي في مناقبه کتاب عمروبن العاص إلى معاوية قبل أن يتفقا جاء فيه :

((فأما ما دعوتني إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي، والتهور في الضلالة معك، وإعانتي إياك على الباطل، واختراط السيف في وجه علي وهو أخورسول اللّه ووصيه ووارثه، وقاضي دينه ومنجز وعده وزوج ابنته)).

وأما المسعودي، في مروج الذهب، فقد نقل لنا كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية، وإليك ما يتعلق بالوصية قوله : ((فكيف - لك الويل - تعدل نفسك بعلي وهووارث رسول اللّه ووصيه). ومما نقلت لنا المصادر الموثوق بها أقوال بعض المشاهير ممن تأخر عن عصر النبوة والخلافة الراشدية وقد ورد فيها مصطلح الوصية والوصاية.

قال الكميت بن زيد الأسدي في الهاشميات :

ص: 152

والوصي الذي أمال التجوبي*** به عرش أمة لاتهدام

كان أهل العفاف والمجد والخير*** ونقض الأمور والإبرام

والوصي الولي والفارس المعلم*** تحت العجاج غير الكهام

ووصي الوصي ذي الخطة الفصل*** ومردي الخصوم يوم الخصام

وقال قيس بن الرقيات :

نحن منا النبي أحمد والصد*** يق منا النقي والحكماء

وعلي وجعفر ذوالجناحين*** هناك (الوصي) والشهداء

وقال كثير لما حبس عبد اللّه بن الزبير محمد بن الحنفية :

تخبر من لاقيت أنك عائذ*** بل العائد المحبوس في سجن عارم

وصي النبي المصطفى وابن عمه*** وفكاك أعناق وقاضي مغارم

وقال شارح الهاشميات محمود محمد الرافعي عن البيت الثاني :

((وأراد ابن وصي النبي، والعرب تقيم المضاف إليه في الباب مقام المضاف ..)).

ولكن في تذكرة الأمة روي البيت هكذا :

سمي نبي اللّه وابن وصيه*** وفكاك أغلال وقاضي مغارم

فانتفت الحاجة إلى تخریج شارح الهاشميات.

وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري في قصيدته المذهبة التي شرحها السيد المرتضی :

ص: 153

وأن قلبي حين يذكر أحمداً*** ووصي أحمد نيط من ذي مخلب

أما دعبل الخزاعي - كما جاء في معجم الأدباء - فقال في رثاء الحسين (عليه السلّام) :

رأس ابن بنت محمد ووصيه*** يا للرجال على قناة يُرفَع

وأما الكتب التي أُلفت في الوصية في القرون الأولى والصدر الأوّل قبل القرن الرابع - أي قبل صدور ((نهج البلاغة)) - فكثيرة نذكر منها ما صدر في القرنين الأوّل والثاني :

1_کتاب الوصية لهشام بن الحكم المشهور.

2_ الوصية للحسين بن سعيد الأهوازي.

3_ الوصية للحكم بن مسكين المكفوف.

4 _ الوصية لعلي بن المغيرة.

5_ الوصية لعلي بن الحسن بن فضال.

6 _ الوصية لمحمد بن علي بن الفضل.

7_ الوصية الإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي.

أما ما صدر في القرن الثالث نذكر منها :

1_ الوصية ليحيى بن المستفاد .

2_الوصية لمحمد بن الصابوني.

3_ الوصية لمحمد بن الحسن بن فردخ.

ص: 154

4 _ الوصية والإمامة لعلي بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب.

5_ الوصية لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.

6 _ الوصايا لمحمد بن علي السلحفاتي المشهور.

ذلك غيض من فيض، ومن أراد الاتساع فليراجع كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده للشيخ عبد الزهراء الحسيني الخطيب 1/139 -179. فقد اعتمدناه في كثير من شواهدنا جزاه اللّه خيراً .

فهل مزقت تلك الشواهد الظلام الذي غطى على عيون الذين ادّعوا إن الرضي انفرد بذكر الوصية والوصاية؟ وهل أذابت الضباب الذي حال دونهم لرؤية الحقيقة وسط أشعة الشمس الساطعة؟

أرجو أن أكون قد أسهمت مع من أسهم، في إلقاء الضوء على واحدة من أهم تشکیکات المشككين في نسبة ((نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام). عسى أن يهتدي من يطلب الهداية

{... فَأَمَّا الزَّیدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (الرعد/17) } صدق اللّه جلت قدرته.

ص: 155

6_ الإطناب والإيجار

ومما دعاهم إلى التشكيك في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) كونه أطنب في بعض الخطب والكتب وأطال، كالقاصفة والأشباح وعهد مالك بما لم يكن مألوفاً في صدر الإسلام.

في الحقيقة إن طول الخطب وقصرها، أوالإطناب والإيجاز فيها لم یکن مقتصرآً على عهد دون آخر، بل إن ذلك يتساوق مع المرحلة والحدث ومتطلباتهما؛ فكلما سخنت المرحلة وتشعب الحدث تطلب الأمر الارتفاع إلى مستواهما والتوفر على مفرداتهما والتوغل في أعماقهما والإحاطة بتفاصيلهما وإماطة اللثام عن مفاصلهما. وهذا يتطلب من القائد استقراء المرحلة والحدث ليستطيع، بالتالي، من وصف الحالة وطرح الحلول، ولا يكون ذلك إلا بالإطالة أوالإطناب في الكلام، وهو ما تطلبه عصر الإمام علي (عليه السّلام) لما فيه من سخونة استثنائية لم تشهدها العهود التي سبقته ؛ فهو (عليه السّلام) - على قصر مدَّة قيادة الأمة الإسلامية - خاض ثلاث حروب ضارية هي : الجمل وصفّين والنهروان، وواجه أُناساً انقلبوا على تعاليم الإسلام المتمثلة بالقرآن الكريم

ص: 156

وأحاديث الرسول العظيم، محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وأُناساً أغرتهم الدنيا بزخرفها فنكصوا عن جادة الحق، وأُناساً تأرجحوا بين هؤلاء وأولئك .

فما الذي يفعله الإمام إزاء ذلك كله؟

أليس عليه غير التوجيه والإرشاد والنصح؟

أيكون ذلك بكلمات موجزات قصار؟

حتى القرآن الكريم لم تكن سوره على وتيرة واحدة من الأسلوب؛ فثمة السور القصار جداً بل الآيات القصار جداً، وثمة السور الطوال، بل والآيات الطوال، ذلك كله لتنسجم مع المرحلة والحدث.

فالذين أنكروا على الإمام علي (عليه السّلام) أن يكون صاحب (نهج البلاغة) لذلك السبب لم يتوافروا على عصره وما أحاطت به من أحداث وإن كانوا قد اعترفوا -مضطرين - بقبول ذلك بقولهم : ((نحن لا نقول إن هذا القدر من الطول في الخطب غير مقبول عقلاً ..)).

ولكي لا نترك موضوعنا بلا إسناد تاريخي - كما هو منهجنا في البحث دائماً - نقول : إن سمة (( الطول)) في الخطب كانت معروفة ومنتشرة في الجزيرة العربية قبل عهد الإمام علي (عليه السّلام)؛ فقد روي أن قيس بن خارجة بن سنان خطب يوماً إلى الليل فما أعاد كلمة ولا معنى. وكذلك فعل سحبان وائل عندما وجد أن الضرورة تقتضي الإفاضة في الكلام وهو في مجلس معاوية إذ خطب من انتهاء صلاة الظهر إلى حلول وقت العصر، ولم يقل أحد أن ذلك مخالف للبلاغة

ص: 157

أوخارج على أصول الكلام.

ومع إطنابه ذاك كان يوجز في الكلام غاية الإيجاز على ما تقتضيه الحال. وفي ذلك يقول الدكتور زكي مبارك : (( وسحبان وائل الذي عرف بالتطويل وأنه كان يخطب أحياناً نصف يوم، أثرت عنه الخطب القصيرة الموجزة، وذلك يدل على أن الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر، وأن القاعدة المطردة لم تكن شيئاً آخر غير مراعاة الظروف ...

إن مسألة الإيجاز والإطناب كانت تجري على مقتضى الحال، فكان الكاتب يوجز تارة ويطنب أخرى على وفق الظروف التي فيها رسالته، وكان من الخطباء من يطيل وكان منهم من يوجز، ولا يرجعون في ذلك إلى قاعدة غير المناسبات التي توجب الكلام، فتقضي مرة بالإطناب وتقضي حيناً بالإيجاز)).

فالإمام علي (عليه السّلام) فضلاً عن أنه عاش تلك الظروف وخالط خطباء ذلك العصر، فهو من قال فيه الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه)). وخاطبه مرة قائلاً : ((أنت سيد الفصحاء وسيد البلغاء))، وهومن قال فيه ابن عباس : ((ما رأيت - قط - أذکی من علي بن أبي طالب (عليه السّلام)). وهومن خاطبه عمر : ((لا أبقاني اللّه بأرض لست فيها يا أبا الحسن)). كما قال : ((لولا علي لهلك عمر)). ثم هومن قال عنه معاوية : ((فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره)).

فإذا كان الإمام علي (عليه السّلام) كذلك في الفصاحة والبلاغة والذكاء فمن باب أولى أن يكون متمكناً من أدواته اللغوية تمكن الصيرفي من نقوده؛ فهو يطيل

ص: 158

متى رأى أن الموقف يتطلب الإطالة ويقصر على وفق مقتضى الحال، وقد أنصف الدكتور زكي المبارك عندما قال :

((ورسائل علي بن أبي طالب، وخطبه ووصاياه، وعهوده إلى ولاته في ((نهج البلاغة)) تجري على هذا النمط ؛ فهويطيل عندما يكتب عهداً يبين فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي يرعاه، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصه في شيء معين لا يقتضي التطويل)).

فتشکیکهم، إذن، في هذا الجانب حظه مثل حظه في الجوانب الأخر لم يستقوا فيه إلا من سراب ولم يركبوا إلا ظهور الأرانب.

ص: 159

7_ السجع

والسجع عكازة أخرى تعكز عليها المشككون في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام). فقال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على (النهج)):

((إن فيه من السجع والتنسيق اللفظي، وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه، وإنما ذلك طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتن به أدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم)) ومع اعترافه بأن من ((عرف ابن أبي طالب حامي عرين الفصاحة وابن بجدتها لم يعسر عليه السليم)). أقول مع ذلك فإنه - وفي مقدمته تلك - راح يبطن تشکیکه بكلمات ملفوفة إذ قال : ((السجع إذا جاء من غير تصنع وتكلف، ولم تظهر سماجته، ولم يثقل استماعه، كان آية من آيات البلاغة، ودلائل الفصاحة، ومع ذلك فليس ما في الكتاب كله سجعاً وما فيه من السجع فهومما لم تدع إليه الصنعة، ولا اقتضاه الكلف بالمحسنات، وأكثره مما يأتي عفواً بلا کد خاطر، ولا تجشم هول، ومثله في عبارات عصره واقع، ومن عرف ابن أبي

ص: 160

طالب كان حامي عرين الفصاحة وابن بجدتها لم يعسر عليه السليم)).

أما أحمد أمين فقد شكك هوالآخر بنسبة ما في ((النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) إذ قال في فجر الإسلام : ((واستوجب هنا الشك أمور ما في بعضه من سجع منمق، وصناعة لفظية لا تعرف لذلك العصر كقوله : ((ويعني الإمام (عليه السّلام))):

((أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير)).

واعتمد في شكه هذا على ((هوار)) الذي سبق أن شك في نسبة القرآن إلى اللّه جل وعلا. إذ نقل عنه طه حسين في الأدب الجاهلي قوله : ((إن ورود هذه الأخبار في شعر أُمية بن أبي الصلت مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل، على صحة هذا الشعر من جهة، وعلى أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى).

لنناقش هؤلاء عسى أن نتوصل نحن وإياهم إلى منبع الحقيقة الصافي فنرتوي منه الحق والعدل والإنصاف :

1_ يقول محمد محيي الدين عبد الحميد : ((إن فيه من السجع والتنميق اللفظي وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه ..)).

إذا كان ما قرر محمد محيي الدين عبد الحميد صحيحاً فماذا نسمي قول الرسول الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((إن الأعمار تفنى والأجسام تبلی، والأيام تطوى والليل والنهار يتطاردان تطارد البريد، يقربان كل بعيد،

ص: 161

ويخلقان كل جديد، وفي ذلك -عباد اللّه - ما يلهي عن الشهوات، ويرغب في الباقيات الصالحات))؟

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (( إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حساباً، ولكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً ، وإن لكل شيء رقيباً، وإنه لابد لك من قرين يدفن معك هوحي وأنت ميت، فإذا كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ولا تُبعث إلا معه، ولا تُسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً فإنه إن صلح أنت به، وإن فسد لم يُستوحش إلا منه وهو عملك)).

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلّوا بالليل والنهار والناس نيام)).

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((إنما الحياء من اللّه أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلي)).

وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (( إرجعن مأزورات غير مأجورات)).

وماذا نقول عن خطبة أبي بكر : ((أستهدي اللّه بالهدى، وأعوذ به من الضلال والردى، من يهدِ اللّه فهو المهتدي، ومن يضلل فلا تجد له ولياً مرشداً)).

وعن خطبته : ((يا معشر الأنصار إن شئتم أن تقولوا آویناكم في ظلالنا وشاطرناكم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا، قلتم، وإن لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإن طال به الأمد)).

ص: 162

وماذا نقول عن خطبة لعمر في الاستسقاء : ((اللّهم قد ضرع الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى)).

وماذا نقول عن خطبة لعثمان خطب بها الناس لما نقموا عليه ما نقموا : ((إن لكل شيء آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وفي هذا الدين عیابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويُسرّون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون)).

وقبل ذلك؛ ماذا نقول عن خطبة قس بن ساعدة الإيادي ومن الرواة لها رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نفسه، ومنها :

((أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وقار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء مخبراً وإن في الأرض لعبراً .. الخ)).

أليس تلك الأقوال سجعاً ظاهراً وواضحاً؟ ثم أليست هي في عصر الإمام ؟ وإذا انتهينا من تلك الأقوال وعدنا إلى منبع الإسلام الأوّل- القرآن الكريم - نجد فيه السجع يشكل السمة الأكثر ظهورة :

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَاللّهُ أَحَدُ * اللًّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُوُأً أَحَدُ (الإخلاص 1-)4}.

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ * وَ مِنْ شَرِّ غًاسِقٍ إِذا وَقَبَ * وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ * وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (الفلق 1-5) }.

ص: 163

{ بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَب النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (الناس 1-6)}.

{ بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ* فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجرا -30) }.

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * لَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ* فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح

ص: 164

1-8)}.

إضافة إلى السور : الذاريات، الطور، النجم، الرحمن، الواقعة.. وغيرها من السور الطوال.

فماذا يعني هذا؟ أليس يعني أن الإمام علياً (عليه السّلام) هو امتداد لعصره والعصر الذي سبقه؟ إن ذلك التواصل أمر طبيعي ينسحب على مفردات الحياة كلها، واللغة هي إحدى تلك المفردات، ثم أهوغريب عن شخصيةٍ مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الذي وصفه الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وغيره أنه إمام الفصحاء وسيد البلغاء، أن نرث عنه هذا الإرث المتفرد في تدفقه العفوي الطبيعي، والمتفرد في بنائه المعماري المنسجم مع كل عصر في الشكل والموضوع؟ وأين هي آثار الصنعة في قوله (عليه السّلام) :

((إن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم))؟

وقوله (عليه السّلام) وهو يخوف فيها أهل النهروان : ((فأنا نذیر لکم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، على غير بينة من ربکم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار))؟

نحن نقيم الدنيا ونقعدها إذا ما قرأنا لأبي العلاء المعرّي لزومياته وننبري الشرحها والإشادة بها كتراث عربي (وهي كذلك لا شك) ولكننا نعُد تلك

ص: 165

اللزومية المتدفقة بشكل عفوي، المتساوقة مع المفردات التي قبلها والتي بعدها تساوقاً لا تجعلك تحس بأي أثر للصنعة؛ إذ جعل ((التقوی)) دواء (القلوب)) وبصر الأفئدة وشفاء الأجساد وصلاح الصدور وطهر الأنفس، وجلاء الأبصار وأمن الفزع وضياء الظلم.

هذه الوحدة الموضوعية العجيبة والوحدة العضوية المتماسكة والجرس الموسيقي الذي تبعثه لزومية ال ((كم) الجميلة المنبعثة من نفس تحترق لتضيء الطريق للآخرين، تبدأ ب((التقوى)) لتعدد لنا تأثيراتها ونتائجها على النفس البشرية والسلوك الاجتماعي، والنظرة الشمولية إلى الحياة.

أقول.. إذا ما قرأنا ذلك لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) نعده من (آثار الصنعة)

لماذا يا قوم؟ أليست مفردات علي (عليه السّلام) هي ذاتها المفردات العربية التي ورثناها من عصور ضاربة في عمق الزمن؟ ولكنها جاءت على لسانه بعفوية ((بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء على اللسان لذيذة الوقع في الآذان، موافقة حركات النفس، مطابقة العاطفة التي أزجتها والفكرة التي أملتها).

أليس كذلك؟

قليلاً من التأني والإنصاف في إصدار الأحكام على معطيات رجل كان وما يزال وسيبقى معلماٌ مهماٌ، بل متفرداٌ، من معالم حضارتنا وإرثنا الأدبي.

2_ يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته تلك :

ص: 166

((وافتتن به (أي السجع) أدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم)) ا.ه

ومعنى هذا الكلام إن الشريف الرضي هوالذي ((وضع)) هذا السجع لينسجم مع ((نهج)) معاصريه.

لوألقينا نظرة فاحصة ودقيقة ومنصفة على مؤلفات الشريف الرضي التي وصلتنا لوجدناها مختلفة عما في ((نهج البلاغة)) في تركيباتها اللغوية وسياقها العام تمام الاختلاف؛ فالرجل له أسلوبه البحثي النابع من ثقافته اختارها هولنفسه ومن تأصل في تركيبه الذهني. أما أسلوب النهج فليس فيه ذلك.

إن محتویات ((النهج)) بما فيها ((السجع)) كانت وليدة اللحظة والحدث والمعاناة واستشراف آفاق المستقبل، ولكنها كانت مترابطة متماسكة متساوقة مع بعضها، بحيث شكلت بمجموعها وحدة موضوعية واحدة، هي ((اللّه والعالم والإنسان)) هذا أولاً، وثانياً - وقد ألمحنا إليه فيما سبق - إن الشريف الرضي لوكان واضع ذلك السجع في طيات ((نهج البلاغة)) لأشار إليه، أولأفرده ضمن مؤلف يضاف إلى مؤلفاته العديدة، ولوعرفنا إن الرضي يتمتع بالتزام أخلاقي وديني لأدركنا إنه رحمه اللّه يحتاط أن ينسب ما لغيره لنفسه وما لنفسه لغيره نتيجة ذلك الالتزام. فضلاً عن إن جمل السجع تلك تتحدث عن شواهد تاريخية معروفة، كمخاطبة الخوارج بهدف تخويفهم وقد مر ذلك.

وقوله في كتاب إلى عبد اللّه بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر : ((فعند

ص: 167

اللّه نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً کادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً ..)).

وقوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر : ((منیت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحشمكم)).

وكتطبيق عملي لما احتاط به الشريف الرضي في نقله قوله (عليه السّلام) : ((العين وكاء)).

قال الرضي (رحمه اللّه) : وهذا من الاستعارات العجيبة .. ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وقد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرّد في كتاب ((المقتضب) في باب اللفظ بالحروف، وفي الأظهر الأشهر إنه للنبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)

وقد احتاط الرضي (رحمه اللّه) في نقل هذا الحديث في النهج فقال :

((فهذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وقد رواه قوم لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وذكر ذلك المبرد..)).

لا أدري هل يكفي هذا الإثبات إن الشريف الرضي لم يضف ((السجع)) ليتفق وسمات عصره ونقله نقلاً واثقاً عن لسان إمام الفصحاء وسيد البلغاء علي بن أبي طالب (عليه السّلام)؟

فإذا كان لا يكفي فما ذنب من أراد أن يخرق سجف الظلام في طريق من تلفعوا به ولكنهم أخذوا يستجيرون به لئلّا تحرق عيونهم أشعة الشمس.

ص: 168

3- وقال محمد محيي الدين عبد الحميد : ((السجع إذا من غير تصنع وتكلف، ولم تظهر سماجته، ولم يثقل استماعه كان آية من آيات البلاغة، ودلائل الفصاحة..)).

ماذا يعني بكلامه هذا؟

إن المتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة أن مراده، الإشارة بقول الإمام في هذا الفن (السجع) ولكن بعد التمحيص والتدبر يظهر الكلام على حقيقته وهو : إنه أراد به الغمز الخفي والاتمام المستور بأن هذا اللون من الكلام لم يكن ذا صلة بالإمام أولاً، وأنه يشوبه التصنع والتكلف والسماجة ثانياً . أما كونه ذا صلة بالإمام فهذا ما تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، ونظيف أنه، (عليه السّلام)، خاطب أهل البصرة قائلاً :

((يا أشباه الرجال ولا رجال.. لوددت أني لم أركم وأعرفكم..)) و((دارستكم الكتاب، وفاتحتكم المجاج، وعرَّفتكم ما أنكرتم، وسوَّعتكم ما مججتم، لوكان الأعمى يلحظ، والنائم يستيقظ)).

فهو شاهد تاريخي لا يقبل الجدال إنه من قول الإمام علي (عليه السّلام). أما كونه يشوبه التصنع والتكلف والسماجة، فهذا مما يمكن دحضه بشواهد من أقواله (عليه السّلام)، كقوله (عليه السّلام) :

((فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله، ومعارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من یردیه،

ص: 169

وأصاب سبيل السلامة يبصر من يبصِّره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه، واستفتح التوبة، وأحاط الحوبة، فقد أقيم على الطريق وحُدي نهج السبيل)).

وقوله (عليه السّلام) : ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والقلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات، والناس في فتن انخذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل والعمی شامل ..)).

ولولا خوف الإطالة لاستشهدنا بالكثير من أقواله (عليه السّلام) المسجوعة التي جاءت عفو الخاطر ولكنها لم تكن ذا صلة بالسماجة والتصنع والتكلف. بل كانت آية من آيات البيان العربي ولوحات فنية تحكي مسيرة هذا الإنسان في حياته اللاحبة.

4 - لقد سلم محمد محيي الدين عبد الحميد بأن الإمام علي (عليه السّلام) ((حامي عرين الفصاحة)). كأن الإمام علي (عليه السّلام) كان يحتاج لشهادة محمد محيي الدين بأنه (حامي عرين الفصاحة) وكأننا لم نعرف ذلك فتبرع ليدلنا عليه.

إن مثل هذا الأسلوب يبعد صاحبه عن قواعد المنهج العلمي البحت. ويضيع عليه الحقيقة النظيفة لأنه درب شائك لا يسلم صاحبه من العثرات في مطباته الكبيرة، وإلا من منا لا يعرف أن علي بن أبي طالب هو إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وقد نقل لنا التاريخ والروايات كثيرة من الشواهد والأدلة بأنه

ص: 170

((حامي عرين الفصاحة)) أما أن محمد محيي الدين يأتي في القرن العشرين فيسلّم بذلك تسليم المضطر فهذا لا يغني ولا يسمن من جوع.

إن الشمس لا يحجبها غربال المشككين والغمازين والمازين، وإذا حجبها بعض الغيوم يوماً أوساعة فإنها تبقى محتفظة بخواصها الفيزيائية والكيميائية، بل إنها بخاصيتها تلك تذيب الغيوم من حولها لتشرق بأشعتها الأرجوانية من جديد فتملأ الحياة حباً خلواً من الثقوب السود.

5 - أما أحمد أمين فقد اعتمد رأي المستشرقين في بلاغة وفصاحة الإمام علي (عليه السّلام) وأسلوبه في الكلام.

متى كان المستشرق يعرف ما في الدار أكثر من صاحبها؟ بل متى كان أكثر إخلاصاً في نقل الحقيقة عن أبناء قومنا؟ حتى الذين اعترفوا برجالاتنا وأشاروا إلى معطياتهم بشيء من الإنصاف لكنهم ليسوا بالبدلاء عنا في إقرار هذا الأمر أوذاك، لأننا عشنا حضارتنا وتواصلنا معها جيلاً بعد جيل. ولكننا نبقى نردد ((مغنية الحي لا تطرب)) ولسان حالنا يقول:

فلوغوّرت في تاريخ شعري*** وأبصرت الحقيقة ما عميت

ولكني هجرت تراث قومي*** وأقصرت الطريق وقد عييت

فداهمني الغزاة بعقر داري*** فما نافحت عنها أونهيت

لأني مذ خلقت خلقت خصماً*** لبعضي، بل تأكلني الشتيت

فلم ((أشطف )) ثيابي عبر طستي*** فحاطت بي من الدنيا طسوت

ص: 171

وصرت أذب عن أفكارغيري*** وعن أفكار قومي قد غويت

نصوصياً غدوت لكل قولٍ*** غريب، عن جني قومي سهوت

كأني ما ورثت لهم تراثاً*** بعًدِّ الرمل لكني نسيت

وصرت أغض طرفی عن تراثي*** ولكن عن تراثهُم رویت

وثمري لا يقيت بأرض قومي*** ولكن لوأتي منهم يقيت

ومرّ طعامهم حلومذاقاً*** وحلوطعام قومي ((زقنبوت ))

وإن أدعى لذبٍ عن تراثي*** أراوغ، إذ كأني ما دُعيت

ولكن لودعاني الغرب يوماً*** أقول له: لإرثك قدُفديت

فذاك لي الرواء إذا ظميت ***ولي مأوىً يقيني أومبيت

وذاك لي الدواء إذا اعتراني*** ذبول المحل قلت: به شُفيت

وأما إرثي الموروث أضحى*** لظىً لي، بل وفيه قد شُوِيت

وقد نعتوه بالسلفي ظلماً*** وعنه بعيدة تلك النعوت

وقالوا : إنه إرث مقيت*** تقوْلَبَ وهو هذا مميت

وقالوا : لم يواكب عصرقومٍ*** تناهوا فيه، بل أضحى يميت

ومايدرون أني تهت إن لم*** أعب من ريِّه، بل ما حييت

وهم يدرون لكن أي بلوىً*** بأن يدروا وهم عنه سکوت

ذلك هو حالنا في تقييم تراثنا، وإلا هل يحتاج رجل مثل الإمام علي (عليه السّلام) إلى كبير عناء في إثبات مكانته في الحضارة الإسلامية؟ ودوره الكبير في بلورة

ص: 172

الجوانب الفنية للغتنا العربية؟ وهو القائل :

((هل منا مناص أوخلاص، أومعاذ أوملاذ، أومزار، أومجار)). والقائل : ((أين من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجَّد)) .. ألا يأخذك الجرس الموسيقي بسحره الخلاب إلى عوالم حالمة مع تلك الثنائيات ((مناص وخلاص، معاذ وملاذ، مزار ومحار)) هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر، بل هي مترعة بالدفق الموسيقي المنساب بعذوبة وفراهة وعفوية.

ص: 173

8_ دقة الوصف

يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تحقيق ((نهج البلاغة)) :

((إن فيه من دقة الوصف واستفراغ صفات الموصوف، وإحكام الفكرة، وبلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش والطاووس والنملة والجرادة، وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأوّلولا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية ..)).

إن الإنسان في كل عصر ومكان يصدر أحكامه على النابغين مما هوفيه : فإذا رأى خارقيةٍ ما في إنسانٍ ما أنكرها عليه لأنها تمخض استثنائي لم تستطع مداركه القاصرة الوصول إلى استيعابها فيبدأ بإصدار أحكامه، التي يحسبها أدلة إنكارية قاطعة بلا عمقٍ في التأمل في شمولية الرؤية وأحياناً إنصاف في الحكم. والنابغ دائماً يكون هدفاً لذوي العقول القاصرة والنظرة الضيقة والتفكير المتحجر والأذهان المنغلقة على نفسها.

ولأن النابغ سابقٌ زمانه، فمن الصعب أن يجد من يفهمه ويستوعب قدراته ومعطياته الفكرية، اللّهم إلا القلة القليلة من الذين يقتربون منه في الخاصية تلك.

ص: 174

وقلة هم أولئك النابغون في المجتمعات البشرية، إذ لا تزيد نسبتهم عن 0000001%إن لم تقل.

وهكذا كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ((استثناءً)) في عصره وبقي استثناءً في العصور كلها إلى يومنا هذا.

فليس غريباً - إذن - أن نقرأ لهذا الكاتب أوذاك رأياً في نابغ وآخر ينكر عليه نبوغه لا لشيء إلا لكونه قاصراً في نظرته أو حاسداً إياه، أومفترقاً عنه في المذهب أوالعرق أوالتفكير، أوهي مجتمعة كلها فيه. فتأتي (أحكامه...!) مبتسرة تفوح منها رائحة لم يألفها إلا هو.

لذلك نرى، ((إن كثرة الشاكِّين في (النهج) لم يسلكوا طريقاً فنياً في التحليل، ولم يركنوا إلى مقياس علمي خلا العاطفة والأغراض، ولم يكونوا صيارفة كلام أحرار متجردين عن كل شيء)) وإلا من كانت دقة التحليل وإجادة الوصف وقفاً على قوم دون قوم؟ أوليس الشعر العربي مملوء بدقة الوصف واستكماله؟ ثم أليس لقرشي شهد تنزيل القرآن، وصحب أفصح العرب منذ نعومة أظفاره، وكتب له الوحي، وسمع ما يفجره اللّه تعالى على لسانه من ينابيع الحكمة، أليس لهذا القرشي ميزة عن سائر الناس؟.

ثم أما كان يجب على أولئك الكتاب الذين استكثروا على الإمام (عليه السّلام) دقة الوصف - مثلما استكثروا عليه أشياء كثيرة غيرها بلا وجه حق - أن يدرسوا شخصيته بجوانبها كلها، وعند ذاك تكون أحكامهم متفقة وعظمة واستثنائية هذه الشخصية الفذة.

ص: 175

ثم أن علي بن أبي طالب كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء. وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة بسمات الشيء الباطنة قبل الظاهرة.

وبفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى ليقدم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي، ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل، وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل وأجلى تعبير، وأقوى إيماء، وأدق وصف؛ فإن سحر البيان الذي أوتيه علي بن أبي طالب كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية. ولكن هذا الانعكاس الوصفي الفريد كان له رد فعل معاكس لا يساويه في المقدار البحثي العلمي المنهجي، بل ساواه في النكوص عن جادة الحق والتأمل المنصف، فكان ما جاء به محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة نهج البلاغة وأحمد أمين في فجر الإسلام والدكتور شفيع السيد ومحمود محمد شاكر وغيرهم ممن أنكروا على الإمام علي (عليه السّلام) هذا التفرد في التفكير والنظرة ودقة الوصف – هو من رد الفعل ذاك.

إن ما كان يتمتع به الإمام علي (عليه السّلام) من خارقية فائقة التصور جعلت منه ((مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة، فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أوالفقهي، والأخلاقي، ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، فإن

ص: 176

طبيعة النفس المرهفة والعقل النير تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف. فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.

إن علي بن أبي طالب كان يستنطق الصفات واهباً إياها المقدرة على أن تستعرض نفسها بشفافية أكبر)). تماماً كما يفعل المصور الفوتوغرافي عندما يريد التقاط صوره فهو يختار الجوانب الفنية للأشياء فتأتي صوره أكثر تأثيراً من الأصل المصور. وهنا يكون الاعتماد على قدرة هذا المصور الإبداعية في تحريك كاميرته واقتناص اللحظة والشكل وزاوية النظر فإذا كان مبدعاً حقاً جاءت صوره مترعة بدفق لوفي ناطق بكل آيات الإبداع.

وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ((تميز بقوة ملاحظة نادرة ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي فكره وتقوي خياله فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلها للبقاء والتعميم)).

فليس مستغرباً - إذن - على مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) - إلا لدى قلة قليلة - أن يصف لنا - ذلك الوصف الرائع - بعض الحيوان مما جعل أصحاب ((الرأي ...)) يقفون مذهولين إزاء هذه الصورة، بل اللوحات الزيتية الرائعة التقنية فلم يجدوا لأنفسهم مفراً منها إلا الإنكار من كونها من بنات أفكار علي (عليه السّلام) لأن عصره يفتقر إلى تلك القدرة الإبداعية..! وإن الجزيرة العربية - والمدينة - لم تدجن الطاووس - مثلاً - الذي وصفه الإمام علي (عليه

ص: 177

السلام) فأبدع في وصفه على الرغم من أن ابن أبي الحديد قد أوضح لهم أن الإمام علي (عليه السّلام) لم يشاهد الطواويس في المدينة بل بالكوفة وكانت يومئذ تجي لها ثمرات كل شيء. وتأتي إليه هدايا الملوك من الآفاق، ورؤية المسافدة مع الذكر والأنثى غير مستبعدة)).

أقول على الرغم من ذلك ظلوا يشككون في نسبة هذا الوصف الرائع للإمام علي (عليه السّلام) متذرعين بحجج لا تقوم على دليل علمي ومنطقي.

وهذا كله من الجهل بمقام أمير المؤمنين وفضله ومبلغه من العلم. ولكي لا نترك الكلام عارياً من شواهد من وصفه (عليه السّلام) نذكر نتفاً من ذلك الوصف على أننا سنعود إليه في فقرة لاحقة إن شاء اللّه.

قال (عليه السّلام) يصف نملة :

((انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيأتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدق الفكر، وكيف دبت على أرضها وحبت على رزقها؛ تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في مستقرها، وتجمع في حرها لبردها وفي ورودها الصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يفعلها المنان ولا يحرمها الديان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس. ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً، ولوضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هوفاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي)).

ص: 178

وقال (عليه السّلام) يصف الخفاش :

((ومن لطائف صنعته، وعجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة، في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تقتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها تلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنّها في مكامنها، عن الذهاب في بلج انتلاقها، فهي مسدلة الجفون في النهار عن أحداقها، جاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها وبدت أوضاع نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان غير ذوات ریش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع للعروق بينة أعلاماً، لها جناحان لما يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا، وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره .

وقال (عليه السّلام) يصف الجرادة :

((وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق اللّه لها عينين حمراوين، وأسرج لها

ص: 179

حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل الحس القوي، ونابين بينهما تقرض ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبها، ولوجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتهما، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة .

وقال (عليه السّلام) يصف الطاووس :

ويمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه، وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابیغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً، وقد نجمت من طنبوز ساقه صيصية خفيفة، وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه، لصبغ الوسمة البانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال.

ثم : (ولوكان كزعم من زعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم لذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنحبس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب).

هذا، فضلاً عن وصفه الأرض بأنهارها وجبالها وهضابها ومنبطحاتها، والسماء ونجومها وما فيها من عجائب الخلق، ودقائق الصنعة.

إن دقة الوصف تلك من لدن الإمام علي (عليه السّلام) تُعد مفخرة لحضارتنا العربية والإسلامية أن يبرز فيها مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وهو يحمل في تلافيف دماغه خوارق عقلية وفكرية عجيبة يظل التاريخ - مهما امتد واتسع - يذكرها بفخر واعتزاز .

ص: 180

9_ الألفاظ الاصطلاحية

ومما تعكزوا عليه في نفي نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي (عليه السّلام)، استعمال ألفاظ اصطلاحية، التي يزعمون أنها عرفت في علوم الحكمة بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحِكَمِیَة.

ولا أحسبني بحاجة إلى الإفاضة في هذا الموضوع لأنني قد تحدثت عنه في كثير من الموضوعات التي مرت وأبرزها قول النبي الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((أنا مدينة العلم وعلي بابها) لذلك وجدت من المفيد الاستئناس برأي لعلامة الشيخ محمد جواد مغنية، إذ يقول :

((إن في القرآن قضايا علمية وفلسفية وتشريعية لم تعرفها العرب في عهد النبي ولا قبله، وقد استدل علماء الكلام، وفلاسفة المسلمين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كثير من الموضوعات الفلسفية التي تكلموا عنها، فهل هذه الآيات منحولة مدسوسة؟ وهل من الضروري - إذا اتفق قول مع قول - أن يكون أحدهما مصدراً للآخر؟ وقد أثبت علماء الغرب والشرق من غير المسلمين بأن القرآن والسنة هما المصدر الأوّل للحضارة الإسلامية وعلومها وفلسفتها،

ص: 181

وكلنا يعلم أن علياً هو صنوالرسول وتلميذه ونجيِه، وشريك القرآن، بل هو القرآن الناطق، وما بين الدفتين القرآن الصامت.

والغريب أن هؤلاء المنكرون لا يستكثرون على ابن خلدون الكلام في علم الاجتماع قبل أن يعرفه روسو ومونتسکیو وأن يقولوا عن علومه ومعارفه : (إنها تدفق فجائي وحدس باطني، واختمار لا شعوري)، يستكثرون على باب مدينة العلم أن يصف الطاووس، وأن يقول : اللّه أيّن الأين فلا يقال له أين؟ وكيّف الكيف فلا يُقال له كيف؟ ولأن يصف الباري تعالي بصفات تليق بجلاله، وهوأعرف الناس به بعد الرسول.

هذا إلى أن الإمام (تتكلم عن أشياء لا يعرفها اليونان ولا غير اليونان).

تلك هي كلمة الحق والموضوعية ولكن المشككين يصمون آذانهم كي لا يسمعوها ويعصبون عيونهم كي لا يروا الحقيقة شمساً ساطعة.

ص: 182

10_ التقسيمات العددية

ومن تشکیکاهم في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) ورود تقسیمات عددية فيه. يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على النهج :

((وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل في تقسيم الفضائل أوالرذائل مثل قوله : ((الاستغفار على ستة معانٍ)) ((الإيمان على أربع دعائم، الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شعب)).

ويمثل ذلك قال أحمد أمين وغيره.

لا أدري أين كان الكُتَّابُ من أقوال العرب قبل الإسلام وأقوال الرسول محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) وأقوال الصحابة (رضوان اللّه عليهم)؟

يبدوأنهم لم يطلعوا على ذلك، وهذا نقص في الباحث عن الحقيقة فلا يحق له إعطاء الرأي - إذن -، أوأنهم يعرفون ذلك ولكنهم يريدون طمس الحقائق من خلال نفي وجودها، وهذا ليس من حقهم لأنه تراث يخص حضارة العرب منذ

ص: 183

أن دب عربي على الأرض. وقبل أن تكون المذاهب والتعصب المذهبي، فإن غيرهم قد (فتح) عينيه (جيداً)) ورأي شمس الحقيقة ساطعة ولكنها مغطاة بغربال فمزقوا هذا الغربال فظهرت الشمس ((على ال..)) وهوما نحن بصدده، إذ سنوقظهم من نومتهم بشمس الحقيقة ونجعلهم (يفركون) عیونهم من ظلام أناخ بكلكله عليهم فحرمهم ضوء الشمس ومتعة الضياء. ولكي يكون كلامنا لا ثاني له سنذكر ما جاء على لسان من تربي الإمام علي (عليه السّلام) في حجره وأخذ عنه علومه في مدرسة الإسلام الأولى وهوالرسول العظيم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، ولسان الصحابة والخلفاء الراشدين. وهو - بالتأكيد - قبل صدور ((نهج البلاغة) بقرون.

فإذا قال الإمام علي لقائل بحضرته : أستغفر اللّه : ثكلتك أمك ! أتدري ما الاستغفار؟ إن للاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ : أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : أستغفر اللّه.

أقول.. فإذا قال الإمام ذلك فإن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال قبله :

ص: 184

((ستة أشياء حسنة ولكنها من ستة أحسن، العدل حسن وهو من الأمراء أحسن، والصبر حسن وهومن الفقراء أحسن، والورع حسن وهو من العلماء أحسن، والسخاء حسن وهو من الأغنياء أحسن، والتوبة حسنة وهي من الشباب أحسن، والحياء حسن وهو من النساء أحسن، وأمير لا عدل له كغمام لا غيث له، وفقير لا صبر له كمصباح لا ضوء له، وعالم لا ورع له کشجرة لا ثمر لها، وغني لا سخاء له كمكان لا نبت له، وشاب لا توبة له كنهر لا ماء فيه، وامرأة لا حياء لها كطعام لا ملح له)). وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((معشر المسلمين إياكم والزنا فيه ستة خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب وسوء الحساب والخلود في النار)).

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أخلاء ابن آدم ثلاثة : واحد يتبعه إلى قبض روحه والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشره، فالذي يتبعه إلى قبض روحه فماله، والذي يتبعه إلى قبره فأهله، والذي يتبعه إلى محشره فعمله)). وعن عبد الرحمن بن عوف قال : إنه دخل على أبي بكر الصديق في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتماً فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر أتراه ؟

قال : نعم.

قال : إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الآذري كما يؤلم

ص: 185

أحدكم أن ينام على حسك، واللّه لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً، یا هادي الطريق إنما هو الفجر أوالبحر.

فقلت له :

خفض عليك - رحمك اللّه - فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهومشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأس على شيء من الدنيا.

قال أبو بكر :

((أجل إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) عنهن.

فأما الثلاث التي وددت أني تركتهن، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا فد غلقوه على الحرب ووددت أني حرقت الفجاءة السلمي وأني قتلتاً سريحاً، أوخليته نجيحاً، وودت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً .

أما اللاتي تركتهن، فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تمثل لي أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه، ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا

ص: 186

وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد ووددت أني إذ وجهت خالداً إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كليهما في سبيل اللّه، ومدَّ يديه. ووددت أني سألت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيء)).

وقال عمر بن الخطاب في حديث له :

((النساء ثلاث فهينة لينة، عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى على قمل يضعه اللّه في عنق من يشاء ويكفه عمن يشاء.

والرجال ثلاثة، رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا حزَّ به أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا تبع مرشداً)).

تلك بعض الأحاديث النبوية والأقوال التي وردت عن أبي بكر وعمر، وهي جزء يسير مما لو أردنا الإفاضة به، وهدفنا الإشارة فقط إلى أن هذا اللون من الكلام متجذر في عمق الحضارة العربية ولكن إزميل محمد محيي الدين وأحمد أمين وشفيع السيد ومحمود محمد شاكر وغيرهم، إما أن يكون قصيراً فلا (بنوش العمق) أومن معدن رخوفلا يستطيع التوغل في البحث أومثلَّماً لا يصلح لعمل بحث علمي منهجي كهذا. أقول هذا مضطراً لأن المطابع في لبنان - خاصة - تضخ يومياً مئات العنوانات من الكتب، وللكتب التراثية حصة كبيرة منها، ولكن

ص: 187

مع ذلك نری أمثال هؤلاء الکُتَّاب لم یشیروا إلی ما أشرنا، یبدوأنهم لا یریدون أن یطلعوا علی تلك المصادر لکي یقنعوا أنفسهم بأن ما قالوه من المسلَّمات..

أما نحن فقد أدینا مهمتنا فلیؤمن من یرید أن یؤمن ولیکفر من یرید أن یکفر.وإنَّا للّه وإنَّا إلیه راجعون.

ص: 188

11_ التنبؤات والتوقعات

ومن تشکیکاتهم في ((نهج البلاغة)) كونه احتوى على بعض الخطب والأحاديث التي تنبأ وتوقع الإمام منها وقوع أحداث مستقبلية فقالوا إنها منحولة..! ومن مدخول الكلام عليه.

قال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على نهج البلاغة :

((إن فيه عبارات ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه على الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسول ورأى نور النبوة)).

أما عباس محمود العقاد هوالآخر يقول :

((إن التنبؤات التي جاءت في ((نهج البلاغة)) عن الحجاج وفتنة الزنج وغارات التتار وما إليها من مدخول الكلام عليه، مما أضاف النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أوطويل)).

لقد تحدثنا في الفقرة التاسعة (دقة الوصف) عن الخارقية التي كان الإمام

ص: 189

يتمتع بها في شيء من الإيجاز أوبمرور الكرام، وفي فقرتنا هذه نرى أن نتوقف عندها بشيء من التفصيل غير المتوسع فيه

إن الخارقية كعلم لم يثبت أقدامه بعد في وطننا العربي ولكنه في غير وطننا العربي دخل المختبرات وصاروا يجرون عليه التحليلات المختبرية في جوانبه كلها؛ كما في أمريكا والاتحاد السوفيتي (السابق) ولقد اهتمت تلكما الدولتان بهذا العلم وسمي (الباراسایکولوجي) أي ما وراء النفس، أوالإدراك الحسي العالي، أوالخارقية كما ثبّتنا في فقرتنا التاسعة وفقرتنا هذه.

في الواقع إن الخارقية موجودة في هذا الشعب أوذاك وفي أجناس مختلفة من العالم وفي عصور مختلفة هي الأخرى. ولكم قرأنا أو سمعنا أن شخصاً ما ظهر في هذا المكان أوذاك وصار يتحدث بأشياء مستقبلية ويطبب المرضى ويؤثر في الأشياء سلباً وإيجاباً بنظرة من عينيه، أويستكنه الأشياء المخفية فيُدِل عليها ويعطي أوصافها وكمياتها أومقاديرها. وإذا ما أردنا الخوض في هذا الموضوع فالأمثلة من الكثرة بحيث يمكن إفراد کتاب ضخم لها ولكننا سنضرب أمثلة قليلة ونمر بها سريعة لندخل بعد ذلك في موضوعنا (التنبؤات والتوقعات عند الإمام علي (عليه السّلام)).

في أحد الأيام دخل شاب ألماني إلى مدينة الألعاب عندهم (لونا بارك) وبعفوية محضة نظر إلى ساعته اليدوية وركز في نظره على أميالها فالتوت الأميال فتعجب من الأمر فرفع رأسه شاخصاً ببصره إلى العربات الكهربائية السلكية وهي تجري في الفضاء كأنها تسير على سكة قطار على الأرض وصار يديم النظر بتركيز

ص: 190

شديد فتوقفت العربات عن العمل وأصاب الناس الذعر فهرع مسؤولومدينة الألعاب وفيما هم في حيرة من أمرهم، أخبرهم الشاب الألماني أن توقفها كان بتأثير من عينيه، وهنا سرعان ما استدعي ذلك الشاب إلى مقر لجنة من العلماء ليستفيدوا من قدرته الخارقية تلك.

وثمة صبي اسمه (عليوف) كان طالباً في مدرسة متوسطة في مدينة (كييف) في الاتحاد السوفيتي (السابق)؛ كان هذا الصبي لا يرتاح لدرس الأدب وفي أحد الأيام - وهو على رحلة الدرس - صار یرکز نظره على المدرس المختص بدرس الأدب، حتى استطاع - من غير أن يدري بادئ الأمر - أن يربك المدرس فصار يتلعثم بكلامه أويذرع الغرفة جيئة وذهاباً بلا إرادةٍ منه. ولما شعر المدرس بالإحراج كلف أحد الطلاب بقراءة الدرس فصار (عليوف) يركز نظره على زميله فأربکه هوالآخر فعرف (عليوف) أن ذلك كان بتأثير عینیه فأخبر أهله بالأمر فصاروا يختبرونه إذ أخفوا روبلات عدة وسألوه عما أخفوا فأخبرهم ودلهم على مكانها.

وثمة عائلة تسكن قضاء الكوفة التابعة حالياً لمحافظة النجف تعمل في صيد السمك يستطيع أفراد هذه العائلة رؤية ما خلف الثياب بقدرة خارقية من أبصارهم.

وثمة عائلة أخرى في قضاء الهندية (طویریج) التابع لمحافظة كربلاء (حالياً) يستطيع أي واحد منها إيقاف السفن عن الحركة بمجرد النظر إليها بتركيز خاص.

وثمة فتاة وأبوها في لبنان يستطيع الأب تسريب حرارة المحموم من جسمه

ص: 191

بمجرد مسك يد المحموم فتتسرب الحرارة من جسمه إلى يد الرجل ومنها تنتشر في الفضاء. فيما تستطيع الفتاة أن تحرك الأشياء من غير أن تلمسها، كما تستطيع قراءة أي كتاب بالمقلوب.

وفي الستينيات من القرن العشرين ظهر صبي عراقي اسمه عادل شعلان يستطيع حل أي مسألة حسابية أو رياضية معقدة من غير أن يستعمل القلم أوأي جهاز إلكتروني. وكان في الصف الخامس الابتدائي. ومثله فتاة هندية.

وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين ظهر صبي آخر في العراق اسمه ظافر إذا أظهره السيد كامل الدباغ في برنامجه التلفزيوني (العلم للجميع) كان يضرب أي رقم في أي رقم آخر مهما طال ويعطي النتائج بلا خطأ. حتى وصل حد الأرقام إلى ما لا توجد في أرقامنا فسماه مقدم البرنامج : (ظافريون).

وثمة طفلة في كوريا لأبوين مدرسين في كلية الهندسة تستطيع حل أعقد المسائل الهندسية التي عجز الطلاب من حلها وقد عرضت في تلفزيون العراق.

وفي العراق أشخاص كثيرون يتمتعون بكهرومغناطيسية في أجسامهم يستطيعون بوساطتها شفاء كثير من الأمراض.

كما أن بعض الأشخاص منهم لهم القدرة على التنبؤ بنتائج الانتخابات العامة، ويتوقعون أحداثاً مستقبلية أغلبها، إن لم يكن كلها، صادقاً وواقعاً.

وأخيراً، وليس آخراً، أن ثمة الطبيب الفرنسي الشهير صاحب التنبؤات المعروفة باسمه ((تنبؤات نوستر آداموس)) التي طبعتها الدار الوطنية لوزارة الثقافة والإعلام في العراق. تلك التنبؤات التي اهتم بها العالم أيما اهتمام وصُوِّرت

ص: 192

بالفيديو وعرضت على شاشات التلفزيون؛ وهي عبارة عن رباعيات فيها توقعات أحداث خلال عشرة قرون، قال شُرَّاحُها إنها تحققت وما زالت تنتظر التحقيق. تلك كانت إلمامة سريعة عن ذوي القدرات الخارقية ومن أراد التوسع يمكنه أن يجد ذلك من خلال معاینات شخصية في الحياة أو خلال تناثرها هنا وهناك في بطون الكتب التراثية والحديثة.

والآن نتساءل، أيهما أقرب إلى التصديق والقبول في امتلاك قدرة خارقية، الشاب الألماني أوعلیوف أوعادل شعلان أوظافر أو الطفلة الكورية أو الرجل اللبناني وابنته أو العائلة الكوفية (السَمَّاكة) أوالعائلة الطويرجاوية - نسبة إلى قضاء طویریج (الهندية) - أو نوستر آداموس أم الإمام علي بن أبي طالب ؟؟.

نحن لا نعرف عن أولئك الذين ذكرناهم الشيء الكثير في النسب والعراقة، ولكننا نعرف عن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) إنه ربيب حجر النبوة، إذ تقول الروايات إنه (عليه السّلام) عندما ولد جاءه الرسول محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسماه علياً، وبصق في فيه وأصلح أمره ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام. وقد ذكرنا ذلك من قبل. وهكذا كان في اليوم الثاني.

إذن فعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ما كان شخصاً عادياً مقطوع الجذور عن العراقة العربية والنبع الإسلامي الصافي؛ فهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء وهو باب مدينة العلم، وهو الذي ((سنَّ الفصاحة لقريش))، وهو الذي تعلم من ذي علم، وهو الذي ورث علمه من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم). فهل

ص: 193

كثير عليه أن يتنبأ ويتوقع؟

إن العالم يقيم الدنيا ويقعدها إذا ما برز شخص في جانبٍ ما فيه شيء من الخارقية فتبدأ الصحافة والوسائل المسموعة والمرئية تتسابق في نشر الخبر وتنظيم اللقاءات معه، والشواهد كثيرة عبر تاريخنا المعاصر.

فما بالنا نحن العرب - وقد برز فينا شخص قلما برز مثله في التاريخ - وأعني به الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) لا نفخر به أمام العالم باعتباره يشكل الجزء الأكثر إضاءة في حضارتنا العربية والإسلامية؟

وللأسف أقول إننا بدلاً من أن نزداد فخراً بشخصية علي بن أبي طالب (عليه السّلام) انبری بعض مثقفينا، لا للتقليل من شأنه (عليه السّلام) حسب، بل التوجيه السهام من خلال التشكيك بمعطياته الذهنية والإبداعية ناسين، أو متناسين أن التشكيك بتلك المعطيات إنما هو تشكيك بحضارتنا العربية والإسلامية لأن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يقف في رأس تلك الحضارة كأبرز مَعْلَم من معالمها التاريخية المضيئة.

لقد ((خُص علي بن أبي طالب بالمعرفة الإلهامية، مثلما خص بالتوقد العقلي، وقد تلقى علي (عليه السّلام) تلك المعرفة من النبي العظيم، الذي كان يلقمه العلم، ويشهده التجربة، فكانت روحه ترى ما لا تراه العين، وكان ذهنه الذي يتفتق عن المعارف والأفكار، يومض بالحدس، والتوقعات التي تدخل ضمن رؤى أكدتها الأحداث والوقائع)).

إن المغيبات في نهج البلاغة إنما هي ((نتيجة تعلم الإمام من ذي علم، فإن

ص: 194

اللّه تعالی أطلع نبيّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) على أمور غيبية فعلّمها النبي لوصيّه (عليه السّلام) ودعا له بأن يعيها صدره وتضطم عليها جوانحه، فأخبر أمير المؤمنين الناس ببعض ذلك حسب مقتضيات الأحوال، وأفضى إليهم ببعض ما سمع وما كذَب ولا كُذّب)).

قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام) مجيباض يحيى بن عبد اللّه بن الحسن لما قال له : ((جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟)) فقال (عليه السّلام) :

- سبحان اللّه ضع يدك على رأسي فواللّه ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت.

ثم قال (عليه السّلام) :

- ((لا واللّه ما هي إلا وراثة ورثتها عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم)).

وقال الشيخ ميثم البحراني في شرحه ((نهج البلاغة)) في كيفية علم أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعض المغيبات :

((لا يقال لا نسلّم إن ذلك علم ألهمه اللّه إياه، وأفاضه عليه، بل الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أخبره بوقائع جزئية من ذلك، وحينئذ لا يبقى بينه وبين غيره فرق في هذا المعنى، فإن الواحد منا لوأخبره الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بشيء من ذلك لكان له ان يحكي ما قاله الرسول وإن وقع الخبر به على مثل قوله، ويدل على ذلك قوله بعد وصف الأتراك وقد قال له بعض أصحابه في هذا المقام :

ص: 195

- لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك وقال للرجل وكان كلبياً :

- يا أخا كلب ليس هذا بعلم غيب، إنما هو تعلم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده اللّه سبحانه بقوله :

{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان (30) }.

من ذكر وأنثى وقبيح وجميل، وشقي وسعيد، ومن يكون للنار حطباً، أوفي الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فعلمنيه، ودعا بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي))

وهذا تصريح بأنه تعلم من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لأنا لا نقول : إنا لم ندع أنه (عليه السّلام) يعلم الغيب، بل المدعى أنه كان لنفسه القدسية استعداد أن تنتقش بالأمور الغيبية عن إفاضة جود اللّه تعالى، وفرق بين الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه وبين ما ادعيناه، فإن المراد بعلم الغيب هوالعلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده وذلك إنما يصدق في حق اللّه تعالى إذ كل علم الذي علم مداه فهو مستفاد من جوده إما بواسطة أوبغير واسطة فلا يكون علم غيب وإن كان إطلاعاً على أمر غيبي لا يتأهل للإطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس خُصّت بعناية إلهية كما قال تعالى :

ص: 196

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن (26) }.

فإذا عرفت ذلك ظهر أن كلامه (عليه السّلام) صادق مطابق لما أردناه فإنه نفى أن يكون ما قاله علم غيب لأنه مستفاد من جود اللّه تعالى، وقوله :

((وإنما هو تعلم من ذي علم)) إشارة إلى واسطة تعليم الرسول له وهوإعداد نفسه على طول النصيحة بتعليمه، وإشارة أن كيفية وأسباب التطوع والرياضة حتى استعد للانتقاش بالأمور الغيبية والإخبار عنها، وليس التعليم هو إيجاد العلم - وإن كان أمراً قد يلزم إيجاد العلم - فتبين إذن، أن تعليم رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لم يكن مجرد توقيفه على الصور الجزئية بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، ولو كانت الأمور التي تلقاها عن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) صوراً جزئية لم يحتج إلى مثل دعائه وفهمه لها فإن فهم الصور الجزئية أمر ممكن سهل في حق من له أدنى فهم، وإن ما يحتاج إلى الدعاء، وإعداد الأذهان له بأنواع الإعدادات هوالأمور الكلية العامة للجزئيات وكيفية انشعابها عنها وتفريعها وتفصيلها وأسباب تلك الأمور المتعددة لإدراكها، وما يؤيد ذلك قوله (عليه السّلام) : ((علّمني رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب)). وقول الرسول : ((أعطیت جوامع الكلم وأعطي علي جوامع العلم)). والمراد بالانفتاح ليس إلا التفريع وانشعاب القوانين الكلية عما هوأهم منها، وبجوامع العلم ليس إلا ضوابطه وقوانينه. وفي قوله (أُعطي) بالبناء للمفعول دلیل ظاهر على أن المعطي لعلي جوامع العلم ليس هوالنبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطى النبي (صلّى

ص: 197

اللّه عليه وآله وسلَّم) جوامع العلم وهو الحق سبحانه .

أما الأمور التي عددها اللّه سبحانه فهي من الأمور الغيبية، وقوله :

لا يعلمها أحد إلا اللّه كقوله تعالی :

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (الأنعام/59) }.

وهو محتمل للتخصيص كما هو في قوله :

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن (26) }.

وهذا الأمر واضح لا يحتاج العاقل إلى استكشافة إلى كلفة).

يظهر ما نقلنا عن البحراني - وقد أطلنا فيه - إن معطيات الإمام علي (عليه السلّام) التنبؤية والتوقعية أو (الغيبية) مصدرها أمور ثلاثة هي :

1 _ التكوين الخلقي : أي تكون الخلايا الدماغية التي تتحسس ما هوفوق الإدراك الحسي الاعتيادي للإنسان كالحاسوب الذي بلغ من تطوره العملياتي ما تجاوز الأجيال التي سبقته في الصنعة شكلاً ومحتوى، أي في الحجم والخلايا، وهذا التكوين من اللّه جلت قدرته.

2 _ التعليم المستمر والدرية المتواصلة والرياضة النفسية وهذا من الرسول (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم).

3_ الاستعداد النفسي في التحمل والصبر، وهذا ما ألزم نفسه به (عليه السّلام) فهو منه.

ص: 198

إذن؛ إن الإمام علي (عليه السّلام) أراده اللّه أن يكون كذلك فأوصى إلى نبيه الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أن يعدَّه الإعداد الذي أراده اللّه فلبّي الرسول أوامر ربه خاصة أنه وجد في الإمام (عليه السّلام) الاستعداد المدهش لهذا التكليف الإلهي.

((وقد كانت البصيرة المحمدية الملهمة، قد اعطت كلمات النبوءة التي فسّرت جميع ما مر به علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من محن أوصراعات، وحروب مدمرِّة، داخل الوسط الإسلامي، ومن الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رجل يقال له ((ذوالثدية)) كان - قبل ذلك - يتجاسر على رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهويوزع غنائم معركة (حنين).

- اعدل یا محمد!

فيتجاهله الرسول، فيكرر بصلافة :

- اعدل یا محمد!

ثم يكرر :

- اعدل یا محمد فإنك لم تعدل!

فيجيبه الرسول غضباً :

- ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل؟

أراد البعض قتله، ولكن الرسول أبي ذلك، ثم قال لهم :

((.. سيخرج من ضئضيء قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

ص: 199

الرمية، ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئاً، ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث الدم.. يخرجون على حين غرة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، آيتهم رجل أسود محدج اليد، إحدى يديه كأنها ثدي امرأة، إنهم شر الخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربه عند اللّه وسيلة ..)).

وحلَّ وقت آخر، وفي زمن آخر، توجه فيه علي (عليه السّلام) إلى الخوارج الذين قادوا أنفسهم إلى المذبحة والهزيمة.

كان علي متأكداً أن ((ذو الثدية)) من بين قتلى الخوارج، قائلاً لأصحابه :

((واللّه ماكَذَبتُ وما كُذِّبتُ - أُطلبوا الرجل - إنه في القوم!)).

وفتشوا الجثث واحدة واحدة، حتى عثروا عليه فصاح الناس :

- ذوالثدية!

خرَّ عليٌ ساجداً شاكراً وهو يقول :

- صدق اللّه ورسوله!

وهلل المسلمون.

- اللّه أكبر.. اللّه أكبر؟

وتؤاتيه المعرفة الإلهامية بتنبؤ مدهش حين جاؤوه يمروان بن الحكم، بعد انتصاره في حرب الجمل، وكان قد استشفع له الحسن والحسين (عليهما السلّام) طالبين له الغفران.

ص: 200

وانتهى الفتيان بعد قليل من استرحامه، واستنزال عفوه، على الباغي المقهور، ثم أردفا يقولان :

- يبايعك يا أمير المؤمنين .

وتأتي ومضة أخرى تميط الغطاء عن أحداث مأساوية قادمة فيا لها من ومضة تكشف عن مأساة كالحة!

كان في طريقه إلى الشام، فوقف عند بقعة؛ سيشتهر إسمها (كربلاء) وظل یرنوإليها بنظرةٍ واجمةٍ، ويهمس بصوت حزين :

((هاهنا، هاهنا!هاهنا موضع رحالهم! ومناخ ركابهم!! هاهنا مهراق دمائهم)).

فتأخذ الناس من حديثه رجفة، ويسألون في توجس وإشفاق :

((وماذا يا أمير المؤمنين ؟)).

ويتمهل بهم حتى إذا دارت عينه فرأت الحسين، توقف نظره، على محيّاه في رنوة حانية، ندية غائمة، هتف يجيب :

((ثقل لآل محمد ينزل هاهنا.. فویل لها منكم.. وويل لكم منها.. ويل لهم منكم : تقتلوهم.. وويل لكم منهم، يدخلكم اللّه بقتلهم إلى النار!)).

ويسير ناكس الرأس إلى مطيته .

ونظيف إلى ما أوردناه من تنبؤاته وتوقعاته (عليه السّلام) تلك الرؤيا الواقعية التي جعلته يرى وجه قاتله ((عبد الرحمن بن ملجم المرادي)).. يرى يده .. وهيأته

ص: 201

فيحدس حدس العارف بباطن الزمن الآتي، كان رسول اللّه يقول له :

- يا علي.. أتعلم من أشقى الأولين ؟

- نعم.. عاقر الناقة .

- أتعلم من أشقى الآخرين؟

- لا.. .

- من يضربك هاهنا (مشيراً إلى هامته)، ويخضب هذه (مشيراً إلى لحيته).

وهاهو الأشقى يأخذ حصته من العطاء، علىٌّ يتفحصه مردداً :

- من يحبس أشقاها؟

ما كان ابن ملجم يعلم ما ادّخره له القدر من دور خسیس، لكن علياً كان يتذكر كلمات الرسول، كان يتذکر نبوءة الدم، وفعلة الشقي، فكم قال لبعض خاصته المحبين الذين كانوا يشفقون عليه، حين الحرب من خوض الحشود، واقتحام السلاح، غير آبه شيئاً بما يصيبه أثناء القتال :

((إني لا أُقتل محارباً، وإنما أُقتل فتكاً وغيلة .. يقتلني رجل خامل الذكر)).

و((والتقت العيون المذعورة، واسعة الحملاق، حائرة النظرات، وتناثر في الجوحوله رشاش الهمسات في تساؤل واستفسار، لكن الإمام مال عنهم إلى الوافد المشبوه، فمنحه عطاءه الذي جاء له، ثم تمثل ببيت شعر لعله يغني عن التفسير :

أُريد حياته ويريد قتلي عذیرك من خليلك من مراد

هنا إنبثق من البيت المروي مثل شعاع أضاء في الخواطر ماقد غمض على

ص: 202

الناس في بدء ذلك اللقاء، من كلام الإمام، الآن رفع الغطاء! برح الخفاء وانجاب الستر عن السر المسربل بالغيب، فلا حاجة بهم إلى تعقب أمره، أوتبين ملامحه من خلال غموض الإيماء.. فطالب العطاء الذي أثار قلق القوم، وحرك فيهم الشعور بالخطر حميري من اليمن فيما يعلم نفر منهم غير قليلين، نسبة آل مراد، أهو حليف المراد..؟

- هلا تقتله يا أمير المؤمنين ؟

- فكيف أقتل قاتلي؟

ثم قال :

- إنه إن لم يقتلني، فكيف أقتل من لم يقتل؟

أي كيف يقام القصاص بغير جرم، والعقاب قبل الجريمة؟.

ومن تنبؤاته (عليه السّلام) لما قال :

((سلوني قبل أن تفقدوني، فواللّه لا تسألوني عن فئة تضل مئة وتهدي مئة إلا أنبأتكم بناعتها وسائقها).. قام إليه رجل فقال :

- أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر .

فقال له (عليه السّلام) :

- واللّه لقد حدثني خليلي إن على كل طاقة شعر من رأسك ملكاً يلعنك وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يغويك وإن في بيتك سخاتً يقتل ابن رسول اللّه (عليهما السلّام).

ص: 203

وكان ابنه قاتل الحسين (عليهما السلّام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي.

وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي، عن سويد بن غفلة أن علياً (عليه السّلام) خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره فقال : يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي القرن، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات، فاستغفر له، فقال (عليه السّلام) :

- واللّه ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال :

- يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حمار، وإني لك شيعة محب.

فقال :

- حبيب بن حمار؟

قال :

- نعم

قال له ثانية :

- اللّه إنك لحبيب بن حمار؟

فقال :

- إي واللّه .

فقال :

- أما واللّه إنك لحاملها ولتحملنها، ولتدخلن بها، من هذا الباب - وأشار

ص: 204

إلى باب الفيل بمسجد الكوفة.

قال ثابت :

((فواللّه ما مت حتى رأيت ابن زیاد، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلّام) وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل)).

ومن تنبؤاته (عليهما السلّام) : ما أخبر به أن أعشی همدان يقتل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي فكان ما أخبر به.

تلك التنبؤات ما هي إلا غيض من فيض وبعض من كل سقناها لا لغرض إحصائي، بل للإشارة فقط لعل الذين يشككون بأقوال الإمام وخارقيته أن يمزقوا تلك الشرانق التي لفوا أنفسهم بها، كما شكك العقاد رحمه اللّه بما ورد عنه (عليه السّلام) عن الحجاج وفتنة الزنج وغارات التتار، فقال عنها: ((إنها من مدخول الكلام عليه)). ((هب إن الأخبار عن الحجاج وفتنة الزنج أضيفت إلى الكتاب بعد صدوره بزمن قصير أوطويل - لأنه لا يريد أن يتهم الرضي بالوضع - ولكن كيف تضاف إلى الكتاب الأخبار عن فتنة التتار، وكل حوادث التتار من حملات جنكيز خان إلى احتلال هولاکوبغداد كان مابين سنة (616) وسنة (656) وهذه نسخ ((نهج البلاغة) المخطوطة قبل هذا التاريخ.. وفيها نسخة المتحف العراقي المؤرخة سنة (556) هم أي قبل وقوع تلك الحوادث بمئة عام وفيها هذا الكلام الذي يشير فيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى تلك الفتن والمحن وهولا يختلف عما في النسخ المطبوعة، بل والمخطوطة أيضاً.

ص: 205

يقول ابن أبي الحديد في شرحه خطبة الإمام علي (عليه السّلام) التي أشار فيها إلى التتار ((واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر (عليه السّلام) عنه قد رأيناه عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق..)).

لا أدري هل يكفي ما نقلنا من شواهد وما ثبّتنا من عيِّنات أولئك المشككين في نسبة (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام)، إذا كانوا موضوعيين فإنه يكفي وإلا فهم في ضلال مبين، لا يفرقون بين الليل والنهار ولا بين الظلمة والضياء، ولا بين الحق والباطل.

فلوكان علي بن أبي طالب (عليهما السلّا)م (نوسترا داموس) لطبَّلوا له وزمَّروا ولشرحوا رباعياته وعملوا لها أفلاماً عرضوها على الشاشة الصغيرة، ولقالوا فيه ما قالوا بالشواهد والأدلة على صدق تنبؤاته. ولكن علي بن أبي طالب المسلم الأوّل وأصلب المجاهدين في سبيل الإسلام وابن عم الرسول (صلّی اللّه عليه وسلَّم) وزوج ابنته ووصيه وباب مدينة علمه، أقول.. ولكن علي بن أبي طالب (عليهما السلّام) أذهلهم بمعطياته الذهنية فراحوا في ضلالهم يعمهون ويقولون ما لا يفقهون ويلقون الكلم على عواهنه دون الرجوع إلى الأسانید والثوابت التاريخية التي لا تقبل الرد والطعن.

ص: 206

12_ الزهد

ومما أخذوه على (النهج)) ما فيه من الحث على الزهد، وذكر الموت، وقرض أوذم الدنيا على منهاج المسيح (عليه السّلام).

فالحياة الدنيا انعكاسات سلوكية الإنسان عبر نشاطاته وفعالياته ومعطياته المتعددة الجوانب، والإنسان نفسه - منذ أن هبط على هذه الأرض - كان أسير مفاصل الحياة؛ فكل مفصل يشده إليه، بهذا القدر أو ذاك، منذ أن كانت تلك المفاصل بسيطة لا تتعدى الغابة ومتطلباتها حتى تعقدت فشملت المدينة وتمخضاتها المتسارعة والمتشابكة بوتائر مرة تتساوق مع فهم الإنسان واستيعابه إياها وحيناً تسبقه في ذلك فيظل يلهث راكضاً خلف تلك التمخضات فيسقط في هذه الحفرة أوتلك ويصطدم بهذا الجدار أوذاك وتأخذه الأمواج متلاطمة بين اصطفاق تلاطمها فلا ينجو منها إلا من كان يجيد السباحة فيرسو على البر متأملاً ذلك التلاطم في الأمواج تأمل من يريد أن يرسم له طريقاً يجعل الحياة معبراً إلى مستقر آخر يبعده عن تلك الحفر والجدران وذلك التلاطم في الأمواج.

وكان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) هو ذلك السابح الماهر الذي استطاع

ص: 207

أن يتبين طريقه فيتجنب السقوط في حفر الحياة الدنيا والاصطدام بجدرانها والانجراف بأمواجها المتلاطمة، حتى إذا تمكن من ذلك تمكن الواثق من نفسه المعتمد على قدراته الإرادية المتفردة صار يراقب أولئك المتساقطين في حفر الحياة والمصطدمين بجدرانها والمنجرفين بتيارات أمواجها، وعندما اكتملت الصورة لديه راح يخضعها لفحوصات مختبرية عديدة من حيث المنظور والتساقط اللوبي والأبعاد وغير ذلك من مقومات الصورة فخلص من تحليلاته المختبرية تلك إلى : أن الإنسان - لكي يكون في مأمن من حفر الحياة وجدرانها وأمواجها المتلاطمة - يعتمد في انعكاساته السلوكية ثالوثاً لا بد منه، شاء أو أبي، هو: (الزهد.. ذکر الموت.. ذم الحياة).

والزهد في نظر الإمام علي (عليه السّلام) له مفهوم خاص قد تفرد به بعد الرسول محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إذ بدأ بمحاسبة نفسه محاسبة شديدة ونادرة تفوق تصور العقل الإنساني؛ فقد تحدى الإمام مغريات الحياة وزخرفها البراق الخدَّاع بخط مستقيم وثابت واعتمد في ذلك قانوناً صارماً سنّه لنفسه فسار بمقتضاه طوال حياته العاصفة، والقانون هو :

(من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه، قبل تعليم غيره).

وكان الرسول العظيم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أسوته الحسنة في ذلك إذ روى عنه قائلاً :

((لقد كان (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بیده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف

ص: 208

خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فتكون فيه التصاوير فيقول :

یا فلانة، لإحدى زوجاته، غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو منها مقاماً)).

وفي التطبيق العملي نراه (عليه السّلام)، بعد أن هاجر إلى المدينة مع من هاجروا إشتغل في مزرعة لأحد اليهود، ((وبلغت ثروته ذات يوم أربعة دراهم فكره من أجلها نفسه، وسعى سعيه بالليل والنهار حتى أنفقها على ذوي حاجات فنزلت فيه الآية الكريمة :

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة/276) }.

وخاطب بعض معارضيه بقوله (عليه السّلام) :

[اما تنقمون مني؟ إن هذا من غزل أهلي (وأشار إلى قميصه)].

وراه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال :

- إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك؟

فقال الإمام (عليه السّلام) :

ص: 209

علل النفس بالقنوع وإلّا طلبت منك فوق ما يكفيها ورد على الذين كانوا يرون في قوته (عليه السّلام) ما يضعف صحته، فيقعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، فقال (عليه السّلام):

((كأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان، ألا إن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضر أرق جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالصنومن الصنووالذراع من العضد، واللّه لوتظاهرت الدنيا، على قتالي لما وليت عنها)).

إن زهد علي بن أبي طالب (عليه السّلام) لم يكن لنزوة طارئة ولا لحاجة مرحلية، بل هويستند على قانون ثابت مستقيم كما بيّنا. إذ وضع نصب عينيه مقولة الرسول العظيم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) منهجا له في تعامله مع قوانين الحياة .

إذ يقول عمار بن یاسر :

- سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول لعلي بن أبي طالب : یا علي، إن اللّه عز وجل قد زيّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها : الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماماً ورضيت بهم أتباعاً، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك.

إذن، فزهد الإمام علي ما كان إلا بأمر من اللّه على لسان رسول اللّه (صلّى

ص: 210

اللّه عليه وآله وسلَّم) فما عليه إلا التنفيذ ليكون موضع ثقة اللّه ورسوله .

فالإمام في زهده ما كان هدفه أن يرسم منهجاً للناس في انعكاسات سلوكهم على بعضهم، بل كان ينفذ أمراً صدر إليه من صاحب القرار الأوّل على لسان رسوله وخازن وحيه محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم).

ونحن نستدل على هذا من كتبه ورسائله إلى عمّاله ونصحه أصحابه الخلّص. من ذلك كلامه مع عاصم بن زياد الحارثي حين سمع عنه إنه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فدعاه (عليه السّلام)، فلما رأى ما هو عليه قال :

- يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى اللّه أحلَّ لك الطيبات وهل يكره أن تنالها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك.

قال :

- يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشومة مأكلك؟

قال :

- ويحك إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعف الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.

ومنه عهده لمحمد بن أبي بكر الذي جاء فيه :

((إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سکنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما أكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما

ص: 211

أخذ الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح)).

ومنه رسالته لعثمان بن ضيف واليه على البصرة جاء فيها :

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا المعسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أواليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الزهد، أوأكون أسوة لهم في جشوبة العيش).

أما ذكر الموت في منهج الإمام علي (عليه السّلام) - الذي ورد في ((النهج)) فأخذه المشككون حجة بعدم نسبته إليه - فهو مستمد من القرآن الكريم، الذي عاش الإمام (عليه السّلام) تفاصيله من بدايات الدعوة الإسلامية حتى وفاة الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وانقطاع الوحي؛ فقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالی :

{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( النساء/78) }.

وقوله - جل من قائل -:

{کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل

ص: 212

عمران (185) }.

وقوله عز وجل :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (الماندة/7)}.

وقوله جل شأنه :

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق/19)}.

وقوله جلت قدرته :

{کُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن27) }.

وقوله عز من قائل :

{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص/88) }.. الخ. {کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران (185) } {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ

ص: 213

{ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ(المائدة/.) } {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق/19) } {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن (29) }.{َلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص/88) }. الخ.

وهذا من الأمور البدهية لأن الإمام منذ نعومة أظفاره تربى في حجر النبوة ورضع من لبان الإيمان وبنى نهجه على وفق ما رأى وسمع وتلقى من تفاصيل الدعوة الإسلامية، بما فيها الوحي والسلوك اليومي للرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وما جرى في تضاعيف تلك الدعوة من صراعات قبلية ومذهبية وانشقاقية (ردَّات) وحروب، وغيرها فكونت الأساسات الإرتكازية لبناء الإمام الفكري والعقائدي الشامخ؛ فشخصٌ تلك ارتكازاته لا بد له أن يجعل منها منهجه في الحياة تفكيراً وتطبيقاً، وهكذا إن ما ورد في (نهج البلاغة) إن هو إلا خلاصة ما نشأ وتربى عليه الإمام (عليه السّلام) فهو إذن - منتسب إليه (عليه السّلام) بقضّهِ وقضيضه من ألفه إلى يائه بما فيه الزهد والموت وذم الدنيا.

ومبدأ ذكر الموت قائم بالأساس - ليس على التشاؤم واليأس والهزيمة من متطلبات الحياة - على أنه يذكر الإنسان بأن ((يعيش شجاعاً لا يرهب سلطاناً، ولا يجبن في نزال، ولا يكف عن القتال، كريماً لا يحرص على مال، عادلاً لا يظلم، بريئاً من الحرص والطمع، سالماً من الخبث والجشع، صابراً في البأساء

ص: 214

والضراء، شاكراً عند الشدة والرخاء، لا تزعزعه الشدائد ولا تثني عزمه الأوابد، عزيزاً لا يخزى ولا يذل، عاملاً بجد لا يكل ولا يمل، لا تريبه ريبة، ولا يجزع المصيبة، لا تفسده الشهوات، ولا تقوده اللذات، ولا تضعضعه البليات، لا يؤخر عملاً إلى غد مخافة أن يدركه الأجل فيفوته أجر العمل.

وهذا هو السبب في عز المسلمين في الغابر، وذلهم في الحاضر، فإنهم كانوا يذكرون الموت في جميع أوقاتهم، حتى أن أصحاب رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كانوا لا يتركون الوضوء مخافة أن تدركهم ساعة وهم محدثون، فلما أيقنوا أنهم صائرون إلى الموت لا محالة وكانوا ذاکرین له في جميع حالاتهم هانت عليهم نفوسهم فأرخصوها في سبيل اللّه، وجدوا في العمل فأدركوا غاية الأمل، ومن هانت عليه نفسه عز وأبي الذل، وكان ذلك شعارهم في جهادهم، وغزواتهم وأرجازهم وحروبهم.

هذا العباس بن علي (عليهما السلّام) في رجزه عند جهاده من هم أكثر منه عدداً وعدة :

لا أرهب الموت إذا الموت زقا*** حتى أداري في المصاليت لقى

إني أنا العباس أغدوا بالسقا*** ولا أخاف الشر عند الملتقى

وقد اقتدي بذلك بأخيه الحسين (عليهما السلّام) إذ يقول في رجزه :

الموت خيرٌ من ركوب العار*** والعارُ أولى من دخول النار

وقد جرى شعراء المسلمين وأدباؤهم، في صدر الإسلام، في هذا المجرى

ص: 215

فقال قائلهم :

وإذا لم يكن من الموت بدٌ*** فمن العار أن تموت جباناً

وما أحسن قول المتنبي حين قال :

إذا غامرت في أمرٍمرومِ*** فلا تقنع بما دون النجومِ

فطعم الموتِ في أمرٍ حقيرٍ*** كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ

وكانوا يعدّون نسيان الموت ضلالّاً، وذكره هدىً وكمالاً؟ فقال شاعرهم :

صاحِ شمّر ولا تزل ذاکرال*** موت فنسيانه ضلالٌ مبينٌ

بذلك حسنت حالهم، وصلحت أعمالهم، وأدركوا ما أملوا، وعز سلطانهم، وقويت شكيمتهم، وسخّروا البلاد، وخضعت لهم جبابرة العباد، ولما حلت الدنيا بأعينهم، وتناسوا ذكر الموت أسرعوا إلى اللذات وانقادوا إلى الشهوات، وهابوا الموت ففزعوا لكل صيحةٍ وصوت، وتداعت أركانهم، وتزعزع سلطانهم، فهلكوا وضلوا، وخابوا وذلوا، فذكر الموت حياة فيه رضى الرحمن، ونسيانه ممات فيه مرضاة للشيطان.

أما ذم الدنيا، الذي ورد في ((النهج)) فاتخذه المشككون قميص عثمان بعدم نسبة ما في ((النهج)) إلى الإمام علي (عليهما السلّام)، فهومردود أيضاً لأن الإمام (عليهما السلّا)م لم يرد بذم الدنيا بمعنى أن نعيش في كهوف حجرية ونغل أيدينا إلى أعناقنا وندير ظهورنا عما فيها مما خلقه اللّه للإنسان رحمة ونعمة، فهو الذي دعانا إلى أن نأكل ((من طيبات الدنيا)) وننعم بخيراتها من ماءٍ وشجر وطير وحيوان فالمال والبنون) هما ((زينة الحياة الدنيا)) فمن ترك ما خلق اللّه في الدنيا لخدمته

ص: 216

فهو ظالم نفسه في ترکه ما وهبه اللّه إياه، فيبوء بخسران مبين.

وتأسيساً على ذلك إن الإمام علي (عليه السّلام) لم يذم ما حلل اللّه في الدنيا، بل ذم ما حرّم، وما حرم ينسينا ذكر اللّه ونعمه علينا ويلهينا عما أوجبه علينا من إعداد أنفسنا لحياة الآخرة الدائمة.

فالدنيا في ((نهج البلاغة) على ضربين :

دنيا تطلب لذاتها مع الغفلة عما وراءها وهي المذمومة والتي ذكرها الإمام علي (عليه السّلام) بالذم.

ودنيا تطلب لما بعدها وتؤخذ من حلّها، وتنال من الوجه الذي أذن اللّه به وهي المحمودة - وقد أشار الإمام (عليه السّلام) إليها أيضاً - لأن ((الدنيا خلقت الغيرها ولم تُخلق لنفسها)). وهي (دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن يزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحبَّاء اللّه ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة).

فصفوة القول : إن أمير المؤمنين (عليه السّلام) یری ((أن ما أحل اللّه في الدنيا أكثر مما حرّم منها، وبمقدور الإنسان أن يتمتع بزينتها المحللة ويتناول من طيبات رزقها مع الحذر من اتباع الهوى، وطول الأمل)).

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ

ص: 217

يَعْلَمُونَ (الأعراف/32) }.

وإذا استعصى على الإنسان أن يتوصل إلى ذلك إلا بما حرّم اللّه، (فطوبى للزاهدين في الدنيا) (أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فرشاً، وماءها طيباً). و(وكلٌ مقتصر عليه كافا). و((وما خير بعده النار بخير، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعیم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية)).

ولهذا قال (عليه السّلام) ((واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً وأجد في الأغلال مصفداً، أحبُّ إليَّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام)).

تخلص من ذلك كله إلى أن (الزهد وذكر الموت وذم الدنيا)) في ((نهج البلاغة) إن هو إلا منهج اختطه الإمام علي (عليه السّلام) لنفسه لأنه وعى حقيقة الإسلام أكثر من غيره منذراً نفسه لمعطياته التربوية، فهوامتثال لأوامر اللّه بنفس راضية مرضية ولم يرد من ذلك هجر ما وهبه اللّه للإنسان والسكن في الكهوف والغابات بدليل أنه (عليه السّلام) تزوج وأولد أولاداً وأكل وشرب مما رزقه اللّه بالطيب الحلال، ولكنه في ذلك كله ما كان ينسى اللّه وفضله على العالمين فتجنب الباطل وتمسك بالحق في سلوكه اليومي فوصلتنا انعكاساته السلوكية من ناحية المعطى الفكري من خلال ((النهج)) فهو له ومنه و إليه يعود بالنسب الصحيح والقول الصريح.

ص: 218

13_ وصف الحياة الاجتماعية

ومما تعكزوا عليه من تشكيك في نسبة ((النهج)) إلى الإمام علي (عليه السّلام)، قول أحدهم : ((إن فيه وصف الحياة الاجتماعية على نحو لم يُعرف إلا في عصور متأخرة..)) لأنه رأى أن ما ورد فيه (يشكل طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق، وفي الذمم والضمائر ووصفا للقضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة)).

نفهم من كلام ((أحدهم)) هذا أن الإمام علي (عليه السّلام) تناول في ((النهج)) :

1 _ الولاة

2 _ القضاة

3_ العلماء

بما ((لم يُعرف إلا في عصور متأخرة)).

في الواقع إني ما كنت راغباً في خوض هذا الموضوع، ولما ألَّخ عليَّ المنهج

ص: 219

قررت أن أمرَّ به مروراً سريعاً لا لأنني أفتقر لأدوات الرد إنما لأن الموضوع، من أساسه عنكبوتي النسج في مقدماته ونتائجه، ولكن - وبعد إطراقة من التفكير والتأمل - وجدت أن الواجب يدعوني أن أفصّل فيه بعض التفصيل فأغوص في أعماق بحره لأُرِيَ الذين شدوا عيونهم بخرق سود لئلا يروا الشمس ساطعة فأنكروا عليها سطوعها.

أقول.. لأُرِيَهُم أن في بحر علي بن أبي طالب لمرجاناً كثيراً وياقوتاً مختلفةٌ ألوانه.

لا شك أن أي متتبع - موضوعياً كان أوغير موضوعي - يعرف أن التاريخ الإسلامي - منذ بدء الدعوة المحمدية حتى نهاية الحكم الراشدي - كان يتميز بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي وغيرها من مرتكزات أي نظام، وذلك أمر طبيعي لأن ما جاء به الرسول محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بوحي من اللّه، لم يكن بالأمر الهيِّن ولا هومن طراز التغييرات الشكلية في البني الفوقية، أوالهيكلية المعروفة في ذلك العهد، أو غيره، مما قبله وبعده، بل كان يهدف إلى تغيير جذري وشامل في البناء الفوقي، ليس في الجزيرة العربية حسب، بل في العالم كله.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء/107) } والعلاقات التحتية مع قمة ذلك الهرم المبني على علائق اجتماعية غاية في التخلف السياسي والاقتصادي والفكري، هو قائم على مرتكزين أساسيين هما : ((السيد والمسود)) أو((المالك والمملوك)).

ص: 220

وأي خروج على ذينك المرتكزين كان يُعد خروجاً على قيم هي موضع اعتزازهم الشديد، بل هي مما لا يمكن السكوت على أي تغيير يحصل في بنائه الهرمي ذاك، لأنها كانت متجذرة في عمق التاريخ العربي، ولكن جاءت الدعوة الإسلامية فخضخضت ذلك البناء فوجدته ((نمراً من ورق)) فوضعت على مرتكزاته معول الحق فانهار انهياراً عجيباً، وعبثاً كانت محاولاته في لعق جراحاته لأن معول الإسلام كان يحفر في العمق من ذلك الجذر ليقتلعه من أساسه، وهكذا بدأ الإسلام يؤسس مرتكزات جديدة لبناء قيم جديدة عليها بما لم تألفه الجزيرة العربية؛ إذ جعل العبد بإزاء سيده، بل فضّله أحياناً عليه :

((لا فضل القرشي على حبشي إلا بالتقوى)).

((كلكم لآدم وآدم من تراب)).

((كلكم سواسية كأسنان المشط)).

((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته))

((المسلمون إخوة))

{یَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات/3) }.

وتلك القيم الجديدة لا شك أنها ليست جديدة عليهم في التلقي ووجوب التنفيذ حسب، بل هي مما شكلت صفعة قوية لذلك الموروث المتجذر في أعماق

ص: 221

النفس العربية :

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.

ودليلنا أن أول من آمن بالدعوة الإسلامية، في ساعاتها وأيامها الأُوّل هم أولئك العبيد الذين ارتبط مصيرهم بأراضي أسيادهم كالحيوان والشجر بل الحيوان والشجر أفضل منهم لأنهما كانا يجدان من يخدمهما ولكن العبيد قد ((خُلقوا للخدمة ..! )) فقط فلا أحد يقيم وزناً لآدميتهم وتركيبهم الإنساني من مشاعر وعواطف وأحاسيس، حتى كانت الشرارة الأولى لثورة الحق فزحفوا نحوها وحملوا مشاعلها في طريق وعر لاحب.

أما السادة - ما خلا النفر القليل منهم - فقد دخلوا الإسلام مضطرين غير مؤمنين ليحافظوا على مياه وجوههم ومراكزهم الاجتماعية إزاء هذا الزحف النوراني الكبير.

ولكن هل يبقى أولئك السادة مستسلمين لهذا التغيير الجذري الشامل؟

إن التاريخ ليذكر - منذ بدء التدوين - إن لكل ثورة سقوطاتها على الطريق، وثمة عبارة تقول : (الثورة تأكل أبناءها)) وهذا أمر طبيعي جداً، خاصة في ثورة مثل الثورة الإسلامية الانقلابية ذات القيم الشمولية الجذرية، وقد ألمحنا إلى ذلك في فقرة سابقة إذ ما إن استقرت الأوضاع لصالح الإسلام - كعقيدة - في الجزيرة العربية في الأقل حتى بدأ التململ يشكل ظاهرة، في صفوف (عِليَّة) القوم فكانت الآيات القرآنية تنزل تباعاً ناصحة حيناً ومرشدة أحياناً ومحذرة مرة ومتوعدة تارةً وناعتة إياهم ب(المنافقين) و(الماكرين))، و((المجرمين)) كما

ص: 222

نعتهم بالكذب والزور والبهتان والرياء والخديعة، وما إلى ذلك من صفات أولئك الذين دخلوا في دين اللّه ل(تطمين) مصالحهم مضطرين حيال هذا الزحف الذي أفقدهم صوابهم.

وبعد صحوتهم تلك صاروا يخططون للالتفاف على (الثورة) فأبدوا تقرباً عجيباً من قيادتها الأساسية ((محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم))) ثم من القادة الذين أعقبوا الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فتغلغلوا في المناصب المختلفة، السياسية منها والإدارية والفقهية والقضائية والعسكرية، وبذلك استطاعوا أن يبسطوا نفوذهم على الهيكل الهرمي لدولة الإسلام - خاصة بعد رحيل الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إلى اللطيف الخبير - ليس بالنمطية العربية قبل الإسلام، بل بنمطية جديدة تتفق والواقع الجديد، بازدواجية غير منظورة إلا لمن يمتلك إدراكاً حسياً عالياً ومجسّات غاية في التحسس مثل الإمام علي (عليه السّلام)؛ فهم أما أن يكونوا تجاراً أوأرباب مهن فهؤلاء صاروا - باسم الإسلام - يوسعون قاعدتهم على حساب القيم الجديدة وباسمها.

فماذا ننتظر من الإمام علي (عليه السّلام)، وهو الذي يمتلك ((أُذناً واعية)) ورضع لبان العلم من رضاب رسول الرحمة وقائد التغيير الجذري الشامل؟

هل يدع أولئك على ((كيفهم)) يحفرون لهم أسساً جديدة ويضعون فيها مرتكزات جديدة مخالفة - في تخطيطها وهندستها - ما جاء به الإسلام؟ أم يتصدى لهم لتبصيرهم أولاً ولتحذيرهم ثانياً ولتعريفهم للرعية ثالثاً ؟

ص: 223

ذلك ما فعله منذ أول بادرة ظهرت للانحراف عن مبادئ الإسلام فقال عن أولئك (المتاجرين)) بالإسلام : ((المقيم منهم والمضطرب بجماله والمترفق ببدنه، فإنهم مطرد المنافع، وأسباب المرافق، وجلّا بها من المباعد والمطارح، في برِّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فإنهم سلم لا تُخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك..)). وأردف قائلاً : ((واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد فيك إياه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف)).

ليس بتلك الإشارة التبصيرية وحدها أشار الإمام (عليه السّلام) إلى عامله على مصر، بل ترصد تحركا آخر هوإبقاء الأرض يباباً بلا عمران لتظل أمور أولئك ((التجار)) ((ماشية)) في التفافهم على مبادئ القيم الجديدة مما جعل الإمام ينبّه عامله مالك الأشتر على مصر بقوله : ((وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء أوقلة انتفاعهم بالعير.. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن

ص: 224

ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن يشكوثقلاً أوعلة أو انقطاع شرب أوبالّة (أي مطر يبل الأرض)، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أوأجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجوأن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قولهم؛

بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم .. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد، احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل بما حملته)).

ولأنه (عليه السّلام) يعلم بنواياهم ومقاصدهم ونوازعهم وركضهم الحثيث وراء منافعهم الذاتية . نراه في اليوم الثاني من بيعته خطب قائلاً :

((أيها الناس إنما أنا رجل منکم، لي ما لكم.. وعليَّ ما عليكم.. وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أُمرت به، إنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق، أيها الناس.. ألا لا يقولن رجال منكم - غداً - قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرفقة - إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم أي حقوقهم التي يعلمون : ((حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا).. ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللّه يرى أن الفضل له على سواه بصحبته فإن الفضل غداً عند اللّه وثوابه وأجره على اللّه .. ألا وأيما رجل استجاب اللّه ولرسوله

ص: 225

فصدق ملتنا ودخل دینا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم عباد اللّه، والمال مال اللّه، يقسم بینکم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد. وللمتقين عند اللّه أحسن الجزاء، فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء اللّه، ولا يتخلفن أحد منكم.. من أهل العطاء).

فهل يرضي ذلك أولئك الذين لم يعتنقوا الإسلام إلا بعد أن رأوا فيه واقعاً لا محيص عنه فرفعوا راية الاستسلام بدل راية الإسلام، ولكنهم ظلوا يتحينون الفرص لاستعادة (مجدهم)، ولما تولى الإمام علي (عليه السّلام)، الأمر وصار يحكم بمبادئ القرآن وسنة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) توجهوا إليه بطريقة التفافية أن يخفف عنهم في سياسته، أجابهم (عليه السّلام):

((أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟

واللّه ما أطور به ما سمر سمير وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً..! لوكان المال لي لسويت بينكم، فكيف وإنما المال مال اللّه ؟

ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهويرفع صاحبه أويضعه في الآخرة)).

وهذه السياسة إن وافقت بعض المسلمين المؤمنين حقاً بمبادئ الإسلام فإنها لا توافق أولئك الذين أعمت الدنيا بصائرهم فأنستهم نقاء المبادئ وصفاء العقيدة وبهاء القيم النبيلة التي جاء بها الإسلام، الذي ساوى بين العبد وسيده وجعل التقوى مقياساً يعرفُ به المسلم المؤمن من المنافق، وأبرز ما في المساواة الصلاة والزكاة والحج، إذ أن الصلاة يستوي فيها العزيز والذليل ويقفان موقفاً بمكان

ص: 226

واحد، ينطقان بالألفاظ نفسها ويأتيان بالحركات نفسها، ونلمس في الزكاة التي تؤخذ من الغني بعض عروض الحياة لترده على الفقير حتى يشعر کلاهما، وإن باعدت بينهما الأنساب بشعور الإخاء، ونلمسها في الحج، تزدحم بأرضه المقدسة أقدام الرجال والنساء، فلا يميز بينهم فارق واحد، بمناسك الحج حفاة شبه عراة لا يسترهم إلا ذات اللباس يستوي فيه كافة الناس أردية الأكفان، التسوية الحقة هي جماع الإسلام والغاية التي هدفت إليه شعائره وتعاليمه وأتاح لهم جميعاً تكافؤ الفرص في موقفهم أمام اللّه)).

وهذا ما انتهجه الإمام علي (عليه السّلام) في سياسته المالية إذ :

((دخل على بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فجعل يقول : يا صفراء غري غيري، ويا بيضاء غرّي غيري .. وأدام النظر إلى المال مفكراً، ثم قال :

((أقسموه بين أصحابي ومن معي خمس مئة خمس مئة، ففعلوا فما نقص درهم واحد، وعدد الرجال إثنا عشر ألفا)).

و((كان يخف دائماً إلى تقسيم الأعطيات على الناس، كلما اجتمع لديه منها شيء، ويكره أن يؤخرها عنهم، كأنما يتأثم من إرجائها، أواكتنازها إلى حين)).

وكان يخاطب أهل الكوفة بقوله : ((يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي، فأنا خائن)).

ص: 227

لقد كان (عليه السّلام) حريصاً على أموال المسلمين شديداً مع ولاته إن هم حادوا عن الطريق القويم، إذ كتب يوماً إلى زياد بن أبيه :

((وإني أقسم باللّه قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت في المسلمين شيئاً صغيراً وكبيراً، لأشدنَّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر، ضئيل الأمر..)).

وخاطبه في كتاب آخر : ((فدع الإسراف مقتصراً، واذكر في اليوم غداً ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتها، أترجوأن يعطيك اللّه أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة - أن يوجب لك ثواب المتصدقين ؟ وإنما المرء مجزيٌّ بما سلف وقادم على ما قدم.. والسلام)).

وكذلك خاطب الأشعث بن قیس عامله في آذربايجان، بقوله :

((وإن عملك لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعي لمن فوقك، ليس لك أن تفتات (أي تستبد) في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يدك مال من مال اللّه عز وجل، وأنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك.. والسلام)).

أما مصقلة بن هبيرة الوالي على بعض مقاطعات فارس فقد ألزمه (عليه السلّام)، بإعادة المبلغ الذي أخذه من بيت المال، والذي أنقذ فيه من الأسر خمس مئة رجل معضمهم من بني بكر بن وائل قوم مصقلة، فقال له في كتاب :

((بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، إنك

ص: 228

تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم، في من اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك علي هواناً ولتخفّن عندي میزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً)).

ولما طلب منه (عليه السّلام) المغيرة بن شعبة أن يبقي على الولاة الذين ولاهم عثمان أجابه (عليه السّلام) بحزم:

(( واللّه لوكان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا وليت هؤلاء. لا مثلهم يُولّي)).

ولما أكد المغيرة على إبقاء معاوية لأن له ((جرأة، وهو في أهل الشام يسمع منه..)) أجابه بالحزم نفسه :

((لا واللّه .. لا أستعمل معاوية يومين أبداً)).

وكذلك عندما طلب إبن عباس منه ذلك (عليه السّلام) أجابه :

((لا واللّه، لا أعطيه إلا السيف)).

ويرفع شعاره الذي اتخذه مرتكزه الأساس في سياسته العامة وهو :

((إن الرعية لا تصلح إلا بصلاح الولاة).

ويطرح معادلة الموضوعي في الربط بين الراعي والرعية فيقول عليه السلام :

((.. وأعظم ما افترضه سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية

ص: 229

وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلِّ على كلِّ، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم)).

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها إلا السنن، فصلح بذلك الزمان، فطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها، أوأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الأدغال في الدين (أي الفساد) وتركت حجاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش العظيم حق عُطِّل، ولا العظيم باطل فُعل..

فهناك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات اللّه سبحانه عند العباد فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد - وإن اشتد على رضا اللّه حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللّه سبحانه أهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق اللّه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - يفوق أن يُعان على ما حمّله اللّه من حقه، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أويعان عليه .

وجعل (عليه السّلام) من العدل جادته التي لا يحيد عنها وشمسه التي يستحم

ص: 230

بدفئها ويستنير بضيائها، وفي هذا الإطار يكتب إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان بفارس فيقول (عليه السّلام) :

((أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض عن العدل. فاجتنب ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك راجياً ثوابه، ومتخوفاً عقابه.

واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها منها قط ساعةً إلا كانت ضرعته عليه حسرة يوم القيامة.

وإنه لن يغنيك عن الحق شيء أبداً، ومن الحق عليك حفظ نفسك، الاحتساب على الرعية بجهدك، فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام)).

ويجمل (عليه السّلام) صفات الوالي العادل بقوله :

((إن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل، هُدِيَ وَهَدى، فأقام سنةً معلومة وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن النيرة، لها أعلام وإن البدع لظاهرة لها أعلام، وإن شر الناس عند اللّه إمام جائر ظَلَّ وظُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول :

((يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عابر، فيلقي في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها)).

ويستعمل الإمام علي (عليه السّلام) المتقابلات في معادلات حسابية بسيطة

ص: 231

لتوضيح معنى العدل ومعنى العلاقة بين العامة والخاصة، أي بين الراعي والرعية فيقول (عليه السّلام) من كتاب إلى مالك الأشتر:

((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند العطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر - من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم)).

وكان (عليه السّلام) يوصي عماله بعدم الاحتجاب عن الرعية ويدعوهم إلى مخالطتهم ليسمعوا منهم وليقفوا على همومهم وتطلعاتهم.

قال (عليه السّلام) يوصي قثم بن العباس عامله على مكة :

((لا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك ولا تحجين ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذیدت عن أبوابك في أول ردها، لم تُحمد فيما بعد على قضائها)).

وكتب (عليه السّلام) إلى الأشتر يوصیه :

((.. فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية، شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب عنه علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب

ص: 232

الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على الحق سمات تُعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين؛ إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل کریم تسديه، أومبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عنك مسألتك إذا أيسوا من نبلك ؟ مع أن أكثر حاجات الناس إليك من لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أوطلب لإنصاف في معاملة .. واجعل لذوي الحاجات قسماً تُفَرِّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه اللّه الذي خلقك، وتُقعِد عنهم جندك وأعوانك، من حرسك وشُرطك، حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع.. .

ثم احتمل منهم الخرق والعين (الخرق : العنف. والعين : العجز عن النطق) ونحِّ عنهم الضيق والأنف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بد من مباشرتها، منها إجابة عمالك، بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك)).

وحذر (عليه السّلام) الأشتر من أولئك الذين قلنا أنهم اعتنقوا الإسلام لا بسبب إيمانهم بمبادئه بل لكونه صار أمراً واقعاً فخافوا على مصالحهم وامتيازاتهم فانخرطوا في صفوفه، ومع ذلك فقد تغلغلوا في المناصب العليا فقال (عليه السّلام) يوصي الأشتر ويحذره منهم :

((إن شر وزرائك من كان للأشرار من قبلك، وزيراً ومن شركهم في

ص: 233

الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأئمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك ألفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم يمرِّ الحق، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك، مما كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهووتدني من الغرة)). |

ثم يعكس المعادلة فيوصيه باختيار من هم بالمروءة ألصق وكذلك بالكرامة والشرف والصدق، إذ أنهم من يؤتمن جانبهم فلا يخونون صاحبهم، فقال (عليه السّلام) :

((ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف (أي المعروف)).

وبعد أن ينتهي (عليه السّلام) : من إيصائه باختيار رجاله يوصيه بكبح جماح نفسه وصدها عن الشهوات تبعده عن دينه وتخلخل إيمانه، إذ يقول (عليه السّلام) :

((وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أوكرهت، وأشعر، قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم ... ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم

ص: 234

أكلهم ... اجتنب ما تنكر أمثاله ... إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، فيقولون فيك ما كنت تقول فيهم)).

ثم يخلص (عليه السّلام) من الخاص إلى العام فيحلل النفس الإنسانية تحليلاً علمياً لن يقول بغيره أحد علماء العصر. إذ يقول (عليه السّلام) : ((الناس صنفان : أما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم وتعرض لهم العلل، ویؤتی على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولاك).

ثم حدد له أسس التعامل مع رعيته بما يضمن سلامة الحكم وتكافؤ الفرص وإشاعة الأمن والاستقرار، ونشر العدالة الإنسانية إذ يقول (عليه السّلام) :

((لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة)).

ثم ((لا تنقض سنَّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الأجر لمن سنّها والوزر عليك بما نقضت منها)).

ثم ((وأكثِر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبیت صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك)).

ثم ((إياك والمن على رعيتك بإحسانك والتزيد فيما كان من فعلك أوأن

ص: 235

تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت، عند اللّه والناس، قال تعالى :

{کَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف (3) }.

ثم يذكر (عليه السّلام) شروط الوالي (الحاكم) فيأتي بالسبب ونتيجته في صفات عديدة للوالي، فيقول (عليه السّلام):

((وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين - البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيظلهم بجهله، ولا الجاني فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنَّة فيهلك الأمة)).

وروي أن شريح بن الحارث القاضي، اشترى على عهده (عليه السّلام) داراً بثمانين دیناراً، فبلغه ذلك فاستدعى شريحاً وقال له :

((بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ًديناراً، وكتبت لها كتاباً وأشهدت فيه شهوداً.

فقال شریح : قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فنظر إليه (عليه السّلام) نظرة المغضب ثم قال :

((يا شريح أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً. فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، وتقدت الثمن غير حلالك : فإذا أنت قد خسرت

ص: 236

دار الدنيا ودار الآخرة! أما أنك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب بشراء هذه الدار بدرهم فما فوق)).

أما عثمان بن حنيف الأنصاري، عامل الإمام علي (عليه السّلام) في البصرة، فقد دعي إلى وليمة قوم من أهل البصرة، فمضى إليها، فبلغ ذلك الإمام علي (عليه السّلام) فكتب إليه مستنكراً ذلك قائلاً :

((أما بعد يا ابن حنيف، فإن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قومٍ، عائلهم مجفووغنيهم مدعرفانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)).

ثم تحدث (عليه السّلام) عن منهجه في الحكم فدعا الولاة أن يعينوه على إنجاح هذا المنهج فقال (عليه السّلام) مخاطباً ابن حنيف :

((ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (أي ثوبيه الباليين) ومن طعمه بقرصيه (أي رغيفيه)، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنیاکم تبراً. ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي قمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت انان دبرة (الأنان : التي عقر ظهرها فقل أكلها )وهي في عيني أوهی وأهون من عقصة مقرة ... وإنما هي نفس أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر،

ص: 237

وتثبت على جوانب المزلق (كناية عن الصراط)، ولوشئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثی وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داءٌ أن تبيت ببطنةٍ*** وحولك أكبادٌ تحن إلى القدٌ

أقنع من نفسي أن يقال : هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش !فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة إلى شغلها تقممها (أي أن البهيمة السائبة شغلها أن تلتقط القمامة) تكترش من أعلافها، وتلهوعما يراد بها، أوأترك سدى أوأهمل عابثاً، أوأجر حبل الضلالة، أوأعتصف طريق المتاهة)).

ثم لم يكتف (عليه السّلام) بمحاسبة ولاته عن أي حيدة عن الطريق الذي رسمه لهم الإسلام بل صار يحاسب نفسه أيضاً، وكمثال على ذلك نقرأ قوله (عليه السّلام) وقد أرسل إليه أحد ولاته هدية هي عبارة عن حلوى ملفوفة في وعاء فقال (عليه السّلام) :

((وأعجب من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونة شنيتها أي : كرتها)، كأنما عجنت بريق حية أوقيئها، فقلت :

((صلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية. فقلت : هبلتك الهبول (أي : المرأة التي لا يعيش لها ولد) عن دين اللّه أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذوجِنّة أم تهجر (أي : تهذي).

ص: 238

واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّه في نملة.. أسلبتها جلب (أي : قشرة) شعيرة ما فعلتها، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة، ما لعليِّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ باللّه من سبات العقل، وقبيح الزلل، وبه نستعين)).

وقصة النجاشي شاعر الإمام الذي طالما مدحه وهجا خصومه، والذي تعرض هوالآخر إلى الجلد بعد أن وجده الإمام مفطراً في رمضان وثملاً من السكر ليست بعيدة عن الأذهان.

كما أن الإمام قد حذّر من بعض القضاة الذين استغلوا مهنتهم لمآربهم الشخصية فقال (عليه السّلام):

((إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان :

رجلٌ وكله اللّه إلى نفسه، فهوجائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، ودعاء خلاله، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله فضلُّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته حمّالُ خطايا غيره، رهن بخطيئته .

ورجلٌ قمش جهلاً، موضعٌ (أي : أمرع) في جهال الأمة عاد في إغباش الفتنة، غم بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع، ما قل منه من خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماءٍ آجن واكتز من غير طائل، جلس بين القوم قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشهوات في

ص: 239

مثل نسج العنكبوت؛ لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاشٍ رکاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليّ - واللّه - بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل لما فُوِّض إليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ولا يرى أن من ورائه ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمراً اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج من المواريث.. وآخر قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضلال. ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، وقد حمل الكتاب (یرید : القرآن الكريم) على أراء، وعطف الحق على أهوائه، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول أعتزل البدع وبينها اضطجع.

فأولئك هم الذين : ((المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امريء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرىً ثقات وألباب محکمات)).

ووضع (عليه السّلام) أسساً لمواصفات الفقيه، فقال :

((الفقيه، كل الفقيه : من لم يقنط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه ولم يؤمنهم من مكر اللّه)).

تلك كانت - قارئي العزيز - إضمامة من أقوال الإمام علي بن أبي طالب في وصف ((الحياة الاجتماعية)) في زمانه تناول فيها الولاة والقضاة والعلماء، ومن خلالهم رسم منهجاً علمياً للقوانين الإدارية والسياسية والاقتصادية

ص: 240

(والاجتماعية بصورة عامة) يصلح لكل زمان ومكان إلى يومنا هذا، فهو منهج تمخض عن توقد ذهن الإمام (عليه السّلام) الثاقب ونظرته الشاملة إلى الحياة العامة .

فإذا كان ذلك لدى البعض لم يعرف إلا في عصور متأخرة (كما ادّعى أحدهم) فما ذنب الإمام (عليه السّلام) وقد سبق عصره والعصور التي أعقبته، ولو أمعن النظر هذا (الأحدهم) في الحياة الاجتماعية (الإدارية والسياسية والاقتصادية) في عهود الخلفاء الراشدين الثلاثة (أبوبكر وعمر وعثمان) لوجد أن الإمام علي (عليه السّلام) كان له الحضور الفاعل والمؤثر في مفاصل سياسة تلك العهود بل لم يستطع أي منهم تجاوزه في المشورة وحل المعضلات السياسية والإدارية والاقتصادية والقضائية. ولعل شهادة عمر بن الخطاب تغنينا عن كثير من الأدلة (الثبوتية ...!) من أنه (عليه السّلام) كان منقذ عمر من مطبات كثيرة؛ أليس هو القائل :

- ((لولا علي لهلك عمر))؟

- ((لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر)).

- ((علي أقضانا))

- ((لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبوالحسن)).

ثم أليس هومن استشار الإمام (عليه السّلام) حين أراد الخروج بنفسه إلى غزوالروم فأشار عليه الإمام علي (عليه السّلام) بقوله :

((إنك متی تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين

ص: 241

کانفة (أي : عاصمة) يلجؤون إليها، دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره اللّه فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت رداء للناس ومثابة للمسلمين)).

وعندما أراد عمر أن يشخص بنفسه لقتال الفرس استشار الإمام علي (عليه السلّام) فأشار عليه :

((إن هذا الأمر لم يكن نصره وخذلانه بكثرة ولا بقلّة، وهو دين اللّه الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من اللّه، واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام (أي السلك) من الخرز، يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق الحرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزیزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وآصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض إنتعضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم مما بين يديك.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب فإن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة)).

تلك هي الشهادة التي لا يحتاجها الإمام ولكننا سقناها إلى أولئك الذين

ص: 242

سلكوا في كتاباتهم ((درب الصد ما رد)) في تشكيكهم بنسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي، ومنه هذه الفقرة التي نحن بصددها، علّهم يتلمسون طريق العودة من ((در بهم...! )) ذاك إلى جادة الصواب والحق. وعند ذاك لن يستكثروا على مثل الإمام علي (عليه السّلام) أن يصف الحياة الاجتماعية بمثل ما وصف لأنهم سيدركون أن عصر الإمام، وعهده في الحكم - خاصة - كان شديد الاضطراب - على قصره - وعهدٌ تلك سمته لابد أن تختلط فيه الأوراق كما ((يختلط الحابل بالنابل)) فتهتز نفوس وتضطرب أخرى وتُغرى ثالثة بمباهج الحياة الدنيا فيقصر النظر ويضيق الإدراك وتتقاصر البصيرة .. حينذاك لابد من شخص يتمتع بقدرات ذهنية استثنائية ليعالج تلك التخلخلات والإنثلامات في المجتمع، فكان ذلك الشخص هو الإمام علي (عليه السّلام) وكانت معالجاته في تلك الخطب والأحاديث والوصايا والمراسلات التي ضمها ((نهج البلاغة)).

فهل ذلك كثير على الإمام علي (عليه السّلام)؟ الذي وصفه الرسول الكريم بأوصاف ما وصف مثله قط، وقد وقفنا على بعضها في كلام لنا فائت. فضلاً عن أقوال الخلفاء الراشدين فيه، بل حتى أقوال خصومه، كمعاوية وعمروبن العاص وغيرهما.

إن قليلاً من التروي في إلقاء الكلام سيجعل من صاحبه منصفاً ومتصفاً بالنزاهة والأمانة التاريخية.

نرجو أن يكون أولئك المشككون من هؤلاء الرجال - الذين وصفنا - يوماً ما إن كانوا أحياء وإن ماتوا فنرجوهم غفراناً من ربِّ رحيم.

ص: 243

ص: 244

الضوء الثالث: من خصائص نهج البلاغة

إشارة

ص: 245

ص: 246

من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أن توافرت على خصائص (النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها کلام علي (عليه السّلام) فاکتفیت بالذي وجدت.

وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص :

ص: 247

1_ الخاصية العلمية

لا غرابة إذا ما اختص کلام الإمام علي (عليه السّلام) بالعلم لأنه باب مدينة العلم، والأذن الواعية، لذلك نراه قد سبر أغوار العلم، مثلما سبر أغوار المعارف الإنسانية الأخرى، وهو الذي يقول :

((... بل اندمجتُ (أي : انطويتُ) على مكنون علم لوبُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية (الحبال) من الطويِّ البعيدة (أي : البئر العميق).

ويخبرهم بما سيلقون في المستقبل ما لا يعرفون، فيقول (عليه السّلام):

((... والذي بعثه بالحق لتُبليُنَّ (من البلية) ببلبلةٍ ولتُغربلُنَّ غربلةً ولتُساطنَّ سوط القدر (أي : خلط ما في القدر فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها عند الغلي)، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنَّ سابقون كانوا قصروا، وليُقصّرنَّ سابقون كانوا سبقوا. واللّه ما كتمت وشمة (كلمة) وكذبت كذبة، ولقد نُبِئتُ بهذا المقام وهذا اليوم)).

وذم - (عليه السّلام) - اختلاف العلماء في الفتيا بقوله :

ص: 248

((ترد على أحدكم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم (أي الذي ولَّاهم القضاء) فيُصِّوب آراءهم - وإلههم واحد! ونبيهم واحد! وكتابهم واحد! فأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه! أم ماهم عنه فعصوه؟)).

وتناول أدعياء العلم من الجهلة بقوله (عليه السّلام):

((وآخر تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جُهّال، وأضاليل من ضلّال، ونصب للناس أشراكًا من حبائل غرور، وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمّن الناس من العظائم، ويهوِّن كبير الجرائم، يقول : أقف عند الشبهات، وفيها وَقَع؛ ويقول : أعتزل البدع، بينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حیوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه، وذلك ميت الأحياء)).

ويعكس الصورة (عليه السّلام) فيتحدث عن أولئك الذين اتخذوا من العلم قوتهم اليومي حتي رسخوا فيه، فيقول (عليه السّلام) :

((وأعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَد (الرُتاج) المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب. فمدح اللّه تعالی اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً وسمّی تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا)).

ص: 249

وعرَّف العالم تعريفاً بسيطاً وموجزاً فقال (عليه السّلام) :

(( العالم من عرف قدره..)).

ودعا إلى امتياح العلم والتسلح به فقال (عليه السّلام) :

((.. فبادروا العلم من غير تصویح (تجفيف) نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار (ظهور) العلم من عند أهله)).

وتحدث عن العالم الذي يخالف علمه في انعكاساته السلوكية في تطبيقاته العملية، فقال (عليه السّلام) :

((... وان العالم العامل بغير علمه کالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوَم (أشدّ لوماً).

وأخبر أصحابه - (عليه السّلام) - بمقدار علمه فقال :

((ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غیبه، إذن لخرجتم إلى الصُعُدات (الطرق) تبكون على أعمالكم وتلتدمون (تضربون وجوهكم كالنساء) على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها)).

وبيّن - (عليه السّلام) - أهمية العلم في حياة الإنسان لدفع حضارته إلى أمام فقال :

((.. لا تُفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تُكشَف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمي حماه، وأرعی مرعاه، فيه شفاء المستشفي، وكفاية المكتفي)).

وأوضح - (عليه السّلام) - إن العلم يهدي إلى الطريق الأقوم فقال :

ص: 250

((العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح)).

وكان - (عليه السّلام) - يدعو الناس أن يسألوه عن طرق السماء فإنه أعلم بها من طرق الأرض بقوله :

((سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)).

وعلامة المتقي عنده - (عليه السّلام) - أن له :

((حرصاً في علم، وعلماً في حلم.. يُخرج الحلم بالعلم، والقول بالعمل)).

وعن الذين أودعوا العلم ليحفظوه، قال (عليه السّلام):

((واعلموا إن عباد اللّه المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه)).

وأوصى ابنه الحسن بقوله :

((ولا تقل ما لا تعلمه وإن قلَّ ما تعلم)).

وقال - (عليه السّلام) -:

((رُبَّ عالِم قد قتله جهله، وعِلمه معه لا ينفعه).

وعن صفة خلق آدم - (عليه السّلام) - تحدث - (عليه السّلام) - بلغة علمية فقال :

((ثم جمع - سبحانه - من حَزَن الأرض وسهلها، وعذابها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى ألزبت فجبل منها صورة ذات أحناء

ص: 251

ووصول وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقتٍ معدود، وأمدٍ معلوم، ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها، وفِكرٍ يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرّق بها بين الحق والباطل، والأذواق والشام والألوان والأجناس، معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، واستأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود له والخشوع لتكرمته)).

ووصف (عليه السّلام) إنشاء الأرض بدقة علمية فقال :

((وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأوَد، والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج، وأرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستغاض عيونها وحذّ أوديتها؛ فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قوّاه، هوالظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته ..)).

ص: 252

2_ خاصية التسلسل المنطقي للوصول إلى الحقيقة

قال - (عليه السّلام) - في المتديّن :

((أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف اللّه -سبحانه - فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حدّه فقد عدّه ومن قال فيمّ فقد ضمّنُه، ومن قال علامَ فقد أخلى منه)).

وفي إثبات وجود الخالق - جل شأنه - قال - (عليه السّلام) -:

((كائن لا عن حَدَث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، (أي : مفارقة)، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سکن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.

أنشأ الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً، بلا رويَّة أجالها، ولا تجربةٍ استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائتها وأحنائها).

ص: 253

3_ وصف السماء جغرافيا

ليس غريباً على الإمام علي (عليه السّلام) أن يصف خلق السماء ومنحنياتها ومعارجها ونجومها وكواكبها وسكانها وحفظتها؛ فهو القائل : ((سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)).

يقول الدكتور صبحي الصالح في مقدمته على تحقيق (نهج البلاغة) :

(إن (نهج البلاغة) ليظم طائفة من خطب الوصف تبويء علياً ذروة لا تُسامی ببن عباقرة الوصافين في القديم والحديث، ذلك بأن علياً - كما تنطق نصوص (النهج) - قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور؛ صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات کاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين (نماذج) شاخصة. وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المّصورة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويلهم الرشاد).

فمن أوصافه - إذن - ما وصف به السماء وما تحتويه فقال - (عليه السّلام) : ((... ثم أنشأ - سبحانه - فتق الأجواء وشق الأرجاء وسکائك الهواء،

ص: 254

فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلَّطها على شَدِّهِ، وقرنها على حدّهِ. الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ - سبحانه - ريحاً اعتقم (أي : جعلها عقيماً إلا للتحريك) مهبّها وأدام مربها وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السِقاء، وعصفت به عصفها بالقضاء، تردُّ أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، (أي : الساكن والمتحرك) حتى عبَّ عبابه، ورمی بالزبد رکابه، فرفعه في هواء منفهق (المفتوح الواسع) فسوَّى منه سبع سماوات جعل سفلاها موجاً مكفوفاً (أي الممنوع من السيلان) وعُلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً بغير عمدٍ يدعمها، ولا دسار ينظمها، ثم زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً وقمراً منيراً . في فلكٍ دائر، وسقف سائر، ورقيمٍ مائر، (أي : لوح متحرك)، ثم فتق ما بين السماوات العلى، فملأهن أطواراً من ملائكته منهم سجود لا يركعون، ورُكّع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نور العين ، ولا سهوالعقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، ألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة الأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة في السماء العليا أعناقهم، والخارجة إلى الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم (أي : دون العرش)، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين قن دونهم، حجُب العزّة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر)).

ص: 255

4_ إشارات تاريخية

من خلال خطبه وأحاديثه ووصاياه ذكر (عليه السّلام) حوادث تاريخية مثل غزوات بدر وأحد والخندق وفتح مكة ومؤتة وبيعة السقيفة والقادسية ويوم ذي قار ووصية عمر بن الخطاب في من يخلفه وحروب الجمل وصفين والنهروان وغير ذلك من الحروب والأيام والغزوات والغارات والفتن ما سنستشهد بعينات من كلامه (عليه السّلام) لندل بأنها شكلت خصيصة قائمة بذاتها في (نهج البلاغة) :

قال (عليه السّلام)، من کتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان وهويذكر ما حصل في بدر وأحد :

((فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهمّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلونا الخوف، واضطرونا إلى جبلٍ وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم اللّه لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حومته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلوٌا مما نحن فيه، بحلفٍ يمنعه أوعشيرةٍ تقوم دونه، فهو بمكان آمن.

وكان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، إذا احمر البأس، وأحجم

ص: 256

الناس، قدم أهل بيته فوقي بهم أصحابه حرث السيوف والأسنة، فقُتِل عبيد اللّه بن الحارث يوم بدر وقُتل حمزة يوم أُحُد.

وقُتل جعفر يوم مؤتة، وأراد من لوشئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن عُجِّلت ومنّيتُهُ أُخرت..)).

وفي كتاب آخر له - (عليه السّلام) - إلى معاوية بن أبي سفيان ذكّره بيوم بدر فقال :

((ومتی کنتم یا معاوية ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة، بغيرِ قدمٍ سابق ولا شرَفٍ باسق، ونعوذ باللّه من لزوم سوابق الشقاء.

وأحذرك أن تكون متمادياً في غِزّة الأمنية، مختلف العلانية والسريرة، وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إليّ، واعف الفريقين من القتال.

لتعلم أينا المرين على قلبه، والمغطي على بصره!

فأنا أبوحسن، قاتل جدّك وأخيك وخالك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوّي؛ ما استبدلت دیناً، ولا استحدثت نبياً، وإني على المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين)).

وفي كتاب آخر له - (عليه السّلام) - إلى معاوية ذكّره بفتح مكة وحوادث

تاريخية أخرى فقال (عليه السّلام) :

أما بعد فإنا كنا نحن وأنتم، على ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمر إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفُتنتم وما أسلم مسلمكم إلا

ص: 257

کرهاً، وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) حرباً .

وذكرت أني قتلت طلحة والزبير، وشرّدت بعائشة ونزلت بين المصريين، وذلك أمر غبت عنه، فلا عليك ولا العذر فيه إليك.

وذكرت أنك زائري في جمع المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أُسر أخوك، فإن كان فيك فاسترفه، فإني أزورك فذلك جدير أن يكون اللّه إنما بعثني إليك للنقمة منك، وإن تزرني فكما قال أخوبني سعد :

مستقبلين رياح الصيف تضربهم بحاصب بين أغوارٍ وجلمود

وعندي السيف الذي أعضضته بجدِّك وخالك وأخيك في مقام واحد).

وفي كلام له (عليه السّلام) يوم بيعة السقيفة إذ انتهت إليه أنباؤها بعد وفاة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، قال (عليه السّلام) :

((ما قالت الأنصار ؟)).

قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير.

قال (عليه السّلام) : ((فهلا احتججتم عليهم بأن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) وصّى بأن يِحسَن إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم!

قالوا : وما في هذا من الحجة عليهم؟

فقال - (عليه السّلام) - : ((لوكانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم ثم قال (عليه السّلام) : فماذا قالت قریش؟

ص: 258

قالوا :

احتجت بأنها شجرة الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم).

فقال (عليه السّلام) : ((احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)).

ومن كلام له - (عليه السّلام) - وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه في القادسية ونهاوند فقال (عليه السّلام) :

((فإن هذا الأمر لم يكن يضرّه ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة، إنما هو دين اللّه الذي أظهره، وجنده الذي أعزّه وأمدّه بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعد من اللّه، واللّه منجز وعده، وناصر جنده، وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً ؛ والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فإنهم كثير عزیز بالإسلام؛ أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة فإنهم أعلام العرب و رؤساؤهم، وليشخص منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم، ولا تشخص الشام ولا اليمن، إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، ومتى شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أقطارها وأطرافها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك ما بين يديك من العورات والعيالات.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا : هذا أمير العرب وأصلهم؛ فكان ذلك أشد لكلبهم عليك، وأما ما ذكرت من مسير القوم من عددهم فإنا لم نكن

ص: 259

نقاتل فيما مضى بالكثرة، إنما كنا نقاتل بالصبر والنصر)). فوافقه عمر رأيه.

وفي كلام له (عليه السّلام) في (الشورى) التي دعا إليها عمر بن الخطاب وهو على فراش الموت، فقال (عليه السّلام) :

((حتى إذا مضى لسبیله، جعله في ستة زعم أني أحدهم؛ فيا للّه وللشوری؟ متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرَن إلى هذه النظائر لكيني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهن)).

واستعرض - (عليه السّلام) - موقف كل من طلحة والزبير منه يوم مبايعته وتوليه إمارة المؤمنين، فقال في خطبة له في ذي قار، بعد أن حمد اللّه وتشهد :

((... فكان محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، الذي أطفأ اللّه به نيرانها، وأحمد به شرارها، ونزع به أوتادها، وأقام به میلها، إمام الهدى والنبي المصطفى (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، فلقد صدع بما أُمر به وبلّغ رسالات ربه، فأصلح اللّه به ذات البين، وأمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور، حتى أتاه اليقين، ثم قبضه اللّه إليه حميداً، ثم استخلف الناس أبا بكر، فلم يألُ جهده ثم استخلف أبوبكر عمر فلم يألُ جهده، ثم استخلف الناس عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني لتبايعوني، لا حاجة لي في ذلك، ودخلت منزلي، فاستخرجتموني فقبضتُ يدي فبسطتموها وتداككتم (أي : تزاحمتم) عليّ. حتى ظننتُ أنكم قاتليَّ، وإن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل. وقد علم اللّه - سبحانه

ص: 260

- إني كنت کارهاً للحكومة بين أمة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، ... حتى اجتمع عليّ ملؤكم، وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر والنكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فساراً إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معها أبناء الطلقاء (أي : الذين أطلقهم الرسول (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) يوم فتح مكة فلم يسترقهم) فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليّ ! وهما يعلمان أني لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت؛ ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه، فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، واللّه ما أنكرا عليّ منكراً، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً وإن دم عثمان لمعصوبٌ بهما، ومطلوب منهما، يا خيبة الداعي! إلام دعا! وبماذا أجيب؟ واللّه إنهما لعلى ضلالة صمّاء، وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه، واستجلب منهما خيله ورَجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه)).

ومن كلام له (عليه السّلام) من ذكر أهل البصرة، وقد ألمح إلى ذكر طلحة والزبير فقال :

((كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه، دون صاحبه، لا يمّتان إلى اللّه بحبل، ولا يمّدان إليه بسبب.

كل واحدٍ منهما حاملُ ضبٍ لصاحبه؛ وعما قليل يكشف قناعه به .

ص: 261

واللّه لئن أصابوا الذي يريدون لينزعن هذا نفس هذا؛ وليأتين هذا على هذا، وقامت الفئة الباغية فأين المحتسبون !اقد شنت لهم الشنن؛ وقدم لهم الخبر؛ ولكل صلة علة، ولكل ناكث شبهة.

واللّه لا أمون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر الباكي ثم لا يعتبر)).

ومن كتاب له (عليه السّلام) إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى البيعة والطاعة، حمله إليه جریر بن عبد اللّه البَجَلي قوله :

((فإن بيعني لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بویعوا عليه..، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، فكان نقضهما کردتهما، فجاهدتهما على ذلك، حتى جاء الحق، وظهر الباطل وهم کارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون. وقد أكثرتَ في قَتَلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس...، فأما التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرتَ بعقلك دون هواك، لتجدني أبرءِّ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تُعرض فيهم الشورى)).

وبعد أن أجابه معاوية على كتابه (عليه السّلام) ردّ عليه بكتابٍ ثان قال فيه : ((أما بعد؛ فإنه أتاني منك كتاب امرئٍ ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتّبعه.. وبعد:

وما أنت وما عثمان..؟ فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليَّ، وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير، وبين أهل الشام وأهل البصرة فلعمري ما الأمر فيها هناك إلا سواء، لأنها بيعة

ص: 262

شاملة لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وموضعي من قریش لو استطعت دفعه لدفعته)).

ومن كلام له (عليه السّلام) وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين : ((أما قولكم : أكل ذلك كراهة الموت؟ فواللّه ما أبالي، دخلتُ إلى الموت أوخرج الموت إلىَّ. وقولكم شكّاَ في أهل الشام؟ فواللّه ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، فهو أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالة؛ وإن كانت تبوء بآثامها).

ومن كلام له (عليه السّلام) يوم لقائه أهل الشام بصفين : (اللّهم إليك رُفِعت الأبصار، وبُسِطت الأيدي، ونُقِلت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحق، وأنت خير الفاتحين، اللّهم إنا نشكو إليك غَيبة نبينا، وقلّة عددنا، وتشتت أصواتنا، وشدّة الزمان بنا، وظهور الفتن، فأعنّا على ذلك بفتحٍ منك تعجّله، ونصرٍ تعزُّ به سلطان الحق وتظهره))..

وثمة إشارات تاريخية كثيرة في ثنايا (النهج) نكتفي بهذا القدر لنتناول خاصية أخرى.

ص: 263

5_ استشراف المستقبل

لقد تحدثنا عن هذه الفقرة في الرد على المشككين في نسبة (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام) وهنا نستشهد بعينات من تلك التوقعات والتنبؤات، ولكن قبل الاستشهاد وإتماماً لتلك الفقرة، نشير إلى بعض الأخبار عن الغيوب، كغيوب الكهان، كما يحكى أن سطيح بن مازن بن غسان، وشق بن ثمار بن نزار، وسواد بن فارس الدوسي، أما ما كان يقع لأصحاب زجر الطير والبهائم، كما يحكي عن بني لهب في عصر ما قبل الإسلام، أولأصحاب القيافة، كما يحكي عن بني مذحج، أورباب النيرنجات، فإذا كان أولئك عاى حالتهم تلك فإن الإمام علي (عليه السّلام) أولى منهم بهذا الأمر وقد بيّنا مميزاته الخَلقِيّة والخُلُقيّة .

وإليك قارئي الكريم عينات من توقعاته المستقبلية

قال (عليه السّلام):

((أيها الناس، سیأتیکم زمان يُكفَأ فيه الإسلام، كما يُكَفأ الإناء بما فيه)).

ص: 264

وقال (عليه السّلام) :

((سيأتي زمان تفيض فيه اللثام، وتغيض الكرام، أهله ذئاب، وسلاطينه سباع)).

وقال (عليه السّلام) :

((في آخر الزمان يخلّف الناس الحق وراء ظهورهم فيقطعون الأدني ويصلون الأبعد))

وقال (عليه السّلام) :

((... فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة وتظلّ مئة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومن يِقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منها موتاً)).

وقال (عليه السّلام) في ذم أهل البصرة :

(كأني بمسجدکم کجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من ضمنها. (وفي رواية) وأيم اللّه لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أونعامة جاثمة. (وفي رواية) بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة، أقربها من الماء وأبعدها من السماء، وبها تسعة أعشار الشر، المحتبس فيها بذنبه والخارق بعفواللّه، كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتى ما يُرى منها إلا شُرف المسجد كأنه جؤجؤ في لجة البحر).

وقال (عليه السّلام) وهو يخبر عن صاحب الزنج :

ص: 265

((كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خيل، يتبرون الأرض بأقدامهم كأنها النعام، ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتلهم ولا يُفتَقد غائبهم، إنما كابُّ الدنيا لوجهها، وقادر بقدرها، وناظر بعينها)).

ويخبر - (عليه السّلام) - عن الأتراك ويصفهم بقوله :

((كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون الرق والديباج، وينتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استمرار وقتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور)).

وقال (عليه السّلام) وهويذكر الملاحم ويشير إلى القائم الحجة (عليه السّلام) :

((يعطف الهوى على الهدي إذا عطفوا الهدى على الهوي، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي.

(منها) : حتى تقوم الحرب بكم على ساق بادیاً نواجذها مملوءةً أخلاقها، حلواً، رضاعها، علقماً عاقبتها. ألا وفي غد - سيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوي أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليد (أي : قطع من الذهب والفضة) كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فیریکم کیف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة.

ومنها : كأني به نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف عليها عطف الضروس وفرش الأرض بالرؤوس، فقد فغرت فاغرته، وثقلت في

ص: 266

الضوء الثالث: من خصانص نهج البلاغة...........

الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصولة، واللّه ليشرونكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم إلا قليل کالكحل في العين، فلا تزالون حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها..)).

وقال (عليه السّلام) في خطبةٍ له :

((... وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على اللّه ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبوَر من الكتاب إذا تُلي حق تلاوته، ولا أنفق منه (أي : أروج منه) إذا حُرِّف عن مواضعه، ولا في البلاد أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حَمَلَته وتناساه حَفَظَته، فالكتاب يومئذ وأهله منفيان طریدان، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤوٍ فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدی وإن اجتمعا)).

وقال (عليه السّلام) :

((يأتي على الناس زمان عضوض (أي : شديد) يعض الموسر فيه على ما في يديه ولم يُؤمَر بذلك، قال اللّه سبحانه :

{... وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة/237)} .

تنهَدُ فيه الأشرار (أي : ترتفع) وتُستذل الأخيار ويبايع المضطرون...)).

ولما أُخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين

ص: 267

(عليهما السلّام) إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فكلماه فيه، فخلى سبيله فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السّلام):

((أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ! إنها كف يهودية لوبايعني بكفه لغدر بسبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر)).

ص: 268

6_ القيادة العسكرية

من صفات الإمام علي (عليه السّلام) (الشجاعة) وقد تحدثنا عنها في كلام سابق، وفي هذه الفقرة سنستعين بعيّنات من تنظيراته العسكرية خلال مدة حكمه القصيرة المتسمة بالحروب والتي اضطر إليها اضطراراً فضلاً عما كان يبديه من رأي عسكري لمن سبقه في قيادة الأمة الإسلامية.

قال (عليه السّلام) لأصحابه في ساحة الحرب :

((...فقدّموا الدارع وأخِّروا الحاسر (أي : لابس الدرع ومن لا درع له)، وعضوا على الأضراس، فإنه أني للسيوف على الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أموَرُ للأسنّة، وغُضّوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وراياتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون برایاتهم، ويكتنفون حفافها! وراءها وأمامها، ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها، أجرأ امرؤ قرنه (أي : كفوء وخصم)

ص: 269

وآسی أخاه بنفسه، ولم يكن قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه)).

في فقرة إشارات تاريخية نقلنا رأيه العسكري (عليه السّلام) عندما استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، يمكن الرجوع إليها، ومع ذلك نذكر الجزء الأخير من إشارته التي أخذ بها عمر، إذ قال الإمام (عليه السّلام) مشيرة على عمر :

((... والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزیزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب، واصِلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت (أي : خرجت) من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك)).

ومن وصيةٍ له (عليه السّلام) وصى بها جيشاً بثه إلى العدو :

((فإذا نزلتم بعدو أونزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف (أي : المرتفعات) أوسفاح الجبال، أو أثناء الأنهار کیما يكون لكم ردءً ودونكم مرواً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أواثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال (أي : أعالي الجبال) ومناكب الهضاب (أي : مرتفعاتها) لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أوأمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإیاکم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشیکم الليل فاجعلوا الرماح كفة (مثل كفة الميزان) ولا تذوقوا النوم إلا غراراً أومضمضة)).

ومن وصية له (عليه السّلام) المعقل بن قیس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في

ص: 270

ثلاثة آلاف مقدمة له قال :

((اتقِ اللّه الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك، وسِر البردين (أي : الغداة والعشي) وتحدّر بالناس ورفِّه بالسير، ولا تسر أول الليل، فإن اللّه جعله سكناً وقدّره مقاماً لا ضعناً، فأرح فيه بدنك وروظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر (أي : ينبسط)، أوحين ينفجر الفجر فسر على بركة اللّه، فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطاً، ولا تدنُ من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملك شنانکم (أي : بغضاؤكم) على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم)).

ومن وصية له (عليه السّلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين :

((لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً (أي الذي أبدى عورته) ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم، فانهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول...))

ومن كلام له (عليه السّلام) لأصحابه عند الحرب قال :

((لا تشدنَّ عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطئوا للجيوب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدَعسيّ (أي : الشديد) والضرب الطلحفي (أي : أشد الضرب) وأميتوا الأصوات فإنه

ص: 271

طرد للفشل)).

وفي إشارة له (عليه السّلام) على عمر عندما استشاره في حربه مع الروم؛ هل يخرج إليهم بنفسه فأشار عليه بقوله ((عليه السّلام)) :

((انك من تسر الى هذا العدد بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة (أي : عاصمة) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً محرباً (أي : محارباً) واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر اللّه له فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءً للناس (أي : ملجأ الهم) ومثابة (أي : مرجعاً) للمسلمين)).

وقال في عهده (عليه السّلام) للأشتر النخعي واليه على مصر :

((... فولِّ من جندك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً (أي : أطهرهم صدراً وقلباً)، وأفضلهم حلماً ممن يبطيء عن الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو (أي : يشتد) على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل من جدته (أي : سعيه وغناه) بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف (أي : بالعجزة والنساء) أهليهم حتى يكون همهم واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك..)).

ومن كلام له (عليه السّلام) إلى بعض قادة جيشه قال :

((فإن عادوا (أي : الأعداء) إلى ظل الطاعة فذلك الذي نحب، وإن توافت الأمور بالقوم إلى الشِقاق والعصيان، فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، واستغنِ

ص: 272

بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خيرٌ من شهوده، وقعوده أغنى من نهوضه)).

ومن كتاب له (عليه السّلام) للأشتر النخعي عندما ولّاه مصر قال :

((ولا تدفعن (ترفضن) صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة (أي : راحة) لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدوربما قارب ليغفل (من الغفلة) فخذ بالحزم وآتهم في حسن الظن. وإن عقدتَ بينك وبين عدوك عقدة أوألبسته منك ذمة فحِط (أي : احفظ) عهدك بالوفاء، وارعَ ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنة (حماية) دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض اللّه الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء.. ولا تغدر من بذمتك، ولا تخيسنَّ (تنتقضنَّ) بعهدك ولا تختلن (أي : تخدعن عدوك)).

وقال (عليه السّلام) وهو يوصي أحد قادته :

((إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للمقدرة عليه)).

وطرح (عليه السّلام) نظرية حربية غاية في الأهمية والخطورة هي حدود التعامل بين القائد الأعلى وقادة الميدان والجند، فقال :

((لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب (أي : لا أكتم عنكم سراً)).

وكتب (عليه السّلام) إلى كميل بن زياد النخعي عامله على هيت، منكراً

ص: 273

عليه تجاوزه مهمته في الدفاع عن المسالح بالإغارة على قرقيسيا فقال :

((إن تعاطيك الغارة على قرقيسيا (بلدة على الفرات) وتعطيلك مسالحك التي وليناك، ليس بها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها، لرأي شعاع (أي : متفرق غير صالح) فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أولئك، غير شديد المنكب (أي : ضعيف) ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر شوكة، ولا مغني عن أهل مصره، (أي : غير قادر) ولا مجزٍ من أميره)).

ومن وصيةٍ له (عليه السّلام) لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل قال له :

((عض على ناجذك (أحد الأنياب) وأعر اللّه جمجمتك (أي : اطلب الشهادة في سبيل اللّه)، تدْ(أي : وتّد أوثّبت) في الأرض قدمك، ارمِ ببصرك (أي : أحِط) أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم إن النصر من عند اللّه سبحانه)).

وأوصى (عليه السّلام) جنده في أيام صفين بقوله :

((استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ فإنه أني للسيوف على الهام، والملوا اللأمة (أي الدروع) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلِّها والحظوا الحزر (أي : النظر بغضب) واطعنوا الشزر (أي يميناً وشمالاً)، ونافحوا بالضبا (أي بطرف السيف)، وصلوا السيوف بالخطى (أي : اجعلوها متصلة بخطی أعدائكم).. وامشوا إلى الموت مشیاً سُمُجاً (أي : سهلاً)، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب (السواد الأعظم، أهل الشام، والرواق المطنب، رواق

ص: 274

معاوية) فاضربوا ثبجه (وسطه))).

وقال (عليه السّلام) وهويوصي جنده أن يحسنوا إلى الناس في البلدان التي يحتلونها أويمرون بها :

((إني قد سيّرتُ جنوداً هي ماراً بكم إن شاء اللّه، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كفِّ الأذى وصرف الشذي (أي الشر)، وأنا أبرأ إليكم وإى ذمتكم من معرّة (أذي) الجيش إلا من جوعه المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه (یسد رمقه) فنكِّلوا من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضادتهم والتعرض لهم فيما استنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش فادفعوا إليَّ مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا باللّه وبي فانا أغيّره بمعونة اللّه إن شاء اللّه)).

ودعا (عليه السّلام) جنده إلى التعاون فيما بينهم قائلاً :

((وأي امرئ فيكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلاً، فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه كما يذبُّ عن نفسه)).

وحدد (عليه السّلام) صفات جنوده بقوله :

((فالجنود - بإذن اللّه - حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)).

ووازن (عليه السّلام) بين ما يجب أن يتصف به الجندي وبين ما يجب من

ص: 275

حوافز تجعله يؤدي واجبات الجندية على خير ما يرام فقال :

((ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذين يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من ولاء حاجاتهم)).

وأوصى (عليه السّلام) جنده في معركة الجمل أن ((لا يبدؤوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم بر مح)).

وقبل بدء الحرب خطب بجيشه قائلاً :

((يا أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً ولا تتبعوا مولياً ولا تطلبوا مدبراً ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا ستراً ولا تقربوا شيئاً من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أوكراع أوعبد أوأمة وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب اللّه تعالی)).

ص: 276

7_الشكوى

اتسمت حياة الإمام علي (عليه السّلام) - سيما بعد توليه أمر المسلمين - بالصخب والاضطراب والعسف ومجانبة الحق، وكان (عليه السّلام) ينظر إلى من حوله، سواء في أيام السلم - وهي قليلة - وأيام الحرب - وهي مروعة - فيراهم منقسمين على أنفسهم؛ منهم من تمسك بالدين وارتضى الإمام قائداً بصدق وإخلاص ينطويان على نفس تطهرت بماء الإيمان وتعطرت بشذى السجية الفطرية المتسمة بالنقاء - وهؤلاء قلة منتقاة بعفوية إيمانية عجيبة.

ومنهم من تأخذهم ریاح الأحداث يميناً وشمالاً وتدفعهم إلى الأمام مرة وتسحبهم إلى الخلف أخرى، حسب مقتضى الحال وتقلب الظروف والأحوال، تحكمهم مصالحهم لعدم تمكن الإيمان منهم؛ فهم طينة هشة تتشكل على وفق ما يراد لها أن تتشكل ولكنها كانت إلى زخرف الحياة أميَل فكانت تهتز لأقل نسمة فتميل إلى معسكر المكر والخديعة وتضعف أمام مختبرات غسل الأدمغة ويسيل لعابها لدسامة موائد مطابخ أولئك الذين يجيدون طبخ المغريات ويعرفون متى وكيف ولمن يقدمون تلك الوجبات التي من شأنها ملء الأمعاء وإفراغ النفوس من الإيمان الصادق.

ص: 277

ومنهم من اتخذوا رسالة محمد بن عبد اللّه، الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) سفينة نجاة لهم من خطر زوال (مجدهم) وسلطانهم قبل الدعوة الإسلامية، فصاروا يحاربون الدين ورجاله بالدين ورجاله معتمدين المكر والخداع منهجاً لهم فنجحوا في ذلك إلى حد ما، وإن كان نجاحهم مرهوناً بمرحلة وجودهم وما إن زالوا حتى عاد الإيمان والصدق والنقاء، إلى حيث أراد الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وأراد الوصي (عليه السّلام) والأئمة من بعده .

تلك المفارقات جعلت الإمام علي (عليه السّلام) يتشظى ألماً ويتحرق حسرة فيرسلها شكوى رجل خبر الحياة وسبر أغوارها واستقرأ النفس الإنسانية فعرف أسرارها فجاءت شكواه آية من آيات البلاغة وغاية من غايات المنهج التربوي القويم.

ونحن هنا سنختار بعضاً من تلك الزفرات النابعة من نفس مخظَّلة بصدق الإيمان، إنها شكوى علي بن أبي طالب (عليه السّلام) كفى بذلك تعريفاً :

ففي خطبة له (عليه السّلام) وهي المعروفة ب (الشقشقية) قال :

((أما واللّه لقد تقمصها (أي : لبسها كالقميص) فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عيني السيل، ولا يرقى إلىَّ الطير، فسدلت (أي : أرخيت) دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً (أي : ملتعنها)، وطفقت أرتئي بين أن أصول بید جذَّاء (أي : مقطوعة)، أوأصبر على طخية عمياء (أي : ظلمة)، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه!

فرأيت أن الصبر على هاتا أحجي (أي : ألزم) فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا (أي : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه) أری تراثي (ميراثي) نهبا،

ص: 278

حتى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده ...

شتان ما يوحي على کورهاويوم حيان أخي جابر

فيا عجباً ! !بينما هو يستقيلها (أي يطلب إعفاءه منها) في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطر ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كَلْمُها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار (أي : الكبوة) فيها، والاعتذار منها، فصاحبها کراکب الصعبة (من الإبل ما ليست بذلول)، إن أشنَق (أي : كف زمام البعير) لها حَزَمَ (قطع) وإن أسلس (أرخی) لها تقحَّم (هلك)، فجُني (ابتلوا) الناس - لعمر اللّه - بخبط (سير على غير هدى) وشِماس (إباء ظهر الفرس عن الركوب)، وتلوّن واعتراض (التخبط في السير)، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة؛ حتى إذا مضى لسبیله جعلها في جماعة زعم اني أحدهم، فيا للّه وللشوری! متي الريب فيَّ مع الأوّل منهم، حتى صرت أُقرن الى هذه النظائر، لكنّي أسففت (أي دنوت) إذ أسفّوا، وطرت اذا طاروا، فصفا (أي : مال) رجل منهم لضغنه (أي : لحقده)، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وَهَنٍ (أي : أغراض أخرى) إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه (أي : رافعاً أو متكبراً) بين نثيله (أي : روثه) ومعتلفه، وقاموا معه بنو أبيه يخضمون (أي : يأكلون الشيء الرطب) مال اللّه خِضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتکث (أي : انتفض) عليه فَتْلُه، وأجهز (أي : تم قتله) عليه عَمَلُهُ وكبت به (أي : كبا) بطنته.

فما راعني إلّا والناس كُعرف الضبع إلىَّ ينثالون (أي : يتابعون) عليَّ من كل جانب حتى لقد وُطِيءَ الحسنان، وشق عطفايَ (أي : خدش جانباه) مجتمعين

ص: 279

حولي کربيضة الغنم (أي : الرابضة من الغنم)، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وقسط (أي : جار) آخرون، كأنهم لم يسمعوا سبحانه يقول :

{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/83) }

بلی! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زَبْرِجْها ! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يُقارُّوا (من الإقرار) على كِظّة (أي : استئثار) ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (أي : كاهلها) ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنیاکم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) بعد مقتل طلحة والزبير قال :

((ما زلت أنتظر بکم عواقب الغدر، وأتوسمكم (أي : أتفرس فيكم بحلية المُغْتَرِّين، حتى سترني عنكم جلباب الدين، وبَصَّرَنیکم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلَّة (أي : طريق فضل سالكها) حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تُجبهون (أي : لا تجدون ماء). اليوم أُنطق لكم العجماء (أي : البهيمة) ذات البيان، عَزَبَ (أي : غاب) رأي امريء تخلف عني! ما شككت في الحق مُذ أُريته! لم يوجس موسى (عليه السّلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الظلال! اليوم تواقفنا (أي : تقابلنا) على سبيل الحق والباطل، من وثق بما لم يظمأ)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) يصف حاله قبل البيعة له :

ص: 280

((فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم (أي : الإختناق)، وعلى أمرّ من طعم العلقم. ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً، فلا ظفرت يد البائع، وخزيت أمانة المبتاع)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) بعد التحكيم قال :

((أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاع لقصير (أي : الأبرش) أمر! فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الحفاة والمنابذین العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضنَّ الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم كما قال أخوهوازن، دريد بن الصمّة :

أمرتكم أمري بمنحرج اللوى فلم تستبينوا النصح إلّا ضحى الغدِ.

وفي خطبة له (عليه السّلام) يشكو ظلم قریش :

((اللّهم إني أستعديك (أي : أستعينك) على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي (أي : قلبوه)، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا :

- ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أومت متأسفاً.

فنظرت فإذا ليس رافد (أي : معين) ولا ذاب (أي : مدافع) ولا مساعد)).

ص: 281

8_ النقد

إشارة

إن نقد الإمام علي (عليه السّلام) ليس نقداً من أجل النقد ولم يكن ذا حدً واحد، أي لم يظهر السلبية ويشير إليها حسب، بل هوذو حدّين؛ إذ يشخّص الداء، ويصف الدواء، وهكذا تناول (عليه السّلام) أموراً كثيرة وكان صيرفياً لامعًا وطبيباً نطاسياً متمكناً من أدواته، فلا يطلق الكلام على عواهنه، فيقول هذا أسود وهذا أبيض، بل كان يعرف لماذا صار الأبيض أسوداً ولماذا صار الأسود أبيضاً، وكيف يجب أن يتبادلا المواقع. ونقد الإمام (عليه السّلام) ينقسم إلى قسمين كما رأيناه : اجتماعي وأدبي.

ففي النقد الاجتماعي - خاصة - كان (عليه السّلام) يطرح الحلول ولسان حاله يقول

لقد ناديت لوأسمعت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي و كعادتنا سنستعين بعينات من نقد الإمام (عليه السّلام) في كلا القسمين، كشواهد على هذه الخصيصة في (النهج).

ص: 282

أ - النقد الاجتماعي

من كلام له (عليه السّلام) في من اتخذوا الشيطان ولياً لهم قال :

(( اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتخذهم له أشراكاً (أي : أدوات صيد) فباض وفرِّخ في صدورهم، ودب ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيَّن لهم الخطل، فِعل من شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه)).

ومن كلام له (عليه السّلام) دعا فيه الزبير للدخول في بيعته قال :

((يزعم أنه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة (أي : الدخيلة) فليأتِ عليها بأمرٍ يُعرَف، وإلا فليدخل فيما خرج منه).

وقارن بينه (عليه السّلام) وبين خصومه فقال :

((وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نُسيلُ حتى نمطر)).

وقال (عليه السّلام):

((ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله (جمع راجل) وإن معي لبصيرتي، مالبَّست (ما أبهمت) على نفسي، ولا لُبِّسَ عليّ. وأيم اللّه لأفرطنّ لهم حوضاً أنا ماتحه (مستقيه)، لا يصدرون عنه (لا يعودون بعد الاستقاء) ولا يعودون إليه)).

وقال (عليه السّلام) للأشعث بن قيس وهوعلى منبر الكوفة يخطب، إذ

ص: 283

اعترضه الأشعث في بعض كلامه قائلاً :

يا أمير المؤمنين هذا عليك لا لك.

فأجابه الإمام (عليه السّلام) قائلا :

((ما يدريك ما عليَّ وما لي، عليك لعنة اللّه ولعنة اللاعنين !حائك ابن حائك !منافق ابن کافر؟ ويلك لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منها مالك ولا حسبك ! وإن امرأْ دلّ على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحريّ أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد)).

ومن كلام له (عليه السّلام) حلل فيه تحليلاً نقدياً رائعاً مقتل عثمان فقال :

((لو أمرتُ به لکنت قاتلاً ، أونَهيت عنه لكنت ناصراً، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خيرٌمني، وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة (أي : الاستبداد) وجزعتم فأسأتم الجزع، وللّه حكم واقع في المستأثر والجازع).

ومن كلام له (عليه السّلام) يدين موقف قريش منه فيقول :

((مالي ولقریش! واللّه لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم، واللّه ما تنقم منا قريش إلا أن اللّه اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا فكانوا كما قال الأوّل:

أدمت لعمري- تربك المحض صابحاً*** وأكلك بالزبد المقشرة البجرا

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن*** علياً، وحطنا حولك الجرد والسُّمرا

ص: 284

وكان مصقلة بن جبيرة الشيباني قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأعتقهم، فلما طالبه (عليه السّلام) بالمال خان وغدر، وهرب إلى معاوية في الشام، فقال (عليه السّلام) :

((قبّح اللّه مصقلة! فَعَل فِعل السادة، وفرّ فرار العبيد! أفما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدّق واصفه حتى بكتّه (أي : عنفه) ولوأقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بحاله وفوره)).

وحين منعه سعید بن العاص حقه قال (عليه السّلام) :

((إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) تفويقاً، واللّه لئن بقيت لأنفضنهم نفض اللّحام الوِذام للتربة)).

وفي نقده أهل الشام قال (عليه السّلام) :

((جفاة (أي : غلاظ) طغام (أي : أوغاد)، وعبيد أقزام (أي : أرذال)، جُمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب (أي : خلط)، فمن ينبغي أن يُفَقَّه أويؤَدَّب، ويُعَلَّم ويُدَرَّب، ويوَلّى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوؤا الدار والإيمان.

وبعث (عليه السّلام) برسالة إلى معاوية بن أبي سفيان قال فيها :

((أما بعد : فقد أتتني منك موعظة موصّلة (أي : ملفقة) ورسالة محيَّرة (أي : مزيّنة)، نمّقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد یرشده، قد دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر

ص: 285

(هذي) لاغطاً وضل خابطا)).

وفي سحرة اليوم الذي ضُرِبَ فيه قال (عليه السّلام) :

((مكتني عيني (أي : غلبني النوم) وأنا جالس، فسنح (أي : مرّ) رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) فقلت :

- یا رسول اللّه ماذا لقيت من أمتك من الأوَد واللّدد؟

فقال :

-ادع عليهم

فقلت :

- أبدلني اللّه بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني)).

ب . النقد الأدبي

على الرغم من صخب عصر الأمام، وما كانت تكتنفه من أحداث عصفت بكثير من دعائم الدين، بسبب أدعياء الدين الإسلامي (وقد أشرنا إلى ذلك في مكان آخر).. نقول : على الرغم من انشغال الإمام علي (عليه السّلام) المكثف في أمور حكمه لكنه (عليه السّلام)، كان يقتنص الفرصة ليزيح عن أصحابه شيئاً من هموم السياسة، ولأنه الخطيب الذي لا يشق له غبار والأديب الذي لا يُباری، فقد انبرى (عليه السّلام) للنظر في شعر بعض الشعراء، كما ألمح إلى بعض النقد الأدبي لتكتمل في شخصيته مقومات القائد الذي عليه أن يلمَّ بمفردات الحياة كلها؛ فقد أخبرنا ابن أبي الحديد (20/153-154) :

ص: 286

إن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) كان يعشِّي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم، فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم، فلما فرغوا خطبهم (عليه السّلام) وقال في خطبته :

- اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب، وحصون أعراضكم الحلم.

ثم قال :

- يا أبا الأسود؛ فيم كنتم تفيضون فيه؟ أي الشعراء أشعر؟

فقال :

- يا أمير المؤمنين، الذي يقول :

ولقد أغتدي يدافع ركني*** أعوجيٌ ذوميعة إضریجِ

مِخلطٌ مِزيلٌ مِقنٌ*** مِنفح مِطرح سَبُوحَ خروجِ

يعني أبا دواد الأيادي .

فقال (عليه السّلام) : ليس به

قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟

فقال :

- لورفعت للقوم غاية (راية) فجروا إليها معاً علمنا من السابق منهم، ولكن إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة.

قيل :

ص: 287

من هويا أمير المؤمنين ؟

قال : هو الملك الضليل ذوالقروح

قيل :

امرؤ القيس يا أمير المؤمنين ؟

قال :

- هو.

وفي نظرة نقدية بليغة من حيث ضغط كلماتها وتكثيف معانيها قال الإمام علي (عليه السّلام) :

((خير الشعر ما كان مثلاً، وخير الأمثال ما لم يكن شعراً))).

في الواقع إن الشعر لوكان مثلاً أضفى على سِمتِهِ میزتين، ميزة الوزن والموسيقى، وميزة الحكمة والمدلول، على أن يكون ذلك غير مصنوع وغير متكلف.

أما قوله (عليه السّلام) (خير الأمثال ما لم يكن شعر) فلأن المثل (يؤدي معنىً كبيراً بألفاظ قليلة، واضحة، وقيود الشعر - من وزن وقافية - قد تؤثر على وضوح الفكرة وإلى زيادة ألفاظ المثل).

وقال (عليه السّلام) :

(لا تؤاخِ شاعراً فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً)

ص: 288

ويريد الإمام (عليه السّلام) : الشاعر المحترف الذي يقول الشعر للتكسب لا الشاعر الذي يريد التعبير عما يختلج في داخله من تجربة عاشها بصدق.

وقال (عليه السّلام) :

((تعلموا شعر أبي طالب وعلموه أولادكم فإنه كان على دين اللّه، وفيه علم كثير)).

وأحسب إن دعوة الإمام تعلم شعر أبي طالب نابعة من نظرة نقدية صائبة ؛ باعتبار إنه شعر ملتزم.

ومعروف إن الالتزام في الشعر من الأمور الجليلة في الأدب.

روی ابن رشيق القيروان في كتاب العمدة : أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال :

((إن لي إليك حاجة رفعتها إلى اللّه قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت اللّه تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت اللّه وعذرتك.

فقال له علي :

خط حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك.

فكتب الأعرابي على الأرض : إني فقير

فقال علي : يا قنبر، ارفع إليه حلتي الفلانية :

فلما أخذها مثل بين يديه وقال :

کسوتني حلةٌ تبلى محاسنها*** وسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

ص: 289

إن الثتاء ليحيي ذكر صاحبه*** كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به*** فكل عبدٍ سيجزى بالذي فعلا

فقال علي :

- یا قنبر، أعطه خمسين ديناراً؛ أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول ((أنزلوا الناس منازلهم)).

وتلك الرواية تدل على نظرة الإمام علي (عليه السّلام) النقدية للشعر، إذ ما أن سمع أبيات الأعرابي حتى اهتز لها طرباً وإعجاباً وعبّر عن ذلك بإعطائه خمسين دیناراً.

وما تمثل به الإمام (عليه السّلام) من شعر أثناء خطبه وأحاديثه ومراسلاته ووصاياه إلا دليل على حسّه النقدي وذوقه الأدبي الرفيع، ولولا خشية التطوال الأوردت عينات كثيرة من نقده الأدبي وهي مبثوثة في أجزاء (النهج) بشرح ابن أبي الحديد، ولكنني أكتفي بهذا لأنتقل إلى فقرة أخرى من الخصائص.

ص: 290

9_ العتاب

في عتابه على أهل البصرة، بعد وقعة الجمل، قال (عليه السّلام) :

(أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء، خفّت عقولكم، وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلةٌ لآكل، وفريسة لصائل).

ويعاتب قوماً فيقول (عليه السّلام) :

(( فإنكم لوقد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (خفتم)، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب ! ولقد بُصِّرتم إن أبصرتم، وأُسمِعتم إن سمعتم وهُديتُم إن اهتديتم، وبحقٍ أقول لكم:

لقد جاهدتم العِبَر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلِّغ عن اللّه بعد رسل السماء (الملائكة) إلا بشر)).

وبعد غارة الضحاك بن قیس صاحب معاوية على الحاج بعد قصة الحكمين قال (عليه السّلام) يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف :

ص: 291

((أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، والمختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون في المجالس : كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حَيَاد! ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، وسألتموني التطويل (أي : المطل) دفاع ذي الدين المطول (أي : الكثير المطل) لا يمنع الضيم الذليل! ولا يدرك الحق إلا بالجد! أي دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور واللّه من غررتموه، ومن فاز بكم - واللّه - بالسهم الأخيب، ومن رمی بكم فقد رمى بأفوق (أي : مكسور الفوق) ناصل (أي : العاري عن النصل)، أصبحت - واللّه - لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد لعدوبكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم، ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم، أقولاً بغير علم؟ وغفلة من غير ورع! وطمعاً في غير حق! ؟)).

وفي استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج قال عليه السلام :

((أفٍّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفاً ؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوکم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتنهون، وكأن قلوبكم مألوسة (أي : مجنونة) فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس (أبد) الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافر (أركان) عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا کابل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر اللّه -

ص: 292

سُعْرُ نار الحرب أنتم تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غُلب - واللّه - المتخاذلون! وأيم اللّه إني لأظن بكم أن لوحمى الوغى، واستحرَّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس.

واللّه إن امرأ يمكِّن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده، لعظيمٌ عجزه، ضعیف ما ضمّت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت! أما أنا فواللّه دون أن أُعطى ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء)).

وفي توبيخ بعض أصحابه بعتابية مرة قال (عليه السّلام) :

((وكم أداریكم كما تداری البكار العَمِدة، والثياب المتداعية، وكلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطل عليكم مُنْسِرُ من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منکم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها، الذليل واللّه من نصرتموه. ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، إنكم - واللّه - الكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أضرع اللّه خدودكم (أي : أذلها)، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل کابطالكم الحق)).

وفي ذم أهل العراق، وتوبيخهم على ترك القتال في ذروة النصر ونكذيبهم

ص: 293

إياه قال (عليه السّلام) :

{أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قیّمها وطال تأیُّمها، وورثها أبعدُها، أما واللّه ما أتيتكم اختباراً؛ ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون : عليٌّ يكذب، قاتلكم اللّه تعالی! فعلى من أكذب ؟ على اللّه؟ فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيِّه؟ فأنا أول من صدَّقه، کلا واللّه، لكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل أمهِ کیلاً بغير ثمن، لوكان له وعاءٌ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)}.

وفي توبيخ البخلاء بالمال والنفس قال (عليه السّلام):|

((فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بهما للذي خلقها. تكرمون (أي : تفرون) باللّه على عباده، ولا تكرمون اللّه في عباده، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن وصل إخوانكم)).

وقام إليه (عليه السّلام) رجل من أصحابه بعد ليلة الحرير في صفين فقال :

- نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندرِ أي الأمرين أرشد؟

فصفق (عليه السّلام) إحدى يديه على الأخرى وقال :

((هذا جزاء من ترك العقدة (أي : التعاقد)، أما واللّه لوأني حين أمرتكم به حملتم على المكروه الذي يجعل اللّه فيه خيراً، فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقی، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي. كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم ان ضلعها

ص: 294

(أي : تيلها) معها، اللّهم قد ملت أطباء هذا الداء الدويّ (أي : المؤلم)، وكلّت النزعة بأشطان الركيّ (أي : حبل البئر)، أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه، وهِيجوا إلى الجهاد فولِهوا وَلَهُ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالأحياء ولا يعزَّون عن الموتی، مُرْهُ العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام.. أولئك إخواني الذاهبون.. إن الشيطان يريد أن يحل دینکم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة. فاصدّقوا عن نزعاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها عن أنفسكم)).

ص: 295

10_ النصح والإرشاد

إن كلام الإمام علي (عليه السّلام) كلّه نصح وإرشاد في مجالات الحياة كافة ولكن ثمة ما هو خاص وما هوأخص، فنحن في فقرتنا هذه سنستشهد بالأخص الأخص مما تناثر هنا وهناك من (نهج البلاغة).

ففي ذكر المكاييل والموازين قال (عليه السّلام) :

((عباد اللّه إنكم - وما تأملون من هذه الدنيا – أثوياء (ضعفاء) مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل منقوص، وعمل محفوظ، ورُبَّ دائبٍ مضيعٌ، ورُبَّ کادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوان قویت عدته، وعميت مکیدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً أوغنياً بدّل نعمة اللّه كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق اللّه وفراً، أومتمرداً كان بأذنه عن سمع المواعظ وقراً، أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم؟ والمتنزهون في مذاهبهم؟ أليس قد ضعفوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية والعاجلة المنفضة؟ وهل خُلِقتم إلا

ص: 296

في حثالة لا تلتقي بذمِّهم الشفتان استصغاراً لقدرهم، وذهاباً عن ذكرهم، فإنا للّه وإنا إليه راجعون. ظهر الفساد فلا منكِر مغيِّر، ولا زاجر مزدجِر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده؟ هیهات لا يَخدَعُ اللّه عن جنته، ولا تُنال مرضاته إلا بطاعته، لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر والعاملين به)).

وفي النهي عن عيب الناس قال (عليه السّلام) :

((وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هوالغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيَّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر اللّه عليه ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به. وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى اللّه في ما سواه فما هو أعظم منه. وأيم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لَجُرأَتُهُ على عيب الناس أكبر، يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أخذ بذنبه فلعله مغفوُر له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معَذَبٌ عليه، فليكفف من علم عیب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته، مما ابتلى به غيره)).

وقال (عليه السّلام) :

{أيها الناس، من عرف أخيه وثيقة دين، وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما أنه يرمي الرامي وتخطيء السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك

ص: 297

يبور واللّه سميعٌ شهيد، أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع (أي : الباطل تقول سمعت والحق تقول رأيت)]

ومن خطبة في الاستسقاء قال (عليه السّلام):

((إن اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغراق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل اللّه سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال :

{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (نوح 10-12)}.

فرحم اللّه امرأ استقبل توبته واستقال خطيئته، وبادر منيته)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) طويلة نجتزئ منها ما يخص فقرتنا إذ قال :

((... فأفق أيها السامع من سكرتك واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر فيما جاء على لسان النبي الأمي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما لابد منه ولا محيص عنه، وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه، وضع فخرك واحطط كِبرك، واذكر قبرك فإن عليه ممرك، وكما تدین تُدان، وكما تزرع تحصد، وما قدّمت اليوم تُقدِم عليه غداً، فامهد لقدمك، وقدّم ليومك فالحذر الحذر أيها المستمع، والجد الجد أيها الغافل ولا ينبئك مثل خبير)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) قال :

ص: 298

((ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون، ولا عن اللّه يعقلون كقبض (كقشرة البيضة العليا) بيض في اداح (مبيض النعام) يكون كسرها وزراً ويخرج حضانها شراً)).

وقال (عليه السّلام) في أول خلافته :

((إن اللّه انزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، وأصدفوا عن سمت الشر تقصدواء الفرائض الفرائض، أدّوها إلى اللّه تؤدكم إلى الجنّة، إن اللّه حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالاً غير مدخول (معيب) وفضّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة وخاصّة أحدكم وهوالموت فإن النار أمامكم، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، وإنما يُنتظر بأولكم آخرُكم، اتقوا اللّه في عباده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والهائم، أطيعوا اللّه ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر، فأعرضوا عنه).

وعندما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربم بصفّين قال (عليه السّلام) :

((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لووصفتم أعمالكم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللّهم احقن دماءنا وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)).

ص: 299

11 _ مناجاة اللّه

كان (عليه السّلام) لا ينفك يلجأ إلى اللّه تعالى في كثير من أيامه المضمخة بالألم. ولكن كان يضمد جراحاته بإيمانه المطلق بعدالة القضية التي حملها على كتفيه لينير بها دروب الحياري، واشتمل اتصاله باللّه جلَّ وعلا على قنوات متعددة المقاصد والأغراض، ولكنها - على تعددها - كانت كلها تنبع من نبع الإيمان النظيف والتمسك الصادق بالعقيدة، لذلك كان واثقاً من أن مناجاته ربَّ السماء والأرض إن هي إلا مناجاة تخاطرية لا تُرَدُّ. وعلى وفق تلك الثقة المطلقة بأن اللّه يسمعه ويستجيب لدعائه ومناجاته تعددت تلك المناجاة؛ ونحن هنا سنختار عيّنة أو أكثر لكل دعاء أومناجاة لأنها متعددة الأغراض :

دعاء الاستسقاء :

قال (عليه السّلام) :

((اللّهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكناف، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك

ص: 300

ونقمتك، اللّهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين (أي : بالجدب والقحط)، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين، اللّهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة.

اللّهم إنا نسألك أن لا تردّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقاسنا بأعمالنا.

اللّهم انشر علينا غيثك وبركتك، ورزقك ورحمتك، واسقنا سُقياً نافعة مُروِيةً مُعشِبة تُنبت بها ما قد فات، وتحيي با ما قد مات، نافعة الحيا (الخصب والمطر)، كثيرة المجتنى، تُروى بها القيعان، وتسيل البطحان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار إنك على ما تشاء قدير)).

دعاء عند وضع رجله في الركاب :

وعندما عزم (عليه السّلام) على المسير إلى الشام، دعا ربه وهو يضع رجله في الركاب فقال :

((اللّهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.

اللّهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، ولا يجمعها غيرك ؛ لأن المستخلف لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً)).

تعليم الناس الصلاة على النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وبيان صفات اللّه

ص: 301

وصفة النبي والدعاء له :

((اللّهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حُمّل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدم ولا واهن في عزم، واعياً لوحيك،حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك حتى أوری قبس القابس وأضاء الطريق للخابط، وهُديَتْ به القلوب، بعد خوضات الفِتَن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام، ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق ورسولك إلى الخلق)).

كلمات كان يدعو بها :

((اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدتُ فعُد عليّ بالمغفرة .

اللّهم اغفر لي ما وأيتُ من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي.

اللّهم اغفر لي ما تقرّبتُ به إليك بلساني، ثم خالفه قلبي.

اللّهم اغفر لي مزنات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان وهفوات اللسان))

دعاء لمّا عزم لقاء القوم في صفّين :

((اللّهم ربّ السقف المرفوع، والجوالمكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل

ص: 302

والنهار، ومجرى للشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيارة؛ وجعلت سکانه سبطاً (قبيلة) من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوام والأنعام، ومما لا يُحصى ما يُرى وما لا يُرى، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً (ملجأ)، إن أظهرتنا على عدوّنا، فجنّبنا البغي وسدّدنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة أين المانع للذمار، والغائر (من الغيرة) عند نزول الحقائق (النوازل) من أهل الحفاظ (الوفاء) العار وراءكم والجنة أمامكم)).

اللجوء إلى اللّه لإغنائه :

((اللّهم صن وجهي (عن السؤال) بالیسار (الغني)، ولا تبذل جاهي (اسقاط المنزلة) بالاقتدار (الفقر) فأسترزق طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني، وأُفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله وليُّ الإعطاء والمنع، إنك على كل شيءٍ قدير)).

اللجوء إلى اللّه ليهديه إلى الرشاد :

((اللّهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطَّلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، (مستغيثة) إن وحشتهم الغربة. آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الإستجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك.

ص: 303

اللّهم إن فهمْتُ (عييتُ) عن مسألتي، أوعميت عن طلبتي، فدُلّني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي (مواضع الرشد) فليس ذلك بنکر (منکر) من هدايتك، ولا ببدعٍ (غريب) من كفايتك.

اللّهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك)).

عند لقائه العدومحارباً :

((اللّهم إليك أفْضَتِ (انتهت) القلوب، ومُدَّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونُقلت الأقدام، وأنضبتِ (ضعفت) الأبدان.

اللّهم قد صرح مکنون الشنآن (البغضاء) وجاشت (غلت) مراجل (قدور) الأضغان (الأحقاد).

اللّهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وكثرة عدوِّنا وتشتت أهوائنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين)).

عندما مدحه قوم في وجهه :

اللّهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم .

اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون.

كان يدعو به كثيراً :

((الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسواء عملي، ولا مقطوعاً دابري (نسلي)، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي، ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً (مختلطاً) عقلي، ولا

ص: 304

معذباً بعذاب الأمم من قبلي، أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجة عليَّ ولا حجة لي، ولا أستطيع أن آخذ إلّا ما أعطيتني، ولا أتقي إلّا ما وقيتني.

اللّهم إني أعوذ بك، أن أفتقر في غناك، وأضل في هداك، أوأُضام في سلطانك، أو أُضطهد والأمر لك.

اللّهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من کرائمي وأول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي.

اللّهم إنا نعوذ بك أن نذهب في قولك، أوأن نفتن عن دينك، أوتتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك)).

ص: 305

12_ البلاغة

إن ((نهج البلاغة) یدل من اسمه، على أن كلام الإمام علي (عليه السّلام)، كله بليغ، بل هو من وضع أسس البلاغة العربية و((سنَّ الفصاحة)). وقد مرّ بنا وسنمر - إنشاء اللّه - في الجزء الخامس على عيّنات من بلاغة الإمام بفروعها من بيان وبدیع ومعان.

ولكي لا نترك فقرتنا هذه بلا شاهد نستعين بعيّنات من كلماته البليغة (عليه السلام) منها :

الخداع / قال (عليه السّلام) :

((يقول ابن خالك ، عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق)).

وهذا من باب الخداع والاستدراج في علم البيان.

الموازنة / قال (عليه السّلام):

((الحمد اللّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلومن نعمته، ولا ميؤوس من مغفرته ..)). وهذا من باب الموازنة في علم البيان.

ص: 306

التخلص / قال (عليه السّلام) من خطبة يذكر فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس :

((هل يُحسُّ به إذا دخل منزلاً، أم هل تراه إذا توفي أحداً ! بل كيف يتوفی الجنين في بطن أُمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هوساكن معه في أحشائها؟

كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟

وهذا من باب التخلص في علم البيان، إذ تخلص الإمام (عليه السّلام) ببراعة من استطراده، ليصل إلى مراده في الجملة الاستفهامية الأخيرة. (كيف يصف إلهه).

الاستعارة / ولما قبض رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وخاطبه العباس وأبوسفیان بن حرب أن يبايعا له بالخلافة، قال (عليه السّلام) :

((أيها الناس؛ اسقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أواستسلم فأراح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتن الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا : حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت.

هيهات - بعد اللتيا والتي - واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمه. بل اندمجت على مکنون علمٍ لوبُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطرق البعيدة)).

وهذا من باب الاستعارة، إذ استعار أمواج البحر لأمواج الفتن، والمفاخرة

ص: 307

للتيجان.. وهكذا .

الاعتراض / وقال (عليه السّلام) :

((ألا وفي غدٍ - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة).

وكان مراده (عليه السّلام) في (ألا وفي غد يأخذ الوالي..) الاعتراض بين (ألا وفي غد)

وبين (يأخذ الوالي..) ب (تشكيل اعتراضي) هو(وسيأتي غد بما لا تعرفون) وهذا ما يسميه النحاة (جملة اعتراضية) وأسميه أنا (تشکیل اعتراضي)، لأن شرط الجملة لم يتوفر فيه.

الجناس / قال (عليه السّلام) :

((أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع الألسن، فقفّی به الرسل، وختم به الوحي، فجاهد في اللّه المدبرينعنه، والعادلين به)).

((وإنما الدنيا منتهی بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير لا ينفذها بصره. ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزِّود، والأعمى لها متزوِّد).

وهذا من باب الجناس، إذ جانس - (عليه السّلام) - بين الشاخص الأوّل والثاني وهو من الجناس التام.

ص: 308

السجع / وقال (عليه السّلام) :

((وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزٌّ لا تهزم أعوانه).

إذ سجع (عليه السّلام) بين (لسانه) و(أركانه) و(أعوانه) .

الكناية / وقال (عليه السّلام) لما قتل الخوارج وقيل له :

- يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم :

((كلا واللّه إنهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرنٌ قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين)).

إذ كنّى (عليه السّلام) ب(قرارات النساء) عن الأرحام .

لزوم ما لا يلزم / قال (عليه السّلام) :

((أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته، واستعصاماً من معصيته ، وأستعينه فاقة إلى كفايته؛ إنه لا يضل من هداه ولا يئِل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه؛ فإنه أرجح ما وزن، وأفضل ما خزن، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً إخلاصها، معتقداً مصاصها، نتمسك بها أبداً ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا؛ فإنها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمان، ومدحرة الشيطان).

فقد ورد في قوله (عليه السّلام) ذاك إضافة إلى السجع، لزوم ما لا يلزم حيث (أرجع ما وزن وأفضل ما خزن) وهولزوم الزاء والنون في كلا الجملتين.

ص: 309

المقابلة أوالطباق / قال (علیه السلّام) :

(أما بعد؛ فإن الدنیا قد أدبرت وآذنت بوداع، والآخرة أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن الیوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة والغایة النار..).

فقد قابل (علیه السلّام) بین (أدبرت) و(أقبلت) و(الیوم) و(غداً) و(الجنة) و(النار).

ص: 310

13_ إثبات وحدانية اللّه من خلال وصف الحيوان

قال (عليه السّلام) يصف خلق الجراد :

((... وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين (مضيئتين)، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين (أي : رجلين) بهما تقبض، یرهبها الزرّاع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها (دفعها) ولوأجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها (وثباتها) وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكوّن إصبعاً مستدقة، فتبارك اللّه الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرها ..).

وقال - (عليه السّلام) - يصف خلق الطاووس :

((ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حرکات؛ وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به، ومسلِّمة له، ونعقت (صاحت) في أسماعنا دلائله على وحدانيته، وما ذرأ (خلق) من مختلف صُوَر الأطيار التي أسكنها أخاديد (شقوق) الأرض،

ص: 311

وخروق فجاجها، (الطرق الواسعة) ورواسي أعلامها (جبالها) من ذات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسخ، والفضاء المنفرج، كونها بعد إذ لم تكن في عجائب صُوَر ظاهرة، وركبها في حقاق (مجتمع المفصلين) مفاصل محتجبة (مستترة باللحم)، ومنع بعضها بقَبالة (بضخامة) خلقه أن يسموفي الهواء خفوفاً (سرعة وخفة) وجعله يدف دفيفاً.

ونسقها (رتبها) على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقیق صنعته، فمنها مغموس في قالب لونٍ لا يشوبه غير لون ما غمس فيه؛ ومنها مغموس في لون صبغِ قد طوّق بخلاف ما صُبغ به.

ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج (داخل) قَصبَه وذَنَبٍ أطال مسحبه إذا درج (مشی) إلى الأنثي نشره من طيّه وسما به (رفعه) مطلًّا على رأسه كأنه قِلعُ (شراع) داريٍّ؛ (جالب العطر من دارین)، عنجه نوتيّه (جذبه بحّاره) يختال (يعجب) بألوانه، ويميس (يتبختر) بزيَفانه (حركته يميناً وشمالاً)، يُفضي (يُذهب)، كإفضاء الديكة ويؤُرُّ(یسند) بملاقحه (آلات التناسل) أرَّ الفحول المغتلمة (ذات الشهوة) للضراب (للقاح) أحيلك من ذلك على معاينةٍ، لا كما يحيل على ضعيف إسناده، ولوكان کزعم من يزعم أنه يلقح بدمعةٍ تسفحها مدامعه فتقف في صفتي جفونه، وإن أنثاه تطعم (تذوق) ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس (النابع)، لما كان ذلك بأعجب من مطاعنةٍ (تلقیح) الضراب؛ تخال قصبة مداري (أمشاط) من

ص: 312

فضة، وما أنبت عليها عجيب داراته (حالاته) وشموسه خالص العقيان (الذهب) وفِلذ الزبرجد.

فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت : جنىً جُني من هرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشّی (المنقوش) الحلل، وكمؤنق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان، قد نُقِّطَت باللجين (الفضة) المكلل (المزين) يمشي مشيَ المرح المختال، ويتصفح ذَنَبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله (لباسه) وأصابيغ وشاحه؛ فإذا رمی ببصره إلى قوائمه زقا (صاح) معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حُمشٌ (دقيقة) كقوائم الديكة الخلاسية (المهجنة) وقد نجمت (لبثت) من ظنوب (حرف عظمة الأسفل) ساقه صيصية (شوكة) خفية، وله في موضع العرف قُنزعة (خصلة) خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرسها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أوكحريرة ملبسةٍ مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر (بثوب) أسحم (أسود)؛ إلا أنه يخيل للكثرة مئة، وشدة بريقه، أن الخضرة الناضرة ممتزجة به، ومع فتق سمعه خط لمستدق القلم في لون الأقحوان (البابونج) أبيض يقق (شديد البياض)، فهوبياض في سواد ما هنالك يتألق (يلمع) وقلَّ صبغٌ إلا وقد أخذ منه بقسط (نصيب) وعلاه (فاقه) بكثرة صقاله وبريقه، وبصیص دیباجه ورونقه (حسنه) فهو كالأزاهير المبثوثة لم تُربِّها أمطار ربيع، فيسقط تترى، وينبت تباعا، فينحت (يسقط) من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود کھيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه! وإذا

ص: 313

تصفحت شعرةً من شعرات قصبه أرتك حمرةً ورديةً، وتارة خضرة زبر جدية، وأحياناً صفرة عسجدية (مذهبة)، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق (أعماق) الفطن، وتبلغه قرائح العقول، أوتستنم وصفه أقوال الواصفين!

وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تُركه، والألسنة أن تصفه فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلّاه (أهره) للعيون، فأدركته محدوداً مكوّناً أومؤلّفاً؛ وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقصر بها عن تأدية نعته)).

وقال (عليه السّلام) يصف خلق الخفاش :

((الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته! هواللّه الحق المبين أحق وأبين مما ترى العيون، تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثَّلاً خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع وانقاد ولم ينازع. ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي؛ وكيف عَشِيَت أعيُنُها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها يتلألؤ ضياؤها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج (ضوء) ائتلافها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقِها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق جنّته

ص: 314

(ظلمته)، فإذا ألقت الشمس قناعها. وبدت أوضاح (بياض) نهارها، ودخل إشراق نورها على الضباب في وجارها (جحرها)، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلّغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً ! وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ریش ولا قصب إلّا انك ترى مواضع العروق بينة أعلامًا (رسوماً)، لها جناحان لما أبرقا فينشقا، ولم يغلظا فيقلا، تطير وولدها لاصق بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان الباريء لكل شيء على غير مثال خلا من غيره، (أي تقدم من سواه فحاذاه).

وقال (عليه السّلام) في خلق النملة :

((.. انظر إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، وصبّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها. تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان ولوفي الصف اليابس والحجر الجامس (الجامد) ولوفكرت في مجاري أكلها في علوها وسُفلِها وما في الجوف من شراسيف (مقاطع أضلاع) بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبنى على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في

ص: 315

خلقها قادر، ولوضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلّا على انَّ فاطر النملة هوفاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف کل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال (رأس الجبل) وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن جحد المقدِّر وأنكر المدبِّر..)).

ص: 316

14_ الإقناع بالحجة

كان (عليه السّلام) يقنع الطرف المقابل بالحجة إما بدلیل قرآني أوبقرينة تاريخية لا تقبل الدحض أوبكلام منطقي يُسْقِط في يد الطرف الآخر حجته؛ ففي الأولى قول رجل للإمام (عليه السّلام):

((هؤلاء القوم الذين نقاتلهم، الدعوة واحدة والرسول واحد والصلاة واحدة والحج واحد، فماذا نسميهم؟)).

قال (عليه السّلام) :

-سمهم بما أسماهم اللّه في كتابه.

قال :

- ما كل ما في الكتاب أعلمه.

قال (عليه السّلام) :

- أما سمعت اللّه تعالى يقول :

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ } إلى قوله: {... َلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ

ص: 317

مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(البقرة/ 253) }.

فلما وقع الاختلاف كنا أولى باللّه وبالكتاب وبالنبي وبالحق. فنحن الذين أمنوا وهم الذين كفروا، وشاء اللّه قتالهم، فقاتلهم بمشيئته وإرادته)).

وعن الثانية قوله (عليه السّلام):

((ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إني لم أرد على اللّه ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام نجدة أكرمني اللّه بها.

ولقد قبض رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد رأيت غسله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً؟ فانفذوا على بصائركم ولتصديق نياتكم في جهادکم عدوكم، فوالذي لا إله إلا هوإني لعلى جادة الحق وإنهم لعلی مزلة الباطل، أقول ما تسمعون وأستغفر اللّه لي ولكم)).

وعن الثالثة : إن أحد رُسُل البصرة ورد على الإمام (عليه السّلام) ليعلم لهم عن حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له (عليه السّلام) من أمره معهم ما علم به أنه الحق، ثم قال : بايع.

فقال :

ص: 318

- إني رسول قوم ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم

فقال (عليه السّلام):

- أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً؟

قال :

- کنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.

فقال (عليه السّلام) :

- فامدد إذن يدك.

فقال الرجل :

- فواللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ، فبايعته (عليه السّلام). والرجل يُعرف بكليب الجرمي.

ص: 319

15_ وجود اللّه ومعاينته وصفاته

قال ذعلبة اليماني للإمام علي (عليه السّلام) : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

فقال (عليه السّلام) : أفأعبد ما لا أرى ؟؟

فقال ذُعلب : وكيف تراه؟

قال الإمام (عليه السّلام) : لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدرکه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباین، متکلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا يجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء (الخشونة) بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنوا الوجوه لعظمته، وتجب (تخفق) القلوب من مخافته. ومن خطبة له (عليه السّلام) في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول ما لا تجمعه خطبه، قال (عليه السّلام) :

((ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إياه عني من شبّهه، ولا صمده (قصده) من أشار إليه وتوهّمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدِّر لا بجول فِكرة، غني لا باستفادة

ص: 320

لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده (تعينه) الأدوات، سبق الأوقات کونُه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر (احساس) له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرین له، ضادَّ النور بالظلمة، والوضح بالُبهم، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد (البرد)، مؤلف بين متعادياتها (عناصرها) مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يُشمل بحدٍّ، ولا يُحسَب بعدٍّ، وإنما تحدُّ الأدوات نفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها (منذ) القدمية، وحمتها (قد..) الأزلية، وجنبتها (لولا..) التكملة، (منذ، وقد، ولولا، فواعل للأفعال قبلها) بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويحدث فيه ما هوأحدثه؟ إذن لتقارنت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وُجد له أمام ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، إذان لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوَّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره، ولم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جلَّ عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقِّدره، ولا تتوهمه الفِطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، لا يتغيّر بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعَرَضٍ من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حدٌّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فيقلّه، أو تهویه (ترفعه وتسقطه) أوأن شيئاً

ص: 321

يحمله فيميله ويعدله، ليس في الأشياء بوالج ! (داخل) ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات (جمع لهات : لحمة في سقف أقصى الفم) ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ (لا يتكلف الحفظ)، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لمن أراد کونُهُ كن فيكون، لا بصوت يُقرع ولا بنداء يُسمع، وإنما علامه سبحانه، فعلٌ منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك ممكناً، ولوكان قديماً لكان إلهاً ثانياً.

لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع، خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحدٍ من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها، من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأوَد والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، (التساقط والانشقاق)، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخدّ (شق) أوديتها، فلم يضعف ما بناه ولا ضعف ما قواه، هوالظاهر عليها سلطانه وعظمته، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته، لا يُعجِزُهُ شيء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها، فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه، خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرِّه، ولا كفؤ له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه، هوالمغني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمنقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها

ص: 322

واختراعها، وكيف لواجتمع جميع حيوانها، من طيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة (ذليلة) حسيرة (قاصرة) عارفة بأنها مقهورة مقرَّة بالعجز من إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها.

وإن اللّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات، فلا شيء إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها ما خلقه وبرّأه، ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا خوف من زمان ونقصان ولا للاستعانة بها على ندٍ مکاثر ولا للاحتراز بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركة، ولا لوحشةٍ كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثم هويفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحةٍ واصلةٍ إليه، ولا لثقل شيءٍ منها عليه، لم يُجلّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنه ، سبحانه، دبّرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا الاستعانة بشيء منها عليها، ولا لانصرافٍ من حال وحشةٍ إلى حال استئناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا من فقرٍ وحاجةٍ إلى غنى وكثرة، ولا من ذلٍّ وضعة إلى عزٍّ وقدرة)).

ص: 323

16_ ابتداء خطبه بحمد اللّه

كان (عليه السّلام) يبدأ خطبه غالباً بحمد اللّه وذكر صفاته وفضائله، ومن العجيب أن صيغه لم تتكرر في جميع خطبة التي وقفنا عليها، بل كل تحميد له صيغة تختلف عن التي قبلها، كأنه كان (عليه السّلام) قاصداً ذلك ليزيد اللّه - جلّت قدرته - حمداً موصولاً غير ممل ولا مخل.

ففي خطبة له (عليه السّلام)، وإنها وما يليها مأخوذة من (نهج البلاغة) ولم نشر إلى الصفحات لئلا نزيد في (الإحالات)، كما ذكرنا سابقا .

قال (عليه السّلام):

- الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون.

- أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته .

- الحمد لله وإن أتي الدهر بالخطب الفادح.

- الحمد لله غير مقنوط (ميؤوس) من رحمته، ولا مخلومن نعمته .

- الحمد لله كلما وقب (دخل) ليل وغسق (اشتدت ظلمته)، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق (غاب).

ص: 324

- الحمد لله غير مفقود الأنعام.

- الحمد لله الذي لم تسبق له حال حالاً.

- الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله (عطائه) .

- الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير رويّة (فكر).

- الحمد لله الذي لا يَفْدِه (یزیده) المنع والجحود، ولا يكديه الإعطاء والجود، (أي : يفقره الإعطاء).

- حمد اللّه والثناء عليه.

- الحمد لله الأوّل فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده .

- نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون.

- الحمد لله الناشر في الخلق فضله، والباسط فيهم بالجود يده .

- الحمد لله الأوّل قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر.

- الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده .

- الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته .

– الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر.

- نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى (أي : ما أحسن وامتحن).

- وأحمد اللّه وأستعينه على مراصد (مداحر) الشيطان ومزاجره .

ص: 325

- الحمد لله الدال على وجوده بخلقه.

- الحمد لله الذي انحسرت (انقطعت).

- الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته.

- الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد (الأرض).

- الحمد لله الذي لا تواري سماءٌ سماءٌ ولا أرض أرضا.

- الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمور.

- الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة (تعب).

- الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد.

- الحمد لله الفاشي (المنتشر) في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جَدُّه (عظمته).

- الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء.

- نحمده على ما وفّق له من الطاعة، وذاد (طرد) عنه من المعصية .

ص: 326

17_ الاستشهاد بقصص الأنبياء لدعم رأيه

كان (عليه السّلام) إذا أراد أن يقيم دليلاً أوحجة على أحد استشهد بجانب من قصص الأنبياء (عليهم السلّام) لدعم ذلك الدليل أوتلك الحجة، فقد قال (عليه السّلام) في كيفية رجاء اللّه :

((.. يدعي بزعمه أنه يرجو اللّه، كذب والعظیم، ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله؟ فكل من رجا عُرف رجاؤه في عمله، وكل رجاءٍ إلا رجاء اللّه تعالى فإنه مدخول (مغشوش) وكل خوف محقق إلا خوف اللّه فإنه معلول (عارض) يرجواللّه في الكبير، ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال اللّه جلَّ ثناؤه يُقصِّرُ به عما يُصنع لعباده؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً ؟ أوتكون لا تراه للرجاء موضعاً؟ وكذلك إن هوخاف عبداً من عبيده، أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه، فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضاراً ووعداً. وكذلك من عظمت الدنيا في عينيه، وكبر موقعها في قلبه، آثرها على اللّه تعالى، فانقطع إليها وصار عبداً لها. ولقد كان في رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كافٍ لك في الأسوة (القدوة). ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها،

ص: 327

وكثرة مخازيها ومساويها، إذا قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكتافها (جوانبها) وفُطم عن رضاعها أوزُوِيَ (قُبض) عن زخارفها.

وإن شئت ثنّيت بموسی کلیم اللّه (عليه السّلام) حيث يقول :

- ربي إني لما أنلت إلىَّ من خيرٍ فقير.

واللّه ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل تُري من شفيف صفاق (جلده) بطنه، لهزاله وتشذب لحمه.

وإن شئت ثلثت بداود (عليه السّلام) صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه :

- أيكم يكفيني بيعها؟

ويأكل قرص الشعير من ثمنها .

وإن شئت قلت في عیسی بن مريم (عليه السّلام)؛ فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الخشب، وكان إدامة الجوع، وسراجه الليل والقمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم؛ ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يكفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه ! فتأسَّ (اقتدِ) بنبيك الأطيب الأطهر (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم)، فإنه فيه أسوة لمن تأسّی، وعزةً لمن تعزّى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه والمقتص الأثرها.

وقال (عليه السّلام): {.. ولقد كان (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل على

ص: 328

الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقّع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاویر فيقول :

- يا فلانة - لإحدى زوجاته - غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.

فأعرض عن الدنيا في قلبه وأمات ذكرها في نفسه }.

وقال (عليه السّلام) {.. ولقد كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما يدلك على مساويء الدنيا وعيوبها، إذا جاع فيها مع خاصته (خصوصيته عند ربه) وزويت عنه زخارفها مع عظیم زلفته (منزلته) فلينظر ناظر بعقله : أكرم اللّه محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه، فقد کذب - واللّه العظيم - بالإفك العظيم، وإن قال أكرمه إن اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه)).

ص: 329

18_ وصف المتقين والمنافقين

أ - المتقون

قال - (عليه السّلام) -:

((.. فالمتقون فيها (في الدنيا) هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نُزِّلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزِّلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كُتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمّون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربُّهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، أما الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآيةٍ فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً

ص: 330

وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول ذاتهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم، فأما النهار فحكماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح (السهام) ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضی وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا (جنّوا).

ولقد خالطهم أمرٌ عظيم، لا يرضون من أعمالهم إلا القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون إذا زُكّي أحدهم خاف مما يُقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي من نفسي، اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون .

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين ، وحرصاً في علم، وعلماً في حِلم، وقصداً (اقتصاد) في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى، وتحرّجاً عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهوعلى وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذراً ويصبح فرحاً؛ حذراً لما حذر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة، أن استصعب عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أملُه، قليلاً زللُه، خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حریزاً دينه، ميِّتةٌ شهوته، مكظوماً غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كُتِبَ في الذاكرين، وإن كان في الذاکرین لم يكتب من الغافلين،

ص: 331

يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليّناً قوله، غائباً منکره، حاظراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، في الزلازل (الشدائد) وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور، لا يحيفُ على من يُبغضه، ولا يأثم في من يحب، يعترف بالحق قبل أن يُشهَد عليه، لا يضيعُ ما استُحفِظ، ولا ينس ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل بالباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعلُ صوته، وإن بُغِيَ عليه صبر حتى يكون اللّه هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعبَ نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه، بُعدُهُ عمن تباعد عنه زُهدٌ ونزاهة، ودنوّه من دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكِبر وعظمة، ولا دنوّه بمكرٍ وخديعة)).

ب - المنافقون

قال (عليه السّلام) :

((.. أوصيكم عباد اللّه يتقوى اللّه، وأحذركم أهل النفاق فإنهم الضالون المظلون، والزالون المزلون يتلونون ألواناً، ويفتنون افتناناً ويعمدونكم بكل عماد ويرصدونكم بكل مرصاد، قلوبهم دويّة (مريضة) وصفاحهم (وجوههم) نقية، يمشون الخفاء، ويدبون الضراء، وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء، حَسَدَة الرّخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء، لهم بكل طريق صريع، وإلى كل ملبٍ شفيع، ولكل شجوٍ دموع، يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا (ألحوا) وإن مدلوا کشفوا، وإن حكموا أمرقوا، قد أعدوا لكل حق باطلاً،

ص: 332

ولكلِّ قائمٍ مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل بابٍ مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً، يتوصلون إلى الطمع باليأس لیقیموا به أسواقهم، ويتفقوا به أعلاقهم (نفائسهم)، يقولون فيتشبهون، ويصفون فيمهون، قد هونوا الطريق واضلعوا المضيق، فهم لمّة (جماعة) الشيطان، وحُمّةُ النيران لأولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)) .

ص: 333

19_ المنهج المالي

كان (عليه السّلام) حريصاً على أموال المسلمين؛ فقد نهج نهجاً عادلاً في توزیع ثروة البلاد الإسلامية على مستحقيها في تكافؤ فرصي قل مثيله.

وكُتُب عماله في هذا الجانب كثيرة في (نهج البلاغة) نختار منها وصيته التي يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، قال (عليه السّلام) :

((انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تروِّعنَّ (تخوِّفنّ) ولا تجتازنّ (تمر) علیه کارهاً، ولا تأخذنّ منه أكثر من حق اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امضِ إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم وتسلم عليهم، ولا تخدج (تبخل) بالتحية لهم، ثم تقول : عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه وخليفته، لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل : لا، فلا تراجعه وإن أنعم (أي : قال نعم) لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أوتوعده، أو تعسفه أوترهقه فخذ ما اعطاك من ذهب وفضة، فإن كان له ماشية، أوإبل، فلا تدخلها إلا بإذنه ،

ص: 334

فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفّرنَّ بهيمة ولا تُفزِّعنّها، ولا تسوءنَّ صاحبها فيها، واصدع (قسّم) المال صدعين ثم خيّره فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه في ماله؛ فاقبض حق اللّه منه، فإن استقالك فأقله (اعفه)، ثم اخلطها ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق اللّه في ماله. ولا تأخذن عوداً (المسنّة من الإبل) ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة (ضعيفة) ولا ذات عوار (عيب) ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى یُوَصّل إلى وليّهم فيقسّم بينهم، ولا توكل بهت الّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف، ولا ملغب (معيي)، ولا متعب، ثم أجدر (أسرع) إلينا ما اجتمع عندك نصيِّره حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها (رضيعها) ولا يَحْصُر (يحلب) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنَّها رکوباً، وليعد بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفِّه على اللّاعب (المتعب) وليستأنِ (يرفق) بالنقبِ (المخروق الخف)، والضالع، وليوردها ما تمر به من الغُدُر (جمع غدير)، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادِّ الطرق (الخالية من المراعي)، وليروِّحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف (المياه القليلة) والأعشاب حتى تأتينا - بأذن اللّه - بُدَّنا (سماناً) مُنقيات (أي ذات مخ) وغير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه وسنّة نبيّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك - إن شاء اللّه)).

ص: 335

20_ المنهج الإداري

في المنهج الإداري مثله في المنهج المالي؛ إذ كان (عليه السّلام) يريدها دولة إسلامية نظيفة من الظلم الاجتماعي، بعيدة عن المحسوبية والمنسوبية، الطبقات فيها معدومة والحقوق فيها غير مهضومة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) وأن المسلمين، (سواسية كأسنان المشط) فلا فرق بين قرشي وحبشي ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. وهكذا كان (عليه السّلام) يؤكد تلك القيم عبر كتبه إلى ولاته ومن يكلفه أمر الرعية.

في كتاب له (عليه السّلام) إلى عبد اللّه بن عباس، وهوعامله على البصرة قال فيه :

((واعلم أن البصرة مهبط إبليس، وغرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان إليهم، وأحلل عقدة الخوف من قلوبهم، وقد بلغني تنحَّرك لبني تميم، وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع آخر، وإنهم لم يُسبقوا بوغم (بحقد) في جاهلية ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على

ص: 336

صلتها، ومأزورون على قطيعتها، فاربع (ارفق) أبا العباس، رحمك اللّه فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر فإنّا شریکان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلنَّ (يضعفنَّ) رأيي فيك، والسلام)).

ومما كتب للأشتر النخعي قوله (عليه السّلام):

((إياك وحسامات (علو) اللّه في عظمته، والتشبيه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار، ويهين كل مختال.

أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی (مَیل) من رعیتك، وإنك ألّا تفعل تظلِم! ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللّه أدحض (بطل) حجته، وكان اللّه حرباً حتى ينزع (يقلع)، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين، وهوللظالمين بالمرصاد.

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف (يذهب) برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يفتقر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، و أقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف (الإلحاح)، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة .. ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ! وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه)).

ص: 337

21 _ المنهج السياسي

المنهج السياسي للإمام علي (عليه السّلام) اعتمد الكتاب والسنة المحمدية بكل تفصيلاتها، كما هو في الإدارة والمالية، فلا زوغان عن ذلك المنهج ولا حلول وسطية في معالجة أمور المسلمين ومفاصل دولة الإسلام، وكعادتنا سنختار عينات للتدليل على ما نقول.

لما أراده الناس على البيعة - بعد قتل عثمان - قال (عليه السّلام) :

((دعوني والتمسوا غيري فأنتم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)).

وبعد أن بويع للخلافة قال له قوم من الصحابة :

- لوعاقبت قوماً ممن أجلبوا على عثمان .

ص: 338

فقال (عليه السّلام):

((يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون (المعنيون) على حد شوكتهم (شدتهم) يملكوننا ولا نملكهم! وهاهم قد ثارت معهم عبدانهم، والتفت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا، وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه! إن هذا الأمر أمر جاهلية؛ وإن لهؤلاء القوم مادة (عواناً) إن الناس من هذا الأمر - إذ حُرِّك - على أمور :

فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مُسمَحةً (مُيَسّرةً) فاهدؤوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع (تهدم) قوةً، وتسقط مُنّة (قدرة)، وتورث وهناً وذلةً، وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذ لم أجد بدّاً فآخر الدواء الكي (أي : القتل).

ومن كلام له (عليه السّلام) کلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما، والاستعانة بالأمور بهما قال (عليه السّلام) :

((.. واللّه ما كانت لي بالخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة (غرض) ولکنکم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرتُ إلى كتاب اللّه وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما، ولا إلى رأي غيركما، ولا وقع حکم جهلته فأستشيركما، وإخواني من المسلمين، ولوكان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن

ص: 339

غيركما، وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة (التسوية) فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وُلِّيته هوى مني، بل وجدت - أنا وأنتما - ما جاء به رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) قد فُرغ منه، فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ اللّه من قَسْمِهِ وأمضى فيه حكمه، فليس لكما - واللّه - عندي ولا لغيركما في هذا عتب أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر.

.. رحم اللّه رجلاً رأي حقاً فأعان عليه، أورای جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه)).

ص: 340

22 _ التضاد والتقابل

إشارة

كان (عليه السّلام) يزاوج في بعض كلماته الحكمية بين المتضادات مرة وبين المتقابلات أخرى، ولكي نجعل القاريء الكريم يقف بنفسه، على هذا الفن من الكلام اخترنا عينات من كلا النوعين :

أ _ المتضادات

قال (عليه السّلام) :

- فاعل الخير خيرٌ منه، وفاعل الشر شر منه .

إذ زاوج بين المتضادين (الخير والشر).

- کن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً .

- لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه.

- إذا تم العقل نقص الكلام.

- قال (عليه السّلام) لرجل أفرط في الثناء عليه وكان متهمه :

ص: 341

أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.

- رُبَّ عالِم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه .

- لقد عُلِّق بنیاط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه وذلك القلب وله مواد من الحكمة وأضداد من أخلاقها :

- فإن سنح له الرجاء أذله الطمع.

- وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص.

- وإن ملكه اليأس قتله الأسف.

- وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ .

- وإن أسعده الرضا نسي التحفظ .

- وإن ناله الخوف شغله الحذر.

- وإن اتسع له الأمن استلبته الغيرة (الغفلة).

- وإن أفاد مالاً أخفاه الغني. - وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع.

- وإن عضته الفاقة شغله البلاء.

- وإن جهده الجوع قعد به الضعف.

- وإن أفرط به الشبع كظته البطنة (آلمته التخمة).

فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد .

ص: 342

ب _ المتقابلات

- ما أضمر أحد شيئاً إلا أظهره في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

- وقال (عليه السّلام) لابنه الحسن (عليه السّلام) :

يا بني احفظ أربعاً وأربعاً لا يضرك ما عملت معهن :

- الغني غنی العقل.

- وأكبر الفقر - الحمق.

- وأوحش الوحشة - العُجب .

- وأكرم الحسب - حُسن الخُلُق .

يا بني :

- إياك ومصادقة الأحمق - فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.

- وإياك ومصادقة البخيل - فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه.

- وإياك ومصادقة الفاجر - فإنه يبيعك بالتافه (القليل).

- وإياك ومصادقة الكذاب - فإنه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب.

وقال (عليه السّلام) :

- الظفر بالحزم.

- والحزم بإجالة الرأي .

ص: 343

- والرأي بتحصين الأسرار.

- لا غنى کالعقل.

- ولا فقر کالجهل.

- ولا میراث کالأدب.

- ولا ظهير كالمشاورة.

- من نصب نفسه للناس إماماً - فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره .

- وليكن تأديبه - بسيرته قبل تأديبه بلسانه .

- ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدِّبهم.

- لا مال أعود من العقل (أنفع).

- ولا وحدة أوحش من العُجب.

- ولا عقل كالتدبير.

- ولا كرم كالتقوى.

- ولا قرين كحُسن الخُلُق.

- ولا میراث کالأدب.

- ولا قائد کالتوفيق.

- ولا تجارة العمل الصالح.

- ولا ربح كالثواب .

ص: 344

- ولا درع کالوقوف عند الشبهة .

- ولا زهد کالزهد في الحرام .

- ولا علم كالتفكر.

- ولا عبادة كأداء الفرائض .

- ولا إيمان كالحياء والصبر .

- ولا حسب كالتواضع.

- ولا شرف كالعلم.

- ولا مظاهرة أوثق من المشاورة .

وقال (عليه السّلام) :

((لأنسُبنَّ نسبة لم ينسبها أحد قبلي :

- الإسلام هو التسليم.

- والتسليم هو اليقين .

- واليقين هو التصديق .

- والتصديق هوالإقرار.

- والإقرار هوالأداء.

- والأداء هو العمل الصالح)).

وقال (عليه السّلام) :

ص: 345

- من استبد برأيه هلك .

- ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.

- من كتم سرّه كانت الخيرة بيده .

- مَن حاسب نفسه ربح.

- من غفل عنها خسر .

- ومن خاف أَمِن .

- ومن اعتبر أبصر .

- ومن أبصر فَهِم.

- ومن فَهِمَ عَلِمَ.

وقال (عليه السّلام):

- لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث :

في نكبته. وغيبته. ووفائه .

ص: 346

23_ وصف أهل البيت

مما وجدناه من خصائص (نهج البلاغة) إشارات هنا وهناك تخص أهل بيت النبوة (عليهم السلّام). إذ كان الإمام علي (عليه السّلام) يشير إليهم مشيداً بهم في رسائله وخطبه وأحاديثه ووصاياه، وجدنا من المفيد أن نفرد لتلك الإشارات فقرة خاصة بها لأنهم أعلام الدين ومنارات الوری.

قال (عليه السّلام) بعد انصرافه من صفين يصف آل محمد (عليهم السلّام) :

((هم موضع سره ولجأُ أمره (ملاذ أمره)، وعيبة (وعاء) علمه، وموئل (مرجع) حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دینه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه)).

وقال (عليه السّلام) :

((هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء المغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة)).

وقال (عليه السّلام) :

((.. وهم أزِمَّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق)).

ص: 347

وقال (عليه السّلام) :

((نحن أهل لبيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة)).

وقال (عليه السّلام) عن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((عترته خير العِتَر، وأسرته خير الأُسَر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرَم وسقت (ارتفعت) في كَرَم، لها فروع طوال، وثمرٌ لا يُنال ..)).

وقال (عليه السّلام):

(( أإن مَثَل آل محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كمَثَل نجوم السماء؛ إذا خوی (غاب) نجم طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع، وأراکم ما كنتم تأملون)).

وقال (عليه السّلام) :

((نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومُختَلَفُ الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة)).

وقال (عليه السّلام):

((وعندنا - أهل البيت - أبواب الحكم وضياء الأمر).

وقال (عليه السّلام) في أهل بيت النبوة :

((فيهم کرائم (آیات) القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا أصدقوا، وإن صمتوا لم يُسبَقوا)).

وقال (عليه السّلام) :

ص: 348

((هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون لحق ولا يختلفون فيه، وهو دعائم الإسلام وولائج (ما يلج فيه) الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه (أصله) وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته (أصله)، عقلوا الدين عقل وقاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية .

فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل)) .

ص: 349

24_ الاستشهاد بالقرآن الكريم

استشهد الإمام علي (عليه السّلام) بآيات من القرآن الكريم في مواضع عدة من (نهج البلاغة)؛ أما لتدعيم وتأييد رأيٍ له طرحه أو لتبصير الإنسان بأمور حياته، أو لتذكيره بما سينتظره يوم لا ينفع (فيه مالٌ ولا بنون)، أوللمعاتبة والنقد والتأنيب والتوبيخ على تقاعس في قتال. وهكذا نراه (عليه السّلام) لا يغفل القرآن الكريم في كلماته كلها، كما في منهجه في الحياة لأنه علیه تربي ومنه استقى معارفه، .. وكعادتنا سنستشهد بعينات من استشهاداته القرآنية (عليه السّلام) :

قال (عليه السّلام) في صفة خلق آدم (عليه السّلام):

((.. واستأدی (طالب) اللّه - سبحانه - الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود له، والخنوع لتكرمته، فقال سبحانه :

{.... اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة/34) }.

اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، فأعطاه اللّه النظرة استحقاقاً للسخطة، واستتماماً للبلية، وإنجازاً

ص: 350

للعدة، فقال :

{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (الأعراف/13 - 15) }.

وقال (عليه السّلام) في ذكر الحج :

((جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حَرَماً، فرض حقه، وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته (زيارته)، فقال سبحانه :

{... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران /97) }

وقال (عليه السّلام) يصف يوم مبايعته :

((فما راعني إلا والناس تعرف الضبع (للكثرة)، إليّ ينثالون (يتزاحمون) عليّ من كل جانب، حتى لقد وطيء الحسنان، وشُق عطفاي (جانباي) مجتمعين حولي کربيضة (الرابضة) الغنم، فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة، ومرقت (خرجت) أخرى، وقسط آخرون (جاروا) كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالى يقول :

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/83) }.

بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجدها)). وقال (عليه السّلام) في القرآن الكريم :

((أم أنزل اللّه - سبحانه - ديناً ناقصاً فاستعان بهم على تمامه! أم كانوا

ص: 351

شرکاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى، أم أنزل اللّه - سبحانه - دیناً تاماً فقصّر الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) عن تبليغه وأدائه، واللّه يقول :

{... مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ... (الأنعام/38) }.

وفيه تبيان لكل شيء، وذكر أن الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وإنه لا اختلاف فيه فقال - سبحانه -:

{... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا... النساء /82) }.

وأن القرآن ظاهره أنيق (حسن) وباطنه عمیق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تنكشف الظلمات إلا به)).

وقال (عليه السّلام) ليلة الحرير في صفين :

((وعلیکم بهذا السواد الأعظم، والرواق (الفسطاط) المطنّب (المشدود بحبل) فاضربوا ثبجه (وسطه) فإن الشيطان كامن في كسحِهِ (شقه)، وقد قدّم للوثب يداً، وآخر للنكوص رجلاً، فصمد صمداً (قصد) حتى ينجلي لكم عمود الحق :

{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (محمد/35) }.

نكتفي بتلك الخاصية من خصائص (نهج البلاغة)، على أننا سنفرد لها كتاباً خاصاً، نحن بصدده، لأننا أردنا في هذا الجزء أن نشير إليها فقط، وهي كثيرة في (النهج) تحتاج إلى شمولية في التناول وعمق في التحليل هي عدّة الكتاب الذي عزمنا على إصداره إن شاء اللّه، نسأله تعالى أن يمدنا بعونه لنتوفر على دراسة الإمام علي (عليه السّلام).

ص: 352

المحتويات

الإهداء ...5

مقدمة المؤلف ...6

التمهید ...10

نسب الإمام علي (عليه السّلام) ومكانته في الإسلام ...14

علي بن أبي طالب علیہ السلام في رأي مفكري السنة)...19

علي بن أبي طالب في رأي غير المسلمين...24

علوم علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ...28

العلم الإلهی: أوعلم الفضاء...31

علم الفقه...32

علم القضاء...33

علم التفسیر...35

ص: 353

علم التصوف...37

عِلمُ النحو...41

صفات علیِّ بنِ أبي طالب(علیه السلّام...43

الشجاعة...44

القوة...46

السخاء والجود...47

الحِلْم...49

الجهاد...50

الفصاحة...51

السماحة...53

الزهد...55

إسهامات علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ودوره في الإسلام...59

جمعه القرآن...59

مشوراته...60

سیاسته...63

الضوء الأوّل: المشككون بنهج البلاغة...74

الرد على المشككِين...75

ص: 354

الضوء الثاني: الرد على المشككين بنهج البلاغة...94

1_جامع النهج...95

2_ الغثاثة ...99

1. تخير المفردات ...101

2. قوة التعبير ...102

3. سهولة التعبير...103

4. قِصر الفقرات ...104

5. كثرة الصيغ الإنشائية ...105

3_ عائدية نهج البلاغة ...114

أقوال المنصفين في نهج البلاغة ...126

4_ التعريض بالصحابة ...133

5_ الوصي والوصاية ...143

6_ الإطناب والإيجار ...156

7_ السجع ...160

8_ دقة الوصف ...174

9_ الألفاظ الاصطلاحية ...181

10_ التقسيمات العددية ...183

11_ التنبؤات والتوقعات ...189

12_ الزهد ...207

13_ وصف الحياة الاجتماعية ...219

ص: 355

الضوء الثالث : من خصائص نهج البلاغة ...247

1_ الخاصية العلمية ...248

2_ خاصية التسلسل المنطقي للوصول إلى الحقيقة ...253

3_ وصف السماء جغرافيا ...254

4_ إشارات تاريخية ...256

5_استشراف المستقبل ...264

6_ القيادة العسكرية ...269

7_ الشكوى ...277

8_النقد...282

أ. النقد الاجتماعي ...283

ب. النقد الأدبي ...286

9_العتاب ...291

10_ النصح والإرشاد ...296

11_ مناجاة اللّه ...300

12_ البلاغة ...306

13_ إثبات وحدانية اللّه من خلال وصف الحيوان ...311

14_ الإقناع بالحجة ...317

15_ وجود اللّه ومعاينته وصفاته ...320

16_ ابتداء خطبه بحمد اللّه: ...324

ص: 356

17 - الاستشهاد بقصص الأنبياء لدعم رأيه ...327

18_ وصف المتقين والمنافقين ...330

أ .المتقون ...330

ب. المنافقون ...332

19_ المنهج المالي ...334

20 _ المنهج الإداري ...336

21_ المنهج السياسي ...338

22_التضاد والتقابل ...341

أ .المتضادات ...341

ب . المتقابلات ...343

23_ وصف أهل البيت...347

24_ الاستشهاد بالقرآن الكريم ...350

ص: 357

المجلد 2

هوية الکتاب

أضواء على نهج البلاغة

الجزءالثانی

ص: 1

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق وزارة الثقافة العراقية لسنة 2010 9110

ص: 2

أضواء على نهج البلاغة

شرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

الجزء الثاني

تالیف

دكتور علي الفتال

إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1639 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 19933 78150.

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر : مصطفی حسام عاشوری

ص: 4

ترجمة الشريف الرضي رحمه الله

هو السيد أبو الحسن وأبو عدنان محمد بن الطاهر ذي المنقبتين أبي أحمد الحسين بن موسى الأبرش بن محمد الأعرج بن أبي سبحة موسی بن إبراهيم المرتضى المجاب بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين السجاد بن أبي عبد الله الحسين السبط الشهيد بن أبي الحسنين علي المرتضى الحيدر الكرار بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب شيبة الحمد سید البطحاء بن هاشم الثريد عمرو.

أما نسبه من أمه : فاطمة بنت محمد يعود إلى هاشم الثريد عمرو أيضا.

وأما ولادته فكانت سنة 359ه في بغداد وتوفي فيها بين سنتي 404 - 406 ه. وكان يسكن في محلة الأمباريين وهي إحدى محلات الكاظمية. وقيل في دفنه وقبره أنه دفن في داره ثم نقل رفاته إلى كربلاء حيث كانت لأسرته مقبرة خاصة في کربلاء دفن فيها والده وشقيقه الشريف المرتضی علم الهدى وأختاه، وقيل أن قبره يقع بين ضريح الأمام الحسين عليه السلام وقبر إبراهيم المجاب.

ص: 5

أما مؤلفاته فقد بلغت 19 مؤلفة هي :

1) كتاب أخبار القضاة .

2) کتاب الأمثال .

3) تعليق خلاف القضاة.

4) کتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن.

5) كتاب الجيد من شعر أبي تمام.

6) كتاب تعليقته على كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي.

7) کتاب الحسن من شعر الحسين بن الحجاج.

8) حقائق التأويل في متشابه التنزيل.

9) خصائص الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام.

10) کتاب رسائله المنثورة المسجوعة.

11) کتاب الرسائل الشعرية التي دارت بينه وبين أبي إسحاق الصابي.

12) رسالة (ذكرها طارق الخالصي في مجلة الكتاب). 13) کتاب زیادات شعر أبي تمام الطائي .

14) کتاب زیادات شعر ابن الحجاج.

10) کتاب سيرة والده الطاهر أبي أحمد الحسن

16) کتاب مجازات الآثار النبوية .

ص: 6

17) کتاب المختار من شعر أبي إسحاق الصابي (2).

18) نهج البلاغة.

19) دیوان بجزأين.

ص: 7

ترجمة ابن أبي الحديد

هو عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني البغدادي الشيعي

الشافعي المعتزلي (568 - 656 ه).

ثمة مصادر تذكر : أنه ولد ونشأ في المدائن وتوفي ببغداد وأخرى تذكر : أنه

ولد في الكرخ ثم عاش في المدائن وهو القائل :

پاکرخ جاد عليك مدرار الهوى*** وسقى ثراك من الرواعد مسبل

مادمت بعدك بالمدائن سلوة*** الأثنى الثاني هواك الأول

استغرق تأليف شرح نهج البلاغة أربع سنوات ونيف إذ كان من 644 -

649 ه كما صرح به في شرح النهج.

وتسنم وظائف عدة منها :

ص: 8

1. كاتب في دار التشريعات سنة 929 ه.

2. كاتب في المخزن (دار الخراج) سنة 130 ه.

3. كاتب في ديوان الخلافة سنة 31 -326ه 4. نقل الى واسط سنة 131 ه إلى وظيفة لم يذكرها أصحاب السير.

5. وفي سنة 642 ه أسندت إليه وظيفة مشرف ولاية الحلة، أي الوالي أو

المفتش المالي.

6. سنة 656 ه عين بوظيفة الأشراف على خزائن الكتب في بغداد.

7. سنة 656ه عين كاتب السلة - بفتح السين المهملة وفتح المشددة اللام - أي ديوان الزمام، وهو رأس الدواوين وأعلاها. وأقربهما إلى الخليفة، وبعد هذه الوظيفة توفي.

مؤلفاته

1) الاعتبار، وذكره في شرح النهج.

2) انتقاء المتصفى، وقد ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون والزركلي في اعلامه.

3) تتمة فهج البلاغة، مطبوع وذكره في شرح النهج.

4) تعليقات على بعض الكتب، غير مطبوع، ذكره في شرح النهج.

5) تعليقات وحواش على المفصل، وذكره ابن شاكر في الفوات.

ص: 9

6) تقرير الطريقتين في أصول الكلام، ذكره صاحب الكشكول.

7) تلخيص نقض السفيانية، ذكره في شرح النهج.

8)حول سيفيات المتنبي. ذکره بروکلمان في تأريخ الأدب العربي.

9) رسائله الديوانية . ذكره أكثر من مصدر وذكره في شرح النهج.

10) شرح نهج البلاغة.

11) الفلك الدائر على المثل السائر. مطبوع. 12) العلويات السبع. مطبوع.

وثمة كتب أخرى تربو على العدد الذي ذكرناه لم تطبع ولكنها ذكرت في المصادر.

منهج الأضواء

الكل مؤلف أو محقق أو معد منهجه في التأليف والتحقيق والإعداد، ولما كانت "الأضواء " على نهج البلاغة تأليفة من خلال الجزء الأول منه خاصة، وتحقيقا من خلال الهوامش وأعدادا من خلال تصنيف النصوص الشعرية .. لذلك كان لزاما علي أن أتخذ لي منهجا يجمع بين دفتيه الوظائف الثلاث (التأليف والتحقيق والإعداد).

وتأسيسا على ذلك يمكن أجمل المنهج الذي اعتمدته في "الأضواء" بالأمور الآتية:

1) ألحقت بعض الأبيات التي أشار إليها المحقق أبو الفضل في الهامش بما

ص: 10

أستشهد به ابن أبي الحديد من شعر لئلا أثقل على القارئ بالرجوع إلى الهامش وتجزيء النص الشعري.

2) صرفت النظر عن بعض إحالات المحقق من اختلاف بالنقل والقراءة في مضان المصادر أو مخطوطات "النهج" لأن ذلك ليس من وظيفتي.

3) اختصرت بعض الروايات بالنص بما لا يخل بعناصره الأساسية لينصب التركيز على الشعر، مع الاحتفاظ بارتباطه بالحدث الذي قيل من أجله.

4) صرفت النظر عن بعض الشعر الذي لم أجد فيه قيمة فكرية، وهو قليل جدة.

ه) إذا وجدت شاهدة في قطعة شعرية أخذت البيت المستشهد به وأحلت الأبيات الأخرى إلى باب آخر، كمرثية الشريف الرضي (236. 7) فقد أخذت البيت الأخير منها وأحلت الأبيات الأخرى إلى الرثاء أو غيرها.

6) صرفت النظر عن أبيات مكررة في أماكن بعيدة عن مكانها الأول.

7) وضعت خطة تحت الكلمة التي استشهد بها الشارح في (توضيح معنى مفردة) ليسهل على القارئ الربط بين الشاهد والمستشهد به.

8) أضفت واو العطف (خاصة في بدايات الأبيات المستشهد بها أما السقوطها من الأصل في الطبع أو لعدم وجودها في الأصل، والمحقق لم يلتفت إليها، على الرغم من اختلال الوزن بدونها، (أي بدون الواو)، ووضعت الواو بين قوسين ().

ص: 11

9) اختصرت بعض توضيحات الهوامش لوضوح المعني بما ثبت .

10) حاولت عدم ذكر ديوان الشاعر المعروف في الهامش، اعتمادا على معرفة القارئ إياه.

11) قد يتكرر نص شعري، أو كلام للإمام علي عليه السلام فهو ما يقتضيه تقسيم فصول الأضواء.

12) اتبعت منهج الحياد في نقل الشعر والخبر، وللأمانة التأريخية وتركت الرأي للقارئ.

13) اتبعت منهج (المحطات في النقل، إذ كنت بين كل معركة ومعركة (في معركة صفين مثلا) أنقل ما يدور في مجلس الأمام علي عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان أو بعض الكتب المتبادلة بينهما لأريح القارئ من عناء رجز المعركة وأطلعه على ما يدور خلف الكواليس.

14) نقلت شعرة في هجاء الأمام علي عليه السلام الى جانب مدحه لاستكمال الجوانب التاريخية، كما في صفين خاصة، عندما هجاه یزید بن الحجية (84 /4) .

10) وضعت شروحاتي أو إشاراتي، أو توضيحاتي، أو إبداء رأي ما سواء في المتن أو في الهامش، بين قوسين ().

تصرفت بالنص النثري بما لا يضر.

16) في فصل (حرب صفين) كنت أكمل النص الشعري من كتاب صفين

ص: 12

لنصر بن مزاحم، تحقیق عبد السلام هارون، إماما للفائدة .

17) استبدلت علامة التعجب (!) بعلامة الاستفهام عندما تكون الجملة استفهامية ظنا مني بعدم وجود علامة استفهام طباعية في المطبعة (النسخة التي بين يدي) أو سهو الطباع كقوله عليه السلام لمعاوية : - ((فما أنت وعثمان؟

18) لم أشر في الهامش كثيرة إلى كتاب (صفين لئلا أثقل على القارئ الكريم إذ يمكن مراجعة كتاب صفين بعد كل نص إذا رغب القارئ بذاك

19) قسمت الأضواء على وفق الموضوعات إلى أجزاء وأضواء وذلك بجمع المتشابهات؛ فالجزء الأول تضمن بعد الإهداء والتقديم والمقدمة والتمهيد بفقراته المتعددة كما تضمن ثلاثة أضواء الأول : المشككون بنهج البلاغة، الثاني الرد على المشككين بنهج البلاغة فيما تضمن الضوء الثالث على بعض خصائص مج البلاغة.

في حين تضمن الجزء الثاني ترجمة كل من الشريف الرضي وابن أبي الحديد وترجمة المؤلف. كما تضمن منهج أبن أبي الحديد في الشرح ومنهج المؤلف في الأضواء والهدف من الأضواء. وفي الجزء ثلاثة أضواء الأول بدايات الدعوة الإسلامية والثاني بيعة السقيفة والثالث الحروب الإسلامية سواء في عهد الرسول أو في عهد الأمام علي عليه السلام.

في حين تضمن الجزء الثالث الأغراض الشعرية، فيما تضمن الجزء الرابع

ص: 13

مطالب لغوية وأخيرا تضمن الجزء الخامس التمثيل والتراث الشعبي والمتفرقات وملحق بمختارات من حكم الإمام عليه السلام مع المصادر والفهارس.

الهدف من الأضواء

لعل ثمة من يسأل :

- ما قيمة جمع الشعر الذي استشهد به ابن أبي الحديد، وما إضافة المحقق في دفتي كتاب في حين أنه موجود في شرح "النهج"؟

- ما قيمته من حيث المنهج العلمي في الإعداد والتأليف؟ وهل يخدم القارئ والمكتبة العربية مثل هذا الكتاب؟ وأسئلة أخرى قد تثار. وجوابا على ما قد يثار أقول :

إن الهدف الرئيس من وضع الكتاب هو تسهيل مهمة القارئ في تداول الشعر لتعذر ذلك عليه في ثنايا شرح "النهج "لسعته وعدم إمكانية الحصول عليه من لدن الجميع، وقد حصرت ذلك بين دفتي كتاب لهذا الغرض.

والهدف الثاني : هو ربط الشعر بالحدث لأنه مكمل له کالكتب المتبادلة بين الإمام علي عليه السلام وكل من عماله ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم؛ ووقعتي الجمل وصفين وقبلهما بدايات الدعوة الإسلامية وبيعة السقيفة وغزوات بدر وأحد والخندق ومؤتة... الخ.

أما الهدف الثالث : فان أكثر ما استشهد به يدور على الألسن دون أن يعرف

ص: 14

القارئ أنه من استشهادات شرح "النهج" السعة الشرح كما أشرنا في الهدف الأول . لذلك فانه سيجدها في "الأضواء "مسندة في الأغلب.

والهدف الرابع، توخي تقريب أحاديث الإمام عليه السلام إلى القارئ من خلال الشعر المستشهد به والمفصل في أجزاء وأضواء" الأضواء "لأنه وثيقة تاريخية لتلك الخطب والأحاديث.

والهدف الخامس هو : تسهيل مهمة القارئ في الوقوف على حوادث تاريخية مهمة للأمة العربية، خاصة في بدء الدعوة الإسلامية وما تلاها من حوادث ساخنة فت في عضد الأمة.

والهدف السادس : أن الشعر المستشهد به، وبالتالي، المجموع في هذا الكتاب يوجز ما في "النهج" ويقربه إلى ذهن القارئ ويغنيه عن الرجوع إليه في مواقع كثيرة، وإن لم يكن في الأعم الأغلب.

وأخيرا سلسلت الحوادث التاريخية حسب زمنها بما يسهل على القارئ الوقوف عليها عند التناول لأنها متناثرة هنا وهناك في أجزاء "النهج "العشرين کحرب صفين وتعقيداتها.

أرجو أن أكون قد اقتربت من القارئ الكريم وقربت له البعيد وسهلت له الصعب ووضعت بين يديه طبقة شهية لا يمل منه، بل يشتهيه في كل حين.

ليت!

ص: 15

ص: 16

الضوء الأول: بدايات الدعوة الإسلامية

اشارة

ص: 17

ص: 18

قال أبو طالب يذكر ما اجتمعت عليه قريش من حربه لما قام بنصرة محمد صلی الله عليه وآله وسلم(55/14 ) :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم*** حتى أوس في التراب دفينا

فأنفذ لأمرك ما عليك مخافة*** و أبشر وقربذاك منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي*** و لقد صدقت و كنت قبل أمينا

وعرضت ديناقد علمت بأنه ***من خير أديان البرية دينا

ولما تخلف أبو لهب عن نصرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان أبو طالب يرسل إليه الأشعار ويناشده النصر، منها القطعة التي أولها (56/14 ) :

حديث عن أبي لهب أتانا*** وكانفة على ذاكم رجالا

ومنها القطعة التي أولها ( 56/14) :

أظنت أني قد خذلت وغالتي ***منك الغوائل بعد شيب المكبر

ومنها القطعة التي أولها (56/4 ) :

تستعرض الأقوام توسعهم*** عذرأ وما إن قلت من عذر

ص: 19

وعندما استجار أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي بعبد المطلب من قومه، وهو ابن أخته، فأجاره وتوثب قومه على أبي طالب لأخذه منه قام أبو لهب ومنعهم وهددهم إن لم يمتنعوا أنظم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانصرفوا فطمع فيه أبو طالب حين سمعه قال ما قال، فقال يحرضه على نصرة محمد صلی الله عليه وآله وسلم(57/19 ) :

وإن امرأ أبو عتيبة عمه ***لفي معزل من أن يسام المظالما

وتقبلن الدهر ما عشت خطة ***سب به إما هبطت المواسما

أقول له وأين منه نصيحتي ***ثبت سوادك قائما

وول سبيل العجزغيرك منهم ***فأنك لم تخلق على العجز لازما

فحارب فان الحرب نصف ولن ترى*** أخا الحرب يعطي الخسف حتى يسالما

كذبتم وبيت الله نبزي محمدأ ***ولماتروا يوما من الشعب قائما

وقال يخاطب أبا لهب أيضا (57/16 -58) :

عجبت لحلم يا ابن شيبة عازب ***وأحلام أقوام لديك سخاف

يقولون شايع من أراد محمدأ*** بظلم وقم في أمره بخلاف

أضاميم أما حاسد ذو ضيانه*** وأما قريب عنك غير مصاف

فلاتركبن الدهر منه ذمامة ***وأنت أمرؤ من خير عبد مناف

ولا تتركنه ما حييت لمعظم*** وكن رجلا ذا نجدة وعفاف

يذود العدا عن ذروة هاشمية*** إلا فهم في الناس خير إيلاف

ص: 20

فإن له قربى لديك قريبة*** وليس بذي حلف ولا بخصاف

ولكنه من هاشم ذي صميمها ***إلى أبحرفوق البحور طواف

وزاحم جميع الناس عنه وكن له*** وزيرة على الأعداء غير مجاف

وإن غضبت منه قريش فقل لها ***بني عمناماقومكم بضعاف

ومابالكم تخشون منه ظلامة*** ومابال أحقاد هناك خواف

فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا*** وما نحن فيماساءهم بخفاف

ولكننا أهل الحفائظ والنهي ***وعز ببطحاء المشاعر واف

ولكن أبا لهب لم يعر أبا طالب أذنا فسدر في غيه فتبت يداه. وقال أبو طالب يذکر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه دونه :(61/14)

أرقت وقد تصويت النجوم*** وبت ولا تسالمك الهموم

الظلم عشيرة ظلموا وعقوا***وغب عقوقهم لهم وضيم

هم انتهكوا المحارم من أخيهم*** وكل فعالهم دنس ذمیم

وراموا خطه جورا وظلما ***وبعض القول ذو جنف مليم

لتخرج هاشمأ فتكون منها*** بلاقع بطن مكة فالحطيم

فمهلا قومنالا تركبونا*** بمظلمة لها خطب جسيم

فيندم بعضكم ويذل بعض ***وليس بمفلح أبدأ ظلوم

أرادوا قتل أحمد زاعميه***وليس بقتله منهم زعيم

ص: 21

ودون محمد مناندي ***هم العرنين والعضو الصميم

ومن ذلك قوله (61/14 -62):

وقالوا لأحمد أنت أمرؤ ***خلوف الحديث، ضعيف السبب

وإن كان أحمدقدجاءهم*** بصدق ولم يأتهم بالكذب

فأنا ومن حج من راكب ***وكعبة مكة ذات الحجب

تنالون أحمد أو تصطلوا ***ظبات الرماح وحد القضب

ونفترفوا ب ين أبياتكم*** صدور العوالي وخيلا شزب

تراهن من بين ضافي السبيب*** قصير الحزام طويل اللبب

عليها صناديد من هاشم*** هم الأنجبون مع المنتجب

ومن شعر أبي طالب قوله ( 62/14 -63):

ألا أبلفاعني لؤيا رسالة ***بحق وماتغني رسالة مرسل

بني عمنا الأدنين فيما يخصهم*** وإخواننا من عبد شمس ونوفل

أظاهرتم قومأ عليناسفاهة ***وأمرا غويامن غواة وجهل

يقولون لو إنا قتلنا محمدا*** أقرت نواحي هاشم بالتذلل

كذبتم ورب الهدى ترمي نحوره*** بمكة والبيت العتيق المقبل

تنالونه، أو تصطلوا دون نيله ***صوارم تغري كل عضو ومفصل

فمه ولما تنتج الحرب بكرها*** نجيل تمام أو بآخر معجل

وتلقوا ربيع الأبطحين محمدأ ***على ربوة في رأس عنقاء عيطل

ص: 22

وتأوي إليه هاشم أن هاشما ***عرانین کعب آخر بعد أول

فأن كنتم ترجون قتل محمد*** فروموا بما جمعتم قتل يذبل

فأناسنحميه بكل طمرة*** وذي مبعة نهدا المراكل هيكل

وكل رديني ظماء كعوبه*** وعضب كأيماض الغمامة مفصل

وقال علي بن يحيى البطريق (رحمه الله) لولا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبي طالب يمدح ابن أخيه محمد ، وهو شاب قد ربي في حجره، وهو يتيمه ومكفوله، وجار مجرى أولاده بمثل قوله (63/16 ):

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل

ومن فرط حب أبي طالب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف عليه البيات إذا عرف مضجعه يقيمه ليلا من منامه، ويضجع ابنه عليا مكانه، فقال له علي ليلة :

يا أبت، إني مقتول، فقال له ( 64/16 ) :

اصبرن يا بني فالصبر أهجي*** كل حي مصيره لشعوب

قدر الله والبلاء شديد ***الفداء الحبيب وابن الحبيب

لضداء الأغرذي الحب الثا ***قب والباع والكريم النجيب

إن تصبك المنون فالنبل تبری*** فمصيب منها وغير مصیب

كل حي وأن تملى بعمر*** و أخذمن مذاقها بنصيب

ص: 23

فأجابه علي عليه السلام فقال له ( 64/14):

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ***وتعلم أني لم أزل لك طائعا

سألقى لوجه الله في نصر أحمد*** نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا

وأشعار أبي طالب كانت تدل على أنه كان مسلمة، ولا فرق بين الكلام

المنظوم والمنثور إذا نظمنا إقرارا بالإسلام فمن ذلك أقوله (71/14 -72) :

يرجون منا خطة دون نيلها ***ضراب وطعن بالوشيج المقوم

كذبتم وبيت الله حتى تقلقوا ***جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى حليلة ***حليلا، ويغشى محرم بعدمحرم

على ما مضى من مقتكم وعقوقكم*** وغشينكم في أمركم كل مأثم

وظلم نبي جاء يدعوا إلى الهدى ***وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

فلا تحسبونا مسلميه فمثله ***إذا كان يقوم فليس بمسلم

ومن شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني

هاشم، وعلقتها على الكعبة قوله ( 72/14) :

ألا أبلغاعني على ذات بينها ***لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدأ ***و رسولا كموسى خط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة*** ولا حيف فيمن خصه الله بالحب

وأن الذي رقشته في كتابكم*** يكون لكم يومأ کراغية السقم

أفيقوا أفيقوا قبل ان تحضر الزبی***ويصبح من لم يجي ذنبأ كذي ذنب

ص: 24

ولا تتبعوا أمر الغوات وتقطعوا*** أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربأعوانا وربما***امر على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا وبيت الله نسلم أحمدأ*** لعزاء من عضن الزمان ولا كرب

ولما تبن منا ومنكم سوالف***وأيده أثرت بالمهندۃ الشهب

بمعترك ضیق تربى قصد القنا***به والضباع العرج تعكف کالشرب

كأن مجال الخيل في حجراته***وغمغمة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشم شد أزره***وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا***ولا نشتكي مما ينوب عن النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهي ***إذا طار أرواح الكماة من الرعب

ومن ذلك قوله ( 73/14 ) :

فلا تسفهوا أحلامكم في محمد***ولا تتبعوا أمر الغوات الأشائم

تمنيتم أن تقتلوه وإنما***امانيكم هذي كأحلام نائم

وإنكم والله لا تقتلونه ***ولماتروا قطع اللحى والجماجم

زعمتم بأنا مسلمون محمدا***ولمانقاذف دونه ونزاحم

من القوم مفضال أبي على العدي***تمكن في الفرعين من آل هاشم

أمين حبيب في العباد مسوم***بخاتم رب قاهر في الخواتم

يرى الناس برهانا عليه وهيبة*** وما جاهل في قومه مثل عالم

نبي أتاه الوحي من عند ربه ***ومن قال لا يقرع بهاسن نادم

ص: 25

ومن ذلك قوله - وقد غضب لعثمان بن مظغون الجمحي، حين عذبته قريش ونالت منه (73/14 -74) :

أمن تذکر دهر غير مأمون ***أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون

م من تذكر أقوام ذوي سفه***يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين

ألا يرون – إذن الله جمعهم*** إناغضبنا لعثمان بن مظعون

ونمنع الضيم أن يبغي مضامتنا*** بكل مطرد في الكف مسنون

ومرهفات کأن اللح خالطها*** يشفي بها الداء من هام المجانين

حتى تفر رجال لا حلوم لها*** بعد الصعوبة بالأسماع واللين

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب ***على نبي كموسى أو كذي النون

يأتي بأمر جلي غير ذي عوج*** کماتبين في آيات ياسين

وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجد وبیده حجر يريد أن يرضخ به رأسه، فلصق الحجر بكفه فلم يستطيع ما أراد فقال أبو طالب في ذلك في جملة أبيات ( 74/14) :

أفيقوا بني عمنا وانتهوا*** عن الغي من بعد ذا المنطق

وإلا ف أني – إذن - خائف*** بوائق في داركم تلتقي

تكونوا لغيركم عبرة ***ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم ***ثمود وعاد وماذا بقي

ومنها :

ص: 26

وأعجب من ذاك في أمركم ***عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من حينه*** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه*** علی رغمه الخائن الأحمق

وقد اشتهر عن عبد الله المأمون (رحمه الله) أنه كان يقول أسلم أبو طالب - والله - بقوله :

نصرت الرسول رسول المليك ***ببيض تلالا کلمع البروق

أذب وأحمي رسول الإله ***حماية حام علیه شفيق

وما أن أدب الأعدائه ***دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزير لهم ساميا***كما زار لیث بغيل مضيق

وقد جاء في السيرة أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي قال :

تقول ابنتي أين أين الرحيل*** وما البين مني بمستنكر

فقلت: دعيني فإني امرؤ ***أريد النجاشي في جعفر

لاكويه عنده كيه ***أقيم بهاغوة الأصعر

ولن أنثني عن بني هاشم ***بما اسطعت في الغيب والمحضر

وعن عائب اللات في قوله ***ولولا رضى اللات لم تمطر

وإني لأثني قريشأ له ***وإن كان كالذهب الأحمر

الله عليه وسلم بمكة يقول له :

ص: 27

- والله إني لأشنؤك.

وفيه انزل : " أن شانئك هو الأبتر".

فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرأ يحرضه فيه على إكرام جعفر وأصحابه

والإعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم، من جملته ( 75/14 ) :

الا ليت شعري كيف في النارجعفر*** وعمرو وأعداء النبي الأقارب

وهل نال إحسان النجاشي جعفرا*** وأصحابه أم عاق عن ذاك شاغب

وروي عن علي عليه السلام أنه قال :

قال لي أبي : يا بني الزم ابن عمك، فإنك تسلم من كل بأس عاجل أو آجل.

ثم قال ( 75/14 ) :

إن الوثيقة في لزوم محمد*** فاشد بصحبته على أيديكا

ومن شعره المناسب لهذا المعنى ( 76/14) :

إن عليا وجعفرأ ثقتي ***عند ملم الزمان والنوب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ***أخي لأمي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبي ولا*** يخذله من بني ذو حسب

ومن شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة، وكان يكنى أبا یعلی ( 77/14 ) :

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد ***وكن مظهرا للدين وفقت صابرا

وحط من أتى بالحق من عند ربه ***بصدق وحزم لا تكن حمزكافرا

ص: 28

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن*** فكن لرسول الله و الله ناصرا

وبار قريشأ بالذي قد أتيته*** جهارة وقل ما كان أحمد كافرا

ومن شعره المشهور ( 77/14) :

أنت النبي محمد*** قرم أعزمسؤد

المسودين أكارم ***طابوا وطاب المولد

نعم الأرومة أصلها*** عمرو الخضم الأوحد

هشم الربيكة في الجفا ***نوعيش مكة أنكد

فجرت بذلك سنة*** فيها الخبيزة تثرد

ولنا السقاية للحجي ***ج بهابحاث العنجد

والمأ زمان وماحوت*** عرفاتها والمسجد

أنى تضام ولم أمات***وأنا الشجاع العريا

وبطاح مكة لا يرى ***فيها نجيع أسود

وبنو أبيك كأنهم*** أسد العرين توقد

ولقد عهدتك صادقا ***في القول لا تتزيد

ما زلت تنطق بالصوا***ب وأنت طفل أمرد

ومن شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدة، ويسكن جأشه ويأمر بإظهار

الدعوة ( 77/14 -78) :

لا يمنعنك من حق تقوم به*** أي تصول ولا سلق بأصوات

ص: 29

فإن كفك كفي إن بليت بهم ***ودون نفسك نفسي في الملمات

ومن ذلك قوله، ويقال أنها لطالب بن أبي طالب ( 78/14 ) :

إذا قيل من خير الورى***قبيلا وأكرمهم أسرة

أناف لعبد مناف أب*** وفضله هاشم الغرة

لقد حل مجد بني هاشم*** مكان الذمائم والنرة

وخير بني هاشم أحمد ***رسول الإله على فترة

ومن ذلك قوله ( 78/14) :

لقد أكرم الله النبي محمدأ ***فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشق له من أسمه ليجله ***فذو العرش محمود وهذا محمد

وقوله أيضا، وقد يروي لعلي عليه السلام ( 78/14) :

ياشاهد الله علي فاشهد ***أن على دين النبي أحمد

من ضل في الدين فأني مهتر

وقوله من قصيدة طويلة ( 79/14 ) :

أعوذ برب البيت من كل طاعن***علينا بسوء أو يلوح بباطل

ومن فاجر يفتابنا بمغيبة*** ومن ملحق بالدين ما لم نحاول

كذبتم وبيت الله يبزى محمد*** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى صرع دونه ***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وحتى نرى ذا الردع يركب روعه ***من الطعن فعل النكب المتحامل

ص: 30

وينهض قوم في الحديث إليكم ***نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل

وأنا وبيت الله من جد جدنا*** التلتبسن أسيافنا بالأماثل

بكل فتى مثل الشهاب سميدع*** أخي ثقة عند الحفيضة باسل

وما ترك قوم لا أبالك سيدا***يحوط الذمار غیر نکس مواكل

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه*** شمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم ***فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان صدق لا يخيس شعيرة ***ووزان صدق وزنه غير عائل

ألم تعلموا أن ابننالا مكذب*** لدينا ولا يعبا بقول إلا باطل

لعمري لقد كلفت وجدةابأحمد ***وأحببته حب الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه فحميته ***ودافعت عنه بالذرى والكواهل

فلا زال للدنيا جمالا لأهلها*** وشينا لمن عادى وزين المحافل

وايده رب العباد بنصره*** وأظهر دينا حقه غير باطل

وقد روي أن أعرابية جاء إلى الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام جدب فقال :

أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرتضع ولا شارف يجتر ثم أنشده (80/14-81):

أتيناك والعذراء تدمي لبانها ***وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل

وألقى بكفيه الفتی لاستكانة ***من الجوع حتى مايم ولا يحلي

ص: 31

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا*** سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا ***وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال :

((اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئة هنيئة، مريعا سحا سجالا، عذق طبقة قاطبة دائمة درة تحيي به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، وأجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث، فوالله مارد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى نره حتى ألقت السماء أوراقها، وجاء الناس يضجون :

العذق العذق یا رسول الله!

فقال :

- اللهم حوالينا ولا علينا.

- فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال.

- الله در أبي طالب إلو كان حيا لغرت عينه، من ينشدنا قوله ؟

فقام علي فقال :

- یا رسول الله لعلك أردت :

وابيض يستسقى الغمام بوجهه .

قال :

ص: 32

- أجل. فأنشد أبياتا من هذه القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر

ثم قام رجل من كنانة، فأنشده ( 81/14 ) :

لك الحمد والحمد ممن شكر*** سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوة*** إليه، وأشخص منه البصر

فما كان إلا كماساعة ***أو اقصر حتى رأينا الدرر

دقاق العزالي وجم البعاق*** أغاث به الله عليا مضر

فكان كماقاله عمه ***أبو طالب ذو رواء غرر

به يسر الله صوب الغمام ***فهذا العيان وذاك الخير

فمن يشكر الله يلق المزيد ***ومن يكفر الله يلق الغير

فقال رسول الله :

- إن يكن شاعرة أحسن.

وكتب بن أبي الحديد على ظهر كتاب أهدي إليه وطلب منه تقریظه، والكتاب عن إسلام أبي طالب، كتب عليه هذه الأبيات ( 83/16 - 84) :

ولولا أبو طالب وابنه*** لما مثل الدين شخصأ فقاما

فذاك بمكة اوى فحامی ***وهذا بيثرب جس الحماما

تكفل عبد مناف بأمر*** وآوي فكان على تماما

فقل في ثبير قضى بعدما ***قضى ما قضاه وأبقى شماما

ص: 33

فلله ذو فاتحا للهدی*** ولله ذا للمعالي ختاما

وماضژ مجد أبي طالب ***جهول لفا أو بصير تعامي

كمالا يضر أياه الصبا***ح من ظن ضوء النهار ظلاما

وقال أبو طالب لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي صلى الله عليه وآله

وسلم لما تمالأت قريش عليه ( 284/15 ):

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا**جزاء مسيء عاجلا غير آجل

أمطعم أماسامني القوم خطة ***فإني متى أوكل فلست بأكمل

أمطعم لم أخذلك في يوم شده*** ولا مشهد عند الأمور الجلائل

ووفد الجارود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنة تسع، وقيل في

سنة عشر .... وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه فقال ( 55/18 ) :

شهدت بأن الله حق وسامحت*** بنات فؤادي بالشهادة والنهض

فأبلغ رسول الله مني رسالة ***فإني حنيف حيث كنت من الأرض

ولقوله عليه السلام من کتاب له إلى معاوية جوابا على كتابه ( 251/17 ) :

((وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال؟ حماقمم الشقاوة وتمني الباطل، على الجحود بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فصرعوا مصارعهم حيث علمت، لم يدافعوا عظيما ولم يمنعوا حريصا، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، ولم تماشها الهوين)) استشهد بالرواية التي تقول ( 258/17 ):

بعد صلح الحديبية قال أنس بن زنيم الدؤلي/ أمن بني كنانة /يهجو محمد

ص: 34

صلى الله عليه وآله وسلم فضربه غلام من خزاعة فعبلوا منهم عشرين رجلا، فشخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلوا عليه وهو في المسجد فقام عمرو بن سالم الخزاعي فانشد : -

لاهم أني ناشد محمدا*** خلف أبينا وأبيه الأتلدا

لکنت والدأ وكنا ولدا*** تمت أسلمنا ولم ننزع يدا

أن قريشأ أخلفوك الموعدا ***ونقضوا میثاقك المؤكدا

هم بيتونا بالوتير هجدا ***نتلوا القرآن رکاوسجدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا ***وهم أذل وأقل عددا

فأنصرهداك الله نصرا أيدا*** وأدع عباد الله ياتوا مددا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا ***فيهم رسول الله قد تجردا

و قوم لقوم من قروم أصيدا

و وبالرواية التي تقول ( 267/17 ):

((عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة عام الفتح جاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد؟ فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشد :

قضينا من تهامة كل نحب ***وخيبر ثم أحمينا السيوفا

فسائلها فلو نطقت لقالت ***قواضبهن دوسأ أو ثقيفا

فلست بحاضر إن لم تردها*** بساحة داركم منها ألوفا

ص: 35

فتنتزع الخيام ببطن وج*** ونترك دوركم منها حلوفا

وبالرواية التي تقول ( 279/17 ):

((عندما دخلت جيوش المسلمين مكة اعام الفتحا وجعلت الخيل تعج بذي طوى كل وجه، ثم ثابت وسكنت، والتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسيد بن حضير فقال : كيف قال حسان بن ثابت؟

فأنشده :

عدمنا خيلنا أن لم تردها ***تثير النقع موعدها كداء

تظل جيادنا متمطرات ***لطمه بالتخمر النساء

وبالرواية التي تقول ( 276/17 ):

((لما دخل جيش الرسول مكة / في عام الفتح /قاتل من قاتل وانهزم من الهمزم ومن انهزموا حماس بن خالد الدولي حتى أتي بيته وأغلق الباب خلفه، ولما صارت أمرأته تلومه وتسخر منه قال لها منشدا :

إنك لوشهدتنا بالخندمة*** إذف صفوان وف عكرمة

وبو يزيد كالعجوز المؤتمة ***وضربنا هم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة ***ضربة فلا يسمع إلا غمغمة

لهم زئير خلفنا وحمحمة ***لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

وبالرواية التي تقول ( 282/17 -283) :

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد هدر دم أنس بن زنيم لانه

ص: 36

هجاه بعد صلح الحديبية وقبل أن يفتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قال شعرأ يعتذر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعفا عنه. وما قال أنس بن زنيم:

(و) أنت الذي تهدي مع بأمره ***بك الله يهديها وقال لها أرشدي

فما حملت من ناقة فوق کورها ***أبراوفي ذمة من محمد

أحث على خير وأوسع نائلا*** إذا راح يهتزاهتزاز المهند

وأكس لبر الخال قبل ارتدائه***وأعطى لرأس السابق المتجرد

تعلم رسول الله أنك مدركي*** وأن وعيدأ منك كالأخذ باليد

تعلم رسول الله أنك قادر ***على كل حي من تهام ومنجد

ونبي رسول الله أني هجوته*** فلا رفعت سوطي إلي يدي

سوى أنني قد قلت يا ويح فتية ***أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد

أصابهم من لم يكن لدمائهم ***كفاء فعزت عبرتي وتلددي

ذؤيبأ وكلثومأ وسلمى تتابعوا ***جميعأفالاتدمع العين أكمد

على أن سلمى ليس منهم كمثله*** وأخوته وهل ملوك كأعبد؟

فإني لا عرضأخرقت ولا دما ***و هرقت ففکر عالم الحق وأقصد

ويقول عبد الله بن الزعبري الذي اعتذر به إلى الرسول صلى الله عليه وآله

وسلم حين قدم عليه ( 17/18 ) :

منع الرقاد بلابل وهموم***فالليل ممتد الرواق بهيم

ص: 37

مما أتاني أن أحمد لامني*** فيه، فيت كأنني محموم

ياخير من حملت على أوصالها ***عيرانة سر اليدين سعوم

إني لمعتذر إليك من الذي*** أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيان تأمرني بأغوى خطة ***سهم، وتأمرني به مخزوم

وأمد أسباب الروی ويقودني ***امرالغوات وامرهم مشئووم

فاليوم آمن بالنبي محمد***قلبي، ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها ***ودعت أواصل بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهما *** زللي، فأنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة ***نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه ***شرفا وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق*** برشأنك في العباد جسیم

والله يشهد أن أحمد مصطفى ***متقبل في الصالحين کریم

فرع علاه بنانه من هاشم ***دوح تمكن في العلا وأروم

ألا من لهم آخر الليل معتم *** طواني، وأخرى النجم لما تفحم

ص: 38

الضوء الثاني: بيعة السقيفة

اشارة

ص: 39

ص: 40

من خطبة له عليه السلام هي الخطبة المعروفة ب (الشقشقية) قوله :

((أما والله لقد تقمصها أبن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحی؛ ينحدر عيني السيل، ولا يرقى إلى الطير، فسدلت دوها ثوبا، وطويت عنها كشحة، وطفقت أرئي أن أصول بید حذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه؛ فرأيت أن أصبر على هاتا أحجن، فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا، أری تراثي فبا)). فلقوله : "لقد تقمصها " استشهد ابن أبي الحديد بقول حاتم (151/1 - 154):

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى*** إذا حشرجت يومأ وضاق بها الصدر

وقول النابغة :

تسربل سربالا من النصر وارتدى***عليه بغضب في الكريهة قاصر

ولقوله عليه السلام : "ينحدر عني السيل" استشهد بقول الهذلي :

وعيطاء يكثر فيها الذليل ***وينحدر السيل عنها انحدارا

ص: 41

ولقوله عليه السلام ((ولا يرقى إلى الطير)) استشهد بقول المتنبي :

فوق السماء وفوق ما طلبوا ***فإذا أرادوا غاية نزلوا

وقول حبيب :

مکارم سجت في علؤ كأنما ***تحاول ثأرأ عند بعض الكواكب

ولقوله عليه السلام" أن محلي منها محل القطب من الرحا"

استشهد بقول جرير بن عطية :

على قلاص ومثل خيطان السلم ***قد طويت بطونها على الأدم

بعد انفضاج البدن واللحم والزیم ***إذا قطعن علمأبدا علم

فهن بحثأكمضلات الحذم ***حتى انخناها إلى باب الحكم

خليفة الحجاج غير المتهم*** في سرة المجد وبحبوح الكرم

وبقول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان : -

فحللت منها بالبطاح***وحل غيرك بالظواهر

ولما كان الإمام علي عليه السلام وبعض بني هاشم منشغلين بأعداد جهاز وغسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رحل إلى اللطيف الخبير، قال العباس للأمام : امدد يدك أبايعك فيقول الناس : عم رسول الله بايع أبن عم رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان فقال له : أيطمع - يا عم - فيها طامع غيري؟

قال : ستعلم.

فلما أن جاءهما الأخبار بان الأنصار أقعدت سعداً لتبايعه، وأن عمراً جاء

ص: 42

بابي بكر فبايعه، وسبق الأنصار بالبيعة، فأنشد العباس قول درید (161/1 ):

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ***فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

وممن لم يبايعوا أبا بكر، سعد بن عبادة، رئيس الخزرج، وهو الذي حاولت الأنصار أقامته في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبايع أبا بکر حین بویع، وخرج إلى حوران، فمات بها، وقيل قتلته الجن لأنه بال قائما في الصحراء لي"، ورووا بيتين من شعر، قيل أما سمعا ليلة قتله، ولم ير قائلهما :

نحن قتلناسيد ال***خزرج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين ***فلم نخطيء فؤاده

ويقول قوم : إن أمير الشام - يومئذ - كمن له من رماة لي"، وهو ضاج إلى الصحراء بسهمين، فقتله لخروجه عن طاعة الأمام، وقد قال بعض المتأخرين في ذلك ( 111/10 ) :

يقولون سعد شقت الجن قتله ***ألا ربما صححت ذينك بالغدر

وماذنب سعد أنه بال قائما*** ولكن سعدأ لم يبايع أبا بكر

وقد صبرت من لذة العيش أنفس*** وما صبرت عن لذة النهى والأمر

ولما بايع بشير بن سعد أبا بكر، وأزدحم الناس على أبي بكر فبايعوه، مر أبو سفیان بن حرب بالبيت الذي فيه علي بن أبي طالب عليه السلام فوقف فانشد :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم*** ولاسيما تيم أبن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم واليكم*** وليس لها إلا أبو حسن علي

ص: 43

أبا حسن فأشدد بها كف حازم*** فانك بالأمر الذي يرتجي ملي

فلما كان من الغد قام أبو بكر فخطب الناس وبعد انتهائه من خطبته قال

أبن أبي عبرة القريشي (20/5 -21) : -

شكر لمن هو بالشتاء حقيق*** ذهب اللجاح وبويع الصديق

من بعد ما زلت بسع نعله ***ورجارجاء دونه الضيوق

حفت به الأنصار عاصب رأسه ***فاتاهم الصديق والفاروق

وأبو عبيدة والذين اليهم ***نفس المؤمل للقاء تتوق

كنا نقول لها: علي والرضا ***عمر وأولاهم بذاك عتيق

فدعت قريش باسمه فأجابها ***أن المنوه بأسمه الموثوق

قل للاولى طلبوا الخلافة زلة ***لم يخط مثل خطاهم مخلوق

أن الخلافة في قريش مالكم ا فيها- ورب محمد- معروق

وقال أحد ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا (21/5 ):

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف*** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم ***وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن ***جبريل عون له بالغسل والكفن

مافيه مافيهم لايمترون به ***وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردهم فيه فتعلمه ***ها ان ذا غبننا من أعظم الغبن

وخطب خالد بن الوليد، وكان شيعة لأبي بكر، ومن المنحرفين عن علي :

ص: 44

فاشاد بابي بكر فعجب الناس من كلامه، ومدحه حزن بن أبي وهب

المخزومي، وهو جد سعيد بن المسيب الفقيه وقال (22/5 -23) :

وقامت رجال من قريش كثيرة***فلم يك منهم في الرجال كخالد

ترقى فلم يزلق به صدر نعله ***وكف فلم يعرض لتلك الأوابد

فجاء بهاغراء كالبدر ضوؤها ***فسيحها في الحسن أم القلائد

أخالد لا تعدم لؤي بن غالب ***قيامك فيها عند قذف الجلامد

کساك الوليد بن المغيرة مجده ***وعلمك الأشياخ ضرب القماصد

تقارع في الأسلام عن صلب دینه ***وفي الشرك عن أحساب جد ووالد

وكنت لمخزوم بن يقظة جنة ***يدك فيها ماجدأ وابن ماجد

إذا ما سما في حربها ألف فارس ***عدلت بألف عند تلك الشدائد

ومن يك في الحرب المثيرة واحد*** فما أنت في الحرب العوان بواحد

إذا ناب أمر قریش مخلج ***تشيب له رؤس العذارى النواهد

توليت منه ما يخاف وأن تغب*** يقولوا جميعأ: حظنا غير شاهد

لما بويع أبو بكر وأستقر أمره، ندم قوم كثيرة من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضا، وذكروا علي بن أبي طالب عليه السلام وهتفوا باسمه وأنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون وكثر في ذلك الكلام.

وكان اشد قریش نفر فيهم؛ وهم سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن جهل المخزوميان، وهؤلاء أشراف قريش الذين

ص: 45

حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم دخلوا الإسلام، وكلهم موتور قد وتره الأنصار.

فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء؛ قام سهيل بن عمرو فخطب في قريش ثم تبعه الحارث بن هشام ثم عكرمة بن جهل ثم أبو سفيان بن حرب وقد أنكر كل الخطباء حق الأنصار وعلي بن أبي طالب عليه السلام بالخلافة. وقال حسان بن ثابت پذكر ذلك (23/6 -25):

تنادي سهيل وأبن حرب وحارث*** وعكرمة الثاني لنا أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه ***فأصبح في البطحا أذل من النعل

فاماسهيل فاحتواه ابن د خشم*** أسيرة ذليلا لا يمر ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله ***غداة لوا بدر فمرجله يغلي

وراكضنا تحت العجاجة حارث ***على ظهرجرداء كباسقة النخل

يقبلها طورأ وطورة يحشها ***ويعدلها بالنفس والمال والأهل

أولئك رهط من قريش تبايعوا ***على خطة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم*** كأنا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلهم ثان عن الحق عطفه ***يقولوا : اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبي ولم نخف ***صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا*** كقسمة ايسار الجذور من الفضل

ومن بعد ذاك المال أنصاف دورنا*** وكنا اناس لاعير بالبخل

ص: 46

ونحمي ذمار الحي وهو أبن مالك ***وتوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منا عليهم ***جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسان قريشا، فغضبوا فأمروا أبن أبي عة شاعرهم أن يجيبه فقال (24/6 -25):

معشر الأنصارخافوا ربكم ... ***واستجيروا الله من شر الفتن

أنني أرهب حربالاقحا*** يشرق المرضع فيهاباللبن

جهاسعد وسعد فتنة*** ليت سعد بن عباد لم يكن

خلف برهوت خفي شخصه ***بين بصری ذي رعين وجدن

ليس ماقدر سعد كائنا*** ماجرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع مناشعرة*** كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها ابدأ ***غير أضغاث أماني الوسن

ولما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر أكرمت قریش معن بن عدي وعویم بن

ساعدة وكان لهما فضل قديم في الإسلام؛ فاجتمعت الأنصار لهما في مجلس ودعوهما، فلما أحضر أقبلت الأنصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك، فتكلم معن وتكلم عويم فأشادا بقريش فوثبت عليهما الأنصار، فأغلظوا لهما، وفحشوا عليهما، فقال معن في ذلك (27/6 -28):

وقالت لي الأنصار أنك لم تصب ***فقلت أمالي في الكلام نصيب؟

فقالوا: بلى قل ما بدا لك راشدأ ***فقلت: ومثلي بالجواب طبيب

ص: 47

تركتكم والله لما رأيتكم***تيوسألها بالحسرتين نبيب

تنادون بالأمر الذي النجم دونه*** الا كل شيء ماسواه قريب

فقلت لكم قول الشفيق عليكم*** وللقلب من قول البلاء وصيب

دعوا الركض وأثنوا من أعنة بغيكم *** ودبوا فسير القاصدين دبيب

وخلوا قريشا والأمور وبايعوا***لمن بايعوه ترشدوا وتصيبوا

أراكم أخذتم حقكم بأكفكم *** وما الناس إلا مخطئ ومصيب

ولما أبيتم لتعنكم إليهم***وكنت كأني يوم ذاك غريب

فان كان هذا الأمرذنبي إليكم***فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب

فلا تبعثوا مني الكلام فأنني***إذا شئت يومأشاعر وخطيب

واني لحلو تعتريني مرارة ***وملح أجاج تارة وشروب

الكل أمريء عندي الذي هو أهله ***أفانين شتى والرجال ضروب

وقال عویم بن ساعدة في ذلك : -

وقالت لي الأنصار أضعاف قولهم ***لمعن، وذاك القول جهل من الجهل

فقلت: دعوني لا أبالأبيكم *** فأني أخوكم صاحب الخطر الفصل

أنا صاحب القول الذي تعرفونه*** اقطع أنفاس الرجال على مهل

فان تسكتوا أسكت وفي الصمت راحة *** وأن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلى

وما لمت نفسي في الخلاف عليكم***وان كنتم مستجمعين على عذلي

أريد بذاك الله لاشيء غيره*** وما عند بر الناس من درج الفضل

ص: 48

ومالي رحم في قريش قريبة ***ولا دارها داري ولا أصلها أصلي

ولكنهم قوم علينا أئمة ***أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي

وكانوا أحق الناس أن تقنعوا به ***ويحتملوا من جاء في قوله مثلي

لأني أخف الناس فيما يسركم ***وفيما بسوء لا أ ولا أحلي

وقال فروة بن عمرو - وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد مع رسول الله، وكان سيدة وهو من أصحاب علي عليه السلام، وممن شهد معه يوم الجمل، وفي قوله هذا ذكر معنا وعويمة وعاتبهما على قولهما : -

"خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماءهم بفتنتهم" (29/6 ):

قل لمعي إذا جئته*** وذاك الذي شيخه ساعده

بان المقال الذي قلتما*** خفيف عليناسوى واحدة

مقالكم: أن من خلفنا*** مراض قلوبهم فاسدة

حلال الدماء على فتنة ***فيا بتسما ربت الوالدة

فلا تأخذا قدر أثمانها ***ولم تستفيدا بهافائدة

لقد كتب الله ما قلتما*** وقد يكذب الرائد الواعدة

وبعد أن أصلح الأنصار بين هذين الرجلين وبين أصحابهما، اجتمعت جماعة من قريش يوما وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط من المهاجرين، وذلك بعد انصراف الأنصار عن رأيها وسكون الفتنة، فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه، فسمع بأمر السقيفة فألقى فيهم خطبته ذكر فيها فضل

ص: 49

قریش وأحقيتهم بالخلافة، فلم يجبه أحد، وانصرف إلى منزله وقد ظفر، فقال :

ألاقل لأوس إذا جئتها*** وقل كلما جئت للخزرج

تمنيتم الملك في يثرب ***فأنزلت القدر لم تنضج

وأخرجتم الأمر قبل التمام ***وأعجب بذا المعجل المحرج

تريدون نتج الحيال العشار*** ولم تلقموه فلم ينتج

عجبت لسعد وأصحابه*** ولو لم يهيجوه لم يهتج

رجا الخزرجي رجاء السراب*** وقد يخلف المرء ما يرتجي

فكان كمنح على كفه ***بكف يقطعها أهوج

فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن عجلان، فأتی عمرو، وهو في جماعة من قريش، فقال :

- أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "الأئمة من قريش" فقال : " لو سلك الناس شعبأ وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار".

وبعد تذكيره بمواقفه المعادية للإسلام في بدء دعوته أنصرف وقال (31/6 ) :

فقل لقريش نحن أصحاب مكة ***ويوم حنين والفوارس في بدر

وأصحاب أحر والنضير وخيبر*** ونحن رجعنا من فريضة بالذكر

ويوم بأرض الشام أدخل جعفر ***وزيد وعبد الله في علق يجري

وفي كل يوم ينكر الكلب أهله ***فطاعن فيهم بالمثقفة السمر

ونضرب في نقع العجاجة أرؤسأ ***ببيض كأمثال البروق إذا تسري

ص: 50

نصرنا وآوينا النبي ولم نخف*** صروف الليالي والعظيم من الأمر

وقلنا لقوم هاجروا قبل: مرحبا ***وأهلا وسهلا، قد أمنتم من الفقر

نقاسمكم أموالنا وبيوتنا*** كقسمة أيسار الجزور على الشطر

ونكفيكم الأمر الذي تكرهونه*** وكنا أناسانذهب العسر باليسر

وقلتم: حرام نصب سعد ونصبكم ***عتيق بن عثمان - حلال – أبا بكر

وأهل أبي بكر بها خير قائم ***وان عليا كان أخلق بالأمر

وكان هوانا فی علي وانه***لاهل لهایا عمو من حیث لاتدری

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى ***وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصي النبي المصطفى وابن عمه*** وقاتل فرسان الضلالة والكفر

وهذا بحمد الله يهدي من العمى*** ويفتح آذانأثقلن من الوقر

نجي رسول الله في الغار وحده*** وصاحبه الصديق في سالف الدهر

فلولا اتقاء الله لم تذهبوا بها*** ولكن هذا الخير أجمع للصبر

ولم نرض إلا بالرضا ولربما ***ضربنا بأيدنا إلى أسفل القدر

ولما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منها، وألقى ذلك قدوم خالد بن سعد بن العاص من اليمن، وكان رسول الله أستعمله عليها، فغضب الأنصار وأشاد بدورهم في نصرة الإسلام، وهو الذي امتنع عن بيعة أبي بكر وقال : لا أبايع إلا عليا.

ثم قال : ۔

ص: 51

تفوه عمرو بالذي لا نريده ***وصرح للأنصار عن شنأة البغض

فان تكن الأنصار زلت فأننا*** نقيل ولا نجزيهم بالقرض

فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا*** ولا تحملن يا عمرو بعضأ على بعض

أتنسى لهم يا عمرو ما كان منهم ***ليالي جئناهم من النفل والفرض

وقسمتنا الأموال كاللحم بالمدى ***وقسمتنا الأوطان کل به يقضي

ليالي كل الناس بالكفر جهرة ***ثقال، علينا مجمعون على البغض

فأووا واموا وانتهينا الى المنى***وقر قرارانا من الأمن والخفض

وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قریشة (6/ 34):

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا ***وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا*** ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

كلانا على الأعداء كف طويلة*** إذا كان يوم فيه جب الحوارك

فلا تذكروا ما كان منا ومنكم*** ففي ذكر ما قد كان مشي التساوك

وقال علي عليه السلام للفضل : -

- يا فضل أنصر الأنصار بلسانك ويدك، فأهم منك وانت منهم. فقال الفضل (34/6 -35) : -

قلت يا عمرو مقالا فاحشا***أن تعديا عمرو والله فلك

إنما الأنصار سيف قاطع ***و من تصبه ضبة السيف هلك

وبسيف قاطع يضربها ***وسهام الله في يوم الحلك

ص: 52

نصروا الدين وآووا أهله ***منزل رحب ورزق مشترك

وإذا الحرب تلظت نارها*** بركوا فيها إذا الموت برك

فأجابه حسان بن ثابت ( 35/6 ) :

جزى الله عنا والجزاء بكفه ***أبا حسن عنا ومن كأبي حسن

سبقت قريشأ بالذي أنت أهله*** فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش أعزة ***مكانك هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كل موطن*** بمنزلة الدلو البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة*** أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

فكنت المرجي من لؤي بن غالب*** كما كان منهم، والذي كان لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده*** اليك ومن أولى به منك من دمن!

الست أخاه في الهدى ووصيه***وأعلم منهم بالكتاب والسنن

فحقك محفوظ بنجد وشيمة ***عظيم علينا ثم بعد على اليمن

وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط - وكان يبغض الأنصار لأهم أسروا أباه يوم بدر، وضربوا عنقه بين يدي رسول الله - بعد خطبة شتم فيها الأنصار (36/6) :-

تباذخت الأنصار في الناس بأسمها***ونسبتها في الأزد عمرو بن عامر

وقالوا : لناحق عظيم ومنة ***على كل بابر من معر وحاضر

فأن يكى للأنصار فضل فلم تنل***بحرمته الأنصار فضل المهاجر

ص: 53

وأن تكن الأنصار آوت وقاسمت ***معایشها من جاء قسمة جازر

فقد أفسدت ما كان منها بمنها ***وما ذاك فعل الأكرمين الأكابر

إذا قال حسان وكعب قصيدة ***بشتم قريش غنيت في المعاشر

وسار بها الركبان في كل وجهة*** واعمل فيها كل خفي وحافر

فهذا لنا من كل صاحب خطبة*** يقوم بها منكم ومن كل شاعر

وأهل بأن يهجو بكل قصيدة ***وأهل بان يرموا بنبل فواقر

ولما أكثر في تخلف علي عليه السلام عن البيعة وأشتد أبو بكر وعمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة، فوقفت عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونادت : یا رسول الله! (43/6 ):

قد كان بعدك أنباء وهينمة ***لوكنت شاهدها لم تكثر الخطب

أنا فقدناك فقد الأرض وابلها ***فاختل قومك فأشهدهم ولا تغب

قال أحد الطالبين يذكر غضب فاطمة الزهراء عليها السلام (49/6 -50) :

يا أبا حفص الهوينا وماكنت*** مليأ بذاك لولا الحمام

أتموت البتول غضبي ونرضى ***ماكذا يصنع البنون الكرام

على أن المهاجرين لما اجتمعوا على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول : -

أما والله أني عجاجة لا يطفئها إلا الدم؛ یا لعبد مناف، فيم أبو بكر من أمركم؟ أين المستضعفان؟

ص: 54

ثم قال لعلي عليه السلام : ابسط يدك أبايعك، فو الله أن شئت لأملأنها على أبي فصيل - يعني أبا بكر - خي ورجلا".

فامتنع عليه علي عليه السلام؛ فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المسلمين (221/1 -222):

ولا يقيم على ضيم يراد به*** إلا الأذلان علي الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته*** وذا فلا يرثي له أحد

ويوم ولى عمر بن الخطاب قال الإمام علي عليه السلام (162/1 ) :

"حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده :

شتان مایومي على کورها ***ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا بينا يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته یا لشد ما تشطر ضرعها! فصيرها في الحوزة خشنا يغلظ كلمها، ويخشی مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة، أن أشنق لها حزم، وان اساس لها تقحم، فمن الناس - لعمرالله - بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة"

فقال أحد شعراء الشيعة (171/1 ):

حملوهایوم السقيفة أوزا ***را تخف الجبال وهي ثقال

ثم جاؤوا من بعدها يستقيلو ***ن، وهيهات عثرة أثقال

ص: 55

ص: 56

الضوء الثالث: الحروب الإسلامية

اشارة

ص: 57

ص: 58

1. غزوة بدر

بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام، وقد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه، وخرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره عليه السلام، وخرج في خمسين ومئة - ويقال في مئتين - فلم يلق العير، وفاتته ذاهبة إلى الشام ... وهذه غزاة ذي العشيرة، رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا، فلما تحين انصراف العير من قافلة ندب أصحابه لها، وبعث طلحة بن عبيد الله وسعید بن زید بن عمر بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال يتجسسان خبر العير، ولما راحت العير بيانا حتى أصبحا ثم خرجا، وقدما إلى المدينة في اليوم الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قریشة ببدر، فخرجا يعترضان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلقياه بتربان - وتربان بين مكة والالة على المحجة وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر وندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين، وقال :

- وهذه عير قريش، فيها أموالهم : لعل الله أن يغنمكموها فأسرع من

ص: 59

أسرع، حتى أن كان الرجل ليساهم أباه بالخروج، وأبطأ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى المكان المعروف بالبقع، وهي بيوت السقيا وهي متصلة بيوت المدينة فضرب عسكره هناك، وعرض المقاتلة، فعرض عليه نفر من أصحابه فردهم، فلما نزل عليه السلام بيوت السقيا أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم : وشرب عليه السلام منها، وكان أول من شرب وصلي عندها، ودعا، يومئذ لأهل المدينة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمامه بعض أصحابه، فراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيوت السقيا، لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، وخرج المسلمون معه ثلاث مئة وخمسة، وتخلف ثمانية، وضرب لهم بسهامهم وأجورهم، واستعمل رسول الله على المشاة قيس بن صعصعة وأمره صلى الله عليه وآله وسلم حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين ففعل، وخرج من بيوت السقيا فنزل تحت شجرة، وأصبح يوم الاثنين وهو هناك، ولحقت قريش بالشام في عيرها، واستقسمت عند هبل للخروج، وأقبل أبو سفيان بالعير، وخاف هو وأصحابه خوفا شدید حین دنوا من المدينة، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر، جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر، وكان بسیس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء وردا على مجري بدرة يتجسسان الخبر وعرفا أن عير قریش ستنزل بعد يوم أو يومين فأتيا النبي (صلى اله عليه وأله) فأخبراه الخبر، وأصبح أبو سفيان ببدر، قد تقدم العير وهو خائف الرصد، ولما تأكد أبو سفيان من أن محمدا صلى الله عليه وآله عرف مكانهم بالرصد ضرب وجه عيره وسار بها نحو الساحل وترك بدرة يسارة وأنطلق سريعا،

ص: 60

ولما أفلت أبو سفيان بالعير ورأى أن قد أحرزها وأمن عليها، أرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع، فأبت الرجوع، ولحق الرسول أبا سفيان فاخبره بمضي قريش ولم ترجع، وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان؛ فمن يومئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وآله الألوية وكانت ثلاثة، وأظهر السلاح، وأستخبر عن قريش فقيل له انهم بجنب الوادي، فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه، إذ تفصل بينهم كثبان، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، ولما أصبحوا قال منبه بن الحجاج، وكان رجلا يبصر الأثر :

هذا - والله - أثر سمية وابن أم عبد، أعرفهما.

لقد جاء محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب.

ثم قال ( 84/14 -117) :

لم يترك الجوع لنا مبيتا*** لابد أن نموت أو نميتا

ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القليب بني له عریش من جريد، فقام معاذ على باب العريش متوشحا سيفه، وصف رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أصحابه قبل أن تنزل قریش ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رايته إلى مصعب بن عمير، فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يصفها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى الصفوف وخطب فيهم، وبعث من يخبر قريشأ أن يمتنعوا عن القتال فأبوا على لسان أبي جهل،

ص: 61

وخطب عتبة بن ربيعة في قريش دعاهم إلى الامتناع عن الحرب.

ولكن أبا جهل قال :

-إن عتبة يشير عليكم كذا لأن محمد أبن عمه وهو يكره أن يقتل أبنه وابن عمه.

فغضب عتبة وشتم أبا جهل ووصفه بالجبن والإفساد وأنشد ( 118/14 -125):

هذا هداي وأمرت أمري ***فبشري بالشكل أم عمرو

فذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي وحرضه على عتبة وهيج فيه روح الحرب وهكذا حتى تقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب، فخرج إليه فهجع مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر، وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة، وقتله حيان بن العرقة، وتبارز القوم، وممن قام من قريش شيبة ، فقام إليه عبيدة - وهو يومئذ اسن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضرب رجل عبيدة بذباب السيف فاصاب عضلة ساقه، فقطعها، وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه، وحملا عبيدة إلى الرسول، فقال عبيدة :

یا رسول الله الست شهیدا؟

قال :

-بلی

قال:

ص: 62

- أو والله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق بما قال حين يقول (126/4-130):

كذبتم وبيت الله نخلي محمدأ ***ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع حوله ***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقد رثت هند بنت عتبة أباها ( 131/14 ):

اعيني جودا بدمع سرب*** على خير خندف لم ينقلب

تداعى له رهطه قصرة ***بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حر أسيافهم*** يعلونه بعد ماقد عطب

أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر، عن قتل أبي البختري، واسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، لأنه كان أكف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وكان فيمن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم فلقيه المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار فقال له : -

أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن قتلك.

ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة ولما رفض المذر العفو عن زميل أبي البختري أبى أبو البختري ترك زميله فنازل المجزر وأرجز فقال ( 134/14 ): -

لن يسلم ابن حرة زميله***حتى يموت أو يرى سبيله

ص: 63

ثم اقتتلا فقتله المجزر.

وارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال : -

أناعدي والسحل***أمشي بها مشي الفحل

وكان عقبة بن أبي معيط قال بمكة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ( 135/14 ): -

يا راكب الناقة القصواء هاجرنا ***عما قليل تراني راكب الفرس

أعل رمي فيكم ثم أنهله ***والسيف يأخذ منكم كل ملتبس

وقد روي أنه لما توجه المشركون الى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة

سمارة يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل، يتناشدون الأشعار ويتحدثون، فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبة منهم لا يرون القائل، رافعة صوته يتغن ( 150/14 ) :

أزاد الحنيفيون بدرامصيبة ***سينقض منها ركن كسرى وقيصرا

أرانت لها صم الجبال وأفزعت ***قبائل مابين الوتير فخيبرا

أجازت جبال الخشبين وجردت ***حرائر يضربن الترائب حسرا

وكان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده، زمعة وعقيل والحارث

بن زمعة، فسمع أمة تبكي على بعيرها قد أضلته فقال الأسود ( 152/16 ) :

تبكي أن يضل لها بعير*** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن ***على بكر تصاغرت الخدود

ص: 64

فبكي أن بكيت على عقيل*** وبكي حارثأ أسد الأسود

فبكيهم ولا تسمي جميعا ***فما لأبي حكيمة من ندید

على بدر سرات بني حصيص ***ومخزوم ورهط أبي الحديد

ألاقدساد بعدهم رجال*** ولكن يوم بدر لم يسودوا

وعرضت الأسرى على رسول الله صلى الله عليه وآله فرأى النضير بن الحارث، فقال :

اضربوا عنقه.

فقال المقداد :

أسيري يا رسول الله !

فقال :

اللهم اغن المقداد من فضلك، قم يا علي فاضرب عنقه.

فقام علي عليه السلام فضرب عنقه بالسيف صبرة، وذلك بالأثيل، فقالت

أخته وأسمها قتيله ( 171/14 -172):

ياراكبا إن الأثيل مظنة ***من صبح خامسة وانت موفق

بلغ به میتافان تحية ***ما أن تزال به الركائب تخفق

مني اليه وعبرة مسفوحة***جادت لمائحها، وأخرى تخنق

فليسمعن النضر إن ناديته ***أن كان يسمع ميت أو ينطق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ***الله ارحام هناك تمزق

ص: 65

صبرا يقاد الى المدينة راغما***رسف المقيد وهوعان موثق

أمحمد ولأنت نجل نجيبة ***في قومها، والفحل فحل معرق

ماکان ضرك لوفنت وربما ***من الفتى وهو المغيظ المحنق

والنضر أقرب من قتلت وسيلة ***وأحقهم أن كان عتق يعتق

وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وصل إليه شعرها رق له، وقال :

- لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته .

ومن أسرى بدر سهيل بن عمر والذي يكنى أبو يزيد وكان يطعم الخبز قال

فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي، وقد رآه مربوط اليدين إلى عنقه ( 187/14 ) :

يابا يزيد رأيت سيبك واسعا*** وسماء جودك تستهل فتمطر

وقال فيه مالك بن الدخشم، وهو الذي أسره يوم بدر ( 188/14 ) :

أسرت سهيلا فلا أبتغي ***به غيره من جميع الأمم

وخندف تعلم أن الفتى ***سهيلا فتاها إذ تظلم

ضربت بذي الشفر حتى انثني*** وأكرهت نفسي على ذي العلم

أي على ذي العلم بسكون اللام، ولكنه حرکه للضرورة. وقال كعب بن الأشرف يرثي قتلى بدر من المشركين ( 197/14 ):

طحنت رحى بدر لمهلك أهله*** ولمثل بدر يستهل ويدمع

قتلت سراة الناس حول حياضة ***لا تبعدوا أن الملوك تضرع

ص: 66

ويقوم أقوام أذل بعزهم***أنا ابن أشرف ظل كعبا يجزع

صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا ***ظلت تشيخ بأهلها وتصدع

صار الذي أثر الحديد بطعنه ***أو ظل أعمی مرعشألا يسمع

نبئت أن بني المغيرة كلهم*** خشعوا لقتل ابن الحكيم وجدعوا

وابنا ربيعة عنده ومنيه***مانال مثل الهالكين وتبع

نبئت أن الحارث بن همامهم*** في الناس يبني الصالحات ويجمع

لیزور يثرب بالجموع وإنما***يسعى إلى الحسب القديم الأروع

وروي أن عمرو بن أبي سفيان أسره علي عليه السلام يوم بدر ولم يفتده أبو سفيان وبينا هو محبوس بالمدينة خرج سعد بن النعمان بن الحال أخو بني عمرو بن عوف معتمرة ومعه امرأة له فغدا عليه أبو سفيان فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، وأرسل إلى قوم بالمدينة هذا الشعر (201/14 ):

أرهط ابن الحال أجيبوا دعاءه ***تعاقدتمو ألا تسلموا السيد الكهلا

فان بني عمرو لئام أذلة ***لأن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا

فذهب قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطلبوا منه فك عمرو ففکه فبعثوا به الى ابي سفيان فخلى عن سعد، وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفیان ( 201/14 ):

ولو كان سعد يوم مكة مطلقا*** الأكثرفيكم قبل أن يؤسر القتلى

بعضب حسام أو بصفراء نبعة ***تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلا

ص: 67

ومن أسرى بدر خالد بن الأعلم العقيلي، حليف لبني مخزوم، وهو الذي يقول ( 203/14 ):

ولسنا على الأعقاب تدمی کلومنا ***ولكن على أقدامنا تقطر الدما

ومن قتلى بدر من المشركين؛ عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت صبرة بالسيف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأن رسول الله صلى الله عليه وآله صلبه بعد قتله فكان أول مصلوب في الإسلام. وفيه يقول ضرار بن الخطاب (209/14) :-

عین بکي لعقبة بن أبان ***فرع فهر وفارس الفرسان

ص: 68

2. غزوة أحد

لما رجع من حضر من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة... ومشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا :

- يا أبا سفيان.. أنظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد أنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش، وهم طيبوا الأنفس، يجهزون بهذه العير جيش كثيفة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد ترى من قتل آباءنا وأبناءنا وعشائرنا.

فقال أبو سفيان :

- قد طابت أنفس قريش بذلك؟

قالوا :

- نعم ...!

قال :

فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأوالله الموتور والثائر

ص: 69

وقد قتل أبني حنظلة ببدر وأشراف قومي، فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا للخروج.

فباعوها فصارت ذهبا عينا. فلما أجمعوا على المسير قالوا :

- نسير في العرب فنستنصرهم.

وهكذا ساروا في العرب، فأجمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش في العرب، يدعوهم إلى نصرهم؛ فبعثوا عمرو بن العاص وهبيرة بن وهب الزبعري وأبا عزة الجمحي، فأبى أبو عزة أن يسير وقال :

- من علي محمد يوم بدر، وحلفت أن لا أظاهر عليه عدوا.

- فمشى إليه صفوان بن أمية يحاول معه ولكنه أبي وأنصرف عنه صفوان بن أمية آيسأ منه، فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم فطلب منه صفوان ما طلبه أمس فأبى، فقال جبير :

- ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي اليك أبو وهب في أمر تأبى عليه، فأحفظه.

فقال :

- أنا أخرج.

فخرج الى العرب يجمعها ويقول ( 213/14 -215):

إيه بني عبد مناف الرزام*** أنتم حماة وأبوكم حام

لا تسلمون لا يحل السلام*** لا يعدوني نصركم بعد العام

ص: 70

فخرج النفر مع أبي عزة فألبوا العرب وجمعوا، وبلغوا ثقيفة فخرجوا ومعهم نساؤهم كل معه زوجته أو ابنته أو أخته أو أمه، ومن خرجن مع الرجال زوجة غراب بن سفيان بن عويف وهي عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية، وهي التي رفعت لواء قریش حين سقط حتى تراجعت قريش الى لوائها، وفيها يقول حسان ( 216/14 -217):

ولولا لواء الحارثية أصبحوا ***يباعون في الأسواق بالثمن البخس

وخرجت قريش وهم ثلاثة الأف بمن ضوي اليها من كنانة والأحابيش وغيرهم على لواء وأحد، يحمله طلحة بن أبي طلحة ...ولما أجمعوا المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا وختمه، وأستأجر رجلا من بني غفار وسيره الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره أن قريشا قد أجتمعت للسير إليه، ولما وصل الغفاري دفع الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا ما فيه، وأخبر أبي بن كعب سعد بن الربيع ما في الكتاب، فجعل سعد يقول :

- یا رسول الله، والله أني لأرجو أن يكون في ذلك خير .

وأرجعت يهود المدينة والمنافقون وقالوا :

- ما جاء محمد بشيء يحبه .

وأنصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقد أستكتم سعد بن الربيع الخير.

ص: 71

وشاع الخبر بين الناس بمسير قريش، وسارت قريش إلى بدر ثم خرجت إلى أحد. وخرج النساء ومعهن الدفوف يحرضن الرجال ويذكرهم قتلى بدر في كل منزل.

وكانت قريش بذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة وذلك لخمس مضين من شوال على رأس أثنين وثلاثين شهرة من الهجرة، ولما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء وبعث النبي صلى الله عليه وآله عينين له ليلة الخميس فاعترضا قریش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلا الوطاء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه. وكان مقدم قریش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال. وحرست المدينة تلك الليلة ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح واجتمع المسلمون خطبهم، وقال :

- أشيروا علي....

فأشاروا عليه بما يحصنهم ويمكنهم من المشركين فاخذ بما أشاروا عليه وهكذا بدأت الحرب، وصرن نساء المشركين يحرضن رجالهم على القتال ويقلن (235/14) :

نحن بنات طارق ***نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق*** أو ت دبروا نفارق

فراق غير وامق

وقد قتل طلحة بن أبي طلحة من جيش المشركين فحمل لواءهم أخوه

ص: 72

عثمان بن طلحة وهو أبو شيبة فارتجز وقال ( 236/15 ) :

آن علي رب اللواء حقا ***أن تخضب الصعدة أو تندقا

وبعد أن قتل عثمان حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد

بن أبي الوقاص فأصاب حنجرته فأدلع لسانه ادلاع الكلب، وكان النساء خلف أبي سعد يقلن (237/15 ) :

ضربة بني عبد الدار*** ضربة حماة الأدبار

ضربا بكل بتار

وكان الإمام علي إذا برز لا يسلب كأن أبا تمام عناه بقوله ( 238/14 ) :

أن الأسود أسود الغاب همتها ***يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فر معظم أصحابه عنه يوم أحد كثرت عليه كتائب المشركين، وقصدته كتيبة من بني كنانة، ثم من بني عبد مناة بن كنانة، فيها بنو سفیان بن عويف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

- يا علي اكفني هذه الكتيبة.

فحمل عليها، وأنهما لتقارب خمسين فارسا، وهو عليه السلام راجل، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه ثم تجتمع عليه، هكذا مرارة حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة، وتمام العشرة منها، وممن لا يعرف بأسمائهم. فقال جبرائیل علیه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ص: 73

يا محمد إن هذه المواساة، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وما يمنعه وهو مني وأنا منه!

فقال جبرائیل علیه السلام :

وأنا منكما.

وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي

مرارة ( 251/15 ):

(لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي).

فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقال :

هذا جبرئیل.

كان حنظلة بن أبي عامر في معركة أحد قد اعترض أبا سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فأكسدت الفرس، ووقع أبو سفيان على الأرض فجعل يصيح :

يا معشر قريش أنا أبو سفيان بن حرب.

وحنظلة يريد أن يذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجا" لا يلتفتون إليه من الهزيمة، وحتى عاينة الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنقذه، ومشى إليه حنظلة بالرمح فضربه ثانية فقتله، وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه، فلحق ببعض قریش فنزل عن صدر فرسه، وردف وراء أبا سفيان، فذلك قول أبي

ص: 74

سفيان يذكر صبره ووقوفه وأنه لم يفر، وذكره محمد بن إسحاق ( 270/14 ):

ولو شئت نجتني كميت طمرة ***ولم أحمل النعماء لأبن شعوب

وما زال مهري مزجر الكلب فيهم*** لدن غدوة حتى دنت لغروب

أقاتلهم وادعي يال غالب*** وأدفعهم عني بركن صليب

فبكي ولا ترعي مقالة عاذل*** ولاتسأمي من عبرة ونحيب

اياك وأخوانألناقد تتابعوا ***وحق لهم من حسرة بنصيب

وسلي الذي قد كان في التعن أنني***قتلت من النجارکل نجيب

ومن هاشم قرمأ كريما ومصعبا***وكان لدى الهيجاء غير هيوب

ولو أنني لم أشف نفسي منهم ***وكانت شجا في الصدر ذات ندوب

فأبوا وقد أودى الجلابيب منهم ***بهم كم من واجب وكئيب

أصابهم من لم يكن لدمائهم***كفاء ولا في سنخهم بضريب

وفي يوم أحد انتخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

أنا ابن العواتك.

وقال أيضا ( 276/14):

أنا النبي لا كذب **8أنا ابن عبد المطلب

وقال عبد الله بن الزبعري يذكر يوم أحد ( 277/14 -278):

إلا ذرفت من مقلتيك دموع ***وقد بان حبل الشباب قطوع

وشط بمن تهوى المزار وفرقت ***نوى الحرب دار بالحبيب فجوع

ص: 75

وليس لما ولى على ذي صبابة ***وأن طال تذراف الدموع رجوع

فدع ذا ولكن هل أتى أم مالك*** أحاديث قومي والحديث يشيع

وجبناجردة الى أهل يثرب ***عناجيج فيها ضامر وبديع

عشية سرنا من كداء يقودها ***ضرور الأعادي للصديق نفوع

يشد علينا كل زحف كأنها ***عذبر نضوح الجانبين نقيع

فلما رأوناخالطتهم مهابة*** وخاصرهم رعب هناك فظيع

فودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها ***بهم، وصبور القوم ثم جزوع

وقد عريت بيض كأن وميضها ***حريق وشيك في الأباء سريع

بإيماننا نعلو بها كل هامة*** وفيها سمام للعدو ذریع

فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم ***ضياع وطير موقهن وقوع

ومر بنو النجار في كل تلعة*** بأثوابهم من وقعهن نجيع

ولولا علو الشعب غادرن أحمد*** ولكن علا والسمهري شروع

كما غادرت الكر حمزة ثاويا***وفي صدره ماضي الشباة وقيع

وقال ابن الزبعري أيضا من قصيدة مشهورة وهي ( 279/14 ) :

يا غراب البين أسمعت فقل*** أنما نندب أمرأ قد قعل

أن للخير وللشرمدى ***وسواء قبر مثير ومقل

أبلغا حسان عني آية***فقريض يشفي ذياك الفلل

کم ترى بالجسر من جمجمة ***وأكفأ قد أثرت ورجل

ص: 76

وسرابيل حسان شققت ***عن كماني غودروا في المنتزل

کم قتلنا من کریم سید***ماجد الجدين مقدام بطل

صادق النجدة قرم بارع ***غير ملطاة لدى دمع الأسل

فسل المهراس من ساكنه؟ ***من كراديس وهام كالحجر

ليت أشياخي ببدر شهدوا*** جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حطت بقباء برکھا*** واستحر القتل في عبد

ثم خفوا عند ذاكم رقصا***رقص الحفان تعدوفی

قتلنا النصف من ساداتهم***وعدلنا ميل بدر فأعتدل

لا الوم النفس إلا أننا ***الوكررنا لفعلنا المفتعل

بسيوف الهند تعلوهامهم*** تبرد الغيظ ويشفين الغلل

وقال حسان وهو بذکر کسر عتبة بن أبي وقاص سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وكلم شفتيه وشج وجهه فجعل يمسح الدم عن وجهة ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم

فأنزل الله عز وجل :

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}

قال حسان بن ثابت في ذلك اليوم (55/6 ):

إذا الله حيا معشرأ بفعالهم*** ونصرهم الرحمن رب المشارق

فهدك ربي يا عتيب بن مالك*** ولقاك، قبل الموت، أحدى الصواعق

ص: 77

بسطت يمينا للنبي محمد***فدميت فاه قطعت بالبوارق

فهلا ذكرت الله والمنزل الذي*** تصير اليه عند احدى الصعائق

فمن عاذري من عبد عذرة بعدها*** و هوی یخ دجوجي شديد المضايق

وأورث عارا في الحياة لأهله*** وفي النار يوم البعث أم البوائق

ولما قتل حمزة بن عبد المطلب علت هند بنت عتبة، يومئذ، صخرة مشرفة، وصرخت بأعلى صوتها ( 13/15) : -

نحن جزيناكم بيوم بدر ***والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر ***ولا أخي وعمه وبكري

شفيت نفسي وقضيت نذري ***شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي علي عمري ***حتى ترم أعظمي في قبري

فاجابتها هند بنت أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف ( 14/15) : -

خزيت في بدر وغير بدر ***يا بنت عذار عظیم الكفر

أفحمك الله غداة الفجر ****بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يغري ***حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شيب وأبوك قهري ***قضبا منه ضواحي النحر

ومن الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد ( 14/15) :

شفيت، من حمزة نفسي بأحد*** حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عني ذاك ما كنت أجد ***من لوعة الحزن الشديد المعتمد

ص: 78

والحرب تعلوكم بشؤبوب برد قديم أقدامأعليكم، كالأسد

فقال حسان بن ثابت يهجوها ( 14/15 ) :

أشرت لكاع وكان عادتها ***لؤما إذا أشرت مع الكفر

أخرجت مرقصة الى أحد*** في القوم مقتبة على بكر

بكر ثفال لا حراك به*** الاعن معاتبة ولا زجر

أخرجت ثائره محاربة ***بابيك وابنك بعد في بدر

وبعمك المتروك منجدا*** وأخيك منعفرين في الجفر

فرجعت صاغرة بلاتره*** ما ظفرت بها ولا وتر

وقال أيضا يهجوها ( 15/15) :

لمن سواقط ولدان مطرحة ***باتت تفحص في بطحاء اجياد

باتت تمخض لم تشهد قوابلها*** الى الوحوش والا جنة الوادي

يظل يرجمها الصبيان منعفرا*** وخاله وأبوه سيد الوادي

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم أحد : -

ما فعل عمي، ما فعل عمي؟

فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ، فخرج عليه السلام يطلبه ويقول

(16/15) :-

يارب إن الحارث بن الصمة***كان رفيقا وبنا ذا ذمة

قد ظل في مهامتر مهمة***يلتمس الجنة فيها ثمة

ص: 79

حتى انتهى إلى الحارث، ووجد حمزة مقتولا، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل يمشي حتى وقف عليه فقال : -

- ما وقفت موقفا قط أغيظ التي من هذا الموقف. وخرجت فاطمة مع نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فاعتنقته، وجعلت تمسح الدم عن وجهه، وذهب علي عليه السلام فأتي بماء من المهراس وقال لفاطمة : امسكي هذا السيف غير ذميم وقال ( 35/15 ) :

افاطم هاك السيف غير ذميم ***فلست برعديد ولا بلئيم

العمري لقد جاهدت في نصر أحمد*** وطاعة رب العباد رحیم

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : -

- لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سماك بن خرشبة، وسهل بن حنيف.

ولما كان بين الحارث بن سويد الصامت والمجذر بن زياد البلوي ثأر، إذ قتل المجذر أبا الحارث قبل الإسلام، فضمرها الحارث ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث (وكان قد أسلم أيضا) من خلفه فضرب عنقه، وقد أتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجر غيلة، وأمر بقتله، ولما رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا عویم بن ساعدة فقال له : -

قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زیاد فإنه قتله يوم أحد، فضرب عويم عنقه، ففي ذلك قال حسان ( 50/15 )

ص: 80

يا حار في سنة من قوم أولكم ***أم كنت ويحك مفترا بجبريل

أم كنت يا ابن زیاد حين تقتله ***بغرة في فضاء الله مجهول

وقلتم لن نرى والله مبصركم ***وفيكم محكم الآيات والقيل

محمد والعزيز الله يخبره*** بمايکن سريرات الأقاويل

وكان سوید بن الصامت حين ضربه المجذر و بقي قليلا ثم مات، فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده ( 50/15 -51):-

أبلغ جلاس، وعبد الله مالكة*** وان دعيت فلا تخذلهما حار

أقتل جدارة إذ ماكنت لاقيهم*** والحي عوفأ على عرف وأنکار

بعد أن زار معبد بن معبد الخزاعي - وهو مشرك - محمد صلى الله عليه

وآله وسلم وجيش المسلمين وعاد إلى قريش أخبرهم عما ينوي من أخذ ثارهم في أحد، وقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتا ، قالوا : - وما هي؟

فأنشدهم هذا الشعر ( 59/15) :

كادت تهد من الأصوات راحلتي*** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تعدو بأسض راب لا تنابلة ***عند اللقاء ولا ميل معازيل

فقلت ويل ابن حر من لقائهم ***إذا تقطمطت البطحاء بالجيل

أني نذرت لأهل البسل ضاحية ***لكل ذي إربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وحش قنابله*** وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

ص: 81

3 .غزوة الخندق

قال الواقدي وابن إسحاق : خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق شاهراً سيفه معلما مدلا بشجاعته وباسه، وخرج معه ضرار بن الخطاب الفهري؛ وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة ابن أبي وهب ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون، فطافوا بخيولهم على العبور فعبرت، وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس وأصحابه قيام على رأسه، فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا إلى البراز مرارة، فلم يقم إليه أحد، فلما أكثر قام علي عليه السلام فقال : -

- أنا أبارزه یا رسول الله .

فأمره بالجلوس، وأعاد عمرو النداء والناس سکوت كأن على رؤوسهم الطير، فقال عمرو : -

أيها الناس أنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة؟ وأن يقدم عدوا له على النار؟

ص: 82

فلم يقم إليه أحد، فقام علي عليه السلام دفعة ثانية :

- أنا له يا رسول الله .

فأمره بالجلوس فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرة، وجاءت عظماء الأحزاب، فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال ( 62/19 -63) : -

ولقد عجزت من الندا *** ء بجمعهم هل من مبارز

ووقفت مذجبن المشي ***ع موقف القرن المناجز

أني كذلك لم أزل*** متسرعة قبل الهزاهز

أن الشجاعة في الفتى*** والجود من غير الغرائز

فقام علي عليه السلام فقال : -

یا رسول، إإذن لي في مبارزته.

فقال : -

إدن، فدني فقلده سيفه، وعممه بعمامته، وقال : -

امضي لشأنك.

فلما انصرف قال : -

اللهم أعنه عليه.

ولما قرب منه قال مجيبا إياه عن شعره ( 63/19 ):

لا تعجلن فقد أتا ***ك مجيب صوتك غير عاجز

ص: 83

ذو نيه وبصیره*** يرجوبذاك نجاة فائز

أني لأمل أن أقي*** م عليك نائحة الجنائز

من ضربة فوهاء يب ***قى ذكرها عند الهزاهز

فقال عمرو :

من أنت؟

وكان عمرو شيخا كبيرة قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي عليه السلام له وقال : -

أنا علي بن أبي طالب.

فقال : -

- أجل، لقد كان أبوك نديما لي، وصديقة، فأرجع فإني لا أحب أن أقتلك.

فقال له علي عليه السلام: -

لكني أحب أن أقتلك.

فقال : ۔

- يا ابن أخي : - إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فأرجع وراءك خير لك.

فقال علي عليه السلام: -

أن قريشا تتحدث عنك أنك قلت : -لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت، ولو واحدة منها.

ص: 84

قال : ۔

أجل.

فقال علي عليه السلام.

فإني أدعوك إلى الإسلام.

قال :

دع عنك هذه .

فقال :

فإني أدعوك إلى أن ترجع من تبعك من قريش إلى مكة.

قال :

- إذن تتحدث نساء قريش عني أن غلاما خدعني.

قال : فإني أدعوك إلى البراز.

فحمي عمرو، وقال :

ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها مني.

ثم نزل فعقر فرسه، وقيل ضرب وجهه ففر وتجاولا، فثارت لهما غبرة وارقهما عن العيون، إلى أن سمع الناس التكبير عالية من تحت الغيرة، فعلموا أن علية قتله، وانجلت الغبرة عنها، وعلي عليه السلام راكب صدره يحز رأسه، وفر

ص: 85

أصحابه ليعبروا الخندق، فطفرت بم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فأقصر فرسه، فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة فقال : -

يا معشر الناس، قتلة أكرم من هذه.

فنزل إليه علي عليه السلام فقتله.

ولما انتشر خبر مقتل عمرو بن عبد ود رثاه شعراء من قريش منهم :

مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمع يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود قال ( 288/13 ) :

عمرو بن عبد كان أول فارس*** جزع المذاد وكان فارس ملیل

سمح الخلائق ماجد ذومره*** يبقى القتال بشكلم ينکل

ولقد علمتم حين ولوا عنكم ***ان ابن عبد منهم لم يعجل

حتى تكتفهالكماة وكلهم ***يبغي القتال له وليس بمؤثل

ولقد تكتفت الفوارس فارسا*** بجنوب سلع غير نكس أميل

فاذهب علي ما ظفرت بمثلها ***فخرا ولولاقيت مثل المعضل

سأل النزال هناك فارس غالب ***لاقى حمام الموت لم يتحلحل

أعني الذي جزع المذاد ولم يكن ***فشلا وليس لدى الحروب بزمل

وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي، يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب

عليه السلام وتركه عمروا يوم الخندق ويبكيه ( 289/19 ) :

لعمرك ما وليت ظهري محمدا** وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل

ص: 86

ولكنني قلبت أمري فلم أجد*** لسيفي غناء إن وقفت ولا نبلي

وقفت ولما لم أجد لي مقدما*** صدرت كضرغام هزبر إلى شبل

ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد*** مجالا وكان الحزم والرأي من فعلي

فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا***فقدمت محمود الناماجد الفعل

ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا*** فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل

فمن لطراد تقدع الخيل بالقنا ***وللبذل يومأ عند قرقرة البذل

هنالك لولا كان ابن عمرو لزارها*** وفرجها عنهم فتى غير ما وغل

كفتك علي من ترى مثل موقف ***وقفت على شلو المقدم كالفحل

فما ظفرت كفاك يوما بمثلها ***أمنت بها ما عشت من زلة النعل

وقال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرو ويبكيه ( 289/19 - 290) :

لقد علمت عليا لؤي بن غالب*** الفارسها عمرو إذا ناب نائب

وفارسها عمرو إذا يسوقه*** علي، وأن الموت لاشك طالب

(و) عيشة يدعوه علي وإنه ***کفارسها إذ خام عنه الكتائب

فيا لهف نفسي أن عمروأ لكائن ***بيثرب لازالت هناك المصائب

لقد أحرز العليا علي بقتله وللخير يوم لا محالة جالب

وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرو ( 290/19 ):

أمسى الفتى عمرو بن عبير ناظرا***كيف العبور وليته لم يعبر

ولقد وجدت سيوفنا مشهورة ***ولقد وجدت جيادنا لم تقصر

ص: 87

ولقد لقيت غداة بدر عصبة ***ضربوك ضربة غير ضرب الحسر

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة ***يا عمرو أو لجسيم أمر منکر

وقال حسان أيضا ( 290/19 ) :

لقد شقيت بنو جمح بن عمرو*** ومخزوم وتيم ماتقيل

وعمرو كالحسام فتى قريش*** كأن جبينه سف صقيل

فتى من نسل عامر أريحي*** تطاوله الأسنة والنصول

دعاه الفارس المقدام لما*** تكشفت المقانب والخيول

أبو حسين فقعه حساما***اجرازا لا أقل ولا نكول

فغادره مكبا مسلحبا ***على عفراء لا يعید القتيل

ص: 88

4. غزوة مؤته

بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحارث بن عمير الأزدي في سنة ثمان إلى ملك بصری بكتاب، فلما نزل مؤته عرض له شرحبیل بن عمرو الغساني فقال : -

أين تريد؟

قال : ۔

الشام.

قال : ۔

لعلك من رسل محمد؟

قال : -

نعم.

فأمر به فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول غيره، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

ص: 89

فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث، فأسرعوا وخرجوا، فعسکروا بالجرف، فلما صلی صلى الله عليه وآله وسلم الظهر جلس وجلس أصحابه حوله، وجاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس فقال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم : -

زید بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زید بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم، فقال النعمان بن مهيض : ۔

يا أبا القاسم، إن كنت نبية فسيصلب من سميت قلي؟ كانوا أو كثيرة إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان، فلوا سموا مئة أصيبوا جميعا، ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة :

إعهد فلا ترجع إلى محمد أبدأ إن كان نبيا.

قال زيد :-

أشهد أنه نبي صادق.

فلما أجمعوا المسير عقد رسول الله صلى الله عليه وآله لهم اللواء بيده دفعه إلى زيد بن حارثة، وهو لواء أبيض ومشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وآله يودعوهم ويدعون لهم وكانوا ثلاثة آلاف فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون : -

دفع الله عنكم وردكم سالمين صالحين غانمين .

ص: 90

فقال عبد الله بن رواحة ( 61/15 -62) :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة ***وضربة ذات فرع تقذف الزیدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة ***بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ***يا أرشد الله من غاز إذا رشدا

وقد اختلف الرواة فيمن كان الأمير الأول، ومن خلال قصيدة حسان بن ثابت يظهر أن جعفر بن أبي طالب كان هو الأمير الأول ثم زيد بن حارثة فعبد الله بن رواحة، وهو ما يقول به الشيعة. قال حسان (62/15 -63):

تأوبني ليل بيثرب أعسر ***وهم إذا ماتؤم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيمت لي عبرة ***سفوحة وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلیة ***وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

فلا يبعدن الله قتلی تتابعوا ***بمؤته منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعوا*** جميعا وأسياف المنية تخطر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا ***شعوب وخلق بعدهم يتأخر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم ***الى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغركضوء البدر من آل هاشم ***أبي إذا سيم الظلامة أصعر

فطاعن حتى مال غیر موسد***بمعترك فيه القنا منكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه*** جنان وملتف الحدائق أخضر

فكنا نرى في جعفرمن محمد*** وقارة وأمرأ حازمأحين يأمر

ص: 91

وما زال في الإسلام من آل هاشم*** دعائم صدق لاترام ومفخر

هم جبل الإسلام والناس حولهم*** رضام إلى طول يطول ويقهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه*** علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم*** عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الغماء من كل مأزق*** عماس إذا ماضاق بالناس مصدر

همو أولياء الله أنزل حكمه ***عليهم وفيهم والطناب المطهر

ومنها قول کعب بن مالك الأنصاري من قصيدة أولها ( 63/15 - 64):

نام العيون ودمع عينك يهمل ***سحا كما وكف الرباب المسبل

وجدة على النفر الذين تتابعوا ***قتلا بمؤته اسندوا لم ينقلوا

ساروا إمام المسلمين كأنهم ***طود يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه*** قدام أولهم ونعم الأول

حتى تقوضت الصفوف وجعفر ***حيث التقى جمع الغواة مجدل

فتغير القمر المنير لفقده ***والشمس قد كسفت وكادت تافل

قوم علا بنيانهم من هاشم*** فرع أشم وسؤدد متأثل

قوم بهم عصم الإله عباده ***وعليهم نزل الكتاب المنزل

ضلوا المعاشرعفه وتكرمأ ***وتعمدت أخلاقهم من يجهل

وأن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعر منه

(65/15) :

ص: 92

فثبت الله ما آتاك من حسن*** تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

أنى تفرست فيك الخيل نافرة ***فراسة خالفتهم في الذي نظروا

أنت الرسول فمن يحرم نوافله*** والبشر منه فقد أودى به القدر

وكان زيد بن أرقم يحدث، قال : ۔

كنت يتيمة في حجر عبد الله بن رواحة، فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه، خرجت معه في وجهة إلى مؤتة، وصب بي وصببت به، فكان يردفني خلف رحله،

فقال ذات ليلة، وهو على راحلته بين شعبتي رحله ( 66/15 ):

إذا بلغتني وحملت رحلي ***مسافة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمي وخلاك ذم*** ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وآب المسلمون وخلفوني*** بأرض الشام مشتهر الثواء

وزودني الأقارب من دعاء*** الى الرحمان وانقطع الأخاء

هنالك لا أبالي طلع نخل*** ولا نخل أسافلها رواء

ولما قتل جعفر بن أبي طالب وتسلم الراية عبد الله بن رواحة جعل يتردد بعض التردد، ويستقدم نفسه يستنزلها وقال :

أقسمت يا نفس لتزلنه***طوعا وإلا سوف تكرهنه

مالي أراك تكرين الجنة ***إذا جلى الناس وشدوا الرنه

قد طالما قد كنت مطمئنة***هل أنت إلا نطفة في شته

ثم ارتجز فقال ( 69/15 -70):

ص: 93

يا نفس إلا تقتلي تموتي ***هذا حمام الموت قد حليت

وما تمنيت فقد أعطيت***إن تفعلي فعلهما هديت

وان تأخرت فقد شقيت

ص: 94

5. وقعة الجمل مقتل عثمان

مقتل عثمان

قبل ذكر وقعة الجمل لابد من التمهيد لما في ذكر بعض ما قيل في مقتل عثمان من شعر؛ فلقوله عليه السلام من كلام له فيما رده إلى المسلمين من قطائع عثمان (269/1 ):

((والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الماء، لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أهون)).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (270/1 ):

إنه عليه السلام أمر بكل سلاح وجد لعثمان في داره، مما تقوى به على المسلمين فقبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بما عثمان حيث أصيب أو أصيب أصحابها .

ثم أستشهد بقول الوليد بن عقبة - وهو أخو عثمان من أمه يذكر قبض

علي عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه (270/1 -271):

ص: 95

بني هاشم ردوا السلاح ابن أختكم*** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا*** وعند علي درعه ونجائبه؟

بني هاشم كيف التودد منكم***وبزين أروى فيكم وصرائيه؟

بني هاشم إلا تردوا فإننا ***سواء عليناقاتلاه وسالبه

بني هاشم إنا وما كان منكم*** كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه ***كما غدرت يوما بكسری مرازبه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها :

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم ***أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبهته كسرى وقد كان مثله*** شبيهة بكسري هديه وضرائبه

أي كان كافرة كما كان كسری کافرا.

ولقوله عليه السلام : ((والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة كفرة؛ ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، والله ما أشتغفل بالمكية ولا أسفر بالشديدة)).

أستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول ( 234/10 ) :

((لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدين، أحدها إلى الشام والآخر إلى اليمن - وبما، يومئذ یعلی بن منبه - ومع كل واحد منها كتاب وكتب في آخره:

ص: 96

وما بلغت عثمان حتى تخطمت ***رجال ودانت للصغار رجال

لقد رجعت عودة على بدء كونها ***وان لم تجرا فالمصير زوال

سيبديء مكنون الظمائر قولهم*** ويظهر منهم بعد ذاك فعال

فان تقعدا لا تطلباما ورثتما ***فليس لنا طول الحياة مقال

نعيش بدار الذل في كل بلده*** وتظهرمناکادة وهزال

وبعد ورود کتاب مروان بن الحكم على معاوية كتب إلى رؤوس قریش ومن كتب إليهم سعيد بن العاص، وكتب في آخر كتابه ( 237/10 -238) :

تالله لا يذهب شيخي باطلا*** حتى أبير مالكا وكاهلا

القاتلين الملك الحلاحلا ***خير مع حسبأ ونائلا

وكتب في أسفل الكتاب، الذي بعثه إلى عبد الله بن عامر ( 239/10 ):

عليك سلام الله قيس بن عاصم*** ورحمته ماشاء أن يترحما

تحية من أهدى السلام لأهله ***إذا شط دارة عن مزارك سلما

فما كان قيس هلكة هلك واحد***ولكنه بنیان قوم تهدما

وكتب في آخر الكتاب الذي بعثه إلى الولید بن عقبة ( 239/10 ) :

أخترت نومك أن هبت شامية*** عند الهجير وثربأ بالعشيات

على طلاب ثأرأ من بني حكم*** هيهات من راقد طلاب ثارات

وكتب في آخر الكتاب إلى یعلی بن أمية ( 240/10 ):

واعلم يا ابن أمية أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاف ما حوته يداك

ص: 97

من المال، فاعلم ذلك واعمل على حسبه إن شاء الله وكتب في أسفل الكتاب :

ظل الخليفة محصورة يناشدهم*** بالله طورة وبالقرآن أحيانا

وقد تالف أقوام على حنق*** عن غير جرم وقالوا فيه بهتانا

وقام يذكرهم وعد الرسول له ***وقوله فيه إسرار وإعلانا

فقال كفوا فإني معتب لكم*** وصارف عنكم يعلي ومروانا

فكذبوا ذاك منه ثم ساوره ***من حاض ليته ظلما وعدوانا

وكتب إليه مروان جوابا عن كتابه وكتب في أسفل الكتاب ( 242/10 ):

أيقتل عثمان وترقی دموعنا*** ونرقد هذا الليل لا نتفزع

ونشرب برد الماء ريا وقد مضى*** على ظمأ يتلو القران ويركع

فإني ومن صبح المليون بيته*** وطافوا به سعيا، وذو العرش يسمع

سأمنع نفسي كل ما فيه لذه*** و من العيش حتى لا يرى فيه مطمع

وأقتل بالمظلوم من كان ظالما*** وذلك حكم الله ما عنه مدفع

وكتب إليه عبد الله بن عامر، وكتب في أسفل الكتاب ( 242/10 ) : -

لا خير في العيش في ذل ومنقصة ***والموت أحسن من ضيم ومن عار

إنا بنو عبد شمس معشر أنف*** نحر جماجمة طلاب أوتار

والله لو كان ذميا مجاورنا ***ليطلب العز لم نقعد عن الجار

فكيف عثمان لم يدفن بمزبلة*** على القمامة مطروحا بها عار

فازحف إلي فإني زاحف لهم*** بكل أبيض ماضي الحد بتار

ص: 98

وكتب إليه الوليد بن عقبة، وكتب في أسفل الكتاب ( 243/10):

نومي علي محرم إن لم أقم*** بدم ابن أمي من دم العلآت

قامت علي إذا فقدت ولم أقم ***بطلاب ذاك مناحة الأموات

عذبت حياض الموت عندي بعدما***كانت كريهة مورد النهلات

وكتب إليه يعلى بن أمية، وكتب في أسفل الكتاب ( 244/10):

لمثل هذا اليوم أوصى الناس***لا تعط ضيمة أو يخر الرأس

ص: 99

6. وقعة الجمل

لما نزل علي عليه السلام ذا قار كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر : -

أما بعد، فأني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار، وأقام بما مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشعر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر.

فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف، فأمر من أن يقلن في غنائهن :

ما الخبر ما الخبر ***علي في السفر

كالفرس الأشقر*** إن تقدم عقر

وان تأخرنحر

وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة، ويجتمعن لسماع ذلك الغناء، فبلغ أم كلثوم بنت علي عليه السلام فلبست جلابيبها، ودخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها حفصة خجلت واسترجعت، فقالت أم كلثوم : -

ص: 100

لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتا على أخيه من قبل فأنزل الله فيكما ما أنزل.

فقالت حفصة : -

کفی رحمك الله.

فأمرت بالكتاب فخرق، واستغفرت الله .

فقال سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار ( 13/14 - 14):

عذرنا الرجال بحرب الرجال*** فما للنساء وما للسباب؟

أما حسبنا ما أتينابه ***لك الخير من هتك ذاك الحجاب

ومخرجها اليوم من بيتها*** يعرفها الذنب نبح الكلاب

إلى أن أتاناکتاب لها ***مشوم فياقبح ذاك الكتاب

وقالت أخت علي بن عدي، من بني عبد العزى بن عبد شمس وكان أخوها

علي بن عدي من شيعة علي عليه السلام في جملة عسكره ( 17/14):

لاهم فاعقر بعلي جمله*** ولا تبارك في بعير حمله

الا علي بن عدي ليس له

ثم أجمع علي عليه السلام على المسير من الربذة إلى البصرة، فقام إليه رفاعة بن رافع فقال : -

يا أمير المؤمنين؛ أي شيء تريد؟ وأين تذهب بنا؟

قال عليه السلام :

ص: 101

أما الذي نريد وننوي فإصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه.

قال : ۔

فإن لم يرضوا؟

قال عليه السلام :

ندعهم ما تركونا.

قال : ۔

فإن لم يتركونا؟

قال عليه السلام :

نمتنع عنهم.

قال :

فنعم إذا .

وقام الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال : والله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل، كما أرضيتني منذ اليوم بالقول، ثم قال : ۔

دراکها دراکھاقبل الفوت*** فانفر بنا وأسم بنا نحو الصوت

لا وألت نفسي أن خفت الموت

والله لننصرن الله - عز وجل - كما سمانا أنصارا.

وقد ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل، جملة أشعار وأراجيز في هذه الوقعة، منها (143/1 -147) :

ص: 102

قول عبد الله بن سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

ومنا علي ذاك صاحب خيبر ***وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه ***فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه؟

وقول عبد الرحمن بن جعيل : -

العمري لقد بايعتم ذا حفيظة ***على الدين معروف العفاف موفقا

عليا وصي المصطفى وابن عمه ***وأول من صلى أخا الدين والتقى

وقول ابن الهيثم بن تیهان، كان بدريا : -

قل للزبير وقل لطلحة إننا*** نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا ***يوم القليب أولئك الكفار

كناشعار نبينا ودثاره*** يفديه منا الروح والأبصار

إن الوصي أمامنا ودليلنا*** برح الخفاء وباحت الأسرار

وقول عمرو بن حارثة الأنصاري، وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل، وقد لامه أبوه عليه السلام لما أمره بالحملة فتقاعس :

أبا حسن أنت فصل الأمور*** بین بك الحل و المحرم

جمعت الرجال على راية ***بها أبنك يوم الوغى مقحم

ولم ينكص المرء من خيفة ***ولكن توالت له أسهم

فقال رويدا فلا تعجلوا ***فإني إذا رشقوا مقدم

فأعجلته والفتي مجمع ***بما يكره الوجل المحجم

ص: 103

سمی النبي وشبه الوصي*** ورايته لونها العندم

وقول رجل من الأزد :

هذا علي وهو الوصي ***أخاه يوم النجوى النبي

وقال هذا بعدي الولي ***وعاه واع ونسي الشقي

وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة، وهو يقول :

نحن بني ضبة أعداء علي*** ذاك الذي يعرف قدما بالوصي

وفارس الخيل على عهد النبي ***ما أنا من فضل علي بالعمي

لكنني أنعى ابن عفان التقي ***أن الولي طالب ثأر الولي

وقول سعيد بن قيس الهمداني - وكان من عسكر علي عليه السلام :

أية حرب ظهرت نيرانها*** وكسرت يوم الوغى مرآنها

قل للوصي أقبلت قحطانها*** فادع بها تكفيكها همدانها

هم بنوها وهم إخوانها

وقول زیاد بن لبيد الأنصاري - من عسكر الأمام علي عليها السلام :

كيف ترى الأنصار في يوم الطلب ***إنا أناس لا نبالي من عطب

ولا نبالي في الوصي من غضب ***وإنما الأنصار جدلا لعب

هذا علي وابن عبد المطلب ***ننصره اليوم على من قد كذب

من يكسب البغي فبئسما اكتسب

ص: 104

وقول حجر بن عدي الكندي :

يا ربناسلم لنا عليا ***و سلم لنا المبارك المضيا

المؤمن الموحد التقيا*** و لا خطل الرأي ولا غويا

بل هاديا موفقأ مهديا ***واحفظه ربي واحفظ النبيا

فيه فقد كان له وليا ***ثم ارتضاه بعده وصيا

وقول خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، وكان بدريا :

ليس بين الأنصار في حجة الحرب ***وبين العداة إلا الطعان

وقراع الكماة بالقضب البيض ***إذا ما تحطم المرآن

فأدعها تستجب فليس من الخز ***رج والأوس ياعلي جبان

يا وصي النبي قد أجلت الحرب*** الأعادي وسادت الأضعان

واستقامت لك الأمور سوی*** الشام وفي الشام يظهر الإذعان

حسبهم منا رأوا وحسبك منا ***هكذا نحن حيث كنا وكانوا

وقوله أيضا :

أعائش خلي عن علي وعيبه ***بما ليس فيه إنما أنت والده

وصي رسول الله من دون أهله*** وأنت على ما كان من ذاك شاهده

وحبك منه بعض ما تعلمينه ***ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده

إذا قيل ماذا عبت رميته ***بخذل ابن عفان وما تلك آبده

وليس سماء الله قاطرة وما ***الذاك وما الأرض الفضاء بمائده

ص: 105

وقول ابن بديل بن ورقاء الخزاعي :

یا قوم للحظة العظمى التي حدثت*** حرب الوصي وما للحرب من آسي

الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت*** تلك القبائل أخماسألأسداس

وقول عمرو بن أميمة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي عليه السلام بعد خطبة عبد الله بن الزبير:

حسن الخير ياشبيه أبيه ***قمت فينا مقام خير خطيب

قمت بالخطبة التي صدع الله*** بهاعن أبيك أهل العيوب

وكشفت القناع فأفتضح الأمر*** واصلحت فاسدات القلوب

الست كابن الزبير لجج في القول*** وطاطا عنان فسل مريب

وأبى الله أن يقوم بماقام ***به ابن الوصي وابن النجيب

أن شخصا بين النبي - لك الخير ***وبين الوصي غير مشوب

وقول زهير بن قیس الجعفي :

أضربكم حتى تقري لعلي*** خير قريش كلها بعد النبي

من زانه الله وسماه الوصي*** إن الولي حافظ ظهر الولي

كما القوي تابع أمر القوي

كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله في البصرة عثمان بن حنیف الأنصاري بقدوم طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة ليطالبوا بدم عثمان، وطلب منه أن يستوضح منهم سبب قدومهم وأن يدعوهم إلى الطاعة والرجوع إلى

ص: 106

الوفاء بالعهد والميثاق، فبعث عثمان أبا الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي إلى عائشة ورهطها فكلماها وكلما طلحة والزبير ولما لم ينفع معهم النصح والإرشاد قال أبو الأسود الدؤلي لعثمان بن حنیف (313/9 -314) :

يا ابن حنيف قد أتيت فانفر*** وطاعن القوم وجالد وأصبر

وأبرز لها مستلئمأ وشمر

فقال ابن حنيف : اي والحرمين لأفعلن، وأمر منادیه فنادى في الناس :

- السلاح السلاح!

فاجتمعوا إليه وقال أبو الأسود الدؤلي :

أتينا الزبير فداني الكلام ***وطلحة كالنجم أو أبعد

وأحسن قوليهمافادح ***يطيق به الخطب مستنكد

وقد وعدونا بجهد الوعيد ***فأهون علينا بما أوعدوا

فأن تلقموا الحرب بين*** فملقمهاحدها الأنكد

وأن عليالكم مصحر***ألا أنه الأسد الأسود

أما أنه ثالث العابدين***بمكة والله لا يعبد

فرخوا الخناق ولا تعجلوا ***فأن غدا لكم موعد

برز علي عليه السلام يوم الجمل، فنادى بالزبير:

يا أبا عبد الله، مرارة، فخرج الزبير، فتقاربا حق اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي عليه السلام :

ص: 107

- إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي ولك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي فقال لك : - أتحبه؟ قلت : ومالي لا أحبه وهو أخي وابن خالي!

فقال (أما أنك ستحاربه وأنت ظالم له).

فاسترجع الزبير وقال :

اذكرتني ما أنسانيه الدهر.

ورجع إلى صفوفه، فقال له عبد الله ابنه،

لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به!

فقال :

أذكرني علي حديثا أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبدأ، وإني لراجع وتارککم منذ اليوم.

فقال له عبد الله :

ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنما السيوف حداد تحملها فتية أنجاد.

فقال الزبير : -

يلك المجني على حربه ؟ أما أني حلفت أن لا أحاربه .

قال :

كفر عن يمينك؛ لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت، وما كنت جبانا .

ص: 108

فقال الزبير:

غلامی مکحول حر كفارة عن يميني،

ثم أنصل سنان رمحه وحمل على عسكر علي عليه السلام برمح لاسنان له فقال علي عليه السلام :

أفرجوا له فانه محرج.

ثم عاد إلى أصحابه، ثم حمل ثانية، ثم ثالثة، ثم قال لابنه :

أجبنا ويلك ترى.

فقال : لقد أعذرت (133/1 - 134).

لما أذكر علي عليه السلام الزبير بما ذكره به ورجع الزبير، قال :

نادي علي بأمر لست أنكره*** وكان عمر أبيك الخير مذحين

فقلت حسبك من عذل أبا حسن***بعض الذي قلت منذ اليوم يكفين

تلك الأمور التي تخشى مغبتها ***والله أمثل في الدنيا وفي الدين

فاخترت عارا على نار مؤججة ***أني يقوم لها خلق من الطين

ولما أنصرف الزبير عن حرب علي عليه السلام، مر بوادي السباع فاتبعه عمر بن جرموز، وكان فاتكة، فسار ابن جرموز معه، فلما حضرت الصلاة وقام الزبير إليها شد ابن جرموز عليه فقتله، وأخذ رأسه وخاتمه وسيفه، وجاء إلى علي عليه السلام، ولما علم الإمام أنه هو الذي قتله قال :

ص: 109

- والله ما كان ابن صفية جبانة ولا لئيمة، ولكن الحين ومصارع السوء، ثم قال :

ناولني سيفه فناوله فهزه، وقال : -

سیف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ابن جرموز : - الجائزة يا أمير المؤمنين.

فقال :

أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)) فخرج ابن جرموز خائبا وقال (135/1 - 136): -

اتيت عليا برأس الزبير ***أبغي به عنده الزلفه

فبشر بالنار يوم الحساب*** فبئست بشارة ذي التحفه

فقلت له أن قتل الزبير ***لولا رضاك من الكلفه

فان ترض ذاك فمنك الرضا ***وإلا فدونك لي حلفه

ورب المحلين والمحرمين ورب الجماعة والألفه

السيان عندي قتل الزبير ***وضرطة عنز بذي الجحفة

ثم خرج ابن جرموز على علي عليه السلام مع أهل النهروان، فقتله معهم فيمن قتل، وكان الزبير وطلحة قد قاما في الناس، فقالا : -

إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة فاجمعوا حقيقتكم، فأنه لا

ص: 110

يبقى حرمة إلا انتهكها، ولا حريمة إلا حكته، ولا ذرية إلا قتلها ولا ذوات خدر إلا سباهن، فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله.

فخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه، نبيل، عليه جبة وشيء، يحض الناس على الحرب، ويقول (255/1 -256):

يا معشر الأزد عليكم أمكم ***فأنها ص لاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم ***فاحضروها جدكم وحزمكم

وقال أبو مخنف : -

لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ، استقتل الناس عند قوله، وثبتوا حول الجمل، وانتدبوا فخرج عوف بن قطن الضبي؛ وهو ينادي :

ليس لثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب وولده.

فاخذ خطام الجمل وقال :

يا أم يا أم خلامني الوطن ***و لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن

من هاهنا معشر عوف بن قطن ***أن فاتنا اليوم علي فالغبن

أو فاتنا ابناه حسين وحسن ***إذا أمت بطول هم وحزن

ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل، وتناول عبد الله بن أبزي خطام الجمل، وكان من أراد الجد في الحرب وقاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه،

ص: 111

ثم شد علی عسکر علي عليه السلام وقال :

أضربهم ولا أرى أبا حسن*** ها إن هذا حزن من الحزن

فشد عليه علي أمير المؤمنين عليه السلام بالرمح فطعنه فقتله وقال :

- قد رأيت أبا حسن، فكيف رأيته؟

وترك الرمح فيه.

وكان عمرو بن يثرب الضبي أخذ بخطام الجمل فدفعه إلى ابنه ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه علباء بن هیثم السدوسي فقتله عمرو، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه هند بن عمر الجملي فقتله عمرو، ثم دعا إلى البراز، فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي عليه السلام :

يا أمير المؤمنين، إني رأيت يد أشرفت علي من السماء وهي تقول : هلم إلينا، وأنا خارج إلى ابن يثرب، فإذا قتلني فادفني بدمي ولا تغسلني فإني مخاصم عند ربي، ثم خرج فقتله عمرو، ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزة يقول (258/1 -259 ):

أرديت علباء وهندا في طلق*** ثم ابن صوصان خضيبأ في علق

قد سبق اليوم لنا ماقد سبق ***والوتر منافي عدي ذا الفرق

والأشتر الغاوي وعمرو بن الحمق*** والفارس المعلم في الحرب الحنق

ذاك الذي في الحادثات لم يطق*** أعني عليا ليته فينامزق

وأن عمروة لما قتل من قتل وأراد أن يخرج لطلب البراز، قال للأزد :

ص: 112

- يا معشر الأزد إنكم قوم لكم حياء وبأس، وأني قدوترت القوم، وهم قاتلي، وهذه أمكم نصرها دين، وخذلانها عقوق ولست أخشى أن أقتل حتى أصرع، فإن صرعت فاستنقذوني.

فقال له الأزد :

ما في الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر.

قال :

فإياه أخاف.

فقيضه الله له، فقد علما جميعا فارتجز الأشتر :

أني إذا ما الحرب أبدت ***وأغلقت يوم الوغى أبوابها

ومزقت من حنق أثوابها*** كناقداماها ولا أذنابها

ليس العدو دوننا أصحابها*** من هابها اليوم فلن أهابها

الاطعنها أخشى ولا ضرابها

ثم حمل عليه فطعنه فصرعه فحامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب وهو وقيد ثقيل فلم يستطع أن يدفع عن نفسه واستعرضه عبد الرحمن بن طود البكري، فطعنه فصرعه ثانية، ووثب عليه رجل من سدوس فأخذه مسحوبة برجله حتى أتی به عليا عليه السلام فناشده الله فقال :

يا أمير المؤمنين أعف عني فإن العرب لم تزل قائلة عنك إنك لم تجهز على جريح قط، فأطلقه، وقال :

ص: 113

إذهب حيث شئت، فجاء إلى أصحابه وهو لما به، ولما انكشفت الحرب شکرت أبنة عمرو بن يثربي الأزد وعابت قومها، فقالت :

يا ضب إنك قد فجعت بفارس*** حامي الحقيقة قاتل الأقران

عمرو بن يثرب الذي فجعت به ***كل القبائل من بني عدنان

لم يحمه وسط العجاجة قومه*** وحنت عليه الأزد أزد عمان

فلهم علي بذاك حادث نعمة ***ولحبهم احببت كل يماني

لوكان يدفع عن منية هالك ***طول الأكف بذابل المرآن

أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم ***وسط العجاجة والحتوف دوان

مانيل عمرو والحوادث جمة ***حتي ينال النجم والقمران

لوغير الأشتر ناله لندبته*** وبكيته ما دام هضب أبان

لكنه من لا يعاب بقتله أسد الأسود وفارس الفرسان

وخرج عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو رئيس البصرة وأكثر أهلها مالا وضياعا، فطلب البراز، وسأل أن لا يخرج إليه إلا علي عليه السلام، وارتجز فقال :

أبا تراب أدن مني فترا ***فإنني وأن إليك بشرا

وأن في صدري عليك عمرا

فخرج علي عليه السلام فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته .

وروي أن شعاره عليه السلام كان في ذلك اليوم ((قسم لا ينصرون اللهم

ص: 114

انصرنا على القوم الناكثين)).

وفي اليوم الثالث خرج أول الناس عبد الله بن الزبير ودعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر، فقالت عائشة :

من برز إلى عبد الله؟

قالوا :

-الأشتر.

فقالت :

وا ثكل أسماء .

فضرب كل منهما الآخر فجرحه، ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله وقعد على صدره، واختلط الفريقان، هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر.

وكان الأشتر طاوي ثلاثة أيام لم يطعم، وهذه عادته في الحرب، وكان أيضا شيخة عالي السن، فجعل عبد الله ينادي :

أقتلوني ومالكا ***واقتلوا مالك معي

وأفلت ابن الزبير من تحته ولم يكد، فذلك قول الأشتر (262/1 -263):

أعائش لولا أنني كنت طاويا***ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرجال تحوزه ***بأضعف صوت اقتلوني ومالكا

فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه*** خدت عليه في العجاجة باركا

فنجاه مني أكله وشبابه ***وأني شيخ لم أكن متماسكا

ص: 115

وقالت على أي الخصال جرعته***بقتل أتى أم ردة لا أبالكا

أم المحصن الزاني الذي حل قتله***فقلت لها لابد من بعض ذلكا

والبيتان الأخيران جواب على سؤال عائشة من مالك بن الحارث الأشتر بعد انقضاء أمر الجمل، هو أنه هو الذي صنع بابن أختها ابن الزبير ما صنع فأجابها :

- نعم، ولولا أني كنت طاوية ثلاثة أيام لا رحت أمة محمد منه، فذكرته بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله إذ قال : ((لا يحل دم مسلم إلا بأحد ثلاثة أمور :

كفر بعد أيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق))

فقال الأشتر :

على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين.

وقال ذلك الشعر.

وانتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي عليه السلام إلى الجمل ورجل آخذ بخطامه لا يدنوا منه أحد إلا قتله، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز فقال لعائشة (264/1 ):

يا أمنا أحق أم نعلم*** والأم تغذو ولدها وترحم

أما ترین کم شجاع يكلم ***وتختلى هامته والمعصم

فاختلف هو والرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه.

فخرج خباب بن عمرو الراسبي، وهو من عسكر أهل البصرة (264/1 ):

أضربهم ولو أرى عليا ***عممته أبيض مشرفيا

ص: 116

أربح منه معشرا غویا

فصمد عليه الأشتر فقتله.

ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو من أشراف قريش - وكان اسم سيفه (ولول) فارتجز فقال (265/1 ) :

أنا ابن عتاب وسيفي ولول ***والموت دون الجمل المجلل

طاف علي عليه السلام على أصحابه وهو يقرأ آيات من القرآن ما تشد من عزيمتهم ثم رفع مصحفة بيده فقال :۔

من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه، وله الجنة ؟ ، فقام غلام اسمه (مسلم) عليه قباء أبيض، فقال :

أنا آخذه.

فنظر إليه علي عليه السلام وقال :

إن أخذته فيدك اليمنى تقطع فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع ثم تضرب بالسيف حتى تقتل.

فقال :

لا صبر لي على ذلك.

فنادى علي ثانية، فقام الغلام، أعاد عليه القول، أعاد الغلام القول مرارة ، حتى قال الغلام :

أنا آخذه، وهذا الذي ذكرت في الله قليل.

ص: 117

فأخذه وانطلق، فلما خالطهم ناداهم : -

هذا كتاب الله بيننا وبينكم فضربه رجل فقطع يده اليمنى فتناوله باليسرى فضربه آخر فقطع اليسرى فاحتضنه فضربوه بأسيافهم حتى قتل، فقالت أم ذریح العبدية في ذلك (112/9 ):

يا رب إن مسلما أتاهم*** بمصحف أرسله مولاهم

للعدل والایمان قد دعاهم***يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فغضبوا من دمه ضباهم*** وأمهم واقفة تراهم

تأمرهم بالغي لا تنهاهم

وكان الإمام علي عليه السلام قد مر بطلحة وهو يكبد بنفسه، فوقف عليه فقال : ۔

أما والله إن كنت لأبغض أن أراكم مصرعين في البلاد، ولكن ما حتم واقع ثم تمثل (113/9 -114):

وما تدري إذا أزمعت أمرا ***بأي الأرض يدركك المقيل

وما يدري الفقير متى غناه ***ولا يدري الغني متى يعيل

وما تدري إذا ألحقت شولا*** أتنتج بعد ذلك أم تحيل

وقيل أن حکیم بن جبلة - ويعد أشجع العرب - أنه قطعت رجله يوم الجمل فأخذها بيده، وزحف على قاتله فضربه بها حتى قتله وهو يقول (56/18):

ص: 118

يا نفس لا تراعي ***إن قطعت كراعي

إن معي ذراعي

فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه.

دفع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه وقد استوت الصفوف وقال له :

احمل.

فتوقف قليلا، فقال له :

احمل.

فقال :

يا أمير المؤمنين أما ترى السهام كأنهما شآبيب المطر؟

فدفع في صدره فقال :

أدركك عرق من أمك.

ثم أخذ الراية فهزها، ثم قال :

اطعن بها طعن أبيك تحمد*** لا خير في الحرب إذا لم توقد

ثم حمل وحمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة، وبعد أن ضعضع أركان عسكر الجمل، دفع إلى محمد الراية وقال :

امسح الأولى بالأخرى، وهذه الأنصار معك، وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا

ص: 119

الشهادتين، في جمع من الأنصار، كثر منهم من أهل بدر، فحمل حملات كثيرة أزال كما القوم عن مواقعهم وأبلى بلاء حسنا، فقال الأنصار :

يا أمير المؤمنين، لولا ما جعل الله - تعالى - للحسن والحسين لما قدمنا على محمد أحدة من العرب.

فقال خزيمة بن ثابت فيه (243/1 -245):

محمد ما في عودك اليوم وصمة ***ولا كنت في الحرب الضروس معردا

أبوك الذي لم يركب الخيل مثله*** علي، وسماك النبي محمدا

فلو كان حقا من أبيك خليفة ***الكنت، ولكن ذاك مالا يرى بدا

وأنت بحمد الله أطول غالب ***السانا، وأنداها بما ملكت يدا

وأقربها من كل خير تريده*** قريش وأوفاها بما قال موعدا

وأطعنهم صدر الكمي برمحه*** وأكساهم للهام عضب مهند

سوى أخويك السيدين كلاهما ***من الأرض أو الأوج مرقى ومصعدا

ومن الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم (1254 - 255 ):

نحن بني ضبة أصحاب الجمل ***تنازل الموت إذا الموت نزل

ننعى ابن عفان بأطراف الأسل***ردوا علينا شيخنا ثم بجل

الموت أحلى عندنا من العسل ***لاعارفی الموت اذا حان الاجل

ان عليا هومن شر البدل ***إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل

ص: 120

أين الوهاد وشماريخ القلل

فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام

نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل ***أكثر من أكثرفيه أو أقل

أني يرد نعثل وقد قحل*** نحن ضربنا وسطه حتی انجدل

الحكمه حكم الطواغيت الأول*** أثر في الفيء وجافي في العمل

فأبدل الله به خير بدل ***أني أمرؤ مستقدم غير وكل

مشمر للحرب معروف بطل

ومن أراجيز أهل البصرة :

يا أيها الجند الصليب الإيمان*** قوموا قياما واستغيثوا الرحمن

أني أتاني خبر ذو ألوان*** أن عليأقتل ابن عفان

ردوا إليناشيخنا کماکان ***يارب وأبعث ناصرا لعثمان

يقتلهم بقوة وسلطان

فأجابه رجل من عسكر الكوفة :

أبت بيوت مذحج وهمدان ***بأن ترد نعثلا كماكان

خلقا سويا بعد خلق الرحمن*** وقد قضى بالحكم حكم الشيطان

وفارق الحق ونور الفرقان*** فذاق كأس الموت شرب الظمآن

ومن الرجز المشهور المقول يوم الجمل، قاله أهل البصرة :

يا أمناعاش لا تراعي ***كل بنيك بطل المصاع

ص: 121

وحولك اليوم رجال شنوه ***وحي همدان رجال الهبوه

والمالكيون القليلو الكبوه*** والأزد حي ليس فيهم نبوه

وتختتم فقرة (وقعة الجمل) بقوله عليه السلام : (دماؤكم زعاق)، أي ملح.

وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة، ولا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى والسباع، كما قال الشاعر (252/1 ):

بلاد بها الحمى وأسد عرينة ***وفيها المعلي يعتدي ويجور

فأني لمن قد حل فيهالراحم ***واني لمن لم يأتهالنذير

ولقوله عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة (185/2 ):

((ما لي ولقريش؟ والله لقد قاتلتهم كافرين، وأقاتلهم مفتونين)).

استشهد بقول هاشم بن عتبة المرقال، يذكر نفور أهل الكوفة إلى علي عليه السلام (188/2 ):

وسرنا إلى خير البرية كلها*** على علمنا إنا إلى الله نرجع

نوره ي فضله ونجله ***و الله ما نرجو وما نتوقع

ونخصف إخفاق المطي على الوجا***و الله ما نرجو و الله نرجع

دلفنا بجمع آثروا الحق والهدى*** إلى ذي تقی فی نصره نتسرع

نكافح عنه والسيوف شهيرة***تصافح اعناق الرجال فتقطع

ص: 122

7. وقعة صفين

1- الوصي : - قبل الخوض في واقعة صفين أرى أن أذكر بعض الشعر الذي ذكر الإمام علي عليه السلام بعده وصيا بعد الرسول الكريم محمد صلی الله عليه وآله وسلم وهو واحد من الأدلة على أحقية الإمام بخلافة المسلمين .

ذکر نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتابه (صفين) جملة من الأشعار

تتضمن تسميته عليه السلام بالوصي، وقال نصر بن مزاحم، قال زهير بن قیس الجعفي (197/1 ) :

فصلى الإله على أحمد ***رسول المليك تمام النعم

رسول المليك ومن بعده ***خليفتنا الغائم الدعم

عليا عنيت وصي النبي*** بجالد عنه غواة الأمم

ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قیس :

أتانا الرسول رسول الإمام*** فسر بمقدمه المسلمونا

رسول الوصي وصي النبي ***له الفضل والسبق في المؤمنينا

بما نصح الله والمصطفى ***رسول الإله النبي الأمينا

ص: 123

يجاهد في الحق لا ينثني*** جميع الطغاة مع الجاحدينا

وصي النبي وذو صهره ***وسيف المنية في الظالمينا

وكم بطل ماجدقد أذاق*** منية حتف من الكافرينا

وكم فارس كان سال النزال ***فأب الى النار في الآيبينا

فذاك علي إمام الهدى ***وغيث البرية والمقحمينا

وكان إذا ما دعا للنزال*** كليث عرين يزين العرينا

ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا (148/1 ):

أتانا الرسول رسول الوصي*** علي المهذب من هاشم

رسول الوصي وصي النبي ***وخير البرية في العالم

وزير النبي وذو صهره ***وخير البرية من قائم

له الفضل والسبق في الصالحات ***الهدي النبي به يأتمي

محمدأ أعني رسول الإله*** وغيث البرية والخاتم

اجنبیاعليا بفضل له ***وطاعة نصح له دائم

فقيه حليم له صولة ***کليث عرين بهاسائم

حلیم عفيف وذو نجدة ***بعيدمن الغدر والمأثم

1 - الوقعة : - بعد أن انتهى الإمام عليه السلام من وقعة الجمل قدم إلى الكوفة يوم الاثنين اثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ست وثلاثين... ومعه أشراف الناس وأهل البصرة، استقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم فنزل

ص: 124

الرحبة وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر وخطب وان علي عليه السلام حين قدم من البصرة نزع جریر، همدان، فجاء حتى نزل الكوفة؛ فأراد علي عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير :

ابعثني إلى معاوية فإنه لم يزل مستنصحا وودا فأتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر، ويجامعك على الحق، على أن يكون أميرة من أمرائك وعاملا من عمالك.

وعلى الرغم من معارضة الأشتر بعثه عليه السلام وقال له حين أراد أن یبعثه:

-إن حولي من أصحاب رسول الله عليه السلام من أهل الدين والرأي من رأيت، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله عليه السلام فيك : ((إنك من خير ذي يمن، أيت معاوية بكتابي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه وأعلمه أني لا أرضى به أميرة. وأن العامة لا ترضى به خليفة .

فانطلق جرير إلى الشام وسلم معاوية كتاب الإمام علي بن أبي طالب عليه

السلام بعد أن ألقى كلمة موجزة دعا إلى مبايعة الإمام علي عليه السلام.

فقرأه وأغتم بما فيه، وذهبت به أفكاره كل مذهب، وطاول صبرة بالجواب عن الكتاب، حتى كلم قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان فأجابوه ووثقوا له. واستشار أخاه عتبة بن أبي سفيان، فقال له : -

استعن بعمرو بن العاص

ص: 125

فكتب إليه معاوية يستقدمه ليستشيره، ولما قدم کتاب معاوية إلى عمرو استشار ابنيه عبد الله ومحمد، فأشار عليه عبد الله بعدم الذهاب فيما أشار محمد عليه بالذهاب، فقال عمرو :

أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأنت يا محمد فأمرتني بما

هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر. فلما جنه الليل رفع صوته وأهله يسمعون فقال (62/2 -63):

تطاول ليلي بالهموم الطوارق*** وخوف التي تجلو وجوه العوائق

وإن ابن هندسالني أن أزوره*** وتلك التي فيها بنات البوائق

أتاه جريرمن علي بخطة ***أمرت عليه العيش ذات مضائق

فإن نال مني ما يؤمل رده ***وان لم ينله ذل المطابق

فوالله ما أدري وماكنت هكذا***أكون ومهماقادني فهوسابق

أخادعه أن الخداع دنية*** أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق

أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة*** الشيخ يخاف الموت في كل شارق

وقد قال عبد الله قولا تعلقت ***به النفس إن لم تقتطعني عوائق

وخالفه فيه أخوه محمد وإني لصلب العود عند الحقائق

على الرغم من نصيحة غلامه وردان بلزوم بيته بقوله :

فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك.

ص: 126

أقول، على الرغم من ذلك رحل إلى معاوية وهو يقول (36/2 ) :

ياقاتل الله وردانأ وقدحته ***أبدى لعمرك ما في النفس وردان

لما تعرضت الدنيا عرضت لها ***بحرص نفسي و الأطباع أدهان

نفسي تعف وأخرى الحرص يغلبها ***والمرء يأكل تبنا وهو غرثان

أما علي فدين ليس يشركه***دنيا وذاك له دنيا وسلطان

فاخترت من طرفي دنيا على بصر ***وما معي بالذي أختار برهان

أني لأعرف ما فيها وأبصره ***و أيضا لما أهواه ألوان

لكن نفسي تحب العيش في شرف وليس يرضى بذل العيش إنسان

عندما التقى معاوية في الشام قال له :

أبا عبد الله طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد ولا صدر

قال عمرو :

وما ذاك؟

قال معاوية :

منها أن محمد بن حذيفة كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه، وهو من آفات هذا الدين، ومنها أن قيصرة زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام، ومنها أن عليا نزل الكوفة وقيأ للمسير إلينا.

فقال عمرو :

ليس كل ما ذكرت عظيمة؛ أما ابن أبي حذيفة، فما يتعاظمك من رجل

ص: 127

خرج في أشياعه أن تبعث اليه رجلا يقتله، أو يأتيك به، وإن قاتل لم يضرك وأما قیصر فاهد له الوصائف وآنية الذهب والفضة، وسيلة الموادعة، فإنه إليها سريع، وأما علي والله يا معاوية ما يسوى العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء، وان له في الحرب لحظة ما هو لأحد من قريش، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه.

قال معاوية لعمرو :

- يا أبا عبد الله : إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله وشق عصا المسلمين، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم.

فقال عمرو :

من هو؟

قال :

علی...

قال:

والله يا معاوية ما أنت وعلي بحملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه، والله أن له - مع ذلك - لحظة في الحرب ليس لأحد غيره، ولكن قد تعودت من الله تعالی إحسانا وبلاء جميلا؛ فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟

قال :

حكمك .

ص: 128

فقال :

مصر طعمة. فتلكأ عليه معاوية وقال له : -

- يا أبا عبد الله إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا.

قال عمرو :

لا، لعمر الله ما مثلي يخدع، لأنا أكيس من ذلك.

قال معاوية :

إدن مني أسارك.

فدنا منه عمرو ليساره، فعض معاوية أذنه وقال :

هذه خدعة! هل ترى في البيت أحدة ؟ ليس غيري وغيرك . فأنشأ عمرو يقول (64/2 -66):

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ***به منك دينافانظرن كيف تصنع

فان تعطني مصرأ فأربح بصفقة***أخذت بها شيخا يضر وينفع

وما الدين والدنيا سواء وإنني ***لأخذ ما تعطي ورأسي مقنع

ولكنني أغضي الجفون وأنني ***الأخد، کلا، والمخادع يخدع

وأعطيك أمرأ فيه للملك قوة*** وأكفي أنزلت النعل أصرع

وتمنعني مصرأة وليست برغبه***وأني بذا الممنوع قدما لمولع

ص: 129

فقال معاوية :

يا أبا عبد الله، أما تعلم أن مصر مثل العراق ؟

قال :

بلی، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، إنما تكون لك، إذا غلبت عليا على العراق.

وقد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي عليه السلام.

فلما حضر عتبة بن أبي سفيان، قال لمعاوية :

- أما ترضى أن تشتري عمروا مصر إن هي صفت لك؟ ليتك لا تغلب على الشام.

فقال معاوية : -

- يا عتبة بت عندنا الليلة.

فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية، وقال (66/2 -67) :

أيها المانع سيفا لم يهز*** إنما ملت على خز وقز

إنما أنت خروف ماثل ***بین ضرعين وصوف لم يجز

اعط عمرو إن عمروا تارك*** دينه اليوم لدنيا لم تحز

يالك الخير فزن من دره*** شخبة الأول وابعد ماغر

ز واسحب الذيل وبادر فوقها ***وانتهزها إن عمروا ينتهز

اعطه مصرة وزده مثلها ***إنما مصر لمن عز فبز

ص: 130

واترك الحرص عليهاضلة ***واشبب النار لمقرور یکز

إن مصرا لعلي أو لنا*** يغلب اليوم عليها من عجز

فلما سمع معاوية قول عتبة، أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر.

وكان لعمرو بن العاص عم من بني سهم، وهو فتى شاب، وكان داهية حليمة، وجاءه من مصر فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورة عجب الفتي، وقال :

ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي نعيش في قريش؟ أعطيت دينك وعفيت دينا غيرك ! أتري أهل مصر - وهم قتلة عثمان - يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وأتراها إن صارت لمعاوية لأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب؟

فقال عمرو :

يا ابن أخي إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى (68/2 -69) :

ألا ياهند أخت بني زياد ***مي عمرو بداهية البلاد

رمي عمرو بأعور عبشمي*** بعيد القعر مغشي الكباد

له ځدع يحار العقل منها ***مزخرفة ص وائد للفؤاد

فشط في الكتاب عليه صرفا ***يناديه بخدعته المنادي

وأثبت مثله عمرو عليه ***كلا المرأين حية بطن واد

ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا***ولا ملت الغداة إلى الرشاد

وفدت إلى معاوية بن حرب ***فكنت بها کوافدقوم عاد

وأعطيت الذي أعطيت منها ***بطرسي فيه نصح من مداد

ص: 131

ألم تعرف أبا حسين عليا ***وما نالت يداه من الأعادي

عدلت به معاوية بن حرب ***ويا بعد البياض من السواد !

ويا بعد الأصابع من سهيل ***ويا بعد الصلاح من الفساد!

أتأمن أن تذال على خدب***يحث الخيل بالأسل الحداد

ينادي بالنزال وأنت منه ***قريب فأنظرن من ذا تعادي

فقال عمرو :

يا ابن أخي، لو كنت عند علي لوسعيني، ولكني الآن عند معاوية .

قال الفتی:

انك لو لم ترد معاوية لم يردك؛ ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك.

وبلغ معاوية قول الفتي فطلبه فهرب فلحق بعلي عليه السلام فحدثه أمره فسر به وقربه، فغضب مروان وقال :

ما بالي لا أشترى كما أشتري عمرو؟ فقال معاوية : إنما يشترى الرجال لك. فلما بلغ عليا ما صنع معاوية قال (69/2 -70) :

يا عجب لقد سمعت منكرا ***كذبا على الله يشين الشعرا

بشرق السمع ويعشي البصرا ***ما كان يرضى أحمدألوأخبرا

أن يقرنوا وصيه والأبترا***شاني الرسول والوصي الأخزرا

ص: 132

كلاهما في جنده قد عسكرا ***قد باع هذا دينه فأفجرا

من ذا بدنيا بيعه قد خسرا ***يملك مصر إن أصاب الظفرا

ني إذا الموت دنا أو أحضرا ***شمرت ثوبي أو دعوت قنبرا

قدم لوائي لا تؤخر حذرا*** الايدفع الحذار ماقدرا ل

ما رأيت الموت موتا أحمرا ***عبأت همدان وعبوا حميرا

حي يماني يعظون الخطرا ***قرن إذا ناطح قرنأكسرا

قل لأبن حرب لا تدب الخمرا ***ارود قليلا أبو منك الضجرا

لا تحسبن يا ابن هند غمرا ***وسل بنابدرا بنا وخيبرا

يوم جعلناكم بيدي جزرا ***إذ وردوا المرقذموا الصدرا

لوان عندي يا ابن هند جعفرا ***أوحمزة القرم السهام الأزهرا

رأت قريش نجم ليل أظهرا

ودعا معاوية بعض أصحابه وخاصته من رؤوس قحطان واليمن وبني عم شرحبيل بن السمط، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان، فلما قدم کتاب معاوية على شرحبيل، وهو بحمص، استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي، وهو صاحب معاذ بن جبلة وختنه، وكان أفقه أهل الشام، ودعا شرحبيل أن يسير إلى علي عليه السلام فيبايعه عن الشام وقومه شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية، فكتب إليه عياض الثمالي، وكان ناسکا (71/2-72) :

ص: 133

يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ ***بود علي ما تريد من الأمر

وشرح أن الشام شامك ما بها ***سواك فدع عنك المضلل من فهر

فإن ابن هند ناصب لك خدعة*** تكون علينا مثل راغية البكر

فان نال ما يرجوبنا كان ملكنا*** هنيئا له، والحرب قاصمة الظهر

فلا تبغين حرب العراق فإنها*** تحرم أطهار النساء من الزهر

وإن عليا خير من وطئ الثرى***من الهاشميين المدارك للوتر

له في رقاب الناس عهد وذمة*** كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر

فبايع ولا ترجع على العقب كافرا ***أعيذك بالله العزيز من الكفر

ولا تسمعن قول الطغاة فإنهم*** يريدون أن يلقوك في لجة البحر

وماذا عليهم أن تطاعن دونهم*** وكنا بحمد الله من ولد الطهر

وإن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا ***وكان علي حربنا آخر الدهر

يهون على عليا لؤي بن غالب*** دماء بني قحطان في ملككم تجري

فدع عنك عثمان بن عفان إنما*** لك الخير لا تدري بأنك لا تدري

على أي حال كان مصرع جنبه ***فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو

ولما أبطأ جرير عند معاوية على الإمام کتب إلى جرير بعد ذلك :

"أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم محظية فإن اختار الحرب فانبذله، وإن اختار السلم فخذ بيعته" .

ص: 134

فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتي معاوية فأقرأه الكتاب، فقال له : يا معاوية أنه لا يطبع على قلب إلا بذنب، ولا يشرح صدر إلا بتوبة، ولا أظن قلبك إلا مطبوعة، أراك وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك.

فلما بايع أهل الشام وذاقهم قال معاوية :

یا جریر الحق بصاحبك.

وكتب إليه وكتب أسفل كتابه بقول کعب بن جعيل شاعر أهل الشام (127/2-128):

أرى الشام تكره أهل العراق *** وأهل العراق لهم كارهونا

وكل لصاحبه مبغض*** يرى كل ما كان من ذاك دينا

إذا مارمونا رميناهمو *** وداهمو مثلما يقرضونا

وقالوا علي إمام لنا ***فقلنا رضينا ابن هند رضينا

وقالوا نرى أن تدينوا لنا ***فقلنا ألا لانرى أن ندينا

ومن دون ذلك خرط القتاد ***وطعن وضرب يقر العيونا

وكل يسر بما عنده***يرى غث ما يديه سمينا

ومافي علي المستعتب***مقال سوى ضمير المحدثينا

وإيثاره اليوم أهل الذنوب ***ورفع القصاص من القاتلينا

إذا سيل عنه حذا شبهة*** وعمى الجواب على السائلينا

فلیس براض ولا ساخط*** ولا في النهاة ولا الآمرينا

ص: 135

ولا هوساء ولا سرء***ولابد من بعض ذا أن يكونا

وكان مع الإمام علي عليه السلام رجل من طي، ابن أخت لجرير، فحمل زهیر بن قیس (حامل كتاب الإمام إلى جرير) شعرة له إلى خاله جرير وهو (71/3-72):

جرير بن عبد الله لا تردد الهدى*** وبايع عليا إنني لك ناصح

فإن عليأخير من وطئ الحصا*** سوى أحمد، والموت غار ورائح

ودع عنك قول الناكثين فإنما ***أولاك – أبا عمرو - كلاب نوابح

وبايع إذا بايعته بنصيحة***ولا يك منها في ضميرك قادح

فإنك إن تطلب به الدين يقضه*** وإن تطلب الدنيا فإنك رابح

وان قلت عثمان بن عفان حقه ***علي عظيم والشكور مناصح

وحق عليا إذ وليك كحقه*** وشكرك ما أوليت في الناس صالح

وإن قلت لا أرضى عليا إمامنا ***فدع عنك بحرأضل فيه السوابح

أبى الله إلا أنه خير دهره*** وأفضل من ضمت عليه الأباطح

وكان جرير بن عبد الله البجلي قد خطب في أهل همدان فأخبرهم أن الولاية تمت لعلي عليه السلام غير أن (طلحة والزبير نقضا بيعته ...) وألبا عليه الناس ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، ثم قال (72/3 -73) :

أتاناکتاب علي فلم*** نرد الكتاب بأرض العجم

ولم نعص مافيه لما أتى ***ولمانذم ولما نلم

ص: 136

ونحن ولاة على ثغرنا ***نضيم العزيز ونحمي الذمم

نساقيهم الموت عند اللقاء*** بكأس المنايا ونشفي القرم

طحاهم طحنه بالقنا ***وضرب سيوف تطير اللمم

مضينا يقينا على ديننا*** ودين النبي مجلي الظلم

أمين الإله وبرهانه ***وعدل البرية والمعتصم

رسول المليك ومن بعده*** خليفتنا القائم المدعم

علي عنيت وحي النبي ***نجالد عنه غواة الأمم

له الفضل والسبق والمكرمات*** وبيت النبوة لا يهتضم

فسر الناس بخطبة جرير وشعره.

وقال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه في ذلك (73/3 ) :

لعمر أبيك والأنباء تنمى*** لقد جلي بخطبته جرير

وقال مقالة جدعت رجالا ***من الحيين خطبهم كبير

بدابك قبل أمته علي*** وفك أن أردت الحق ریر

أتاك بأمره زحر بن قيس*** وزحر بالتي حدثت خبير

فكنت بما أتاك به سميعا ***وكدت إليه من فرح تطير

فأنت بما سعدت به وزیر*** ونعم المرء أنت له أمير

فأحرزت الثواب، ورب حاد***حدا بالركب ليس له بعير

ليهنك ما سقيت به رجال ***من العلياء والفضل الكبير

ص: 137

وبعد أيام من خطبته جرير ودعوته أهل الشام ومعاوية إلى مبايعة علي عليه السلام خطب معاوية في أهل الشام ودعاهم إلى الأخذ بثأر عثمان والی مبایعته، فقام أهل الشام فأجابوه إلى الطلب بدم عثمان، فلما أمسى معاوية أغتم بما هو فيه وجنه الليل وعنده أهل بيته، فقال ( 73/3) :

تطاول ليلي واعترتني وساوسي ***لآ أتى بالترهات البسابس

أتانا جرير والحوادث جمة*** بتلك التي فيها أجتداع المعاطس

أكابده والسيف بيني وبينه***ولست بأثواب الدني بلابس

إن الشام أعطت طاعة يمنية ***تواضعها أشياخنا في المجالس

فان يجمعوا أصدم عليا بجبهة***تف عليها كل رطب ویابس

وأني لأرجوخیر مانال نائل*** وما أنا من ملك العراق بایس

ألا يكون عند ظني بنصرهم ***وأن يخلفوا ظني كف عابس

اجتمع شرحبيل بجرير بن عبد الله البجلي عند حصین بن نمير بناء على طلب الأول فقال شرحبيل :

یا جرير. . أتيتنا بأمر ملقف لتلقنا في لهوات الأسد، واردت أن تخلط الشام بالعراق، وأطريت عليا، وهو قاتل عثمان، والله سائلك عما قلت يوم القيامة.

