نهج البلاغة صوت الحقیقة

هویة الکتاب

نَهْجُ الْبَلَاغَةِ صَوْتُ الْحَقِیْقَةِ

الكتاب:... نَهْجُ الْبَلَاغَةِ صَوْتُ الْحَقِیْقَةِ

المؤلف:... صَباحْ عَباس عَنوز

الطبعة:... الأولى 1436ه-2015م

إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع: في دار الكتب والوثائق وزارة الثقافة العراقية لسنة 2014 5090

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

ویراستار: شعبان حاتمي

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بَحْرُالعِلْمِ وَ مَدَارُ الحَقِّ

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2014 5090

ص: 2

نَهْجُ الْبَلَاغَةِ

صَوْتُ الْحَقِیْقَةِ

دِرَاسَةِ إِثْبَاتِهِ فِي ضَوءِ النَّصِ النَّقْلي

وَ مَاهِیّةِ المُنْجَزِ الفَنِّي

أ.د. صَباحْ عَباس عَنوز

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1436ه- 20150م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 4

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}

سورة المائدة الآية : 55

ص: 5

ص: 6

الإهداء....

إليك أيها الذي تربعت على قمة القيم نفحة روحية، ومعنى وجدانية، وصوتاً إنسانياً.

إليك أيها المنبثق من أعماق الإسلام أصالةً وفضيلةً وفكرةً وهدايةً.

سيدي وإمامي علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أهبط قيعان منائرکم كي أتسلق مئذنة الروح.

وهذه أفكاري تجلياتٌ روحية، وتأملاتٌ عقلية، أرفعها إلى مقامكم الكريم؛ لأنصف الحقيقة.

ص: 7

مقدمة

إن الذي يبحث ويدقق في حقيقة كتاب ن(هج البلاغة) لأمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لابد له من إسقاط التشكيك في حقيقته بأدلة علمية، وحجج منطقية، بعيدة عن العاطفة والانحياز المذهبي، ولعل (خطبة الشقشقية) وما فيها من مضامين تاريخية، وصراحة من الأوضاع السياسية التي أعقبت وفاة رسول الإنسانية محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وان المتتبع لأحداث صدر الإسلام تتوضح له حقيقة مفردات (الخطبة الشقشقية)، ويسقط كل ما يحيط بها من أوهام واهية. ويحتاج الباحث العلمي في حياتنا المعاصرة إلى الموضوعية في البحث، والتجرد من العواطف، بعد مرور زمن طويل بين أحداث السقيفة وما بعدها وصولا الخلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإذا وضع الباحث المنصف حقائق التاريخ نصب عينيه يصل إلى محتويات نهج البلاغة، لأن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد عاصر الأحداث زماناً ومكاناً، وخاض غمارها، وكان

ص: 8

المستهدف الأول في إبعاده عن مقامه الحقيقي، ولابد له من أن يقول الحقيقة، لكي يطّلع المجتمع على مجريات الأمور، وهذا مما أعطى لنهج البلاغة والخطبة الشقشقية على وجه التحديد الوثائقية المعاصرة للأحداث، ومن ثم كتب الإخباريون والرواة ومن بعدهم المؤرخون نصوصا تتفق مع آراء السلطة الحاكمة بعد هيمنة الترهيب والترغيب على الراوي والمحدّث والإخباري، وهذا مما حمل بعض الحكومات المعاصرة والمؤسسات العلمية والثقافية على حذف (خطبة الشقشقية) من مفردات کتاب نهج البلاغة، وعد بعضهم نهج البلاغة بأجمعه من مخترعات الشريف الرضي المتوفي عام 406ه من دون اللجوء الى نهج البلاغة الوارد على ألسنة الرواة والإخباريين الذين سبقوا الشريف الرضي بعدة قرون، ولعل هذا الخلط بين الحقيقة والانحياز جعل الأستاذ الدكتور صباح عباس عنوز يتصدى في كتابه (نهج البلاغة صوت الحقيقة دراسة إثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني) في محاولة لإزالة العتمة عن عيون الواقع وفق رؤية علمية ومنهجية تحليلية، بعيداً عن الانتماء المذهبي، في ضوء الخط الأكاديمي للوصول إلى الحقيقة، من خلال تحليل نصوص النهج تحليلاً فنياً، في ضوء الواقع اللغوي الذي ينتمي اليه هذا النص الخالد، وهو بذلك يغلق المسالك التي ينفذ منها الطائفيون والعنصريون الذين ما زالوا يعيشون في عصور مظلمة، ولم يضعوا أمام أعينهم التطور العلمي الذي هيمن على العالم، بحيث أصبح التاريخ بأجمعه في كف الباحث

ص: 9

الذي يستعمل التقنيات الحديثة، وعند ذلك انطوت المسافات وأصبحت المكتبات جميعها بين يديه، فما على الباحث المعاصر إلا أن يستثمر هذا التطور المعرفي، ليقدم للبشرية أفضل الدراسات ذات العطاء المثمر الذي يلتقي مع عملية النهوض التي تشهدها الإنسانية، وأملي أن يلتقي النتاج العلمي الجديد للأستاذ الدكتور صباح عباس عنوز مع الحركة النهضوية الحديثة، وأن تصبح بحوثه وكتبه مراجع للباحثين عن الحقيقة، وأن ينهج طلابه هذه المنهجية في اللجوء الى دراسة الموضوعات الحساسة التي لم تصل الى درجة القطع.

ويمكننا القول: إن عصر الالتفاف على الحقيقة قد ولّى إلى غير عودة، فقد استقى مؤلف كتاب (نهج البلاغة صوت الحقيقة) نصوصاً من مصادر اساس لمؤلفين من أعلام القرن الرابع الهجري ومصادر الدرس اللساني الحديث، في محاولة لإثبات انتساب نهج البلاغة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأرجو أن تكون نتاجاته العلمية والأدبية على وفق هذا المسار، راجياً له الموفقية والتقدم ومنه تعالى التوفيق.