فقال جرير : -

یا شرحبيل، أما قولك أني جئت بأمر ملقف، فكيف يكون ملقفا وقد أجتمع عليه المهاجرون والأنصار، وقوتل على رده طلحة والزبير! وأما قولك أني

ص: 138

القيك في لهوات الأسد، ففي طواقما ألقيت نفسك، وأما خلط أهل الشام بالعراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل.

فبلغ ما قاله إلى معاوية فبعث إلى جرير فزجره... فكتب جرير كتابة إلى شرحبيل قال فيه (80/3 -81) :

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى*** فما لك في الدنيا من الدين من بدل

الاتك كالمجري إلى شر غاية ***فقد رق السربال واستنوق الجمل

وقل لأبن حرب مالك اليوم خلة ***تروم بها ما رمت وأقطع بها الأمل

شرحبيل أن الحق قد جد جده ***فكن فيه مأمون النديم من النفل

وأرود ولا تفرط بشي؛ نخافه ***عليك، ولا تعجل، فلا خير في العجل

مقال ابن هند في علي عضيهة*** ولله في صدر ابن أبي طالب أجل

وما من علي في ابن عفان سقطة*** بقول، ولا ما عليه ولا قتل

وما كان إلا لازما نصر بیته*** إلى أن أتى عثمان في داره الأجل

فمن قال قولا غير هذا فحسبه ***من الزور والبهتان يعض الذي أحتمل

وصي رسول الله من دون أهله ***ومن باسمه في أهله يضرب المثل

ولما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر، وقال :

هذه نصيحة لي في ديني ودنياي، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء في

نفسي منه حاجة، فاستشر له القوم.

ولفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون، ويعظون عنده قتل عثمان

ص: 139

ويرمون به عليا، ويقيمون الشهادة الباطلة، والكتب المختلقة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه، وبلغ ذلك قومه فبعث ابن أخت له من بارق، وكان يرى رأي علي بن أبي طالب عليه السلام فبايعه بعد، وكان ممن لحق من أهل الشام، وكان ناسكة، فقال (81/3 -82) :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمی *** شرحبیل بالسهم الذی هو قاتله

ولفق قوما يسحبون ذيولهم***جميعا وأوى الناس بالذنب فاعله

فألفي يمانيأضعيفة نخاعه*** إلى كل ما يهوى تحدى رواحله

فطأطأ لهالمارموه بثقلها ***ولا يرزق التقوى من الله خاذله

اليأكل دنيا لأبن هند بدينه*** ألا وابن هند قبل ذلك آكله

وقالوا علي في ابن عفان خدعه*** ودبت إليه في الشنان غوائله

ولا والذي آوي ثبيرة مكانه*** لقد گف عنه كفه ووسائله

وما كان إلا من صحاب محمد***وكلهم تغلي عليه مراجله

[ومع هذا كله] جعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى أستفرغها لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به، فبعث إليه النجاشي بن الحارث وهو الذي حده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لشربه الخمر، وكان صديقا له (أي للنجاشي) فقال (83/3 ) :

شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا ***ولكن لبعض المالكي جرير

وشحناء دبت بين سعد وبينه*** فأصبحت كالحادي بغير بعير

وما أنت إذ كانت بجيلة عاقبت*** قريشأفيالله بعد نصير

ص: 140

أتفضل أمرا عبت عنه بشبهة ***وقد صار فيها عقل کل بصير

يقول رجال لم يكونوا أئمة ***ولا للتي لهولها بحضور

وماقول قوم غائبين تقاذفوا ***من الغيب ما ولاهم بغرور

ونترك أن الناس أعطوا عهودهم*** عليا على أنس به وسرور

إذا قيل هاتوا واحدا تقتدونه ***نظيرة له لم يفصحوا بنظير

لعلك أن تشقى الغداة بحربة ***شرحبيل ماما جئته بصغير

ودخل شرحبيل بن السمط الأسود بن جبلة الكندي على معاوية وطالبه أن يعلن طلبة بدم عثمان، فنصحه جریر بن عبد الله -وكان حاضرة - بالتمهل ولكنه يئس من معاوية ومن عوام أهل الشام وكان معاوية قد أتي جريرة قبل ذلك في منزله فقال له : -

یا جرير، أني قد رأيت رأيا .

قال : ۔

- هاته .

قال : -

أكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل الأحد بعده في عنقي بيعة وأسلم له هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة.

فقال جرير : -

أكتب ما أردت أكتب معك.

ص: 141

فكتب علي عليه السلام إلى جرير : -

- أما بعد فإنما أراد معاوية أن لا يكون في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام، وأن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام، وأنا حينئذ بالمدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله أن يراني أتخذ المضلين عضدة، فأن بايعك الرجل؛ وإلا فاقبل والسلام.

وفشا کتاب معاوية في العرب، فبعث إليه الوليد بن عقبة (84/3 -85) :

معاوي إن الشام شامك فاعتصم*** بشامك لاتدخل عليك الأفاعيا

وحام عليها بالصوارم والقنا ***ولاتك موهون الذراعين واهيا

وأن علياناظر ما تجيبه ***فأهدله حرباتشيب النواصيا

وإلا فسلم أن في السلم راحة ***لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وأن كتابا يا ابن حرب كتبته ***على طمع، يزجي اليك الدواهيا

سألت عليا فيه مالن تناله ***ولو نلته لم يبق إلا لياليا

وسوف ترى منه التي ليس بعدها ***بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

أمثل علي تعتريه بخدعة ***وقد كان ما جربت من قبل كافيا؟

وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه ويشير عليه بالحرب، وألا

يكتب جواب جریر (85/3 -86) :

معاوي أن الملك قد جب غاربة ***وأنت بما في كفك اليوم صاحبه

ص: 142

أتاك كتاب من علي بخطه ***هي الفصل فأختر سلمه أو تحاربه

فلاترج عند الواترين مودة***ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه

وحاربه أن حاربت حرب ابن حرة*** وإلا فسلم لاتدب عقاربه

فأن علي غير ساحب ذيله ***على خدعة ماسوغ الماء شاربه

وإلا ماما يريد وهذه ***يقوم بها يوما عليه نوادبه

فلاتدع الملك والأمر مقبل ***وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه

فان كنت تنوي أن تجيب كتابه*** فقبح ممليه وقبح کاتبه

وأن كنت تنوي أن ترد کتابه*** وأنت بأمر لا محالة راكبه

فالق إلى الحي اليماني كلمة*** تنال بها الأمر الذي أنت طالبه

تقول : أمير المؤمنين أصابه ***عدو ومالاه عليه أقاربه

أفانين منهم قاتل ومحرض*** بلاترة كانت وآخر ساحبه و

كنت أميرة قبل بالشام فيكهم***فحسبي وإياكم من الحق واجبه

فجيئوا، ومن أرسى ثبيرة مكانه ***ندافع بحرا لاترد غواربه

فأقلل وأكثر مالها اليوم صاحب ***سواك، فصرح لست ممن تواريه

وخرج جرير يوما يتجسس الأخبار؛ فإذا هو بغلام يتفلى على قعود له،

وهو يقول (86/3) :

حکیم وعمار الشجا ومحمد*** وأشتر والمكشع جروا الد واهيا

وقد كان فيها للزبير عجاجة ***وصاحبة الأدنى أثاروا الد واهيا

ص: 143

فأما علي فاستجار ببيته ***فلا أمر فيها ولم يك ناهيا

فقل في جميع الناس ما شئت بعده ***فلوقلت أخطا الناس لم تك خاطيا

وأن قلت عم القوم فيه بفتنة ***فحسبك من ذاك الذي كان كافيا

فقولا لأصحاب النبي محمد: - ***وخصا الرجال الأقربين الأدانيا

أيقتل عثمان بن عفان بينكم ***على غير شيء ليس إلا تعاميا

فلانوم حتى نستبيح حريمكم*** ونخضب من أهل الشنان العواليا

فقال جرير :

يا ابن أخي من أنت؟

فقال : -غلام من قريش، وأصلي من ثقيف، إن ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق، قتل مع عثمان يوم الدار.

فعجب جرير من شعره وقوله. وكتب بذلك إلى علي عليه السلام فقال علي عليه السلام :

والله ما أخطأ الغلام شيئا. وقد سبق أن نقلنا أنه لما بايع معاوية أهل الشام، وبعد أن ذاقهم قال :

یا جرير الحق بصاحبك.

وكتب إليه بالحرب وكتب في أسفل الكتاب شعر کعب بن جعيل :

أرى الشام تكره أهل العراق ***وأهل العراق لهم كار هونا

وكتب مع جرير إلى علي جوابا عن كتابه إليه، مما قال فيه :

ص: 144

ولعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة والزبير، لأهما بایعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام، فأما شرفك في الإسلام، وقرابتك من النبي صلی الله عليه وآله وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه.

ثم كتب في آخر الكتاب شعر کعب بن جعيل الذي أوله ( 87/3 -88) :

أرى الشام تكره أهل العراق*** وأهل العراق لهم کار هونا

فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام جوابا عن كتابه، ومما قال فيه :

وبعد، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فأن زعمت أنك أقوى على ذلك فأدخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاکم القوم الي. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير، وبين أهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء، لأنها بيعة شاملة لا يستثني فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر، وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته.

ثم دعا النجاشي، أحد بني الحارث بن کعب، أن يرد على ابن جعيل، شاعر أهل الشام، فقال النجاشي يجيبه (89/3 ) :

دعايا معاوي مالم يكونا ***فقد حقق الله ما تحذرونا

أتاكم علي بأهل العراق ***وأهل الحجاز فما تصنعونا

علی کل جرداء خيفانه*** وأشعث نهد يسر العيونا

ص: 145

عليهافوارس مخشية ***كأسد العرين جمين العرينا

يرون الطعان خلال العجاج ***وضرب الفوارس في النقع دینا

همو هزموا الجمع جمع الزبير*** وطلحة والمعشر الناكثينا

وأكوا يمينا على حلفة ***لنهدي إلى الشام حربا زبونا

تشيب النواهد قبل المشيب ***وتلقي الحوامل منها الجنينا

فان تكرهوا الملك ملك العراق*** فقد رضي القوم ما تكرهونا

فقل للمضل من وائل ***ومن جعل الغث يومأ سمينا

جعلتم عليا وإشباعه ***نظير ابن هند أما تستحونا؟

إلى أفضل الناس بعد النبي ***وصنو الرسول من العالمينا

وصهر الرسول ومن مثله ***إذا كان يوم يشيب القرونا

قبل أن نبدأ بشعر ورجز الحرب نرى مواصلة أسبابها ومحفزاتها وأستنهاض الهمم في كلا الجانبين؛ إذ قال نصر بن مزاحم:

لما قتل عثمان ضربت الركبان الى الشام بقتله، فيها معاوية يوما إذا أقبل

الحجاج بن خزيمة بن الصمة فقال رجزة ومعاوية يسمع (91/3 ):

أن بني عمك عبد المطلب ***هم قتلوا شيخكم غير كذب

وأنت أولى الناس بالوثب فثب ***وأغضب معاوي للإله واحتسب

وسر بناسير الجرير المثليب وأنهض بأهل الشام ترشد وتصب

ثم أهزز الصعدة للشأس الشغب

ص: 146

ثم قال الحجاج لمعاوية :

- إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك؛ لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت، ولا يسألون إذا أمرت؛ وإن مع علي قوما يقولون إذا قال ويسألون إذا أمر، فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه. فضاق معاوية صدرة بما أتاه، وندم على خذلان عثمان وقال (92/3 /93)

أتاني أمر فيه للنفس غمة ***وفيه بكاء للعيون طويل

وفيه فناء شامل وخزاية ***وفيه أجتداع للأنوف أصيل

مصاب أمير المؤمنين وهرة***تكاد له صم الجبال تزول

فلله عينا من رأى مثل هالك***أصيب بلا ذنب وذاك جليل

تداعت عليه بالمدينة عصبة ***فريقان منهم قاتل وخذول

دعاهم فصموا عنه عند دعائه*** وذاك على ما في النفوس دليل

ندمت على ما كان من تبغى الهوى*** وقصري فيه حسرة وعويل

سأبغي أبا عمرو بکل مثقف***وبيض لها في الدارعين صليل

تركتك للقوم الذين هم هم***شجاك فماذا بعد ذاك أقول؟

فلست مقيما ما حييت ببلدة***أجربها ذيلي وأنت قتيل

فلا لوم حتى شجر الخيل يالقنا *** ويشفي من القوم الغواة غليل

ونطحنهم طحن الرحابثفالها ***وذاك بما أسدوا إليك قليل

ص: 147

فاما التي فيها مودة بيتنا ***فليس اليها ما حيت سبيل

سألتها حربأعوانأملحة ***وأني بها من عامنا لكفيل

وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان ويحرضه

وينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة (94/3 ):

ألا أبلغ معاوية بن حرب ***فأنك من أخي ثقة مليم

قطعت الدهر کالسدم المعنى ***تهدر في دمشق ولا تریم

فأنك والكتاب إلى علي** كدابغة وقد حلم الأديم

فقومك بالمدينة قد تردوا ***فهم صدعی كأنهم الهشيم

فلوکنت المصاب وكان حيا ***تجرد لا الف ولا سؤوم

يهنئك الأمارة كل ركب ***عن الأفاق سيرهم الرسيم

لك الويلات أقحمها عليهم ***فحير الطالبي الثرة الغشوم

فكتب معاوية إليه الجواب بیتا من شعر أوس بن حجر (95/3 ):

ومستعجب مما يرى من أناتنا*** ولو وبنته الحرب لم يترمرم

وقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام، فقال له معاوية :

يا ابن أخي أن لك أسم أبيك فأنظر بملء عينيك وأنطق بملء فيك فأنت المأمون المصدق، فاصعد المنبر وأشتم علية، وأشهد عليه أنه قتل عثمان.

فقال :

أيها الأمير، أما شتمه فإن أباه أبو طالب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم،

ص: 148

فما عسى أن أقول في حسبه؟ وأما بأسه فهو الشجاع المطرق، وأما أيامه فما قد عرفت، ولكني ملزمه دم عثمان فلما خرج عبيد الله بن عمر من معاوية، قام خطيبة فتكلم بحاجته، ولما انتهى إلى أمر علي أمسك ولم يقل شيئا، فلما نزل بعث إليه معاوية وقال له :

يا ابن أخي؛ أنك بين رعي وخيانة .

فبعث إليه :

إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان. وعرفت أن الناس محتملوها مني فتركتها.

فهجره معاوية واستخف به وفسقه، فقال عبيد الله (101/3 ):

معاوي لم أخرص بخطبة خاطب ***ولم أك غيان لؤي بن غالب

ولكنني زاولت نفسا أبيه ***على قذف شيخ بالعراقين غائب

وقذفی علي بابن عفان جهرة ***يجدع بالشحنا أنوف الأقارب

فأما انثقافي أشهد اليوم وثبة ***فلست لكم فيها ابن حرب بصاحب

ولكنه قدقرب اليوم جهده ***ودبوا حواليه دبيب العقارب

فما قال أحسنتم ولا قد أسأتم ***أصيب بريئا لا بأثوب تائب

حرام على أهاله نتف شعره*** فكيف وقد جازوه ضربة لازب

وقد كان فيها للزبير عجاجة ***وطلحة فيها جاهد غير لاعب

وقد أظهرا من بعد ذلك توبة ***فياليت شعري ماهما في العواقب

ص: 149

عندما نزل الإمام علي عليه السلام في الكوفة بعد حرب الجمل قال شن بن عبد القيس في ذلك (107/3 ):

قل لهذا الإمام قد خبت الحر***ب وتمت بذلك النعماء

وفرغنا من حرب من نقض ال ***عهد وبالشام حية صماء

تنفث السم مالمن نهشته ***فارمها قبل أن تعض شفاء

إنه والذي يحج له النا ***س ومن دون بيته البيداء

الضعيف النخاع إن رمي اليو ***م بخيل كأنها الأشلاء

جانحات تحت العجاج سخالا ***ممهضات تخالها الأسلاء

تتبارى بكل أصيد كالفحل ***بكفيه صعدة سمراء

ثم لا ينثني الحديد ولما*** يخضب العاملين منها الدماء

إن تذره فما معاوية الدهر*** بمعطيك ما أراك تشاء

ولنيل السماك أقرب من ذا***ك ونجم العيوق والعواء

فاضرب المد والحديد إليهم ***ليس والله غ ير ذا إلأدواء

وأيام كان جرير البجلي عند معاوية ينتظر جوابه کتب معاوية وعمرو بن العاص کتابا إلى أهل مكة والمدينة يستعدیا هم فيه على علي عليه السلام، فكتب إليهما عبيد الله بن عمر بن الخطاب (109/3 -110):

-أما بعد، فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة وتناولتماها من مكان بعيد ؛ وما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا وما أنتما والمشورة، وما أنتما والخلافة؟

ص: 150

أما أنت يا معاوية فطليق وأما أنت يا عمرو فظنين ألا فكفا أنفسكما، فليس لكما فينا ولي ولا نصير، والسلام، وكتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر :

معاوي إن الحق أبلج واضح*** وليس بما ربصت أنت ولا عمرو

تصب ابن عفان لنا اليوم خدعة ***كما نصبت الشيخان إذ قضي الأمر

فهذا كذاك البلا حذو فعله ***سواء كرقراق يقربه الشعر

رميتم عليا بالذي لا يضيره*** وإن عظمت فيه المكيدة والمكر و

ما ذنبه إن نال عثمان معشر*** أتوه من الأحياء تجمعهم مصر

فشار إليه المسلمون ببيعة ***علانية ما كان فيها لهم قسر

وبايعه الشيخان ثم تحملا*** إلى العمرة العظمى وباطنه الغدر

فكان الذي قد كان مما اقتصاصه ***يطول، فيا لله ما أحدث الدهر

وما أنتما والنصرمنا وأنتما ***بعيثا حروب مايبوخ لها جمر

وما أنتما لله در ابيكما ***وذكركما الشورى وقد وضح الفجر

وفي أيام نزول الإمام علي عليه السلام في الكوفة قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي عليه السلام فقال :

يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازی به رجل وهو يريد أن يزور ابن عمه حابس الطائي بالشام، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله يكسره أو يكسر أهل الشام فقال علي عليه السلام : نعم.

ص: 151

فأمره عدي بذلك، وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله.

فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام - وحابس سيد طي كما - فحدث خفاف حابسة أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي إلى الكوفة، وكان الخفاف لسان وهيأة، فغدا حابس بخفاف إلى معاوية فحدثه بالتفصيل عن مقتل عثمان وبرأ ساحة الإمام علي عليه السلام من قتله.

فذعر معاوية من قوله، وقال حابس:

- أيها الأمير لقد أسمعني شعر غیر به حالي في عثمان، وعظم به عليا فقال معاوية :

- أسمعنیه یا خفاف.

فأنشده (111/3 -112):

قلت والليل ساقط الأكتاف*** ولجنبي عن الفراش تجافي

أرقب النجم مائلا ومشى الغم***ض بعين طويلة التذراف

ليت شعري وإنني لسؤول ***هل لي اليوم بالمدينة شافی

من صحاب النبي إذ عظم الخط*** بوفيهم من البرية كاف

أحلال دم الإمام بذنب ***أم حرام بسنة الوقاف

قال لي القوم لا سبيل إلى ما ***تطلب اليوم قلت: حسب خفاف

عند قوم ليسوا بأوعية العلم ***ولا أهل صحة وعفاف

قلت، لما سمعت قولا: دعوني ***إن قلبي من القلوب الضعاف

ص: 152

قد مضى ما مضى ومر به الدهر ***كمامرذاهب الأسلاف

إنني والذي يحج له النا*** س علي محق البطون العجاف

فتبارى مثل القسي من النبع ***بشقة من الرصاف نحاف

ارهب اليوم إن أتاك علي ***صيحة مثل صيحة الأحقاف

إنه الليث عاديا وشجاع ***مطرق نافث بسم زعاف

فارس الخيل كل يوم نزال ***ونزال الفتى من الإنصاف

واضع السيف فوق عاتقه الأي*** من يذري به شؤون القحاف

لا يرى القتل في الخلاف عليه*** ألف ألف كانوا من الإسراف

سوم الخيل ثم قال لقوم*** تابعوه إلى الطعان خفاف

استعدوا لحرب طاغية الشا*** م، فلبوه ک البنين اللطاف

ثم قالوا أنت الجناح لك الري ***ش القدامى ونحن منه الخوافي

أنت وال وأنت والدنا البر*** ونحن الغداة كالأخياف

وقرى الضيف في الديار قليل*** قد تركنا العراق للأنحاف

وهم ماهم إذا نشب البأس*** ذوو الفضل والأمور الكوافی

وانظر اليوم قبل نادبة القوم*** بسلم أردت أم بخلاف

إن هذا رأي الشفيق على الشام*** ولولاه ما خشيت مشاف

فانكسر معاوية وقال :

- یا حابس، إني لا أظن هذا إلا عينا لعلي، أخرجه عنك لا يفسد أهل

ص: 153

الشام.

ولما رجع جرير إلى علي عليه السلام كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية، فاجتمع جرير والأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر :

- أما والله يا أمير المؤمنين، أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية، لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقه وأقام عنده، حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه، ولا بابا يخاف أمره إلا سده.

فقال جرير :

- لو کنت - والله - أتيتهم لقتلوك. وخوفه بعمرو، وذي الكلاع وحوشب بن ظليم، وقال :

- إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان.

فقال الأشتر:

- والله لو أتيتهم یا جرير لم يعيني جوابها، ولم يثقل علي محملهما، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، وقال (119/3 -117):

لعمرك يا جرير لقول عمرو ***وصاحبه معاوي بالشام

وذي كلع وحوشب ذي ظليم*** أخف علي من ريش النعام

إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ***وعن باز مخالبه دوام

ولست بخائف ماخوفوني ***وكيف أخاف أحلام النيام

وهمهم الذي حاموا عليه ***من الدنيا، وهمي ما أمامي

ص: 154

فإن أسلم أعممهم بحرب ***يشيب لهولها رأس الغلام

وإن أهلك فقد قدمت أمرا***أفوز بفلجه يوم الخصام

وقد زادوا علي وواعدوني*** ومن ذا مات من خوف الكلام

وكتب مصقلة إلى نعيم بن هبيرة الشيباني، وهو من شيعة علي عليه السلام من الشام مع رجل من نصاری تغلب، يقال له حلوان :

- أما بعد، فإني كلمت معاوية فيك، فوعدك الكرامة، ومناك الإمارة فاقبل ساعة تلقی رسولي والسلام.

فأخذه مالك بن کعب الأرحبي فسرح به إلى علي عليه السلام فأخذ كتابه فقرأه ثم قدمه فقطع يده، فمات. وكتب نعيم إلى أخيه شعرة لم يرده عليه (146/3):

لا ترمين - هداك الله - معترضا ***بالظن منك فمابالي وحلوانا

ذاك الحريص على ما نال من طمع ***وهو البعيد فلا يورثك أحزانا

ماذا أردت إلى إرساله سفها***ترجوسقاط امرئ لم يلف وسنانا

عرضته لعلي إنه أسد*** يمشي العرضنة في آساد خفانا

قد كنت في خير مصطاف ومرتبع ***نحمي العراق وتدعى خير شيبانا

حتى تقحمت أمرأ كنت تكرهه *** للراكبين له سر وإعلانا

لوكنت أديت مال الله مصطبرا***للحق زكيت أحيانا وموتانا

لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا***فضل ابن هند فذاك الرأي أشجانا

ص: 155

فاليوم تقرع سن العجز من ندم*** ماذا تقول وقد كان الذي كانا

أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة*** لم يرفع الله بالعصيان إنسانا

ولما هرب مصقلة (بأموال المسلمين) قال أصحاب علي عليه السلام له : يا أمير المؤمنين، فيؤنا؟ قال : إنه قد صار على غريم من الغرماء فاطلبوه. وقال ظبيان بن عمارة، أحد بني سعد بن یزید مناة في بني ناجية ( 147/3 ) :

هلا صبرت للقراع ناجيا ***والمرهفات تختلي الهواديا

والطعن في غورکم نواليا ***وصائبات الأسهم القواضيا

وقال ظبيان أيضا :

ألا فاصبرن للطعن والضرب ناجيا*** وللمرهفات يختلين الهواديا

فقد صب رب الناس حزيا عليكم*** وصبركم من بعد عشر مواليا

سجالكم بالخيل جردة عوادیا ***و أخوثقة لا يبرح الدهر غازيا

فصبحكم في رحلكم وخيولكم ***بضرب يرى فيه المدجج هاويا

فأصبحتم من بعد عز وكثرة ***عبيد العصا لا تمنعون الذراريا

وعندما أراد الإمام علي عليه السلام المسير إلى صفين عارض رجل فزاري الإمام في مسيره فاشتد عليه القوم فهرب في سوق البراذين وحاول الاختفاء بينها إلا أن أصحاب الإمام عليه السلام قتلوه فقال شاعر بني تيم اللات بن ثعلبة (174/3):

ص: 156

أعوذ بربي أن تكون منيتي*** كما مات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم*** إذا رفعت عنه يد خفضت يد

وإن عبد الله بن معتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي لما أمر علي عليه السلام الناس بالمسير إلى الشام دخلا عليه في رجال كثير من غطفان وبني تميم، وطلبا منه التريث وعدم العجلة، فخطب الإمام عليه السلام فيهم، ومما قاله عليه السلام :

- وأيم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفة، ولا ينكرون منکرا.

فأشار قوم من رهط الإمام عليه السلام بعدم الأخذ بقول حنظلة وحبسه وصاحبه ثم بعث الإمام عليه السلام إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب - وهو من الصحابة - فقال له :

یا حنظلة أنت علي أم لي؟

فقال :

- لا لك ولا عليك.

قال : فما تريد؟ قال :

- أشخص الى الرها فإنه فرج من الفروج اصمد له حتى ينقضي هذا الأمر. ولما غضب قوم من قوله ذلك وأرادوا قتله طلب منهم إمهاله ليدخل داره

ص: 157

ويفكر، ولكن عندما حل المساء هرب إلى معاوية مع ثلاثة وعشرين رجلا من قومه وكذلك هرب معتم، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا.

وأمر علي عليه السلام بدم دار حنظلة فهدمت، هدمها عريفهم شبث بن ربعي وبكر بن تميم، فقال حنظلة يهجوهما (176/3 -177):

أيا راكبا أما عرضت فبلغن*** مغلفة عني سراة بني عمرو

فأوصيكم بالله والبر والتقى*** ولا تنظروا في النائبات إلى بكر

ولا شبث ذي المنخرين كأنه*** أزب جمال قد رغا ليلة النضر

وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :

أبلغ معاوية بن حرب خطة*** ولكل سائلة نسيل قرار

لا تقبلن دنية ترضونها*** في الأمر حتى تقتل الأنصار

وكما تبوء دماؤهم بدمائكم ***وكما تهدم بالديار ديار

وترى نساؤكم يجلن حواسرة ***ولهن من ثقل الرحال شنار

لما وضع علي عليه السلام رجله في ركاب دابته يوم خرج من الكوفة إلى صفين، قال :

- بسم الله.

فلما جلس على ظهرها قال :

- ((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنین)) و ((إنا إلى ربنا المنقلبون)).

ص: 158

ثم خرج أمامه الحر بن سهم بن طريف، وهو يرتجز ويقول (3-166-167):

يافرسي سيري وأمي الشاما*** وقطعي الحزون والأعلاما

ونابذي من خالف الإماما ***إني لأرجو أن لقين العاما

جمع بني أمية الطعاما*** أن نقتل العاصي والهماما

وأن نزيل من رجال هاما

وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال (169/3 ):

لا تحسبني يا علي غافلا*** لأوردن الكوفة القنابلا

بجمعي العام وجمعي قابلا

فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال (169/3 ):

لأوردنها العاصي بن العاصي ***سبعين ألفا عاقدي النواصي

مستحقبين حلق الدلاص ***قد جنبوا الخيل مع القلاص

أسود غيل حين لا مناص

بعد حوار بين الإمام علي عليه السلام وابن زينب ابن عون في أحقية دعوة الإمام وبطلان دعوى معاوية وقناعته بما يدعوه إليه الإمام عليه السلام وكان عمار بن یاسر حاضرة فخرج وهو يقول (179/3 ):

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي*** سيروا فخير الناس أتباع علي

هذا أوان حاب سل المشرفی***وقودنا الخيل وهز السمهري

ص: 159

ولما عرف معاوية بعزم الإمام علي على الحرب كتب إليه يقول :

- وعافانا الله وإياك ( 313/3 ):

ما أحسن العدل والإنصاف من عمل ***وأقبح الطيش ثم النفش في الرجل

وكتب بعده :

اربط حمارك لا تنزع سويته ***إذا يرد وقيد العير مكروب

لیست ترى السيد زيدا في نفوسهم ***كمايراه بنوكوز ومرهوب

إن تسألوا الحق نعیم الحق سائله ***والدرع محقبة والسيف مقروب

أو تأنفون فإنا معشر أنف ***لا نطعم الضيم إن السم مشروب

وقد أروح أمام الحي يقدمني ***صافي الأديم كمثل اللون منسوب

مجنب مثل شاة الريل محتفر***بالقصر بين على أولاه مصبوب

يبدو ملجمه هاويه تلع*** كأنه من جذوع العين مشذوب

فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت ***إلى المثوب أو معاء سرحوب

فأمر علي عليه السلام أن يوزع الناس على القتال، حتى أخذ أهل الشام مصافهم ثم قال : أيها الناس، إن هذا موقف، من نطف فيه نطف يوم القيامة، ومن فلج فيه فلج يوم القيامة.

ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين :

لقد أتانا كاشرة عن نابه*** يهمط الناس على اعتزابه

فليأتنا الدهر بما أتى به

ص: 160

وكتب علي عليه السلام إلى معاوية جواب کتابه : - أما بعد (314/3 ):

فإن للحرب عراقأشررا ***إن عليها قائدا عشنذرا

ينصف من أحجر أو تنمرا ***على نواحيها مزجأ زمجرا

إذا ونين ساعة تغشمرا

وكتب بعده :

ألم ترقومي إن دعاهم أخوهم*** أجابوا، وإن يغضب على القوم يغضبوا

هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا***لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا

بنو الحرب لم تفقد بهم أمهاتهم ***وآباؤهم آباء ص دق فأنجبوا

حتى إذا كان رجب، وخشي معاوية أن يتابع القراء عليا عليه السلام أخذ في المكر، وأخذ يحتال للقراء، لكيما يحجموا ويكفوا حتى ينظروا، فكتب في سهم : من عبد الله الناصح؛ إني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم، ثم رمى بالسهم في عسكر علي عليه السلام، فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم قرأه صاحبه وقرأته الناس وقرأه من أقبل وأدبر، قالوا : هذا أخ لنا ناصح؛ كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية؛ فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى علي عليه السلام. وقد بعث معاوية مئتي رجل من القملة إلى عاقول من النهر، بأيديهم المرور والذبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السلام. فقال علي عليه السلام :

ص: 161

- ويحكم! إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوى عليه، إنما يريد أن يزيلكم من مكانکم.

ونصحهم أن لا ينخدعوا بمكر معاوية، ولكنهم ارتحلوا وصعدوا بعسكرهم ملية، وارتحل علي عليه السلام في أخريات الناس، وهو يقول (18/4 -19):

فلو أني أطعت عصمت قومي ***الى ركن اليمامة أو شام

ولكني متى أبرمت أمرا ***منيت بخلف آراء الطغام

ولما خلا المكان نزل معاوية وعسكر فيه.

بعد أن استولی معاوية على الفرات ذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا

فمنعهم أهل الشام فقام رجل ذلك اليوم من أهل الشام من السكون يعرف بالشليل بن عمر إلى معاوية، فقال (319/3 ):

اسمع اليوم ما يقول الشليل*** إن قولي قول له تأويل

امنع الماء من صحاب علي ***أن يذوقوه فالذليل ذليل

واقتل القوم مثلماقتل الشيخ*** صدى فالقصاص أمر جميل

إننا والذي تسامى له البدن*** هدايا كأنهن الغيول

لو علي وصحبه وردوا الماء ***لما ذقتموه حتى تقولوا

قد رضينا بأمركم وعلينا ***بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل

فامنع القوم ماؤكم ليس للقوم ***بقاء وإن يكن فقليل

ثم قام رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله ويكثر العبادة، يعرف بمعدى

ص: 162

بن أقبل، وكان صديقا لعمرو بن العاص وأخا له، فطلب من معاوية السماح لأهل العراق من الاستقاء من الفرات وقال له :

- إنهم لو سبقوكم إليه لسقوكم منه.

فأغلظ له معاوية، وقال لعمرو بن العاص :

- اكفني صديقك.

فأتاه عمرو فأغلظ له، فقال الهمداني في ذلك شعرا (320/3 -321):

لعمر أبي معاوية بن حرب ***وعمرو مالدائهما دواء

سوى طعن يحار العقل فيه ***وضرب حين تختلط الدماء

ولست بتابع دين بن هند ***طوال الدهر ما أرسى جراء

لقد ذهب العتاب فلا عتاب*** وقد ذهب الولاء فلا ولاء

وقول في حوادث کل خطب*** على عمرو وصاحبه العفاء

ألا لله درك يابن هند***لقد برح الخفاء فلا خفاء

أتحمون الفرات على رجال*** وفي أيديهم الأسل الظماء

وفي الأعناق أسياف حداد ***كأن القوم عندهم نساء

أترجو أن يجاوركم علي ***بلا ماء وللأحزاب ماء

دعاهم دعوة فأجاب قوم*** كحرب الإبل خالطها الهناء

ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي عليه السلام.

لما اغتم علي عليه السلام بما فيه أهل العراق من العطش، خرج ليلا قبل

ص: 163

رايات مدحج، فإذا رجل ينشد شعر (321/3 - 322):

أيمنعنا القوم ماء الفرات*** وفينا الرماح وفينا الجحف

وفينا الشوازي مثل الوشيج ***وفينا السيوف وفينا الزعف

وفينا علي له سورة ***إذا خوفوه الردي لم يخف

ونحن الذين غداة الزبير ***وطلحة خضنا غمار التلف

فما بالنا أمس أسد العرين ***وما بالنا اليوم شاء النجف

فما للعراق وما للحجاز ***سوى الشام خصم فصكوا الهدف

فثوروا عليهم کبزل الجمال ***دوين الدميل وفوق القطف

فإما تفوزوا بماء الفرات*** ومثواه منهم عليه جيف

وإما تموتوا على طاعة ***تحل الجنان وتحبو الشرف

وإلا فأنتم عبيد العصا ***وعبد العصامستذل نطف

فحرك ذلك علي عليه السلام، ثم مضى إلى رايات كندة فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الأشعث وهو يقول (322/3 -323):

لئن لم يحل الأشعث اليوم کربة*** و من الموت فيها للنفوس تعنت

فنشرب من ماء الفرات بسيفه ***فهبنا أناس قبل ذاك فموت

فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا ***وتنض التي فيها عليك المذله

فمن ذا الذي تشى الحناجر باسمه ***سواك، ومن هذا إليه التلفت؟ و

هل من بقا بعد يوم وليلة ***نظل خفوتا والعدو يصوت

ص: 164

هلموا إلى ماء الفرات ودونه ***صدور العوالي والصفيح المشتت

وأنت امرؤ من عصبة يمنية ***وكل امريء من سنخه حين ينبت

فلما سمع الأشعث قول الرجل، قام فأتى عليا عليه السلام، فقال :

- يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم ماء الفرات، وأنت فينا، والسيوف في أيدينا، خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت. ومر الأشتر فلیعل بخيله، ويقف حيث تأمره، فدعا علي عليه السلام الأشتر فقال :

ألم تغلبن على رأيي أنت والأشعث ؟ فدونكما.

فقالا : إنا نكفيك يا أمير المؤمنين .

فقال عليه السلام :

- ذلك لكما.

فنادى الأشعث في الناس فأتاه اثنا عشر فارسا من كندة وأفناء قحطان فشد عليه سلاحه وهو يقول (323/3 ):

ميعادنا اليوم بياض الصبح ***هل يصلح الزاد بغير الملح

لالا ولا أمر بغير نصح ***دبوا إلى القوم بطعن سمح

مثل العزالي بطعان سمح***لا صالح للقوم وابن صلح

حسبي من الإقحام قاب رمح

وكان الأشتر قد تعالی بخيله حيث أمر علي عليه السلام فبعث إليه الأشعث:

ص: 165

- أقحم الخيل.

فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات. وأخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرین.

ودعا الأشتر بالحارث بن همام النخعي، ثم الصهباني، فأعطاه لواءه وأوصاه، فقال :

- يا مالك الأسرنك أو لأموتن، فاتبعني.

ثم تقدم اللواء وارتجز، فقال :

يا أخا الخيرات ياخير النخع ***وصاحب النصر إذا عم الفزع

وكاشف الخطب إذا الأمر وقع***ما أنت بالحرب العوان بالجدع

قد جزع القوم وعموا بالجزع ***وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع

إن تسقنا الماء فليست بالبدع ***أو نعطش اليوم فجند مقتطع

ما شئت خذ منها وما شئت فدع

وارتجز صالح بن فيروز من فرسان الشام فقال (328/3 ):

يا صاحب الطرف الحصان الأدهم ***أقدم إذا شئت علينا أقدم

أنابن ذي العز وذي التكرم ***سید عک كل عک فاعلم

وكان صالح مشهورة بالشدة والبأس، فارتجز عليه الأشتر فقال :

أنا ابن خير مذحج ومركبا ***وخيرها نفسا وأما وأبا

آليت لا أرجع حتى أضربا ***بسيفي المصقول ضربة معجبا

ص: 166

ثم شد عليه فقتله، وهو أول قتيل قتله الأشتر بیده .

وبعد أن قتل أربعة من فرسانهم برز إليه زامل بن عقيل - وكان فارسا - فطعن الأشتر في موضع الصدر فصرعه على فرسه، ولم يصب مقت"، وشد عليه الأشتر بالسيف راجلا فکشف قوائم فرسه، وارتجز عليه فقال (329/3 ):

لابد من قتلي أو من قتلكا*** قتلت منكم أربعأمن قبلكا

كلهم كانوا حماة مثلكا

ثم ضربه بالسيف وهما راجلان فقتله، ثم خرج إليه محمد بن روضة فقال،

وهو يضرب في أهل العراق ضربة منكرا:

ياساكني الكوفة يا أهل الفتن ***ياقاتلي عثمان ذاك المؤتمن

أورث قلبي قتله طول الحزن ***أضربكم ولا أرى أبا حسن

فشد عليه الأشتر فقتله ، وقال :

لا يبعد الله سوى عثمانا ***وأنزل الله بكم هوانا

ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي - وكان من شجعان العرب وفرسانهما - وهو على فرس له اسمه لاحق؛ فلما استقبله الأشتر کره لقاءه واستحيا أن يرجع عنه، فتضاربا بسيفيهما فسبقه الأشتر بالضربة فقتله، فقالت أخته ترثيه :

ألا فابكي أخا ثقة*** فقد - والله - ابكينا

القتل الماجد القمقا*** م لا مثل له فينا

أتانا اليوم مقتله ***فقد جرت نواصينا

ص: 167

کریم ماجد الجدي ***ن يشفي من أعادينا

شفانا الله من أهل ال***عراق فقد أبادونا

أما يخشون ربهم***ولم يرعوا له دینا

وأقبل الأشتر يوم الماء، فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم من الماء، وهو يقول (330/3 ):

لاتذكروا ما قد مضى وفاتا ***والله ربي الباعث الأمواتا

من بعد ما صاروا كذا رفاتا*** لأوردن خيلي الفراتا

شعث النواصي أو يقال ماتا

وكان ضبيان بن عمارة التميمي قد حمل على أهل الشام وهو يقول (327/3):

هل لك يا ظبيان من بقاء ***ساكني الأرض بغير ماء

لا وإله الأرض والسماء ***فاضرب وجوه الغدر والأعداء

بالسيف عند حمس الهيجاء ***حتى يجيبوك إلى السواء

قال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء، ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس؟ أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه؟ ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوءة.

فقال معاوية :

دع عنك ما مضى، فما ظنك بعلی؟

ص: 168

قال :

ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه، وإن الذي جاء له غير الماء .

فقال له معاوية قولا أغضبه.

فقال عمرو (331/3 ):

أمرتك أمري فسخفته***وخالفني بن أبي سرحة

وأغمضت في الرأي إغماضة ***ولم تري الحرب كالفسحة

فكيف رأيت كباش العراق*** ألم ينطحوا جمعنا نطحة؟

فإن ينطحوناغدا مثلها ***فكن كالزبيري أو طلحة

أظن لها اليوم ما بعدها ***وميعاد ما بيننا صبحه

وإن أخروهالما بعدها*** فقد قدموا الخيط والنفحة

وقد شرب القوم ماء الفرات ***وقلدك الأشتر الفضحة

فقال أصحاب علي عليه السلام له :

امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك.

فقال :

- لا خلوا ما بينهم وبينه، لا أفعل ما فعل الجاهلون، سنعرض عليهم کتاب الله وندعوهم إلى الهدى، فإن أجابوا؟ وإلا حد السيف ما يغني إن شاء الله .

فاستقى كلا الفريقين من الماء (ما يؤذي إنسان إنسانا).

دعا معاوية عمرو بن العاص فأمره بالخروج إلى الأشتر أمام القوم، وقد

ص: 169

علم أنه سيلقاه، وهو يرتجز ويقول (80/8 ):

ياليت شعري كيف لي بعمرو***ذاك الذي أوجبت فيه نذري

ذاك الذي أطلبه بوتري ***ذاك الذي فيه شفاء صدري

من بائعي يوما بكل عمري**** يعلي به عند اللقاء قدري

أجعله فيه طعام النسر*** أولا فربي عاذري بعذري

فلما سمع عمرو بهذا الرجز فشل وجبن، واستحيا أن يرجع، وأقبل نحو الصوت وقال (80/8) :

ياليت شعري كيف لي بمالك*** كم كاهل صببته وحارك

وفارس قتلته وفاتك ***ومقدم آپ بوجه حالك

ما زلت دهري عرضة المهالك

فغشيه الأشتر بالرمح، فراغ عمرو عنه، فلم يصنع الرمح شيئا، ولوی عنان فرسه، وجعل يده على وجهه، وجعل يرجع راكضا نحو عسكره. فنادى غلام من يحصب :

يا عمرو عليك العفا ما هبت الصبا، فأخذ اللواء، وكان غلاما حدثا ، فقال (81-80/8):

إن يك عمروقدعلاه الأشتر ***بأسمر فيه سنان أزهر

فذاك والله لعمري مفخر*** يا عمرو تكليف الطعان حمير

واليحصبي بالطعان أمهر*** دون اللواء اليوم موت أحمر

ص: 170

فنادى الأشتر ابنه إبراهيم :

- خذ اللواء فغلام بغلام.

فتقدم فأخذ إبراهيم اللواء وقال :

يا أيها السائل عني لاترع*** أقدم فإني من عرانيت النخع

كيف ترى طعن العراقي الجذع ***أطير في يوم الوغى ولا أقع

ماساءكم سر، وماضرنفع*** أعدوت ذا اليوم لهول المطلع

فتطاعنا حتى سقط الحميري قتيلا، وشمت مروان بعمرو، وغضب

القحطانيون على معاوية، وقالوا :

- تولي علينا من لا يقاتل معنا، ول رجلا منا وإلا فلا حاجة لنا فيك. وقال شاعرهم (81/8 ):

معاوي أماتدعنا لعظيمة*** يلبس من نكرائها الفرض بالحقب

فول علينا من يحوط ذمارنا ***من الحميريين الملوك على العرب

ولا تأمرنا بالتي لا نريدها ***ولا تجعلنابالهوى موضع الذنب

ولا تغضبنا والحوادث جمة ***عليك، فيغشوا اليوم في يحصب الغضب

فإن لنا حقا عظيما وطاعة*** وحيا دنيا المشاس وفي العصب

وبات كعب جميل التغلي، شاعر أهل الشام تلك الليلة، يرتجز وينشد (683/5-184):

أصبحت الأمة في أمر عجب ***والملك مجموع غدا لمن غلب

ص: 171

أقول قولا صادقا غير كذب ***إن غدا يهلك أعلام العرب

غدا نلاقي ربنا فنحتسب ***غدا يصيرون رمادا قد ذهب

بعد الجمال والحياء والحسب ***لا رب لا تشمت بنا ولا تصب

من خلع الأنداد طرأ والصلب

وقال راجز من أهل الشام (184/5 ):

ويل لأم مذحج من عك ***وأمهم قائمة تبكي

نصکها بالسيف أي صك ***فلا رجال کرجال عک

نادی عمرو بن العاص بأعلى صوته :

يا أيها الجند الصليب الإيمان*** قوموا قياما واستعينوا الرحمن

إني أتاني خبر ذو ألوان*** إن عليا قتل ابن عفان

ردوا علينا شيخنا لما كان

فرد عليه أهل العراق وقالوا (185/5 ):

أبت سيوف مذحج وهمدان*** بأن ترد نعثلا كماكان

خلقا جديدا مثل خلق الرحمن*** ذلك شأن قد مضى وذا شان

ثم نادى عمرو بن العاص ثانية يرفع صوته :

ردوا عليناشيخنا ثم بجل*** أو لا تكونوا جزرة من الرسل

فرد عليه أهل العراق :

كيف نرد نعثلا وقد قحل ***نحن ضربنا رأسه حتى انجفل

ص: 172

وأبدل الله به خير بدل ***أعلم بالدين وأزك بالعمل

وقال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام :

الله در كتائب جاءتكم*** تبكي فوارسها علي عثمان

تسعون ألفأليس فيهم قاسط*** و يتلون كل مفضل ومثان

يسلون حق الله لا يعدونه***ومجيبكم للملك والسلطان

فأتوا ببينو على ما جئتم*** أولا فحسبكم من العدوان

وأتوا بما يمحو قصاص خليفة ***الله، ل يس بكاذب خوان

وارتجز عمرو بن العاص وأرسل بما إلى علي عليه السلام (195/5 ):

لا تأمننا بعدها أبا حسن*** إنا نمر الأمر إمرار الرسن

خذها إليك واعلمن أبا حسن

ويروى :

لتصبحن مثلها أم لبن ***طاحنة تدقكم دق الحفن

فأجابه شاعر من أهل العراق (195/5 ):

ألا احذروا في حربكم أبا حسن*** ليثأ أباشبلين محذور فطن

يدقكم دق المهاريس الطحن ***التغبنن ياجاهلا أي غبن

حتى تعض الكف أو تقرع سن*** ندامة إن فاتكم عد السنن

وكان أول فارسين التقيا في هذا اليوم - وهو اليوم السابع من صفر - هما حجر الخيرا حجر بن عجدي / وحجر الشر / ابن عمه / وكلاهما من كندة، وبعد

ص: 173

تطاحن العسکرین دعا الإمام علي عليه السلام أصحابه أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشام، فقال :

من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف؟

فسكت الناس وأقبل فتى اسمه سعيد فقال :

- أنا صاحبه.

وبعد أن كرر الإمام عليه السلام طلبه مرتين لم يقم إلا الفتى نفسه، فأعطاه إياه، ولما توجه إليهم ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه، فقال الإمام عليه السلام لعبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي :

- احمل عليهم الآن.

فحمل عليهم بمن معه فجعل يضرب بسيفه ويقول (196/5 ):

لم يبق غير الصبر والتوكل ***والترس والرمح وسيف مصقل

ثم التمشي في الرعيل الأول*** مشي الجمال في حياض المنهل

والله يقضي ما يشا ويفعل

وحاول ابن بديل أن يصل إلى معاوية فيقتله إلا أن معاوية استنجد بقومه أن يرموه بالحجارة فأثخنوه جراحا حتى سقط فقتلوه، فقال معاوية :

- والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر :

أخو الحرب إن عضت به الحرب ***وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه ***قدا الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا

ص: 174

کلیت هزبر كان يحمي ذماره ***رمته المنايا قصدها فتقطرا

وتقدم أبو شداد قيس بن المكشوح بن هلال إلى عسکر معاوية بخيله وهو

پرید معاوية وصاحبه : صاحب الترس المذهب الذي كان يستره من الشمس وأثناء زحفه كان يقول (206/5 ):

إن عليا ذو أناة صارم*** جلد إذا ما حضر العزائم

لما رأى ما تفعل الأشائم*** قام له الذروة والأكارم

وبعد أن قتل أخذ الراية بعده عبد الله بن الأحمسي وارتجز :

لا يبعد الله أباشداد ***حيث أجاب دعوة المنادي

وشد بالسيف على الأعادي*** نعم الفتی کان لدى الطراد

وفي طعان الخيل والجلاد

ولما حاولت تميم أن تنهزم من المعركة ناداهم مالك بن حري النهشلي :

- ضاع الضراب اليوم، والذي له أنا عبد یا بني تميم.

فقالوا : ألا ترى الناس قد انهزموا؟

فقال :

ويحكم أفرار واعتذار؟

وبعد يأس منهم جعل يقاتل ويرتجز ويقول (211/5 ):

إن تميمأخلف عنك ابن مر ***وقد أراهم وهم الحي الصبر

فإن يفروا أو يخيموا لا أفر

ص: 175

فقتل مالك ذلك اليوم، وقال أخوه فشل بن حري التميمي يرثيه :

تطاول هذا الليل ما كان ينجلي*** كليل التمام ما يريد انصراما

وبت بذكرى مالك بكآبة*** أورق من بعد العشاء نیاما

أبي جزعي في مالك غير ذكره ***فلا تعذليني إن جزعت إماما

فأبكي أخي ما دام صوت حمامة*** يؤرق من وادي البطاح حماما

وأبعث أنواحأ عليه بسحرة*** وتذرف عيناي الدموع سجاما

وأدعو سراة الحي تبكي لمالك ***وأبعث نوحایلتد من قياما

يقلن ثوى رب السماحة والحجا ***وذو عزير يأبى بها أن يضاما

وفارس خيل لا تنازل خيله ***إذا اضطرمت نار العدو ضراما

وأحيا عن الفحشاء من ذات کلة ***يرى مايهاب الصالحون صراما

وأجرأ من ليث بخفان مخدر ***وأمضى إذا رام الرجال صداما

فلا ترجون ذا أمة بعد مالک*** ولا جازر للمنشآت غلاما

وقل لهم لا يرحلوا الأدم بعده ولا يرفعوا نحو الجياد لجاما

وقال أيضا يرثيه (212/5 ):

بكى الفتى الأبيض البهلول سنته*** عند النداء، فلا نكسة ولا درعا

بكي على مالك الأضياف إذ نزلوا ***حين الشقاء وعثر الرسل فانقطعا

ولم يجد لقراهم غير مربعة ***من المشار نرجي تحتها ربعا

أهوى لها السيف صلت وهي رائعة*** فأوهن السيف عظم الساق فانجذعا

ص: 176

فجاءهم بعد رفد الناس أطيبها*** وأسبعت منهم من نام واضطجعا

يافارس الروع يوم الروع قد علموا ***وصاحب العزم لا نكسأ ولا طبعا

ومدرك التبل في الأعداء يطلبه ***وإن طلبت بتبل عنده منعا

قالوا أخوك أتى الناعي بمصرعه ***فانشق قلبي غداة القول فانصدعا

ثم ارعوى القلب شيئا بعد ضربته ***والنفس تعلم أن قد أثبتت وجعا

وبرز حريث - مولی معاوية - هذا اليوم، وكان شديدا أبدا ذا بأس لا يرام، فصاح:

يا علي هل لك في المبارزة؟ فأقدم أبا حسن إن شئت.

فأقبل علي عليه السلام يقول (215/5 ):

أنا علي وابن عبد المطلب*** نحن - لعمر الله - أولى بالكتب

فذا النبي المصطفى غير كذب ***أهل اللواء والمقام والحجب

نحن نصرناه على كل العرب ***يا أيها العبد الغرير المنتدب

اثبت لنا يا أيها الكلب الكلب

ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين.

حتى جزع معاوية على حريث جزعة شديدة، وعاتب عمروا في إغرائه إياه

بعلي عليه السلام، وقال في ذلك شعرا (216/5):

حريث ألم تعلم وجهلك ضائر ***بأن عليا للفوارس قاهر

وأن عليا لم يبارزه فارس ***من الناس إلا أقصدته الأضافر

ص: 177

أمرتك أمرا حازما فعصيتني*** فجدك إن لم تقبل النصح عاثر

وولاك عمرو والحوادث جمة ***غرورة وما جرت عليك المقادر

وظن حريث أن عمروا نصيحه ***وقد يهلك العمر من لا يحاذر

أيرکب عمرو رأسه خوف سيفه*** ويصلي حريثأ، إنه لفرافر

وكان همدان بلاء عظيم في نصرة علي عليه السلام في صفين، ومن الشعر الذي لاشك أن قائله علي عليه السلام لكثر الرواة له ( 217/5 ):

دعوت فلباني من القوم عصبة ***فوارس من همدان غيرلئام

فوارس من همدان ليسوا بعزل ***غداة الوغى من شاكر وشبام

بكل رديني وعذب تخاله ***إذا اختلف الأقوام شعل ضرام

لهمدان أخلاق کرام تزينهم*** وبأس إذا لاقوا وح خصام

وجد وصدق في الحروب ونجدة ***وقول إذا قالوا بغير أثام

متى تأتهم في دارهم تستضيفهم*** تبت ناعما في خدمة وطعام

جزى الله همدان الجنان فإنها ***سحام العدى في كل يوم زحام

فلوکنت بوابأ على باب جنه***لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وقام علي عليه السلام بين الصفين فنادى :

- يا معاوية - يكررها -

فقال معاوية :

سلوه ما شانه؟

ص: 178

قال :

- أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة .

فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص، فلما قارباه، لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية :

- ويحك إعلام يقتتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضا، أبرزلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له.

فالتفت معاوية إلى عمرو، فقال :

ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال :

- قد أنصفك الرجل، واعلم إنك إن نکلت عنه لم يزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي.

فقال معاوية :

- يا بن العاص، ليس مثلي يخدع عن نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا وسقى الأرض من دمه.

ثم انصرف معاوية راجعة حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه، فلما رأيى علي عليه السلام ذلك ضحك وعاد إلى موقفه.

وحقد معاوية على عمرو باطنا، وقال له ظاهرة :

- ما أظنك قلت ما قلت يا أبا عبد الله إلا مازحة.

ص: 179

فلما جلس معاوية مجلسه، أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه فقال معاوية (217/5 - 218):

يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا ***برضاك لي وسط العجاج برازي

يا عمرو إنك قد أشرت بظنة ***حسب المبارز خطفه من بازي

ولقد ظننتك قلت مزحة مازح*** والهزل يحمله مقال الهازي

وإذا الذي وفتك نفسك حاكيا ***قتلي، جزاك بما نويت الجازي

ولقد كشفت قناعها مذمومة ***ولقد لبست بها ثياب الحازي

فقال عمرو :

أيها الرجل أنجبن عن خصمك وتتهم نصيحك ؟

وقال مجيبا :

معاوي إن نکلت عن البراز***لك الويلات فانظر في المخازي

معاوي ما اجترمت إليك ذنبا*** وما أنا في التي حدثت بخازي

وماذنبي بأن نادي علي ***وكبش القوم يدعى للبراز

فلو بارزته بارزت ليثأ ***حديث الناب يخطف كل بازي

ويزعم أنني أضمرت غشا ***جزاني بالذي أضمرت جازي

أضبع في العجاجة يا بن هند*** وعند الباه كالتيس الحجازي

وبينا مر العباس بن الحارث بن عبد المطلب، مكفهرة بالسلاح، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بمرار بن أدهم:

ص: 180

- يا عباس هلم للبراز!

قال العباس :

فالنزول إذا فإنه أيأس من القفول.

فنزل الشامي وهو يقول (219/5 ):

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا*** أو تنزلون فإنا معشر نزلوا

وثنى العباس رجله وهو يقول :

ويصد عنك مخبلة الرجل العريض موضحة عن العظم ***بحسام سيفك، أو لسانك والكلم الأصيل كأرغب الكلم

وتطاعنا شديدة حتى قتل الشامي.

وخرج رجل من عك فسأل البراز، فخرج إليه قيس بن فهران الكندي فما

ألبثه أن طعنه فقتله، وقال (222/5 ):

لقد علمت ع بصفين أننا ***إذا ما تلاقى الخيل نطعنها شزرا

ونحمل رايات القتال بحقها*** فتوردها بيضا ونصدرها حمرا

وممن قاتلوا مع الإمام علي عليه السلام أيام صفين، بشر بن العوس الطائي - وكان من رجال طي وفرسانها - وفقئت عينه، فكان يذكر بعد ذلك بأيام صفين فيقول :

وددت أنني قتلت يومئذ، وددت أن عيني هذه الصحيحة فقئت أيضا.

وقال (224/5 ):

ص: 181

ألا ليت عيني هذه مثل هذه*** ولم أمش بين الناس إلا بقائد

وياليت رجلي ثم طنت بنصفها ***وياليت كفي ثم طاحت بساعدي

وياليتني لم أبق بعد مطرف*** وسعد وبعد المستنير بن خالد

فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم*** إذا هي أبدت عن خذام الخرائد

ومن الذين حاربوا مع أمير المؤمنين عليه السلام عنترة بن عبيد بن خالد المحاربي، وهو أشجع الناس يومئذ، كان يشد من عضد أصحابه ويرتجز ويقول (225-224/5):

لا وألت نفس امريء ولى الدبر*** أنا الذي لا أنثني ولا أفر

ولا يرى مع المعازيل الغدر

وقاتل حتى ارتث.

وأقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف براية ربيعة، وكانت راية حمراء، فأعجب عليا عليه السلام زحفه وثباته فقال (226/5 -227):

لمن راية حمراء يخفق ظلها ***إذا قيل قدمها حضين تقدما

ويدنو بها في الصف حتى يزيدها ***و حمام المنايا تقطر الموت والدما

تراه إذا ما كان يوم عظيمة ***أبى فيه إلا عزة وتكرما

جزى الله قومأ صابروا في لقائهم*** لدى الناس أجأ ما أعف وأكرما

وأحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى ***إذا كان أصوات الكماة تغمغما

ربيعة أعني إنهم أهل نجدة ***وبأس إذا لاقوا خميسآعرمرما

ص: 182

وقد صبرت عك ولخم وحمير*** المذحج حتى لم يفارق دم دما

ونادت جذام يال مذحج ويحكم*** جزى الله شرأ أيناکان ظالما

أما تتقون الله في حرماتكم ***وماقرب الرحمن منها وعظما

أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ***بأسيافنا حتى تولى وأحجما

وفريناذي الزبرقان وظالما ***ونادی کلاعا والكليب وأنعما

وعمرو، وسفيانا وجهما ومالكا ***وحوشب والفادي شريحة وأظلما

وكرز بن تيهان وعمرو بن جحدر*** وصباحا القبين يدعو وأسلما

وقد رويت الأبيات السنة الأولى للإمام علي عليه السلام وباقي الأبيات من قوله (وقد صبرت عك) للحضين بن منذر صاحب الراية.

وكان بصفين تل الجماجم تلقي عليه جماجم الرجال، وكان يدعی تل، فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام (230/5 ):

ولم أر فرسانة أشد حفيظة ***وأمنع منا يوم تل الجماجم

غداة أتى أهل العراق كأنهم ***انعام تلقي في فجاج المخارم

إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة ***ململة في البيض شمط المقادم

وقالوا لنا هذا علي فبايعوا ***فقلنا: صه بل بالسيوف الصوارم

وقال شبث بن ربعي التميمي :

وقفنالديهم يوم صفين بالقنا *** لدن غدوه حتی هوت لغروب

وولى ابن حرب والرماح تلوثه*** وقد أرضت الأسياف كل غضوب

ص: 183

نجالدهم طورا وطورة نشلهم*** على كل محبوك السراة شبوب

بكل أسيل كالقراط إذا بدت سياسيل ***لوائحها بين الكماة لعوب

نجالد غسانا وتشقى بحربنا ***جذام ووتر العبد غير طلوب

فلم أر فرسانا أشد حفيظة*** إذا غشي الآفاق رهج جلوب

أكر وأحمي بالغطاريف والقنا ***وكل حديد الشفرتين قضوب

حمل عبيد الله بن عمر (من جماعة معاوية) على صف بن حنيفة وهو يقول (234/5) :

أنا عبيد الله ينميني عمر ***خير قريش من مضى ومن غبر

إلا رسول الله والشيخ الأغر ***قد أبطأت عن نصر عثمان مضر

والربيعيون فلا أسقوا المطر*** وسارع الحي اليمانون الغرر

والخير في الناس قديما يبتدر

فحمل عليه حرث بن جابر الحنفي (من جماعة علي عليه السلام) وقال :

قد سارعت في نصرها ربيعة*** في الحق والحق لهاشريعة

فاكفف فلست تارك الوقيعة ***في العصبة السامعة المطيعة

حتى تذوق كأسها الفظيعة

وطعنه فصرعه.

فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله، وكعب شاعر أهل الشام (234/5 - 235) :

ص: 184

ألا إنما تبكي العيون لفارس*** بصفين أجلت خيله وهو واقف

تبدل من أسماء أسياف وائل*** وأي فتى لو أخطأته المتالف

تركتم عبيد الله في القاع مسلما*** يمج دماء والعروق نوازف

ينوء وتغشاه شآبيب من دم ***كما لاح في جيب القميص الكفائف

دعاهن فاستسمعن من أين صوته*** فأقبلن ش تى والعيون ذوارف

تحللن عنه زر درع حصينة*** وينكر منه بعد ذاك معارف

وقرت تمیم سعدها وربابها*** وخالفت الخضراء فيمن يخالف

وقد صبرت حول ابن عم محمد*** لدى الموت شهباء المناكب شارف

بمرج ترى الرايات فيها كأنها ***إذا أجنحت للطعن طير عواكف

فما برحوا حتى رأى الله صبرهم ***وحتى أسرت بالأكف المصاحف

جزى الله قتلانا بصفين خير ما ***أثيب عباد غادرتها المواقف

ومما رثی به کعب بن جعيل عبيد الله بن عمرو قوله (236/5 ):

يقول عبيد الله لما بدت له ***سحابة موت تقطر الحتف والدما

ألا يا لقومي فاصبروا إن صبركم ***أعف وأحجى عفة وتكرما

فلما تداني القوم حز مجدلا ***صريعا تلاقي كفه الترب والفما

وخلف أطفالأيتامى أذلة ***وعرسأ عليه تسكب الدمع أيما

حلالا لها الخطاب لا يمنعنهم ***وقد كان يحمي غيرة أن تكلما

وقال الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله، وإن حریث بن جابر الحنفي

ص: 185

قتله (237/5 ):

ألا يا عبيد الله ما زلت مولعا***ببکرلهاتهدی القری والشهددا

كأن حماة الحي من بكر وائل*** بذي الرمث أسد قد تبوأن غرقدا

وطنت سفيها قد تعودت عادة ***وكل امريء جار على ما تعودا

فأصبحت مصلوبة على شر أيكة ***صريع القنا تحت العجاجة مفردا

تشق عليك جيبها ابنة هاني ***مسلبة تبدي الشجا والتلددا

وكانت ترى ذا الأمر قبل عيانه ***ولكن حكم الله أهدى لك الردی

وقالت عبيد الله لا تبك وائلا ***فقلت لها لا تعجلي وانظري غدا

فقد جاء ما قد مسها فتسلبت ***عليك، وأمسى الجيب منها مقددا

حباك أخو الهيجا حريث بن جابر*** بجياشة تحكي بها النهر مزبدا

وبعد أن قتل أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي - من جيش العراق - شدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها، فقال مجزأة بن ثور (240/5):

أضربهم ولا أرى معاوية ***الأبرج العين العظيم الحاوية

هوت به في النار أم هاوية ***جاوره فيها كلاب عاويه

أغوى طغاما لا هدته هاديه

لما اشتد القتال بين الفريقين وتمكن الشاميون من أهل العراق نادي علي عليه السلام يومئذ :

ص: 186

ألا رجل يشري نفسه الله ويبيع دنياه بآخرته؟

فأتاه رجل من جوف يقال له عبد العزيز بن الحارث، على فرس أدهم، كأنه غراب مقنع في الحديد، لا يرى منه إلا عيناه . فقال :

- يا أمير المؤمنين مرني بأمرك، فوالله لا تأمرني بشيء إلا صنعته، فقال علي عليه السلام :

سمحت بأمر لا يطاق حفيظة*** وصدق وإخوان الوفاء قليل

جزاك إله الناس خيرا فإنه ***لعمرك فضل ما هناك جزيل

وكان علي عليه السلام لا يعدل بربيعة أحدا من الناس فشق ذلك وأظهروا لهم القبيح، وأبدوا ذات أنفسهم، فقال الحضين بن المنذر الرقاشي شعرة أغضبهم به، وهو:

رأت مضر صارت ربيعة دونهم *** شعار أمير المؤمنين، وذو الفضل

فأبدوا إلينا ما تجن صدورهم*** علينا من البغضا وذاك له أصل

فقلت لهم لما رأيت رجالهم*** بدت بهم قطر كأن بهم ثقل

إليكم أهيبوا لا أبالأبيكم*** فإن لكم شكلا وإن لنا شكل

ونحن أناس خصنا الله بالتي ***رانا لها أهلا وأنتم لها أهل

فابلوا بلانا أو أقروا بفضلنا ***ولن تلحقون الدهر ما حتت الإبل

وقام رؤساء مضر إلى الإمام علي عليه السلام - وبعد كلام كثير - طلبوا منه عليه السلام، إعفاء ربيعة من القتال يوما وتكليفهم به ففعل عليه السلام،

ص: 187

فغدا أبو الطفيل عامر بن وائل في قومه من كنانة وهم جماعة عظيمة، فتقدم أمام الخيل وهو يقول : - طاعنوا وضاربوا، ثم حمل وارتجز فقال (244/5 ):

قد ضاربت في حربها كنانة*** والله يجزيهابه كنانه

من أفرغ الصبر عليه زانه*** أو غلب الجبن عليه شانه

أو كفرالله فقد أهانه*** غدا بعض من عصي بنانه

ثم غدا في اليوم التالي عمير بن عطار بجماعة من بني تميم، وهو يومئذ سید مضر الكوفة فقال :

یا قوم، إلي أتبع آثار أبي الطفيل، فاتبعوا آثار کنانة ثم قدم رايته وارتجز وقال (245/5):

قد ضاربت في حربها تميم ***إن تميمأخطبها عظيم

لها حديث ولها قديم ***إن الكريم نسله كريم

دین قويم وهوى سليم*** إن لم تردهم رايتي فلوموا

ثم غدا في اليوم الثالث قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد، وقال لأصحابه :

- يا بني أسد، أما أنا فلا أقصر دون صاحبي، وأما أنتم فذاك إليكم، ثم تقدم برايته وقال (245/5 -246):

قد حافظت في حربها بنو أسد ***ما مثلها تحت العجاج من أحد

ص: 188

أقرب من يمن وأنأى من نكد*** كأننا رکنائبير أو أحد

لسنا بأوباش ولا بيض البلد ***لكننا اللحمة من ولد معد

كنت ترانا في العجاج کالأسد ***ياليت روحي قد نأى عن الجسد

فانتصفوا المضرية من الربيعية وظهر أثرها وعرف بلاؤها، وقال أبو الطفيل (247- 246/5):

وحامت كنانة في حربها ***وحامت تميم وحامت أسد

وحامت هوازن يوم اللقا ***فما ضام منا ومنهم أحد

لقينا الفوارس يوم الخميس*** والعيد والسبت ثم الأحد

لقينا قبائل أنسابهم ***إلى حضرموت وأهل الجند

فأمدادهم خلف آذانهم*** دعونا مبدأ ونعم المعد

فظلنا نفق هاماتهم ***ولم نك فيها ببيض البلد

ونعم الفوارس يوم اللقا ***فقل في عديد وقل عدد

وقل في طعان كفرغ الدلاء ***وضرب عظیم کنار الوفد

ولكن عصفنا بهم عصفة ***وفي الحرب يمن وفيهانکد

طحنا الفوارس وسط العجاج ***وسقنا الزعانف سوق النقد

وقلنا علي الناوالد ***ونحن له طاعة كالولد

قام عمار يوم صفين فاستنهض معه أصحابه ثم مضى ومضى معه أصحابه ، فدنا من عمرو بن العاص فقال :

ص: 189

- يا عمرو بعت دینك بمصر، فتبا لك، وطالما بقيت للإسلام عوجا.

ثم حمل عمار وهو يقول (253/5 ):

صدق الله وهو للصدق أهل*** وتعالى ربي وكان جليلا

رب عجل شهادة لي بقتل ***في الذي قد أحب قتلا جميلا

مقبلا غير مدبرإن للق ***تل على كل ميتة تفضيلا

إنهم عند ربهم في جنان ***يشربون الرحيق والسلسبيلا

من شراب الأبرار خالطه المس*** ك وكأسأمزاجها زنجبيلا

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يذكر عليا عليه السلام بصفين (255/5):

فلوشهدت جهل مقامي ومشهدي*** بصفين يوما شاب منها الذوائب

عشية جا أهل العراق كأنهم ***سحاب ربيع رفعته الجنائب

إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا ***كتائب منهم وأحجنت كتائب

وجئناهم فردی كأن صفوفنا*** من البحر مدموجه متراكب

فدارت رحانا واستدارت رحاهم*** سراة النهار ماتولى المناكب

فقالوا لنا: إنا نرى أن تبايعوا*** فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربوا

لما دفع علي عليه السلام الراية إلى هاشم بن عتبة، فألح عليه رجل من العسكر فقال له هاشم:

إذا رأيتني قد صرعت فخذها.

ص: 190

واستحث أصحابه فأخذ الراية فهزها، فقال رجل من أصحابه :

- البث قليلا ولا تعجل.

فقال هاشم (13/8 ):

قد أكثرا لومي وما أقلا ***إني شربت النفس لن أعتلا

أعور يبغي أهله محلا ***قد عالج الحياة حتى ملا

لابد أن يفل أو یفلا ***أشلهم بذي الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلی*** فيه الرسول بالهدى استهلا

أول من صدقه وصلى*** فجاهد الكفار حتى أبلا

وقال أبو الأعور وقد اشتبك العسكران (13/8 ):

إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ***صدور الخدود وازورار المناكب

صدور الخدود والقنا متشاجر*** ولا تبرح الأقدام عند التضارب

والتقت هذا اليوم همدان بعك الشام فقال قائلهم :

همدان همدان وعک عك*** ستعلم اليوم من الأرك

لما التحم جيشا العراق والشام وتداخلا حتى حل الليل عليهما، ولما أذن

مؤذن علي عليه السلام الفجر، قال علي عليه السلام (14/8 ):

يا مرحبا بالقائلين عدلا*** وبالصلاة مرحبا وأهلا

وقال عمار بن یاسر قبيل أن يقتل، وهو ينظر إلى راية عمرو بن العاص :

والله إنما الراية التي قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن، ثم قال (24/8 ):

ص: 191

نحن ضربناكم على تأويله*** كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله*** ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

وكان عمار في ذلك اليوم قد حمل على أهل الشام وهو يرتجز (26/8 ):

کلا ورب البيت لا أبرح أجي***حتى أموت أو أرى ما أشتهي

لا أفتأ الدهر أحامي عن علي ***صهر الرسول ذي الأمانات الوفي

ينصرنا رب السماوات العلي*** ويقطع الهام بحد المشرفی

يمنحنا النصر على من يبتغي*** ظلمأ علينا جاهدأ مايأتلي

فضرب أهل الشام حتى اضطرهم على الفرار.

قال عمرو بن العاص يوما :

- إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعمار : ((تقتلك الفئة الباغية، وآخر تربك ضياح من لبن (161).

ولما قتل عمار أرسل معاوية إلى عمرو :

لقد أفسدت على أهل الشام؛ أكل ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلم تقوله؟

فقال عمرو :

- قلتها ولست أعلم الغيب، ولا أدري أن صفين تكون؛ قلتها وعمار يومئذ لك ولي، وقد رویت أنت فيه مثل ما رویت. فغضب معاوية وتنمر لعمرو،

ص: 192

وعزم على منعه خيره، فقال عمرو لابنه وأصحابه : لا خير في جوار معاوية، إن تجلت هذه الحرب لأفارقته وقال (27/8 ):

تعاتبني أن قلت شيئا سمعته ***وقد قلت - لو أنصفتني - مثله قبلي

أنعلك فيماقلت نعل ثبيتة*** وتزلق بي في مثل ما قلته نعلي؟

وما كان لي علم بصفين أنها ***تكون وعمار يحث على قتلي

ولو كان لي بالغيب علم كتمتها ***وكابدت أقواما مراجلهم تغلي

أبى الله إلا أن صدرك واغر ***علي بلا ذنب جنيت ولا ذحل

سوى أنني والراقصات عشية*** بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل

فلا وضعت عني حصان قناعها ***ولا حملت وجناء ذعلبة رحلي

ولا زلت أدعى في لؤي بن غالب*** قليلا غنائي لا أم ولا أحلي

إن الله أرضى من خناقك مرة*** ونلت الذي رجيت إن لم أزد أهلي

وأترك لك الشام الذي ضاق رحبها*** عليك ولم ينهك بها العشي من أجلي فأجابه معاوية (28/8 ):

األان لما ألقت الحرب ركبها*** وقام بنا الأمر الجليل على رجل

غمزت قناتي بعد ستين حجة*** تباعأکأني لا أمر ولا أحلي

أتيت بأمر فيه للشام فتنة ***وفي دون ما أظهرته زلة النعل

فقلت لك القول الذي ليس ضائرا*** ولو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي

تعاتبني في كل يوم وليلة ***كأن الذي أبليك ليس كما أبلي

ص: 193

فياقبح الله العتاب وأهله ***ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل

فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة*** ترد بها قوما مراجلهم تغلي

دعاهم علي فاستجابوا لدعوۃ ***أحب إليهم من ثرى المال والأهل

إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا ***ومن دون ما أظهرته زلة النعل

فلما أتى عمرو شعر معاوية أتاه فأرضاه وصار أمرهما واحدا.

وأقبل هاشم بن عتبة - من جيش علي عليه السلام - علی جیش معاوية

وكان أعور وصار يرتجز (29/8 ):

أعور يبغي نفسه كلاصا ***مثل الفتيق لابسا دلاصا

قد جرب الحرب ولا أناصا ***و لا دية يخشى ولا قصاصا

كل امريء وان كبا وصاصا*** ليس يرى من يومه مناصا

فحمل صاحب لواء ذي الكلاع - هو رجل من عذرة - فقال :

يا أعور العين وما بي من عور ***أثبت فإني لست من فرعي مضر

نحن اليمانون وما فيناخور ***كيف نرى وقع غلام من عذر

بنص ابن عفان ويلحن من عذر*** سيان عندي من سعى ومن أمر

ولما قتل هاشم وذو الكلاع حمل عبد الله بن هاشم اللواء وارتجز وقال :

يا هاشم بن عتبة بن مالك*** أعزز بشيخ من قريش هالك

تحيطه الخيلان بالسنابك*** في أسود من نقعهن حالك

أبشر بحور العين بالأرائك***والروح والريحان عند ذلك

ص: 194

لما عرف الإمام علي عليه السلام بقتل هاشم وقف وحوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه، وقوم من القراء فجزع عليه السلام عليه وقال (35/8 ):

جزى الله خيرا عصبة أسلمية ***صباح الوجوه صرعوا حول هاشم

یزید وسعدان وبشر ومعبد*** وسفيان وابنا معبد ذي الأكارم

وعروة لا يبعد ثناه وذكره*** إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم

وقالت امرأة من أهل الشام في قتل هاشم وعمار (36/8 ):

لا تعدموا قومأ أذاقوا ابن ياسر ***شعوبا ولم يعطوكم بالخزائم

فنحن قتلنا اليثربي بن محصن ***خطيبكم وابني بديل وهاشم

أما اليثربي، فهو عمرو بن محصن الأنصاري، وقد رثاه النجاشي شاعر أهل العراق فقال ( 37/8 ):

النعم فتي الحين عمرو بن محصن ***إذا صارخ الحي المصبح ثوبا

إذا الخيل جالت بينها قصد القنا*** یثرن عجاجأساطعة متنصبا

لقد فجع الأنصار طرأ بسيد*** أخي ثقتي في الصالحات مجربا

فيا رب خير قد أنهت، وجعبة*** ملأت، وقرن قد تركت مسلبا

فيارب خصم قد رددت بغيظه ***فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا

وراية مجقد حملت وغزوۃ ***شهدت إذا النكس الجبان تهيبا

حويطأ على جل العشيرة ماجدا*** وما كنت في الأنصار نکسا موثبا

طويل عماد المجد رحبا فناؤه ***خصيبة إذا ما رائد الحي أجدبا

ص: 195

عظيم رماد النار لم يك فاحشا*** ولا فشلا يوم النزال مغلبا

وكنت ربيعا ينفع الناس سيبه ***وسيفا جرازة فاتك الحد مقضبا

فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن*** فعاش شقيأ ثم مات معذبا

وغودر منكبا لفيه ووجهه ***يعالج رمحأذاسنان وثعلبا

فإن يقتلوا الحر الكريم بن محصن ***فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا

وإن يقتلوا ابني بديل وهاشم ***فنحن تركنا منكم القرن أعضبا

ونحن تركنا حميرا في صفوفهم ***لدى الحرب صرعی کالنخيل مشذبا

وأفلتنا تحت الأسنة مدثر*** وكان قديما في الفرار مدربا

ونحن تركنا عند مختلف القنا *** أخاكم عبيد الله لحما ملحبا

بصفين لما أرفض عنه رجالكم*** ووجه ابن عتاب تركنا ملغبا

وطلحة من بعد الزبير ولم ندع ***لضية في الهيجا عريفا منكبا

ونحن أحطنا بالبعير وأهله ***ونحن سقيناكم سحاما مقشبا

وفي قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن وائلة الكناني، وهو من الصحابة وقيل أنه آخر من بقي من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهد مع علي صفين، وكان من مخلصي الشيعة (38/8 ):

يا هاشم الخير جزيت الجنة ***قاتلت في الله عدو السنه

والتاركي الحق وأهل الظنة ***أعظم بما فزت به من منه

صيرني الدهر كأني شئة ***وسوف تعلوفوق قبري رنه

ص: 196

من زوجة وحوبة وكنه

وقال رجل من عذرة من أهل الشام (39/8 ):

لقد رأيت أمورا كلها عجب*** وما رأيت كأيام بصفينا

الماغدوا وغدونا كلناحنق ***لما رأيت الجمال الجلة الجونا

خيل تجول وأخرى في أعنتها*** وآخرون على غيظ يرامونا

ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم ***وما نساقيهم من ذاك يجزونا

كأنها في أكف القوم لامعة ***سلاسل البرق تجدعن العرانينا

ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة ***وكلهم عند قتلاهم يصلونا

ولما فر عتبة ابن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة التي قادها الإمام علي عليه السلام حتى أتى الشام، قال النجاشي قصيدة أولها (40/8):

لقد أمعنت يا عتب الفرارا ***وأورتك الوغى خزيا وعارا

فلا يحمد خصاك سوى طمر*** إذا أجريته انهمر انهمارا

وهجا کعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان وعيره بالفرار، وكان كعب من شيعة معاوية، لكنه هجا عتبة تحريضا له، فهجاه عتبة جوابا له (41/8 ):

وسميت كعبأبشر العظام*** وكان أبوك يسمى الجعل

وإن مكانك م ن وائل ***مكان القراد من أست الجمل

وقال معقل بن فيك بن يساف الأنصاري في قتلی معركة يوم الخميس، وقد قتل فيها أعلام العرب ( 42/8):

ص: 197

يا لهف نفسي ومن يشفي حزازتها*** إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا

وأفلت الخيل عمرو وهي شاحبة ***تحت العجاج تحث الركض والعنقا

وافت منية عبد الله إذ لحقت***قب الخيول به أعجز بمن لحقا

وانساب مروان في الظلماء مستترا*** تحت الدجی كلما خاف الردى أرقا وقال مالك الأشتر :

نحن قتلنا حوشبا ***لماغدا قد أعلما

وذا الكلاع قبله ***ومعبدا إذ أقدما

إن تقتلوا منا أباال ***يقظان ش يخا مسلما

فقد قتلنا منكم*** سبعين شيخا مجرما

أضحوا بصفين وقد*** لاقوا نکالا مؤثما

وقالت ضبعة بنت خزيمة ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله (42/8 -43) :

عين جودي على خزيمة بالدمع*** فتيل الأحزاب يوم الفرات

قتلوا ذا الشهادتين عتوا ***أدرك الله م نهم ب الثرات

قتلوه في فتيني غير عزل*** يسرعون الركوب في الدعوات

نصروا السيد الموفق ذا العد ***ل ودانوا بذاك حق الممات

لعن الله معشر قتلوه ورماهم بالخزي والآفات

أتى علقمة بن زهير الأنصاري الإمام علي عليه السلام فقال :

يا أمير المؤمنين، إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر أفأسمعکه؟

ص: 198

قال نعم.

قال :

إنه يقول (46/8 ):

إذا تخازرت ومابي من خزر*** ثم كسرت العين من غير عور

ألفيتني ألوي بعيد المستمر*** اذا صولة في المصمئلات الكبر

أحمل ما حملت من غير وشر ***كالحية الصماء في أصل الحجر

فقال الإمام علي عليه السلام :

اللهم العنه؛ فإن رسولك لعنه .

قال علقمة :

وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر، فأنشدك؟

قال : قل

فقال :

أنا الغلام القرشي المؤتمن ***الماجد الأبلج ليث كالشطن

ترضى بي الشام إلى أرض عدن*** ياقادة الكوفة يا أهل الفتن

يا أيها الأشراف من أهل اليمن

أضربكم ولا أری أبا الحسن ***أعني علي وابن عم المؤتمن

كفى بهذا حزنة من الحزن

فضحك علي عليه السلام وقال :

ص: 199

إنه لكاذب وإنه بمكاني لعالم، كما قال العربي :

((غير الوهی ترقعين وأنت مبصرة))

ويحكم أروني مكانه ؛ لله أبوكم وخلاكم ذم.

وقال محمد بن عمرو بن العاص (وقد نقلنا بعضها من 55/5 ) على أنها العبد الله بن عمرو بن العاص وهو يذكر عليا عليه السلام بصفين، وهنا ننقلها من (47/8) :

(و) لوشهدت جمل مقامي ومشهدي*** بصفين يوما شاب منها الذوائب

غداة غدا أهل العراق كأنهم*** من البحر موج له متراكب

وجئناهم نمشي صفوف كأننا ***سحاب خريف صففته الجنائب

فطارت إلينا بالرماح كماتهم ***وطرنا إليهم والسيوف قواضب

فدارت رحانا واستدارت رحاهم ***سراة نهار ماتولى المناكب

إذا قلت يوماقد دنوا برزت لنا*** كتائب منهم واحتمنت كتائب

وقالوا لنا من رأينا أن تبايعوا ***عليا، فقلنا، بل نرى أن تضاربوا

وقالوا وقد أردوا سراة رجالنا ***وليس لما لاقوا سوى الله حاسب

فلم أر يوماكان أكثر باكيا***ولا عارضامنهم كميا يكالب

كأن تلالي البيض فينا وفيهم*** تلألؤبرق في تهامة ثاقب

فرد عليه محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام :

(و) لوشهدت جمل مقامك أبصرت*** مقام لئيم وسط تلك الكتائب

ص: 200

أتذكر يوما لم يكن لك فخره ***وقد ظهرت فيه عليك الجلائب

وأعطيتموناما نقمتم أذلة ***على غير تقوى الله والدين واصب

وقال النجاشي يذكر عليا وجده في الأمر (48/8 ):

إني أخال علياغير مرتدع حتى تقام حقوق الله والحم أما ترى النقع معصوبة بلمته كأنه الصقر في عرنينه شمم غضبان عرق نابيه على حنق كما يغط الفنيق المصعب القطم حتى يزيل ابن حرب عن إمارته كما تنكب تيس الحلبة الحلم (حتى) تروه كمثل الصقر مرتبئة يخفقن من حوله العقبان والرخم

وقال النجاشي أيضا يمدح عليا عليه السلام ويهجو معاوية، وقد بلغه أنه يتهدده (48/8 -49) :

يا أيها الرجل المبدي عداوته*** رؤيء لنفسك أي الأمرتأتمر؟

لا تحسبني كأقوام ملكتهم*** طوع الأعة لما ترشح الغدر

وما علمت بما أضمرت من حنق***حتى أتتني به الركبان والنذر

إذا نفست على الأنجاد مجدهم ***فابسط يديك فإن الخير مبتدر

أعلم بأن علي الخير من نفر ***شم العرانين لايعلوهم بشر

لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم ***ما دام بالحزن من صمائها حجر

نعم الفتى أنت إلا أن بينكما ***كما تفاضل ضوء الشمس والقمر

ولا أخالك ألا لست منتهيا***حتى يمسك من أظفاره ظفر

ص: 201

لا تحمدن أمرأ حتى تجربه*** ولا تذمن من لم يبله الخبر

أني أمرؤ قلما أثني على أحد ***حتى أرى بعض ما يأتي ومايذر

وأن طوى معشرعني عداوتهم*** في الصدر أو كان في إبصاره خزر

أزمعت عزمأجراميزي بقافية*** لايبرح الدهر منها فيهم أثر

وفي زحمة القتال قال عمرو بن العاص ( 49/8 ) :

أجئتم الينا تسفكون دماءنا ***وما رمتم وعرمن الأمر أعسر

العمري لمافيه يكون حجاجنا ***الى الله أوهى لو عقلتم وأنكر

تعاورتم ضربة بكل مهند*** إذا شد وردان تقدم قنبر

كتائبكم طورأ نشد وتارة ***كتائبنا فيها القنا والسنور

إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم ***طعان وموت في المعارك أحمر

وقال رجل من كلب مع معاوية يهجوا أهل العراق ويوبخهم (50/8 ):

لقد ضلت معاشرمن نزار ***إذا انقادوا لمثل أبي تراب

وأنهم وبيعتهم عليا ***كواشمة التغضن بالخضاب

تزين من سفاهتها يديها ***وتحسر باليدين عن النقاب

فإياكم وداهية نئودا***تسير إليكم تحت العقاب

إذا ساروا سمعت لخافتيهم ***دوية مثل تصفيق السحاب

يجيبون الصريخ إذا دعاهم***وقد طعن الفوارس بالحراب

عليهم کل سابغة دلاص*** وابيض صارم مثل التهاب

ص: 202

وقال أبو حية بن غزية الأنصاري، وهو الذي عقر الجمل يوم البصرة، وأسمه عمرو :

سائل حليلة معبر عن بعلها*** وحليلة اللخمي وابن كلاع

وأسأل عبيد الله عن فرساننا ***الماثوي متجدة بالقاع

وأسأل معاوية المولي هاربا*** والخيل تمعج وهي جد سراع

ماذا يخبرك المخبر منهم ***عنهم وعنا عند كل وقاع

أن يصدقوك يخبروك بأننا*** أهل الندى قدما نجيب الداعي

أن يصدقوك يخبروك بأننا ***نحمي الحقيقة كل يوم مصاع

ندعوا إلى التقوى ونرعى أهلها ***برعاية المأمون لا المضياع

ونسن للأعداء كل مثقف*** لدن وكل مشطب قطاع

وقال عدي بن حاتم الطائي (51/8 ):

أقول لما أن رأيت المعمعة ***وأجتمع الجندان وسط البلقة

هذا علي والهدى - حقا - معه*** يارب فأحفظه ولا تضيعه

فأنه يخشاه رب فأرفعه*** ومن أراد عيبه فضعفه

أو كاده بالبغي منك فأقمعه

وقال النعمان بن جعلان الأنصاري :

سائل بصفين عنا عند غدوتنا*** أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر

وسل غداة لفينا الأزد قاطبة ***يوم البصيرة لما أستجمعت مضر

ص: 203

لولا الآله وعفو من أبي حسن ***عنهم وما زال منه العفو ينتظر

لما تداعت لهم بالصبر داعية ***إلا الكلاب وإلا الشاء والحمر

کم مقص قد تركناه بمغفرة ***تعوي السباع عليه وهو منعفر

ما أن يؤوب ولا ترجوه أسرته*** إلى القيامة حتى ينفخ الصور

وقال عمرو بن الحمق الخزاعي (52/8) :

تقول عرسي أن لما رأت أرقي*** ماذا يهيجك من أصحاب صفينا ا

لست في عصبة يهدي الإله بهم ***لا يظلمون، ولا بغي يريدونا

فقلت: أني على ما كان من رشد ***أخشى عواقب أمر سوف يأتينا

أدالة القوم في أمريراد بنا ***فأقني حياء وكفي ما تقولينا

وقال حجر بن عدي الكندي :

يا ربناسلم لنا عليا*** سلم لنا المهذب التقيا

المؤمن المسترشد الرضیا ***وأجعله هادي أمة مرضیا

وأحفظه ربي حفظك النبيا ***لاخطل الرأي ولا غبيا

فانه كان لنا وليا*** ثم أرتضته بعده وصيا

وكان علي عليه السلام إذا أراد الحملة هلل وكبر، ثم قال (55/8 ):

من أي يوم من الموت أفر*** أيوم لم يقدر أم يوم قدر؟

وقال النجاشي في أحد أيام صفين يذكر الأشتر (55/8 ):

ولما رأينا اللواء العقاب*** يقحمه الثاني ء الأخزر

ص: 204

كليث العرين خلال العجاج ***واقبل في خيله الأبتر

دعونا لها الكبش كبش العراق*** وقد أضمر الفشل العسكر

فرد اللواء علي عقبه ***وفاز بخطوتها الأشتر

كما كان يفعل مثلها*** إذا ناب معصوصب منكر

فإن يدفع الله عن نفسه*** فحظ العراق به الأوفر

إذا الأشتر الخير خلى العراق ***فقد ذهب العرف والمنكر

وتلك العراق ومن عرفت ***كفقع تضمنه القرقر

ولما ثخن الجرح في كلا العسکرين طاف الإمام علي عليه السلام على صفوف رجاله ثم دعا ببغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت سوداء، ثم نادى : -

أيها الناس، من يشر نفسه الله يربح، وأن هذا اليوم له ما بعده، أن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم، فأنتدبوا لنصرة دين الله، فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى أثني عشر الفأ، وقد وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فشد بهم على أهل الشام، وهو يقول (58/8) :

دبوا دبيب النمل لا تفوتوا ***واصبحوا في حربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا ***أولا ف أني طالما عصيت

قد قلتم لو جئتنا فجيت*** ليس لكم ماشئتم وشيت

بل ما يريد المحيي الميت

ص: 205

وتبعه عدي بن حاتم بلوائه. وهو يقول (58/8 ) :

أبعد عماير وبعد هاشم*** وابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء ضل حلم الحالم ***لقد غصصنا أمس بالأباهم

فاليوم لا نقرع سن نادم*** ليس أمرؤ من حتفه بسالم

فحمل وحمل الأشتر بعدها في أهل العراق كافة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أنتقض، و راهن أهل العراق أتوا عليه، وحتى أفضى إلا إلى مضرب معاوية، وعلي عليه السلام يضرب الناس بسيفه قدما ويقول ( 58/8 -59) :

أضربهم ولا أرى معاوية ***إلا خزر العين العظيم الحاوية

هوت به للنار أم هاوية

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم

قليلا، ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابة (59/8 ) :

أبت لي عفتي وأبي بلائي*** وأخذ الحمد بالثمن الربيح

واقدامي على المكروه نفسي*** وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلماجشأت وجاشت ***مكانك تحمدي أو تستريحي

الأدفع عن مآثر صالحات ***وأحمي بعد عن عرض صحيح

بذي شطب كلون الملح صاف*** ونفس ما تقر على القبيح

ثم قال : -

يا عمرو بن العاص، اليوم صبر وغدة فخر.

ص: 206

قال : ۔

صدقت، أنك ما أنت فيه كقول القائل (59/8 ) :

ماعلتي وأنا جلد نابل ***والقوس منها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل*** الموت حق والحياة باطل

فثنى معاوية رجله من الركاب، ونزل واستصرخ بعك والأشعريين، فوقفوا دونه، وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس.

تعرض عمرو بن العاص لعلي عليه السلام يوما من أيام صفين فحمل عليه علي عليه السلام، فلما كاد أن يخالطه إذ رمی نفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشطر برجليه، فبدت عورته فصرف عليه السلام وجهه عنه، وقام معفرة بالتراب، هاربة على رجليه معتصما بصفوفه، وقال معاوية في ذلك (60/8 - 61):

ألا الله من هفوات عمرو*** يعاتبني على تركي برازي

فقد لاقى أبا حسين عليا ***فآب الوائلي مآب خازي

فلولم يبد عورته لطارت*** بمهجته قوادم أي بازي

فان تكن المنية أطفأته ***فقد أورى بها أهل الحجاز!

فغضب عمرو وقال :

ما أشد تعظيمك عليا، أبا تراب في أمري؟ هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه؟ أفترى السماء قاطرة لذلك دما؟

ص: 207

قال :

لا، ولكنها معقبة لك خزيا.

ولما أشتد الأمر وعظم على أهل الشام بعث معاوية أخاه عتبة بن أبي سفيان إلى الأشعث فكلمه ليستميله فرد الأشعث عليه كلامه بما أفحمه، فلما عاد عتبة إلى معاوية وأبلغه قوله قال له :

لا تلقه بعدها.

وشاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث وما رد الأشعث عليه، فقال النجاشي يمدحه (62/8 ):

يا ابن قيس وحارث ويزيد*** أنت والله رأس أهل العراق

أنت والله حية تنفث السم ***قليل منهاغناء الراقي

أنت كالشمس والرجال نجوم*** لايرى ضوؤها مع الأشراق

قد حميت العراق بالأسل السمر*** وبالبيض ك البروق الرقاق

وسعرت القتال بالشام بالبي*** ض المواضي وبالرماح الدقاق

لا ترى غير أذرع وأكف ***ورؤوس بهامها أفلاق

كلما قلت قد تصرفت الهيجا*** سقيتهم بكأس دهاق

قد قضيت الذي عليك من الحق ***وسارت به القلاس المناقي

أنت حلولمن تقرب بالود ***وللشانئين مرالمذاق

باسما ظنه ابن هند ومن مث*** لك في الناس عند ضيق الخناق

ص: 208

ولما يئس معاوية من الأشعث طلب من عمرو بن العاص أن يكتب إلى عبد الله بن عباس يستميله إلى جانبه لعل الحرب تنتهي فکتب ابن العاص الكتاب وكتب في أسفل الكتاب (68/8 ):

طال البلاء وما يرجى له آس*** بعد الإله سوى رفق ابن عباس

قولا له قول من يرجو مودته:*** لا تنسى حظك أن الخاسر الناسي

أنظر فدى لك نفسي قبل قاصمة ***للظهرليس لها راق ولا آسي

أن العراق وأهل الشام لن يجدوا ***طعم الحياة مع المستغلق القاسي

يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له*** أعظم بذلك من فخر على الناس

أني أرى الخير في سلم الشام لكم*** والله يعلم ما بالسلم من باس

فيها التقى وأمور ليس يجهلها ***وما رأي نوكي كأكياس

فأجابه ابن عباس بكتاب عنفه فيه وأظهر عيوبه وطلب من أخيه الفضل أن

يذيل الكتاب بأبيات ففعل وقال (64/8 ):

يا عمرو حسبك من مكر ووسواس ***فاذهب فليس لداء الجهل من آس

إلا تواتر طعن في نحوركم*** يشجي النفوس ويشفي نحوه الراس

اما علي فأن الله فضله*** بفضل ذي شرف عال على الناس

أن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة ***أو تبعتوها فاناغير أنكاس

قد كان منا ومنكم في عجاجتها*** مالا يرد ، وكل عرضة الباس

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة ***هذا بهذا وما بالحق من باس

ص: 209

لا بارك الله في مصر لقد جلبت ***شرا وحظك منها حسوة الكأس

يا عمرو أنك عار عن مغارمها ***-والراقصات - ومن يوم الجزاكاس

ولما وصل الكتاب الى ابن العاص عرضه على معاوية فأجابه بكتاب مسخط فرده ابن عباس بكتاب أكثر أسحاطة. ولما وصل الكتاب إلى معاوية قال :

هذا عملي بنفسي، لا أكتب - والله - اليه كتابة سنة كاملة وقال (67/8 ):

دعوت ابن عباس الى جل حظه*** وكان أمرأ أهدي إليه رسائلي

فأخلف ظني والحوادث جمة ***وما زاد أن أغلى عليه مراجلي

فقل لأبن عباس أراك مخوفا*** بجهلك حلمي أنني غير غافل

فأبرق وأرعد ما استطعت فأنني*** إليك بما يشجيك سبط الأنامل

وفي أحد أيام صفین عقد معاوية الرئاسة على اليمن من قریش، قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم، ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد وعتبة ابن أبي سفيان، وبسر بن أبي أرطأة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذلك في الوقعات الأول من صفين أفغم ذلك أهل اليمن، وأرادوا أن لا يتأمر عليهم أحد إلا منهم، فقام اليه رجل من كندة، يقال له عبد الله بن الحارث السكوني، فقال :

أيها الأمير، إني قلت شيئا فاسمعه وضعه مني على النصيحة.

قال : هات.

فأنشده :

معاوي أحييت فينا الأحن*** وأحدثت بالشام ما لم يكن

ص: 210

عقدت لبسر وأصحابه ***وما الناس حولك إلا اليمن

فلا تخلطين بناغيرنا*** كماشيب بالماء صفو اللبن

وإلا فدعنا على حالنا*** فأنا وإنا إذا لم نهن

ستعلم أن جاش بحر العراق ***وأبدى نواجذه في الفتن

وشد علي بأصحابه ***ونفسك إذ ذاك عند الذقن

بأناشعارك دون الدثار*** وإنا الرماح وإنا الجفن

وانا السيوف وإنا الحتوف*** وإنا الدروع وإنا المحن

فبکی معاوية (لعله بكاء ضعيف ماكر) ونظر إلى وجوه أهل اليمن فقال :

أعن رضاكم يقول ما قال ؟

قالوا :

لا مرحبا بما قال؛ إنما الأمر إليك، فاصنع ما أحببت .

فقال معاوية :

أنما خلطت بكم أهل ثقتي، ومن كان لي فهو لكم؛ ومن كان لكم فهو لي، فرضي القوم وسكتوا. فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية قام الأعور الشني إلى علي عليه السلام فقال : -

يا أمير المؤمنين، إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية، ولكن نقول : زاد الله في سرورك وهداك إنظرت بنور الله، فقدمت رجالا واخرت رجالا، عليك أن تقول، وعلينا أن نفعل، أنت الإمام، فأن هلكت فهذان من بعدك،

ص: 211

حسنا وحسين عليهما السلام وقد قلت شيئا فأسمعه.

قال عليه السلام :

هاته

فأنشد (68/8 -69):

أبا حسن أنت شمس النهار*** وهذان في الحادثات القمر

وأنت وهذان حتى الممات ***بمنزلة السمع بعد البصر

وانتم أناس لكم سورة*** تقصر عنها أكف البشر

يخبرنا الناس عن فضلكم*** وفضلكم اليوم فوق الخبر

عقدت لقوم أولي نجدة ***من أهل الحياة وأهل الخطر

مسابيح بالموت عند اللقاء*** منا واخواننا من مضر

ومن حي ذي يمن جبله*** يقيمون في النائبات الصعر

فكل يسرك في قومه ***ومن قال، لا، فبفيه الحجر

ونحن الفوارس يوم الزبير*** وطلحة إذ قيل أودى غدر

ضربناهم قبل نصف النهار*** إلى الليل حتى قضينا الوطر

ولم يأخذ الضرب إلا الرؤوس*** ولم يأخذ الطعن إلا الصفر

فنحن أولئك في أمسنا ***ونحن كذلك فيماغبر

فلم يبق أحد من الرؤساء إلا أهدي إلى الشني واتحفه .

إن بسر بن أرطأة بارز عليا يوم صفين فطعنه علي عليه السلام فصرعه،

ص: 212

فأنكشف له، فكف عنه، كما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص. فقال الحارث بن نضير الخشعمي - وكان عدوا لعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة (317-316/6) :

أفي كل يوم فارس لك ينتهي*** وعورته وسط العجاجة باديه

يكف لها عنه علي سنانه ***ويضحك منها في الخلاء معاويه

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه ***وعورة سر مثلها حذو حاذيه

فقولا لعمروثم بسر: ألا انظرا ***لنفسيكما : لا تلقيا الليث ثانيه

ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما ***هما كانتا والله - للنفس واقيه

ولولاهمالم تنجوا من سنانه ***وتلك بما فيها إلى العود ناهية

متى تلقيا الخيل المغيرة صبحه***وفيها علي فأتركا الخيل ناصية

وكونا بعيدأ حيث لا يبلغ القنا*** نحوركما، إن التجارب كافية

بعد أن تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، دعا أركانه إلى شن هجوم على معسكر علي عليه السلام بعد أن وزعهم كل واحد أزاء فارس من أهل العراق، وخلال خمسة أيام، ثم قصد لحمدان بنفسه وارتجز فقال (69/8 ):

لا عيش إلا فلق قحف الهام ***من أرحب وشاكر وشبام

لن تمنع الحرمة بعد العام*** بين قتيل وجريح دام

سأملك العراق بالشام*** أنعى ابن عفان مدى الأيام

ص: 213

فطعن في عرض الحيل مليا، ثم أن همدان تنادت بشعارها، وأقحم سعید بن قیس فرسه على معاوية، واشتد القتال، حتى حجز بينهم الليل، فهمدان تذكر أن سعيد كان يقتنصه (معاوية) إلا أنه فاته راكضا، وقال سعيد في ذلك (70/8 ) :

يا لهف نفسي فأتني معاويه*** فوق طمر كالعقاب هاويه

والراقصات لا يعود ثانيه*** إلا على ذات خصیل طاويه

أن يتم اليوم فكفي عاليه

وانصرف معاوية في ذلك اليوم، ولم يصنع شيئا، وغدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال وارتجز عمرو فقال (70/8 ):

لا عيش أن لم الق يوما هاشما*** ذاك الذي جشمني المجاشما

ذاك الذي أقام لي المآتما*** ذاك الذي يشتم عرضي ظالما

ذاك الذي أن ينج مني سالما ***يكن شجي حتى الممات لازما فطعن في أعرض الخيل مزبدة، وحمل المقال عليه وارتجز فقال (70/8 ):

لا عيش أن لم الق يومأ عمروا ***ذاك الذي أحدث فينا الغدرا

او يبدل الله بأمر أمرا*** لا تجزعي يانفس صبرا صبرا

ضربا هذا ذيك وطعناشزرا*** ياليت ما تجني يكون القبرا!

وفي اليوم الثالث برز بسر بن إرطأة فلقي قیس بن سعد بن عبادة فاشتدت الحرب بينهما، وأرتجز قيس وقال (71/8 ):

أنا ابن سعد زانه عباده ***والخزرجيون كماة سادة

ليس فراري في الوغى بعادة*** أن الفرار للفتى قلادة

ص: 214

يارب أنت لقني الشهادة*** فالقتل خير من عناق غادة

حتى متى تشني لي الوسادة

وطاعن خیل بسر، وبرز بسر فارتجز وقال (71/8 ):

أنا ابن ارطأة العظيم القدر*** مردد في غالي وفهر

ليس الفرار من طباع بسر*** أن أرجع اليوم بغير وتر

وقد قضيت في العدو نذري*** يا ليت شعري كم بقي من عمري

ورجع القوم جميعا، ولقيس الفضل، وتقدم عبيد الله بن عمر الخطاب في اليوم الرابع، لم يترك فارسا إلا جمعه؛ وأستكثر ما أستطاع، فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدة، وهو يقول (71/8 ):

يا رب قيض لي سيوف الكفرة*** واجعل وفاتي بأكف الفجرة

فالقتل خير من ثياب الجبرة*** لاتعدل الدنيا جميعا وبرة

ولا بعوضأ في ثواب البررة

وشد على الخيل، خيل الشام فردها: فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل وقال (72/8 ):

أنعى ابن عفان وأرجو ربي*** ذاك الذي يخرجني من ذنبي

ذاك الذي يكشف عني کربي ***إن ابن عفان عظيم الخطب

يأبى له حبي بكل قلبي ***إلا طعاني دونه وضربي

حسبي الذي أنويه حسبي حسبي

ص: 215

فحمل عليه الأشتر، وطعنه واشتد الأمر، وانصرف القوم، وللأشتر الفضل، فغم ذلك معاوية، وغدا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في اليوم الخامس وكان رجاء معاوية أن ينال حاجته، فقواه بالخيل والسلاح، وكان معاوية يعده ولدا، فلقيه عدي بن حاتم في مذحج، وقضاعة، فبرز عبد الرحمن إمام الحيل وقال (72/8) :

قل لعدي ذهب الوعيد*** أنا ابن سيف الله لا مزيد

وخالد يزيده الوليد ***ذاك الذي قيل له الوحيد

ثم حمل فطعن الناس، فقصده عدي بن حاتم، وسدد إليه الرمح وقال (72/8) :

أرجو الهي وأخاف ذنبي ***ولست أرجوغير عفو ربي

يا ابن الوليد بغضكم في قلبي ***كالهضب بل فوق قنان الهضب

ولما كاد أن يخالطه بالرمح، توارى عبد الرحمن في العجاج، واستر بأسنة أصحابه، ورجع عبد الرحمن مقهورة، وانكسر معاوية، وبلغ أيمن ابن خزيم ما لقي معاوية واصحابه، فشمت کم، وكان ناسكة من أنسك أهل الشام، وكان معتز" الحرب في ناحية عنها فقال ( 73/8 ):

معاوي إن الأمر لله وحده*** وإنك لا تسطيع ضرا ولا نفعا

عبأت رجالا من قريش لعصبة ***يمانية لا تستطيع لها دفعا

فكيف رأيت الأمر إذ جد جده*** لقد زادك المر الذي جئته جدعا

تعبي لقيس أو عدي بن حاتم*** والأشتر يا للناس أغمارك الجدعا

ص: 216

وتجعل للمرقال عمرو وأنه ***الليث لقي من دون غايته ضبعا

وأن سعيدأ إذ برزت لرمحه ***الفارس همدان الذي يشعب الصدعا

علي بضرب الدارعين بسيفه*** إذا الخيل أبدت من سنابكه نقعا

رجعت فلم تظفر بشيء تريده ***سوى قري أعيت وآبت بها طلعا

فدعهم فلا والله لا تستصيعهم*** مجاهرة، فاعمل لقهرهم خدعا

وأن معاوية أظهر لعمرو شماتة، وجعل يقرعه، ويوبخه، وقال :

لقد أنصفتكم؛ أن لقيت سعید بن قيس في همدان، وفررتم، وأنك لجبان یا عمرو.

فغضب عمرو، وقال :

فهل برزت إلى علي! إذ دعاك أن كنت شجاعة كما تزعم؟

وقال (73/8 ):

تسير الى ابن ذي يزد سعيد*** وتترك في العجاجة من دعاكا

فهل لك في أبي حسن علي*** لعل الله يمكن من قفاكا

دعاك الى البراز فلم تجبه*** ولو نازلته شربت يداكا

وكنت أصم - أذناواك عنها*** وكان سكوته عنها مناكا

فأب الكبش قد طحنت رحاه ***بنجدته وما طحنت رحاكا

فما أنصفت صحبك ياابن هند*** أتفرقه وتغضب من كفاكا

فلا والله ما أضمرت خيرا*** ولا أظهرت لي إلا هواكا

ص: 217

وخاطب معاوية فرسانه، الذين انقطعوا عنه بعد تلك المعركة، فقال (74/8) :

لعمري لقد أنصفت والنصف عادتي*** وعاين طعنافي العجاج المعاين

ولولا رجائي أن تؤوبوا بنهزة ***وان تغسلوا عارة وعته الكائن

الناديت للهيجا رجالا سواكم ***ولكنها تحمي الملوك البطائن

أتدرون من لاقيتم فل جيشكم*** لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن

لقيتم صناديد العراق ومن بهم ***إذا جاشت الهيجاء تحمى الضعائن

وما كان منکم فارس دون فارس*** ولكنه ماقدر الله كائن

ولما سمع القوم ما قاله معاوية، أتوه فاعتذروا إليه، واستقاموا إليه على ما يجب.

وتقابل جيش عك من معاوية، وجیش همدان من الإمام علي عليه السلام، فشدت همدان على عك رجالة فأخذت السيوف أرجل عك، فنادى ابن مسروق (75/8):

و يا لعلي بركة كبرك الكمل

فبركوا تحت الجحف، فشجر قم همدان بالرماح، وتقدم شيخ من همدان وهو يقول (75/8 ):

بالبكيل لحمها وحاشد ***نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا

حتى تخرمتكم القماصد ***وأرجل يتبعها سواعد

بذاك أوصى جدكم والوالد

ص: 218

وقام رجل من عك فارتجز، فقال (75/8 ):

تدعون همدان وندعو عكا ***بکو الرجال یالعك بکا

أن خدم القوم فبركآ بركا ***لاتدخلوا اليوم علیکم شکا

قد محك القوم فزيدوا محکا

والتقى القوم جميعا بالرماح، وصاروا الى السيوف، وتجالدوا حتى أدركهم الليل، فأنصرف كل إلى ناحيته، وقال عمرو في ذلك (76/8 ):

إن عكا وحاشدة وبكيلا ***كأسود الضرا ولاقت أسودا

وجثا القوم بالقنا وتساقوا ***بضباة السيوف موتا عتيدا

ازورار المناكب الغلب بالشم*** وضرب المسومين الخدودا

ليس يدرون ما الفرار ولوكا***نفرار لكان ذاك سديدا

يعلم الله ما رأيت من القوم*** ازورار ولا رأيت صدودا

غير ضرب فوق الطلي وعلى الهام*** وقرع الحديد يعلو الحديدا

ولقد قال قائل خدموا السو ***ق فخرت هناك ع قعودا

کبروك الجمال اثقلها الحمل*** فما مشتغل إلا وئيدا

ولما اشترطت عك والشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم. لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية، وشخص ببصره اليه، حتى فشا ذلك في الناس، فبلغ علي عليه السلام فساءه، وجاءه عدي بن حاتم يلتمس عليا عليه السلام أن يعود الى القتال، فأخبره الإمام

ص: 219

عليه السلام أن عامة من معه اليوم يعصيه، وان معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه، وجاء المنذر بن أبي حميصة الوداعي :

وكان شاعر همدان وفارسها - وطلب منه العودة إلى الحرب قائلا :

والله لآخرتنا خير من دنياهم، ولعراقنا خير من شامهم، ولإمامنا أهدى من إمامهم وأنشده : -

إن عکاسالوا الفرائض والاش*** ع رسالوا جوائز بثنية

تركوا الدين العطاء وللفر*** ض فكانوا بذاك شر البرية

وسألنا حسن الثواب من الله ***وصبرا على الجهاد ونية

فلكل ماساله ونواه*** كلنا يحسب الخلاف خطية

ولأهل العراق أحسن في الحرب*** إذا ت دانت السمهرية

ولأهل العراق أحمل للثقل*** إذا عمت البلاد بلية

ليس منا من لم يكن في الله*** وليأياذا الولاء والوصية

فأثنى عليه علي عليه السلام، وانتهى شعره إلى معاوية، فقال : -

والله لأستميلن بالدنيا ثقاة علي، ولأعيش من فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته.

وطلب من فرسان عك بث العيون في معسكر علي عليه السلام، وعبأ منهم جيشا لمقاتلة العراق، وهنا نادي علي عليه السلام : يا لهمدان.

فأجابه سعيد بن قيس، فقال له عليه السلام : احمل

ص: 220

فحمل حتى خالط بالخيل، واشتد القتال، وحطمتهم همدان وألحقتهم بمعاوية، فجزع جزعة شديدة، فأثنى الإمام علي عليه السلام علی همدان، وفي هذا اليوم قال عليه السلام (78/8 ):

ولو كنت بوابا على باب جنة ***لقلت لهمدان ادخلي بسلام

ثم طلب عليه السلام من صاحب لواء همدان أن يكفيه أهل حمص فشدوا عليهم حتى ألجؤوهم قبة معاوية، فقال رجل من همدان عدادة في ارحب مرتجزة (78/8):

قد قتل الله رجال حمص*** روا بقول کذب وخرص

حرصاعلى المال وأي حرص*** قد نكص القوم وأي نكص

او عن طاعة الله وفحوى النص

ولما ردت خيول معاوية أسف وجرد سيفه وحمل في كماة أصحابه فحملت عليه فوارس همدان ففاز منها ركضا، وانكسرت كماته ورجعت همدان إلى مراكزها، فقال حجر بن قحطان الهمداني، يخاطب سعيد بن قيس (79/8 ):

ألا يا ابن قيس قرت العين إذ رأت*** فوارس همدان بن زید بن مالك

على عارفات للقاء عوابس***طوال الهوادي مشرفات الحوارك

معودة للطعن في ثغراتها ***يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك

عباها علي لأبن هند وخيله*** فلولم يفتهاكان أول هالك

وكانت له في يومه عند ظنه ***وفي كل يوم كاسف الشمس حالك

ص: 221

وكانت بحمد الله في كل كربة ***حصونة وعزة للرجال الصعالك

فقل لأمير المؤمنين أن أدعنا ***متى شئت إنا عرضة للمهالك

ونحن حطمنا السمر في حي حمير ***وكندة والحي الخفاف السكاسك

وعك ولخم شائلين سياطهم*** حذار العوالي كالأماء العوارك

وتقدم الأصبغ بن نباته إلى الإمام علي عليه السلام واستأذنه أن يقدم فأذن

له فتقدم وأخذ الراية ومضى بها وهو يقول (82/8 ):

إن الرجاء ب القنوط یدمغ ***حتى متى يرجو البقاء الأصبغ

أما ترى أحداث دهر تنبغ ***فادبغ هواك، والأديم يدبغ

والرفق فيماقد تريد أبلغ ***اليوم شغل وغدة لا تفرغ

نادى الأشتر يوما أصحابه ، فقال :

أما من رجل يشري نفسه لله؟

فخرج أثال بن حجل بن عامر المنهجي فنادى بين العسكرین :

هل من مبارز؟

فدعا معاوية - وهو لا يعرفه – أباه حجل بن عامر المذهجي، فقال : دونك الرجل.

فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه، فبدره بطعنة، وطعنه الغلام، وانتسبا فإذا هو ابنه، فنزلا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، وبكيا، فقال له الأب :

يا بني : هلم إلى الدنيا .

ص: 222

فقال له الغلام :

يا أبي هلم إلى الآخرة.

ثم قال :

يا أبت والله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك ان يكون من رأيك أن تنهاني، واسوأتاه !فماذا أقول لعلي عليه السلام وللمؤمنين الصالحين ؟ كن على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه فانصرف كل منهما إلى معسكره، وقال في ذلك حجل (83/8 ):

إن حجل بن عامر وأثالا ***أصبحا يضربان في الأمثال

أقبل الفارس المدجج في النقع ***أثال يدعو يريد نزالي

دون أهل العراق يخطر كالفحل***على ظهر هیکل ذيال

فدعاني له ابن هند ومازا*** القليلا صحبه أمثالي

فتناولته ببادرة الرمح ***وأهوى بأسمر عسال

فأطعنا وذاك من حدث الدهر*** عظيم، فتى يشيخ بحال

شاجرة بالقناة صدر أبيه ***وعزيز علي طعن أثال

لا أبالي حين أعترضت أثا*** وأثال کذاك ليس يبال

فافترقنا على السلام والنف ***سيقيها مؤخر الآجال

الايراني على الهدى وأراه ***من هداي على سبيل ضلال

فلما انتهى شعره إلى أهل العراق، قال أثال ابنه مجيبا إياه ( 83/8 - 84):

ص: 223

إن طعني وسط العجاجة حجلا ***لم يكن في الذي نويت عقوقا

كنت أرجوبه الثواب من الله*** وكوني مع النبي رفيقا

لم ازل أنصر العراق على الشام*** أراني بفعل ذاك حقيقا

قال أهل العراق إذ عظم الخطب ***ونق المبارزون نقيقا

من فتى يسلك الطريق الى الله*** فكنت الذي سلكت الطريقا

حاسر الرأس لا أريد سوى المو ***ت أرى الأعظم الجليل دقيقا

فإذا فارس تقحم في الروع ***خوب مثل السحوق عقيقا

فبادرني حجل ببادرة الطعن*** وماكنت قبلها مسبوقا

فتلقيته بعالية الرمح ***كلانا يطال القیوقا

أحمد الله ذا الجلالة والقد ***رة حمدا يزيدني توفيقا

إذ كففت السنان عنه ولم أد*** نقتيلا منه ولا تفروقا

قلت للشيخ لست أكفر نعماك ***لطيف الغذاء والتفنيقا

فبراني أخاف أن تدخل النار ***فلا تعصني وكن لي رفيقا

وكذا قال لي فغرب تغريبا*** وشرقت راجعأتشريقا

دعا معاوية، النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما، وشکا لهما موقف الأنصار الذين مع علي عليه السلام منه في الحرب وأخذ يغمز الأنصار، فغضب الرجلان وردا كلامه وغمزه، ولما وصل کلام معاوية والرجلين إلى أنصار علي عليه السلام جمع

ص: 224

قیس بن سعد الأنصار وخطب فيهم وحثهم على تشديد الحرب على معاوية، ثم قال في ذلك (86/8):

يا ابن هند دع التوثب في الحر*** ب إذا نحن بالجياد سرينا

نحن من قد علمت فاد إذا شئ*** ت بمن شئت في العجاج إلينا

إن برزنا في الجمع نلقك في الخز*** رج ندعو في حربنا أبوينا

إن تشأ منك فارس فارس منا***وان ش ئت باللفيف التقينا

أي هذين ما أردت فخذه ***ليس منا وليس منك الهوينا

ثم لانسلخ العجاجة حتى*** تنجلي حربنالنا أو علينا

ليت ما تطلب الغداة أتانا*** أنعم الله بالشهادة عينا

وتحركت خیل معاوية غدوة، فظن قیس بن سعيد أن فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه، فضربه بالسيف فإذا هو ليس به، ثم حمل على آخر يشبهه فقنعه بالسيف ثم أنصرف وهو يقول (87/8 ):

قولوا لهذا الشاتمي معاوية ***أن كلما أو عدت ريح هاوية

خوفتنا أكلب قوم عاوية*** الي يا ابن الخاطئين الماضية

ترفل أرفال العجوز الجارية ***في أثر الساري ليالي الشاتية

فبعث معاوية النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري إلى قيس ليعاتبه ويسأله السلم فخرج النعمان فوقف بين الصفين وصار يخاطب قیسا فرد عليه قيس بما يفحمه ثم قال (88/8 ):

ص: 225

والراقصات بكل أشعث أغبر*** خوض العيون تحثها الركبان

ما ابن المخلد ناسيا ***أسيافنا ***فيمن نحاربه ولا النعمان

تركا البيان وفي العيان كفاية*** لوكان ينفع صاحبيه عيان

خرج عوف بن مجزأة المرادي /فارس الشام / فالتقى العكبر بن جرير الأسدي فارس أهل العراق، وقال ( 89/8):

بالشام أمن ليس فيه خوف بالشام عدل ليس فيه حيف بالشام جود ليس فيه سوف أنا ابن مجزأة وأسمي عوف هل من عراقي عصاه سيف يبرز لي وكيف لي وكيف فقال له العكبر (89/8 -90):

الشام محل والعراق ممطر*** بها أمام طاهر مطهر

والشام فيها أعور ومعور*** أنا العراقي وأسمي عكبر

ابن جرير وأبوه المنذر ***أدن، فأني في البراز قسور

فتطاعنا فقتل عوف ثم تقدم عکبر یرید معاوية فحال أصحابه بينه وبين الوصول إليه ورجع إلى صف العراق، ولم يكلم. فقال له علي عليه السلام :

ما دعاك الى ما صنعت؟ لا تلق نفسك إلى التهلكة.

قال : يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني وبينه، وكان العكبر شاعرة فقال (90/8 -91):

قتلت المرادي الذي كان باغيا***ينادي وقد ثار العجاج : نزال

ص: 226

يقول أنا عوف بن مجزاة والمنى ***لقاء ابن مجزاة بيوم قتال

فقلت له لما علا القوم صوته!***امنیت بمشبوح اليدين طوال

فأوجرته في ملتقى الحرب صعرة ***ملأت بها رعبأصدور رجال

فغادرته يكبو صريعا لوجهه*** ينوء مرارا في مكررجال

وقدمت مهري راكضأ نحو صفهم*** أصرفه في جريه بسمالي

أريد به التل الذي فوق رأسه** معاوية الجاني لكل خبال

يقول - ومهري يعرف الجري جامحا*** بفارسه - قد بان كل ضلال

فلما رأوني أصدق الطعن فيهم*** جلى عنهم رحم العيوب فعالي

فقام رجال دونهم بسيوفهم*** وقام رجال دونه بعوالي

فلو نلته نلت الذي ليس بعدها*** وفزت بفكر صالح وفعال

ولو مت في نيل المنى ألف موتة*** لقلت إذا مامت: - لست مبال

فأبكر أهل الشام لقتل عوف المرادي، وهدر معاوية دم العكبر فقال العكبر :

- يد الله فوق يده.

وقال الحضرمي يرثي ذا الكلاع وجوشعا (92/8 ):

معاوي قد نلنا ونيلت سراتنا ***وجع احياء الكلاع ويعصب

فذو كلع لا يبعد الله داره ***وكل أيمان قد أصيب بحوشب

هما ما هما كانا معاوي عصمة*** متى قلت كانا عصمة لا أكذب

ولو قبلت في هالك بذل فدية ***ف ديتهما ب النفس والأم والأب

ص: 227

طلب معاوية من بسر بن أرطأة مبارزة علي عليه السلام وكان عنده ابن عم له جاء من الحجاز يخطب ابنته، فأبى بسر، فقال له :

إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز علية، فما يدعوك إلى ما أري؟

قال :

الحياء، خرج مني كلام فأنا أستحي أن أرجع عنه، فضحك الغلام وقال (95/8 ):

تنازله یا بسر إن كنت مثله ***وإلا فإن الليث للشاء آكل

كأنك يا بسرابن أرطأة جاهل*** بآثاره في الحرب أو متجاهل

معاوية الوالي وصنواه بعده*** وليس سواء مستعار وثاكل

أولئك هم أولى به منك أنه ***علي فلا تقربه أمك هابل

متى تلقه فالموت في رأسه رمحه*** و سيفه شغل لنفسك شاغل

وما بعده في آخر الخيل عاطف*** ولا قبله في أول الخيل حامل

فقال بسر :

هل هو إلا الموت؟ لابد من لقاء الله .

فغدا علي عليه السلام منقطعة عن خيله ويده في يد الأشتر وهما يتسایران رویدا. يطلبان التل ليقفا عليه، إذ برز له بسر مقنعة بالحديد، لا يعرف، فناداه أبرز ألي أبا حسن.

فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث به حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى

ص: 228

الأرض، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه، فاتقاه بسر بعورته، وقصد أن يكشفها، يستدفع بأسه، انصرف عنه عليه السلام مستدبر، فعرفه الأشتر حين سقط. فقال :

- يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطأة، هذا عدو الله وعدوك .

فقال :

- دعه عليه لعنة الله . أبعد أن فعلها.

فحمل ابن عم بسر من أهل الشام على علي عليه السلام، قال (96/8 ):

أرديت بسرا والغلام ثائره ***أرديت شيخا غاب عنه ناصره

وكلناحام لبسر واتره

فلم يلتفت إليه علي عليه السلام وتلقاه الأشتر فقال له (96/8 ):

في كل يوم رجل شيخ شاغره وعورة وسط العجاج ظاهره تبرزها طعنة كف واتره عمرو وبسر منيا بالفاقره فطعنه الأشتر فکسر صلبه وقام بسر من طعنة علي عليه السلام موليا،

وفرت خيله، وناداه علي عليه السلام :

یا بسر، معاوية كان أحق بهما منك. فرجع بسر الى معاوية، فقال له معاوية : ارفع طرفك، فقد أدال الله عمر منك. قال الشاعر في ذلك (96/8 -97):

ص: 229

أفي كل يوم فارس تندبونه*** له عورة تحت العجاجة بادية

يكف بها عنه علي سنانه ***ويضحك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه ***وعورة بسر مثلها حذو حانية

فقولا لعمر وابن أرطأة أبصرا ***سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية

ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما*** هما كانتا للنفس - والله - واقية

فلولاهمالم تنجوا من سنانه*** وتلك بما فيها عن العود ناهية

وكونا بعيدأ حيث لا يبلغ القنا*** ونار الوغى، إن التجارب كافية

وإن كان منه بعد للنفس حاجة فعود إلى ما شئتما هي هاهي

بعد ملاومة وخصام ومعاتبة في مجلس معاوية بين رهطه وقريش خرج عتبة بن أبي سفيان فنادى على مبعدة من فرسان علي عليه السلام وحاول استرضاءه ومفاوضته إلا أن جعدة رده بحزم، فغضب عتبة وفحش على جعدة فلم يجبه وأعرض عنه، وجمع كل عسكره وباشر جعدة يوم ذاك القتال بنفسه، وجزع عتبة فأسلم خيله وأسرع هاربا إلى معاوية فقال له :

فضحك جعدة، هزمتك لا تغسل رأسك منها أبدا .

وحظي جعدة بعدها عند علي عليه السلام.

وقال النجاشي، فيما كان من فحش عتبة على جعدة (99/8 -100):

إن شتم الكريم يا عتب خطب ***فاعلمنه من الخطوب عظيم

أمه أم هانئ وأبوه ***من مع ومن لؤي حميم

ص: 230

ذاك منها هبير بن أبي وه*** ب أقرت بفضله مخزوم

كان في حربه يعدبألف***حيث يلقى بها القروم القروم

وابنه الجيدة الخليفة منه***هکذا تنبت الفروع الأروم

كل شيء تريده فهوفيه ***حسبه ثاقب ودین قویم

وخطيب إذا تمرت الأوجه*** يخشی به الألد الخصيم

وحليم إذا الحبی حله الجه ***ل، وخفت من الرجال الحلوم

وشكيم الحروب قد علم النا ***س إذا دخل في الحروب الشكيم

وصحيح الأديم نقل العيب*** إذا كان لا يصح الأديم

حامل للعظيم في طلب الحمد*** إذا عظم الصغير اللئيم

ما عسى أن تقول للذهب الأحمر ***عيباهيهات منك النجوم

كل هذا بحمد ربك فيه ***وسوى ذاك كان وهونظيم

وقال الأعور الشني في ذلك يخاطب عتبة بن أبي سفيان (100/8 ):

ما زلت تظهر عطفيك أبهة ***لا يرفع الطرف منك النية الصلف

لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة*** او شحمة بهاشا لها نطف

حتى لقيت ابن مخزوم وأي فتى*** أحيامآثر أباء له سلفوا

إن كان رهط أبي وهب جحاجحة ***في الأولين فهذا منهم خلف

أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه*** حاموا على الدين والدنيا فما وقفوا

هلا عطفت على قوم بمصرعة*** فيها السكون وفيها الأزد والصدف

ص: 231

قد كنت في منظر من ذا ومستمع ***يا عتب لولا سفاه الرأي والصلف

فاليوم يقرع منك السن من ندم*** ما للمبارز إلا العجز والنصف

كان رجل من أهل الشام يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي، من مسالح معاوية وطلائعه، فندب له علي عليه السلام الأشتر، فأخذه الأشتر أسيرة من غير قتال، فجاء به ليلا فشده وثاقة، وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح، وكان الأصبغ شاعرة مفوها، فأيقن بالقتل، ونام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر، وقال (101/8 ):

ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا***على الناس لا يأتيهم بنهار

يكون كذا حتى القيامة أنني ***أحاذر في الإصباح يوم بواري

فياليل أطبق، أن في الليل راحة ***و الصبح قتلي أو فكاك أساري

ولو كنت تحت الأرض ستين واديا ***لما روعتني ما أخاف حذاري

فيا نفس مهلأ إنما الموت غاية ***فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار

أأخشى ولي في القوم رحم قريبة ***أبى الله أن أخشى ومالك جاري

ولو انه كان الأسير ببلده*** أطاع بها، شمرت ذيل إزاري

ولو كنت جار الأشعث الخير فکنى*** وقلا من الأمر المخوف فراري

وجارسعيد أو عدي بن حاتم*** وجارشریح الخير قرقراري

ولو أنني كنت الأسير لبعضهم ***دعوت فتى منهم لفك أساري

أولئك قومي لا عدمت حياتهم*** وعفوهم عني وستر عواري

ص: 232

فغدا به الأشتر إلى علي عليه السلام، فقال :

يا أمير المؤمنين، أن هذا الرجل من مسالح معاوية، أصبته أمس وبات عندنا الليل، فحركنا بشعره، وله رحم، فإن كان فيه القتل فاقتله؛ وان ساغ لك العفو عنه فهبه لنا؛ فقال :

هو لك يا مالك وإذا أصبت منهم أسيرة فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل، فرجع به الأشتر إلى منزله وخلى سبيله..

بعد ليلة الهرير خطب الأشعث أصحابه من كندة، فذكرهم بهذا اليوم العصيب وإنه لم ير مثله من قبل، ومما قال :

- إنا نحن إن تواقفنا غدة، إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات ... أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا.

فاستغل معاوية خطبة الأشعث فقال :

أصاب ورب الكعبة.

ثم قال لأصحابه :

- اربطوا المصاحف على أطراف القنا، وأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح، وقد قلدوها الخيل، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، مصحف دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح وهم ينادون :

- كتاب الله بيننا وبينكم.

فقام إلى الإمام علي عليه السلام كل من أبي الأعور السلمي وعدي بن

ص: 233

حاتم الطائي والأشتر وعمرو بن الحمق، والأشعث بن قيس وطلبوا منه الموادعة.

فقال عليه السلام:

- هذا أمر ينظر فيه .

وبعد خطبة له عليه السلام بين فيها أن معاوية وأصحابه ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وإنه يعرفهم مذ كانوا صغارا فكانوا شر صغار وشر رجال، وإن رفع المصاحف كلمة حق يراد بها باطل، وإنما الخديعة والوهن والمكيدة.

فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فذكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين :

- يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إذا لم تجبهم.

وعبثا حاول إخبارهم وإقناعهم بأنه هو أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وإنه إنما قاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه ، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.

قالوا :

فابعث إلى الأشتر ليأتينك.

وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الحرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله،

ص: 234

فأرسل إليه يزيد بن هانيء، ولكن الأشتر رفض قائلا ليزيد :

- إئته فقل له : ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي؛ إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.

فرجع يزيد إلى علي عليه السلام فأخبره، وفي هذه الأثناء ارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام فقال القوم لعلي عليه السلام :

- والله ما نراك أمرته إلا بالقتال.

فبعث يزيد ثانية إلى الأشتر ولما عاد الأشتر صار يخاطب أهل العراق ويزيدهم تقريعة، فسبوه وسبهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوط وجوه دوابهم، وصاح بهم علي عليه السلام فكفوا، فقام الإمام علي عليه السلام فخطب فيهم ومما قال :

إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورة، وكنت ناهيا فأصبحت منهية، وقد أجبتكم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد.

ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق، هل أجابوا إلى الموادعة أم لا؟ جزعوا وطلبوا من معاوية أن يكررها عليهم فأرسل إليهم عبد الله بن عمرو بن العاص، فأجابه سعد بن قيس الهمداني، فقام الناس إلى علي عليه السلام فقالوا له :

- أجب القوم إلى المحاكمة، ونادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل

ص: 235

بشعر سمعه الناس وهو (214/2 -222):

رؤوس العراق أجيبوا الدعاء*** فقد بلغت غاية الشدة

وقد أودت الحرب بالعالمين ***وأهل الحفائظ والنجدة

فلسنا ولستم من المشركين ***ولا المجمعين على الردة

ولكن اناس لقوا مثلهم ***القاعدة ولكم عدة

فقاتل کل على وجهه*** يقحمه الجد والحدة

فان تقبلوها ففيها البقاء*** وامن الفريقين والبلدة

وان تدفعوها ففيها الفناء ***وكل بلاء الى مدة

فحتى متى مخض هذا السقاء ***ولابد أن تخرج الزبدة

ثلاثة رهط هم أهلها ***وان يسكتوا تخمد الوقدة

سعيد بن قيس وكبش العراق ***وذاك المسود من كندة

وكتب معاوية كتابة الى الامام علي عليه السلام. ومما قاله : أن نحكم بيني وبينكم حكمين مرضيين، أحدهما من أصحابي والاخر من أصحابك، فيحكمان بيننا بما أنزل الله ، فهو خيزلي ولك)).

فكتب اليه الامام علي عليه السلام، ومما قاله عليه السلام :

((ثم إنك قد دعوتني الى حكم القرآن وقد علمت أنك لست من أهل القرآن ولا حكمه تريد، والله المستعان، فقد أجبنا القرآن الى حكمه ولسنا ایاك أجبنا، ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا)).

ص: 236

وتكاتب الامام علي مع عمروبن العاص عدة كتب وعضه فيها ودعاه الى دین الحق وقال له :

((فان الذي اعجبك من الدنيا ما نازعتك اليه نفسك، ووثقت به منها المقلب عنك، ومفارق لك فلا تطمئن الى الدينا فانها غرارة، ولوا عتبرت بما مضى الحفظت مابقي، وانتقصت منها بماوعظت به)).

وجاء الاشعث الى علي عليه السلام واخبره برضى الناس وسرورهم الى مادعوا إلية من حكم القرآن، وقال :

-فإن شئت أتیت معاوية فسألته مایرید.

فأمره الإمام عليه السلام فذهب الى معاوية وسأله :

- لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟

قال :

- لنرجع، نحن وانتم إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث منا رجلا، ونأخذ عليهما ان يعملا بما في كتاب الله ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.

فقال الأشعث: هذا هو الحق.

ولما عاد إلى الإمام فأخبره فبعث عليه السلام قراء من أهل العراق وبعث معاوية قراء من أهل الشام. فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف، فنظروا فيه وتدارسوا.. فرضي قراء الشام بعمرو بن العاص ورضي قراء العراق بأبي موسى

ص: 237

الاشعري، ولكن الامام علي عليه السلام لم يرض بالاشعري بل رشح ابن عباس. ولكن الاشعث عارض فاقترح الإمام عليه السلام أن يكون الاشتر، ولكن الاشعث أصر أن يكون الأشعري هو الحكم. فنزل الامام عند طلبه فجاء الاشتر والاحنف بن قيس وابن الكواء علي عليه السلام وطلبوا منه عدم النزول عند رأي الأشعث وأصحابه .

فلما بلغ ذلك أهل الشام، بعث ایمن بن خزيم الاسدي، وكان معتزلا معاوية بهذه الأبيات، وكان هواه أن يكون الأمر لأهل العراق (2/ 231) :

لوكان للقوم رأي يعصمون به ***من الضلال رموكم ياابن عباس

لله در ابية انما رجل ***ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن***لايهتدي ضرب أخماس لاسداس

ان يخ عمرو به يقذفه في لجج ***هوي به النجم تيسأبين أتياس

ابلغ لديك علي غير عاتبه ***قول امرىء لايرى بالحق من باس

ما الأشعري بمأمون أبا حسن*** فاعلم هديت فليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم ***ان ابن عمك عباس هو الآسي

ولما بلغ الناس هذا الشعر، طارت أهواء قوم من اولیاء علي عليه السلام

وشيعته الى ابن عباس، وأبت القراء إلا أبا موسی.

وكان أيمن بن خزيم رج؟ عابد مجتهدة، وقد كان معاوية جعل له فلسطين ، على أن يتابعه ويشایعه على قتال علي عليه السلام، فقال أيمن وبعث بما اليه (223/2):

ص: 238

ولست مقاتلا رجلا يصلي ***على سلطان آخر من قريش

له سلطانه وعلي إثمي*** معاذا الله من سفير وطيش

أأقتل مسلما من غير جرم ***فليس بنافعي ماعشت عيشي

فلما رضي أهل الشام بعمرو، وأهل العراق بابي موسى، أخذو في سطر كتاب الموادعة، وكانت صورته :

(هذا ماتقاضى عليه على أمير المؤمنين ومعاوية أبن أبي سفيان).

فقال معاوية :

- بئس الرجل أنا أن أقررت انه أمير المؤمين ثم قاتلته!

وقال عمرو :

- بل نكتب اسمه واسم أبيه ؟ انما هو اميركم، فاما اميرنا فلا.

فلما اعيد الكتاب امر بمحوه. فقيل للامام علي عليه السلام أن لا يمحو صفحتة امير المؤمنين فذكرهم بان هذا اليوم صلح الحديبية، اذ حذفت كلمة رسول الله من النبي محمد صلى الله عليه وأله عندما طلب النبي من الامام علي عليه السلام ذلك قائلا :

((ياعلي، إني لرسول الله. وان محمد بن عبد الله، لن يمحو عني الرسالة كتابي لهم : من محمد بن عبد الله، فاكتبها وامح ما اراد محوه، اما انك مثلها ستعطيها وانت مضهد)).

وكتبوا کتاب الصلح وشهد على الكتاب شهود وقريء الكتاب على أهل

ص: 239

العراق والشام فرضو به. وارتفعت أصوات تعارض في الكتاب وتطالب الرجوع عنه، فقال الامام علي عليه السلام :

- بعد أن كتبناه ننقضه ! أن هذا لايحل. وقال عليه السلام :

- ان ما فعلت مافعلت لما بدا فيكم من الحور والفشل عن الحرب.

وهكذا دعا معاوية عمرو بن العاص وصار يحذره من الاشعري ويوصيه.

وخرج عمرو مغضبا كانه كره ان يوصي ثقة بنفسه. وقال لاصحابه حين خرج :

- انما اراد معاوية أن يصغر امر ابي موسى لأنه علم اني خادعه غدا. فاحب ان يقول : أن عمرو لم ينخدع اريبا. فقد كدته بالخلاف عليه.

وقال في ذلك (241/2-242):

يشجعني معاوية بن حرب*** كأني للمؤدب مستكين

واني عن معاوية غني ***بحمد الله والله المعين

وهون امرعبد الله عمدأ ***وقال له على ما كان دين

فقلت له ولم اردد عليه ***مقالته وللشاكي أنين

توى أهل العراق يذب عنهم ***وعن جيرانهم رجل مهين

فلو جهلوه لم يجهل علي ***وغث القول يحمله السمين

ولكن خطبهم فيهم عظيم*** وفضل المرء فيهم مستبين

فإن أظفر فلم أظفر بوعد ***وإن يظفر فقد قطع الوتين

ص: 240

الا ياعمرو عمرو قبيل سهم ***امن طب اصابك ذا الجنون

دع البغي الذي أصبحت فية ***فان البغي صاحبه لعين

الم تهرب بنفسك من علي*** بصفين وانت بها حنين

حذار أن تلاقيك المنايا*** وكل فتى سيدركه المنون

ولسنا عائبين عليك الا*** لقولك انني لا استكين

ثم أقبل الناس على قتلاهم فدفنوهم.

كان حابس بن سعد الطائي قد قتل في صفين فمر به عدي بن حاتم، ومعه ابنه زيد، فرآه قتيلا فأخبر أباه أنه خاله فلعنه أبوه ولعنه خاله ولما سأل عن قاتل خاله خرج اليه رجل من بكر بن وائل، فقال : أنا قتلته.

فحمل عليه زید فطعنه بالرمح وقتله، فصار أبوه يسبه ویشتمه فضرب زید

فرسه فلحق بمعاوية وادنى مجلسه، وقال زيد في قتل البكري ( 243/2 - 244):

(و) من مبلغ ابناء طبي بأنني ***ثارت بخالي ثم لم اثأثم

تركت أخا بکرينوء بصدره*** بصفين مخضوب الجبين من الدم

وذكرني تأري غداة رأيته ***قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم

قتيلا يظل الحي يثنون بعده ***عليه بای من نراه وأنعم

لقد فجعت طي بحلم ونائل ***وصاحب غارات ونهب مقسم

لقد كان خالي ليس خال كمثله*** دفاع ألظيم واحتمالا لمغرم

ولما اراد أبو موسى المسير قام اليه شریح بن هاني فاخذ بيده واوصاه بالثبات

ص: 241

في الحق والحذر من الخديعة وقال له (245/2 ):

ابا موسی رميت بشر خصم ***فلا تضع العراق فدتك نفس

واعط الحق شامهم وخذه*** فان اليوم في سهل كأمس

وان غدا يجيء بما عليه ***کذاك الدهر من سعدونحس

ولا يخدعك عمرو أن عمروا*** عدو الله مطلع كل شمس

له خدع يحار العقل منها ***مموهة مزخرفة بلبس

فلا تجعل معاوية بن حرب*** کشيخ في الحوادث غیر نکس

هداه الله للاسلام فردا ***سوى عرس النبي واي عرس

فقال ابو موسی :

- ماينبغي لقوم اتموني أن يرسلوني لادفع عنهم باط، او اجر اليهم حقا. ومثل هذا نصحه عبد الله بن عباس بكلام بليغ، ومما قاله :

- أن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك، فقال بعض شعراء قریش (212/2) :

والله ماكلم الأقوام من بشر*** بعد الوصي علي كابن عباس

اوصى ابن قيس بامر فيه عصمته ***لو كان فيها ابو موسی من الناس

اني اخاف عليه مكر صاحبه*** ارجو رجاء مخوف شيب بالياس

وكان النجاشي صديقة لابي موسى، فكتب اليه يحذره من عمرو بن العاص (248 - 246/2) :

ص: 242

يؤمل أهل الشام عمروا وانني ***الأمل عبد الله عند الحقائق

وان أبا موسى سيدرك حقنا ***اذا مارمى عمروا باحدى البوائق

وحققه حتى يدر وريده*** ونحن على ذاكم كاحقق حانق

على أن عمروا لا يشق غباره ***اذا ماجرى بالجهد اهل السوابق

فلله ما يرمي العراق وأهله*** به منه ان لم يرمه بالصواعق

فكتب اليه ابو موسی :

- اني لارجو ان ينجلي هذا الأمر، وأنا فيه على رضا الله سبحانه .

ثم أن شریح بن هاني جهز أباموسی جهازة حسنة، وعظم امره في الناس

ليشرف في قومه، فقال الاعور الشني في ذلك يخاطب شريحا( 248/2 ):

زففت ابن قيس زفاف العروس ***شريح الى دوحة الجندل

وفي زقك الأشعري البلاء ***ومايقض من حادث ينزل

وما الأشعري بذي اربه*** ولاصاحب المظهر الفيصل

ولا آخذأ حظ أهل العراق ***ولا قيل هاخذه لم يفعل

يحاول عمروا وعمروله ***خداع ويأتي من علي

فان يحكما بالهدى يتبعا ***وان يحكما بالهوى الاميل

يكونا كتيسين في قفرة ***يكونا نقيقامن الحظنل

فقال شريح:

- والله لقد تعجلت رجال مساءتنا في ابي موسى، واطعنوا عليه بأسوء

ص: 243

الطعن، وظنوا فيه ما لا عصمة منه ان شاء الله .

وسار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خیل عظيمة، حتى اذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه. واوصاه، وودعه كما ودع شريح أبا موسی بعد آن اوصاه . وكان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس؛ اخذ بيده واوصاه بكلام له معني تاريخي، ولكي يختبر ما في نفسه لعلي عليه السلام قال له :

- فان لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قریش

الشام من شاؤوا، أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا.

فقال ابو موسی :

- قد سمعت ما قلت.

ولم ينكر ما قاله من زوال الامر عن علي عليه السلام

فرجع الاحنف الي علي عليه السلام فقال له :

- اخرج ابو موسی والله زبدة سقائه في أول مخضه : لا أرانا الابعثنا رجلا لاینکر خلعك.

وشاع وفشا أمر الاحنف وأبي موسى في الناس، فبعث الصلتان العبدي وهو بالكوفة الى دومة الجندل بهذه الابيات ( 249/2 -250):

لعمرك لا الفى مدى الدهر خالعا*** عليا بقول الاشعري ولاعمرو

فان يحكما بالحق نقبله منهما ***والا اثرناها كراغية البكر

ولسنا نقول الدهر ذاك اليهما ***وفي ذاك لوقلناه قاصمة الظهر

ص: 244

ولكن نقول: الأمر والنهي كله*** اليه، وفي كفيه عاقبة الامر

وما اليوم الا مثل امسي واننا ***لفي وشل الضحضاح اولجة البحر

فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على أبي موسى واستبطأه القوم وظنوا به الظنون.

ولما أبطأت الاخبار على معاوية بعث المغيرة بن شعبة، وكان مقيمة بالطائف لم يشهد الحرب - فاتی دومة الجندل فدخل على أبي موسی کالزائر له فقال :

- یا اباموسی، ما تقول فيمن أعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟

قال :

- أولئك خير الناس، خفت ظهورهم من دمائم، وحمصت بطوهم من أموالهم.

ثم أتى عمروة فاجابه على سؤاله فقال :

- أولئك شر الناس، لم يعرفوا حقا، ولم ينكروا باطلا.

فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له :

- قد ذقت الرجلين : أما عبد الله بن قيس (الاشعري) فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر. وهو في عبد الله بن عمر، واماعمرو بن العاص فهو صاحبك الذي تعرف وقد ظن الناس انه يرومها لنفسه، وانه لايرى انك أحق بهذا الأمر منه. وكان عمرو بن العاص يقدم اباموسى الأشعري في الكلام في دومد الجندل بقوله :

ص: 245

- انك حمیت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلي، وانت اكبر مني سنة فتكلم أنت، ثم اتكلم أنا. فجعل ذلك سنة وعادة بينهما، وانما كان مكرة وخديعة واغترارة ان يقدمه. فيبدأ يخلع علي ثم يرى رأيه. وزيادة في طمأنته اعطاه صدر المجلس، وكان لا يتكلم قبله، واعطاه التقدم في الصلاة والطعام، لا يأكل حتى يأكل، وإذا خاطبه فانمايخاطبه بأجل الأسماء، ويقول له :

- یا صاحب رسول الله

حتى اطمأن اليه، وظن انه لايغشه، وبعد أن اطمأن عمرو محابيته لأبي موسى سأله رأيه فقال :

- أرى أن تخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شوری بين المسلمين، يختارون من شاؤوا۔

فقال ابوموسی :

- الرأي والله مارأيت.

فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون فبدأ أبو موسى الكلام فأخبرهم بما اتفقا عليه، وصدق عمرو. وقدمه ليتكلم فدعاه ابن عباس أن يترك الكلام لعمرو أولا ومما قاله له ابن عباس :

- ولا أمن أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فاذا قمت في الناس خالفك.

وكان أبو موسی رجلا مغفلا.

ص: 246

فقال :

- ایها عنك انا قد اتفقنا :

فتقدم أبوموسی، وبعد الحمد قال : وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع معاوية وعلي، وان يستقبل هذا الأمر فيكون شوری بين المسلمين يولون امورهم من احبوا. واني خلعت علية ومعاوية؛ فاستقبلوا اموركم، وولوا من رأيتموه لهذا الامر، اهلا. ثم تنحي.

فقام عمرو بن العاص فقال :

أن هذا قد قال ماسمعتم. وخلع صاحبه، وانا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة فانه ولي عثمان والطالب بدمه، واحق الناس بمقامه.

فقال له ابو موسی :

- مالك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت انما مثلك.. كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تتركه يلهث)).

فقال عمرو :

انما مثلك ((کمثل الحمار يحمل اسفارا)).

وحمل شریح بن هانيء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل ابن عمرو على شریح فقنعه بالسوط، فقام الناس فحجزوا بينهما. والتمس أصحاب علي عليه السلام أبا موسی فرکب ناقته ولحق بمكة

ص: 247

وكان ابن عباس يقول :

- قبح الله اباموسی، لقد حذرته، وهديته الى الرأي فماعقل.

ورجع عمرو الى منزله من دومة الجندل فكتب الى معاوية (2 /250 - 257):

اتتك الخلافة مزفوفة ***هنيئا مريئاتقر العيونا

تزف اليك زفاف العروس ***بأهون من طعنة الدار عينا

وما الاشعري بصلد الزناد*** ولا خامل الذكر في الاشعرينا

ولكن اتيحت له حية ***يظل الشجاع لها مستكينا

فقالوا وقلت وكنت امرا***جهجه بالخصم حتى يلينا

فخذها ابن هند على بعدها*** فقد دافع الله ماتحذرونا

وقد صرف الله عن شامكم ***و عدو مبيناوحربا زبونا

وقام کردوس بن هاني مغضبا فقال ( 257/2 ):

الا ليث من يرضى من الناس كلهم*** بعمرو وعبد الله في لجة البحر

رضينا بحكم الله لا حكم غيره*** وبالله ربا والنبي وبالذكر

وبالاصلع الهادي علي أمامنا*** رضينا بذاك الشيخ بالعسر واليسر

رضينا به حيا وميتا وانه*** أمام هدى في الحكم والنهي والامر

فمن قال لا قلنا بلى ان امره*** الأفضل ما يعطاه في ليلة القدر

ومالابن هند بيعة في رقابنا ***وما بيننا غير المنقفة السمر

ص: 248

وضرب يزيل الهام عن مستقره*** وهيهات هيهات الرضا آخر الأمر

ابتلي اشياخ الاراقم ستة ***أسب بها حتى أغيب في القبر

فتشاتم عمرو وابو موسی من ليلته، فاذا ابن عم لابي موسى يقول (2092) :

أبا موسى خدعت وكنت شيخا*** قريب القمر مدهوس الجنان

رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس*** بامر لاتنوء به بدان

وقد كنا نجمجم عن ظنون*** فصرحت الظنون عن العيان

مفض الكف من ندم وماذا ***يرد عليك عظك بالبنان

وشمت أهل الشام بأهل العراق، وقال كعب بن جميل شاعر معاوية (259- 258/2)

كأن اباموسى عشية اذرح ***يطوف بلقمان الحكيم بواربه

ولما تلاقوا في تراب محمد***نحت بابن هند قریش مناسيه

سعي بابن عفان ليدرك ثأره***وآوی عباد الله بالثار طالبه

وقد غشيتنا في الزبير غضاضة*** وطلحة أذقامت عليه نوادبه

فرد ابن هند مكله في نصابه *** ومن غالب الاقدار فالله غالبه

وما لابن هند من لؤي بن غالب***نظیر وان جاشت عليه اقاربه

فهذاك ملك الشام واف سنامه***وهذاك ملك القوم قد جب غاربه

يحاول عبد الله عمروا وانه *** ليضرب في بحر عريض مذاهبه

ص: 249

دحادهوة في صدره فهدت به ***الى اسفل الجب الظنون كواذبه

فرد عليه رجل من أصحاب علي عليه السلام ( 259/2 ):

غدرتم وكان الغدر منكم سجية ***فماضرنا غدر الليئم وصاحبه

وسميتم شر البرية مؤمنا ***كذبتم فشر الناس للناس كاذبه

وقال كعب بن جميل - وهو شاعر أهل الشام - بعد رفع المصاحف،

يذكر ایام صفين ويحرض معاوية (8 /40):

معاوي لاتنهض بغير وثيقة*** فانك بعد اليوم بالذل عارف

تركتم عبيد الله بالقاع مسندا*** يمج ثجيعأ والعروق نوازف

الا انما تبكي العيون لفارس ***بصفين جلت خيله وهو واقف

ينوء وثعلوه شآبيب من دم ***كما لاح في جيب القميص اللفائف

تبدل من أسماء اسياف وائل ***واي فتى لو أخطأته المتالف

وفرت تمیم: سعدها وربابها ***وخالفت الجعراء فيمن يخالف

وكتب معاوية الى ابي ايوب خالد بن زید الانصاري، . صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان سيدة معظمأ من سادات الانصار، وكان شيعة علي عليه السلام كتابة من سطر واحد: حاجيتك : ((لا تنس الشيباء ابا عذرها، ولا قاتل بكرها))

وكتب في أسفل كتابه (8 /44):

ابلغ لديك ابا ایوب مالكة ***انا وقومك مثل الذئب والنقد

ص: 250

اماقتلتم أمير المؤمنين فلا***ترجو الهوادة منا آخر الابد

ان الذي نلتموه ظالمین له*** ابقت حزازته صدعة على كبدي

اني حلفت يمينا غير كاذبة ***لقد قتلتم امامأغير ذي أود

لاتحسبوا انني انسى مصيبته*** وفي البلاد من الأنصار من احد

قد أبدل الله منكم خير ذي كلع ***واليحصبيين أهل الخوف والجند

ان العراق لنافقع بقرقرة***او شحمة بهاشا ولم يكد

والشام ينزلها الابرار بلدتها ***أم، وبيضتها بحرية الاسد

فكتب أيوب الى معاوية :

- اما بعد: فانك كتبت ((لاتنس الشيباء اباعذرها ولا قاتل بكرها)) فضربتها مثلا بقتل عثمان. وما نحن وقتل عثمان! ان الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد، واهل الشام عن نصرته لأنت، وان الذين قتلوه لغير الأنصار.

وكتب في آخر كتابه (8 /45):

لا توعدنا ابن حرب اننا نفر ***الانبتغي ود ذي البغضاء من أحد

واسطوا جميعا بني الأحزاب كلكم*** لسنا نريد رضاكم آخر الابد

نحن الذين ضربنا الناس كلهم ***حتى استقاموا وكانوا عرضة الاود

والعام قصرك منا ان تبث لنا*** ضرب يزيل بين الروح والجسد

اماعلي فانالانفارقه ***مارفرف الأل في الدوية الجرد

اما تبدلت منا بعد نصرتنا*** دين الرسول - اناسا ساكني الجلد

ص: 251

لايعرفون أضل الله سعيهم*** الأوتباعكم ياراعي النقد

فقد بغى الحق حتما اثرذي كلع ***واليحصبيون طرأ بيضة البلد

فلما اتي معاوية كتاب أبي أيوب کسره بن الضحاك بن سفیان صاحب راية بني سليم مع معاوية مبغضا اياه واهل الشام وله هوى مع أهل العراق : وعلي بن ابي طالب عليه السلام وكان يكتب باخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري وهو مع أهل العراق فينجد بها عليا عليه السلام ولما كان الامام علي عليه السلام قد بعث بكتابه الى معاوية قبل ليلة الحرير بيومين أو ثلاثة. انه :

((مصبح معاوية ومناجز له)).

بعث ابن الضحاك إلى ابن الطفيل :

- اني قائل شعرة اذ عربه أهل الشام وارغم به معاوية. فقال ليلا لبستمع

أصحابه (15/ 120 - 121) :

الا ليت هذا الليل اطبق سرمدا*** علينا وانا لانرى بعده غدا

وياليته ان جاءنا بصباحه ***وجدنا الى مجرى الكواكب مصعدا

حذار علي انه غير مخلف*** مدى الدهر مالبي المليون موعدا

كأني به في الناس كاشف رأسه*** على ظهرخوار الرحالة اجردا

يخوض غمار الموت في مرحجنة*** ينادون في نقع العجاج محمدا

فوارس بدر والنضير وخيبر ***وأحد فيهزون الصفيح المهندا

ويوم حنين جالدوا عن نبيهم ***فريقا من الأحزاب حتى تبددا

ص: 252

هنالك لا تلوي عجوز على أبنها ***وأن كثرت من قول: نفسي لك الفدا

فقل لأبن حرب مالذي أنت صانع*** أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا

وظني بأن لا يصبر القوم موقفا ***يقفه وأن لم يحرك الدهر للمدى

فلا رأي إلا تركنا الشام جهرة ***وأن أبرق الفجفاج فيها وارعدا

وتناقل الناس كلمة علي عليه السلام :

((لأناجزهم مصبحا)).

فقال الأشتر ( 121/15 -122):

قددنا الفضل وللسل***م رجال وللحروب رجال

فرجال الحروب كل خبر سر***ومقحم لا تهده الأهوال

يضرب الفارس المدجج بالسي ***ف إذا خريفي الوغى الأكفال

يا ابن هندش الحيازيم للمو ***ت ولا تذهبن بك الأمال

إن في الصبح أن بقيت لأمرا ***ناوی من هوله الأبطال

أن تكونوا قتلتم النفر البيض ***وغالت أولئك الآجال

فلنا مثلهم غداة التلاقي ***وقليل من مثلهم إبدال

يخصبون الوشيج طعنا إذا جر ***ت من الموت بينهم أذيال

طلب الفوز في المعاد وفيه***تستهان النفوس والأموال

فلما أتى معاوية كتاب علي عليه السلام أكتمه عن عمرو بن العاص أياما .

ثم دعاه فاقرأه أياه فشمت به عمر، ولم يكن أحد من قريش أشد أعظاما لعلي

ص: 253

عليه السلام من عمرو بن العاص منذ لقيه وصفح عنه، فقال عمرو فيما كان أثار به على معاوية (207/15 ):

ألا لله درك ياابن هند ***ودر الآمرين لك الشهود

أتطمع لا أبالك في علي ***وقدقرع الحديد على الحديد

وترجو أن تخبره بشك ***وتأمل أن يهابك بالوعيد

لقد كشف القناع وجرحربا*** يشيب لهولها رأس الوليد

له جأواء مظلمة طحون ***فوارسها تلهث كالأسود

يقول لها إذا رجعت اليه*** وقدمت طعان القوم عودي

ف ان وردت فأولها ورودا*** وأن صدت فلبس بذي صدود

وماهي من أبي حسن بنکر*** ولا هومن مسائك بالبعيد

وقلت له مقالة مستكين ***ضعيف الركن منقطع الوريد

دعن لي الشام حسبك يا ابن هند*** من السوءات والرأي الزهيد

ولو أعطاکهاما زدت عزا ***ولا لك لو أجابك من مزید

فلم تكسر بذاك الرأي عودا***لركته ولا ما دون عود

وبعد التحكيم سمع معاوية أن عليا عليه السلام تحمل إليه مقب"، هاله ذلك فخرج من دمشق معسكر) وبعث إلى كور الشام فصاح بها :

- إن عليا قد سار إليكم.

وكتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس؛ ذكر في الكتاب كيف أن

ص: 254

الحكمين قد اتفقا على عدم نكث العهد الذي ثبتاه في كتاب التحكيم، ودعاهم الى أن يتجهزوا للحرب فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة، حتى قدمت عليهم عيونهم أن عليا أختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة وأنه قد رجع عنكم إليهم.

وكان عمار بن عقبة بن معيط مقيمة بالكوفة، وكان يكتب إلى معاوية بالأخبار سرة، وكان أخوه الوليد يبعث إليه شعرة يحرضه منه (115/2 -116):

وان يك ظني في عمارة صادقا ***ينم ثم لا يطلب بدهل ولا وتر

يبيت وأوتار ابن عفان عنده ***مجييمة بين الخورفق والقصر

تمشي رخي البال مستشار القوى*** كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو

إلا أن خير الناس بعد ثلاثة ***قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

فأجابه الفضل بن عباس بن عتبة (115/2 -116):

أتطلب ثأرا لست منه ولا له*** ولا لأبن ذكوان الصفوري والوتر

كما أفتخرت بنت الحمار بأمها ***وتنس أباها إذ تسامي أولو الفخر

ألا أن خير الناس بعد نبيهم*** و وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر

وأول من صلى وصنو نبيه*** واول من أردى الغواة لدى بدر

فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم ***لكانوا له من ظلمة حاجزي النصر

كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله ***وأن يسلموه للأحابيش من مصر

فعند ذاك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري إلى التجهز والذهاب إلى

ص: 255

الكوفة لأغراب الأعراب هناك والإغارة على المسالح، فأقبل الضحاك فنهب الأموال وقتل من لقي من الأعراب، فاستصرخ أمير المؤمنين عليه السلام الناس، عقب غارة الضحاك، فتقاعدو عنه، فخطبهم فقال :

ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم..

فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة فلم يزل مغذأ في اثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر، فوافقه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، ومن أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم، فمضى الضحاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له وأصحابه أثرا .

وأصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد، وفيما هو يبحث عن الماء سمع قائلا يقول (122/2 ):

دعاني الهوى فازددت شوقا وربما*** دعاني الهوى من ساعة فأجيب

وأرقني بعد المنام وربما ***أرقت لساري الهم حين يؤوب

فان أك قد أحببتكم ورأيتكم ***فأني بداري عامر لغريب

وعلى أثر هذه الوقفة كتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين عليه السلام حين بلغه خذلان أهل الكوفة، وتقاعدهم به، طلبه فيه السماح له باللحوق به فكتب الإمام عليه السلام إلى أخيه بأنه لا حاجة له بذلك قائلا :

والله ما أحب أن تملكوا معي أن هلكت، ولا تحسبن ابن أمك - ولو أسلمه الناس - متخشعا ولا متضرعة، أنه لكما قال أخو بني سليم (120/2 ):

ص: 256

فأن تسأليني كيف أنت فأنني*** صبور على ريب الزمان صلیب

يعز علي إن ثرى بي كآبة ***فيشمت عاد أو يساء حبيب

ولما وضعت حرب صفين أوزارها وسلم الحسن عليه السلام الأمر إلى معاوية أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة الأمر قال أسير إلى معاوية ولما مثل بين يديه ، وعنده عمرو بن العاص، طلب منه أن يقتله قائلا :

لم تلد الحية إلا الحية.

ولما أجابه عبد الله جوابا مفحمة، إذ ذكره جزيمته أمام علي عليه السلام في صفين، أمر معاوية به إلى الحبس، فكتب عمرو إلى معاوية (31/8 36):

أمرتك أمرأ حازما فقصيتني*** وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

وكان أبوه يا معاوية الذي ***رماك على حرب بحز الغلاصم

فقتلنا حتى جرت من دمائنا ***بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا أبنه والمرء يشبه أهله*** ستقرع أن أبقيته سن نادم

فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم، فكتب في جوابه من السجن :

معاوي أن المرء عمرا أبت له ***ضغينة صدر ودهاغير سالم

يرى لك قتلي يا ابن حرب، وإنما ***يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم

على انهم لا يقتلون أسيرهم*** إذا كان فيه منعة للمسالم

وقد كان منا يوم صفين نفرة ***عليك، جناها هاشم وابن هاشم

قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى ***وماما مضى إلا كأخفات حالم

ص: 257

فأن تعف عني تعف عن ذي قرابة*** وأن تقتلي تستحل محارمي فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم، ثم قال :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة*** الى الله في اليوم العبوس القماطر

ولست أرى قتلي فتى ذا قرابة*** له نسب في الحي كعب وعامر

بل العفو عنه بعدما خاب قدحه ***وزلت به إحدى الجدود العواثر

وكان أبوه يوم صفين محنقة ***علينا، فاردته رماح بحابر

ص: 258

8. الخوارج

غلس علي عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء، عاشر شهر ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين - وقيل عاشر شهر صفر، ثم زحف الى اهل الشام بعسكر العراق. والناس على رایا تم واعلامهم، وزحف اليهم اهل الشام وقد كانت الحرب أكلت الفريقين، ولكنها في أهل الشام اشد نكاية، واعظم وقعا، فقد ملوا الحرب، وكرهوا القتال وتضعضعت ارکانم.

اذ كان الأشتر قد حمل على اهل الشام فكسر فيهم رمحه ثم رجع وخرج رجل من أهل الشام طالبة من الامام علي عليه السلام أن يرجع أهل العراق الى عراقهم. فيخلي اهل الشام بينه وبين العراق. ويرجع أهل الشام الى شامهم فيخلي أهل العراق بينهم وبين الشام. ولكن الامام عليه السلام رفض هذه الدعوة قائلا :

- إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعص في الأرض وهم سکوت مذعنون؛ لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون على من معالجة في جهنم .

ص: 259

فاشتد القتال بالنبل والحجارة والرماح والسيوف وعمد الحديد فاجتلدوا من صلاة الغداة من اليوم المذكور الى نصف الليل. وافترقوا عن سبعين الف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة الحرير المشهورة.

وكان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة، وعلي عليه السلام في القلب والناس يقتتلون. ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى. ولما بلغ معاوية اندحار جيشه وانتصار جيش الامام علي عليه السلام لجأ الى عمرو بن العاص، فقال :

- یاعمرو : انما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل، فما ترى؟ فنصحه أن يلقي الى القوم امرة أن قبلوه. اختلفوا، وان ردوه اختلفوا، وهو: أن يدعوهم إلى كتاب الله. وكان رفع المصاحف المار ذكره في وقعة صفين، فوافقه معاوية، فاختلف اصحاب علي عليه السلام في الرأي : فطائفة قالت : القتال، وطائفة قالت المحاكمة الى كتاب الله، وكانت خديعة عمرو بن العاص، مع ابي موسى الأشعري. ونتيجة الاختلاف في الرأي خرج جماعة وفيهم قراء على الامام عليه السلام فسموا ب ((الخوارج)

ولما دخل الامام علي عليه السلام الكوفة دخل معه كثير من الخوارج، وتخلف منهم بالنخيلة، وغيرها خلق كثير لم يدخلوها. فدخل نفر من رؤوسهم عليه عليه السلام فقالوا له :

- تب من خطيئتك، واخرج بنا الى معاوية، نجاهده .

فاجابهم الامام عليه السلام :

ص: 260

- اني كنت قد نهيتكم عن الحكومة فابيتم. ثم الآن تجعلوها تبا؟

فقال له عليه السلام احدهم :

- أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لاقتلنك! اطلب بذلك وجه الله ورضوانه فقال عليه السلام :

- بؤسأ لك ما اشقاك!

وكانت الخوارج في اول ما انصرفت عن رايات علي عليه السلام تمدد الناس قتلا، فاتت منهم طائفة على النهر الى جانب قرية فقتلوا هناك عبد الله بن خباب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقروا بطن جارية له. فعزم علي عليه السلام على الخروج من الكوفة الى الحرورية، وهي قرية على بعد ميلين من الكوفة كان اجتماع الخوارج فيها فنسبوا اليها.

ولما انتهى اليها هو وعسكره رماهم الخوارج والامام عليه السلام يمنع عسكره الرد عليهم حتى تكرر الرمي منهم ثلاث مرات، فقال عليه السلام لهم :

- الان طاب القتال، احملوا عليهم. وكان أميرهم، اول ما اعتزلوا، ابن الكواء، ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي، ولما واقفهم علي عليه السلام بالنهروان، قال : لاتبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوكم.

فحمل منهم رجل على صف علي عليه السلام فقتل منهم ثلاثة ثم قال (2 /265-272):

أقتلهم ولا أرى عليا*** ولوبدا اوجرته الخطيا

ص: 261

فخرج اليه علي عليه السلام فضربه فقتله.

وكان الامام علي عليه السلام قد وجه اليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم ولكن دون جدوى؟

اذ اعتقدوا أن الأمام مذنب، وعليه أن يتوب ! وهو الشرط الذي وضعوه العودتهم إلى صفه. وهكذا بدأ القتال بينه عليه السلام وبين الخوارج في النهروان فقتل منهم خلقا كثيرا.

وبعد وقعة النهروان اجتمع نفر من الخوارج بمكة فتذاكروا أمر المسلمين، فعابوهم وعابوا اعمالهم عليهم، وذكروا اهل النهروان، فترحموا عليهم وقال بعضهم لبعض:

- لو أن شرينا انفسنا لله عزوجل فاتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم، وارحنا منهم العباد والبلاد وثأرنا باخوتنا الشهداء بالنهروان. فتعاقدوا عند انقضاء الحج، فقال عبد الرحمن بن ملجم : انا اكفيكم عليا، وقال البرك بن عبد الله التميمي انه صاحب معاوية .

وقال عمروبن أبي بكر التميمي : انا اكفيكم عمرو بن العاص .

وتعدوا لشهر رمضان في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم علي عليه السلام. وفيما يخص الامام علي عليه السلام فقد تنبأ بمقتله ومن يقتله وذلك يوم جمع عليه السلام الناس للبيعة، فجاءه عبد الرحمن بن ملجم فرده علي عليه السلام مرتين اوثلاثا، ثم مد يده فبايعه، فقال له علي عليه السلام :

ص: 262

ما يحبس أشقاها ! فوالذي نفسي بيده لتخضين هذه من هذه. ثم أنشد (6 /11-112):

اشدد حيازيمك للموت*** فان الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت اذا حل بوادیکا

وفي رواية أخرى... فلما بلغ ابن ملجم اعطاه عليه السلام وقال له (115/6):

اريد حياته ويريد قتلي*** عذيرك من خليلك من مراد

وصدق الامام عليه السلام اذ كمن له ابن ملجم في المسجد - بعد اتفاقه مع قطام بنت الاخضر فبعثت معه من يساعده - وضرب الامام على جبهته وذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة اربعين، وقيل ليلة سبع عشرة من شهر رمضان. فأدخل ابن ملجم على علي عليه السلام فقال عليه السلام :

- النفس بالنفس؛ إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وان سلمت رأيت فيه رأيي.

فقال ابن ملجم:

- ولقد اشتريته بالف - يعني السيف - وسمته بالف فان خانني فابعده الله.

فنادته أم كلثوم : يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين!

قال : انما قتلت أباك.

ص: 263

قالت : ياعدوالله، إني لأرجو أن لا يكون عليه بأس.

قال : فاراك انما تبكين علية، اذا لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الارض لاهلكتهم. واخرج ابن ملجم من بين يديه عليه السلام وهو يقول (118/6-119):

(و) نحن ضربنا، يا ابنة الخير اذ طغى*** أباحسن مأمومة فتغطرا

ونحن حللنا ملكه من نظامه ***بضربة سيف اذ علا وتجبرا

ونحن كرام في الصباح أعزة*** اذا المرء بالموت ارتدي وتأزرا

وبعد أن فاضت روح الامام علي عليه السلام الى الخبير اللطيف فدفنه الحسن عليه السلام دعا بابن ملجم وامر بضرب عنقه، فاستوهبت أم الهيثم بنت الاسود الخنعية جثته منه عليه السلام فوهبها لها، فاحرقتها بالنار.

فقال ابن ابي مياس الفزاري، وهو من الخوارج (6 /125):

فلم أر مهر ساقه ذو سماحة*** كمهر قطام من غني ومعدم

ثلاثة آلاف وعبدوقينة*** وضرب علي بالحسام المصمم

فلا مهر أغلى من علي وان غلا ***ولا فتك إلآ دون فتك ابن ملجم

وقال عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ( 125/9 -126):

وهز علي بالعراقين لحية*** مصيبتها جلت على كل مسلم

وقال سيأتيها من الله نازل ***وينضبها أشقى البرية بالدم

فعاجله بالسيف شلت يمينه*** الشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

ص: 264

فياضربة من خاسر ضل سعيه*** تبوأ منها مقعدا في جهنم

ففاز أمير المؤمنين بحظه ***وان طرقت احدى الليالي بمعظم

الا انما الدنيا بلاء وفتنة*** حلاوتهاشيبت بصاب وعقلم

وقال أحد بني عبد المطلب يرثي علي عليه السلام ولم يذكر أسمه (6 /126):

ياقبر سيدنا المجن سماحة ***صلى الاله عليك ياقبر

ماضر قبرا انت ساكنه ***ان لايحل بارضه القطر

فليذري سماح كفك بالثرى*** وليورق بجنبك الصخر

والله لوبك لم اجد أحدا*** الا قتلت لفاتني الوتر

ويجدر أن نذكر انه فيمن فارق الامام علي عليه السلام والتحق بمعاوية يزيد بن حجبية التميمي من بني تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل وكان عليه السلام قد استعمله على الري ودست بني فكسر الخوارج. واحتجن المال لنفسه، فحبسه عليه السلام. وجعل معه سعدة مولاه، فقرب يزيد ركائبه، وسعد نائم، فالتحق بمعاوية وقال (83/4 -84):

(و) خادعت سعدأ وارتحت بي ركابي*** الى الشام واخترت الذي هو افضل

وغادرت سعدة نائمأ في عباده*** وسعد غلام مستهام مضلل

وعندما وصل الرقة، وهي من حيز معاوية، عليها الضحاك بن قيس قال يهجوا الامام علي عليه السلام (84/4 ):

ص: 265

ياطول ليلي بالرقات ولم أنم ***من غير عشق حيث نفسي ولاسقم

لكن لذكر امور جمة طرقت*** أخشى على الأصل منها زلة القدم

اخشى عليا عليهم أن يكون لهم*** مثل العقور الذي عفى على إرم

وقد كان زیاد بن خصفة اليمني، قال لعلي عليه السلام يوم هرب یزید بن حجية :

ابعثني يا أمير المؤمنين في أثره ارده اليك. فبلغ قوله يزيد بن حجية فقال في ذلك (4 /84 -85) :

(و) ابلغ زيادة انني قد كفيته ***اموري وخليت الذي لا أعاتبه

وباب شديد موثق قد كفيته ***عليك، وقد اعيت عليك مذاهبه

هبلت اما ترجوغنائي ومشهدي ***اذا الخصم لم يوجد له من يجاذبه

فاقسم لولا أن أمك أمنا ***وانك موسى ما طفقت اعاتبه

واقسم لو أدركتني ما رددتني*** کلاة قد اصطفت إليه جلائبه

وكتب إلى العراق شعرة يذم فيه عليا عليه السلام، فدعا عليه وقال لأصحابه عقب الصلاة :

ارفعوا أيديكم فأدعوا عليه.

فدعا عليه وأمن أصحابه، وكان دعاؤه عليه السلام عليه : -

"اللهم أن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين ولحق بالقوم الفاسقين، فاكفنا مکره وکیده واجزه جزاء الظالمين".

ص: 266

ورفع القوم أيديهم يؤمنون.

وكان في المسجد عفاف بن شرحبيل بن أبي رهم اليمني شيخا كبيرة، فقال عفاف :

على من يدعو القوم؟

ولما أخبروه عنفهم فضربوه حتى كاد يهلك، فطلب زیاد بن خصفة أن يتركوا له ابن عمه فأمرهم عليه السلام بترکه ومشى معه ومسح التراب عن وجهه وعفاف يقول :

والله لا أحبكم ما سعيت ومشيت، والله لا أحبكم ما أختلفت الدرة الجرة، وزياد يقول :

ذلك أضر لك، ذلك شر لك.

وقال زیاد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفافة (85/4 -86):

دعوت عفافأ للهدى فأستغثني*** وولى فريأ قوله وهو مغضب

ولولا دفاعي عن عفاف ومشهدي ***هوى بعفاف - عوض عنقاء مغرب

أنبئه أن الهدى في أتباعنا ***فيأبى، ويضربه المراء فيشغب

فان لا يشاعنا عفاف فأننا ***على الحق ما غنى الحمام المطرب

سيغني الأله عن عفاف وسعيه*** إذا بعثت للناس جواة محرب

قبائل من حي معبر ومثلها*** يمانية لاتنشني حين تندب

لهم عدد مثل التراب وطاعة ***تود، ويأس في الوغى لا يؤنب

ص: 267

ومن كلام له عليه السلام کلم به الخوارج قوله (129/4 ):

أصابکم حاصب، ولا بقي منكم أبر : أبعد أيماني بالله، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، فأؤبوا شر قاب، وأرجعوا على أثر الأعقاب. أما أنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعة، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة.

واعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أصحابه وأنصاره في الجمل وصفين قبل التحكيم! وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم، وهذه الأخبار عن حالهم، وقد وقع ذلك.. ولقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي، والموت الزؤام.

ونحن نذكر من أخبار الخوارج ها هنا طرفا.

فمنهم نجدة بن عويمر الحنفي، وكان من رؤسائهم، وله مقالة مفردة من مقالة الخوارج. وله أتباع وأصحاب؛ واليهم أشار الصلتان العبدي بقوله (133 - 132/4) :

أرى أمه شهرت سيفها ***وقد زيد في سوطها الأصبحي

بنجدية أو صرورية ***وأزرق يدعو إلى أزرقي

فملتنا أننا مسلمون ***علی دین صديقنا والنبي

أشاب الصغير وأفتى الكبير ***مر الغداة وكبیر العشي

إذا ليلة أهرمت يومها*** أتى بعد ذلك يوم فتي

ص: 268

نروح ونغدو لحاجتنا*** وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته ***وتبقى له حاجة مابقي

وكان نجدة يصلي بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة في كل جمعة وعبد الله يطلب الخلافة فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.

وقال الراعي يخاطب عبد الملك (133/4 ):

أني حلفت على يميني برة ***لا اكذب اليوم الخليفة قيلا

ما أن أتيت بما خبيت وافدأ ***يوما أريد لبيعتي تبديلا

ولما أتيت نجيدة بن عويمر*** أبغي الهدى فيزيدني تضليلا

من نعمة الرحمن لا من حيلتي ***أني أعدله علي فضولا

ولما حارب عثمان بن عبد الله بن مقمر الخوارج متحديا أياهم ولم ياخذ بنصيحة حارثة بن بدر الغداني، وحاربهم عثمان الى أن غربت الشمس فاجلت الحرب عنه قتيلا وانهزم الناس، وأخذ حارثة بن بدر الراية وصاح بالناس :

أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجية، وبلغ قتل عثمان البصرة فقال شاعر من بني تميم (142/4 ):

مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز*** وأعقبنا هذا الحجازي عثمان

فارعد من قبل اللقاء ابن معمر*** وابرق، والبرق اليماني خوان

فضمت قريش غلها وسمينها*** وقيل بنوتیم بن مرة غزلان

فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم*** و بماقام فيه للعراقين إنسان

ص: 269

إذا قيل من حامي الحقيقة؟ أومأت*** إليه معدبالأكف وقحطان

وكان حارثة بن بدر صاحب شراب معاقرة الخمرة فقال فيه رجل من قومه (143/4) :

ألم تر أن حارثة بن بدر ***يصلي وهو أكفرمن حمار

ألم تر أن للفتيان حظا*** وحظك في البغايا والعقار

وأن حارثة لما عقدوا له الحراسة، وسلموا إليه الراية، أمرهم بالثبات، وقال لهم :

إذا فتح الله لهم فللعرب زيادة فريضتين، وللموالي زيادة فريضة، وندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم قوة قد فشت فيهم الجراحات، وماتطأ الخيل الا على القتلى، فبينا هم كذلك، إذ أقبل جمع من الشراة من جهة اليمامة يقول المكثر : أهم مئتان، والمقتل أهم أربعون، فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم، فصاروا كوكبة واحدة فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزمة، وقال

لأصحابه (143/6 -144):

وكرينوا ودولبوا ***أو حيث شئتم فأذهبوا

وقال : ۔

أير الحمار فريضة لعبيدكم*** والخصيتان فريضة الأعراب

ولما استطاع المهلب بن أبي صفرة أن يهزم الخوارج قال شاعر من أزد (146/4) :

ص: 270

أن العراق وأهله لم يخبروا ***مثل المهلب في الحروب فسلموا

أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة*** وأقل تهلي إذا ما أحجموا

وأبلی مع المغيرة - يؤميذ - عطية بن عمرو العنبري، من فرسان تميم وشجعاهم، ومن شعر عطية (146/4 ):

يدعى رجال للعطاء وإنما ***يدعى عطية للطعان الأجرد

وقال فيه شاعر من بني عطية (146/4 ):

مافارس إلا عطية فوقه*** إذا الحرب أيدت عن نواجذها الفما

به هزم الله الأزارق بعدما ***أباحوا من المصرين حلا ومحرما

وحمل رجل من الأزارق على رجل من أصحاب المهلب فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله، ومال الخوارج - بأجمعهم - على العسكر فأهمزم الناس وقتل منهم سبعون رجلا، وثبت المهلب وأبنه المغيرة يومئذ، وعرف مكانه .

ويقال جال المهلب جولة، ويقول الأزد، بل كان يرد المنهزمة ويحمي أدبارهم، وبنو تميم تزعم أنه فر، وقال شاعرهم (149/4 ):

بسولاف أضعت دماء قومي ***وطرت على مواشكة درور

وقال آخر من بني تميم (149/4 -150) :

تبعنا الأعور الكذاب طوعا*** يزجي كل أربعة حمارا

فياندمي على تركي عطائي*** معاينة وأطلبه ضمارا

إذا الرحمن يسرلي قفولا*** فخرق قرى سولاف نارا

ص: 271

دعى المهلب ب(الأعور الكذاب) لأصابة عينه بسهم، ولأنه كان يصطنع الأحاديث النبوية في صلاح الكذب في ثلاثة :

"الصلح بين رجلين، ورجل يرضي أمرأته، والحرب أنها خدعة ".

وفيه يقول رجل من الأزد (150/4 ):

أنت الفتی کل الفتى*** لو كنت تصدق مايقول

وأن المهلب بن أبي صغرة عندما عبر دخی وصار الى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة فأقام به، وأقام الناس ثلاثة مستريحين. وفي عاقول وسولاف يقول ابن الرقيات (151/4) :

ألا طرقت من آل مية طارق*** على أنها معشوقة الدل عاشقة

تراءت وأرض السوس بيني وبينها*** ورستاق سولاف حمته الأزارقة

أجازت علينا العسكرين كليهما ***فباتت لنا دون اللحاف معانقة

فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم أرتحل، والخوارج بسلي وسلبري فنزل قريبا منهم.

وبعد قتال شرس في اليوم الثالث حتى الليل ولما أصبحوا غدوا على القتلى؛ فأصابوا ابن المحاوز قتيلا (أحد قادة ابن المهلب)، ففي ذلك يقول رجل من الخوارج (153/6 - 154) :

بسلي وسلبري جماجم فتية*** كرام وعقرى من كميت ومن ورد

وقال آخر (154/4) :

ص: 272

بسلي وسلبري جماجم فتية ***كرام وصرعى لم توسد خدودها

وقال رجل من موالي المهلب : -

لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة رميت به رجلا فصرعته ثم رميت به رجلا فأصبت به إذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثا؛ وفي ذلك يقول، رجل من الخوارج (154/4):

أتانا باحجار ليقتلنا بها*** وهل يقتل الأبطال ويحك بالحجر

وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم ستي سلبري وقتل ابن المحاوز (154/4) :

ويوم سلي وسلبري أحاط بهم ***مناصواعق لاتبقي ولا تذر

حتى تركنا عبيد الله منجدا***كما تجدل جذع مال منقعر

ويروى أن رجلا من الخوارج يوم ستي حمل على رجل من أصحاب

المهلب؛ فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح : -

يا أمتاه .