أ. د حسن عيسى الحكيم

14 ذي الحجة 1433

30/ 10/ 2012

ص: 10

مقدمة المؤلف

منذ زمن بعيد وأنا اقرأ نهج البلاغة، فأستعظم كلماته وأتذوق دلالاته، وأنبهر بعباراته، وكم صادفني العجب وأنا أحدق في ما قاله السفهاء من شك، وما أثاره الغرباء في الرأي، فجعلني أتحرى أمرة لأقطع به الشك فأستأصله من صدور الواهمين، وأثبت العدل فأزرعه في أذهان القارئين، ولم ألجأ إلى حجة الرأي بالهوى، فأدعها مثلبةً عليّ، ولكن تمسكت بتلابيب النظريات الحديثة وعلّقت الأمر بها، فإن صَدَقَتْ في حججها عند أصحاب العلم فهي الفيصل والعظة، وإن كُذبت في مراميها عند أهل الشك فلهم الشطط والسفه، فلملمت أسلحتي العلمية ودخلت معتركا لأنصف الحقيقة والقصد، وأدلّي على مكمن النبل والجد، غير آبه لسهام الرماة السرابية، ولا ناضرٍ الضجيج الأفواه الظلامية، هدفي علميٌّ نبيل، ومسعاي إنصاف جمیل، من هنا جاء الكتاب هذا بعنوان :

ص: 11

(نهج البلاغة صوت الحقيقة دراسة إثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني) لأثبت انه صوت انبثق من الوجدان اليقيني لنفس لم تعرف سوى اللّه خالقا، ومعينَ الرسالة منبثقا، ذلك الإمام علي المرتضى (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فجاء الكتاب على أربعة محاور، في المحور الأول : تناولت كتاب نهج البلاغة بين الحقيقة والانبثاق، وناقشت الروايات حوله بفکر موضوعي محايد، ثم جاء المحور الثاني متضمناً عنوان نص الشقشقية في ضوء النظريات الحديثة انبثاق يقيني وحقيقة وجدانية، فيما كان المحور الثالث بعنوان مرجعية البناء الإبداعي الخاص لنصوص نهج البلاغة دراسة تطبيقية في ضوء النظريات الحديثة، وجاء المحور الرابع بعنوان الوحدة العضوية مفتاح الومضة الدلالية في نصوص نهج البلاغة، ثم الخاتمة، فقائمة المصادر.

والحمد للّه رب العالمين

المؤلف

10ذي الحجة 1434ه

26 / 10 /2012م

ص: 12

المبحث الأول

كتاب نهج البلاغة بين الحقيقة والانبثاق

ص: 13

ص: 14

دارت الألسنة برحاها، وسابقت الكلمات خطاها، وكثرت الأقوال في حقيقة كتاب نهج البلاغة، فمنهم من وقف وقفة الشك والتردد يدفعه في ذلك هوى مجانب للصواب، تغذّيه الغايات السياسية وتنشطه المرامي الفكرية، فمال إلى الباطل معلّلا تمسكه بخيوط نحيفة، غزلتها أوهام الهادفين إلى طمس الحقيقة لغاية في نفوسهم، ومنهم من وقف إلى جانب إثبات الكتاب للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهم نوعان : نوع هرع إلى إثباته فوقف تحت مظلة (الضد للضد) يدفعهم حبهم للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والدفاع عن إرثه العظيم، فغلبت العاطفة على القليل منهم، وراح النوع الآخر ينقب في إثبات الكتاب للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكان أصحاب هذا الرأي مفتشين عن الأواصر التي تعلل استعمالاتهم واستنتاجاتهم، وربط الأسباب بالمسببات وصولا إلى حقيقة انتساب نهج البلاغة، وقد برعوا في ذلك، غير أن المشككين ظلّوا يلحّون على أن دوافع التعليل وما قيل في أحقية الانتساب ليس سوى ضرب من العاطفة والولاء، ورأوا القائلين بذلك غير مستندين إلى حقائق التاريخ -

ص: 15

بحسب آرائهم - وكأن قول الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها)(1)، ينطبق عليهم، ولا يخفى على دارس متمحص مدقق منقب في أطواء المعاني والمقاصد، عارف بأسرار الكلم والنوازع، أن نهج البلاغة في حقيقته كلام منثور مصوغ فنيا تناثر بين أطناب الكتب، وتلاقفته أنامل التاريخ لتحفظه بوصفه حقيقة تاريخية وفنية في آن واحد، ولا يمكن للحقيقة أن تضام أبدا، فهي متواجدة من أجل السطوع، لأنها للإنسانية وللحقيقة ذاتها، وقد جاء الشريف الرضي المتوفي (406 ه) ليطلق على هذه النصوص اسم (نهج البلاغة) إيمانا منه بأن هذا السفر الخالد هو نهج للبيان والمعاني والبديع يفيد منه طلاب العربية، ويتعلم العقل الإنساني، وتُشذب النفس من أغراض القول فيه، (إذ كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَشرَع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظهر مکنونها، ومنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ)(2)، فمن أراد أن يركب ظهر واحد من الأقسام تلك ليس له إلا أن يسلك مسلك الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تناوله الكلم وتركيبه للجمل ومتابعة دلالاته وبيان انتظام عباراته، ولا يخفی على دارس منصف أحب مهنته مبتعدا عن الهوى وآمن أن يوما عصيبا ينتظره وسؤالا كبيراً يستنطقه بما تحمله نصوص نهج البلاغة من حقائق إنسانية، هل

ص: 16


1- خطبة الشقشقية. نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده، 36.
2- مقدمة نهج البلاغة للشريف الرضي، تحقيق الشيخ محمد عبده 11/1.

أنصف الناس الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد وفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟ الجواب يقوله فم الإنصاف کلا.

لقد دلت الحقائق التاريخية أن الناس استثأروا بالسلطة ومالوا إلى الدنيا فمنهم من ظلت الجاهلية كامنة في أعماقه تستيقظ متى تهيأ لها المناخ، إذ كان (من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه ولكنه احتفظ بالجاهلية كامنة في قلبه وضميره)(1) ولا عجب في ذلك فقد وصفهم الباري عز وجل «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2)

ومنهم من جاء إلى الإسلام رهبة لا رغبة، وخوفا وجزعا مما قد يصيبه، فلم يكن كل من عاش في زمن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد أسلم مسلما بالحقيقة والصفاء (وإنما كان أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)(3)، وهذا يؤكد أن الأعم الأغلب لم يكونوا كعمار بن یاسر والمقداد وأبي ذر وأقرانهم، لأن هؤلاء عجنت سرائرهم الصعاب وقادهم إلى حب الإسلام الصواب، فآمنوا بدعوة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفقهوا معنى الدين وشوارده وفهموا نواحيه وموارده، فلم يهنوا عن قولة الحق لحظةً، ولم يتراجعوا عن الحقيقة

ص: 17


1- الفتنة الكبرى، د. طه حسين، 39/1.
2- التوبة /97.
3- الفتنة الكبرى. د. طه حسين 39/1.

خطوةً، ناهيك عن ذلك فهناك من حمل غيظ الدنيا على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كونه الذي حظي بأقوال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حقه : (أشبهت خَلقي وخُلقي)(1) و(كانت ضرباته وترا)(2) و(لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)(3)، و (أقضاكم علي)(4)، و (أنت یعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة)(5)، و(هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر المحجلين)(6)، و (من کنت مولاه فعلي مولاه)(7)، وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(8).

فضلا عن ذلك فهو المتمتع بالشجاعة، ما صارع أحداً قط إلا صرعه(9)، (وقد نسي الناس فيها من كان قبله ومحا من يأتي بعده)(10)، تعزى إليه كل

ص: 18


1- ظ: صحيح البخاري، کتاب الصلح (2700) وظ كتاب المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب (3765). وظ : مسند أحمد (859).
2- الصراط المستقيم، العاملي1 /191، بحار الأنوار للمجلسي : 143/41.
3- شرح ابن أبي الحديد 1/ 20.
4- صحيح البخاري 4481، كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا». وظ : مسند أحمد (20581)
5- المعجم الكبير، الطبراني. 6184 وظ مسند أحمد، فضائل الصحابة.
6- مسند أحمد، فضائل الصحابة وظ، حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني.
7- مسند أحمد 347/5، وظ : الخصائص للنسائی 21، والحاكم 110/3.
8- ورد في (204) مصدر، ظ : الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضی (کاظم عبود الفتلاوي، مكتبة الروضة الحيدرية : 188/1)
9- المعارف في التاريخ، ابن قتیبه، وظ، شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 14/1.
10- ظ : شرح ابن أبي الحديد، 1 /13.

فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عُذرها وسابق مضمارها ومجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده، فمنه أُخذ و به اقتفى وعلى مثاله احتذى)(1).

فهو المقرب من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو سند المحرومين، المحبوب من المسلمين، عون الضعفاء والقريب من البسطاء، المجاهد المهيب التقي، القاضي العادل القوي، الشجاع الفقيه الكمي، الحليم العافي النقي، الزاهد المفكر الولي والكريم المعطاء السخي، صاحب الرأي السديد والنصح الحميد، كان عونا للإسلام والمسلمين، كتم ظلمه وقهر سقمه، من أجل (لا إله إلا اللّه محمد رسول الله)، وكي يبقى الإسلام شامخا، على الرغم من استلاب حقه وإهمال أمره، كل ذلك جعله محسودا مرصودا من طلاب الدنيا.

ويأتي العامل الآخر وهو عدم لينه تجاه الحق، فهو لا يخاف لومة لائم في سبيل اللّه سبحانه، فكان يقتل الصنادید الحاذقين، ويهش الأشرار المعتدين، وهو الذي أبكى المشركين في معركة بدر، وزاد النكاية بهم، إذ (قُتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نصفهم وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر)(2) حتى سُمّي قَتّال العرب

ص: 19


1- ظ : م.ن، 11/1.
2- ظ : مغازي محمد بن عمر الواقدي، و.ظ : أنساب الاشراف الأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري. و:ظ : شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 16.

وكما كان الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) (ربيب الوحي ) فقد رضع من ثدي النبوة صفاءها، وانتشق من عطر الرسالة أريجها، فأمتلأ كیانه بهوائها، وامتزج دمه بنقائها، فكان نتاج الإسلام وثمره، وإيراق الخير وكنهه، وسماحة الإنصاف وقيمه، فهو (أسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته ويصدع بأمر اللّه )(1).

فهو لا يساوم على كل ما ابتعد عن الخط المستقیم ؛ خط الرسالة المحمدية القويم، وحين نمت الأرستقراطية قامت على المعنى الخاطئ، إذ (لنظام الحكم في هذا الصدر من الإسلام عنصران متميزان، أحدهما معنوي وهو الدين، وهو الذي يأمر بالعدل والإحسان والمعروف، يفرضهما على الرعاة والرعية جميعا، والآخر هنا الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية والتقوى وحسن البلاء والاتصال برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، والتي انحرفت بها قریش بعد ذلك عن طريقها)(2)، فزادت الهبات ونمت الصلات، ومهما يكن من شيء فقد (نشأت هذه الأرستقراطية القريشية فجأة على غير حساب من الناس وكانت ارستقراطية غُلط بها)(3)، فقد غيرت قریش ما تبناه الخليفة الأول (إذ أراد أبو بكر الإمامة في المهاجرين، فحولت

ص: 20


1- ظ : الفتنة الكبرى، 15/2.
2- الفتنة الكبرى، 38/1.
3- م.ن، 37/1.

قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها)(1)، ولعل أشدها قد نمت في عهد عهد عثمان (وصحت فيه فراسة عمر فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس، ووهم الولايات وأقطعهم القطائع، وافتتحت افريقية في أيامه فأخذ الخمس كله هبة لمروان)(2)، ووهب عبد اللّه بن خالد بن أسيد أربعمائة درهم، وأعاد الحَكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سيّرهُ ولم يردّه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائتا ألف درهم، وأقطع مروان فدك، وأعطى عبد اللّه بن أبي سرح جميع ما أفاء اللّه عليه بفتح افريقية بالمغرب، وأعطى أبا سفيان ماتا ألف دينار من بيت المال، ومنح مروان بن الحكم مائة ألف دينار من بيت المال وهذا يفسر بكاء زيد بن أرقم صاحب المال ووضعه مفاتيح المال بين يدي عثمان وإعفاء الأخير له من تلك المهمة(3)، وأتاه أبو موسی بأموال العراق فقسمها كلها في بني أمية ومنح الحارث بن أكثم مائة ألف دينار من بيت المال بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه(4)، فازداد الأمر سوءاً اذ لم يبق هناك (توازن بين الحاكم والمحكوم، ولم يكن هناك تضامن صحیح بين الخليفة والكثرة الضخمة من رعیته العربية)(5)، فأثار الأمر قريحة

ص: 21


1- م.ن، 37/1.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 132/1.
3- شرح ابن أبي الحديد، 1 /132.
4- ظ: م.ن، 133/1.
5- الفتنة الكبرى، د.طه حسين، 39/1.

قريحة من رأى عدم الإنصاف بعينه، فهذا عبد الرحمن بن حنبل الجمحي يقول مستنكراً ذلك (1):

أحلف باللّه رب الأن***م ما ترك اللّه شيئاً سدى

ولكن خُلِقْتَ لنا فتنة***لكي نبتدي بك أوتبتلى

فإن الأمينين قد بيّنا***منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة***ولا جعلا درهما في هوى

وأعطيت مروان خمس البلاد***فهيهات سعيك ممن سعى

وكان ذلك دليلا واضحاً على نقمة العامة وسخطهم على نفر من بني أمية لامتلاكهم المال والسلطة معاً. ويقول د. طه حسين : (ولو قد سار عثمان في أموال العامة سيرة عمر فلم ينفق المال إلا بحقه، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً)(2)، وهو فضلاً عن ذلك و(مهما يكن اعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه فإنه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العنف بالرعية ضرباً ونفياً وحبساً)(3)، ولا شك في ذلك، إذ إنه لما استخلف عثمان خلّى بين الفئة التي منعها عمر من الخروج إلى الأمصار - خوفا منها وخوفا عليها-. فأمدّها عثمان بالصلات الضخمة من بيت المال(4)، فلم (تلبث الفتنة أن ملأت

ص: 22


1- شرح ابن أبي الحدید، 1/ 133.
2- الفتنة الكبرى، د.طه حسين، 197/1.
3- م.ن، 1/ 198.
4- ظ : م.ن، 47/1.