فصاح به المهلب :

لاكثر الله منك في المسلمين !

فضحك الخارجي وقال (154/4 ):

أمك خير لك مني صاحبا*** تسقيك محضأ وتعل رائبا

وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم (155/4 ):

ص: 273

فان تك قتلى يوم سلي تتابعت ***فكم غادرت أسيافنا من قماقم

غداة نكر المشرفية فيهم*** بسولاف يوم المأزق المتلاطم

وقال رجل من بني يربوع (157/4 ):

سقى الله المهلب كل غيث*** من الوسمي ينتحر أنتحارا

فما وهن المهلب يوم جاءت*** عوابس خيلهم تبغي الفوارا

وقال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم (157/4 -158):

ألا يامن لصلب مستهام*** مريح القلب قدم المزونا

لهان على المهلب مالقينا ***إذا ما راح مسرورة بطينا

يمر السابري ونحن شعث*** كأن جلودناگسیت طحينا

وفي إحدى المعارك قاتل عمر بن عبيد بن معمر والي فارس في عهد المهلب فهزمهم وفلق جبين زعيمهم قطري بن الفجاءة وبينما هم ينهزمون مر بهم الغرز بن يهزم العبدي، فسألوه عن خبره وأرادوا قتله فأقبل على قطري وقال : -

أني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجابه إليها. فخلا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له (161/4) :

فشدو وثاقي ثم الجوا خصومتي ***إلى القطري ذي الجبين المفلق

فحاججتهم في دينهم فحجتهم ***ومادينهم غير الهوى والتخلق

ثم رجعوا وتكاتفوا، فسار إليهم عمر بن عبيد الله ومعه عطية بن عمرو،

ص: 274

ومجاعة بن سعر فالتقوا فألح عليهم عمر حتى أخرجهم، وصار يضربهم بعود في يده فركض إليه قطري في فرس طمر وعمر على مهر فأستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج : -

یا ابا ثمامة، أن عدو الله قد رهقك فأنحط قطر على فرسه (سرجه) وطعنه مجاعة وعلى قطري درعان فهتكهما وأسرع السنان في رأس قطري فكشط جلده ونجا.

فقال يزيد بن الحكم لمجاعة (162/4 ):

ودعاك دعوة مرهق فأجيته*** عمر وقد نسي الحياة وضاعا

فرردت عادية الكتيبة عن فتى*** قد كاد يترك لحمه أوزاعا

وبعد مقتل یزید بن رويم وزوجته (لطيفة) على أيدي الخوارج قال الشاعر (160/4):

مواقفنا في كل يوم كريهة*** أسر وأشفي من مواقف حوشب

دعاه أبوه والرماح شوارع*** فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب

فلو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ***رأى مارأي في الموت عيسى بن مصعب وقال آخر (165/4 ):

نجي حليلته وأسلم شيخه ***نصب الأسنة حوشب بن يزيد

وقال قائل يذكر أحدى المعارك مع الخوارج :

ويوم بجي تلاقيته ***ولولاك لاصطلم العسكر

ص: 275

وقال آخر (166/4 -167) :

خرجت من المدينة مستميتا*** ولم اك في كتيبة ياسمينا

أليس من الفضائل أن قومي*** غدوا مستلئمين مجاهدينا

وياسمين جارية للزبير نصب لواء لها وقال :

من أراد فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادی بالخوارج والزبير بن علي (167/4 ):

يا ابن أبي الماحوز والأشرار*** كيف ترون ياكلاب النار

شد أبي هريرة الهرار ***يهركم بالليل والنهار

ألم تروا جيا على الضمار ***تمسي من الرحمن في جوار

وفي المعركة في الأحواز حارب المهلب الخوارج فدفعهم إلى رام هرمز؛ وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغمة لعتاب بن ورقاء، ويقال :

أنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة هو الذي قتله وخاض إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشی همدان :

ان المكارم أكملت أسبابها ***لأبن الليوث الغرمن همدان

للفارس الحامي الحقيقة معلما*** زاد الرفاق وفارس الفرسان

حتى تداركهم أعز سميدع ***فحماهم إن الكريم يماني

الحارث بن عميرة الليث الذي*** يحمي العراق إلى قرى نجران

ص: 276

ومن الخوارج کانت امراة مع قطري بن الفجاة يقال لها أم حكيم وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها، وأحسنهم بالدين تمسكة، وخطبها جماعة منهم فردهم ولم يجبهم، فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس وترتجز، فتقول (170/4 -171):

أحمل رأس قد سئمت حمله*** وقد مللت دهنه وغسله

ألا فتى يحمل عني ثقله

والخوارج يعدوها بالآباء والأمهات.

وفي إحدى معارك الخوارج نودي على السبي يومئذ فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا، وكان ذلك الرجل من مجوس كانوا اسلموا، ولحقوا بالخوارج، ففرض لكل رجل منهم خمس مائة، فكان ذلك الرجل يأخذ أم حفص، فشق ذلك على قطري بن الفجأة، وقال : ۔

ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون الفا، أن هذه الفتنة فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتي به قطري، فبارك عمله فقال رجل من الخوارج (175/4 ):

كفانا فتنة عظمت وجلت ***بحمد الله سيف أبي الحديد

أهاب المسلمون بها وقالوا*** على فرط الهوى هل من مزيد

فزاد أبو الحديد بنصل سيف*** رقيق الحد فعل فتى رشيد

وكان العلاء بن مطرف السعدي بن عمر القنا، وكان يحب أن يلقاه في صدر

ص: 277

مبارزة فلحقه عمرو القنا يومئذ؛ وهو منهزم، فضحك منه وقال متمثلا (175/4) :

تمناني ليلقاني لقيط ***اعام لك ابن صعصعة بن سعد

ثم صاح به :

انج یا ابا المصدی.

وهي كنية عمرو القنا، وكان عمرو القنا قد حمل معه امرأتين إحداهما من بني جنية، يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية، وحملها أولا، وتخلص بابنة عمه، فقال في ذلك (176/4 ):

الست کریمأ إذ أقول لقيتني ***قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل

ولو لم يكن عودي نضارة لأصبحت*** تجر على المتنين ام جميل

ولما هزم عبد العزيز بن عبد الله أسيد أمام جيش الخوارج جاء حبيب بن المهلب الى أخيه خالد

(وكان أميرا على البصرة) فأخبره فغضب ولم يصدقه فأستتر حبيب في بني عامر بن صعصعة، وتزوج هناك في أستتاره الهلالية وهي أم أبنة عباد بن حبيب، وقال الشاعر يخطئ رأيه (177/4 ):

بعثت غلامأ من قريش فروقة*** وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا

أبى الذم وأختار الوفاء وأحكمت***قواه، وقد ساس الأمور وجربا

وقال الحارث بن خالد المخزومي (177/4 ):

مر عبد العزيز إذ راء عيسى ***وابن داود نازلا قطريا

ص: 278

عاهد الله أن نجاملمنايا*** ليعودن بعدها حرمیا

يسكن الخل والصفاح فغوريا ***مرارة ومرة نجديا

حيث لا يشهدوا القتال يسمع ***يوما لكسرخیل دویا

وفي معركة بين الخوارج بقيادة قطري بن الفجأة وبين المهلب بن أبي صفرة في مدينة كازرون، وهي من أخصب مدن سابور، قال النعمان بن عقبة (185/4 ):

ليث الحواضن في الخدور شهدننا*** فيرين من وغل الكتيبة أولا

وقروا وكنا في الوقار كمثلهم*** إذ ليس تسمع غير قدم أو هلا

رعدوا فأبرقنا لهم بسيوفنا ***ضربأ ترى منه السواعد تختلا

تركوا الجماجم والرماح تحيلها ***في كازرون كما تحيل الحنظلا

بعد تلك المعركة اختار الخوارج لهم رئيسا يدعی صالح بن مخراق أعدهم للبيات. فلما انتصف الليل وكان المهلب قد بعث ابنه المغيرة يستطلع أمرهم رجع المغيرة إلى أبيه فسری صالح بن المخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم وعليهم الحريش بن هلال، وهو يقول (187/4 ):

أني لمذ للشراة نارها*** ومانع مما أتاها دارها

وغاسل بالسيف عنها عارها

فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين، وخرج اليهم الحريش بن هلال وهو يقول (188/4) :

وجدتمونا وقرأ انجادا ***لاكشفا ميلا ولا أوغادا

ص: 279

هيهات لا تلفوننا رقادا ***لا بل إذا صیح بنا أسيادا

ومن إفرازات هذه الحرب أن أبا حرملة العبدي - وهو من عسكر المهلب - قال يوما يهجو المهلب (190/4 ):

عدمتك يا مهلب من أمير*** أماتندى يمينك للفقير؟

بدولاب أضعت دماء قومي ***وطرت على مواشكة درور

فقال له المهلب :

ويحك! والله أني لاقيكم بنفسي وولدي .

قال : ۔

جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكرهه منك، ما كلنا يجب الموت.

قال : ۔

ويحك! وهل عنه من محيص؟

قال :

لا، ولكننا نكره التعجيل؛ وأنت تقدم عليه أقداما .

قال المهلب :

ويلك! أما سمعت قول العلجة اليربوعي (190/4 ):

ونادى منادي الحي أن قد أتيتم*** وقد شربت ماء المزادة أجمعا

فقلت لكأس الجميها فأنما*** نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا

فقال :

ص: 280

بلى وقد سمعت، ولكن قولي أحب إلي منه :

ولما وقفتم غدوة وعدوكم ***الى مهجتي وليت أعداءكم ظهري

وطرت ولم أحفل ملامة جاهل ***يساقي المنايا بالردينية السمر

فقال المهلب :

- بئس حشو الكتيبة أنت، والله يا أبا حرملة، أن شئت إذنت لك فانصرفت إلى أهلك.

قال :

بل أقيم معك أيها الأمير.

فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه (191/4 ):

يرى حتمأ عليه أبوسعید ***جلاد القوم في أولى النفير

إذا نادى الشراة أبا سعيد ***مشي في رفل محكمة القتير

كانت ركب الناس قديمة من الخشب ... فأمر المهلب بضرب الركب من الحديد :- فهو أول من أمر بضربها وفي ذلك يقول عمران بن عصام الغزي (194/4) :

ضربوا الدراهم في إمارتهم*** وضربت للحدثان والحرب

حلقأترى منها مرافقهم***كمراكب لجمالة الجرب

وجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم، وهما زياد بن عبد الرحمن، من بني عامر بن صعصعة، والآخر من آل عقيل من رهط الحجاج، فظم

ص: 281

المهلب زيادة الى أبنه حبيب، وضم الثقفي الى إبنه يزيد، وأوصاهما بمفاداة الخوارج، وبعد قتال شديد قتل زیاد بن عبد الرحمن، وفقد الثقفي، وفي اليوم الثاني قد وجد الثقفي فدعاه المهلب، ودعا بالغداء فجعل النبل يقع قريبة منهم ويتجاوزهم، والثقفي بعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي (195/4 ):

ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق ***وقبل اختراط القوم مثل العقائق

غداة حبيب في الحديد يقودنا*** يخوض المنايا في ظلال الخوافق

حرون إذا ما الحرب طارشرارها*** وهاج عجاج النقع فوق المفارق

فمن مبلغ الحجاج أن أمينة ***زياد أطاحته رماح الأزارق

كان الحجاج قد رزق أهل البصرة دون أهل الكوفة فقال له عتاب وقد طلبه الحجاج :

ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة.

فرفض المهلب، فتلاسنا وكادت أن تنشب حرب بينهما لولا المغيرة الذي مشي بين أبيه وبين عتاب وقال لعتاب : -

يا أبا ورقاء إن الأمير يصير إلى كل ما تحب.

وسال أباه أن يرزق أهل الكوفة ففعل فصلح الأمر: - فقال رجل من

الأزد من بني أياد بن الأسود (196/4 ):

ألا أبلغ أبا ورقاء عنا*** فلولا أننا كناغضابا

على الشيخ المهلب إذ جفانا*** للاقت خيلكم منا خرابا

ص: 282

وخرج عمرو بن القنا - وهو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنادى على جیش الخوارج. يا أيها المحلون هل لكم في الطرد، فقد طال عهدي به، ثم قال (198/4 ):

ألم تر إنا من ثلاثين ليلة*** جديب وأعداء الكتاب على خفض

فالتحم القوم وصرع المغيرة، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل، وكان يقول يومئذ (198/4 ):

أنا ابن خير قوم هلال*** شیخ علی دین أبي بلال

وذاك ديني آخر الليالي

وبعد أن غار صالح بن مخراق (الخارجي) على السرح شق على المهلب فطلب من أولاده أن يأخذوا الطريق عليهم، فبادر بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل أبنا المهلب؛ فسبق بشر الى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح وهو يقول (199/4 ):

نحن قمعناكم بشل السرح*** وقد نكأنا القرح بعد القرح

فتنا خوا عليه وأستردوا السرح منه بعد أن قتلوه.

وأبلی یومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال غلام له يقال له حلاج :

والله لوددنا أن فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم، فأستلب مما هناك جاريتين.

فقال له مولاه ابن المنجب :

ص: 283

وكيف تمنيت، ويحك، أثنتين ؟

فقال :

لأعطيك أحداهما وآخذ الأخرى. فقال ابن المنجب (200/4 ):

حلاج أنك لن تعانق طفلة ***شرقا بها الجادي كالتمثال

حتى تلاقي في الكتيبة معلما*** عمرو القنا وعبيدة بن هلال

وترى المقطر في الفوارس مقدما***في عصبة نشطوا على الضلال

أو أن يعلمك المهلب غزوة*** وترى جبالا قددنت لجبال

وكان بدر بن الهذيل، من أصحاب المهلب شجاعة، وكان لخانة؛ كان إذا أحس بالخوارج ينادي : -

يا خيل الله اركي؛ واليه يشير القائل (201/4 ):

وإذا طلبت إلى المهلب حاجة ***عرضت توابع دونه وعبيد

العبدرس وبدر مثله ***وعلاج باب الآخرين شديد

وولي الحجاج کردس) فارسا، ووجهه إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب (201/4):

(و) لو رآه کردم لكردمأ کردما*** العير أحس الضيغما

كان المغيرة بن المهلب والرقاد يجيان ولا يعطيان الجند شيئا، ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له (202/4 ):

ص: 284

ولو علم ابن يوسف ما تلاقي*** من الآفات والكرب الشداد

الفاضت عينه جزعا علينا*** واصلح ما أستطاع من الفساد

ألاقل للأمير جزيت خيرا ***أرحنا من مغيرة والرقاد

فما رزق الجنود بهم قفيزا ***وقد ساست مطامير الحصاد

ومن الخوارج : عبد ربه الصغير، أحد موالي قيس بن ثعلبة ولما أختلف الخوارج على قطري بایعه جمع منهم كثير، وكان قطري قد عزم على أن يبايع للمقمطر العبدي، فأختلف الخوارج فيما بينهم، فصال بن مخراق وجماعة كرهوا أن يحل المقمطر العبدي محل قطري بن الفجاءة في الخلافة، وقطري يريد ذلك، فخلعه جماعة وبايعوا عبد ربه الصغير، وهو معلم کتاب، فنشبت الحرب بينهم؛ فقال الصلت بن مرة القطري :

يا أمير المؤمنين إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم، وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، ثم قال (205/4 ):

قل للممحين قدقرت عيونكم*** بفرقة القوم والبغضاء والهرب

كنا أناس على دين فغيرنا*** طول الجدال وخلط الجد باللعب

ما كان أغنى رجالأقل جيشهم **عن الجدال وأغناهم عن الخطب

أني لأهونكم في الأرض مضطربا***مالي سوى فرسي والرمح من نشب

ثم قال : أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه.

وارتحل القطري إلى منزل آخر ونزل المهلب خندق قطري فجعل يقال عبد

ص: 285

ربه أحيانا بالغداة وأحيانا بالعشي، فقال رجل من سدوس يقال له المعتق وكان فارسا (206/4 ):

ليث الحرائر بالعراق شهدننا*** ورأينا بالسفح بالأجبال

فنكحت أهل الجد من فرساننا ***والضاربين جماجم الأبطال

وسقط رمح لرجل من مراد، من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل؛ وذلك مع المغرب، والمرادي يرتجز، ويقول (208/4 ):

الليل ليل فيه ويل ويل*** قد سال بالقوم الشراة السيل

أن جاز في الأعداء فيناقول

وقال المهلب لحبيب بن أوس :

کر على القوم.

فلم يفعل، وقال (209/4 ):

يقول لي الأمير بغير علم*** تقدم حين جدبه المراس

فمالي إن أطعتك من حياة ***ومالي غير هذا الرأس راس

وقال المعن بن المغيرة بن أبي صفرة :

إحمل.

فقال :

لا، إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك.

فقال :

ص: 286

زوجتك.

فحمل على الخوارج فكشفهم، وطعن فيهم وقال (209/4-210)

ليت من يشتر الحياة بمال ***ملكة كان عنده میزانا

يضل الكل عند ذاك بطعن ***أن للموت عندنا ألوانا

ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت المهلب فقال للمغيرة أبنه :

ما فعل الأمين الذي كان معك؟

قال :

قتل وهرب الثقفي.

فقال ليزيد:

ما فعل عبيد بن أبي ربيعة ؟

قال :

لم أره منذ كانت الجولة .

فقال الأمين الآخر للمغيرة :

أنت قتلت صاحبي.

فلما رجع العشي رجع الثقفي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة (210/4):

ص: 287

ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا*** وتغمنا بوصية الحجاج

حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا*** وسقى لنا صرفا بغير مزاج

وليت يا ثقفي غير مناظر ***تنساب بين أحزة وفجاج

ليست مقارعة الكماة لدى الوغى***شرب المدامة في أناء زجاج

ولما أصبح المهلب أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مکسور مخضوب بالدم ينشد (210/4 -211):

وأني لأعفي ذا الخمار وصنعتي*** إذا راح اطواء ب ني الأصاغر

أخادعهم عنه ليغبق دونهم ***واعلم غير الظن أني مغادر

كأني وأبدان السلاح عشية ***يمر بنا في بطن فيحان طائر

ووجه کعب بن معدان الأشقري ومرة بن بليد الأزدي فوردا على الحجاج، فلما طلعا عليه، تقدم كعب فانشد (213/4 -214):

یا حفص أني عداني عنكم السفر ***وقد أرقت فأذى عيني السهر

علقت يا كعب بعد الشيب غانية ***والشيب فيه عن الأهواء مزدجر

أممسك أنت عنها بالذي عهدت*** أم حبلها مذناتك اليوم منبتر

علقت خودأ بأعلى الطف منزلها*** في غرفة دونها الأبواب والحجر

درها مناكبها ریأ ماکمها*** تكاد إذ نهضت للمشي تنبتر

وقد تركت بشط الزابيين لها*** دارا بهاسعد البادون والحضر

وأفتر دارا بھاحي اسربهم ***مازال فيهم لمن تختارهم خير

ص: 288

لما نبت بي بلادي صرت منتجعا*** وطالب الخير مرتاد ومنتظر

أبا سعيد فأني جئت منتجعا ***أرجو نوالك لما مسني الضرر

لولا المهلب ما زرنا بلادهم ***ما دامت الأرض فيها الماء والشجر

فما من الناس من حي علمتهم ***إلا يرى فيهم من سيبهم أثر

کتانهون قبل اليوم شانهم ***حتى تفاقم أمر كان يحتقر

فما يجاوز باب الجسر من أحد ***قد عضت الحرب أهل المصر فانجمروا

لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ***فأستنفر الناس ثارات فمانفر

نادي أمرؤ لا خلاف في عشيرته*** عنه وليس به عن مثله قصر

خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا*** بكازرون فماعزوا ولا نصروا

بانت كتائبناتردي مسومة ***حول المهلب حتى نور القمر

هناك ولوا خزايا بعدما هزموا*** وحال دونهم الأنهار والجدر

تأبى علينا حزازات النفوس فما ***نبقي عليهم ولا يبقون أن قدروا

فضحك الحجاج، وقال :

انك لمنصف یا کعب.

وأمر له بعشرين ألف درهم وحمله على فرس، وأوفده على عبد الملك فأمر له بعشرين الفا اخرى .

وكعب الاشقري من شعراء المهلب ومادحيه، ومما مدحه هذه القصيدة (216/4):

ص: 289

طربت وهاج لي ذاك ادکارا ***بکش وقد اطلت به الحصارا

وكنت الذ بعض العيش حتى***كبرت وصارلي همي شعارا

رأيت الفانيات كرهن وصلي*** وابدين الصريحة لي جهارا

غرضن بمجلسي وكرهن وصلي***أوان کسيت من شحط عذارا

زرين علي حين بدا مشيي*** وصارت ساحتي لهم دارا

أتاني والحديث له نماء ***مقالة جائر احفى وجارا

سلوا اهل الاباطح من قريش***عن المجد المؤثل این صارا

ومن يحمي الثغور اذا استحرت***حروب لا ينون لهاغرارا

القوم الأزد في الغمرات أمضى***وآخي ذمة واعزحارا

هم قادوا الجياد على وجاها ***من الأنصار يقذفن المهارا

بكل مفازةوبكل شهب ***بسابس لايرون لها منارا

الى کرمان يحملن المنايا***بكل ثنية يوقدن نارا

شوازب ما اصبنا النار حتى*** رددناها مكلمة مرارا

ويشجرن العوالي السمر حتى***ترى فيها عن الاسل ازورارا

غداة تركن مصرع عبد رب***نثرن عليه من رهج غبارا

ويوم الزحف بالاهواز ظلنا***نروي منهم الاسل الحرارا

فقرت أعين كانت حزينا ***قليلا نومها الأغرارا

صنائعنا السوابغ والمذاكي***ومن بالمصر يحتلب العشارا

ص: 290

وهن يبجن كل صحى عزيز*** ويحمين الحقائق والذمارا

طوالات المنون بضن الا*** اذا سار المهلب حيث سارا

ولولا الشيخ بالمصرين ينفي ***عدوهم لقد نزلوا الديارا

ولكن قارع الأبطال حتی*** اصابوا الأمن واحتلوا القرارا

اذا وهنوا وحل بهم عظيم*** بدق العظم كان لهم جبارا

ومبهمة يحيد الناس عنها*** تشب الموت شد لها ازارا

شهاب تنجلي الظلماء عنه ***يرى في كل مظلمة منارا

بنوك السابقون الى المعالي*** اذا ما أعظم الناس الخطارا

كأنهم نجوم حول بدر*** تكمل اذ تكمل فاستدارا

ملوك ينزلون بكل ثغر*** اذا ما الهام يوم الروع طارا

رزان في الخطوب ترى عليهم ***من الشيخ الشمائل والنجارا

نجوم يهتدى بهم إذاما ***اخو الغمرات في الظلماء حارا

براك الله حيث براك بحرا***وفجرمنك انهارا غزارا

كتب الحجاج الى المهب يأمره بمناجزة الخوارج، وسيتبطئه ويضعفه ويعجزه من تأخيره امرهم، فأجابه المهلب بوساطة رسوله :

انما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لالمن يعرفه، ثم طلب منه أن يبعث من يرى مكانه، واخبر عبد الملك بذلك فكتب إلى الحجاج ان لايعارض المهلب فيما يراه .

ص: 291

فقام كعب الأشعري الى المهلب، فانشده بمحضر رسول الحجاج (219/4-220):

ان ابن يوسف غره من امركم*** خفض المقام بجانب الانصار

لوشاهد الصفين حيث تلاقيا*** ضاقت عليه رحيبة الاقطار

من ارض سابوا والجنود وخيلنا*** مثل القداح بريثهایشتار

من كل صنديد يرى بلبانه*** وقع الضباة مع القنا الخطار (75)

الرأي معاودة الرياح غنيمة*** ازمان كان محالف الاقتار

فدع الحروب لشيبها وشبابها ***وعليك كل غريدة معطار

بعد أن انتصر المهلب على الخوارج وكتب بذلك الى الحجاج، قدم المهلب على الحجاج فأجلسه الى جانبه، وأظهر بره وأكرمه، وقال :

- يا أهل العراق. انتم عبيد قن للمهلب.

ثم قال : انت والله كما قال لقبط (222/4 ):

فقلدوا أمركم لله دركم ***رحب الذراع بامر الحرب مضطلعا

الايطعم النوم الاريث يبعثه*** هم یکاد حشاه يقصم الضلعا

الامترفان رخاء العيس ساعده ***ولا اذا عض مکروه به خشعا

مازال يحلب هذا الدهر اشطره*** یکون متعاطورة ومتسقا

حتى استمرت على شزر مريرته ***مستحكم الرأي لاقحما ولاضرعا

وطلب الحجاج ان يذكر له القوم الذين ابلوا فذكرهم المهلب على مراتبهم

ص: 292

في البلاء وتفاضلهم في الفناء، وقدم بنيه، وقال : والله لو واحد قدمهم في البلاء القدمته عليهم، ولولا أن اظلمهم لاخر قم. ثم ذكر معن بن المغيرة والرقاد واشباههما. فامر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم. وزاد ولد المهلب الفين الفين. وفعل بالرقاد وبجماعة شبيهة بذلك. وقال يزيد بن صبغاء من الأزارقة ( 223/4 -224) :

دعي اللوم أن العيس ليس بدائم ***ولاتعجلي باللوم ياأم عاصم

فان عجلت منك الملامة فاسمعي ***مقالة معني بحقك عالم

ولاتفدلينا في الهدية إنما ***تكون الهدايا من فضول المغانم

وليس بمهمن یکون نهاره*** جلادة ويمسي ليله غير نائم

يريد ثواب الله يوما بطعنة ***غموس کشدم العنبري بن سالم

ابيت وسریالي دلاص حصينة*** ومفقرها والسيف فوق الحيازم

حلفت برب الواقفين عشية ***لدي عرفات حلفة غير آثم

لقد كان في القوم الذين لقيتهم ***بابور شغل عن بروز اللطائم

فتوقد في ايديهم زاغبية ومرهفة تفري شؤون الجماجم

وقال المغيرة الحنظلي من اصحاب المهلب (4 /224) :

إني امرؤ كني ربي واكرمني ***عن الامور التي في غيها وخم

وإنما انا انسان اعيش كما*** عاشت رجال وعاشت قبلها أمم

ما عاقني عن قفول الجند ان قفلوا*** عين بما صنعوا حولي ولاصمم

ص: 293

ولو اردت قفولا ما تجهمني ***اذن الامير ولا الكتاب اذ رقموا

ان أن المهلب أن اشتق لرؤيته*** اوامتدحه فان الناس قد علموا

والقائل الفاعل الميمون طائره*** ابوسعيد اذا مات النعم

اازمان کرمان از غص الحديد بهم ***وإذ تمنى رجال انهم هزموا

وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب ( 225/4 ):

اابا سعيد جزاك الله صالحه*** فقد كفيت ولم تعنف على أحد

داويت بالحلم اهل الجهل فانقمعوا ***وكنت كالوالد الحاني على ولد

وقال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من اصحابه (4/ 225) :

يهوى فترفعه الرماح كأنه ***شلو تنشب في مخالب ضار

يهوى صريعة والرماح تنوشه ***ان الشراة قصيرة الاعمار

ومن الخوارج شبيب بن يزيد الشيباني. اذ دخل الكوفة والحجاج عليها، حتى انتهى الى السوق، وشد حتى ضرب باب القصر بعموده حتى احدث فيه ضرية، ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة، وانشد (247/4 ):

وكأن حافرها بكل ثنية ***فتق يكيل به شحيح معدم

عبد دعي من ثمود أصله*** لا بل يقال أبو البهيم يقدم

ومضى شبيب حتى أخذ على شاطىء الفرات، ثم اخذ على الانبار، ثم دخل داقوق (كركوك) ثم ارتفع الى اداني آذربيجان، وخلال مسيرته تلك دارت معارك بينه وبين الحجاج، فقال الجهري بن ابي همام الذهلي يرثيهم (4 /245):

ص: 294

شباب اطاعوا الله حتى احبهم*** وكلهم شاريخاف ويطمع

فلما تبدوا من دقوقا بمنزل*** الميعاد اخوان تداعوا فاجمعوا

دعوا خصمهم بالمحكمات وبينوا*** ضلالتهم، والله ذو العرش يسمع

بنفسي قتلى في دقوقاء غودرت ***وقد قطعت منها رؤوس واذرع

للتبو نساء المسلمين عليهم ***و دون مالاقين مبكى ومسمع

ورثت اخت الوليد بن طريف الشيباني الخارجي اخاها بعد أن قتله يزيد بن مزید الشيباني، وحمل رأسه إلى الرشيد، وقالت انه من اهل التقى والدين على قاعدة شعراء الخوارج (73/5 -74):

أياشجر الخابور مالك مورق*** كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد الأمن التقى*** ولا المال الأمن قنا وسيوف

ولا الذخر الأ كل جرداء شطبة*** وكل رقيق الشقرتين خفيف

فقدناك فقدان الربيع وليتنا ***فديناك من ساداتنا بالوف

وقال مسلم بن الوليد بن يزيد بن مزيد، ويذكر قتله الوليد (74/5 ).

والمارق بن طريف قد دلفت له*** بعارض للمنايا مسبل هطل

الوان شيئا بكى مما اطاف به ***فاز الوليد بقدح الناضل الحصل

ماکان جمعهم لما لقيتهم ***الأكرجل جراد ربع منجفل

فاسلم يزيد فما في الملك من أود*** اذا سلمت، ولا في الدين من خلل

خرج في أيام المتوكل بن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق، وتسمى

ص: 295

بالخلافة، فحاربه ابو سعید محمد بن يوسف الطائي الثغري الصامني، فقتل كثيرة من اصحابه، واسر كثيرة منهم، ونجا بنفسه هاربا فمدحه ابو عبادة البحتري، فقال (76- 74/5) :

كنا نكفر من امية عصبة ***طلبوا الخلافة فجرة وفسوقا

ونلوم طلحة والزبير کليها ***ونعنف الصديق والفاروقا

ونقول تيم اقربت وعديها ***امرأبيعدأ حيث كان سحيقا

وهموا قريش الأبطنون اذا انتموا***طابوا اصولا في العلا وعروقا

حتى غدت جسم بن بكر تبتغي***ارث النبي وتدعيه حقوقا

جاؤوا براعيهم ليتخذوا به***عمداالى قطع الطريق طريقا

عقدوا عمامته برأس قناته*** ورأوه برأ فاستحال عقوقا

واقام ينفذ في الجزيرة حكمه ***ويظن وعد الكاذبين صدوقا

حتى اذا ما الحية الذكر انكفى***من ارزن حربايمج حريقا

غضبان يلقى الشمس منه بهامه ***يعشي العيون تألقأوبروقا

اوفى عليه وظل من دهش يظن *** البر بحرة والفضاء مضيقا

غدرت امانیه به وتمزقت ***عنه غيابة سكره تمزيقا

طلعت جيادك من ربا الجودي قد ***حملن من دفع المنون وسوقا

فدعا فريقا من سيوف حتفهم*** وشددت في عقد الحديد فريقا

ومضى ابن عمرقد اساء بعمره*** قعب على باب التحميل اريقا

ص: 296

لو خاضها عمليق او عوج اذن*** ماجوزت عوجا ولا عمليقا

لولا اخضرار الخوف في أحشائه ***رسب العباب به فمات غريقا

لو نفسته الخيل لفتة ناظر*** ملأ البلاد زلازلا وفتوقا

لشي صدور الخيل تكشف كربه ***ولوی رماح الخط تفرج ضيقا

ولبكرت بكر وراحت تغلب*** في نصر دعوته اليه طروقا

حتى يعود الذئب ليثأضيغما*** والغصن ساقا والقرارة نيقا

هيهات مارس فيلقا متيقظا*** قلقا اذا سكن البليد رشيقا

متسلفة جعل الغبوق صبوحة*** ومری صبوح غد فكان غبوقا

ومن يعظمه الخوارج مرداس بن حدير ابو بلال، أحد بني ربيعة بن حنظلة وكان ناسكة، وكان قد شهد مع علي عليه السلام صفين ثم انكر التحكيم، وشهد النهروان، ونجا فيمن نجا، عبيد الله بن زياد، وخرج من حبسه فغادر هو واصحاب له، ومضى حتى نزل آسك، وهي مابین رامهرهزوارجان، فمر به مال يحمل الى ابن زیاد، وقد قارب اصحابه الاربعين فحط ذلك المال، وأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ورد الباقي على الرسل. ولأبي بلال مرداس هذا في الخروج أشعار، منها قوله (85/5 ):

أبعد ابن وهب في النزاهة والتقى ***ومن خاض في تلك الحروب المهالكا

احب بقاء أو ارجي سلامة*** وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا

فيارب سلم نیتي وبصيرتي ***وهب لي التقى حتى الاقي أولئكا

ص: 297

فندب ابن زیاد جيشا إلى خراسان بقيادة أسلم بن زرعة الكلابي من ألفي رجل، يتعقبون أبا بلال واصحابه، ولما التقوهم صاح بهم أبو بلال :

اتق الله يا اسلم، فأنا لانريد فسادا في الأرض، ولا تحتجر فيئا.

ولكن أسلم أصر على أن يأخذهم لأبن زیاد، فحملوا على أسلم حملة رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه من غير قتال، وكان يأسره معبدا أحد الخوارج، ولما عاد إلى ابن زیاد غضب عليه غضبا شديدا.

وكان إذا خرج الى السوق، أو مر بصبيان صاحوا به :

أبو بلال وراءك.

وربما صاحوا به :

معبد خذه.

ففي ذلك يقول عیسی بن فاتك، من بني تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج (87-86/5) :

فلما أصبحوا صلوا وقاموا ***الى الجرد العتاق مسومينا

فلما أستجمعوا حملوا عليهم ***فظل ذوو العائل يقتلونا

أألفامؤمن فيكم زعمتم*** ويهزمكم بأسك أربعونا ؟

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ***ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك*** على الفئة الكثيرة ينصرونا

وبعث ابن زياد في أثرهم عباد بن علقمة المازني فلما لقيهم حاوره أبو بلال

ص: 298

مثلما حاور أسلما قبله وبينما هم كذلك مر القعقاع وكان في طريقه إلى الحج ولما علم أهم الخوارج حمل عليهم فأسروه، ولكن أبا بلال أطلقه بحيله أحتالها القعقاع مدعية أنه ليس من أعداء الخوارج بل هو في طريقه إلى الحج فغرر به فقاتلهم، ولما أطلقه حمل عليهم ثانية وهو يقول (89/5 ):

أقاتلهم وليس علي بعث*** نشاطا ليس هذا بالنشاط

أكثر على الحروريين مهري*** لا حملهم على وضح الصراط

فحمل عليه حریرث بن حجر السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي فأسراه وقتلاه، ولم يأتيا به أبا بلال، ولم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة فناداهم أبو بلال :

یا قوم ......

أن يكفوا ليصلوا، فاجابوه على طلبه، ولكن عبادة وجماعة أسرعوا في صلاهم والخوارج مبطئون، وبينما هم في صلاتهم مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعا، وأتي برأس أبي بلال.

ففي مقتلهم يقول عیسی بن فاتك الخطي (90/5 ):

ألا في الله لا في الناس سالت ***بداود وأخوته الجذوع

مضوا قتلا وتمزيقا وصلبا ***تحوم عليهم طير وقوع

إذا ما الليل أظلم كابدوه***فيسفر عنهم وهم رکوع

أطار الخوف نومهم فقاموا*** وأهل الأرض في الدنيا هجوع

ص: 299

وقال عمران بن حطان (91/5 ):

ياعين يبكي لمرداس ومصرعه ***يارب مرادس أجعلني كمرادس

تركتني هائما أبكيي لمرزئه*** في منزل موحش من بعد أيناس

أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ***فالناس بعدك يا مرادس بالناس

أماشربت بكأس دار أولها ***على القرون فذاقوا صرعة الكأس

فكل من لم يذقها شاربا عجلا ***يشقى بأنفاس ورد بعد أنفاس

وقال أيضا (91/5 ):

لقد زاد الحياة الي بغضا*** وحبا للخروج أبوبلال

أحاذر أن أموت على فراشي ***وارجو الموت تحت ذرا العوالي

ولو أني علمت بأن حتفي ***تحتف أبي بلال لم أبال

فمن يك همه الدنيا فأني*** لها- والله رب البيت - قال

وعمران هذا أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن عك بن بكر بن وائل، وكان راس العقد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم، وشاعرهم، وشعره هذا بخلاف أبي خالد القناني، وكان من قعد الخوارج أيضا، وقد كان كتب قطري ابن الفجاءة المازني يلومه على القعود (91/5 –92) : -

أبا خالد أيقن فلست بخالد*** وما جعل الرحمن عذرا لقاعد

أتزعم أن الخارجي على الهدى*** وأنت مقيم بين لص وجاحد

فكتب إليه أبو خالد (92/5 ):

ص: 300

لقد زاد الحياة الي حبسا***بناتي أنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين الفقر بعدي*** وأن يشربن رنقا بعد صاف

وأن يعرين أن كسي الجواري ***فتبدو العين عن كرم عجاف

ولولا ذاك قدسوقت مهري*** و الرحمان للضعفاء كاف

وأن عمران بن حطان، لما طرده الحجاج، جعل يتنقل في القبائل، وكان إذا نزل بحي أنتسب نسبا يقرب منهم؛ ففي ذلك يقول (92/5 ):

نزلنا في بني سعد بن زيد*** و فی عک وعامر عوثبان

وفي لخم و أود بن عمرو ***وفی بکرو حي بني الفدان

وطلبه عبد الملك يوما فبعث روح بن زنباع الجذامي (وكان أثير لديه) ليجيء به إليه، ولما جاء روح قال له عمران : -

قد أردت أن أسالك ذاك فاستحييت منك، فاذهب فإني في الأثر فرجع روح إلى عبد الملك فخبره، فقال :

أما أنك سترجع فلا تجده .

فرجع فوجد عمران قد احتمل (أي غادر) وخلف رقعة فيها (5-93-94):

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به*** و قد ظن ظنك من لخم وغسان

حتى إذا خفته زایت منزله ***من بعد ما قيل عمران بن حطان

قد كنت جارك حولا لا يروعني*** فيه طوارق من أنس ولا جان

ص: 301

حتى أردت بي العظمى فأدركني*** ما أدرك الناس من خوف بن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباغ فأن له*** في الحادثات هنات ذات ألوان

يوماجان إذا لاقيت ذا يمن*** وأن لقيت معدية فعدنان

لو كنت مستغفرة يومأ لطاغية ***كنت المقدم سري وأعلاني

لكن أبت ذاك آيات مطهرة ***عند التلاوة في طه وعمران

وكان عبد الملك قد عرف أنه عمران بن حطان من خلال بيتين رواهماله روح بن زنباغ الجذامي، عندما كان عمران ضيفا عند روح، والبيتان هما (95/5) :

يا ضربة من تقي ما أراد بها*** ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

أني لأذكره حينأفأحسبه*** أوفى البرية عند الله ميزانا

وقد قلبها الفقيه الطبري فقال ( 93/5 ):

يا ضربة من شقي ما أراد بها ***إلا ليبهدم من ذی العرش بنیانا

أني لأذكره يوما فألعنه*** والعن الوغد عمران بن حطانا

وقال محمد بن أحمد الطيب يرد على عمران بن حطان (94/5 ):

يا ضربة من عدو صار ضاربها ***أشقى البرية عند الله إنسانا

إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ***وألعن الكلب عمران بن حطانا

ثم ارتحل، حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمرو بن کلاب، فأنتسب له أوزاعية (نسبة إلى بطن من همدان) فاتاه رجل من كان عند روح، فقال له زفر :

ص: 302

من هذا؟

فقال :

رجل من الأزد رأيته ضيفة لروح بن زنباع.

فقال زفر لعمران :

- هذا أزديا مرة وأوزاعية أخرى؟ إن كنت خائفة أماك؛ وإن كنت فقيرة أجرناك، فلما أمسى خلف في منزله رقعة وهرب فوجدوا فيها (94/5 ):

إن التي أصبحت يعيا بها زفر ***أعيت عياء على روح بن زنباع

ما زال يسألني حولا لأخبره ***والناس ما بين مخدوع وخداع

حتى إذا انقطعت مني رسائله***كف السؤال ولم يولع بأهلاع

فاكفف لسانك عن لومي ومسألتي*** ماذا تريد الى شيخ بلا راعي؟

فأكفف كما كف عني أنني رجل*** أماضييم وإما فقعة القاع

اما الصلاة فأني غير تارکها ***کل امريء للذي يعني به ساع

اکرم بروح بن زنباع وأسرته*** قوم دعا اوليهم للعلا داع

جاورتهم سنة من ما أسر به*** عرضي صحيح ونومي غير تهجاع

فأنعم فأنك منعي بواحدة ***حسب اللبيب بهذا الشيب من داع

ثم ارتحل حتى أتی عمان فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى أهل عمان، فهرب حتى أتی قوما من الأزد في سواد الكوفة، فنزل بهم، فلم يزل عندهم حتى مات. وفي نزوله فيهم يقول (95/5 ):

ص: 303

نزلنا بحمد الله في خير منزل*** نسر بما فيه من الأنس والخفر

نزلنا بقوم يجمع الله شملهم ***وليس لهم دعوى سوى المجد يعتصر

من الأزد أن الأزد أكرم أسوة ***يمانية طابوا إذا أنتبه البشر

فأصبحت فيهم أمنا لا كمعشر*** أتوني فقالوا : من ربيعة أو مضر

أم الحي قحطان وتلك سفاهة ***كما قال لي روح وصاحبه زفر

وما منهما إلا يسبنسبة ***تقربني منه وان كان ذا نفر

ومن الخوارج الرهين المرادي أحد فقهاء الخوارج وناكها وكان لایری القعود عن الحرب، وكان في الدهاء والمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج بمنزلة عمران بن حطان، ومن شعر الرهين المرادي قوله (99/5 ):

يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي ***لاتأمنن لصرف الدهر تنقيصا

أني لبائع مايفني لباقية ***أن لم يعقني رجاء العيس تربيصا

وأسأل الله بيع النفس محتسبا ***حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا

وابن المشيح ومرداس وأخوته*** إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا

وقال العزيز يرثي عباد بن أخضر المازني قاتل أبي بلال مرداس بن أديه الخارجي (وقد ذكرنا قصته) إذ كمن له الخوارج في الطريق وبعد مساءلة فقهية قتلوه فقال الفرزدق يذكر ذلك (101/5 ):

لقد أدرك الأوتار غیر ذميمة*** إذا تم طلاب التراث الأخاضر

هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر*** فنالوا التي ما فوقها نال ثائر

ص: 304

افادوا به أسدأ لها في أقتحامها ***- إذا برزت نحو الحروب – بصائر

كفعل كليب إذ أخلت بجارها*** ونصر اللئيم معصر وهو حاضر

وما لكليب حين تذكر أول*** وما لكليب حين تذكر آخر

ومن الخوارج أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج ونساكها.

وقد أتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه ، يصف لهم جور السلطان وفساد العامة، فقال له أبو الوازع : -

- إنك أعطيت لسانا صادقة، وقلبة كلية فلوددت إن صرامة لسانك كانت القلبك، وكلال قلبك كان للسانك! أنتمضي على الحق وتقعد عنه؟ وتقبح الباطل وتقيم عليه؟

فقال نافع : إنما تنتظر الفرص، إلى أن تجمع من أصحابك من تنکيء به عدوك فقال أبو الوازع (103/5 ):

لسانك لا تنكيء به القوم إنما*** تنال بكفيك النجاة من الكرب

فجاهد أناسا حاربوا الله واصطبر*** عسى الله أن يجزي نحوي بن بني حرب

ويعني بني حرب : معاوية.

ومن الخوارج عمران بن الحارث الراسبي؛ فهو من نساکها قتل في يوم دولاب، إذ التقى هو والحجاج بن باب الحميري، وكان الأمير يومئذ على البصرة، وصاحب رایتهم، فأختلفا حربتين فخرا ميتين، فقالت أم عمران ترثيه (103/5-104)

ص: 305

الله أيد عمرانا وطهره*** وكان عمران يدعوا الله في السحر

يدعوه سرأ وأعلانا ليرزقه*** شهادة بيدي ملحادة عذر

ولى صحابته عن حرملحمة*** وشد عمران كالضرغامة الذكر

وممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الأزرق، وكان خليفتهم - خاطبوه بأمرة المؤمنين، فقال رجل يرثيه (104/5 ):

شمت ابن بدر والحوادث جمة ***والجائرون بنافع بن الأزرق

والموت حتم لا محالة واقع ***من لا يصبحه نهارا بطرق

فلئن أمير المؤمنين أصابه*** فمن يصبه بغلق

وقال قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب ( 104/5 -106) :

لعمرك أني في الحياة لزاهد ***وفي العيش ما لم الق أم حكيم

من الخفرات البيض لم يرض مثلها*** شفاء لذي بث ولا لسقيم

العمرك أني يوم الطم وجهها ***على نائبات الدهر جد لئيم

إذا قلت يصبوا القلب أو ينتهي المنى*** أبي القلب إلا حب أم حكيم

منعمة صفراء حلو دلالها***أبيت بها بعد الهدو أهيم

قطوف الخطى مخطوطة المنن زانها ***مع الحر خلق في الجمال عميم

فلوشهدتنا بعد دولاب شاهدت ***طعان فتى في الحرب غير ذميم

غداة طغت علماء بكر بن وائل ***وعجنا صدور الخيل نحو تميم

وكان بعبد القيس أول جدنا ***وأحلافها من يحصب وسليم

ص: 306

وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى*** تقوم فمن مستنزل وهزيم

فلم أر يوماكان أكثر مقمحا*** يمج دمامن قائظ وكليم

وضارية خدأ كريما على الفتى*** أغر نجيب الأمهات كريم

أصيب بدولاب ولم تك موطنا***له أرض دولاب وأرض حميم

فلوشهدتنا يومذاك وخيلنا ***تبيح الكفار کل صریم

رأت فتية باعوا الإله نفوسهم*** بجنات عدن عنده ونعيم

ومن الخوارج عبد الله بن يحيى طالب الحق من رؤساء الخوارج وكبارهم قد أقام بصنعاء بعد أن استولى على اليمن، ولما كان وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف وبلج بن عقبة وأبرهة بن الصباح إلى مكة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف، وأمره أن يقيم في مكة إلى صدر الناس ويوجه بلجة إلى الشام، فأقبل المختار رأي مكة يوم التروية. وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سلمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان، وبعد حوار ومراسلات، کره عبد الواحد محاربتهم، ولما كان النفر الأخير نفر عبد الواحد وخلى مكة لأبي حمزة، فدخل بغير قتال، فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد (108/5 ):

زار الحجيج عصابة قد خالفوا ***دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الأمارة والمواسم هاربا***ومضى يخبط كالبعير الشارد

فلو إن والده تخير أمه ***لصفت خلائقه بعرق الوالد

ورثت إحدى نائحات المدينة قتلى قريش في حربهم الخوارج (113/5 ):

ص: 307

مال الزمان وماليه ***أفتت قديد رجاليه

لأبكين سريرة*** ولأبكين علانية

ولأبكين على قدي ***د بسوء ما أولانيه

ولا عويق إذا خلو ***ت مع الكلاب العاوية

وقال سهيل مولی زینب بنت الحكم بن أبي العاص وهو يذكر قتال الخوارج (122/5) :

ليت مروان رانا ***يوم الاثنين عشية

إذ غسلنا العار عنا*** وانتضينا المشرفية

وارتجزت زوجة أبي حمزة الخارجي قبل أن تقتل مع زوجها قائلة(-122-123) :

إن الجديعاء وبنت الأعلم*** من سال عن اسمي فأسمر مريم

بعث سواري بضبن مخذم

وقيل في بشكت النحوي الذي شايع الخوارج في المدينة وقتل (124/5 ):

لقد كان بشكت عبد العزيز ***من أهل القراءة والمسجد

فبعد لبشكت عبد العزيز ***وأما القرآن فلا تبعد

وبعد أن جرت معركة بين ابن عطية في الطائف وبين عبد الله بن يحي الخارجي فقتل جميع من كان مع عبد الله، فقال أبو صخر الهذلي يذكر ذلك (125 - 123/5) :

ص: 308

قتلنا عبيدة والذي يكتني الكنى*** أبا حمزة القاري المصلي اليمانيا

وأبرهة الكندي خاضت رماحنا ***وبلجأ منحناه السيوف المواضيا

وما تركت أسيافنا منذ جردت ***لمروان جبارة على الأرض عاصيا

وقال عمرو بن الحصين العنبري يرثي أبا حمزة وغيره من الشراة (125/5 - 128 ):

هبت قبيل تبلج الفجر ***هند تقول ودمعها يجري

إذ أبصرت عيني وأدمعها ***تنهل وأكفه على النحر

أنى اعتراك وكنت عهدي لا*** سرب الدموع وكنت ذا صبر

أقذي بعينك لا يفارقها ***أم عاثر، أم مالهاتذري؟

أم ذكر أخوان فجعت بهم*** ا سلكوا سبيلهم على قدر؟

فأجبتهابل ذکر مصرعهم*** الاغيره عبراتها تجري

يارب أسلكني سبيلهم ***- ذا العرش وأشدد بالتقى أزري

في فتنة ص بروا نفوسهم ***للمشرفية والقنا السمر

تله مافي الدهر مثلهم*** حتى أكون رهينة القبر

أو ب ذمتهم إذا عقدوا ***واعف عند العسر واليسر

متأهبون لكل صالحة*** ناهون من لاقوا عن النكر

صمت إذا حضروا مجالسهم*** من غير ماعي يهم يزري

ألا تجي ئهم ف أنهمو رجف القلوب بحضرة الذكر

ص: 309

متأوهون كأن جمر غضأ*** للموت بين ضلوعهم يسري

تلقاهم إلا كأنهمو*** الخشوعهم صدروا عن الحشر

منهم كان بهم جرى مرض ***أو مسهم طرف من السمر

لا ليلهم ليل فيلبسهم ***فيه غواشي النوم بالسكر

إلا كرى خلسا وأواثة ***حذر العقاب منهم على ذعر

كم من أخ لك قد فجعت به ***قوام ليلته إلى الفجر

متأوهايتلوقوارع من ***آي الكتاب مفزع الصدر

ظمآن وقدة كل هاجره***تراك لذته على قدر

رفاض ما تهوى النفوس إذا*** رغت النفوس دعت إلى المزر

ومبر من كل سيئة ***عن الهوى ذا مرة شزر

والمصطلى بالحرب يوقدها ***بحسامه في فتية زهر

يختاضها بأفل ذي شطب*** غضب المضارب ظاهر الأشر

لاشيء يلقاه أسرله*** من طعنه في ثغرة النحر

مسهارة منه تجيش بما ***كانت عواصم جوفه تجري

الخليلك المختار اذك به*** من معتد في الله أو مسري

خواض غمرة كل متلفة ***في الله تحت القيسي الكدر

نزال ذي النجوات مختضبا*** بنجيعة بالطعنة الشزر

وابن الحصين وهل له شبه*** في العرف أني کان والنكر

ص: 310

بشهامة لم تحسين أضلعه ***لذوي أحزته على غدر

طلق اللسان بكل محكمة ***رأب صدع العظم ذي الكسر

لم ينفكك في جوفه حزني ***تغلي حرارته وتستشري

ترقی وآونة يخفضها ***يتنفس الصعداء والزفر

ومخالطي بلج وخالصتي*** سهم العدو وجابر الكسر

نکل الخصوم إذا هم شغبوا ***وسداد ثملة عورة الثغر

والخائض الفجرات يخطرني*** وسط الأعادي أيماخطر

بمشطب أو غير ذي شطب ***هام العدى بذبابة يغري

وأخيك أبرهة الهجان أخي ***الحرب العوان وموقد الجسر

والضارب الأخدود ليس لها*** حد ينهنههاعن السحر

وولي حكمهم فجعت به ***عمرو، فواكبدي على عمرو

قوال محكمة وذوقهم ***عن الهوى متثبت الأمر

ومسيب فاذكر وصيته*** لاتنس أماكنت ذا کر

فكلاهماقد كان مختشعا*** الله ذا تقوى وذا بر

في مخبتين ولم أسمهم*** كانوا ندى وهم أولو نصر

وهم مساعر في الوغى حجج*** وخيار من يمشي على العفر

حتى وفوا الله حيث لقوا ***لعهود لا كذب ولا غدر

فتخالفوا مهجات أنفسهم ***وعداتهم بقواضب بتر

ص: 311

وأسنة أثبتن فی لدن*** خطية بأكفهم زهر

تحت العجاج وفوقهم طرق*** يخفقن من سود ومن حمر

فتوقدت نيران حربهم ***ما بين أعلى البيت والحجر

وتصرعت عنهم فوارسهم*** لم يغمضوا عيناعلى وتر

صرعى فخاوية بيوتهم*** وخوامع بجسومهم تغري

ورثى الشاعر مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير يوم قديد في حرب الخوارج فقال ( 250/15 ):

قمن فأندبن رجالا قتلوا ***بقديد ولنقصان العدد

ثم لا تعدلن فيها مصعبا*** حين يبكي من قتيل بأحد

أنه قد كان فيها باسلا**صارمة يقدم أقدام الأسد

ولقوله عليه السلام :

ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلو نحورهم أغراض المنية (244/3 ):

استشهد بقول أيوب بن خولي يرثي هدبة اليشكري ( 267/3 ):

فيا هدب للهيجا ويا هدب للندي ***وياهدب للخصم الألد يحاربه

وياهدب كم من ملحم قد أصبته ***وقد أسلمته للرماح كتائبه

تزودت من دنياك درعا ومغفرا*** وعضبا حسامة لم تخنك مضاربه

وأجرد محبوك السراة كأنه ***إذا أنقض وافي الريش حجن مخالبه

ص: 312

وقول أحد الخوارج (274/3 ):

ومن يخشى أطفار المنايا فأننا ***البسنا لهن السابغات من الصبر

وان کریه الموت عذب مذاقه*** إذا ما مزجناه بطيب من الذكر

وقول أحد الخوارج يصف أصحابه (298/3 ):

وهم الأسود لدى العرين بسالة*** ومن الخشوع كأنهم أحبار

يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا*** متبسمين وفيهم أستبشار

فكأنما أعداؤهم أحبابهم*** فرحا إذا خطر القنا الخطار

يردون حومات الحمام وإنها***تالله عند نفوسهم لصغار

ولقد مضوا وأنا الحبيب إليهم ***وهم لدي أحبة أبرار

قدر يخلفني ويحضيهم به*** يالهف كيف يفوتني المقدار

وقول الطرماح بن حکیم، وكان يرى رأي الخوارج (300/3 ):

وأني لمقتاد جوادي فقاذف ***به وبنفسي اليوم إحدى المتالف

الأكسب مالا أو أأوب إلى غنی ***من الله يكفيني عداة الخلائف

فيا رب أن حانت وفاتي فلا تكن*** على شرجع يعلى بخضر المطارف

ولكن قبري بطن نسر مقيله*** بجوف السماء في نسور عواكف

وأمسى شهيد ثاويا في عصابة***يصابون في قبح من الأرض خائف

فوارس أشتات يؤلف بينهم*** هدى الله نزالون عند المواقف

ص: 313

المحتويات

ترجمة الشريف الرضي رحمه الله ...5

ترجمة ابن أبي الحديد ... 8

مؤلفاته ...9

منهج الأضواء ...10

الهدف من الأضواء ...14

الضوء الأول: بدايات الدعوة الاسلامية ...17

الضوء الثاني: بيعة السقيفة ...39

الضوء الثالث: الحروب الاسلامية ... 57

1 . غزوة بدر ...59

2 . غزوة أحد ...69

3. غزوة الخندق...82

4. غزوة مؤته ...89

5. وقعة الجمل مقتل عثمان ...95

مقتل عثمان ...95

6.وقعة الجمل...100

7. وقعة صفين...123

ص: 314

8 -الخوارج...259

المحتويات...314

ص: 315

المجلد 3

هویة الکتاب

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1436ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 78150.

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرّر: محمّد رادمرد

ص: 1

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَحِیم

أَضْوَاءٌ عَلَی نَهْجِ البَلَاغَةِ

الجُزءُ الثَالِثُ

بَحرُ العِلم و مَدارُ الحَق

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015- 912

ص: 2

أضواءٌ عَلَى نَهجِ البَلاغِة

بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

الجُزءُ الثَالِثُ

تأليف: الدکتور علي الفتال

إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق :كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 4

الأغراض الشعرية وتشتمل على :

الفخر

الدنيا

الشكوى

الحكمة

الرثاء

الاعتقادات

التصوف

وصف الموتى والقبور

الصبر والزهد

النسیب

النصح والإرشاد

الحماسة

المدح

الهجاء

ص: 5

ص: 6

الفخر

ص: 7

ص: 8

من كلام لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام)لأصحابه :

((أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لايجد، فاقتلوه - ولن تقتلوه - ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني؛ فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني، فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة)) (4/ 54).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الإمام أمير المؤمنين بأبيات منها (4/ 122 ) :

محمدٌ النبي أخي وصهري*** وحمزة سيد الشهداء عمي

سبقتكم إلى الإسلام طراً*** غلاماً ما بلغت أوان حلمي

ولقوله (علیه السلام)بعد أنباء السقيفة:

- ما قالت الأنصار.

قالوا :

- قالت : منا أمير ومنكم أمير.

قال (علیه السلام):

فهلا احتججتم عليهم بأن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟

ص: 9

قالوا :

وما في هذا من الحجة عليهم؟

فقال (علیه السلام):

لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم.

ثم قال (علیه السلام): فماذا قالت قريش؟ قالوا :

- احتجت بأنها شجرة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم).

فقال (علیه السلام):

- احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

لتلك الأقوال استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي القاسم المغربي وهو يتعصب للأنصار على قريش (6/ 15-16):

نحن الذين بنا استجار فلم يضع*** فينا، وأصبح من أعز جوار

بسيوفنا أمست سخينة بُرّكاً ***في بدرها كنحائر الجزار

ولنحن في أحدٍ سمحنا دونه*** بنفوسنا للموت خوف العار

فنجا بمهجته فلولا ذبّنا*** عنه تنشب في مخالب ضار

وحمية السعدين بل بحماية ال*** سدين يوم الجحفل الجرار

في الخندق المشهور إذ ألقى بها*** بيدٍ ، ورام دفاعها بثمار

ص: 10

قالا: معاذ اللّه إن هضيمة*** لم نعطها في سالف الأعصار

ماعندنا إلا السيوف وأقبلا*** نحو الحتوف بها بدار بدار

ولنا بيوم حنین آثار متى*** تذكر فهن كدائم الآثار

لما تصدع جمعه فغدا*** مستصرخاً بعقيرة وجوار

عطفت عليه كماتنا فتحصنت *** منا جموع هوازن بفرار

وفدته من أبناء قيلة عصبة *** بشرى النقير وجنة البقار

أفنحن أولى بالخلافة بعده *** أم عبد تیم حاملوا الأوزار

ما الأمر إلا أمرنا وبسعدنا *** زفت عروس الملك غير نوار

لكنها حسد النفوس وشحها *** وتذكر الأذحال والأوتار

أفضى إلى هرج ومرج فانبرت *** عشواء خابطة بغير نهار

وتداولتها أربع لولا أبو***حسن لقلت لؤمت من أستار

من عاجز ضرع ومن ذي غلظةٍ *** جاف ومن ذي لوثة خوَّار

ثم ارتدى المحروم فضل ردائه *** فعلت مراجل إحنة ونغفار

فتأكلت تلك الجذي، وتلمضت *** تلك الضبا، ورقا أجيج النار

تاللّه لو ألقوا إليه زمامها *** لمشی به سُجُماً بغير عثار

ولو أنها حلت بساحة مجده *** بادي بدا سكنت بدار قرار

هوكالنبي فضيلة لكنَّ ذا *** من حظه کاسٍ، وهذا عار

والفضل ليس بنافع أربابه *** إلا بمسعدة من الأقدار

ص: 11

ثم امتطاها عبد شمس فاغتدت *** هزؤاً، وبُدِّل ريحها بخسار

وتنقلت في عصبة أمويةٍ *** ليسوا بأطهار ولا أبرار

مابین مأنوفٍ إلى متزندقٍ *** ومداهن ومضاعفٍ وحمار

ولقوله (علیه السلام)((نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، ناصِرُنا ومُحِبُّنا ينتظر الرحمة، وعَدُوِّنا ومُبْغِضُنا ينتظر السطو)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (7/ 218):

هل كان يعتقد البراق أبوكم *** أم كان جبريل عليه يُنَزَّل

أم هل يقول له الإله مشافهاً *** بالوحي : قم يا أيها المزّمل

وقول الآخر (7/ 219 ):

ويطرقه الوحي وهناً وأنتم *** ضجيعان بين يدي جبرئيلا

ولقوله (علیه السلام)في ذكر أصحاب الجمل ((فواللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين قتله، بلا جرم جرّه، لحلَّ لي قتل ذلك الجيش كله)) (9/ 325 ) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن عباس في منافرته عبد اللّه بن الزبير (9/ 325) :

قد أنصف الفارة من رماها *** إنّا إذا مافئة نلقاها

نرد أولاها على أخراها

ص: 12

وقوله (9/ 325 ) :

تنافرني يا ابن الزبير وقد قضى *** عليك رسول اللّه لاقول هازلِ

ولو غيرنا يا ابن الزبير فخرته *** ولكنما ساعيت شمس الأصائلِ

ولقوله (علیه السلام)، من کتاب له إلى عبد اللّه ابن عباس وهو عامله على البصرة : ((واعلم أن البصرة مهبط إبليس، ومغرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم.

وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يُسبقوا بوغمٍ في جاهلية ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها)) (15/ 125).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أوس بن مغراء مفاخراً بقومه کعب (15/ 127) :

کعبي من خير الكعاب كعباً *** من خيرها فوارساً وعقبا

تعدل جنباً وتميم جنبا

وقول الفرزدق (15/ 127) :

لو كنت تعلم ما برمل مُوَسِلٍ *** فاقرى عمان إلى ذوات حجور

لعلمت أن قبائلاً وقبائلاً *** من آل سعد لم تُدِنْ لأمير

وقوله (15/ 127) :

ص: 13

تبکِّي علي سعد وسعد مقيمة *** بِيَبْريق قد كادت على الناس تضعف

وبالرواية التي تقول ( 15/ 127) :

كان بنو سعد إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد من الناس دیناً وسنّةً حتى يجوز القائم بذلك من آل كرِب بن صفوان، وقال أوس بن مغراء :

ولا يريمون في التعريف موقفهم *** حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا

وقول الفرزدق (15/ 127) :

إذا ما التقينا بالمحصب من منى*** صبيحة يوم النحر من حيث عَرَّفوا

ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا*** وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

وبالرواية التي تقول (15/ 128) :

إن المنذر بن ماء السماء قال يوماً، وعنده وفود العرب، ودعا ببردي أبيه محرّق بن المنذر، ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسباً، فأحجم الناس، فقال أحيمر بن خلف بن بهدلة بن کعب بن سعد بن زيد مناة بن تمیم:

- أنا لها.

قال الملك :

بماذا؟

- قال :

- بأن مضراً أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديداً، وأن تمیماً کاهلها وأكثرها، وإن بيتها وعددها في بني بهدلة بن عوف، وهو جدي.

ص: 14

فقال :

هذا أنت في أصلك وعشيرتك، فكيف أنت في عترتك وأوايتك؟

قال :

- أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة .

فدفعها إليه، وإلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله :

وبردا ابن ماء المزن عمّي اكتساهما *** بفضل معدٍّ حيث عدت محاصله

وبما تفوخر بقوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها استشهد بقول الشاعر (15/ 128) :

وأقسم كسرى لا يصالح واحداً *** من الناس حتى يرهن القوس حاجب

ويقول الفرزدق في أبيه / غالب بن صعصعة/ الذي أقرى مئة ضيف واحتمل عدة ديات لقوم لا يعرفهم (15/ 129-130) :

فلله عينا من رأى مثل غالب*** قرى مئة ضيفاً ولم يتكلم

وإذ نبحت كلبٌ على الناس إنهم*** أحق بتاج الماجد المتكرِّم

فلم يجلوا عن أحسابهم غير غالب*** جرى بعنانيْ کل أبلج خِضرم

وقول لبيد في ردافة ملوك آل المنذر، وردافة الملك أن يثني به في الشرب، وإذا غاب الملك خلفه في مجلسه (15/ 130) :

وشهدت أنخبة الأكارم غالباً*** کعبي وأرداف الملوك شهود

وقول عمر بن الخطاب يفتخر بقتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة إذ قتله

ص: 15

واقد بن ثعلبة بن یربوع، وهو أول قتيل من المشركين، قال (15/ 130) :

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا*** بنخلة لما أوقد الحرب واقد

وظل ابن عبد اللّه عثمان بيننا*** ينازعه غُلٌ من القد عاند

وقول الفرزدق وقد غمّه من سمع من سليمان بن عبد الملك بن عِزّة، ولم يستطع له رداً حيث تفاخر بجدوده عند سلیمان فردّه الأخير فقال الفرزدق (15/ 131) :

أتيناك لا من حاجة عرضت لنا ***إليك ولا من قلة في مجاشع

وبما روي عن ذي الأعواز، إذ كان له خراج مصر كافة تؤدية إليه، فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به على مياه العرب، فيؤدى إليه الخراج، وقال حارثة بن بدر للأحنف بن قیس (15/ 134) :

سيكفيك عبس أخو کهمسٍ*** مقارعة الأزد في المربد

ويكفيك عمرو على رسلها *** لُكَيز بن أقصى وماعدّدوا

ويكفيك بكراً إذا أقبلت*** بضرب يشيب له الأمرد

وقول الفرزدق لجرير مفاخراً (15/ 136) :

ومنّا الذي أعطى يديه رهينةْ*** لفارَيْ معدٍّ يوم ضرب الجماجم

عشية سال المربدان كلاهما*** عجاجة موت بالسيوف الصوارم

هنالك لو تبغي كليباً وجدتها*** أذل من القردان تحت المناسم

وقول جرير (15/ 136) :

ص: 16

سائل ذوي يمنٍ ورهط محرِّقِ*** والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا

فأتاهم سبعون ألف مدجّجٍ*** متسربلین بلاقعاً وحديدا

ولقوله (علیه السلام)من كتاب له إلى معاوية :

((... ألا تربع أيها الإنسان على ضلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، ولا ظفر الظافر؛ فإنك لذهّاب في التيه، روّاغ عن القصد)) (15/ 181) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر ( 15/ 201) :

إنما عبد مناف جوهر*** زيّن الجوهر عبد المطلب

وقول الحارث بن الحنش السلمي، وهو خال هاشم والمطلب وعبد شمس، في حديث الإيلاف (15/ 202) :

إن أخي هاشماً*** ليس أخا واحد

الآخذ الإيلاف وال*** قائم للقاعد

وبالرواية التي تقول (15/ 204) :

كان لبني هاشم الفضل في عقد حلف الفضول بين القبائل؛ فقد عقد في دار عبد اللّه بن جدعان ونهض به الزبير بن عبد المطلب ودعا إليه وحث عليه، وهو الذي سماه حلف الفضول، وذلك لما سمع الزبيدي المظلوم ثمن سلعته قد أوفي على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعاً عقيرته وقريش في أنديتها قائلاً :

يا للرجال المظلوم بضاعته*** ببطن مكة ناعي الحي والنفر

ص: 17

إن الحرام لمن تمت حرامته*** ولا حرام لثَوْبيْ لابس القدر

حَميَ وحلف ليعقدنَّ حلفاً بينه وبين بطون قریش من أن قريش يمنعون القويَّ من ظلم الضعيف، والقاطن من عنف الغريب ثم قال :

حلفت لنعقدن حلفاً عليهم*** وإن كنا جميعاً أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا *** يَعُزبه الغريب لدى الجوار

ويعلم من حوالي البيت إنا *** أباة الضيم نهجركل عار

وقول الزبير بن عبد المطلب (15/ 204-205) :

ولولا الحمس لم يلبس رجالٌ*** ثياب أعزة حتى يموتوا

ثيابهمُ شمال أو عباءُ*** بها دنس كما دنس الحميت

ولكنا خلقنا إذ خلقنا *** لنا الحبرات والمسك الفتيت

وكأسٌ لوتِبين لهم كلاماً *** لقالت إنمالهم سبيت

تبين لنا القذى إن كان فيها *** رضين الحلم يشربها هبيتُ

ويقطع نخوة المختال عنا *** رقيق الحدضربته صموتُ

بکفٌ مجرب لا عيب فيه *** إذا لقي الكريهة يستميتُ

وقوله أيضا (154/ 205):

وأسحم من راح العراق محلأٍ *** محيط على الجيشين جلد مرائره

صبحت به طلقاً براح إلى الندى*** إذا ما انتشى لم يختصره معاقره

ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه*** کليل على جلد النديم أظافره

ص: 18

وبالرواية التي تقول (15/ 205) :

بنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أُبيِّ بن خلف الجمحي، وفي ذلك يقول البارقي :

ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي*** بني جمحٍ والحق يؤخذ بالغصب

وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي وكان كابره عليها حين رأى جمالها، وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج :

وخشیت الفضول حين أتوني*** قد أراني ولا أخاف الفضولا

إنما والذي يحج له شمط *** إيادٍ وهللوا تهليلا

لبراء مني قتيلة ياللناس*** يتبعون إلا القتولا

وقوله فيها أيضاً :

لولا الفضول وإنه*** لا أمن من عُرَوائها

لدنوت من أبياتها *** ولَطُفْتُ حَوْلَ خِبائها

حي النخيلة إذ نأت*** مناعلی عدوائها

لا بالفراق تنيلنا *** شيئاً ولا بلقائها

حلت بمكة حلةً*** في مشيها ووطائها

وقول نفیل بن عدي لحرب بن أمية بفضل عبد المطلب عليه (15/ 207) :

أبو معاهد وأبوه عفٌّ*** وذاد الفيل عن بلد حرام

ص: 19

وقول عامر بن الطفيل يعني نفسه (15/ 244) :

لبئس الفتى إن كنت أعورَ عاقراً *** جباناً فما عذري لدى كل محضر؟

وقول الزبرقان (15/ 244) :

فاسأل بني سعد وغيرهم*** يوم الفخار فعندهم خُبري

أي امريءٍ أناحين يحضرني*** رِفد العطاء وطالب النصر

وإذا هلكت تركت وسطهم*** ولد الكرام ونابه الذكر

ولقوله ((علیه السلام))، من کتاب له إلى معاوية (16/ 132) :

((وأرديتَ جيلاً من الناس كثيراً؛ خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول معاوية بن أبي سفيان وهو يناظر علياً (علیه السلام)لمفاخرة الأكفاء والنظراء (16/ 136) :

إذا عيّر الطائي بالبخل قادرٌ*** وقرّع قساً بالفهاهة باقلُ

وقال السها للشمس أنت خفية*** وقال الدجي: يا صبح لونك حائل

وفاخرت الأرض السماء سفاهةً*** وكاثرت الشهب الحصا والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة*** ويا نفس جدي إن دهرك هازل

ولقوله (علیه السلام)((الشفيع جناح الطالب)) (18/ 204) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن عبد المطلب (18/ 207) :

ص: 20

لسنا وإن أحسابنا كملت*** يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا *** تبني ونفعل مثلما فعلوا

ولقوله (علیه السلام)وقد سئل عن قریش (وذكرناه في مواضع سالفة).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي طالب بن عبد المطلب وهو يفخر بخاليه هشام والوليد، على أبي سفيان بن حرب (18/ 290) :

وخالي هشام بن المغيرة ثاقب*** إذا همَّ يوماً كالحسام المهند

وخالي الوليد العدل عال مكانه*** وخال أبي سفيان عمرو بن مرثد

وقول الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة (18/ 305) :

من كان يسأل عنا أين منزلنا *** فأقحوانة مِنَّا منزل قمِنُ

إن نلبس العيش غضاً لا يكدره*** قرب الوشاة ولا ينبو بنا الزمنُ

ولقوله (علیه السلام): ((كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه)) (19/ 116) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الإمام (علیه السلام)نفسه يوم خيبر(19/ 127) :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة*** كليث غابات كريه المنظرة

أُفنيهم بالصاع كيل السندرة

ولقوله (علیه السلام): ((من أبطأ في عمله لم يسرع به نسبه)) (19/ 331) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن الرومي (19/ 332) :

ص: 21

وما الحسب الموروث لا در درُّه*** بمحتسب إلا بآخر مكتسب

إذا العود لم يثمر وإن كان شعبةً *** من الثمرات اعْتًدَّهُ الناس في الحطب

وقول آخر (19/ 332) :

وما فخري بمجد قام غيري*** إليه إذا رقدت الليل عنه

إلى حسب الفتى في نفسه انظر*** ولا تنظر – هديت- إلى ابن من هو

وقول آخر (19/ 332) :

يقنعني كوني بمن كوني ابنه*** أباً لي أن أرضى لفخري بمجده

إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه*** فليس بحادٍ للعلاء بِجدّه

وهل يقطع السيف الحسام بأصله*** إذا هو لم يقطع بصارم حدِّه

ولقوله (علیه السلام): ((ضع فخرك، واحطط كبرك وإذکر قبرك)) (19/ 352) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد الأمويين (19/ 354) :

إذا تائه من عبد شمس رأيته*** يتيه فرشحه لكل عظيمِ

وإن تاه تياه سواه فإنه*** يتيه لحمق أو يتيه للومِ

وقول أحد الأمويين أيضاً (19/ 354) :

أسفاً بني مروان كيف تبدلت*** بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منا تهللت*** له الأرض واهتزت إليه المنابر

وقول أحد التياهين (19/ 354) :

ص: 22

أتيه على إنس البلاد وجنّها *** ولو لم أجد خلقاً أتيه على نفسي

أتيه فلا أدري من التيه من أنا *** سوى ما يقول الناس فيَّ و فی جنسي

فإن زعموا أني من الإنس مثلهم*** فما لي عيب غير أني من الإنس

وقول أحد العلويين (19/ 355) :

لقد نازعتنا من قريش عصابة*** بحط خدود وامتداد أصابع

فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ***عليهم بما نهوى نداء الصوامع

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا *** عليهم أذان الناس في كل جامع

بأن رسول اللّه لا شك جدُّنا *** وأن بنيه كالنجوم الطوالع

ولقول الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) في رواية تقول :

((أنه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) قدم من سفر فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلاً، فقال (( امهلوا حتى تمتشط الشعثة، وتستحد الغيبة، فإذا قدمتم الكيس الكيس)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول نهشل بن مرَّي (15/ 244-245) :

على بنيِّ يشد اللّه عظمهم*** والنبع ينبت قضباناً فيكتهل

ويقول الفرزدق، إذ مكث زماناً لا يولد فعيرته زوجته (15/ 245) :

(و) قالت أراه واحداً لا أخاً له*** يؤمله في الوارثين الأباعد

لعلك يوماً إن تريني كأنما *** بنيَّ حوالیْ كالليوث الحوارد

فإن تميماً قبل أن يلد الحصى*** أقام زماناً وهو في الناس واحد

ص: 23

وقول آخر وقد مات إخوته، وملأ حوضه ليسقي، فجاءه رجل صاحب عشيرة وعترة، فأخذ بضبعه فنحاه، ثم قال لراعيه : اسقِ إبلك (15/ 245) :

لوكان حوض حمارما شربت به*** إلا بإذن حمار آخر البلد

لكنه حوض من أودي بأخوته*** ريب المنون فأمسى بيضة البلد

لوكان يشكى إلى الأموات ما لقيَ ***الأحياء بعدهمُ من قلة العدد

ثم اشتكيت لاشكاني وأنجدني*** قبر بسنجار أو قبر على فحد

وقول الأعشى وهو يذكر الكثرة (15/ 245)

ولست بالأكثر منهم حصىً*** وإنما العزة للكاثر

ص: 24

الدنيا

ص: 25

ص: 26

من خطبة له (علیه السلام): ((ألا وإن الدنيا تصرمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها، وأدبرت حذَّاء فهي تحفز بالفناء سكانها، فلم يبق منها إلا سحلة كسحلة الأدوات، أو جرعة كجرعة المقلة، أو تمززها الصديان لم ينقع)) (3/ 332) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابي الفرج الساوي (3/ 335) :

هي الدنيا تقول بملء فيها *** حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركمُ حسن ابتسامي*** فقولي مضحك والفعل مبكي

وقول آخر ( 3/ 335) :

تنحَّ عن الدنيا ولا تطلبنَّها *** ولا تخطبن قتالةً من تُناکِحُ

فليس يفي مرجوها بمحوقها *** ومكروهها أما تأملت راجح

لقد قال فيها القائلون فأكثروا *** وعندي لها وصف لعمرك صالح

سلافٌ قصاراها زعاف ومركب*** شهيٌّ إذا استلذذته فهوجامح

وشخص جميل يعجب الناس حسنه *** ولكن له أفعال سوءٍ قبائح

ص: 27

وقول أبي الطيب (3/ 336) :

أبدً تسترد ما تهب الدنيا *** فياليت جودهاكان بخلا

وهي معشوقة على الغدر لا *** تحفظ عهداً ولا تتمم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها *** وبفك اليدين عنها تخلّى

شيم الغانيات فيها ولا أدر*** ي لذا أنث الناس اسمها أم لا؟

وقوله (3/ 339 ) :

تعدُّ المشرفية والعوالي*** وتقتلنا المنون بلا قتالِ

ونرتبط السوابق مضرباتٍ*** وما ينجين من خبب الليالي

ومن لم يعشق الدنيا قديماً *** ولكن لا سبيل إلى الوصال

نصيبك في حياتك من حبيب*** نصيبك في منامك من خيال

رماني الدهر بالأرزاء حتى*** فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام*** تكسرت النصال على النصال

وهان فما أبالي بالرزايا..*** لأني ما انتفعت بأن أبالي

یُدفِّن بعضنا بعضاً ويمشي*** أواخرنا على هام الأوالي

وكم عين مقبلة النواصي***كحيل في الجنادل والرمال

ومغضٍ كان لا يغضي لخطبٍ*** وبالٌ كان يفكر في الهزال

وقوله (3/ 342) :

فمالي وللدنيا طلابي نجومها *** ومسعاي منها في شدوم الأراقم

ص: 28

وقوله (3/ 345) :

إنّا لفي زمن ترك القبيح به*** من أكبر الناس إحسان وإجمال

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته*** ما قاته، وفضول العيش إشغال

وقول آخر (3/ 336 ) :

إنما الدنيا عوارٍ*** والعواري مستردة

شِدَّةٌ بعد رجاءٍ*** ورخاء بعد شدّة

وقول محمد بن هانيء المغربي (3/ 336 ) :

وما الناس إلا ضاعن فمودٌّع*** وثاوٍ قريح الجفن يبكي لراحل

فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى*** ولا نحن إلا كالقرون الأوائل

نساق إلى الدنيا إلى غير دائمٍ ونبكي على الدنيا على غير طائل

فما عاجل نرجوه إلا كآجل ا ولا آجل نخشاه إلا كعاجل

وقول ابن المظفر المغربي (3/ 336-337 ) :

دنیاک دار غرورٍ*** ونعمة مستعارة

ودار أكلٍ وشربٍ*** ومکسبٍ وتجارة

ورأس مالك نفس*** فخف عليها الخسارة

ولا تبعها بأكلٍ*** وطيب عرف وشارة

فإن ملك سليما *** ن لا يفي بشرارة

وقول أبي العتاهية (3/ 337 ) :

ص: 29

ألا إنما التقوى هي البر والكرم*** وحبك للدنيا هو الفقر والعدم

وليس على عبدٍ تقيٍّ غضاضةٌ *** إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم

وقوله أيضاً (3/ 337 ) :

تعلقت بآمالٍ*** طوال أيِّ آمال

وأقبلت على الدنيا *** مُلِحَّا أيِّ إقبال

أياهذا تجهز لفرا *** ق الأهل والمال

فلابد من الموت*** على حال من الحال

وقوله أيضاً (3/ 337 ) :

سكن يبقى له سكن*** ما بهذا يؤذن الزمن

نحن في دار يخبرنا ***ببلاهاناطق لَسِنُ

دار سوء لم يدم فرح*** لامريءٍ فيها ولا حُزُنُ

فی سبيل اللّه أنفسنا *** كلنا بالموت مرتهن

كل نفس عند موتتها *** حظها من مالها الكفن

إن مال المرء ليس له*** منه إلا ذكره الحسنُ

وقوله أيضاً (3/ 338 ) :

ألا إننا كلنا بائد*** وأيّ بني آدم خالد

وبدؤهمُ كان من ربهم*** وكل إلى ربه عائد

فوا عجباً كيف يعصى الإله*** أم كيف يجحده الجاحد

ص: 30

وفي كل شيء له آية*** تدل على أنه الواحد

وقوله في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا (3/ 340-341) :

ما زالت الدنيا لنادار أذى*** ممزوجة الصفو بألوان القذى

الخير والشر بها أزواج*** لذا نتاج ولذا نتاج

من لك بالمحض وليس محض*** يخبث بعض ويطيب بعض

لكل إنسان طبیعتان*** خیر وشرٌّ وهما ضدان

والخير والشر إذا ما عُدّا *** بينهما بون بعيدجدّا

إنك لو تستنشق الشحيحا *** وجدته أنتن شيء ریحا

حسبك مما تبتغيه القوتُ*** ما أكثر القوت لمن يموتُ

الفقر فيماجاوز الكفافا *** من اتقى اللّه رجا وخافا

هي المقادير فلمني أو فذر*** إن كنت أخطأت فما أخطا القدر

لكل مايؤذي وإن قل ألم*** ما أطول الليل على من لا ينم

انتفع المرء بمثل عقله*** وخیر ذخر المرء حسن فعله

إن الفساد ضده الصلاح*** ورب جدٍّ جرّه المزاح

من جعل النمام عيناً هلكا *** مبلغك الشر كباغيه لكا

إن الشباب والفراغ والجدة*** مفسدة للمرء أي مفسدة

يفتيك عن كل قبيح تركه*** قد يوهن الرأي الأصيل شکه

ماعيش عن آفته بقاه*** نقص عيشاً هانئاً فناه

ص: 31

يا رُبَّ من أسخطنا بجهده*** قد سرنا اللّه بغیر حمده

ما تطلع الشمس ولا تغيب*** إلا لأمرٍشأنه عجيب

لكل شيء قدر وجوهر*** وأوسط وأصفر وأكبر

وكل شيء لاحق بجوهره*** أصغره متصل بأكبره

من لك بالمحض وكل ممتزج*** وساوسٍ في الصدر منك تعتلج

عجبت واستغرقني السكوتُ*** حتى كأني حائر مبهوتُ

وقوله أيضاً (3/ 341 ) :

کل لدنياه له حرصُ*** والحادثات لنا بها قرصُ

وكأن من واروه في جَدَثٍ*** لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ

يهوى من الدنيا زيادتها *** وزيادة الدنيا هي النقصُ

لِيَدِ المنية في تلطفها *** عن ذخركل نفيسة فحصُ

وقوله أيضاً (3/ 341 ) :

أبلغ الدهر في مواعظه بل*** زاد فيهن لي من الإبلاغ

أي عيش يكون أطيب من عي*** شٍ كفاف قوتٍ بقدر البلاغ

غصبتني الأيام أهلي ومالي*** وشبابي وصحتي وفراغي

صاحب البغي ليس يسلم منه*** وعلى نفسه بنی کل باغِ

رب ذي نعمة تعرص منها *** حائل بينها وبين المساغ

وقوله أيضاً (3/ 347 ) :

ص: 32

لتجذبني يد الدنيا بقوتها *** إلى المنايا، وإن نازعتها رسني

للّه دنيا أناسٍ دائبين لها *** وحتفها لو درت في ذلك السجن

وقوله أيضاً (3/ 347-348) :

أنساك محياك المماتا *** فطلبت من الدنيا الثباتا

ووثقت بالدنيا وأنت*** ترى جماعتها شتاتا

وعزمت ويك على الحيا *** ة وطولها عزماً بتاتا

يامن رأى أبويه فيمن*** قد رأي- كانا فماتا

هل فيهما لك عبرة*** أم خلت أن لك انفلاتا

ومن الذي طلب التفلت*** من منیتة ففاتا

کل تصبحه المنية*** أو تبيته بياتا

وقوله أيضاً (3/ 348 ) :

أرى الدنيا لمن هي في يديه*** کِذاباً ، كلما كثرت لديه

تھین المكرمين لها بصغر*** وتكرم كل من هانت عليه

إذا استغنيت عن شيءٍ فدعه*** وخذ ما أنت محتاج إليه

وقوله (3/ 348 ) :

ألم تر ريب الدهر في كل ساعة*** له عارض فيه المنية تلمع

أيا باني الدنيا لغيرك تبتني*** وياجامع الدنيا لغيرك تجمع

أرى المرء وثاباً على كل فرصةٍ*** وللمرء يوماً لا محالة مصرع

ص: 33

ينازل مالا يملك الملك غيره*** متى تنقضي حاجات من ليس يشبع

وأي امريءٍ في غاية ليس نفسه *** إلى غاية أخرى سواها تَطَلَّعُ

وقوله (3/ 348-349) :

سل الأيام عن أمم تقضّت*** ستخبرك المعالم والرسومُ

تروم الخلد في دار التفاني*** وكم قد رام قبلك ماترومُ

لأمرٍ ما تصرمت الليالي*** وأمرٍ ماتقلبت النجومُ

تنام ولم تنم عنك المنايا *** تنبه للمنية يانؤومُ

إلى ديان يوم الدين تمضي*** وعند اللّه تجتمع الخصومُ

وقول الرضي الموسوي (3/ 338 ):

يا آمن الأيام بادر صرفها *** واعلم بأن الطالبين حثاث

خذ من تراثك ما استطعت فإنما *** شركاؤك الأيام والورّاث

لم يقضِ حق المال إلا معشر*** نظر الزمان يعيث فيه فعاثوا

تحثي على عيب الفتيِّ يد الفتى*** والفقر عن عيب الفتى بحَّاث

المال مال المرء ما بلغت به*** الشهوات أو دفعت به الأحداث

ما كان منه فاضلاً عن قوته*** فليعلمنَّ بأنه میراث

مالي إلى الدنيا الدنية حاجة*** فليجنِ ساحر کيدها النفّاث

طلقتها ألفاً لأحسم داءها *** وطلاق من عزم الطلاق ثلاث

وثباتها مرهوبة دعواتها *** مكذوبة ، وحبالها أنكاث

ص: 34

أمُّ المصائب لا تزال تروعنا *** و منها ذكور حوادث وإناث

إني لأعجب للذين تمسكوا*** بحبائل الدنيا وهن رثاث

كنزوا الكنوز وأعقلوا شهواتهم*** فالأرض تشبع والبطون غراث

أتراهموا لم يعلموا أن التقی-*** أزوادنا وديارنا الأجداث

وقوله (3/ 345-346) :

تأبى الليالي أن تديما *** بؤساً لخلق أو نعيما

والمرء بالإقبال يب*** لغ وادعاًخطراً جسيما

فإذا انقضى إقباله*** رجع الشفيع له خصيما

وهو الزمان إذ نبا*** سلب الذي أعطى قديما

کالريح ترجع عاصفا *** من بعد ما بدأت نسيما

وقول آخر (3/ 339 ) :

هذه الدنيا إذا صرفت وجهها لم تنفع الحَيلَ

وإذا ما أقبلت لعمٍ*** بصّرته كيف يفتعل

وإذا ما أدبرت لذكيِّ*** غاب عنه السهل والجبل

فهي كالدولاب دائرة*** ترتقي طوراً وتستقل

في زمان صار ثعلبه*** أسداً واستأسد الحمل

فالذنابي فيه ناصية *** والنواصي خُشّع ذلل

فاصبري يانفس واحتملي*** إن نفس الحر تحتمل

ص: 35

وقول ابن المعتز (3/ 342 ) :

حمداً لربي وذماً للزمان فما *** أقلَّ في هذه الدنيا مسراتي

كفّت يدي أملي عن کل مطّلب*** وأغلقت بابها من دون حاجاتي

وقوله (3/ 342 ) :

ألم تر أن الدهر يهدم ما بني*** ويسلب ما أعطى ويفسد ما أسدا

فمن سَرّه أن لا يرى ما يسوؤه*** فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً

وقول البحتري (3/ 343-344) :

كأن الليالي أغربت حادثاتها *** بحب الذي تأبى وبغض الذي تهوى

وقول أبي بكر الخوارزمي (3/ 343-344) :

ما أثقل الدهر على من ركبه*** حدثني عنه لسان التجربة

لا تشكر الدهر لخير سبّبه*** فإنه لم يتعمد بالهبة

وإنما أخطأ فيك مذهبه*** كالسيل قد يسقي مكاناً أخربه

والسم يستشفي به من شربه

وقول آخر (3/ 344 ) :

يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهداً *** والدهر ماعاش في إفساده داعي

وقول آخر (3/ 344 ) :

يقرُّ الفتي مَرُّ الليالي سليمةً *** وهن به عما قليل عواثر

وقول آخر (3/ 344 ) :

ص: 36

إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ*** كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون کما لقينا

وقول آخر (3/ 344 ) :

قل لمن أنکرحالاً منکره*** ورأى من دهرما حيّره

ليس بالمنكر ما أنكرته*** كل من عاش رأى ما لم يره

وقول ابن الرومي (3/ 344-345) :

سكن الزمان وتمت سكنته*** دفع من الحركات والبطشِ

کالأفعوان تراه منبطحاً *** بالأرضِ ثم يثور للنهشِ

وقول آخر (3/ 345 ) :

جار الزمان علينا في تصرفه*** وأي حر عليه الدهر لم يجر

عندي من الدهر مالو أن آيسره*** يكفي عن الفلك الدوار لم يدرِ

وقول آخر (3/ 345 ) :

هذا الزمان الذي كنا نحاذره*** فيما يحدث كعب وابن مسعود

إن دام هذا ولم تعقب له غِيَرّ*** لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود

وقول آخر (3/ 345 ) :

يا زماناً ألبس الأحرار*** ذلاً ومهانة

لست عندي بزمانٍ*** إنما أنت زمانة

أجنون ما نراه*** منك يبو أم مجانة؟

ص: 37

وقول أبي عثمان الخاري (3/ 346 ) :

ألفت من حادثات الدهر أكبرها *** فما أعادي على أحداثها الصُغُرِ

تزيد في قسوة الأيام طيب ثنا *** كأنني المسك بين الفهر والحجر

وقول السري الرفاء (346) :

تذكر هذا الدهر فيما يرومه*** على أنه فيما نحاذره ندب

فسير الذي نرجوه سير مقيَّدٌ ***وسير الذي نخشى غوائله وثب

وقول ابن الرومي (3/ 346) :

ألا إن في الدنيا عجائب جمة *** وأعجبها ألا يشيب وليدها

إذا ذل في الدنيا الأعزاء واكتست*** أذلتهاعزاً وساد مسودها

هناك فلاجادت سماء بصوبها *** ولا أمرعت أرض ولا اخضر عودها

أرى الناس مخسوفاً بهم غير أنهم*** على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها

وما الخسف أن يلقى أسافل بلدةٍ*** أعاليها، بل أن يسود عبيدها

وقول السري الرفاء (3/ 346 ) :

لنا من الدهر خصم لا نطالبه*** فما على الدهر لوكفت نوائبه

يرتد عنه جريحاً من يسالمه*** فكيف يسلم منه من يحاربه

ولو أمنت الذي تجني أراقمه*** علي َّهان الذي تجني عقاربه

وقول أبي فراس بن حمدان (3/ 347 ) :

تصفحت أحوال الزمان ولم يكن*** إلى غير شاك للزمان وصول

ص: 38

أكل خليل هكذا غير منصفٍ*** وكل زمان بالكرام بخيل

وقول ابن الرومي (3/ 347 ) :

رأيت الدهر يرفع كل وغدٍ*** ويخفض كل ذي شيم شريفة

كمثل البحريغرق فيه حيٌّ *** ولا ينفك تطفوفيه جيفة

أو الميزان يخقض كل وافٍ*** ويرفع كل ذي زنة خفيفة

وقول ابن نباتة (3/ 347 ) :

وأصغر عيب في زمانك أنه*** به العلم جهل، والعفاف فسوق

وكيف يسر الحرفيه بمطلب*** ومافيه شيءٌ بالسرور حقيق

ولقوله (علیه السلام)في ذكر المكاييل والموازين : ((عباد اللّه إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثرياء مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل منقوص، وعمل محفوظ، فرب دائب مطيّع، ورب كادح خاسر؛ وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه، إلا إدباراً، والشر إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوان قویت عدته، وعمّت مکیدنه، وأمكنت فريسته) (8/ 244) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول بشر الحافي (8/ 247 ):

قرير العين لا ولد يموت*** ولا حذر يبادر مايفوت

رضي البال ليس له عيال*** خلي من حربت ومن دهيت

قضى وطر الصبا وأفاد علماً *** فعاتبه التفرد والسكوت

وأكبر همّه مما عليه*** تذابح من ترى خلق وقوت

ص: 39

وقول ابن المعتز (8/ 247 ) :

ملَّ معامي عُوَّدُه*** وخان دمعي مُسعدُه

وضاع من ليلي غده*** طوبى لعينٍ تجده

ملّت من الدهر يده*** يفنى ويبقى أبده

والموت صارٍ أسده*** وقاتل من يده

وقول آخر (8/ 248 ):

قصر الجديد إلى بلى*** والوصل في الدنيا انقطاعه

أي اجتماع لم يعد*** بتفرق منها اجتماعه

أم أي شعب ذي*** التئام لم يبدد انصداعه

أم أي منتفع بسيءٍ*** ثم تم له انتفاعه

يا بؤس للدهر الذي*** ما زال مختلفاً طباعه

قد قيل في مثل فلا:***(يكفيك من شرشجاعه)

ولقوله ((علیه السلام)): ((دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها، ... واعلموا عباد اللّه أنكم، وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى من قبلكم ... وكأن صرتم ما صاروا إليه، وارتهنکم ذلك المضجع، وضمكم ذلك المستودع ... فكيف بكم لو تناحت بكم الأمور، وبعثرت القبور)) (11/ 257):

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشريف الرضي رضي اللّه عنه (11/ 261-262) :

ص: 40

وهل نحن إلا مرامي السهام*** يحفزها نائل دائب

نسر إذ جازنا طائش*** ونجزع إن مسنا صائب

ففي يومناقدر لابدٌ *** وعند غدٍ قدر واثب

طرائد تطردها النائبات*** ولا بد أن يدرك الطالب

أرى المرء يفعل فعل الحديد*** وهوغداً حماً لازب

عواري من سلب الهالكين*** يمد يداً نحوها السالب

لنا بالروى موعد صادق*** ونيل المني موعد کاذب

حبائل للدهر مبثوثة*** يرد إلى ج ذبها الهارب

وكيف نجاوز غاياتنا ***وقد بلغ المورد القارب

نصبح بالكأس مجدوحةً *** و زعافاً، ولا يعلم الشارب

وقوله (11/ 262-263):

ما أقل اعتبارنا بالزمان*** وأشد اغترارنا بالأماني

وقفات على غرورٍ وإقدا*** م على مزلق من الحدثان

في حروب مع الردى فكأنا*** اليوم في هدنةً مع الأزمان

وكفانا م ذكراً بالمنايا *** علمنا أننا من الحيوبان

كل يوم رزية بفلان*** ووقوع من الردی بفلان

کم تراني أضل نفساً وألهو*** فكأني وثقت بالوجدان

قل لهذي الهوامل استوقفي السير*** أو استشري عن الأعطان

ص: 41

واستقيمي قد ضمك اللقم*** النهج، وغنى وراءك الحاديان

کم محيداً عن الطريق وقد ضرّح*** خلج البري وجذب العران

نتثنى جازعين من العدوة*** الدهر ونرتاع للمنايا الرواني

جفلته السرب في الظلام وقد*** زُعزع روعاً من عدوة الذوبان

ثم ننسى جرح الحمام وإن كان*** غيباً يا قرب ذا النسيان

كل يوم تزايل من خليطٍ*** بالردي، أو تباعد من دان

وسواء مضي بنا القدر الجد*** عجولاً، ما مامطل العصران

قد مررنا على الديار خشوعاً *** ورأينا البنا، فأين الباني

وجهلنا الرسوم ثم علمنا *** فذكرنا الأوطار بالأوطان

إلتفاتاً إلى القرون الخوالي*** هل ترى اليوم غير قرٍن فان

أين رب السدير فالحيرة*** البيضاء، أم أين صاحب الإيوان

والسيوف الحداد من آل بدر*** والقنا الصّم من بني الريان

طردتهم وقائع الدهر عن*** لعلع طرد السفاف عن نجران

والمواضي من آل جفنة أرسى*** طنباً ملكهم على الجولان

يكرعون العقار من فلق الإبريز*** کرع الظماء في الغدران

من أُباة اللعن الذين يُحنّون*** بها في معاقد التيجان

تتراءاهم الوفود بعيداً *** ضاربين الصدور بالأذقان

في رياض من السماح خوالٍ*** وجبالٍ من الحلوم رزان

ص: 42

وهم الماء لذ للناهل الظمآن*** برداً والنار للحيران

ظلّ مستيقظ الجنان إذا أظلم*** ليل النوّامة المبطان

يغتدي في السباب غير شجاع*** ويُرى في النزال غير جبان

ماثنت عنهم المنون يداً *** شوكاء أطرافها من المرّان

عطف الدهر فرعهم فرآه*** بُعد بعدِ الذرا قریب المجاني

وثنتهم بعد الجماع المنايا *** في عنان التسليم والإذعان

عطلت منهم المقاري وباخت*** في حماهم مواقد النيران

ليس يبقى على الزمان جريء*** في إباءٍ، أو عاجزٍ في هوان

لاشبوب من الصواري ولا أعنق*** يرعى منابت العلاجان

لا ولا خاضب من الربد يختال*** بربطٍ أحمَّ غیر یمان

يرتمي وجهه الرئال إذا آ *** فن لون الأظلام والأدجان

وعُقاب الملاع تلحم مزجتها *** بازليقة زلول القِنان

نائلاً في مطامح الجو هاتيك*** وذا في مهابط الغيطان

وقوله ( 11/ 265-266):

أومَا رأيت وقائع الدهر*** أفلا تسيء الظن بالعمر؟

بينا الفتی كالطود تكنفه*** هضباته، والعضب ذي الأثر

يأبى الدنية في عشيرته*** ويجاذب الأيدي على الفخر

وإذا أشار إلى قبائله*** حشدت عليه بأوجهٍ غٌرّ

ص: 43

يترادفون على الرماح فهم*** سیل یعب وعارض يسري

إن نهنهوا زادوا مقاربة*** فكأنما يدعون بالزجر

عدد النجوم إذا دعي بهم*** يتزاحمون تزاحم الشعر

عقدوا على الجلي مآزرهم*** سبطي الأنامل طيبي النشر

زال الزمان بوطء أخمصه ***ومواطيء الأقدام للعثر

نزع الإباء وكان شملته*** وأقرّ إقراراً على صُغر

صدع الردى أعيا تلاحمه*** من ألحم الصدفين بالقطر

جرّ الجياد على الوجى ومضى*** اُمماً يدق السهل بالوعر

حتى التقى بالشمس مغمدة *** في قعر منقطع من البحر

ثم انشت کف المنون به*** كالضِّغث بين الناب والظفر

لم تشتجر عنه الرماح ولا *** رد القضاء بماله الدثر

جمع الجنود وراءه فكأنما *** لاقته وهو مضيع الظهر

ويرى المعابل للعدى فكأنما *** لحمامه كان الذي يبري

إن التوقي فرط معجزة *** فدع القضاء يُعدُّ أو يکري

وحمى المطاعم للبقاء وذي*** الآجال ملء فروجها تجري

لوكان حفظ النفس ينفعنا *** كان الطبيب أحقٌ بالعمر

الموت داء دواء له*** سيان مايأتي وما يُمري

ولقوله (علیه السلام)، من کتاب له إلى عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه :

((أما بعد، إن المرء تَسرُّه درك مالم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن

ص: 44

لیدرکه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك وليكن أسفك على ما فاتك منها، ومانلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعاً، وليكن همك فيها بعد الموت)). إستشهد بقول الشاعر (15/ 140-142) :

دار الفجائع والهموم ودار *** البث والأحزان والبلوى

مر المذاقة غب ما احتلبت *** منها يداك وبَيّة المرعى

بينا الفتى منها بمنزلةٍ *** إذ صار تحت ترابها ملقى

تقفوا مساويها محاسنها *** لاشيء بين النعي والبشرى

ولقلّ يوم ذرَّ شارقه *** إلا سمعت بها لك ينعى

لا تعتبنّ على الزمان لما *** يأتي به فلقلما يرضى

للمرء رزق لايفوت ولو*** جهد الخلائق دون أن يفنی

ياعامر الدنيا المعدَّ لها*** ماذا عملت لدارك الأخرى

وممهد الفرش الوطيئة لا*** تغفل فراش الرقدة الكبرى

لوقد دعيت لقد أجبت لما*** تدعى له فانظر متى تدعى

أتراك تحصي کم رأيت من ال*** أحياء ثم رأيتهم موتى

من أصبحت دنياه همته*** فمتى ينال الغاية القصوى

سبحان من لاشيء يعدله*** كم من بصير قلبه أعمى

والموت لا يخفى على احدٍ*** ممن أرى وكأنه يخفی

والليل يذهب والنهار بأح*** بابي وليس عليهما عدوى

ص: 45

ولقوله (علیه السلام): ((من جرى في عنان أمله عثر بأجله)).

استشهد إبن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 127 ):

أراك تزيدك الأيام حرصاً***على الدنيا كأنك لا تموت

فهل لك غاية إن صرت يوماً*** إليها قلت حسبي قد رضيت

ولقوله (علیه السلام): ((الدهر يخلق الأبدان، ويجدد الآمال، ويقرب المنية ويباعد الأمنية، من ظفر به نَصَب، ومن فاته تَعِب)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 218 ):

كأنك لم تسمع بأخبار من مضى*** ولم ترَ بالباقين ماصنع الدهر

فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم*** عفاها مجال الريح بعدك والقطر

وهل أبصرت عيناك حياً بمنزل*** على الدهر إلا بالعراء له قبر فل

ا تحسبن الوفر مالاً جمعته*** ولكن ماقدمت من صالح وفر

مضى جامعوا الأموال لم يتزودوا*** سوى الفقريا بؤس لمن زاده الفقر

فحتى مَ لاتصحو وقد قرب المدى*** وحتى مَ لا ينجاب عن قلبك السكر

بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا*** وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر

ومابين ميلاد الفتى ووفاته*** إذا انتصح الأقوام أنفسهم عمر

لأن الذي يأتيه شبه الذي مضى*** وماهو إلا وقتك الضيق النزر

فصبراً على الأيام حتى نجوزها*** و فعما قليل بعدها يحمد الصبر

ولقوله (علیه السلام): ((معاشر الناس، إتقوا اللّه ؛ فكم من مؤمل ما لا

ص: 46

يبلغه، وبانٍ ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه؛ أصابه حراماً، واحتمل به آثاماً ، فباء بوزره، وقدم على ربه، أسفاً لاهفاً)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 259 ):

ألم ترَ حوشباً بالأمس يبني*** بناءً نفعه لبني نُفيلة

يؤمل ما يعمر عمرنوحٍ*** وأمر اللّه يطرق كل ليلة

وقول الشاعر (19/ 259 ):

وذي إبل يسعى ويحسبها له*** أخو تعب في عيها ودؤوب

غدت وغدا رب سواه يسوقها*** وبُدِّل أحجاراً وجال قليب

ولقوله (علیه السلام): ((أيها الناس متاع الدنيا حطام موبيء، فتجنبوا مرعاةً قُلعتُها أحظى من طمأنينتها، وبلغتها أزکی من ثروتها، حكم على مكثريها بالفاقة، وأغنى من غنى عنها بالراحة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 285-289 ):

ومن يحمد الدنيا لعيش يسره*** فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة*** وإن أقبلت كانت كثيراً همومها

وقول لبيد (19/ 290 ):

وما المال والأهلون إلا وديعة*** ولابد يوماً أن ترد الودائع

وقول إبراهيم بن أدهم (19/ 290 ):

ص: 47

نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا*** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع

وقول الشاعر (19/ 291 ):

أرى طالب الدنيا وإن طال عمره*** ونال من الدنيا سروراً وأنعما

کبانٍ بني بنيانه فأقامه*** فلما استوى ماقد بناه تهدما

وقول أبي العتاهية (19/ 291 ) :

تعالى اللّه ياسلم بن عمرو*** أذل الحرص أعناق الرجال

هب الدنيا تساق إليك عفواً*** أليس مصير ذاك إلى الزوال

وما دنياك إلا مثل فيءٍ*** أظلك ثم آذن بانتقال

وقول الشاعر ( 19/ 292):

يا خاطب الدنيا إلى نفسها*** تنحَّ عن خطبتها يسلمِ

إن التي تخطب غدّارة*** قريبة العرس من المأتم

ولقوله (علیه السلام): ((البخل جامع لمساويء العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي نواس (19/ 316-318) :

فتى يشتري حسن الثناء بماله*** ويعلم أن الدائرات ت دور

وقول ابن الرومي (19/ 318 ) :

وتاجر البر لا يزل به*** ربحان في كل متجرٍ تجره

أجرٌ وحمدٌ وإنما طلبٌ*** الأجر ولكن كلاهما اعتوره

ص: 48

ولقوله (علیه السلام): ((ما لابن آدم والفخر، أوله نطفة، وآخره جيفة لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (20/ 115 ) :

إنما الدنيا كرؤيا فرّحت*** من رآها ساعة ثم انقضت

ولقوله (علیه السلام): ((أيها المخلوق السوي، والمُنشأ المرعي؛ في ظلمات الأرحام، ومضاعفات الأستار، بُدئتَ من سلالة من طين، ووضِعتَ في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم، ... ثم أخرجتَ في مقركَ إلى دار لم تشهدها؛ ولم تعرف سبل منافعها)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا وصروفها (9/ 257-259) :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها*** يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها*** لأوسع مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه*** و بما سوف يلقى من أذاها يهدد

ولقوله (علیه السلام): ((طوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه)) (10/ 33). استشهد ابن أبي الحديد بقول مجنون لیلی (10/ 44 ):

وإني لأستغشي وما بيَ نعسةٌ*** لعل خيالاً منك يلقى خياليا

وأخرج من بين البيوت لعلني*** أحدث عنك النفس بالسر خاليا

ص: 49

ص: 50

الشكوى

ص: 51

ص: 52

من كلام له (علیه السلام)لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين (علیه السلام)وأعتقه فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام، فقال (علیه السلام):

((قبح اللّه مصقلة! فَعَلَ فِعْلَ السادة وفرَّ فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدّق واصفه حتى بكّته، ولو أقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بمالِهِ وفورَه)) (3/ 119).

استشهد ابن أبي الحديد بقول علي بن الجهم لما حبسه المتوكل(3/ 123-124 ) :

ألم ترَ مظهرين عليَّ عتباً*** وهم بالأمس إخوان الصفاءِ

فلما أن بلیت غدواً وراحوا*** عليَّ أشدَّ أسباب البلاءِ

أبت أخطارهم أن ينصروني*** بمالٍ أو بجاهٍ أو ثراءٍ

وخافوا أن يقال لهم خذلتم*** صديقاً، فادعوا قدم الجفاءِ

تظافرت الروافض والنصارى*** وأهل الاعتزال على هجائي

وعابوني وماذنبي إليهم*** سوى علمي بأولاد الزناءِ

ص: 53

ولقوله (علیه السلام)للخوارج : ((أصابكم حاصب، ولا بقي منكم آبر، أبعد إيماني باللّه، وجهادي مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ظللت إذاً وما أنا من المهتدين، فأوبوا وارجعوا على أثر الأعقاب، أما أنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنّة)) (4/ 129) :

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (4/ 182-183):

لما ولي الحجاج العراق ودخل الكوفة وخطب وهدد فجاءه عمیر بن ضابيء البرجمي بابنه فقال :

- أصلح اللّه الأمير! إن هذا أنفع لكم مني، وأشد بني تميم أبداناً، وأجمعهم سلاحاً، وأربطهم جأشاً، وأنا شيخ عليل، واستشهد جلساءه ، فقال له الحجاج :

- إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبيِّن ولكن أكره أن يجتري بك الناس عليَّ، وبعد فأنت ابن ضابيء صاحب عثمان، وأمر به فقتل، ففي ذلك يقول عبد اللّه بن الزبير الأسدي :

أقول لعبد اللّه يوم لقيته*** أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا

تجهز فإما أن تزور ابن ضابيء*** عميراً، وإما أن تزور المهلبا

هما خطتا حسف نجادك منهما*** ركوبك حولياً من الثلج أشهبا

فكائن ترى من مكره الغزو مُسجراً*** تحم حنو السرج حتى تحنّبا

فما أن أرى الحجاج يغمد سيفه*** مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا

فأضحى ولو كانت خراسان دونه*** رآها مكان السوق أو هي أقربا

ص: 54

وقول سوار بن المضرب السعدي وقد هرب من الحجاج (4/ 183) :

أقاتليَ الحجاج إن لم أزر له*** دراب وأترك عند هند فؤاديا

فإن كان لا يرضيك حتى ترّدني*** إلى قطري ٍّ ما أخالك راضيا

إذا جاوزت درب المجيزين ناقتي*** فاسْتِ أبي الحجاج لما ثنانيا

أيرجوبنومروان سمعي وطاعتي*** وقومي تميم والفلاة ورائيا

وبالرواية التي تقول (4/ 184) :

((أتی الحجاج البصرة .. وكان أشد عليهم إلحاحا.. وأتاه رجل من بني يشكر، وكان شيخاً أعور.. وكان يلقب؛ ذا الكرسنة، فقال :

- أصلح اللّه الأمير! إن بي فتقاً، وقد عذرني بشر بن مروان، وقد رددت العطاء.

قال :

- إنك عندي الصادق، ثم أمر به فضرب عنقه، ففي ذلك يقول کعب بن الأشقري أو الفرزدق :

لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة*** تقرقر منها بطن كل عريف

ولقوله (علیه السلام): ((فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبيني إسرائيل (علیه السلام)فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال ؟ تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم)) ( 13/ 171).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول ( 13/ 174-175) :

ص: 55

إن تميماً منعت النعمان الأتاوة سنة من السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجعل من معه من بكر بن وائل واستاق النعم وسبى الذراري، وفي ذلك يقول شاعر بني يشكر:

لما رأوا راية النعمان مقبلة*** قالوا: ألا ليت أدنى دارنا عدن

ياليت أم تميم لم تكن عرفت*** مراً، وكانت كمن أودي به الزمن

إن تقتلونا فأعيار مخدعة*** أو تنصحوا فقديماً منكم المنن

منكم زهير وعتاب ومحتضن*** وابنا لقيط وأوس في الوغى قطن

ولقوله (علیه السلام): من وصية للحسن (علیه السلام)كتبها إليه بحاضرین عند انصرافه من صفين - وقد ذكرناها - ( 16/ 109).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عوف بن محلّم الشيباني في عبد بن طاهر آمر خراسان ( 16/ 55) :

يا ابن الذي دان له المشرقان*** وألبس الأمن به المغربان

إن الثمانين وبلّغتها*** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وبدلتني بالشطاط أنحني*** وكنت كالصعدة تحت السنان

وقاربت مني خطي لم تكن*** مقاربات وثنت من عنان

وعوضتني من زماع الفتی*** وهمّه هم الجبان الهدان

وأنشأت بيني وبين الوری*** عنانة من غير نسج العنان

ولم تدع فيَّ المستمتع*** إلا لساني وكفاني لسان

ص: 56

أدعوبه اللّه وأثني به*** على الأمير المصعبي الهجان

فقرباني بأبي أنتما*** من وطني قبل اصفرار البنان

وقبل منعاي إلى نسوة*** أوطانهاحران والرقتان

وقول سالم بن عوض الضبي ( 16/ 56) :

لا يبعدن عصر الشباب ولا*** لذاته وبناته النضر

والمشرقات من الخدود كإيما*** ض الغمام يجود بالقطر

وطراد خيل مثلها التقتا*** لحفيظة ومقاعد الخمر

لولا أولئك ما حلفت متى*** عوليت في خرج إلى قبري

هربت زبيبة إن رأت ثرمي*** وإن انحنى لتقادمٍ ظهري

من بعد ما عهدت فأدلفني*** يوم يمر ولية تسري

حتى كأني خاتل قنصاً*** والمرء بعد تمامه يجري

لا تهزئي مني زبيب فما*** في ذاك من عجب ولا سخر

أوَ لم تري لقمان أهلكه*** من قُتَّ من سنة ومن شهري

وبقاء نسر كلما انقرضت*** أيامه عادت إلى نسر

ماطال من أمدٍ علي لُبَد*** رجعت محارته إلى قصر

ولقد حلبت الدهر أشطره*** وعلمت ما أتى من الأمر

ولقوله (علیه السلام): ((فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عليّ، وإقبال الآخرة إلىَّ، ما يزغني عن ذكر من سواي. والاهتمام بما ورائي، غير

ص: 57

أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدتني رأيي، وصرفتني عن هواي)) (16/ 57):

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي إسحاق الصابي (16/ 58-59) :

إذا ما تعدت بي وسارت محفة*** لها أرجل يسعى لها رجلان

وما كنت من فرسانها غير أنها*** وفت ليَ لما خانت القدمان

نزلت إليها عن سراة حصاني*** بحكم مشيب أوفراش حصان

فقد حملت مني ابن سبعين سالكاً*** سبيلاً عليها يسلك الثقلان

كما حمل المهد الصبي وقبلها*** ذعرت أسود الفيل بالنزوان

ولي بعدها أخرى تسمى جنازةً*** ضبية يوم للمنية وان

تسير على أقدام أربعة إلى*** دیار البلى معدودهن ثمان

وإني على عيث الردي في جوارحي*** وما كف من خطوي وبطش بناني

فإن لم يدع إلا فؤاداً مروعاً*** به غیرٌ باقٍ من الحدثان

تلوّم تحت الحجب ينفث حكمه*** إلى أذنٍ تصغي لنطق لسان

لا علم أني ميت عاق وقته*** ذماءٌ قليل في غيدٍ هوفان و

إن فماً للأرض غرثان حائماً*** يراصد من أكل حضور أوان

به شره عم الوری بفجائع*** تركن فلاناً ثاكلاً لفلان

غدا فاغراً يشكو الطوى وهو رائع*** فما تلتقي يوماً له الشفتان

إذا عاضنا بالنسل ممن نعوا له*** تلا أولا سنة بمهلك ثان

ص: 58

إلى ذات يومٍ لا ترى الأرض وارثاً*** سوى اللّه من إنسٍ تراه وجان

أقيك الردي إني تنبيت من كرى*** وسهو على طول المدى اعترياني

فأثبت شخصاً دانياًكان خافياً*** على البعد حتى صار نصب عياني

هو الأجل المحتوم لي جدّ جدّه*** وكان يريني غفلة المتواني

له نذر قد آذنتني بهجمةٍ*** له لست منها آخذاً بأمان

ولابد منه ممهلاً أو معاجلاً*** سيأتي فلا يشيه عني ثان

ولقوله (علیه السلام): ((وأنا أسأل اللّه بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ..)) (7/ 117).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحارث بن کعب يخاطب بنیه ( 17/ 120):

أكلت ش بابي فأفنيته*** وأبليت بعددهور دهورا

ثلاثةٌ آهلين حاجتهم*** فبادوا وأصبحت شيخاً كبيرا

قليل الطعام عسير القيا*** م قد ترك الدهر خطوي قصيراً

أبيت أراعي نجوم السماء***أقلب أمري بطوناً ظهورا

ولقوله (علیه السلام): ((خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (8/ 107-108) :

وأنزلني طول النوى دار غربةٍ*** متى شئت لاقيت امرءٌ لا أشاكله

أخا ثقة حتى يقال سجية ***ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

ص: 59

ولقوله (علیه السلام)، وهو يتنبأ بصاحب الزنج : ((يا أحنف، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لَجَبُ، ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خیل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام)) (8/ 125).

استشهد ابن أبي الحديد بقول صاحب الزنج / علي بن محمد/ لما هرب من الدار التي كان فيها في اليوم الذي قتل فيه :

عليك سلام اللّه ياخير منزل*** خرجنا وخلفناه غير ذميم

فإن تكن الأيام أحدثن فرقة*** فمن ذا الذي من ريبهن سليم؟

ص: 60

الحكمة

ص: 61

ص: 62

لقد تناثرت أبيات من الشعر الحكمي هنا وهناك في طيات أجزاء شرح نهج البلاغة فاستشهد ابن أبي الحديد - بها في ثنايا شرحه - دعماً لكلام الإمام (علیه السلام)أو أنه أعجب بها. فثمة أبيات استشهد بها الإمام نفسه، إن من قوله أو من أقوال شعراء آخرين، ولما كانت تلك الأبيات متناثرة هنا وهناك، كما ألمحت - ولما فيها من عبر ودروس قد تنفع في مفاصل حياتنا رأيت أن أجمعها تحت باب (الحكمة) فكان هذا الباب.

فلقوله (علیه السلام): ((فلئن أُمِر الباطل لقديماً فعل، ولئن قل الحق لربما ولعلَّ؛ ولقلما أدبر شيء فأقبل)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (1/ 280) :

وقالوا يعود الماء في النهر بعدما*** ذوى نبت جنبيه وجف المشارع

فقلت:إلى أن يجري النهر جارياً*** ويعشب جنباه، تموت الضفادع

ولقوله (علیه السلام): ((إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتباع الهوى وطول الأمل)).

ص: 63

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (1/ 319):

أرى كل إنسان يرى عيب غيره*** ويعمي عن العيب الذي هو فيه

ويقول الإمام (علیه السلام): ((من أكل تمر دَقَل ثم شرب عليه ماء، ومسح بطنه، وقال : من أدخلته بطنه النار، فأبعده اللّه)).

ثم أنشد ( 3/ 157):

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله*** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وبالرواية التي تقول :

وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلَّته بالبيت الآتي :

(و) لقد علمت وما الإشراف من خلقي*** إن الذي هو رزقي سوف يأتيني

فقال له : فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق؟

فقال أُذَيْنةُ :

أسعى له فيعنّيني تطلبه*** ولوقعدت أتاني لا يعنّيني

ثم انشغل عنه، فخرج وقعد على ناقته ونصّها راجعاً إلى الحجاز.

فذكره هشام في الليل، فسأل عنه فقيل له. إنه رجع إلى الحجاز.

ثم وجه إليه بألفي درهم، فجاء الرسول وهو في المدينة فدفعها إليه، فقال له :

- قل لأمير المؤمنين، كيف رأيت؟ سعيت فأكديت، وقعدت في منزلي فأتی رزقي.

ص: 64

ولقوله (علیه السلام): ((والدنيا دارٌ مُنِيَ لها الفناء. ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضرة، وقد عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بباقة من الشعر في ذلك المعنى نذكره تباعاً :

كقول أحد الحكماء (3/ 159) :

فلا تجزع إذا أعسرت يوماً*** فقد أيسرت في الدهر الطويل

ولا تظنن بربك ظن سوءٍ*** فإن اللّه أولى بالجميل

وإن العسر يتبعه يسار*** وقيلُ اللّه أصدقُ كلَّ قيل

ولو أن العقول تجر رزقاً*** لكان المال عند ذوي العقول

وقول الحسين الضحاك (3/ 160):

يا روح من عظمت قناعته*** حسم المطامع من غدٍ وغدِ

من لم يكن لله مُتّهماً*** لم يمسِ محتاجاً إلى أحدِ

وقول سليمان بن المهاجر البجلي (3/ 161):

کسوت جميل الصبر وجهي فصانه*** به اللّه عن غشيان كل بخيل

فلم يتبذلني البخيل ولم أقم*** على بابه يوماً مقام ذليل

وإن قليلاً يستر الوجه إن يرى*** إلى الناس مبذولاً لغير قليل

وقول الشاعر (3/ 161) :

ص: 65

ولا تهلكن النفس وجداً وحسرة*** على الشيء أسداه لغيرك قادره

ولا تيأسن من صالح أن تناله*** وإن كان نهباً بين أيدٍ تبادره

فإنك لا تعطي أمرءً حظ نفسه*** ولا تمنع الشق الذي الغيث ناصره

وقول أحد شعراء العجم (3/ 162) :

غلا السعر في بغداد من بعد رخصه ***وإنيَ في الحالين باللّه واثق

فلست أخاف الضيق واللّه واسع*** غناه، ولا الحرمان واللّه رازق

وقول أحد الشعراء (3/ 192) :

صبرت النفس لا أجز***ع من خائنة الدهر

رأيت الرزق لا يكس*** ب بالعرف ولا النكر

ولا بالسلف الأمثل*** أهل الفضل والذکر

ولا بالسُمُر الكدن*** ولا بالخذُم البتر

ولا بالفعل والدين*** ولا بالجاه والقدر

ولا يُدرَك بالطيش*** ولا الجهل ولا الهذر

ولكنْ قِسَمٌ تجري*** بماندري ولا ندري

وقول منصور الفقيه (3/ 163) :

الموت أسهل عندي*** بين القنا والأسنّة

والخيل تجري سراعاً*** مقطعات الأعنّة

من أن یکون لنذلٍ*** عليَّ فضل ومنّة

ص: 66

وقول أعرابي (3/ 163) :

اتيأس أن يقارنك النجاح*** فأين اللّه والقدر المتاح

وقول أبي العلاء المعري (3/ 163) :

فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطاً*** فعند التناهي يقصر المتطاول

تُوفي البدور النقص وهي أهلَّة*** ويدركها النقصان وهي كوامل

وقول أحدهم (3/ 164) :

وكم من ملك جانبته من كراهةٍ*** لإغلاق باب أو لتشديد حاجب

ولي في غنى نفسي مراد ومذهب*** إذا أبهمت دوني وجوه المذاهب

ولقوله (علیه السلام): ((فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول نصر بن نباتة (3/ 245):

والحسين الذي رأى الموت في العز*** حياة والعيش في الذل قتلا

وقول التهامي (3/ 245):

ومن فاته نيل العلا بعلومه*** وأقلامه فليبعها بحسامه

فموت الفتى في العز مثل حياته*** وعيشته في الذل مثل حمامه

وقول الشاعر (3/ 246):

فمن يطلب المال المقنع بالقنا*** يعش ماجداً أو يؤذ فيما يمارس

ولقوله (علیه السلام): ((المأمول مع النقم، المرهوب مع النعم)).

ص: 67

استشهد ابن أبي الحديد بما يأتي من الشعر (5/ 165-167

شاعر :

من عاش لاقى مايسو*** ء من الأمور ومايسر

ولرب حتفٍ فوقه*** ذهب وياقوت ودر

البحتري :

يسرّك الشيء قد يسوء وكم*** نوّه يوماً بحاملٍ لقبُه

لا ييأس المرء أن ينجّيه*** مايحسب الناس أنه عطبه

آخر:

رب غمٍ يدب تحت سرور*** وسرور يأتي من الموزور

سعید بن حميد :

کم نعمةٍ مطويةٍ*** لك بين أثناء النوائب

ومسرة قد أقبلت*** من حيث تنتظر المصائب

آخر:

العسر أكرمه وليس بعده*** ولأجل عين ألف عين تكرم

والمرء يكره يومه ولعله*** يأتيه فيه سعادة لا تُعلم

الحلاج:

ولربماهاج الكبير*** من الأمور لك الصغير

ولرب أمرٍ قد تضي***ق به الصدور ولا يصير

ص: 68

آخر:

كم مرة حفت بك المكاره*** خار لك اللّه وأنت كاره

واستشهد لخطبة له (علیه السلام)في صفين بقول حميد بن ثور الهلالي (15/ 171) :

قضى اللّه في بعض المكاره للفتى*** برشد وفي بعض الهوى ما يحاذر

ألم تعلمي أني إذا الألف قادني*** إلى الجور لا أنقاد والألف جائر

وقد كنت في بعض الصباوة أتقى*** أموراً وأخشى أن تدور الدوائر

وأعلم أني إن تغطيت مرة*** من الدهر مکشوف غطائي فناظر

وخطبة له (علیه السلام)استشهد ببعض الشعر الحكمي منه (7/ 87-93) :

قول الفطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته*** وقد يكون مع المستبصر الزلل

وقول البحتري :

حليم إذا القوم استخفت حلومهم*** وقور إذا ماحدث الدهر أجلبا

وقول الشاعر :

أحلامناتزن الجبال رجاحة*** وتخالنا جنّاً إذا ما نجهل

وقول أحيمة الحلاج (13/ 17) :

والصمت أجمل بالفتى*** مالم یکن عيُّ يشينه

والقول ذو خطل إذا*** ما لم يكن لب يعينه

ص: 69

وقول أحدهم :

وإذا خطبت على الرجال فلا تكن*** خطل الكلام تقوله مختالا

واعلم بأن من السكوت إبانة*** ومن التكلف ما يكون خيالا

وقول أبي العتاهية :

کل امريء في نفسه*** أعلا وأشرف من قرينه

والصمت أجمل بالفتى*** من منطق في غير حينه

وقول شاعر:

وإياك إياك المراء فإنه*** إلى الشر دعّاء وللشر جالب

وقول علي بن هشام :

لعمرك إن الحلم زين لأهله*** وما الحلم إلا عادة وتحلّم

إذا لم يكن صمت الفتى من بلادةٍ*** وعيٍّ فإن الصمت أهدى وأسلم

وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :

زعم ابن سلمى أن حلمي ضرّني*** ما ضرّ قبلي أهله الحلمُ

إنّا أناس من سجيتهم*** صدق الحديث ورأيهم حتم

لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم*** سقموا ولم يمسسهم سقم

إني وجدت العُدم أكبره*** عدم العقول وذلك العدم

والمرء أكثر عيبه ضرراً*** خطل اللسان وصمته حكم

ولقوله (علیه السلام): ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس! وطوبى لمن

ص: 70

لزم بيته؛ وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحدهم :

((كنت في سفينة ومعنا شاب عَلَوي؛ فمكث معنا سبعاً لا نسمع له كلاماً، فقلنا له :

- قد جمعنا اللّه وإياك منذ سبع، ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا، فأنشد (10/ 40-41) :

قليل الهم لا ولد يموت*** ولیس بخائف أمراً يفوت

قضى وطر الصبا وأفاد علماً***فغايته التفرد والسکوت

وأكبر همّه مما علیه*** تناجز من ترى خلق وقوت

وقول الشاعر (10/ 445) :

وكم سقت في آثاركم من نصيحةٍ*** قد يستفيد الظنة المتنصّح

وقول بعض الحكماء لصاحبه :

- أعلمك شعراً هو خير لك من عشرة آلاف درهم وهو (10/ 47-48) :

أخفض الصوت إن نطقت بليل*** والتفت بالنهار قب-ل المقال

ليس للقول رجعة حين يبدو***بقبح یکون أو بجمال

وقول الشاعر (10/ 48) :

من حمد الناس ولم يبلهم***ثم بلاهم ذم من یحمد

ص: 71

وصار بالوحدة مستأنساً***بوحشة الأقرب والأبعد

وقول الشاعر (10/ 49) :

ولا عار إن زالت عن الحر نعمة***ولکن عار أن یزول التجمل

وقول الشاعر (49/ 10) :

عدوك من صديقك مستفاد*** فلا تستكثرنّ من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه*** يكون من الطعام أو الشراب

ولأن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) طلب من بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت :

- يا رسول اللّه، لم يبق منها غير عنقها.

فقال (صلّى اللّه عليه وآله) :

- كلها بقي غير عنقها.

فاستشهد بقول الشاعر (10/ 209) :

يبكي على الذاهب من ماله*** وإنم يبق الذي يذهب

ولقوله (علیه السلام): ((فطوبى لذي قلب سليم، أطاع من يهديه، وتجنب من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصّره، وطاعة هادٍ امره)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول النابغة (11/ 68) :

ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه*** على شعْثٍ، أي الرجال المهذب

وقول الشاعر (11/ 77) :

ص: 72

إذا صفت المودة بين قومٍ*** ودام ودادهم سَمُج الثناء

ولقوله (علیه السلام)يصف العارف : ((وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (11/ 141) :

ما أبيض وجه المرء في طلب العلا*** حتي يسوِّد وجهه في البيد

وقول أبي تمام (141/ 11) :

فاطلب هدوءٍ بالتقلقل واستتر*** بالعيس من تحت السهي وهجودا

ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً*** إلا بحيث ترى المنايا سودا

وقول المتنبي (11/ 132) :

ذريني أنل ما لا ينال من العلا*** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل

تريدين إدراك المعالي رخيصة*** ولابد دون الشهد من إبر النحل

وقوله أيضاً (11/ 132) :

وإذا کانت النفوس كباراً*** تبعت في مرادها الأحسام

وقول الشاعر (11/ 190) :

أرتب ما أقول إذا افترقنا*** وأحكم دائماً حجج المقال

فأنساها إذا نحاها إذا نحن التقينا*** وأنطق حين أنطق بالمحال

وقول الآخر (11/ 190) :

فيا ليل كم من حاجةٍ لي مهمةٍ*** إذا جئتكم لم أدر بالليل ما هيه

ص: 73

ولقوله (علیه السلام): ((ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع، وإنّا لأمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه)).

استشهد إبن أبي الحديد بقول الشاعر (13/ 17) :

وما خير من لا ينفع الدهر عيشه*** وإن مات لم يحزن عليه أقاربه

كهامٌ على الأقصى كليلٌ لسانه*** وفي بشر الأدنى حديد مخالبه

ولقوله (علیه السلام)رداً على طلب عثمان منه وهو محصور أن يخرج إلى ينُبع، ليقل هتف الناس بإسمه، للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل.

فقال (علیه السلام):

((ياابن عباس مايريد عثمان إلا أن يجعلني حَمَلَاً ناضراً بالغَرْب، أقبل وأدبر! بعث إلي أن اخرج، ثم بعث إلي أن اقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن اخرج! واللّه لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (13/ 302) :

نحن أدرى وقد سألنا ألنا بنجد*** أطويل طريقنا أم يطول

وكثير من السؤال اشتياق*** وكثير من ردّه تعليل

وبقول محمد بن هاني المغربي (13/ 302) :

في كل يومٍ أستزيد تجارباً*** كم عالم بالشيء وهو يسائل

ولقوله (علیه السلام): ((إذا كان الترفق خُرقاً، كان الخُرق رفقاً)).

ص: 74

استشهد إبن أبي الحديد بقول زهير بن أبي سلمى (16/ 101) :

ومن لم يذد عن نفسه بسلاحه*** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

وقول أبي الطيب المتنبي (16/ 101) :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا*** مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى

ولقوله (علیه السلام): ((الصاحب مناسب)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (16/ 117) :

ما الخل إلا من أودَّ بقلبه*** وأرى بطرف لا يرى بسؤاله

ولقوله (علیه السلام): ((الهوى شريك العمى)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد اللّه بن معاوية (16/ 118) :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة*** كما أن عين السخط تبدي المساويا

ولقوله (علیه السلام): ((من اقتصر على قدره كان أبقى له)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (16/ 118) :

ومن جهلت نفسه قدره*** رأى غیره منه ما لايرى

ولقوله (علیه السلام): ((إياك والتغاير في غير موضع غيرة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول مسكين الدارمي (16/ 127) :

ما أحسن الغيرة في حينها*** وأقبح الغيرة في غير حين

من لم يزل متهماً عرسه*** مناصباً منها لرج الظنون

یوشك أن يغريهت بالذي*** یخاف، أو ينصبها للعيون

ص: 75

حسبك من يحصنها خَمُّها*** منك إلى خیمٍ كريم ودين

لا تظهرن يوماً على عورة***فيتبع المقرون حبل القرين

وقوله أيضاً (16/ 127 -128) :

ألا أيه الغائر المستشیط***علام تغار إذا لم تُغَر؟

فما خير عرسٍ إذ خفتها***وما خیرُ بيتٍ إذا لم يُزَر

تغار من الناس أن ينظروا***هل يفتن الصالحات النظر؟

فإني سأخلي له بیتها***فتحفظ لي نفسها أو تذر

إذا اللّه لم يعطه ودّها***فلن يعطي الود سوط ممر

ومن ذا يراعي عِرسه*** إذا ضمّه والرکاب السفر؟

وقوله أيضاً (16/ 128) :

ولست امرءً لا أبرح الدهر قاعداً*** إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا

وما مقسماً لا أبرح الدهر بيتها*** لأجعله قبل الممات لها قبرا

ولا حاملاً ظني ولا قول قائل*** على غيرةٍ حتى أحيط بها خبرا

وهبني امرءً راعيه ما دمت شاهداً*** فكيف إذا ما سرت من بتها شهرا

إذا هي لم تحصن لما في فنائها*** فليس لمنجيها بنائي لها قصرا

ولقوله (علیه السلام): ((لا تجعل عرضك غرضاً لنبال القوم)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 45) :

لا تستتر أبداً ما لا تقوم له*** ولا تهيجن من عريّسه الأسدا

ص: 76

إن الزنابير إن حركتها سفهاً*** من كورها أوجعت من لسعها الجسدا

ولقوله (علیه السلام)، من كتاب له إلى عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه :

((أما بعد فإنك لست بسابقٍ أجلك، ولا مرزوق ما ليس لك، واعلم بأن الدهر يومان : يوم عليك، ويوم لك، وإن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 60) :

قد يرزق العاجز الضعيف وما*** شدَّ بکورٍ رحلا ولا قتبا

ويحرم المرء ذو الجلادة وال***رأي ومن لا يزال مغتربا

وبقول ابن يعقوب الحزيمي (18/ 60 -61) :

هل الدهر إلا صرفه ونوائبه*** وسراء عيشٍ زائل وحصائبه

بقول الفتى ثمّرت مالي وإنما*** لوارثه ما ثمر المال كاسه

يحاسب فيه نفسه في حياته*** ويتركه نهباً لمن لا يحاسه

فكِلْه وحابيه وخالِهْ وارثاً*** شحيحاً ودهراً تعتركه نوانبه

أرى المال والإنسان للدهر نهبةٍ*** فلا البخل مبقيه ولا الجود خاربه

لكل امريء رزق ولرزقِ جالب*** وليس يفوت المرء ما خط كاتبه

يخيب الفتى من حيث يرزق غيره*** ويُعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه

یساق لدار رزقُه وهو وادع*** ويحرم هذا الرزق وهو يغالبه

وإنك لا تدري أرزقك في الذي*** تطالبه أم في الذي لا تطالبه

ص: 77

تناسى ذنوب الأقربين فإنه*** لكل رُكوبٍ راكبٌ وهو راكبه

له هفوات في الرخاء يشوبها*** بنصرة يوم لا تواري كواكبه

تراه غدوّا ما أمنت وتتقي*** بجبهته يوم الوغي من يحاربه

لكل امريء إخوان بؤسٍ ونعمةٍ*** وأعظمهم في النائبات أقاربه

ولقوله (علیه السلام): ((خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المهاجر بن عبد اللّه (18/ 107) :

وإني لأقصي المرء من غير بغضةٍ*** وأدني أخا البغضاء مني على محدِ

ليحدث وداً بعد بغضاء أو أرى*** له مصرعاً يردي به اللّه من يردي

ومن الشعر المنسوب إلى الإمام علي (علیه السلام)قوله (18/ 113) :

إن أخاك الحق من كان معك*** ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان وصدّعك*** شتت فيك شمله ليجمعك

وما ينسب إليه (علیه السلام)أيضاً (18/ 114) :

أخوك الذي إن أجرضتك ملمّة*** من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما

وليس أخوك بالذي إن تشعبت*** عليك أمور ظل يلحاك واجما

ولقوله (علیه السلام): ((ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه)). (18/ 137) :

استشهد بقول زهير بن أبي سلمى :

ص: 78

ومهما تكن عند امريء من خليقةٍ*** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ولقوله (علیه السلام): ((احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي للشق الثاني (18/ 179) :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكة ملكته*** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ولقوله (علیه السلام): ((من كتم سره كانت الخيرة بيده)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 384) :

فلا تفشِ سرك إلا إليك*** فإن لكل نصيح نصحا

ألم تر أن غواة الرجال*** لا يتركون أديماً صحیحا

وقول الشاعر (385/ 18) :

إذا جاوز الاثنين سراً فإنه*** يَنِث وتكثير الوشاة قمین

ولقوله (علیه السلام): ((من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 404) :

وخير الرأي ما استقبلت منه*** ولس بأن تَتَّبِعْهُ اتباعا

ولقوله (علیه السلام): ((إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (18/ 406) :

وإذا لم يكن من الموت بدّ*** فمن العجز أن تكون جانا

كلما لم يكن من الصعب في الأن*** فس سهل فيها إذا هو كانا

ص: 79

وقول آخر (18/ 806) :

لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه*** وأعظم مما حلّ ما يُتوقع

وقول آخر (18/ 406) :

عوبة الرزء تلقى في توقعه*** مستقبلاً وانقضاء الرزء أن يقعا

ولقوله (علیه السلام): ((لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر، واللّه يحب المحسنين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول نفسه (19/ 24) :

لا تسدين إلى ذي الوم مكرمةً *** فإنه سبخ لا ينبت الشجرا

فإن زرعته محفوظ بمضيعة*** وأكل زرعك شكر الغير إن كفرا

وقول الشاعر (19/ 24) :

لعمرك ما المعروف في غير أهله*** وفي أهله إلا كبعض الودائع

فمستودع ضاع الذي كان عنده*** ومستودع ما عنده غير ضائع

وما الناس في شكر الصنيعة عندهم*** وفي كفرها إلا كبعض المزارع

فمزرعة طابت وأضعف زرعها*** ومزرعة أكدت على كل زارع

ولقوله (علیه السلام): ((اغضِ على القذى والألم ترضَ أبدا)) .

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 34) :

ومن لم يغمّض عينه عن صديقه*** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ص: 80

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة*** يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

وقول الشاعر ( 19/ 34) :

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى*** ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

ولقوله (علیه السلام): ((احذروا نِفار النعم، فما طل شارد بمردود)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 9):

إذا كنت في نعمة فارعها*** فإن المعاصي تزيل النعم

ولقوله (علیه السلام): ((قطع العلم عذر المتعللين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 156) :

قدمت على الكريم بغير زاد*** من الأعمال ذا ذنب عظيم

وسوء الظن إن تعتدَّ زاداً*** إذا كان القدوم على الكريم

ولقوله (علیه السلام): ((ما قال الناس لشيء طوبى له! إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 178) :

تاه الأعيرج واستولى به البطر*** فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت*** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها*** وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وقول الشاعر (19/ 1979) :

فيالنعيم ساعدتنا رقابه*** وخاست بنا أكفاله والروادف

ص: 81

وقول اسحاق بن إبراهيم الموصلي (19/ 179) :

هي المقادير تجري في أعنّتها*** فاصبر فليس لها صبر على حال

يوماً تريش خسيس الحال ترفعه*** إلى السماء ويوماً تخفض العالي

وقول هانيء بن مسعود (19/ 179) :

إن كسرى أبى على الملك النع*** مان حتى سقاه أم الرقوب

کل ملك وإن تصعد يوماً*** بأناس يعود للتصويب

وقول أحيحة بن الحلاج (19/ 179) :

ومايدري الفقير متى غناه*** ومايدري الغني متى يعيل

وماتدري إذا أخّرت شولا*** أتلقح بعد ذلك أم تميل

وماتدري إذا أزمعت سيراً*** بأي الأرض يدركك المقيل

وقول الآخر (19/ 179-180) :

رب قوم غبروا من عيشهم*** في سرور ونعيم وغدق

سكت الدهر زماناً عنهمُ*** ثم أبكاهم دماًحين نطق

وبما نسب إلى محمد الأمين بن زبيدة (19/ 180) :

يانفس قدحق الحذر*** أين الفرار من القدر

کل امريء مما يخافا*** ف ويرتجيه على قدر

من يرتشف صفو الزمانا*** ن يغص يوماً بالكدر

ولقوله (علیه السلام): ((إن أخذ القليل خير من ترك الكثير)).

ص: 82

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشنفري (19/ 185) :

وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت*** خيوطة ماريّ نغار وتفتل

وإن مُدَّت الأيدي إلى الزاد لم أكن*** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وما ذاك إلا بسطة من تفضلٍ*** عليهم وكان الأفضل المتفضل

وقول الشاعر (19/ 186):

فإن قراب البطن يكفيك ملؤه*** ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

وقول الشاعر (المبرد) أنشده (19/ 188) :

فإن امتلاء البطن في حسب الفتى*** قليل الغناء وهو في الجسم صالح

ولقوله (علیه السلام)للأشعث بن قيس، وقد عزّاه عن ابن له :

((إن تحزن على إبنك فقد استحق ذلك منك الرحم، وإن تصبر في اللّه من كل مصيبة خلف)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العتاهية (19/ 192) :

ولابد من جريان القضاء*** إما مثاباً وإما أثيما

وقول الآخر (19/ 193):

ومن لم يزل غرضاً للمنون*** يتركه كل يوم عميدا

فإن هن أخطأنه مرةً*** فيوشك مخطئها أن يعودا

فبينا يحيد وأخطأنه*** قصدن فأعجلنه أن يحيدا

وقول آخر (19/ 193) :

ص: 83

هو الدهر قد جربته وعرفته*** فصبراً على مكروهه وتجلدا

وما الناس إلا سابق ثم لاحق*** وفائت موت سوف يلحقه غدا

وقول آخر (19/ 193) :

أيناقدمت صروف الليالي*** فالذي أخّرت سريع اللحاق

غدرات الأيام منتزعات*** عنفينا من أنس هذا العناق

وقول إبن نباتة (19/ 193) :

نعلل بالدواء إذا مرضنا*** وهل يشفي من الموت الدواء

ونختار الطبيبب وهل طبيب*** يؤخر ما يقدمه القضاء

وما أنفاسنا إلا حساب*** وما حركاتنا إلا فناء

ولقوله (علیه السلام)لإبنه : ((يابني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ باللّه منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 288):

المال أنفع للفتی من علمه*** والفقر قتل للفتى من جهله

ما حز من رفع الدراهم قدرَه*** جهلاً يناط إلى دناءة أصله

وقول آخر (19/ 228) :

دعوت أخي فولي مشمئزاً*** ولبي درهمي لمادعوت

وقول آخر (19/ 228) :

ولم أرً أوفي ذمة من دراهمي*** وأصدق عهداً في الأمور العظائم

ص: 84

فكم خانني خلٍّ وثقت بعهده*** وكان صديقاً لي زمان الدراهم

وقول آخر (19/ 228-229) :

أبو الأصفر المنقوش أنفع للفتى*** من الأصل والعلم الخطير المقدّم

وما مدح العلمُ امرؤ ظفرت به*** يداه ولكن كل معرٍ ومعدم

وقول آخر (19/ 229) :

ولم أرَ بعد الدين خيراً من الغنى*** ولم أرَ بعد الكفر شراً من الفقر

وقول أحد الظرفاء (19/ 229):

أصون دراهمي وأذب عنها*** لعلمي أنها سيفي وترسي

وأذخرها وأجمعها بجهدي*** ويأخذ وارثي منها وعرسي

فيأكلها ويشربها هنيئاً*** على النغمات من نقر وجرس

ويقعد فوق قبري بعد موتي*** ولا يتصدقن عني بفلس

أحب إلي من قصدي عظيماً*** كبيراً أصله من عبد شمس

أمد إليه كفي مستميحاً*** وأُصبح عبد خدمته وأمسي

ويتركني أجر الرجل مني*** وقد صارت كنفس الكلب نفسي

ولقوله (علیه السلام): ((المسؤول حر حتى يعِد)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول إبن الفضل (19/ 249)

أثروا ولم يقضوا ديون غريمهم*** واللؤم كل اللؤم مطل الموسر

وقول آخر (19/ 249):

ص: 85

إذا أتت العطية بعد مطل*** فلا كانت وإن كانت سنية

وقول الشاعر (19/ 249):

تحيل على الفراغ قضاء شغلي*** وأنت إذا فرغت تكون مثلي

فلا أدعى بخادمك المرجی*** ولا تدعى بسيدنا الأجلّ

وقول آخر (19/ 249) :

لو علم الماطل أن المطال*** فقد به يذهب طعم النوال

وأن أعلى البر ما ناله*** طالبه نقداً عقيب السؤال

عجّل للسائل معروفه*** مهنئاً من غير قيل وقال

ولقوله (علیه السلام): ((من كابد الأمور عَطِب، ومن اقتحم اللجج غرِق)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر :

من حارب الأيام أصبح رمحُه*** قصيراً وأصبح سيفه مغلولا

ولقوله (علیه السلام): ((عند تناهي الشدة تكونن الفرجة، وعند تضايق حَلَق البلاء يكون الرخاء)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 167) :

إذا بلغ الحوادث منتهاها*** ترَجَّ بُعيدها الفرج المطلا

فكم كرب تولّى إذ توالى*** وكم خطب تجلى حين جلى

وقول أمية بن أبي الصلت (19/ 267) :

ص: 86

لا تضيقن في الأمور فقد یک*** شف غماؤها بغير احتيال

ربما تجزع النفوس من الأمر*** له فرجة كحل العقال

ولقوله (علیه السلام): ((اللّهم اغفر لي ما انت أعلم به مني؛ فإن عدت فعد علي بالمغفرة، اللّهم اغفر لي ما رأيت من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول إبن جدعان (6/ 176-190) :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني*** حياؤك، إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً*** كفاه من تعرضه الثناء

ولقوله (علیه السلام): ((ولا تباغضوا فإنها الحالقة)) (6/ 324) :

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (6/ 359) :

ومن دعا الناس إلى ذمه*** نموه بالحق وبالباطل

مقالة السوء إلى أهلها*** أسرع من منحدرٍ سائل

ولقوله (علیه السلام)((جانبو الكذب فإنه مجانب للإيمان)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (6/ 360) :

لا يكذب المرء إلا من مهانته*** أو عادة السوء أو من قلة الأدب

لَعَضُ جيفة كلب خير رائحةٍ*** من كذبة المرء في جد وفي لعب

ولقوله (علیه السلام): ((ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاه، وعيّره ببلواه)) (9/ 59) :

استشهد بقول الشاعر (9/ 64) :

ص: 87

ومطروفة عيناه عن عيب نفسه*** فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

وقول الشاعر (9/ 65) :

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها*** لنفسي في نفسي عن الناس شاغل

وقول أحدهم (9/ 965):

ولست بذي نيرب بالصديق*** خؤون العشيرة سبابها

ولا من إذا كان في مجلسٍ*** أضاع القبيلة واغتابها

ولكن أُبجِّل ساداتها*** ولا أتعلم ألقابها

وقول أبي نواس (9/ 66):

ما حطك الواشون من رتبة*** عندي وماضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا*** عليك عندي بالذي عابوا

ولقوله (علیه السلام): ((في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 38) :

لا تحمّدن أمرءً حتى تجريه*** ولا تذمّنه من غير تجريب

وقول الآخر (19/ 38) :

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره*** یکون متَّبِعاً طوراً ومُتَّبَعا

حتى استمر على شزر سريرته*** مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا

ولجوابه (علیه السلام)عندما سئل عن قوله تعالى :

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

ص: 88

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل / 97) }.

فقال : ((هي القناعة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 55) :

فمن أُشرب اليأس كان الغنيّ*** ومن أُشرب الحرص كان الفقيرا

وقول الآخر (19/ 55) :

غنى النفس ما يكفيك من سد خلةٍ*** فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا

وقول الشاعر (19/ 55) :

فمن سره أن لا يرى ما يسوؤه*** فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا

ص: 89

ص: 90

الرثاء

ص: 91

ص: 92

من خطبة له (علیه السلام): ((ولعمري ما علي من قتال مَن خالف الحق، وخابط الغي، من إدهان ولا إيهان، فاتقوا اللّه عباد اللّه. وفروا إلى اللّه من اللّه وامضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم، فعليٌ ضامن لفلجكم آجلًا إن لم تمنحوه عاجلا)) (1/ 331) :

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (1/ 340) :

((يقول حسان بن ثابت الأنصاري يرثي ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس، الشجاع المعروف، حامي الظعن حياً وميتاً إذ لم. إذا تعرّض له أحد الفرسان من بني سليم، فرماه نبیشه بن حبيب بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه في الأرض واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يجل... فقال حسان فيه الأبيات الآتية (1/ 342) :

لا يبعدنَّ ربيعة بن مكدّم*** وسقى الفوادي قبره بذنوب

نفرت قلوصي من حجارة حرة*** بنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري ياناق مني فإنه*** شريب خمر مسعر لحروب

ص: 93

لولا السقاء وبعد خرق مهمة*** لتركتها تجثو على العرقوب

نعم الفتى أدى نبيشة بزه*** يوم اللقاء نبيشة بن حبيب

وبالرواية التي تقول (1/ 340) :

بعث معاوية إلى اليمن بسر بن أرطأة الكتاني في جيش كثيف، وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي (علیه السلام)فقتل خلقاً كثيراً، وقتل فيمن قتل ابني عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب. وكانا غلامين صغيرين فقالت أمهما أم حکیم ترثيهما :

هما من أحسن يا بني اللذين هما*** كالدرتين تشظَّى عنهما الصدف

هما من أحسن يابني هما*** سمعي وقلبي، وعقلي اليوم مختطف

هما من أحسن يابني هما*** منح العظام، مخي اليوم مزدهف

نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا*** من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى علي ودجي ابني مرهفة*** مشحوذة، وكذاك الإثم يقترف

حتى لقيت رجالاً من أرومته*** شم الأنوف لهم في قومهم شرف

فالآن ألعن بسراً حق لعنته*** و هذا لعمر ابي بسرهو السرف

من دل والهة حرى مسلبة*** على صبيين ضلا إذ مضى السلف

وبالرواية التي تقول (وهي مخالفة الأولى) (2/ 14):

دخل بسر ابن أرطأة الطائف .. مر ببني كنانة، وفيهم ابنا عبد اللّه بن العباس وأمهما، فلما انتهى بسر إليهم طلبهما، فدخل رجل من بني كنانة - كان أبوهما

ص: 94

أوصاه بهما - فأخذ السيف من بيته وخرج، فقال له بسر :

- ثكلتك أمك! واللّه ما كنا أردنا قتلك، فلم عرّضت نفسك للقتل.

قال :

- أقتل دون جاري أعذر لي عند اللّه والناس.

ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسراً وهو يرتجز :

آليت لا يمنع حافات الدار*** ولا يموت مصلتاً دون الجار

إلا فتى أروع غير غدار

وبالرواية التي تقول (2/ 15) :

عندما دخل بسر صنعاء منعه من دخولها عمرو بن أراكة الثقفي الذي استخلفه عبيد اللّه بن العباس عليها فقاتله بسر فقتله فرثاه أبوه عبد اللّه بن أراكة الثقفي بهذه الأبيات :

لعمري لئن اتبعت عينيك ما مضى*** به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر

لتستنفدن ماء الشؤون بأسره*** ولو كنت تمريهن من ثبج البحر

لعمري لقد أردى ابن أرطأة فارساً*** بصنعاء كالليث الهزبر أن الأجر

نعز فإن كان البكا ردّ هالكا*** على أحد، فأجهد بكاك على عمرو

ولا تبكِ ميتاً بعد میت أجنةٍ*** علي وعباس وآل أبي بكر

وقول یزید بن مفرع الحميري يرثي قتلى اليمن على يد بسر بن أرطأة(2/ 17) :

ص: 95

تعلق من أسماء ما قد تعلقا*** ومثل الذي لاقى من الشوق أرقا

سقى هدم الابعاد منبعج الكلى*** منازلها من مُسرقاة مسرقا

إلى الشرف الأعلى إلى راب هرمز*** إلى قريات الشيخ من نهر أريقا

إلى دشت بارين إلى الشط كله*** إلى مجمع السلان من بطن دورقا

إلى حيث يرفا من دجيل سفينة*** إلى مجمع النهرين حيث تفرقا

إلى حيث سار المرء بسر بجيشه*** فقتّل بسرما استطاع وحرّقا

ولقوله (علیه السلام)في مصقلة بن هبيرة الشيباني لما هرب بأموال المسلمين إلى معاوية؛ إذ كان قد ابتاع سي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين (علیه السلام)وأعتقه :

(قبح اللّه مصقلة! فعل فعل السادة، وفر فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدّق واصفه حتى بكّته، ولو أقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بماله وفوره) (3/ 119) (وقد نقلناه في فقرة الشكوى).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (3/ 120):

((خرج أسامة بن لؤي بن غالب إلى ناحية البحرين مغاضباً لأخيه كعب بن لؤي في محاضة كانت بينهما، فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب فعلق بمشفرها أفعى، ثم عطفت على قتبها فحكته به، فدب الأفعى على القتب حتى نهش أسامة فقتله، فقال أخوه کعب بن لؤي يرثيه :

عيني جودي لسامة بن لؤي*** علقت ساق سامة العلاقة

ص: 96

رب هرقتها ابن لؤي*** حذر الموت لم تكن مهراقة

ولقوله (علیه السلام)في سحرة اليوم الذي ضرب فيه : ((مكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقلت :

یا رسول اللّه ! ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟

فقال :

- ادع عليهم.

فقلت :

- أبدلني اللّه خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني (6/ 112) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (6/ 123-124) يرثي زیاداً :

صلى الإله على قبر وطهره*** عند الثوية يسفي فوقه المور

زفت إليه قريش نعش سيدها*** فالحلم والجود فيه اليوم مقبور

أبا المغيرة والدنيا مفجعة*** وإن من غرت الدنيا المغرور

قد كان عندك للمعروف معرفة*** وكان عندك للمنكور تنکیر

وكنت تفشي وتعطي المال من سعةٍ*** فاليوم قبرك أضحى وهو مهجور

والناس بعد وقد خفت حلومهم*** كأنما نفخت فيه الأعاصير

ولقوله (علیه السلام): ((ألا وإن لكل دمٍ ثأراً، ولكل حق طالباً، وإن الثأر في دمائنا کالحاكم في حق نفسه، وهو اللّه الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب ( 17/ 197))).

ص: 97

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد اللّه بن عمرو العبلي في رثاء قومه(7/ 123-124) :

تقول أمامة لما رأت*** نشوزي عن المضجع الأملس

وقلة نومي على مضجعي*** لدى هجعة الأعين النُفَّس

أبي ماعراك؟ فقلت: الهموم*** عرَين أباك فلا تُلیس

عرين أباك فحبِّسنه*** من الذل في شرما محبس

لفقد الأحبة إذ نالها*** سهام من الحدث الميئس

رمتها المنون بلانكّلٍ*** ولا طائشات ولا نكس

بأسهمها المتلفات النفوس*** متى ما تصب مهجة تخلس

فصرّ عنهم بنواحي البلاد*** فملقى بأرضٍ ولم يرمس

وآخرقد رُس في حفرةٍ*** وآخرطار فلم يحسس

أفاض المدامع قتلی کدی*** وقتلی بكثرة لم ترمس

وقتلی بدجٍّ وباللاتبي*** ن من يثرب خير ما أنفس

وبالزابيين نفوس ذوت*** وقتلی بنهر أبي فطرس

أولئك قومي أناخت بهم*** نوائب من زمن متعس

إذا ركبوا زينوا الموكبين*** وإن جلسوا زينة المجلس

وإن عنَّ ذكرهم لم ينم*** أبوك وأوحش في المأنس

فذاك الذي غالني فاعلمي*** ولا تسألي بامريءٍ متعس

ص: 98

هم أضرعوني لريب الزمان*** وهم لصقوا الخد بالمعطس

وقول أبي سعيد إبراهيم، ويُعد من موالي عثمان بن عفان وهو من شعرائهم الذين رثوهم، ومن شعره بعد زوال أمرهم (بني أمية) (7/ 145) :

بكيت وماذا يرد البكاء*** وقل البكاء لقتلي كداء

أصيبوا معاً قتلوا معاً*** كذلك كانوا معافي رخاء

بكت لهم الأرض من بعدهم*** وناحت عليهم نجوم السماء

وكانوا ضياء ولما انقضى*** الزمان بقومي تولى الضياء

وقوله فيهم (7/ 145):

أثرت الدهر في رجالي فقلّوا*** بعد جمع فراح عظمي حميضا

ماتذكرتهم فتملك عيني*** فيض دمع وحق لي أن تفيضا

وقوله فيهم (7/ 145):

أولئك قومي بعد عزٍّ وثروةٍ*** تداعوا فإلّا تذرف العين أكمد

كأنهم لاناس للموت غيرهم*** وإن كان فيهم منصف غير معيد

ولقوله (علیه السلام):

((حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، وأُنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، وجعل لهم من الصفيح أجعاناً، ومن التراب أكفاناً، فهم جيرة لا يجيبون داعياً؛ ولا يمنعون ضيماً، ولا يبالون مندية، إن جبروا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون

ص: 99

لايتقاربون)) (7/ 128).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشريف الرضي (رحمه اللّه) (7/ 234)

أعزز عليَّ بأن نزلت بمنزلٍ*** متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم*** والدهر يعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم*** من غير أطناب ولا أوتاد

ركب أناخوا لايرجّى منهم*** قصد لأتهام ولا أنجاد

کرهوا النزول فأنزلتهم قعة*** للدهر نازلة لكل مقاد

فتهافتوا عن رحل كل مذلل*** وتطارحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع فإنهم*** متفردون تفرد الآحاد

وقوله رضي اللّه عنه (7/ 234) :

متوسدين على الخدود كأنما*** کرعوا على ظمأٍ على الصهباء

صور ضننت على العيون بحسنها*** أمسيتُ أوقرها من البوغاء

ونواظر كحل الضباب جفونها*** قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها*** ونأوا عن الطلاب أيّ تناء

وقول عبد اللّه بن ثعلبة الحنفي (7/ 235) :

لكل أناس مقبر في ديارهم*** فهم ينقصون والقبور تزيد

همُ جيرة الأحياء أما مزارهم*** فدانٍ، وأما الملتقى فبعيد

ولقوله (علیه السلام):

ص: 100

((قد توکل اللّه لأهل هذا الدين بإعزاز الحورة، وستر العورة، والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت)) (8/ 296).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أخت الأشتر، مالك بن الحارث النخعي تبكيه (8/ 304) :

أبعد الأشتر النخعي نرجو*** مكاثرة ونقطع بطن واد

ونصحب مذحجاً بإخاء صدقٍ*** وإن ننسب فنحن ذرا إياد

ثقيف عمنا وأبو أبينا*** وإخوتنانزار أولو السداد

ولقوله تعالی :

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }.

استشهد ابن أبي الحديد بقول الخنساء ترثي أخاها (11/ 231):

ولولا كثرة الباكين من حولي*** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن*** أعزّي النفس عنه بالتأسّي

ولقوله (علیه السلام)کلاماً في عمر بن الخطاب (3/ 12):

استشهد ابن أبي الحديد بأحد الجن قوله (12/ 149) :

جزيت عن الإسلام خيراً وباركت*** يد اللّه في ذاك الأديم الممزق

فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامةٍ*** ليدرك ماقدمت بالأمس يسبق

قضيت أموراً ثم غادرت بعدها*** بوائق في أكمامها لم تفتّق

ص: 101

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت*** له الأرض تهتز العصاه بأسوق

وما كنت أخشى أن تكون وفاته*** بكفّيْ سبتني أزرق العين مطرق

تظل الحصان البكر يلقي جنينها*** نثا خیّرٍ فوق المطيِّ معلق

ولأولية إسلام علي (علیه السلام)في دعوة قريش الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلَّم) إن يدعو شجرة إليه بعروقها ففعل (13/ 212-312).

استشهد ابن أبي الحديد بقول هند بنت عتبة ترثي أهلها (13/ 283) :

ما كان من عتبة لي من صبر*** أبي وعمي وشقيق صدري

أخي الذي كان كضوء البدر*** بهم كسرت ياعلي ظهري

ولقوله (علیه السلام)من كتاب إلى معاوية :

((وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت امراً إن تم لك اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثمله، وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعریف طبقاتهم ؟ هيهات، لقد حن قدح ليس فيها، وطفق يحكم فيها من عليها الحكم لها)) (15/ 181).

استشهد ابن أبي الحديد بقول مطرود الخزاعي يرثي هاشماً (15/ 212):

مات الذي بالشام لما إن ثوى*** أودى بغرّة هاشم لايبعد

فجفانه رذمٌ لمن ينتابه*** والنصر أدنى باللسان وباليد

وقوله يرثيه أيضاً (15/ 212) :

ص: 102

فابكي على هاشم في وسط بلقعةٍ*** تقي الرياح عليه وسط غزوات

ياعين إبكي أبا الشعث الشجيات*** يبكينه حسراً مثل البنيّات

يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه*** سمح السجية بسّام العشيمات

یبکینه معولات في معاورها*** ياطول ذلك من حزن وعولات

محزمات على أوساطهن لما*** جرَّ الزمان من أحداث المصيبات

أبيت أرعى نجوم الليل من ألمٍ*** أبكي وتبكي معي شجواً بنياتي

وقول أبي طالب يرثي ندیمه مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس (15/ 219-220) :

ليت شعري مسافر بن أبي عمرو*** وليثٌ يغولها المحزون

كيف كانت مذاقة الموت إذ*** مت وما بعد الممات یکون

رحل الركب قافلين إلينا*** وخليلي في مرمس مدفون

بورك الميت الغريب کمابو*** رك نضر الريحان والزيتون

رزء ميت على هبالة قد*** حالت فيافٍ من دونه وحزون

مدرة يدفع الخصوم بأيدٍ*** وبوجهٍ يزينه العرنين

کم خليل وصاحب وابن عمٍ***وحميم قفت عليه المنون

فتعزيت بالجلادة والصبر*** وإني بصاحبي لضنين

وقول صفية ترثي أخاها الزبير بن عبد المطلب (15/ 222-223) :

بكي زبير الخير إذ مات إن*** كنت على ذي كرم باكية

ص: 103

لولفظته الأرض مالمتها*** أو أصبحت خاشعة عارية

قد كان في نفسي أن أترك ال*** موتى ولا أتبعهم قافية

فلم أطق صبراً على رزئه*** وجدته أقرب إخوانيه

فهو الشامي واليماني إذا*** ماخضروا، ذو الشفرة الدامية

وقول ضرار بن الخطاب يبكيه (15/ 223) :

بكي ضباع على أبي*** ك بكاء محزون أليم

قد كنت أنشره فلا*** رث السلاح ولا سليم

کالكوكب الدري يع*** لوضوؤه ضوء النجوم

زخرت به أعراقه*** ونماه والده الكريم

بين الأغروهاشم*** فرعين قد فرعا القروم

ولقوله (علیه السلام)من وصية للحسن (علیه السلام)( 16/ 9):

((إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا ، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقليل الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات).

استشهد بقول الجارود بن أبي سبره ( 16/ 14)، بعد وصول نعيه البصرة في يومين وليلتين :

إذا كان شرٌ سار يوماً وليلة*** وإن كان خيرٌ أخّر السير أربعا

ص: 104

إذا ما بريد الشر أقبل نحونا*** بإحدى الدواهي الرّيد سار وأسرعا

وقول سليمان بن قتة يرثيه وكان محبا له (16/ 52) :

ياكذب اللّه من نعي حسناً*** ليس لتكذيب نعيه ثمن

كنت خليلي وكنت خالصتي*** لكل حي من أهله سكن

أجول في الدار ولا أراك و ال*** دار أناس جوارهم غبن

بدّلتهم منك ليت أنهمٌ*** أضحوا وبيني وبينهم عدن

ولقوله (علیه السلام):

((ولكني آسي أن يلي هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال اللّه دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً)) (17/ 225):

استشهد ابن أبي الحديد بقول أشجع السُّلَمي في الوليد بن عقبة وابن أبي زيد ففي الرقة قد فني جميعاً في موضع واحد (17/ 243):

مررت على عظام أبي زبيد*** وقد لاحت ببقعة صلود

فكان له الوليد ندیم صدقٍ*** فنادم قبره قبر الوليد

وما أدري بمن تبدو المنايا*** بمحزة أم بأشجع أم يزيد؟

ولقوله (علیه السلام):

((.. فإنا كنا - نحن وأنتم - على ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمس، إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلا کرهاً)) ( 17/ 250) :

ص: 105

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (18/ 15) :

إن مقیس بن ضبابة وأمه سمية، كان يوم الفتح عند أخواله بني سهم، فاصطبح الحمر ذلك اليوم في ندامی له، وخرج ثملاً يتغنى بأبيات (ذكرناها في التمثيل الذي سيرد) فلقيه نخيلة بن عبد اللّه الليثي، وهو من رهطه فضربه بالسيف حتى قتله فقالت أخته ترثيه :

لعمري لقد أخزى نخيلة رهطه*** وفجع أصناف النساء بمقيس

فلله عينا من رأي مثل مقيسٍ*** إذ النفساء أصبحت لم تخرَّس

ولقوله (علیه السلام): ((العلم وارثة كريمة، والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية)).

استشهد ابن ابي الحديد بقول أوس بن حجر وهو يرثي (18/ 93-94):

إن الذي جمع السماحة والنجدة*** والجزم والنهي جمعا

الألمعي الذي يظن بك ال*** ظن كأن قد رأى وقد سمعا

ولقوله (علیه السلام):

((أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم)) ( 18/ 112).

استشهد بقول الأعشى يرثي المنتشر بن وهب (18/ 114):

أما سلكت سبيلاً كنت سالكها*** فاذهب فلا يبعدنك اللّه منتشر

من ليس في خيره شر ینکده*** على الصديق ولا في صفوه کدر

ص: 106

وقول آخر يرثي صديقا له (18/ 114) :

أخ طالما سرني ذكره*** وأصبحت أشجي له ذكره

وقد كنت أغدو إلى قصره*** فأصبحت أغدو إلى قبره

وكنت أراني غنياً به*** عن الناس لومدَّ في عمره

إذا جئته طالباً حاجة*** فأمري يجوز على أمره

ولقوله (علیه السلام)، وقد سئل عن بيوتات قریش فعددها ووصفها (وقد ذكرناها).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول مسافر بن أبي عمرو يرثي هشامة (18/ 288) :

تقول لنا الركبان في كل منزل: *** أمات هشام أم أصابكم جدب

وقول عبد اللّه بن سلمة بن قشير (18/ 288) :

دعيني أصطبح يا بكر إني*** رأيت الموت نقّب عن هشام

وقول عبد اللّه بن ثور الخفاجي (18/ 288) :

وأصبح بطن مكة مقشعراً *** كأن الأرض ليس بها هشام

وقول أبي الطمحان القيني، أو أخوه (18/ 288):

وكانت قريش لا تخون صريمها *** من الخوف حتى ناهضت بهشام

وقول أبي بكر بن شعوب لقومه کنانة (18/ 288):

يا قومنا لا تهلكوا أخفاتا *** إن هشام القريشي ماتا

ص: 107

قول أبي طالب يرثي أبا أمية زاد الركب وهو خالد (18/ 291):

كأن على رضراض قص وجندل*** من اليبس أو تحت الفراش المجامر

على غير حاف من معدٍ وناعلٍ*** إذا الخير يرجى إذا الشر حاسر

ألا إن زاد الركب غير مدافع*** بسرد سُحيم غيّبته المقابر

تنادوا بأن لا سيد اليوم فيهم*** وقد فجع الحيان كعب وعامر

وكان إذا يأتي من الشام قافلاً*** تقدمه قبل الدنو البشائر

فيصبح آل اللّه بيضاً ثيابهم*** وقدماً حباهم والعيون کواسر

أخو جفنة لا تبرح الدهر عندنا *** مجعجعة تدمي وشاء وباقر

ضروب بنصل السيف سوق سحاتها *** إذا أرسلوا يوماً فإنك عاقر

فيالك من راع رميت بآلة*** شراعية تخضر منه الأظافر

وقول أبي طالب أيضاً يرثي خاله هشام بن المغيرة (18/ 291-291):

فقدنا عميد الحي والركن خاشع*** كفقد أبي عثمان والبيت والحجر

وكان هشام بن المغيرة عصمة*** إذا عرك الناس المخاوف والفقر

بأبياته كانت أرامل قومه*** تلوذ وأيتام العشيرة والسفر

فودّت قريش لوفدته بشطرها *** وقل لعمري لوفدوه له الشطر

نقول لعمرو أنت منه وإننا *** لنرجوك في جلّ الملمات يا عمرو

وقول ضباعة بنت عامر بن سلمة بن قرط ترثیه (18/ 292):

إن أبا عثمان لم أنسه*** وإن صبراً عن بكاه لحوب

ص: 108

تفاقدوا من معشر ما لهم*** أي ذنوب صوبوا في القليب

وقول عبد اللّه بن ثور (18/ 293) :

هريقا من دموعكما سجاما *** ضباع وحاربي نوحاً قياما

فمن للركب إذ جاؤوا طروقاً *** وعلّقت البيوت فلا هشاما

وقوله أيضاً (18/ 293) :

وما ولدت نساء بني نزار*** ولا رشحن أكرم من هشام

هشام بن المغيرة خير فهر*** وأفضل من سقى صوب الغمام

وقول أبي بكر بن الأسود بن شعيب يرثیه (18/ 298) :

ذريني أصطبح يا بكر إني*** رأيت الموت نقّب عن هشام

تخيره ولم يعدل سواه*** ونعم المرء بالبلد الحرام

وكنت إذا ألاقيه كأني*** إلى حرم و في شهر الحرام

فودّ بنو المغيرة لو فدوه*** بألف من رجال أو سوام

فبكيه ضباع ولا تملّي*** هشاماً إنه غيث الأنام

وقول الحارث بن أمية الضمدي (18/ 298) :

ألا هلك القناص والحامل الثقلا***ومن لا يظن عن عشيرته فضلا

وحرب أبا عثمان أطفأت نارها *** ولولا هشام أوقدت حطباً جزلا

وعانٍ تريكٌ يستكين لعلة*** فككت أبا عثمان عن يده الغلا

ألا لست کالهلكا فتبكي بكاءهم*** ولكن أرى الهلاك في جنبه وغلا

ص: 109

غدا وغدت تبكي ضباعة غيثا *** هشاماً وقد أعلت بمهلكه ضحلا

ألم تريا أن الأمانة أصعدت*** مع النعش إذ ولى وكان لها أهلا

وقوله أيضاً يبكيه ويرثيه (18/ 299):

وأصبح بطن مكة مقشعراً *** شديد المحل ليس به هشام

يروح كأنه أشلاء سوطٍ*** وفوق جفانه شحم ركام

فللكبراء أكل كيف شاؤوا *** وللولدان لَقمٌ واغتنام

فبكيه ضباع ولا تملي*** ثمال الناس إن قحط الغمام

وإن بني المغيرة من قريش*** و هم الرأس المقدم والسنام

وقول عبد اللّه بن ثور البكائي يرثيه (18/ 299-300) :

هريقي من دموعهما سجاما *** ضباع وجاوبي نوحاً قياما

على خير البرية لن تراه*** ولن تلقى مواهبه العظاما

جواد مثل سيل الغيث يوماً ***إذا علجانه يعلو الأكاما

إذا ما كان عام ذو عرام*** حسبت قدوره جبلاً صياما

فمن للركب إذ أمسوا طروقاً *** وغلقت البيوت فلا هشاما

وأوحش بطن مكة بعد أنس*** ومجد كان فيها قد أقاما

فلم أرَ مثله في أهل نجدٍ*** ولا فيمن بغورك يا تهاما

ولقوله (علیه السلام): ((كان لي فيما مضى أخ في اللّه، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه،

ص: 110

وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، .. فعليكم بهذه الخلائق فالزموها أو تنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوا فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أعشى بأهله يرثي المنتشر بن وهب (19/ 183-184) :

طاوي المصير على الغرّاء منصلتٌ *** بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر

تكفيه فلذة لحم إن ألمٌ بها *** من الشواء ويروى شربة العمر

ولا يبالي بما في القدر يرقبه*** ولا تراه أمام القوم يفتقر

لا يغمز الساق من أين ولا وصبٍ*** ولا يعض على شرسوفه الصفر

ولقوله (علیه السلام) للأشعث وقد عزاه عن ابنه :

((يا أشعث ابنك سرّك وهو بلاء وفتنة، وحزنك، وهو ثواب ورحمة)) (19/ 192) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول البحتري وهو يرثي محمد بن وهب (19/ 193) :

إن الرزية في الفقيد فإن هفا *** جزع بلبّك فالرزية فيكا

ومتى وجدت الناس إلا تاركاً *** لحميمه في الترب أو متروكاً

لو ينجلي لك ذخرها من نكبةٍ*** و جلٍ لأضحكك الذي يبكيكا

وقول شاعر في رثاء ولده (19/ 194) :

ص: 111

وسميته يحيى ليحيى ولم یکن*** إلى رد أمر اللّه فيه سبيل

تخيّرت فيه الفأل حين رُزقته*** ولم أدرِ أن الفأل فيه يغيل

وقول آخر (19/ 194):

وهّون وجدي بعد فقدك أنني*** إذا شئت لاقيت امرءً مات صاحبه

وقول آخر (19/ 194) :

وقد كنت أرجو لو تحليت عيشة*** عليك الليالي مرّها وانتقالها

وأما وقد أصبحت في قبضة الردی*** فقل لليالي فلتصب من بدا لها

وقول المتنبي (19/ 194) :

قد كنت أشفق من دمعي على بصري*** فاليوم كل عزيز بعدكم هانا

وقول غيره (19/ 194) :

فراقك كنت أخشى فافترقنا *** فمن فارقت بعدك لا أبالي

ولقوله (علیه السلام)، عند وقوفه على قبر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) ساعة دفن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) :

((إن الصبر جميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل، وإنه بعدك لقليل)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحدهم (19/ 159) :

أمست بجفني للدموع کلوم*** حزناً عليك و الخدود رسوم

والصبر يحمد في المواطن كلها*** إلا عليك فإنه م ذموم

ص: 112

وقول أبي تمام (19/ 195) :

وقد كان يدعى لابس الصبر حازماً*** فقد صار يدعي حازماً حين يجزع

وقول أبي الطيب (19/ 195) :

أجد الجفاء على سواك مروءة*** والصبر إلا في نواك جميلا

وقول أبي تمام أيضاً (19/ 195) :

الصبر أجمل غير أن تلذذاً*** في الحب أولى أن يكون جميلا

وقول الخنساء أخت عمر بن الشريد (19/ 196) :

ألا يا صخر إن أبكيت عيني*** لقد أضحكتني دهراً طويلا

بكيتك في نساء معولاتٍ*** وكنت أحق من أبدى العويلا

دفعت بك الجليل وأنت حي*** فمن يدفع عن الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيلٍ*** رأيت بكاءك الحسن الجميلا

وقول أحدهم (19/ 196) :

قد قلت للموت حين نازله*** والموت مقدامةٌ على البُهم

أذهب شئت إذا ظفرت به*** ما بعد يحيى للموت من ألم

وقول الشمردل اليربوعي يرثي أخاه (19/ 196) :

إذا ما أتي يوم من الدهر بيننا*** فحياك عناشرفه وأصائله

أبي الصبر إن العين بعدك لم تزل*** يحالف جفنيهاقذى ما تزايله

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى*** فأنت على من مات بعدك شاغله

ص: 113

أعينيَّ إذ أبكاكما الدهر فابكيا*** لمن نصره قد بان عنا ونائله

وكنت به أغشى القتال فعزني*** عليه من المقدار من لا أقاتله

لعمرك إن الموت منا المولعٌ*** بمن كان يرجی نفعه وفواضله

وقول آخر يرثي رجلاً اسمه جارية (19/ 197) :

أجاريَ ما أزداد إلا صبابةً *** عليك وماتزداد إلا تنائيا

أجاريَ لونفس فدت نفس ميت*** فديتك مسروراً بنفسي وماليا

وقد كنت أرجو أن أراك حقيقة*** فحال قضاء اللّه دون قضائيا

ألا فليمت من شاء بعدك إنما*** عليك من الأقدار کان حذاريا

وقول الإمام علي (علیه السلام)نفسه ( 19/ 197) (قال يوم فاضت روح الرسول (صلّى اللّه عليه وآله)):

كنت السواد لناظري*** فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت*** فعليت كنت أحاذر

وقول آخر:

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن نفض*** فحسبك مني ما تجن الجوانح

كمن لم يمت حي سواك ولم تقم*** على أحد إلا عليك النوائح

لئن حسنت فيك المراثي بوصفها*** لقد حسنت من قبل فيك المدائح

فما أنا من رزءٍ وإن جل جازع*** ولا بسرورٍ بعد موتك فارح

ولقوله (علیه السلام)وقد عزى قوماً عن ميت لهم :

ص: 114

((إن هذا الأمر ليس بكم بدأ، ولا إليكم انتهى، وقد كان صاحبكم هذا يسافر؟

فقالوا : نعم.

قال : فعدوه في بعض سفراته، فإن قدم علیکم، وإلا قدمتم عليه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول إبراهيم بن المهدي يرثي والده (195/ 274) :

يؤوب إلى أوطانه کل غائب*** وأحمد في الغيّاب ليس يؤوب

كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى*** سقاه الندى فاهتز وهو رطيب

تبدل داراً غير داري وجيرة*** سواي وأحداث الزمان تنوب

أقام بها مستوطناً غير أنه*** على طول أيام المقام غريب

وإني وإن قُدِّمتَ قبلي لعالم*** بأني وإن أبطأت عنك قريب

وإن صباحاً نلتقي في مسائه*** صباح إلى قلبي الغداة حبيب

ولقوله (علیه السلام)عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم):

((جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعد ما شاء اللّه، حتى يطلع اللّه لكم من يجمعكم ويضم نشركم)) (7/ 84) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر يرثي رجلاً؟ (7/ 88-89) :

لقد وارى المقابر من شُريكٍ*** كثير تحلّمٍ وقليل عاب

صموتاً في المجالس غيرعيِّ*** جديراً حين ينطق بالصواب

ص: 115

ص: 116

الاعتقادات

ص: 117

ص: 118

قيل إن الشاعر بشار بن بُرد المرعَّث كان يُرمي بالزندقة، إذ كان يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود ويفضله على آدم. ومن الشعر المنسوب إليه قوله (1/ 107) :

النار مشرقة والأرض مظلمة*** والنار معبودة مذ كانت النار

وكان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ، أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصاً لطيفاً وواعظاً. وقال يوما على المنبر :

- من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى.

ولست بضارع إلا إليكم*** وأما غيركم حاشا وكلا

وقال مرة أخرى، وقد ذكر إبليس على المنبر :

- لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت، وإن قسي القدر إذا رمت أصمت.

ص: 119

ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته وقصة إبليس (1/ 107) :

وكنت وليلى في صعود من الهوى*** ولما توافينا ثبتُّ وزلّتِ

وروي عن أبي يزيد البسطامي قوله (1/ 108) وهو يغالي في تفضيل إبليس على آدم :

فمن آدم في البين*** ومن إبليس لولاكا

فتنت الكل والكل*** هو الفتنة يهواكا

وكان في العرب مجسمة ومشبهة، منهم أمية بن أبي الصلت وهو القائل (1/ 191) :

من فوق عرش جالس قد خط*** رجليه إلى كرسيه المنصوب

قال ابن جريج : ما ظننت أن اللّه ينفع أحداً بشعر عمر ابن أبي ربيعة، حتى كنت باليمن فسمعت منشداً ينشد قوله (1/ 125):

باللّه قولا له في غير معتبةٍ*** ماذا أردت بطول المكث في اليمن

إن كنت حاولت دنياً أو ظفرت بها*** فما أخذت بترك الحج من ثمن

فحركني ذلك على ترك اليمن والخروج إلى مكة، فخرجت فحججت .

وسمع أبو حازم امرأة ترفث في كلامها فقال :

يا أمة اللّه ألست حاجة؟ ألا تتقين اللّه؟

فسفرت عن وجهٍ صبيح، ثم قالت أنا من اللواتي قال فيهن العرجي (1/ 125) :

ص: 120

أماطت کساء الخز عن حرِّ وجهها*** وردت على الخدين برداً مهلهلا

من اللائي لم يحججن يبغين حسبة*** ولكن ليقتلن البريء المغفّلا

فقال أبو حازم:

- فأنا أسأل اللّه أن لا يعذب هذا الوجه بالنار.