الأرض شراً، لا لأن هذه الطبقة أرادت الشر أوعمدت إليه، بل لأنها استكثرت من المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهة أخرى، فكان لكل واحد من زعمائها مواليه وأنصاره وشیعته)(1)، كل ذلك صنع طبقة كُبرى حُقَّت بها شهوات الدنيا، في حين اشرأبت أعناق الناس تستغيث من الفقر، ومن طبقة تسيّدت الواقع السياسي وكانت بالأمس القريب تغمز المسلمين، وتريهم شر العذاب، بينما أصبحت العامة في شظف من العيش، وقد أخذت مصاعب الحياة منها كل مأخذ، وعلى هذا المشهد تدور عينا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) رؤية، ويقارن ذلك بما أرادته الرسالة الإسلامية السامية للإنسان، وما ينبغي أن يُحَقّقُ له من عدل، فلم یکن موقفه إلا الرافض للواقع، المنتصر للمساكين والمظلومين، الأمر الذي دعا أصحاب المطامع إلى أن يقفوا منه موقف الضد، وهذا الأمر ليس جديداً، فقد تمسكوا بذلك الموقف منه (عَلَيهِ السَّلَامُ) منذ أن كان أول القوم إسلاما وأركزهم دينا، وأعدلهم وأنصفهم للحقيقة والحق، فهو دوماً في مرمی الحاقدين الذين توغّرت صدورهم وامتلأت حفيظتهم عليه، وفارت أحقادهم کرها له، وقد لاقى ذلك عملياً من قَبْلُ، وبَعْدَ أن أجبر على الخلافة، وفي المناط نفسه يستشف الباحث الفطن ما حصل بعد ذلك وأن قوما لم يبايعوه(2)، إذ (رأي الناس طلحة والزبير يبايعان من غير رضى ولا إقبال)(3)،

ص: 23


1- م.ن، 1/ 46 -47.
2- الفتنة الكبرى، 2 /5 وما بعدها
3- م.ن، 15/2.

فلابد أن يلاقي ما يلاقي من الناس الكارهين له، ليس في مجال مسألة الخلافة، بل تعدى ذلك إلى طمس فضائله والتمويه على الحقائق، كي لا ينفذ صوته إلى قلوب العامة، ولكن على الرغم من ذا وذا فقد فاح أريج ذكره عابراً السدود والموانع التي فعلها حُسّاده، وما (أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله)(1)، من نمو ذكره وإيراق حبه في قلوب الأنقياء، (فقد علمت أنه استولی بنو أميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إخفاء نوره والتحريض عليه ووضع المعايب والمثالب له، ولَعَنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل وحبسوهم وقتلوهم ومنعوا رواية حديث يتضمن له فضيلة، أويرفع له ذكرا، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما سُتر انتشر عَرْفُه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح وكضوء النهار إن حجبت عنده عين واحدة أدركته عيون كثيرة)(2)، وهذا يعني إن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد حورب بعد وفاته، وعمل الإعلام الأموي على بث فكرة إخفاء مناقبه، فيأخذ ذلك بنا أيضا إلى أن جزءاً مما كتب عن الإمام ونقل من تراثه الفكري قد أُلحِقَ بغيره أوأخفي عن عين التاريخ، فلاحقت عيون حاسديه وأحقادهم منجزه الفكري

ص: 24


1- م.ن، 11/1.
2- شرح ابن أبي الحدید، 11/1.

واللغوي والعلمي، إذ ذهب فريق إلى إلغاء إسناد الكتاب (نهج البلاغة) إليه، وربما كان الأثر كل الأثر ينبع من مضمون الخطبة (الشقشقية)، ولقد جاءت الشقشقية في نهج البلاغة وقفة تاريخية لا يمكن لأحد إلغاؤها، فقد تناولتها كتب أخرى قبل أن يولد الرضي رحمه اللّه تؤكد إن الخطبة ليست للشريف الرضي، وإنما للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسنتناول أدلة على إثبات ذلك منها عقلية ومنها نقلية، فالدليل العقلي هو أن الخطبة وجدت قبل ولادة الشريف الرضي بحسب ما رواه ابن أبي الحديد وغيره، وهو ما لا يقبل الشك، لأن الشارح ابن أبي الحديد يشرح الكتاب ويفصلُ لنا کلامة إذ يقول : (فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وست مائة، قال : قرأت على الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن أبي الخشاب هذه الخطبة (ويقصد الشقشقية) فلما انتهيت إلى هذا الحد الموضوع (ويقصد قول ابن عباس) : فواللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألّا يكون أمير المؤمنين بلغ منه حيث أراد.

قال لي (يقصد الشيخ ابن الخشاب): لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد ! واللّه ما رجع عن الأولين ولا على الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل فقلت له أتقول

ص: 25

إنها منحولة ! فقال : لا واللّه وإني أعلم إنما كلامه كما أعلم أنك مصدّق. قال : فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه اللّه فقال : أنّى للرضيّ ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلٍّ ولا خَمْرٍ، ثم قال :

واللّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يُخلَق الرضي بمائتي سنة ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق أبو أحمد والد الرضي، قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانیف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر شرح ابن قبة، أحد متکلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه اللّه تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه اللّه تعالی موجود )(1).

من هذه المحاورة التي نقلها إلينا ابن أبي الحديد، والتي وجدنا فيها أمانته العلمية في النقل وحياديته نستشف أن الحديث عن هذه الخطبة قد أخذ مأخذاً كبيراً عند السابقين، ودار الحوار عليها، ولكن العلماء المنصفين الذين فهموا

ص: 26


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /136- 1370.

الكلام ومیزوه في صدورهم وتدبروا القول وأداروه في أفكارهم، وعرفوا الأساليب ووسموها بإتقانهم، كانوا أذكياء في التقاط موضوع العلاقة التي تدور مراميها في معنى الكلام إسلوبا أومنهجا أو تصنيفا فهم خبراء القول وسدنة الكلم، وقد اتصف الشيخ ابن الخشاب بعلميته، لأن معاينته كانت منصبّةً على طريقة القول وفنية الاسلوب، فعكف عن الاعتراف بمن يشككون بنسبة الكتاب، وأسندوه للرضي، فأجاب بالرفض، إذ مهدت له المعرفة العمودية (1) بأساليب القوم وطرائق قولهم إلى وظيفة نفعية إقناعية جعلته يرفض تلك النسبة بقوله (أنّى للرضي وغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب ! وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمر) (2).