ومما نسب إلى الإمام علي (علیه السلام)قوله يخاطب الحارث الأعور الهمداني (1/ 299) :

يا حار همدان من يمت يرني*** و من مؤمن أو منافق قُبُلا

يعرفني طرفه وأعرفه*** بعينه واسمه ومافعلا

أقول للنار وهي توقد لل*** عرض ذريه لا تقربي الرجلا

ذريه لا تقربيه أن لا*** حبلاً بحبل الوصي متصلا

وأنت ياحار إن تمت ترني*** فلا تخف عثرة ولا زللا

أسقيك من بارد على ظمأ*** تخاله في الحلاوة العسلا

واستشهد ابن أبي الحديد ببعض شعره وهو يناجي به الباري سبحانه في خلواته. يقول عنه : ((إنه فن أطويه وأكتمه عن الناس، وإنما ذكرت بعضه في هذا الموضع، لأن المعنى ساق إليه، والحديث ذو شجون) (5/ 166-167):

يا جفاني فوجدي بعده عدم*** هبني أسأت فأين العفو والكرم

أنا المرابط دون الناس فاجف وصل*** وقل وعاقب وحاسب لست منهزم*

إن المحب إذا صحت محبته*** فما لوقع المواضي عنده ألم

ص: 121

وحق فضلك ما استيأست من نعم*** تسري إلي وإن حلت بي النقم

ولا أمنت نکالاً منك أرقبه*** وإن ترادفت الآلاء والنعم

حاشاك لا تعرض عمن في حشاشته*** نار لحبك طول الدهر تضطرم

ألم تقل إن من يدنو إلي قدر*** الذراع أدنو له باعاً وأبتسم

واللّه واللّه لوعاقبتني حقباً*** بالنار تأكلني حطماً وتلتهم

ما حلت عن حبك الباقي فليس على*** حال بمنصرم والدهر ينصرم

* [من حق (منهزم) النصب لأنه خبر ليس (الفتَّال)]

وأقام جعدة بن أبي أهبير - وهو ابن أخت الإمام علي (علیه السلام)حتى مات كافراً، وروى له محمد بن إسحاق، في كتاب المغازي شعراً يذكر فيه أم هاني وإسلامها، وإني مهاجر لها، اذ حيث إلى الإسلام من جملته (1/ 78-79) :

أشاقتك هند أم أتاك سؤالها*** كذاك النوى أسبابها وانفتالها

فإن كنت قد تابعت دین محمدٍ*** وقطعت الأرحام منك حبالها

فإني من قوم إذا جدَّ جدُّهم*** على أي حال أصبح القوم حالها

وإني لأحمي من دراءٍ عشيرتي*** إذا كثرت تحت العوالي مجالها

وطارت بأيدي القوم بيض كأنها*** مخاريق ولدان ينوس ظلالها

وإن كلام المرء في غير كنهه*** لنبل تهوى ليس فيها نصالها

وقال ابن أبي الحديد أرجوزة يشرح فيها عقيدة المعتزلة (11/ 120) :

وخير خلق اللّه بعد المصطفى*** أعظمهم يوم الفخار شرفا

ص: 122

السيد المعظم الوصي*** بعد البتول المرتضى علي

وابناه ثم حمزة وجعفر*** ثم عتيق بعدهم لا ينكر

والمخلص الصديق ثم عمر*** فاروق دين اللّه ذاك الغور

وبعده عثمان ذو النورين*** هذا هو الحق بغیر مین

قيل أن قريشا خرجت فارَّةٌ من الحرم خوفاً من أصحاب الفيل، وعبد المطلب يومئذ غلام شاب، فقال :

- واللّه لا أخرج من حرم اللّه أبغي العز في غيره .

فجلس في البيت وأجلت قريش عنه. فقال عبد المطلب :

لا همَّ أن المرء يم*** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم*** ومحالهم أبداً محالك

ونسب إلى شداد بن الأسود في إنكاره البعث قوله وهو يرثي قتلى بدر(1/ 118) :

فماذا بالقليب قليب بدرٍ*** من الفتيان والقوم الكرام

وماذا بالقليب قليب بدرٍ*** من الشيزي تكلل بالسنام

أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا*** وكيف حياة أصداء وهام؟

إذا ما الرأس قال بمنكبيه*** فقد شبع الأنيس من الطعام

أيقتلني إذا ماكنت حياً*** ويحييني إذا رمَّت عظامي

وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد، ومن هؤلاء

ص: 123

أرباب الهامة، التي قال (علیه السلام)عنهم :

((لا عدوی ولا هامة ولاصفر)). وقال ذو الأصبع (1/ 119):

يا عمرو لا تدع شتمي ومنقصتي*** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

وقالوا أن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحميِّر خرج إليها هامة من القبر صائحة، أفزعت ناقتها، فوقصت بها فماتت، وكان ذلك تصدیق قوله (1/ 199) :

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت*** عليَّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا*** إليها صدى من جانب القبر صائح

وكان عمر بن الخطاب قد أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مغادرة دار الهجرة، بل دار الإسلام كلها، وعاد مرتداً داخلاً دین النصرانية،لأجل لطمة لُطمها، وقال جبلة بعد ارتداده متندماً على ما فعل (1/ 183) :

تنصرت الأشراف من أجل لطمةٍ*** وما كان فيها لو صبرت له ضرر

فياليت أمي لم تلدني وليتني*** رجعت إلى القول الذي قاله عمر

ص: 124

التصوف

ص: 125

ص: 126

قال (علیه السلام)بعد تلاوته : ((يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه)).

((إن اللّه سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، .. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، .. فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، أُمروا بها فقصروا عنها، أو نُهوا عنها ففرطوا فيها.. يتسمون بدعائه روح التجاوز، رهائف فاقة إلى فضله، وأسارى ذلةٍ لعظمته)) (16/ 176) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشبلي (11/ 216):

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة*** وأيسر ما في الذكر ذکر لساني

فكدت بلا وجد أموت من الهوى*** وهام عليَّ القلب بالخفقان

فلما أراني الوجد أنك حاضري*** شهدتك موجوداً بكل مكان

فخاطبت موجوداً بغير تكلم*** ولاحظت معلوماً بغير عيان

ص: 127

وقول الحسين بن منصور الحلاج (11/ 222) :

إني لأكتم من علمي جواهره*** كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدمني فيه أبو حسنٍ*** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

یا رب مکنون علم لو أبوح به*** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال صالحون دمي*** يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقول الشاعر (11/ 224):

أنا صبٌ بمن هويت ولكن*** ما احتيالي في سوء رأي الموالي

وقول ابن ظفر في كتابه سلوان المطاع (4/ 8) :

أيا من يعوّل في المشكلات*** على ما رآه وما دبّره

إذا عضل الأمرفانزع به*** إلى من يرى منه ما لم تره

تكن بين أعطف نيل الخطوب*** ولطف يهوّن ماقدّره

إذا كنت تجهل عقبى الأمور*** ومالك حولٌ ولا مقدرة

ولم ذا العنا وعلام الأسى*** ومم الحذار، وفيم الشره

وقوله أيضاً ( 18/ 228):

يا رب مغتبط ومغبو*** طٍ بأمرٍ فيه هلکه

ومنافس في ملك ما*** يشقيه في الدارين ملكه

علم العواقب دونه*** ستر وليس يرام هتكه

ومعارض الأقدار بال*** آراء سيء الحال ضنکه

ص: 128

فکن امرءً محض اليقي*** ن وزيف الشبهات سبکه

تفويضه توحيده*** وعناده المقدار شرکه

ولقوله (علیه السلام):

((الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه، بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له. الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدله عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء، على أزليته، وبما وسمه به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه، واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد (13/ 50):

استشهد ابن أبي الحديد بمجموعة من شعر نفسه كقوله (13/ 50):

واللّه لا موسي ولا*** عيسى المسيح ولا محمد

علموا ولا جبريل وه*** و إلى محل القدس يصعد

کلا ولا النفس البسي*** طة، لا ولا العقل المجرد

من کنه ذاتك غير أن*** ك واحديّ الذات سرمد

وجدوا إضافات وسل*** باً والحقيقة ليس توجد

ورأوا وجوداً واجباً ***يفنى الزمان وليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن*** حرج له الأفلاك تسجد

من أنت يارسطو ومن*** أفلاط قبلك يا مبلّد

ص: 129

ومن ابن سینا حين قر*** رما بنيت له وشيّد

هل أنتم إلا الفراش*** رأى الشهاب وقد توقد

فدنا فأحرق نفسه*** ولو اهتدى رشداً لأبعد!

وقوله (13/ 51):

فيك يا أعجوبة الكو***ن الفكركليلا

أنت حيرت ذوي اللب*** و وبلبلت العقولا

كلما أقدم فكري*** فيك فرّ میلا

ناكصاً يخبط في عم*** ياء لا يهدي السبيلا

وقوله أيضاً (13/ 51):

فيك يا أغلوطة الفكر*** تاه عقلي وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما*** ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى وما وقفت*** لا على عين ولا على أثر

فلحي اللّه الأولى زعموا*** أنك المعلوم بالنظر

کذبوا إن الذي طلبوا*** خارج عن قوة البشر

وقوله ( 13/ 51) :

أفنيت خمسين عاماً معملاً نظري*** فيه، فلم أدرِ ما آت وما أذر

من كان فوق عقول القايمين فما*** ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر

وقوله (13/ 51-52) :

ص: 130

حبيبي أنت لا زيد ولا عمرو*** وإن حيرتني وفتنت ديني

طلبتك جاهدً خمسين عاماً*** فلم أحصل على برد اليقين

فهل بعد الممات بك اتصال*** فأعلم غامض السر اليقين

نوىً قَذُفٌ وكم قد مات قبلي*** بحسرته عليك من القرون

وقوله (13/ 52-53) :

يامدهش الألباب والفطن*** ومحيّر التقوالة اللسن

أفنيت فيك العمر أنفقه*** والمال مجاناً بلا ثمن

أتتبع العلماء أسالهم*** وأجول في الآفاق والمدن

وأخالط الملل التي اختلفت*** في الدين حتى عابد الوثن

وظننت أني بالغ غرضي*** لما اجتهدت ومرئي شجني

ومطهر من كل حس هوى*** قلبي بذاك وغاسل درني

فإذا الذي استكثرت منه هو*** الجاني عليّ عظائم المحن

فظللت في تيه بلا علم*** وغرقت في يم بلاستن

ورجعت صفر الكف مكتئباً*** حیران ذا همٍ وذا حزن

أبكي وأنکت في الثرى بيدي*** طوراً وأدعم تارة ذقني

وأصيح يامن ليس يعرفه*** أحد مدى الأحقاب والزمن

يا من له عنت الوجوه ومن*** قرنت له الأعناق في قرن

أمنت يا جذر الأصم من ال*** اعداد بل یا فتنة الفتن

ص: 131

أن ليس تدركك العيون وأن*** الرأي ذو فن وذو غبن

والكل أنت فكيف يدركه*** و بعض وأنت السرفي العلن

وقوله (13/ 53) :

ناجيته ودعوته اكشف عن عشا*** قلبي وعن بصري وأنت النور

وارفع حجابا قد سدلت ستوره*** دوني، وهل دون المحب ستور

فأجابني صه يا ضعيف وبعض ذا*** قد رامه موسى فدُكَّ الطور

وقوله (13/ 53) :

حبيبي أنت من دون البرايا*** وإن لم أحظ منك بما أريد

قنعت من الوصال بكشف حالٍ*** فقيل ارجع فمطلبها بعيد

ألم تسمع جواب سؤال موسى*** وليس على مكانته مزيد

تعرض للذي حاولت يوماً*** و فدُكّ الصخر واضطرم الصعيد

وقوله (13/ 53) :

قد حار في النفس جميع الورى*** والفكر فيهاقد غدا ضائعا

وبرهن الكل على ما ادعوا*** وليس برهانهم قاطعا

من جهل الصنعة عجزاً فما*** أجدره أن يجهل الصانعا

ولقوله (علیه السلام):

((واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملکه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، .. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن

ص: 132

يفعله في صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربه..)) (16/ 77) :

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول نفسه (16/ 79) :

فلا واللّه ما وصل ابن سينا*** ولا أغنى ذكاء ابن الحسین

ولا رجعا بشيء بعد بحثٍ*** وتدقيق سوى خفي حنين

لقد طوفت أطلبكم ولكن*** يحول الوقت بينكم وبيني

فهل بعد انقضاء الوقت أحظى*** بوصلكم غداً وتقرعيني

متى عشنا بها زمناً وكانت*** تسوقنا بصدقٍ أو يمين

فإن أكدَتْ فذاك ضياع ديني*** وإن أجدت فذاك حلول ديني

وقوله (16/ 79) :

أمولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن*** غداً محرقاً بالنار من كان يهواكا

أتجمع لي نارين نار محبة*** ونار عذاب أنت أرحم من ذاكا

وقوله (16/ 79-80) :

قوم موسى تاهوا سنيناً كما قد*** جاء في النص قدرها أربعونا

ولي اليوم تائهاً في جوى من*** لا أسجي وهبته خمسونا

قل لأحبابنا إلى م تروم ال*** وصل منكم وأنتم تمنعونا

کم نناجيكم فلا ترشدونا*** ونناديكم فلا تسمعونا

فعسى تدرك السعادة أربا*** ب المعاصي فيصبحوا فائزينا

ص: 133

وقوله (16/ 80-81) :

واللّه ما آسى من الدنيا على*** مال ولا ولد ولا سلطان

بل في صميم القلب مني حسرة*** تبقى معي وتلف في أكفاني

إني أراك بباطني لا ظاهري*** فالحسن مشغلة عن العرفان

يا من سهرت مفكراً في أمره*** خمسين حولاً دائم الجولان

فرجعت أحمق من تعاسة بيهسٍ*** وأضل سعياً من أبي غبشان

وقوله (16/ 80-81) : پ

وحقك إن أدخلتني النار قلت لك*** ذین بهاقد كنت ممن أحبه

وأفنيت عمري في علوم دقيقة*** وما بغيتي إلا رضاه وقربه

هبوني مسيئاً أوتغ الحلم جهله*** وأوبقه بین البرية ذنبه

أما يقتضي شرع التكرم عتقه*** أيحسن أن ينسى هواه وحبه

أما كان ينوي الحق فيما يقوله*** ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه

أما رد زيغ ابن الخطيب وشکه*** وإلحاده إذ جل في الدين خطبه

أما قلتموا من كان فينا مجاهداً*** سيكرم مثواه ويعذب شربه

ونهديه سبلاً من هدانا جهاده*** ويدخله خير المداخل كسبه

فأي اجتهاد فوق ما كان صانعاً*** وقد أحرقت زرق الشياطين شهبه

وما نال قلب الجيش جيش محمدٍ*** كما نال من أهل الضلالة قلبه

فإن تصفحوا يغتم وإن تتجعوا*** فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه

ص: 134

وآية صدق الصب أن يعذب الأذى*** إذا كان من يهوى عليه يصبّه

وقوله (16/ 81) :

إذا فكرت فيك يحار عقلي*** وألحق بالمجانين الكبار

وأصحوتارة فيشوب ذهني*** ويقدح خاطري کشواظ نار

فيامن تاهت العقلاء فيه*** فأمسوا كلهم صرعى عقار

ويامن كلت الأفكار عنه*** فابت بالمتاعب والخسار

ويامن ليس يعلمه نبي*** ولا ملك ولا يدريه دار

ويامن ليس قداماً وخلفاً*** ولا جهة اليمين ولا اليسار

ولا فوق السماء ولا تدلى*** من الأرضين في لجج البحار

ويامن أمره من ذاك أجلي*** من ابن ذكاء أو صبح النهار

سألتك باسمك المكتوم إلا*** فككت النفس من رق الإسار

وجدت لها بما تهوى فإن ال*** علیم ببا بطن اللغز الضمار

وقوله (16/ 81):

يا رب إنك عالم*** بمحبتي لك واجتهادي

وتجردي للذب عن*** لك علی مراغمة الأعادي

بالعدل والتوحيد أص*** دع معلناً كل ناد

وكشفت زيغ ابن الخطي*** ب ولبسه بين العباد

ونفضت سائر مابنا*** ه من الضلالة والفساد

ص: 135

وأبنت عن إغوائه*** في دين أحمد ذي الرشاد

وجعلت أوجه ناصری*** ه محمماً بالسواد

وكففت من غلوائهم*** بعد التمرد والعناد

فكأنما نُحل الرماد*** عليهم بعد الرماد

وقصدت وجهك أبتغي*** حسن المثوبة في المعاد

فأفض على العبد الفقير*** إليكم نور السداد

وارزقه قبل الموت مع*** رفة المصائر والمبادي

وافكك أسير الحرص بال*** أصفاد من أسر الصفاد

واغسل بصفو القرب من*** أبوابكم كدر البعاد

وأعضه من حر الغلي*** ل بوصلكم برد الفؤاد

وارحم عيوناً فيك ها*** مية وقلباً فيك صاد

یاساطع الأرض المهاد*** وممسك السبع الشداد

ص: 136

وصف الموتى والقبور

ص: 137

ص: 138

قال (علیه السلام)في حديث له عن الموتی :

((سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً سُلّطت الأرض عليهم فيه، فأكلت في لحومهم، وشربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، وظماراً لا يوحدون..)) (11/ 150).

فاستشهد ابن أبي الحديد بمجموعة من الشعر كقول الشاعر (11/ 156) :

لابد من يوم بلا ليلة*** أو ليلة تأتي بلایوم

وقول الشريف الرضي (رحمه اللّه) (11/ 157):

أعزز عليّ بأن نزلن بمنزل*** متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم*** والدهر يعجلهم عن الأدواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم*** من غير أطناب ولا أعماد

ركب أناخوا لا يرجى منهم*** قصد لأنهام ولا أنجاد

کرهوا النزول فأنزلتهم وقعة*** للدهر باركة لكل مغاد

فتهافتوا عن رحل كل مذللٍ*** وتطارحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع وإنهم*** متفردون تفرد الأحاد

ص: 139

وقوله أيضاً (11/ 157) :

ولقد حفظت له فأين حفاظه*** ولقد وفيت له فأين وفاؤه؟

أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة*** أم ظل عنه من البعاد دعاؤه

هيهات أصبح سمعه وعيانه*** في الترب قد حجبتهما أقذاؤه

يمسي وليس مهاده حصباؤه*** فيه، ومؤنسة له ظلماؤه

قد قلّيت أعيانه وتنكّرت*** أعلامه، وتكسّفت أضواؤه

مغفٍ وليس للذة إغفاؤه*** مغضٍ وليس لفكرةٍ إغضاؤه

وجع کلمع البرق غاض وميضه*** قلب كصدر العضب فُل مضاؤه

حكم البلی به فلو تلقی به*** أعداؤه لرثى له أعداؤه

وقول أبي العلاء (11/ 158) :

أستغفر اللّه ما عندي لكم خبر*** وما خطابي إلا معشر قبر

أصبحتم في البلى غبراً ملابسكم*** من الهباء فأين البُر والقِطر

كنتم على كل خطب فادح صُبرا*** فهل شعرتم، وقد جاءتكم الصِّبر

فما درى يوم أحد بالذين ثووا*** فيه، ولا يوم بدر أنهم قصروا

وقول أبي عامر الكلابي (11/ 158) : :

أجازعة ردينة أن أتاها*** نعيّ أم يكون له اصطبار

إذا ما أهل قبري ودعوني*** وراحوا والأكف بها غبار

وغودر أعظمي في لحد قبر*** تراوحه الخبائث والقطار

ص: 140

تهب الريح فوق محط قبري*** ويرعى حوله اللهق النوار

مقيم لا يكلمني صديق*** بقبر، لا أزور ولا أزار

فذاك النأي لا الهجران حولاً ***وحولاً ثم تجتمع الديار

وقول الشاعر عن حال الإنسان (11/ 168) :

بين الفتى مرح الخطى فرحاً بها*** يُسعى له، إذ قيل قد مرض الفتى

إذ قيل بات بليلة ما نامها*** إذ قيل أصبح مثقلاً ما يرتجی

إذ قيل أمسي شاخصاً وموجهاً*** إذقيل فارقهم وحل به الردى

وقول أبي النجم العجلي (11/ 168):

والمرء كالحالم في المنام*** يقول إني مدرك أمامي

في قابل ما فاتني في العام*** والمرء يدنيه إلى الحمام

مر الليالي السود والأيام*** إن الفتى يصبح للأسقام

کالغرض المنصوب للسهام*** أخطأ رام وأصاب رام

وقول عمران بن حطان (11/ 168-169) :

إلى كل عام مرضة ثم فقهة*** ويُنعى، ولا ينعى، متى ذا؟ إلى متى؟

ولابد من يوم يجيء وليلةٍ*** يسوقان حتفاً راح نحوك لوغدا

وقول عبدة بن الطبيب، وكان لصاً من لصوص بني مدين بن زید مناة بن تمیم (11/ 119):

ولقد علمت بأن قصري حفرة*** غبراء يحملني إليها شرجع

ص: 141

فيكا بناتي شجوهن وزوجتي*** والأقربون إليّ ثم تصدّعوا

وتركت غبراء يُكرَّه وردها*** تسفي عليَّ الريح ثم أودع

إن الحوادث تجترمن وإنما*** عمر الفتى في أهله مستودع

وقول متمم بن نويرة اليربوعي (11/ 169-170) :

ولقد علمت ولا محالة أنني*** للحادثات فهل ترين أجزع

أهلكن عاداً ثم آل محرّقٍ*** فتركتهم بلداً وماقد جمعوا

ولهنَّ كان الحادثان كلاهما*** ولهن كان أخو المصانع تبع

فغدوت آبائي إلى عرق الثوی*** فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

ذهبوا ولم أدركهم ودعتهم*** غول أتوها والطريق المهيع

لابد من تلفٍ مصیب فانتظر*** أبأرض قومك أم بأخرى تصرع

وليأتين عليك يوم مرة*** يُبكي عليك مقنعاً لا تسمع

وقول الحرقة بنت النعمان بن المنذر وهي تصف حالها لخالد بن الوليد عندما فتح عين التمر وكانت فيها وقد عمیت (11/ 170) :

وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا*** إذا نحن فيه سوّق نتنصف

فإن الدنيا لا يدوم نعيمها*** تقلّب ثارات بنا وتصرّف

فقال قائل من كان حول خالد :

- قاتل اللّه عدي بن زید! لكأنه ينظر إليها حين يقول :

إن للدهر ص رعة فاحذرنها*** لا تبيتن قد أمنت الدهورا

ص: 142

قد يبيت الفتي معافي فيردي*** ولقد كان آمناً مسرورا

وبالرواية التي تقول (11/ 171):

كان محمد بن عبد اللّه بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة، فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة فأمر بها فوجد هذا :

تاه الأعيرج واستولى به البطر*** فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت*** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها*** وعند صفو الليالى يحدث الكدر

وقول عدي بن زید (11/ 171-172) :

أيها الشامت المعيره بالدهر*** أأنت المبرأ الموفور؟

أم لديك العهد الوثيق من الأيا*** م، بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلّدن أم من*** ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنوشر*** وان أم أين قبله سابور

وبنو الأصفر الكرام ملوك ال*** روم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج*** لة تجبى إليه والخابور

لم يهبه ريب المنون فياد ال*** ملك عنه فبابه مهجور

شاده مرمراً وجلله كأ*** ساً فللطير في ذراه وكور

وتبيّن رب الخورنق إذ أشر*** ف يوماً وللهدى تفكير

سرّه حاله وكثرة ما يم*** لك والبحر معرضاً والسدير

ص: 143

فارعوى قلبه وقال: فما غب*** طة حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح والملك والأمة*** وارتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف *** فالوت به الضبا والدبور

وقول الشريف الرضي (رحمه اللّه) (11/ 172-173):

انظر إلى هذا الأنام بعبرةٍ*** لا يعجبنك خلقه ورواؤه

فتراه كالورق النظير تقصفت*** أغصانه، وتسلّبت شجراؤه

أنا تحاماه المنون وإنما*** خلقت مراعي للردی خضراؤه

أم كيف تأمل فلته أجساده*** من ذا الزمان وحشوه أدواؤه

لا تعجبن من العجيب فناؤه*** بيد المنون، بل العجيب بقاؤه

إنا لنعجب کیف حُمٌ حمامه*** عن صحة، ويغيب عنا داؤه

من طاح في سبل الردي آباؤه*** فليسلكن طريقهم أبناؤه

ومؤمر نزلوا به في سوقةٍ*** لاشكله فيها ولا نظراؤه

قد كان يغرق ظله أقرانه*** ويغض دون جلاله أكفاؤه

ومحجبٌ ضُربت عليه مهابة*** يعشي العيون بهاؤه وضياؤه

نادته من خلف الحجاب منية*** أمم فكان جوابها حوباؤه

شقت إليه سيوفه ورماحه*** وأميط عنه عبيده وإماؤه

لم يغنه من كان ود لو أنه*** قبل المنون من المنون فداؤه

حرم عليه الذل إلا أنه*** أبداً ليشهد بالجلال بناؤه

ص: 144

ولقد مررت ببرزخ فسألته*** أين الأولى ضمتهم أرجاؤه

مثل المطي بوارکاً أجداثه*** تسفي على جنباتها بوغاؤه

ناديته فخفى عليّ جوابه*** بالقول إلا مازقت أصداؤه

من ناظر مطروقة ألحاظه*** أو خاطر مظلولة سوداؤه

أو واجد مكظومة زفراته*** أو حاقد منسية شحناؤه

ومسندين على الجنوب كأنهم*** شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه

تحت لصعيد لغير إشفاق إلى*** يوم المعاد يضمهم أحشاؤه

أكلتهم الأرض التي ولدتهم*** أكل الضروس حلت له أكلاؤه

وقوله أيضاً (74/ 175) :

وتفرق البعداء بعد تجمع*** صعبٍ، فكيف تجمع القرباء

وخلائق الدنيا خلائق مومس*** للمنع آونةً، وللإعطاء

طوراً تبادلك الصفا وتارة*** تلقاء تنكرها من البغضاء

وتداول الأيام يبلينا كما*** يبني الرشاد تطاوح الأرجاء

وكأن طول العمر روحة راكبٍ*** قضّى اللغوب وجدّ في الإسراء

لهفي على القوم الأولى غادرتهم*** وعليهم طبقٌ من البيداء

متوسدين على الخدود كأنما*** کرعوا على ظمأ من الصهباء

صور ظننت على العيون بلحظها*** أمسيت أوقرها من البوغاء

ونواظر كحل التراب جفونها*** قد كنت أحرسها من الأقذاء

ص: 145

قربت ضرائحهم على زوارها*** ونأوا عن الطلاب أي تناء

ولبئس ما يلقى بعقر ديارهم*** أذن المصيخ بها وعين الرائي

ولقوله (علیه السلام)، وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر

الكوفة (18/ 322):

((يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، ويا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرطٌ سابق، ونحن لكم تبعٌ لاحق، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟))

ثم التفت إلى أصحابه فقال :

((أما واللّه لو أذن لهم في الكلام، لأخبروكم أن خير الزاد التقوى)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول مكتوب على قبر (18/ 323):

مقيم إلى أن يبعث اللّه خلقه*** لقاؤك لا يرجى وأنت رقيب

تزيد بلي في كل يوم وليلةٍ*** وننسی کمانبلى وأنت حبيب

وقول شاعر (18/ 324) :

أجازعة ردينة أن أتاها*** نعيٌّ أم يكون لها اصطبار

إذا أهل قبري ودعوني*** وراحوا والأكف بها غبار

وغودر أعظمي في لحد قبرٍ*** تراوحه الخبائب والقطار

تهب الريح فوق محط قبري*** ويرعى حوله اللهق النوار

ص: 146

مقيم لا يكلمني صديق*** بقفر لا أزور ولا أُزار

فذاك النأي لا الهجران حولاً*** وحولاً ثم تجتمع الديار

وقول الآخر (18/ 324):

كأني بإخواني على حافتي قبري*** يهيلونه فوقي وأدمعهم تجري

فيا أيها المذرّي عليّ دموعه*** ستعرض في يومين عني وعن ذكري

عفا اللّه عني يوم أترك ثاوياً*** أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري

ولقوله (علیه السلام):

((واعلم يا بني أنك خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة.. وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها)) (16/ 89) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العتاهية في ذكر الموت (16/ 92):

ستباشر الزباء خدك*** وسيضحك الباكون بعدك

ولينزلن بك البلى*** وليخلفن الموت عهدك

وليفنينك مثلما*** أفني أباك، بلی، وجدك

لوقد رحلت عن القصو*** ر وطيبها وسكنت لحدك

لم تنتفع إلا بفع*** لٍ صالح قد كان عندك

ص: 147

ص: 148

الصبر والزهد

ص: 149

ص: 150

قال الإمام علي (علیه السلام):

((... ولسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خيراً له من المال يورثه غيره)).

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول أعشی همدان (1/ 320) :

إن نلت لم أفرح بشيء نلته*** وإذا سُبقت به فلا أتلهف

ومتى تصبك من الحوادث نكبة*** فاصبر فكل غيابة تتكشف

والبيت الثاني هو الذي قاله الحجاج يوم قتله الأعشى، إذ لما أتى الحجاج بأعشى همدان أسيراً ؛ وقد كان خرج مع ابن الأشعث، قال :

- يا ابن اللحناء يا أنت القائل لعدو الرحمن - يعني عبد الرحمن بن الأشعث (1/ 320)

يابن الأشج قريع كندة*** لا أبالي فيك عتبا

أنت الرئيس بن الرئيس*** وأنت أعلى الناس كعبا

نبئت حجاج بن يوسف خرَّ*** من زلقٍ فتبّا

فانهض هديت لعله*** يجلو بك الرحمن کربا

ص: 151

وابعث عطية في الحرو***ب یکبهن عليه كبّا

ثم قال :

- عبد الرحمن خرّ من زلق فتب، وخسر وانكب، وما لقي ما أحب. ورفع بها صوته، واهتز منكباه، ودر ودجاه واحمرّت عيناه، ولم يبق في المجلس إلا من هابه ، فقال : - أيها الأمير، وأنا القائل (1/ 320):

أبى اللّه إلا أن يتمم نوره*** ويطفيء نور الكافرين فتخمدا

وينزل ذلاً بالعراق وأهله*** كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا

وما لبث الحجاج أن سل سيفه*** علينا، فولى جمعنا فتبددا

فالتفت الحجاج إلى من حضر، فقال :

ما تقولون؟

قالوا :

- لقد أحسن أيها الأمير، ومحا بآخر قوله أوله، فليسعه حلمك.

فقال :

-لاها اللّه، إنه لم يرد ما ظنتم، وإنما أراد تحريض أصحابه، ثم قال له :

- ألست القائل :

(إن نلت.. البيتان)؟

أما واللّه لتظلُمن عليك غيابة لا تنكشف أبداً، ألست القائل في عبد الرحمن

ص: 152

(1/ 321-322) :

وإذا سألت المجد أين محله*** فالمجد بين محمد وسعيد

بين الأشجّ وبين قیس نازل*** وبخٍ لوالده وللمولود

ولا يبخبخ بعدها أبداً، ..

یا حرس، اضرب عنقه.

وقال سعيد بن حميد الكاتب (1/ 320) :

لا تعتبن على النوائب*** فالدهر يرغم كل عاتب

واصبر على حدثانه*** إن الأمور لها عواقب

کم نعمة مطوية*** لك بين أثناء النوائب

ومسرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب

وقول العتابي (1/ 322):

اصبر إذا بدهتك نائبة*** ماعال منقطع إلى صبر

الصبر أولى ما اعتصمت به*** ولنعم حشوجوانح الصدر

وقول الشاعر (1/ 323):

ويوم كيوم البعث مافيه حاكم*** ولا عاصم إلا قنا ودروع

حبست به نفسي على موقف الردی*** حفاظاً وأطراف الرماح شروع

وما يستوي عند الملمات إن عرت*** صبور على مكروهها وجزوع

وقول أبي حية النميري (1/ 323) :

ص: 153

إني رأيت وفي الأيام تجربة*** للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلّ من جد في أمر يحاوله*** واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

وقول عبد العزيز بن زرارة الكلابي (1/ 323) :

قد عشت في الدهر أطواراً على طرقٍ*** شتى فقاسيت منه الحلو والبشعا

كلاً بلوت فلا النعماء تبطرني*** ولا تخشعت من الأوائها جزعا

لا يملأ الأمر صدر قبل موقعه*** ولا يضيق به صدري إذ وقعا

وقول منصور النميري في الرشید (1/ 324) :

ويوم كان المصطلين بحرّه*** وإن لم يكن جمراً قيام على جمر

صبرنا له حتى تجلي وإنما*** تُفَرّح أيام الكريهة بالصبر

وبكتابه (علیه السلام)الذي كتبه إلى عقيل أخيه :

((لا تحسبن ابن أمك - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سَلِس الزمام للقائد، ولا وطيء الظهر للراكب، ولكنه كما قال أخو بني سليم (1/ 324-325) :

فإن تسأليني كيف أنت فإنني*** صبور على ريب الزمان صليب

يعز عليَّ أن تُرى بي كآبة*** فيشمت عاد أو يساء حبيب

ولقوله (علیه السلام):

((دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها.. إنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممن كان أطول

ص: 154

منكم أعماراً، وأعمر دياراً وأبعد آثاراً؛ أصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية ..)). استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي نواس (11/ 260/ 261):

يابني النقص والغَير*** وبني الضعف والخوَرْ

وبني البعد في الطباع*** على القرب في الصورْ

والشكول التي تبا*** ين في الطول والقصرْ

أين من كان قبلكم*** من ذوي البأس والخطرْ

سائلوا عنهم المدا*** ئن واستبحثوا الخبرْ

سبقونا إلى الرحي*** ل وإن البالأثرْ

من مضى عِبَرٌ لنا*** وغداً نحن معتبرْ

إن للموت أخذةً*** تسبق اللمح بالبصرْ

فكأني بكم غداً*** في ثياب من المدرْ

قد نقلتم من القصو*** ر إلى ظلمة الحفرْ

حیث لا تضرب القبا*** ب عليكم ولا الحُجَرْ

حیث لا تضربون من***ه للهو ولا سمرْ

رحم اللّه مسلماً*** ذكر الموت فازدجرْ

رحم اللّه مؤمناً*** خاف فاستشعر الحذرْ

ولقوله (علیه السلام):

ص: 155

((وإن اليسير من اللّه سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كله منه))

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (16/ 95):

لا تحرصن على الحطام فإنما***يأتيك رزقك حين يؤذن فيه

سبق القضاء بقدره وزمانه*** وبأنه يأتيك أو يأتيه

وقول الآخر:

أراك تزيدك الأيام حرصاً*** على الدنيا كأنك لا تموت

فهل لك غاية إن صرت يوماً*** إليها قلت:حسبي قد رضيت؟

وقول أبي العتاهية (16/ 95) :

أيُّ عيش يكون أطيب من عي*** و شٍ كفاف قوت بقدر البلاغ

قهرتني الأيام عقلي ومالي*** وثيابي وصبوتي وفراغي

ولقوله (علیه السلام)، وقد نقلناه في الحكمة :

((إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ باللّه منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول محمود البقال (19/ 230) :

الفقر خير فاتسع واقتصد*** إن من العصمة أن لا تجد

کم واجد أطلق وجدانه*** عنانه في بعض ما لم يُرد

ومدمن للخمر غاو على*** سماع عود وغناء غرد

ص: 156

لولم يجد خمراً ولا مسمعاً*** يرد بالماء غليل الكبد

كم من يد للفقر عند امريءٍ*** طأطأ منه الفقر حتى اقتصد

وقول البحتري (16/ 230) :

فقر كفقر الأنبياء وغربة*** وصبابة ليس البلاء بواحد

وقول أبي العتاهية (16/ 230) :

ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى*** وإن الغنى يخشى عليه من الفقر

وقول القائل (19/ 231) :

وصاحب صدقٍ ليس ينفع صدقه*** ولا وده حتى تفارقه عمدا

ویرید بصاحب صدق : المال).

وقول الآخر : (19/ 231) :

وقد يُهلكُ الإنسان حسن رياشه*** كما يذبح الطاووس من أجل ريشه

وقول الآخر (19/ 231):

رويدك إن المال يهلك ربه*** إذا جم واستعلى وشُد طريقه

ومن جاوز المال الغزير ومجُه*** وسد طريق الماء فهو غريقه

ولقوله (علیه السلام)لابنه الحسن (علیه السلام): ((يا بني : لا تخلفن وراءك شيئاً من الدنيا فإنك تخلفه لأحد رَجُلَيْنِ، أما رجل عمل فيه بطاعة اللّه فسعد بما شقیت به، وأما رجل عمل فيه بمعصية اللّه فشقي بما جمعته؛ فكنت عوناً له على معصيته؛ وليس أحد هذين حقيقاً أن تؤثره على نفسك)).

ص: 157

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحدهم (20/ 54-55) :

يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه*** مدبراً أي باب عنه يغلقه

وناسياً كيف تأتيه منيته*** أغادياً أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له*** - ياجامع المال – أياًما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه*** ما المال مالك إلا يوم تنفقه

ارفه ببال فتى يغدو على ثقةٍ*** إن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه*** والوجه من جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها*** لم يلقَ في ظلها هماً يؤرقه

ولقوله (علیه السلام):

((القناعة مال لا ينفد)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الغزي (20/ 244):

أنا كالثعبان جلدي ملس***لست محتاج إلى ثوب الجمال

فالخمول العز واليأس الغنى*** والقنوع الملك، هذا ما بدا لي

وقوله أيضاً (20/ 244):

لا تعجبن لمن يهوى ويصعد في*** دنياه فالخلق في أرجوحة القدر

واقنع بما قل فالأوشال صافية*** ولجة البحر لا تخلو من الكدر

ولقوله (علیه السلام):

((ورب منعم عليه مستدرج بالنعمي، ورب مبتل مصنوع له بالبلوى، فزد

ص: 158

أيها المستمع في شكرك، وقصر من عجلتك، وقف عند منتهی رزقك)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 162-163):

اقنع بعيشك ترضه*** واترك هواك وأنت حرُّ

فلرب حتف فوقه*** و ذهب وياقوت ودرُّ

وقول آخر (19/ 163):

إلى متى أنا في حلِّ وترحال*** من طول سعي وإدبار وإقبال

ونازح الدار لا انفك مغترباً*** من الأحبة مايدرون ما حالي

بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها*** لا يخطر الموت من حرص على بالي

ولو قنعت أتاني الرزق في دعةٍ*** إن القنوع الغنى لا كثرة المال

ولقوله (علیه السلام):

((العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغني)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد الصمد المعذّل (19/ 255):

سأقني العفاف وأرض الكفاف*** وليس غنى النفس حوز الجزيل

ولا أتصدى لشكر الجواد*** ولا أستعد لذم البخيل

واعلم أن بنات الرجاء*** تُحلُّ العزيز محل الذليل

وأن ليس مستغنياً بالكثير*** من ليس مستغنياً بالقليل

ص: 159

ص: 160

النسيب

ص: 161

ص: 162

كانت الصعبة بنت الحضرمي، تحت أبي سفيان صخر بن حرب، فطلقها ثم تبعتها نفسه فقال فيها شعراً أوله (1/ 255):

وإني وصعبة فيما أرى*** بعيدان والود ودُّ قريب

ومما قاله علي بن محمد بن عبد الرحيم - صاحب الزنج - متغزلاً قوله (8/ 128) :

ولما تبينت المنازل بالحمى*** ولم أقضِ منها حاجة المتورد

زفرت لها زفرة لو حشوتها*** سرابيل أبدان الحديد المسرّد

لرقت حواشيها وظلت متونها*** تلين كمالانت لداود باليد

وقال ابن أبي الحديد أنه وجد بخط محمد بن عبد اللّه الخشاب رحمه اللّه في تعاليق مسودة أبياتاً للقَطَوي؛ وهي (10/ 97):

قد رأينا الغزال والغصن والنج*** مين شمس الضحى وبدر التمام

فو حق البيان يعضده البر*** هان في مأقط شديد الحضام

ما رأينا سوى المليحة شيئاً جمع الحسن كله في نظام

هي تجري مجرى الأصالة في الرأ*** ي ومجرى الأرواح في الأجسام

ص: 163

وقال شاعر (10/ 145) :

ضعيفة كر الطرف تحسب أنها*** حديثة عهد بالأفاق من سقم

وقال النصر آبادي (11/ 78) :

ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً*** فإنِّيَ من ليلى لها غير ذائق

وأكثر شيء نلته في وصالها*** أمانيَّ لم تصدق كلمحة بارق

وقال أبو علي الدقاق في معنى قول النبي (صلّى اللّه عليه وأله) :

((حبُّك الشيء يُعمي ويصم)).

قال :

- يعمي ويصم عن الغير إعراضاً، وعن المحبوب هيبة.

ثم أنشد (10/ 78) :

إذا ما بدا لي تعاظمته*** فاصدر في حال من لم يره

وقال الشاعر (10/ 79) :

عجبت لمن يقول نسيت ربي*** وهل أُنسى فأذكر ما نسيتُ

شربت الحب كأساً بعد كأسٍ فما نفد الشراب ولا رُویتُ

وقال الشاعر :

وأسكر القوم دور كأسٍ*** وكان سكري من المديرِ

وقال أبو علي بن الدقاق (10/ 180):

لي سكرتان وللندمان واحدة*** شيء خصصت به من بعدهم وحدي

ص: 164

وقال الشاعر:

بكت عيني غداة البين دمعاً*** وأخرى بالبكا بخلت علينا

فعاقبت التي بخلت علينا*** بأن أغمضتها يوم التقينا

وقال الشاعر (11/ 139):

ليلي بوجهك مشرق وظلامه في الناس سار

فالناس وسُدُفِ الظلا***م ونحن في ضوء النهارِ

وأنشدوا (11/ 139-140) :

فلما استنار الصبح طوح ضوءه*** بأنواره أنوار ضوء الكواكب

فجرعهم كأساً لو ابتليت به*** بتجرعة طارت كأسرع ذاهب

وقال الشاعر :

فافترقنا حولاً فلما التقينا*** کان تسليمه عليّ وداعا

وقال آخر:

ياذا الذي زار وما زارا*** كأنه مقتبس نارا

مرَّ بباب الدار مستعجلاً*** ماضرّه لو دخل الدارا

وآخر:

وبلائي من مشهدٍ ومغيب*** وحبيب منى بعيد قريب

لم ترد ماء وجهه العين حتى***شرقت قبل ريها برقيب

وآخر:

ص: 165

والليل يشملنا بفاضل برده*** والصبح يلحفنا رداءً مذهبا

وقال خالد بن الوليد (11/ 141) :

عند الصباح يحمد القوم السرى*** وتنجلي عنا غيابات الكرى

وقال الشاعر:

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا*** ولم تدرِ أني للمقام أطوف

وقال صاحب سلوان المطاع (11/ 207):

يا مفزعي فيما يجيء*** وراحمي فيما مضى

عندي لما تقضيه ما*** يرضيك من حسن الرضا

ومن القطيعة استعيظ*** مصرحاً ومعرضا

وقال أيضاً:

کن من مدبرك الحكيم*** علا وجلَّ، على وجل

وارضَ القضاء فإنه*** حتم أجل، وله أجل

وقال أيضاً (11/ 207-209) :

يا من يرى حالي وأن ليس لي*** في غير قربي منه أوطارُ

وليس لي ملتحد دونه*** ولا عليه لي أنصارُ

حاشا لذاك العز والفضل أن*** يهلك من أنت له جارُ

وإن تشأ هلكي فهب لي رضاً*** بكل ما تقضي وتختارُ

عندي لأحكامك يامالكي*** قلبٌ كما أنعمت صبارُ

ص: 166

کل عذاب منك مستعذب*** ما لم يكن سخطك والنار

وقال الشاعر (11/ 222) :

أبداً تحن إليكم الأرواح*** ووصالكم ريحانها والراحُ

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم*** وإلى لقاء جمالكم ترتاحُ

وارحمة للعاشقين تحملوا*** ثقل المحبة والهوى فضاحُ

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم*** وكذا دماء الفاتحين تباحُ

وقال الشاعر (11/ 224):

همّت بإتياننا حتى إذا نظرت*** إلى المرأة نهاها وجهها الحسن

وقال آخر:

إني لأحسد ناظريَّ عليكما*** حتى أغض إذا نظرت إليكا

وأراك تخطر شمائلك التي*** هي فتنتي ، فأغار منك عليكا

وقال الشاعر (19/ 259):

واحسرتا مات حظي من وصالكم*** وللحظوظ كما للناس آجال

إن مت شوقاً ولم أبلغ مدى أجلي*** كم تحت هذي القبور الخرس آمال

وقال سحيم عبد النبي الحسحاس (19/ 344) :

وهبّت شمال آخر الليل قرة*** ولا ثوب إلا درعها وردائي

فما زال بردي طيباً من ثيابها***مدى الحول حتى انهج البرد بانيا

وقال كثّير عزة (19/ 344 ) :

ص: 167

فأروضة بالحزن طيبة الثرى*** يمج الندى جثمانها وعرارها

بأطيب من أرواض عزة موهناً وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها

وقال امرؤ القيس (19/ 345) :

ألم ترياني كلما جئت طارقاً*** وجدت بها طيباً وإن لم تطيّب

وقال الرضي رضي اللّه عنه (19/ 406):

ولقد مررت على طولهمُ*** ورسومهم بيد البلى نهبُ

فوقفت حتى ضج من لغبٍ*** نضوي وضجّ بعذلي الركبُ

وتلفتت عيني فمذ خفيت*** عني الطلول تلفت القلبُ

وقال آخر:

تلفّت نحو الحي حتى وجدتني*** وجعت من الإصغاء ليتاً وأضرعا

ولقوله (علیه السلام):

((إنما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه، وشكر قيامه، وكل يوم لا تعصي اللّه فهو يوم عيد)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد المحدثين متغزلاً (20/ 73) :

قالوا أتى العيد قلت أهلاً*** إن جاء بالوصل فهو عيد

من ظفرت بالمني يداه*** فكل أيامه سعود

وقول آخر (20/ 73) :

قالوا أتى العيد والأيام مشرقة*** وأنت تبكي وكل الناس مسرور

ص: 168

فقلت إن واصل الأحباب كان لنا*** عيداً وإلا فهذا اليوم عاشور

وقول أبي ذؤيب (20/ 108) :

وعيرني الواشون أني أحبها*** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

فإن أعتذر عنها فإني مكذب*** وإن تعتذر يردي عليك اعتذارها

وسئل (علیه السلام)عن أشعر الشعراء فقال :

- فإن كان ولابد فالملك الضليل.

يريد امرؤ القيس.

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول امريء القیس (20/ 153-172) :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً*** فألهيتهاعن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له*** بشق وعني شقها لم يُحول

وقوله :

سموت إليها بعد أن نام أهلها*** سمو حباب الماء حالا على حال

فقالت لحاك اللّه إنك فاضحي*** ألست ترى السمار والناس أحوالي

فقلت لهاتا اللّه أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت*** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فصرنا إلى الحسني ورق كلامنا*** ورُضت فذلت صعبه أي إذلال

حلفت لها باللّه حلفة فاجرٍ*** الناموا فما أن من حديث ولا صالي

فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها*** عليه القتام کاسف الوجه والبال

ص: 169

وقوله في اللامية الأولى :

وبيضة خدر لا يرام جناؤها*** تمتعت من لهو بها غير معجل

تخطيت أبواباً إليها ومعشراً*** عليَّ حراصاً لويسرون مقتلي

فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها*** لدى الستر إلا لبسة المتفضل

فقالت يمين اللّه مالك حيلة*** وإني أرى عنك الغواية تنجلي

فقمت بها أمشي تجر وراءنا*** على إثرنا أذيال مرط مرجَّل

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى*** بنا بطن خبت ذي عقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت*** على هظيم الكشح ريا المخلخل

وقوله :

فبت أكابد ليل التمام*** والقلب من خشية مقشعر

فلما دنوت نسديتها*** فثوباً نسيت وثوباً أجر

ولم يرنا كاليءٌ كاشح*** ولم يبدو منا لدى البين سر

وقد را بني قولها: يا هنا*** ه ويحك الحق شراً بشر

وقوله :

تقول وقد جردتها من ثيابها*** كما رُعت مکحول المدامع أتلعا

لعمرك لوشيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

فبتنا نصد الوحش عنا كأننا*** قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا

تجافي عن المأثور بيني وبينها*** وتدني عليَّ السابري المضلعا

ص: 170

وقول الشاعر (20/ 191) :

وقائلة أخضب فالغواني*** تطَّيَرُ من ملاحظة القتير

فقلت لها المشيب نذير موتي*** ولست مسوداً وجه النذير

وقول الوزير المهلبي (20/ 201):

يا صروف الدهر حسبي*** أي ذنب كان ذنبي

علة خصّت وعمّت*** حبيب ومحب

دب في كفيه يامن*** حبه دب بقلبي

فهو يشكو حر حب*** وشكاتي حر صبي

وقول المجنون :

عشية مالي حيلة غير أنني*** بلقط الحصى والحظ بالدار مولع

أخط وأمحو كلما قد خططته*** و بدمعيَ والغربان حولي وقَّعُ

وقول أحمد بن أبي عثمان الكاتب (20/ 238) :

وإني ليرضيني المرور ببابها*** إذا كان لون الليل لون الطيالس

وقول كثير عزة (20/ 238) :

وإني لأرضي منكِ ياعز بالذي*** لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بلاوبالاً أستطيع وبالمني*** وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله

وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي*** أواخره لا تلتقي وأوائله

وقول وضاح اليمن (20/ 238) :

ص: 171

إذا قلت هاتي نوليني تبسمت*** وقالت معاذ اللّه من حل ما حَرُم

فما نولت حتى تضرعت حولها*** وعرفتها ما رخص اللّه في اللمم

وقول آخر (20/ 238):

فقالت بحق اللّه إلا أتيتنا*** إذا كان لون الليل لون الطيالس

فجئت وما في القوم يقظان غيرها*** وقد نام عنها كل وال وحارس

فبتنا مبيتاً طيباً نستلذه*** جميعاً ولم أمدد لها كف لامس

وقول أبي صخر الهذلي (20/ 239) :

(و) لليلة منها تعود لنا*** من غير ما رفث ولا إثم

أشهى إلى نفسي ولو برحت*** مما ملكت ومن بني سهم

وقول آخر (20/ 239):

وما نلت منها محرماً غير أنني*** أقبّل ساقاً من الثغر أفلجا

وألثم فاها آخذاً بقرونها*** وأترك حاجات النفوس تحرجا

وقول عبد بني الحسحاس (20/ 239) :

لعمر أبيها ما صبوت ولا صبت*** إليَّ وإني من صباً لحليم

سوى قبلة أستغفر اللّه ذنبها*** سأطعم مسكيناً لها وأصوم

وقول آخر (20/ 239) :

ومجدولة جدل العتاق كأنما*** سنا البرق في داجي الظلام ابتسامها

ضربت لها الميعاد ليست بكنةٍ*** ولا جارة يخشى عليَّ ذمامها

ص: 172

فلما التقينا قالت الحكم فاحتكم*** سوى خلة هيهات منك مرامها

فقلت معاذ اللّه أن أركب التي*** تبيد ويبقى في المعاد أثامها

(وقوله : ليست بكنة ولا جارة يخشى عليَّ ذمامها) مأخوذ من قول قيس بن الخطيم :

ومثلك قد أحببت ليست بكنة*** ولا جارة ولا حليلة صاحب

وقول بشار بن برد (20/ 240) :

قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم*** ما في التزام ولا في قبلة حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجته*** وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

وقول الصابي (20/ 230) :

خضاب تقاسمناه بيني وبينها*** ولكن شأني فيه خالف شأنها

فيا قبحه إذ حل بيني بمفرقي*** ويا حسنه إذ حل منها بنانها

وسحقاً له عن لمتي حين شأنها*** وأهلاً به في كفها حين زانها

وقول المجنون (20/ 236) :

كأن على أنيابها الخمر مجّه*** بماء الندى من آخر الليل غابق

وقول العباس بن الأحنف (20/ 237):

أتأذنون لصب في زيارتكم*** فعندكم شهوات السمع والبصر

لا يضمر السوء إن خال الجلوس به*** عف الضمير ولا فاسق النظر

وقول أبو صفير البولاني (20/ 236) :

ص: 173

بأعذب من فيها وما ذقت طعمه*** ولكنني فيما ترى العين فارس

وقول الآخر (20/ 240):

نلهو بهن كذا من غير فاحشةٍ*** لهو الصيام بتفاح البساتين

وبالرواية التي تقول :

نظر المأمون إلى غلام حسن الوجه في الموكب، فقال له :

یا غلام، ما اسمك؟ قال :

- لا أدري.

قال :

أوَ يكون أحد لا يعرف اسمه؟

فقال :

- يا أمير المؤمنين، اسمي الذي أعرف به (لا أدري).

فقال المأمون (19/ 368) :

وسميتَ لا أدري لأنك لا تدري*** بما فعل الحب المبرح في صدري

ص: 174

النصح والإرشاد

ص: 175

ص: 176

لقوله (علیه السلام)لما غلب أصحاب معاوية أصحابه (علیه السلام)على الفرات ومنعوهم من الماء :

((قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلة وتأخير ومحله، أوردوا السيوف من الدماء تردوا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عمارة اليمني شاعر المصريين في فخر الدين توران شاه بن أيوب، التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن والاستيلاء على ملكها وأولها (3/ 244و 294-295) :

العلم، مذكان، محتاج إلى القلم*** وشفرة السيف تستغني عن القلم

وخير خيلك إن غامرت في شرفٍ*** عزم يفرق بين الساق والقدم

إن المعاني عروس غير واصلة*** ما لم تخلّق ردائيها بنضح دم

ترى مسامع فخر الدين تسمع ما*** أملاه خاطر أفكاري على قلمي

فإن أصبت فلي حظ المصيب وإن*** أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم

كم تترك البيض في الأجفان ضامئة***إلى الموارد في الأعناق والقمم

ص: 177

ومقلة المجد نحو الفهم شاخصة*** فاترك قعودك عن إدراكها وقم

فعمك الملك المنصور سوَّمها*** من الفرات إلى مصر بلا سأم

واخلق بنفسك أمراً لا تضاق به*** إلى سواك وأورِ النار في العلم

وانهَ المشيرين إن لجّت نصيحتهم*** أولا، فأنعم على العميان بالصمم

واعزم وصمم فقد طالت وقد سمجت*** قضية لفظتها ألسن الأمم

فرب أمرٍ يهاب الناس غايته*** والأمر إن هوفيه من يدٍ لفم

فكيف إن نهضت فيما هممت به*** أسد تشير من الخطي في أجم

لا يدرك المجد إلا كل مقتحم*** في موج ملتطم أو فوج مضطرم

وينتضي الخطوة الأولى بثانية*** ولا يفكر في العقبي من الندم

كأنما السيف أفتاه بقتلهم*** في فتح مكة حل القتل في الحرم

ولم يراعوا لعثمان ولا عمر*** ولا الحسين زمام الأشهر الحرم

فما ترون سوى فتح صوارمه*** يضحكن في كل يوم عابس البهم

حتى كأنَّ لسان السيف في يده*** يروي الشريعة عما عاد عن أرم

هذا ابن توحرت قد كانت بدايته*** فما يقول الورى لحماً على وضم

وقد ترقى إلى أن صار طالعه*** من الكواكب بالأنفاس والكظم

وكان أول هذا الدين من رجلٍ*** سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

والبدر يبدو هلالاً ثم يكشف بال*** أنوار ماسترته شملة الظلم

والغيث فهو كماقد قيل أوله*** قطر وبدء خراب السد بالعرم

ص: 178

تنموقوى الشيء بالتدريج إن رزقت*** شرَّاً ويقوى شرار النار بالضرم

حاسب ضميرك عن رأي أتاك وقل*** نصيحة وردت من غير متهم

أقسمت من أنت من جل بهمته*** ما رام من نعم أو رق من نِعم

وإنما أنت مرجوه لواحدةٍ*** بنى بها الدهر مجداً غير منهزم

كأنني بالليالي وهي هاتفة*** قد صم سمع رجال دونها وعمي

وبالعلا كلما لاقتك غائلة*** أهلاً بنشر أماليٍّ من الرمم

وقول هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة (9/ 63):

أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته*** بأنك شر الناس غيباً لصاحب

فتبدي له بشراً إذا ما لقيته*** وتلسعه بالغيب لسع العقارب

ولقوله (علیه السلام):

((فأقسم باللّه يا بني أمية قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم)) (7/ 113).

استشهد ابن أبي الحديد بقول سدیف مولى أبي لهب وقد دخل على أبي العباس بالحيرة أنشد (7/ 125):

أصبح الملك ثابت الآساس*** بالبهاليل من بني العباس

بالصدور المقدمين قديماً*** والبحور القماقم الرؤاس

يا إمام المطهرين من الذم*** ويا رأس منتهی کل راس

أنت مهدي هاشم وفتاها*** كم أناس رجوك بعد أناس

ص: 179

لا تقيلن عبد شمس عثاراً*** واقطعن کل رقلة وغراس

أنزلوها بحيث أنزلها اللّه*** بدار الهوان والاتعاس

خوفها أظهر التودد منها*** وبها منكم كحز المواس

إقصهم أيها الخليفة واحسم*** عنك بالسيف شأفة الأرجاس

واذكرن مصرع الحسين وزيد*** وقتيلاً بجانب المهراس

والقتيل الذي بحران أمسي*** ثاوياً بين غربة وتناسي

فلقد ساءني وساء سوائي*** و قربهم من نمارق وكراسي

نعم كلب الهراش مولاك شبل*** لونجا من حبائل الإفلاس

وروى المبرد الشاهد بصيغة أخرى وهي (7/ 127):

أصبح الملك ثابت الأساس*** بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم وشنوها*** بعد ميل من الزمان وياس

لا تقيلن عبد شمس عثاراً*** واقطعن کل رقلة وأواس

ذلها أظهر التودد منها*** وبها منكم كحز المواسي

ولقد غاضني وغاض سوائي*** قربهم من نمارق وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها اللّه*** بدار الهوان والانعاس

واذکرن مصرع الحسين وزيد*** وقتيلاً بجانب المهراس

والقتيل الذي بحران أمسي*** ثاوياً بين غربة وتناسي

نعم شبل الهراش مولاك شبل*** لو نجا من حبائل الإفلاس

ص: 180

وقول سدیف أيضاً إذ دخل على أبي العباس السفاح، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أعطاه يده فقبلها وأدناه، فقال له (7/ 128) :

لا يغرنك ماترى من رجالٍ*** إن تحت الضلوع داءً دویّا

فضع السيف وارفع الصوت حتى*** لاترى فوق ظهرها أمويّا

فألقي المنديل في عنق سلیمان، ثم جَرَّ فقتل.

وبقول العرجي (7/ 141) :

إن الحبيب تروحت أجماله*** أصُلا، فدمعك دائم إسباله

فاقن الحياء فقد بكيت بعولةٍ*** لوكان ينفع باكياً إعواله

يا حبذا تلك الحمول وحبذا*** شخص هناك، وحبذا أمثاله

وقول سدیف أيضا وقد أنشده أبا العباس وعنده رجال من بني أمية (7/ 141) :

يا ابن عم النبي أنت ضياء*** استبنا بك اليقين الجليا

جرد السيف وارفع العفو حتى*** لا ترى فوق ظهرها أمويا

لا يغرنك ماترى من رجالٍ*** إن تحت الضلوع داءٌ دويا

قطن البغض في القديم وأضحى*** ثابتاً في قلوبهم مطويا

فقال أبو العباس : یا سدیف، خلق الإنسان من عجل.

ثم أنشد أبو العباس متمثلاً :

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا*** فلن تبيد وللآباء أبناء

ص: 181

ثم أمر بمن عنده فقتلوا.

وقول سدیف أيضاً لأبي العباس يحضه على بني أمية ويذكر من قتل مروان وبنو أمية من أهله (7/ 143) :

کیف بالعفو عنهم وقديماً*** قتلوكم وهتكوا الحرمات

أين زيد وأين يحيى بن زيد*** يا لها من مصيبة وترات

والإمام الذي أصيب بحرّا*** ن إمام الهدى ورأس الثقات

قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب*** لم روان غافر السيئات

وقول رجل من شيعة بني العباس يحضه على بني أمية ويذكر من قتل مروان وبنو أمية من أهله (7/ 144):

إياكم أن تلينوا لاعتذارهمُ*** فليس ذلك إلا الخوف والطمع

لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم*** لكنهم قُمعوا بالذل فانقمعوا

أليس في ألف شهرقد مضت لهم*** سقيتم جرعا من بعدها جرع

حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم*** منوا إليكم بالأرحام ماقطعوا

هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم*** رياً وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا

إنا وإخواننا الأنصار شيعتكم*** إذا تفرقت الأهواء والشيع

إياكم أن يقول الناس إنهم*** قد ملكوا ثم ما ضروا وما نفعوا

ولقوله (علیه السلام)من کتاب له إلى أحد عماله :

((فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك،

ص: 182

وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلىَّ حسابك، واعلم أن حساب اللّه أعظم من حساب الناس)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أنس بن إياس الدولي ويقال أنها لأبي الأسود (3) (6/ 166) :

أحار بن بدرقد وليت ولايةً*** فكن جُرَذا فيها تخون وتسرق

ولا تحقرن يا صاح شيئاً أصبته*** فحظك من ملك العراقين سُرَّق

وباهِ تميماً بالفني إن للفنی*** لساناً به المرء الهيوبة ينطق

فإن جميع الناس إما مكذب*** يقول بما تهوى وإما مصدق

يقولون أقوالاً ولا يتبعونها*** وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

ولقوله (علیه السلام):

((وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعایب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت، يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعیتك..

أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتَغابَ عن كل ما لا يَتضِحُ لك، ولا تعجلن إلى تصدیق ساعٍ، فإن الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين، ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزيّن لك الشَرَه بالجور، فإن البخل

ص: 183

والجبن والحرص غرائزُ شتي يجمعها سوء الظن باللّه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (17/ 36-37) :

وأجرأ من رأيت بظهر غيب*** على عيب الرجال أُلو العيوب

وقول آخر (17/ 37) :

يامن يعيب وعيبه متشعب*** کم فيك من عيب وأنت تعيب

وقول الشاعر (17/ 38) :

ولست بذي نيرب وفي الرجا*** ل قنّاع خ ير وسبّابها

ولا من إذا كان في جانب*** أضاع العشيرة واغتابها

ولكن أطاوع ساداتها*** ولا أتعلم ألقابها

وقول آخر (17/ 38) :

لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا*** فيكشف اللّه سترا من مساويكا

واذكر محاسن مافيهم إذا ذكروا*** ولا تعب أحداً منهم بما فيكا

وقول آخر (17/ 38) :

ابدأ بنفسك فانههاعن غيّها*** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى*** بالقول منك، ويُقبل التعليم

وقول آخر (17/ 40):

لعمرك ماسب الأمير عدوّه*** ولكنما سبّ الأمير المبَلّغ

وقول آخر (17/ 40) :

ص: 184

هرمت منائي منك إن كان ذا الذي*** أتاك به الواشون عني بما قالوا

ولكنهم لما رأوك شريعة*** إليّ تواصوا بالنميمة واجتالوا

فقد صرت أذناً للوشاة سميعة*** ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا

وقول الشاعر (17/ 41):

فكو في على الواشين لدّاء شغبة*** كما أنا للواشي ألدّ شغوب

وقول الشاعر (17/ 41) :

وإذا الواشي وشي يوماً بها*** نفع الواشي بماجاء يضر

وقول العباس بن الأحنف (17/ 41):

ما حطّك الواشون من رتبةٍ*** و عندي ولا ضرّك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا*** عليك عندي بالذي عابوا

ولقوله (علیه السلام):

((فلا تطوِّلَنَّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية، شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤء سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل کریم تسديه ؟ أو معتلٍ بالمنع، فما أسرع كف الناس عن

ص: 185

مسألتك، إذ أيسوا من ذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف، في معادلة) (17/ 90-91).

استشهد ابن أبي الحديد بقول محمود الوراق (17/ 93):

إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه*** وردّ ذوي الحاجات دون حجابه

ظننت به إحدى ثلاث وربما*** رجحت بظنٍ واقع لصوابه

أقول به مسُّ من العيّ ظاهر*** ففي إذنه للناس إظهار مابه

فإن لم يكن عيّ اللسان فغالب*** من البخل يحمي ماله عن طلابه

وإن لم يكن لا ذا ولا ذا فريبة*** يكتّمها مستورة بثيابه

وقول عبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد أقام على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له، ثم أذن له وقرّبه وأدناه، ولطف محله عنده وولاه مصر، فكان يقال : استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة، ثم صار يستأذن لهم، وقال في ذلك (17/ 93):

دخلت على معاوية بن حرب*** ولكن بعد يأسٍ من دخولي

وما نلت الدخول عليه حتى*** حللت مجلة الرجل الذليل

وأغضيت الجفون على قذاها*** ولم أنظر إلى قال وقيل

وأدركت الذي أمّلت منه*** وحرمان المنى زاد العَجول

وبما كتب أحدهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان بن وهب ( 17/ 95) :

ص: 186

أبا جعفر إن الولاية إن تكن*** منبّلة قوساً فأنت لها نبل

فلا ترتفع عنا لأمرٍ وَلَيته*** كما لم يصغّر عندنا شأنك العذل

وقول عبد اللّه بن محمد في عُيينه (17/ 96) :

أتيتك زائراً لقضاءِ حقٍ*** فحال الستر دونك والحجاب

ورأيي مذهب عن كل ناءٍ*** يجانبه إذا عزّ الذهاب

ولست بساقط في قدر قومٍ*** وإن كرهوا كمايقع الذباب

ولقوله (علیه السلام)من كتاب له إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافة :

((فقد علمت إعذاري فيكم، وإعراضي عنكم، حتى كان لا منه ولا دفع له، والحديث طويل، والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل، فبايع من قبلك، وأقبل إليَّ في وفد من أصحابك)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الوليد بن عقبة وهو يحرض معاوية أن يثأر لدم عثمان (18/ 68-69):

فواللّه ما هند بأمك إن مضى*** النهار ولم يثأر بعثمان ثائر

أيقتل عبد القوم سيد أهله*** ولم تقتلوه ليت أمك عاقر

ومن عجب أن بت بالشام وادعاً*** قريراً وقد دارت عليه الدوائر

ولقوله (علیه السلام):

((أزرى بنفسه من استشرى به الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضرّه ،

ص: 187

وهانت عليه نفسه من أمرَّ عليها لسانه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الأسود الدؤلي (18/ 84-85) :

إلبس عدوَّك في رفقِ ودعةٍ*** طوبى لذي إربة للدهر لبّاس

ولا تغرنك أحقادٌ مزملة*** قد يركب الدبر الدامي بأحلاس

واستغنِ عن كل ذي قربي وذي رحم*** إن الغنيّ الذي استغنى عن الناس

ولقوله (علیه السلام):

((وصدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة العودة، والاحتمال قبر العيوب)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/ 97-98):

لاتدخلنك ضجرة من سائلٍ*** فلخير دهرك أن ترى مسؤولا

لا تجبهن بالرد وجه مؤملٍ*** قد رام غيرك أن يرى مأمولا

تلقى الكريم فتستدل ببشره*** وترى العبوس على اللئيم دليلا

واعلم بأنك عن قليل صائر*** خبراً فكن خبراً يروق جميلا

وقول الشاعر ( 18/ 99):

إذا نطق السفيه فلا تجبه*** فخير من إجابته السكوت

سکتُ عن السفيه فظن أني*** عييت عن الجواب فما عييت

ولقوله (علیه السلام):

((إن هذه القلوب تمل كما تحمل الأبدان، فابتغوا لها طرائق الحكمة)).

ص: 188

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 16) :

أفد طبعك المكدود بالجد راحةً*** تجمه وعللّه بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن*** بمقداره يعطى الطعام من الملح

ولقوله (علیه السلام):

((حسد الصديق من سقم المودة)).

استشهد بقول الشاعر (19/ 39) :

احذر عدوك مرة*** واحذر صديقك ألف مرّة

فلربما انقلب الصدي*** ق فكان أعرف بالمضرّة

وقول آخر (19/ 39-40) :

احذر مودة ماذقٍ*** شاب المرارة بالحلاوة

يحصي الذنوب عليك أي*** ام الصداقة للعداوة

وقول الشاعر (19/ 40):

إذا كان دوّاماً أخوك مصارحاً*** موجهة في كل أوبٍ ركائبه

فخلِّ له ظهر الطريق ولا تكن*** مطية رحّال كثير مذاهبه

ولقوله (علیه السلام):

((أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 14):

طمعت بليلى أن تريع وإنما*** تقطع أعناق الرجال المطامع

ص: 189

ودانيت ليلى في خلال ولم یکن*** شهود على ليلى عدول مقانع

وقول آخر (19/ 40) :

إذا حدثتك النفس إنك قادر*** على ما حوت أيدي الرجال فكذّب

وإياك والأطماع إن وعودها*** رقارق آل أو بوارق خلّب

ولقوله (علیه السلام):

((إذا أرذل اللّه عبداً حضر عليه العلم)).

استشهد بقول الشاعر (19/ 182):

شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي*** فأرشدني إلى ترك المعاصي

فقال لأن حفظ العلم فضل*** وفضل اللّه لا يعطيه عاصِ

وقول آخر (19/ 182):

إذا فاتك العلم جد بالقرى*** وإن فاتك الماء سد بالقراع

فإن فات هذا وهذا وذاك*** فمت فحياتك شر المتاع

وقوله أيضاً في المعنى عينه (19/ 192) :

فلولا الحجى والقرى والقراع*** لما فضل الآخر الأولا

ثلاث متى يحكِ منها الفتی*** یکن کالبهيمة أو أرذلا

ولقوله (علیه السلام):

((كان لي فيما مضى أخ في اللّه، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان

ص: 190

أكثر دهره صامتاً، فإن قال بذ القائلين، ونقع غليل السائلين، وكان ضيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجد فهو ليث عادٍ، وصلُّ وادٍ، لا يدلي، بحجة حتى يأتي قاضياً، كان لا يلوم أحداً على ما لا يجد العذر في مثله، حتى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعاً إلا عند برئه، وكان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل، وكان إن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه؛ فعليكم بهذه الخلائق فالزموها، وتنافسوا فيها، فإن لن تستطيعوا فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشنفري (19/ 183-185) :

وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت*** خيوطة ماريّ تغار وتفتل

وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن*** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وقول الأعشى (19/ 185) :

يابني المنذر بن عبد اللّه*** والبطة يوماً قد تأمن الأحلاما

وقول الشاعر ( 19/ 188) :

وأكلة أوقعت في الهلك صاحبها*** كحبة القمح دقت عنق عصفور

بكسرةٍ بجريش الملح أكلها*** ألذ من ثمرة تحشی بزنبور

وقول ابن دريد : العرب تعير بكثرة الأكل وأنشد (19/ 188) :

لست بأكّالٍ كأكل العبد*** ولا بنوامٍ كتوم الفهد

ص: 191

وقول الشاعر (19/ 189) :

إذا لم أزر إلا لأكل أكلة*** فلا رفعت كفي إليَّ طعامي

فما أكلة إن نلتها بغنيةٍ*** ولا جوعة إن جعتها بغرام

وقول حاتم الطائي (19/ 186-190) :

وإني لأستحيي صحابي أن يروا*** مكان يدي من جانب الزاد تمرعا

أقصر كفي أن تنال أكفهم*** إذا نحن أهوينا وحاجاتنا معا

أبيت خميص البطن مضطمر الحشا*** حياء أخاف الضيم أن أتضلعا

فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها*** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

ولقوله (علیه السلام): ((من بالغ بالخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقي اللّه من خاصم)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 204):

إذا كنت بين الجهل والحلم قاعداً*** وخيّرت أنى شئت فالعلم أفضلُ

ولكن إذا أنصفت من ليس منصفاً*** ولم يرضَ منك الحلم فالجهل أمثلُ

إذا جاءني من يطلب الجهل عامداً*** فإني سأعطيه الذي هوسائلُ

ولقوله (علیه السلام):

((رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 207)

تخير إذا ماكنت في الأمر مرسِلاً*** فمبلغ آراء الرجال رسولها

ص: 192

وروِّ وفكر في الكتاب فإنما*** بأطراف أقلام الرجال عقولها

ولقوله (علیه السلام):

(لاتظَّنَّ بكلمة خرجت من أحدٍ سوءً وأنت تجد لها في الخير محتملاً).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 278):

إذا ما أتت من صاحب لك زلة*** فكن أنت محتالاً لزلته عذرا

ولقوله (علیه السلام): ((الفكر مرآة صافية، والاعتبار منذر ناصح، وكفى أدباً لنفسك تجنبك ماكرهت لغيرك)). استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 283):

إذا أعجبتك خصال امريء*** فکنه یکن منك ما يعجبك

فليس على المجد والمكرمات*** إذا جئتها حاجب يحجبك

ولقوله (علیه السلام): ((المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (19/ 362) :

أحسن بالأيام من ذلة*** ومن سؤال الأوجه الكالحة

فاستعن باللّه تكن ذا غنى*** مغتبطاً بالصفقة الرابحة

فالزهد عز والتقى سؤدد*** وذلة النفس لها فاضحة

کم سالم صیح به بغتةً*** وقائل عهدي به البارحة

أمسى وأمست عنده قينة*** وأصبحت تندبه نائحة

طوبى لمن كانت موازينه*** يوم يلاقي ربه راجحة

ص: 193

وقوله أيضاً (19/ 362) :

لمصُّ الثماد وخرط القتاد*** وشرب الأجاج أوان الظما

على المرء من لا يُرى*** ذليلاً لخلق إذا أعدَما

وخير لعينيك من منظر*** إلى ما بأيدي اللئام العمی

ولقوله (علیه السلام):

((مازال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ إبنه المشؤوم عبد اللّه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أيمن بن طريم بن فاتك الأسدي ينصح إبن الزبير بعدم التعرض لإبن عباس (20/ 102و131):

يابن الزبير لقد لاقيت بائعةً*** من البوائق فالطف لطف محتال

لاقَينة هاشمياً طاب منبته*** في مغرس لكريم العم والخال

ما زال يقرع عنك العظم مقتدراً*** على الجواب بصوت مسمع عالِ

حتى رأيتك مثل الكلب منجحراً*** خلف الغييط وكنت الباذخ العالي

إن ابن عباسٍ المعروف حكمته*** خير الأنام له حال من الحال

عيرته المتعة المتبوع سنتها*** وبالقتال وقد عیّرت بالمال

لما رماك على رسل بأسهمه*** جرت عليك بسيف الحال والبال

فاحتز مقولك الأعلى بشفرته*** هزءً وحيا بلاقيل ولا قال

واعلم بأنك إن عاودت غيبته*** عادت عليك مخازٍ ذات أذيال

ولقوله (علیه السلام)في ذكر عمرو بن العاص (6/ 280):

ص: 194

((وإنه لم يبايع معاوية حتى استشهد بالرواية التي تقول ( 16/ 28)، ذكرناه في جانب آخر، دعا رهط من رجال معاوية منهم عمرو بن العاص وغيره، عند معاوية وصاروا يسبون أباه ويثلمون جانبه، وبعد أن انتهوا تكلم الإمام الحسن فعدد مواقف معاوية وأهله من الإسلام ثم قال :

((أتنسی یا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يِسلم تنهاه عن ذلك؟ وهو:

يا صخر لا تسلمن يوماً فتفضحنا*** بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا

خالي وعمي وعم الأم ثالثهم*** وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا

لا تركنن إلى أمر تكلفنا*** والراقصات به في مكة الخُرقا

فالموت أهون من قول العداة :لقد*** حاد ابن حرب عن العزى إذ فرقا

ولقوله (علیه السلام)في مجاهدة النفس :

((قد أحيا عقله وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه)).

استشهد بقول أبي تمام وهو ينصح (11/ 128-129):

خذي عبرات عينك عن زماعي*** وصوني ما أزلتِ من القناع

أقلي قد أضاق بكاكِ ذرعي*** وماضاقت بنازلة ذراعي

أالفة النحيب کم افتراقٍ*** أظل فكان داعية اجتماع

فليست فرحة الأوبات إلا***لموقوف علی ترح الوداع

تعجّبُ أن رأت صبحي نحيلاً*** فإن المجد يُدرك بالصراع

ص: 195

أخو النكبات من يأوي إذا ما*** أطفن به إلى خلق وساع

يثير عجاجة في كل نبحٍ*** يهيم به عدي بن الرقاع

أبنّ مع السباع الماء حتى*** لخالته السباع من السباع

وقوله أيضاً (6/ 129) :

فاطلب هدوءً بالتقلقل واستقر*** بالعيس من تحت السهاد هجودا

ما إن ترى الأحساب بيضاً وضماً*** إلا بحيث ترى المنايا سودا

لما قتل قوم من بني تميم أخاً لعمر بن هند، قال بعض أعدائه يحرض عمرو بن ملقط الطائي عليهم (13/ 300) :

من مبلغ عمروا بأنّ*** المرء لم يخلق صبارة

وحوادث الأيام لا*** يبقى لها إلا الحجارة

ها إن عجزة أمة*** بالسفح أسفل من أداره

تسفي الرياح خلال کش*** حيه وقد سلبوا إزاره

فاقتل زرارة لا أرى*** في القوم أمثل من زرارة

ولقوله (علیه السلام): ((عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء یکون الرخاء)). استشهد ابن أبي الحديد بقول أمية بن أبي الصلت(19/ 267) :

لا تضيقن في الأمور فقد یک*** شف غماؤها بغير احتيال

ربما تجزع النفوس من الأمر*** له فرجة كحل العقال

ص: 196

الحماسة

ص: 197

ص: 198

فلقوله (علیه السلام):

((أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم؛ وهم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألَّمهم لشعثه ، وأعظمهم عليه عند نازلة، إن نزلت به، ولسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خيراً له من المال يورثه غيره)).

استشهد ابن أبي الحديد بباقة من أشعار الحماسة (1/ 326-328) :

كقول الشاعر (1/ 326) :

إذا المرء لم يغضب له حين يغضب*** فوارس إن قيل للموت يركبوا

ولم يُحبه بالنصر قوم أعزةٌ*** مقاحيم في الأمر الذي يُتَهيَّب

تكظّمه أدنى العداة فلم يزل*** وإن كان عضّاً بالضلامة يضرب

فأخ لحال السلم من شئت واعلمن*** بأن سوی مولاك في الحرب أجنب

ومولاك مولاه الذي إن دعوته*** أجابك طوعاً والدماء تصبّب

فلا تخذل المولى وإن كان ظالماً*** فإن به تُتأى الأمور وتُرأب

ص: 199

وقول الشاعر(1/ 327):

أفيقوا بني حزني وأهواؤنا معا وأرحامنا موصولة لم تقضب العمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به کل مرکب إذا كنت في قوم وأمك منهم التعزى إليهم في خبيث وطيب وإن حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب

وقول الشاعر (1/ 327) :

لعمرك ما أنصفتني حين سمتني*** هواك مع المولى وأن لا هوى ليا

إذا ظلم المولى فزعت لظلمه*** فحرق أحشائي وهرت کلابيا

وقول الشاعر (1/ 327) :

وماكنت أبغي العم يمش على شفا***وإن بلغتني من أذاه الجنادع

ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه***لترجعه يوماً إليَّ الرواجع

وحسبك من ذلٍ وسوء صنيعةٍ*** مناواة ذي القربى وإن قيل قاطع

وقول الشاعر (1/ 327):

ألا هل أتى الأمصار أن ابن شجدلٍ***حُميداً شفي كلباً فقرت عيونها

فأنا وكلباً كاليدين متى تقع*** شمالك في الهيجا تعنها يمينها

وقول الشاعر (1/ 328):

أخوك أخوك من ينأى وتدنو***مودته وإن دعي استجابا

إذا حاربت حارب من تعادي*** وزاد غناؤه منك اقترابا

ص: 200

يواسي في كريهته ويدنو*** إذا ما مُضلع الحدثان نابا

ولقوله (علیه السلام): لما غلب أصحاب معاوية أصحابه (علیه السلام)على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء :

((قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلّة، وتأخیر محلّة، أو روّوا السيوف من الدماء تروَوا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عمرو بن براقة الهمداني (3/ 245):

فكيف ينام الليل من جل ماله***حسام کلون الملح أبيض صارم

كذبتم وبيت اللّه لا تأخذونها*** مراغمة ما دام للسيف قائم

ومن يطلب المال المقنع بالقنا*** يعش ماجداً أو تخترمه الخوارم

ومثله ( 3/ 236):

ومن يطلب المال المقنع بالقنا*** يعش ماجداً أو يؤذ فيما يمارس

وقول حرب بن سعر(3/ 236):

عطفت عليه المهر عطفة باسلٍ*** كمیٍّ ومن لا يظِلم الناس يُظلم

فأوجرته لدن الكعوب منقفاً*** فخر صريعاً لليدين وللفم

وقول الحارث بن الأرقم (3/ 246):

وما ضاق صدري يا سليمى بشخصكم*** ولكنني في الحادثات صليب

تروك لدار الخشف والضيم منکر*** بصير بفعل المكرمات أريب

ص: 201

إذا سامني السلطان ذلاً أبيته*** ولم أعطِ خسفاً ما أقام عسيب

وقول العباس بن مرداس السُلَمي (3/ 246):

بأبي فوارس لا يعری صواهلها*** أن يقبلوا الخسف من ملك وإن عظما

لا والسيوف بأيدينا مجردة*** لاكان منا غداة الروع منهزما

وقول وهبة بن الحارث (3/ 346) :

لا يحسبني كأقوام عبئت بهم*** لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحُمُر

لا تعلقني قذاةٌ لست فاعلها*** واحذر ثباتي فقدماً ينفع الحذر

فقد علمت بأني غير مهتضمٍ*** حتى يلوح ببطن الراحة الشعر

وقول المسيب بن عباس (246-247):

(و) أبلغ ضبيعة أن البلاء*** فيها لذي قوة مغضب

وقد يقعد القوم من دارهم*** إذا لم يضاموا وإن أجدبوا

ويرتحل القوم عند الهوان*** عن دارهم بعدما أخصبوا

وقد كان سامة في قومه*** له مطعم وله مشب

فساموه خسفاً ولم يرضه*** وفي الأرض ضيعهم مهرب

وقول آخر (3/ 247):

إن الهوان حمار القوم يعرفه*** والحر ينكره والرسلة الجلد

ولا يقيم على خسف يراد به*** إلا الأذلان غير الحي والوتد

هذا على الخسف مشدود برمته*** وذا يشيح فلا يأوي له أحد

ص: 202

فإن أقمت على ضيم يراد بكم*** فإن رحلي له والٍ ومعتمد

وفي البلاد إذا ما خفت باردة*** مكروهة عن ولاة السوء مفتقد

وقول أحد بني أسد (3/ 247) :

إني امرؤ من بني خزيمة لا*** أطعم خسفاً لناعب نعبا

لست بمعط ظلامة أبداً*** عجماً ولا أتقي بها عربا

وقول مويلك السدوسي عندما دخل إلى البصرة يبيع إبلاً فأخذ عامل الصدقة بعضها، فخرج إلى البادية وقال (3/ 247):

ناق إني أرى المقام على الضي*** م عظيماً في قبة الإسلام

قد أراني ولي من العامل النص*** ف بحد السنان أو بالحسام

وقول یزید بن مفرِّع الحميري (3/ 248):

لا ذعرت السوام نے فلق الصب*** ح مغيراً ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى من المخافة ضيماً*** والمنايا يرصدني أن أحيدا

وقول آخر (3/ 248):

لا تحسبني يا أمامة*** عاجزاً دنساً ثيابه

إني إذا خفت الهوا*** ن مُشَیَّعٌ ذُلُلٌ ركابه

وقول عنترة (3/ 248) :

ذُلُلٌ ركابي حيث شئت مشايعي*** لُبِّي وأحفُزُةٌ برأي مبرم

وقول آخر (3/ 248):

ص: 203

أخشية الموت درَّ درّكم*** أعطيتم القوم فوق ماسألوا

إنّا لعمر الإله نأبي الذي قا*** الوا ولما تقصّف الأسل

نقبل ضيماً ونحن نعرفه*** ما دام منا بظهرها رجل

وقول آخر (3/ 248) :

ورب يوم حبست النفس مكرهة*** فيه لأكبت أعداءً أحاشيها

آبی وآنف من أشياء آخذها*** رث القوي وضعيف القوم يعطيها

وقول الشراخ (3/ 248-249) :

أبينا فلا نعطي مليكاً ظلامة*** ولا سوقاً إلا الوشيج المقوما

وإلا حساماً يبهر العين لمحه*** كصاعقة في عارض قد تبسما

وقول أبي تمام في محمد بن حميد الطائي (3/ 249):

وقد كان فوت الموت سهلاً فردّه***إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تعاف الضيم حتى كأنه*** هو الكفر يوم الضيم أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله*** وقال لها: من تحت أخمصك الحشر

تردي ثياب الموت حمراً فما أتى*** لها الليل إلا وهي من سندس خضر

وقول سليمان بن قتة (3/ 249):

فإن الأولى بالطف من آل هاشم*** تأسوا فسنوا للكرام التأسيسا

وقول العباس بن مرداس (3/ 250):

فقال امرؤ يهدي إليك نصيحة*** إذا معشراً جاءوا بعرضك فانجل

ص: 204

وإن بوؤوك منزلاً غير طائل*** غليظاً فلا تنزل به وتحول

ولا تطمعن ما يعلفونك إنهم*** أتوك على قرباهمُ بالمثقل

أبعد الإزار مجسداً لك شاهداً*** أتيت به في الدار لم يتنزل

أراك إذاً قد صرت للقوم نافحاً*** يقال له بالضرب أدبر وأقبل

فخذها فليست بالعزيز بخطمةٍ*** وفيها مقام لامريءٍ متذلل

وله أيضاً (3/ 251):

فحارب فإنْ مولاك حارد نصره*** ففي السيف مولى نصره لا يحارد

وقول مالك بن حريم الهمداني (3/ 251):

وكنت إذا قوماً غزوني غزوتهم*** فهل أنا ذا بال همدان ظالم

متى تجمع القلب الذكي وصارماً*** وأنفاًحمياً تجتبيك المظالم

وقول رشيد بن رُميّض العنزي (3/ 251):

باتوا نياماً وابن هند لم ينم*** بات يقاسيها غلام کالزَلَم

خُدلّج الساقين خفاق القدم*** قد لفها الليل بسواق حُطم

لیس براعي إبل ولا غنم*** ولا بجزّاز على ظهر وضم

من يلقني بودٍ كما عودت أرم

وقول آخر (3/ 251):

ولست بمبتاع الحياة بسبّةٍ*** ولا مرتقٍ من خشية الموت سلّما

ولما رأيت الود ليس بنافعي*** عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما

ص: 205

بعد معركة بين يزيد بن المهلب ويزيد بن عبد الملك، استطاع الأخير أن يقتل بني المهلب عن آخرهم فحملت رؤوسهم وحمل الأسرى إلى يزيد بن عبد الملك بالشام، وهم أحد عشر رجلاً فلما دخلوا عليه قام كثِّير بن عزة أبي جمعة فأنشد (3/ 254) :

حليم إذا مانال عاقب محجلاً*** أشد العقاب أو عفالم يثرِّبِ

فعفواً أمير المؤمنين وحسبةً*** فما تأته من صالح لك يكتب

أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر*** وأفضل حلم خشية حلم مغضب

ولكنه قتلهم جميعاً، وبقي منهم صبي صغير، فقال :

اقتلوني فلست بصغير.

فقال يزيد بن عبد الملك :

انظروا هل أنبت؟

فقال :

أنا أعلم بنفسي، قد احتلمت ووطئت النساء، فاقتلوني؛ فلا خير في العيش بعد أهلي.

فأمر به فقتل. فقال الرضي الموسوي رحمه اللّه (3/ 255):

ألا للّه بادرة الطلاب*** وعزم لا یروَّع بالعتاب

وكل مشمر البردين يهوي*** هويَّ المصلتات على الرقاب

ص: 206

أعاتبه على بعد التنائي*** فيعذلني على قرب الإياب

رأيت العجز يخضع لليالي*** ويرضى عن نوائبها الغضاب

وآمل أن تطاوعني الليالي*** وينشب في المنى ظفري ونابي

ولولا صولة الأقدار دوني*** هجمت على العلا من كل باب

وقوله أيضاً (3/ 255):

لا يبذ الهموم إلا غلام*** يركب الهول والحسام ردیف

مايذل الزمان بالفقر حراً*** كيفهاكان فالشریف شریف

وقوله أيضاً (رحمه اللّه) (3/ 255):

ولست أضل طرق المعالي*** ونار العز عالية الشعاع

ودون المجد رأي مستطيل*** وباع غیر محبوب الذراع

ويعجبني البعاد كأن قلبي*** يحدّث عن عدي بن الرقاع

فرِدْ نهي العلاء بلا رقيب*** وشمِّر في الأمور بلانزاع

ولا تغررك قعقعة الأعادي*** فذاك الصخر خرَّ من اليفاع

ونحن أحق بالدنيا ولكن*** تُخِسِّرت القطوف على الوساع

وقول حارثة بن بدر الغدراني (3/ 256) :

أهان وأقصى ثم ينتصمونني*** ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا

رأيت أكف المصلتين عليكم*** ملاءً وكفي من عطائكم صفرا

متى تسألوني ما علي وتمنعوا*** الذي لي، لا أسطيع في ذلكم صبرا

ص: 207

وقول أحد الخوارج (3/ 256) :

تعيرني بالحرب عرسي وما درت*** بأني لها في كل ما أمرت ضد

لحا اللّه قوماً يقعدون وعندهم*** سيوف ولم يعصب بأيديهم قد

وقول الأعشی (3/ 256) :

أ بالموت خشَّتني عباد وإنما*** رأيت منايا القوم يسعى دليلها

وما موتة إن متها غير عاجز*** بعار إذا ما غالت النفس غولها

وقول آخر (3/ 256) :

فلا أسمعن فيكم بأمرٍ هضيمة*** وضيم ولا تسمع به هامتي بعدي

فإن السنان يركب المرء حدّه***من الضيم أو يعدو على الأسد الورد

ومثله (3/ 256):

کرهوا الموت فاستبيح حماهم*** وأقاموا فعل اللئيم الذليل

أمن الموت تهربون فإن ال***موت الذليل غير جميل

وقول بشامة بن الغدیر:

وإن التي سامكم قومكم*** هم جعلوها عليكم عدولا

وخزيُ الحياة وكره الممات*** فكلاً أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير إحداها*** فسيروا إلى الموت سيراً جميلا

ولا تقعدوا وبكم مَنَّةٌ ***كفى بالحوادث للمرء غولا

من وقول هدبة بن خشوم (3/ 257) :

ص: 208

وإني إذا بالموت لم يك دونه*** قدى الشبر أحمي الأنف أو أتأخرا

ولكنني أعطي الحفيظة حقها*** فأعرف معروفاً وأنكر منكرا

وقول آخر (3/ 257-258):

إني أنا المرء لا يفضي على ترةٍ*** ولا يقر على ضيم إذ غشما

ألقى المنية خوفاً أن يقال فتىً*** أمسى- وقد شبت الصفات منهزما

وقول آخر (3/ 258):

قوّض خيامك والتمس بلدا*** تنأى عن الغاشيك بالظلم

أو شد بشدة بيهس فعسى*** أن يتقوك بصفحة السلم

وقول سبيع بن خطيم التيمي، وقد انتصر من بني قيم اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي فنصره (3/ 258):

نبهت زيداً فلم أفزع إلى وكلٍ*** رث السلاح ولا في الحي مغمور

سالت عليه شعاب الحي حين وعي*** أنصاره بوجوهٍ كالدنانير

وقول أبي طالب بن عبد المطلب (3/ 258):

كذبتم وبيت اللّه نخلي محمداً*** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع حوله*** ونَذْهل عن أبنائنا والحلائل

وقول علي بن عبد اللّه بن عباس، وقد أراد مسلم بن عقبة إرغامه على مبايعة يزيد بن معاوية في وقعة الحرة وهو في حماية أخواله من كندة (3/ 259):

أبي العباس رأس بني قصيّ*** وأخوالي الملوك بني وليعة

ص: 209

أراد بي التي لا عز فيها*** فحالت دونه أيدٍ منيعة

همُ منعوا ذماري يوم جاءت*** كتايب مسرف وبنو اللكيعة

ومسرف : كناية عن مسلم، وأم علي بن عبد اللّه بن العباس زُرعة بنت مشرّح بن معدي كرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة.

وقول الحصين بن الحمام (3/ 260):

ولست بمبتاع الحياة بسبةٍ*** ولا مرتق من خشية الموت سلّما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد*** لنفسي حياة مثلما أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمی کلومنا*** ولكن على أعقابنا تقطر الدما

تفلق هاماً من رجالٍ أعزةٍ*** علينا، وهم كانوا أعق وأظلما

أبي لابن سلمى أنه غير خالد*** ملاقي المنايا أي صرف تبسما

(ابن سلمى : يعني نفسه وسلمى أمه).

وقول الطرماح بن حکیم (3/ 260):

ولا منعت دار ولا عز أهلها*** من الناس إلا بالقنا والقنابل

وقول آخر (3/ 260):

وإن التي حدثتها في أنوفنا*** وأعناقنا من الإباء كما هيا

وقول إبراهيم بن کنيف النبهاني (3/ 260) :

فإن تكن الأيام فينا تبدلت*** ببؤس ونعمى فالحوادث تفعل

فما لینت مناتناة صليبته*** ولا ذللتنا للتي سوف تجمل

ص: 210

ولكن رحلناها نفوساً كريمة*** تحمل مالا يستطاع فتحمل

وقول آخر (3/ 261):

إذا جانب إعياك فاعمد لجانب*** فإنك لاقٍ في البلاد معوِّلا

وقول أبي النشناش (3/ 261):

إذا المرء لم يرح سواماً ولم يسرح*** سواماً ولم تعطف عليه أقاربه

فلَلموت خير للفتى من قعوده*** عديماً ومن مولى تدب عقاربه

ولم أرَ من الهم ضاجعه الفتی*** ولا كسواد الليل أخفق طالبه

فعش معدماً أو مت کریماً فإنني*** أرى الموت لا ينجو من الموت هاريه

وقول سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسان (3/ 262):

فلست لعامر إن لن تروني*** أمام الخيل أطعن بالعوالي

وأضرب هامة الجبار منهم*** بماضي الضرب حُودث بالصقال

فما أنا بالحروب بمستكين*** ولا أفشي مصاولة الرجال

أبي لي والدي من كل ذمٍ*** وخالي حين يذكر خير خال

وقول آخر (3/ 262):

خذيه وجريه ضباع وابشري*** بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره

وقول الشداخ بن معمر الكناني في (3/ 263):

قاتلوا القوم ياخزاع ولا*** يدخلكم من قتالهم فشل

القوم أمثالكم لهم شَعَرة*** في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

ص: 211

وقول يحيى بن منصور الحنفي (3/ 263) :

ولما نأت عنا العشيرة كلها*** أنخنا فحالفنا السيوف مع الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهةٍ*** ولا نحن أغضينا الجفون على وتر

وقول أبي تمام (3/ 263):

کم بین قوم إنما نفقاتهم*** مال وقوم ينفقون نفوسا

وقوله أيضاً (3/ 264):

السيف أصدق أنباءً من الكتب*** وحدِّه الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لاسود الصحائف*** في متونهن جلاء الشك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة*** بين الخميسين لا في السبعة الشهب

وقول أبي الطيب (3/ 264-265):

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي*** المجد للسيف ليس المجد للقلم

أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به*** فإنما نحن للأسياف كالخدم

أسمعتني ودوائي ما أشرت به*** فإن غفلت فدائي خلة الفهم

من اقتضى بسوى الهندي حاجته*** أجاب كل سؤال عن (هل) ب (لم)

وقول عطاء بن محمد الألوسي (3/ 265) :

أكابد الزفرات موصدة*** تلتذ خوف القطع بالشلل

صرف همومك تنتدب همماً*** فالكر يعقب نشوة الثمل

ولَلَيلة الميلاد مفرحة*** تنى الحوامل أشهر الحمل

ص: 212

سر البلاد تخوضها لججاً*** فالد ليس يصاب بالوشل

واجعل لصبوتك الضبا سكناً*** والدور أكوار على الإبل

والعيش والوطن الممهدين في*** غَرَب الحسام وغارب الجمل

واشدد عليك وخذ إليك ودع*** ضعة الخمول وفترة الكسل

وارمِ العداة بكل صائبةٍ*** ما الرمي موقوفاً على ثُعَل

لا تحسب النكبات منقصة*** قد يستجاد السيف بالقلل

وقول عروة بن الورد (3/ 265-266):

لحا اللّه صعلوكاً إذا جن ليلةً*** مصا في المشاس أكفأكل مجزر

يعد الفتى من نفسه كل ليلةٍ***أصار قراها من صديق ميسر

ينام عشاءً ثم يصبح ناعساً*** يحث الحصى من جنبه المتعثر

يعين نساء الحي ما يستعنّه*** ويمسي طليحاً كالبعير المحسّر

ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه*** كضوء شهاب القابس المتنور

مطلاً على أعدائه يزجرونه*** بساحاتهم زجر المنيح المشهّر

وإن فقدوا لا يأمنون اقترابه*** تشوف أهل الغائب المتنظر

وقول آخر (3/ 266) :

ولست بمولى سوءةٍ أُدّعى لها*** فإن لسوءات الأمور مواليا

وسيان عندي أن أموت وأن أُرى*** کبعض رجال يوطنون المخازيا

ولن يجد الناس الصديق ولا العدا*** أو يحيى إذا عدوا أديمي واهيا

ص: 213

وإن نجاري يا ابن غنم مخالف*** نجار لئامٍ فابغني من ورائيا

ولست بهيابٍ لمن لا يهابني*** ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا

إذا المرء لم يحبك إلا تكرهاً*** عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا

وقول فار بن توسعة في يزيد بن المهلب (3/ 267) :

وما كنا نؤمل من أمير*** كما كنا نؤمل من يزيد

فأخطأ ظننا فيه وقدماً*** زهدنا في معاشرة الزهيد

إذا لم يعطنا نصفاً أمير*** مشينا نحوه مشي الأسود

وقول المتنبي (3/ 268):

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى*** حتى يراق على جوانبه الدم

وقوله أيضاً (3/ 286):

ومن عرف الأيام معرفتي بها*** وبالناس روّی رمحه غير راحم

فليس بمرحوم إذا ظفروا به*** ولا في الردى الجاري عليه بأثم

وقوله أيضاً (3/ 268):

روي حياض الردى يا نفس واطّرحي*** حياض خوث الردى للشاء والنعم

إن لم أدرك على الأرماح سائلة*** فلا دعيت ابن أم المجد والكرم

ولما قتلقتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان وما وراء النهر صعد وكيع بن أسود وقال :

إن قتيبة أراد قتلي، وأنا قتال الأقران وأنشد (3/ 272):

ص: 214

قد جربوني ثم جربوني*** من غلوتين ومن المئين

حتى إذا شبت وشيبوني*** خلوعناني ثم سيبوني

حذارِ مني وتنكبوني*** فإنني رام لمن يرميني

ثم قال : أنا أبو مطرّف.. يكررها مراراً

ثم قال :

أنا ابن خندف تنميني قبائلها*** للصالحات وعمي قيس عيلانا

وقول عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة (3/ 273):

كأن أبا حفص قتيبة لم يسر*** بجيش إلى جيش ولم يعلُ منبرا

ولم يخفق الرايات والجيش حوله*** صفوفاً ولم يشهد له الناس عسکرا

دعته المنايا فاستجاب لربه*** وراح إلى الجنات عفّاً مطهّرا

فما رزء الإسلام بعد محمدٍ*** بمثل أبي حفصٍ فبكيه عفهرا

وقول أحد شعراء العجم (3/ 274):

واسوءتا لامريء شبيبته*** في عنفوان وماؤه خضل

راضٍ بنزر المعاش مضطهدٍ*** على تراث الآباء يتكل

لا حفظ اللّه ذاك من رجلٍ*** ولا رعاه ما أطّن الإبل

کلا وربي حتى تكون فتىً*** قد نهكته الأسفار والرحل

مشمراً يطلب الرياسة أو*** يضرب يوماً بهلكه المثل

حتى متى تتبع الرجال ولا*** تُتَّبع يوماً، لامك الهبل

ص: 215

وقول عبد اللّه بن ثعلبة الأزدي (3/ 275):

فلئن عمرت لاسفين*** النفس من تلك المساعي

ولأعلمن البطن أن*** الزاد ليس بمستطاع

أما النهار فقد أرى*** قومي بمرقبة يفاع

في قرّة هلك وشو*** ك مثل أنياب الأفاعي

ترد السباع معي فتح*** سبني السباع من السباع

وقول هلال بن معاوية الطائي (3/ 275):

وبالجبلين لنا معقل*** صعدنا إليه بصم الصعاد

ملكناه في أوليات الزمان*** من قبل نوح ومن قبل عاد

ومنا ابن مرِّ ابوحنبلٍ*** أجار من الناس رجل الجراد

وزيد لنا ولناحاتم*** غياث الورى في السنين الشداد

وقول آخر (3/ 276) :

أرقُّ لأرحام أراها قريبة*** لحار بن کعب لا لجرم بن راسب

وإنا نرى أقدامنا في سفالهم*** وأنفنا بين اللحى والحواجب

وأقدامنا يوم الوغى وإباؤنا*** إذا ما أبينا لاندر لعاصب

وقول الراجز (3/ 276) :

من كان ينوي أهله فلا رجع*** فرَّ من الموت وفي الموت وقع

وقول الكليحة (3/ 277):

ص: 216

إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت*** حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

وقول قطري بن الفجاءة (3/ 277):

أقول لها وقد طارت شعاعاً*** من الأبطال ويحك لا تراعي

فإنك لوسألتِ بقاء يومٍ*** على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً*** فما نيل الخلود بمستطاع

ولا ثوب البقاء بثوب عزٍ*** فيطوي عن أخي الخنع اليراعي

سبيل الموت غاية كل حيٍّ*** فداعيه لأهل الأرض داع

ومن لا يغتبط يسأم ويهزم*** وتسلمه المنون إلى انقطاع

وما للمرء خير في حياةٍ*** إذا ماعدمن سقط المتاع

ومنه أيضاً (3/ 277):

ولم ندر أن خضنا من الموت جيفة*** كم العمر باقٍ والمدى متطاول

وقول جعفر بن علبة الحارثي أيضاً (3/ 278):

ولا يكسف الغماء إلا ابن حرةٍ*** يرى غمرات الموت ثم يزورها

وقوله أيضاً (3/ 278):

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم*** لشيء ولا إني من الموت أفرق

ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم*** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق

وقول الشاعر (3/ 278):

سأغسل عني العار بالسيف جالباً عليّ قضاء اللّه ما كان جالبا

ص: 217

وأذهل عن داري وأجعل هدمها*** لعرضيَ من باقي المذمة حاجبا

ويصغر في عيني تلادي إذا ثنت*** يميني بإدراك الذي كنت طالبا

فإن تهدموا بالغدر داري فإنها*** تراث كريم لا يبالي العواقبا

أخي عزمات لا يطيع على الذي*** يهم به من مقطع الأمر عاتبا

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه*** ونکَّبَ عن ذكر العواقب جانبا

فيا لرزام رشحوا بي مقدماً*** إلى الموت خواضاً إليه السباسبا

إذا همَّ لم تردع عزيمة همه*** ولم يأتِ ما يأتي من الأمر هائبا

ولم يستشر في أمره غير نفسه*** ولم يرضِ إلا قائم السيف صاحبا

وقول الشاعر (3/ 278):

هما خطتا إما إسار ومنةٌ*** وإما دم، والقتل بالحر أجدر

وقول الشاعر (3/ 278):

وإنا لقوم لا نرى القتل سبّة*** إذا ما رأته عامر وسلول

يقصرحب الموت آجالنا لنا*** وتكرهه آجالهم فتطول

وما مات مناسيد حتف أنفه*** ولا طلَّ عنا حيث كان قتيل

تسيل على حد الضبات نفوسنا*** وليست على غير السيوف تسيل

وقول الشاعر (3/ 279):

لا يركنن أحد إلى الإحجام*** يوم الوغى متخوفاً لحمام

فلقد أراني للرماح دريئة*** من عن يميني تارة وأمامي

ص: 218

حتى خضبت بما تحدر من دمي*** أكناف سرجي أو عنان لجامي

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أُصب*** جذع البصيرة قارح الأقدام

وقول الشاعر (3/ 279):

وإني لدى الحرب الضروس موکَّلٌ*** و بأقدام نفسٍ لا أريد بقاءها

متى يأتي هذا الموت لأتلف حاجة*** لنفسيَ إلا قد قضيت قضاءها

وقول الرضي الموسوي (رحمه اللّه) (3/ 280-281) :

سأمضي للتي لا عيب فيها*** وإن لم أستفد إلا عناءا

وأطلب غاية إن طوحت بي*** أصابت بي الحمام أو العلاءا

ومناكل أغلب مستميتٍ*** إذا لدَّدْتَهُ بالذل قاءا

إذا ما ضیم نمّرصفحتيه*** وقام على براثنه إباءا

ونأبى أن يُنال النصف منا*** وأن نعطى مقارعنا السواءا

ولو كان العداء يسوغ فينا*** لما سمنا الورى إلا العداءا

وقول أبي الطيب (3/ 281) :

أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر*** وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر

وأشجع مني كل يوم سلامتي*** وماثبتت إلا وين نفسها أمر

تمرست بالآفات حتى تركتها*** تقول:أمات الموت أم ذُعر الذعر

وأقدمت إقدام الأبي كأن لي*** سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر

ذرِ النفس تأخذ حضها قبل بينها*** فمفترق جاران دارهما العمر

ص: 219

ولا تحسبن المجد رقاً وقينة*** فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب هامات الملوك وإن ترى*** لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دويأ كأنما*** تداول سمع المرء أنمله العشر

وقول ابن حيوس (3/ 284-285):

ولست کمن أخنى عليه زمانه*** فظل على أحداثه يتعتّب

تلذ له الشكوى وإن لم يفد بها*** و صلاحاً كما يلتذ بالحك أجرب

ولكنني أحمي ذماري بعزمةٍ*** تتوب مناب السيف والسيف تنصب

وليس الفتى من لم تسم جسمه الضبا*** ويحطم فيه من قنا الخط أكعب

وقوله أيضاً (3/ 285) :

أخفق المترف الجنوح إلى الخفض*** وفاز المخاطر المقدام

وإذا ما السيوف لم تشهد الحر*** ب فسيان ص ارم وكهام

وقول صاحب الزنج (3/ 288) :

وإذا تنازعني أقول لها قري*** موت الملوك على صعود المنبر

ما قد قضى سيكون مصطبري له*** ولك الزمان من الذي لم يُقدر

وقوله أيضاً (3/ 288) :

إني وقومي في أنساب قومهم***کمسجد الخيف في بحبوحة الخيف

ما علق السيف منا بابن عاثرةٍ*** إلا وعزمته أمضى من السيف

وقول أحد الطالبين (3/ 288) :

ص: 220

وإنا لتصبح أسيافنا*** إذا ما انتضين ليوم سفوك

منابرهن بطون الأكف*** وأعمادهن رؤوس الملوك

وقول المتنبي (3/ 289) :

إذا غامرت في شرف مروم*** فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير*** كطعم الموت في أمرٍ عظيم

يرى الجبناء أن الجبن حزم*** وتلك خديعة الطبع اللئيم

وكل شجاعة في المرء تغني*** ولا مثل الشجاعة في الحليم

وقوله (3/ 289) :

إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعداً*** فقم واطلب الشيء الذي يبتر العمرا

وقوله (3/ 289):

أهم بشيء والليالي كأنها*** تطاردني عن كونه وأطارد

وحيداً من الخلان في كل بلدةٍ*** إذا عظم المطلاب قل المساعد

وقول إبن حيّوس (3/ 290) :

أمواتهم بالذكر كالأحياء*** ولحیِّهم فضل على الأحياء

نزلوا على حكم المروءة وامتطوا*** بالبأس ظهر العزة القعساء

والعزلايبقى لغير معوَّد*** أن يكشف الغمّاء بالغمّاء

لاتحسب الضراء ضراء إذا*** أفضت بصاحبها إلى السراء

وقوله (3/ 290 ):

ص: 221

وهي الرياسة لاتبوح بسرها*** إلا لأروع لايبوح ذماره

يحمي حماه قلبه ولسانه*** وتذود عنه يمينه ويساره

لا العذل ناهيه ولا الأرض الذي*** امر النفوس بشحها أمّاره

فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى*** إن الطريق كثيرة أخطاره

وقوله (3/ 292):

وإذا كانت النفوس كباراً*** تعبت في مرادها الأجسام

وقوله (3/ 292):

إلى أي حينٍ أنت في زي محرم*** وحتى متى في شقوة وإلى كم؟

وإلا تمت تحت السيوف مكرماً*** تمت وتقاسي الذل غير مكرم

فثب واثقاً باللّه وثبة ماجد*** يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

وقول آخر (3/ 293) :

إن تقتلوني فأجال الرجال كما*** حُدِّثتٌ قتل وما في القتل من عار

وإن سلمت لوقت بعده فعسى*** وكل شيء إلى حدٍ ومقدار

وقول مصعب، وقد كتبه إلى سكينة بنت الحسين (علیه السلام)، وكانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك وهي بالكوفة بعد ليالٍ من فراقها (3/ 296-297) :

وكان عزيزاً أن يبيت وبيننا*** حجاب فقد أصبحت مني على عشر

وأبكاهما واللّه للعين فأعلمي*** إذا ازددت مثليها فصرت على شهر

ص: 222

وأنكى لقلبي منهما اليوم إنني*** أخاف بألا نلتقي آخر الدهر

وقول محمد بن حافي (3/ 300) :

ولم أجد الإنسان إلآ ابن سعيه*** فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

وبالهمة العلياء نرقى إلى العلا*** فمن كان أعلى همة كان أظهرا

ولم يتأخر من أراد تقدماً*** ولم يتقدم من أراد تأخرا

وقول الشريف الرضي رضي اللّه عنه (3/ 301) :

ومن أخرته نفسه مات عاجزاً*** ومن قدمته نفسه مات سيدا

وقوله رضي اللّه عنه (3/ 301):

مامقامي على الهوان وعندي*** مِقْوَلٌ صارم وأنف حميُّ

وإباء محلّقٌ بي عن الضيم*** كما زاغ طائر وحشيُّ

وقول أبي الطيب (3/ 301) :

تقولين ما في الناس مثلك عاشق*** جدي مثل من أحببته تجدي مثلي

محب کني بالبيض عن مرهفاته*** وبالحسن عن أجسامهن من الصقل

وبالسحر عن سحر القناغير إنني*** جناها أحبائي وأطرافها رسلي

عدمت فؤاداً لم يبت فيه فضلة*** لغير ثنايا الثغر والحدق النجل

تريدين إدراك المعالي رخيصة*** ولابد دون الشهد من إبر النحل

وقول أبي تمام (3/ 301-302) :

فتى النكبات من يأوي إذا ما*** قطعن به إلى خلق وساع

ص: 223

يثير عجاجة في كل فجٍ*** يهيم بها عدي بن الرقاع

يخوض مع السباع الماء حتى***لتحسبه السباع من السباع

فلبِّ العزم إن حاولت يوماً *** بأن تسطيع غير المستطاع

فلم تركب کنتاجية المهاري*** ولم تُركب همومك كالزماع

وقوله أيضا (3/ 302) :

إن خيراً مما رأيت الصفح*** عن النائبات والإغماض

غربة تفتدي بغربة قيس*** بن زهير والحارث بن مضاض

غرضي نكثتين مافتلا رأياً*** فخافا عليه نکث انتفاض

من أبنَّ البيوت أصبح في ثو*** ب من العيش ليس بالفضفاض

والفتى من تعرقته الليالي*** والفيا في كالحية النضناض

كل يوم له بصرف الليالي*** فتكة من فتكة البراض

وقوله أيضاً (3/ 302) :

إن تريني تري حساماً صقيلاً*** مشرفية من السيوف الحداد

ثاني الليل ثالث البيد والسير*** نديم النجوم سرب السهاد

وقول البحتري (302-303) :

يانديمي بالسواجير من شم*** س بن عمرو وبحتر بن عتود

اطلبا ثالثاً سواي فإني*** رابع العيس والدجي والبيد

لست بالعاجز الضعيف ولا القا*** ئل يوماً إن الفتى بالجدود

ص: 224

وإذا استصعبت مقادة أمر*** سهلة أيدي المهاري القود

وقول الرضي (رحمه اللّه) (3/ 303-304) :

ولم أرَ كالرجاء اليوم شيئاً*** تذل له الجماجم والرقاب

وبعض القدم مأثرة وفخر*** وبعض المال منقصة وعاب

بناني والعنان إذا نبت بي*** ربا أرضٍ، ورجلي والركاب

وقد عرفت توقُّعِيَ الليالي*** كما عرفت توقِّعِيَ العقاب

لأمنع جانباً وأفيد عزاً*** وعز الموت ماعز الجناب

إذا هولٌ دعاك فلا تهبه*** فلب يبق الذين أبو وهابوا

كليب عاقصته يد وأودي*** عُتيبة يوم أقعصه ذؤاب

سواء من أقل الترب منا*** ومن واري معالمه التراب

وإن مزامل العيش اعتباطاً ***مساوٍ للذين بقوا وشابوا

وأولنا العناء إذا طلعنا*** إلى الدنيا ، وآخرنا الذهاب

إلى كم ذا التردد في الأماني*** وكم یُلوی بناظري السراب؟

ولا نقعٌ يثار ولا قتام*** ولا طعنٌ يشب ولا ضراب

ولا خيل معقدة النواصي*** يموج على شكائمها اللعاب

عليها كل ملتهب الحواشي*** يصيب من العدو ولا يصاب

سأخطبها بحد السيف فعلاً*** إذا لم يغنِ قول أو خطاب

وآخذها وإن رغمت أنوف*** مغالبة وإن ذلت رقاب

ص: 225

وقول عدي بن زید (3/ 305):

فهل من خالد إما هلكنا*** وهل بالموت يا للناس عار؟

وقول الرضي (رحمه اللّه) (3/ 305-306) :

إذا لم يكن إلا الحمام فإنني*** سأكرم نفسي عن مقال اللوائم

وألبسها حمراء تصفو ذبولها*** من الدم بعد عن لباس الملاوم

فمن قبل ما اختار أشعث عيشه*** على ترف عال رفيع الدعائم

فطار ذميما قد تقلد عارها*** بشر جناح يوم دير الجماجم

وجاءهم يجري البريد برأسه*** ولم يغن إيغال به في الهزائم

وقد حاص من خوف الردي كل حيصة*** ولم ينج والأقدار ضربة لازم

وهذا يزيد بن المهلب نافرت*** به الذل أعراق البرود الأكارم

فقال وقد عنَّ الغرام والردي: *** لحا اللّه أخزى ذكرة في المواسم

وما غمرات الموت إلا تفاسة*** ولا ذي المنايا غير تهويم نائم

رأى أن هذا السيف أهون محملاً*** من العار يبقى وسمه في المخاطم

وما قلد البيض المباتير عنقه*** سوى الخوف من تقليدها بالأداهم

فعاف الدنايا وامتطى الموت شامخاً*** يمارن عز لا يذل لخاطم

وقد حلقت خوف الهوان بمصعب*** قوادم آباء کرام المقادم

على حين أعطوه الأمان مخافة*** وخُيّر فاختار الردي غير نادم

وفي خدره غراء من آل طلحة*** علاقة قلب للنديم المخالم

ص: 226

تحبب أيام الحياة وإنها*** لأعذب من طعم الخلود لطاعم

ففارقها والملك لما رآهما*** يجران أذلال النفوس الكرام

ولما ألاح الحوفزان من الردی*** حذاه المخزي رمح قيس بن عاصم

وغادرهاشنعاء إن ذكرت له*** من العار طاطا رأس خزان واجم

کذاك مني بعد الفرار أمية*** بشقشقة لوثاء من آل دارم

وسل لهاسل الحسام بن معمر*** فكرت على أعقاب ناب بصارم

يردد ذکری کل نجد وغائر*** والجم خوف کل باغ وظالم

وهددني الأعداء في المهد لم يحن*** نهوضي ولم تقطع عقود تمائمي

وعندي يوم لو يزيد ومسلم*** بدا لهما لاستصغرا يوم واقم

على الفرق لا ميته مستكينة*** تزيل عن الدنيا بشم المراغم

وخاطر على الجلي خطارين حمرة*** وإن زاحم الأمر العظيم مزاحم

ولقوله (علیه السلام)، في ذم أصحابه :

((إنكم، واللّه لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكن، واللّه لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أجزع اللّه خدودكم، وأتعس جدودكم، لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول معدان الطائي (6/ 104):

فأما الذي يحصيهم فمكثّر*** وأما الذي يطريهم فمقلِّل

ص: 227

وقول قراد بن حفش (6/ 105) :

لقوميَ أرعى للعلام عصابة*** من الناس يا حار بن عمرو تسودها

وأنت سماء يعجب الناس رزّها*** بأبدةٍ تنمي شديد وئيدها

تقطع أطناب البيوت بحاصبٍ*** وأكذب شيءٍ برقها ورعودها

فویلمّها خيلاً بهاءٌ وشارة*** إذا لاقت الأعداء لولا صدوها

وقول الشاعر (6/ 105) :

لقد كان فيكم لو وفيتم بحاركم*** لحیً ورقابٌ عروة ومنافر

من الصهب أثناء وجذعاً كأنها*** عذارى عليهاشارة ومعاجر

وقول مروان بن الحكم لما بويع ودعا إلى نفسه (6/ 163):

لما رأيت الأمر أمرأ نهباً*** سبرت غسان لهم وكلبا

والسكسكيين رجالاً غلبا*** وطيئاً تأباه إلا ض ضربا

والقين تمشي في الحديد نُكبا*** ومن تنوخ مشمخراً صعبا

لا يملكون الملك إلا غصبا*** وإن دنت قيس فقل لا قربا

وبقول زفر بن الحارث - وهو يذكر ما حدث عند تولي مروان بن الحكم الخلافة، من حوادث منها قتل وهرب عمال بني أمية، على الأمصار، لا سيما أولئك الذين يؤيدون، ويدعون لابن الزبير (6/ 164):

أريني سلاحي - لا أبالك - إنني*** أرى الحرب لا تزداد إلا تحاويا

أتاني عن مروان بالغيب أنه*** مريق دمي، أو قاطع من لسانيا

ص: 228

وفي العيس منجاة وفي الأرض مهرب*** إذا نحن رفَّعنا لهن المبانيا

فلا تحسبوني إن تغيبت غافلاً*** ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا

فقد ينبت المرعى على دمن الثرى*** وتبقى حزازات النفوس كما هيا

أتذهب كلب لم تنهها رماحنا*** وتترك قتلى راهط هي ما هيا

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط*** لحسان صدءً بيننا متنائيا

أبعد ابن عمرو وابن معن تتابعا*** ومقتل همام أمين الأمانيا

ولم تُر مني نبوة قبل هذه*** و فراري وتركي صاحبي ورائيا

أيذهب يوم واحد إن أسأته*** بصالح أيامي وحسن بلائيا

فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا*** وتثأر من نسوان كلب نسائيا

وقول زفر بن الحارث أيضا (6/ 164/ 166) :

أن اللّه أمَّا بحْدلٌ وابن بحْدلٍ*** فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل

كذبتم وبيت اللّه لا تقتلونه*** ولایکن يوم أغرُّ محجّل

ولما يكن للمشرفية فوقكم*** شعاع كقرن الشمس حين ترجل

ولقوله (علیه السلام)- وهو يخاطب بني أمية -:

((ألا وإن لكل دم ثائراً، ولكل حق طالباً، وإن الثائر في دمائنا کالحاكم في حق نفسه، وهو اللّه الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، فأقسم باللّه يا بني أمية عما قليل لتعرفنا في أيدي غيركم، وفي دار عدوكم).

استشهد ابن أبي الحديد بقول مسلمة بن عبد الملك في الرواية التي تقول :

ص: 229

(إنه نظر عبد اللّه بن علي في الحرب إلى فتي عليه أبهة الشرف، وهو يحارب مستقتلاً، فناداه :

- يا فى لك الأمان، ولو كنت مروان بن محمد.

فقال :

- ألا أكنه فلست بدونه .

فقال :

- ولك الأمان ولو كنت من کنت.

فأطرق ثم أنشد :

لذل الحياة وكره الممات*** وكلاً أراه طعاماً وبيلا

وإن لم يكن غير إحداهما*** فسير إلى الموت سيراً جميلا

ثم قاتل حتى قتل :

ولقوله (علیه السلام):

((أنا كابُّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها).

استشهد ابن أبي الحديد بقول صاحب الزنج (8/ 128):

رأيت المقام على الاقتصاد*** قنوعاً به ذلة في العباد

إذا النار ضاق بهازندها*** ففسحتها في فراق الزناد

إذا صارم مرَّ في غمده*** حوى غيره السبق يوم الجلاد

وبما نسب إليه قوله (8/ 128):

ص: 230

وإذا تنازعني أقول لها:قري*** موت يريحك أو صعود المنبر

ماقد قضى سيكون مصطبري له*** ولك الأمان من الذي لم يقدر

ولقوله (علیه السلام):

((ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول حاتم بن عبد اللّه الطائي (16/ 228) :

ا یا ابنة عبد اللّه وابنة مالك*** ويا ابنة ذي الجدين والفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له*** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

قصياً بعيداً أو قريباً فإنني*** أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

كفى بك عاراً أن تبيت ببطنةٍ*** وحولك أكباد تحن إلى القدِّ

وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً*** وما من خلالي غيرها شيمة العبد

ص: 231

ص: 232

المدح

ص: 233

ص: 234

لقوله (علیه السلام):

((وفّروا من اللّه إلى اللّه)). أي اهربوا إلى رحمة اللّه من عذابه .

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق في مدح سعيد بن العاص 1/ 331 :

إليك فررت منك ومن زیادٍ*** ولم أحسب دمي لكم حلالا

ولقوله (علیه السلام):

((أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه. إلا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، فأما السب فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرّؤوا مني؛ فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر بن عبد العزيز ويذكر قطعه السّب (4/ 59-60):

وُليتَ فلم تشتم علياً ولم تخف*** بريّا ولم تقبل إساءة مجرم

وكفرت بالعفو الذنوب مع الذي*** أثبتَ فأضحى راضياً كل مسلم

ص: 235

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه*** من الأود البادي ثِقافُ المقوم

ومازلت تواقاً إلى كل غاية*** بلغت بها أعلى العلاء المقدم

فلما أتاك الأمر عفوا ولم یکن*** لطالب دنیا بعده من تكلم

تركت الذي يفنى وإن كان بائداً*** وآثرت مايبقي برأيٍ مصمم

وقول الرضي (رحمه اللّه) (4/ 60):

يا ابن عبد العزيز لو بكت العين*** فتى من أمية لبكيتُك

غير أني أقول إنك قد صلت*** وإن لم يطِب ولم يزكَ بيتُك

أنت نزهتنا من السب والقذ*** ف:فلو كان أمكن الجزاء جزيتك

ولو اني رأيت قبرك لاستح*** بيت من أرى وما حييتك

وقليل لو أن بذلت دماء ال*** بدن صرفاً على الذرا وسقيتك

دیر سمعان: منك مأوى أبي*** حفص بودي لوأني آويتك

دیر سمعان: لا أعبك غيث*** خير ميت من آل مروان ميتك

أنت بالذكر بين عيني وقلبي*** إن تدانيت منك أو نأيتك

وإذا حرك الحشاخاطر منك*** توهمت أنني قد رأيتك

وعجيب إني فليت بني مر*** وان طراً وإنني مامليتك

قرب العدل منك لمانأي الجو*** و ربھم فاجتوتهم واجتبيتك

فلواني ملكت دفعاً لما نا*** بك من طارق الردي لفديتك

وقول النجاشي - شاعر أهل العراق بصفين - إذ كان مع صاحبه أبي

ص: 236

سحال الأسدي يشربان الخمر في أول رمضان فجلده الإمام وأقامه في سراويله للناس ومر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفاً فجعل الناس يمرون به ويطرحون عليه المطارف، حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة، فمدح ابن سلول فقال (4/ 88) :

إذا اللّه حيا صالحاً من عباده*** نقياً فحيا اللّه هند بن عاصم

وكل سلولي إذا ما دعوته*** و سريع إلى داعي العلا والمكارم

هم البيض أقداماً وديباج أوجه*** و جلوها إذا اسودّت وجوه الملائم

ولا يأكل الكلب السروق نعالهم*** ولا يبتغي المنح الذي في الجماجم

وقول أبي نصر بن نباتة، للشريف الجليل محمد بن عمر العلوي (4/ 111):

وأبوك الوصي أول من شا*** د منار الهدى وصام وصلى

نشرت صلبه قريش فأعطت*** ه إلى صيحة القيامة فتلا

وقول إبن أبي الحديد لأبي المظفر هبة اللّه بن موسى الموسوي رحمه اللّه في قصيدة يذكر فيها أباه (4/ 111-112) :

أمك الدرة التي أنجبت من*** جوهر المجد راضياً مرضيا

وأبوك الإمام موسی کظيم ال*** غيظ حتى بعيده منسيا

وأبوه تاج الهدی جعفر الصا*** دق وحياً عن القلوب وَحيّا

وأبوه محمد باقر العلم*** مضى لنا هادياً مهديا

وأبوه السجاد أتقى عباد*** اللّه مخلصاً ووفيا

ص: 237

والحسين الذي تخير أن*** يقضي عزيزاً ولا يعيش دنيّا

وأبوه الوصي أول من طاف*** ولبی سبعاً وساق الهديا

طامنت مجده قريش فأعطته*** إلى سدرة السماء رقيا

حملت صيته فطار إلى أن*** ملأ الأفق ضجّة ودویّا

وأبو طالب كفيل أبو القا*** سم کھلاً ويافعاً وفتيا

ولشيخ البطحاء تاج معدٍ*** شيبة الحمد هل علمت سميا

وأبوه عمرو العلا هاشم الجود*** ومن مثل هاشم بشريا

وأبوه الهمام عبد مناف*** قل تقيٌ صادقاً وتبدي بديا

ثم زيد أعني قصي الذي لم*** يك عن ذروة العلاء قصیّا

نسب إن تلفع النسب المحض*** كان السليب العريا

وإذا أظلمت مناسخة الأنس*** ساب يوماً كان المنير جليا

يا له مجدة على قدم الدهر*** وقد يَفْصَلُ العقيق الطريا

وقول حسان بن ثابت (4/ 123) :

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ*** فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها*** بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده*** وأول الناس منهم صدَّق الرسلا

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد*** طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا

وكان جدّ رسول اللّه قد علموا*** من البرية لم يعدل به رجلا

ص: 238

وقول أبي محجن الثقفي (4/ 124):

وسميت صديقاً وكل مهاجر*** سواك يسمى باسمه غير منکر

سبقت إلى الإسلام واللّه شاهد*** وكنت جلياً بالعريش المشهّر

وبالغار إذ سميت خلاً وصاحباً*** وكنت رفيقاً للنبي المطهر

وقول أحد شعراء الإمامية في الإمام علي (علیه السلام)(5/ 7-8) :

إذا كنتم ممن يروم لحاقه*** فهلا برزتم نحو عمرو ومرحب

وكيف فررتم يوم أحد وخيبر*** ويوم حنین مهرباً بعد مهرب

ألم تشهدوا يوم الإخاء وبيعة ال*** غدير وكل حُضَّرغیر غُیِّبِ

فكيف غدوا صنو النفيلين ويحه*** أميراً على صنو النبي المرجَّبِ

وكيف علا من لا يطا ثوب أحمد*** على من علا من أحمد فوق منكب

إمام هدىً ردت له الشمس جهرة*** فصلى أداءاً عصره بعد مغرب

ومن قبله أفنى سليمان خيله*** رجاء فلم يبلغ بها نيل مطلب

يجل عن الأفهام کنه صفاته*** ويرجع عنه الذهن رجعة أخيب

فليس بيان القول عنه بكاشف*** ولا فصل الخطاب بمعرب

وحق لقبر ضم أعضاء حيدر*** وغودر منه في صفيح مغيّب

يكون ثراه سرقدس ممنع*** وحصباؤه من نور وصي محجّب

وتغشاه عن نور الإله غمامة*** تفاديه من قدس الجلال بصيّب

وتنقض أسراب النجوم عواكفاً*** على حجرتيه كوكب بعد کوکب

ص: 239

فلولاك لم ينجُ ابن متي ولا خبا*** سعير لإبراهيم بعد تلهب

ولا فلق البحر ابن عمران بالعصا*** ولا فرت الأحزاب عن أهل يثرب

ولا قبلت من عابد صلواته*** ولا غفر الرحمن زلة مذنب

ولم يغلُ فيك المسلمون جهالةً*** ولكن لسرِّ علاك مغيّب

وبقول : أن بكرياً وشيعياً تجادلا، واحتكما إلى بعض أهل الذمة؛ ممن لا هوى له مع أحد الرجلين في التفضيل فأنشد (5/ 9) :

کم بین من شك في عقيدته*** وبين من قيل أنه اللّه

وإشارة الشريف الرضي إلى أم فروة زوجة الإمام الباقر (علیه السلام)وأم الإمام الصادق (علیه السلام)فقال (6/ 54) :

يفاخرناقوم بمن لم نلدهم*** بتيم إذا عدّ السوابق أو عدي

وينسون من لوقدموه لقدموا*** عذار جواد في الجياد مقلّد

فتى هاشم بعد النبي وباعها*** المرمى علا أونيل مجد وسؤدد

ولولا علي ماعلو سرواتها*** ولا جعجعوا فيها بمرعي ومورد

أخذنا عليكم بالنبي وفاطم*** طلاع المساعي من مقام ومقعد

وطلنا بسبطي أحمد ووصيه*** رقاب الورى من متهمين ومنجد

وحزنا عتيقاً وهو غاية فخرهم*** بمولد بنت القاسم بن محمد

فجدٌ نبي ثم جدٌ خليفةٌ*** فإكرم بجدينا: عتيقٍ وأحمد

وما افتخرت بعد النبي بغيره*** يدٌ صفقت يوم البياع على يد

ص: 240

وقول قيس بن الرقيات في بني العباس (7/ 139):

فأنقموا من بني أمية إلا*** أنهم يحلمون إن غضبوا

وإنهم معدن الملوك فما*** تصلح إلا عليهم العرب

وبالرواية التي تقول : لما صعد السفاح منير الكوفة يوم بيعته وخطب الناس، قام إليه السيد الحميري فأنشد (7/ 158

) :

دونكموها یا بني هاشم*** فجددوا من أيها الطامسا

دونكموها لاعلاکوب من*** أمسى عليكم ملكها نافسا

دونكموها فالبسوا تاجها*** لا تعدموا منكم له لابسا

خلافة اللّه وسلطانه*** وعنصر کان لکم دارسا

قد ساسها من قبلكم ساسة*** لم يتركوا رطباً ولا يابسا

لوخير المنبر فرسانه*** ما اختار إلا منكم فارسا

والملك لو شوّر في سائس*** لما ارتضى غيركم سائسا

لم يبق عبد اللّه بالشام من*** إلى أبي العاص امرءً عاطسا

فلست من أن تملكوها إلى*** هبوط عيسى منكم آیسا

ولقوله (علیه السلام):

((إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش من غير طاعة اللّه !)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي في سيف الدولة (7/ 300-301) :

ص: 241

يكلف سيف الدولة الجيش همّه*** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

ويطلب عند الناس ما عند نفسه*** وذلك ما لا تدعيه الضراغم

وقول ابن أبي الحديد وهو يمدح الوزير العباسي مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي بعد انتصاره على جيوش التتار قال فيها (8/ 242-243):

أبقى لنا اللّه الوزير وحاطه*** بكتائب من نصره ومقانب

وامتد وارف ظله لنزيله*** وصفت متون غديره للشارب

يا كاليء الإسلام إذ نزلت به*** فرعاء تشهق بالنحيع السالب

في خطة بهماء ديمومية*** لا يهتدي فيها السُّليك للاحب

لا يمتطي سلساتها مرهوبة*** إلا بساس جلْقٌ لاتدر لعاصب

فرجت غمرتها بقلب ثابتٍ*** في حملة ذعرى وقلب ثاقب

ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها*** کم حاضر يُعصي بسيف الغائب

عُمر الذي فتح العراق وإنما*** سعد حسام في يمين الضارب

أثنى عليك ثناء غير موارب*** وأجيد فيك المدح غير مراقب

وأنا الذي يهواك حباً صادقاً*** متقادماً ولرب حب كاذب

حباً ملأت به شعاب جوانحي*** يفعاً، وها أنا ذو عذار شائب

إن القريض وإن أغب متيم*** بكم وربَّ مجانب کمواضب

ولقد يخالصك القصي وربما*** یمنی بود محاذق متقارب

سدت مسالكها هموم جعجعت*** بالفكر حتى لا يبضّ لحالب

ص: 242

ومن العناء مغلب في حظه*** يبغي مغالبة القضاء الغالب

وبالرواية التي تقول : لما بني عثمان داره بالمدينة فتوافد الناس عليه فخطب فيهم مبرراً بناء الدار وكان في خطبته يغمز علياً (علیه السلام)وعندما انتهى من خطبته قام عدي بن الخباز فألقى خطبة أشاد بعثمان إلى أن قال :فعلام يقدمون عليك وهذا رأيهم فيك. أنت واللّه كما قال الأول (9/ 7-8) :

إذهب إليك فما للحسود*** إلا طلابك تحت العثار

حکمت فما جرت في خلّةٍ*** فحكمك بالحق بادي المنار

فإن يسبعوك فرّآً وقد*** جهرت بسيفك كل الجهار

وقول أبي طالب يمدح الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) (11/ 116):

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل

ولقوله (علیه السلام):

((للّه بلاء فلان؛ فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنّة، خلّف الفتنة ، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها.

أدى إلى اللّه طاعته، واتقاه بحقه، وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير بن أبي سلمی (12/ 3-252):

لو كان يقدر فوق الشمس من كرم*** قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

ص: 243

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم*** طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

أنس إذا أمنوا، جن إذا فرعوا*** مرزّؤون بهاليل إذا جُهدوا

محسدون على ما كان من نعمٍ*** لا ينزع اللّه منهم ما لهم حسدوا

ولقوله (علیه السلام)عندما طلب المشركون من الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) أن تُقتلع الشجرة فتأتي إليه ثم أن يلتف غصنها عليه ثم لينحسر عنه (صلّى اللّه عليه وآله) :

((لا إله إلا اللّه ؛ إني أول مؤمن بك يا رسول اللّه، وأول من أقرّ بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقاً بنبوتك؛ وإجلالاً لكلمتك)).

فقال القوم كلهم :

- بل ساحر كذاب، عجیب السحر، خفيف فيه، فهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا.

يعنوني وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سیماء الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار؛ عمار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يستعلون، ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل)) (13/ 213):

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيباً الوليد بن عقبة بن أبي معيط (13/ 213):

وإن ولي الأمر بعد محمد*** علي وفي كل المواطن صاحبه

ص: 244

وصي رسول اللّه حقا وصنوه*** وأول من صلّى ومن لان جانبه

وقول خزيمة بن ثابت (3/ 213):

وصيُّ رسول اللّه من دون أهله*** وفارسه مذ كان في سالف الزمان

وأول من صلّى من الناس كلهم*** سوى خيرة النسوان واللّه ذو منن

وقول أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر (13/ 232) :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف*** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلّى لقبلتهم*** وأعلم الناس بالأحكام والسنن

وقول أبي الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير (13/ 232) :

وإن علياً لكم مضمر*** يماثله الأسد الأسود

أما أنه أول العابدين*** بمكة واللّه لا یُعبد

وقول سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين (13/ 232):

هذا علي وابن عم المصطفي*** أول من أجابه فيما روی

هو الإمام لا يبالي من غوى

وقول زفر بن یزید بن حذيفة الأسدي (13/ 323) :

فحوطوا علياً فانصروه فإنه*** وصيٌّ وفي الإسلام أول أول

وإن تخذلوه والحوادث جمة*** فليس لكم عن أرضكم متحول

وبما روي أن أبا طالب فقد النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) يوماً، وكان

ص: 245

يخاف عليه من قريش أن يغتالوه، فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) فوجده قائماً في بعض شعاب مكة يصلي، وعلي (علیه السلام)، معه عن يمينه، فلما رآهما أبو طالب، قال لجعفر : تقدم وصل جناح ابن عمك.

فقام جعفر عن يسار محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) وتأخر الأخوان، فبكى أبو طالب، وقال (299) :

إن علياً وجعفراً ثقتي*** عند ملم الخطوب والنّوب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما*** أخي لأمي من بينهم وأبي

واللّه لا أخذل النبي ولا*** يخذله من بنيّ ذو حسب

ولقوله (علیه السلام)، من کتاب له إلى معاوية :

((فإسلامنا سُمع، وجاهلتنا لا تُدفع، وكتاب اللّه يجمع لنا ماشذ عنا، فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول مطرود الخزاعي يمدح هاشماً، وكان يقال لهاشم (القمر)) (15/ 182-200):

إلى القمر الساري المنير دعوته*** ومطعمهم في الأزل من قمح الجزر

وقول ابن الزبعري (15/ 200):

كانت قريش بيضة فتفلقت*** فالمنح خالصة لعبد مناف

الرائشون وليس يوجد رائش*** والقائلون هلمّ للأضياف

ص: 246

عمرو العلا هشم الثريد لقومه*** ورجال مكة مسنتون عجاف

وقول مطرود الخزاعي في مدح عبد المطلب ولقبه شيبة الحمد (15/ 200) :

ياشيبة الحمد الذي تثني له*** أيامه من غير ذخير الذاخر

المجد ما حجت قريش بيته*** ودعا هذيل فوق عض ناضر

واللّه لا أنساكم وفعالكم*** حتى أغيب في سقاة القابر

وقول حذافة بن غانم العدوي وهو يمدح أبا لهب، ويوصي ابنه خارجة ابن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم (15/ 200-201):

أخارج أما أهلكن فلاتزل*** لهم شاكراً حتى تغيب في القبر

بني شيبة الحمد الكرم فعاله*** يضيء ظلام الليل كالقمر البدر

بساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم*** وعبد مناف ذلك السيد الغمر

أبو عتبة الملقي إليّ جواره*** أغرهجان اللون من نفر غر

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا*** به جمع اللّه القبائل من فهر

وقول العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك (15/ 201):

لا ترى في الناس حياً مثلنا*** ما خلا أولاد عبد المطلب

وقول الشاعر (15/ 201):

إنما عبد مناف جوهر*** زين الجوهر عبد المطلب

وقول حذافة العذري يمدح بني هاشم (15/ 214):

کهولهم خير الكهول ونسلهم*** کنسل الملوك لا يبور ولا يجري

ص: 247

ملوك وأبناء الملوك وسادة*** تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر

متى تلق منهم طامحا في عنانه*** تجده على إجراء والده يجري

همُ ملكوا البطحاء مجداً وسؤدداً***وهم نکلوا عنهاغوان بني بكر

وهم ينكرون الذنب ينقم مثله*** وهم تركوا رأي السفاهة والهُجر

أخارج أما أهلكن فلاتزل*** لهم شاكراً حتى تغيب في القبر

وقول النابغة الذبياني يمدح ناساً (15/ 244):

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل*** بملتقطات لا ترى بينها فضلا

شفي وكفى ما في النفوس ولم يدع*** لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

وقول عبد اللّه بن كثير السحمي - يرد على عبد اللّه القسري والي مكة وكان إذا خطب بها لعن علياً والحسين عليهما السلام (15/ 256):

لعن اللّه من يسب علياً*** من سوقةٍ وإمام

أیُسب المطهرون جدوداً*** والكرام الآباء والأعمام

يأمن الطير والحمام ولا یأ *** من آل الرسول عند المقام

طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً*** أصل بيت النبي والإسلام

رحمة اللّه والسلام عليهم*** كلما قام قائم بسلام

وقول الشاعر خالد بن أسيد بن أمية (19/ 259):

إلى خالد حتى أنخنا بخالدٍ*** فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل

وقول موسی شهوات سعید بن خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد

ص: 248

(15/ 259) :

أبا خالد أعني سعيد بن خالد*** أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد

ولكنني أعني ابن عائشة الذي*** أبو أبويه خالد بن أُسيد

عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى*** فإن مات لم يرض الندى بعقيد

وقول عبد اللّه بن قيس الرقيات (15/ 259-260):

ما نقموا من أمية إلا*** أنهم يحلمون إن غضبوا

وإنهم معدن الملوك فما*** تصلح إلا عليهم العرب

وقول نُصیب (15/ 260):

من النفر الشح الذي إذا انتجوْا*** أقرت لنجواهم لؤي بن غالب

يحيّون بسامين طوراً وتارة*** يحيون عباسین سوى الحواجب

وقول الأخطل (15/ 260) :

شمس البداوة حتى يستقام لهم*** وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا

وقول الكميت بن زید (15/ 260):

فالآن صرن إلى أمية*** والأمور لها مصاير

وقول أبي الجهم العددي في معاوية (15/ 260 ):

نقلبه لنخبر حالتيه*** فنجر منهما كرماً ولينا

نجيل على جوانبه كأنا*** إذا ملنا نسير على أبينا

وقول علي بن بسام في ابن المعتز (15/ 288) :

ص: 249

للّه درك من ميت بمضيعة*** ناهيك في العلم والأشعار والخطب

مافيه لوٌّ ولا لولا فتنقصه*** وإنما أدركته حرفة الأدب

ولقوله (علیه السلام): ((وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين)).

استشهد ابن أبي الحديد بقوله هو في أحمد بن محمد أمير البحرين على البر(16/ 109) :

يا أحمد بن محمد أنت الذي*** علقت يداه بأنفس الأعلاق

ما أمّلت بغداد قبل أن ترى*** أبداً ملوك البحر في الأسواق

ولهوا عليها غيرة وتنافسوا*** شغفائها كتنافس العشاق

وغدت صلاتك في رقاب سراتهم*** ونداك كالطواق في الأعناق

بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم*** وتآلفوا من بعد طول شقاق

للّه همة ماجد لم تعتلق*** بسحيل آراء ولا أحذاق

جلب السلاهب من أراك وبعدها*** جلب المراكب من جزيرة واق

هذا العداء هو العداء فعدَّ عن*** قول بن حجر لؤي وعناق

وأظنه والظن علم أنه*** سيجيئنا بمحالك الآفاق

أما أسير صنيعة في جيده*** بالجود غل أو أسير وثاق

لازال في ظل الخليفة ماله*** فانٍ، وسؤدَدُه المعظم باق

ولقوله (علیه السلام)، من کتاب له إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة :

ص: 250

((فأقم على ما في يديك قيام الحازم الطبيب، والناصح اللبيب، التابع لسلطانه، المطيع لإمامه.

وإياك وما يعتذر منه، ولا تكن عند النعماء بطراً، ولا عند البأساء فشلا)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول داود بن مسلم في قُثم (16/ 141) :

عتقتِ من حلٍ ومن رحلةٍ*** يا ناق إن أدنيتني من قُثَم

إنكِ إن أدنيت منه غداً*** حالفني اليسر ومات العدم

في كفه بحروفي وجهه*** يدور في العرنين منه شمم

أصم عن قيل الخنا سمعه*** وما على الخير به من صمم

لم يدرِ ما لله لاللّه وباللّه لا للّه قد دری*** نعاتها فاعتاض منها فعم

ولقوله (علیه السلام):

((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبان بن الحميد اللاحقي في سوار بن عبد اللّه القاضي (17/ 65) :

لا تقدح الظنة في حكمه*** شيمته عدل وانصاف

يمضي إذا لم تلقه شبهة*** وفي اعتراض الشك وقاف

ولقوله (علیه السلام): ((فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة

ص: 251

من الضيق، وقلة علم بالأمور)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول بشار (17/ 95):

تأبى خلائق خالد وفعاله*** إلا تجنب كل أمر عائب

وإذا أتينا الباب وقت غدائه*** أدنى الغداء لنا برغم الحاجب

وقول الشاعر بشر بن مروان (17/ 95):

بعيد مراد الطرف وارد طرفه*** حذار الغواشي باب دار ولا ستر

ولوشاء بشركان من دون بابه*** طماطم سود أو صقالبة حمر

ولكن بشر يستر الباب للتي*** يكون لها في غيها الحمد والأجر

وقول إبراهيم بن هرمة (17/ 96):

هشٌّ إذا نزل الوفود ببابه*** سهل المجاب مؤدب الخدام

وإذا رأيت صديقه وشقيقه*** لم تدر أيهما ذوي الأرحام

وقول أبي زبيد يمدح الوليد بن عقبة ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة (17/ 237) :

لعمري لأن أمسى الوليد ببلدة*** سواء لقد أمسيت للدهر معورا

خلا أن رزق اللّه غاډ ورائحٌ*** وإني له راج وإن سار أشهرا

وكان هو الحصن الذي ليس مسلمي*** ذا أنا بالنكراء هيجت معسرا

إذا صادفوا دوني الوليد فإنما*** يرون جوادي ذي حماس مزعفرا

خضيب بنان ما زال براكب*** يخب وضاحي جلده قد تقشرا

ص: 252

وقال أيضاً فيه (17/ 236-237) :

لعمر أبيك يا ابن أبي مريِّ*** لغيرُك من أباح لنا الديارا

أباح لنا أبارق ذات قور*** ونرعى القف منها والقفارا

بحمد اللّه ثم فتى قريش*** أبي وهب بدناً غزارا

فتى طالت يداه إلى المعالي*** وطحطحة المجذَّمة القصارا

وقوله فيه أيضا يذكر نصره على مري بن أوس بن حارثة (17/ 237):

ياليت شعري بأنباء انبوها*** قد كان يعني بها صدري وتقديري

عن امريء ما يزيد اللّه من شرف*** أفرح به ومريّ غير مسرور

إن الوليد له عندي وحق له*** ود الخليل ونصح غیر مذخور

لقد دعاني وأدناني وأظهرني*** على الأعادي بنصر غير تقرير

وشذب القوم عني غير مكترث*** حتى تناهوا على رغم وتصغير

نفسي فداء أبي وهب وقلّ له*** يا أم عمر فحلّي اليوم أو سيري

ولقوله (علیه السلام):

((العلم وارثه كريمة، والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية)).

استشهد ابن أبي الحديد بما حدث سعيد بن خالد الجدي قال :

- لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعوضهم عن فرائضهم، فحضرنا بين يديه، فقال : من القوم؟ قلنا : جديلة، قال : جديلة عدوان ؟ قلنا نعم، فأنشد (18/ 95):

ص: 253

عذيري الحي من عدوا*** وكانوا حية الأرض

يفي بعضهم بعضاً*** فلم يرعوا على بعض

ومنهم كانت السادا***ت والموفون بالقرض

ومنهم حكم يقضي: *** فلا ينقضي ما يقضي

ومنهم من يجيز النا***س بالسنة والفرض

ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا، فقال :

أيكم يقول هذا الشعر؟

قال :

- لا أدري.

فقلت أنا من خلفه .

- يقوله ذو الأصبع،

فتركني وأقبل على ذلك الرجل الجسيم،

فقال :

ما كان اسم ذي الأصبع؟

قال :

- لا أدري.

فقلت أنا من خلفه :

- اسمه خرثان. فتركني وأقبل عليه فقال له :

ص: 254

ولم سمي ذا الأصبع؟

قال :

- لا أدري.

فقلت أنا من خلفه :

- نهشته حية في أصبعه ،

فتركني وأقبل عليه،

فقال :

من أيكم كان؟

فقال :

- لا أدري.

فقلت أنا من خلفه :

- من بني تاج الذي يقول الشاعر فيهم :

فابنو تاج فلا تذكرنهم*** ولا تتبعن عيناك من كان هالكا

فأقبل على الجسيم فقال :

کم عطاؤك؟

فقال :

- سبع مئة درهم، فأقبل عليّ وقال :

وكم عطاؤك أنت؟

ص: 255

259

قلت : أربع مئة.

فقال :

- يا أبا الرعيزعة، حط من عطاء هذا ثلاث مئة وزدها في عطاء هذا.

فرحت وعطائي سبع مئة وعطاؤه أربع مئة.

ولقوله (علیه السلام):

((وصدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حِبالَة المودة والاحتمال قبر العيوب)).

استشهد بقول البحتري (18/ 98):

لو أن كفك لم تجد لمؤمّل*** لكفاه عاجل بشرك المتهلل

ولو أن مجدك لم يكن متقادماً*** أغناك آخر سؤدد عن طول

أدركت ما فات الكهول من الحجا*** من عنفوان شبابك المستقبل

فإذا أمرت فلا يقال لك اتئد*** وإذا حكمت فما يقال لك اعدل

ولقوله (علیه السلام):

((إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه)).

استشهد ابن أبي الحديد بالحكاية التي تقول :

((ضل الأعشى طريقه فظفر به علقمة بن علاقة فقال :

- الحمد لله الذي أظفرني بك من غير ذمّة ولا عقد.

قال الأعشى :

ص: 256

أتدري لم ذاك جعلت فداك؟

قال :

- نعم، لأنتقم اليوم منك بتقولك على الباطل مع إحساني إليك. ثم قال :

- لا واللّه، لكن أظفرك اللّه ليبلو قدر حلمك فيَّ.

فأطرق علقمة فاندفع الأعشى فقال (18/ 11):

أعلقم صيرتني الأمور*** إليك وماکان بي منكص

کساكم علاقة أثوابه*** وورثكم حلمه الأحوص

فهب لي نفسي فدوك النفوس*** فلازلت تُتمي ولا تنقص

ولقوله (علیه السلام):

((إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي نواس (18/ 116):

قد قلت للعباس معتذراً*** من ضعف شكري ومعترفا

أنت امرؤ حملتني ذمماً*** أوهت قوي شكري فعد ضعفا

فإليك عني اليوم معذرة*** جاءتك بالتصريح منکشفا

لا تسدينَّ إلي عارفة*** حتى أقوم بشكر ماسلفا

وبقول البحتري (18/ 116) :

فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهداً*** فلا نلت نعمي بعدها توجب الشكرا

وقوله أيضاً (18/ 117) :

ص: 257

سأجهد في شكري لنعماك إنني*** أرى الكفراء للنعماء ضرباً من الكفرا

وقول أبي الفتح البستي 18/ 117

لا تظنّن بي وبرّك حيٌّ*** إن شكري وشكرغيري موات

أنا أرض وراحتاك سحاب*** والأيادي وبلٌ وشكري بنات

وقوله أيضاً 18/ 117

وخبّر لما أوليت شكري ساجداً*** ومثل الذي أوليت يعبده الشكر

وقول ابن أبي طاهر (18/ 117):

أراك بعين المكتسي ورق الفني*** بالائك اللاتي يعددها الشكر

ويعجبني فقري إليك ولم یکن*** ليعجبني لولا محبتك الفقر

وقول آخر (18/ 117) :

بدأت بمعروف وثنيت بالرضا*** وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم

وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي*** وأخرت (لا) عني وقدمت لي (نعم)

وصدقت لي ظني وأنجزت موعدي*** وطبت به نفساً ولم تشبع الندم

فإن نحن كافأنا بشكر فواجب*** وإن نحن قصرنا فما الود متهم

ولقوله (علیه السلام):

((لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول رجل مدح المهلب (18/ 163) :

نعم أمير الرفقة المهلب*** أبيض وضّاح كتيس الحُلّب

ص: 258

فقال المهلب :

- حسبك رحمك اللّه .

ولقوله (علیه السلام):

((الشفيع جناح الطالب)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول رجل جاء المبرد يستشفع به في حاجة (18/ 204) :

إني قصدتك لا أدلي بمعرفةٍ*** ولا بقربي و لكن فشت نعمك

فبت حيران مكروباً يؤرقني*** ذل الغريب ويغشيني الكری كرمك

ولو هممت بغير العرف ما علقت*** به يداك ولا انقادت به شيمك

ما زلت أنكت حتى زلزلت قدمي*** فاحتل لتثبيتها لا زلزلت قدمك

ولقوله (علیه السلام)، وهو يجيب شامياً لما سأله :

- كان مسيرنا إلى الشام بقضاء من اللّه وقدره.

((ويحك! لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً، لو كان ذلك كذلك، لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشامي (18/ 228) :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته*** يوم النشور من الرحمن رضواناً

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً*** جزاك ربك عنافيه إحسانا

ولقوله (علیه السلام)، وقد سئل عن قریش :

ص: 259

((أما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحبُّ حديث رجالهم، والنكاح في نسائهم، وأما بنو عبد شمس فأبعدها رأياً، وأمنعها لما وراء ظهورها، وأما نحن فأبذل لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحطيئة وهو يمدح بني أنف الناقة (18/ 286) :

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم*** ومن يُسوّي بأنف الناقة الذنبا

وقول ابن غزالة الكندي، وهو يمدح بني شيبان ولم يكن في موضع رغبة إلى بني مخزوم ولا في موضع رهبة (

18/ 286):

كأني إذا حططت الرحل فيهم*** بمكة حين حل بها هشام

وقول رجل من بني جزم أحد بني سلمى، وهو يمدح حرب بن معاوية الخفاجي، وخفاجة من بني عقيل (18/ 286-287) :

إلى حزن الحزون سمت ركابي*** بوابل خلفها عسلان جيش

فلما أن أنخت إلى ذراه... *** أمنت فراشتي منه بريشي

توسط بينه في آل كعب*** كبنت بني مغيرة في قريش

وقول عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن الحكم (18/ 287):

مارست أكيس من بني قحطان*** صعب الذری متمنع الأركان

إني طمعت بفخر من لو رامه*** آل المغيرة أو بنو ذكوان

لملأتها خیلاً تنضب لثاتها*** مثل الدبا وكواسر القصبان

ص: 260

منهم هشام والوليد وعدلهم*** وأبو أمية مفزع الركبان

وقول علي بن هرمة، عم إبراهيم بن هرمة (18/ 288) :

من يرتئي مدحي فإن مدائحي*** توافق عند الأكرمين سوام

نوافق عند المشتري الحمد بالندي*** لفاق نبات الحرث بن هشام

وقول الأسود بن يعفر النهشلي (18/ 289) :

إن الأكارم من قريش كلها***شهدوا فراموا الأمر كل مرام

حتى إذا كثر التجادل بيهم***حزم الأمور الحارث بن هشام

وقول شاعر من بني هوازن، أحد بني أنف الناقة حين سقى إبله عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي بعد أن منعه الزبرقان بن بدر (18/ 290) :

أتدري من منعت سیال حوض*** سليل خضارم منعوا البطاحا

أزاد الركب تمنع أم هشاماً *** وذا الرمحين أم نعهم سلاحا

هم منعوا الأباطح دون فهر*** ومن بالخيف والبلد الكفاحا

بضرب دون بيضهم طِلَخفٍ*** إذا الملهوف لاذ بهم وصاحا (27 )

وماتدري بأيّهم تلاقي*** دور المشرفية والرماحا

وقول عبد اللّه بن أمية مجيباً له (18/ 290) :

لعمري لأنت المرء يحسن بادياً*** وتحسن عود أشيمة وتصنّعا

عرفت لقوم مجدهم وقديمهم*** وكنت لما أسديت أهلاً وموضعا

وقول خداش بن زهير في يوم شمطة وهو أحد أيام الفجار، وهو عدو قريش

ص: 261

وخصمها (18/ 293) :

وبلغ إن بلغت بن هشاماً*** وذا الرمحين بلّغ والوليدا

أولئك إن يكن في الناس جود*** فإن ل ديهم حسباً وجودا

همُ خير المعاشر من قريش*** وأوراها إذا قدحوا زنودا

وقوله أيضاً، وذكرها في تلك الحروب (18/ 294) :

یا شدة ما شددنا غير كاذبة***علی سخینة لولا اللیل والحرم

إذا ثقفنا هشاماً بالوليد ولو*** أنا ثقفنا هشاما ثالث الجذَم

وقول الزعبري - وقد ذكرهم في تلك الحروب أيضاً - (18/ 294)

ألا للّه قوم ولدت***أخت بنی سهم

هشام وأبنوعبد***مناف مدرة الخصم

وذو الرحمین أشباك*** من القوة والحزم

فهذان یذودان*** وذا عن کثب یرمي

وهم یوم عکاظ منع***عوا الناس من الهزم

بجأواء طحون فخم***سة القوس کالنجم

أسود تزدهی الأقرا***ن مناعون للهضم

فإن أحلف وبیت اللّه*** لا أحلف علی الإثم

وما من إخوة بین***دروب الشام و الردم

بأزكى من بنی ريطة***أو أرزن من حلم

ص: 262

وقول الزعبري يمدح أبا جهل (18/ 295) :

رب نديم ماجد الأصل*** مهذب الأعراض والنجل

منهم أبو عبد مناف وكم***سريت بالضخم على العدل

عمرو الندى ذاك وأشاعه***ما شئت من قول ومن فعل

وقول الورد بن خلاس السهمي، سهم باهله يمدح الوليد (18/ 295) :

إذا كنت في حيي جذيمة شادياً ***فعند عظيم القريتين وليد

فذاك وحيد الرأي مشترك الندى*** وعصمة ملهوف الجنان عميد

وقوله أيضاً (18/ 295) :

إن الوليدين والأبناء ضاحية *** ربّا تهامة في الميسور والعسر

هم الغياث وبعض القوم فرقعة*** عز الذليل وغيظ الحاسد الوَغِر

وقوله أيضاً (18/ 295) :

ورهطك يا ابن الغيث أعظم محتد *** وأمنع للجار اللهيف المُهظّم

وقول لبيد بن ربيعة في حذيفة بن بدر (18/ 295) :

وأهلكن يوما رب كندة وابنه*** ورب معدٍّ بين خبت وعرعر

وقول الأقيشر الأسدي في المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (18/ 303) :

أتاك البحر طمَّ على قريش *** معيِّرتي فقد راع ابن بشر

وراع الجدي جدي التیم لمّا*** رأى المعروف منه غير نزر

ص: 263

ومن أوتار عقبة قد شفاني*** ورهط الحاطبي ورهط صخر

فلا يغررك حسن الزي منهم*** ولا سرح بيزبونٍ ونمر

وقول شاعر يمدح خالد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن العاص بن هشام بن المغيرة، إذ كان جواداً متلافاً (18/ 305) :

لعمروك المجد ما عاش خالد***على العمر من ذي كبدة لمقيم

وتندى البطاح اليد من جود خالد*** ويُحصن حتى بنهن عظيم

ولقوله (علیه السلام):

((احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بريء من حول اللّه وقوته، فإنه إذا حلف بما كاذباً عوجل، وإذا حلف باللّه الذي لا إله إلا هو لم يعاجل، لأنه قد وحّد اللّه سبحانه وتعالى)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد اللّه بن مصعب بن الزبير يمدح محمداً بن عبد اللّه ويحرضه للوثوب والنهوض للخلافة (19/ 92-93:

لاعز ركنا نزار عند سطوتها*** إن أسلمتك ولا ركناً ذو يمن

ألست أكرمهم عوداً إذا انتسبوا*** يوماً وأطهرهم ثوباً من الدرن

وأعظم الناس عند الناس منزلة*** وأبعد الناس من عيب ومن وهن

قوموا ببيعتكم نهض بطاعتها *** إن الخلافة فيكم يا بني حسن

إنا لنأمن أن ترتد الفتنا***بعد التدابر والبغضاء والإحن

حتى يثاب على الإحسان محسنا*** ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن

ص: 264

وتنقضي دولة أحكام قادتها*** فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا***بري الصناع قداح النبع بالسفن

ولقوله (علیه السلام):

((إذا أملقتم فتاجروا اللّه بالصدقة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد شعراء الشيعة يذكر إعادة الشمس عليه (علیه السلام)(19/ 101) :

جاد بالقرص والطوى ملء جنبيه*** وعاف الطعام وهو سغوب

فأعاد القرص المنير عليه ال***قرص والمقرض الكرام كسوب

إذ جاء في الأثر أن علياً (علیه السلام)عمل ليهودي في سقي نخل له في حياة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بمد من شعير فخبزه قرصاً، فلما هم أن يفطر عليه، أتاه سائل يستطعم، فدفعه إليه، وبات طاوياً وتاجر إلى اللّه بتلك الصدقة

ولقوله (علیه السلام):

((إن الرجل إذا كان له الديّف الظنون يجب عليه أن يزكيه لما من قبضه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشى (19/ 112) :

من يجعل الجد الظنون الذي***جُنّب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما طمى***یقذف بالبوصي و الماهر

ولقوله (علیه السلام):

((نعم الطيب المسك، خفيف محمله، عطر ريحه)).

ص: 265

استشهد ابن أبي الحديد بقول مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري (19/ 343) :

أطيب الطيب طيبب أم أبان*** فأر مسك بعنبر مسحوق

خلطته بعودها وبیانٍ***فهو أحوى على اليدين شريق

وقول الشاعر يمدح عمر بن عبد العزيز، إذ كان يجعل المسك بين قدميه ونعله (19/ 343) :

له نَعلٍ لا تطبي الكلب ريحها*** وإن وضعت في مجلس القوم شمّتِ

ولقوله (علیه السلام):

((إن للوالد على الولد حقاً، وإن للولد على الوالد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية اللّه سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول المعري يمدح الرضي والمرتضى رحمهما اللّه (19/ 367) :

أنتم ذوو النسب القصير فطولكم*** باد على الكبراء والأشراف

والراح أن قبل ابنه العنب اكتفت*** بأبٍ عن الأسماء والأوصاف

ولقوله (علیه السلام):

((ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول كثير بن ع-د الرحمن، وهو يذكر محمد بن

ص: 266

الحنفية عندما حجزه وقوم معه في شعب عارم (20/ 102-104) :

ومن يرَ هذا الشيخ بالخيف من منىّ*** من الناس يعلم أنه غير ظالم

سمي المصطفى وابن عمه*** وحمّال أثقال وفكاك غارم

تجرّ من لاقيت أنك عائذ*** بل العائذ المحبوس في سجن عارم

ولقوله (علیه السلام)في مدح الأنصار :

((هم واللّه ربّوا الإسلام كما يُرى الفُلُوُّ مع غنائهم، بأيديهم السياط، وألسنتهم السلاط)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الوزير المغربي إذ وجد بخطه وهو يمدح الأنصار

إن الذي أرسی دعائم أحم***وعلا بدعوته على كيوان

ابناء قَيْلة وارثوا شرف العلا*** وعراعر الأقیال من قحطان

بسوفهم يوم الوغى وأكفهم*** ضربت مصاعب ملكه بجران

لولا مصارعهم وصدق قراعهم*** خرّت عروش الدين للأذقان

فليشکرن محمد أسياف من*** لولاه كان الخالد بن سان

ولقوله (علیه السلام): من كتاب له إلى معاوية (15/ 181):

((وزعمت أن أفضل الناس عند اللّه فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثلمه. وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب

ص: 267

درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول خويلد بن أسد بحق عبد المطلب لما حفر بئر زمزم (115/ 217) :

أقول وما قولي عليهم بسبةٍ***إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم

حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجرٍ***وركضة جبريل على عهد آدم

وقول أحد بني كنانة يمدحه (15/ 219) :

إني وما سَتَرَتْ قريشٌ والذي*** تعزو لآل كلهن ظباء

ووحق من رفع الجبال منيفةً***والأرض مداً فوقهن سماء

مثنٍ ومهد لابن سلمى مدحةً ***فیها أداء ذمامه ووفاء

ولقوله (علیه السلام)، من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد كان استعمله على بعض النواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولَّاه من أعماله (18/ 54) :

((فإن صلاح أبيك غرّني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله.. ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الراجز يمدح الحكم بن المنذر بن الجارود (18/ 57) :

يا حكم بن المنذر الجارود*** أنت الجواد بن الجواد المحمود

سرادق المجد عليك ممدود

ص: 268

الهجاء

ص: 269

ص: 270

من خطبة له (علیه السلام)بعد استيلاء معاوية على البلاد قوله يهجو أصحابه :

((اللّهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني بهم، فأبدلني خيرًا منهم وأبدلهم بي شر مني، اللّهم أمتْ قلوبهم كما يمات الملح في الماء)) (1/ 332) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول حسان بن ثابت الأنصاري، لما قالوا : إن عتبة بن أبي سفيان وِلد من الصباح أيضاً، وقالوا أن هنداً كرهت أن تدعه في منزلها. فخرجت إلى أجياد، فوضعته هناك، وفي هذا المعنى أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) قبل الفتح، قال حسان (1/ 336) :

إن الصبيّ بجانب البطحاء*** في الترب ملقى غير ذي مهد

نحبت به بيضاء آنسة*** من عبد شمس صَلْتَهُ الخد

ولقوله (علیه السلام):

((مالهم، قاتلهم اللّه ؛ قد يرى الحُوّل القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر

ص: 271

اللّه ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)) (2/ 312)

استشهد ابن أبي الحديد بقول العارق الطائي وهو يهجو عمرو بن هند (1/ 317) :

(و) من مبلغ عمرو بن هند رسالة*** إذا استحقبتها العيس جاءٌ من العبد

أبوعدتي والرمل بيني وبينه*** تبين رويداً ما أمامة من هند

ومن أجأن حولي أعان كأنها*** قنابل خيل من كميت ومن ورد

غدوت بأمر كنت أنت اجتررتنا*** إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد

ولقوله (علیه السلام)(وقد ذكرناه في موضع سالف):

((قبّح اللّه مصقلة؛ فَعَلَ فِعلَ السادة وفرّ فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدق واصف حتى بكّته، ولو أقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بماله وفوره)) (3/ 119):

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحدهم في التقريع والتعنيف (3/ 119):

يامن مدحناه فأكذبنا*** بفعاله وأتا بنا خجلا

برداً قشيباً من مدائحنا*** سربلت فاردده لنا سهلا

إن التجارب تهتك المستور*** من أبنائها وتبهرج الرجلا

وقول علي بن الجهم في هجاء الطالبيين وذم الشيعة (3/ 122):

ورافضة تقول بِشِعبِ رضوى*** إمام، خاب ذلك من إمام

ص: 272

إمام من له عشرون ألفاً*** من الأتراك مشرعة السهام

وقول البحتري - وهو يهجو علي بن الجهم (3/ 122):

إذا ما حصلت عليا قريش*** فلا في العير أنت ولا النقير

ولو أعطاك ربك ما تمنّی*** لزاد الخلق في عظم الأيور

وما الجهم بن بدر حين يعزي***من الأقمار ثم ولا البدور

علام هجوت مجتهداً علياً*** بما لفّقت من کذب وزور

أما لك في أستك الوجعاء شغلٌ*** بكفك عن أذى أهل القبور

وقول علي بن الجهم يهجو أحمد بن دُواد لما سخط المتوكل عليه وطرده (3/ 114-125) :

يا أحمد بن أبي دُوادٍ دعوة***بعثت عليك جنادة وحديدا

ماهذه البدع التي سميتها*** بالجهل منك - العدل والتوحيدا

أفسدت أمر الدين حين وليته*** ورميته بأبي الوليد وليدا

لا محكمآ جلداً ولا متطرفاً*** کھلاً ولا مستحدثاً محمودا

شرهاً إذا ذكر المكارم والعلا***ذكر القلا يا مبدئاً ومعيدا

ويود لو مسحت ربيعة كلها***وبنو أياد صفحة وشريدا

وإذا تربع في المجالس خلته***ضبعاً وخلت بني أبيه قرودا

وإذا تبسم ضاحكاً شبهته***شرقاً تعجل شربه مردودا

لا أصبحت بالخير عين أبصرت***تلك المناظر والثنايا السودا

ص: 273

وقوله يهجوه لما فلج (3/ 125):

لم يبق منك سوى خيالك لامعاً*** فوق الفراش ممهداً بوساد

فرحت بمصرعك البرية كلها*** من كان منهم موقناً بمعاد

کم مجلس للّه قد عطلته*** كي لا يحدث فيه بالإسناد

ولكم مصابيح لنا أطفأتها*** حتى تحيد عن الطريق الهادي

ولكم كريمة معشر أرملتها*** ومحدثٍ أوثقت في الأقياد

إن الأسارى في السجون تفرجوا*** لما أتتك مواكب العواد

وغدا المصرعك الطبيب فلم يجد***لدواء دائك حيلة المرتاد

فذق الهوان معجلاً ومؤجلاً*** واللّه رب العرش بالمرصاد

لا زال فالجك الذي بك دائماً*** وفجعت قبل الموت بالأولاد

وقول مروان بن حفصة يهجو علي بن الجهم ويصفه بأنه مقطوع النسب بتحريض من المتوكل ليضحك منهما، وكان مروان يكنى أبا السحط (3/ 126):

إن جهماً حين ننسبه*** ليس من عجم ولا عرب

لجّ في شتمي بلاسبب*** سارق للشعر والنسب

من أناس يدعون أباً*** ماله في الناس من عقب

وقول علي بن الجهم يهجو مروان بن حفصة بإيماءة من المتوكل (3/ 126):

عليّ تعرضت لي ضلة*** لجهلك بالشعر یا مائق

تروم قریشاً وأنسابها*** وأنت لأنسابها سارق

ص: 274

فإن كأسامة جداً لكم*** فأمك منِّيَ طالق

ولقوله (علیه السلام)(وقد نقلناه في موضوع آخر فائت) :

((أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لايجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني؛ فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة)) (4/ 54) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول النجاشي الحارث بن کعب يهجو الإمام علي (علیه السلام)عندما التحق بمعاوية لأن الإمام (علیه السلام)عاقبه لشربه الخمر في رمضان (4/ 89):

ألا من مبلغ مني عليّاً*** بأني قد أمنت فلا أخاف

تحدث مستقر الحق لما*** رأيت أموركم فيهاخلاف

وكان قبل ذلك قد هجا معاوية بقوله (4/ 89) :

ونجّي ابن حرب سابح ذو غلالة*** أجش هزيم والرماح دوان

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه*** مرته به الساقان والقدمان

ولقوله (علیه السلام)(وقد نقلناه بعد معركة صفين) :

((إنكم واللّه لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول یزید بن قناعة وهو يهجو حاتماً (6/ 107) :

لعمري وما عمري عليَّ بهيّن*** لبئس الفتى المدعوّ بالليل حاتم

ص: 275

غداة أتی كالثور أحرج ناقتي*** بجبهته أقتاله و هوقائم

كأن بصحراء المريط نعامة*** تبادرهاجنح الظلام نعائم

أعارتك رجليها وهاتي لبها*** وقد جُرِّدت بيض المتون صوارم

وقول بعضهم (6/ 106):

(و) كاثرْ بسعدٍ إن سعداً كثيرة*** ولا نرجُ من سعد وفاءً ولا نصرا

ولا تدعُ سعداً للقراء وخلّها*** إذا أمنت وتعتها البلد القفرا

يروعك من سعد بن عمرو جسومها*** وتزهد فيها حين تقتلها خبرا

وقول عويف القوافي (6/ 106) :

وما أمكم تحت الخوافق والقنا*** بثكلى ولا زهراء من نسوة زهر

ألستم أقلَّ الناس عند لوائكم*** وأكثرهم عند الذبيحة والقدر

وقول عبد الملك بن مروان معيراً أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد (6/ 107 ) :

إذا صوّت العصفور طار فؤاده*** وليت حديد الناب عند الترائد

وقول آخر (6/ 107) :

يطير فؤاده من نبح كلبٍ*** ويكفيه من الزجر الصغير

وقول آخر (6/ 107) :

ولو أنها عصفورة لحبستها***مسومة تدعو عبيداً وأزنجا

وبالرواية التي تقول :

ص: 276

خرج مغيرة بن سعد العجلي في ثلاثين رجلاً بظهر الكوفة فعطعطوا، وخالد بن عبد اللّه القسري أمير العراق يخطب على المنبر فعرق واضطرب وتحيّر وجعل يقول :

- أطعموني ماء.

فهجاه ابن نوفل فقال (6/ 110-111):

أخالد لا جزاك اللّه خيراً*** وأيري في جرامك من أمير

تروم الفخر في أعراب قسر*** كأنك من سراة بني جرير

ولقوله (علیه السلام)في ذكر عمرو بن العاص :

((أما واللّه إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه قول الحق نسیان الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه ويرضخ له على ترك الدين رضيخة)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول حسان بن ثابت وهو يهجو عمرو بن العاص (6/ 280-285) :

أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت*** لنا فيك منه بينات الدلائل

ففاخر به إما فخرت ولا تكن*** تفاخر بالعاص الهجين بن وائل

وإن التي في ذاك يا عمرو حكّمت*** فقالت رجاء عند ذاك لنائل

من العاص عمرو تخبر الناس كلها*** تجمعت الأقدام عند المحافل

وقول الشاعر يهجو الوليد بن عقبة بن أبي معيط ويعلي من شأن الإمام

ص: 277

علي بن أبي طالب (علیه السلام)(6/ 292-293) :

أنزل اللّه والكتاب عزيز*** في عليٍّ و في الوليد قرانا

فتبوى الوليد إذا ذاك فتاً*** وعلي مبؤ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عمرك *** اللّه كمن كان فاسقاً إخوانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل*** وعليٌّ إلى الحساب عيانا

فعلي يجزى بذاك جناناً*** ووليد يجزى بذاك هوانا

رب جد لعقبة ابن إبانٍ*** لابس في بلادنا تبّانا

وقول نصر بن حجاج يهجو عتبة ابن أبي سفيان (6/ 293):

يا للرجال وحادث الأزمان*** ولسبّة تخزي أبا سفيان

نبئت عتبة خانة في عرسه*** جبس لئيم الأصل من لحيان

ولقوله (علیه السلام):

((فأقسم باللّه يا بني أمية عما قليل لتعرِفُنَّها في أيدي غيركم، وفي دار عدوكم)) (7/ 117).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (7/ 140) :

(لما أقبل داود بن علي من مكة عمل مجلساً ببعض الطريق، وجلس فيه هو والهاشميون كلهم، وجلس الأمويون تحتهم فجاء ابن هرمة فأنشد قصيدة قال فيها (7/ 140) :

فلاعنا اللّه عن مروان مظلمة***ولا أمية، بئس المجلس النادي

ص: 278

كانوا كعاد فأمس اللّه أهلكهم*** بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذبني من هاشم أحد*** فيما أقول، ولو أكثرت تعدادي

وقول الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لما قتل زيد بن علي (علیه السلام)في سنة اثنتين وعشرين ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك، من قصيدة طويلة وهي هجاء دولة (7/ 165-166): كلماحدثوا بأرض ثقيفاً*** ضمنونا السجون أو سيرونا

أشخصونا إلى المدينة أسرى*** لا كفاهم ربي الذي يحذرونا

خلّفوا أحمد المطهر فينا*** بالذي لا يحب، واستضعفونا

قتلونا بغير ذنب إليهم*** قاتل اللّه أمة قتلونا

ما رعوا حقنا ولا حفظوا في*** نا وصاة الإله بالأقربينا

جعلونا أدني عدو إليهم*** فهم في دمائنا يسبحونا

أنكروا حقنا وجاروا علينا*** وعلى غير إحنة أبغضونا

غير أن النبي منا وإنّا*** لم نزل في صلاتهم راغبينا

إن دعونا إلى الهدى لم يجيبو*** نا، وكانوا عن الهدی ناكبينا

أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا*** منّا وردوا نصيحة الناصحينا

ولقدماً رد نصح ذوي الرأي*** فلم يتبعهم الجاهلونا

فعسى اللّه أن يديل أناساً*** من أناسٍ فيصبحوا ظاهرينا

فتقر العيون من قوم سوءٍ*** قد أخافوا وقتلوا المؤمنينا

ص: 279

ليت شعري هل توجفن بي الخيل*** عليها الكماة مستلثمينا

من بني هاشم ومن كل حي*** ينصرون الإسلام مستنصرينا

في أناسٍ آباؤهم نصروا الدينَ*** وكانوا لربهم ناصرینا

تحكم المرهفات في الهمام منهم*** بأكف المعاشر الثائرينا

أين قتلى منا بقيتم عليهم*** ثم قتلتموهم ظالمينا

أرجعوا هاشماً وردوا أبا اليق*** ظان وابن البديل في آخرينا

وارجعوا ذا الشهاتين وقتلى*** أنتم في قتالهم فاجرونا

ثم ردوا حجراً وأصحاب حجرٍ*** يوم أنتم في قتلهم معتدونا

ثم ردوا أبا عمير وردوا*** لي رشيداً وميثماً والَّذينا:

قتلوا بالطفوف يوم حسین*** من بني هاشم وردوا حسينا

أين عمرو وابن بشر وقتلى*** معهم بالعراء مايدفنونا

ارجعوا عامراً وردوا زهيراً*** ثم عثمان، فارجعوا عازمینا

وارجعوا الحر وابن قين وقوماً*** قتلوا حین جاوزوا صفينا

وارجعوا هانياً وردوا إلينا*** مسلماً والرواع في آخرينا

ثم ردوا زيداً إلينا وردوا*** كل من قد قتلتمو أجمعينا

لن تردوهم إلينا ولسنا*** منكم غير ذلكم قابلينا

ولقوله (علیه السلام)- يذكر ملك الموت وتوفيه الأنفس :

((هل يُحس إذا دخل منزلاً؟ أم هل تراه إذا توفي أحداً؟ بل كيف يتوفی

ص: 280

الجنين في بطن أمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها أم الروح أجابته بإذن ربها أم هو ساكن معه في أحشائها؟؟؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله ؟)) (7/ 237) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد شعراء الموصل وقد أمره قرواش بن المقلد بهجاء وزيره سليمان بن فهد وحاجبه أبي جابر ومغنيه المعروف بالبرقعيدي، في ليلة من ليالي الشتاء وأراد بذلك الدعابة والولع بهم، وهم في مجلس شراب وأنس فقال (7/ 245 ):

وليل كوجه البرقعيدي ظلمة***وبر أغانيه وطول قرونه

سریت ونومي فيه نوم مشرّدٍ*** كعقل سليمان بن فهد ودینه

على أولقٍ فيه التفات كأنه***أبوجابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه*** سنا وجه قرواش وضوء جبينه

ولقوله (علیه السلام):

((... أما واللّه ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال، يأكل خضرتكم، ويذيب شحمتكم. إيه أبا ودقة)) (7/ 277):

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي بسام وقد كني أحد الرؤساء (7/ 280) :

فأنت لعمري أبو جعفر*** ولكننا نحذف الفاء منه

وقوله أيضاً (7/ 280) :

لبستم درن الثوب*** نظيف القعب والقدر

ص: 281

أبو التنِ أبوالدفرِ*** أبو البعر، أو الجعرِ

ولقوله (علیه السلام)- من كلام لأبي ذر (رحمه اللّه) لما أخرج إلى الربذة :

((يا أبا ذر إنك غضبت للّه فارجُ من غضبت له، إن القوم خافوك على دنیاهم وخفتهم على دينك)) (8/ 252):

استشهد بقول أبي ذر لما دخل على عثمان (8/ 258):

لا أنعم اللّه بقين عينا*** نعم لألقاه يوماً زیناً

تحية السخط إذا التقينا

ولقوله (علیه السلام)للمغيرة بن الأخنس - بعد أن قال هذا لعثمان :

- أنا أكفیکه.

بعد مشاجرة بين الإمام وعثمان :

((يا ابن اللعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت تكفيني؟ فو اللّه ما أعز اللّه من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه، أخرج عنا أبعد اللّه نواك؛ ثم أبلغ جهدك، فلا أبقى اللّه عليك إن بقيت)) (8/ 301):

استشهد ابن أبي الحديد بقول يحيى بن نوفل، وهو يهجو العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي، وقد تزوج (زباد) من ولدها نحا بن قبيصة الشيباني، وكانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان، فطلقها، فأنكحها إياه أخ لها يقال له زیاد فقال يحيى بن نوفل (8/ 304) :

أعریان ما يدري امرؤ سِيل عنكم*** أمن مذحج تدعون أم من زیاد

ص: 282

فإن قلتم من مذحج إن مذحجاً*** لبيض الوجوه غير حبر جاد

وأنتم صفاء الهام حُذلٌ كأنما*** وجوهكم مطلية بمداد

وإن قلتم الحي اليمانون أصلنا*** وناصرنا في كل يوم جلاد

فأطول بأيرٍ من معدٌ ونزوةٍ*** نزت بإياد خلف دار مراد

ظللتم كما ضلت ثقيف فما لكم*** ولا لهم بين القبائل هاد

لعمر بني شيبان إذ ينكحونه*** ریادِ لقدما قصروا بزياد

أبعد وليد أنكحوا عبد مذحج*** کمنزية غيراً خلاف جواد

وأنكحها لا في كفاءِ ولا غني*** زيادِ أضل اللّه سعي زياد

ولقوله (علیه السلام): من كتاب إلى معاوية :

((فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك عمله)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق يهجو جريراً) (15/ 189-190) :

أتاني وأهلي بالمدينة قائم*** لآل تميم أقعدت كل قائم

كأن رؤوس الناس إذ سمعوا بها*** مشدّخة هاماتها بالأمائم

وما بين ما لم يؤت سمعاً وطاعةً*** وبين تميم غیر جز الحلاقم

أتغضب أن أذنا قتيبة جزّتا*** جهاراً ولم تغضب لقتل ابن حازم

وما منهما إلا نقلنا دماغه*** إلى الشام فوق الساحجات الرواسم

تذبذب في المخلات تحت بطونها*** محذفة الأذناب جلف المقادم

وما أنت من قيس فتنبح دونها*** ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم

ص: 283

تخوفنا أيام قيس ولم تدع*** لعيلان أفقاً مستقيم الخياسم

لقد شهدت قيس فما كان نصرها*** قتيبة إلا عضها بالأباهم

وقول ابن مدلج يهجو أمير اليمن محمد بن عيسى المخزومي ( 15/ 198-199) :

قل لابن عيسى المستغيث*** من السهولة بالوعورة

الناطق العوراء في*** جلِّ الأمور بلا بصيرة

وَلَد المغيرة تسعةً*** كانوا صناديد العشيرة

إن النبوة والخلا*** فة والسقاية والمشورة

في غيركم فاكفف إلي*** ك يداً مجذّمة قصيرة

فانبرى له شاعر من ولد کُرَیز بن حبيب بن عبد شمس كان مع محمد بن عیسی باليمن يهجو عنه ابن مدلج ( 15/ 199):

لا لواء يُعد بین کُرَيز*** لا ولا رفد بیته ذي السناء

لا حجاب وليس فيكم يرى الكبر*** وبغض النبي والشهداء

بين حاك ومخلج وطريد*** وقتيل يلعنه أهل السماء

ولهم زمزم کذاك وجبري*** ل ومجد السقاية الغراء

وقول ابن الزعبري يهجو قوماً (15/ 221):

لعمريَ ما جاءت بنكر عشيرتي*** وإن صالحت إخوانها لا ألومها

فودّ جناة الشرأن سيوفنا*** بأيماننا مسلولة لا نشيمها

ص: 284

فيقطع ذو الصهر القريب ويتركوا*** غماغم منها إذ أجد يريمها

فإن قصياً أهل مجد وثروةٍ*** وأهل فعال لا يرام قديمها

همُ منعوا يومي عكاظ نساءنا*** كما منع الشول الهجان قرومها

وإن كان هيج قدموا فتقدموا*** وهل يمنع المخزاة إلا حميمها

كأشيد للمقري شراع إلى الندى*** مرازبة غلب رزان حلومها

وقول الزبير بن عبد المطلب يرد عليه (15/ 222):

قومي بنوعبد مناف إذا*** أظلم من حولي بالجندل

لا أسد لن يسلموني ولا*** تيم ولا زهرة للنيطل

ولا بنو الحارث إن مرّ بي*** يوم من الأيام لا ينجلي

يا أيها الشاتم قومي ولا***حق له عندهم قبلي

إني لهم جار لئن أنت لم*** تقصر عن الباطل أو تعدل

وقول أبي طالب يهجو عبد شمس ونوفل حين تظاهرت عليه وعلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وحصروهما في الشعب (15/ 333-334) :

توالى علينا موليانا كلاهما*** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمرُ

بلى لهما أمر ولكن تراجماً*** لِمَ ارتجحت من رأس ذي القلع الصخرُ

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً*** هما نبذانا مثلما تنبذ الخمرُ

هما غمضا للقوم في أخويهما*** فقد أصبحت أيديهما وهما صفر

قديماً أبوهم كان عبداً لجدنا*** بني أمة شهلاء جاش بها البحر

ص: 285

لقدسفهوا أحلامهم في محمد*** فكانوا كجُعرٍ بئس ما ضغطت جُعر

ولقوله (علیه السلام)في القضاء :

((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا يمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلا الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع)) (7/ 58) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأسهب الكوفي (17/ 95):

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم*** مذ صار قاضيكمُ نوح بن دراج

لو كان حياً له الحجاج ماسلمت*** صحيحة يده من وسم حجاج

وكان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط والنيِّل.

ولقوله (علیه السلام):

((فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلّة علم بالأمور)) (17/ 90 ).

استشهد بقول دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق (17/ 194) :

لعمري لئن حجبتني العبيد*** لما حجبتني دونك القافية

سأرمي بها من وراء الحجاب*** شنعاء تأتيك بالداهية

تصم السميع، وتعمي البصیر*** ويسأل عن مثلها العافية

وقول آخر (17/ 94) :

سأترك هذا الباب مادام الآن*** على ما أرى حتى يليت قليلا

ص: 286

فما خاب من لم يأته مترفعاً*** ولا فاز من قد رام فيه دخولا

إذا لم نجد للأذن عندك موضعاً*** وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا

وقول أبي العتاهية، وقد كتبه إلى أحمد بن يوسف الكاتب إذ حجبه (17/ 94) :

وإن عدت بعد اليوم إني لظالم*** سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم

متى يفلح الغادي إليك لحاجةٍ ***ونصفك محجوب ونصفك نائم

وقول بشار (17/ 95):

يا أميراً على جريب من الأر*** ض له تسعة من الحجاب

قاعد في الخراب يحجب عنا*** ما سمعنا بحاجب في خراب

وقوله أيضاً (17/ 95):

خليليَّ من كعب أعينا أخاكما*** علي دهره إن الكريم يعين

ولا تبخلا بخل ابن قرعة إنه*** مخافة أن يرجى نداه حزین

إذا جئته للعرف أغلق بابه*** فلم تلقه إلا وأنت كمين

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا*** وفي كل معروف عليك يمين

وقول آخر (17/ 96):

وإني لأستحيي الكريم إذا أتى*** على طمع عند اللئيم يطالبه

وأرثي له من مجلس عند بابه*** کمرثيتي للطرف والعلج راكبه

وقول آخر:

ص: 287

ما ضاقت الأرض على راغب*** تطلّب الرزق ولا راهب

بل ضاقت الأرض على شاعر*** و أصبح يشكو جفوة الحاجب

ولقوله (علیه السلام)من کتاب له إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان :

((فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله، فابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك، واجباً ثوابه، ومتخوفاً عقابه)) (17/ 145).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (17/ 242):

نزع عثمان الوليد عن الكوفة وأمّر عليها سعید بن العاص، فلما قدمها قال اغسلوا هذا المنبر فإن الوليد كان رجلاً نجساً، فلم يصعده حتى غسل؛ وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص، وأسخی نفساً وألين جانباً، وأرضى عندهم، فقال بعض شعرائهم :

ياويلناقد ذهب الوليد*** وجاءنا من بعده سعيد

ينقص في الصاع ولا يزيد

فدرت من الوليد إلى سعيد*** كأهل الحجر إذ فرعوا فباروا

يلينا من قريش كل عام*** أمير محدث أو مستشار

لنا نار تحرقنا فنخشى*** وليس لهم - ولا يخشون - نار

وقول الوليد بن عقبة يخاطب معاوية (17/ 244) :

ص: 288

وإذا سُئلت تقول (لا)) *** وإذا سألت تقول (هات)

تأبى فعال الخير لا*** تروي وأنت على الفرات

أفلا تميل إلى نعم*** أو ترك ((لا )) حتى الممات

وبلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه وكتب إليه :

أقبل. فكتب (7/ 244) :

أعف واستعفي كما قد أمرتني*** فأعط سواي ما بدا لك وانجل

سأعدو رکابي عنك إن عزيمتي*** إذا نابني أمرکسلة منصل

وإني امرؤ للنأي مني تطرب*** وليس شبا قفل عليٌّ بمقفل

هرب هبيرة بن أبي وهب وعبد اللّه بن الزبعری جمیعاً إلى حصن نجران عندما دخل الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) مكة، فخوفا أهل الحصن من الرسول فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعری (18/ 3) :

لا تعدمن رجلاً أحلك بفضه*** نجران في عيش أجد ذميم

بلیت قناتك في الحروب فألقيت*** جوفاء ذات معایب ووصوم

غضب الإله على الزبعرى وابنه*** بعذاب سوء في الحياة مقيم

ولقوله (علیه السلام)، من كتاب له إلى قثم بن العباس عامله على مكة (18/ 30) :

((فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام اللّه، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلّم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا

ص: 289

حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك به فإنها إن زیدت عن أبوابك

في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها)).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (18/ 31-32) :

وكان أبو عباد ثابت بن يحي كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل، ويسطو عليه ويخجله، ويبكته ساعة ثم يأمر له بها؛ فيقوم وقد صارت إليه، وهو يذمه ويلعنه، قال علي بن جبلة العكوك :

لعن اللّه أباعبّا*** د لعناً يتوالى

يوسع السائل شتماً*** ثم يعطيه السؤالا

وكان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبه، فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إیاها، فيركله برجله بالركاب، ويضربه بسوطه ويطير غضباً. ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضي حاجته، ويأمر له بطلبته فينصرف الرجل بها وهو ذام له ساخط عليه؛ فقال فيه دعبل :

أولى الأمور بضيعة وفساد*** ملك يدبّره أبو العبّاد

خرق على جلسائه فكأنهم*** حضروا لملحمة ويوم جلاد

متعجب بدواته جُلَساءه*** فمضرج ومخضب بمداد

وكأنه من دير هزقل مفلت*** حرب يجر سلاسل الأقياد

فاشدد أمير المؤمنین صفاده*** بأشد منه في يد الحداد

وقول أحد الشعراء فيه :

ص: 290

قل للخليفة يا ابن عم محمد*** قيّد وزيرك إنه رکّال

فلسوطه بين الرؤوس مسالك*** ولرجله بين الصدور مجال

ولقوله (علیه السلام):

((إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه)).

استشهد بقول لقيط بن زرارة (18/ 109-110):

فقل لبني سعد ومالي ومالكم*** ترقون مني ما استطعتم وأعتق

أغركم أني بأحسن شيمة***بصير وأني بالفواحش أخرق

وإنك قد سابیتني فقهرتني*** هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحذق

ولقوله (علیه السلام):

((لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه)).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (18/ 159-161) :

((أرسل اینٌ معجل بن لجيم فرساً له في حلبة، فجاء سابقاً ، فقيل له :

- سمّه باسم يعرف به.

فقام عينه وقال :

- قد سمّيته الأعور، فقال شاعر يهجوه :

رمتني بنو عجل بداء أبيهم*** وأي عباد اللّه أنوك من عجل

أليس أبوهم عار عين جواده*** فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل

ولقوله (علیه السلام):

ص: 291

((فأما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحب حديث رجالهم والنكاح في نسائهم، وأما بنو عبد شمس فأبعدها رأياً وأمنعها لما وراء ظهورها، وأما نحن فأبذلها لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا، وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح)).

استشهد بقول مالك بن نويرة (18/ 85و 28-288) :

ألم ينه عنا فخر بكر بن وائل*** هزيمتهم في كل يوم لزام

فمنهن يوم الشر أو يوم منصح*** وبالجزع، إذ قسّمن حي عصام

أحاديث شاعت في معدٍ وغيرها*** وخبّرها الركبان حيّ هشام

وقول الشاعر يهجو رجلاً؟ :

أحسبت أن أباك يوم نسبتني*** في المجد كان الحارث بن هشام

أولى قريش بالمكارم كأسها*** في الجاهلية كان والإسلام

وقول ثابت قطنة، أو كعب الأشقري لمحمد بن أشعب بن قیس (18/ 289)

أتوعدني بالأشعثي ومالك*** وتفخر جهلاً بالوسيط الطماطم؟

كأنك بالبطحاء تذمم حارثاً*** وخالد سیف الدين بين الملاحم

وقول عبد الرحمن بن سيحان الجسري حليف بني أمية وهو يهجو عبد اللّه بن مطیع بن عدي (19/ 289):

حرام كنتي مني بسوء*** واذكر صاحبي أبداً بذام

ص: 292

لقد أحرمت ود بني مطيع*** حرام الدهر للرجل الحرام

وإن خيف الزمان مددت حبلاً*** متيناً من حبال بني هشام

وريق عودهم أبداً وطيب*** إذا ما اعتز عيدان الكرام

وقول حسان بن ثابت يهجو أبا جهل، وكان يكنى أبا الحكم (18/ 292) :

الناس كنوه أباحكم*** واللّه كناه أبا جهل

أبقت ریاسته لأسرته*** لومَ الفروع ودقة الأصل

ولقوله (علیه السلام):

((صحة الجسد من قلة الحسد)) (19/ 97) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول علي بن جبلة (19/ 97-98):

أبا دلف يا أكذب الناس كلهم*** سوايَ فإني في مديحك أكذب

وقول أبي بكر النطاح فيه :

أبا دلف إن الفقير بعينه*** لَمَن يرتجي جدوى يديك ويأمله

أرى لك باباً مغلقاً متمنعاً*** إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله

كأنك طبل هائل الصوت معجب*** خلي من الخيرات قعس مداخله

وأعجب شيء فيك تسليم إمرةٍ*** عليك على طنزٍ وإنك قابله

ولقوله (علیه السلام):

((ضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك)) (19/ 352).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد الأعلى البصري في قاضي القضاة محمد

ص: 293

بن أبي الشوارب الأموي إذ كان تائها (19/ 354) :

إني رأيت محمداً منشاوساً*** مستصغراً لجميع هذي الناس (35)

ويقول لما أن تنفس خالياً*** و نفساً له يعلو على الأنفاس

ويح الخلافة في جوانب لحيتي*** تستن دون لحي بني العباس

ولقوله (علیه السلام):

((رب قول أنفذ من صول)).

استشهد ابن أبي الحديد بقول محمود الوراق (9/ 359-360) :

أتاني منك ماليس*** على مكروهه صبر

فأغضبت على عمدٍ*** وكم يغضي الفتى الحر

وأدبتك بالهجر*** فما أدبك الهجر

ولا ردّك عمّاکا***ن منك الصفح والبر

فلما اضطرني المكرو*** ه واشتد بي الأمر

تناولتك من شعري*** بمالیس له قدر

فحرکت جناح الضر*** لمّا مسك الضر

إذا لم يصلح الخير*** أمراً أصلحه الشر

وقول الشريف الرضي رضي اللّه عنه :

سأمضغ بالأقوال أعراض قومكم*** وللقول أنياب لديّ حداد

يُرى للقوافي والسماء جلية*** عليكم بروق جمة ورعاد

ص: 294

وقوله :

كعمت لساني أن أقول وإن يقل*** فقل في الجراز العضب أن فارق الغمدا

وإن بروداً للمخازي معدّة*** فمن شاء من ذا الحي أسميته بردا

قلائد في الأعناق بالعار لم تهن*** على مرِّ أيام الزمان ولا تصدا

إذا صلصلت بين القنا قضب القنا*** وإن زفرت في السرد قطعت السردا

ولقوله (علیه السلام):

((ما زال الزبير رجلاٌ منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه)) (20/ 102) :

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي حمزة موسى آل الزبير في عبد اللّه بن الزبير لشحّه وبخله (20/ 145):

إن الموالي أمست وهي عاتبة*** على الخليفة تشكو الجوع والحربا

ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا*** أي الملوك على ما حولنا غلبا؟

وقوله فيه :

لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد*** فضلت فضلاً كثيراً للمساكين

ما زلت في سورة الأعراف تدرسها*** و حتى فؤاديَ مثل الخبز واللبن

وقول شاعر فيه أيضاً؛ كما كانت الحرب بينه وبين الحصين بن نمير قبل أن يموت یزید بن معاوية (20/ 145):

فيا راكباً أما عرضت فبلغن*** كبير بني العوام إن قيل من تعني

ص: 295

تحير من لاقيت إنك عائذ*** وتكثر قتلى بين زمزم والركن

وقول الضحاك بن فيروز الديلمي (20/ 145):

تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة*** وبطنك شبر أو أقل من الشبر

وأنت إذا مازلت شيئاً قضمته*** كما قضمت نار الفضاحطب السدر

فلو کنت تجزي أو تثيب بنعمةٍ*** قريباً لردتك العطوف على عمرو

وبالرواية التي تقول (20/ 148-149):

أتی فضالة بن شريك الوالي عبد اللّه بن الزبير فقال :

- نفذت نفقتي، ونقبت ناقتي.

فقال :

- أحضرنيها.

فأحضرها.

فقال : - أقبل بها، أدبر بها.

ففعل.

فقال :

- إرقعها بسبت واخصفها بهلّب يبرد حفّها، وسر البردين تصحُ.

فقال فضالة :

ص: 296

- إني أتيتك مستحملاً، ولم آتك مستوصفاً، فلعن اللّه ناقة حملتني إليك.

فقال :

- إن وراكبها .

فقال فضالة :

أقول لغلمتي شدوا ركابي*** أجاوز بطن مكة في سواد

فمالي حين أقطع ذات عرقٍ*** إلى ابن الكاهلية من معاد

سيبعد بيننا نص المطايا*** وتعليق الأداوي والمزاد

وكل معبّد قد أعلمته*** مناسمهن طلاع النجاد

أرى الحاجات عند أبي خبيب*** نکدن ولا أمية في البلاد

من الأعياص أو من آل حربٍ*** أغرَّ كفرة الفرس الجواد

وقول عبد اللّه بن حنبل الجمحي (1/ 198):

أحلف باللّه رب الأنام*** ماترك اللّه شيئاً سدی

ولكن خلقتَ لنا فتنة*** لكي نبتلي بك أو تبتلي

فإن الأمينين قد بينا*** منار الطريق عليه الهدی

فما أخذا درهماً غيلة*** ولا جعلا درهماً في هوی

وأعطيت مروان خمس البلاد*** فهيهات سعيك ممن سعی

ولقوله (علیه السلام)في ذكر عمرو بن العاص (6/ 280):

((عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابة، وإني امرؤ تلعابة،

ص: 297

أعافس وأمارس! لقد قال باطلاً ونطق آثماً ... أما واللّه إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة)).

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول (6/ 313) :

((كان عمرو بن العاص عدواً للحارث بن نضر الجشعمي، وكان من أصحاب علي(علیه السلام)وكان عليٌّ (علیه السلام)قد تهیبته فرسان الشام، وملا قلوبهم بشجاعته، وامتنع كل منهم من الإقدام عليه، وكان قلما جلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث بن نضر الجشعمي دعابة فقال للحارث :

ليس عمرو بتارك ذكره الحا*** رث بالسوء أو يلاقي عليا

واضع السيف فوق منكبيه الأ*** يمن لا يحسب الفوارس شيا

ليت عمرو يلقاه في حومة النقع*** وقد أمست السيوف عصيا

حيث يدعو للحرب حامية القو*** م إذ كان بالبراز ملیّا

فوق شهب مثل السموق من النخل*** ينادي المبارزين إليّا

ثم يا عمرو نستريح من الفخر*** ونلقى به فتى هاشميا

فالقه إن أردت مكرهة الدهر*** أو الموت كل ذاك عليا

وكان القباع - وهو الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة ابن المغيرة المخزومي - مسهاباً، سريع الحديث كثيره، فقال فيه أبو الأسود الدؤلي (7/ 91):

أمير المؤمنين جزيت خيراً*** أرحنا من قباع بني المغيرة

بلوناه ولمناه فأعيا*** علينا ما يمر لنا مريره

ص: 298

على أن الفتى نكح أكول*** ومسهابٌ مذاهبه كثيرة

ولقوله (علیه السلام):

((فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مقامه في منزل، حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله، ومعارف منتقله)) (11/ 65).

استشهد ابن أبي الحديد بقول حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خویلد (16/ 68) :

بني أسد مابال آل خويلد*** يحنون شوقاً كل يوم إلى القبط

متى يذكروا قهقي يحنو لذكرها*** وللرمث المقرون والسمك الرقط

عيون كأمثال الزجاج وضيعة*** تخالف کعباً في لحی کثة شُطِّ

يُرى ذاك في الشبان والشيب منهم*** مبيناً و في الأطفال والحلية الشمط

لعمرو أبي العوام إن خويلداً*** غداة تبناه ليوثق في الشرط

ولقوله (علیه السلام):

((فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل تأملوا أمرهم حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم.. فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة في بلاء أزل، وأطباق جهل، من نبات مؤودة وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة)) (13/ 171).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق يهجو جريراً (13/ 175-176) :

ص: 299

ألم تر أنا بني دارم*** زرارة منا أبو معبد

ومنا الذي منع الوائدات*** وأحيا الوليد ولم يوئد

ألسنا بأصحاب يوم التنار*** وأصحاب ألوية المربد

ألسنا الذين تمیم بهم*** تساء وتفخر بالمشهد

وناجية الخير والأقرعان*** وقبر بكاظمة المورد

إذا ما أتى قبره عائذ*** أناخ على القبر بالأسعد

أيطلب مجد بني دارم*** عطية كالجبل الأسود

قرنبي يحك قفا مقرفٍ***لئيم مآثره قعدد

ومجد بني دارم فوقه*** مكان السماكين والفرقد

ولقوله (علیه السلام)، وقد ذكر بعض قریش عندما طلبوا من الرسول (صلّی اللّه عليه وآله) أن يدعو الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديه، ولما فعل الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ما طلبوا منه جاءته الشجرة ثم التفت الأغصان عليه :

((لا إله إلا اللّه، إني أول مؤمن بك يا رسول اللّه وأول من أُقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلهم :

- بل ساحر كذاب، عجیب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا؟

-يعنوني - وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم)) (13/ 213):

استشهد ابن أبي الحديد بقول النعمان بن رشيد يهجوه (علیه السلام)

ص: 300

(13/ 241) :

لقد طلب الخلافة من بعيد*** وسارع في الضلال أبو تراب

معاوية الإمام وأنت منها*** على وتحٍ بمنقطع السراب

و وقول أحد الخوارج (13/ 241):

أسسنا له تحت الظلام ابن ملجم*** جزاء إذا ما جاء نفساً كتابها

أبا حسنٍ خذها على الرأس ضربةً ***بكف كريم، بعد موت ثوابها

وقول عمران بن حطان يمدح قاتله (13/ 241) :

يا ضربة من تقي ما أراد بها*** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره حيناً فأحسبه*** أوفى البرية عند اللّه ميزانا

ص: 301

المحتويات

الفخر ...7

الدنیا ...25

الشکوی ...51

الحکمة ...61

الرثاء ...91

الاعتقادات ...117

التصوف ...125

وصف الموتی والقبور ...137

الصبر والزهد ...149

النسیب ...161

النصح والإرشاد ...175

الحماسة ...197

المدح ...233

الهجاء ...269

ص: 302

المجلد 4

هوية الکتاب

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

أَضوَاءٌ عَلَی نَهجِ البَلاغَةِ

اَلجُزءُ الرَّابِع

ص: 1

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثاق

وزارة الثقافة العراقیة لسنة 2015-913

ص: 2

أَضوَاءٌ عَلَی نَهجِ البَلاغَةِ

بشرح ابن أبي الحدید في استشهاداته الشعریة

الجُزءُ الرَّابِعُ

تألیف: الدکتور علی الفتال

إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1639 ه - 2015م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل: 07815016633

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: محمد محبوبی

ص: 4

مطالب لغوية و بلاغية و تشمل:

توضیح مفردة

الإسناد اللغوي

النحو

لزوم ما لا يلزم

الاقتباس

التشبيه

الاستعارة

الطباق والمقابلة

التخلص والاستطراد

الجناس

الكناية

ص: 5

ص: 6

توضیح مفردة

ص: 7

ص: 8

لقوله عليه السلام:

«الْحمد للَّه الذی لا یبلغ مدحته القائلون» (55/1).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الخنساء بنت عمرو بن الشريد (600059/1):

فما بلغت کف امريءٍ متناول *** بها المجد إلا و الذي نلت أطول

و لا خبَّر المثنون في القول مدحة *** و إن طنبوا إلا و ما فيك أفضل

و بقول أحد الفضلاء في خطبة و أرجوزة علمية بخصوص ما ورد في قوله

عليه السلام من (الحمد) (60/1):

الحمد لله بقدر الله *** لا قدر وسع العبد ذي التناهي

و الحمد لله الذي ينكره *** فإنما ينكر من يصوره

و لقوله عليه السلام:

«الذی لیس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أَجل ممدود» (57/1).

ص: 9

استشهد ابن أبي الحديد بقول محمد بن هانيء في قدومه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي فيما يخص (فن الإحاطة) (61/1):

أتبعته فِكَري حتى إذا بلغت *** غاياتها بين تصويب و تصعيد

رأيت موضع برهان يلوح و ما *** رأيت موضع تكييف وتحديدِ

و لقوله عليه السلام:

«فصاحبها كراكب الصعبه إِن أَشنق لها خرم و إِن أَسلس لها تقحم» (162/1)

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر، على أن أشنق بمعنى شقق :

ليس شتى على المنون بباقٍ *** غير وجه المسبح الخلاق

ساءها ما لها تبيّن في الأيد *** ي و إشناقها إلى الأعناق

و قد كان زارته بنية صغيرة إسمها (هند)، و هو في الحبس - حبس النعمان - و يداه مغلولتان إلى عنقه، فأنكرت ذلك وقالت:

- ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت؟

و بكت و قالت هذا الشعر (172/1):

و لقد غمّني زيارة ذي قر *** بي صغير لقربنا مشتاق

ساءها ما لها تبيّن في الأيد *** ي و إشناقها إلى الأعناق

فاذهبي يا أميم غير بعيد *** لا يؤاتي العناق من في الوثاق

و اذهبي يا أميم إن يشأ الله *** بنفس من أزم هذا الخناق

ص: 10

و لقوله عليه السلام:

«فمُنيِ - لعمر اللّه - بِخبط و شماسٍ».

منیت بزمَّرۡدة كالعصا *** الص و أخبث من کندش

على أن «مُني» بمعنى «بُلي».

و لأن في أخلاق عمر و ألفاضه جفاء و عنجهية ظاهرة كالكلمة التي قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه و آله، و كان الأحسن أن يقول «مغمور» أو

«مغلوب بالمرض».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أعرابي في رجزه و كانت سنة قحط (183/1):

رب العباد ما لنا و ما لكا *** قد كنت تسقينا فما بدا لكا

أنزل علينا القطر لا أبا لكا

و عندما سمعه سليمان بن عبد الملك قال:

- أشهد أن لا أبا له و لا صاحبة و لا ولد.

و لقوله عليه السلام:

«من وثق بِماءٍ لم یظمأْ».

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (211/1- 212):

و ما صبابة مشتاقٍ على أملٍ *** من اللقاء كمشتاق بلا أمل

باعتبار أن الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء، وليس يريد النفي المطلق؛ لأن الواثق بالماء قد يظمأ، ولكن لا يكون عطشه على حد عطش الكائن

ص: 11

عند عدم الماء، وعدم الوثوق بوجوده.

و لقوله عليه السلام:

«فتواکلتم و تخاذلتم و ثقل علیکم قولی، و اتخذتموه وراءکم ظهرِیا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق (79/2):

تميم بن مرٍ لا تكونن حاجتي *** بظهرٍ و لا يعيا عليك جوابها

أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال في المثل:

لا يجعل حاجتي منك بظهر، أي لا تطرحها غير ناظر إليها. و لقوله عليه السلام:|

«... و بقی رجال غضَّ أَبصارهم ذکر المرجعِ و أَراق دموعهم خوف المحشرِ... أَفواههم ضامرهٌ و قلوبهم قرِحهٌ...» (175/2).

استشهد ابن أبي الحديد بقول بشر بن أبي خازم:

لقد ضمزت بحرتها سليم *** فخافتنا كما ضمز الحمار

و لقوله عليه السلام:

«كما حُمِّل فاضطلع».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (141/6-142):

فقلت له أبا الملحاء خذها *** كما أوسعتنا بغياً وعدوا

باعتبار أن الكاف في «كما حُمِّل» هنا تعليلية بمعنى لأجل أن يحمل.

و لقوله عليه السلام:

ص: 12

«فهو أمينك المأمون» (141/6-142).

استشهد ابن أبي الحديد بقول کعب بن زهير:

سقاك أبو بكر بكأس روية *** و أنهلك المأمون منك و علکا

باعتبار أن العبارة من القاب الرسول صلى الله عليه وآله،، أي يمينك على وجهك.

و لقوله عليه السلام:

«.. و عظم الشفق».

استشهد ابن أبي الحديد بقول إسحاق بن خلف (251/6):

تهوى حياتي و أهوى موتها شفقاً *** و الموت أكرم نزّال على الحرم

باعتبار أن الشفق و الشفقة بمعنى و هو الاسم من الإشفاق و هو الخوف و الحذر.

و لقوله عليه السلام :

«وروية الارتياد، و أناة المقتبس المرتاد».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحطيأة (252/6-253):

و أكريت العشاء إلى سهيل *** أو الشِعرى فطال بي الإناء

باعتبار أن الأناة تعني التؤدة و الانتظار، مثل القناة. و جاء الأناء بالمد و الفتح على فعال.

و لقوله عليه السلام:

ص: 13

«و ربما نظر قدماً أمامه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (264/6 و 267):

غضي إذا زجرت عن سوأة قدماً *** كأنها هَدَمٌ في الجفر منقاض

باعتبار أن العبارة تعني: نظر ما بين يديه مقدماً لم ينثن و لم يعرج.

و لقوله عليه السلام:

«يتشعبهم ريب المنون».

استشهد ابن أبي الحديد بقول لبيد (205/7):

لمعفّرٍ فهد تنازع شِلوَه *** غبسٌ کواسب لا يمن طعامها

و لقوله عليه السلام:

«بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له». (أي لا حسن له).

استشهد ابن أبي الحديد بقول بلعاء بن قیس (73/13):

و الرأس مرتفع فيه مشاعره *** يهدي السبيل له سمع و عينان

و لقوله عليه السلام:

«نجا جریضا». (أي قد غص بالريق من شدة الجهد و الكرب).

استشهد ابن أبي الحديد بقول امريء القيس (150/16):

كأن الفتى لم يغن في الناس ليله *** إذا اختلف اللحيان عند الجريض و قوله:

و أفلتهن علباء جریضأ *** و لو أدركنه صفر الوطاب

ص: 14

و لقوله عليه السلام:

«و لا أؤخر لكم حقاً عن محله و لا أقف به دون مقطع».

استشهد بقول زهير (16/17-17):

فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفار أو جلاء

إذ إن الحق، هنا، غير العطاء. بل الحكم. و مقصوده عليه السلام؛ متى تعين الحكم حكمت به و قطعت و لا أقف ولا أتحبس.

و لقوله عليه السلام:

«و احذر صحابة من يفيل رأيه».

استشهد بقول طرفة (48/18):

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فإن القرين بالمقارن يقتدي

باعتبار الصحابة بفتح الصاد: مصدر صحبت، و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب. و المراد هاهنا الأول.

و لقوله عليه السلام:

«و لك منهم شافياً فرارهم من الهدي و الحق، و إيضاعهم إلى العمي و الجهل».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (52/18-53):

باعتبار أن الإيضاع يعني الإسراع. وضع البعير أي أسرع و أوضعه صاحبه.

و لقوله عليه السلام:

ص: 15

«و إياك و الغضب فإنه طيرة من الشيطان».

استشهد بقول الكميت (70/18):

و حلمك عزَّ إذا ما حَلُمتۡ *** و طيرتك الصاب و الحنظل

باعتبار أن الطيره، هنا، تعني، بفتح الطاء و سكون الياء، خفة وطيش.

و لقوله عليه السلام: ذاك استشهد بقول الشاعر (26/2):

من يأمن الحدثان بعد *** صبيرة القرشي ماتا

سبقت منيته المشي *** ب و كان ميتته افتلاتا

يعني بغتة، وزلة، في قول ثان.

استشهد بهما بحديث عمر المعروف بحديث «الفلتة» إذ قال عمر:

- إن بيعة أبي بکر کانت فلتة و في الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.

و لقوله عليه السلام:

«عالم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (22/7 و 25): أخاطب جهراَ إذ لهن تخافت *** و شتان بين الجهر و المنطق الخفتِ

لورود كلمة المتخافتين في قوله عليه السلام الأنف ذكره و لقوله عليه السلام:

«الباسط بالجود يده».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (84/7):

ص: 16

فإن ترجع الأيام بيني و بينها *** فإن لها عندي يدأ لا أضيعها

واليد هنا تعني النعمة.

و لقوله عليه السلام:

«إن عوازم الأمور أفضلها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (93/9-94):

لقد غدوتُ خلق الثياب *** أحمل عدلين من التراب

لعوزم وصبية سغاب *** فأكلٌ و لاحسٌ وآبي

و لقوله عليه السلام:

«و إنما هم مطايا الخطيئات، و زوامل الآثام».

استشهد ابن أبي الحديد بقول مروان بن سليمان بن حفصة (218/9 -219):

زوامل أشعار و لا علم عندهم *** بجيِّدها إلا كعلم الأباعر

العمرك ما يدري البعير إذا غدا *** بأوساقه أو راح ما في الغرائر

باعتبار أن زوامل الآثام: جمع زاملة و هي بعير يستظر به الإنسان يحمل متاعه.

و لقوله عليه السلام:

«فاتقوا سكرات النعمه» (137/9).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

ص: 17

خمس سكرات الموت إذا مني *** المرء بها صارت عرضة للزمان

سكرة المال و الحداثة و العشق *** و سكر الشراب و السلطان

و سكرات النعمة: ما تحدثه النعمة عند أربابها من الغفلة والمشابهة للسكر.

و لورود كلمة «البكاليِّ» في رواية نوفي البكالي.

استشهد ابن أبي الحديد بقول الكميت (76/9 -80):

يقولون يورثه و لولا تراثه *** فقد شركت فيه بكيل و أرحب

و لورود كلمة «ثفنة بعير» في الرواية نفسها.

استشهد ابن أبي الحديد بقول دعبل (76/9 - 80):

دیار علي و الحسين و جعفر *** و حمزة و السجاد ذي الثفنات

ص: 18

الإسناد اللغوي

ص: 19

ص: 20

لقوله عليه السلام، عن الخالق جل و علا:

«و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته».

استشهد ابن أبي الحديد بقول خبيب الصحابي عند صلبه (407/6- 408):

و ذلك في ذات الإله و إن يشأ *** يبارك على أوصال شلو موزع

لإسناد إيراده عليه السلام كلمة «ذاته».

و قول النابغة للغرض نفسه 408/1:

محلتهم ذات الإله و دينهم *** قديم فما يخشون غير العواقب

و لقوله عليه السلام:

«و ظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته، و أعلام حکمت».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العتاهية (412/6):

فوا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يحمده الجاحد؟

و في كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

ص: 21

و لقوله عليه السلام، وقد وردت فيه كلمة «تستك»:

«ووراء ذلك الرجع الذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع منه الأبصار، عن بلوغها فتقف خاسئة على حدودها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول النابغة (427/6):

و نبأت خير الناس أنك لمتني *** و تلك التي تستك منها المسامع

و لقوله عليه السلام:

«و سكن هيج ارتمائه، إذ وطئته بکلکلها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر لورود كلمة «کلکل»:

كأن مهواها على الكلكل *** موضع كفيۡ راهب مصلي

و لورود كلمة «الحكمة» في قوله عليه السلام:

«و في حَكمَة الذل منقادة أبداً».

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير بن أبي سلمي (440/6):

القائد الخيل منکوباً دوابرها *** قد أحكمت كلمات القِدّ و الابكا

و لورود كلمة «بأوه» في قوله عليه السلام:

«و سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره، وردت من نحوه بأوه و اعتلاله».

استشهد ابن أبي الحديد بقول حاتم (440/6):

فما زارنا بأواً على ذي قرابةٍ *** غنانا ولا أزرى بإحساننا الفقر

و لورود كلمة «فزع» في قوله عليه السلام:

ص: 22

«ألف غمامها بعد افتراق لمعه و تباين فزعه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ذي الرمة يصف فلاة (447/6):

ترى عصب القطا هلأ عليه *** كأن رعاله فزع الجهام

و لورود كلمة «بواني» في قوله عليه السلام:

«فلما ألقت السحاب برك بوانيها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (444/6):

أصبر من ذي ضاغط عركرك *** ألقى بواني زوره للمبرك

و لورود كلمة «باع» في قوله عليه السلام:

«باع ما استقلت به من العبء المحمول عليه». استشهد بقول امريء القيس (440/6):

و ألقى بصحراء الغبيط باعه *** نزول اليماني بالعياب المثقل

و لورود كلمة «زعر» في قوله عليه السلام:

«أخرج به من هواق الأرض النبات و من زعر الجبال الأعشاب»

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (444/6):

من يك ذا رمة يرجعها *** فإنني غير ضائري زعري

و لورود كلمة قرن في قوله عليه السلام، عن الخالق جل شأنه:

«بل تعاهدهم بالحجج على أسن الحيرة من أنبيائه، و متحملي و دائع رسالاته، قرناً فقرنا».

ص: 23

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (6/7):

إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم *** و خُلِّفت في قرنٍ فأنت غريب

و لورود كلمة «اقران» في قوله عليه السلام عن الخالق جل شأنه:

«ووصل بالموت أسبابها، و جعله خالجاً لأشطانها، و قاطعاً لمرائر أقرانها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (21/7-22):

أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه *** أني لدى الباب كالمشدود في قرن

و لورود كلمة «أيم الله» في قوله عليه السلام:

«و أيم الله لتجدُنَّ بني أمية لكم أرباب سوء بعد كالناب الضروس، تعزم بغيها وتخبط بيده» (45/7):

استشهد بقول الشاعر (54/7):

فقال فريق القوم لما نشدتهم *** نعمۡ و فريق أيمنُ الله ما ندري

باعتبار أن «أيمن» اسم وضع للقسم هكذا بألف وصل، و يضم الميم و النون، قالوا: و لم تأت في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها. و تدخل عليها اللام التأكيد الابتداء. كما في قول الشاعر المار ذكره. و تحذف نونه فيصير «أيم الله» كما في قول الإمام عليه السلام.

و ذهب أبو عبيدة و ابن کیسان و ابن درستويه إلى أن «أيمن» جمع يمين و الألف همزة قطع. و إنما خففت و طرحت في الوصل لكثرة الاستعمال، قالوا: و كانت العرب تحلف باليمين فتقول: يمين الله لا أفعل.

ص: 24

قال امرؤ القيس (55/7):

فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي

و اليمين تجمع على أيمن، قال زهير:

فتجمع أيمن منا و منكم *** بمقسمة تمور بها الدماء

و لورود كلمة الثاوي في قوله عليه السلام:

«انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها، فإنها و الله عما قليل تزيل الثاوي الساكن. و تفجع المترف الآمن» (105/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشی (105/7):

أثوى و قصّر ليله ليزوِّدا *** فمضت و أخلف من قتيلة موعدا

و من معاني الثاوي: المقيم، و جاء «أثويت بالمكان» لغة في ثویت.

و لورود كلمة «السلب» في قوله عليه السلام، عن الفتن في المستقبل:

«أهلها قوم شديد كلبُهُم قليل سلبهم.

استشهد بقول أبي تمام (103/7-104):

إن الأسود أسود الغاب همّتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

و لورود كلمة «مشوب» في قوله عليه السلام:

«سرورها مشوب بالحزن».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

«و ماء قدور في القصاع مشيب».

ص: 25

باعتبار أن مشوب مخلوط و جاء مشيب في قول الشاعر المار ذكره.

و لورود كلمة «مأدبة» في قوله عليه السلام، و هو يتحدث عن خلقه تعالی:

«سبحانك خالقاً و معبوداً، بحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً، و جعلت فيها مأدبة» (200/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول طرفة، و هو يذكرها بصيغة «الأدب» إذ المأدبة بالفتح و الضم: الطعام يدعى الإنسان إليه. و الآدب الداعي إلى طعامه. قال طرفة (207/7):

نحن في المشتاة ندعوا لجفلى *** لاترى الآدب فينا ينتقر

و لورود كلمة «منون» في قوله عليه السلام عن الملائكة:

«و لم يخلقوا من ماءٍ مهين، و لم يتشعبهم ريب المنون».

استشهد ابن أبي الحديد بقول لبيد (205/7):

لمُفَّرٍ فهد تنافر شِلۡوَه *** عُبۡسٌ کواسب لا يمن طعامها

و لورود كلمة «رهون» في قوله عليه السلام:

«و المرء قد عَلِقت رهونه بها» (201/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير (209/7): و فارقتك برهنٍ لا فكاك له *** يوم الوداع فأمسي الرهن قد غلقا

باعتبار أن الإنسان، و هو مشرف على مفارقة الدنيا، صارت أموالها مرتهنة لغيره.

ص: 26

و لورود كلمة «أرجفها» في قوله عليه السلام:

«حتى إذا بلغ الكتاب أجله.. و جاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها» (201/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول مطرود بن کعب الخزاعي (210/7):

المطعمون اللحم كل عشية *** حتى تغيب الشمس في الرجاف والرجفة: الارتعاد.

و لورود كلمة «قطران» في قوله عليه السلام، و هو يتحدث عن أصحاب المعصية: «و ألبسهم سرابيل القطران» (202/7).

استشهد بقول امريء القيس (211/7):

أيقتلني و قد شغفت فؤادها *** كما قطر المهنوئة الرجل القالي

و لورود كلمة «حري» في قوله عليه السلام و هو يذكر الدنيا:

«و حريٌ إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له متنكره» (7/م 226):

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (230/7):

و هن حري أن لا يثبنك نقرة *** و أنت حري بالنار حين تشيب

و لقوله عليه السلام:

«اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبتكم، و اسألوه من أداء حق كما سألكم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عمرو بن كلثوم (246/7- 248):

ص: 27

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و هو سؤال لأجل المقابلة بين اللفظين.

و لورود كلمة «حدابير» في قوله عليه السلام في الاستسقاء:

«اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السني» (262/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول ذي الرمة (263/7):

حدابير لا تنفك إلا مناخة *** على الخسف أو نرمي بها بلداً قفراً

إذ أن حدابير جمع حدبار و هي الناقة التي أنضاها السير، فتشبهت بها السنة

التي فشا فيها الجرب.

و لإسناد دعاء عرب الجزيرة في الاستسقاء، استشهد ابن أبي الحديد بقول

أُميَّة بن أبي الصلت (265/7):

أجاعلٌ أنت بيقوراً مسلّمة *** ذريعة لك بين الله و المطر

إذ إنهم إذا أصابهم المحل استسقوا بالبهائم، و دعوا الله بها و استرحموه لها، و منهم من كان يجعل في أذناب البقر السلع و العُشر يصعد بها الجبال و التلال العالية و كانوا يسقون بذلك.

و لورود كلمة «حفافيها» في قوله عليه السلام، و هو يحث أصحابه على القتال (3/8):

«... فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون برایاتهم و يكتنفونها حفافيها».

ص: 28

استشهد ابن أبي الحديد بقول طرفة (4/8):

كأن ضاحي مضرحيِّ تكنفا *** حفافيه شُكاّ في المسيب بمبرد

و لورود كلمة «الخلائب» في قوله عليه السلام، و هو يحث أصحابه على القتال في صفين:

«و حتى يُرموا بالمناسر تتبعها المناسر، و يُرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول جعفر بن علبة الحارثي (8/8):

ألهفا بقريّ سحبل حين أسلبت *** علينا الولايا و العدو المباسل

و لورود كلمتي «حشاش النار» في قوله عليه السلام و هو يخاطب الخوارج:

«لبئس حشاش نار الحرب انتم» (104/8).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (107/8):

أ في أن أحشَّ الحرب فيمن يُحشُّها *** ألام، و في إلاّ أقر المخازيا !

و لورود كلمة «برح» في قوله عليه السلام:

«أفٍ لكم لقد لقيت منکم برحا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (108/8):

أجدّك هذا عمرك الله كلما *** دعاك الهوى برحٌ لعينيك بارح

و لورود كلمة «سمير» في قوله عليه السلام:

«أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه؟ و الله لا أطور به ما سَمَرَ سمير» (109/8).

ص: 29

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشنفري:

هنالك لا أرجو حياة تسرني *** سمير الليالي مبسلاً بالجرائر

و لورود كلمة «وليصبر» في قوله عليه السلام:

«فمن أتاه الله مالاً ... فليصبر نفسه على الحقوق و النوائب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عنترة يذكر حرباً (74/9 -75):

فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلّع

و لورود كلمة «فوز» في قوله عليه السلام:

«فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مکارم الدنيا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول سلم بن ربيعة (74/4-75):

إن شواء و نشوة *** و خبب البازل الأمون

من لذة العيش و الفتى *** للدهر، و الدهر ذو شؤون

إذ لم يقل (إن الشواء و النشوة) كأنه جعل من الشواء شخصاً من جملة أشخاص، كما أن الإمام عليه السلام أراد بالفوز المنكور التعميم و ليس التخصيص.

و لورود كلمة «بواء» في قوله عليه السلام:

«فيكون الثواب جزاءً، و العقاب بواءً».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ليلى الأخيلية (84/9- 85):

فإن تكن القتلى بواءً فإنكم *** فتى ما قتلتم آل عون بن عامر

ص: 30

و لورود كلمة «ذمامة» في قوله عليه السلام و هو يجيب سائلاً:

«و لك بعد، ذمامة الصهر، و حق المسألة ..».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ذي الرمة (241/9-242):

تكن عوجة يجزيكها الله عنده *** بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب

و لورود كلمة «سيِّقه» في قوله عليه السلام يخاطب عثمان بن عفان:

«فلا تكونن لمروان سيِّقة يسوقك حيث شاء».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (262/9-263):

فما أنا إلا مثل سيقة العدى *** إن استقدمت نجرٌ و إن حبّات مقر

و لورود كلمة «داري» في قوله عليه السلام يصف ذنب الطاووس:

«كأنه قلع داريّ، عَنَجهُ نوتيُّه».

استشهد بقول الشاعر (269/9):

إذا التاجر الداري جاء بفأرة *** من المسك راحت في مفارقهم تجري

إذ إن الداري جالب العطر في البحرين من دارين، و هي فرضة في البحرين،

فيها سوق يحمل إليها المسك من الهند.

و لورود كلمة «زيفان» في قوله عليه السلام يصف الطاووس:

«يختال بألوانه، و يميس بزيفانه».

استشهد بقول عنترة (269/9):

ينباع من ذفری غضوب جرّه *** زيّافة مثل الفنيق المكدم

ص: 31

إذ إن الزيفان يعني التبختر.

و لورود كلمة «مداري» في قوله عليه السلام:

«تخال قصبه مداري من فضة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول النابغة يصف الثور و الكلاب (271/3):

شك الفريصة بالمدري فأنفذها *** شکُّ المبيطر إذ يشفي من العضد

و كذلك المدراة، و يقال المدري لشيء كالمسلة تُصلح بها الماشطة شعور النساء، قال الشاعر (272/9):

تهلك المدراة في أكتافه *** و إذا ما أرسلته يعتفر

و لورود كلمة «صيصية» في قوله عليه السلام:

«و قد نجمت من طنوب ساقه صيصية خفية».

استشهد ابن أبي الحديد بقول دريد بن الصمة (274/9):

فجئت إليه و الرماح تنوشه *** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

و لورود كلمة «عبدان» في قوله عليه السلام:

«قد ثارت معهم عبدانهم».

استشهد بقول الشاعر (292/9):

أنشب العبد إلى آبائه *** أسود الجلدة من قوم عُبُد

و العبدان بالكسر جمع عب۟د. و جاء أعبد و عباد و عبدّان، مشدودة الدال، و عبدا بالمد، و عبدی بالقصر، و معبوداء بالمد. و عُبُد بالضم.

ص: 32

و لورود كلمة «فياله» في قوله عليه السلام:

«فإنهم إن تحملوا على فياله هذا الرأي، انقطع نظام المسلمين» (295/9).

استشهد بقول الشاعر (297/9):

بني رب الجواد فلا تغيلوا *** فما أنتم لنعذركم لفيل

و كذلك قول الشاعر:

رأيتك يا أخيطل إذ جرينا *** و جربت الفراسة كنت فالا

و لورود كلمة «أحفها» في قوله عليه السلام:

«و ستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها بالسؤال و استخبرها الحال» (265/10).

عن إخواننا الأراقم يفلو *** ن علينا في قيلهم احفاء

و لورود كلمة «سبّابين» في قوله عليه السلام:

«إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد الرحمن بن حسان (21/11):

لا تسبّنني فلست بسبي *** إن سبّي من الرجال الكريم

و لورود كلمة «أتلعوا» في قوله عليه السلام:

«لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقعوا دونه» (123/11).

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشی (126/11):

يوم تبديلنا قتيلة عن جي *** دٍ تليع تزينه الأطواق

ص: 33

و لورود كلمة «عيُّوا» في قوله عليه السلام يذكر الموتی:

«فلو كانوا ينطقون بما لعيّوا بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا» (151/11).

عيّوا بأمرهم كما *** عيّت بيضتها الحمامه

جعلت لها عودين من *** نشم و آخر من تمامه

وروي «لَعيوا» بالتخفيف كما تقول «حيُوا». قالوا: ذهبت الياء الثانية الالتقاء الساكنين لأن الواو ساكنة، و ضمت الياء الأولى لأجل الواو، قال الشاعر:

و كنا حسبناهم فوارس کهمسٍ *** حيوا بعدما ماتوا من الدهر أعصرا

و لورود كلمة «اهدام» في قوله عليه السلام:

«و لبسنا أهدام البلي» (151/11).

استشهد ابن أبي الحديد بقول أوس (160/11):

و ذات هدمٍ عار نواشرها *** تصمت بالماء قولباً جذعا

و لورود كلمة «استكت» في قوله عليه السلام و هو يذكر الموتى أيضاً:

«و قد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت» (151/11).

استشهد ابن أبي الحديد بقول النابغة (162/11):

و نبئت خير الناس أنك لمتني *** و تلك التي تستك منها المسامع

و استکت: أي ضاقت

و لقول عمر بن الخطاب:

ص: 34

«و كانت قابية قوب عامها و الحج بهاء من بهاء الله».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الكميت (122/12):

لهن و للمشيب و من علاه *** من الأمثال قابية وقوب

و القابية قشرة البيضة إذا خرج منها الفرخ. و القوب: الفرخ.

و لورود كلمة «كذبت» في قول عمر بن الخطاب:

«كذبت عليكم الحج».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (128/12):

كذبت عليك و لا تزال تفوقني *** كم فاق آثار الوثيقة فائق

و قول البارقي:

و ذبيانية وصت بنيها *** بأن كذب القواطف و القروف

و لقوله عليه السلام: في الأمم الماضية ورود كلمة (اعنقوا):

«حتى أعنقوا في حنادس جهالته».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن النجم العجلي (148/13)

يا ناق سیري عنقاً فسيحا *** إلى سليمان فتستريحا

و لورود كلمة «أقزام» في شأن الحكمين و ذم أهل الشام في قوله عليه السلام:

«جفاة طغام، عبيد أقزام».

و قد روي (قزام).

ص: 35

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (310/13):

أحصنوا أمهم من عبدهم *** تلك أفعال القزام الوكعة

و لورود كلمة «آذربيجان» في كتاب له عليه السلام إلى الأشعث بن قیس عامله علیها:

استشهد ابن أبي الحديد بقول حبیب (33/14):

و اذریجان احتيال بعدما *** كانت معرّس عبرة و نكال

و قول الشماخ:

تذكرتها وهناً و قد حال دونها *** قرى اذربيجان المالح و الجال

و لأن العرب تسمي الطواعين رماح الجن.

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (250/15):

لعمرك ما حشيت على أبيٍ *** رماح بني مقيدة الحمار

ولكني خشيت على أبيٌ *** رماح الجن أو إياك حار

و قول العماني الراجز:

قد رفع الله رماح الجن *** و أذهب التعذيب و التجني

و لورود كلمة «رحلت» في قوله عليه السلام من كتاب له إلى أهل البصرة:

«فها أنذا قد قربت جيادي، و رحلت رکابي».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشى (4/16):

رحلت سمية غدوة أجمالها *** غضبي عليك فما تقول بدالها

ص: 36

و رحلت بمعنى: شددت على ظهورها.

و لورود كلمة «رهينة» في قوله عليه السلام:

«و رهينة الأيام».

استشهد بقول الشاعر:

أما ترى جسمي خلاء قد رهن *** هزلاً و ما مجد الرجال في السِّمن

و لورود كلمة «الموت» في قوله عليه السلام:

«و أسير الموت، و حليف الهموم، و قرين الأحزان، و نصب الآفات، و سريع الشهوات».

استشهد بقول طرفة (54/16):

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى *** لكا لطول المرضى و ثنياه باليد

و لورود كلمة «كذب» في قوله عليه السلام:

«و صدق لا يشوبه کذب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير (61/16):

ليث بعثرة يصطاد الليوث إذا *** ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

و لورود كلمة «أهجر» في قوله عليه السلام:

«من أكثر أهجر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشماخ (99/16):

كما جدة الأعراق قال ابن جدةٍ *** عليها كلاماً جار فيه و أهجرا

ص: 37

أهجر الرجل: إذا أفحش في المنطق.

و لورود كلمتي «كلا و لا» في قوله عليه السلام:

«فاقتتلوا کلا و لا».

أي شيئا قليلاً، و المعروف عند أهل اللغة «كلا و ذا» قال ابن هاني المغربي (149/16):

و أسرع في العين من لحظةٍ *** و أقصر السمع من لا و ذا

و لورود كلمة «مَقٍرة» في قوله عليه السلام:

«و لهي في عيني أهون من عفصة مَقِرة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول لبيد (207/16):

ممقر مرَّ على أعدائه *** و على الأدنين حلو كالعسل

و لورود كلمة «مظانها» في قوله عليه السلام:

«مظانها في غد جدث».

استشهد ابن أبي الحديد في قوله عليه السلام:

فإن يك عامر قد قال جهلاً *** فإن مظِنّة الجهل الشباب

فالمظنان جمع مظنة، و هو موضع الشيء و مألفة الذي يكون فيه.

و لقوله عليه السلام:

«الذراع من العضد».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الراجز (290/16):

ص: 38

یا بکر بکرین و یا خلب الكبد *** أصبحت مني كذراع من عَضُد

و لورود كلمة «إن» في قوله عليه السلام:

«لقد آن لك أن تنتفع باللمع الباجر من عيان الأمور». استشهد بقول الشاعر (23/18):

ألم يأن لي أن تُجلَ عني عمايتي *** و أقصر عن ليلين بلى قد أن ليا

إذ آن و أنى لك بمعنى.

و لورود كلمة «خجوج» في قوله عليه السلام:

«إن الله أوصى إلى إبراهيم عليه السلام أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق بذلك ذرعاً، فأرسل الله إليه السكينة، و هي ريح خجوج، فتطوقت حول البيت کالحجفة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن احمر (130/19):

هو جاء رعبلة الرواج خجو *** جاة الغُدوّ رواحها شهر

و لورود كلمتي «كذبت» «ولقت» في قوله عليه السلام:

«كذبت و الله وَوَلَق۟ت».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (126/19):

الخلابة العينين كذابة المني *** و هي من الأحلاف و الولعان

و لورود كلمة «مبلح» في قوله عليه السلام:

«إن من ورائكم أموراً، متماحلة ردحاً، و بلاء مکلماً مبلّحا».

ص: 39

استشهد بقول الأعشی (127/19):

و إذا حمل عبئاً بعضهم *** و اشتكى الأوصال منه و بلح

و لقوله عليه السلام:

«و السرائر مبلوّة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأحوص (207/19):

ستبلى لها في مضمر القلب و الحشا *** سريرة حب يوم تبلى السرائر

و لورود كلمة «رز» في قوله عليه السلام:

«و من وجد في بطنه رزاً فلينصرف و ليتوضأ».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الراجز (128/19):

كان في ربابة الكبار *** رزَّ عشار جلن في عشار

والرز: يعني الصوت في البطن من القرقرة.

و لورود كلمة «مودون» في قوله عليه السلام في ذي الثدي المقتول في النهروان:

«مودون اليد».

استشهد ابن أبي الحديد بقول حسان يذم رجلاً (129/19):

و أمك سوداء مودونة *** كأن أناملها الحُنظُب

المودون اليد: القصيرها.

و لورود كلمة «عذراتكم» في قوله عليه السلام:

ص: 40

«ما لكم لا تنظفون عذراتكم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحطيأة (130/19):

العمري لقد جربتكم فوجدتكم *** قباح الوجوه سيئي العذرات

ولورود كلمة «أصعل» في قوله عليه السلام :

(استكثروا الطواف في هذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعداً عليها وهي تُهدم).

استشهد ابن أبي الحديد بقول عنترة يصف ظليمة (120/19):

صعلٌ يلوذ بذي العشيرة بيضه *** كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم

وكلام العرب «صعل» وهو الصغير الرأس.

ولورود كلمة «قِهز» في قوله عليه السلام:

استشهد ابن أبي الحديد بقول ذي الرمة يصف البزاة البيض (122/19):

من الوُرق أو صقع كأن رؤوسها *** من القِهز والقوهي بيض المقانع

والقِهز بكسر القاف: ثياب بيض يخالطها حرير.

ولقوله عليه السلام:

«طبيب دوّار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمی مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي و آذان صم و أسنة بكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الخير» (183/7).

استشهد بقول البحتري باعتباره من التقسيمات الفاسدة (185/7):

ص: 41

ذاك وادي الآراك فاحبس قليلاً *** مقصرة في ملاة أو مطیلا

قف مشوقاً أو مسعداً أو حزيناً *** أو معيناً، أو عاذراً، أو عذولا

إذ يرى ابن أبي الحديد أن التقسيم في البيت الأول صحيح، وفي الثاني يكون غير صحيح، لأن المشوق يموت حزيناً، والمسعد يكون معيناً. فكذلك يكون عاذراً، ويكون مشوقاً ويكون حزيناً.

وقول المتنبي (185/7):

فافخر فإن الناس فيك ثلاثة *** مستعظم أو حاسد أو جاهل

فإن المستعظم يكون حاسداً، والحاسد يكن مستعظماً، كما يقول ابن أبي الحديد.

وقول عبد الله بن همام السلولي (185/7):

و أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً *** فخنت، وأما قلت قولاً بلا علم

فأنت من الأمر الذي قد أتيته *** بمنزلة بين الخيانة والإثم

إذ يقول ابن أبي الحديد: إن الخيانة أخص من الإثم، والإثم شامل لأنه أعم منها، فقد دخل أحد القسمين في الآخر.

وقول البحتري - الذي أجاد في هذا المعنى (186/7):

غادرتهم أيدي المنية صبحا *** للقنا بین رکّع و سجود

فهم فرقتان بين قتيل *** قبضت نفسه بحدٍ الحديد

أو أسير غدا له السجن لحداً *** فهو حيِّ في حالة الملحود

ص: 42

فرقة للسيوف ينفذ فيها ال *** حكم قسراً أو فرقة للقيود

و قول أبي تمام إذ صحّح القسمة (186/7):

جمعت لنا فرق الأماني فيكم *** يا برّ من روح الحياة و أوصلِ

کالمزن من ماضي الشباب و مقبل *** متنظرٍ و مخيمٍ متمهّل

فصنيعة في يومها وصنيعة *** قد أحولت، وصنيعة لم تحولٍ

ص: 43

ص: 44

النحو

اشارة

ص: 45

ص: 46

يتناول الأمور الآتية :

- منع صفين من الصرف

- شتان

- فتح وكسر اللام

- جزاء الشرط

- تعدية اللازم

- تقدير ذو

- تقدير فعل

- تشكيل اعتراضي

- جمع نوء

- أوه

- حذف إن

- تقديم الجار والمجرور على الحال

- بينات بينما

- خبر المبتدأ المحذوف

- وظيفة (من)

- تعدية (صبر)

- الفعل المقدر

- تکرار (بين)

- إياك

- تبادل الحروف

ص: 47

صفین

ممنوع من الصرف للتأنيث والتذكير (132/1).

كقول الحميري:

إني أدين بما دان الوصي به *** يوم الخريبة من قتل المُحلِّينا

وبالذي دان يوم النهر دنت به *** وشارکت کفه کفي بصفينا

تلك الدماء معا يا رب في عنقي *** ثم اسقني مثلها آمين أمينا

وضع اللام موضع (على) (162/1) :

قال عليه السلام :

«حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده».

استشهد ابن أبي الحديد بقول جابر بن متى التخبلي:

تناوله بالرمح ثم أنثنى له *** فخر صريعاً لليدين وللفم

على أن اللام تأتي بمعنى (على) و تقدير قوله عليه السلام «مضى على سبيله».

ص: 48

شتان

و تمثل الإمام عليه السلام ببيت أعشى قيس في قوله الآنف ذكره:

شتان ما يومي على كورها *** و يوم حيان أخي جابر

و هو من القصيدة التي قالها في مفاخرة علقمة بن علاقة و عامر بن الطفيل و أولها:

علقم ما أنت إلى عامر *** النافر الأوتار و الواتر

يقول فيها:

و قد أسلّي الهم إذ يعتري *** بحسرةٍ دوسرةٍ عاقر

زيافة بالرحل خطارة *** تُلوي بشرخي ميسة فاتر

شتان ما يومي على كورها *** و يوم حيان أخي جابر

أرمي بها البيداء إذ هجّرت *** و أنت بين القرو و العاصر

في مجدل شيد بنيانه *** يزل عنه ظفر الطائر

و قال ابن أبي الحديد (167/1):

تقول: شتان ماهما، وشتان هما. و لا يجوز: شتان ما بينهما، إلا على قول ضعيف. و شتان أصله: يشتت، کوشکا ذا خروجاً من و شك.

و استشهد بمجيء شتان بخلاف القاعدة بقول البعيث (168/1): الشتان ما بيني و بين ابن خالد *** أمية في الرزق الذي الله

يقارع أتراك ابن خاقان ليله *** إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم

ص: 49

و آخذها حمراء كالمسك ريحها *** لها أرج من دونها يُتسّم

إذ جاء هنا: (شتان ما بيني و بين ابن خالد) خلاف القاعدة.

فتح و كسر اللام

و لقوله عليه السلام:

«حتى إذا مضى لسبیله، جعلها في ستة زعم أني أحدهم! فيا لله و للشوری! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى أقرن إلى هذه النظائره».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبد الله بن مسلم بن جندب (184/1): يا للرجال ليوم الأربعاء و ما *** ينفك يحدث لي بعد النهى طربا

على أن اللام في «يا لَله» مفتوحة، واللام في «و لِلشوری» مکسورة؛ لأن الأولى للمدعو و الثانية للمدعو إليه.

جزاء الشرط

و لقوله عليه السلام:

«و صلوا السيوف بالخطی».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (170/5):

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

على أنهم قالوا بكسر (نضارب) لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط

الذي هو (إذا). و فيه محاكاة للخطى أيضاً.

ص: 50

وضع (عن) موضع (بعد)

و لقوله عليه السلام:

«جعل لكم أسماعاً لتعي ما عناها، وأبصاراً لتجلو عن عشاها» . استشهد ابن أبي الحديد بقول الحارث بن عباد (258/6):

قرِّبا مربط النعامة عني *** لفحت حرب وائل عن حيالي

أي بعد حيالي، فيكون قد حذف المفعول، و حذفه جائز، لأنه فضله؛ و يكون التقدير: التجلو الأذى بعد عشاها.

تعدية اللازم

و لقوله عليه السلام:

«لا يسبقك من طلبت، و لا يفلتك من أخذت» (194/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول کعب بن سعد الغنوي (198/7):

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

و قول الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست محصية *** رب العباد إليه الوجه و العمل

فقد عدّى عليه السلام فعل (يفلت) و هو فعل لازم بتقدير (لا يفلت منك) و الشاهد في البيتين: (يستجبه) أي يستجيب له. و (أستغفر الله ذنباً) أي: من الذنب (197/7-198)

ص: 51

تقدیر ذو

و لقوله عليه السلام:

«أنت لابد فلا أمد لك» (194/7).

استشهد ابن أبي الحديد بقول علقمة (199/7):

تراد على دمن الحياض فإن تعف *** فإن المندّى رحلةُ فركوب

و قال عنه ابن أبي الحديد:

إن له في العربية محملين؛ أحدهما أن المراد به (أن ذو لابد) كما قالوا: رجل خال، أي رجل ذو خال. والخال: الخيلاء. و رجل داء: أي به داء. و رجل مال، أي ذو مال.

و المحمل الثاني، أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان عن وجوده سبحانه ، جعله عليه السلام كأنه أحدهما بعينه، كقولهم : أنت الطلاق، لما أراد المبالغة في البينونة. جعلها كأنها الطلاق نفسه.

تقدیر فعل

و لقوله عليه السلام: بحق الدنيا:

«أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب و احلولى، أمر منها جانب فأوبی».

استشهد بقول الشاعر (226/7-230):

ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ *** إذا اخضر منها جانب جف جانب

ص: 52

فلا تكتحل عيناك منها بعبرةٍ *** على ذاهب منها فإنك ذاهب

و قال ابن أبي الحديد عن جانب المرفوع بعد (إن) لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر، أي: و إن أعذوذب جانب منها لأن (إن) تقتضي الفعل و تطلبه فهي ك (إذا) في قوله تعالی:

«إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّت».

(و هذا ما لا أوافقه عليه - أنا علي الفتال - لأن التقدير هنا لا موجب له في قوله عليه السلام و في قوله تعالى؛ ففي قوله عليه السلام (جانب) و هو فاعل قد سبق فعله (اعذوذب). وكذلك فعل الآية تأخر عن فاعله، فالأصل: (و إن اعذوذب و احلولی جانب).

(و إذا انشقت السماء) فلا تقدير و لا تخريج.

تشكيل اعتراضي

و لقوله عليه السلام:

«ألا وفي غد - و سيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساويء أعمالها». .

استشهد ابن أبي الحديد بمجموعة من أقوال الشعراء قد تضمنت تشکیلات اعتراضية، التي يسميها النحاة "جملة اعتراضية". وأنا - علي الفتال - أسميها "تشکیل اعتراضي" لأن ما يسمى هنا ب "الجملة" لا تتوافر في أغلبه شروط الجملة، بل هو تشکیل اعتراضي، يعترض سياق الكلام - لتوضيح المراد

ص: 53

و تأكيده، و أحياناً شموليته .

و من هذه الأشعار التي استشهد بها ابن أبي الحديد:

قول جریر (43/9):

و لقد أراني - و الجديد إلى البلى- *** في موكب بيض الوجوه کرام

فقوله "و الجديد إلى البلى" اعتراض و المراد تعزیته عما مضى من تلك اللذات.

و قول كثير (43/9):

لو أن الباحثين – وأنت منهم- *** رأوك تعلموا منك المطالا

فقوله "و أنت منهم" اعتراض؛ و فائدته أن لا تظن أنها ليست باطلة. و قول أسوار بن مضرب السعدي (44/9):

فلو سألت سراة الحي سلمى *** - على أن قد تلون بي زماني -

لخبرها ذوو أحساب قومي *** و أعدائي فكل قد بلاني

بذبّي الذم عن حسبي و مالي *** و زبّونات أشوس تيّماني

و إني لا أزال أخا حروب *** إذا لم أجن كنت مجنّ جان

فقوله "على أن قد تلون بي زماني" اعتراض، و فائدته الإخبار عن الألسن قد أخذت منه و تغیّرت بطول العمر أوصافه.

و قول أبي تمام (44/9):

و إن الغنى لي أن لحظت مطابي *** من الشعر -إلا في مديحك- أطوع

ص: 54

فالاعتراض فيه قوله : "ألا في مديحك" هذا ما ذهب إليه ابن أبي الحديد، و أضاف :«و لیس قوله "إن لحظت مطالبي" اعتراضاً كما زعم ابن الأثير الموصلي الأن فائدة البيت معلقة عليه، لأنه لا يريد أن الغني لي على كل حال أطوع من الشعر.. و مراده أن الغني لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي؛ ألا في مديحك، فإن الشعر، في مديحك أطوع لي منه. و إذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضاً».

(و إنني - علي الفتال - أرى أن لا اعتراض في بيت أبي تمام سوى "ألا في مديحك" بخلاف ما يرى ابن الأثير الموصلي.

أما عبارة "إن لحظت مطالبي من الشعر" فقد تقدمت على خبر «إن» «أطوع» و إن جملة البيت - لولا الوزن - هي:

«و إن مديحك لي أطوع - في مديحك - إن لحظت مطالبي من الشعر».

بخلاف ما يرى ابن أبي الحديد، وإن كان كلامه قريباً من هذا).

وكذلك وهم ابن الأثير - كما يقول ابن أبي الحديد - في قول امريء القيس (45/9):

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

فقال ابن الأثير : إن قوله "و لم أطلب" اعتراض، و ليس بصحيح، لأن فائدة البيت مرتبطة به، و تقديره: لو سعيت لأن آكل و أشرب لكفاني القليل، و لم

ص: 55

أطلب الملك. فكيف يكون قوله "و لم أطلب الملك" اعتراضاً، و من شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين و تكملة، و ليس فائدة أصلية! انتهى قول ابن أبي الحديد.

(في رأيي - أنا على الفتال - أن "و لم أطلب" جملة في رأسها توكد قوله "فلو أن ما أسعى لأدنی معيشة" و لم تكن اعتراضية بمعنى الاعتراض كما ذهب إليه ابن الأثير، و لا هي تقديرية كما ذهب ابن أبي الحديد. بل هي جملة أخرى مضافة إلى الجملة الأولى لغرض التأكيد).

و قال ابن أبي الحديد، و قد يأتي الاعتراض و لا فائدة فيه، و هو غير

مستحسن، نحو قول النابغة (45/9):

يقول رجال يجهلون خليقتي *** لعل زياداً - لا أبا لك - غافل

فقوله "لا أبا لك" اعتراض لا معنى له هاهنا..

و مثله قول زهير:

سئمت تكاليف الحياة و من يعش *** ثمانين حولاً - لا أبا لك - يسأم

فإن جاءت "لا أبا لك" تعطي معنى يليق بالموضوع فهي اعتراض جيد، نحو قول أبي تمام (45/9):

«عتابك عني - لا أبا لك و اقصدي».

فإنه أراد زجرها و ذمها لما أسرفت في عتابه.

و قد يأتي الاعتراض على غاية من القبح و الاستهجان، و هو على سبيل

ص: 56

التقديم و التأخير كقول الشاعر (46/9):

فقد - و الشك - بين لي عناء *** بوشك فراقهم صُرَدٌ فصبح

أبا

و لقوله عليه السلام:

«لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم، و الجهاد على حقکم» (67/10).

استشهد ابن أبي الحديد بقول نهار بن توسعة اليشكري (68/10):

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

و قول الشاعر:

إن أباها و أبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها

يقول ابن أبي الحديد: إن الأفصح "لا أب" بحذف الألف، و قد خرجها أبو

البقاء بقوله: يجوز فيها وجهان آخران؛ أحدهما أنه أشبع فتحة الباء فنشأت الألف و الاسم باقٍ على تنكيره، و الثاني أن يكون استعمل "أبا" على لغة من قالها "أبا" في جميع أحوالها مثل "عصا".

جمع نوء

و لقوله عليه السلام:

«و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء .

استشهد ابن أبي الحديد بقول حسان بن ثابت (86/10-88):

ص: 57

و يثرب تعلم أنّا بها *** إذا قحط القطر نوآنها

باعتبار أن جمع نوع أنواء و يأتي نوآن مثل بطن وبطنان وعبد وعبدان.

أین

و لقوله عليه السلام:

«و لا ينظر بعين، ولا يُحدُّ بأين».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر :

ليت شعري وأين منِّيَ ليتُ *** إن لله ليتاً لله و إن لله لوّاً لله

باعتبار أن أين في الأصل مبنية على الفتح فإذا نكَّرتَها صارت اسماً متمكناً.

أوه

و لقوله عليه السلام :

«أوه على إخواني الذين قرؤوا القرآن فأحكموه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (110/10):

فأوهٍ لذكراها إذا ما ذكرتها *** و من بعد أرض دونها وسماء

إنهم ربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: آهٍ من كذا، آهٍ على كذا.

و ربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أو من كذا. بلا قد. و قد يقولون: آوّه: بالمد و التشديد و فتح الألف و سكون الهاء. لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدّونه، و تارة لا يمدونه، فيقولون: "أويّاه".

ص: 58

و قد أوّه الرجل تأويها، و تأوه تأوها، إذا قال : "أوه" و الاسم منه الآهة

بالمد.

قال المنقب العبدي:

إذا ما قمت أرحلها بليل *** تأوه آهة الرجل الحزين

حذف إن

و لقوله عليه السلام:

(أملكوا عني هذا الغلام لا يهدّني؛ فإنني أنفس بهذين، يعني الحسن و الحسين عليه السلام، على الموت).

استشهد ابن أبي الحديد بقول طرفة (25/11-26):

ألا أيها الزاجري احذر الوغى *** و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

و أصله "لئلا يهدني" فحذف كما حذف طرفة.

تقديم الجار و المجرور على الحال

و لقوله عليه السلام:

«وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه، و توسعاً بما هو من

المزيد أهله»

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (88/11-91):

لأن كان برد الماء حران صاديا *** إليَّ حبيباً إنها لحبيب

ص: 59

أي : بما هو أهله من المزيد، فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال، و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه كقول الشاعر أيضاً.

و لقوله تعالى:

{.. يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوُ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَ لا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ }.

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (178/12):

ليبك يزيد صارع لخصومة *** و مختبط مما تطيح الطوائح

إن من قرأ «يسبح له فيها» بفتح الباء ارتفع "رجال" بوجهين:

أحدهما: أن يضمر له فعل يكون هو فاعله، تقديره "يسبحه رجال" و دل على (يسبحه) يسبّح كقول الشاعر "ليبك" أي: يبكيه. ضارع و دل على "يبكيه" و "يبك".

و الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره المسبحون رجال .

و من قرأ: «یسبح له فيه» بكسر الباء ف "رجال" فاعل.

و القراءة الأخيرة -عندي أنا علي الفتال- هي الصحيحة اذا ابتعدنا عن

تمحلات النحاة في تقديراتهم و تخريجاتهم التي لا موجب لها.

بينا = بينما

و لقوله عليه السلام:

(و إن أهل الدنيا کرکب بینا هم حلوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا).

ص: 60

استشهد ابن أبي الحديد بقول ثلاثة شعراء (52/20-53):

الأول لأبي ذؤيب:

بينا تعنِّفه الكماة وروغه *** يوماً أتيح له جريءٌ سلفع

و الثاني لأحدهم:

بينما الناس على عليائها *** إذ هووا في هونةٍ منها ففاروا

و الثالث للحرقة بنت النعمان بن المنذر:

بينا نسوس الناس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقة نتصف

و قال ابن أبي الحديد: و بينا هي بين نفسها. ووزنها "فعلى" أشبعت فتحة النون فصارت ألفاً. ثم قالوا "بينا" فزادوا "ما" و المعنى واحد. و كان الأصمعي يخفظ بعد "بينا" إذا صلح في موضعه "بين" و ينشد بيت أبي ذؤيب (الأول) بالكسر، و غيره يرفع ما بعد "بينما" و بينا، على الابتداء و الخير.

فأما "إذ" و"إذا" فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئها بعد بينا و بينما، و منهم من يجيزه، و عليه جاء كلام أمير المؤمنين، و أنشدوا القول الثاني: "بينما الناس.." و القول الثالث "وبينا نسوس..".

الا حر

الا حرُّ

و لقوله عليه السلام:

«ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها؟ إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا مها.

ص: 61

باعتبار أن "ألا حر" مبتدأ و خبره محذوف، أي: في الوجود.

(و عندي - أنا علي الفتال - أن همزة "ألا" استفهامية و "لا" على وظيفتها، و "حر" مبتدأ و خبره عبارة «يدع هذه اللماظة لأهلها». فلا حذف و لا تقدیر)

من

و لقوله عليه السلام:

«و الاعتذار منها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (171/1):

أمن رسم دار مُربَع ومصيف *** لعينيك من ماء الشؤون وكيف

على أن "من" يمكن أن تكون على أصلها، يعني أن عمراً كان كثيراً ما يحكم بالأمر ثم ينقضه، و يفتي الفتيا ثم يرجع عنها، و يعتذر من أفتى به أولاً. و يمكن أن تكون "من" هاهنا للتعليل و السببية. أي: و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم، و حركاتهم لأجلها، أي: لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار و كف دمع عينيك.

أصبر

و لقوله عليه السلام:

«فاستدركوا بقية أيامكم، و اصبروا لها أنفسكم».

ص: 62

استشهد ابن أبي الحديد بقول عنترة (354/6):

فصبرت عارفة لذلک حرةٌ *** ترسو إذا نفس الجبان تطلَّعُ

على أن "اصبر" يتعدى فينصب.

الفعل المقدر

و لقوله عليه السلام:

«و سينتقم الله ممن ظلم، فأكلاً بمأكل، و مشرباً بمشرب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي تمام:

فبما قد أراه دیَّان مکسوَّ *** المعاني من كل حسن وطيب

باعتبار أن مأكلاً منصوب بفعل مقدر، أي: يأكلون مأكلاً.

بین

و لقوله عليه السلام:

«بين ناقة وبين فصيلها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (156/15):

بين السحاب و بين الريح ملحمة *** قعاقع وظبي في الجو تخترط

و قول آخر:

بين النديِّ وبين برقة صاحك *** غيث الضريك وفارس مقدام

و من شعر الحماسة و هو للمقنع الكندي:

ص: 63

و إن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني أمي لمختلف جدا

باعتبار أن الأفصح حذف الثانية، لأن الاسمين ظاهرين، وإنما تکرارها إذا جاءت بعد المضمر.

إیاک

و لقوله عليه السلام:

«ثم وإياكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها».

إذ سبق "تهزيع" واو، و هو الأكثر. فيما جاء بلا واو في البيت الآتي، فقد جاء "المراء" بلا واو (29/10):

إياك إياك المراء فإنه *** إلى الشر دعّاءٌ وللشر جالب

تبادل الحروف

و لقوله عليه السلام:

«يعتصم إليها».

أي: بها، فأناب "إلى" مناب الباء.

و استشهد ابن أبي الحديد بقول طرفة:

و إن يلتقي الحي الجميع تلاقني *** إلى ذروة البيت الرفيع المصّدِ

ص: 64

البلاغة

اشارة

البلاغة

وتشتمل على:

لزوم ما لا يلزم

الاقتباس

التشبيه

الاستعارة

الطباق والمقابلة

التخلص والاستطراد

الجناس

الكناية

ص: 65

ص: 66

لزوم ما لا يلزم

و لقوله عليه السلام:

«و استعينه فاقة في كفايته .. فإنه أرجح ما وزن وأفضل ما خزن».

استشهد بقول الشاعر (132/1-135):

إن التي زعمت فؤادك ملها *** خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها *** بلباقة فأدقها و أجلّها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي *** ما كان أكثرها لنا و أقلها

و إذا وجدت لها وساوس سلوة *** شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها

باعتباره عليه السلام لزم الزاي في "وزن وحزن " من الباب المسمى "لزوم ما لا يلزم" و هو أحد أنواع البديع. و ذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفاً واحداً؛ وهذا في المنثور. أما في المنظوم فأن تتساوى الحروف قبل الروي مع كونها ليست بواجبة التساوي. کالأبيات التي مر ذكرها. في حين أن لزوم الباء في قول الراجز:

ص: 67

و فيشةُ ليست کهذي الفِيشِ *** قد مُلِئَت من نزقٍ وطيشِ

إذا بدت قلت أمير الجيشِ *** من ذاقها يعرف طعم العيشِ

قبل حرف الراوي ليس من هذا الباب، لأنه لزوم واجب، ألا ترى أنه لوقال في هذا الرجز: البطش و الفرش و العرش لم يجز. لأن الردف لا يجوز أن يكون حرفاً خارجاً عن حروف العلة.

و قد صنع أبو العلاء كتاباً في اللزوم من نظمه، فأتي فيه بالجيد و الرديء و أكثره متكلف، و من جيد قوله:

لا تطلبن بآلة لك حالة *** قلم البليغ بغير حظٍ مغزل

سكن السما كان السماء كلاهما *** هذا له رمح وهذا أعزل

ص: 68

الاقتباس

لقوله عليه السلام :

«لكني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا فصغا رجلٌ منهم لضغنه، و مال الآخر لصهره، مع هن وهن».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (184/1):

أرى ابن نزار قد جفاني وملّني *** على هنوات شرها متتابع

لورود (هن وهن) في كلامه عليه السلام.

و لقوله عليه السلام:

«اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، و اتخذهم له أشراكاً .. فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم» أي صار الاثنان کالواحد.

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (228/1-229):

ما الخل إلا من أود بقلبه *** وأری بطرف لا يرى بسوائه

ص: 69

و قول الآخر:

کنا مع المساعده *** فیاً بروح واحدة

و قول الآخر:

جبلت نفسك من نفسٍ كما *** تجبل الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسّك شيء مسّني *** فإذا أنت أنا في كل حال

ص: 70

رأی

قال ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام:

«اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً. واتخذهم له أشراكاً».

"يجوز أن يكون أشراكاً جمع شريك؛ کشریف وأشراف، و يجوز أن يكون

جمع شَرَك كجبل و أجبال».

و يرى على الفتّال: "إن الشَرَك هو الذي أراده الإمام عليه السلام لأن الشيطان يجعل من مريديه أشراكاً لتوريط الآخرين، و لاصطيادهم في طريق الشر والمعصية".

و لقوله عليه السلام:

«و قد أرعدوا و أبرقوا ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، و لا نسيل حتى نمطر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الكميت (237/1):

أرعد و أبرق يا بريد *** فما وعيدك لي بضائر

ص: 71

و لقوله عليه السلام، عن الدنيا:

«فلم يبق منها سحلة كسحلة الأداة، أو جرعة كجرعة المقلة لو تحزّزها الصديان لم ينقع».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (332/3-333):

قذفوا سيدهم في ورطة *** قذفك المقلة وسط المعترك

و المقلة بفتح الميم و تسكين القاف: حصاة القَسَم التي تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم؛ و ذلك عند قلة الماء في المفاوز.

ص: 72

الاقتباس

و لقوله عليه السلام:

«المقدور على أهلها الزوال».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (333/3):

و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر *** في الصحف الأولى الذي كان سطر

لاقتباس كلمة "المقدور".

و لقوله عليه السلام، في استبطاء أصحابه إذنه لهم بالقتال:

«فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، و تعشو إلى ضوئي».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحطيأة (12/4):

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خير موقد

الاقتباس كلمة "تعشو" من قوله عليه السلام.

و لقوله عليه السلام، و هو يكلم الخوارج:

ص: 73

«أصابكم حاصب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول تميم بن أبي مقيل، و هو من دهاة العرب (130/4):

فإذا خلت من أهلها وقطينها *** فأصابها الحصباء و السّقانُ

و الحاصب: الريح الشديد التي تثير الحصباء، و هو صغار الحصى؛ و يقال لها، أيضاً حصبة. قال لبيب:

صبرت عليها إذ خوت من أهلها *** أذيالها كل مصوف حصبه

و لقوله عليه السلام: / لما خُوِّف من الفيلة:

«و إن عليَّ من الله جُنَّة حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عني و أسلمتني؛ فحينئذٍ لا يطيش السهم و لا يبرأ الكلم».

استشهد ابن أبي الحديد بالشعر المنسوب إلى الإمام عليه السلام في قوله (132/5):

من أي يومیَّ من الموت أفر *** أيومَ لم يُقدَر أو يوم قُدِر؟

فيوم لا يقدر لا أرهبه *** و يوم قد قُدِّر لا يُعني الحذر

إذ يعني "الجنة" هاهنا الأجل فاقتبس معناها.

و بقول صاحب الزنج:

و إذا تنازعني أقول لها قَرِي *** موت يريحك أو صعود المنبر

ما قد قضي سيكون فاصطبري له *** و لكِ الأمان من الذي لم يقدر

ص: 74

و مثله:

قد علم المستأخرون في الوهل *** إن الفرار لا يزيد في الأجل

و الأصل في هذا كله مقتبس من قوله تعالی:

«وَ مَا كَانَ لِنَفسٍ أَن تَمُوتَ إِلاّ بِإِذنِ اللهِ كِتَاباً مُؤجَلاً».

و لقوله عليه السلام، لأصحابه في بعض أيام صفين:

«و الحظوا الخَزَر، و اطعنوا الشزر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (170/5-171):

إذا تخازرت و ما بي من خزر *** ثم كسرت العين ما بي من عور

الفيتني ألوي بعيد المستمر *** أحمل ما حُمّلت من خير و شر

إذ اقتبس "الخزر" من قوله عليه السلام.

(و أحسب أن إسکان زاء "حزر" أصح من تحريكها، و إن الراجز جاء بها محرّكة لضرورة شعرية. ع. ف).

و لقوله عليه السلام:

«واطعنوا الشزر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول المنخل اليشكري:

يطوف بي عكبٌ في معدّ *** و يطعن بالصحلة في قفيّا

للتدليل على أن عين "طعنوا " مضمومة، يقال: طعُنت بالرمح. و طعُن بالضم، وطعنت نسبة إلى طعن بالفتح، أي قدحت.

ص: 75

و لقوله عليه السلام:

«وصلوا السيوف بالخط».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

و قول الآخر:

تصل السيوف إذا قصرت بخطونا *** يوما وتلحقها إذا لم تلحق

و يقول النابغة بن لحارث بن کعب:

إن تسألي عنا سميّ فإنه *** يسم إلى قمم العلا أونانا

وتبيت جارتنا حصاناً عفة *** ترضى ويأخذ حقه مولانا

و تقوم إن طرق المنون بسُحرةٍ *** لوصاة والدنا الذي أوصانا

أن لا نفر إذا لكتيبة أقبلت *** حتى تدور رحاهم ورحانا

و تعيش في أحلامنا أشياخنا *** مرداً وما وصل الوجوه لحانا

و إذا السيوف قصرن طولها لنا *** حتى تناول ما نريد خطانا

و بقول حميد بن ثور الهلالي:

إلى أن نزلنا بالفضاء و ما لنا *** به معقل إلا الرماح الشواجر

و وصل الخطا بالسيف والسيف بالخطا *** إذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر

و يقول أبي سعيد المخزومي:

رب نار رفعتها ودجى اللي *** ل على الأرض مسبل الطيلسان

ص: 76

و أمون نحرتها لضيوف *** وألوف نفذتهن لجاني

وحروب شهدتها جامع القل *** ب فلم تنكر الكماة مكاني

و إذا ما الحسام كان قصيراً *** طولته إلى العدو بناني

و قول أحدهم يمدح صخر بن عمر بن شريد الأسلمي:

ان ابن عمرو بن الشريد *** له فخار لا يرام

وحجأ إذا عدم الحجا *** وندى إذا بخل الغمام

يصل الحسام بخطوه *** في الروع إن قصر الحسام

و قول الراجز:

يخطو إذا ما قصر العضب الذكر *** خطواً ترى منه المنايا تبتدر

و قول السمؤال:

و إنا لقوم ما نرى القتل سبة *** إذا ما رأته عامر وسلول

يقصر ذكر الموت آجالنا لنا *** وتكرهه آجالهم فتطول

و قول الآخر:

و إن قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا إلى أعدائنا فتطول

و قول وداك بن شميل المازني:

مقاديم وصالون في الروع وصلهم *** بكل رقيق الشفرتين يماني

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم *** لأية حرب أم بأي مكان

و قول آخر:

ص: 77

إذا الكماة تنحوا أن يصبهم *** حد السيوف وصلنا ما بأيدينا

و قول آخر:

وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا *** على الهول حتى مكنتنا المضارب

و قول الراجز:

الطاعنون في النحور والكلى *** والواصلون للسيوف بالخطا

و قول النابغة:

فبت كأني ساورتني ضئيلة *** من الرقش عن أنيابها السم ناقعُ

استشهد بهذا اليت لقول أم سلمة:

«لنهشت به نهش الرقشاء المطرقه».

و هي تخاطب عائشة لتلزم بيتها و لا تخرج إلى البصرة مطالبة بدم عثمان (224/6)

و لورود كلمة (المطرقة) في قول أم سلمة الآنف ذكره باعتبار أن الأفعی يوصف بالإطراق (224/6).

استشهد بقول الشاعر:

أصم اعمي ما يجيب الرقي *** من طول إطراق وإسبات

و لقوله عليه السلام:

«ما أصف من دار أولها عناء و آخرها فنا».

استشهد بن أبي الحديد بقول الرضي (238/6):

ص: 78

و أولنا العناء إذا طلعنا *** إلى الدنيا و آخرنا الذهابُ

و لقوله عليه السلام:

«في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (239/6):

الدهر يومان فيوم مضى *** عنك بما فيه و يوم جديد

حلال يوميك حساب و في *** حرام يوميك عذاب شديد

تجمع ما يأكله وارث *** و أنت في القبر وحيد فريد

إني لغيري واعظ تارك *** نفسي و قولي من فعالي بعيد

حلاوة الدنيا و لذاتها *** تكلف العاقل ما لا يريد

و قول الشاعر:

حلالها حسرة تفضي إلى ندم *** و في المحارم منها الغم منذور

و لقوله عليه السلام:

(و من أبصر بما أبصرته، و من أبصر إليها أعمته).

استشهد ابن أبي الحديد بقوله هو (239/6):

دنياك مثل الضوء تدني إليك *** الضوء لكن دعوة المهلك

إن أنت أبصرت إلى نورها *** تعش، و إن تبصر به تدرك

و لقوله عليه السلام:

«علا بحوله ودنا بطوله».

ص: 79

استشهد ابن أبي الحديد بقول البحتري (242/6):

دنوت تواضعاً وعلوت قدراً *** فشأنان انخفاض و ارتفاع

و لقوله عليه السلام:

«عليهم لبوس الاستكانة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول بیهق الفزاري (250/6):

إلبس لكل حالة لبوسها *** اما نعيمها و أما بؤسها

و لقوله عليه السلام:

«و حذركم عدو نفذ في الصدور خفياً، و نفث في الآذان نجيا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول سحيم بن وثيل اليربوعي (286/6):

إني إذا ما القوم كانوا أنجيه *** واضطرب القوم اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصِ بيه

[كان على الراجز حذف حرف العلة لولا الوزن الذي جعله يُضَحِّي

بالقاعدة النحوية].

و النجي: الذي يساره و الجمع الأنجيه، و قد يكون النجي جماعة مثل

الصديق.

قال الله تعالی: «لصوا نجيّا».

و لقوله عليه السلام: في صفة خلق الإنسان:

«دهمته فجعات المنية في غُبَّر جماحة، وسنن مراحة».

ص: 80

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي كبير الهذلي (251/6):

ومبرّا من كل غُبرَّ حيضة *** و فساد مرضعة وداء مقيل

و لقوله عليه السلام، في صفة خلق الإنسان أيضاً:

«و لا موتة ناجزة و لا سنة مسلية، بين أطوار الموتات».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ابن الرعلاء الضباني (273/6):

ليس من مات فاستراح بميتٍ *** إنما الميت ميّت الأحياء

و يعني بالموتات: الآلام العظيمة.

و لقوله عليه السلام:

«احذروا الذنوب المورطة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول رؤية (276/6):

نحن جمعنا الناس بالملطاط *** فأصبحوا في ورطة الأوراط

والذنوب المورطة: التي تلقي أصحابها في الورطة.

و لقوله عليه السلام:

«وإنظار التوبة، وانفساح الحوبة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق (277/6):

فهب لي خنبساً واتخذنيه منه *** لحوبة أم ما مايسوغ شرابها

و لقوله عليه السلام:

«فليصل العامل منكم في أيام مهله، قبل ارهاق أجله».

ص: 81

استشهد ابن أبي الحديد بقول الكميت (351/6):

تندى أكفهم وفي أبياتهم *** ثقة المجاور والمضاف المرهق

حيث اقتبس كلمة "مرهق" من قوله عليه السلام.

و لقوله عليه السلام:

(فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حیوان).

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير (374/6):

وكائن ترى من صامت لك معجب *** زيادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصف و نصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم

و لقوله عليه السلام: وهو ينصح:

«و تنفسوا قبل ضيق الخناق».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (396/6):

اختم وطينك رطب إن قدرت و كم *** قد أمكن الختم أقواماً و ما ختموا

فهو المعنى ذاته الذي أراده الإمام عليه السلام.

لقوله عليه السلام:

«من لم يعنه الله على نفسه حتى يجعل منها واعظاً و زاجراً لم ينفعه الزجر والوعظ من غيرها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (397/6):

و أقصرت عما تعهدين وزاجرٌ *** من النفس خير من عتاب العواذل

ص: 82

و لقوله عليه السلام:

«.. و تنفس الدر و حصيد المرجان».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (403/6):

أدمى له المرجان صفحة خدّه *** و بكى عليه اللؤلؤ المكنون

و لقوله عليه السلام: عن قدرة الله تعالی:

«فظهرت في البدائع التي له، و دليلاً عليه، و إن كان خلقاً صامتاً، فحجته بالتدبير ناطقة، و دلالته على المبدع قائمة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (412/6):

فوا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

و لقوله عليه السلام، في صفة الملائكة:

«... ووراء ذلك الرجيح الذي تستك منه الأسماع سُبُحات نور تردع الأبصار عن بلوغها فتقف خاسئة على حدودها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول النابغة (427/6):

و نبنت خير الناس أنك لمتني *** و تلك التي تستك منها المسامع

و لقوله عليه السلام:

«تستطيلون أيام البلاء».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (53/7):

ص: 83

فأيام الهموم مفصصات *** و أيام السرور تطير طيرا

و قول أبي تمام:

ثم انبرت أيام هجر أردفت *** بجوى أسئ فكأنها أعوام

و لقوله عليه السلام:

«إن حضر أطاعه، و إن غاب سبعه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (56/7):

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني *** و لا أعاتبه صفحاً وإهوانا

وهكذا كنت في أهلي وفي وطني *** إن النفيس نفيس أينما كانا

و معنى سبعه: ثلمه و شتمه.

و لقوله عليه السلام:

«و صمته لسان».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشی (69/7):

إني أتتني لسان لا أسرّ بها *** من عَلوَ لا كذب فيها و لا سخر

و لقوله عليه السلام:

«و نسأله المعافات في الأديان، كما نسأله المعافات في الأبدان».

استشهد بقول محمود الوراق (81/7):

و إذا مرضت من الذنوب فداوها *** بالذكر إن الذكر خير دواء

والسقم بالأبدان ليس بضائر *** والسقم في الأديان شر بلاء

ص: 84

و لقوله عليه السلام:

«الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوا ترکها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (82/7):

كل دمع يسيل منها عليها *** وبفك اليدين منها تخلى

و لقوله عليه السلام:

«بطيء القيام، سريع إذا قام».

أي: هو متأنٍ متثبت في أحواله؛ فإذا نهض جدَّ و بالغ

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (85/7):

و ما قلت للبدر أنت اللجين *** و لا قلت للشمس أنت الذهب

فيفلق منه البعيد الأناة *** و يغضب منه البطين الغضب

و قول ابن هاني المغربي (86/7):

و كل أناة في المواطن سؤدد *** و لا كأناة من قدير محکم

و من يتبين أن للصفح موضعا *** من السيف يصفح عن كثير و يحلمِ

و ما الرأي إلا بعد طول تثبتٍ *** و لا الحزم إلا بعد طول تلوِّم

و قول الشنفري:

مسبلٌ في الحي أحوى رفَلُّ *** و إذا يغزو فسِمعٌ أزلُّ

و لقوله عليه السلام:

«قليل سلبهم». أي همهم القتل لا السلب.

ص: 85

استشهد بقول أبي تمام (104/7):

إن الأسود أسود الغاب همتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

و لقوله عليه السلام: في الدنيا:

«لا يرجع ما تولى منها فأدبر، و لا يُدري ما هو آت منها، فينتظر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (106/7):

وأضيع العمر لا الماضي انتفعت به *** و لا حصلت على علم من الباقي

و لقوله عليه السلام: «فبادروا العلم من قبل تصویح نبته».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي علي البصير (168/7):

لعمر أبيك ما نسب المعلّى *** إلى كرمٍ و فی الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اقشعرت *** وصوح نبتها رعي الهشيم

و لقوله عليه السلام:

«استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ».

استشهد بقول أبي الأسود الدؤلي (168/7):

لا تنه عن خلق و تأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

و لقوله عليه السلام:

«ولكل أجل كتاب، ولكل غيبةٍ إياب».

استشهد بقول عبيد بن الأبرص (190/7):

وكل ذي غيبة يؤوب *** وغائب الموت لا يؤوب

ص: 86

و لقوله عليه السلام:

«فلا منجى منك إلا إليك».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق (199/7)

إليك فررت منك و من زیادٍ *** و لم أحسب دمي لكما حلالا

و لقوله عليه السلام:

«و من عشق شيئاً أعشی بصره».

استشهد بقول عبد الله بن معاوية (207/7):

و عين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا

و لقوله عليه السلام:

«فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها».

استشهد بقول ابن درید (207/7):

عبيد ذي المال و إن لم يطمعوا *** من ماله في نفيه تشفي الصدا

وهم لمن أملقوا أعداء و إن *** شاركهم فيها أفاد وحوى

و لقوله عليه السلام:

«حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (208/7):

ما الناس إلا مع الدنيا و صاحبها *** فكيفما انقلبت يوماً به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت *** يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا

ص: 87

و لقوله عليه السلام، عن الأموال:

«قد لزمته تبعات جمعها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (209/7):

أكلت حنيفة ربها *** زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم *** سوء العواقب والتباعة

و لقوله عليه السلام: عن الدنيا:

«إن تمسي له متنكرة، و إن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر منها جانبه فأوبی».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (230/7):

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة *** إذا اخضر منها جانب جف جانب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرةٍ *** على ذاهب منها فإنك ذاهب

و لقوله عليه السلام:

«و لا يمسي منها في جناح آمنٍ، إلا أصبح قوادم خوف».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي نواس (231/7):

تغطيت من دهري بظل جناحه *** فصرت أرى دهري وليس برائي

فلو تسأل الأيام ما اسمي فما درت *** و أين مكاني ما عرفن مكاني

و لقوله عليه السلام، عن الدنيا:

«وضعضعتم بالنوائب».

ص: 88

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

و تجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضعوا و لقوله عليه السلام: عن الموتی:

«فهم جيرة لا يجيبون داعياً، و لا يتزاورون، و قريبون لا يتقاربون».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشريف الرضي (234/7):

بادون في صور الجميع وإنهم *** متفردون تفرّد الآحاد

و يقول الشريف الرضي أيضاً:

قربت ضرائحهم على زوارها *** ونأوا على الطلاب أي تناءِ

و قول عبد الله بن ثعلبة الحنفي:

هم جيرة الأحياء أما مزارهم *** فدانٍ، وأما الملتقى فبعيد

و لقوله عليه السلام:

«إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (248/7):

کم فاقة مستورة بمروءةٍ *** و ضرورة قد غطيت بتجمل

و من ابتسام تحته قلب شيخٍ *** قد خامرته لوعة ما تنجلي

و لقوله عليه السلام:

«ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه».

ص: 89

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشريف الرضي (249/7):

نقص الجديدين من عمري يزيد على *** ما ينقصان على الأيام من مالي

دهر تؤثر في جسمي نوائبه *** فما اهتمامي إن أودي بسربالي

و لقوله عليه السلام:

«يجمع ما لا يأكل، و يبني ما لا يسكن».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (256/7):

أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

و قول الآخر:

ألم تر حوشباً أمسى يبنّي *** بناء نفعه لبني بُقَيله

يومِّل أن يعمِّر عمر نوحٍ *** وامر الله يطرق كل ليلة

و لقوله عليه السلام:

«لا جاء يرد، و لا ماضٍ يرتد»، أي يسترد و يرجع.

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العتاهية (256/7):

فلا أنا راجع ما قد مضى لي *** و لا أنا دافع ما سوف يأتي

و لقوله عليه السلام:

«ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، و ما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (256/7-257)

ص: 90

يا بعيداً عني وليس بعيداً *** من لحاقي به سميع قريب

صرت بين الورى غريباً كما أن *** ك تحت الثرى وحيد غريب

و لقوله عليه السلام:

«ليس شيء بشرِّ من الشر إلا عقابه، و ليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (257/7):

خير البضائع للإنسان مكرمة *** تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه

فالخير خير، و خير منه *** و الشر شر، و شر منه صانعه

و لقوله عليه السلام:

«و كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، و كل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (257/7):

اهتز عند تمني وصلها طرباً *** ورب أمنية أحلى من الظفر

و لقوله عليه السلام:

«و اعلموا أن ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة و زاد في الدني».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب المتنبي (258/7):

كلما لم يكن من الصب في الأنف *** س سهل فيها إذا هو كانا

و لأبي الطيب أيضاً (258/7-259):

ص: 91

بلاد ما اشتهيت رأيت فيها *** فليس يفوتها إلا كرام

فهلا كان نقص الأهل فيها *** كأن لأهلها منها التمام

و لقوله عليه السلام:

«الرجاء مع الجائي، و اليأس مع الماضي».

ما مضى فات و المقدر غيب *** ولك الساعة التي أنت فيها

و لقوله عليه السلام:

«وأخذوا بأطراف الأرض».

استشهد بقول الفرزدق (259/7):

أخذنا بأطراف السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع

و لقوله عليه السلام:

«إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (301/7):

لو لم يمت بين أطراف الرماح إذاً *** لمات -إذ لم يمت- من شدة الحَزَن

و قول الآخر (302/7):

يستعذبون مناياهم كأنهم *** لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا

و لقوله عليه السلام:

«قد خليتم والطريق، فالنجاة للمقتحم، والهلكة للمتلوم».

ص: 92

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحصين بن الحمام المري (305/7):

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثلما أتقدما

و قول قطري ابن الفجاءة (305/7):

لا يركنن أحد إلى الإحجام *** يوم الوغى متخوفاً لحمام

فلقد أراني للرماح دريئة *** من عن يميني تارة و أمامي

حتى خضبت بما قدرت من دمي *** أكناف سرجي أو عنان لجامي

ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب *** جرح البصيرة قارح الأقدام

و قول المتنبي (305/07):

يقتل العاجز الجبان و قد یع *** جز عن قطع عنق المولود

و يوقى الفتى المخيشن و قد خو *** ض في ماء لبة الصنديد

و لقوله عليه السلام:

«و إن الفار لغير مزيد في عمره».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الراجز (16/8):

قد علمت حسناء دعجاء المقل *** إن الفرار لا يزيد في الأجل

و لقوله عليه السلام:

«إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعنٍ دِرَكٍ يخرج منه النسيم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول قيس بن الخطيم (8/8):

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر *** لها نفذ لولا الشعاع أضاءها

ص: 93

ملكت بها كفي فانهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها

و لقوله عليه السلام:

«فرب دائب مضيع، و رب كادح خاسر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

و مثله:

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** أتته الرزايا من وجوه الفوائد

و لقوله عليه السلام:

«كل شيء مملول إلا الحياة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (288/8):

و لذيذ الحياة أنفس في النف *** س وأشهى من أن يملُّ وأحلى

و إذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ *** حياة ولكن الضعف ملاّ

و لقوله أيضاً:

أرى كلنا يبقي الحياة لنفسه *** حريصاً عليها مستهاباً بها صبّا

فحب الجبان النفس أورده البقا *** و حب الشجاع النفس أورده الحربا

و قول أبي العلاء:

فما رغبت في الموت کدر مسيرها *** إلى الورد خمساً ثم تشرين من أجن

يصادفن صقراً كل يوم و ليلةٍ *** ويلقين شراً من مخالبه الحجن

ص: 94

و لا قلقات الليل باتت كأنها *** من الابن و الأدلاج بعض القنا اللدن

ضربن مليعاً بالسنابك أربعاً *** إلى الماء لا يقدر منه على معن

و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله *** وكلف نوحاً وابنه عمل السفن

و ما استعذبته روح موسى و آدم *** و قد وعدا من بعده جنتا عدن

و بقول ابن أبي الحديد نفسه، و قد خاطب رجلين فرّا من الحرب:

عذرتكما إن الحمام لمبغض *** و إن بقاء النفس للنفس محبوب

و يكره طعم الموت و الموت طالب *** فكيف يلذ الموت و الموت مطلوب؟

و قول أبي الطيب أيضاً:

طيب هذا النسيم أوفر في الأن *** فس إن الحمام مرُّ المذاق

والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ *** والأسى لا يكون بعد الفراق

و قول البحتري:

ما أطيب الأيام إلا أنها *** يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

و قول آخر:

أوفي يصفق في الجناح مفلساً *** و يصيح من طرب إلى الندمان

يا طيب لذة هذه الدنيا لنا *** لو أنها بقيت على الإنسان

و قول آخر:

أرى الناس يهوون البقاء سفاهة *** و ذلك سيء ما إليه سبيل

و من يأمن الأيام أما بلاؤها *** فجمٌّ، و أما خيرها فقليل

ص: 95

و لقوله عليه السلام: لمن سأله: ما أكثر حب الناس للدنيا؟

«هم أبناؤها، أيلام الإنسان على حب أمه؟».

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول محمد بن وهيب الحميري (290/8):

و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها *** و ما كنت منه فهو شيء محبّب

و قول آخر:

ياموت ما أفجاك من نازلٍ *** تنزل بالمرء على رغمه

تستلب العذراء من خدرها *** و تأخذ الواحد من أُمه

و قول أبي الطيب:

و هي معشوقة على الغدر لا تح *** فظ عهداً و لا تتمم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها *** ويفك اليدين عنها تُخلّى

شيم الغانيات فيها فلا أد *** ري لذا أنَّت الناس اسمها أم لا؟

و قال ابن أبي الحديد:

فإن قلت: قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت، فهل قيل في عکس ذلك و نقيضه شيء؟

قلت: نعم؛ فمن ذلك قول أبي الطيب (29/8):

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً *** و حسب المنايا أن يكنّ أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى *** صديقاً فاعيا، أو عدواً مداجيا

و قول آخر:

ص: 96

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا *** في الموت ألف فضيلة لا تُعرف

منها أمان لقائه بلقائه *** و فراق كل معاشر لاينصف

و قول إبراهيم بن مهدي:

و إني و إن قدمت قبلي لعالمٍ *** بأني و إن أبطأت عنك قريب

و إن صباحاً نلتقي في مسائه *** صباح إلى قلب الغداة حبيب

و قول الشاعر:

جزى الله عنا الموت خيراً فإنه *** أبرُّ بنا من كل برِّ وأرأف

يعجّل تخليص النفوس من الأذى *** و يدني من الدار التي هي أشرف

وقول آخر:

من كان يرجو أن يعيش فإنني *** أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

في الموت ألف فضيلة لوأنها *** عُرفت لكان سبيله أن يُعشقا

و قول أبي العلاء:

جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا *** شراً إلي، فجل الواحد الصمد

فالجسم يعذل فيه النفس مجتهداً *** و تلك تزعم أن الظالم الجسد

إذا ما بعد طول الصحبة افترقا *** فإن ذاك لأحداث الزمان يد

و قول أبي العتاهية:

المرء يأمل أن يعي *** ش و طول عمر قد يضرّه

تغني بشاشته و يب *** قي بعد طول العيش مرّه

ص: 97

و تخونه الأيام حت *** ي لا يرى شيئاً يسرّه

کم شامت بي إن هلك *** ت و قائل: لله درّه

و قول إبن المعتز:

ألست ترى ياصاح ما أعجب الدهرا *** فذا ماله لكن للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أرى *** فيا حسداً مني لمن يسكن القبرا

و لقوله عليه السلام، في شأن طلحة و الزبير:

«و قد زاح الباطل عن نصابه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد المحدثين (34/9):

قد رجع الحق إلى نصابه *** و أنت من دون الورى أولى به

و لقوله عليه السلام، عن الحرب:

«حلواً رضاعها، علقماً عاقبتها».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (41/9):

الحرب أول ما تكون فتية *** تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها *** عادت عجوزاً غير ذات حليل

شمطاء جزّت رأسها و تنكرت *** مكروهة للشم و التقبيل

و لقوله عليه السلام:

«لقد مضت أصول عن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله».

استشهد ابن أبي الحديد بقول لبيد (93/9):

ص: 98

فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب *** لعلك تهديك القرون الأوائل

فإن لم تجد من دون عدنان ولداً *** و دون معد فلتذعك العواذل

و قول الشاعر:

فعددت آبائي إلى عرق الثرى *** فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

لابد من تلف مصيب فانتظر *** أبأرض قومك أم بأخرى تصرع

و قول أبي العتاهية:

كل حياة إلى ممات *** و كل ذي جدة يحول

كيف بقاء الحروف يوماً *** و قد ذوت قبلها الأصول

و لقوله عليه السلام: قبل وفاته:

« غدا ترون أيامي، و يكشف لكم عن سرائري، و تعرفونني بعد خلوِّ مكاني و قيام غيري مقامي».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي تمام (124/9):

راحت وفود الأرض عن قبره *** قارعة الأيدي ملاء القلوب

قد علمت ما رزئت إنما *** يعرف قدر الشمس بعد الغروب

و قول أبي الطيب:

و نذمّهم و بهم عرفنا فضله *** و بضدّها تتبين الأشياء

و لقوله عليه السلام:

«فلا تستبطئوا ما يجيء به الغد؛ فكم من مستعجل بما أن أدركه ودَّ أن لم

ص: 99

يدركه، و ما أقرب اليوم من تباشير غد».

استشهد ابن أبي الحديد بقول القائل:

و إن غداً للناظرين قريب

و قول الآخر:

غدٌ ما غدٌ ما أقرب اليوم من غد

و قول أبي العتاهية:

من عاش لاقى مايسو *** ء من الأمور و ما يسرّ

ولرب حتف فوقه *** ذهب و ياقوت و درُّ

و قول الآخر:

فلا تتمنَّين الدهر شيئاً *** فكم أمنية جلبت منيّة

و لقوله عليه السلام:

«حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (131/9):

راحوا بصائرهم على أكتافهم *** و بصيرتي يعدو بها عند وأي

و لقوله عليه السلام، عن الفتنة:

«تبدأ في مدارج خفية، و تؤول إلى فظاعة جليه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (140/9):

ص: 100

و لرب هاج الكبير *** من الأمور لك الصغير

و قول نصر بن يسار:

فإن النار بالعودین تذکى *** و إن الحرب أولها كلام

و قول أبي تمام:

رب قليل بدا كثيراً *** کم مطر بدؤه مطير

و قوله أيضاً:

لا تذيلن صغير همك وانظر *** كم بذي الأسل دوحة من قضيب

و لقوله عليه السلام، يصف الفتنة أيضاً:

«شبابها کشباب الغلام، و آثارها كآثار السلام».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (141/9):

والحب مثل الحرب أو *** لها التخيل و النشاط

وختامها أم الربي *** ق التكز والضرب القطام

و لقوله عليه السلام:

«فليصدق رائد أهله».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (177/9):

أخيَّ إذا خاصمت نفسك فاحتشد *** لها وإذا حدّثت نفسك فاصدقٍ

و لقوله عليه السلام:

«وصاروا إلى مصائر الغايات».

ص: 101

استشهد ابن أبي الحديد بقول الكميت (203/9):

فالآن صرت إلى أمي *** ة والأمور إلى مصائر

و لقوله عليه السلام:

«الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (211/9):

مات من مات والثريا الثريا *** والسماك السماك والنسر نسر

و نجوم السماء تضحك منا *** كيف تبقى من بعدنا وتمرُّ

و قول آخر:

فما الزهر إلا كما الزمان الذي مضى *** و لا نحن إلا كالقرون الأوائل

و لقوله عليه السلام:

«لايعود ما قد ولّى عنه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول البحتري (211/9):

ما أحسن الأيام إلا أنها *** يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

و لقوله عليه السلام:

«و لا يبقی سرمداً مافيه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عدي (211/9):

ليس شيء على المنون بباقِ *** غير وجه المهيمن الخلاق

و لقوله عليه السلام:

ص: 102

«و يشيب فيه الأطفال».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (215/9):

والهم يخترم الجسيم نحافة *** ويشيب ناصية الصبي ويهرم

و لقوله عليه السلام، عن الملائكة:

«و حفاظ صدق».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (216/9):

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت، ولكن قل: عليَّ رقيب

و لقوله عليه السلام:

«و إن غداً من اليوم قريب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (216/9):

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى *** فإن غداً لناظره قريب

و لقوله عليه السلام:

«فجعل من خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً و وعداً».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

و أنضاءٍ أُنخينَ إلى سعيد *** طروقاً ثم عجّلن ابتكارا

حمدن مزاره و أصبن منه *** عطاءً لم يكن عدة ضمارا

و لقوله عليه السلام:

«هيهات إن من يعجز عن صفات ذي الهيأة والأدوات، فهو عن صفات

ص: 103

خالقه أعجز».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (260/9):

رأيت الوری يدّعون الهدى *** و كم يدّعي الحق خلق كثير

و ما في البرايا امرؤ عنده *** من العلم بالحق إلا اليسير

خفيٌّ فما ناله ناظر *** و ما إن أشار إليه مشير

و لا شيء أظهر من ذاته *** و كيف يرى الشمس أعمى ضرير

و لقوله عليه السلام:

«فرحم الله امرءً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي ذؤيب (17/10):

و النفس راغبة إذا رغّبتها *** و إذا ترد إلى قليل تقنع

و للكلام المروي عنه عليه السلام:

«أيها الناس إن هذه النفوس طلعة فإلاً تقرعوها تنزع بكم إلى شر غاية».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (18/10):

و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى *** فإن أطمعت تاقت إلاٌ تسلّتِ

و لقوله عليه السلام: في ذم أصحابه:

«و إن أحبَّ ما أنا لاقٍ إلىَّ الموت».

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (72/10):

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا

ص: 104

تمنيتها لما تمنيت أن ترى *** صديقاً فاعياً أو عدواً مداجيا

و لقوله عليه السلام:

«تالين الأجزاء القرآن يرتلوها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (95/10):

فقلت لها إن البكاء لراحة *** به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا

و قول الآخر:

شجاك من ليلتك الطول *** فالدمع من عينيك مسدول

و هو إذا أنت تأملته *** حزن على الخدين مملول

و لقوله عليه السلام:

«قد براهم الخوف بري القداح».

استشهد ابن أبي الحديد بقول ليلى الأخيلية (145/10):

يا أيها السَّدِم الملوِّس رأسه *** ليقود من أهل الحجاز بريما

أتريد عمر بن الخليع و دونه *** کعب، إذن لوجدته مرؤوما

و مخرَّق عنه القميص تخاله *** بين البيوت من الحياء سقيما

حتى إذا دفع اللواء رأيته *** تحت اللواء على الخميس زعيما

و بقول الشاعر:

ضعيفة كر الطرف تحسب أنها *** حديثة عهد بالإفاقة من سقم

ص: 105

و لقوله عليه السلام:

«و من أعمالهم مشفقون».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي تمام (145/10):

يتجنب الآثام ثم يخافها *** فكأنها حسناته آثام

و لقوله عليه السلام:

«و القول و العمل». أي لا يقتصر على القول.

استشهد ابن أبي الحديد بقول متمم بن نويرة (158/10):

لقد كفَّن المنهال تحت ردائه *** فتىً غير مبطان العشيات أروعا

و قول الشاعر (157/10):

و أراك تفعل ما تقول و بعضهم *** حذق اللسان يقول ما لايفعل

و لقوله عليه السلام:

«منزوراً أكله». أي قليلاً.

استشهد ابن أبي الحديد بقول أعشى باهلة (158/10):

تكفيه حزة فلذ إن ألم بها *** من الشواء و يكفي شربة الغمر

و لقوله عليه السلام:

«و لا يشمت بالمصائب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (160/10):

فلست تراه شامتاً بمصيبة *** و لا جزعاً من طارق الحدثان

ص: 106

و لقوله عليه السلام:

«حسرة الرخاء و مؤكد البلا».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (167/10):

و كأنما لم يرض فينا بريب ال *** دهر حتى أعانه من أعانا

كلما ركب الزمان قناة *** ركب المرء في القناة سنانا

و لقوله عليه السلام، عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

«فكان يأمر أهله، و يصبر نفسه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول عنترة (205/10)

فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الزمان تطلع

و لقوله عليه السلام:

«و استخبرها الحال».

استشهد ابن أبي الحديد بقول جرير (270/10):

و يقضى الأمر حين تغيب تيم *** و لا يستأذنون وهم شهود

و لقوله عليه السلام:

«لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، و لا أدفع عن نفسي محذوراً من المرض أو الموت إلا ما دفعته عني».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (86/11):

لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي *** نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر؟

ص: 107

يرى الشر مما يتقي فيخافه *** و مما يرى مما يقي الله أكثر

و قول عبد الله بن سليمان بن وهب:

كفاية الله أقدر من توقینا *** و عادة الله في الأعداء تكفينا

كاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا *** عيباً وطعناً وتقبيحاً وتهجينا

و لم نزد نحن في سر و فی علن *** على مقالتنا: الله يكفينا

و كان ذاك - ورد الله حاسدنا *** بغيظه - لم ينل مأموله فينا

و لقوله عليه السلام:

«و اقتحمته العيون». أي: احتقرته وازدرته.

استشهد بقول ابن دريد:

و منه ماتقتحم العين فإن *** ذقت جناه ساغ عذباً في اللها

و لقوله عليه السلام:

«فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، و لا تتحفظوا في بما يتحفظ به عند أهل البادرة».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي تمام في محمد بن عبد الملك (105/11-106)

وزير حق، و والي شرطة ورحا *** دیوان ملك، و شيعيٌ و محتسب

کالأرحبي المذكي سيره المرطي *** و الوخذ و الملح و التقريب و الخبب

عود تساجله أيامه فبها *** من مسّه و به من مسّها جُلَب

ص: 108

ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمةٍ *** في رحله السن و الأقوام والركب

لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه *** يوماً، و لا حجة الملهوف تُستلب

كأنما هو في نادي قبيلته *** لا القلب يهفو و لا الأحشاء تضطرب

و قول أبي الجهم الدوري:

نقلبه لنخبر حالتيه *** فنخبر منهما كرماً ولينا

نميل على جوانبه كأنا *** إذا ملنا نميل على أبينا

و لقوله عليه السلام:

«و برق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق»

استشهد ابن أبي الحديد بقول البحتري (138/11):

خطرت في النوم منها خطرة *** خطرة البرق بدا ثم اضمحل

أي زور لك لو قصدأ ترى *** و ملمٌ بك لو حقاً فعل

و لقوله عليه السلام، يحث فيه أصحابه على الجهاد:

«و اطووا فضول الخواصر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (142/11-143):

کلوا في بعض بطنكم و عفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

و قول أعشى باهلة:

طاوي المصير على العزاء منصلت *** بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر

و قول الشنفري:

ص: 109

و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت *** خيوطة ماري تغار و تفتل

و لقوله عليه السلام:

«لا تجتمع عزيمة و وليمة، ما انقضى النوم لعزائم اليوم! و أمحي الظلم، التذاكير الهمم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أحد المحدثين إلى ولده:

خدمة السلطان والكا *** سات في أيدي الملاح

ليس يلتامان فاطلب *** رفعة أو شرب راح

و قول آخر إلى ولده:

ما للمطيع هواه *** من الملام ملاذ

فاختر لنفسك هذا *** مجد، و هذا التذاذ

و قول آخر:

و ليس فتى الفتيان من راح و اغتدى *** لشرب صبوح أو شرب غدوق

ولكن فتى الفتيان من راح و اغتدى *** لضر عدوٍ أو لنفع صديق

و قول الآخر:

فتى لا ينام على عزمه *** ومن صمم العزم لم يرقد

و لقوله عليه السلام:

«ذهبتم في أعقابهم جهالا، تطؤون في هامهم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العلاء المعري (148/11):

ص: 110

خفف الوطء ما أظن أديم ال *** أرض إلا من هذه الأجساد

ربَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً *** ضاحك من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفينٍ *** من عهود الآباء و الأجداد

صاحٍ هذي قبورنا تملأ الأر *** ض فأين القبور من عهد عاد

سر إن اسطعت في الهواء رويداً *** لا اختيالاً على رفات العباد

و لقوله عليه السلام، عن الموتى:

«لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، و لا لنهارٍ مساء».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (156/11):

لابد من يوم بلا ليلة *** أو ليلة تأتي بلا يوم

و لقوله عليه السلام:

«واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت».

استشهد ابن أبي الحديد بقول المتنبي (163/11):

يدفِّن بعضنا بعضاً ويمشي *** أواخرنا على هام الأوالي

و كم عين مقبلة النواصي *** كحيل بالجنادل و الرمال

و مفض كان لا يفضي لخطب *** وبال كان يفكر في الهزال

و لقوله عليه السلام:

«جديد بلی».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (163/11):

ص: 111

يادار غادرني جديد بلاكِ *** رث الجديد فهل رثيت لذاكِ

و لقوله عليه السلام:

«في ظل عيش غفول».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (164/11):

وكان المرء في غفلات عيشٍ *** كأن الدهر منها في وثاق

و قول الآخر:

ألا إن أحلى العيش ما سمحت به *** صروف الليالي و الحوادث نوَّم

و لقوله عليه السلام:

«وارحل مطايا التمشير».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الأعشى (245/11):

رحلت سمية غدوة اجمالها *** غضبى عليك فما تقول بدا لها

و خطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فارتج عليه فقام عمه داود بن علي، فقال:

«أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله، و لأثر الأفعال أجدى عليكم من تنسيق المقال، و حسبكم كتاب الله علماً فيكم، و ابن عم الرسول صلى الله عليه و آله.

خليفة عليكم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (17/13):

ص: 112

و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه *** و إن مات لم یحزن علیه أقاربه

کهام على الأقصى کليل لسانه *** و فی بشر الأدنى حديد مخالبه

و قول احيحة بن الحلاج:

و الصمت أجمل بالفتى *** ما لم يكن عيّ يشينه

و القول ذو خطل إذا *** ما لم يكن لبٌّ يزينه

و لقوله عليه السلام: في تقسيم الناس:

«.. فتام الرواء و ناقص العقل».

و الرواء بالهمز والمد: المنظر الجميل.

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (20/13-21)

عقله عقل طائر *** و هو في خلقة الجمل

و قول أبي الطيب:

و ما الحسن في وجه الفتى شرف له *** إذا لم يكن في فعله و الخلائق

و قول الآخر:

و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم *** إذا كانت الأخلاق غير حسان

فلا يغررنك المرء راق رواؤه *** فما كل مصقول الغرار يماني

و قول قراد بن حنش الصاردي:

لقومي أرعى للعلا من عصابة *** من الناس يا حار بن عمرو تسودها

و أنت سماء يعجب الناس رزها *** بآبدة تنحى شديد وئيدها

ص: 113

تقطع أطناب البيوت بحاجب *** و أقرب شيء برقها ورعودها

فويل امها خيلاً بهاءً وشارة *** إذا لاقت الأعداء لولا صدودها

و منه ایضاً:

وكاثر بسعدٍ إن سعداً كثيرة *** ولا ترجُ من سعدٍ وفاءً ولا نصرا

يروعك من سعد بن زيد جسومها *** و تزهد فيها حين تقتلها خُبرا

و لقوله عليه السلام: في صفة الناس:

«و قريب القعر بعيد السبر».

استشهد ابن أبي الحديد بقول العباس بن مرداس (22/13): ترى الرجل النحيف فتزدريه *** و في أثوابه أسد مزير

و يعجبك الطرير فتبتليه *** فيخلف ظنك الرجل الطّرير

و قيل لبعض الحكماء:

ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق؟

قال:

لقرب قلوبهم من أدمغتهم.

فاقتبس الشاعر هذا القول فقال (22/12):

(و) إن لا يكن عظمي طويلاً *** له بالخصال الصالحات وصول

و لا خير في حسن الجسوم و طولها *** إذا لم تزن حسن الجسوم عقول

فما عظم الرجال لهم بفخرٍ *** ولكن فخرهم کرم و خير

ص: 114

ضعاف الطير أطولها جسوماً *** و لم تطل البزاة و لا الصقور

بغاة الطير أكثرها فراخاً *** وأم الصقر مقلات نزور

لقد عظم البعير بغير لبٍ *** فلم يستغن بالعظم البعير

و لقوله عليه السلام: و هو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و تجهيزه:

«خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواک».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (25/13-26):

رزئنا أبا عمر و لا حيّ مثله *** فلله در الحادثات بمن تقع

فإن تك قد فارقتنا و تركتنا *** ذوي خلة ما في انسداد لها طمع

لقد جر نفعاً فقدنا لك إننا *** أمنا على كل الرزايا من الجزع

و قول آخر:

أقول للموت حين نازله *** والموت مقدامة على البُهم

اظفر بمن شئت إن ظفرت به *** ما بعد يحيى للموت من ألم

و قول ابن أبي الحديد مما كتبه إلى صديق غاب عنه من جملة أبيات:

و قد كنت أخشى من خطوب غوائلٍ *** فلما نأى عني أمنت من الحذر

فأعجب لجسم عاش بعد حياته *** و أعجب النفع حاصل جرذه ضرر

و قول اسحق بن خلف يرثي بنتاً له:

أمست أميمة معموراً بها الرجم *** لقا سعيد عليها الترب مرتكم

ص: 115

يا شقة النفس إن النفس والهة *** حرّى عليك و إن الدمع منسجم

قد كنت أخشى عليها أن تقدمني *** إلى الحمام فيبدي وجهها العدم

فالآن نمت فلاهم يؤرقني *** تهدا العيون إذا ما أورت الحُرم

للموت عندي أيا لست أكفرها *** أحيا سروراً و بي مما أتى ألم

و قول آخر:

فلو أنها إحدى يدي رزيتها *** ولكن يدي بانت على إثرها يدي

فأكبت لا آسى على أثر هالك *** قدى الآن من حزن على هالك قدي

و قول آخر:

تغدو المنايا حيث شاءت فإنها *** محللة بعد الفتى ابن عقيل

فتىً كان مولاه يحل بنجوۃٍ *** فحل الموالي بعده بمسيل

و لقوله عليه السلام: و هو يحذر من طاعة الأسياد:

«الذين تكبروا عن حَسَبهم».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (149/13):

ما بال من أوله نطفة *** وجيفة آخره يفخر

يصبح لا يملك تقديم ما *** يرجو ولا تأخير ما يحذر

و لقوله عليه السلام:

«يا ابن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل و أدبر، بعث إلىَّ أن أخرج ثم بعث إلىَّ أن أقدم».

ص: 116

استشهد ابن أبي الحديد بقول العباس بن مرداس (297/13):

أراك إذا أصبحت للقوم ناضحاً *** يقال له بالغرب أدبر و أقبل

و لقوله عليه السلام:

«ألا ترون إلى بلادكم تٌغزى، و إلى صفاتکم ترمی».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (313/13):

و الدهر يوتر قوسه *** يرمي صفاتك بالمقابل

و لقوله عليه السلام: مخبراً عن شدة اتحاد ولده به:

«وجدتك بعضي».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (61/16):

و إنما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشي على الأرضِ

لو هبت الريح على بعضهم *** لامتنعت عيني من الغمضِ

و قول الطرماح، و قد غضب على امرأته فشفع فيها ولده منها صمصام، و هو غلام لم يبلغ عشراً.

أصمصام إن تشفع لأمك تلقها *** لها شافع في الصدر لم يتزحزح

هل الحب إلا أنها لو تعرضت *** لذبحك يا صمصام قلت لها: اذبحي

أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي *** تراثي و إياك امرؤ غير مصلح

إذا حك وسط القوم رأسك حكة *** يقول له الناهي: ملكت فأسجحِ

و قول أعرابية في ترقيص ولدها:

ص: 117

يا حبذا ريح الولد *** ريح الخزامي في البلد

أهكذا كل ولد *** أم لم يلد قبلي أحد

و قول الرياشي:

من سرّه الدهر أن يرى الكبدا *** يمشي على الأرض فليرَ الولدا

و لقوله عليه السلام:

«و أعرض عليه أخبار الماضين».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

سل عن الماضين إن نطقت *** عنهم الأحداث و التُرَكُ

أيّ دار للبلی نزلوا *** و سبيل للردی سلكوا

و لقوله عليه السلام:

«و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (67/16):

اختم وطينك رطب إن قدوركم *** قد أمكن الختم أقوام فما ختموا

و لقوله عليه السلام:

«فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له».

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي الطيب (88/16):

أين الجبابرة الأكاسرة الأولى *** كنزوا الكنوز فلا بقين و لا بقوا

و لقوله عليه السلام: يوصي ولده:

ص: 118

«فخفض في الطلب».

و هو أصلاً مقتبس من قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:

«إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (94/16):

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله *** عوضاً و لا نال الغني بسؤال

و إذا النوال إلى السؤال قرنته *** رجح السؤال وخف كل نوال

و قول آخر:

رددت رونق وجهي عن صحيفته *** رد الصقال بهاء الصارم الخذم

و ما أبالی و خیر القول أصدقه *** حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي

و قول آخر:

و إني لأختار الزهيد على الغنى *** و أجزأ بالمال القراح على المحض

و لقوله عليه السلام:

«و حرارة اليأس خير من الطلب إلى الياس».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (98/16):

و إن كان طعم اليأس مراً فإنه *** ألذ و أحلى من سؤال الأراذل

و قول البحتري:

و اليأس إحدى الراحتين ولن ترى *** تعباً لظن الخائب المغرور

ص: 119

و لقوله عليه السلام:

«المرء أحفظ لسره»

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر:

إذا ضاق صدر المرء عن حفظ سره *** فصدر الذي بُستودع السر أضيق

و قول الآخر:

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن مقتدِ

و لقوله عليه السلام:

"إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقا"

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر عمرو بن كلثوم (101/16) (121):

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و لقوله عليه السلام:

"و ربما كان الدواء داءً، والداء دواءً".

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي نواس (101/16):

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء

و قول الشاعر:

تداويت من ليلي بليلى فلم يكن *** دواءً ولكن كان سقماً مخالفا

و لقوله عليه السلام:

"إياك والاتكال على المني فإنها بضائع النَوَكي".

ص: 120

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي تمام (102/16):

من كان مرعي عزمه وهمومه *** روض الأماني لم يزل مهزولا

و لقوله عليه السلام:

"ليس كل طالب يصيب"

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (103/16):

ما كل وقت ينال المرء ما طلبا *** ولا يسوغه المقدار ما وهبا

و لقوله عليه السلام:

"و لا كل غائب يثوب"

استشهد ابن أبي الحديد بقول عبيد (103/16):

و كل ذي غيبة يؤوب *** و غائب الموت لا يشوب

و لقوله عليه السلام:

"رب يسير أثمن من كثير"

استشهد ابن أبي الحديد بقول الفرزدق (104/16):

فإن تميماً قبل أن يلد الحصا *** أقام زماناً وهو في الناس واحد

و لقوله عليه السلام:

"لا خير في معين مهين، و لا في صدیق ظنين"

إذا تكفيت بغير كافِ *** وجدته اللهم غير شافِ

و قول الآخر:

ص: 121

فإن من الأحزان من شحط النوى *** به فهو راعٍ للوصال أعين

و منهم صديق العين أما لقاؤه *** فحلو و أما غيبه فظنين

و لقوله عليه السلام:

"ساهل الدهر ما ذل لك قعوده"

استشهد ابن أبي الحديد بقول القائل (106/16):

و در مع الدهر كيفما دارا

و يقول الآخر:

و من قاصر الأيام عن ثمراتها *** فأحرى بها أن تنجلي ولها العمر

و قول الآخر:

إذا الدهر أعطاك العنان فسر به *** رويدا فلا تعنف فيصبح شاما

و لقوله عليه السلام:

"إحمل نفسك من أخيك عند صرفه على الصلة. و عند صدوده على اللطف و المقاربة؛ و عند جحوده على البذل. و عند تباعده على الدنو، و عند شدته على اللين، و عند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، و كأنه ذو نعمة عليك؛ و إياك أن تضع ذاك في غير موضعه، و أن تفعله بغير أهله".

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (107/16):

و إن الذي بيني و بين بني أبي *** و بين بني أمي لمختلف جدا

فأن أكلوا لحمي و فرت لحومهم *** و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ص: 122

و إن زجروا طيرا بنحس تمر بي *** زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

و لا أحمل الحقد القديم عليهم *** و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

و قول عروة المرجي:

إني و إن كان ابن عمي كاشحا *** المقاذف من خلفه وورائه

و مفيده نصري و إن كان امرءاً *** متزحزحا في أرضه و سمائه

و أكون و الي سره و أصونه *** حتى يحق علي وقت أدائه

و إذا الحوادث أجحفت بسوامه *** قرنت صحيحته إلى جربائه

و إذا دعا باسمي ليركب مركبا *** صعبا قعدت له على سيمائه

و إذا أجن خليقة في خدره *** لم أطلع مما وراء خبائه

و إذا إتى ثوبا جميلا لم أقل *** يا ليت أن علي فضل ردائه

لقوله عليه السلام:

"لا تتخذن عدو صديقك صديقا لك فتعادي صديقك".

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (107/16):

صديق صديقي داخل في صداقتي *** و خصم صديقي ليس لي بصديق

و قول الآخر:

تود عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك إن الرأي عنك لعازب و لقوله عليه السلام:

"و لا تضيعن حق أخيك، إتكالا على ما بينك و بينه فأنه ليس لك بأخ من

ص: 123

أضعت حقه".

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (110/16):

إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم *** تدلون إدلال المقيم على العهد

حلوا و افعلوا فعل المدل بوصله *** و إلا فصدوا و افعلوا فعل ذي الصد

و لقوله عليه السلام:

"لا ترغبن فيمن زهد فيك".

استشهد ابن أبي الحديد بقول العباس بن الأحنف (110/16):

ما زلت أزهد في مودة راغب *** حتى ابتليت برغبة في زاهد هذا هو الداء الذي ضاقت به *** حيل الطبيب و طال يأس العائد

و قول تأبط شرا:

إني إذا خلة ظنت بنائلها *** و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي نحوت منها نجائي من بجيلة إذ *** ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي

و لقوله عليه السلام:

"إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك".

و هو مقتبس من قول رسول الله صلى الله عليه و آله:

"يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أملت فأفنيت، و لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت".

استشهد ابن أبي الحديد بقول أبي العتاهية (116/16):

ليس للمتعب الكادح من دن *** ياه إلا الرغيف و الطمران

ص: 124

و لقوله عليه السلام:

"و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على ما لم يصل إليك".

استشهد بقول الشاعر:

و ذي إبل يسقي ويحسبها له *** أخي تعب في رعيها ودؤوب

غدت و غدا رب سواه يسوقها *** و بدل أحجارا وجال قليب

و لقوله عليه السلام:

"ما استدل على ما لم يكن بما كان، فأن للأمور أشباهها".

قال أبو الطيب في سيف الدولة:

ذکی تظنيه طليعة عيشه *** يرى قلبه في يومه ما يرى غدا

و لقوله عليه السلام:

"و لا تكونن ما لا تنفعه العظة، إذا بالغت في إيلامه، فأن العاقل يتعظ بالآداب، و البهائم لا تتعظ إلا بالضرب".

قال ابن المفرغ:

العبد يقرع بالعصا *** و الحر تكفيه الملامة

و لقوله عليه السلام:

"الصديق من صدق غيبه".

قال أبو نواس (117/16):

هل لك والهل خبر *** فيمن إذا غبت حضر

ص: 125

أو مالك اليوم أثر *** فإن رأى خيرا شكر

أو كان تقصيرا عذر

و لقوله عليه السلام:

"رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد".

قال الشاعر (118/16):

لعمرك ما يضر البعد يوما *** إذا دنت القلوب من القلوب

و قال البحتري:

ز نازحة والدار منها قريبة *** و ما قرب ثاو في التراب مغيب

و لقوله عليه السلام: عن الدنيا:

"من أمن الزمان خانه، و من أعظم أهانه".

قال أبو الطيب (120/16):

هي معشوقة على الغدر لا تح *** فظ عهداً و لا تتمم وصلا

شيم الغانيات فيها فلا أد *** ري لذا أنت أسمها أم لا

و لقوله عليه السلام:

"إياك و التغاير في غير موضع غيرة".

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر (127/16):

يا أيها الغائر مه لا تقر *** إلا لما تدركه بالبصر

ما أنت في ذلك إلا كمن *** بيّته الدب لرمي الحجر

ص: 126

قال مسكين الدارمي:

ما أحسن الغيرة في حينها *** و أقبح الغيرة في غير حين

من لم يزل متهما عرسه *** مناصبا فيها لرجم الظنون

يوشك أن يغريَها بالذي *** يخاف، أو ينصبها للعيون

حسبك من تحصينها ضمها *** منك إلى خيم کريم ودين

لا تظهرن يوما على عورة *** فيتبع المقرون حبل القرين

و لقوله عليه السلام:

"والله، الله في جيرانكم، فأنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم".

قال الشاعر (8/17):

ألا من يشتري دارا برخص *** كراهة بعض جيرتها تباع

و قال قيس بن زهير (10/17):

أطوف ما أطوف ثم آوي *** إلى جار كجار أبي دوادِ

و قول مسكين الدارمي:

ما ضر جارا لي أجاوره *** ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

ناري ونار الجار واحدة *** و إليه قبلي ينزل القدر

و لقوله عليه السلام:

ص: 127

"و لا يكون المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء".

قال أبو الطيب (46/17):

شر البلاد بلاد لا صديق بها *** و شر ما يكسب الإنسان ما يصم

و شر ما قبضته راحتي قنصٍ *** شهب البزاة سواء منهمو الرخم

و لقوله عليه السلام:

"و لا تسرف نفسه على طمع".

قال الليث (59/17):

و من مضر الحمراء إسراف أنفس *** علينا وحياها علينا تمضرا

و قال عروة بن أذنية:

لقد علمتُ و ما الأشراف من خلقي *** إن الذي هو رزقي سوف يأتيني

و لقوله عليه السلام، يوصي أحد عماله:

"ثم انظر في حال كتّابك؛ فول على أمورك خيرهم".

قال أحدهم:

"لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب، و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب"

و قال أبو الفضل بن العميد (80/17):

و زعمت أنك لست تتكر بعد ما *** علقت يداك بذمة الأمراء

هيهات قد كذبتك فكرتك التي *** قد أوهمتك غني عن الوزراء

ص: 128

لم تغن عن أحد سماء لم تجد *** أرضا و لا أرض بغير سماء

و لقوله عليه السلام، من كلام يوصي به شریح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام:

"و اعلم أنك إن لم تروع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروهه، سمت بك الأحوال إلى كثير من الضرر".

قال حاتم الطائي (139/17):

فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها *** و فرجك نالا منتهی الذم أجمعا

و لقوله عليه السلام:

"و من نام لم ينم عنه".

قال الشاعر (226/17):

لله درك ما أردت بثائر *** حران ليس عن التراث براقد

أسهرته ثم اضطجعت فلم ينم *** حنقا عليك و كيف نوم الحاقد و لقوله عليه السلام:

"أذری بنفسه من استشعر بالطمع، و رضي بالذل من كشف عن ضره".

قال الشاعر (85/18):

رأيت مخيلة فطمعت فيها *** و في الطمع المذلة للرقاب

و لقوله عليه السلام:

"وهانت عليه نفسه من أمرّ عليها لسانه".

ص: 129

قال الشاعر (86/18):

يموت الفتى من عثرة بلسانه *** و ليس يموت المرء من عثرة الرجل

و لقوله عليه السلام:

"و الجبن منقصة".

قال أبو دلامة (88/18):

إني أعوذ برَوح أن يقدمني *** إلى القتال فتشفي بي بنو أسد

إن المهلب حبُّ الموت أورثهم *** و لم أرث رغبة في الموت عن أحد

و لقوله عليه السلام:

"الفقر يخرس الفطِن عن حاجته".

قال الشاعر (88/18):

سأُعجل نص العيس حتى يكفني *** غنى المال يوما أو غنى الحدثان

فللموت خير من حياة يرى لها *** على الحر بالإقلال و سم هوان

متى يتكلم يلغ حكم كلامه *** و إن لم يقل قالوا: عديم بيان

كأن الغنى عن أهله يورد الغنى *** بغیر لسان ناطق بلسان

و لقوله عليه السلام:

"و المقل غريب في بلدته".

قال خلف الأحمر (88/18):

لا تظني أن الغريب هو النا *** ئي ولكن الغريب المقلُ

ص: 130

و لقوله عليه السلام:

"من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه".

قال الشاعر (100/18):

أرى كل إنسان يرى عيب نفسه *** و يعمى عن العيب الذي هو فيه

و ما خير من تخفى عليه عيوبه *** و يبدو له العيب الذي بأخيه

و لقوله عليه السلام:

"إن قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه".

قال (ابن أبي الحديد) 109/18:

إن الأماني أكساب الجهول فلا *** تقنع بها فاركب الأهوال والخطرا

و اجعل من الفعل جهلا و اطّرح نظرا *** في الموبقات و لا تستشعر الخدرا

و إن قدرت على الأعداء منتصرا *** فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا

و لقوله عليه السلام:

"أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، و أعجز منه من ضيع من ظفر به منهم".

قال ابن الأعرابي (112/18):

لعمرك ما مال الفتى بذخيرة *** ولكن إخوان الصفاء الذخائر

و لقوله عليه السلام:

"إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفّروا أقصاها بقلة الشكر".

ص: 131

قال البحتري (116/18):

فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهدا *** فلا نلت نعمي بعدها توجب الشكرا

و قوله أيضا:

سأجهد في شكري لنعماك أنني *** أرى الكفر للنعماء ضرباً من الكفر

و لقوله عليه السلام:

"ما كل مفتون يحاسب".

قال المتنبي (119/18):

فما كل فعّال يجازی بفعله *** و لا كل قوّال لدي يجاب

و ربَّ كلام مرَّ فوق مسامعي *** كما طن في لفح الهجير ذباب

و لقوله عليه السلام:

"من جرى في عنان أمله عثر بأجله".

قال الشاعر (127/18):

من تمنى المني فأغرق فيها *** مات من قبل أن ينال مناه

ليس من مال في تتابع الل *** ذات فضل عن نفسه لثراه

و لقوله عليه السلام:

"قرنت الهيبة بالخيبة، و الحياء بالحرمان، و الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير".

قال الشاعر (131/18):

ص: 132

ليس للحاجات إلا *** من له وجه وقاح

و لسان طرمذي *** و غدو و رواح

فعليه السعي فيها *** و على الله النجاح

و لقوله عليه السلام:

"ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، و صفحات وجهه".

قال الشاعر (137/18):

تخبر في العينان ما القلب كاتم *** و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر

و قال آخر:

و في عينيك ترجمة أراها *** تدل على الضغائن و الحقود

و أخلاق عهدت اللين فيها *** غدت و كأنها زبر الحديد

و قد عاهدتني بخلاف هذا *** و قال الله: لله أوفوا بالعقود

و لقوله عليه السلام:

"أفضل الزهد إخفاء الزهد".

قال الشاعر (139/18):

معشر أثبت الصلاة عليكم *** لجباه يشقها المحراب

عمروا موضع التصنع منهم *** و مكان الإخلاص منهم خراب

و لقوله عليه السلام:

"فاعل الخير خير منه، و فاعل الشر شر منه".

ص: 133

قال ابن أبي الحديد:

خير البضائع للإنسان مكرمة *** تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه

فالخير خير و خير منه فاعله *** و الشر شر و شر منه صانعه

و لقوله عليه السلام، لابنه الحسن عليه السلام:

"يا بني إياك و مصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك".

قال ابن أبي الحديد (157/18):

حياتك لا تصاحبن الجهول *** فلا خير في صحبة الأخرق

يظن أخو الجهل إن الظلال *** عين الرشاد فلا يتقي

و يكسب صاحبه حمقه *** فيَسرق منه و لا يُسرقُ

و أقسم أن العدو اللبيب *** خير من المشفق الأحمق

و لقوله عليه السلام:

"احذروا صولة الكريم إذا جاع، و اللئيم إذا شبع".

قال الشاعر (179/18):

و يصبر الحر تحت ضيم *** و إنما يصبر الحمار

و لقوله عليه السلام:

"قلوب الرجال وحشية، فمن تألّفها أقبلت عليه".

قال الشاعر (180/18):

و إني لوحشيُّ إذا ما زجرتني *** و إني إذا ألفيتني لألوف

ص: 134

و قال عمار بن عقيل، الذي عكس المراد:

تبحثتمُ سخطي فكدر بحثكم *** نخيلة نفس كان صفرا ضميرها

و لم يلبث التخشين نفسا كريمة *** على قومها أن يستمر مريرها

و ما النفس إلا نطفة بقرارة *** إذا لم تكدر كان صفوا غديرها

و لقوله عليه السلام:

"السخاء ما كان ابتداءً، فإذا كان عن مسألة فحياء وتذمم".

قال ابن حيوس على سبيل الإعجاب (184/18):

إني دعوت ندى الكرام فلم يجب *** فلأشكرن ندى أجاب و ما دعي

و من العجائب و العجائب جمة *** شكر بطيء ن ندى المتسرع

و قال آخر:

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله *** عوضا و لو نال الغنى بسؤال

و إذا النوال إلى السؤال قرنته *** رجع السؤال وخف كل نوال

و لقوله عليه السلام:

"الغني في الغربة وطن، و الفقر في الوطن غربة".

قال الشاعر (190/18):

يا دائب الفقر ألا تزدجر *** عيب الغنى أكبر لو تعتبر

إنك تعصي الله تبغي الغنى *** و ليس تعصي الله كي تفتقر

و لقوله عليه السلام:

ص: 135

"القناعة مال لا ينفد". ويروى أنه للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

قال الشاعر:

و ما الناس إلا واحد غير قانع *** بأرزاقه أو طالب غير واجد

و لقوله عليه السلام:

"المال مادة الشهوات".

قال الشاعر (194/18):

و صاحب صدق ليس ينفع قربه *** و لا وده حتى تفارقه عمدا و قال الحريري:

و ليس يغني عنك في المضايق *** إلا إذا فرَّ فرار الآبق

و قال آخر:

ألم تر أن المال يهلك ربه *** إذا جم آتیه وسد طريقه

و من جاوز البحر الغزير بقحمة *** و سد طريق الماء فهو غريقه

و لقوله عليه السلام:

"سَبُعٌ إن خُلّي عنه عقر".

قال الشاعر (199/18):

هي العوجاء لست تقيمها *** ألا أن تقويم الضلوع انكسارها

يجمعن ضعفا و اقتدارا على الغنى *** أليس عجيبا ضعفها و اقتدارها

و قال طفيل الغنوي:

ص: 136

إن النساء كأشجار نبتن معاً *** هن المُرار و بعض المر مأكول إن النساء متى ينهين عن خلق *** فإنه واجب لا بد مفعول

و لقوله عليه السلام:

"الشفيع جناح الطالب".

قال أبو الطيب (205/18):

إذا عرضت حاج إليك فنفسه *** إلى نفسه فيها شفيع مشفع

و قال آخر:

إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة *** فلا خير في ود يكون بشافع

و قال دعبل:

و إن امرئ أسدى إلي بشافع *** إليه ويرجو الشكر مني لأحمق

و قال آخر:

مضى زمني و الناس يستشفعون بي *** فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع

و قال المجنون:

و نبئت ليلى أرسلت بشفاعة *** إلي، فهلا نفس ليلى شفيعها

أأكرم من ليلى عليَّ فتبتغي *** به الجاه أم كنت امرءً لا يطيعها

و قال آخر:

و من يكن الفضل بن يحيى بن خالدٍ *** شفيعا له عند الخليقة ينجح

و قال آخر:

ص: 137

و إذا امرؤ أسدى إليك صنيعة *** من جاهه، فكأنها من ماله

و قال آخر:

و عطاء غيرك إن بذلت *** عناية فيه عطاؤك

و لقوله عليه السلام:

"فقد الأحبة غرية".

قال الشاعر (210/18):

فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى *** (و) لكن من تنأين عنه غريب

و قال آخر:

أسرة المرء والداه وفيما *** بين حضنيهما الحياة تطيب

و إذ وليا عن المرء يوما *** فهو في الناس أجنبي غريب

و لقوله عليه السلام:

"العفاف زينة الفقر، و الشكر زينة الغني".

قال الشاعر (213/18):

فإذا افتقرت فلا تكن *** متخشعا و تجمّلِ

و قال آخر:

أقسم بالله لمصقُّ النوى *** و شرب ماء القلَّب المالحة

أحسن بالإنسان من ذلة *** و من سؤال الأوجه الكالحة

فاستغن بالله تكن ذا غنى *** مغتبطا بالصفقة الرابحة

ص: 138

طوبى لمن تصبح ميزاته *** يوم يلاقي ربه راجحة

و قال آخر، و قد وقف على كنيف و أسفله کنّاف:

و أكرم نفسي عن أمور كثيرة *** ألا إن إكرام النفوس من العقل

و أبخل بالفضل المبين على الأولى *** رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل

و ما شانتي كنس الكنيف و إنما *** يشين الفتى أن يجتدي نائل النذل

و أقبح مما بي وقو في مؤملا *** نوال فتى مثلي، وأي فتى مثلي

و لقوله عليه السلام:

"قيمة كل امرئ ما يحسنه".

قال الشاعر (231/18):

تعلم فليس المرء يخلق عالماً *** و ليس أخو علم كمن هو جاهل

و إن كبير القوم لا علم عنده *** صغير إذا التفت عليه المحافل

و لقوله عليه السلام:

"لا يرجونَّ أحد منكم إلا ربه".

قال أبو العتاهية:

و الله لا أرجو سوا *** ك و لا أخاف سوى ذنوبي

و لقوله عليه السلام:

"رأي الشيخ أحب من جلد الغلام".

قال أبو الطيب (237/18):

ص: 139

الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرة *** بلغت من العلياء كل مكان

و لربما طعن الفتى أقرانه *** بالرأي قبل تطاعن الأقران

لولا العقول لكان أدنى ضيغم *** أدنى إلى شرف من الإنسان

و لما تفاضلت الرجال و دبرت *** أيدي الكماة عوالي المران

و قال لقيط بن يعمر الأيادي (238/18):

و قلدوا أمركم لله دركم *** رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفا إن رضاء العيش ساعده *** و لا إذا عض مکروه به خشبا

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره *** یکون متبِّعا طورا و متبِّعا حتى استمر على شزر مريرته *** مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

و لقوله عليه السلام:

"و من أصلح أمر آخرته، أصلح أمر دنياه".

قال الشاعر (242/18):

أنا شاكر أنا مادح أنا حامد *** أنا خائف أنا جائع أنا عارٍ

هي ستة و أنا الضمين بنصفها *** فكن الضمين بنصفها يا باري

و لقوله عليه السلام:

"لا يستقیم قضاء الحوائج إلا بثلاث، باستصغارها لتعظم، و باستكتامها لتظهر، و بتعجيلها لتهنأ".

ص: 140

قال أبو تمام (259/18):

و كان المطل في بدءٍ وعودٍ *** دخاناً للصنيعة و هي نار

نسيب البخل مذ كانا و إلا *** يكن نسب فبينهما جوارٌ

لذلك قيل بعض المنع أدنى *** إلى جود، و بعض الجود عارٌ و لقوله عليه السلام:

"إذا استوى الصلاح على الزمان و أهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله، فأحسن رجل الظن برجل فقد غرّر".

قال الشاعر (278/18):

أسأت إذا أحسنت ظني بكم *** و الحزم سوء الظن بالناس

و قال آخر:

و قد كان حسن الظن بعض مذاهبي *** فأدبني هذا الزمان و أهله

و قال ابن المعتز:

تفقد مساقط لحن المريب *** فإن العيوب وجوه القلوب

و طالع بوادره في الكلام *** فأنك تجني ثمار العيوب

و قيل له عليه السلام:

- كيف تجدك أمير المؤمنين؟

فقال:

ص: 141

"كيف يكون حال من يفني ببقائه، و يسقم بصحته، ويؤتى من مأمنه".

قال عبدة بن الطبيب (280/18):

أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ *** و حسبك داء أن تصح و تسلما

و لن يلبث العصران يوم و ليلة *** إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما و قال آخر:

كانت قناتي لا تلين لغامز *** فأنها الإصباح و الإمساء

و دعوت ربي بالسلامة جاهدا *** ليصحني فإذا السلامة داء

و لقوله عليه السلام:

"شتان ما بين عملين؛ عمل تذهب لذته، و تبقى تبعته، و عمل تذهب مؤونته، و يبقى أجره".

قال الشاعر (310/18):

تفني اللذاذة ممن نال بغيته *** من الحرام و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار

و لقوله عليه السلام:

"لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث، في نكبته، و غيبته، ووفاته"

قال الشاعر (330/18):

و إذا الفتى حسنت مودته *** في القرب ضاعفها على البعد

ص: 142

و قال آخر:

و إني لأستحييه و الترب بيننا *** كما كنت أستحييه وهو يراني

و قال أبو العلاء:

أزرت بكم يا ذوي الألباب أربعة *** يتركن أحلامكم نهب الجهالات

ودّ الصديق و علم الكيمياء و أح *** كام النجوم، و تفسير المنامات

و لقوله عليه السلام:

"ما عال من اقتصد"

قال أبو العلاء (338/18):

و إن كنت تهوى العيش فابغِ توسطا *** فعند التناهي پنصر المتطاول

و لقوله عليه السلام:

"والهم نصف الهرم".

قال الشاعر (341/18):

هموم قد أبت إلا التباسا *** تبثُّ الشيب في رأس الوليد

و تقعد قائماً بشجا حشاه *** و تطلق للقيام حبا القعود

و أضحت خشّعا منها نزار *** مركبة الرواجب في الخدود

و قال أبو تمام:

شاب رأسي و ما رأيت مشيب ال *** رأس من فضل شيب الفؤاد

و كذاك القلوب في كل بؤسٍ *** ونعيم طلاع الأجساد

ص: 143

طال إنكاري البياض و لو عَمَّر *** تُ شيئا أنكرت لون السواد و لقوله عليه السلام:

"ينزل الصبر على قدر المصيبة" و "عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم، و يعود إليه الجازع".

قال أبي خراش الهذلي يذكر أخاه عروة (342/18):

تقول أراه بعد عروة... *** و ذلك رزءٌ لو علمت جليل

فلا تحسبي أني تناسيت عهده *** ولكن صبر يا أميم جميل

و قال عمرو بن معد يكرب:

كم من أخ لي صالح *** برأته بيديَّ لحدا

ألبسته أكفانه *** وخلقت -يوم خلقت- جلدا

و قال الشاعر:

أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة *** ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر

تصبّرت مغلوبا و أني لموجع *** كما صبر القطان في البلد القفر

و لقوله عليه السلام:

"المرء مخبوء تحت لسانه".

قال الشاعر (353/18):

و كان أخلائي يقولون مرحباً *** فلما رأوني مقترا مات مرحب

و قول الآخر:

ص: 144

و كائن ترى من صامت لك معجب *** زیادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصف و نصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم

و لقوله عليه السلام:

"لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة".

قال الطائي (361/18):

فكانت لوعة ثم استقرت *** كذاك لكل سائلة قرار

و قال الكميت:

فالآن صرت إلى أمي *** ة و الأمور إلى مصاير

و لقوله عليه السلام:

"لكل مقبل إدبار، و ما أدبر كأن لم يكن".

قال الشاعر (363/18-365):

ما طار طير و ارتفع *** إلا كما طار وقع

و قال الآخر:

في هذه الدار في هذا الرواق على *** هذي الوسادة كان العز فانقرضا

و قال الآخر:

إن الأمور إذا دنت لزوالها *** فعلامة الأدبار فيها تظهر

و قال الآخر:

أفٍ لدنيا إذا كانت كذا *** أنا منها في هموم و أذى

ص: 145

إن صفا عيش امرئ في صبحها *** جرعته محسيا كأس القذي

و لقد كنت إذا ما قيل من *** أنعم العالم عيشا؟ قيل: ذا

و قال أهاب بن هام صعصعة المجاشعي:

لعمر أبيك فلا تكذبن *** لقد ذهب العمر إلا قليلا

و قد فتن الناس في دينهم *** و خلى ابن عفان شرا طويلا

و قال أبو العتاهية:

يعمر بيت بخراب بيت *** يعيش حي بتراب ميت

و قال شاعر:

رب يوم بكيت منه فلما *** صرت في غيره بكيت عليه

و قول الآخر:

إنما الدنيا دول *** راحل قيل نزل

نازل قيل رحل

و قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر لخالد بن الوليد عندما فتح عين التمر و سأل عنها قالت:

فبينا نسوس الناس و الأمر أمرنا *** إذا نحن فيها سوقة نتنصف

فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها *** تقلب قارات بنا و تصَرَّف

و قال سعد بن أبي وقاص، و قد جاء الحرقة بنت النعمان بن المنذر مرة فلما رآها قال:

ص: 146

- قاتل الله عدي بن زيد، كأنه كان ينظر إليها حيث قال لأبيها:

إن للدهر صرعة فاحذرنها *** لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتي معافي فيردي *** و لقد كان آمنا مسرورا

و لقوله عليه السلام:

"لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان".

قال الشاعر:

و الصبر بالأرواح يعرف فضله *** صبر الملوك و ليس بالأجسام

و لقوله عليه السلام:

"عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه".

قال محمود الوراق (378/18-379):

إني شكرت لظالمي ظلمي *** و غفرت ذاك له على علم

و رأيته أهدى إليَّ يدا *** لما أبان بجهله حلمي

رجعت إساءته إليه و إح *** ساني فعاد مضاعف الجرم

و غدوت ذا أجرٍ و محمدةٍ *** و غدا بكسب الظلم و الإثم

فكأنما الإحسان كان له *** و أنا المسيء إليه بالحكم

ما زال يظلمني و أرحمه *** حتی بكيت له من الظلم

و لقوله عليه السلام:

"من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن".

ص: 147

قال الشاعر (380/18):

و زعمت أنك لا تلوط فقل لنا *** هذا القرطّق واقفا ما يصنع شهدت ملاحته عليك بريبة *** و على المريب شواهد لا تدفع

و لقوله عليه السلام:

"من ملك استأثر".

قال أبو الطيب (381/18):

و الظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم

و لقوله عليه السلام:

"من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها عقولها".

قال بشار (383/18):

إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن *** بعزم نصيح أو مشورة حازم

و لا تجعل الشورى عليك غضاضة *** فإن الخوا فی عدة للقوادم

و لقوله عليه السلام:

"الموت الفقر الأكبر".

قال الشاعر (386/18):

خلق المال و اليسار لقوم *** و أراني خلقت للإملاق

أنا فيما أرى بقية قوم *** خلقوا بعد قسمة الأرزاق

و قال السيواسي:

ص: 148

ليت شعري لما بدا يقسم ال *** أرزاق في أي مطبق كنت

و قال من كتب على جانب دینار:

قرنت بالنجح و بي كلما *** يراد من ممتنع يوجد

و على الجانب الآخر:

و كل من کنت له آلفا *** فالإنس و الجن له عبد

و قال آخر:

و إذا رأيت صعوبة في مطلب *** فاحمل صعوبته على الدينار

تردد كما الظهر الذلول فإنه *** حجر يليِّن قوة الأحجار

و لقوله عليه السلام:

"من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبّده".

قال الشاعر، و هو نقيض هذا القول يخاطب صاحبا له (388/18):

كن كمن لم تلاقني قط في النا *** س و لا تجعلن ذكراي شوقا

و تيقن بأنني غير داءٍ *** لك حقا حتى ترى لي حقا

و بأني مفوق ألف سهم *** لك إن فوقت يمينك فوقا

و لقوله عليه السلام:

"الإعجاب يمنع من الازدياد".

قال المتنبي (393/18):

و من جهلت نفسه قدره *** رأي غيره منه مالا يرى

ص: 149

و لقوله عليه السلام:

"الأمر قریب و الاصطحاب قليل".

قال أبو العلاء (394/18):

نفسي و جسمي لما استجمعا صنعا *** شرا إليَّ فجل الواحد الصمد

فالجسم يعزل فيه النفس مجتهدا *** و تلك تزعم أن الظالم الجسد

إذا هما بعد طول الصحبة افترقا *** فإن ذاك لأحداث الزمان يد

و أصبح الجوهر الحساس في محن *** موصولة واستراح الآخر الجحد

و لقوله عليه السلام:

"قد أضاء الصبح لذي عينين".

قال ابن هانئ (395/8):

فاستيقضوا من رقدة و تنبهوا *** ما بالصباح عن العيون خفاء

ليست سماء الله ما ترونّها *** لكن أرضا تحتويه سماء

و لقوله عليه السلام:

"كم من أكلة تمنع أكلات".

قال أبوالعلاف في سنور له يرثیه (397/18):

أردت أن تأكل الفراخ و لا *** يأكلك الدهر أكل مضطهد

يا من لذيذ الفراخ أوقعه *** ويحك هلا قنعت بالغدد

كم أكلة خامرت حشا شرهٍ *** فأخرجت روحه من الجسد

ص: 150

و لقوله عليه السلام:

"أزجر المسيء بثواب المحسن".

قال ابن هاني المغربي (410/18):

لولا انبعاث السيف و هو مسلط *** في قتلهم قتلتهم النعماء

و قال أبو العتاهية:

إذا جازيت بالإحسان قوما *** زجرت المذنبين عن الذنوب

فما لك و التناول من بعيد *** و يمكنك التناول من قريب

و لقوله عليه السلام:

"ثمرة التفريط الندامة، و ثمرة الحزم السلامة".

قال أبو الأسود و هو يرد على زياد -و قد أسن-:

"لولا ضعفك لاستعملناك على بعض أعمالنا".

فقال:

- أ للصراع يريدني الأمير؟

قال زیاد:

- إن للعمل مؤونة، و لا أراك إلا تضعف عنه.

فقال أبو الأسود (414/18):

زعم الأمير أبو المغيرة أنني *** شيخ كبير قد دنوت من البلى

صدق الأمير فقد كبرت و إنما *** نال المكارم من يدي على العصا

ص: 151

یا ابا المغيرة رب أمر مبهم *** فرجتُه بالحزم مني والدها

و أنشد یزید بن معاوية لما نزل بأبيه الموت فرآه مسکتا لا يتكلم بکی و أنشد:

لوفات شيئ يرى لفات أبو *** حيان لا عاجز و لا وكل

الحوّل القلّب الأريب و لا *** تدفع يوم المنية الحيل

و لقوله عليه السلام:

"إن من لم ينجه الصبر، أهلکه الجزع".

قال الشاعر (415/18):

و إني لأدري أن في الصبر راحة *** ولكن إنفاقي على الصبر من عمري

و قال أبو العلاء يستبطئ بعض الرؤساء:

فإن قيل صبراً فلا صبر للذي *** غدا بيد الأيام تقتله صبرا

و إن قيل لي عذرا فوالله ما أرى *** لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا

و لقوله عليه السلام:

"وا عجباً أن تكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة"

قيل ما روي للشريف الرضي (رحمه الله) (416/18):

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربي حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي و أقرب

و لقوله عليه السلام:

ص: 152

"يا ابن آدم ما کسبت فوق قوتك، فأنت فيه خازن لغيرك".

قال الشاعر (10/19):

ما لي أراك الدهر تجمع دائباً *** البعل عرسك لا أبا لك تجمع

و لقوله عليه السلام، و قد مر بقَدرٍ على مزبلة:

"هذا ما بخل به الباخلون".

قال المتنبي (13/19):

لو أفكر العاشق في منتهى *** حسن الذي يسبيه لم يسبه

و لقوله عليه السلام، و قد أتي بجان و معه غوغاء فقال:

"لا مرحبا بوجوه لا تُرى إلا عند كل سوءة".

قال الشاعر (20/19):

و إني لأستبقي امرأ السوء عدة *** العدوة عريّض من الماس جائب

أخاف كلاب الأبعدين و هرشها *** إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب

و لقوله عليه السلام:

"و السلو عوضك ممن غدر".

قال الشاعر (32/19):

أعتقني سوء ما صنعت من ال *** رق فيا بردها على كبدي

قصدت عبدا للسوء فيك و ما *** أحسن سوء قبلي إلى أحد

و لقوله عليه السلام:

ص: 153

"و المودة قرابة مستفادة، و لا تأمنن ملولا".

قال العباس بن الأحنف (32/19):

لو كنت عاتبته لسكن عبرتي *** أملي رجاك وزرت غير مراقب

لكن مللت فلم يكن لي حيلة *** صد الملوك خلاف صد العاتب

و لقوله عليه السلام:

"الخلاف يهدم الرأي".

قال دريد بن الصمة (36/19):

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم و قد أرى *** غوايتهم و إنني غير مهتدٍ

و لقوله عليه السلام:

"في تقلب الأحوال، علم جواهر الرجال".

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره *** يكون متبِّعا طورا و متبِّعا

حتى استمرت على شزر مريرته *** مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

و لقوله عليه السلام:

"من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم".

قال أبو تمام (44/19):

ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي

و قال طاهر بن الحسن بن مصعب:

ص: 154

و يكفيك من قوم شواهد أمرهم *** فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر

فإن امتحان القوم يوحش منهم *** و ما لك إلا ما ترى في الظواهر

و إنك إن كشفت لم تر مخلصاً *** و أبدى لك التجريب خبث السرائر

و لقوله عليه السلام:

"من كساه الحياء ثوبه، لم يرَ الناس عيبه".

قال الشاعر (45/19):

يجري الحياء الفض في قسماتهم *** في حين يجري في أكفهم الدم

و قول الآخر:

كريم يغض الطرف فضل حيائه *** و يدنو و أطراف الرماح دوانِ

و قول الآخر:

صلابة الوجه لم تغلب على أحد *** إلا تكامل فيها الشر و اجتمعا

و لقوله عليه السلام:

"و باحتمال المؤمن يجب السؤدد".

قال أبو تمام (48/19):

و الحمد شهد لا ترى مشتاره *** يجنيه إلا من نقيع الحنظل

غل لحامله و يحسبه الذي *** لم يوه عانقه خفيف المحمل

و لقوله عليه السلام:

"الطمع في وثاق الذل".

ص: 155

قال البحتري:

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى *** تعباً لظن الخائب المكدود

و لقوله عليه السلام:

"شاركوا الذين قد أقبل عليهم الرزق، فإنه أخلق للغنى، و أجدر بإقبال الحظ".

قال الرضي (57/19):

أسيغ الغيظ من نوب الليالي *** و ما يحفلن بالحنق المغيظ

و أرجو الرزق من خرق دقيق *** يسد بسلك حرمان غليظ

و أرجو ليس في كفيَّ منه *** سوى عظ اليدين على الحظوظ

و لقوله عليه السلام:

"خيار خصال النساء شرار خصال الرجال، الزهو و الجبن و البخل".

قال الطغرائي (65/19):

الجود و الإقدام في فتيانهم *** و البخل في الفتيات و الإشفاق

و الطعن في الأحداق دأب رماتهم *** و الراميات سهامها الأحداق

و له أيضا:

قد زاد طيب أحاديث الكرام بها *** و بالكرائم من جبن و من بخل

و لقوله عليه السلام:

"و الحجر الغصب رهن على خرابها".

ص: 156

قال ابن بسام لأبي علي بن مقلة لما بنى داره بالزاهر، ببغداد من الغصب و ظلم الرعية (72/19):

بجنبك داران مهدومتان *** و دارك ثالثة تهدم

فليت السلامة للمنصفين *** دامت فكيف لم يظلم

و قوله فيه أيضا:

قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا *** فإنما أنت في أضغاث أحلام

تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا *** دارا ستنقض أيضا بعد أيام

و لقوله عليه السلام:

"إذا كثرت المقدورة قلت الشهوة"

استشهد بقول الشاعر (19م78):

و أخٍ كثرت عليه حتى ملني *** و الشيء مملوك إذا هو يرخص

يا ليته إذ باع ديناً باعه *** ممن يزيد عليه لا من ينقص

و لقوله عليه السلام:

"الكرم أعطف من الرحم".

قال أبو تمام لابن الجهم (81/19):

إلا يكن نسب يؤلف بيننا *** أدب أقمناه مقام الوالد

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدر من غمام واحد

و قال ابن أبي الحديد في بعض أغراضه:

ص: 157

و وشائج الآداب عاطفة ال *** فضلاء فوق و شائج النسب

و لقوله عليه السلام:

"الرداء الدَّين".

قال الشاعر (125/19):

إن لي حاجة إليك فقالت *** بين أذني و عاتقي ما تريد

و لقوله عليه السلام:

"أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يغيظك يوماً ما و أبغض بغيظك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".

قال الشاعر: (156/19):

فأحببت ما أحببت حباً مقارباً *** فإنك لا تدري متى أنت نازع

و أبغض ما أبغضت غير مباين *** فإنك لا تدري متى أنت راجع

و قال عدي بن زيد:

و لا تأمنن من مبغض قرب داره *** و لا من محب أن يمل فيبعدا

و لقوله عليه السلام:

"قطع العلم عذر المتحللين".

استشهد بقول الشاعر (176/19):

قدمت على الكريم بغير زاد *** من الأعمال ذا ذنب عظيم

و سوء الظن أن تعتد زادا *** إذا كان القدوم على الكريم

ص: 158

و لقوله عليه السلام:

"ينام الرجل على الثكل و لا ينام على الحرب".

قال الشاعر (213/19):

لنا أبل غر يضيق فضاؤها *** و يغبر عنها أرضها و سماؤها

فمن دونها أن تستباح دماؤنا *** و من دوننا أن تستباح دماؤها حمى و قرى فالموت دون مرامها *** و أيسر يوم يوم حق فناؤها

و لقوله عليه السلام:

"مودة الآباء قرباء بين الأبناء، و القرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة".

قال الشاعر (214/19):

أبقى الضغائن آباء لنا سلفوا *** فلن تبيد و للأباء أبناء

و لقوله عليه السلام:

"اتقوا ظنون المؤمنين فإن الله تعإلى جعل الحق على ألسنتهم". قال أبو الطيب (215/19):

ذكي تظنيه طليعة عينه *** يرى قلبه في يومه ما يرى غدا

و قال أوس بن حجر:

الألمعي الذي يظن بك الظن *** و كأن قد رأى و قد سمعا

و لقوله عليه السلام:

ص: 159

"ردوا الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر".

قال عمرو بن كلثوم (221/19):

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و قال الفند الزماني:

فلما صرح الشر *** فأمسى و هو عريان

فلم يبق سوى العدوا *** ن دناهم كما دانوا

و بعض العلم عند الجه *** ل للذلة إذعان

و في الشرنجاة حي *** ن لا ينجيك إحسان

قال الأحنف:

و ذي ضعف أمت القول عنه *** بحلمي فاستمر على المقال و من يحلم و ليس له سفيه *** يلاقي المعضلات من الرجال

و قال الراجز:

لا بد للسؤدد من أرماح *** و من عديد يتقي بالراح

و من سفيه دائم النباح

و قال آخر:

و لا يلبث الجهال أن يتهضموا *** أخا العلم ما لم يستعن بجهول

و قال آخر:

و لا أتمنى الشر و الشر تاركي *** ولكن متى أحمل على الشر راكب

ص: 160

و لقوله عليه السلام:

(العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة)

قال الشاعر (إذ قال بالأربعين) (283/19):

إذا ما المرء قصر ثم مرت *** عليه الأربعون من الرجال

و لم يلحق بصالحهم فدعه *** فليس بلاحق أخرى الليالي

و لقوله عليه السلام:

"الاستغناء عن العذر، أعز من الصدق به ".

قال الشاعر (241/19):

إذا كان وجه العذر ليس بواضح *** فأن إطراح العذر خير من الغدر

و لقوله عليه السلام:

"السلطان وزعة الله في الأرض".

قال الأفوه الأودي (244/19):

لا یصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** و لا سراة إذا جهالهم سادوا

و لقوله عليه السلام:

"الغني الأكبر اليأس عما في أيدي الناس".

قال الشاعر (246/19):

أرحت روحي من عذاب الملاح *** لليأس روح مثل روح النجاح

و قال ابن المفضل:

ص: 161

لا أمدح اليأس ولكنه *** أروح للقلب من المطمح

أفلح من أبصر روض المني *** يدعى فلم يرع ولم يرتع

و ما روي لعبد الله بن المبارك الزاهد:

قد أرحنا و استرحنا *** من غدو و رواح

بعفاف و كفاف *** و قنوع و صلاح

و جعلنا اليأس مفتا *** حا لأبواب النجاح

و لقوله عليه السلام:

"لكل امرئ في ماله شريكان، الوارث و الحوادث".

قال الرضي (215/19):

خذ من تراثك ما استطعت فإنما *** شركاؤك الأيام و الوراث

لم يقض حق المال إلا معشر *** نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا

و لقوله عليه السلام:

"من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه".

قال الشاعر (265/19):

يخوض أناس في الكلام ليوجزوا *** و للصمت في بعض الأحايين أوجز

إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا *** فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز

و لقوله عليه السلام:

"أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله".

ص: 162

قال الشاعر (269/19):

إذا أنت عبت الأمر ثم أتيته *** فأنت ومن تزري عليه سواء

و لقوله عليه السلام:

"لا تسأل عما لم يكن ففي الذي قد كان لك شغل".

قال أبو الطيب في سيف الدولة (282/19):

ليس المدائح تستوفي مناقبه *** ممن كليب و أهل الأعصر الأول

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به *** في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل

و قد وجدت مكان القول ذا سعة *** فإن وجدت لسانا قائلا فقل

و لقوله عليه السلام:

"رب مستقبل يوما ليس بمستدبره، مضبوط في أول ليلة. قامت بواكيه في آخره"

قال الشاعر (321/19):

يا راقد الليل مسرورا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

و مثله:

لا يغرنك عشاء ساكن *** قد يوافي بالمنيات السحر

و لقوله عليه السلام:

"من فاته حب نفسه، لم ينفعه حب آبائه".

قال الشاعر ( 331/19):

ص: 163

لئن فخرت بآباء ذوي حسب *** لقد صدقت ولكن بئس ما صدقوا

و لقوله عليه السلام:

"ألا و إن من البلاء الفاقة، و أشد من الفاقة مرض البدن، و أشد من مرض البدن مرض القلب، ألا و إن من النعم سعة المال، و أفضل من سعة المال صحة البدن، و أفضل من صحة البدن تقوى القلب".

قال أحمد بن يوسف الكاتب:

المال للمرء في معيشته *** خير من الوالدين و الولد

و إن تدم نعمة عليك تجد *** خيرا من المال صحة الجسد

و ما بمن نال فضل عافية *** و قوت يوم فقر إلى أحد

و لقوله عليه السلام:

"أزهد في الدنيا يبصرك الله عوراتها، و لا تغفل فليس بمغفول عنك".

قال عبد الله بن معاوية (339/19):

و عين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

و لقوله عليه السلام:

"رب قول، أنفذ من صول".

قال الشاعر (359/19):

و قافيه مثل حد السنان *** تبقى و يذهب من قالها

تخيرتها ثم أرسلتها *** و لم يطق الناس إرسالها

ص: 164

و لقوله عليه السلام:

"من لم يعط قاعدا، لم يعط قائما".

قال الشاعر (363/19):

جرى قلم القضاء بما يكون *** نسيان التحرك والسكون

جلون منك أن تسعى لرزق *** و يرزق في غشاوته الجنين

و لقوله عليه السلام :

"مقاربة الناس في أخلاقهم آمن من غوائلهم".

قال المتنبي (3/20):

و خلة في جليس أتقيه بها *** كيما يرى أننا مثلان في الوهن

و كلمة في طريق خفت أعربها *** فيهتدي لي فلم أقدر على اللحن

و قال بشار:

و ما أنا إلا كالزمان إذا صحا *** صحوت و إن فاق الزمان أفوق

و قال الشاعر:

أحامقه حتى يقال سجية *** و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله

و لقوله عليه السلام:

"ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله، و أحسن منه تیه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله سبحانه".

قال الشاعر (39/20):

ص: 165

قنعت فأعتقت نفسى ولن *** أملك ذا قدوة رقها

و نزهتها عن سؤال الرجال *** و منة من لا يرى حقها

و إن القناعة كنز اللبيب *** إذا ارتقت فتقت رتقها

سيبعث رزق الشفاه الفرات *** و خمص البطون الستي سقَّها

فما فارقت مهجة جسمها *** لعمرك أو فيَّثت رزقها

مواعيد ربك مصدوقة *** إذا غيرها فقدت صدقها

و لقوله عليه السلام:

(ما استودع الله امرءً عقلا إلا ليستنفد به يوما ما)

قال الشاعر (43/20):

و ما ألف مطرور الزمان مشرد *** يعارض يوم الروح رأيا مسددا

و قال الآخر:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة *** فأن فساد الرأي أن تترددا

فأن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا *** فأن فساد العزم أن يتفندا

و لقوله عليه السلام:

"من صارع الحق صرعه".

قال الطائي (45/20):

و من قامر الأيام عن غراتها *** فأصبح بها أن تنجلي و لها القمر

و لقوله عليه السلام:

ص: 166

"القلب مصحف البصر".

قال الشاعر (46/20):

تخبرني العينان ما القلب كاتم *** و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر

و قول الشاعر:

إن العيون لتبدي في تقلبها *** ما في الضمائر من ود و من حنق

و لقوله عليه السلام:

"لا تجعلن ذرب لسانك على من أنطقك، و بلاغة قولك على من سددك".

قال المتنبي في سيف الدولة (48/20):

و لما كسا كعبا ثيابا طغوا بها *** رعی کل ثوب من سنان نجارق

و ما يوجع الحرمان من كف حازم *** كما يوجع الحرمان من كف رازق

و لقوله عليه السلام:

"كفاك أوباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك"

قال أحد الكتاب و هو يكتب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك:

"ما على هذا افترقنا بشبذان اذ كنا، و لا هكذا عهدنا الإخاء تضرب الناس بالمهندة البيض على غدرهم و ننسى الوفاء":

و لقوله عليه السلام: للأشعث بن قیس معزيا عن ابن له:

"إن صبرت صبر الأكارم، و إلا سلوت سلو البهائم".

قال أبو تمام (50/20):

ص: 167

و قال علي في التعازي لأشعث *** و خاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر للبلوى عزاء وصية *** فتؤجر أم تسلو سلو البهائم

و لقوله عليه السلام:

"و إن أهل الدنيا کرکب، بينما هم حلوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا".

قال أبو العتاهية (53/20):

إن دارا نحن فيها لدار *** ليس فيها لمقيم قرار

کم و كم و قد حلها من أناس *** ذهب الليل بهم و النهار

فهم الركب قد أصابوا مناخا *** فاستراحوا ساعة ثم ساروا

و كذا الدنيا على ما رأينا *** يذهب الناس و تخلوا الديار

و لقوله عليه السلام:

"الحلم عشيرة".

قال الشاعر (61/20):

و للكف عن شتم اللئيم تكرما *** أضر من الشتم حين شتمه

و لقوله عليه السلام:

"إن لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، فيقرها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، ثم حولها إلى غيرهم".

قال الشاعر (70/20):

و بالناس عاش الناس قدما و لم يزل *** من الناس مرغوب إليه و راغب

ص: 168

و قال آخر:

لم يعطك الله ما أعطاك من نعم *** إلا لتوسع من يرجوك إحسانا

فأن منعت فأخلق أن تصادفها *** تطير عنك زرافات و وحدانا

و لقوله عليه السلام:

"لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية و الغني، بينما تراه تعافي إذ سقم، وبينما تراه غنيا إذ افتقر".

قال الشاعر (71/20):

و بينما المرء في الأحياء مغتبط *** إذ صار في اللحد تسفيه الأعاصير

و قال الآخر:

لا يغرنك عشاء ساخن *** قد يوافي بالمنيات السحر

و قال عبيد الله بن طاهر:

و إذا ما أعارك الدهر شيئا *** فهو لا بد آخذ ما أعارا

و قال الآخر:

يعز الفتى مر الليالي سليمة *** وهن به عما قليل عواثر

و قال آخر:

و رب غنى عظيم الثراء *** أمسى عقلا عديما فقيرا

و کم بات من مترف في القصور *** فعوض في الصبح عنها القبورا

و لقوله عليه السلام:

ص: 169

"إن أخسر الناس صفقة، و أخيهم سعيا، رجل أخلق بدنه في طلب آماله، و لم تساعده المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، و قدم على الآخرة بتبعته".

قال الشاعر (75/20):

نروح و نغدو لحاجاتنا *** و حاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته *** و تبقى له حاجة ما بقي

و لقوله عليه السلام:

"اذكروا انقطاع اللذات، و بقاء التبعات".

قال الشاعر:

تفنى اللذاذة ممن نال بغيته *** من الحرام، و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار

و لقوله عليه السلام:

"أُخبر تَقلَه"، أي: أخبر الناس و جَرِّبُهم تُبغِضهُم.

قال أبو العلاء (81/20):

جربت دهري و أهليه فما تركت *** لي التجارب في ود امرئ غرضا

و قال آخر:

و كنت أرى أن التجارب عدة *** فخانت ثقاة الناس حتى التجارب

و قال عبيد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:

ص: 170

رأيت فضلا كان شيئا ملفقاً *** فأبرزه التمحيص حتى بدا ليا

و قول الآخر:

عتبت على سلم فلما فقدته *** و جربت أقواما، رجعت إلى سلم

و مثله:

ذممتك أولا حتى إذا ما *** و بلوت سواك عاد الذم حمدا

و لم أحمدك من خير ولكن *** وجدت سواك شر منك جدا

فعدت إليك مضطرا ذليلا *** لأني لم أجد من ذاك بدا

لمجهود تحامي كل ميت *** فلما اضطر عاد إليه شدا

و لقوله عليه السلام:

"أولى الناس بالكرم من عرفت فيه الكرام". أي: ضربت عروقه في الكرم.

أنشد المبرد في علم السعدي (83/20):

إنا سألنا قومنا فخيارهم *** من كان أفضلهم أبوه الأفضل

أعطى الذي أعطى أبوه قبله *** و تبخلت أبناء من يتبخل

و ما أنشده أيضا في هذا المعنى:

لطلحة بن خثيم حين تسأله *** أندي و أكرم من هند بن هطال

و بيت طلحة في عز و مكرمة *** و بيت هند إلى ربقٍ و أحمال إلا فتى من بني ذبيان يحملني *** و ليس يحملني إلا ابن حمال

فقلت طلحة أولى من حملت له *** و جئت أمشي إليه مشي مختال

ص: 171

مشيتنا أن حبلي سوف يعلقه *** في رأس ذيالة أو رأس ذيال

و قال آخر:

عند الملوك مضرة و منافع *** و أرى البرامك لا تضر وتنفع

إن العروق إذا استثر بها الثرى *** أثرى النبات بها و طاب المزرع

و إذا جهلت من امرئ أعراقه *** و قديمه فانظر إلى ما يصنع

و قال آخر:

إن السري إذا سرى بنفسه *** و ابن السري إذا سرى أسراها

و قال البحتري:

و أرى النجابة لا تكون تمامها *** لنجيب قوم ليس بابن نجيب

و لقوله عليه السلام:

"الناس أعداء ما جهلوا".

قال الشاعر (86/20):

جهلت أمرا فأبديت النكير له *** و الجاهلون لأهل العلم أعداء

و لقوله عليه السلام:

"الولايات مضامير الرجال".

قال الشاعر (88/20):

سکرات خمس إذا مني المرء *** بها صار عرضة للزمان

سكرة المال و الحداثة و العش *** ق و سكرة الشراب و السلطان

ص: 172

و قال آخر:

يا ابن وهب و المرء في دولة *** السلطان أعمى ما دام يدعى أميرا

فإذا نالت الولاية عنه *** و استوى بالرجال عاد بصيرا

و قال البحتري:

و تاه سعيد أن أعير رياسة *** و قلد أمرا كان دون رجاله

و ضاق على حق بعقب اتساعه *** فأوسعته عذرا لضيق احتماله

فأدبر عني عند إقبال حظه *** و غير حالي عنده حسن حاله

فليت أبا عثمان أمسك تيهه *** كإمساكه عند الحقوق بماله

و لقوله عليه السلام:

"ما أنقض النوم لعزائم اليوم".