فضلا عن ذلك فإنه (لا يجوز لعالم أومنتحل للعلم أن يراها من الشريف الرضي لأن كثيرا من أدباء عصره أثبتوها في مدوّناتهم وأرسلوا نسبتها إلى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إرسال المسلمات کالوزير الآبي (3) أبو

ص: 27


1- المعرفة العمودية أطلقها على المعرفة العلمية العميقة التي يتمتع بها الباحث الفطن، فينفذ من أجل فهم القضية إلى جذور المسألة ويحيط بصغائر أمورها فضلا عن إطارها العام.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 137/1.
3- الوزير السعيد ذو المعالي زين الكفاة أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، فاضل، عالم، فقیه، شاعر، نحوي، لغوي، جامع الأنواع الفضل، قرأ على الشيخ الطوسي، وُزر لمجد الدولة البويهي، له كتاب نزهة الأدب وکتاب نثر الدر توفي سنة 422 ه، ظ : أعيان الشيعة 138/1، وظ: الأعلام، الزركلي : 8 /237.

سَعْد منصور (ت 22 4 ه) في كتابيه نثر الدر ونزهة الأدب)(1)، وقد أورد شیخ الشريف الرضي المفيد (ت413 ه)(2) خطبا للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومنها الشقشقية(3)، وقد أحسن أحدهم استنطاقاً للروايات بعد أن وقف على تمهید المفيد للخطب وقوله : (روى جماعة من أهل الثقة من طرق مختلفة عن ابن عباس قال كنت عند أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالرحبة فذُكرت الخلافةُ.. ثم قال : أما واللّه لقد تقمصّها ابن أبي قحافة... الخ)(4)، واتفق مع رؤيته التي كان مصيبا فيها، إذ (لا يجوز اقتباس الشيخ المفيد هذه الخطبة من نهج البلاغة ونقلها إلى كتابه، لأن الرضي لا يمهد للخطبة إسنادا بل يقول ومن خطبه له وهي المعروفة بالشقشقية.. إلى آخر الخطبة في حين إن شيخه المفيد يمهد لها قصة وإسنادا)(5)، وأحسب الباحث الفطن هو الذي ينماز باستنطاقه واستقراءاته المبنية على ربط الأسباب بالمسببات وإعادة القول إلى المنهج والأسلوب، وبذلك يحقق مراده العلمي في الوصول إلى الحقيقة، وهو ما نتوسمه عند المنصفين الباحثين عن فيصل القول.

ص: 28


1- ما هو نهج البلاغة، السيد هبة الدين الشهرستاني، تعليق السيد عبد الستار الحسيني، 64.
2- محمد بن النعمان، المكنى بأبي عبد الله، المولود 338ه والمتوفی 413 ه، هو صاحب کتاب المقنعة والإرشاد وأحكام أهل الجمل، ظ : الفهرست : 38.
3- الإرشاد، 135.
4- ظ م.ن، 135.
5- ما هو نهج البلاغة :65.

فالشك في (الشقشقية) مفتعل بعيد عن الحقيقة، والذين أسهموا في إشاعة هذا الخبر يعلمون ذلك جيدا، لأنهم أسهموا في ترويج أكذوبة الشك هذه، لأن ذلك يمهد لثورتهم الإعلامية التي أرادوها وسيلة تسهم في إزالة كل ما يمتّ إلى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من فضائل.

ومهما يكن من أمر فإن مسألة نفي نسبة نهج البلاغة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها علاقة بالوضع السياسي، فقد وضع الإعلام في خدمة الدولة الأموية التي هيأت كل شيء من أجل إخفاء فضائله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكانت للحرب الإعلامية الأموية جذورها المتزامنة مع حقد الخوارج على الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ أن الأمويين ساعدوا على المجيء بأكثر الأحاديث الموضوعة وكانت مفتعلة في أيامهم، فقد (خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحیحي العقيدة فقصدوا به الإضلال وتخليق القلوب والعقائد، وقصد بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنیوي(1)، فأخفوا عن الناس الحديث الصحيح، ومما يؤكد ذلك ما ذكره أبو الحسن علي ابن محمد ابن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة إن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون في أهل بيته) (2)، وقد كثرت الروايات الموضوعة المفتعلة التي لا

ص: 29


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 11 /30.
2- م.ن، 11 /31.

حقيقة لها، فعلمّوا الصبيان والغلمان تلك الأمور كما يتعلمون القرآن (1)، فضلا عن الخوارج الذين فجعهم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقتلاهم فقاطعوه وتجرأوا من دون مسوغ شرعي أوقانوني فتمادوا (2)، فلا يخفى على منصفٍ إن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يمثل جانب الخير، وإن أصحاب الخير قلة، إذ أكد الباري عز وجل في كتابه إن أصحاب الحق هم قلة على الدوام، وقد ورد هذا الأمر مرتين في القرآن الكريم إذ قال سبحانه «بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» (3)، «لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(4)، ولا يخفى على أحد أيضا أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد لاقى (انتفاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وفي دون هذه المدة تنسى الأحقاد، وتموت الثارات، وتبرد الأكباد الحامية وتسلو القلوب الواجدة، ويعدم قرن من الناس ويوجد قرن، ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلا الأقل، فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حالة لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من إظهار ما في

ص: 30


1- ظ : الحسين في مواجهة الضلال الأموي، السيد سامي البدري، 77.
2- ظ : الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي، د. محمد حسين علي الصغير /35.
3- المؤمنون/70.
4- الزخرف/78.

النفوس)(1)، وأخذت الناس من بني أمية تعلم أبناءها الحقد على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حتى أن الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء القصرت عن فعله، وتقاعست عن بلوغ شأوه فكيف تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة (2)، فأصبحوا يسبّونه ويعلنون البراءة منه بدءاً من العمال على الأقاليم إلى معاوية كما حصل مع حجر بن عدي (3)، لقد كان الأمويون متفننين في نسبة الأحاديث التي تنطلي بمعناها على العامة، فتمر عليهم إما لسذاجة تفكيرهم أولحقد بعضهم على آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، لقد اختلقوا الروايات الكاذبة كما هي الحال في ما افتروه من رواية خطبة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنة أبي جهل في حياة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلى أساس أن ذلك أسخطه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وعلى أساس أنه قال : لا واللّه، لا تجتمع ابنة ولي اللّه وابنة عدو اللّه أبي جهل، إن فاطمة لبضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، أوما يتضمن هذا المعنى (4)، فقد استطاعوا استطاعوا أن يأتوا بالكذبة فيصدقونها حتى تصل الوعي الجمعي فتصبح في مصاف الحقيقة لديهم بغية التنكيل بالإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وآل بيته الأطهار

ص: 31


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 88/11.
2- م.ن، 88/11.
3- ظ : الفتنة الكبرى، 222/2.
4- ظ : البخاري المختصر، 4 /164، مسلم 1903/4 ، وظ: الحسين في مواجهة الضلال الأموي، 74.