قال المعري (89/20):

ما قضى الحاجات إلا شَمِلٌ *** نومه فوق فراش من نمال

و قال الرضي (رحمه الله):

عليها أخامس مثل الصقور *** طوال الرجاء جسام الأرب

و كل فتى حظ أجفانه *** من النوم مضمضة يستلب

فبينما يقل کرى جفنه *** بقطع من الليل إذ قيل هب

و لقوله عليه السلام:

"ليس بلد بأحق منك من بلده خير البلاد ما حملك".

ص: 173

قال الشاعر (90/20):

لا يصدقنك عن أمر تحاوله *** فراق أهل و أحباب و جيران

تلقى بكل دیار ما حللت بها *** أهلا بأهل و أوطانة بأوطان

و قال الشيخ أبو جعفر يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة:

أنسيتني بلدي و أرض عشيرتي *** و نزلت من نعماك أكرم منزل

و أخذت فيك مدائحي فكأنها *** في آل شماس مدائح جرول

و قال البحتري:

في نعمة أوطأتها و أقمت في *** أكنافها فكأنني منبج

و قال أبو تمام:

كل شعب كنتم به آل وهب *** فهو شعبي و شعب كل أديب

إن قلبي لكم كالكبد الحرى *** و قلبي لغيركم كالقلوب

و قال الشاعر:

أحب بلاد الله ما بين منبج *** إليَّ وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي *** و أول أرض مس جلدي ترابها

و قال الشاعر:

و كنا ألفناها و لم تك مألفاً *** و قد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن

كما تؤلف الأرض التي لم يطب بها *** هواء و لا ماء ولكنها وطن

و قول الشاعر:

ص: 174

تسير على علم بكنه مسيرنا *** بعفّةِ زاد في بطون المزاود

و لابد في أسفارنا من قبيصة *** من الترب نسقاها لحب الموالد

و قال ابن الرومي:

وحبب أوطان الرجال إليهم *** مأرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم *** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

و لقوله عليه السلام:

"قليل مدوم عليه، أفضل من كثير مملول منه".

قال الشاعر (94/20).

إني كثرت عليه في زيارته *** فحل فالشيء محلول إذا كثرا

و رابني منه أني لا أزال أرى *** في طرفه قصرا عني إذا نظرا

و لقوله عليه السلام:

"من كرمت عليه نفسه، هانت عليه شهوته".

قال حاتم الطائي (99/20):

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله *** و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

و لقوله عليه السلام:

"زهدك في راغب فيك نقصان حضه، و رغبتك في زاهد فيك ذل نفسك".

قال العباس بن الأحنف (101/20):

ما زلت أزهد في مودة راغب *** حتى ابتليت برغبة في زاهد

ص: 175

هذا هو الداء الذي ضاقت به *** حيل الطبيب و طال يأس العائد

و لقوله عليه السلام:

"ما لأبن آدم و الفخر! أوله نطفة، و آخره جيفة، لا يرزق لنفسه و لا يدفع حتفه"

قال الشاعر (150/20):

ما بال من أوله نطفة *** و جيفة آخره يفخر

يصبح ما يملك تقديم ما *** يرجو و لا تأخير ما يحذر

و لقوله عليه السلام:

"علامة الإيمان أن تؤثر الصدق، حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك".

قال الشاعر (175/20):

عليك بالصدق و لو أنه *** أحرقك الصدق بنار الوعيد

و لقوله عليه السلام:

"يغلب المقدار على التقدير، حتى تكون الآفة في التدبير".

قال الشاعر (176/20):

لعمرك ما لابن آدم أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يخذلِ

لجاهد حتى تبلغ النفس عذرها *** و قلقل يبقى العز كل مقلل

و قال أبو تمام:

و ركب كأطراف الأسنة عرسوا *** على مثلها و الليل تطوى غياهبه

ص: 176

لأمر عليهم أن تتم صدوره *** و ليس عليهم أن تتم عواقبه

و لقوله عليه السلام:

"الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علو الهمة".

قال أبن هاني:

وكل أناة في المواطن سؤدد *** و لا كأناة من تدبر محکم

و من يتبين أن للسيف موضعاً *** من الصفح يصفح عن كثير و يحلم

و قال شاعر:

الرفق يمن والأناة سعادة *** فتأن في أمر تلاقِ نجاحا

و قال آخر:

كم من مضيع فرصة قد أمكنت *** لغدٍ و ليس له غدٌ بمواتِ

حتى إذا فاتت وفات طلابها *** ذهبت عليها نفسه حسرات

و لقوله عليه السلام:

"الغيبة جهد العاجز".

قال الشاعر (179/20):

و يغتابني من لو كفاني اغتيابه *** لكنت له العين البصيرة و الأذنا

و عندي من الأشياء ما لو ذكرتها *** إذا قرع المغتاب من ندم سنا

و قال أبن أبي الحديد:

أكل عرضي أن غبت ذما فما *** أبت فمدح و رهبة و سجود

ص: 177

هكذا يفعل الجبان شجاع *** حين يخلو، و في الوغى رعديد

لك في حالان: مني عينك *** الجنة حسناً، و في الفؤاد وقود

و لقوله عليه السلام:

"الدنيا خلقت لغيرها و لم تخلق لنفسها".

قال أبو العلاء المعري (181/20):

خلق الناس للبقاء فضلت *** أمة يحسبونهم للنفاد

إنما ينقلون من دار أعما *** لٍ إلى دار شقوۃٍ أو رشاد

و لقوله تعالى:

{وَ إِذ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نَصبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}.

قال الشاعر (188/20):

فيا من ليس يكفيه صديق *** و لا ألفا صديق كل عام

أضنك من بقايا قوم موسى *** فهم لا يصبرون على طعام

و لقوله عليه السلام:

"هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".

قال الشاعر (195/20):

و كنت جليس قعقاع بن ثور *** و لا يشقى بقعقاع جليس

ضموك ألسن أن نطقوا بخير *** و عند الشر مطراق عبوس

و لقوله عليه السلام:

ص: 178

"و الله أن امرئ يمكن عدوه من نفسه، يعرق نفسه، لعرق لحمه، و يهشم عظمه، و يفري جلده لعظم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره".

قال ابن أبي الحديد في رسالة إلى صديق (189/20-192):

إن امرئ أمكن من نفسه *** عدوه يجدع آرابه

لا يدفع الضيم و لا ينكر ال *** ذل و لا يحض جلبابه

لقائل الرأي ضعيف القوى *** قد حرم الخذلان أمبابه

أنت فكن ذاك فأني امرؤ *** لا يرهب الخطب إذا نابه

إن قال دهر لم يطع أو شحا *** له فم أورد أنيابه

أو سامه الخسف أبي و انتضی *** دون حرام الخسف قرضا به

أخزر عضان شديد السطا *** يقدر مايترك ما رابه

و لقوله عليه السلام: عن الدنيا:

(و صادفتموها و الله ضلاً ممدودا إلى أجل معدود).

قال دعبل الخزاعي (120/7):

ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم *** الله يعلم أني لم أقل فندا

أني لأفتح عيني ثم أغمضها *** على كثير ولكن لا أرى أحدا

و لقول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:

"جار الدار أحق بدار الجار".

قال الشاعر (286/8):

ص: 179

أبا الفياض لا تحسب بأني *** لفقري من حُلي الأشعار عار

فلي طبع كسلسال معين *** و لا لي من ذرا الأحجار جار

و لقوله عليه السلام:

"يتنسمون بدعائه روح التجاوز، رهائن فاقة إلى فضله، و أساری ذلة لعظمته، جرح طول الأسى قلوبهم، و طول البكاء عيونهم" (177/1)

فقال علي الدقال:

إذا بكى المذنب فقد راسل الله

فأخذ الشاعر (230/11):

دموع الفتى عما يجن تترجم *** و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم

و لقوله عليه السلام:

"كناقل الثمر إلى حجر".

قال الشاعر (188/15):

أهدي له طرف الكلام كما *** يُهدى لوالي البصرة التمر

و لقوله عليه السلام:

"أخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك وآس بينهم في اللحظة و النظرة، و الإشارة و التحية".

قال الشاعر (3/17-4):

أقسم اللحظ بيننا إن في اللح *** ظ لعنوان ما تجن الصدور

إنما البر روضة فإذا ما *** کان بشر فروضة و غدير

ص: 180

و لقوله عليه السلام: "و إياك بالعجلة بالأمور قبل أوانها".

قال الشاعر (113/17-116):

دعها سماوية تجري على قدر *** لا تفسدنها براي منك معکوس

و لقوله عليه السلام: "و الوهن عنها إذا استوضحت".

قال الشاعر (3/17-4):

فإذا أمكنت فبادر إليها *** حذراً من تعذر الإمكان

و لقوله عليه السلام:

"ماء وجهك جامد يقطره السؤال، فانظر عند من تقطره".

قال الشاعر (261/19):

إذا أظمأتك أكف اللئام *** کفتك القناعة شبعا ورِيّا

فكن رجلاً رِجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا

فأن إراقة ماء الحياة *** دون إراقة ماء المحيا

و قال آخر (261/19):

رددت لي ماء وجهي في صفيحته *** رد الصقال بهاء الصارم الجذم

و ما أبالي و خير القول أصدقه *** حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي

و قال آخر:

ما ماء كفيك إن أرسلت مزنته *** من ماء وجهي إذا استقطرته عوض

ص: 181

التشبیه

لقوله عليه السلام و أراد الخلافة:

"لقد تقمصها ابن أبي قحافة". أي جعلها كالقميص مشتملة عليه، و الضمير للخلافة و لم يذكرها للعلم بها.

قال حاتم (152/1):

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يومأ وضاق بها الصدر

و قال أبو تمام:

تسربل سربالاً من النصر و أرتدي *** عليه بعضب في الكريهة فاصل

و لقوله عليه السلام:

"و إنه ليعلم إن محلي منها (أي من الخلافة) محل القطب من الرحی؛ ينحدر عني السيل".

قال الهذلي:

و عيطاء يكثر فيها الذليل *** و ينحدر السيل عنها انحدارا

ص: 182

"يعني رفعة منزلته عليه السلام، كأنه في ذروة جبل ارتفاع مشرف، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد و الغيطان".

و لقوله عليه السلام:

"و لا يرقى إلىَّ الطير".

كإنه يقول: إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل إن يرقى الطير إليها.

قال المتنبي:

فوق السماء و فوق ما طلبوا *** فإذا أرادوا غاية نزلوا

و قال حبيب:

مکارم لجّت في علو كأنما *** تحاول ثأراً عند بعض الكواكب

و لقوله عليه السلام:

"إن محلي منها كمحل القطب من الرحى"، و قد أوردناه.

قال الراجز (154/1):

على قلاص من خياطين السلم *** قد طويت بطونها على الأدم

بعد انفضاح البدن و اللحم الذِیَّم *** إذا قطعن علما بدا علم

فهن بحثَّأ كمضلات الحذم *** حتى إنحناها إلى باب الحكم

خليفة الحجاج غيره انحتم *** فی سرة المجد و بحبوح الكرم

و قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان (154/1):

ص: 183

فحللت منها بالبطاح *** و حل غيرك بالظواهر

و لقوله عليه السلام:

"فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات".

قال الراجز (81/10-83):

امتلأ الحوض و قال قطني *** مهلا رويدا قد ملأت بطني

ص: 184

الاستعارة

لقوله عليه السلام:

"شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة".

لأن الفتن قد تتضاعف و تترادف، فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة، و لما كانت السفن الحقيقية تنجي من أمواج البحر، حسن إن يستعار للفظ السفن لما ينجي من الفتن. وكذلك "وضعوا تيجان المفاخر". لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الإنسان استعاره لما يتعظم به الإنسان من الافتخار و ذكر القديم. وكذلك قوله "أفلح من نهض بجناح" كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذي ينهض من الأرض بجناحيه.

و في الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع. و هو مستقبح. و ذلك كقول أبي نواس (215/1-216):

بح صوت المال مما *** منك يبكي و ينوح

و كذلك قوله:

ما لرجل المال أضحت *** تشتكي منك الكلالا

ص: 185

و قول أبي تمام:

و كم أحرزت منكم على قبح قدها *** صروف النوى من مرهف حسن القد

و كقوله:

بلوناك إما كعب عرضك في العلا *** فعالٍ، جذ مالك أسفل

فإنه لا مناسبة بين الرجل و المال، و لا بين الصوت و المال، و لا معنى لتصبيره للنوى قدّا، و لا للعرض كعباً، و لا للمال خداً.

و قريب منه أيضا قوله:

لا تسقني ماء الملام فإنني *** صب قد استعذبت ماء بكائي

إذ يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة يسأله فيها قليلا من ماء الملام، فقال لصاحبه؛ قل له يبعث إلي بريشة من ضاح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه.

و لقوله عليه السلام:

"فاسمعوا أيها الناس وعوا و احضروا آذان قلوبكم تفهموا".

قال الشاعر (95/13-98):

يدق على النواظر ما أتاه *** فيبصره بأبصار القلوب

إذ جعل عليه السلام للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا.

ص: 186

الطباق و المقابلة

لقوله عليه السلام:

"فإن الدنيا قد أدبرت و أذنت بوداع، و إن الآخرة أقبلت و أشرقت باطلاع، ألا و إن اليوم المضمار و غداً السباق، و السبقة الجنة، و الغاية النار".

فقد طابق و قابل الأمام عليه السلام بين الإدبار و الإقبال و الجنة و النار.

و مما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيلة جرير ( 91/2و105-110 ):

يستيقظون إلى نهيق حميرهم *** و تنام أعينهم على الأوتار

و قول آخر:

فلا الجود يغني المال والجد مقبل *** و لا البخل يبقي المال والجد مدبر

و قول أبي تمام:

ما إن ترى الأحساب بيضا وُضّحا *** إلا بحيث ترى المنايا سودا

ص: 187

و:

شرف على أولى الزمان و إنما *** خَلَقُ المناسِب ما يكون جديدا

ذلك كان مقابلة اللفظ باللفظ و المعنى، و أما مقابلة الشيء بضده بالمعنى إلا باللفظ فكقول المقنع الكندي:

لهم جل مالي إن تتابع لي *** و إن قل مالي لا أقابلهم رفدا

فقوله: "إن تتابع لي غنى" في قوة قوله: "إن كثر مالي" و الكثرة ضد القلة.

و كقول البحتري:

تقيض لي من حيث لا أعرف النوى *** و يسري إليَّ الشوق من حيث أعلم

فقوله: "لا أعلم" ليس ضد قوله: "أعلم": لكنه نقيض له في قوله: "أجهل" و الجهل ضد العلم.

و قول أبي تمام:

مها الوحش إلا إن هاتا أوانس *** قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

فقابل بين "هاتا" و بين "تلك" و هي مقابلة معنوية لا لفظية، لأن "هاتا" للحاضرة و "تلك" للغائبة، و الحضور ضد الغيبة. و ثمة مقابلة المفرد بالمفرد كقول أبي تمام:

بسط الرجاء لنا برغم لوائب *** کثرت بهن مصارع الآمال

فقال "الآمال" عوض "الرجاء".

ص: 188

و قول المتنبي:

إني لأعلم و اللبيب خبير *** إن الحیاة -و إن حرصت- غرور

فقال "خبير" و لم يقل "عليم".

(و إن علي الفتال يقول: إن هذا التخريج من ابن أبي الحديد غير علمي. لو كانت قافية بیت المتني ميمية لقال "عليم" فالقافية هي التي حكمت الشاعر و ليس ما ذهب إليه ابن أبي الحديد).

و أما مقابلة المخالف، فهو على وجهين:

أحدهما أن يكون بين المقابِل و المقابَل نوع مناسبة و تقابل، كقول أنيف بن قريط العنبري:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** و من إساءة أهل السوء إحسانا

فقابل الظلم بالمغفرة و هي مخالفة [إيَّاه]، ليست مثله و لا ضده.

و الوجه الثاني: ما كإن بين المقابِل و المقابَل بُعد؟ و ذلك مما لا يحسن استعماله، كقول امرأة من العرب لابنها، و قد تزوج بامرأة غير محمودة:

تربص بها الأيام علَّ صروفها *** سترمي بها في جاحم متسعِّرِ

فكم من كريم قد مناه إلهه *** بمذمومة الأخلاق واسعة الحر

ف "مذمومة " ليست في مقابلة "واسعة" و لو كإنت قالت "بضيقة الأخلاق" كانت المقابلة صحيحة و الشعر مستقیما.

و كذلك قول المتنبي:

ص: 189

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها *** سرور محب أو مساءة مجرم

فالمقابلة الصحيحة بين المحب و المبغض لا بين المحب و المجرم.

(مرة أخرى يقول علي الفتال: إن القافية هي التي اضطرت الشاعر أن يقابل المجرم بالمحب فلو كانت ضادية لقال "مساءة مبغض").

ص: 190

التخلص و الاستطراد

لقوله عليه السلام و هو يذكر ملك الموت و توفِّيِه الأنفس:

"هل يحس به إذا دخل منزلا، أم هل تراه العيون إذا توفي أحدا، بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه، أيلج عليه من بعض جوارحها، أم الروح أجابته بإذن ربها، أم هو ساكن معه في أحشائها، كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟

إذ استعمل الأمام علي عليه السلام فن التخلص من تساؤلاته الستة إلى سؤاله الأخير الذي أراد الوصول إليه، و هذا هو التخلص في علم البلاغة، فعقد ابن أبي الحديد فصلا فيه و استشهد بقول أبي نواس (239/7):

تقول التي من بيتها خف مركب *** عزيز علينا إن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلب؟ *** بلى، إن أسباب الفنى لكثير

فقلت لها و استعجلتها بوادر *** جرت، فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثّر حاسديك برحلةٍ *** إلى بلد فيه المصيب أمير

ص: 191

و قول أبي تمام:

يقول في قوس صحبي و قد أخذت *** منا السري و خطا المهرية القود

أمطلع الشمس تبغي إن تؤم بنا *** فقلت کلا ولكن مطلع الجود

و قول البحتري:

هل الشباب ملم بي فراجعة *** أيامه ليَ في أعقاب أيامي

لو إنه نائل عمر يجاد به *** إذن تطلبته عند ابن بسطام

و قول المتنبي و هو يتغزل بأعرابية، و يصف بخلها و جبنها و قلة مطعمها، و هذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة (240/7):

في مقلتي رشا تديرهما *** بدوية فتنت بها الحلل

تشكوا المطاعم طول هجرتها *** و صدودها و من الذي تصل

ما اسارت في القعب من لبنٍ *** تركته، و هو المسك و العسل

قالت ألا تصحوا فقلت لها *** أعلمتني إن الهوى ثمل

لو إن فنا خسر صبحكم *** وبرزت وحدك عاقه الغزل

و تفرغت عنكم كتائبه *** إن الملاح خوادع قتل

ما كنت فاعلة و ضيفكم *** ملك الملوك و شأنك البخل

أتمنعين قرى فتفضحني *** أم تبذلين له الذي يسل

بل لا يمل بحيث حل به *** بخل و لا جور و لا وجل

و ثمة نوع يسمى الاستطراد، و قد يسمى الالتفات، و هو من جنس

ص: 192

التخلص، و شبيه به. إلا إن الاستطراد هو إن تخرج بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره فتذكره و كأنك غير قاصد لذكره بالذات، بل قد حصل و وقع ذكره بالعرض من غير قصده، ثم تدعه و تتركه و تعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده، کالمقبل عليه، و كالملغي عما استطردت بذكره، فمن ذلك قول البحتري و هو يصف فرسا:

و أغرّ في الزمن البهيم محجل *** قد رحت منه على اعز محجّلِ

کالهيكل المبني إلا إنه *** في الحسن جاء كصورة في هيكل

ما في الضلوع يشد عقد حزامه *** يوم اللقاء على معمِّ مخول

أخواله للرستمين بفارس *** وجدوده للتُبَّعين بموكل

يهوى كما هوت العقاب و قد رأت *** صيداً و ينتصب انتصاب الأجدل

متوجس برقيقتين كأنما *** ثريان من درق عليه مكلل

ما إن يعاف قذى و لو أوردته *** يوماً خلائق حمدويه الأحول

ذنب لما سحب الرثاء يذب عن *** عرف، و عرف كالقناع المسبل

جذلان ينفض عذرةُ في غرة *** يقق تسيل حجولها في جندول

کالرائح النشوان أكثر مشيه *** عرضاً على السنن البعيد الأطول

ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة *** فيه يناظرها حديد الأسفل

هزج الصهيل كأن في نغماته *** نبراس معبد في الثقيل الأول

ملك القلوب فإن بدا أعطيته *** نظر المحب إلى الحبيب المقبل

ص: 193

ألا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب، و كأنه لم يقصد ذلك، و لا أراده إنما جرّته القافية، ثم ترك ذكره و عاد إلى وصف الفرس، فهذا هو الاستطراد و من الفرق بينه و بين التخلص؛ إنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح أو المهجو ترکت ما كنت فيه من قبل بالكلية و أقبلت على ما تخلصت إليه من المدح و الهجاء بیتا بعد بيت حتى تنقضي القصيدة، و في الاستطراد تمر على ذكر الأمر الذي استطردت به مرورا كالبرق الخاطف؛ ثم تتركه و تنساه، و تعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد ذاك، إنما عرض عروضا.

و من لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا، لولا أنه أفسده بالخروج إلى المدح، قول أبي تمام في قصيدته التي يمدح بها محمد بن الهيثم التي أولها:

أسقي طلولهم أجش منيم *** و غدت عليهم نظرة و نعيم

ظلمتك ظالمة البريء ظلوم *** و الظلم من ذي قدرة مذموم

زعمت حواك عفا الغداة كما عفت *** منها طلول باللوى و رسوم

لا والذي هو عالم إن النوى *** صبر و إن أبا الحسين کريم

ما خلت عما تعهدين و لا غدت *** نفسي على ألف سواك تحوم

فلو أثم متغزلا لكان مستطردا لا محالة، ولكنه نقض الاستطراد و غمس يده في المدح. فقال بعد هذا البيت:

لمحمد بن الهيثم بن شبانةٍ *** مجد إلى جنب السماك مقيم

ملك إذا نسب الندى من ملتقى *** طرفيه فهو أوله و حميم

و مضى على ذلك إلى آخرها.

ص: 194

و من الاستطراد يحتال الشاعر إلى ذكر ما يروم ذكره. بوصف أمر ليس من غرضه، و بدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك و في غضونه؛ و أحسن ما يكون ذلك إذا صرح بأنه قد استطرد و نص في شعره على ذلك، كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات كتبها إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة بفارس و کرمان و ما والاها متواصلة إلى العراق، و كتب عبد العزيز واصلة بها إلى عز الدولة. بختیار و الصابي يجيب عنها:

يا راكب الجسرة العيرانة الأجد *** يطوي المهامة من سهل إلى جلد

ابلغ أبا قاسم نفسي الفداء له *** مقالة أخ للحق معتمد

في كل يوم لكم فتح يشار به *** بين الأنام بذكر السيد العضد

و مالنا مثله لكننا أبداً *** نجيبكم بجواب الحاسد الكمد

فأنت اكتب عني في الفتوح و ما *** تجري مجيبا إلى شأوي و لا أمدي

و ما زعمت ابتدائي في مكاتبةٍ *** و لا جوابكم في القُرب و البُعد

لكنني رمت إن أثني على ملكٍ *** مستطرد بمديح فيه مطرد

ص: 195

الجناس

لقوله عليه السلام و قد استعمل الجناس:

"و إن الدنيا منتهی بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئا، و البصير ينفذها بصره، و يعلم إن الدار ورائها، فالبصير منها شاخص، و الأعمى إليها شاخص، و البصير منها متزود و الأعمى لها متزود".

قال أبو تمام (277/8-278):

فأصبحت غرر الإسلام مشرقة *** بالنصر تضحك عن أيامها الغرر

فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه و الغرة الثانية من غرره الشيء، و هي أكرمه

(و يرى علي الفتَّال: أن لا جناس في البيت لأن "الغرر" واحدة سواء استعيرت للوجه أو للشيء، فهي مقدمة الوجه مثلما هي مقدمة الشيء).

و كذلك قوله:

ص: 196

من القوم جعد أبيض الوجه والندى *** و ليس بنان يجتدى منه بالجعد

فالجعد الأول: السيد. والثاني: السبط، و هو من صفات البخيل.

و كذلك قوله:

بكل فتى ضرب يعرض للقنا *** محبا محلى حليه الطعن و الضرب

فالضرب الأول: الرجل الخفيف، و الثاني "ضَرَب".

و كذلك قوله:

عداك حر الشغور المستظامة عن *** برد الثغور و عن سلسالها الحصبِ

فأحدها جمع ثغر و هو ما يتعاظم العدو من بلاد الحرب، و الثاني للأسنان.

و من هذه القصيدة:

كم أحرزت قضب الهندي مصلتة *** تهتز من قضب تهتز کتب

بيض إذا انتضيت من حجبها رجفت *** أحق بالبيض أبداناً من الحجب

(و إن ابن أبي الحديد لا يعد ذلك من التجنيس فالقضب و القضب في معنى و البيض و البيض في معنى).

و من هذا القسم قول أبي تمام أيضا:

إذا الخيل جابت قصطل الخيل صدعوا *** صدور العوالي في صدور الكتائب

و هو عنده ليس من التجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد، و هو جز الشيء المتقدم البارز عن سائره.

فأما قوله أيضا:

ص: 197

عامي و عام العين بين وديقة *** مسجورة، وتنوفة صيخودِ

حتى أغادر كل يوم بالفلا *** للطير عيداً من بنات العيدِ

فإنه من التجنيس التام: فالعيد الأول هو اليوم الأول من الأعياد، و الثاني فحل من فحول الإبل.

و نحو هذا قول أبي نواس:

عباس عباسٌ إذا احتدم الوغى *** و الفضل فضلٌ و الربيع ربيع

و قول البحتري:

إذا العين راحت و هي عين على الهوى *** فليس بسرما تسدّ الأضالع

فالعين الثانية: الجاسوس، و الأول العين المبصرة.

و للغزي المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها، أولها:

لو زارنا طيف ذات الخال أحياناً *** و نحن في حفر الأجداث أحيانا

و قال في أثنائها:

تقول أنت أمرؤ جاف مغالطة *** فقلت لا حرمت أجفان أجفانا

و منها:

لم يبق غيرك إنسان یُلاذ به *** فلا برحت لعين الدهر إنسانا

و قد ذكر الغانمي في كتابه (صناعة الشعر) باباً أسماه رد الأعجاز على الصدور؛ ذكر أنه خارج عن باب التجنيس، قال، كقول الشاعر:

و نشري بجميل الصنع *** ذكراً طيب النشر

ص: 198

و نفري بسيوف الهند *** من أسرف في النفر

و بحري في ثرى الحمد *** على شاكلة البحر

يقول ابن أبي الحديد: و هذا من التجنيس؛ و ليس بخارج عنه ولكنه تجنیس مخصوص، و هو الإتيان في طرفي البيت.

و عدّ ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب:

يا بياضاً أذری دموعي حتى *** عافها سواد عيني بياضا

و كذلك قول البحتري:

و أعرّ في الزمن البهيم محجّلٌ *** قد رحت منه على أعرّ محجّلِ

کالهيكل المبني إلا أنه *** في الحسن جاء كصورة في هيكلِ

و هذا عند ابن أبي الحديد ليس بتحنيس، لاتفاق المعنى، و أنكر ابن الأثير قول أبي تمام:

أظن الدمع في خدي سيبقى *** رسوماً من بكائي في الرسوم

كونه من التجنيس، في حين أنه منه.

و هناك تجنیس آخر هو أن تكون الحروف في تركيبها، مختلفة في وزنها، كقول البحتري:

و فر الخائن المغرور يرجو *** أمانا أي ساعة ما أمان

يهاب الالتفات و قد تصدى *** للحظة طرفه طرف السنان

و قول الآخر:

ص: 199

قد ذبت بين حشاشة و ذماء *** ما بين حر هوىً و حر هواء

و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير. فإن زاد عليه خرج من باب التجنيس، كقول أبي تمام:

يحدون من أيد عواض عواصم *** تصول بأسياف قواض قواضم

و قول البحتري:

شواجر أرماح تقطع بينهم *** شواجن أرحام ملوم قطوعها

و قد جمع هذا البيت بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام.

و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن و التركيب بحرف واحد. كقول أبي تمام:

أيام تدمي عينه تلك الدمى *** حسنا و تقمر لبه الأقمار

بيض فهن إذا رمقن سوافراً *** صور وهن إذا رمقن صوارٍ

و كذلك قوله:

بدر أطاعت فيك بادرة النوى *** ولعاً و شمس أولعت بشماس

و قوله أيضا:

كادوا النبوة و الهدى فتقطعت *** أعناقهم في ذلك المضمارِ

جهلوا فلم يستكثروا من طاعة *** معروفة بعمارة الأعمارِ

و قوله أيضا:

ص: 200

إن الرماح إذا غرسن بمشهد *** فجنى العوالي في ذراه معالِ

و قوله أيضا:

إذا أحسن الأقوام إن يتطاولوا *** بلا نعمة أحسنت أن تتطاولا

و قوله أيضا:

شد ما استنزلته من دمعك *** الأظعان حتى استهل هو العزالي

أي ربع يكذب الدهر عنه *** و هو ملقى على طريق الليالي

بین حال جنت عليه و حول *** فهو نضو الأوحال و الأحوالِ

أي حسن في الذاهبين تولى *** و جمال على ظهور الجمالِ

و دلال مخيم في ذرى الخيم *** و حجل مقصر الحجالِ

فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل.

و من ذلك قول علي بن جبلة:

و كم لك من يوم رفعت عماده *** بذات جفون أو بذات جفان

و كقول البحتري:

و ذكّر نيك و الذكرى عناء *** مشابه فيك بينه الشكول

نسيم الروض في ريح شمال *** و صوب المزن في راح شمول

و كقوله:

جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه *** ضبابة نقع تحتها الضوء ناقعُ

و منها تجنیس التصريف، كقول البحتري:

ص: 201

و لم يكن المعتز بالله إذ سری *** اليعجز و المعتز بالله طالبه

و كقول محمد بن وهيب الحميري:

قسمت صروف الدهر يأسأ و نائلاً *** فما لك موتور و سيفك واترُ

و منها القسم المكنى بالمعكوس؛ و هو على ضربين عکس لفظ و عکس صرف، و الأول كقول الأظبط بن قريع:

قد يجمع المال غير آكله *** و يأكل المال غير من جمعه

و يقطع الثوب غير لابسه *** و يلبس الثوب غير من قطعه

و كقول المتنبي:

فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ ماله *** و لا مال في الدنيا لمن قلَّ مجده

و كقول الرضي (رحمه الله) يذم الزمان:

أسف بمن يطير إلى المعالي *** وطار بمن يسف إلى الدنايا

و كقول آخر:

إن الليالي للأنام مناهل *** تُطوى و تُنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة *** وطوالهن مع السرور قصار

و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه:

غيرتنا يد الزمان *** فقد شبت والتحی

فاستحال الضحى دجى *** واستحال الدجا ضحى

و يسمى هذا الضرب: تبدیل.

ص: 202

و الضرب الثاني من هذا القسم عکس الحروف، و هو كقول بعضهم، و قد أهدي لصديق له كرسيا:

أهديت شيئا يقل لولا *** أحدوثة الفال و التبرك

(کرسي) تفاءلت فيه لما *** رأيت مقلوبه (يسرك)

و كقول الآخر:

كيف السرور بإقبال و آخره *** إذا تأملته مقلوب إقبال

أي: (لا بقاء) و هو مقلوب إقبال.

و كقول الآخر:

جاذبتها و الريح تجذب عقربا *** من فوق خد مثل قلب العقرب

و طفقت الثم ثغرها فتمنعت *** و تجبت عني بقلب العقرب

پرید (برقعاً) و هو مقلوب عقرب.

و منهال النوع المسمى المجلب، و هو إن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة، للأخرى، مثل قول بعضهم:

أبا الفياض لا تحسب بأني *** لفقري من طُلى الأشعار عارِ

فلي طبع كسلسال معین *** زلال من ذرا الأحجار جارِ

و هنا يسمی لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيب. و منها المقلوب و ما يتساوی وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام:

بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك و الريب

ص: 203

الکنایة

لقوله عليه السلام، لما قتل الخوارج و قيل له، يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم:

"كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال، و قرارات النساء، و كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين".

إذ ورد في قوله عليه السلام "نجم" أي ظهر وطلع، و "قرارات النساء" أي الأرحام، و هي كناية لطيفة.

فاستشهد ابن أبي الحديد بجملة من الشعر فيه كناية و رموز و تعريض، و الكناية: إبدال لفظة -يُستحي من ذكرها، أو يُستهجن ذكرها، أو يتطير بها، أو يقتضي الحال لتركها لأمرٍ من الأمور- بلفظ ليس فيه ذلك المانع.

و من هذا الباب قول امرؤ القيس (15/5-63):

سموت إليها بعد ما نام أهلها *** سمو صباب الماء حالا على حال

ص: 204

فقالت لك الويلات إنك فاضحی *** ألست ترى السمار و الناس أحوالى

فلما تنازعنا الحديث فأسمحت *** هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال

فصرنا إلى الحُسني ورقٌ كلامنا *** و رضت فذلت صعبة أي إذلال

قوله: "فصرنا إلى الحُسني" كناية على الرفث و مقدمات الجماع.

و قال أبو قتيبة:

تمازح معاوية والأحنف؛ فما رؤي مازحان أوقر منهما: قال معاوية:

- أبا بحر. ما الشيء الملفف بالبجاد؟

فقال:

- السخينة يا أمير المؤمنين.

و إنما كنى معاوية عن رمي بني تميم بالنهم وحب الأكل بقول القائل:

اذا ما مات ميت من تميم *** فسرك إن يعيش فجيء بزاد

بخبز أو بتمر أو بسمنٍ *** أو الشيء الملفف بالبجاد

تراه يطوف في الآفاق حرصاً *** ليأكل رأس لقمان بن عادِ

والسخينة ما يسخن بالنار، و يذر عليه دقيق؛ و غلب ذلك على قريش حتى سمیت سخينة، قال حسان:

زعمت سخيفة أن ستغلب ربها *** و ليغلبن مغالب الغلاب

فعبر كل واحد من معاوية والأحنف عما أراده بلفظ غیر مستهجن و لا مستقبح، و علم كل واحد مراد صاحبه، و لم يفهم الحاضرون ما دار بينهما. و هذا

ص: 205

من باب التعريض هو قريب من الكناية.

و يرى الفتَّال: أن الشاهد - في صدر البيت الأول [إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ...] يُذَكِّرنا بأُحجية للصبيان، تقول: أين تقع المدينة التي لا يموت فيها میِّتٌ و لا يُطحَنُ فيها طحين؟ في حين لا يوجد هكذا مدينة، لأنَّ الميِّتَ لا يموت مرتين وكذا الطحين لا يُطحَن، إذ كيف يُطحن المطحون؟

و مما ورد من الأخبار النبوية في هذا الباب الخبر الذي فيه: إن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة:

- لا يحل لك إن تفض الخاتم إلا بحقه.

فقام عنها و تركها. و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة فقال: لأبي العلاء الأسدي الأصفهاني، و قد دخل بزوجة له بكر:

قلبي على الحجرة يا أبا العلا *** فهل فتحت الموضع المقفلا

و هل فضضت الكيس عن ختمه *** و هل كحلت الناضر الأحولا

و أنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك فقال:

دفعن إليَّ لم يطمئن قلبي *** و هن أصح من بيض النعام

فبتن بجانبَّي مصرعاتٍ *** وبثُّ أفض أغلاق الختام

و قول أبو نواس:

لا أذود الطير عن شجر *** قد بلوت المر من ثمره

و قول آخر:

ص: 206

قد وسموا أبا لهم بالنارِ *** و النار قد تشفي من الأوارِ

و قول النابغة الجعدي:

إذا ما الضجيج ثنى عطفها *** تشت فكانت عليه لباسا

و قد حاکي قوله تعالى: "هن لباس لكم و أنتم لباس لهن".

و هي كناية عن الجماع و المخالطة. و قد كنّتِ العربُ عن المرأة بالريحان، و بالسرحة.

قال ابن الرقیات:

لا أشم الريحان إلا بعيني *** كرماً إنما تشم الكلام

أي أقنع من النساء بالنظر، و لا أرتكب منهن محرما.

و قال حميد بن ثور الهلالي:

أبى الله إلا إن سرحة مالك *** على كل أفنان العضاة تروق

فيا طيب رياها و برد ظلالها *** إذا حان من حامي النهار وديق

و هل أنا إن عللت نفسي بسرحة *** من السرح مسدود عليَّ طريق

و السحرة: الشجرة.

و قول أعرابي و كنّي عن امرأتين:

أيا نخلتي أودٍ إذا كان فيكما *** جنىً فانظرا من تطعمان جناكما

و يا نخلتي أود إذا هبت الصبا *** و أمسيت مقرورا ذكرت ذراكما

و قال شاعر یذکر امرأة:

ص: 207

من البيض لم تصطد على خيل لأمة *** و لا تمش بين الناس بالحطب الرطب

و كما ورد نظير ممازحة معاوية و الأحنف /الآنفة/ من التعريضات إن أبا غسان المسمعي مر بأبي غفار السدوسي فقال:

يا غفار؛ ماذا فعل الدر همان؟

فقال:

- لحقا بالدرهم؛

أراد بالدر همين قول الأخطل:

فإن تبخل سدوس بدرهميها *** فإن الريح طيبة قبول

و أراد الآخر قول بشار:

و في جحدر لؤم و فی آل مسمع *** صلاح ولكن درهم القوم كوكب

و كإن محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني، و عنده سيوف تعرض عليه، فدفع سيفا منها إلى يد محمد، و قال:

- كيف ترى هذا السيف؟

فقال:

- نحن أبصر بالتمر منها بالسيوف.

أراد یزید قول جرير في الفرزدق:

بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ *** ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم

ضربت به عند الإمام فأرعشت *** يداك فقالوا: مُحدَثٌ غير صارم

ص: 208

و أراد محمد قول مر و إن بن أبي حفصة:

لقد أفسدت أسنان بكر بن وائل *** من التمر ما لو أصلحته لمارها

و قال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري، و على يده صقر:

- ليس في الجوارح أحب إليّ من البازي.

فقال شريك:

- إذا كان يصيد القطا.

أراد محمد قول جرير:

إنا البازي المطل على نُمير *** أتيح من السماء لها انصبابا

و أراد شريك قول الطرماح:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا *** و لو سلكت سبل المكارم ظلتِ

و دخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد الهلالي؛ و هو يومئذ و الي أرمينية، فقال له:

- ماذا لقينا الليلة من شيوخ محارب؟ منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم.

فقال عبد الله بن ثعلبة:

- إنهم - أصلح الله الأمير - أظلوا الليلة برقعاً، فكانوا يطلبونه.

أراد عبد الملك قول الأخطل:

تكش بلا شيء شيوخ محارب *** و ما خلتها كانت تريش و لا تبری

ضفادح في ظلماء ليل تجاوبت *** فدل عليها صوتها حية البحر

ص: 209

و أراد عبد الله قول القائل:

لكل هلالي من اللؤم برقع *** و لابن يزيد برقع و جلال

عرض على معاوية فرس، و عنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص؛

فقال:

- كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرّف؟

قال:

- أراه أجش هزيما!

قال معاوية:

- أجل لكنه لا يطلع على الكنائن.

قال: يا أمير المؤمنين؛ ما استوجبت منك هذا الجواب كله.

قال:

قد عوضتك منه عشرين ألفا.

أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية، بما قال النجاشي في أيام صفين:

و نجی ابن حرب سابح ذو علالة *** أجش هزيم و الرماح دواني

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه *** مرته له الزقان و القدمان

فلم يحتمل معاوية منه هذا، و قال: "لكنه لا يطلع على الكنائن" لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء أخوته.

ورد إلى البصرة غلام من بني فقعس، كان يجلس في المربد فينشد شعرا،

ص: 210

و يجمع الناس إليه؛ فذكر ذلك للفرزدق، فقال:

- لا سوء منه.

فجاء إليه، فسمع شيئاً من شعره، فحسده عليه، فقال:

- فمن أنت؟

قال:

- من بني فقعس.

قال:

- كيف تركت القنان؟

فقال:

- مقابل لَصَاف

فقال :

- يا غلام هل أنجدت أمك؟

قال:

- بل أنجد أبي.

أراد الفرزدق قول فشل بن حري يهجو بني فقعس:

ضمن القنان لفقعس سوءاتها *** إن القنان لفقعس لمعمدِ

و أراد الغلام قول أبي المهوّش:

ص: 211

و إذا يسرك من تميم خلة *** فلما يسوؤك من تميم أكثرُ

أكلت أسيد و الهشيم ودارم *** أير الحمار و خصيتيه العنبرُ

قد كنت أحسبهم أسود خفية *** فاذا لصاف ببيض فيه الحمرُ

و أراد بقوله: "هل أنجدت أمك"، أي : إن كانت أنجدت فقد أصابها أبي، فخرجت تشبهني؛ فقال: "بل انجد أبي". يريد بل أصاب أمك فوجدها بغيا.

قال عبد الله بن سوار، كنا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بحريرة قد عملت بالسمن و السكر و الدقيق؛ فقال معد بن غيلان العبدي:

- يا حبذا السخينة! ما أكلت - أيها الأمير - سخينة ألذ من هذه!

فقال:

إن المعايب لا تذكر على الخوان.

أراد معد ما كانت العرب تعیر به قريشا في الجاهلية من أكل السخينة و أراد إسحاق بن عيسى ما يعير به عبد القيس من الفسق.

قال الشاعر:

و عبد القيس مصفر لحاها *** كأن نساءها قطع الصباب

و كان سنان بن أحمس النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري، و هو على بغلة له، فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال:

- أغضض بغلتك یا سنان.

فقال:

ص: 212

- أيها الأمير، إنها مكتوبة، فضحك الأمير.

أراد عمر بن هبيرة قول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغتَ و لا كلابا

و أراد سنان قول ابن دارة:

لا تأمنن فزارياً خلوت به *** على قلوصك و اكتبها بأسيار

و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل، و لذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا و يخاطب یزید بن عبد الملك:

أمير المؤمنين و أنت برٌّ *** نقيٌّ لستَ بالجشع الحريصِ أأطعمت العراق ورافديه *** فزاريا أحزَّ یدَ القميصِ

تغنق بالعراق أبو المثنى *** و علم قومه أكل الخبيص

و لم يك قبلها راعي مخاض *** لتأمنه على ورکي قلوص

و البيت الأخير كناية عن إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.

قال المبرد: و قد يسير البيت في واحد؛ و يرى أثره عليه أبدا، لقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:

لقد بلغت ما قالا *** فما بالبيت ما قالا

و لا كإن من الأسد *** لما هال و ما صالا

فما تصنع بالسيف *** اذا لم تك قتالا

فكسر حلية السيف *** وصفها لك خلخالا

ص: 213

و كان عبد الله بن معن إذا تقلد السيف و رأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه.

و مثل ذلك ما يحكى إن جريراً قال: و الله فقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعده بالرماح في أستائهم ما حكوها؛ هو:

و التغلبي إذا تنحنح للقرى *** حك أسته و تمثل الأمثالا

و حكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً و عنده رجال:

- هل تعلمون أهل بيت قبل فيهم شعر، ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم؟

فقال أسماء بن خارجة الفزاري:

- نحن يا أمير المؤمنين!

قال:

- فما هو؟

قال:

- قول الحارث بن ظالم المري:

و ما قومي بثعلبة بن سعد *** و لا بفزارة الشُعر الرقابا

فوالله يا أمير المؤمنين؛ أني لألبس العمامة الصفيقة؛ فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها.

و قال هاني بن قبيصة النميري:

ص: 214

- نحن يا أمير المؤمنين؛

قال:

- و ما هو؟

قال:

- قول جرير:

فغض الطرف انك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا

كان النميري - يا أميرالمؤمنين إذا قيل له من أنت؟ قال: نمير فصار يقول بعد هذا البيت: "من صعصعة".

و مثل ذلك يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان بقوله:

إذا الله عادى أهل لؤم و قلة *** فعادى بني عجلان رهط بن مقبل

قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة *** و لا يظلمون الناس حبة خردلِ

و لا يردون الماء إلا عشيةً *** إذا صدر الورّاد عن كل منهلِ

و ما سمي العجلان الا لقوله: *** خذ القصب و احلب أيها العبد و اعجلِ

فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول: من بني كعب، و ترك أن يقول "عجلان".

و كان عبد الملك بن عمير القاضي، يقول: و الله إن التنحنح والسعال ليأخذني و أنا في الخلاء فأرده حياء من قول القائل:

إذا ذات دلٍ كلمته لحاجةٍ *** فهمَّ بأن يقضي تنحنح أو سعل

ص: 215

و من التحريضات اللطيفة، ما روي: أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيلة إلى شاعر، فكلما لقيه سأله عنها:

فقال:

- كانت قليلة الدم .

فضحك المفضل و قال:

- مهلاً يا أبا فلان.

أراد الشاعر قول القائل:

و لو ذبح الضبي بالسيف لم تجد *** من اللوم للضبي لحمأ و لا دما

و روی بن الأعرابي في الأمالي قال: رأي عقال بن شعبة بن عقال المجاشعي على إصبع بن عنبس وضحاً، فقال:

- ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح؟

فقال:

سلح النعامة يا ابن أخي.

أراد قول جرير:

فضح العشيرة يوم يسلح قائماً *** سلح النعامة شبّة بن عقال

و كان شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد المالك إلى رجل من الروم؛ فحمل عليه الرومي؛ و نكص و أحدث؛ فبلغ ذلك جريرة باليمامة، فقال فيه ذلك.

ص: 216

و لقي الفرزدق مختبئا يحمل قماشة. كأنه يتحول من دار إلى دار؛ فقال:

- أين راحت عمتنا؟

فقال:

- قد نفاها الأغر يا أبا فراس؛

يريد قول جرير في الفرزدق:

نفاك الأغر بن عبد العزيز *** و حقك تنفي من المسجد

و ذلك أن الفرزدق ورد المدينة، و الأمير عليها عمر بن عبد العزيز فأكرمه صخرة بن عبد الله بن الزبير و أعطاه، و قعد عند عبد الله بن عمر بن عفان و قصَّر به، فمدح الفرزدق حمزة بن عبد الله. و هجا عبد الله فقال:

ما أنتم من هاشم في سرها *** فأذهب إليك و لا بني العوام

قوم لهم شرف البطاح و أنتم *** و ضر البلاط موطئوا الأقدام

فلما تناشد الناس ذلك، بعث إليه عمر بن عبد العزيز، فأمره أن يخرج من المدينة. و قال له:

- إن وجدتك بعد ثلاث عاقبتك.

فقال الفرزدق:

- ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم: *** لله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام لله

فقال جرير يهجوه:

نفاك الأغر بن عبد العزيز *** و حقك تنفي من المسجد

ص: 217

و سميت نفسك أشقى ثمود *** فقالوا ضللت و لم تهتد

و قد أجِّلوا حين حل العذاب *** ثلاث ليالٍ إلى الموعد

وجدنا الفرزدق بالموسحين *** خبيث المداخل و المشهد

و حکی أبو عبيدة، قال: بينما نحن على أشراف الكوفة، وقوف، إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف، و أقبل ابن مکعبر الضبي فوقف متنحيا عنه؛ فأخذ أسماء خاتماً كان في يده، فصَّه فيروز أزرق، فدفعه إلى غلامه و أشار إليه أن يدفعه إلى ابن المكعبر، فأخذ ابن المكعبر شسع نعله، فربطه بالخاتم و أعاده إلى أسماء، تمازحاً و لم يفهم أحد من الناس ما أرادا. أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر:

لقد رزقت عيناك يا ابن مکعبر *** كذا كل ضبي من اللؤم أزرق

و أراد أبن مکعبر قول الشاعر:

لا تأمنن فزارياً خلوت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار

و كان فزارة تعير بإتيان الإبل، و قد عيرت أيضا بأكل جردان الحمار؛ لأن رجلا منهم كان في سفر فجاع، فاستطعم قوماً فدفعوا إليه جردان الحمار، فشواه و أكله، فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك، و قال الفرزدق:

جهز إذا كنت مرتادا و منتجعا *** إلى فزارة عيرا تحمل الكمرا

إن الفزاري لو يعمى فيطعمه *** أير الحمار طيب أبرأ البصرا

إن الفزاري لا يشفيه من قرم *** أطايب العير حتى ينهش الذكرا

ص: 218

و يحكى أن بني فزارة و بني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي؛ و تراضوا به: فقالت بنو هلال:

- أكلتم يا بني فزارة أير الحمار.

فقالت بنو فزارة:

- و أنتم مدرتم الحوض بسلحكم.

فقضی أنس لبني فزارة على بني هلال.

فأخذ الفزاريون منهم مئة بعير كانوا تخاطروا عليها. و فيما ورد يقول الشاعر:

لقد جللت خزيا هلال بن عامر *** بني عامر طراً بسلحة ما در

فأفٍ لكم، لا تذكروا الفخر بعدها *** بني عامر، أنتم شرار المعاشر

و في مجلس قتيبة بن مسلم، بعد فتح سمرقند، سأل أخوه عبد الله بن مسلم الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي.

فقال عبد الله:

- أتعرف يا أبا ساسان الذي يقول:

عزلنا و أمَّرنا و بكر بن وائل *** تجر خصاها تبتغي من تحالف

و ما مات بكري من الدهر ليلة *** فيصبح إلا و هو للذل عارف

فقال:

- أعرفه و أعرف الذي يقول:

فأوى العزم من نادي مشيراً *** و من كانت له أسرى كلاب

ص: 219

و خيبة من يخيب على غنىِ *** و باهلة بن أعصر و الرباب

فقال:

- أفتعرف الذي يقول:

كأن فقاح الأزد حول ابن مسمعِ *** و قد عرفت أخواه بكر بن وائل

قال:

- نعم و أعرف الذي يقول:

قوم قتيبة أمهم و أبوهم *** لولا قتيبة أصبحوا في مجهل

حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج و بين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك، و هو يقرؤه، و لا يعلم معناه و هو مفكر، و في الكتاب:

"أما بعد فإنك سالم و السلام".

قال قتيبة:

- انه يسرك أيها الأمير، و يقر عينك، إنما أراد قول الشاعر:

يديرونني عن سالم و أديرهم *** و جلدة بين العين و الأنف سالم

أي: أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر.

فولاه خراسان كما وعده.

و كتب عبد الملك كتابا إلى الحجاج جواباً على كتاب له يذكر فيه شدة شوكة الخوارج، فقال عبد الملك في كتابه:

"أوصيك بما أوصى به البكري زيداً و السلام".

ص: 220

فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك، فقال:

- من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم.

فأخبره رجل حجازي، انه يعني قوله:

أقول لزيد لا تثرثر فإنهم *** يرون المنايا دون قتلك أو قتلي

فأن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا *** فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي

و إن رفعوا الحرب العوان التي ترى *** فشب وقود النار بالحطب الجزل

فقال الحجاج:

أصاب أميرالمؤمنين فيما أوصاني، و أصاب البكري فيما أوصى به زيدا، و أصبت أيها الأعرابي، فدفع إليه الدراهم.

تلك كانت اضمامة من كنايات تعريضية، وهي – و ان كانت خارجة عن باب الكناية - الا أنها مشابهة إيَّاها، وولإنها كالنوعين تحت جنس عام.

و من الكنايات قول أبي نواس:

و ناضرة إليَّ من النقاب *** تلاحظني بطرف مستطاب

كشفت قناعها فإذا عجوز *** مموهة المفارق بالخضاب

فما زالت تجشمني طويلاً *** و تأخذ في أحاديث التصابي

تحاول أن يقوم أبو زيادِ *** و دون قيامه شيب الغراب

أتت بجرابها تكتال فيه *** فقامت و هي فارغة الجراب

و الكناية في البيت الأخير و هي ظاهرة.

ص: 221

و منها قول أبي تمام:

مالي رأيت ترابكم بئس الثرى *** مالي أرى أطوادكم تتهدم

فكنى ب(بئس الثرى) عن تنكر ذات بينهم. و ب(تهدم الأطواد) حلومهم وطيش عقولهم.

و منها قول أبي الطيب:

و شر ما قنصته راحتي قَنَصٌ *** شهب البزاة سواء فيه و الرّخم

كنى بذلك عن سيف الدولة، و أنه يساوي بينه و بين غيره من أراذل الشعراء.

و خامليهم في الصلة و القرب. قال الأقيشر لرجل: ما أراد الشاعر بقوله:

و لقد غدوت بمشرف يافوخه *** مثل الهراوة ماؤه يتفصد

ارن يسيل من المراح لعابه *** و يكاد جلد أهابه يتقدد

حتى علوت به مشق ثنية *** طوراً أغور به وطوراً أنجد

و قد عني بالعضو.

و قريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، و هو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك، و قد جشمه عبد الصمد فأغضبه، فدخل إلى هشام فقال له:

إنه و الله لولا أنت لم *** ينج مني سالماً عبد الصمد

فقال هشام:

- و لم ذلك؟

ص: 222

- قال :

إنه قد رام مني خطة *** لم یرمها قبله منی أحد

قال هشام:

- و ما هي ويحك؟

قال:

رام جهلاً بي و جهلا بأبي *** يدخل الأفعى إلى بيت الأسد

فضحك هشام و قال:

- لو ضربته لم أنكر عليك.

و من هذا الباب قول أبي نواس:

إذا ما كنت جار أبي حسين *** فنم ويداك في طرف السلاح

فإن له نساء سارقات *** إذا ما بتن أطراف الرماح

سرقن و قد نزلن عليه عضوي *** فلم أضفر به حتى الصباح

فجاء و قد تخدش جانباه *** يئن إليَّ من ألم الجراح

و الكناية في قوله "أطراف الرماح" و في قوله "في طرف الرماح".

و من الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثي امرأته، و قد ماتت بجُمع:

وجعن سلاح قد رزئت و لم أنح *** عليه، و لم أبعث عليه البواكيا

و في جوفه من وارم ذو حفيظة *** لو أن المنايا أخطأته لياليا

أخذه الرضي (رحمه الله) يرثي امرأته:

ص: 223

إن لم تكن نصلا فغمد نصول *** غالته أحداث الزمان بغول

أو لم تكن بأبي شبول ضيغم *** تدمي أظافره فأم شبول

و من الكنايات الحسنة قول حاتم:

و ما تشتكيني جارتي غير أنني *** إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خير و يرجع بعلها *** إليها، و لم يسبل عليَّ ستورها

فكنى بأسبال الستر عن الفعل، لأنه يقع عنده غالبا.

و يشبه قول حاتم في الكناية المقدم ذكرها قول بشار بن برد:

و إني لَعَفٌّ عن زيارة جارتي *** و إني لمشنوء إليَّ اغتيابها

و لم أكُ طَلَّاباً أحاديث سرها *** و لا عالماً من أين حوك ثيابها

و إن قِراب البطن يكفيك ملؤها *** و يكفيك عورات النساء اجتنابها

إذا سُدَّ باب عنك من دون حاجة *** فذرها لأخرى لتبين لك بابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها *** زؤوراً ولم تنبح عليَّ كلابها

و قال الأخطل ضد ذلك يهجو رجلاً و يرميه بالزنا:

سيبقى يضل الكلب يمضغ ثوبه *** له في ديار الغانيات طريق

و من جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة المرى:

و لست بسائل جارات بيتي *** أغياب رجالك أم شهود

و لا ملقٍ لذي الودعات سوطي *** ألاعبه وريبته أريد

و من جيد ذلك و مختاره قول مسكين الدارمي:

ص: 224

ناري و نار الجار واحدة *** و إليه قبلي تنزل القدرُ

ما ضر جارا لي أجاوره *** ألا يكون لبابه سترُ

أعمى إذا ما جارتي برزت *** حتى يواريَ جارتي الخدرُ

و يصم عما كان بينهما *** سمعي و ما بي غيره وقرُ

و العرب تُكَنِّي عن الفرج بالإزار، و بالذيل، فتقول: عفيف الإزار و عفيف الذيل. وكَنّى الشاعر بالإزار عن الزوجة فقال:

ألا أبلغ أبا بشر رسولا *** فداً لك من أخي ثقة إزاري

قلائصنا – هداك الله - انّا *** شغلنا عنكم زمن الحصارِ

يريد به زوجتي. أو كنا هاهنا بالأزار عن نفسه.

و قال زهير:

الحافظون ذمام عهدهم *** و الطيبون مع ا قد الأزر

والستر دون الفاحشات ولا *** يلقاك دون الخير من سُتر

و قد أحسن ابن طباطبا في قوله:

فطربت طربة فاسق متهتك *** و عففت عفة ناسك متحرج

الله يعلم كيف كانت عفتي *** ما بين خلخال هناك و دملجِ

و من الكنايات عن العفة قول ابن ميادة:

و ما نلت منها محرما غير أنني *** أقبل بساماً من الثغر أفلجا

و ألثم فاهاً أخذا بقرونها *** و أترك حاجات النفوس تحرجا

ص: 225

فكنّي عن الفعل نفسه بحاجات النفوس، كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله:

مرَّ بنا و العيون ترمقه *** تجرح منه مواضع القبل

أفرغ في قالب الجمال فما *** یصلح إلا لذلك العمل

و كما كَنَّى ابن المعتز بقوله:

وزارني في ظلام الليل مستتراً *** يستعجل الخطو من خوف و من حذر

ولاح ضوء هلال كاد يفضحه *** مثل القلامة قد قصّت من الظفر

فقمت أفرش خدي في الطريق له *** ذلاً و أسحب أذيالي على الأثر

فكان ما كان مما لست أذكره *** فظُنَّ خيرا و لا تسأل عن الخبر

و مما تطيروا من ذكره: فكَنُّوا عنه قولهم: "مات" فأنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية، نحو قولهم: "لعق إصبعه". و قالوا: "اصفرت أنامله"؛ لأن اصفرار الأنامل من صفات الموت. قال عوف بن محلم الخزاعي:

فقرباني بأبي أنتما *** من وطني قبل اصفرار البنان

و قبل منعاي إلى نسوة *** منزلها حران و الرقتان

و قال لبيد:

و كل أناس سوف تدخل بينهم *** دويهية تصفر منها الأنامل

و يقولون في الكناية عنه: صك لفلان على أبي يحيى، و أبو يحيى كنية الموت.

كني عنه بضده، كما كنوا عن الأسود بالأبيض و قال الخوارزمي:

ص: 226

سريعة موت العاشقين، كأنما *** يغار عليهم من هواها أبو يحيى

وكَنَّى رسول الله صلى الله عليه و آله عنه بهادم اللذات. فقال:

"أكثروا من ذكر هادم اللذات".

و قال أبو العتاهية:

رأيت المنايا قسمت بين أنفس *** و نفسي سيأتي بينهن نصيبها

فيا هادم اللذات ما منك مهرب *** تحاذر نفسي منك ما سيصيبها

و قالوا: حلقت به العنقاء، و حلقت مع عنقاء مُغرِب قال:

فلولا دفاعي اليوم عنك لحلقت *** بشلوك بين القوم عنقاء مُغرِب

و قالوا: زل الشراك عن قدمه، قال:

لا يسلمون العداة جارهم *** حتى يزل الشراك عن قدمه

أي: حتى يموت فيستغنى عن لبس النعل.

فأما قولهم "زلت نعله" فيكنَّى به تارة عن غلطه و خطئه و تارة عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر، و هذا المعنى الأخير أراده الشاعر بقوله:

سأشكر عمراً ما تراخت منيتي *** أياديَ لم تمنن و إن هي جلّتِ

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** و لا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

رأى خلتي من حيث يخفي مكانها *** فكانت قذي عينيه حتى تجلت

و يقولون فيه: شالت نعامته، قال:

يا ليت أمي قد شالت نعامتها *** ايما إلى جنة ايما إلى نار

ص: 227

ليست بشعصي و لو أوردتها هَجَرا *** و لا بريا و لو حلت بذي قار

أي لا يشبعها كثرة التمر و لو نزلت عمر – و هي كثيرة النخل - و لا تروى و لو نزلت ذا قار. و هو موضع كثير الماء.

و يقولون: خلَّى فلان مكانه؛ و أنشر ثعلب للعتبي في السري بن عبد الله

كأن الذي يأتي السري لحاجة *** أباح إليه بالذي جاء يطلب

إذا ما ابن عبد الله خلى مكانه *** فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب

و قال دريد بن الصمة:

فإن يك عبد الله خلى مكانه *** فما كان وقافاً و لا طائش اليد

و يقولون طار من ماله الثمين: يريدون الثمن. يقال: ثمن و ثمين، و سبیع، ذلك لأن الميت ترث زوجته من ماله الثمن غالباً، قال الشاعر:

فلا و أبيك لا آوي عليها *** لتمنع طالباً عنها اليمين

فإني لست منك و لست مني *** إذا ما طار من مالي الثمينُ

أي: إذا مت و أخذت ثمنك من تركتي.

و قالوا لحق اللطيف الخبير، قال:

و من الناس من يحبك حباً *** ظاهر الود ليس بالتقصير

و إذا ما خبرته شهد الطرف *** على حبه بما في الضمير

و إذا ما بحثت قلت كهذا *** ثقة و رأس مال كبير

فإذا ما سألته ربع فلسٍ *** ألحق الود باللطيف الخبير

ص: 228

و قال أبو العلاء:

لا تسل عن عداك أين استقروا *** لحق القوم باللطيف الخبير

و قالوا في الدعاء عليه: لا عُدّ من نفره، أي: إذ عد قومه فلا عد منهم، و إنما يكون كذلك إذا مات. قال امرؤ القيس:

فهو لا تنمى رميّتهُ *** ماله عُد من النفر

و قالوا في الكناية عن الدفن: أضلوه و أضلوا به، قال المخبل السعدي:

أضلت بنو قيس بن سعد عميدها *** و سيدها في الدهر قيس بن عاصم

و يقولون للمقتول: ركب الأشقر، كناية عن الدم، و إليه أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره، الذي يعتذر به عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل:

الله يعلم ما تركت قتالهم *** حتى علوا فرسي بأشقر مزيد

و علمت أني إن أقاتل و احداً *** أقتل، و لا يضرر عدوِّي مشهدي

فصددت عنهم و الأحبة فيهم *** طمعاً لهم بعقاب يوم مرصدِ

و يقولون تُرِكَ فلان بجعجاع؛ أي: قتل، قال أبو قيس بن الأسلت:

من يذق الحرب يجد طعمها *** مراً و تتركه بجعجاع

أي: تتركه قتيلاً مخلى بالفضاء.

و مما كنوا عنه قولهم للمقيّد: هو محمول على الأدهم. و الأدهم: القيد، قال الشاعر:

ص: 229

أوعدني بالسجن و الأداهم *** رجلي و رجلي ششنة المناسم

وكنوا عن القيد أيضا بالأسمر، أنشد ابن عرفة لبعضهم:

فما وَجدُ صعلوك بصنعاء موثق *** بساقيه من سمر القيود كبول

قليل الموالي مسلم بجريرةٍ *** له بعد نومات العيون غليل

يقول له البواب أنت معذب *** غداة غدٍ أو رائحٍ فقتيل

بأكثر من وجدي بكم يوم راعني *** فراق حبيب ما إليه سبيل

و من كناياتهم عنه، ركب روعه، و أصله السهم يرمى به فيرتد نصله فيه، أي: وُقِصَ فدخل عنقه في صدره، قال الشاعر:

تقول و صكت صدرها بيمينها *** أبعلي هذا بالرحا المتقاعس

فقلت لها لا تعجلي و تبيني *** بلاي إذا التفت علي الفوارس

ألست أرد القبر يركب روعه *** و فيه سنان ذو غدارين يابس

لعمر أبيك الخير إني لخادم *** لضيفي و إني إن ركبت لفارس

و أنشد الجاحظ لبعض الخوارج:

و مسوم للموت يركب روعه *** بين الأسنة و القنا الخطَّار

يدنو و ترفعه الرماح كأنه *** شلو تنشب في مخالب ضاري

فثوى صريعا و الرماح تنوشه *** إن الشراة قصيرة الأعمار

و مما تفاءلوا به قولهم للفلاة التي يظن فيها الهلاك: مفازة، اشتقاقاً من الفوز، و هو النجاة، و قال بعض المحدثين:

ص: 230

أحب الفأل حين رأى كثيراً *** أبوه عن اقتناء المجد عاجز

فسماه لقلته كثيراً *** لتلقيب المهالك بالمفاوز

و من هذا تسميتهم اللديغ سلیما، قال:

كأني من تذكر ما ألاقي *** إذا ما أظلم الليل البهيم

سليم مل منه أقربوه *** و أسلمه المجاور و الحميم

و قال أبو تمام في الشيب:

شعلة في المفارق استودعتني *** في صميم الأحشاء شكلا صميما

(و) تثير الهموم ما اكتن منها *** صدأ و هي تستثير الهموما

دقة في الحياة تدعى جلالاً *** مثلما سمي اللديغ سليما

عزمة بهمة إلا إنما كنت *** أغرّ أيام كنت بهيما

حلّمتني - زعمتم - و أراني *** قبل هذا التحليم كنت حليما

و سموا الغراب أعور لحدة بصره، قال ابن ميادة:

ألا طرقتنا أم عمر و دونها *** فيافٍ من البيداء يعشي غرابها

و يکنون عن العجمي بالأحمر، و قال:

رددت صحيفة القرشي لما *** أبت أعراقه الا احمرارا

لأنه توسم فيه أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم لما رأى من بياض لونه و شقرته.

و منه قول جرير يذكر العجم:

ص: 231

يسموننا الأعراب و العرب أسمنا *** و أسماؤهم فينا رقاب المزاود

و إنما يسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء.

و من كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة، و أصلها من السجل؛ و هي الدلو المليء، كان الرجلان يستقیان، فأيهما غلب صاحبه كان الفوز و الفخر له، قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب:

و أنا الأخضر من يعرفني *** أخضر الجلدة من بيت العرب

من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

برسول الله و ابني عمه *** و بعباس بن عبد المطلب

و قال الشاعر:

قوم إذا اخضرت نعالهم *** يتناهقون تناهق السمرِ

أي: إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها، فأغار بعضهم على بعض، و التناهق هاهنا: أصواتهم حين يتنادون للغارة.

و نظير هذا البيت قول الآخر:

قوم إذا نبت الربيع لهم *** نبتت عداوتهم مع البقل

أي: إذا خصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا.

و مثله قول الآخر:

يا ابن هشام أهلك الناس اللبن *** فكلهم يغدو بسيف و قرن

أي: تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن و الخصب فأفسدوا في الأرض فأغار

ص: 232

بعضهم على بعض. و القرن: الجعة.

و من الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعر:

فتى لا يرى قد القميص بخصره *** ولكنما يوهي القميص عواتقه

لما كان سلامة القميص من الحرق في موضع الخصر تابعا لدقة الخصر، و وهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل، ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح و عظم کاهله.

و منه قول مسلم بن الوليد:

فرعاء في طرفها ليل على قمر *** على قضيب على حقف النقا الدهس

كأن قلبي و شاحاها إذا خطرت *** و قلبَها قلبُها في الصمت و الخرس

تجري محبتها في قلب عاشقها *** مجرى السلامة في أعضاء منتكس

و من هذا الباب قول القائل:

إذا غرد المکّاء في غير روضه *** فويل لأهل الشاء و الحمرات

أومأ بذلك إلى الجدب، لأن المكاء يألف الرياض فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضه و غرد، فالويل حينئذ لأهل الشاء و الحمر.

و منه قول القائل:

لعمري لنعم الحي حي بني كعب *** إذا جعل الخلخال في موضع القُلب

القلب: السوار؛ يقول: نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس و خافوا، حتى أن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار، فاختصر الكلام اختصارا شديدا.

ص: 233

و منه قول الأفوة الأودي:

إن بني أودٍ همُ ما همُ *** للحرب للجدب و عام الشموس

قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية، و يجوز أن يكون استعارة، و يختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده، و النظر إلى ما بعده، كقول نصر بن سیار (في أبياته المشهورة) التي يحرض بها على بني أمية عند خروج أبي مسلم:

أرى خلل الرماد و ميض جمر *** و يوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالزندين توري *** و إن الحرب أولها كلام

أقول من التعجب ليت شعري *** أأيقاظٌ أمية أم نيام

فأن هبوا فذاك بقاء ملك *** و إن رقدوا فأني لا ألام

فإن يك أصبحوا وثووا نياما *** فقل قوموا فقد حان القيام

فالبيت الأول لو وردَ بمفرده لكان كناية لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز، فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها؛ كان البيت الأول المذكور باستعارة لا كناية.

و لقوله عليه السلام:

"العين وكاء الستة".

و هذا القول في الأشهر الأظهر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد رواه قوم لأمير المؤمنين عليه السلام.

و ذلك المبرد في كتاب المقتضب باب اللفظ المعروف. و الوكاء رباط القربة؛

ص: 234

فجعل العين وكاء - و المراد اليقظة - للستة للوكاء للقرية.

و الستة: الأست: فاستشهد بقول يحيى بن زیاد، إذ كان يحيى و مطيع بن ایاس و حماداً الراوية قد جلسوا على شرب لهم، و معهم رجل منهم فانحل، فاستحيا و خرج، و لم يعد إليهم فكتب إليه يحيى بن زیاد (186/20- 187):

أمن قلوص غدت لم يؤذها أحد *** ألا تذكرها بالرمل أوطانا

خان العقال لها فانبث إذ نفرت *** و إنما الذنب فيها للذي خانا

منحتنا منك هجرانا و مقلية *** و لم تزرنا كما قد كنت تغشانا

خفض عليك فما في الناس ذو ابلٍ *** الا واينقة يشرون أحيانا

و الكناية في تلك الأبيات واضحة.

و قال الشاعر (188/20):

فيا من ليس يكفيه صديق *** و لا ألفا صديق كل عام

أظنك من بقايا قوم موسى *** فهم لا يصبرون على طعام

و هو تضمين لقوله تعالى:

{وَ إِذ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نَصبِرَ عَلَى طَعامٍ وَاحِدٍ}

إذ يقال: فلان من قوم موسى، إذا كان ملولا.

و قول العباس بن الأحنف (188/20):

كتبت تلوم و تستريث زيارتي *** و تقول لست لنا كعهد العاهد

فأجبتها ودموع عيني سجّمٌ *** تجري على الخدين غير جوامد

ص: 235

يا فوز لم أهجركم لملالةٍ *** عرضت و لا المقال واش حاسد

لكنني جربتكم فوجدتكم *** لا تصبرون على طعام واحد

و قال الشاعر: إذ يقولون للجارية الحسناء قد أبقت من رضوان (188/20):

جسّت العود بالبنان الحسان *** و تثنت كأنها غصن بان

فسجدنا لها جميعا و قلنا *** إذ شجتنا بالحسن و الإحسان

حاش لله أن تكون من الأنس *** ولكن (أبقيت) من رضوان

و بما تمثل به الحجاج (188/20):

أنا ابن جلا و طلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني

إذ يقولون للمكشوف الأمر الواضح الحال: ابن جلا، و هي كناية عن الصبح.

و بما أنشد الأصمعي (189/20):

آتي الندیَّ فلا يقرّب مجلسي *** و أقود للشرف الرفيع حماري

إذ يقولون في الكناية عن الشيخ الضعيف: قائد الحمار، أي: يقوده من الكبر إلى موضع مرتفع ليركب لضعفه.

و يقول الشاعر (189/20):

و أصبحت كنيتا و أصبحت عاجزاً *** و شر خصال المرء: كنت ذاعجن

إذ كانوا يكنون عن الشيخ الضعيف بالعاجن: لأنه إذا قام عجن الأرض

ص: 236

بكفيه.

و الكنتيُّ: الذي يقول: كنت أفعل كذا. و كنت أركب الخيل يتذكر ما مضى من زمانه. و لا يكون ذلك الا عند الهرم، أو الفقر و العجز.

و قول لبيب (20189):

أخیّر أخيار القرون التي مضت *** أدب كأني كلما قمت راكع

إذ كانوا يکنون عن الشيخ بالراكع، و الركوع هو التطأطؤ و الإغفاء بعد الاعتدال و الاستواء.

و قول الأضبط بن قريع السعدي (189/20):

لا تهن الفقير علك أن *** تركع يوما و الدهر قد رفعه

إذ يقال للإنسان إذا انتقل من الثروة إلى الفقر: قد ركع.

و قول الشاعر (190/20):

ارفع ضعيفك لا يمر بك ضعفه *** يوماً فتدركه الحوادث قد نما

يجزيك أو يثني عليك و إن من *** يثني عليك بما فعلت فقد جزی

و مثله أيضا:

و أكرم كريماً إن أتاك لحاجة *** لعاقبة إن القضاة تروّحُ

تروّح: الشجر إذا انفطر بالنبت؛ يقول: إن كان فقيرا فقد سبقني.

كما أن الشجر الذي لا ورق عليه سيكتسي ورقاً، و يقال ركع الرجل؛ أي: سقط، كقول الشاعر (190/20):

ص: 237

خرق إذا ركع المطيّ من الوجي *** لم يطوِ دون رفيقه ذا المرود

حتى يؤوب به قليلا فضله *** حمد الرفيق نداك أو لم يحمدِ

و كما يكنون الشيخ بالراكع فيکنون به عنه، كذلك يقولون: يحجل في قيده خطوة، كقول أبي الطحان القيني:

حنتني حانيات الدهر حتى *** كأني خاتل أدنو لعيد

قريب الخطو يحسب من رآني *** -و لست مقيدا- أني بقيد

و نحو هذا قولهم لكبير: بدت له الأرنب، و ذلك أن من يختل الأرنب ليصيدها يتمايل في مشيته كقول ابن الأعرابي في النوادر:

و طالت بي الأيام حتى كأنني *** من الكبر العالي بدت لي أرنب

و يقولون لمن رشا القاضي أو غيره؛ صب في قنديله زيتا كقوله (191/20):

و عند قضاتنا خبث و مكر *** وزرع حين تسقيه يسنبل

إذا ما صب في القنديل زيت *** تحولت القضية للمقندل

و كان أبو صالح كاتب الرشيد ينسب إلى أخذ الرشاء، و كان كاتب أم جعفر، و هو سعدان بن يحيی كذلك، فقال لها الرشيد يوماً:

- أما سمعت ما قيل في كاتبك؟

قالت:

ما هو؟

فأنشدها:

ص: 238

صب في قنديل سعدان *** مع التسليم زيتا

و قناديل بنيه *** قبل أن تخفي الكميتا

قالت:

- فما قيل في كاتبك أشنع.

فأنشدته:

قنديل سعدان علا ضوءه *** فرخ لقنديل أبي صالح

تراه في مجلسه أحوصاً *** من لمحه للدرهم اللائح

و يقولون لمن يفخر بآبائه هو عظامي. و لمن يفخر بنفسهى هو عصامي.

إشارة إلى قول النابغة في عصام بن سهل صاحب النعمان:

نفس عصام سودت عصاما *** و علمته الكد و الإقداما

و جعلته ملكا هماما

و أشار بالعظامي إلى فخره بالأموات من آبائه و رهطه، و قال الشاعر:

إذا ما الحي عاش بعظم ميت *** فذاك العظم حي و هو ميتُ

و مثل قولهم: عظامي، قولهم: خارجي، أي يفخر بغير أولوية كانت له، قال كثير لعبد العزيز:

أبا مروان لست بخارجيٍّ *** و ليس قديم مجدك بانتعالِ

و يکنون عن العزيز و عن الذليل أيضا ب (بيضة البلد) في المدح (193/20):

لكن قائله من لا كفاء له *** من كان يدعى أبوه بيضة البلد

ص: 239

و قال الآخر في الذم:

تأبى قضاعة لم تعرف لكم نسبأ *** و ابنا نزار فأنتم بيضة البلد

و يقولون للشيء الذي يكون في الدهر مرة واحدة، هو بيضة الديك.

و يکنون عن الثقيل بالقذي في الشراب.

قال الأخطل يذكر الخمر و الاجتماع عليها:

و ليس قذاها بالذي قد يضيرها *** و لا بذباب نزعه أيسر الأمر

و لكن قذاها كل جلف مكلف *** أتتنا به الأيام من حيث لا ندري

فذاك القذي و ابن القذى و أخو القذى *** فأن له من زائر آخر الدهر

و يکنون عنه أيضا بقدح اللبلاب، قال الشاعر:

يا ثقيلا زاد في الثق *** ل علی کل ثقيل

أنت عندي قدح اللب *** لاب في كف العليل

و يکنون عنه أيضا بالقدح الأول، لأن القدح الأول من الخمر تكرهه الطبيعة و ما بعده فدونه لاعتياده، قال الشاعر:

و أثقل من حضينٍ باديا *** و أبغض من قدح الأول

و يکنون عنه بالكانون، قال الخطيأة يهجو أمه:

تنحّي و اقصدي عني بعيدا *** أراح الله منك العالمينا

أغربالاً إذا استودعتي سراً *** و كانوناً على المتحدثينا

و يکنون عن الثقيل أيضا برحا البزر، قال الشاعر (194/20):

ص: 240

و أثقل من رحا بزر علينا *** كأنك من بقايا قوم عاد

و مثله قولهم:

هو جلیس قعقاع بن ثور، و كان قد قدم إلى معاوية، فدخل عليه، و المجلس غاص بأهله ليس فيه مقعد، فقام له رجل من القوم و أجلسه مكانه، فلم يبرح القعقاع من ذلك الموضع يكلم معاوية و معاوية يخاطبه حتى أمر له بمئة ألف درهم، فأحضرت إليه، فجعلت إلى جانبه، فلما قام قال الرجل القائم له من مكانه:

ضمها إليك، فهي لك بقيامك لنا عن مجلسك، فقيل فيه (195/20):

و كنت جليس قعقاع بن ثور *** و لا يشقى بقعقاع جليس

ضحوك السن أن نطقوا بخير *** و عند الشر مطراق عبوس

و يقولون: هو فاختة البلد، من قول الشاعر (20/196):

أكذب من فاختة *** تصيح فوق الكرب

و الطلع لم يبدُ لها *** هذا أوان الرطب

و قال آخر:

حديث أبي حازم كله *** كقول الفواخت جاء الرطب

و هن و إن كن يشبهنه *** فلسن يدانينه في الكذب

و يکنون عن النمانم بالزجاج، لأنه يشف على ما تحته، قال الشاعر:

انم بما استودعته من زجاجة *** يرى الشيء فيها ظاهراً و هو باطن

و يکنون عنه بالنسيم من قول الآخر:

ص: 241

و أنك كلما استودعت سرا *** انم من النسيم على الرياض

و قالوا للجائع: عضه الصفر، و عضه شجاع البطن (197/20): و قال الهندي:

أرُدُّ شجاع البطن قد تعلمنيه *** و أوثر غرثى من عيالك بالطعم

مخافة أن يحيا برغم و ذلةٍ *** و للموت خير من حياة على رغم

و يقولون: زوده زاد الضب، أي لم يزوده شيئا لأن الضب لا يشرب الماء، و انما يتغذى بالريح، و النسيم، و يأكل القليل من عشب الأرض، قال ابن المعتز:

يقول أكلنا لحم جدي وبطة *** و عشر دجاجات شواء بالبان

فقد كذب الملعون إذ كان زاده *** سوى زاد ضب يلعق الريح عطشان

و قال أبو الطيب:

لقد لعب البين المشت بها وبي *** و زودني في السير ما زود الضبا

و يقولون للمختلفين من الناس. هم کنعم الصدقة، و هم كبعر الكبش. قال عمرو بن لجأ:

و شعر كبعر الكبش ألف بينه *** لسان دعي في القريض دخيل

و يقولون فيهم: خبر کُتّاب، لأنه يكون مختلفا، قال الشاعر يهجو الحجاج ابن يوسف (198/20):

أنيس كليب زمان الهزال *** و تعليمه سورة الكوثر

رغيف له فلكة ما تري *** و آخر كالقمر الأزهر

ص: 242

و مثله:

أما رأيت بني سلم وجوههم *** كأنها خبز كَتَّاپٍ و بقالِ

و يقال للمتساوين في الرواء، كأسنان الحمار، قال الشاعر:

سواء كأسنان الحمار فلا تری *** الذي شينة منة على ناشئٍ فضلا

و قال آخر:

شبابهم و شيبهم سواء *** فهم في اللؤم أسنان الحمار

و أنشد المبرد في الكامل لأعرابي يصف قوما من طيء بالتساوي في الرداءة:

و لما أن رأيت بني جوينٍ *** جلوسا ليس بينهم جليس

يئست من الذي أقبلت أبغي *** لديهم، انتي رجل يؤوس

إذا ما قلت أيهم لأيِّ *** تشابهت المناكب و الرؤوس

و يعني ب(ليس بينهم جلیس)، أي لا ينتج الناس معروفهم، فليس بينهم غيرهم.

و قال ابن الأعرابي: كل طائر إذا كسرت إحدى رجليه تحامل على الأخرى، الا النعام فأنه منی کسرت إحدى رجليه جثم، فلذلك قال الشاعر يذكر أخاه (199/20):

و اني مراياه کرجلي نعامة *** على ما بنا من ذي غنى و فقير

و يقال للمتكلف بمصالح الناس، انه وصي آدم على ولده.

و قد قال الشاعر في هذا الباب:

ص: 243

فكأن آدم عند قرب وفاته *** أوصاك و هو يجود بالحواء

ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم *** و كفيت آدم عيلة الأبناء

و يقولون فلان خليفة الخضر، إذا كان كثير السفر، قال أبو تمام (200/20):

خليفة الخضر من يربع على وطنٍ *** أو بلدة فظهور العيس أوطان

بغداد أهلي و الشام الهوى و أنا *** بالرقتين و بالفسطاط إخواني

و ما أظن النوى ترضى بما صنعت *** حتى تبلغ بي أقصى خراسان

و يقولون: أسمن فلان في أديمه، كناية عمن لا ينتفع به، أي: ما خرج منه يرجع إليه، و أصله أن نجياً من السمن انشق في ظرف من الرقيق، فقيل ذلك، قال الشاعر:

ترحل فما بغداد دار إقامة *** و لا عند من أضحي ببغداد طائل

محل ملوك سمنهم في أديمهم *** و كل بهم من حلية المجد عاطل

فلا غزو أن شكت يد المجد و العلا *** و قل سماع من رجال و نائل

إذا غضفض البحر القطامط ماءه *** فليس عجيبا أن تفيض الجداول

و يقولون لمن كان حسن اللباس و لا طائل عنده، و المشجب خشبة القصار التي يطرح الثياب عليها: قال بن الحجاج:

لي سادة طائر السرور بهم *** يطرد اليأس بالمقاليع

مشاجب للثياب كلهم *** و هذه عادة المشاقيع

جائزي عندهم إذا سمعوا *** شعري: هذا كلام مطبوع

ص: 244

و انهم يضحكون إن ضحكوا *** و أبكي أنا من الجوع

و قال آخر:

إذا لبسوا دكن الخزوز و خضرها *** وراحوا فقد راحت عليك المشاجب

و یکنون عن الطفيلي: هو ذباب، لأنه يقع في القدور قال الشاعر (201/20):

و لست بواقع في قدر قوم *** و ان كرهوا كما يقع الذباب

أتيتك زائرا لقضاء حق *** فحال الستر دونك و الحجاب

و قال آخر:

و أنت أخو السلام و كيف أنتم *** و لست أخو الملمات الشداد

و أطفل حين يجفى من ذباب *** و الذم حين يدعي من قراد

و يکنون عن القصير القامة بأبي زبيبة، و عن الطويل بخيط باطل، و كانت كنية مروان بن الحكم لأنه كان طويلا مضطربة، قال فيه الشاعر:

الحا الله قوماً أمروا خيط باطل *** على الناس يعطي من يشاء و يمنع

و في خيط باطل قولان: أحدهما أنه الهباء الذي يدخل من ضوء الشمس في الكوة من البيت، و تسمية العامة: غزل الشمس، و الثاني أنه الخيط الذي يخرج من فم العنكبوت، و تسمية العامة: مخاط الشيطان.

و يقولون عن النادم: يقرع السن، و النجيل: ينكث الأرض ببنانه، أو يعود عند الرد. قال الشاعر (202/20):

ص: 245

عبيد أخوانهم حتى إذا ركبوا *** يوم الكريهة فالأساد في الأجم

يرضون من الأيسار سائلهم *** لا يقرعون على الأسنان من ندم

و قال آخر من نکث الأرض بالعيدان:

قوم إذا نزل الغريب بدارهم *** تركوه رب صواهل و قيان

لا ينكثون الأرض عند سؤالهم *** لتطلب العلان بالعيدان

و يقولون للمثري من المال: منفرس. و حكي المبرد و قال: كان الحرماذي في ناحية عمرو بن مسعدة و كان يجري عليه فخرج عمرو بن مسعدة إلى الشام، و تخلف الحرماذي ببغداد، فأصابه النقرس فقال:

أقام بأرض الشام فاختل جانبي *** و مطلبه بالشام غير قريب

و لاسيما من مفلس حلف نقرس *** أما نقرس في مفلس بعجيب

إذ ساد الأعتقاد أن علة النقرس *** أكثر ما تعتري أهل الثروة و التنعم.

و قال بعضهم يهجو ابن زیدان الكاتب (203/20):

تواضع النقرس حتى لقد *** صار إلى رجل ابن زيدان

علة انسان ولكنها *** قد وجدت في غير انسان

و يقولون للمترف: انه رقيق النعل، و أصله قول النابغة:

رقاق نعال طيب حجراتهم *** يحيون بالريحان يوم السباسب

و كذلك قولهم: فلان مسحطة النعال. أي نعله طبقة واحدة غير مخصوف، قال المرار بن سعيد الفقعي:

ص: 246

وجدت بني خفاجة في عقيل *** کرام الناس مسحطة النعال

و قريب من هذا قول النجاشي:

و لا يأكل الكلب السروق نعالنا *** و لا ينتقي المخ الذي في الجماجم

و يقولون لأبناء الملوك و الرؤساء و من يجري مجراهم: جفاة المحز، قال الشاعر (204/20):

جفاة المحز لا يصيبون مفصلا *** و لا يأكلون اللحم الا تخذما

أي: لا يحسنون الذع، و اذا أكلوا قطعوا اللحم قليلاً قليلا.

و أنشد الجاحظ في مثله:

و صلع الرؤوس عظام البطون *** جفاة المحز غلاظ القصر

و قريب من ذلك قوله (205/20):

ليس براعي أبل و لا عنم *** و لا بجزار على ظهر وضم

و يقولون: ملحه على ركبته، أي: هو سيئ الخلق، يقضيه أدنى شيء، قال:

لا تلمها أنها من عصبةٍ *** ملحها موضوعة فوق الركب

و يقولون كناية عن المجوسي: هو من يخط على النمل، و النمل جمع نملة، و هي قرصة بالأسنان، كانت العرب تزعم أن المجوسي إذا كان من أخته و خط عليها برأت: قال الشاعر:

و لا عيب فينا غير عرق لمعشر *** كرام و أنا لا نخط على النمل

و يقولون للصبي: قد فطغت ثمرته، أي: ختن، و قال عمارة بن عقيل بن

ص: 247

بلال بن جریر (206/20):

ما زال عصياننا لله يرذلنا *** حتى دفعنا إلى يحيى و دينار

الا عليجين لم تقطف ثمارها *** قد طالما سجدا للشمس و النار

و تكني العرب عن الحشرات و هوام الأرض بجلود سعد، يعنون سعد الأخبية، ذلك أنه إذا طلع انتشر في ظاهر الأرض، و خرج منه ما كان مستترا في باطنها، قال الشاعر:

قد جاء سعد منذرا بحره *** موعده جنود بشره

و یکني قوم عن السائلين على الأبواب بحفاظ سورة يوسف عليه السلام.

لأنهم يعتنون بحفظها دون غيرها. و قال عمارة يهجو محمدا بن وهيب:

تشبهت بالأعراب أهل التعجرف *** فدل على ما قلت قبح التكلف

لسان عراقي اذا ما ضرفته *** الى لغة الأعراب لم يتصرف

و لم تنس ما قد كان بالأمس حاله *** أبوك وعود الجف لم يتقصف

لأن كنت للأشعار و النحو حافظا *** لقد كان من حفاظ سورة يوسف

و يکنون عن اللقيط: بتربية القاضي. و عن الرقيب بثاني الحبيب لأنه يُرى معه أبدا، قال ابن الرومي (207/20):

موقف للرقيب لا أنساه *** لست أختاره و لا أباه

مرحبا بالرقيب من غير وعد *** جاء يجلو على من أحواه

لا أحب الرقيب الا لأني *** لا أرى من أحب حتى أراه

ص: 248

و يکنون عن الوجه المليح: بحجة المذنب، إشارة إلى قول الشاعر:

قد وجدنا غفلة من رقيب *** فسرقنا نظرة من حبيب

و رأينا ثم وجها مليحا *** فوجدنا حجة للذنوب

و يکنون عن الجاهل، ذي النعمة بحجة الزنادقة قال ابن الرومي: مهلا أبا الصقر فكم من طائر *** خر صريعا بعد تحليق

لا قدست نعمي تربلتها *** کم حجة فيها لزنديق

و قال ابن بسام في أبي الصقر أيضا:

يا حجة الله في الأرزاق و القسم *** و عبرة لأولي الألباب و الفهم

تراك أصبحت في نعماء سابقة *** الا وربك غضبان على النعم

و قال ابن الرومي (208/20):

و قينة أبرد من ثلجة *** تبيت منها النفس في ضجة

كأنها من نتنها ضجة *** لكنها في اللون أترجة

تفاوتت خلقتها فاغتدت *** لكل من عطل ممتجة

و قد يشابه ذلك قول أبي علي البصير في أبن سعدان:

يا ابن سعدان اجعل الرزق في أم *** رك و استحسن القيح بحرة

نلت ما لم تكن تمنى إذا ما *** أسرفت غاية الأماني عشرة

ليس فيما أطن الا لكيلا *** ينكر المنكرون لله قدره

و للمفجع في قريب منه:

ص: 249

إن كنت خنتكم المودة غادراً *** أوصلت عن سنن المحب الوافق

فمسخت في قبح ابن طلحة أنه *** ما دل قط على كمال الخالق

و يقولون: وعد سابري: أي لا يقرن به وفاء واصل. السابري، الرقيق اللطيف، و قال المبرد سألت الجاحظ:

- من أشعر المولدين؟

فقال:

- القائل:

كأن ثيابه أطلع *** ن من أزرار قمرا

يزيدك وجهه حسناً *** إذا ما زرته نظرا

بعين خالط التغيي *** ر في أجفانها الحورا

ووجه سابري لو *** تصوِّب ماؤه قطرا

يعني العباس بن الأحنف.

و جاء أعرابي إلى أبي العباس ثعلب و عنده أصحابه فقال له، ما أراد القائل بقوله (209/20):

الحمد لله الوهوب المنان *** صار الثريد في رؤوس القضبان

فأجابه ثعلب: أراد أن السنبل قد أضرك.

و يکنون عن الشيب، بغبار العسكر، و برغوة الشباب قال الشاعر (210/20):

ص: 250

قالت أرى شيبا برأسك قلت لا *** هذا غبار من غبار العسكر

و قال آخر، و سماه غبار وقائع الدهر:

غضبت ظلوم و أزمعت هجري *** وصبت ضمائرها إلى الغدر

قالت أرى شيبا فقلت لها *** هذا غبار وقائع الدهر

و قال الجاحظ: رأيت رجلا أعمى يقول في الشوارع و هو يسأل: ارحموا ذا الزّمانتين.

قلت:

- و ما هما؟

قال:

- أنا أعمى و صوتي قبيح.

و قد أشار شاعر إلى هذا فقال:

(و) اثنان إذا عُدّا *** حقيق بهما الموت

فقير ماله زُهدٌ *** و أعمى ما له صوت

و تقول: فلان عندي بالشمال، أي: منزلته خسيسة، و فلان عندي باليمين: أي: بالمنزلة العليا، قال أبو نواس (211/20):

أقول لناقتي إذ بلغتني *** لقد أصبحت عندي باليمين

فلم أجعلك للغربان نهبا *** و لم أقل أشرقي بدم الوتين

حرمت على الأزمة و الولايا *** وأعلاق الرحالة و الوضين

ص: 251

و قال ابن ميادة:

أبيني أ فی يمني يديك جعلتني *** فأفرح أم صيرتني في شمالك؟

و يقولون: امرئ لا ينادی ولیده، أي أمر عظيم ينادي فيه الكبار دون الصغار، قال الشاعر يصف حربا عظيمة (212/20):

إذا خرس الفحل وسط البحور *** و صاح الكلاب وعق الولد

و يقولون: أصبح فلان عن قرن أعفر؛ و هو الضبي، إذ أرادوا أصبح على خطر، قال امرؤ القيس.

و مثل يوم بالعضالي قطعته *** كأني و أصحابي على قرن أعفر

و قال أبو العلاء المعري:

في بلدة مثل ظهر الضب بت بها *** كأنني فوق أوق الضبي من حذر

و أنشد ابن دريد في هذا المعنى:

و ما خير عيش لا يزال كأنه *** محلة يعسوب برأس سنان

و يقولون: ألقى عصاه، إذا أقام و استقر، قال الشاعر (213/20):

فألقت عصاها و استقر بها النوى *** كماقر عيناً بالإياب المسافر

و يقولون: فلان ألقى عصاه في أعقاب نجمة مغرب، أي: هو نادم آس، قال الشاعر:

فأصبحت من ليلى الغداة كناظر *** مع الصبح في أعقاب نجمة مغرب

و يقال: هذه فرس غير محلفة. أي: لا تحوج صاحبها إلى أن يحلف أنها

ص: 252

كريمة. قال الشاعر (214/20):

کميت غير محلفة ولكن *** كلون الصرف عل به الأديم

و لقوله عليه السلام:

"إن للوالد على الولد حقا، و إن للولد على الوالد حقا، و حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ...".

قال الشاعر (365/19-366)

و حللت من مضر بأمنع ذروة *** منعت بحد الشوك و الأحجار

إذ كني عن أخواله، و هم قتادة و طلحة و عوسجة، بالشوك، و عن أعمامه بالأحجار.

ص: 253

المحتویات

توضیح مفردة ... 7

الإسناد اللغوي ... 19

النحو ... 45

صفين ... 48

شتان ... 49

فتح و کسر اللام ... 50

جزاء الشرط ... 50

وضع (عن) موضع (بعد) ... 51

تعدیه اللازم ... 51

تقدیر ذو ... 52

تقدیر فعل ... 52

تشکیل اعتراضی ... 53

ص: 254

أبا ... 57

جمع نوء ... 57

أین ... 58

اوه ... 58

حذف إن ... 59

تقديم الجار والمجرور على الحال ... 59

الا حر ... 61

من ... 62

أصبر ... 62

الفعل المقدر ... 63

بين ... 64

إياك ... 64

تبادل الحروف ... 64

البلاغة ... 65

لزوم ما لا يلزم ... 67

الاقتباس ... 69

رأي ... 71

الاقتباس ... 73

التشبيه ... 182

الاستعارة ... 185

ص: 255

الطباق و المقابلة ... 187

التخلص و الاستطراد ... 191

الجناس ... 196

الكناية ... 204

ص: 256

المجلد 5

هوية الکتاب

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: شعبان حاتمی

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَحِیم

أضواء علی نَهْجِ البلاغة

الجُزءُ الخَامِسُ

ص: 1

بَحرُ العِلم و مَدارُ الحَق

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015- 914

ص: 2

أَضْوَاءٌ عَلَى نَهْجِ البَلَاغَةِ

بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

الجُزءُ الخَامِسُ

تأليف: الدکتور علي الفتال

إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 4

الضوء الأول: التمثيل

ص: 5

ص: 6

اخترت لهذا الباب من الجزء الخامس عنوان {التمثيل}، وأعني به؛ أنَّ المتحدِّث - سواء كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو غيره - كان يستشهد ويتمثَّل بأقوال غيره، شعراً كانت تلك الأقوال أو نثراً، وهذا ضوءٌ مهمٌّ للوقوف على ما الأدب العصر ذاك من أهَّمية في التمثيل به من بلغاء العرب وفي رأسهم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الذي [سنَّ البلاغة لقريش].

وإليك - قارئي الكريم - العيِّنات تلك من التمثيل :

من خطبةٍ له (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه في اليمن وهما : عبد اللّه بن عباس وسعيد بن غران، لما غلب عليهما بُسر بن أرطأة فقام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على المنبر ضجرة بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم إياه في الرأي، فقال :

{ما هيَ إلّا الكوفة أقبضها وأبسطها، إن لم يكن إلّا أنتٍ تهبُّ أعاصيركِ فعجكِ الله}. وتمثَّل بقول الشاعرة / 332:

لعمر أبيك الخير يا عمرو أنني***على وضرٍ من ذا الإناءِ قليل

ص: 7

ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) 1/ 332 - 333 : {نُبِّئتُ أنَّ بُسراً خلَّع اليمن، وأنَّي واللّه لأظنُّ أنَّ هؤلاء القوم سیدالون منکم باجتماعهم على باطلهم، وتفرُّقكم عن حقِّكم، ومعصيتكم إمامكم في الحق، وإطاعتهم إمامهم بالباطل وبإدائكم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم، بصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعبٍ لخشيت أن يذهب بعلاقته، أللهم أنني قد مللتهم وملُّوني، وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شر مني! اللهم مِتْ قلوبهم كما يُمات الملح في الماء، أما واللّه لوددتُ أنَّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم :

هنالك لو دعوت أتاك منهم***فوارس مثلَ أرمية الحميم

ثم نزل (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المنبر.

ومن خطبة للحجَّاج عنَّف فيها أهل العراق شرَّ تعنيف ثم تمثَّل بقول ابن بُراقة 1 / 343:

وكنتُ إذا قومٌ غزوني غزوتهم***فهل أنا في ذا يال همدان ظالمُ؟

متى تجمع القلب الذكيَّ وصارما***وأنفأحمياً تجتنبكَ المظالم

وفي خطبةٍ للحجَّاج أيضاً يمتدح بها أهل الشام تمثَّل ببيتي أخي ذبيان وهما 1 / 346

إذا حاولتَ في أسير فخوراً*** فإنِّي لستُ منكَ ولستَ منِّي

همُ درعي الذي استلأمتُ فيها***إلى يوم النشار وهم مجنِّي

وخطب الحجَّاج أيضاً بعد موت أخيه وابنه؛ ومما قال 1 / 347:

ص: 8

يا أهل العراق؛ أتيتكم وأنا ذو لمَّةٍ وافرة أرفل فيها؛ فما زال بي شقاقكم وعصيانكم حتىَّ حص شعري، كشف عن رأسه وهو صلعٌ وقال :

من يكُ ذا لِمَّة سيكشفها***فإنني غير ضائري زعري

لا يمنع المرء - أن يسود وأن***يُضربَ بالسيف قلَّة - الشعر

كان سَلَم بن عقبة ليزيد وما عمل بالمدينة في وقعة الحرِّة، كما أن بُسر المعاوية وما عمل في الحجاز واليمن، وقال ابن أبي الحديد : [ومن أشبه أباه فما ظلم وتمثل 18/2:

يُضربُ بالسيف قلة الشعر***لسنا على الأحساب نتَّكلُ

نبني كما كانت أوائلنا***تبني ونفعل مثلما فعلوا

رُوي أنَّ شريك بن عبد اللّه النُخعي حجَّ مع عمر، ولما نزلا وعظم الناس خرج شريك من رحله يُريده فلقيه المغيرة بن شعبة فرافقه ثم قال :

- أين تُريد؟

فقال :

- أمير المؤمنين.

فانطلقا يُريدان رحل عمر. لما أذن لهما دخلا فوجداه مستلقياً على برذعةٍ برحل، وبعد أن تحادثوا عن حسد قريش وكيف أنهم ما كانوا يُريدون أن يستخلف أبو بكرٍ عمرة، تمثَّل عمر بقول کعب بن زهير :

ص: 9

لا تفشِ سِرَّكَ إلَّا عند ذي ثقٍة***أولى وأفضل ما استودعتَ أسرارا

صدراً وسيعاً وقلباً واسعاً قمنا***أن لا تخافا متى أودعت إظهارا

إذ سألاه عن حسد قريش فأجابهما - بعد أن حدَّثهما طويلا - وطلب منهما کتمان ما يقول :

- كلَّا واللّه بل كان أبو بكرٍ أعق وهو الذي سألتها عنه، كان واللّه أحسد قریش كلِّها.

لما حُصر عثمان الحصر الأخير جاء مروان بن الحكم فاستصحب زید بن ثابت - وكان زيد يميل لعثمان - إلى عائشة ليكلِّمها في هذا الأمر وكانت عازمة على الحج فأقبلت على زيدٍ فقالت :

- وما منعك يبن ثابت ولك الأشاریف قد اقتطعتها عثمان، ولك كذا وكذا.

فلم يرجع زيدٌ عليها حرفة واحدة، وأشارت إلى مروان بالانصراف فانصرف وهو يقول 8/3:

[و] حرق قيسٍ عليَّ البلاد***حتى إذا اضطرمت أجذما

لما حضر الموت عبد اللّه بن مسعود أوصى عمَّار بن یاسر (رحمه اللّه) أن لا يُصلِّ عليه عثمان فعملها عمار، ولما دُفن جاء عثمان منكرة ذلك فقيل له إن عمارة ولِّيَ الأمر فقال لعمار :

- ما حملك على أن لا تؤذَنِّي؟

ص: 10

فقال :

- عُهِدَ إلىَّ أن لا أُؤذنك. فوقف على قبره وأثنى عليه وانصرف وهو يقول : (رفعتم واللّه أيديكم من خير من بقي).

فتمثَّل الزبير بقول عبد اللّه بن الأبرحي 42/3:

لا ألفيَنَّك بعد الموت تندبني***وفي حياتيَ ما زوَّدتني زادي

عنَّف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) زیداً لما خرج، وحذَّره القتل، وقال له :

- إن أهل العراق خذلوا أباك عليَّاً وحسناً وحسيناً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإنّك مقتولٌ، وإنهم خاذلوك.

فلم يُثنِ عزمه، وتمثَّل قائلاً :

بکرت تُخوِّفني الحتوف كأنَّني***أصبحتُ عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها أن المنية منهلٌ***لابدَّ أن أُسقى بذاك المنهلِ

إن المنية لو تُمثَّل مَثِّلت***مثلي، إذا نزلوا بضيق المنزلِ

فاقني حياءكِ لا أبا لكِ واعلمي***أني امرؤٌ سأموت إن لم أُقتلِ

خرج عبد الملك المقاتلة مصعب بن الزبير فجاءته امرأته عاتكة بنت یزید بن معاوية، فالتزمته وبكت لفراقه، وبکی جزارِ حولها، فقال عبد الملك :

- قاتل اللّه ابن أبي جمعة كأنه شاهد هذه الصورة حيث قال 3 / 296:

ص: 11

إذا همَّ بالأعداء لم يُثنِ عزمه***حصانٌ عليها محض نظمٍ يزينها

نهته فلما لم ترَ النهي عاقه***بكت وبكى مما عراها قطينها

كان مصعب لما خرج إلى عبد الملك سأل عن الحسين بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكيف كان قتله ؟ فجعل عروة بن المغيرة يُحدِّث عن ذلك، فقال متمثِّلاً بقول سليمان بن فتَّة 3 / 298:

وأنَّ الأُلى بالطف من آل هاشمٍ***تأسَّوا فسنَّوا للكرام التأسِّيا

لما كان يوم السبخة، وعسكر الحجَّاج بإزاء شبيب، قال له الثاني :

- أيها الأمير، لو تنحَّيت عن هذه السبخة فإنهما فتنة الريح.

قال :

- ما تنحُّونني - واللّه - إليه أنتن، وهل ترك مصعب لكريمٍ معزا؟

ثم أنشد قول الكلحية 3 / 298:

إذا المرء لم يخشَ الكريهةَ أوشكت***حبالُ الهُوينا بالفتى أن تُقطَّعا

لما وُضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد 197/3:

لقد أردى الفوارس يوم حيٍ***غلامٌ غير منَّاع المتاع

ولا وقَّافةً والخيل تُروى***ولا خالٍ كأنبوب اليراعِ

لما خرج إبراهيم بن عبد اللّه، ومرَّ بمربد سلیمان بن علي وقف عليهم وأمنَّهم واستسقى ماءً، فأُتيش به فشرب فأجريَ إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه، وقال :

ص: 12

- هؤلاء - واللّه - منَّا ونحن منهم! لحمنا ودمنا ولكنَّ آباءهم انتزوا على أمرنا وابتزُّوا حقوقنا، وسفكوا دماءنا، ثم تمثَّل 309/3 :

مهلاً بني عمِّنا ظلامتنا***أنَّ بناسُورةً من الفلق

لمثلكم تُحمل السيوف ولا***تُغمز أحسابنا من الرققِ

إني لأُنمى - إذا انتحيت - إلى***عزٍّ عزيزِ ومعشرٍ صَدِق

بيضٍ سباطٍ كأنَّ أعينهم***تُكحُل - يوم الهياج - بالعلقِ

ولما أتاه نعي أخيه محمَّد انفجر باكياً مناجياً اللّه تعالى ثم تمثَّل ( 309/3):

أبا المنازل يا خير الفوارس من***يُفجعْ بمثلك في الدنيا فقد فُجِعا

اللّه يعلم أنِّي لو خشيتُهُم***أو آنسَ القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوك ولم أُسلم أخي لهمُ***حتى نعيش جميعا أو نموت معا

فجعل المفضِّل يُعزِّيه ويعاتبه على ما ظهر من جزعه فقال :

- إنِّي - واللّه - في هذا كما قال دُريد بن الصمَّة 3/ 310:

يقول ألا تبكي أخاك وقد أرى***مكان البُكا، لكن بنيت على الصبرِ

لمقتل عبد اللّه والهالك الذي***على الشرف الأعلى قتيل أبي بكرِ

وعبد يغوثِ تحجل الطير حوله***وجلَّ مصاباً حثوُ قبرِ على قبرِ

فأما ترينا لانزال وماؤنا***لدى واترٍ يسعى بها آخر الدهر

فإنَّ لحكم السيف غير نكيرةٍ***ونلحمه طوراً وليس بذي نُكْرِ

يُغار علينا واترين فيشتفي***بنا إن أصبنا أو نفير على وترِ

بذاك فسحنا الدهر شطرين بيننا***فما ينقضي إلّا ونحن على شطرِ

ص: 13

ثم ظهرت جيوش أبي جعفر مثل الجراد، فتمثَّل إبراهيم قوله 210/3:

إن يقتلوني لا تصيب رماحهم***ثأري ويسعى القوم سعياً جاهدا

نُبِّئتُ أن بني جُذيمةَ أجمعت***أمراً تدبِّرهُ لتقتل خالدا

أرمي الطريق وإن رُصدتُ بضيقه***وأُنازل البطل الكميَّ الحاردا

وأقبلت عساكر أبي جعفر فطعن رجلاً وطعنه آخر، فقال له المفضِّل :

- أتباشر القتالَ بنفسك؟ وإنما العسكر منوط بك.

قال : إليك يا أخا بني ضبَّة، فإنِّي لكما كما قال عويف القوافي 3/ 310:

ألَّمت سعادٌ وإلمامُها***أحاديث نفسٍ وأحلامُها

محجَّبةٌ من بني مالكٍ***تطاول في المجد أعلامها

وإنَّ لنا أصل جرثومةٍ***تردُّ الحوادث أيَّامُها

تردُّ الكتيبة مغلولةً***بها أفنها وبها ذامها

والتحمت الحرب واشتدَّتْ، فقال : يا مفضَّل احكني بشيء؛

فذكر أبياتاً لعويف القوافي لما كان ذكره هو من شعر فأنشد 211/3 :

ألا أيها الناهي فزارة بعدما***أجدتَ لسيرٍ، إنما أنتَ ظالمُ

أبي كلِّ حرٍّ أن يبيت بوتره***وتمنع منه النوم إذ أنت نائم

أقول لفتیانٍ کرامٍ تروّحوا***على الجُرد في أفواههنَّ الشكائمُ

قفوا وقفةً من يحيى لا يُخزَ بعدها***ومن يخترم لا تتبعه اللوائمُ

وهل أنت إن باعدت نفسك عنهمَّ***لتسلم فيما بعد ذلك سالمُ

ص: 14

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) مجيبا أحد أصحابه عن كيفية دفعهم عن هذا المقام وهم أحقُّ به :

... أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً والأشدَّون بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نوطا، فإنها كانت أثرة سمت عليها نفوس قومٍ وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم للّه، والمَعوَدُ إليه يوم القيامة.

ودع عنك نهباً صيحَ في حجراتِه***ولكنْ حديثا ما حديث الرواحلِ

وهلمَّ الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد بكائه؛ ولا غروَ واللّه، فيا له غروا يستكثر العجب ویُکثر الأوَد.

لذلك القول المبين استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 241/9 - 244:

[تنقَّل امرؤ القيس بعد مقتل أبيه، في أحياء العرب. ومَن نزل عندهم خالد بن سدوس، فأغارت بنو جديلة على امرئ القيس وهو في جوار خالد ابن سدوس فذهبوا بإبله، وكان الذي أغار عليه باعث بن حويص، فأخذ خالد بن سدوس رواحل امرئ القيس وركب في إثر القوم حتى أدركهم وبدل أن يأخذ الإبل أخذوا الرواحل منه وذهبوا بها وبالإبل، فقال امرؤ القيس 244/9 - 245:

[و] دع عنك نهباً صيح في حجراته***ولكن حديثاً ما حديث الرواحلِ

كأنَّ دثاراً حلَّقت بلبونةٍ***عقاب التنوع لا عقاب القواعلِ

تلعَّب باعثٌ بذمَّةٍ خالدٍ***وأودى دثاري في الخطوب الأوائل

ص: 15

وأعجبني مشيُ الحُزُقَّة خالدٍ***كمشي أتانٍ حُلِّئت بالمناهلِ

أبت أجأً أن تسلم العام جارها***فمن شاء فلينهض لها من مقاتلِ

تبيت لبونٌ بالقُرَيَّةِ آمناً***وأسرجها غبَّا بأكتاف حائلِ

بنو ثعلٍ جيرانها وحماتها***وتمنع رُمَّاة سعدٍ ووائلِ

تلاعب أولاد الوعول رباعها***دُوَينَ السماء في رؤوس المجادلِ

مكلَّلةٌ حمراء ذات أسرَّةٍ***لها حبكٌ كأنَّها من وصائل

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) من كتاب له إلى معاوية جواباً :

... أن قوما استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين والأنصار، ولكلِّ فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء، وخصَّه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، أوَ لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل اللّه ولكلِّ فضل حق فُعل بواحدنا ما فُعِل بواحدهم، قيل : الطيار في الجنَّة وذو الجناحين.

ولولا ما نهي اللّه عنه في تزكية المرء نفسه لذكر ذاكرٌ فضائل جمَّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمحها آذان السامعين ] 181/15 - 182.

لذلك القول الكريم أورد ابن أبي الحديد مفاضلة بين بني أُميَّة وبني هاشم وعدَّد خصائص كل منهما ورجح خصائص بني هاشم على بني أُميَّة ذاكرة ما فعله بنو أُميَّة ببني هاشم كقتل عبد اللّه بن زیاد يوم الطف تسعة من صلب علي [ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ]. وسبعة من صلب عقيل، وتمثَّل بقول الناعي 10/ 236:

ص: 16

عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ***واندبي - إن ندبتِ - آل الرسولِ

تسعةً كلهم لصلب عليٍّ***قد أصيبوا وسبعةً من عقيلِ

وأورد زعم بني أُميَّة أنَّ عقيلاً أعان معاوية على عليِّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإن كانوا كاذبين نجا أولاهم بالكذب، وإن كانوا صادقين جازوا عقيلاً بما صنع أو ضرب عنق مسلم بن عقیل صبرة وغدرة بعد الأمان، وقتلوا معه هاني بن عروة لأنه آواه ونصره، وتمثل بقول الشاعر 15/ 236 - 237 :

فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري***إلى هانيٍ في السوق وابن عقيل

تريْ بطلاً قد هشَّم السيف رمحه***وآخر يهوي من طمار قتيل

ثم عدَّد كذلك ما فعله بنو أُميَّة ببني هاشم فمن قُتِل بالسيف أو بالسم، وما فعلوا : نبشوا زيد وصلبوه وألقوا رأسه توطؤ بالأقدام، وينقر دماغه الدجاج حتى قال القائل 15238:

اطردوا الديك عن ذؤابة زيدٍ***طالما كان لا تطاه الدجاجُ

وتمثَّل بقول شاعرهم 15 / 238 :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ***ولم نرَ مهديَّاً مع الجذع يُصلبُ

وقستم بعثمانٍ علیَّاَ سفاهةَ***وعثمان خيرٌ من عليٍّ وأطيبُ

ثم عدَّد مثالب أُخرى لبني أُميَّة وتمثَّل بقول شاعرهم 15 / 238 :

أفاض المدامع قتلی کُدیً***وقتی بکشوةَ لم تُرمسِ

وبالزابيين نفوس ثوت***وأُخرى بنهر أبي فطرسِ

ص: 17

وتمثل بقول بني هاشم 15 / 238 - 239:

واذكروا مصرع الحسين وزيداً***وقتيلاً بجانب المتراس

والقتيل الذي بنجران أمسى***ثاويا بين غربةٍ وتناس

وتمثَّل بقول الراجز يذكر دولة بني هاشم 240/15 :

قد رفع اللّه رماح الجنِّ***وأذهب التعذيب والتجنِّي

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) من وصيَّة للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفِّين :

من الوالد الفاني المقر للزمان، المدير العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا، الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها غدا، المولود المؤمَّل، ما لا يُدرك، السالك سليل من قد هلك؛ غرض الأسقام، ورهينة الأيام، وأسير الموت، وحليف الهموم وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشهوات وخليفة الأموات 9/16.

لتلك الوصية استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[عندما أراد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مغادرة العراق إلى المدينة، ولما صار بدیر هند نظر إلى الكوفة وقال 16 / 16:

ولا من قلىً فارقت دار معاشري***هم المانعونَ حوزتي وذماري

خطب الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد وفاة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبر القوم بوفاة أبيه ثم قدَّم نفسه لهم وعرَّفهم بنفسه، ولما انتهى من خطبته قام عبد اللّه بن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا وقالوا : ما أحبَّه إلينا وأحقَّه

ص: 18

بالخلافة! فبايعوه ثم نزل من المنبر.

ودسَّ معاوية رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار فدُلَّ على الحميري وعلى القين فأُخِذا فقُتِلا. وكتب الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى معاوية :

أما بعد : فإنَّك دسست إلىَّ الرجال، كأنَّك تحبُّ اللقاء؛ لا شكَّ في ذلك فتوقَّعه إنشاء اللّه، وبلغني أنك شمتَّ بما لم يشمت به ذو الحجى؛ وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول 16 / 31]:

فإنَّا ومن قد مات منَّا لكالذي***يروح فيمسي في المبيت ليفتدي

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى***تجهَّز لأُخرى مثلها لكأنْ قد»

فأجابه معاوية :

[أما بعد : فقد وصل كتابك، وفهمنا ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس، وإن عليا أباك، كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة 16 / 31]:

فأنت الجواد وأنت الذي***إذا ما القلوب ملأنَ الصدورا

جديرٌ بطعنة يوم اللقاء***يُضرب منها النساء النحورا

وما مزيدٌ من خليج البحار***يعلو الأكام ويعلو الجسورا

بأجود منه بما عندهُ***فيعطي الألوف ويعطي البدورا

وكتب عبد اللّه بن عباس من البصرة إلى معاوية :

ص: 19

[أما بعد : فإنك دسست أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيَّتك لكما قال

أميَّة بن أبي الأسكر 16 / 32]:

لعمرك إني والخزاعي طارقاً***كنعجة عار حتفها تتحفَّرُ

أشارت عليها شفرةٌ بكرامها***فظلَّت بها من آخر الليل تنحرُ

شمتَ بقومٍ من صديقك أهلكوا***أصابهمُ يومٌ من الدهر أصفرُ]

فأجابه معاوية :

[أما بعد : فإن الحسن بن علي قد كتب إليَّ بنحو ما كتبت، وأنبأني بما لم يُحقِّق سوء ظن ورأيٍ فيَّ، وأنك لم تصب مثلي ومثلكم وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أُميَّة عن هذا الشعر 16 / 32:

فواللّه ما أدري وإني لصادقٌ***إلىِّ أي من يظنُنَّني أتعذَّرُ

أُعنَّف إن كانت زبيبة أهلكت***ونال بني لحيان شرَّاً فأنفروا]

وكتب معاوية كتابا إلى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يستميله ويُهدِّده في آنٍ واحد وختم الكتاب بقول الأعشى بن قيس بن علبة 16 / 37:

وإن أحدٌ أسدى إليك أمانةً***فأوفِ بها تُدعى إذا متَّ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى***ولا تجفهِ إن كان في المال فانيا

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

.. وإيّاك ومشاورة النساء فإنَّ رأيهنَّ أفن، وعزمهنَّ إلى وهن».

ص: 20

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكرٍ على منعها فدك لاثت خمارها وقصدت أبا بكر في جمعٍ من الأنصار والمهاجرين وألقت هناك خطبةً طويلة أبكت الحاضرين ثم تمثَّلت بقول هند بنت أثاثة 212/16:

قد كان بعدك أنباءٌ وهيمنةٌ***لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ

أبدت رجالٌ لنا نجوى صدورهمُ***لما قضيت وحالت دونك الكتبُ

تجهَّمتنا رجالٌ واستخفَّ بنا***إذ نُحتَ عنَّا فنحن اليوم نُغتَصبُ

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : من وصية له للحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه :

«.. واللّه اللّه في جيرانكم، فإنه وصية نبيِّكم، ما زالُ يوصي بهم حتى ظنِّنا أنَّه سيورثَّهم» 15/17.

. استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[سئل سليمان بن علي بن خالد بن صفوان عن ابنیه (محمد وسليمان) وكانا جاریه، فقال :

- كيف أجارك جوارهما؟

فتمثل بقول یزید بن مفرَّغ الحميري] :

سقى اللّه داراً لي وأرضاً***إلى جنب داري معقل بن يسارِ

تركتها***فيالك جاري ذلَّة وصغار

ص: 21

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «(والصقْ بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يُبجِّعوك بباطلٍ لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهو وتُدني من العزَّة».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 17 /44 - 45:

[قال خالد بن عبد اللّه القسري إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته :

- من كانت الخلافة زائنته فقد زيَّنتها، وإن كانت شرَّفته فإنك لكما قال القائل] :

وإذا الدُرُّ زان حسنَ وجوهٍ***كان للدُرِّ حسن وجهك زينا

فقال عمر بن عبد العزيز :

مستقبلين رياح الصيف تضربهم***بحاصب بين أغوارٍ وجلمودِ

- لقد أُعطيَ صاحبكم هذا مِقْوَلاً وحُرَم معقولاً، وأمره أن يجلس.

في أحد أيام فتح مكةً مكث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في قُبَّة ساعةً من النهار، ثم دعا براحلته - بعد أن اغتسل وصلَّی – فأُدْنيَت إلى باب القُبَّة فخرج وعليه السلاح والمغفر على رأسه، وقد صفَّ له الناس، فركبها والخيل تُسرع ما بين الخندق إلى الحجون... وإذا بنات أبي أُحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء وإزاء منزل أبي أُحيحة، وقد نُشرت شعورهن، فلطمن وجوه الحيل بالخُمر، فنظر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى أبي بكر فتبسم وأنشد قول حسَّان 17 / 278:

ص: 22

تظل جيادنا متعطِّراتٍ***تُلطَّمهنَّ بالخُمر النساءُ

كان قيس بن صبابة يوم فتح مكة عند أخواله بني سهم، فاصطبح الخمر في ذلك اليوم في ندامی له، وخرج ثملاً يتغنَّى ويتمثَّل بأبيات منها 18 / 115 :

دعيني أصطبح يا بكر أنَّي***رأيت الموت نقَّب عن هشامِ

ونقَّب عن أبيكِ أبي يزيدٍ***أخي القينات والشرب الكرامِ

يُخبِّرنا ابن كبشةَ أنْ سنحيا***وكيف حياة أصداء وهام

إذا ما الرأس زال بمنكبيهِ***فقد شبع الأنيس من الطعامِ

أتقتلني إذا ما كنت حیَّا؟ وتحييني إذا رمَّت عظامي؟

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«العلو وراثةٌ كريمةٌ والآداب حللٌ مجدِّدة، والفكر مرآةٌ صافيه».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 18 / 93 و 196:

[سأل الواثق عن خبر (إنَّ) في البيت :

أظلومُ انَّ مصابكم رجلاً***- أهدى السلام تحيةً - ظلمُ

فقيل له؛ (رجلاً) فسأل عمن بقي من النحويين؟ فقيل له : أبو عثمان المازني، ولما شخص بين يديه صار يسألهُ عن عشيرته فيجيبه حتى سأله عن خبر (إنَّ) في البيت، فقال :

- (ظلم)، لأنَّ البيت إن لم يجعل (ظلم) خبر إنَّ يكون مقطوع الفائدة.

[ويضيف علي الفتال : لأنَّ (أهدي السلام تحيَّةً) هو (تشکیل اعتراضي)

ص: 23

فبرفعه من جملة البيت تكون الجملة الباقية (أظلوم أن مصابكم رجلاً ظلمُ) فتكون الجملة تامة ب (ظلم) ].

فقال الواثق : قبَّح اللّه من لا أدب له. ثم قال : - ألك ولد؟ فأجابه :

-ألك ولد؟

- بنيَّة.

قال : فما قالت لك حين ودَّعتها؟

قال :

- قالت ما قالت أبيات الأعشى :

تقول ابنتي حين جدَّ الرحيل***أرانا سواء ومن قد يتمْ

أبانا فلا رمت من عندنا***فإنَّا بخير إذا لم ترُمْ

أبانا إذا أصخرتك البلاد***نجضُّ ونقطع منا الرحمْ

فسأله الواثق :

فما قلت لها؟

قال :

- أنشدتها بيت جریر :

ثقي باللّه ليس لهُ شريكٌ***ومن عند الخليفة بالنجاحِ

ص: 24

فقال الواثق :

- بالنجاح إنشاء اللّه.

ثم أمر له بألف دينار وكسوة، ومشى إلى البصرة.

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلّا ويدُه بيد اللّه يرفعه».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 18 / 128 - 129:

سُئل النظَّام عن المروءة فأنشده بیت زهير :

السترُ دون الفاحشات ولا***يلقاك دون الخير من سترِ

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«إذا حييت بتحيَّةٍ فحيي بأحسن منها، وإذا أُسديت إليك فكافئها بما يُربي عليها، والفضل - مع ذلك - للبادي) 201/18:

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 18 / 203:

[جاء رجلٌ إلى معاوية، وهو في مجلس العامة، فقال :

- يا أمير المؤمنين أن لي حرمة.

فقال :

- وما هي؟

قال :

- دنوت من ركابك يوم صفِّين، وقد قربت فرسك الثغر وأهل العراق قد رأوا الفتح والظفر، فقلت لك : واللّه لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما فرَّت ولا

ص: 25

اختارت إلَّا أن تموت كريمة أو تعيش حميدة، أين تفر وقد قَّلدتك العرب أزمَّة أُمورها وأعطتك قياد أعنَّتها؟ فقلت لي : أخفض صوتك لا أمَّ لك! ثم تماسكت وثبتَّ وثابت إليك حماستك، وتمثَّلت - حينئذ - بشعرٍ أحفظ منه :

أبت لي عفَّتي وأبی بلائي***وأخذي الحمد بالثمن الربيحِ

واجشامي على المكروه نفسي***وضربي هامة البطلِ المشيحِ

وقولي كلَّما جأشت وجاشت***مكانِك تُحمدي أو تستريحي

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«الشفيع جناح الطالب».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول : 207/18:

[قال المبرَّد لعبد اللّه بن يحيى بن خاقان، أنا شفيعٌ إليك، أصلحك اللّه في أمر فلان، فقال له :

- قد سمعت وأطعت وسأفعل في أمره كذا، وما كان من نقص فعليَّ، وما كان من زيادةٍ فله.

قال المبرَّد :

- أنت - أطال اللّه بقاءك - كما قال زهير :

وجارٍ سار معتمداً إلينا***أجاءته المخافة والرجاء؟

ضمنَّا ماله فغدا سليماً***علينا نقصهُ وله النماء]

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«يهلك فيَّ رجلان، محبٌّ مفرط، وباهتٌ مُغتر».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 220/20 - 223:

ص: 26

[كتب میمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز برفقة رجلين وامرأة أبوها والثاني زوجها، وأن أباها زعم أن زوجها حلف بطلاقها، أن عليَّ ابن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) خير هذه الأمة وأولادها برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

وكتب في أسفل الكتاب :

إذا ما المشكلات وردن يوماً***فحارت في تأمبُلها العيونُ

وضاق العزم ذرعا عن نباها***فأنت لها أبا حفصِ أمين

لأنك قد حويت العلم طرَّا***وأُحكمت التجارب والشؤونُ

وخلَّفك الإله على الرعايا***فحظُّك فيهم الحظُّ الثمينُ

فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أُميَّة أفخاذ قریش، ولما استوضح عمر وتأكد من الرجل أكبَّ ملياً ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما يقوله، ثم رفع رأسه وقال :

إذا وليَ الحكومة بين قومٍ***أصاب الحقَّ والتمس السدادا

وما خير الإمام إذا تعدَّى***خلاف الحق واجتنب الرشادا

ثم قال للقوم :

- ما تقولون في يمين هذا الرجل؟

فسكتوا، وأوكلوا الأمر إليه، فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقیل ابن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له : ما تقول فيما حلف هذا الرجل یا عقيلي؟

- فقال كما قال الأول :

ص: 27

دُعيتم إلى أمرٍ ولما عجزتُم***تناوله من لا يُداخله عجزُ

فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم***نداماً وهل يُغني من القدر الحرز

فاستحسنه عمر وطلب منه أن يقول رأيه، فقال، بعدم طلاقها، مستنداًإلى الرواية التي تقول : إن فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) كانت مريضة فاشتهت عنبة، وليس وقت عنب، ولما كان أبوها عندها وعليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لم يكن في الدار فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إن اللّه قادرٌ على أن يجيئنا به، ثم قال : اللهم ائتنا به من أفضل أمتي عندك منزلة فطرق على الباب ودخل ومعه یکتل قد ألقى عليه طرف ردائه، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

- ما هذا يا علي؟

فقال : عنبٌ التمسته لفاطمة... إلخ.

فأقرّ عمر بعدم صحة الطلاق، فدعا إلى أصحاب زوجته وقال :

- يا بني عبد مناف ما نجهل ما يعلم غيرنا ولا بنا عمىً في ديننا ولكنَّا كما قال الأول :

تصیَّدت الدنيا رجالاً بفخِّها***فلم يدركوا خيراً بل استقبحوا شرَّا

وأعماهمُ حُبُّ الغنى وأحمَّهم***فلم يدركوا إلَّا الخسارة والوزرا]

بعد أن ذكر العباس ما كان منه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يتقدم ليبايعه المسلمون فرفض أجابه الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ):

- اما أني أعلم أنهم سيولون عثمانة وليحدث البدع والأحداث، ولئن بقيَ

ص: 28

لأُذكِّرنَّك، وإن قُتل أو مات ليُتداولُنَّها بنو أُميَّة بينهم، وإن كنت حيَّاً لتجدني حيث تكرهون، ثم تمثل 1 / 192 :

حلفت بربِّ الراقصات عشيَّةً غدون خفافاً يبتردن المحصَّبا

ليجتلبنْ رهط بن يعمر غدوةً***نجيعا بنو الشُداخِّ وِرداً مصلَّبا

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذم أصحابه :

«إنَّكم - واللّه - لكثيرٌ في الباحات قليلٌ تحت الرايات» 102/6.

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 6 / 108:

[إن امرأة الوليد بن عبد الملك تمثَّلت ببيتين من الشعر وهي تصفه -بعد تأنيبه - بكلامٍ مقذع وهما :

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ***ربداء تنفر من صفير الصافرِ

هلَّا برزت إلى غزالة في الوغى***أم كان قلبك في جناحي طائر]

بعد أخذٍ وردٍّ بين ابن عبَّاس وابن الزبير، قال ابن الزبير :

- أتُعيِّر الزبير بالجبن؟ واللّه أنك لتعلم منه خلاف ذلك.

قال ابن عباس :

- واللّه إني لا أعلم إلَّا أنه فرَّ وما كرَّ، وحارب وما صبر، وبايع فما تمَّم، وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل] 327/9.

وأدرك منها بعض ما كان يرتجي***وقصَّر عن جري الكرام ووطَّدا

وما كان إلأ كالهجين أمامه***عناقاً فجاراه العناق فأجهدا

ص: 29

وأنشد منشدٌ عند عمر قول طرفة 11 /82:

فلولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفتى***وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي

ومنهنَّ يبقي العاذلات بشربةٍ***كميتٍ متى ما تعلُ بالماء تزبدِ

وكرِّي إذا نادى المطاف مُحنِّياً***کسيد الفضا نبَّهته المتورِّدِ

وتقصير يوم الدجن والدجن***معجب بيهكنة تحت الطواف المُعمَّدِ

فقال عمر:

- وأنا لولا ثلاث من عيشة الفني لم أحفل من قام عُوَّدي؛ حُبّي في اللّه، وبغضي في اللّه، وجهادي في سبيل اللّه.

وأكلَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قليلاً من التمر، وشرب عليه ماءً، وأمرَّ يده على بطنه وقال : من أدخله بطنُه النار فأبعده اللّه، ثم تمثَّل 19 / 187 :

فإنك مهما تعطِ بطنك سؤله***وفرجك نالا منتهى الذمِّ أجمعا

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر عمر بن العاص 2/ 280:

«... أما بعد - وشرِّ القول الكذب - أنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويُسأل فيبخل، ويَسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الآل».

استشهد ابن أبي الحديد بمفاخرة بين الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورجالات قریش، وكان منهم عمر بن العاص فأجابهم الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) واحداً واحداً ذاكراً عيوبهم ومواقفهم من الإسلام في بداية دعوته حتى انتهى إلى عمرو بن العاص، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) 292/6:

ص: 30

ويحك يا ابن العاص، الستَ القائل في بني هاشم لما خرجت من مكَّة إلى النجاشي؟:

تقول ابنتي أين هذا الرحيل***وما السير مني بمستنكرِ

فقلتُ ذريني فإني امرؤٌ***أريد النجاشيَّ في جعفر

الأكوَيهُ عندهُ كيَّةً***أُقيم بها نخوة الأصعر

وشانئِ أحمد من بينهم***وأقوالهم فيه بالمنكرِ

وأجري إلى عتبةٍ جاهداً***ولو كان كالذهب الأحمرِ

ولا أنثني عن بني هاشمٍ***وما اسطعتُ بالغيب والمحضر

فإن قبل العتب منِّي له***وإلَّا لویتُ لهُ مشفري

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند دفن سيِّدة النساء فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، كالمناجي به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عند قبره 10 / 290:

«السلام عليك يا رسول اللّه مني ومن ابنتك النازلة إلى جوارك، والمسرعة للحاق بك، قلَّ - یا رسول اللّه عن صفيَّتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي... أما حزني فرمد وأما ليلي فمسهَّد، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنتَ بها مُقيم».

وتمثل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند قبر فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) 288/10:

ذكرتُ أبا أروى فبتُّ كأنني***بردِّ الهموم الماضيات وكيلُ

لكلِّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ***وكل الذي دون الفراق قليلُ

وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ***دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ

ص: 31

ص: 32

الضوء الثاني: التراث الشعبي

اشارة

ص: 33

ص: 34

توضیحٌ:

لكلِّ أُمّةٍ تراثها الشعبي، وهو متواصلٌ عبر عصورها التاريخية. وأُمَّتنا العربية غنية بهذا التراث، وهو يتواصل حتى يومنا هذا. ولما كنت قد وجدن عيِّنات، لا بأس بها من هذا التراث، ولتواصلها مع ما نراه اليوم، رأيت من المناسب أن أُفرد له فقرة قائمة بذاتها، ولعلاقة ذلك بشعرنا العربي الذي تكثر فيه الإشارات إلى هذا التراث.

صيد الحيوان

قال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، من كلامٍ له لما أُشير عليه أن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال 1 / 223:

«واللّه لا أكون كالضبع تنام على اللدم؛ حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصده».

والعرب تقول في رموزها وأمثالها : (أحمق من ضبع) ويزعمون أن الصائد يدخل عليها وُجارهَها، فيقول لها : (اطرقي أُمَّ طرَيِّق، خامري أُمَّ عامر). ويُكرَّر ذلك عليها مرارا.

ص: 35

معنى (اطرقي أُمَّ طُرَيْق) : طأطئي رأسك، وكنَّاها ب (أُمَّ طُرَيْق) لكثرة إطراقها، ومعنى (خامري) : إلزمي وُجارَك واستري فيه، فتلجأُ إلى أقصى مغارها وتتقبَّض فيقول : أُمُّ عامر لیست في وجارها... أُمُّ عامر نائمة. فتمد يديها ورجليها وتستلقي، فيدخل عليها فيُوثقها، وهو يقول :

ابشري أمَّ عامر بكُمِّ الرجال، ابشري أُمِّ عامر بشاءٍ هزلٍ وجرادٍ عظلي. فتُشدُّ عراقیبها فلا تتحرَّك، وإلى هذا أشار الكميت 1 /224:

فعل القرة للمقالة***خامري يا أُمَّ عامر

وقال الشنفرى :

(و) تعيرون أن قبري محرَّمٌ***عليكم ولكن خامري أُمُّ عامر

إذا ما مضى رأسي وفي الرأس أكثري***وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أرجو حياةً تُسرُّني***بحبس الليالي ميسلاً بالجرائرِ

الحسد : قال منصور الفقيه / 316/1 :

منافسة الفتى فيما يزول***على نقصان همَّتهِ دلیلُ

ومختار القليل أقلُّ منهُ***وكلُّ فوائد الدنيا قليلُ

وقال أبو تمَّام 1 / 319:

وإذا أراد اللّه نشر فضيلةٍ***طويت أتاح لها لسان حسودِ

لولا اشتعال النار فيما جاورت***ما كان يُعرف طيب عرف العودِ

لولا محاذرة العواقب لم تزل***للحاسد النعمي على المحسودِ

ص: 36

وقال آخر 1 /317:

قل للحسود إذا تنفَّس ضغنهُ***ياطالما وكأنهُ مظلومُ

وقال آخرا /318:

يا طالب العيش في أمنٍ وفي دعةٍ***محضاً بلا كدرٍ صفواً بلا رنَقِ

خلِّص فؤادك من غِلٍّ ومن حسدٍ***فالغِلُّ في القلب مثلَ الغِلِّ في العُنُقِ

ومن الشعر المنسوب إلى الكميت الأسدي أو بشاَّر 1 /318:

إن يحسدوني فإنِّي غير لائمهم***قبلاً من الناس أهلَ الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم مابي وما بهمُ***ومات أكثرنا غيظاً بما يجدُ

وقال أبو الأسود الدؤلي 1 / 319:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه***فالكلُّ أعداءٌ لهُ وخصومُ

لضرائر الحسناء قلن لوجهها***- حسداً وبغياً - إنَّه لدميمُ

التطيُّر والفأل

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«إنَّ العين حق، والرقى حق، والسحر حق والفأل حق، والطيرة ليست بحق، والعدوى ليست بحق والطيب نشرة، والعسل نشرة، والركوب نشرة، والنظر إلى الخضرة نشرة».

الأقوال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تلك استشهد ابن أبي الحديد بشواهد من القصص والشعر كثيرة ندرجها في ما يأتي :

ص: 37

قال الشاعر 19 / 374:

لا يعلم المرءُ ليلاً ما يُصبِّحهُ***إلَّا كوافد ما يجري به الفألُ

والفأل والزجر والكُهَّان كلُّهُم***مظلِّلون ودون الغيب أقفالُ

وقال لبيد 19 / 375:

لعمركَ ما تدري الطوارق بالحصى***ولا زاجرات الطير ما اللّه صانعُ

ونُسبَ إلى المرقش 19 / 375:

لا يقُعِدَنَّكَ عن بقا***ءالخير تقعاد العزائم

فلقدغدوتُ وكنت لا***أغدو على راقٍ وحائم

فإذا الأشائمُ کالأيا***منِ والأيامن كالأشائم

وكذاك لا خيرٌ ولا***شرٌّ على أحدٍ بدائم

وقال مزرد بن ضرار 375/19 :

وإني امرؤٌ لا تقشعرُّ ذؤابتي***من الذئب يعوي والغراب المُحجَّلِ

وقال الكميت 19 / 375:

ولا أنا ممن يزجر الطير همَّهُ***أصاح غرابٌ أم تعرَّض ثعلبُ

وقال لبيد 19 / 375:

فلئن بعثتً من البُغا***ةِ فما البُغاة بواجدينا

* تجهّز النابغة الذُبياني للغزو - واسمه زیاد بن عمر - مع زبان بن سیَّار الفزاري، فلما أراد الرحيل سقطت عليه جرادة فتطيَّر وقال :

ص: 38

- ذات لونين تجرد، غريّ من خرج.

فأقام ولم يلتفت زبان إلى طيرته، فذهب ورجع غانما فقال 19 / 378:

تطيَّر طيرةً يوما زیادٌ***لتُخبره وما فيها خبيرُ

أقام كأنَّ لقمان بن عادٍ***أشار له بحكمتِه مشيرُ

تعلَّم أنَّه لا خير إلَّا***على متطيِّرٍ وهوَ الثبُور

بلى، شيءٌ يوافق بعض شيءٍ***أحایيناً وباطله كثير

وقال كُثير بن عبد الرحمن 19 / 378:

تيمَّمتُ لِهباً أبتغي العلم عندها***وقد صار عام الطائفين إلى لِهبِ

*كان للعرب كاهنان؛ اسم أحدهما (شِق)، وكان نصف إنسان، واسم الآخر (سطيح)؛ وكان يُطوي طيَّ الحصير، ويتكلِّمان بكل أُعجوبة في الكهانة، فقال ابن الرومي 379/19:

لك رأىٌ كأنَّه رأيُ شِقٍّ***وسطیحٍ قَرِيقَي الكُهَّانِ

يستشفُّ الغُيوب عمَّا توارى***بعيونٍ جليَّة الإنسانِ

كان مسيلمة قد أحكم علم الحُزاة والزجر والحظ فعمد إلى بيضة فصبَّ عليها خلًّا حاذقاً قاطعاً، فلانت حتى إذا مسها الإنسان استطالت ودقَّت كالعلك، ثم أدخلها قارورة ضيِّقة الرأس وتركها حتى انتظمت واستدارت وجمدت فعادت کهيأتها الأولى، فأخرجها إلى قومٍ وهم أعراب واستغواهم بها، فيها قيل :

(و) ببيضة قارورٍ وراية شادنٍ***وتوصيل مقطوع من الطير حاذقِ

ص: 39

أراد (براية شادنٍ) : الطيَّارة الورقية.

وقال شاعر في الطيرة 19 / 380:

وأمنع الياسمين الغضَّ من حذري***عليك، إذ قيل لي نصف اسمهِ ياسُ

وقال آخر 19 / 380:

أهدت إليهّ سفرجلاً فتطيَّرا***منهُ وظلَّ مفکِّراً مستعبرا

خوف الفراق لأن شطر هجائهِ***سَفَرٌ وحقَّ لهُ بأن يتطيِّرا

وقال آخر19 / 380:

يا ذا الذي أهدى لنا سوسناً***ما كنت في إهدائه محسنا

نصف اسمه سوءٌ فقد ساءني***ياليت أنَّي لم أرَ السوسنا

ومثلهُ 19 / 380:

لا تراني طول دهريَ***أهوى الشقائقا

إن يكن يشبه الخدو***د َفنصفه اسم شقا

وكانوا يتفاءلون بالآس لدوامه، ويتطيِّرون من النرجس لسرعة انقضائه ويُسمُّونه (الغدار). قال العباس بن الأحنف 19 / 380:

إنَّ الذي سمَّاك يا منيتي***بالنرجس الغدَّار ما أنصفا

لو أنهُ سماك بالآسةِ***وفيت أن الآس أهل الوفا

خرج كثير يريد عزة ومعه صاحبٌ له من نهد، فرأى غرابة ساقطاً فوق بانة ينتف ريشه، فقال النهدي : إن صدق الطير فقد ماتت عزة.

ص: 40

فوافي أهلها وقد أخرجو اجنازتها، فقال 19 / 380:

وما أعيَفَ النهديُّ لا درَّ درُّهُ***وأزجرَهُ للطير لا عزَّ ناصرُهْ

رأيت غراباً ساقطاً فوق بانةٍ***يُنتِّف أعلى ريشهِ و يُطايرُهْ

فقال غرابٌ لا غراب، وبانةٌ***لبينٍ، وفقدٌ من حبيبٍ تعاشرُهْ

وقول الشاعر 19 / 381:

وسمَّيتُهُ يحيى ليحيا ولم يكن***إلى ردِّ حكم اللّه فيهِ سبيلُ

تيمَّمتُ فيه الفأل حين رُزِقْتُهُ***ولم أدرِ أنَّ الفألَ فيهِ يغيلُ

ومن مذاهب العرب أنهم إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السَّلَع والعُشْرِ، فحزموها وعقدوها في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها إلى جبل وعر، واتَّبعوها بدعوى اللّه ويستسقونه؛ وإنما يضرمون النيران بأذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار، وكانوا يسوقوفها نحو المغرب، من دون الجهات.

قال أُميَّة بن أبي الصلت يذكر هذا 19 / 382:

سنةٌ أزمةٌ تُبرِّح بالنا***س ترى للعضاة فيها صريرا

لا على كوكبٍ تنوءُ ولا ري***حٍ جنوبٍ ولا ترى طحرورا

ويُسَقُّون باقر السهل للطو***د مهازيل خشيةً أن تبورا

عاقدين النيران في تلكم الأذ***ناب منها لكي تهيج البحورا

سَلَعٌ ما ومثلهُ عُشَرٌ***عامل ما وعالت البيقورا

ص: 41

وقال أعرابي (يعيب العرب بفعلهم هذا) 19 /382:

شفعنا ببيقورٍ إلى هاطل الحيا***فلم يُغنِ عنَّا ذاك بل زادنا جدبا

فعُدنا إلى ربِّ الحيا فأجارنا***وصيِّر جدب الأرض من عنده خصبا

وقال آخر19 / 382:

قُل لبني نهشلَ أصحاب الحَوَرْ***أتطلبون الغيث جهلاً بالبقرْ؟

وسَلَعٌ من بعد ذاك أوعُشُرْ***ليس بذا يجل الأرض المطر

وقال آخر 383/19:

لا درَّ درُّ رجال خاب سعيهمُ***يستمطرون لدى الإعسار بالعُشُرِ

أجاعلٌ أنت بيقوراً مسلَّعةً***ذريعةً لك بين اللّهِ والمطرِ

ومن مذاهبهم أنهم إذا أوردوا البقر فلم تردْهُ ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون : إنَّ الجنَّ تصدُّ البقر عن الماء، وإن الشيطان يركب قرني الثور.

قال السليك بن السلكة 19 / 384:

إنِّي وقتلي سليكاً حين أعقلهُ***كالثور يُضرَب لما عافت البقرُ

وقال نهشل بن مري 19 / 384:

کذاك الثور يُضرَبُ بالهراوی***إذا ما عافت البقرُ الظماءُ

وقال آخر19 / 384:

كالثور يُضرَب للورودِ إذا تمنَّعت البقرْ

ص: 42

وقال آخر19 / 384:

فلا تجعلوني كالبقير وفحلها***يُکَسّرُ ضرباً وهو للوِردِ طائعُ

وما ذنبه إن لم يرد بقراتهُ***وقد فاجأتها عند ذاك الشرائعُ

وقال الأعشى 19 / 385:

لكالثور والجنيُّ يضرب وجههُ***وما ذنبه إن عافت الماء مشربا

وما ذنبه إن عافت الماء باقرٌ***وما أن يعاف الماء إلا ليضربا

ومن مذاهبهم : تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ يرون أنه يفيق بذلك. ويقال إنما يُعلَّق عليه لأنهم يرون أنه إن نام يُسرَّب السم فيه فيهلك، فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم، وهو قول النظر بن شُمَّيل، وبعضهم يقول : إذا عُلِّق عليه حلي الذهب برأ، إن علق عليه الرصاص أو حلي الرصاص مات.

وقيل لبعض الأعراب :

- أتريدون شُهرة؟

فقال :

- إن الحلي لا تشهر، ولكنها سُنَّة ورثناها. وقال النابغة 19 / 385:

فبتُّ كأنِّي ساورتني ظئيلةٌ***من الرقش ين أنيابها السم ناقع

یُسهِّد من ليل التمام سليمها***لحلي النساء في يديه قعاقعُ

وقال أحد بني عُذرة 19 / 385:

ص: 43

كأنِّي سليمٌ ناله كلم حيَّةٍ***ترى حوله حليَ النساء مرصَّعا

وقال آخر 386/19 :

وقد علَّلوا في البطل في كلِّ موضعٍ***وغرُّوا كما غرَّ السليمَ الجلاجلُ

وقال جميل بثينة 19 / 386:

إذا مالديغٌ أبرأ الحليُ داءهُ***فحليكِ أمسى يا بثينة دائيا

وقال عويمر النبهاني 19 / 386:

فبتُّ مُعنَّى بالهموم كأنَّني***سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل

وقال آخر 386/19 :

كأني سليمٌ سهَّد الحليُ عينه***فراقب من ليل التمام الكواكبا

ومن مذاهبهم في العرِّ يصيب الإبل يكووون الصحيح ليبرأ السقيم. قال النابغة 386/19 :

وكلَّفْتني ذنب امرئ وتركته***كذي العرِّ يكوى غيره وهو راتعُ

وقال أحد الأعراب 386/19 :

كمن يكوي الصحاح يروم برءً***به من کلِّ جرباء الإهابِ

ومن مذاهبهم أنهم كانوا يفقؤون عين الفحل إذا بلغت ألفا، كأنهم يدفعون العين عنها. قال الشاعر 387/19 :

فقأنا عيوناً من فحولٍ بهازرٍ***وأنتم برعي البُهم أجدى وأجدرُ وقال آخر 387/19 :

ص: 44

وهبتها وكنت ذا أقنانِ***تُفقأُ فيها أعين البعران

وقال آخر 387/19 :

أعطيتها ألفاً ولم تبخل بها***ففقأتُ عين فُحيلها معتافا

ومن مذاهبهم أنهم إذا مات منهم كريم بلوا ناقته وبعيره، فعكسوا عنقها وأداروا رأسها إلى مؤخَّرها، وتركوها في حفيرة لا تُطعم ولا تُسقى حتى تموت، وربما أُحرقت بعد موتهما، وربما سُلِخت ومُلئ جلدها ثُماماً.

وكانوا يزعمون أن من مات ولم يُبلَ عليه حُشِرَ ماشياً، ومن كانت له بلية حُشر راكباً على بلية. قال جُريبة بن الهشيم الفقعسي لابنه 388/19 :

ياسعد أما أُهلكنَّ فإنني***أُوصيك أن أخا الوصايا الأقربُ

لا أعرفنَّ أباك يُحشر خلفكم***تعبأ يجرُّ على اليدين وينكبُ

واحمل أباك على بعيرٍ صالحٍ***وتقي الخطيئة أن ذا هو أصوبُ

ولعلِّي لي مما جمعتُ مطيَّةً***في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا

وقال جريب أيضاً 388/19 :

إذا متُّ فادفني بجدَّاء ما بها***سوى الأحرضين أو يفوِّز راكبُ

فإن أنت لم تعفر عليَّ مطيَّتي***فلا قام في حالٍ لك الدهر جالبُ

ولا تدفننِّي في صوىً وادفنَّتي***بديمومةٍ تنزو عليا الجنادب

ومن مذاهبهم العقر على القبور؛ كقول زیاد بن الأعجم في المغيرة بن المهلَّب 389/19 :

ص: 45

إن السماحة والمروة ضُمتَّا***قبراً بمروَ على الطريق الواضحِ

فإذا مررتَ بقبرهِ فاعقرْ بهِ***كَوْمَ الهجان وكلَّ طرفٍ سابحِ

وانضح جوانب قبره بدمائها***فلقد یکون أخادمٍ وذبائح

وقال الآخر 389/19 :

نفرت قلوصي عن حجارة حَرَّةٍ***بُنِيت على طلق اليدين وهوبِ

لا تنفري ياناق منه فإنهُ***شِرِّیب خمرٍ مسعرٌ لحروبِ

لولا السفار وبُعدُ خرقِ مَهمَّةٍ***لتركتها تحبو على العرقوبِ

ومما ورد عن العرب في البلية قول أحدهم 390/19 :

أبُنيَّ زوِّدني إذا فارقتني***في القبر راحلةً برحلٍ فاترِ

للبعث أركبها إذا قيل اركبوا***مستوثقين معاً لحشر الحاشرِ

وقال عُوَيْم النبهاني 390/19 :

أبُنيَّ لا تنسَ البليَّةَ أنها***لأبيك يوم نشوره مركوب

ومن مذاهبهم؛ إذا نفرت الناقة فسمَّيت لها أُمُّها سكنت من النفار. قال الراجز 391/19:

أقول والوجناء تَقَحَّمُ***ويلك قل ما اسم امِّها يا علكمُ

وأنشد السكري 391/19:

فقلت له ما اسم امِّها هات فادعُها***تُجبكَ فيسكن روعها ونفارها

ومن مذاهبهم القول ب(الهامة) ذلك أنهم كانوا يقولون :

ص: 46

ليس من يموت، ولا من يُقتل، إلَّا يخرج من رأسه هامة، فإن كان ُقتِل ولم يُؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره : اسقوني فإني صدئة. وقيل إن الهامة هي إحدى هوام الأرض، أو أنها الصدی. قال أبو داود الأيادي 391/19 :

سلَّط الموت والمنون عليهم***فلهم في صدى المقابر هامُ

وقال أحدهم لابنه 392/19 :

ولا تزْقُوْن لي هامةً فوق مرقبٍ***فإنَّ زقاء الهام للمرء عائب

تنادي الا اسقوني وكلُّ صدىً به***وتلك التي تبيضُّ منها الذوائب

وقال ذو الإصبع 392/19 :

يا عمرو إلَّا تدع سقمي ومنقصتي***أضرِبْكَ حتى تقول الهامة اسقوني

وقال المجنون 19 /392:

فيا ربُّ إن أهلك ولم تروِ هامتي***بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري

وقال مفلَّس المفقسي 392/19 :

وأن أخاكم قد علمت مكانهُ***بسفح قُبا تسفي عليه الأعاصرُ

له هامةٌ تدعو إذا الليل جنَّها***بني عامرٍ هل للهلاليِّ ثائر؟

وقال توبة بن الحُميِّر 1392/19 - 393:

ولو أن ليلى الأخيليةُ سلَّمت***عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحُ

لسلَّمت تسليم البشاشة أو زقا***إليها صدى من جانب القبرِ صائحُ

وقال قيس بن الملوَّح 19 / 393:

ص: 47

وهل تلتقي أصداؤنا بعد موتنا؟***ومن دوننا مسٌّ من الأرض أنكبُ

لظلَّ صدی رمسي وإن كنتُ رمَّةً***لصوت صدى ليلى يهشُّ ويُطرِبُ

وقال حميد بن ثور 393/19 :

ألا هل صدى أُمِّ الوليد مكلِّم***صداي إذا ما كنت رمسا وأعظما

ومن مذاهبهم أن في البطن حيَّة إذا جاع الإنسان عضَّت على شرسوفه وكبده، وقيل هو الجوع بعينه. قال الشاعر 393/19 :

لا يتأرَّى لما في القدر يرقبهُ***ولا تراه أمام القدر يقتفرُ

لا يُغمز الساق من أينٍ ومن وصبٍ***ولا يطنُّ على شرسوفه الصفّرُ

وقال أحد شعراء بني عبس يذكر قيس بن زهير لما هجر الناس وسكن الفيافي وأنس الوحش، ثم رأى ليلةً ناراً فغشا إليها، فشمَّ عندها قتار اللحم، فنازعته شهوته فغلبها وقهرها، ومال إلى شجرة سلم فلم يزل یکدعها ويأكل من ورقها إلى أن مات 19 / 394:

إن قيساً كان ميتتهُ کرمٌ والحيَّ منطلقُ

شام نارا بالهوى فهوى***وشجاع البطن ِيختفق

في أديسٍ ليس يسترهُ***رُبَّ حُرٍّ ثوبهُ خلِقُ

* قوله : بالهوى / اسم موضع بعينه.

وقال أبو النجم العجلي 19 / 394:

ص: 48

إنَّك ياخير فتىً تستعدي

علی زمانٍ مُسْنِتٍ بجهدِ

عضَّاً كعضِّ صَفَرٍ بكبدِ

وفال آخر 394/19 :

أردُّ شجاع البطن قد تعلمينهُ***وأُورد غيري من عيالكِ بالطعمِ

ومن مذاهبهم أن الرجل كان أذا أراد دخول قرية فخاف وباءها، أو جنَّها، وقف على بابها، قبل أن يدخلها، فنهق نهيق الحمار، ثم علَّق عليه كعب أرنب، كان ذلك عوذة ورُقية من الوباء والجن، ويُسمُّون هذا التعشير. قال شاعرهم 19/ 394:

ولا ينفع التعشير إن حُمَّ واقع***ولا زعزعٌ مُجدٍ ولا كعب أرنبِ

وقال الهيثم بن عدي : خرج عروة بن الورد إلى خيبر في رُفقة ليمتاروا فلما قربوا منها عشَّروا، وعاف عروة أن يفعل فعلهم وقال 395/19 :

لعمري لئن عشَّرتُ من خيفة الردى***نهاق حميرٍ أنني لجزوعُ

فلا واءلت تلك النفوس ولا أتت***قفولاً إلى الأوطان وهي جميعُ

وقالوا ألا انهق لا تضرَّك خيبرٌ***وذلك من فعل اليهود وُلُوعُ

ولوع، بالضم : الكذب ؛ ولع الرجل إذا كذب. وقالوا أن رفقته مرضوا ومات بعضهم، ونجا عروة من الموت والمرض.

وقال آخر 395/19 :

ص: 49

لا يُنجيَنَّك من حِمامٍ واقعٍ***کعبٌ تعلِّقهُ ولا تعشيرُ

وشابه هذا أن الرجل منهم كان إذا دخل في خلاة قلب قميصه، وصفق بیدیه كأنه يومئ إلى إنسان فيهتدي. قال أعرابي 19 / 395:

قلبت ثيابي والظنون تجول بي***وترمي برجلي نحو كلِّ سبيل

فلاياً بلأي ما عرفتُ جليَّتي***وأبصرت قصداً لم يصب بدليلِ

وقال أبو العمل الطائي 19 / 395:

فلو أبصرتنَي بِلوى بطانٍ***أَصفِّق بالبنان على البنانِ

فأقلب تارةً خوفاً ردائي***وأصرخ تارةً بأبي فلانِ

لقلت أبا العملَّس قد دهاهُ***من الجنَّانِ خالعة العنانِ

* الأصل بقلب الثياب التفاؤل بقلب الحال.

ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط، فإن وجده بحاله، علم أنَّ زوجته لم تخنه، وإن لم يجده، أو وجده محلولاً، قال :

- خانتني.

وذلك العقد يُسمى الرتَم، ويُقال : بل كانوا يعقدون طرفاً من غصن شجرة بطرف غصنٍ آخر. قال

الراجز 19 / 396:

هل ينفعنك اليوم إن همتَ بهم***كثرة ما توصي وتعقاد الرتمَ؟

ص: 50

وقال آخر19 / 396:

خانته لما رأت شيباً بمفرقه***وغرَّه حلفها والعقد والرتمُ

وقال آخر19 / 396:

لا تحسبنَّ رتائماً عقَّدتها***تُنبيك عنها باليقين الصادقِ

وقال آخر19 / 396:

یُعلِّل عمروٌ بالرتائم قلبه***وفي الحيِّ ظبيٌ قد أُحلَّت محارمُهْ

فما نفعت تلك الوصايا ولا جنت***عليه سوى ما لا يُحبُّ رتائمُهْ

وقال آخر19 / 396:

ماذا الذي تنفعك الرتائم***إذ أصبحت وعشقها الملازم

وهيَ على لذَّاتها تُداوم***يزورها طبُّ الفؤاد عارم

وقد كانوا يعقدون الرتم للحُمَّى، ويُروى أن من حلها انتقلت الحُمَّى إليه.

قال الشاعر19 / 396:

حللت رتيمةً فمكثت شهراً***أكابد كلَّ مكروه الدواءِ

ومن مذاهبهم أن المرأة المقلاة؛ وهي التي لا يعيش لها ولد، إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها، قال بشر بن خازم 397/19 :

تظل مقاليت النساء يطأنه***يقلنَ ألا يُلقى على المرءِ مئزرُ؟

وقال الكميت 19 / 397:

وتطيل المرزآت المقالي***ت إليهِ لتعود بعد القيام

ص: 51

وقال آخر 397/19 :

تركنا الشعثمين برمل خبثٍ***تزورهما مقاليت النساءِ

وقال آخر 397/19 :

بنفسي التي تمشي المقاليت حوله***يُطاف له کشحا هظيماً مُهشَّما

وقال آخر 397/19 :

تباشر المقالت حين قالوا***ترى عمرو بن مُرَّة بالحفير

ومن مذاهبهم، أن الغلام منهم إذا سقطت له سنٌّ أخذها بالسبَّابة والإبهام واستقبل الشمس وقذفها بها، وقال :

- يا شمس أبدليني بسنٍّ أحسن منها وليجرِ في ظلِّها أيأتُكِ.

أو تقول : (أياؤك) وهما جميعاً شعاع الشمس.

قال طرفة 19 / 398:

سقته أياة الشمس إلَّا لثاتُه***أسفَّ ولم تكدم عليه بأثمِدِ

وإلى هذا المذهب أشار شاعرهم بقوله 19 / 398:

شادنٌ يجلو إذا ما ابتسمت***عن أُقاحٍ كأُقاح الرمل غرْ

بدَّلته الشمس من منبته***بَرَداً أبيض مصقول الأشر

وقال آخر 368/19 :

وأشنب واضحٌ عذب الثنايأ***كأنَّ رضابُه صافي المدامِ

کسته الشمس لوناً من سناها***فلاح كأنَّه برق الغمامِ

ص: 52

وقال آخر19 / 398:

بذي أشرٍ عذب المذاق تفرَّدت***به الشمس حتى عاد أبيض ناصعا

ومن مذاهبهم؛ أنهم كانوا يعتقدون أن دم الرئيس يشفي من عضَّة الكَلْبِ الكَلِب، قال الشاعر 19 / 398:

بنات مكارمٍ وأساة جرحٍ***دماؤهمُ من الكلب الشفاءُ

وقال عبد اللّه بن الزبير الأسدي 19 / 398:

من خير بيتٍ علمناهُ وأكرمه***كانت دماؤکُم تشفي من الكلَبِ

وقال الكميت 19 / 398:

أحلامكم لسقام الجهل شافيةٌ***كما دماؤكُم تشفي من الكلَبِ

ومن مذاهبهم أنهم إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرَّض الأرواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الأقذار عليه كخرقة الحيض وعظام الموتى وقالوا : أنفع من ذلك أن تعلِّق عليه طامث عظام موتي، ثم لا يراها يوم ذاك.

فلو أن عندي جارتين وراقياً***وعلَّق أنجاساً عليَّ المعلِّقُ

قالوا : والتنجيس يشفي إلَّا من العشق، قال أعرابي 19 / 399:

يقولون علِّق - يا لك الخير - رِمَّةً***وهل ينفع التنجيس من كان عاشقا

وقالت امرأة وقد نجَّست ولدها فلم ينفعه ومات :

نجَّستهُ لو ينفع التنجيسُ***والموت لا تفوته النفوسُ

وكان أبو مهدية بُعلِّق في عنقه العظام والصوف حذر الموت، وأنشدوا 19/

ص: 53

399:

أتوني بأنجاس لهم ومنجِّسٍ***فقلت لهم: ما قدَّر اللّه كائنُ

ومن مذاهبهم أن الرجل منهم إذا خدرت رجلهُ ذكر من يُحب أو دعاه فيذهب خدرها. قال الشاعر 399/19:

: على أن رجلي لا يزال امذالُها***مقيما بها حتى أُجيلك في فكري

وقال كثير 19 / 399:

إذا خدرت رجلي ذكرتكِ أشتفي***بدعواكِ من مذلٍ بها فيهونُ

وقال جميل 399/19 :

وأنتِ لعيني قُرَّةٌ حين نلتقي***وذكركِ يشفيني إذا خدرت رجلي

وقال امرأة 19 / 400:

إذا خدرت رجلي دعوت ابن مصعبٍ***فإن قلتُ: عبد اللّه أجلى فتورها

وقال آخر19/ 400 :

صبٌّ محبٌّ إذا ما رجله خدرت***نادي كبيشة حتى يذهب الخدرُ

وقال المؤمَّل 19 / 400:

واللّهِ ما خدرت رجلي وما***إلَّا ذكرتكِ حتى يذهبَ الخدرُ

وقال الوليد بن یزید 19 / 400 :

أثيبي هائما كلفِاً مُعنَّى***إذا خدرت له رجلٌ دعاكِ

ويضيف آل فتَّال : [أن بعض عجائزنا ما يزلن بؤمنَّ بذلك؛ فإذا خدرت

ص: 54

رِجْلُ إحداهن ضربتْ عليها ضربات خفيفة وهي تخاطبها : (کَومي نروح للحضرة، أو للعِرِس) ].

* ونظير هذا إذا الرجل منهم اختلجت عينه قال : أرى من أُحبه؛ فإن كان غائبا توقَّع قدومه، وإن كان بعيدا توقَّع قربه، قال بِشر 400/19 :

إذا اختلجت عيني أقول لعلَّها***فتاة بني عمرٍ بها العين تلمعُ

وقال آخر 400/19 :

إذا اختلجت عيني تيقَّنت أنني***أراكِ وإن كان المزار بعيدا

وقال آخر19/ 400:

إذا اختلجت عيني أقول لعلَّها***لرُؤيتها تهتاج عيني وتطرفُ

ويضيف الفتَّال : [بعض المعمرين يؤمنون بمذا؛ إذ يرون أن من تختلج عينه اليمنى فهو إشارة إلى سوء قد يلحقه، وإذا اختلجت عينه اليسرى فذلك إشارة إلى ما ينتظره من المسرَّات].

ومن مذاهبهم أن الرجل منهم إذا عشق ولم يسلُ وأفرط عليه العشق حمله رجلٌ على ظهره كما يحُمل الصبي، وقام آخر فأحمي حديدة، أو ميلاً، وكوی به بين إليته فيذهب عشقه، في ما يرون.

قال أعرابي 19 / 401:

کويتم بين رافقتيَّ جهلاً***ونار القلب يضرمها الغرامُ

وقال آخر 401/19 :

ص: 55

شكوت إلى رفيقيَّ اشتياقي***فجاءاني وقد جمعا دواءا

وجاءا بالطبيب ليكوياني***ولا أبغي - عدمتهما - اكتواءا

ولو أتيا بسلمى حين جاءا***العاضاني من السقم الشفاءا

وقال كثير 401/19 :

أغاضرَ لو شهدتِ غداة بنتم***حُنوَّ العائدات على وسادي

أويتِ لعاشقٍ لم ترحميهِ***بواقدةٍ تُلَذَّع بالزنادِ

وقال أيضاً 401/19 :

عفا اللّه عن أُمِّ الحويرث ذنبها***علامَ تُعنِّيني وتکمي دوائيا

ولو آذنوني قبل أن يرقموا بها***لقلت لهم أُم الحويرث دائيا

ومن مذاهبهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحبَّ امرأة وأحبَّته فشقَّ برقعها وشقَّت رداءه صلح حبُّهما ودام، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبُّهما. قال سحيم عبد بني الحسحاس 402/19 :

وكم قد شققنا من رداءٍ مُحبَّرٍ***ومن برقعٍ عن طفلةٍ غير عابسِ

إذا شُقَّ بُردٌ شُقَّ بالبُرد بُرقعٌ***دواليك حتى كلُّنا غير لابسِ

نروم بهذا الفعل بُقيا على الهوى***وإلف الهوى يُغري بهذي الوساوسِ

وقال آخر 402/19 :

شققتِ رداءي يوم برفة عالجٍ***وأمكنني من شقِّ برقعكِ السحقا

فما بال هذا الود يفسد بيننا***ويمحق حبل الوصل ما بيننا محقا

ص: 56

ومن مذاهبهم أنهم كانوا يرون أن أكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوَّة، قال أحدهم 402/19 :

أبا المعارك لا تتعب بأكلك ما***تظنُّ أنك تلفي منه کرَّارا

فلو أكلت سباع الأرض قاطبةً***ما كنتَ إلَّا جبان القلبِ خوَّارا

وقال أحدهم، وأكل فؤاد الأسد ليكون شجاعة، فغدا عليه نمرٌ فجرحه 19 /402:

أكلتُ من الليث الهصور فؤادهُ***لأُصبح أجرا منهُ قلبأ وأقدما

فأدرك مني ثأره بابن أُخته***فيا لك ثأراً ما أشد وأعظما

وقال آخر 402/19 - 403:

إذا لمَّ قلب الفتى غدوة الوغى***أصمَّ فقلت الليث ليس بنافع

وما نفع قلب الليث في حومة الوغى***إذا كان سيف المرءِ ليس بقاطعِ

ومن مذاهبهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق تحته اغتلمت امرأته وطمحت إلى غيره.

* الهقعة : دائرة تكون بالفرس، وربما كانت على الكتف في الأكثر وهي مستقيمة عندهم، قال أحدهم لصاحبه 19 /403:

إذا عرق المهقوع بالمرء لفَّطت***حليلته وازداد حرُّ عجانها

فأجابه صاحبه 403/19 :

[و] قد يركب المهقوع من ليس مثلهُ***وقد يركب المهقوع زوج حصان

ص: 57

ومن مذاهبهم المشهورة تعليق كعب الأرنب لدفع شرِّ الجن وما إليهم، قال امرؤ القيس 19 / 404 :

أيا هند لا تنکحي بوهةً***عليه عقيقته أحسبا

موسَّعة بين أدباقهِ***به عسم يبتغي أرنبا

ليجعل في رجله كعبها***حذارِ المنيَّة أن يعطبا

ويضيف الفتَّال : [ ما يزال بعضهم بُعلِّق فوق أبواب دورهم رأس غزال، نِعالٍ صغير، أو قطعة خزف زرقاء مفر نصة تسمى (أم سبع عيون) دفعاً لحسد الحاسدين من ذوي العيون (المالحة) ].

وكانت العرب تعلِّق على الصبي سن ثعلب وسن هرّة، خوفاً من الخطفة، ويقولون : إن جنيَّة أرادت صبي قوم فلم تقدر عليه، فلامها قومها من الجن في ذلك، فقالت تعتذر إليهم 19 / 404 :

كان عليهِ نُفَرَة

ثعالبٌ وهرة

والحيض حيض الشُمَرَة

ويضيف الفتَّال : [إن سكان الريف في العراق لم يزالوا يُعَلِّقون في رقاب أطفالهم معلَّقات عديدة، كال (ودْعة) وسِنِّ الذيب والقلائد الملوَّنة وقاية لهم من (الجنِّ) و(العين الحاسدة) ].

قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي : إن بعض العرب قال لأبي :

ص: 58

- إذا ولِد لك ولد فنفِّر عنه.

فقال له أبي :

- وما التنفير؟

قال : - غَرِّب اسمه.

فولد له ولد فسمَّاه قنفذة، وكنَّاه أبا العداء. قال :

وأنشد 404/19 :

كالخمر مزجُ دوائها منها بها***تشفي الصداع وتُبرئ المنجودا

قال : يريد أن القنفذ من مراكب الجن، فداوي ولدهم منهم بمراكبهم.

ومن مذاهبهم : أن الرجل منهم إذا ركبَ مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل فعمد إلى وادي شجر فأناخ راحلته في قرارته، وعقلها وخطَّ عليها خطَّاً ثم قال :

- أعوذ بصاحب هذا الوادي.

وربما قال بعظيم هذا الوادي.

عن هذا قال في القرآن الكريم

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا. وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (الجن 6 -7) }.

واستعاذ رجلٌ ومعه ولد فأكله الأسد فقال 19 / 405 :

ص: 59

قد استعذنا بعظيم الوادي

وشرِّ ما فيه من الأعادي

فلم يجُرنا من هزبرٍ عادِ

وقال آخر19 /405 :

أعوذ من شرِّ البلا البعيد

بسيِّدٍ معظَّمٍ مجيدِ

أصبح يلوى بلوی زرودِ

ذي عِزَّةٍ وكاهلٍ شديد

وقال آخر19 / 405 :

یا جن أجراع اللوى من عالج

عاذ بكم ساري الظلام الدارجِ

لا تُرهقوهُ بفويٍّ هائجِ

وقال آخر19 / 405 :

قد بتُّ ضيفاً لعظيم الوادي

المانعي من سطوة الأعادي

راحلتي في ج ارتي وزادي

وقال آخر19 / 405 :

ص: 60

هيا صاحب الشجراء هل أنت مانعي***فإنِّي ضيفٌ نازلٌ بفِنائکا

وإنَّك للجَّانِ في الأرض سيِّدٌ***ومثلك آوي في الظلام الصعالكا

ومن مذاهبهم أن المسافر إذا خرج من بلد إلى بلد آخر فلا ينبغي أن يلتفت إلَّا العاشق الذيُ يريد العود. قال أحدهم 19 / 406 :

دع التلفُّت يا مسعود وارمِ بها***وجهَ الهواجر تأمنْ رجعةَ لبلدِ

وقال آخر 406/19 :

صبريَ بالثعلبية لما***طال ليلي وملَّني قُرَنائي

كلَّما سارت المطايا بنامِي***لاً تنفَّستُ والتفتُّ ورائي

* قول ابن أبي الحديد في ذينك البيتين إنهما لا دليل فيهما على ما أراد لأن التلفُّت في أشعارهم كثير ومرادهم الإبانة والإعراب عن كثرة الشوق، والتأسُّف على المفارقة، وكون الراحل عن المنزل حيث لم يمكنه المقام فيه، بجثمانه فيتبعه بصره، ويتزوَّد من رؤيته، كقول الرضي (رحمه اللّه) 406/19 :

ولقد مررتُ على طلولهمُ***ورسومهم بيد البِلي نهبُ

فوقفتُ حتى ضجَّ من لغبِ***نضوي ولَجَّ بعذليَ الركبُ

وتلفَّت عيني فمذ خفيت***عنِّي الطلول تلفَّ القلبُ

وقال الصُمَّة بن عبد اللّه 407/19 :

تلفَّت نحو الحيِّ حتى وجدتُني***وجعتُ من الإصغاء ليتا وأخدعا

وقال أحدهم في المذهب الأول 407/19 :

ص: 61

تلفَّتُّ أرجو رجعةً بعد نيَّتي***فكان التفاتي زائدة في بلائيا

أأرجو رجوعا بعد ما حال بيننا***وبينكُم حزن الفلا والفيافيا

وقال آخر، وقد طلَّق امرأته فتلفَّتت إليه 407/19 :

تَلَفَّتُ ترجو رجعةً بعد فرقةٍ***وهيهات مما ترتجي أُمُّ مازنِ

ألم تعلمي أني جموحٌ عنانهٌ***إذا كان من أهواه غيرَ ملاينِ

ومن مذاهبهم؛ إذا بُتِرتْ شفة الصبي حمل منخلاً على رأسه ونادي بين بيوت الحي :

- الحلا.. الحلا، الطعام.. الطعام.

فتُلقي له النساء کسر الخبز وأقطاع التمر واللحم في المنخل، ثم يُلقى ذلك للكلاب، فيبرأ من المرض، فإن أكل صبي من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب...! أصبح وقد ترت شفتاه وأنشد لامرأة :

ألا حلا في شفةٍ مشقوقة***فقد قضى منخلنا حقوقه

ومن مذاهبهم؛ أن المرأة إذا عسر عليها خاطب النكاح نشرت جانباً من شعرها، وكحلت إحدى عينيها مخالفةً الشعر المنشور، وحجلت على أحدى رجليها، ويكون ذلك ليلاً، وتقول :

- یا لنکاح قبل الفجر.

فيسهل أمرها وتتزوَّج عن قُرب. قال رجل لصديقه وقد رأى أُمَه ُتفعل ذلك 408/19 :

ص: 62

أما ترى أُمَّك تبغي بعلا***قد نشرت من شعرها الأقلَّا

ولم تُوفِّ مُقلتيها کُحلا***ترفع رِجلاً وتحطُّ رِجلا

هذا وقد شاب بنوها أصلا***وأصبح الأصغرُ منهم کھلا

خذ القطيع ثمَّ سِمها الذلّا***ضرباً به تترك هذا الفعلا

وقال آخر 408/19 :

قد كحلت عيناً وأعفت عينا

وحجلت ونشرت قرينا

تظنُّ زیناً ماتراهُ شينا

وقال آخر 08/19 :

تصنَّعي ما شِئتِ أن تصنَّعي

وكحِّلي عينيكِ أو لا فدعي

ثم احجلي في البيت أو في المجمعِ

مالكِ من بعلٍ أرى من مطمع

ومن مذاهبهم؛ كانوا إذا رحل الضيف أو غيره عنهم وأحبُّوا أن لا يعود کسروا شيئا من الأواني وراءه، قال أحدهم 409/19 :

کسرنا القِدر بعد أبي سواحٍ***فعاد وقدرنا ذهبت ضياعا

وقال آخر 409/19 :

ولا نكسرُ الكيزان في إثْرِ ضيفنا***ولكننا نقفيه زاداً ليرجعا

ص: 63

وقال آخر 409/19 :

أما واللّهِ أن بني نُفَيْلٍ***لحلَّالون بالشرف اليفاعِ

أُناسٌ ليس تكسر خلف ضيفٍ***أوانيهم ولا شِعبَ القصاعِ

ويضيف الفتَّال : [يرمون حجارات خلف من لا يريدون عودته قائلين : (سبع حجارات سود وراك) ومن يريدون عودته يرشُّون خلفه ماءَ].

ومن مذاهبهم؛ قولهم : أن من وُلِدَ في القمراء تقلَّصت غُرْلَتَهُ فكان کالمختون، قال امرؤ القيس لقيصر، وقد دخل معه الحمَّام فرآه أغلف 409/19 :

إني حلفت يمينا غير كاذبة لأنت أغلف إلا ما جنى القمر

ومن مذاهبهم؛ التشاؤم بالعطاس، قال امرؤ القيس 409/19 :

وقد أغتدي، قبل العطاس، بهيكلٍ***شديدٍ منيع الجنب فعم المُنَطَّقِ

وقال آخر 409/19 :

وخرِّق إذا وجَّهتَ فيه لغزوةٍ***مضيتَ ولم يحبسك عنه العواطسُ

ويضيف الفَتَّال : [لمَّا يزل معظم العراقيين يؤمنون أن العطسة الواحدة تعني (الصبر) أي : تأجيل ما كان يُنوي من عمل، وإن عطستين تعنيان التعجيل في ما نُويَ من عمل وتسمى (عَجْلَة) ].

ومن مذاهبهم؛ أنهم كانوا يُسمُّون العشا في الليل الهُدَبْد.

وأصل الهُدَبْدِ اللبن الخاثر، فإذا أصاب أحدهم ذلك عمد إلى سنامٍ فقطع منه قطعة ومن الكبد قطعة وغلاها، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه

ص: 64

الأعلى بسبَّابته 410/19 :

فيا سناماً وكبِدْ

ألا أذهبا بالهُدَبِدْ

ليس شفاء الهُدَبدْ

إلَّا السنام والكَبِدْ

فيذهب العشا بذلك. [كما يرون].

ومن مذاهبهم : أن الورل والقُنفذ والأرنب والظبي واليربوع والنعام والعضرفوط مراكب الجن يمتطونها، ولهم في ذلك أشعارٌ مشهورة، ويزعمون أنهم يرون الجن ويشاهدون الغول، وربما جامعوهما وقالوا : أن عمرو بن یربوع تزوَّج الغول وأولدها بنين، ومكثت عنده دهرا فكانت تقول له :

- إذا لاح البرق من جهة بلادي، وهي جهة كذا، فاستره عني، فإن لم تستره عني تركت ولدك عليك، وطرت إلى بلاد قومي، فكان ابن یربوع كلما برق البرق غطى وجهها بردائه، فلا تبصره، وإلى هذا المعنى أشار أبو العلاء المعرِّي في قوله يذكر الإبل وحنينها إلى البرق 411/19 :

طربين لضوء البارق المتعالي***ببغداد وهناً ما لهنَّ ومالي

سمت نحوه الأبصار حتى كأنها***بناريه من هنَّا وثَم صوالي

إذا طار عنها سِرِّها لرؤوسها***تُمدُّ إليها في صدور عوالي

تحنَّت قويقاً والصراة أمامها***ترابٌ لها من أينق وجمالِ

إذا لاح أيَّاً من سترت وجوهها***كأني عدوٌّ والمطيُّ سعالي

ص: 65

وكم همَّ نظوٌّ أن يطير مع الصبا***إلى الشام لولا حبسه بعقال

* قالوا فغفل عنها عمر بن یربوع ليلة وقع لمع البرق فلم يستر وجهها فطارت وقالت له وهي تطير:

أمسك بنيك عمر أني آبق***برقٌ على أرض السعالي آلقْ

* ومنهم من يقول : ركبت بعيرة وطارت عليه، أي أسرعت فلم يدركها، وعن هذا يقول الشاعر : 412/19 :

رأى برقا فأوضع فوق بكرٍ***فلايكُ ما أسال ولا أغاما

* وبنو عمر بن یربوع يُدْعَونَ بني السعلاة، لذلك قال الشاعر يهجوهم :

ياقبَّح اللّه بني السعلاةِ

عمر بن یربوعٍ شرار النات

ليسوا بأبطالٍ ولا أكيات

[أبدل السين تاءً في (النات) و(أكيات) وهي لغة قوم من العرب]

ومن مذاهبهم؛ قولهم في الدعاء : لا عشت إلَّا عيش القراد. يضربونه مثلًا في الشدَّة والصبر على المشقَّة، ويزعمون أن القراد يعيش ببطنه، وبظهره عاماً، ويقولون : إنه يُترَك في طينة ويُرمى بها الحائط فيبقى سنة على بطنه وسنة على ظهره ولا يموت. قال أحدهم 410/19 :

فلا عشتَ إلَّا كعيش القرادِ***عاماً ببطنٍ وعاماً بظهرِ

ومن مذاهبهم؛ كانت النساء إذا غاب عنهن من يحبنه أخذن ترابة من

ص: 66

موضع رِجله، كانت العرب تزعم أن ذلك أسرع لرجوعه. وقالت امرأة من العرب، واقتبضت من أثرِه 410/19 :

أخذت تراباً من مواطى رجله***غداة عدا كيما يؤوب مُسلِّما

ومن مذاهبهم؛ في الغول قولهم : إذا ضُرِبت ضربةً واحدةً بالسيف هلكت، فإذا ضُرِبت ثانيةً عاشت. وإلى هذا أشار الشاعر 412/19 :

فقالت: ثنِّ قلت لها: رويداً***مكانكِ أنَّني ثبت الجنانِ

ومن مذاهبهم؛ اعتقادهم في الديك والغراب والحمامة وساق حُر - وهو الهديل - والحيَّة؛ فمنهم من يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلُّقات ومنهم من يزعم أنها نوع من الجن. ومن أشعارهم في مراكب الجن قول أحدهم في قنفذ رآه لیلاً 19 / 413 :

فما يعجب الجنَّان منكَ عدمتهم***و الأُسْدِ أفراسٌ لهم ونجائب

أيسرج يربوعٌ ويُلجم قنفذٌ***وقد أعوزتكم ما علمت النجائبُ

فإن كانت الجنَّان حنَّت فبالحرى***ولا ذنب للأقوام واللّه غائب

ومن الشعر المنسوب إلى الجن 19 / 418 :

أيستمع الأسرار راكب قنفذٍ***لقد ضاع سرُّ اللّه يا أمَّ معبدِ

ومن أشعارهم في رواية الجن وخطابهم وهتافهم ما رواه أبو عثمان الجاحظ السمير بن الحارث الضِّبي 414/19 :

ص: 67

ونارٍ قد خطأتُ بُعَيْدَ وهنٍ***بدارٍ لا أُريد بها مقاما

سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ***أُكالتها مخافة أن تناما

أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟***فقالوا: الجُنُّ قلتُ: عموا ظلاما

وقال أبو البلاد الطهوي، ويُروى لتأبَّط شرَّا 410/19 :

لهان على جُهينة ما أُلاقي***من الروعات يوم رحا بطانِ

لقيت الغول تسري في ظلامٍ***بسیبٍ کالعباءةِ صمصمانِ

فقلت لها كلانا نفض أرضٍ***أخو سفرٍ فخلِّي لي مكاني

فشدَّت شدَّهً نحوي فأهوى***لها كفِّي بمصقولٍ يماني

فقالت: زد فقلت: رويد أني***على أمثالهاثبت الجنانِ

والذين يروون هذا الشعر لتأبَّط شرَّا يرون أوَّله 415/19 - 416 :

ألا من مبلغٍ فتيان جهمٍ***بما لاقيت عند رحا بطانِ

بأني قد لقيت الغول تلوي***بحرثٍ كالصحيفة صمصمانِ

فصدَّت فانتخبت لها بعضبٍ***حسامٍ غير محتسبٍ يماني

فقدَّ سراتها والبرك منها***فخرَّت لليدين وللجرانِ

فقالت: ثنِّ قلت لها: رويداً***مكانك أنني ثبت الجنانِ

وما أنفكُّ مضطجعا لديها***لأنظر مصبحا ماذا دهاني

إذا عينان في رأس دقيقٍ***كرأس الهرِّ مشقوق اللسان

وساقا محذجٍ ولسان كلبٍ***وثوبٍ من عباءٍ أو شنانِ

ص: 68

وقال البهراني 416/19 :

وتزوَّجت في الشبيبة غولاً***بغزالٍ وصدقتي زِقُّ خمرِ

وقال أبو عبيدة بن أيوب العنبري أحد لصوص العرب 19 /416:

تقول وقد ألممت بالأُنس لمَّةً***مخضبَّة الأطراف خرس الخلاخلِ

أهذا خدين الغول والذئب والذي***يهيم بربَّات الحجال الهواكلِ

رأت فلق الدرسين أسود شاحباً***من القوم بسَّاماً كريم الشمائل

تعوَّد من آبائه فتكاتهم***وإطعامهم في كلِّ غبراء شاملِ

إذا صاد صيداً لفَّهُ بضرامه***وشيكا ولم ينظر لغلي المراجلِ

ونهساً كنهس الصقر ثم مراسهُ***بكفَّيهِ رأس الشيخة المتماثل

ومن هذه الأبيات :

إذا ما أراد اللّه ذلَّ قبيلةٍ***رماها بتشتيت الهوى المتخاذل

وأوُّل عجز القوم عمَّا ينوبهم***تقاعدهم عنه وطول التواكل

وأول خبث الماء خُبث ترابهِ***وأوَّل لؤم القوم لؤم الحلائل

وقال عُبيد بن أيوب أيضاً 19 / 417:

وصار خليل الغول بعد عداوةٍ***وصفياً وربَّتهُ القفا والبسابس

وقال أيضاً 417/19 :

فلله درُّ الغول أيُّ رفيقةٍ***لصاحب قفرٍ في المهامه يذعرُ

أرنَّت بلحنٍ بعد لحين وأوقدت***حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ

ص: 69

وقال أيضاً 417/19 :

وغولا قفرةٍ ذكرٌ وأُنثى***كأن عليهما قطع البجاد

وقال أيضاً 417/19 :

وقد لاقت الغيلان مني بليَّةً***وقد لاقت الغيلان مني الدواهيا

وقال البهراني في قتل الغول 19 / 417:

ضُرِبتْ ضربةً فصارت هباءً***في محاق القمراء أحرم شهرِ

وقال أيضاً، لما ثنَّي عليها الضربة عاشت 417/19 :

فثنَّيتُ والمقدار يحرس أهله***فليت يميني يوم ذلك شُلَّتِ

وقال تأبَّط شرَّا يصف الغول ويذكر أنه راودها عن نفسها فامتنعت عليه فقتلها 19 / 417:

فأصبحتُ والفول لي جارةٌ***فيا جارةً أنتِ ما أغولا

وطالبتها بضعَها فالتوت***فكان من الرأي أن تُقتلا

فجلَّلتها مرهفاً صارماً***أبان المرافق والمفصلا

فصار بقحف ابنة الجنِّ ذا***شقاشق قد أخلق المحملا

فمن يكُ يسأل عن جارتي***فإن لها باللوى منزلا

عضاءة أرضٍ لها حلَّتانِ***من ورق الطلح لم تُغزلا

فكنتُ إذا همهمت ابتهلت وأُخرى إذا قلت أن أفعلا

ومن مذاهبهم؛ أخم إذا طالت علَّة الواحد منهم، وظنُّوا أنَّ به مسَّاً من

ص: 70

الجن، لأنه قتل جنِّيةُ أو يربوعا أو قنفذة، عملوا جمالاً من طين، وجعلوا عليها جوالق وملؤوها حنطةُ وشعيراً أو تمرا، وجعلوا تلك الجمال في باب جُحرٍ إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس، وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجِمال الطين، فإن رأوا أنما بحالها قالوا :

- لم تقبل الديَّة.

فزادوا فيها. وإن رأوها قد تساقطت وتبدَّد ما عليها من المِيرة قالوا :

- قَبِلتْ الديَّة.

واستدلوا على شفاء المريض وضربوا بالدف، قال أحدهم 19 / 418 :

دعوتُ أبا المغوار في الجفر دعوةً***فما آضَ صوتي بالذي كنتُ داعيا

أظنُّ أبا المغوار في قعر مظلمٍ***تجرُّ عليه الذاريات السوافيا

وقال آخر19 / 419 :

وكم ناديتهُ والليل ساجٍ***بعاديَّ البِئار، فما أجابا

وقال آخر 419/19 :

غاب فلم أرجُ له إيابا

والجفر لا يُرجع لي جوابا

وما قرأتُ، مذنأى، كتابا

حتى متى أستنشد الركابا

عنه وكلٌّ يمنع الخطابا

ص: 71

وقال آخر 420/19 :

ألم تعلمي أني دعوتُ مجاشعاً***من الجفر والظلماء بادٍ کسورها

فجاوبني حتى ظننتُ بأنَّهُ***سيطلع من جوفاء صعبٍ خدورها

لقد سكنت نفسي وأيقنت أنهُ***سيقدم والدنيا عجاباً أمورها

وقال آخر 420/19 :

دعوناه من عاديه نُضِّب ماؤها***وهدَّم جاليها اختلاف عصورِ

فردَّ جوابا ما شككتُ بأنّه***قريبُ إلينا بالإياب يصيرُ

[أقوى في البيت الثاني. ]

ومن مذاهبهم؛ أنَّهم إذا كانوا في الحرب ربما أخرجوا النساء فَيَبُلْنَ بين الصفَّين ؛ يروون أن ذلك يُطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم قال أحدهم 19 / 420 :

لقونا بأبوال النساء جهالةً***ونحن نلاقيهم ببيضٍ قواضبِ

وقال آخر 420/19 :

بالت نساء بني خُراشة خيفةً***منَّا وأدبرت الرجال شِلالا

وقال آخر 420/19 :

بالت نساؤهمُ والبيض قد أخذت***منهم مآخذَ يُستشفى به الكَلِبُ

وقال آخر 421/19 :

جعلوا السيوف المشرفیَّة منهم***يوم النساء وقلَّ ذاك غثاءا

ص: 72

ومن مذاهبهم؛ ذكرُ عزيف الجن في المفاوز والسباسب، كقول أحدهم 19 / 421 :

وخرقٌ تُحدِّث غيطانهُ***حديث العذارى بأسرارها

وقال آخر 421/19 :

ودويَّةٍ سبسبٍ سحلقٍ***من البيد تعزف جنَّانها

وقال الأعشی 19/ 421 :

وبهماء تعزف جنَّانُها***وناحلها آجناتٌ سُدُمْ

وقال 421/19 :

وبلدةٍ مثل ظهر الترس موحشةٍ***للجنِّ في الليل في حافاتها زجلُ

وقال الشرقي بن قطامي :

كان رجلٌ من كلب - يقال له عُبيد بن الحمارس - شجاعاً وكان نازلاً بالسماوة أيام الربيع، وقلَّ ماؤه وانُقطعت أنواؤه، تحمَّل إلى وادي بُتَل، فرأي روضةً وغديراً فقال : روضةٌ وغدير وحطبٌ يسير، وأنا لما حويتُ مجير

فنزل هناك، وله امرأتان؛ اسم إحداهما الرباب والأخرى خولة، فقالت له خولة 19 / 422 :

أرى بلدةً قفراً قليلٌ أنيسها***وإنَّا لنخشى، إن دجا الليل، أهلَها

وقالت الرباب 19 / 422 :

أرتك برأيٍ فاستمع عنك قولها***ولا تأمنن جنَّ الطريق وجهلها

ص: 73

فقال مجيباً لهما (كذا) 19 / 422 :

ألستُ كمیَّاً في الحروب مجرَّباً***شجاعاً إذا شبَّت له الحرب معربا؟

سريعا إلى الهيجا إذا حمس الوغى***فأُقسم لا أعدو الغدير منکَّبا

ثم صعد إلى جبل بُتَل فرأى مشيمة - وهي أنثى من القنافذ - فرماها فأقصعها، ومعها ولدها، فارتبطه، فلما كان الليل هتف به هاتف من الجن 19 / 422 :

يا ابن الحمارس قد أسأتَ جوارنا***وركبتَ صاحبنا بأمرٍ مفضعِ

وعقرت لحقته وقدتَ فصيلها***قوداً عنيفاً في المنيع الأرفعِ

ونزلت مرعی شائنا وظلمتنا***والظلم فاعله وخیم المرتعِ

فلنطرقنَّك بالذي أوليتنا***شرٌّ يجيئك ماله من مدفعِ

فأجابه ابن الحمارس 19 / 422 :

با مُدَّعٍ ظلمي ولستُ بظالمٍ***اسمع لديك مقالتي وتسمَّعِ

إن كنتمُ جنَّا ظلمتم قنفذاً***عُقِرتْ فشرُّ عقيرةٍ في مصرعِ

لا تطمعوا فيما لديَّ فما لكم***فيما حويت وحزنه في مطمعِ

فأجابه الجنِّي 19 / 422 – 423 :

يا ضارب اللقحة بالعضب الأفلْ

قد جاءك الموت ووافاك الأجلْ

وساقك الحين إلى جِنِّ تُبَلْ

ص: 74

فاليوم أقويت وأعيتك الحِيَلْ

فأجابه ابن الحمارس 19 / 423 :

ياصاحب اللقحة هل أنت بجلْ؟

مستمعٌ مني فقد قلت الخطلْ

وكثرة المنطق في الحرب فشلْ

هیَّجت قمقاماً من القوم بطلْ

ليث ليوثٍ وإذا همَّ فعلْ

لا يرهب الجنَّ ولا الإنسَ أجلْ

من كان بالعقوة من جِنِّ تُبَلْ

قال : فسمعهما شيخٌ من الجنِّ، فقال : لا واللّه لا نرى قتل إنسان مثلَ هذا ثابت القلب ماضي العزيمة، فقام ذلك الشيخ وحمد اللّه ثم أنشد 19 / 423 :

يا ابن الحمارس قد نزلت بلادنا***فأصبت منها مشرباً ومناما

فبدأتنا ظلما بعقر لقوحنا***وأسأت لمَّا أن نطقت كلاما

فاعمد لأمر الرشد واجتنب الردى***إنّا نرى لك حرمةً وذماما

واغرم لصاحبنا لقوحاً متبعاً***فلقد أصبت بما فعلت أثاما

فأجابه ابن الحمارس 19 / 423 :

اللّه يعلم حيث يرفع عرشهُ***إني لأكره أن أُصيب أثاما

أما ادِّعاؤكَ ما ادَّعيتَ فإنني***جئتُ البلاد ولا أُريد مقاما

ص: 75

فأسمت فيها ما لنا ونزلتها***لأُريح فيها ظهرنا أيَّاما

فليُفدِ صاحبكم علينا نعطهِ***ما قد سألتَ ولا نراهُ غراما

ومن مذاهبهم؛ أن لكل شاعر شیطاناً يلقي إليه الشعر. قال الراجز 19 / 424 :

إنِّي وإن كنتُ صغير السنِّ

وكان في العين نُبوٌّ عني

فإن شيطاني أمير الجنِّ

يذهب بي بالشعر كلِّ فنّ

وقال حسَّان بن ثابت 19 / 424 :

إذا ما ترعرع فينا الغلام***فما أن يقال له من هوَ؟

إذا لم يُشدْ قبل شدِّ الإزار***وذلك فينا الذي لا هوَ

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان***وطوراً أقول وطوراً هوَ

وكانوا يزعمون أن اسم شيطان الأعشى (مِسحَل) واسم شيطان المُخبَّل (عمرو)، قال الأعشى 19 / 424 :

دعوت خليلي مِسمحَلاً ودعوا له***جهنَّام جدعا للهجين المذمَّمِ

وقال آخر19 / 424 :

لقد كان جنِّيُّ الفرزدق قدوةً***وما كان فينا مثل فحل المُخبَّلِ

ولا في القوافي مثلَ عمرو وشيخه***ولا بعد عمرو شاعرٌ مثلَ مسحلِ

ص: 76

وقال الفرزدق يصف قصيدته 19 / 424 :

كأنها الذهب العقيان حيَّرها***لسان أشعر خلق اللّه شيطانا

وقال أبو النجم 19 / 424 :

إني وكلُّ شاعرٍ من البشرْ

شيطانه أُنثى وشيطاني ذكر

وأنشد الخالع فيما نحن فيه لبعض الرُّجَّاز 19 / 425 :

إنَّ الشياطين أتوني أربعة

في غلس الليل وفيهم زوبعة

ومن مذاهبهم؛ أنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره فيأخذون روثةً ويفتُّونها على رأسه ويقولون :

- روثةٌ راث ثائرك. قال أحدهم 425/19 :

طرحنا عليه الروث والزجر صادقٌ***فراث علينا ثأره والطوائلُ

وفي أمثالههم - لمن ذهب دمه هدراً - (هو قتيل العين). قال الشاعر 19 / 425 :

ولا أكن كقتيل العين وسطكمُ***ولا ذبيحة تشريقٍ وتنحار

ومن مذاهبهم؛ اعتقادهم بالخرزات والأحجار والرُقي والعزائم؛ فمنها السلوان - ويُقال السلوة - وهي الخرزة يُسقى العاشق منها فیسلو في زعمهم، وهي بيضاء وشفَّافة. قال الشاعر 425/19 :

ص: 77

جعلتُ العراف اليمامة حكمةَ***وعرَّاف نجدٍ إن هما شفياني

فقالا: نعم نشفي من الداء كلِّهِ***فقاما مع العُوَّادِ يبندرانِ

وقال آخر 426/19 :

سقوني سلوةَ فسلوت عنها***سقى اللّه المنيَّةَ من سقاني

وقال الشمردل 426/19 :

ولقد سُقيتُ بسلوة فكأنما***قال المداوي للخيال بها ازدِد

ومن خرزاتهم (الهتمة) تُجتلَب بها الرجال وتُعْطَف بها قلوبهم، ورُقيتها : [أخذته بالهتمة بالليل زوجٌ وبالنهار أمة].

ومنها : الفطسة والقبَلة والدردبیس. كلُّها لاجتلاب قلوب الرجال. قال الشاعر 426/19 :

جمَّعن من قبَلٍ لهنَّ وفطسةٍ***والدردبیس تمائماً في منظمِ

فانقاد كلُّ مشذب مرس القوى***لحبالهن وكلُّ جردٍ شيظمِ

وقال آخر 19/ 426 :

قطعت القيد والخرزات عني***فمن لي من علاج الدردبيس

[أصل الدردبیس : الداهية، ونُقل إلى هذه القوَّة تأثيرها].

ومن خرزاتهم ( القِرزَحْلة). أنشد ابن الأعربي 19 / 427 :

لا تنفع القِرزحلة العجائزا

إذا قطعن دونها المفاوزا

ص: 78

ومنها الخصمة : خرزة للدخول على السلطان والخصومة، تُجعل تحت فص الخاتم، أو في زر القميص، أو في حمائل السيف، قال أحدهم 19 / 427 :

يُعلّقِ غيري خصمةً في لقائه***ومالي عليكم خصمةٌ غير منطقي

وقالت فارك في زوجها 19 / 428 :

أتبعتهُ إذ رحل العيس ضحى

بعد النواة روثهُ حيث النوى

الروث للرثِّ وللرأي النوى

وقال آخر19 / 428 :

رمت خلفه لما رأت وشك بينهِ***نواةً تلته روثةٌ وحصاةُ

فقالت: نأت منك الديار فلا دنت***وراثت بك الأخبار والرجعاتُ

وحصَّت لك الآثار بعد ظهورها***ولا فارق الترحال منك شتات

وقال آخر يخاطب امرأته 19 / 428 :

لا تقذف خلفي إذا الركب اغتدى

روثةَ عيرٍ وحصاةٍ ونوى

لن يدفع المقدار أسباب الرقى

ولا التهاويل علي جِنِّ الفلا

ص: 79

ص: 80

الضوء الثالث: متفرِّقات

اشارة

ص: 81

ص: 82

توضیحٌ:

هذا لضوء يشتمل على موضوعات متفرقة، وكل موضوع له علاقة بكلامٍ للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في استشهادات ابن أبي الحديد، كما هو الحال في الضوءين السابقين. والمتفرِّقات هي :

الرياء

قال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) - من خطبة له - :«فاحذروا من اللّه ما حذَّركم من نفسه، واخشوه خشيةً ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء، ولا سمعة، فإنه من يعمل لغير اللّه يكله إلى من عمل 312/1».

فاستشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر 1/ 326:

صلى وصام لأمرٍ كان يطلبُه***حتى حواه فلا صلى ولا صاما

الكرم :

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«ولسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خيراً له من المال يُورَثِّه غيرَهُ 313/1».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر 1 / 328:

ص: 83

إذا أنت أعطيت الفتى ثم لم تجد***لديه بفضل الغيث مالك حامدُ

وقَّل عناءً عنك مالا جمعتهُ***إذا كان ميراثا وواراك لاحدُ

وقول حاتم الطائي 1 / 329:

أماويُّ إن يُصبح صدايَ بقفرةٍ***من الأرض لا ماءٌ لديَّ ولا خمرُ

تريْ أن ما أنفقت لم يكُ ضرَّني***وأن يديَّ ما بخلتُ به صفرُ

أماويُّ ما يُغني الثراء عن الفتى***إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وقول أحد المحدثين 1 / 329 :

من اشترى بماله

من الثناء غَبَنَا

أفقرهُ سماحه

وذلك الفقر غنی

وقول أبي الطيِّب 1 / 329 :

ذِکْرُ الفتى عمرهُ الثاني وحاجتهُ***ما قاته وفضول العيش إشغالُ

صلة الرحم

ولقوله :«(عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخاصَّة أن يَسُدَّها بالذي لا يُزيده إن أمسكه، ولا يُنقِصُه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته؛ فإنما تَقبض منه عنهم يدٌ واحدة، وتُقبض منهم عنه أيد كثيرة 1 /313».

استشهد ابن أبي الحديد بقول زهير بن أبي سلمی 1 /330 :

ص: 84

ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضله***على قومه يُستغنَ عنه ویُذممِ

وقول طرفة 1 /330 :

وأنتَ على الأدنى شمالٌ عَرِيَّةٌ***شآميَّةٌ تزوي الوجوه بليلُ

وأنت على الأقصى صبي غير مرَّةٍ***تذاءب منها مزرعٌ وأسيلُ

وقال المقنَّع الكندي 1 / 330 :

لهم جُلُّ مالي إن تتابع لي غنى***وإن قلَّ مالي لا أُكلِّفهم رفدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ***وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

الاعتذار

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في معنى قتل عثمان : «لو أمرت به لكنتُ قاتلاً،

أو نهيت عنه لكنتُ ناصراً، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني، وأنا جامعٌ لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأساء الجزع، واللّه حکمٌ واقع في المستأثِر والجازع 2 / 126».

استشهد ابن أبي الحديد بالخبر الآتي :

[قال ضابي بن الحارث البرجي، إذ كان قد خرج على عثمان فحبسه لأنه هجا قوماً فنسبهم إلى أن كلباً يأتي أُمَّهم، فقال لهم 2/ 160:

فأُمُّکُمُ لا تتركوها وكلبكم***فإنَّ عقوق الوالدين كبيرُ

وذكر الخير رواية أُخرى تقول أن ضابي بن الحارث البرجي، استعار - في

ص: 85

زمان الوليد بن عقبة - كلباً من قومٍ من الأنصار، يُدعى ( فرحان) لصيد الضباء، فحبسه عنهم فناغره الأنصاريون، واستغاثوا عليه بقومه فكاثروه فانتزعوه منه، وردُّوه على الأنصار، فهجاهم وقال في ذلك :

تجشَّم دوني وفد فرحان خطَّةً***تفيل لها الوجناء وهي حسيرُ

فباتوا شباعاً ناعمين كأنما***حباهم ببيت المُرزبان أميرُ

فكلبُكُمُ لا تتركوا فهوُ أُمُّكم***فإن عقوق الأُمَّهات كبيرُ

فاستعدوا عليه عثمان فأرسل إليه فعزَّره فحبسه، كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما زال في الحبس حتى مات فيه.

وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه :

هممت ولم أفعل وكدتُ وليتني***فعلتُ وولَّيت البكاء قلاقله

وقائلةٍ قد مات في السجن ضابئٌ***ألا مَن لخصمٍ مَن يجد من يُجادله

وقائلةٍ ولا یُبعد اللّه ضابئاً***فنعم الفتی تخلوبه وتحاوله

المغالاة

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لما عزم على حرب الخوارج، وقيل له : إن القوم قد عبروا جسر النهروان - :«مصارعهم دون النطفة، واللّه لا يُغلب منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة.

روى أبو العباس إذ قال : لقد كان عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عثر على قومٍ خرجوا من محبَّته باستحواذ الشيطان عليهم، إلى أن كفروا بربِّهم، وجحدوا ما جاء به

ص: 86

نبيّهم، واتخذوه ربَّاً وإلهاً، وقالوا : فاستتابهم وتوعَّدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حُفَراً ودخَّن عليهم فيها طمعا في رجوعهم، فأبوا فمرقهم بالنار، وقال :

ألا ترون قد حفرتُ حُفَرا

إني – إذن - رأيت أمراً منکَرا

وقَدْتُ ناري ودعوتُ قنبرا

وروى أبو العباس : أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، مر بهم وهم يأكلون في شهر رمضان فقال :

- أسفرٌ أم مرضى؟

قالوا :

- ولا واحدة منهما.

قال :

- أفمن أهل الكتاب أنتم؟

قالوا :

- لا.

قال :

- فما بال الأكل في شهر رمضان نهاراً ؟

قالوا :

ص: 87

- أنت أنت.

لم يزيدوه على ذلك.

ففهم مرادهم، ونزل عن فرسه فألصق خدَّه بالتراب، ثم قال :

- ویلکم! أنا عبدٌ من عبيد اللّه، وارجعوا إلى الإسلام.

فأبوا، فدعاهم مراراً فأقاموا على أمرهم، فنهض عنهم ثمَّ قال :

- شدُّوهم وثاقاً، وعليَّ بالفعلة والنار والحطب.

ثم أمر بحفر بئرين فحُفِرَتا، فجعل إحداهما سرباً والأُخرى (10) مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة، وفتح بينهما فتحاً، وألقى النار في الخطب، فدخَّن عليهم، وجعل يهتف بهم ويُناشدهم :

- ارجعوا إلى الإسلام.

فأمر بالحطب والنار، وأُلقيَ عليهم، فاحترقوا، فقال الشاعره /5-6:

لِتَرْمِ بيَ المنيَّهُ حيث شاءت***إذا لم ترمِ بي في الحفرتينِ

إذا ما حشَّتا حطباً بنارٍ***فذاك الموت فقداً غير دينِ

فلم يبرح واقفاً عليهم حتى صاروا حمما.

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«واللّه لو شئت لأخبرت كلَّ رجلٍ منکم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه الفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ألا وإني مفضية إلى الخاصَّة، ممن يُؤمَن ذلك منه، والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق،

ص: 88

ما أنطق إلّا صادقا.

قال شاعرهم 10 / 13 :

ومن أهلك عاداً وثمواًة بدواهيه

ومن كلَّم موسى فوق طورٍ إذ يُناديه

ومن قال على المنبر يوماً، وهوَ راقيه،

سلوني أيُّها الناس فحاروا في معانيه

وقال أحد شعرائهم 10 / 13:

إنما خالق الخلائق من زع***زع أركان حصن خيبر جذبا

قد رضينا به إماماً ومولى***وسجدنا له إلهاً وربَّا

بين معاوية وعمرو بن العاص

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فأجمع رأي ملئکم على أن اختاروا رجلين؛ فأخذنا عليهما أن يُجعجعا عند القرآن ولا يُجاوزاه، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه، فتاها عنه وتركا الحقَّ وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما والاعوجاج رأيهما، وقد سبق استنثارنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما، وأتيا بما لا يُعْرف من معكوس الحكم.

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[بعث معاوية كتابا إلى عمرو بن العاص، وهو على مصر، إذ كتب إليه يقول 10 /55 - 57 : (أما بعد؛ فإنَّ سُؤَّال أهل الحجاز وزوَّار أهل العراق كثروا

ص: 89

عليَّ، وليس عندي فضلٌ من أُعطيات الحجاز، فأعنِّي بخراج مصر هذه السنة).

فكتب عمرو إليه :

معاويَ إن تدريك نفس شحيحةٌ***فما مصر إلَّا كالهباءة في الذبِّ

وما نِلتها عفواً ولكن شرطتُها***وقد وارت الحرب العدوان على قطبِ

ولولا دفاعي الأشعريَّ ورهطهُ***لألفيتها ترغو كراغية السقب]

ثم كتب في ظاهر الكتاب :

معاويَ حظيَّ لا تغفل***وعن سُنن الحق لا تعدلِ

أتنسى مخادعتي الأشعري***وما كان في دومة الجندل؟

ألين فيطمع في تمرتي***وسهميَ قد خاض في المقتلِ

فألْمُظهُ عسلاً بارداً***وأخبأُ من تحتهِ حنظلي

وأعليته المنبر المشمخر***کرجع الحسام إلى المفصلِ

فأضحى لصاحبه خالعاً***كخلع النعال من الأرجلِ

وأثبتُّهافيك موروثةً***ثُبوت الخواتم في الأنملِ

وهبت لغيريَ وزن الحبال***وأعطيتني زنة الخردلِ

وأن عليَّاً غدا خصمنا***سيحتجُّ باللّه والمُرسَل

وما دام عثمان مُنجٍ لنا***فليس عن الحقُّ من مزحلِ

بين مصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان

من كلام له (عَلَيهِ السَّلَامُ) کلَّم به طلحة والزبير - بعد بیعته بالخلافة - وقد

ص: 90

عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأُمور بهما، قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«لقد نِقتما يسيراً وأرجأتما كثيراً، ألا تُخبراني أيَّ شيءٍ كان لكما فيه حق دفعتُكما عنه؟ أم أيُّ قسمٍ استأثرت عليكما به؟ أو أيُّ حقٍّ رفعه إلىَّ أحد المسلمين ضعفتُ عنه ؟ أم جهلته؟ أم أخطأتُ بابه؟».

ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «رحم اللّه رجلاً رأي حقَّاً فأعان عليه، أو رأي جوراً فردَّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه».

* كتب مصعب بن الزبير كتاباً إلى عبد الملك يقول فيه 11 / 8 و 18 :

ستعلم يا فتى الزرقاء أني***سأهتكُ من حلائلك الحجابا

وأترك بلدةً أصبحتُ فيها***تَهوَّر من جوانبها خرابا

فكتب عبد الملك إليه :

أتوعدني ولم أرَ مثلَ يومي***خشاش الطير يوعدُه العقابا؟

متى تلقَ العقاب خشاش طيرٍ***يُهتِّكْ عن مقاتلها الحجابا

أتوعد بالذئاب أُسود غابٍ***وأُسْدُ الغاب تلتهم الذئابا؟

إفشاءُ السر

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«وذلك زمانٌ لا ينجو فيه إلَّا كلُّ مُؤمِّنٍ نومةً؛ إن شهد لم يعرف، وإن غاب لم يُفتقد، أُولئك مصابيح الهدى ويفتح لهم أبواب رحمته ويكشف عنهم ضرَّاء نقمته».

استشهد ابن أبي الحديد بقول صالح بن عبد القُدُّوس 13/7 :

ص: 91

من يُخبِّرك بشتمٍ عن أخٍ***فهوَ الشاتم لا من شتمكْ

ذاك شيءٌ لم يواجهك به***إنما اللوم على من أعلمك

كيف لم ينصركِ إن كان أخاَ؟***ذا حفاظٌ عند من قد ظلمك

وقول طريح بن إسماعيل الثقفي 13/7 :

إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا***شرَّاً أذاعوا وإن لم يعلمواكذبوا

وقول الشاعر 221/11 :

كتمتُ حبَّك حتى منك تكرمةً***ثم استوى فيك إسراري وإعلاني

كأنه غاض حتى فاض من جسدي***فصار سُقمي به في جسم كتمانِ

الخمر، وعمر بن الخطاب

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«للّه بلاد فلان، لقد قُوِّمِ الأوَد، وداوس العمد، وأقام السُنَّة، وخلَّف الفتنة، ذهب نقيَّ الثوب قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرَّها، أدَّى إلى اللّه طاعته، واتَّقاه بحقِّه، رحل وتركهم في طرقٍ متشعِّبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي 12 /13».

فاستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[إن عمر بن الخطاب استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، فبلغه عنه الشعر الذي قاله، وهو 12 / 23 – 24 :

ص: 92

ومن مبلغ الحسناء أن حليلها***بميسان يشقى من زجاجٍ وحنتمِ

إذا شئت غنَّت في دهاقین قريةٍ***وصنَّاجةٍ تحدو عل كلِّ منسمِ

فإن كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني***ولا تسقني بالأكبر المتثلِّمِ

لعل أمير المؤمنين يسوؤهُ***تنادمنا في الجوسق المتهدِّمِ

فكتب إليه :

[بسم اللّه الرحمن الرحيم «حَسَم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

أما بعد : فقد بلغني قولك :

(لعلَّ أمير المؤمنين يسوؤهُ)

وأيم اللّه أنه ليسوؤني، فأقدم فقد عزلتك]

فلما قدم عليه قال :

- يا أمير المؤمنين، واللّه ما شربتها قط، وإنما هو شعرٌ طفح على لساني، وإنا الشاعر.

فقال عمر:

- أظنُّ ذلك، ولا تعمل لي على عملٍ أبداً.

واستعمل عمر رجلاً من قريش على عمل فبلغه أنه قال :

اسقيني شربهً تُروِّي عظامي***واسقِ باللّه مثلها ابن هشامِ

فأشخصه إليه، ففطن القرشيُّ فضم إليه بيتاً آخر، فلما مثل بين يديه قال

ص: 93

له :

أنت القائل :

(اسقني شربةً تُروِّي عظامي )؟

قال :

- نعم يا أمير المؤمنين فهلَّا أبلغك الواشي ما بعده؟

قال : ما الذي بعده؟

قال :

عسلاً باردة بماءٍ غمامٍ***إنني لا أُحبُّ شرب المُدامِ

قال :

- اللّه اللّه.

- ارجع إلى عملك.

وبینا كان عمر يعسُّ ذات ليلةٍ انتهى إلى باب متجافٍ، وامرأةٌ تغني نسوة 12 /27 :

هل من سبيل إلى خمرٍ فأشربها***أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجَّاجِ

فقال عمر:

- أما عشت فلا.

فنفاه إلى البصرة ومن هناك كتب إلى عمر :

ص: 94

لعمري لئن سيَّرتني وحرمتني***لما نلت من عرقي عليك حرامُ

أن غنَّت الذلفاء يوماً بغنيةٍ***وبعض أمانيِّ النساء غرامُ

ظننتَ بيَ الظنَّ الذي ليس بعدهُ***بقاءٌ فمالي في النديِّ كلامُ

وأصبحتُ منفياً على غير ريبة***وقد كان لي في المکَّتين مقامُ

سيمنعني مما تظن تكرُّمي***وآباء صدقٍ سائغون کرامُ

ويمنعها مما تمنَّت صلاتها***وحالٌ لها في دينها وصيامُ

فهاتان حالانا فهل أنت راجعٌ؟***فقد جُبَّ مني کاهلٌ وسنامُ

فقال عمر:

- أما ولِّيَ ولايةَ فلا.

وأقطعه أرضاً بالبصرة ودارا.

ولما قُتل عمر ركب راحلته ولحق بالمدينة.

وكان عمر أصلع فلما حلق وفرة نصر بن حجَّاج قال نصر، وكان شاعراً 28/12 :

تضنَّ ابن خطَّابٍ عليَّ بحجَّةٍ***إذا رُجِّلتْ تهتزُّ هزَّ السلاسلِ

فصلَّع رأساً لم يصلَّعه ربُّهُ***یرفُّ رفيفاً بعد أسود جائلِ

فقد حسد الغرمان أسود لم يكن***إذا ما مشى بالفرع بالمتخايلِ

وخافت المرأة، التي سمع عمر منها ما سمع، أن يبدر إليها منه شيء فدسَّت إليه أبياتاً 12 / 29:

ص: 95

قل للأمير الذي تُخشى بوادرهُ***مالي وللخمر أو نصر بن حجَّاجِ

إني بُليت - أبا حفصٍ - بغيرهما***شرب الحليب وطرفٍ فاترٍ ساجٍ

لا تجعل الظنَّ حقَّاً أو تبيِّنه***إن السبيل سبيل الخائف الراجي

ما منيةٌ قلتها عرضا بضائرةٍ***والناس من هالك قدماً ومن ناج

إن الهوى رعية التقوى نقیِّدهُ***حتى أقرَّ بألجسام وإسراجِ

فبکی عمر وقال : الحمد للّه الذي قيَّد الهوى بالتقوى.

* ومن عهدٍ لهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى محمد بن أبي بكر رحمه اللّه حين قلَّده مصر 163/10 :

«... واعلم یا محمد بن أبي بكر، إني ولَّيتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر فأنت محقوقٌ أن تخالف على نفسك، وأن تنافح عن دينك ولو لم يكن لك إلَّا ساعة من الدهر، ولا تُسخط اللّه برضا أحدٍ من خلقه، فإن في اللّه خلقاً من غيره، وليس من اللّه خلقٌ في غيره»

استشهد ابن أبي الحديد بقول هرمة، الحسن بن زید بن الحسن - وكان والياً على المدينة - عن الحمرة 15 / 169:

نهاني بن الرسول عن المُدام***وأدَّبني بآداب الكرامِ

وقال ليَ اصطبر عنها ودعها***لخوف اللّه لا خوف الأنامِ

وكيف تصبُّري عنها وحبِّي***لها حبُّ تمكَّن في عظامي

أرى طيب الحلال عليَّ خبثاً***وطيب النفس في خبث الحرامِ

ص: 96

* ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«... وإني إلى لقاء اللّه لمشتاق، ولحسن ثوابه المنتظر راج، ولكنني آسي أن يلي هذه الأُمَّة سفهاؤها وفُجَّارها، فيتَّخذوا مال اللّه دولاً وعباده خَوَلَاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً؛ فإن منهم الذي شرب منكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الحطيأة يذكر الوليد بن عقبة 17 / 220 – 229 :

شهد الحطيأة يوم يلقى ربَّه***أن الوليد أحقُّ بالعذرِ

نادى وقد تمَّت صلاتهمُ***أزيدكمُ - مكراً - ولم يدرِ

فأبوا أبا وهبٍ ولو أذنوا***لقرنت بين الشفع والوترِ

كفُّوا عتابك إذ جُزيت ولو***تركوا عنانك لم تزل تجري

قرَّعتَ مكذوباً عليك ولم***تردد إلى عذرِ ولا فقرِ

وقوله فيه أيضاً 230/17 :

تكلَّم في الصلاة وزاد فيها***علانيةً وأعلن بالنفاقِ

ومجَّ الخمري َسننِ المصلَّى***ونادى والجميع إلى افتراقِ

أزيدكُم على أن تحمدوني***فما لكمُ ومالي من خلاقِ

وقيل إن الولید شرب بالكوفة وقام ليصلِّي بهم الفجر في المسجد الجامع، فصلِّی بهم أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال :

ص: 97

- أُزيكم؟

وتقيَّأ في المحراب بعد أن قرأ فيهم رافعا صوته في الصلات17 / 230:

غلق القلب الربابا***بعد ما شابت وشابا

فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره وشهدوا عليه بشرب الخمر، فأمر عثمان بضرب الحد، قال الوليد، بعدما شهدوا عليه، :

أللهم أنهم قد شهدوا عليَّ بالزور، ولا ترضهم عن أمير ولا تُرض عنهم أميرا.

وقد عکس الخطيأة أبياته فجعلها مدحة للوليد17 / 230 - 231 :

شهد الحطيأة حين يلقى ربَّهُ***أن الوليد أحقُّ بالعذرِ

كفُّوا عنانك إذ جريت ولو***تركوأ عنانك لم تزل تجري

ورأوا شمائل ماجدٍ أنِفٍ يُعطي على الميسور والعسر

فنزعت مكذوباً عليك ولم***تنزع على طمعٍ ولا ذعرِ

وارتجز الوليد يوماً، وهو يسوق بقومٍ يعزِّرونه، منهم عديُّ بن حاتم الطائی 17 / 233:

لا تحسبنَّا قد نسينا الأحقاف

والنشوات من معتَّقٍ صاف

وعزف قيناتٍ عليناعزاف

وكان نصير الطائي نديماً للوليد بن عقبة أيام ولايته بالكوفة، ولما شهدوا

ص: 98

عليه بالسكر من الخمر خرج من الكوفة معزولاً، فقال أبو زبيد يتذكَّر أيامه وندامته 17 / 234 – 235 :

من يرى العيرَ أن تمشي على ظه***ر المروی حداتهنَّ عجالُ

ناعماتٌ والبيت بيت أبي وه***ب خلاءٌ نحنُّ فيه الشمالُ

يعرف الجاهل المضلّلُ أن الى***الدهرَ فيه النكراء والزلزالُ

ليت شعري كذاكم العهد أم كا***ن فيهم عزٌّ لنا وجمالُ

ووجوهٌ تمدُّنا مشرفاتٌ***ونوالٌ إذا أُريدَ نوالُ

أصبح البيت قد تبدَّل بالحي***وجوهاً كأنها الأقيالُ

كلُّ شيء يحتال فيه الرجالُ***غير أنْ ليس للمنايا احتيالُ

ولعمر الإلهِ لوكان للسي***ف مضاءٌ وللسان مقالُ

ما تناسيتك الصفاء ولا الودَّ***ولا حال دونك الإشغالُ

ولحرَّمتُ لحمك المتعضِّ***لة ضلَّ حلمهم ما اغتالوا

قولهم شريك الحرام وقد كا***ن شراب سوء الحرام حلالُ

وابن ظاهر العداوة والشنآ***ن إلّا مقال مالا يُقال

من رجالٍ تعارضوا منكراتٍ***لينالوا الذي أرادوا فنالوا

غير ماطالبين ذحلاً ولكن***مال دهرٌ على أُناسٍ فمالوا

من يخنك الصفاء أو يتبدَّل***أو يزل مثلما يزول الظلالُ

فاعلمن أنني أخوك أخو الودِّ***حياتي حتى تزول الجبالُ

ليس بُخلي عليك يوماً بمالٍ***أبداً ما أقلَّ فعلاً قبالُ

ص: 99

ولك النصر باللسان وبالكفِّ***إذ كان لليدينِ مصالُ

*أذن عمر يوماً للناس، فدخل شيخٌ كبيرٌ يعرج، وهو يقود ناقةٌ رجيعاً يُجاذبها، حتى وقف بين ظهراني الناس، ثم قال :

وأنك مسترعي رعیَّةٌ ***وأنك مدعوٌّ بسيماك يا عمر

لدى يوم شرٍّ شرُّهُ لشرارهِ***وخيرٌ لمن كانت موانسه الخيرُ

فقال عمر:

- لا حول ولا قوَّة إلَّا باللّه.

قال

- عمر بن برَّاقة.

قال :

- ويحك! فما منعك أن تقول {واعلموا أن ما غنمتم من شيءٍ فإن اللّه خمسه وللرسول}؟

ثم قرأها إلى آخرها، وأمر بناقته فقُبضِت، وحمله على غيرها، وكساه وزوَّده.

وبينا عمرٌ يسير في طريق مكَّة يوماً إذا بالشيخ بين يديه يرتجز، ويقول 12 / 41 :

ص: 100

ما أن رأيت كفتى الخطَّابِ

أبرَّ بالدين وبالأحساب

بعد النبيِّ صاحب الكتابِ

*كان عمر بن العاص قد کلَّم عمر بن الخطَّاب في الحطيأة، وكان محبوساً، فأخرجه من السجن، ثم أنشد 41/12 :

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ***زُغبُ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ؟

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ***فاغفر عليك سلام اللّه يا عمرُ

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه***ألق إليه مقاليد النهى البشرُ

ما آثروك بها إذ قدَّموك لها***لكن لأنفسهم كانت بك الأثرُ

* جاءت امرأة إلى عمر بن الخطَّاب فقالت :

- يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وإنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة اللّه.

فقال :

- نعم الزوج زوجك!

فجعلت تکرِّر عليه القول، وهو يكرِّر عليها الجواب.

فقال له کعب بن سور :

- إنها تشكو زوجها في مباعدته إيَّاها عن فراشه، فغطَّى عمرٌ - حينئذ - وجهه وقال :

ص: 101

- قد ولَّيتك الحكم بينهما!

فقال كعب :

- عليَّ بزوجها.

فأُتَي به فقال :

- إن زوجتك هذه تشكوك.

قال : - في طعامٍ أم شراب؟

قال :

- لا.

قالت المرأة 47/12 :

يا أيها القاضي الحكيم رَشَدُهْ

ألهى خليلي عن فراشي مسجدُهْ

زهَّدهُ في مضجعي تعبُّدُهْ

نهاره وليله ما يرقدُهْ

فقال زوجها :

ص: 102

زهَّدني ين فرشها وفي الحَمَلْ

إني امرؤٌ أذهلني ماقد نزل

في سورة النمل وفي السبع الطُوَلْ

وفي كتاب اللّه تخويفٌ جللْ

قال كعب :

إن لها حقَّاً عليك يا رجلْ

تصيبها في أربع لمن عقلْ

فأعطها ذاك ودع عنك العللْ

فقال لعمر :

- إن اللّه أحلَّ من النساء مثنىً وثلاث ورباع، فله ثلاثة أيام ولياليهن، يعبد فيها ربَّه، ولها يومٌ وليلة.

فقال عمر :

- واللّه ما أعلم من أيِّ أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرها، أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد ولَّيتك قضاء البصرة.

*أتي أعرابي عمر فقال :

- إن ناقتي فيها نقباً ودَبَاًة، فاحملني.

فقال له :

- واللّهِ ما ببعيرك من نقب ولا دَبَر.

ص: 103

فقال 62/12 :

أُقسم باللّه أبو حفصٍ عمرْ

ما مسَّها من نقَبٍ ولا دَبَرْ

فاغفر له اللهم إن كان فجرْ

فقال :

- اللهم اغفر لي.

ثم دعاه فحمَّله.

* بينا عمرٍ ذات ليلةٍ سمع امرأةً من سطيح وهي تنشد 63/12 :

تطاول هذا الليل وازورَّ جانبُةْ***وليس إلى جنبي خليلٌ أُلاعبُهْ

فواللّه لولا اللّه تُخشى عواقبُهْ***لزُعْزِعَ من هذا السرير جوانبُهْ

مخافة ربِّي والحياء يصدُّني***وأُكْرِم بعلي أن تُنال مراكبُهْ

ولكنني أخشى رقيباً موکَّلاً***بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبُهْ

ثم جاء إلى ابنته حفصٍ فسألها :

- كم تصير المرأة المُغيَّبة عن بعلها؟

قالت :

أقصاه أربعة أشهر.

فكتب إلى عمَّاله ألَّا تُجمَّر البعوث وأن لا يُغيَّب رجلٌ عن أهله أكثر من أربعة أشهر.

ص: 104

* حجَّ عمر فلما كان بضحنان قال :

- لا إله إلَّا اللّه العليُّ العظيم، المعطي ما يشاء لمن يشاء، أذكر وأنا أرعى إبل الخطَّاب بهذا الوادي في مدرعة - صوف - وكان فظَّاً يُتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصَّرت، وقد أمسيت اليوم وليس بيني وبين اللّه أحد. ثم تمثَّل 12 /64:

لا شيء مما يُرى تبقى بشاشته***يبقى الإله ويُودى المال والولدُ

لم تُغنِ عن هرمزٍ يوما خزائنهُ***والخُلدَ قد حاولت عادٌ فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له***والإنس والجن فيما بينها يردُ

أين الملوك التي كانت منازلها***من كلِّ أوبٍ أليها راكبٌ يفِدُ

حوضٌ هنالك مورودٌ بلاكذِبٍ***لابدَّ من وِرْدِهِ يوماً كما وردوا

*سمع عمر منشدأ ينشد قول طرفة 12 / 65 :

فلولا ثلاثٌ هنَّ عيشة الفتى***وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي

فمنهنَّ يُسقى العاذلون بشربةٍ***كميتٍ متى ما تعلو بالماء تزيدِ

فكرِّي إذا نادى المضاف محنِّباً***كسِيد الفضا نبَّهته المتوسِّدِ

وتقصير يوم الدجنِ والدجن معجبٌ***ببهكنة تحت الطراف الممدَّدِ

فقال :

- وأنا لولا ثلاث من عيشة الفتى لم أحفل من قام عُوَّدي ؛ أن أُجاهد في سبيل اللّه وأن أضع وجهي في التراب اللّه وأن أُجالس قوماً يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر.

ص: 105

*وقف أعرابي على عمر فقال له 12 / 65:

يا إبن خطَّاب جُزيت الجنَّة

أكسُ بنیَّاتي وأُمَّهنَّ

أُقسم باللّه لتفعلنَّ

فقال عمر : - إن لم أفعل يكون ماذا؟

قال :

إذن أبا حفصٍ لأمضينّ.

إذا مضيت يكون ماذا ؟

قال :

تكون في حالي لتُسألنَّ

يوم تكون الأُعطيات منَّة

والواقف المسؤول يذهبنَّ

أما إلى نارٍ وأمَّا جنَّة

فبکی عمر ثم قال الغلامه :

- اعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، واللّه ما أملك ثوباً غيره.

العقوبة

كان عمر، ومن بعده الولاة، إذا أخذوا العَصاة نزعوا عمائمهم، وأقاموا

ص: 106

للناس، حتى جاء زياد فضربهم بالسياط، فحلق مع الضرب، فجاء بشر بن مروان، فكان يصلب تحت الإبطين، ويضرب الأكف بالمسامير، فكتب إليه بعض الجند قومٌ من أهله يستزيدونه، وقد أخرجه بِشر إلى الري فكتب إليهم 12 /45 :

لولا مخافة بِشرٍ أو عقوبتهُ***أو أن يرى شانتيْ كفِّي بمسمارِ

إذن لعطِّلت ثغري ثم زرتكمُ***إن المحبَّ المُعنَّى جد زوَّارِ

فلما جاء الحجَّاج قال : كلُّ هذا لعب، فقتل العُصاة بالسيف.

الوصف

مما نُسب إلى امرئ القيس قوله في وصف الحرب 119/12 :

الحرب أوَّل ما تكون فتيَّةً***تسعى بزينتها لكلِّ جهولِ

حتى إذا استعرت وشبَّ حزامها***عادت عجوزاً غير ذات خليلِ

شمطاء جزَّت رأسها وتنکَّرت***مکروهةَ للشمِّ والتقبيلِ

القضاة

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيِّتك في نفسك، عمن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلَّة، ولا يحصر من الفتى إلى الحق، إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، بأدين فهمٍ دون أقصاه».

فاستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 58/17 – 62 :

[خرج شريك، وهو على قضاء الكوفة، يتلقى الخيزران، وقد أقبلت تريد

ص: 107

الحج، وقد كان استُقضي وهو كاره، فأتى شاهي فأقام بها ثلاثاً، فلم توافِ، فخفَّ زاده وما كان معه، فجعل يُبلِّلهُ بالماء ويأكله بالملح، فقال العلاء بن المنهال الغنوي :

فإن كان الذي قد نلت حقَّاً***بأن قد أكرهوك على القضاءِ

فما لك موضعا في كلِّ يومٍ***تُلقِّي من يحجُّ من النساءِ

مقيما في قرى شاهي ثلاثاً***بلا زادٍ سوی کِسَرٍ وماءِ

وبروايةٍ أُخرى تقول : تقدمت كلثم بنت سریع مولى عمر بن حريث - وكانت جميلة - وأخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير - وهو قاضٍ في الكوفة - فقضى لها على أخيها فقال هذيل الأشجعي 62/17 - 63 :

أتاهم وليدٌ بالشهود يسوقهم***على ما ادعى من سامت المال والخوَلْ

وجاءت إليهِ كلثمٌ وكلامها***شفاءٌ من الداء المخامر والخجلْ

فأدلى وليدٌ عند ذاك بحقِّهِ***وكان وليدٌ ذا سراءٍ وذا جدلْ

فولَّهت القبطيَّ حتى قضى لها***بغير قضاء اللّه في محكم الطِوَلْ

فلو كان من في القصر يعلم علمه***لما استُعمِل القبطيُّ فينا على عمل

له - حين يقضي للنساء - تخاوصٌ***وكان وما فيه التخاوص والحَوَلْ

إذا ذات دلٍّ كلَّمته لحاجةٍ***فهمَّ بأن يقضي، تنحنح أو سعلْ

وبرَّق عينيهِ ولاك لسانه***يرى كلَّ شيءٍ، ما خلا وصلها، جللْ

وبروايةٍ أُخرى تقول : إن أبا دلامة دخل ليشهد عند أُبَي فقال - حين

ص: 108

جلس - بين يديه 62/17 - 63 :

إذا الناس غطَّوْني تغطَّيت عنهمُ***وإن بحثوا عنِّي ففيهم مباحثُ

وإن حفروا بئري حفرت بنارهم***ليعلمَ ما تخفيه تلك النبائث

وبرواية أُخرى تقول : ارتفعت جميلة بنت عبس بن جراد - وكانت جميلة کاسمها - مع خصمٍ لها إلى الشعبي - وهو قاضي عبد الملك - فقضى لها، فقال هذيل الأشجعي 17 / 66:

قد فتى الشعبيُّ لما***رفع الطرف إليها

فتنتهُ بثنايا***ها وقوسيْ حاجبيها

ومشت مشياً رويداً***ثم هزَّت منكبيها

فقضى جوراً على الخص***م ولم بقضِ عليها

فقبض الشعبي عليه وضربه ثلاثين سوطا.

وبرواية أُخرى تقول : إن رجلاً سافر مع أصحابٍ له فلم يرجع حين رجعوا، فاتَّهم أهلُهُ أصحابَهُ، ورفعوه إلى شريح فسألهم البيِّنة على قتله، فارتفعوا إلى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبروه بقول شريح فقال 19/ 122 :

أوردها سعدٌ وسعد مشتملْ

ياسعد لاتروِ بهذاك الإبل

ثم قال : إن أهون السقي التشريع، ثم فرَّق بينهم فسألهم، فاختلفوا، ثم أقرُّوا بقتله، فقتلهم به.

ص: 109

الصدقات

كان مالك بن نويرة والياً على صدقات قومه بني يربوع من قبل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولما بلغه وفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه وقال لهم؛ تربَّصوا بها حتى يقوم قائمٌ بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وننظر ما يكون من أمره، وقد صرَّح بذلك في شعره حيث يقول 17 / 205 :

وقال رجالٌ: سدَّد اليوم مالكٌ***وقال رجالٌ: مالكٌ لم يُسدِّدِ

فقلت: دعوني لا أبا لأبيكمُ***فلم أخطِ رأياً في المقام ولا الندي

وقلت: خذوا أموالكم غير خائفٍ***ولا ناظرٍ فيما يجيء به غدي

فدونكموها إنما هيَ مالكم***مصوَّرةٌ أخلاقها لم تُجدَّدِ

سأجعل نفسي دونما تحذرونه***وأرهنكم – يوماَ بما قلتهُ - يدي

فإن قام بالأمر المجدَّدِ قائمٌ***أطعنا وقلنا: الدَين دَین محمَّد

وما روى أبو جعفر شعراً للخطيل بن أوس، أخي الحطيأة في منع الزكاة، وأن أبا بكرٍ رَّد سؤال العرب ولم يُجبهم، من جملته 17 / 210:

أطعنا رسول اللّه إذ كان بيننا***فيالعباد اللّه ما لأبي بكرِ

أيورثها بكراً إذا مات بعدهُ؟***وتلك - لعمر اللّه - قاصمة الظهرِ

فهلَّا رددتم وفدنا بإجابتةٍ؟***وهلَّا حبستم منه راسية البكرِ؟

فإنَّ الذي سالوکُمُ فمنعتُمُ***لكتم أو احلى لحلف بني فهرِ

ص: 110

الفلسفة

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، على وجودهِ وباشتباههم على أن لا شبه له».

فقال ابن أبي الحديد وهو يرد على الفلاسفة، الذين علَّلوا حركة الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولاً؛ ليُشبِّه بالعقل المجرِّد في كماله، وإنَّ كل ما له بالقوَّة خارجٌ بالفعل 50 و53 – 54 :

تحيَّر أرباب النهي وتعجَّبوا***من الفلك الأقصى لماذا تحرَّكا

فقيل بطبعٍ كالثقيل إذا هوى***وقيل اختياراً والمحقِّق تسلكا

فرُدَّ حديث الطبع إذ كان دائراً***وليس على سمتٍ قويمٍ فيسلكا

وقيل لمن قال اختياراً فما الذي***دعاه إلى أن دار ركضاً فأوشكا

فقالوا لوضعٍ حادثْ يستجدُّهُ***يُعاقب منه مطلباً ثم متركا

فقيل لهم هذا الجنون بعينهِ***ولو رامهُ منا امرؤٌ كان أعفكا

ولو أن إنساناً غدا ليس قصدهُ***سوى الوضع واستخراجه عُدَّ مضحكا

وقال، أيضاً في الرد على من زعم أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رأي اللّه سبحانه بالعين 13 / 54:

ص: 111

عجبت لقوم يزعمون نبيُّهم***رأى ربَّهُ بالعين، تبَّاً لهم تبَّا

وهل تدرك الأبصار غير مكيَّفٍ؟***وكيف تبيح العين ما يمنع القلبا؟

إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا***حسيرأ فطرف العين في كنهه أنبي

الاستجارة

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، من كتاب إلى معاوية جواباً :

«فإسلامنا ما قد سُمع، وجاهتنا لا تُدفع، وكتاب اللّه يجمع لنا ما شذَّ عنا، وهو قوله سبحانه وتعالى :

{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }

وقوله تعالى :

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }.

فنحن مرَّةً أولى بالقرابة وتارةَ أولى بالطاعه».

فاستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 182/15 - 230 :

[منع حرب بن أُميَّة تاجراً اسمه ابن حاجب زرارة التميمي من دخول مكة؛ لأنه سبقه في اجتياز العقبة. ولما كان متجره وداره في مكة قصد الزبير بن عبد المطلب وأناخ ناقته ببابه فرغت الناقة، فخرج إليه الزبير فقال :

- أمستجيرٌ فتجار أم طالب قِرى فتُقری؟

فقال 15 / 230 :

ص: 112

لاقيتُ حربأ بالثنيَّة مقبلاً***والليل أبلج نوره للساري

فعلا بصوتٍ واكتني ليروعني***ودعا بدعوة معلنٍ وشعارِ

فتركته خلفي وجزت أمامهُ***وكذاك كنت أكون في الأسفارِ

فمضى يُهدِّدني ويمنع مكَّةً***أن لا أحلَّ بها بدار قرارِ

فتركتهُ كالكلب ينبح وحدهُ***وأتيت قرمَ مکارمٍ وفخارِ

ليثاً هزبرأ يُستَجار بقُربهِ***رحب المباعة مكرماً للجارِ

وحلفت بالبيت العتيق وحجَّةٍ***وبزمزمٍ والحجر والأستارِ]

فقال الزبير:

- اذهب إلى المنزل فقد أجرتك.

إلى آخر الرواية في ص231.

وبروايةٍ أُخرى تقول :

[إن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب بن هاشم أركاحاً له بمكَّة - وهي الساحات - فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب، فأقبل معه سبعون راكباً فطلبوا منه ردَّها فردَّها، فقال عبد المطلب 15 / 232 :

تأبَّى مازنٌ وبنوعديٍّ***وذبيان بن تيم اللاة ضيمي

وزادت مالكٌ حتى تناهت***ونکَّب بعد نوفل عن حريمي]

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، من كتاب إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يُريد خديعته باستلحاقه :

ص: 113

«وقد عرفت أن معاوية كتب إليك ينزل لبَّك، ويستغلُّ غربك، فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرْءَ من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ليقتحم غفلته، ويستلب غرَّته، وقد كان ابن أبي سفيان في زمن عمر بن أبي الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزعةً من نزعات الشيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بما إرث، والمتعلِّق بما كالواغل المدقَّع، والنوط المذبذب»

فاستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[إنَّ عمر بعث زياداً في إصلاح فساد واقعٍ في اليمن، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبةً لم يُسمع مثلها، وأبو سفیان حاضرٌ وعليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعمر بن العاص، فقال عمر بن العاص :

- للّه أبو هذا الغلام، لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه؛

فقال أبو سفيان :

إنه لقرشي، وأنا لأعرف الذي وضعه في رحم أُمِّه.

فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

- ومن هو؟

قال :

- أنا

فقال :

- مهلاً يا أبا سفيان.

ص: 114

فقال أبو سفيان 16 / 180 :

أما واللّه لولا خوف شخصي***يراني يا عليُّ من الأعادي

لأظهر أمره صخر بن حربٍ***ولم يخفِ المقالة في زيادِ

وقد طالت مجاملتي ثقيفاً***وتركي فيهمُ تمر الفؤادي

وكان زیاد بن أبيه (ابن أبي سفيان) والياً على فارس في زمن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكاتبه معاوية في محاولات في استمالته إلى جانبه فختم أحد كتبه بهذا البيت 16 / 181 :

تنسي أباك وقد شالت نعامته***إذ يخطب الناس والوالي لهم عمرُ

وختم كتاباً آخر بهذا البيت 16 / 185 :

كتاركةٍ بيضها في العراء***وملحفةٍ بيض أُخرى جناحا

وقد أجابه زیاد بكتابٍ لام فيه معاوية وختمه بهذه الأبيات 16 / 186 :

إذا معشري لم ينصفوني وجدتُني***أُدافع عني الضيم ما دمت باقيا

وكم معشرٌ أعيت قناتي عليهمُ***فلاموا وألقوني لدى العزم ماضيا

وهمٍّ به ضاقت صدورٌ فرجتها***وكنت بطبِّي للرجال مداويا

أدافع بالحلم الجهول مكيدةَ***وأخفي له تحت العضاة الدواهيا

فإن شدت مني أدنُ منك وإن تبن***تجدني إذا لم تدنُ منِّي نائيا

فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخطِّ يده ما وثق به، فدخل فقرَّبه وأدناه، وأقرَّه على ولايته ثم استعمله على العراق].

ص: 115

وبرواية أخرى تقول :

[إن زياداً مرَّ - وهو والي البصرة - بأبي العريان العدوي - وكان شيخاً مكفوفاً ذا لسن وعارضة شديدة - ولما تساءل عن هذه الجلبة قيل له أنه زیاد بن أبي سفيان فأنكر أن يكون لأبي سفيان ولد اسمه زياد، فأنفذ إليه زیاد مئتي دينار فسكت ولما مرَّ زياد في الغد في موكبه فوقَّف عليه فسلَّم بكى أبو عريان فقيل له : ما يُبكيك ؟ قال عرفت صوت ابن أبي سفيان في صوت زیاد، فبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى أبي العريان 16 / 188 :

ما ألبثتك الدنانير التي بُعِثت***أن لوَّنتك أبا العريان ألوانا

أمسى إليك زيادٌ في أُرومته***نكرٌ فأصبح ما أنكرت عرفانا

للّه درُّ زیادٍ لو تعجَّلها***كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قُرِئ کتاب معاوية عل بن عريان قال اكتب جوابه یا غلام:

أحدث لنا صلةً تحيي النفوس بها***قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زیادٌ فقد صحَّمت مناسبهُ***عندي فلا أبتغي في الحقِّ بهتانا

من يُسدِ خيراً يُصبهُ حين يفعلهُ***أويُسدِ شرَّاً يُصبهُ حيثما كانا]

وبرواية أخرى تقول :

[دخل بنو أُميَّة وفيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية أيام استلحاق زیاد، فقال له عبد الرحمن :

- لو لم تجد إلَّا الزنج لاستكثرت بكم علينا قلَّةً وذلَّة - يعني على بني أبي

ص: 116

العاص -.

فأقبل معاوية على مروان فقال :

- أخرج عنَّا هذا الخليع.

فقال مروان :

- إي واللّه أنه خليع ما يُطاق.

فقال معاوية :

- واللّه لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق. ألم يبلغني شعره فيَّ وفي زیاد؟

ثم قال مروان :

- أسمعنيه.

فأنشده 189/16 – 190 :

ألا أبلغ معاوية ابن حربٍ***فقد ضاقت - بما يأتي - اليدان

أتغضب أن يُقال أبوك عفٌّ***وترضى أن يُقال أبوك زانِ؟؟

فاشهد أن رحمك من زیادٍ***کرحم الفيل من ولد الأتانِ

واشهد أنها حملت زياداً***وصخرٌ من سميَّة غير دانِ

ثم قال : واللّه لا ارضى عنه حتى يأتي زيادة فيترضَّاه ويعتذر إليه، فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذراً وبعد تمنُّعٍ رضي زياد، فأنشد عبد الرحمن 190/16 - 191 :

ص: 117

إليك أبا المغيرة تبت مما***جرى بالشام من خطل اللسانِ

وأغضبت الخليفة فيك حتى***دعاه فرط غيضٍ أن هماني

فقلت لمن لحاني في اعتذاري***إليك اذهب فشأنك غير شاني

عرفت الحقَّ بعد ضلال رأيي***وبعد الغي من زيغ الجنانِ

أراك أخا وعمَّاً وابن عمٍّ***فما أدري بعيبٍ ما تراني

وأن زيادةً في آل حربٍ***فقد ظفرت بما تأتي اليدانِ

وقال يزيد بن مفرِّغ الحميري في هجائه عبيد اللّه وعبِّاد، ابني زيادة 191/16 -192 :

أأعبَّاد ماللؤم منك توُّلٌ***ولا لك أُمٌّ من قريشٍ ولا أبُ

وقل لعبيد اللّه مالك والدٌ***بحقٍّ ولا يدري امرؤٌ كيف تَنسب

وقال :

شهدت بأن أَمَّك لم تباشر***أبا سفيان واضعة القناعِ

ولكن كان أمرٌ فيك لبسٌ***على حذرٍ شديدٍ وارتياعِ

إذا أودى معاوية ابن حربٍ***فبشِّر شِعب قعبك بالصداع

وقال :

أنَّ زياداً ونافعاً وأبا***بكرة عندي من أعجب العجب

هم رجالٌ ثلاثةٌ خُلِقوا***في رحم أُنثى وكلُّهم لأبِ

ذا قرشيٌّ كما تقول وذا***مولىً وهذا بزعمه عربي

ص: 118

وقال - وكان عبيد اللّه بن زیاد يقول عنه؛ ما شجيت بشيءٍ أشد عليَّ من قول ابن المفرِّغ -:

فکِّر ففي ذاك إن فکَّرت مُعتبرٌ***هل نلت مكرمةً إلَّا بتأميِر

عاشت سُميَّة ما عاشت وما علمت***أن ابنها في قريش في الجماهيرِ

وقال - وقد باع بُرد غلامه لما حبسه عبَّاد بن زیاد بسجستان - :

یا بُردُ ما مسَّنا دهرٌ أضرَّ بنا***من قبلُ هذا ولا بعنا له ولدا

لامتنيَ النفس في بُردٍ فقلت لها***لا تهلكي إثرَ بُردٍ هكذا كمدا

لولا الدعيُّ ولولا ما تعرَّض بي***من الحوادث ما فارقتهُ أبدا

وقال :

أبلغ لديك بني قحطان مهلكةً***عضَّت بأير أبيها سادة اليمن

أضحى دعيُّ زیادٍ فقع قرقرةٍ***يا للعجائب يلهو بابن ذي يزنِ]

وبروايةٍ أُخرى تقول :

[إن عبَّاداً استلحقه زیاد، كما استلحق معاوية زياداً؛ إذ لما أذن لزيادٍ في الحجِّ تجهَّز، فتقدَّم عبَّاد - وكان خرَّازاً - فصار يعرض عليه ويجاوره ويجيبه فقال زیاد :

- ويحك من أنت؟

قال :

- أنا ابنك..!

ص: 119

قال : - ويحك، وأيُّ بنيَّ؟

قال :

- قد وقعت على أمي فلانة وكانت من بني كذا، فولدتني، وكنت في بني قیس بن ثعلبة وأنا ملوكٌ لهم.

فقال : - صدقت.

فبعث فاشتراه، وادَّعاه وألحقه، وعظم أمر عبَّاد حتى ولَّاه معاوية سجستان بعد موت زیاد، فتزوَّج عبَّاد الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي، فقال الشاعر يُخاطب أنيفاً - وكان سیِّد کلب في زمانه 16 / 193 :

أبلغ لديك أبا ترکان مألكةً***أنائما كنت أم بالسمع في صممِ

أنكحتَ عبدَ بني قيسٍ مُهذَّبةً***آباؤها من عليمٍ، معدن الكرمِ

أكنت تجهل عبَّاداً ومحتدهُ؟***لا درَّ درُّك؟ أم أنكحت من عدمِ

أبعد آل أبي سفيان تجعله***صهراً، وبعد بني مروان والحكم؟

أعظم عليك بذا عاراً ومنقصةً***ما دمت حيَّاً وبعد الموت في الرحمِ]

وبروايةٍ أخرى تقول :

[كان سعيد بن سرح شيعةً لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلما قدم زیاد إلى الكوفة طلبه وأخافه فاستجار بالحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوثب زیاد عليه وعلى أخيه وولده

ص: 120

وامرأته فحبسهم وأخذ ماله ونقض داره فكاتبه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وردَّ عليه زیاد يُعنِّفه وينتقص منه فبث الحسن کتاباً إلى معاوية ومعه کتاب زیاد إليه فكتب معاوية إلى زياد كتاباً يأمره فيه أن يرد حق سعيد بن سرح وان يعرف منزلة الحسن من الإسلام، وذيَّل كتابه شعرة من جملته 195/16 :

أما حسنٌ فابن الذي كان قبله***إذا سار، سار الموت حيث يسيرُ

وهل يلد الرئبال إلَّا نظيره***وذا حسنٌ شبهٌ له ونظيرُ

ولكنَّه لو يوزن الحلم والحجا***بأمر لقالوا يذبلٌ وثبیرُ

فأطلقهم ورَّ مالهم].

وبما روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) أن عبد الملك أجرى خيلاً، فسبقه عبَّاد بن زیاد فأنشد عبد الملك 16 / 196 :

سبَّق عبَّادٌ وصلت لحيته وكان خرازة تجور قريته

فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ):

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«بل كانت في أيدينا فدك وكلما أضلَّته السماء فشحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مضانها في غدٍ جدث، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زید فسحتها، وأوسعت يدا حافرها لاحتفضها الحجر والمدر، وسدَّ فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسٌ أروضها بالتقوى لتأتيَ آمنةً يوم الخوف الأكبر وتثبت على

ص: 121

جوانب المزلق».

استشهد ابن أبي الحديد بقول مهیار بن مرزويه الشاعر في قصيدة قالها في موقف أبي بكرٍ وعمر من فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) 208/16 و 235 - 236 :

يا ابنة القوم تراكِ***بالغٌ قتلي رضاكِ

يا ابنة الطاهر لم تق***رعِ بالظلم عصاكِ

غضب اللّه لخطبٍ***ليلة الطف عراكِ

ورعى النار غداً قطَّ***رعى أمس حماكِ

مرَّ لم يعطفه شكوى***[لا]ولا استحيا بكِ

واقتدى الناس به بع***دُ فأردى والداكِ

يا ابنة الراقي إلى السد***رة في ل وح السكاكِ

لهف نفسي وعلى مث***لكِ فلتبكِ البواكي

کیف لم تُقطع یدٌ مدَّ `إليك ابن ضحاكِ

فرحوا يوم أهانو***كِ بماساء أباكِ

ولقد أخبرهم أنَّ***رضاه من رضاكِ

دفعا النص على أر***ثك لما دفعاكِ

وتعرَّضتِ لقدْرٍ***تافهٍ وانتهراكِ

وادَّعيتِ النحلة المش هود فيها بالصكاكِ

فاستشاطا ثم ما إن***كذبا أن كذَّباكِ

ونفى عن بابه الو***اسع شيطاناً نفاكِ

ص: 122

وبقول فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) بعد خطبتها إلى أبي بكر 251/16 :

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثة***لوكنتَ شاهدها لم تكثر الخطبُ

إذا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختلَّ قومك فاشهدهم ولا تطب

فليت بعدك ظلُّ الموت صادفنا***لما قضيت وحالت دونك الكتبُ

ضاقت عليَّ بلادي بعدما رحبت***وسیم سبطاك خسفاً فيه لم تُصبِ

فليت قبلك كان الموت صادفنا***قومٌ تمنَّوا فأُعطوا كلما طلبوا

تجهَّمتنا رجالٌ واسْتُخِفَّ بنا***مذ غبتَ عنَّا وكلَّ الإرث قد عصبوا

استِقراءُ المستقبل

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«ولكنني آسي أن يلي هذه الأُمة سفهاؤها وفجَّارها، فيتخذوا مال اللّه دولاً، وعباده خَوَلاً، والصالحين حرباً، فإن منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجُلِد حدَّاً في الإسلام، وإن منهم من لم يُسْلم حتى رُضخت له على الإسلام الرضائخ».

فاستشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 17 / 220 و 240 - 241:

[إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما انصرف عن غزوة بني المصطلق نزل رجلٌ من المسلمين فساق بالقوم ورجز، ثم آخر فساق بمم ورجز، ثم بدا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يواسي أصحابه فنزل فساق بهم ورجز، وجعل يقول - فيما يقول -:

ص: 123

جُندبٌ وما جندبُ***وإلَّا قطع زيدٌ الخير

فدنا منه أصحابه وقالوا :

- یا رسول اللّه قلت قولاً ندري ما هو؟

قال :

- وما ذاك؟

قالوا :

- کنت تقول :

جُندبٌ وما جُندبُ***وإلَّا قطع زيدٌ الخير

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

«رجلان يكونان في هذه الأُمَّة يضرب أحدهما ضربةً يفرق بين الحق والباطل، وتُقطع يدا آخر في سبيل اللّه، ثم يتبع اللّه آخر جسده بأوله».

وكان زيد هو زيد بن صوهان، وقُطِعت يده في سبيل اللّه يوم جلولاء، وقُتِل يوم الجمل، مع علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وأما جندب هذا فدخل على الولید بن عقبة وعنده ساحر يقال له أبو شیبان، يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطونهم ثم يردُّها، فجاء من خلفه فضربه فقتله، وقال 240/17 - 241:

ص: 124

إلعن وليداً وأباشيبان

وابن حبيشٍ راكب الشيطان

رسول فرعون إلى هامان

* وقيل إن عبد اللّه بن الزبير أُتَي به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنظر في وجهه وقال :«هو هو؟ ليمنعنَّ البيت أو ليموتنَّ دونه».

وقال العقيلي في ذلك 108/20 :

برٌّ يتبيَّن ماقال الرسول له***وذو صلاةٍ يُضاهي وجهه علمُ

حمامةٌ من حمام البيت قاطنةٌ***لا تتبع الناس إن جاروا وإن ظلموا

الشيب والخضاب

سُئل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

«غيِّروا الشيب ولا تَشبَّهوا باليهود».

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«إنما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والدين قُلٌّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار».

ولهذا الكلام قال أنس بن مالك وهو يُخضِّب 18 / 122 - 124 :

نُسوِّد أعلاها وتأبى أُصولها***وليس إلى ردِّ الشباب سبيل

وتقول رواية أُخرى : إن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له :

- لو خضَّبت؟

ص: 125

فلما عاد إلى مكة خضِّب، فقالت له امرأته - نثيلة أُم العباس وضرار :

- ما أحسن هذا الخضاب لو دام.

فقال 18 / 124 :

فلو دام لي هذا الخضاب حمدته***وكان بديلاً من خليلٍ قد انصرمْ

تمتَّعت منه والحياة قصيرةٌ***ولابدَّ من موتٍ - نثيلة - أو هرم

وموت جهيزٍ عاجلٍ لا شوي له***أحبُّ إلينا من مقالكمُ حكم

(يعني أنه صار شيخاً، فصار حكماً بين الناس، من قوله :

لا تغبط المرء أن يقال له***أضحى فلانٌ لسنِّهِ حكما

وروي أن اسماعيل بن خارجة قال لجاريته :

- أخضبيني.

فقالت :

- حتى من أُرقِّعك ؟

فقال 18 / 125؛

غيَّرتِني خَلِقاً أبليت جِدَّتهُ***وهل رأيتِ جديداً لم يعُد خلِقا؟

وقال محمود الورَّاق 18 / 125:

يا خاضب الشيب الذي***في كلِّ ثالثةٍ و يعودُ

إن الخضاب إذا مضى ف***كأنه شيبٌ جديدُ

فدع المشيب وما یُریدُ***فلن تعود كما تريدُ

ص: 126

وقال الشاعر 18 / 125 :

وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم***صبغي ودامت صبغة الأيامِ

وقال آخر 127/18 :

يا أيها الرجل المُغيِّرُ شيبهُ***كيما تُعَدُّ له من الشبَّان

أقصر فلو سوَّدت كلَّ حمامةٍ***بيضاء ما عُدَّت من الغربانِ

وقال البحتري 18 / 125 - 126 :

لابسٌ من شيبه أم ناضِ***ومليحٌ من شيبةٍ أم راضِ

وإذا ما امتعضت من ولع الشيا***ب برأسٍ لم يُثنِ ذا امتعاضِ

ليس يرضى عن الزمان امرؤٌ في***هإلَّا عن غفلةٍ أو تغاض

والبواقي من الليالي وإن خا***لفن شيئاً شبيهةً بالمواضي

وأبت تركيَ الغديِّیات والآ***صال حتى خضبت بالمقراضِ

طال حزني على الشباب وما بيض***من لون صبغة الفضفاض

فهل الحادثات بين عويفٍ***تاركاتي ولبس هذا البياضِ

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عندما قيل له : لو غيِّرت شيبك يا أمير المؤمنين :

«الخضاب زينة في مصيبة برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )».

استشهد أبن أبي الحديد بقول الصابي 230/20 :

ص: 127

خضابٌ تقسمناه بيني وبينها***ولكنَّ شأني خالفٌ فيه شأنها

فيا قبحه إن حل مني بمفرقي***ويا حسنه إن حلَّ منها بنانها

وسحقاً له من لمَّتي حين شانها***وأهلاً به في كفِّها حين زانها

ويقول أبي تمام 230/20 – 231 :

لعب الشيب بالمفارق بل جدَّ***فأبکی تماضراً ولعوبا

خضَّبت خدَّها إلى لؤلؤ ال***عقد إن رأت شواتي خضیبا

كلُّ داءٍ يُرجى الدواء له إلَّا*** الفضيعين ميتةً ومشيبا

يا نسيب الثغام ذنبك أبقى***حسناتي عند الحسان ذنوبا

ولئن عِين ما رأين وقد أن***كرنَ مستنكَراً وعِين معيبا

وبقوله أيضاً 231/20 :

فإن يكن المشيب طغى علينا***وأودى بالبشاشة والشبابِ

فإني لست أدفعه بشيءٍ***يكون عليه أثقل من خضابِ

أردت بأن ذاك وذا عذابٌ***فسلَّطنُ العذاب على العذابِ

وبقوله أيضاً 231/20 :

نسج المشيب له لفاعاً مندفاً***يققاً فقنَّع مذرويه ونصَّفا

نظر الزمان إليه قطَّع دونه***نظر الشقيق تحسُّراً وتلهُّفا

ما اسودَّ حتى ابيضَّ كالكرم الذي***لم يبدُ حتى جيءَ كيما يُقطفا

لما تقوَّفت الخطوب سوادها***ببياضها عبثت به فتفوَّفا

ص: 128

ما كان يخطر قبل ذا في فكرهِ***للبدر قبل تمامه أن يكسفا

وبقوله أيضاً 230/20 – 231 :

غدا الههمُّ مختطَّآً بفوديَّ خطَّةً***طريق الردي منها إلى الموت مهيعُ

هو الزَور يخفي والمعاشر يحتوي***وذو الألف يُقلى، والجديد یُرَقَّعُ

له منظرٌ في العين أبيض ناصعٌ***ولكنَّه في القلب أسود أسفعُ

ونحن نُرجِّيهِ على الكره والرضا***وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع

وقوله أيضاً 20/ 232 :

شعلةٌ في المفارق استودعتني***في صميم الأحشاء ثكلاً صميما

تستثير الهموم ما اكتنُّ منها***صُعَداً وهي تستثير الهموما

غُرَّةٌ مرة ألا إنّما كن***تُ أغرَّ أيام كنتُ بهيما

دقَّةٌ في الحياة تُدعى جلالاَ***مثلما سُمَّي اللديغ سليما

حلَّمتني زعمتُمُ وأراني***قبل هذا التحليم كنتُ حليما

وقول ابن الرومي 231/20 :

لم أُخضِّب الشيب للغواني***أبغي به عندهم ودادا ؟

لكن خضابي على شبابٍ***لبستُ من بعدهِ حدادا

وقول البحتري 20 / 232 :

ص: 129

بان الشباب فلا عينٌ ولا أثرٌ***إلَّا بقيَّة بُردٍ منه أسمالِ

قد كدتُ أُخرجهُ عن منتهى عددي***يأساً وأُسقطهُ إذ فات من بالي

سوء العواقب یأسٌ قبلهُ أملٌ***وأعضل الداء نكسٌ بعد إبلالِ

والمرءُ طاعةُ أيامٍ تُنقِّلهُ***تنقُّلَ الظلِّ من حالٍ إلى حالِ

وقول الصابلي يذكر الخضاب 20/ 232 :

خضِّبتُ شيبي للتعلُّق بالصبا***وأوهمتُ من أهواه أنِّي لم أشِبْ

فلما ادعي مني الشباب شبيبةً***إذا صَلَعي قد صاح من فوقه كذِبْ

فكم طرَّةٍ طارت ودانت ذوائبٌ***وكم وجنة حالت وماءٌ بها نضب

شواهد بالتزوير يحوين ریَّها***فهجرانهُ عند الأحبَّة قد وجبْ

الأجوبة المسكتة

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول :

[لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أقضى إلى أثاث لم تُرَ مثله وإلى آلات لم يُرَ مثلها، فأراد أن يُرى الناس عظیم ما أنعم اللّه عليه، ويُعرِّفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدارٍ ففُرِشت وفي صحنها قدورٌ يُرتقي إليها بالسلالم، فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحُضين شيخٌ كبير، فلما رآه عبد اللّه بن مسلم قال لأخيه قُتيبة :

ص: 130

- إإذن لي في معاتبته :

قال :

- لا تردَّه لأنه خبيث الجواب.

فأبي عبد اللّه إلَّا أن يأذن له، فقال 152/18 - 153 :

يا أبا ساسان، أتعرف الذي يقول :

عُزِلنا وأُمِّرنا وبكر بن وائلٍ***تجرُّ حضاها تبتغي من تُحالفُهْ

قال :

أجل، وأعرف الذي يقول :

بأدنى العزم قاد بنو قُشَيْرٍ***ومن كانت له أسری کلابِ

وخيبة من يخيب على غنيٍّ***وباهلة بن يعصر والطلابِ

قال :

- أفتعرف الذي يقول؟

كأن فقاع الأزد حول ابن مسمع***إذا عرفت أفواه بكر بن وائلِ

قال :

- نعم أعرفه وأعرف الذي يقول :

قومٌ قتيبةُ أُمُّهم وأبوهم***لولا قُتيبة أصبحوا في مجهلِ

قال :

- أما الشعر فأرك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟

ص: 131

قال :

- أقرأ منه الأكثر الأطيب :«هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا».

فأغضبه فقال :

- واللّه بلغني أن امرأة الحضين حُملت إليه، وهي حبلى من غيره.

فما تحرَّك الشيخ عن هیأته الأُولى ثم قال على رسله :

- فما يكون : تلد غلاماً على فراشي، فيُقال : فلان بن الحضين كما يُقال : عبد اللّه بن مسلم، فأقبل قتيبة على عبد اللّه وقال :

- لا يُبعد اللّه غيرك !

المسك

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«نِعْمَ الطِيب المسك؛ خفيفٌ حمله، عَطِرٌ ريحُه».

استشهد ابن أبي الحديد بما أنشد المتوكِّل، وهو يُناول أحمد بن فنن فأرة مسك 342/19 :

لئن كان هذا طيبنا وهو طيِّبٌ***لقد طيِّبته من يديك الأناملُ

وبرواية تقول 342/19 - 343:

[شمَّ مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري من أُخته هند بنت أسماء ريحاً غالية، وكانت تحت الحجاج، فقال :

ص: 132

- علِّميني طِيبك. قالت :

لا افعل، أتريد أن تُعلِّمه جواريك؟ هو لك عندي ما أردته. ثم ضحكت وقالت :

واللّه ما تعلِّمته إلَّا من شعرك حيث تقول :

أطيب الطِيب طِيب أُمِّ أبانٍ***فأرمسك بعنبرٍ مسحوق

خلطتُه بعودها وبيانٍ***فهو أحوى على اليدين شريقِ ]

وبما قيل :

[إن عمر بن عبد العزيز - في إمارته على المدينة - يجعل المسك بين قدميه ونعله، فقال فيه الشاعر يمدحه 19 /343:

له نَعَلٌ لا يطبيَ الكلب ريحها***وإن وضِعت في مجلس القوم شُمَّتِ]

وبروايةٍ أُخرى تقول 19 / 344 : [سمع عمر قول عبد بني الحسحاس :

وهبَّت شمالٌ آخر الليل قرَّةٌ***ولا ثوب إلَّا درعها وردائيا

فما زال بُردي طيِّبا من ثيابها***مدى الحول حتى نهَّج البرد باليا

فقال له :

- ويحك، إنك مقتول.

فلم تمضِ عليه أيام حتى قُتِل]

وبروايةٍ أخرى تقول 19 / 344 - 345:

ص: 133

[عرضت مدنية لكُثَيِّر، فقالت : أنت القائل؟

فما روضةٌ بالحزن طيبة الثري***يمجُّ الندى جثجاثها وعرارها

بأطيب من أردان عزَّة موهناً***وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها

لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلي الحلِّ لطابت، هلاً قلت كما قال سيِّدك امرؤ القيس :

ألم ترياني كلما جئت طارقاً***وجدتُ لها طِيباً وإن لم تُطَيَّبِ

واستشهد بقول شاعر 19 / 347:

والمسك بيناتراه ممتهناً***بنهر عطَّاره وساحقهِ

حتى تراه في عارضي ملكٍ***أو موضع التاج من مفارقهِ

وبقول الصنوبري في استهداء المسك 19 / 347 :

المسك أشبه شيءٍ بالشباب فهب***بعض الشباب لبعض العصبة الشيبِ

و :

كأن دخان الندِّ ما بين جمره***بقايا ضباب في رياض شقيقِ

وقول أبي العباس الأعمى 19 / 348 :

ليت شعري من أين رائحة المس***ك وما أن أخال بالخيف أُنس

حيث غابت بنو أُميَّة عنه***والبهاليل من بني عبد شمسِ

خطباءٌ على المنابر فُرسا***نُ قالةٍ غیر خُرْسِ

بحلومٍ مثل الجبالِ رزانٍ***ووجوهٍ مثل الدنانير ملسِ

وقول المسيَّب بن عَلَس 348/19 – 349 :

ص: 134

تبيت الملوك على عتبها***وشيبان إن غضبت تعتبُ

وكالشهد بالراح ألفاظهم***وأخلاقهم منهما أعذبُ

وكالمسك تُرْبُ مقاماتهم***وشربُ قبورهمُ أطيبُ

وقول العباس بن الأحنف 349/19 :

وأنت إذا ما وطئت التراب***كأنَّ ترابك للناس طيبُ

وقول أحد الشعراء وهو يهجو العمال في أيام عمر 349/19 :

نؤوبُ إذا آبوا ونغزو إذا غزوا***فأنَّى لهم وفرٌ ولسنا ذوي وفرِ

إذا التاجر الداري جاء بفارةٍ***من المسك راحت في مفارقهم تجري

وقول الشاعر في فأرة الإبل 350/19 :

كأنَّ فأرة مسكٍ في مباءتها***إذا بدا من ضياء الصبح تنتشرُ

وقول عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري 350/19 :

لو كنت أحمل خمراً حين زرتكمُ***لم ينكر الكلب إني صاحب الدارِ

لكن أتيت وريح المسك يقدمني***والعنبر الورد مشبوباً على النارِ

فأنكر الكلب ريحي حين خالطني***وكان يألف ريح الزقِّ والفارِ

وقول سلمة بن عيَّاش لجعفر بن سليمان 19 / 351:

فما شمَّ أنفي ريح كفٌّ رأيتها***من الناس إلَّا ريح كفّك أطيبُ

ص: 135

عبد اللّه بن الزبير

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«ما زال الزبير رجلاً منَّا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه».

استشهد ابن أبي الحديد بالرواية التي تقول 102/20 :

[... بويع لعبد اللّه بن الزبير في سنة أربعٍ وستين في قول وخمسٍ وستين في قولٍ ثانٍ، ولما كان اليوم الذي قُتِل فيه دخلت على أُمه في المسجد فحثَّته على أن لا يقبل الذل مخافة القتل.

فخرج ونصب له مصراع عند الكعبة، فأتاه رجل من قريش فقال له :

- واللّه لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم عن آخركم، وهل حرمة البيت كحرمة الحرم؟ ثم أنشد 20 / 105 :

ولست بمبتاع الحياة بسبَّةٍ***ولا مرتقٍ من خشية اللّه سُلَّما

ثم شد عليه أصحاب الحجاج، فحمل عليهم فصار يضربهم بسيفين حتى أخرجهم من المسجد، ثم انصرف وهو يقول 105/20 :

لو كان قرني واحدٌ أرديته***أوردته الموت وقد أذكيته

ثم عاد فحمل عليهم فأخرجهم من المسجد بعد دخوله ثم انصرف وهو يقول 20 / 105 :

ولسنا على الأعقاب تُدمي كلومنا***ولكن على أعقابنا تقطر الدِما

وحماه موليان له، فكان أحدهما يقول 106/20 :

ص: 136

العبد يحمي ربَّه ويحتمي

وكان أهل الشام وهم يُقاتلون عبد اللّه في مكة يصيحون :

يا ابن ذات النطاقين.

يضنُّونه عيباً فقال لهم :

إني وإياكم لكما قال أبو ذؤيب :

وعيَّرني الواشون أني أُحبها***وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها

فإن أعتذر عنها فإني مكذِّبٌ***وإن تعتذر يُردَ عليك اعتذارها

وزعموا أن عبد اللّه بن الزبير لما ولد أُتي به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنظر في وجهه وقال :

- هو هو لمنعني البيت وليموتنَّ دونه.

وقال العقيلي في ذلك، وقد نقلناه في فقرة التوقُّعات المستقبلية 108/20 :

برٌّ تبیَّن ما قال الرسول له***وذو صلاةٍ يُضاهي وجهه علمُ

حمامةٌ من حمام البيت قاطنةٌ***لا تتبع الناس إن جاروا وإن ظلموا

وخطب الحجاج بعد قتله زجلة بنت منظور بن زیَّان بن سيَّار الفزارية، وهي أم هاشم بن عبد اللّه بن الزبير، فقلعت ثنيتها وردَّته وقالت :

- ماذا يُريد إلى ذلقاء ثكلى حرَّي. وقالت 109/20 :

أبعد عائذ بيت اللّه تخطبني***جهلا جهلت وغبُّ الجهل مذمومُ

ص: 137

فاذهب إليك فإني غير ناكحةٍ***بعد ابن أسماء ما استنَّ الدياميمُ

من يجعل العير مصفرَّا جحافله***مثل الجواد وفضل اللّه مقسومُ]

* سمع معاوية رجلاً ينشد 111/20 :

ابن رقشٍ ماجدٌ سميدع***يأبى فيعطي عن يي ويمنعُ

فقال :

- ذلك عبد اللّه بن الزبير.]

*لما كان يوم الثلاثاء، صبيحة سبع عشرة من جمادي الأُولى سنة ثلاث وسبعين، وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يُصلي الليل، ثم تقلَّد سيفه فصلي الفجر، وبعدها خطب في قومه ثم قال :

أبي لابن سلمى أنه غير خالدٍ***يُلاقي المنايا أيَّ وجهٍ تيمَّما

فلست بمبتاع الحياة بسبَّةٍ***ولا مرتقٍ من خشية الموت سُلَّما

*كان عبد اللّه بن الزبير شديد البخل، كانُ يطعم جنده تمرا، ويأمرهم بالحرب، فإذا فرُّوا من وقع السيوف لاحقهم وقال لهم :

- أكلتم تمري وعصيتم أمري.

فقال أحدهم 123/20 :

ألم ترَ عبد اللّه - واللّه غالبٌ***على أمره - يبغي الخلافة بالتمرِ

*خطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر فعرَّض ببني هاشم، فقال ابن عباس : يا ابن الزبير 130/20 :

ص: 138

قد أنصف الفارة من رماها

إنَّا إذا ما فئةً نلقاها

نردُّ أُولاهاعلي أُخراها

حتى تصير حرضاً دعواها

*خطب عبد اللّه بن الزبير أيام یزید بن معاوية فقال :

(یزید القرود، یزید الفهود، يزيد الخمور، يزيد الفجور، أما واللّه لقد بلغني أنه لا يزال مخموراً يخطب الناس وهو طافحٌ في سكره).

فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فجهَّز جيش الحرَّة وهو عشرون ألف وقال 20/ 133 – 134 :

أبلغ أبا بكرٍ إذا الجيش انبری

وأخذ القوم على وادي القرى

عشرين ألفاً بین کهلٍ وفتى

أجمع سكرانٍ من القوم ترى

أم جمع ليثٍ دونه ليث الشرى

*لما خرج الحسين من مكة إلى العراق ضرب عبد اللّه بن عباس بيده على منکب ابن الزبير وقال :

يالك من قبَّرةٍ بمعبرِ***خلالكِ الجوُّ فبيضي واصفري

هذا الحسين سائرٌ فأبشري***ونقِّري ماشئتِ أن تنقِّري

ص: 139

*دخل عبد اللّه بن الزبير على معاوية فقال :

- اسمع أبياتا قلتها أُعاتبك فيها.

قال :

- هاتها.

فأنشد 135/20 :

لعمريَ ما أدري وأني أُؤجِّلُ***على أينا تعدو المنية أولُ

وأني أخوك الدائم العهد لم أزل***أن أعياك خصمٌ أو نبا بك منزل

أُحارب من حاربت من ذي عداوةٍ***وأُحبس يوماً إن حبست وأعقلُ

وإن يؤتني يوماً صفحت إلى غدٍ***ليعقب يومٌ منك آخر مقبلُ

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني***يمينك فانظر أيَّ كفِّ تُبدِّلُ

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته***على طرف الهجران كان يُعقِّل

ويركب حدَّ السيف من أن تُضيمه***إذا لم يكن في شفرة السيف معدل

وكنتُ إذا ما صاحبٌ ملَّ صُحبتي***وبدَّل شرَّاً بالذي كنت أفعلُ

قلبتُ له ظهر المجنَّ ولم أقم***على الضيم إلَّا ريثما أتحوَّل

وفي الناس إن رثَّت حبالك واصلٌ***وفي الأرض عن دار العلا متحوِّلُ

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد***إليه بوجهٍ آخرالدهر تقبلُ

فقال معاوية :

- لقد شعرت بعدي يا أبا خبيب.

ص: 140

وبينا هو كذلك دخل معن بن أوس المُزني فقال له معاوية :

- إيه ! هل أحدثت بعدي شيئاً؟

قال :

- نعم.

قال :

قل:

فأنشد هذه الأبيات فعجب معاوية وقال لابن الزبير :

- ألم تنشدها لنفسك آنفاً؟

فقال :

- أنا سوَّيت المعاني وهو ألَّف الألفاظ ونظمها، وهو بعدُ طري (69) فما قال من شيء فهو لي.

فقال معاوية :

- وكذباً يا أبا خبيب؟

فقام عبد اللّه وخرج.

أشعر الشعراء :

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد سُئل عن أشعر الشعراء :

«إن القوس لم يجر في حلبةٍ تعرف الغاية عند قصبتها، فإن كان لابد فالملك الضلِّيل».

ص: 141

وهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) يريد امرأ القيس.

استشهد ابن أبن أبي الحديد بالرواية التي تقول 153/20 – 154 :

[كان عليُّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُعشِّي الناس في شهر رمضان ولا يتعشَّى معهم، فإذا فرغوا خَطَبَهم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال في خطبته :

«اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، ونيِّتكم الأدب، ومصون أعراضكم الحلم...».

ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

قل، يا أبا الأسوَد، فيم كنتم تفيضون فيه ؟ أي الشعراء أشعر؟

فقال :

- الذي يقول :

ولقد أغتدي يُدافع ركني***أعوجيٌّ ذو ميعةٍ ضرِّیجُ

مُخلطٌ، مِزبلٌ، مِعنٌّ، مِفنٌّ***منفخٌ، مطرحٌ، سيوحٌ، خروجُ

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

- ليس به.

قالوا :

- من يا أمير المؤمنين ؟

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«لو رُفِعت للقدم غاية فجروا إليها معاً علمنا من السابق منهم، ولكن إن

ص: 142

يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا عن رهبه».

قيل :

- من هو يا أمير المؤمنين ؟

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

- هو الملك الضليل ذو القروح.

قيل : امرؤ القيس يا أمير المؤمنين ؟

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

- هو...

ويعني (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالغاية (الراية)، قال الشاعر :

وإذا غاية مجدٍ رُفِعت***نهض الصلتُ إليها فحواها

ويروى قول الشماخ :

إذا ما رايةٌ رُفِعت لمجدٍ***تلقَّاها عرابة باليمينِ

وهي لهجة قوم. والراء أكثر.

وقيل؛ شاعر الشعراء - في الجاهلية - زهير لقوله 156/20 :

وما يكُ من خيرٍ أتوه فإنما***توارثها آباء آبائهم قبلُ

وهل ينبت الخطِّيُّ إلَّا وشيجةً***وتُغرس إلَّا في منابتها النخلُ

وقوله 157/20 :

ص: 143

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةٌ***إلى المجد لم يسبق إليها یُسَوَّدِ

سبقت إليها كلَّ طلقٍ مُبرَّزٍ***سبوقٌ إلى الغايات غيرُ مُزنّدِ

كفعل جوادٍ يسبق الخيل عفوه الى***سراع وإن يجهدْ ويجهدن يبعدِ

فلو كان حمداً يخلد الناس لم تمت***ولكن حمد الناس ليس بمخلدِ

(إلَّا أنه يتبع حوشيَّ الكلام ولا يُفاضل في منطقه، ولا يقول إلَّا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلَّا بما فيه)

وقوله 20/ 158 :

ومن يكُ ذا فضل ويبخل بفضله***على قومهِ يُستَغْنَ عنهُ فيُذممِ

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحهِ***يُهدَّم، ومن لا يظلم الناس يظلمِ

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه***ولونال أسباب السماء بسُلَّمِ

ومن يجعل المعروف من دون أهلهِ***يُفِرْهُ، ومن لا يتَّقِ الشتم یُشتمِ

وقيل : النابغة. لقوله 159/20 :

فإنَّك شمسٌ والملوك كواكبٌ***إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ

وقوله 159/20 :

أتيتك عارياً خلقاً ثيابي***على خوفٍ تظنُّ بيَ الظنون

وقوله 159/20 :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً***وليس وراء اللّه للمرء مذهبُ

لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي وليتَما***لمبلغك الواشي أغشُّ وأكذبُ

ص: 144

بمستْبقٍ أخاً لا تلمَّهُ خيانةً***على شعثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ

وقوله 160/20 :

فإنك كالليل الذي هو مدركي***وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ

خطاطيف حجلٍ في حبالٍ متينة***تُمدُّ بها أي إليك نوازعُ

وقوله يمدح النعمان بن المنذر 166/20 :

كتمتك ليلاً بالجحومين ساهراً***وهیَّنَ همَّاً مستكنَّاً وظاهرا

أحاديث نفسٍ تشتكي ما يُريبها***وورد همومٍ لا يجدن مصادرا

تُكلِّفني أن يغفل الدهر همَّها***وهل وجدت قبلي على الدهر ناصرا؟

ألم ترَ خير الناس أصبح نعشه***على فتيةٍ قد جاور الحيَّ سائرا

ونحن لديهِ نسأل اللّه خلده***يردُّ لنا ملكاً وللأرض عامرا

ونحن نُرجِّي الخير إن فارقدحنا***ونرهب قدح الدهر إن جاء قامرا

لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً***وأصبح حبر الناس بعدك عاثرا

وردَّت مطايا الراغبين وعُرِّيت***جيادك لا يخفى لها الدهر حافرا

رأيتك ترعاني بعينٍ بصيرةٍ***وأبعثت حُرَّاسا عليَّ وناظرا

وذلك من قولٍ أتاك أقوله***ومن دس أعداءٌ لديك المآبرا

فأهلي فداءٌ لامرئٍ إن أتيته***تقبَّل معرون وسدَّ المفاقرا

سأربط كلبي إن يُريبك نبحهُ***وإن كنت أرعى مسحلان وعامرا

وحلَّت بيوتي في بقاعِ منَّعٍ***تخال به راعي الحمولة طائرا

تزل الوعول العصم عن قذفاته***ويضحي ذراه في السحاب كوافرا

ص: 145

حذاراً على أن لا تنال مقادتي***ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

أقول وقد شطَّت بيَ الدار عنكمُ***إذا مالقيت من معدٍّ مسافرا

ألا أبلغ النعمان حيث لقيتهُ***فأهدى له اللّه الغيوث البواكرا

وربَّ عليه اللّه أحسن***وكان على كلِّ المعادين ناصرا

صنعهُ

وقوله 20/ 192 :

هذا غلامٌ حسنٌ وجههُ***مستقبل الخير سريع التمامْ

للحارث الأكبر والحارث ال***أصغر فالأعرج خير الأنام

ثم لعمرٍ ولعمرٍ وقد***أسرع في الخيرات منه إمام

خمسة آباءٍ همُ ماهمُ***أفضل من يشرب صوب الغمام

وقيل القطامي، لقوله 164/20 :

إنَّا محبُّوك فاسلم أيها الطلُ***وإن بلیت وإن طالت بك الطِيَلُ

ليس الجديد به تبقى بشاشته***إلَّا قليلاً ولا ذو قلَّةٍ يصلُ

والعيش لا عيش إلَّا ما تَقَرُّ به***عينٌ ولا حال إلَّا سوف تنتقلُ

إن ترجعي من أبي عثمان منجمةً***فقد يهون على المستنجح العملُ

والناس من يلقَ خيراً قائلون له***ما يشتهي ولأُم المخطئ الهبلُ

قد يدرك المتأني بعض حاجتهِ***وقد يكون مع المستعجل الزللُ

وقوله 164/20 :

ص: 146

طرقت جنوب رحالنا من مطرقِ***ماكنت أحسبها قريب المُعْنَقِ

وقيل الخنساء لقولها 20/ 190 :

وقائلة والنعش قد فات خطوها***لتدركهُ: يا لهف نفسي على صخرِ

ألا هبلت أُم الذي غدروا بهِ***إلى القبر، ماذا يحملنَّ إلى القبرِ

وقيل ليلى أخت المنتشر بن وهب الباهلي لقولها 165/20 :

مهفهفٌ أهضم الكشحين منحرقٌ***عنه القميص يسير الليل محتقِرا

لا يأمن الدهر ممساه ومصبحهُ***من كلِّ أوبٍ وإن لم يغزُ منتظرا

وقيل امرؤ القيس لقوله: 168/20 :

وقاهم جدُّهم ببني أبيهم***وبالأشقين ما كان العقابُ

وقوله 199/20 :

أغرَّكِ مني أنَّ حَّبكِ قاتلي***وإنَّكِ مهما تأمري القلب يفعلِ

وقيل : الذي يقول 169/20 :

ويبرد برد رداء العروسِ***بالصيف رقرق فيه العبيرا

ويسخن ليلة لا يستطيع***نباحا به الكلب إلَّا هريرا

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) 234/20 :

«ما المجاهد في سبيل اللّه بأعظم ممن قِدر فعفَّ لكاد العفيف أن يكون مَلَكاً من الملائكه».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعر 234/20 :

ص: 147

إن أكن طامح اللحاظ فإنِّي***- والذي يملك القلوب - عفيفُ

وقول الآخر 234/20 :

وإني لعفٌّ من فكاهة جارتي***وإني لمشنوءٌ إليَّ إغتيابها

أذا غاب عنها بعلها لم أكن لها***صديقاً ولم تأنس إليَّ طلابها

ولم أكُ طلَّاباً أُحادث سرَّها***ولا عالماً من أيِّ حوكٍ ثيابها

وقول جميل بثينة 234/20 :

لا والذي تسجد الجباه له***مالي بما ضمَّ ثوبها خبرُ

ولا بفيها ولا هممت به***ما كان إلَّا الحديث والنظرُ

وقول الشاعر 235/20 :

قالت وقلت ترفَّقي فصلي***حبل امرئٍ بوصالكم حبِّي

صادق إذن بعلي فقلت لها***الغدر شيءٌ ليس من شبي

ثنتان لا أصبو لوصلهما***عرس الصديق وجارة الجنبِ

أما الصديق فلست خائنه***والجار أوصاني به ربي

وبالرواية التي تقول 235/20 : [إن امرأةً ذات جمالٍ دعت عبد اللّه بن عبد المطلب إلى نفسها لما كانت ترى على وجهه من النور فأبي وقال :

ص: 148

أما الحرام فالممات دونهُ

والحلُّ لاحلٌّ فأستبينهُ

فكيف بالأمر الذي تبغينهُ

يحمي الكريمُ عرضهُ ودينه ]

وبالرواية التي تقول 235/20 :

[راود توبة بن الحمير ليلى الأخيلية مرّةً عن نفسها، فاشمأزَّت منه وقالت :

وذي حاجةٌ قلنا له لا تبح بها***فليس إليها - ما حييت - سبيلُ

لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه***وأنت لأُخرى صاحبٌ وخليلُ]

وبقول ابن ميَّادة 235/20 :

موانع لا يُعطين حبَّة خردلٍ***وهنَّ زوانٍ في الحديث أوانسُ

ويكرهن إن يسمعن في اللهو ريبةً***كما كرهت صوت اللجام الشوامسُ

وقول آخر20/ 235:

بيضٌ أوانس ما هممت بريبةٍ***كضباء مكةَ صيدهن حرامُ

يُحسبن - من لين الكلام -***ويصدُّهنَّ عن الخنا الإسلامُ

وقول قيس بن الملوَّح 236/20 :

كأنَّ على أنيابها الخمر مجَّهُ***بماء الندى من آخر الليل غابقِ

وما ذقته إلا بعيني تفرُّساً***كما شیم من أعلى السحابة بارق

وقول أبو صفيرة البولاني 236/20 :

ص: 149

بأعذب ما فيها وما ذقت طعمه***ولكنني - فيما ترى العين -

وقول ابن المولى المدني 236/20 :

فأبكي فلا ليلى بكت من صبابةٍ***لباك، ولا ليلى التي البذل تبذلُ

وأخنع بالعتبى إذا كنت مذنباً***وإن أذنبت كنت الذي أتنصَّلُ

وقول شاعر 20/ 236 - 237 :

ما أن دعاني الهوى لفاحشةٍ***إلَّأ نهاني الحياء والكرمُ

ولا إلى محرم مددت يدي***ولا مشت بي - لريبة - قدمُ

وقول العباس بن الأحنف 20/ 237 :

أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم***فعندكم شهوات السمع والبصرِ

لا يضمر السوء إن طال الجلوس به***عفُّ الضمير ولكن فاسق النظرِ

وقول آخر20/ 237 :

كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني***منهُ الحياء وخوف اللّه والحذرُ

وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني***منهُ الفكاهة والتحديث والنظرُ

أهوى الملاح وأهوى من أُجالسهم***وليس لي - في حرامٍ منهُم – وطرُ

كذلك الحبُّ لا إتيان معصيةٍ***لا خير في لذَّةٍ من بعدها سقرُ

وقول آخر20240:

أنا زاني اللسان والطرف إلَّا***أن قلبي يعاف ذاك ويابی

لا يراني الإله أشرب إلَّا***كلما حلَّ شربه لي وطابا

ص: 150

وقول آخر 240/20 :

نلهو بهنَّ كذا من غير فاحشةٍ***لهو الصيام بتفَّاح البساتين

وقول المتنبي 240/20 :

وترى الفتوَّة والمروءة والأُبوَّ ةَ فيَّ کلُّ مليحةٍ ضرَّاتها

هنَّ الثلاث المانعات للذَّتي***في خلوتي لا الخوف من تبعاتها

إني على شفقي بما في خمرها***لا عفَّ عما في سرا ويلاتها

ذم الحرب

ولقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«كلما أطلَّ عليكم منسرٌ من مناسر أهل الشام أغلق كلُّ رجلٍ منکم بابه، وانجحر انجحار الضبَّة في جحرها، والضب في وجاره».

استشهد ابن أبي الحديد بقول الشاعرة 6 /106:

أضحت تشجِّعني هندٌ وقد علمت***أن الشجاعة مقرونٌ بها العطبُ

لا والذي حجَّت الأنصار كعبتهُ***ما يشتهي الحرب عندي من له أربُ

للحرب قومٌ أضل اللّه سعيهمً***إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا

ولستُ منهم ولا أهوى فعالهمُ***لا القتل يعجبني منا ولا السلَبس

وقول أيمن بن خزيمة الأسدية 6 /106 :

ص: 151

إنَّ للفتنة ميطاً بيننا***ووريد الميط منها يعتدلْ

فإذا كان عطاء فابتدر***وإذا كان قتالٌ فاعتزلْ

إنما يُسعرها جُهَّالها***حطب النار فدعها تشتعلْ

ص: 152

الضوء الرابع: المختار من أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

اشارة

ص: 153

ص: 154

إشارة:

ويشتمل على :

الإرشاد والنصح من 1 -7

النقد والتعريض من8 - 15

العتاب والتقريع من16 -21

الزهديات من 22 - 30

البعثة النبوية من 31 - 36

التحذير من الفتن من 37 - 41

منزلته (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من 42 - 46

المناظرة والجدل من 47 - 50

الوصف العجيب من 50 -52

الأحكام الشرعية من 53 - 56

الوصايا والتعاليم من 57 - 67

المنهج السياسي من 68 - 70

حِکَ قصار من 71 - 300

ص: 155

النصح والإرشاد

1 - قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأبي ذر (رحمه اللّه) لما خرج إلى الربذة :

((يا أبا ذر إنك غضبتَ للّه، فارجُ من غضبتَ له، إن القوم خافوك على دنیاهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفت عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حسداً، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثم اتقي اللّه، لجعل ِاللّه له منها مخرجاً، لا يؤنسنَّك إلا الحق، ولا يوحشنَّك إلا الباطل، فلو قبلتَ دنیاهم لأحبّوك، ولو قرضتَ (قطعتَ) منها لأمّنوك)).

2 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المسارعة إلى العمل :

«فاعملوا وأنتم في نَفَس (سعة) البقاء، والصحف منشورة، والتوبة مبسوطة (مقبولة) والمُدبِر (المُعرِض) يُدعى، والمسيء يرجي، قبل أن يُخمدَ (ينقطع) المُهَل، وينقطع المهل، وينقضي الأجل، ويُسَدَّ بابُ التوبة، وتصعد الملائكة، فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه، وأخذه من حيٍّ لميّتٍ، ومن فانٍ لباقٍ، ومن ذاهب الدائم، امرؤٌ خاف اللّه وهو مَعمِّرٌ إلى أجله، ومنظور (مُهمل) إلى عمله، امرؤ ألجم نفسه بلجامها وزمّها (قادها) بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصي اللّه، وقادها بزمامها إلى طاعة اللّه».

3 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في فساد الزمان :

«واعلموا رحمكم اللّه أنكم في زمان القائل فيه الحق قليل، واللسان عن الصدق كليل (قاصر) واللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان،

ص: 156

مصطلحون على الإدهان، فتاهم عارم (شرس) وشائبهم آثم، وعالمهم منافق، وقارغم محاذق (غشاش)، لا يعظم صغيرهم كبيرهم ولا يعول غنيهم فقيرهم».

4 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«ألا وإن اللسان بضعة (قطعة) من الإنسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع، وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت (ثبتت) عروقه، وعلينا تهدلت (تدلت) غصونه».

5 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يعظ ويوصي:

«أوصيكم - عباد اللّه - بتقوى اللّه، وأحذّكم الدنيا، فإنها دار شخوص (ذهاب) ومحلّة تنغيص، ساکنها ضاعن، وقاطنها بائن (مبتعد)، تميد (تضطرب) بأهلها مَيَدان السفينة تقصفها (تكسرها) العواصف في لجج البحار؛ فمنهم الغرق الويق (الهالك)، ومنهم الناجي على بطون الأمواج، تحفّزه (تدفعه) الرياح بأذيالها وتحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدرك، وما نجا منها فإلى مهلك!

عباد اللّه، الآن فاعملوا، والألسن مطلقة، والأبدان صحيحة، والأعضاء لدنة (لينة)، والمنقلب فسيح، والمحال عريض، فخففوا عليكم نزوله، ولا تنتظروا قدومه».

6 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكان يدعو به كثيراً :

«الحمد للّه الذي يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي، ولا مقطوعاً واتري (نسلي)، ولا مرتداً عن ديني، ولا

ص: 157

منکر ربّي، ولا مستوحشا من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي، أصبحتُ عبداً مملوكاً ظالماً نفسي، لك الحجةُ عليَّ ولا حجةَ لي، ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني، اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أضامَ في سلطانك، أو أُضطَهدَ والأمرُ لك، اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من کرائمي، وأول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي، اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، وأن نُفتتن في دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا، دون الهدى الذي جاء من عندك».

7 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عجیب صنعة الكون :

«وكان من اقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف (المتزاحم)، يبساً جامداً، ثم فطر (خلق)، منه أطباقاً (طبقات) ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها (اتصالها)، فاستمسكت بأمره وقامت على حدِّه وأرسى أرضا يحملها الأخضر (البحر) المتعنجر (معظم البحر)، والقمقام (البحر) المُسخَّر، قد ذلّ لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري لخشيته، وجَبَل (خلق) جلاميدها (صخورها)، ونشوز (مرتفعات) متونها (متصلباتها) وأطوادها (عظامها الناتئات) فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء ورست أصولها في الماء، فأنهد جبالها (أظهرها) عن سهولها، وأساخ (غوّص) قواعدها في متون أقطارها، ومواضع أنصابها (معالمها)، فأشهق (رفع) قِلالها (أعلاها) وأطال أنشازها (جوانب الأرض المرتفعة)، وجعلها للأرض ماداً، وأرزها (ثبتها) فيها أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تحمید (تضطرب)

ص: 158

بأهلها، أو تسيخ (تغوص) بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان من أمسكها بعد موحان مياهها، وأجهدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مِهاداً، وبسطها لهم فراشاً، ! فوق بحرٍ لُجّيٍ راکد لا يجري (لا يسيل)، وقائم لا يسري، تکرکره تذهب به وتعود إلى الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف (الذارفة الدموع) :

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (النازعات /26) }

النقد والتعريض

8 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الخوارج لما سمع قولهم (لا حكم إلا اللّه) :

«كلمة حقٍ يُراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا للّه، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلا اللّه، وإنه لابد للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلِّغ اللّه فيها الأجل، ويتجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برٌّ، ويستراح من فاجر».

9 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشير فيه إلى ظلم بني أُميَّة :

«واللّه لا يزالون حتى لا يدعوا للّه محرماً إلا استحلوه (استباحوه) ولا عقدلً إلا حلّوه، وحتى لا يبقى بيد مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان :

باكٍ يبكي لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم من احدکم

ص: 159

كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه، وحتى يكون أعظمكم فيها عناءً أحسنكم باللّه ظنا، فإن (العاقبة للمتقين)».

10 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيه بيّن بعض أحكام الدين وكشف للخوارج الشبهة ونقض كلمة الحكمين :

«فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي، وتأخذونهم بخطئي وتكفرومهم بذنوبي ! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رجم الزاني المُحصنَ، ثم صلى عليه، ثم ورّثه أهله، وقتل القاتل وورث میراثه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني غير المُحصنَ، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات فأخذهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بذنوبهم، وأقام حق اللّه فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يُخرِج أسماءهم مِن بين أهله، ثم أنتم شرُّ الناس، ومن رمی به الشيطان مراميه، وضرب به - (ضلالته)!

وسيهلك فيّ صنفان، محبٌ مفرط يذهب به الحب إلى غير اللّه، ومبغضٌ مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة، وإیاکم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم لذئب».

11 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصف فئة من أهل الضلال :

«وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغِيَر (النائبات)، حتى إذا

ص: 160

اخلولق الأجل (انقض) واستراح قوم إلى الفتن، وأشالوا (رفعوا) من لقاح حربهم، لم يُمنّوا على اللّه بالصبر، ولم يستعظموا بَذلَ أنفسهم في الحق، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء، حملوا بصائرهم على أسیافهم، ودانوا لربهم بأمر واعظهم، حتى إذا قبض اللّه رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج (المكر)، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودّتِهِ، ونقلوا البناء عن أرض أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة (شدة).

قد ماروا (اضطربوا) في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنّة من آل فرعون : من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين».

12 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم الشوری :

«.. وقد قال قائل : إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص؛ فقلت :

بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي (تمنعونني) دونه. فلما قرّعته (ضربته) بالحجة في الملأ الحاضرين، هب (صاح) كأنه يهب لا يدري ما يجيبني به».

13 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر أصحاب الجمل :

«فقدموا على عمالي وخزّان بيت المسلمين الذي في يديَّ، وعلى أهل مصر، كلهم في طاعتي وعلى بيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدراَ، وطائفة عضّوا (صبروا) على أسيافهم، فضاربوا بها حتى لقوا اللّه صادقين».

ص: 161

18 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في شأن الحكمين وذم أهل الشام :

«جفاة غِلاظ طغام، وعبيد أقزام (أرذال)، جُمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب (خلط)، من ينبغي أن يُفَقَّه ويُؤَدّب، ويُعَلَّم ويُدَرَّب، ويوَلَّى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوؤوا الدار والإيمان.

ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبون، وأنكم اخترتم الأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون، وإنما عهدكم بعبد اللّه بن قیس؛ بالأمس من يقول :

إنها فتنة، فقطّعوا أوتاركم وشيموا (اغمدوا) سيوفكم، فإن كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مُستكرَهٍ، وإن كان كاذبا فقد لزمته التهمة، فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عباس وخذوا مهل الأيام، وخوطوا قواصي الإسلام.

ألا ترون إلى بلادكم تُغزى، وإلى صفاتكم ترمی ».

15 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الاستنصار على قريش :

«اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظیم منزلتي، وأجمعوا على منازعني، أمر هولي، ثم قالوا : ألا إن الحق أن تأخذه، وأن الحق أن تتركه.

فخرجوا يجرون حرمة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) - كما تُجر الأمة عند

ص: 162

شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا (يقصد طلحة والزبير) نساءها في بیوقما، وأبرزا حبيس (عائشة) رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة، طائعاً غير مُكرَه.. فواللّه لولم يصيبوا المسلمين إلا رجلاً واحداَ معتمدین (قاصدین) قتله، بلا جرم جرّه، لحلَّ لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه ولم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد».

العتاب والتقريع

16 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفيه ينفر من الغفلة وينبه إلى الفرار للّه :

«فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (خفتم) وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا، وقريبٌ ما يُطرَح الحجاب! ولقد بصرتم إن أبصرتهم، وسمعتم إن أسمعتم، وهديتم إن اهتديتم، وبحقٍ أقول لكم :

لقد جاهدتكم العبر وزُجرتم بما فيه مزدَجَر، وما يبلغ عن اللّه بعد رسل السماء الملائكة) إلا البشر».

17 - وفي استنفار الناس إلى أهل الشام، بعد فراغه من أمر الخوارج، وفيها يتأفف بالناس، وينصح لهم بطريق السداد، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«أفٍّ لكم لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً؟ وبالذل من العز خلفاً ؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوکم دارت (اضطربت) أعينكم

ص: 163

كأنكم من الموت في غمرة (شدة)، ومن الذهول في سكرة، يُرتَج (يغلق) علیکم حواري (مخاطبتي)، فتعمهون (تتحيرون) وكأن قلوبكم مألوسة (مجنونة) فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقةٍ سجيسَ (أبدا) الليالي، وما أنتم بِرُكنٍ يُمالُ بكم، ولا زوافر أركان عزٍّ، يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كأِبِلٍ ضلَّ رعاتها، فكلما جُمعت من جانب انتشرت من جانب آخر لبئس - لعمر اللّه - سُعر (موقدوا) نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غُلب واللّه المتخاذلون! وأيم اللّه إني لأظن بكم أن لو حُمس (اشتد) الوغى (الحرب) واستمر الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس، واللّه إن امرأً يُمَكِّنُ عدوّه من نفسه يعرُقُ لحمه (يذوب)، ويهشم عظمه يفري (يمزق) جلده، لعظیم عجزُهُ، ضعيف ما ضُمّت عليه جوانح صدره (ضلوع صدره)، أنت فكن ذاك إن شئت؛ فأما أنا فواللّه دون أن أعطي ذلك ضربٌ بالمشرفية (السيوف) تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء».

18 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أصحابه :

«ولئن أُمهِل الظالم فلن يفوت أخذُهُ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، وموضع الشجا (عظم يعترض الحلق) من مساغ ريقه، أما والذي نفسي بيده ليظهرنَّ هؤلاء القوم علیکم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائهم عن حقه، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم

ص: 164

تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحتُ لكم فلم تقبلوا، أشهودٌ كغُيّاب، وعبيدٌ كارباب! أتلوا عليكم الحِكَم فتنفرون منها، وأعِظُكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبأ، ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظکم، أقومكم غُدوةً، وترجعون إلىَّ عشيةً، كظاهر الحنية (القوس) عجز المُقَوِّم وأعضل المقَوَّم».

19 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوبخ البخلاء بالمال والنفس :

«فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها، تكرمون (تعزون) باللّه على عباده، ولا تكرمون اللّه في عباده! فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصال إخوانكم».

20 - بعد ليلة الهرير في صفين قام إليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجل من أصحابه فقال :

نهیتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟

فصفق (عَلَيهِ السَّلَامُ) إحدى يديه على الأخرى ثم قال :

«هذا جزاء من ترك العقدة (التعاقد)! أما واللّه لو أني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه، الذي يجعل اللّه فيه خيراً كثيراً، فاستمعتم هديتكم، وإن اعوججتم قوَّمتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقی، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداويَ بكم وأنت دائي، كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم أن ضَلَعها (میلها) معها.

ص: 165

اللهم قد ملّت أطباء هذا الداء الدوي (المؤلم) وكلّت (ضعفت) النزعة بأشطان الركيّ (حبائل البئر)! أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فوِلهوا وَلَهَ اللقاح (النوق) إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفا، وصفاً صفا، بعضٌ هلك وبعضٌ نجا؟ لا يبشرون بالأحياء (لحبهم الموت في سبيل العقيدة)، ولا يُعزّون عن الموتى (لأن الموت عندهم سعادة)، مُرهُ العيون (بيض العيون) من البكاء، خمص (ضوامر) البطون من الصيام، ذبل (يابسة) الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غيرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحُق لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدي على فراقهم، إن الشيطان يسني (يسهل) لكم طرقه، ويريد أن يُحلّ دینکم عقدة عقدة، ويُعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا (أعرضوا) عن نزعاته (وساوسه) ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقِلوها (احبسوها) على أنفسكم».

21 - وبعد سماعه أمر الحكمين قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : |

«إننا لم نحكِّم الرجال، إنما حكمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عن الرجال.. فأين يتاه بكم؟ ومن أين أتيتم؟ استعدّوا للمسير إلى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، ومُوَزَّعِينَ بالجور (أُغري بهم) لايعدلون (لايستبدلون) به، جفاة من الكتاب نُكْد (حائرین) عن الطريق، ما أنتم بوثيقة (عروة) يُعلَّقُ بها، ولا زوافر (أنصار) عزٍّ يعتصم إليها، لبئس حشاش نار الحرب أنتم! أُفٍّ لكم! لقد لقيت منكم برحا

ص: 166

(شدة)، يوماً أُناديكم ويوماً أُناجيكم، فلا أحرار صدق عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء (المعتبات)».

الزهديات

22 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في زهدياته :

«أما بعد، فإن الدنيا أدبرت، وآذنت أعلمت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت (أقبلت بفتنة) باطلاع، ألا وإن اليوم المضمار (من الضمور) وغداً السباق، والسبقة الجنة (الغاية)، والغاية النار؛ أفلا تائب عن خطيئته قبل منیَّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟

ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، وضرَّه أجله.

ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة.

ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وإنه من لا ينفق الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى، يجريه الضلال إلى الردی.

ألا وإنكم أمرتم بالضعف ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم، اثنتان : اتباع الهوى، وطول الأمل. فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا».

23 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

ص: 167

«فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة (قشرة) القرظ (ورق السلم)، وقراضة الحلم (مقراط)، واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ مَن بعدكم! وارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشفق با منكم».

24 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان؛ اتباع الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد أقبلت حذّاء (سريعة).

ألا وإن الآخرة قد أقبلت، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة، وإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل».

25 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في ذم الدنيا :

«والدنيا دار مُنَي (قُدِّر) لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء (الخروج)، وهي حلوة خضراء، وقد عجلت للطالب، والتبست (اختلطت) بقلب الناظر، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف (مقدار القوت) ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ (ما يقتات به)».

26 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«ألا وإن الدنيا قد تصرَّمت، وآذنت بانقضاء، وتنكّر معروفها (خفي وجهها)، وأدبرت حذَّاء، فهي تحفز (تدفع) بالفناء سكانها، وتحدو (تسوق)

ص: 168

بأموات جيرانها، وقد أمرَّ (صار مرّاً) فيها ما كان حلوا، وكدر (تعكّر) منها ما كان صفواً، فلم يبق منها إلّا سحلة كسحلة الأدواة (كبقية الماء في الإناء)، وجرعة كجرعة المقلة (حصاة لتقسيم الماء) ولو تمززها الصدیان (مصها العطشان) لم ينقع (یروَ)، فأزمعوا عباد اللّه الرحيل عن هذه الدنيا المقدور (المكتوب) على أهلها الزوال ولا يغلبنكم فيها الأمل، ولا يطولنَّ عليكم فيها الأمد.

فواللّه لو حنتم حنين الولَّه العجال (النوق الفاقدة وُلْدَها) ودعوتم بهديل الحمام، وجارتهم جوار (أصوات) متبتلي (منقطعي) الرهبان، وخرجتم إلى اللّه من الأموال والأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها كتبه، وحفظتها رسله، لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه، وأخاف علیکم من عقابه.

وتلك لو انماثت (ذابت) انمياثاً (ذوباناً) وسالت عيونكم من رغبة إليه أو رهبة منه دماً، ثم عمَّرتكم في الدنيا، ما الدنيا باقية، ما جزت أعمالكم عنكم - ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم - أنعمه عليكم العظام، وهداه إياكم الإيمان».

27 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«ألا وإن الدنيا لا يسلم منها إلّا فيها، ولا يبقى بشيء كان لها، ابُتليَ الناس بها فتنة، فما أخذوه منها لها، أخرجوا منه حُوسِبوا عليه، وما أخذوه منها لغيرها، قدموا عليه وأقاموا فيه. فإنها عند ذوي العقول كفيء الظل، بینا تراه سابقاً (ممتداً) حتى تراه قلص (انقبض) وزائداً حتى نقص».

28 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

ص: 169

«أيها الناس، الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع (الكف) عند المحارم، فإن عَزَبَ (بَعُدَ) ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شکرکم، فقد أعذر (أنصف) اللّه إليكم بحجج مسفرة (كاشفة) ظاهرة، وكتب بارزة العذر واضحه».

29 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«أيها الناس، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل (تترامی) فيه المنايا، مع كل جَرعة شَرَقٌ، وفي كل أكلة غصصٌ، لا تنالون منها نعمة إلّا بفراق أخرى، ولا يُعمَّر معمَّرٌ منكم يوماً من عمره إلّا بهدم آخر من أجله. ولا تجدد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثر، إلّا مات له أثر، ولا يتجدد له جديد إلّا بعد أن يَخلَقَ (يبلی) له جديد، ولا تقوم له نابتة إلّا وسقط منه محصوده، وقد مضت أُصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله».

30 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«أيها الناس إنما الدنيا دار المجاز (ممر) والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستارکم عند من يعلم أسراركم، وأَخرِجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختُبِرتم، ولغيرها خُلِقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس : ما ترك ؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟ للّه آباؤكم! فقدِّموا بعضا یکن لكم قرضاً، ولا تخلفوا كلاً فيكون قرضاً عليكم».

ص: 170

البعثة النبوية

31 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصف العرب قبل البعثة :

«إن اللّه بعث محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرِّ دين، وفي شرِّ دار، منیخون (مقيمون) بين حجارة خُشنٍ (من الخشونة)، وحبّاتٍ صُمٍّ تشربون الكدر وتأكلون الجشب (الطعام الغليظ)، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فیکم منصوبة، والآثام بكم معصوبة (مشدودة)».

32 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حكمة بعثة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

«إن اللّه بعث محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدعي فساق الناس حتى بوأهم محلتهم (منزلتهم)، وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم (أحوالهم) واطمأنت صفاتهم».

33 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يقرر فضيلة الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

«بعثه والناس ضلال في حيرة، وحاطبون فتنة قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم (طيَّشتهم) الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال الأمر، وبلاءٍ من الجهل، فبالغ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا بالحكمة والموعظة الحسنة».

34 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

ص: 171

«مستقرَّهُ غير مستقرب، ومنبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومجاهد (مباسط) السلامة، قد صُرِفت نحوهُ أفئدة الأبرار، وثُنيت إليه أزمة الأمصار، دفن اللّه به الضغائن، وأطفأ به الثوائر (العداوات)، ألَّف به إخواناً، وقرَّ به أقراناً، أعزَّ به الذلة، وأذلَّ به العزَّة، كلامه بیان، وصمته لسان».

35 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يذكر فضل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

«أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبيّنات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمَثُلات (العقوبات)، والناس في فِتن انجذم (انقطع) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر (الأصل)، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدی خامل، والعمی شامل، عُصِيَ الرحمن، ونُصِر الشيطان، وخُذِل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكّرت معالمه، ودرست (انطمست) سبله، وعفت شُرَكُهُ (طرقه)، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالکه، ووردوا مناهله (مشاربه)، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه، في فتنٍ داستهم بأخفافها (جمع خف)، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهود، وكحلهم دموع، بأرضٍ عالِمُهُا مُلجَم، وجاهلها مُكرَم».

التحذير من الفتن

36 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الفتن :

«إنما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع، وأحكامٌ تُبدَع، يخالَفُ فيها كتاب اللّه،

ص: 172

ويتولى عليها رجالٌ رجالاً، على غير دين اللّه، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يَحْفُ على المرتادين (الطالبين) ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذُ من هذا ضغث (حشيش مختلط) ومن هذا ضغث، فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسني».

37 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر الملاحم :

«الحمد للّه الأول قبل كل أول، والآخِر بعد كل آخِر، وبأوليته وجب أن لا أول له، وبآخرِيته وجب أن لا آخِر له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه شهادةً يوافق فيها السرُّ الإعلان، والقلب اللسان.

أيها الناس، لا يجرمنّكم (يحرمنّکم) شقاقي (مخالفتي) ولا يستهوينّكم (يجعلنكم) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار عندما تسمعون مني، فو الذي فلق الحبة (شقها) وبرأ (خلق) النسمة (الروح)، إن الذي أُنبئكم به من النبي الأمّي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ما كذبَ المبلِّغ، ولا جهل السامع، لكأني أنظر إلى ضلّيل (شدید الضلال) قد نعق بالشام، ونصب براياته في ضواحي كوفان (الكوفة) فإذا فغرت فاغرته (فمه)، واشتدت شكيمته، وثقلت في الأرض وطأته، عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيام كُلُوحُها (عبوسها) ومن الليالي کُدُوحُها (خدوشها). فإذا أينع زرعه، وقام على ينعِهِ (نضجه)، وهدرت شقاشقه (هدير البعير) وبرقت بوارقُه (سيوفه)، عقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبل الليل المظلم، والبحر الملتطم، هذا وكم يخرق الكوفة من قاصف (رعد) ويمر عليها من

ص: 173

عاصف (ریح)، وعن قليل تلتف القرون (القادة) ويُحصَدُ القائم، ويُحَطِّم المحصود».

38 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يذكر يوم القيامة وأحوال الناس المقبلة :

«.. وذلك يوم يجمع اللّه الأولين والآخرين، لِنِقاش الحساب، وجزاء الأعمال، خضوعاً، قياماً، قد ألجمهم العَرَقُ (سال حتى ألفم (اللجام)، ورجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالاً من وجد لقدمٍ موضعاً، ولنفسه متسعاً».

39 - وعن الفتن قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا تُردُّ لها راية، تأتيكم مزمومة، مرحولة (من الزمام والرحال) يحفرها (يحشّها) قائدها يَمَهدها راكبها، أهلها قومُ شديدٌ کَلَبهم (شرهم)، قليل سَلَبهم، يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون، فويلٌ لك يا بصرة عند ذلك، من جیش من نِقَم اللّه لا رهج (غبار) له ولا حسَّ (صوت)، ويُبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر (المحل والجدب)».

40 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر الملاحم :

«ألا بأبي وأمي، هم من عِدّةٍ أسمائهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة، ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم، واستعمال صغاركم، ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حلِّه.

ذاك حيث يكون المُعطى أعظم أجراً من المعطي.

ص: 174

ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النعمة والنعيم، وتحلفون من غير اضطرار وتعذبون من غير إحراج (تضييق).

ذاك إذا عضّكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير (ما بين عنقه وسنامه).

ما أطول هذا العناء، وأبعد هذا الرجاء!

أيها الناس، ألقوا هذه الأزمّة (جمع زمام) التي تحمل ظهورها الأثقال في أيديكم، ولا تصدّعوا (تفرقوا) على سلطانكم فَتُذمّوا غب فعالكم، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور (ارتفاع) نار الفتنة، وأميطوا عن سننها (تنموا) وضلوا قصد السبيل لها : فقد - لعمري - يهلك في لحبها المؤمن، ويسلم فيها غير المسلم.

إنما مثلي بينكم كمثل السراج في ظلمة، يستضيء به من ولجها، فاسمعوا أيها الناس، وعوا، واحضروا آذان قلوبكم تفهموا».

41 - وقام إليه رجل فقال :

- يا أمير المؤمنين : أخبرنا عن الفتنة، وهل سأل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنها؟

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«إنه لما أنزل اللّه - سبحانه - قوله :

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (العنكبوت / 2)}

علمت أن الفتنة لا تنزل بنا، ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بين أظهرنا،

ص: 175

فقلت :

- یا رسول اللّه، ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّه تعالی بها؟

فقال :

- يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي.

فقلت :

- یا رسول اللّه أو ليس قد قلت يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين حِيْزَتْ (ابتعدت) عني الشهادة، فشقَّ ذلك عليّ، فقلتَ لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك)؟

فقال لي : - إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟

فقلت :

- یا رسول اللّه، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشری والشكر.

قال :

- (يا علي، إن القوم سيفتنون بأموالهم، ويُمَنَّون بدينهم على ربّهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه، بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالبنين والسحت بالهدية، والربا بالبيع).

قلت :

ص: 176

- یا رسول اللّه، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة رِدّة أم بمنزلة فتنة ؟

فقال :

- بمنزلة فتنة».

منزلته (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

42 - قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«.. وإن عليّ من اللّه جُنّة (وقاية) حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عنّي وأسلمتني؛ فحينئذٍ لا يطيش السهم، ولا يبرأ الكلم والجرح».

43 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لما عزموا على بيعة عثمان :

«لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، وواللّه لأسلِّمَنَّ ما سَلِمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفةٍ، وزیرجه (وشية)».

44 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يذكر فضله ويعظ الناس :

«تاللّه لقد عُلِّمتُ تبليغ الرسالات، وإتمام العدات (المواعيد) وتمام الكلمات، وعندنا - أهل البيت - أبواب الحِكَم وضياء الأمر ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسیله قاصدة (مستقيمة)، من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ظل وندم، اعملوا ليوم تذخر له الذخائر، وتبلى فيه السرائر، ومن لا ينفعه حاضر لُبِّهِ فعازبه (غاربه) عنه أعجز، وغائبه أعوز، واتقوا ناراً حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد وشرابها صديد (قيح)، ألا وإن اللسان الصالح يجعله اللّه تعالى للمرء في فيه

ص: 177

خير له من المال يورثه من لا يحمده».

45 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الموعظة وبيان قربه من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

«أيها الناس غير المغفور عنهم، والتاركون المأخوذ منهم، مالي أراكم عن اللّه ذاهبين، وإلى غيره راغبين، كأنكم نِعَمٌ (الابل والغنم) أراح (ذهب) بها سائم (راعٍ) إلى مرعى وبيٍّ (موبوء) ومشربٍ دويّ (وبيل) وإنما هي كالمعلوفة للمُدى (السكاكين) لا تعرف ماذا يُراد بها ! إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها، وشبعها أمرها.

واللّه لو شئت أخبر كل رجل منکم بمخرجه ومولجة، وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

ألا وأني مفضيه (قائله) إلى الخاصة ممن يؤمَن ذلك منه، والذي بعثه بالحق، واصطفاه على الخلق، ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك، ويمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئا يمرُّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إلىّ.

أيها الناس، إني واللّه ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهي قبلكم عنها».

46 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينبه فيه على فضيلته بقبول قوله وأمره ونهيه :

«.. ولقد علم المستحفظون (المؤمنون) من أصحاب محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ

ص: 178

وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )أني لم أرد على اللّه ولا على رسوله ساعة قط. ولقد واسيته (أشركته) بنفسي في المواطن التي تنكص (تتراجع) فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة (شجاعة) أكرمني اللّه بها.

ولقد قضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي، ولقد وُليِّتُ غسله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية (الباحات) ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هنيمة (صوت خفي) منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً؟ فانفذوا على بصائركم (ضياء العقل) ولتصدق نياتكم في جهاد عدوّكم.

فوالذي لا إله إلا هو إلني لعلى جادة الحق، وإنهم لعلی مزلة الباطل، أقول ما تسمعون وأستغفر اللّه لي ولكم».

المناظرة والجدل

47 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين :

«أما قولكم : أكل ذلك كراهية الموت؟ فواللّه ما أبالي ؛ دخلت إلى الموت أو خرج الموت لي، وأما قولكم شكاً في لأهل الشام، فواللّه ما دفعت للحرب يوماً وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو (ببصر ضعيف) إلى ضوئي، وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء (ترجع) بآثامها».

48 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون

ص: 179

على إنكار الحكومة :

«ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف، حيلةَ وغيلةَ، ومكراً وخديعة :

إخواننا وأهل دعوتنا، استقالوا واستراحوا إلى كتاب اللّه، سبحانه، فالرأي المقبول منهم، والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم :

هذا أمرٌ ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوله رحمة، وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، وألزموا طريقكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعقٍ نعق، إن أجيب ضل، وإن تُرك ذل، وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها، واللّه لئن أبيتها وما وجبت علي فريضتها، ولا حملني اللّه ذنبها، وواللّه إن جئتها إني لُمحِقُّ الذي يُتَّبع؛ وإن الكتاب المعي، ما فارقته مذ صحبته، فلقد كنا مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً، ومضيّاً على الحق، وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح.

ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام، على ما دخل فيه من الزيَّغ والاعوجاج والشبهة والتأويل، فإذا طمعنا في خصلة (وسيلة) يلم اللّه بها شعثنا (أمْرَنا)، وتتدانی (تتقارب) بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عن أسوارها».

49 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما عوتب على التسوية في العطاء :

«أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور في من وُلِّيت عليه! واللّه لأطور (لأُقار) به ما سمر سمير (مدى الدهر) وما أمَّ (قصد) في السماء نجماً ! لو كان المال لي لسوّيتُ

ص: 180

بینکم، فكيف وإنما المال مال اللّه ! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند اللّه، ولم يضع امرؤٌ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه اللّه شكرهم، وكان الغيره ودهم. فإذا زلّت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خليل وألأم خدين (صدیق)».

50 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لبعض أصحابه وقد سأله :

- كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم على حق؟

«يا أخا بني أسد، إنك لقلق البطين (بطان رحل البعير) وترسل (تطلق) في غير سدد (استقامة) ولك بعد ذمامة (حماية) الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم :

أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدَّون برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نوطا (تعلقاً)، فإنها كانت أَثَرة (الاستئثار بلا حق) شحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم للّه، والمَعْوَدُ إليه القيامة

وَدَع عنك نهباً صيح في حجراته***ولكن حديثاً ما حديث الرواحل

وهلم (اذكر) الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد بكائه؛ ولا غرو واللّه، فيا له خطباً يستفرغ العجب، ویکثر الأود (الاعوجاج) حاول القوم إطفاء نور اللّه، عن مصباحه، وسدّ فوّاره (ثقبه) من ينبوعه، وجدحوا (خلطوا) بيني وبينهم شرباً وبيئاً (موبوءً) فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحق على محضه (خالصه)؛ وإن تكن الأخرى، فلا تذهب نفسك

ص: 181

عليهم حسرات، إن اللّه عليمٌ بما يصنعون».

الوصف العجيب

51 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن الخالق جل شأنه :

«هو اللّه الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلاً، خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأدعى لطاعته، فأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع».

52 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في عجيب صنعة الكون :

«وكان من اقتدار جيروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر (الممتليء)، المتراكم المتقاصف (المتزاحم)، يبساً جامداً، ثم فطر (خلق) منه أطباقاً (طبقات)، ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها، فاستمسكت بأمره، وقامت على حدِّه، وأرسى أرضاً يحملها الأخضر (البحر) المتضجر (معظم)، والقمقام (البحر) المسخّر، قد ذل لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته، وجبل (خلق) جلاميدها (صخورها الصلبة) ونشوز (مرتفعات) متونها (الصلبة) وأطوادها فأرساها في مراسيها (مراسخها)، وألزمها قراراتها (مستقراتها) فمضت رؤوسها في الهواء ورست أصولها في الماء، فأنهد جبالها (رفعها) عن سهولها، وأساخ (أغاص) قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها (أعلامها) فأشهق خلالها (أعلاها) وأطال أنشازها (متونها المرتفعة) وجعلها للأرض عمادة وأرزّها (ثبّتها) فيها أوتاداً، فسكنت عن حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول

ص: 182

عن مواضعها، فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مِهاداً، وبسطها لهم فراشاً ! فوق بحرٍ لُجّيٍ (راکد لا يجري)، وقائم لا يسري)».

الأحكام الشرعية

53 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذكر الحج :

«.. وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلةً للأنام، يرددونه ورود الأفهام، ويألهون إليه ولوه الحمام (لوذ الحمام) وجعله، سبحانه، علامة التواضعهم لعظمته، وإذعاناً لعزته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله، سبحانه وتعالى، للإسلام علماً، وللعائذين حرمة، فرض حقه، وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته (زیارته)، فقال سبحانه :

{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران /97) }

54 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصف الأضحية :

«ومن تمام الأضحية استشراف أذنها (تفقدها) وسلامة عينيها، فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت، ولو كانت عضباء القرن (مکسورته) تجر

ص: 183

رجلها المنسك (المذبح)».

55 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في أركان الدين :

«إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى اللّه سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة! وإقام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضةٌ واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جُنّة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر، وير حضان (يغسلان) الذنب، وصِلة الرحم فإنها مثراة في المال، ومنسأة (مزید) في الأجل، وصدقة السر فإنها تكفّر الخطيئة ؛ وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان.

أفيضوا في ذكر اللّه فإنه أحسن الذكر.

وارغبوا في ما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد.

واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي.

واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن.

وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث.

وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب.

واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور.

وأحسِنوا تلاوته فإنه أنفع القَصَص.

وإن العالِم العامل بغير علم کالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل

ص: 184

الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم (أشد لوماً)»

56 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوصي أصحابه :

«.. تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها فإنها :

{كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (النساء /103) }

ألا تسمعون جواب أهل النار حين سُئلوا :

- ما سلككم في سقر؟

قالوا :

- {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (المدثر /43) }.

وإنها لتحتُّ (تقشر) الذنوب حتث الورق وتطلقها طلاق الريق (حبل من عدة عري)، وشبّهها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالحمة (عينٌ ماؤها حار)، تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات. فما عسی أن يبقى من الدرن الوسخ؟ وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عينٍ من ولدٍ ولا مال، يقول اللّه سبحانه :

{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور / 37) }.

الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (نصباً) بعد التبشير له بالجنة، لقوله سبحانه :

ص: 185

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه / 32) }.

فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه. ثم إن الزكاة جُعِلَت مع الصلاة قربانا لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيِّب النفس بها، فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازة ووقاية، فلا يتبعنَّها أحد نفسه، ولا يكثرنَّ عليها لهفه، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها، يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهل بالسنة، مغبون (منقوص) الأجر، ضال العمل، طويل الندم.

ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنما عُرِضت على السماوات المبنية، والأرضين المدحوة (المبسوطة) والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض، ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز الامتنعن ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهِلَ مَن هو أضعف منهنَّ، وهو الإنسان.

{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب / 72)}».

الوصايا والتعاليم

57 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يوصي عبد اللّه بن العباس (رحمه اللّه) :

«أما بعد، فإن المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأسَ عليه جزعاً،

ص: 186

وليكن همك فيما بعد الموت».

58 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، من وصية للإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) طويلة وذات مضامين تتوافر على مفاصل الحياة بتفاصيل دقيقة نجتزيء منها ما يأتي :

× أوصيك بتقوى اللّه - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، أو أي سبب أوثق بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به.

× أحيي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلِّله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام.

× فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك.

× ودع القول في ما لا تعرف، والخطاب في ما لم تُكَلّف.

× وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال.

× وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباین من فعله بجهدك.

× وجاهد في اللّه حق جهاده، ولا تأخذك في اللّه لومة لائم.

× وخض الغمرات للحق حيث كان.

× وتفقه في الدين.

× وعوِّد نفسك الصبر على المكروه، ونعم الخُلُق التصبر في الحق.

ص: 187

× وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك.

× وأكثر الاستخارة.

× وإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في عِلمٍ لا ينفع، ولا يُنتفع بعلم لا يحق تعلّمه.

× واعلم إن مالك الموت هو مالك الحياة، وإن الخالق هو المميت، وإن المغني هو المعيد.

× وإن المبتلي هو المعاني.

× واعلم - يا بني - إن أحداً لم ينبيء عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

× فارضَ به رائداً، وإلى النجاة قائداً.

× واعلم يابني، لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملکه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إلهٌ واحد، كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبدا ولم يُزَلْ.

× يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب النفسك واكره له ما تكره لها.

× ولا تظلم كما لا تحب أن تَظلَم.

× وأحسِن كما تحب أن يُحسَن إليك.

× واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك.

ص: 188

× وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك.

× ولا تقل ما لا تعلم وإن قَلَّ ما تعلم.

× ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

× واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب.

× واعلم أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، ومشقّةٍ شديدة، وإنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد، مع خفة الظهر. فلا تحملنَّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون من ثقل ذلك وبالاً عليك.

× واغتنم من استقرضك في حال غناك، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

× واعلم يقيناً لأنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وإنك في سبيل من كان قبلك فخفّض في الطلب، وأجمل في المكتسَب، فإنه رُبَّ طلبٍ قد جرى حَرَب (سلب المال) فليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم.

× وأكرم نفسك عن كل دنية، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً.

× ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً.

× وإياك أن توجف (تسرع) بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة.

× وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك.

× وحفظ ما في يديك أحب إليّ من طلب ما في يدي غيرك.

ص: 189

× ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس.

× والحرفة مع العفة خير من الغني مع الفجور.

× والمرءُ أحفظ لسره.

× ورُبَّ ساع فيما يضره.

× من أكثر هجر (هذی) ومن تفكر أبصر.

× قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم.

× بئس الطعام الحرام.

× وظلم الضعيف أفحش الظلم.

× إذا كان الرفيق خُرقا (عنفاً) كان الحُرق رفقاً.

× ربما كان الدواء داءً، والداء دواءً.

× وربما غير الناصح، وغش المستنصح.

× وإياك والاتكال على المعنى فإنها بضائع النوكی (الحمقى).

× والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك.

× بادر لفرصة قبل أن تكون غصّة.

× وليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يؤوب.

× ومن الفساد إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد.

× ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قُدِّر لك.

ص: 190

× التاجر مخاطر، وربَّ يسير أنمي من كثير.

× ساهل (من السهولة) الدهر ما ذل لك تعوده (انقياده).

× ولا تخاطر بشيء رجاءَ أكثر منه، وإياك أن تجمع بك مطية اللجاج (الخصومة).

× احمل نفسك من أخيك : عند صرمه (القطيعة) عن الصلة (ضد القطيعة).

وعند صدوده (هجره) على اللطف، والمقاربة.

وعند جموده (بخله) على البذل (العطاء).

وعند تباعده على الدنو.

وعند شدته على اللين.

وعند جرمه على العذر. حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك،

وإياك أن تصنع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله.

× لا تتخذنَّ عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك وامحض أخاك النصيحة، حسنة كان أو قبيحة.

× وتجرع الغيظ (الغضب الشديد) فإني لم أرَ جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبةً.

× ولِنْ (من اللين) لمن غالظك (خاشنك) فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرین.

ص: 191

× وإن رمت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما.

× ومن ظنّ بك خيراً فصدِّق ظنّه.

× ولا تضيعنَّ حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك باغٍ، من أضعت حقه.

× ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك.

× ولا ترغبن في من زهد عنك.

× ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته.

× ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان.

× ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك.

× وليس جزاء من سرك أن تسوءه.

× إن الرزق رزقان، رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك.

× ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغني.

× إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك (منزلتك).

× وإن كنت جازعا على ما تَفَلَّت (تملص) من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك.

× استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه.

× ولا تكونَّ ممن لا تنفعه العظة، إلّا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ

ص: 192

بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب.

× اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين.

× من ترك القصد (الاعتدال) جار (مال).

× والصاحب مناسب (أي كالقريب في النسب). *

× والصديق من صدق غيبه (ضد الحضور).

× والهوى (شهوة وقتية) شريك العمى.

× ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد

× والغريب من لم يكن له حبيب.

× من تعدَّ الحق ضاق مذهبه.

× ومن اقتصر على قدره كان أبقى له.

× وأوثق سبب أخذتَ به سبب بينك وبين اللّه سبحانه.

× ومن لم يبالك (يهتم) فهو عدوك.

× قد يكون اليأس إدراكاً، إذا كان الطمع هلاكاً.

× ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده.

× أخِّر الشر فإنك إذا شئت تعجلته.

× وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.

ص: 193

× من أمن الزمان خانه، ومن عظّمه (هابه) هانه.

× ليس كل من رمي أصاب.

× إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان.

× سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار

× إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحکا، وإن حكيت ذلك عن غيرك.

× أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول.

59 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بعض عمّاله :

«أما بعد : فإنك ممن أستظهر (أستعين) به على إقامة الدين، وأقمع (أكسر) به نخوة (كِبرَ) الأثيم، وأُسِدَّ به لَهَاةَ الثغر المَخُوف. فاستعن باللّه على ما أهمّك، واخلط الشدة بضغث (خلط) من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلّا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وأِلنْ لهم جانبك، وآسِ (شارك) بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك والسلام».

60 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، للحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لمّا ضربه ابن ملجم :

«أوصيكما بتقوى اللّه، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما (طلبتكما)، ولا تأسفا

ص: 194

على شيء منها زُوي (قُيض) عنكما، وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً.

أوصيكما - وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي - بتقوى اللّه، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جد كما (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول :

(صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام).

اللّه اللّه في الأيتام، فلا تُغبُّوا (تحرموا) أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم.

واللّه اللّه في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم، حتى ظننا إنه سيورثهم.

واللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

واللّه اللّه في الصلاة، فإنها عمود دینکم.

واللّه اللّه في بيت ربكم، لا تُخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروه.

واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم، وألسنتكم في سبيل اللّه.

وعليكم بالتواصل والتبادل (العطاء)، وإياكم والتدابر والتقاطع.

لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيُولَّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

61 - وما كتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) للأشتر النخعي، لما ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر. وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

ص: 195

«.. اعلم يا مالك، إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشحَّ (ابخل) بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت أو كرهت.»..

وبسبب طول " العهد" أجتزئ منه الفقرات الآتية :

× أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان؛ أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

× أعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه.

× لا تنصبنَّ نفسك لحرب اللّه (مخافة شريعته) فإنه لا يَدَ لك بنقمته. ولا غنى بك عن عفوه ورحمته.

× لا تبجحنَّ (تفرحن) بعقوبة.

× إذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبَّهة (عظمة) أو مَخِيلَةً (خيلاء)، فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك.

× إياك ومسامات (مبارات) اللّه في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن اللّه

ص: 196

يذل كل جبار، ويهين كل مختال.

× أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی (میل) من رعیتك.

× وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها الرضى الرعية.

× وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم (أبغضهم) عندك، أشدهم لمعائب الناس.

× أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر (عداوة).

× لا تعجلن إلى تصدیق ساع فإن الساعي (النمام) غاشّ وإن تشبّه بالناصحين.

× إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرة.

× إن أحقّ من حَسُنَ ظنك به كَمن حَسُنَ بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لَمن ساء بلاؤك عنده (البلاء = الصنع).

× أكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ماصلح عليه أمر بلادك.

× إعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض.

× إن أفضل قرة عين الولاة، استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعية.

ص: 197

× إعرف لكل امريء منهم ما أبلی.

× أُردد إلى اللّه ورسوله ما يضلعك (يثقلك) من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور.

× اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك.

× أُنظر في أُمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباة (میلاً) وأثرة.

× تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله.

× ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج.

× من طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلا.

× أُنظر في حال كتّابك فولِّ على أُمورك خيرهم.

× إن الجاهل بِقَدْرِ نفسه يكون بقَدْرِ غيره أجهل.

× اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم.

× اجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرِّغ لهم فيه شخصك.

× لا تطوّلن احتجابك عن رعيتك.

× إياك والدماء وسفكها بغير حلّها.

× إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء

62 - ومن وصية وصَّى بها شريح بن هاني، لما جعله على مقدمته إلى الشام، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :|

ص: 198

«اتق اللّه كل صباح ومساء، وخفف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال، واعلم إنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب، مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزوتك (وثبتك) عند الحفيظة (الغضب) واقعا (قاهراً) قامعاً».

63 - ومن كتاب له (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان قال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«أما بعد، فإن الوالي إذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيراً من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك، راجياً ثوابه، ومتخوفاً عقابه.

واعلم أن الدنيا دار بلية يفرغ صاحبها فيها كل ساعة إلا كانت فرغته (خلوته) عليه حسرة يوم القيامة، وإنه لن يغنيك من الحق شيء أبداً، ومن الحق عليك حفظ نفسك، والاحتساب (المراقبة) على الرعية بجهدك، فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام».

64 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى سلمان الفارسي قبل أيام خلافته :

«أما بعد، فإن مثل الدنيا مثل الحية؛ ليّن مسها، قاتلٌ سمّها، فأعرض عما يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما أيقنت من فراقها، وتصرف حالها، وكن آنس ما تكون بها، أحذر ما تكون منها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته (أذهبته) عنه إلى محذور، وإلى إيناس أزالته إلى أيحاش والسلام».

ص: 199

65 - وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى عبد اللّه بن عباس :

«أما بعد : فإنك لست بسابق أجلك، ولا مرزوق ما ليس لك، واعلم بأن الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، وإن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك».

66 - وعندما استخلف عبد اللّه بن عباس على البصرة قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«سع الناس بوجهك ومجلسك و حكمك، وإياك والغضب فإنه طَيَرة (خفة) من الشيطان. واعلم إن ما قرّبك من اللّه يباعدك من النار، وما باعدك من اللّه يقرّبك من النار».

67 - وعندما بعثه للاحتجاج على الخوارج أوصى (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمَّال وجوه (ذو معانٍ كثيرة)، تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً (مهرباً)».

المنهج السياسي:

68 - ولما تكدر محمد بن أبي بكر لدى عزله عن مصر وإحلال الأشتر محله کتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليه يقول :

«أما بعد، فقد بلغني موجدتك (كدرك) من تسريح (إرسال) الأشتر إلى عملك (ولايتك)، وإني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهد ولا ازدیاداً لك في الجد، ولا نزعت ما تحت يدك، من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة، وأعجب إليك ولاية.

ص: 200

إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر، كان رجلاً لنا ناصحاً، وعلى عدونا شدیداً ناقماً (کارهاً)، فرحمه اللّه فقد استكمل أيامه، ولاقی جامه (موته)، ونحن عنه راضون، أولاه اللّه رضوانه، وضاعف الثواب له، فأصحر (ابرز) لعدوّك، وامضِ على بصيرتك، وشمّر لحرب من حاربك، وادعُ إلى سبيل ربّك، وأكثر الاستعانة باللّه يكفِكَ ما أهمّك، ويعينك على ما ينزل بك، إن شاء اللّه».

69 - وكتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أهل مصر، لما ولَّى عليهم الأشتر يقول :

«من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّه حين عُصي في أرضه، وذُهب بحقه، فضرب الجور (الظلم) سرادقه (غطاءه) على البِر (التقي) والفاجر. والمقيم والظاعن (المسافر)، فلا معروف يستراح إليه، ولا منکر يُتناهی عنه.

أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد اللّه، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل (يجبن) عن الأعداء ساعات الروع (الخوف) أشدّ على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث، أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف اللّه، لا كليل (لا يقطع) الظبَّة (حدَّ السيف) ولا ثابي الضريبة : إن تنفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يُقدم ولا يُحجم، ولا يؤخّر ولا يُقدِّم إلا عن أمري، وقد آثرتكم (خصصتكم) به على نفسي لنصيحته الكم، وشدّة كيمته (بأسه) على عدوكم».

70 - وكتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى سهل بن حنيف الأنصاري، عامله على المدينة عندما لحق قوم من أهلها بمعاوية فقال :

ص: 201

«أما بعد: فقد بلغني إن رجالاً من قبلك (عندك) يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيّاً (ضلالاً) ولك منهم شافياً، فرارهم من الهدى والحق، وانصياعهم (إسراعهم) إلى العمى والجهل، وإنما هم أهل دنیا مقبلون عليها، ومهطعون (مسرعون) إليها، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا بالحق أسوة، فهربوا إلى الأثرة (الأنانية) فبعداً لهم وسحقاً!!

إنهم واللّه لم يفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل، وإنا لنطمع في هذا الأمر، أن يذلّل لنا صعبه، ويسهل لنا حَزَنه (أخشنه)، إن شاء اللّه والسلام».

حِکَمٌ قِصار :

وفي ما يأتي جملُ قصار اخترناها من كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهي :

71 - إذا احتشم (أغضب) المؤمن أخاه فقد فارقه.

72 - ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا

73 - القناعة مال لا ينفد.

74 - منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنیا.

75 - الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة.

76 - من اتجر بغير فقه ارتطم في الربا.

77 - من عظم صغار المصائب ابتلاه اللّه بكبارها.

ص: 202

78 - من کرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته.

79 - ليس بلد بأحق منك من بلد، خير البلاد ما حملك

80 - قليل مدوم عليه خير من كثير محلول منه.

81 - الناس أعداء ما جهلوا.

82 - أولى الناس بالكرم من عُرِفَتْ به الكرام.

83 - الحلم عِشيرة.

84 - كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك

85 - التُّقى رئيس الأخلاق.

86 - القلب مصحف البصر.

87 - من صارع الحق صرعه.

88 - ما استودع اللّه امرأ عقلاً إلّا استنقذه به يوماً ما.

89 - من صَبَرَ صَبْرَ الأحرار وإلّا سُلُوَّ و الأغمار.

90 - ضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك.

91 - مقاربة الناس في أخلاقهم آمن من غوائلهم.

92 - ازهد في الدنيا يبصرك اللّه عوراتها، ولا تغفل فلست بمغفول عنك.

93 - تكلموا تُعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه.

94 - ربّ قول أنفذ من صول.

ص: 203

95 - كل مقتصر عليه كاف.

96 - من طلب شيئا ناله أو بعضه.

97 - البخل جامع لمساويء العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء.

98 - الرزق رزقان، رزق تطلبه، ورزق يطلبك.

99 - ربَّ مستقبل يوماً ليس بمستدبره.

100 - الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه.

101 - إن الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء

102 - العلم مقرون بالعمل، فمن عَلِمَ عمل.

103 - من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة.

104 - لا تسأل عما لا يكون، ففي الذي يقدم كان لك فيه مشكل.

105 - عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء، يكون الرخاء.

106 - أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله.

107 - ماء وجهك جامد يقطره السؤال، فانظر عند من تقطره.

108 - الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عيٌّ وحسد.

109 - أشد الذنوب ما استهان به صاحبه.

110 - لو رأى العبد الأجل ومصيره، لأبغض الأمل وغروره.

ص: 204

111 - لكل امرئ في حاله شریکان : الوارث والحوادث.

112 - المسؤول حر حتى يَعِدَ.

113 - الداعي بلا عمل کالرامي بلا وتر.

114 - العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغني.

115 - يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم.

116 - الغني الأكبر اليأس عما في أيدي الناس.

117 - ما ظَفِرَ مَن ظَفِرَ الإثم به، والغالب بالشر مغلوب.

118 - الاستغناء عن العذر أعز من الصدق به.

119 - أقل ما يستلزمكم للّه أن تستعينوا بذمه على معاصيه.

120 - إن اللّه سبحانه جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة.

121 - السلطان وَزعَة (حكم) اللّه في أرضه.

122 - المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه.

123 - اتقوا معاصي اللّه في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم.

124 - إن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت.

125 - إن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، والعالِم المتعسّف شبيه بالجاهل

126 - إن للقلوب إقبالاً وإدبارا.

127 - أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجار.

ص: 205

128 - الناس أبناء الدنيا لا يلام الرجل على حب أمه.

129 - إن المسكين رسول اللّه، فمن منعه فقد منع اللّه، ومن أعطاه فقد أعطى اللّه.

130 - كن بالأجل حارسا.

131 - ما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار.

132 - من بالغ بالخصومة أثم، ومن بالغ فيها ظَلَم.

133 - رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك.

134 - لا تصحب المائق فإنه يزين لك فعله، ويود أن تكون مثله.

135 - ما قال الناس لشيء طوبى له، إلا قد خبأ له الدهر يوم سوء.

136 - إذا أرذل اللّه عبداً حضر عليه العلم.

137 - من تذكر بعد السفر استعد.

138 - بينكم وبين الرؤية حجاب من الغرة (الغفلة).

139 - قطعَ العِلمُ عُذرَ المتعلِّمين.

140 - كل معاجل يسأل الإنظار، وكل مؤجل يتعلل بالتسويف.

141 - لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكّا.

142 - إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فاقدموا.

143 - إن الطمع مورد غير مُصدِر، وضامن غير وفي.

ص: 206

144 - كلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده.

145 - الأماني تعمي عين البصائر.

146 - الحظ يأتي من لا يأتيه.

147 - صاحب السلطان کراکب الأسد، يُغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه.

148 - أحسنوا في عقب غيركم تُحفَظوا في عقبكم.

149 - إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواءً وإذا كان خطاً كان داءا.

150 - إن للخصومة فحما.

151 - صحة الجسد من قلة الحسد.

152 - إذا أملقتم فتاجروا بالصدقة.

153 - الوفاء لأهل الغدر غدر عند اللّه، والغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّه.

154 - مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.

155 - فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك.

156 - اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك.

157 - إذا ازدحم الجواب في الصواب.

158 - إذا كثرت المقدرة قلَّت الشهوة.

159 - احذروا نفار النعم من كل شارد بمردود.

160 - الكرم أعطف من الرحِم (الغرابة).

ص: 207

161 - من ظن بك خيراً فصدق ظنه.

162 - أفضل الأعمال ما كرهت نفسك عليه.

163 - العاقل هو الذي يضع الشيء مواضعه.

164 - من أطاع التواني ضيَّع الحقوق، ومن أطاع الواشي ضيّع الصديق

165 - الحجر الغصيب في الدار رهن على خراجها.

166 - إن قوما عبدوا اللّه شکر) فتلك عبادة الأحرار.

167 - کفی بالقناعة مُلْكا.

168 - من يعطِ باليد القصيرة (يد المرء) يُعطَ باليد الطويلة (يد اللّه)

169 - من كساه الحياء ثوبه لم يرَ الناس عيبه.

170 - بكثرة الصمت تكون الهيبة.

171 - الطامع في وثاق الذل.

172 - الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.

173 - من أصبح على الدنيا حزيناً أصبح لقضاء اللّه ساخطاً.

174 - عُجبُ (إعجاب) المرء بنفسه أحد حسّاد عقله.

175 - اغظِ على القذى والأهم ترضى أبدا.

176 - من لان عوده کشفت أغصانه.

177 - الخلاف يهدم الرأي.

ص: 208

178 - من نال (أعطی) استطال (استعلی).

179 - في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال.

180 - جسد الصديق من سقم المودة.

181 - أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

182 - ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن.

183 - من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم

184 - إن لم تكن حليماً فَتَحَلَّم،

185 - من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر.

186 - الجود حارس الأعراض.

187 - الاستشارة عين الهداية.

188 - أشرف الغني ترك المني.

189 - من التوفيق حفظ التجربة.

190 - المودة قرابة مستفادة.

191 - إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه.

192 - كل وعاء يضيق بما جعل فيه، إلا وعاء العلم فإنه يتسع به.

193 - أول عوض الحليم من حلمه إن الناس أنصاره على الجاهل

194 - لم يذهب من مالك ما وعظك.

ص: 209

195 - ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك.

196 - ثمرة التفريط الندامة، وثمرة الحزم السلامة.

197 - لا خير في الصمت عن الحلم، كما لا خير في القول بالجهل.

198 - ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة.

199 - ما شككتُ بالحق مذ أُريته.

200 - للظالم البادي غداً بكفِّه عظة.

201 - من أبدى صفحته للحق هلك.

202 - من لم ينجه الصبر أهلکه الجزع.

203 - قد أضاء الصبح لذي عينين.

204 - ترك الذنب أهون من طلب المعونة.

205 - كم من أكلة منعت أكلات.

206 - الناس أعداء ما جهلوا.

207 - من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.

208 - آلة الرياسة سعة الصدر.

209 - ازجر المسيء بثواب المحسن.

210 - احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك.

211 - اللجاجة (الخصومة) تسل (تذهب) الرأي.

ص: 210

212 - الطمع رق مؤبد.

213 - عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شرّه بالإنعام عليه.

214 - من ملك استأثر.

215 - من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها

216 - من كتم سره كانت الحيرة بيده.

217 - الفقر الموت الأكبر.

218 - من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبده

219 - لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنما يعاب من أخذ ما ليس له.

220 - الإعجاب يمنع الازدياد.

221 - لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة.

222 - لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان.

223 - عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته.

224 - هلك امرؤٌ لا يعرف قدره.

225 - لا تكن من يرجو الآخرة بغير العمل، ويرجو التوبة بطول الأمل

226 - العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.

227 - العلم حاكم والمال محكوم عليه.

228 - إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها.

ص: 211

229 - قلة العيال أحد اليسارین.

230 - التودد نصف العقل.

231 - الهم نصف الهرم.

232 - ينزل الصبر على قدر المصيبة.

233 - كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ.

234 - سوسوا إيمانكم بالصدقة.

235 - حصِّنوا أموالكم بالزكاة.

236 - ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء.

237 - استنزلوا الرزق بالصدقة.

238 - من أيقن بالخلف جاء بالعطية.

239 - تنزل المعونة على قدر المؤونة.

240 - ما عال (افتقر) من اقتصد.

241 - الدنيا دار ممر لا دار مقر.

242 - عظم الخالق عندك يصغِّر المخلوق لديك.

243 - إن الدنيا دار صدق لمن صدقها.

244 - غيرة المرأة كفر، وغيرة الرجل إيمان.

245 - عجبت للبخيل يستعجل الفقر، الذي منه هرب، ويفقره الغني

ص: 212

الذي إياه طلب.

246 - وعجبت للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة، ويكون غداً جيفة.

247 - من قصر بالعمل ابتلي بالهم.

248 - إضاعة الفرصة غصة.

249 - نوم على يقين خير من صلاة في شك.

250 - أعقلوا الخبر إذا سمعتموه، عقل رعاية لا عقل رواية.

251 - قيمة كل امرئ ما يحسنه.

252 - من ترك قول (لا أدري) أصيبت مقاتله.

253 - عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار.

254 - إذا تم العقل نقص الكلام.

255 - من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره

256 - نَفَسُ المرء خُطاهُ إلى أجله.

257 - كل معدود منتقض وكل متوقع آت.

258 - الشفيع جناح الطالب.

259 - فقد الأحبة غربة.

260 - فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها

261 - لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه

ص: 213

262 - إذا لم يكن ما تريد فلا تُبَل (تم) ما كنت.

263 - عيبك مستور ما أسعدك جدك.

264 - أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.

265 - الصبر صبران، صبر على ما تكره، وصبر عما تحب.

266 - الغني في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.

267 - من حذّرك كمن بشّرك.

268 - اللسان سُبعٌ إن خُلِّي عنه عَقَر (عض).

269 - سيئة تسوؤك خير عند اللّه من حسنة تعجبك.

270 - قدر الرجل على قدر همته.

271 - احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع

272 - فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه.

273 - ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

274 - أفضل الزهد إخفاء الزهد.

275 - من جرى في عنان أمله عثر في أجله.

276 - البخل عار.

277 - صدر العاقل صندوق سرّه.

278 - خذ الحكمة أنّی کانت.

ص: 214

279 - الحكمة ضالة المؤمن.

280 - إن قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار

281 - خذ الحكمة ولو من أهل النفاق.

282 - كن في الفتنة كابن اللبون (ابن الناقة) لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.

283 - أزری (احتقر) بنفسه من استشعر الطمع.

284 - رضيَ بالذل من كشف عن ضُرِّه.

285 - هانت عليه نفسه من أمَّرَ عليها لسانه.

286 - الرجاء مع الجائي واليأس مع الماضي.

287 - الجبن منقصة.

288 - الفقر يخرس الفَطِنَ عن حجّته.

289 - العجز آفة.

290 - الصبر شجاعة.

291 - نعم القرين.

292 - العلم وراثة كريمة.

293 - الفكر مرآة صافية.

294 - من رضيت عن نفسه كثر الساخط عليه.

ص: 215

295 - من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

296 - من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب

297 - إذا رأيت ربك، سبحانه، يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره

298- کن سمحاً ولا تكن مبذراً.

299 - کن مقدِّراً ولا تكن مقتِّراً.

300 - من أطال الأمل أساء العمل.

301 - لا قربة بالنوت بالفرائض.

302 - قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه.

303 - سيئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك.

304 - الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار

305 - أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.

306 - المال مادة الشهوات.

307 - فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك.

308 - كل معدود منقوضٍ، وكل متوقع آت.

310 - إن الأمور إذا اشتبهت اعتُبِر آخرها بأوّها.

311 - رأي الشيخ أحب إليَّ من جَلَبِهِ الغلام.

312 - من أصلح ما بينه وبين اللّه أصلح اللّه ما بينه وبين الناس.

ص: 216

313 - إن هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائق الحكم.

314 - طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة

315 - لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلّا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.

316 - لا مال أعود من العقل.

317 - لا ربح كالثواب.

318 - لا حسب كالتواضع.

319 - لا قائد کالتوفيق.

320 - لا شرف كالعلم.

321 - لا مظاهرة أوثق من المشاورة.

322 - شتان ما بين عملين : عمل تذهب لذته وتبقى تبعته وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره.

323 - من قصّر بالعمل ابتُلي بالهم.

324 - استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك.

325 - إن للّه ملكاً ينادي في كل يوم : لِدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب.

326 - لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث : في نكبته، وغيبته، ووفاته.

ص: 217

327 - كلُّ شيءٍ محلول إلَّا الحياة.

328 - التودّد نصف العقل.

329 - الهم نصف الهرم.

330 - هلك خُزّان الأموال وهم أحياء.

331 - هلك امرؤ لم يعرف قدره.

332 - لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرَجِّي التوبة بطول الأمل.

333 - لكل مقبل إدبار، وما أدبر كأن لم يكن

334 - لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان.

335 - الراضي بفعل قوم کالداخل فيه معهم.

336 - اعتصموا بالذم في أوتادها (رجالها).

337 - عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شرَّهُ بالإنعام عليه.

338 - من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظن.

339 - قد أضاء الصبح لذي عينين.

340 - من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.

341 - آلة الرياسة سعة الصدر.

342 - از جر المسيء بثواب المحسن.

343 - احصر الشر في صدر غيرك بقلعه من صدرك

ص: 218

344 - الطمع رقٌّ مؤبَّد.

345 - لم يذهب من مالك ما وعظك.

346 - الجود حارس الأعراض.

347 - العفو زكاة الظفر.

348 - السلو (النسيان) عوضك من غدر.

349 - الاستشارة عين الهداية.

350 - من لان عوده كَثُفَتْ أغصانه.

351 - في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال.

352 - حسد الصديق من سقم المودَّة.

353 - أكثر مصارع العقول تحت بروق المعامع.

354 - من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم.

355 - الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين.

356 - الطامع في وثاق الذل.

357 - من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه

358 - العاقل هو الذي يضع الشيء مواضعه.

359 - من الفساد إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد.

360 - إذا ازدحم الجواب خفي الصواب.

ص: 219

361 - إذا كثرت المقدرة قلّت الشهوة.

362 - الكرم أعطف من الرحم.

363 - إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواءً، وإذا كان خطأً كان داءً.

364 - لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً.

365 - إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فأقدموا.

366 - قليل تدوم عليه أرجی من كثير مملول منه.

367 - من تذكّر بُعد السفر استعد.

368 - قطع العلم عذرَ المتعلمين.

369 - إذا أرذل اللّه عبداً حظر عليه العلم.

370 - لو رأى العبد الأجل ومصيره، لأبغض الأمل وغروره.

ص: 220

المصادر والمراجع التي اعتمدها المؤلف

-أ -

القرآن الكريم

1 - إحياء علوم الدين / الغزالي.

2 - أخبار أبي تمام / الصولي.

3 - أخبار شعراء الشيعة / أبو عبد اللّه الخراساني.

4 - الأخبار الطوال / الدنيوري.

5 - الأدب الجاهلي طه حسين.

6 - أدب الكاتب / ابن قتيبة.

7 - الإرشاد / المفيد.

8 - الاستيعاب / ابن عبد البر.

9 - الأُسلوب / أحمد الشايب.

10 - الأشباه والنظائر / السيوطي.

ص: 221

11 - الاشتقاق / ابن دريد.

12 - الإصابة في تمييز الصحابة / ابن حجر العسقلاني.

13 - إصلاح المنطق / ابن السكيت.

14 - إعجاز القرآن / الباقلاني.

15 - إكمال کنز العمال / الحنفي.

16 - الأغاني / أبو الفرج الأصفهاني.

17 - أمالي القالي / أبو علي.

18 - أمالي المرتضى / المرتضی.

19 - أمالي اليزيدي / عبد اللّه بن عباس اليزيدي.

20 - الإمام علي بن أبي طالب / عبد الفتَّاح عبد المقصود.

21 - الإمامة والسياسة / ابن قتيبة.

22 - أنباء الرواة على أنباء النحاة / علي بن يوسف القفطي.

23 - أنساب الأشراف / البلاذري.

24 - الإنسكلوبيديا الإسلامية.

25 - أيام العرب في الجاهلية.

- ب –

26 - البدء والتاريخ / مظهر بن طاهر المقدسي.

ص: 222

27 - بلاغة الإمام علي / أحمد محمد الحوفي.

28 - البيان والتبيين / الجاحظ.

-ت -

29 - تاریخ ابن خلدون / ابن خلدون.

30 - ابن الوردي / عمر بن المظفر بن الوردي.

31 - آداب اللغة العربية / جرجي زيدان.

32 - الأدب العربي في العصور الإسلامية / بيومي السباعي.

33 - تاريخ الإسلام / حسن إبراهيم حسن.

34 - تاریخ الخلفاء / السيوطي.

35 - تاريخ الخميس / حسين بن محمد حسن الديار بكري.

36 - تاريخ الطبري / محمد بن جرير الطبري.

37 - تاريخ اليعقوبي / أحمد بن إسحاق اليعقوبي.

38 - تحف العقول / ابن شعبة.

39 - تذكرة الحفاظ / الذهبي.

40 - ترجمة علي بن أبي طالب / أحمد زكي صفوة.

41 - تصنیف نهج البلاغة / لبيب وجيه بيضوني.

42 - تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي / أنيس المقدسي.

ص: 223

43 - تقريب التهذيب / ابن حجر العسقلاني.

44 - التوحيد / الصدوق.

45 - تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني.

-ج-

46 - جمهرة أنساب العرب.

-ح-

47 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / أبو نعيم الأصفهاني.

48 - خزانة الأدب / البغدادي.

49 - خصائص أمير المؤمنين / الشريف الرضي.

50 - = = = / النسائي.

51 - خصائص العشرة الكرام البررة / الزمخشري

52 - الخطابة في صدر الإسلام / محمد ظاهر درویش.

- د -

53 - درة الغواص في أوهام الخواص / أبو محمد الحريري.

54 - دستور مظالم الحكمة ومأثور مکارم الشِيَم / القضاعي.

ص: 224

55 - دعائم الإسلام / أبو حنيفة النعمان.

56 - دلالة الألفاظ / إبراهيم أنيس.

57 - ديوان ابن الفارض.

58 - = ابن الرقیات.

59 -= أبي تمام.

60 - = أبي طالب.

61 - = أبي العتاهية.

62 -= أبي نواس.

63 - =الأخطل.

64 - =الأعشى.

65 - = الأعشين.

66 - = الأفوه الأودي.

67 - امرئ القيس.

68 - =أوس بن حجر.

69 - ديوان البحتري.

70 - = بشار بن برد.

71 - = بشر بن خازم.

ص: 225

72 - = جرير.

73 - = حاتم الطائي.

74 - = حسان بن ثابت الأنصاري.

75 - =الحطيأة.

76 - ديوان الحماسة للتبريزي.

77 - ديوان الحماسة / للمرزوقي.

78 - = حميد بن ثور الهلالي.

79 -= الحميري،

80 -= الخنساء.

81 - = دعبل الخزاعي.

82 - = زهير بن أبي سلمى.

83 - = سحيم بن عبد الحسحاس.

84 - =سقط الزند / لأبي العلاء المعري.

85 - =الشريف الرضي.

86 - =طرفة بن العبد.

87 - =الطرِّماح.

88 -= العباس بن الأحنف.

ص: 226

89 - = عبيد ابن الأبرص.

90 -= العرجي.

91 -=عروة بن الورد.

92 - = علي بن الجهم.

93 -=عمر بن أبي ربيعة.

94 -=عنترة بن شداد.

95 -= الفرزدق.

96 - = قيس بن الحطيم.

97 -= كعب بن زهير.

98 - ديوان لبيد.

99 - = مجنون لیلی.

100 - = محمد بن هاني.

101 -= مسلم بن الوليد.

102 -= معن بن زائدة.

103 - = المفضليات.

104 -= النابغة الذبياني.

105 - = = الجعدي.

ص: 227

106 -= الهذليين.

-ر-

107 - الرسالة القشيرية / القشيري.

109 - رغبة الآمل / المرصفي.

110 - الرياض النضرة.

-ز-

111 - زهر الآداب.

- س -

112 - سرح العيون.

113 - سلوان المطاع.

114 - سيرة ابن هشام.

- ش -

115 - شذرات الذهب / ابن العماد.

116 - شرح مختار بشار.

117 - = المعلَّقات السبع / التبريزي.

118 - = نهج البلاغة / ابن أبي الحديد.

ص: 228

119 - = = = / ميثم البحراني.

120 - شرح الهاشميات محمد محمد الرافعي.

121 - شعراء النصرانية.

122 - الشعر والشعراء.

123 - شواهد المغني للسيوطي.

- ص -

124 - الصحاح الجوهري.

125 - صحيح البخاري.

126 - = مسلم.

127 - صفة الصفوة / ابن الجوزي.

128 - الصناعتين / أبو هلال العسكري.

129 - الصواعق المحرقة / ابن حجر.

130 - صور البديع | علي الجندي.

- ط -

131 - طبقات الشعراء / ابن سلام الجمحي.

132 - الطبقات الكبرى / ابن سعد.

ص: 229

-ع-

133 - عبقرية الإمام علي / عباس محمود العقاد.

134 - العقد الفريد / ابن عبد ربه.

135 - علي بن أبي طالب سلطة الحق / عزيز السيد جاسم.

136 - علي صوت العدالة الإنسانية / جورج جرداغ.

137 - علي نبراس ومتراس / سلیمان کتَّاني.

138 - العمدة / ابن رشق.

139 - عمدة الطالب في نسب آل أبي طالب / ابن قتيبة.

140 - عيون الأخبار / ابن قتيبة.

-غ -

141 - غرر الحكمة ودُرر الكلمة / الآمدي.

- ك -

142 - الكامل في الأدب / المبرد.

143 - الكامل في التاريخ / ابن الأثير.

144 - کشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين / الشريف الرضي.

145 - كفاية الطالب.

146 كتابات الجرجاني.

ص: 230

147 - الكتابة والتعريض / الثعالبي

- ل -

148 - اللآلئ - البكري.

149 - لسان العرب / ابن منظور.

150 - لسان الميزان / العسقلاني.

-م-

151 - ما هو نهج البلاغة / هبة اللّه الشهرستاني الحسيني.

152 - مرآة الجنان / اليافعي.

153 - المثل السائر / ابن الأثير

154 - المجازات النبوية / الشريف الرضي.

155 - مجالس ثعلب.

156 - المحاسن والآداب / أبو جعفر البرقي.

157 - المحاسن والمساوئ / إبراهيم البيهقي.

158 - محاضرات الأُدباء.

160 - مختصر تاريخ البشر.

161 - مستدرك نهج البلاغة / هادي کاشف الغطاء.

162 - مروج الذهب / المسعودي.

ص: 231

163 - المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف / الإبشيهي.

164 - المسند الإمام أحمد.

165 - مصادر نهج البلاغة / عبد اللّه نعمة.

166 - المصون في الأدب / أبو أحمد العسكري.

167 - معاهد التنصيص / الشريف الرضي.

168 - معجم الأُدباء / الحموي.

169 - معجم البلدان / الحموي.

170 - / مغني اللبيب / البغدادي.

171 - / مقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب / نجم الدين العسكري.

172 - مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب / صالح القزويني.

173 - المقتضب / المبرد.

174 - المنتقى من تاريخ بغداد / الحداد الحنفي.

175 - المؤتلف والمختلف / الآمدي.

176 - مودَّة القربي / الهمداني.

177 - میزان الاعتدال في نقد الرجال / محمد الذهبي.

178 - المئة المختارة من كلامه (ر) / الجاحظ.

ص: 232

-ن-

179 - النثر الفني في القرن الرابع / زكي مبارك.

180 - النثر الفني وأثر الجاحظ فيه / عبد الحكيم بليغ.

181 - نقض العثمانية / أبو جعفر الإسكافي.

182 - النهاية / ابن كثير

183 - نهج البلاغة / د. صبحي الصالح.

184 - = = / عمر فروخ.

185 - = = / محمد عاشور وإبراهيم البنا

186 - = = / محمد عبدة.

187 - = = / محمد محيي الدين عبد الحميد.

- ف -

188 - فجر الإسلام / أحمد أمين.

189 - الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي.

190 - الفن ومذاهبه في النثر العربي / شوقي ضيف.

-و-

191 - وفيات الأعيان / ابن خلِّکان.

192 - وقعة صفين / نصر بن مزاحم.

ص: 233

-ي -

193 - ينابيع المودَّة / القندوزي الحنفي.

ص: 234

المحتويات

الضوء الأول: التمثيل...5

الضوء الثاني: التراث الشعبي...33

صيد الحيوان...35

التطيُّر والفأل...37

الضوء الثالث: متفرِّقات...81

الرياء...83

صلة الرحم...84

الاعتذار...85

المغالاة...86

بين معاوية وعمرو بن العاص...89

بين مصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان...90

إفشاءُ السر...91

الخمر، وعمر بن الخطاب...92

العقوبة...106

ص: 235

الوصف...107

القضاة...107

الصدقات...110

الفلسفة....111

الاستجارة...112

اسْتِقْراءُ المُسْتَقْبَل...123

الشيب والخضاب...125

الأجوبة المسكتة...130

المسك...132

عبد اللّه بن الزبير...136

ذم الحرب...151

الضوء الرابع: المختار من أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...153

النصح والإرشاد...156

النقد والتعريض...159

العتاب والتقريع...163

الزهديات...167

البعثة النبوية...171

التحذير من الفتن...172

الوصف العجيب...182

الأحكام الشرعية...183

الوصايا والتعاليم...186

المصادر والمراجع...221

ص: 236

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.