(عَلَيهِم السَّلَامُ).

وقد تمثل مروان بن أبي حفصة (105 - 182 ه) ذلك شعرا وهو من الحاقدين على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ كان جده أبو حفصة مولى لمروان بن الحكم، أعتقه يوم الدار وحين مدح المهدي والرشيد جاء هذا الأمر في شعره ترسيخا لأكذوبتهم حتى يقول متهكما على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (1)

وساءَ رسولَ اللّه إذ ساء بنته***بخطبته بنت اللعين أبي جهل

أراد على بنت النبي تزوّجا***ببنت عدو اللّه يا لك من فعل!

فذمّ رسول اللّه صهر أبيكم***على منبر الإسلام بالمنطق الفصل

واستمر هذا التنكيل والهجاء والقذف بآل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تقربا للخلفاء، فأشاحوا وجها عن الحقيقة وبسطوا أيديهم للفتنة، فاستقرت في أذهانهم روایات شيطانية وعششت في ضمائرهم المظلمة أغراضٌ كيدية.

إن التفاتةً عقلانية لاستقراء التاريخ بإنصاف تؤيد استعار الحرب الإعلامية الشعواء التي شنّها بنو أمية على آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، نعم إنهم وقفوا في إزاء جبال الكبرياء المعروفة لدى العرب، فكيف يتسنّى لهم أن يحققوا حججهم الإقناعية، إنهم سلكوا طريق الإعلام، فنسفوا كل الروايات التي تتحدث عن آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وفضائلهم، وجعلوا محلها ما يفيد

ص: 32


1- ظ : الأغاني ج 23 /214- 215.

أغراضهم، وقد كان هذا العمل أمرا حكوميا رسميا، فقد نقل الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أواليمن صحيفة فيها أحاديث عن آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فاستأذنّا عبد اللّه بن مسعود فدخلنا عليه قال فأدخلنا عليه الصحيفة فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا يا أبا عبد الرحمن انظر فيها فإن فيها أحاديثاً حسانا، فجعل يميثها ويقرأ «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ»(1)، ثم قال القلوب أوعية فاشغلوها ما سواه (2)، وهذا يومئ إلى عملية الإجهاض لكل حديث شريف تضمن رواية في آل بیت الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لقد كانت السطوة الأموية كبيرة جدا تسندها مناداة دولتهم بالأمور الدنيوية، واهتمام المسؤولين بها وصار معاوية نموذجا لهم، إذ (جدد لنفسه حياة تتلاءم ومتطلبات النفوس الحاكمة بالترف والمجون وأطايب النعم فتأنق المأكل والمشرب وصفَّ الألوان بما لا عهد للعرب فيه، وتزيّن بالحلل الثمينة، وكان معاوية يبذر الفيء كما يشاء ويزيد في الشهوات كما تتطلب النفوس، بينما كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقسم المال بالسوية ويخرج من أدنى شيء درعا، ويأخذ نفسه بشظف العيش) (3).

كل ذلك أدى بمحبي الحياة الدنيا إلى أن تركن نفوسهم إلى مباهج الحياة،

ص: 33


1- يوسف /3.
2- ظ : تقييد العلم / 54.
3- الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي، د. محمد حسين علي الصغير 348.

فنشأ (جيل متمرد من أبناء المسلمين، فرأوا الحياة بمباهجها مع معاوية)(1)، وهذا الأمر جعلهم ينأون حتى عن أحاديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيميلون عنها أما صلافة أوتأويلا، فقد ورد عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله لِعمّار : (ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية)(2)، وقد اشتهر هذا الأمر بين المسلمين (وقد أشفق الزبير في حرب علي حين عرف أن عمار معه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليا في صفين ولكنه لا يقاتل وإنما يتحرى أمر عمار فلما عرف انه قد قتل قال : الآن استبانت الضلالة ثم قاتل حتى قُتل)(3)، ولذلك هرع معاوية وجماعته إلى تأويل الحديث فلم يشككوا في الحديث لأنه صحيح، فحاولوا في البدء (أن يخفوا علمهم بهذا الحديث فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلا تأوّلوه : قال معاوية أنحن قتلناه ؟ إنما قتله الذين جاءوا به)(4)، وكان عمار رضي اللّه عنه قد استيقن من موقف الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقاتل وقد تجاوز التسعين، ويبدو أنه كان عالما بعمرو بن العاص وحقيقته وذلك ما نستشفه وهو يشير إلى راية عمرو (واللّه لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثلاث مرات وهذه الرابعة وما هي بأبرِّهن)(5)، وكان يقول (واللّه لو ضربونا حتي

ص: 34


1- م.ن، 348.
2- الفتنة الكبرى 77/2.
3- م.ن، 77/2.
4- م.ن، 77/2.
5- الفتنة الكبرى، 77/2.

يبلغونا سعفات هجر لعلمنا إنا على الحق وإنهم على الباطل)(1)، وهذا ما يؤكد قلة أصحاب الحق وهيجان الغوغاء المرتكزة على شهوات الدنيا، والمنطلقة من حقد دفين على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلم يكن الإعلام الأموي إلا سلاحا قذرة عمل على أن الغاية تسوغ الوسيلة، فأيا كانت ماهية الوسائل فهي في خدمة أغراضهم الباطلة.

وانقيادا للبحث فإن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد واجه وعيا جمعية أمويا أنشئ على الكره والحقد و البغضاء من جانب، ومن جانب آخر فإن عدالته (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابت عليه إلا ركوب سبيل العدل، وهذا مالا يرتضيه الجمع الأكثر على وفق قول الباري عز وجل «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(2)، فعلى الرغم من علم الناس بأحقّية قضية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلا إنهم ساندوا معاوية وتركوا حديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الآنف الذكر حول عمار رضي اللّه عنه خلف ظهورهم.

فماذا يراد إذن قبالة مسخ التاريخ وتطمس الحقائق وملاحقة أتباع الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ لقد تبين بعد حين أن حربهم لا إنسانية شعواء، فوصل الأمر بكم الى تزييف الحقائق، ولم يقف الأمر عند حد معين بل امتد الى نهب تراث الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الفكري، فقد تجرأوا وألحقوا أقواله بآخرین

ص: 35


1- م.ن، 77/2.
2- المؤمنون / 70.

حينا، وهاجموا أصحابه الحاملين بضمائرهم تلك الأقوال بالقوة حينا آخر. ومع ذلك بقي إرثه يفوح أريجا، فما القول (في رجل أقرَّ له أعداؤه وخصومه بفضله ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله)(1).

ولأجل معالجة الكذبة التاريخية الدائرة حول الشك في نسبة نهج البلاغة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نرى أن الشقشقية هي المحور الأساس الذي سنسلط ضوء الحقيقة عليه لأن الخصوم اتخذوها مفتاح التشكيك، فأصبح الأخير ظاهرة مفتعلة في أدبياتهم، وختاما وبعد أن مهدنا بما لا يقطع الشك في أن الفعل الإعلامي القائم على الأغراض السياسية قد أسس لذلك الشك بغية تحقيق هدف سياسي يخدم بني أمية، وردّاً على ذلك فإنا سنثبت الشقشقية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عبر نظرية النص بما لا يقبل الشك واللّه المعين على إظهار الحقائق.

ص: 36


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 11.

المبحث الثاني

نص الشقشقية في ضوء النظريات الحديثة انبثاق يقيني وحقيقة وجدانية

ص: 37

ص: 38

تمهيد

بعد أن استطردنا في بدايات البحث عن الحرب الإعلامية التي شُنت ضد الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وآل بيته بعد وفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وما تعرض له آل بيته من مآسي ونكبات، وكان سبين مصدرها :

أولهما : عدم إسلام بعض الناس إيمانا صميمية فلم (يكن العرب كلهم أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).. ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقاً أومقارباً لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب من حسن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن.. بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره) (1)، وقد انبثقت على وفق هذا المفهوم طبقة وصلت إلى الحكم فحكموا بوجهين أحدهما : جعلوه الوجه الإعلامي لهم وهو تعبوي تصنعوا فيه الإيمان والدفاع عن الإسلام، وكان يكمن وراء ذلك ركضهم

ص: 39


1- الفتنة الكبرى، 39/1.

وراء منافعهم الشخصية، والوجه الآخر : كان مرافقاً لهم يستوطن حقائقهم متأت من ولعهم في الدنيا وحبهم للمناصب وإبعادهم لعترة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذين إن حكموا طبقوا العدل والإنصاف وهذا ما لا ترضاه تلك الطبقة، وقد أشرنا إليها سابقاً، فبعض القوم لمّا يزالوا امتدادا اللغطرسة والكبرياء، وما يؤكد ذلك (لنظام الحكم في هذا الصدر في الإسلام عنصران متميزان: أحدهما معنوي وهو الدين الذي يأمر بالعدل والمعروف، ويفرضهما على الرعاة والرعية جميعاً، والآخر هذه الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية وحسن البلاء والاتصال برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد انحرفت بما قریش بعد ذلك عن طريقها)(1)... وهذا الأمر انعكس على الأجيال والحفدة التي جاءت بعدهم منهم من تأثر بالإسلام ومنهم من لم يتأثر (2). وبامتداد هذا المناخ تباین التموج الطبقي، وحين جاءت خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) استقبلها (الضعفاء المحرومون بالغبطة والسرور وتلقتها الطبقة الأرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية، وكان المناخ في المدينة يضم أهل الورع والتقوى يعتضد بهم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ويضم أيضا أهل النفاق والشقاق فيضيق بهم الإمام، وكان المسرح الإداري من ذي قبل يعج ويضج بأهل الطبع والأثر، فالولايات تحتجن والمناصب يستولي عليها المقربون والأصهار، وكان المناخ السياسي مضطرباً

ص: 40


1- الفتنة الكبرى، 1/ 38.
2- ظ : م.ن، 38/1.

أشد الاضطراب في واقعه وإن بدأ أول الأمر قاسياً بعض الشيء)(1).

أما المصدر الثاني : حقدهم على آل الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والحيلولة دون وصولهم إلى الحكم، فخرج ذلك بالإعلام المشؤوم الذي وُجِّه التراث أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وما يتعلق بأفضليتهم، ولا غرو في ذلك فإنَّ الأمويين والعباسيين من بعدهم قد وظّفوا الإعلام لطمس ذلك التراث، ولا بد أن يأتي الأمر على نهج البلاغة لأن إعلامهم وطدَّ فكرةً عند أتباعهم، مفادها أن الحسين (خارج على الدين وخارج على الخليفة الشرعي، وقد بنی بعض الكُتّاب المعاصرين هذه الأطروحة نظير الشيخ الخضري (2))(3)، إن هذا النفس الذي زرعه الأمويون ظل مستمراً حتى عصر الشيخ هذا، الذي أغلق فكره، وتقوقع حول رؤية سوداء لا تنظر الأشياء إلا بعين واحدة، ونسي أن الأمر يتطلب عالمًا مليئاً بالعيون، وقد دأب على دربه في هذه النظرة السوداوية آخرون(4)، وقد تصدى السيد البدري إلى هذا الجانب الإعلامي

ص: 41


1- الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي.د محمد حسين علي الصغير /41.
2- يدّعى الشيخ الخضري إن الحسين أخطأ خطأ عظيما في خروجه هذا الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف وزعزع إلفتها الى يومنا هذا.. انظر كتابه الدولة الأموية، 237، دار المعرفة بیروت 1418 ه.
3- الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، السيد سامي البدري /13.
4- ظ : ما قاله أحمد الشلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي، ج 7 /208، ط 9/ 1984 القاهرة، وظ: ما قاله د. أحمد شلبي في موجز التاريخ الإسلامي، 152، ط1، الدمام 1417 ه.

وحدّدهُ بثلاث أطروحات وفصّل فيه في كتابه (الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)).

إن هذا الأمر أنعكس بسلبياته على كل ما يتعلق بآل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من الرواية الشريفة فيهم ونتاجهم الإبداعي الخاص، وكان نهج البلاغة بوصفه نصة أدبياً فنياً راقياً، قد تعرض هو الآخر إلى الطعن، وكتب الناس فيه مؤيدين ومنکرین، وكانت النقطة التي ينفذ منها إليه هي الخطبة الشقشقية، بوصفها نصاً رفضه بعضهم بحجة أن هذا الأمر لا يقوله الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسبب ما ورد فيه من أسماء أوإشارات إليها، وأتساءل لماذا هذا الإنكار؟ هل لأحد أن يمنع الحقيقة من السطوع؟ وفرضاً أن هذا الفريق قد استعمل سبله لحجبها، فهل أن ذلك على اللّه سبحانه وتعالى بعسير؟ لماذا يبقى بعضهم مقدسين للتاريخ الخاطئ، يخفون الحقائق تحت غيمة الحقد، ولا يخافون يوماً ترفع فيه الأبصار للواحد القهار؟، ألم يعلموا أنّه لا فائدة من اللهاث وراء الرأي الفاسد، ألم يقرأوا القرآن ويتدبروا معانيه؟ لماذا الهجوم الدائم على معقل الحق؟ واللّه سبحانه يؤكد «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا»(1)، فأصبح النص القرآني هنا بمثابة المثل بحسب بلاغة الإطناب، وما يهمنا إثبات مرجعية الخطبة الشقشقية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على وفق الدراسات الحديثة التي تربط بين النص ومنشئه، فوجدتني

ص: 42


1- الإسراء/81.

مقتنعا بالاستعانة بها وصولا إلى الحقيقة.

وقبل كل ذلك لابد لي من الوقوف على التسلسل الزمني لرواتها ومصادرهم:

1. أحمد بن محمد البرقي (ت274 ه) روى عنه الشيخ الصدوق (1).

2. شيخ المؤرخين.. العزيز بن يحيى الجلودي البصري (من أعلام القرن الثالث الهجري) عن رواية إبن بابویه (2).

3. أبو علي بن محمد بن الوهاب الجبائي (ت302ه) نقل عنه إبراهيم القطيفي (3).

4. الوزير أبو الحسن علي بن الفرات (ت312ه) بحسب رواية ابن میثم البحراني في شعر له.

5. أبو القاسم البلخي (شيخ المعتزلة) (ت317ه) عن رواية ابن أبي الحديد (4).

6. ابن عبد ربه القرطبي (ت328ه ) برواية القطيفي (5).

ص: 43


1- علل الشرائع، الباب الثاني والعشرون بعد المائة طبع سنة 1289ه.
2- معاني الأخبار، الباب 404، طبعة سنة 1289ه.
3- الفرقة الناجية، تحقيق ونشر دار المصطفى الأحياء التراث، بيروت - لبنان 1922ه.
4- ظ : شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 136- 137.
5- يروي صاحب (كتاب ما هو نهج البلاغة) السيد هبة الدين الشهرستاني في ص 78، فيقول : (تحرينا الجزء الرابع فلم نجد الشقشقية فيه، فإما أن يدا أثيمة حذفت هذه الخطبة من النسخة الأصلية عند الطبع، وإما أن القطيفي أشتبه في هذه النسخة عند نقله).

7. الشيخ أبو جعفر بن قبة من أبناء المائة الثالثة في كتابه الإنصاف برواية ابن أبي الحديد (1).

8. شیخ المحدثين الحسن بن عبد اللّه العسكري بن سعيد العسكري.

9. الشيخ المفيد (ت13 ه) في كتابه الإرشاد (2).

10. الوزير الآبي من (أبناء القرن الرابع الهجري في كتابيه نثر الدرر ونزهة الأدب).

وقد رويت الشقشقية في عصر الشريف الرضي وبعده من:

1. الشريف الرضي (406ه) (النهج).

2. عبد الجبار المعتزلي بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسد أبادي (ت415ه).

3. ابن أبي الحديد (656 ه). وقد أكد بالروايات التي تؤكد أسبقية خطب نهج البلاغة لزمن الشريف الرضي (3)

4. میثم بن علي بن میثم البحراني (673ه)، وقد ذكر أنه رأى الشقشقية في كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبة من أبناء القرن الثالث

ص: 44


1- يقول میثم البحراني (679 ه). إنه رأى الشقشقية في كتاب الانصاف، ظ : الكنى والألقاب 1/ 433.
2- ظ : معاني الأخبار، طبعة سنة 1289 ه، باب 404.
3- ظ : شرح ابن أبي الحديد، 136- 1370.

الهجري، ولما رأى النسخة كان عليها خط أبي الحسن بن محمد بن الفرات (ت312ه) وزير المقتدر العباسي (ت 320ه ) وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة (1).

ولأجل المقارنة العلمية ودراسة المتن على وفق النظريات الحديثة ارتأينا أن نأخذ نص الشقشقية من أزمنة مختلفة فقد وقفنا على نسخ وردت عند البرقي (ت 274 ه) عن كتاب علل الشرائع، وشيخ المؤرخين الجلودي من القرن الثالث الهجري عن كتاب معاني الأخبار، والشيخ المفيد (413 ه) في الإرشاد، والوزير الآبي من أبناء القرن الرابع الهجري في نسخته، وكما وردت عن الشريف الرضي (406ه) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وتحرينا النصوص، وقد حصل حذف أو اضافة في بعض منها نعتقد أنها كانت لعلل سیاسية.

فقد ورد اسم الخليفة الأول صريحاً في نسخة البرقي والشيخ المفيد والوزير الآبي وشرح ابن أبي الحديد، ووردت بإسم (اخوتيم) في نسخة الجلودي، أما في شرح الشيخ محمد عبده فقد وردت العبارة ب(تقمصّها فلان) وبعد التمحيص تبين لدي أن الشقشقية هي كما أوردها الشريف الرضي، وشرحها ابن أبي الحديد، وقد دلّني على ذلك التحليل الفني لها على وفق نظرية النص، وسأذكرها، ثم أجري تحليلي لها.

ص: 45


1- ظ : كتاب الإنصاف في الإمامة، و ظ : الإرشاد : 135.

الشقشقية في نهج البلاغة

أما واللّه لقد تقمصّها ابنُ أبي قُحافَةَ (1)، وإنه ليعلم أن محلي منها محلُّ القطب من الرحي، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها کشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بید جذَّاء، أوأصبر على طِخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أری تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبیله فأدلى بها إلى فلان بعده ثم تمثل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كُورها***ويومُ حيّانَ أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشد ما تشطرا ضرعيها!- فصيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها ويخشن مسها، ويكثر العثار (فيها)، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أساس لها تقحم، فمُنِي الناس لعمر اللّه بخبطٍ وشماسٍ وتلونٍ واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا للّه وللشوری متى اعترض الريب فِيّ مع الأول منهم حتى صرت أُقرَنُ إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفّوا وطرت

ص: 46


1- كما وردت في شرح ابن أبي الحديد، 1 /99.

إذ طاروا، فصغا (1) رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هَنٍ وهَنٍ.

إلى أن قام ثالث القوم، نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكَبَت به بِطنته. فما راعني إلا والناس تعرف الضبع، إلي ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي کربیضة الغنم.

فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق (و قسط) آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول. «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(2)، بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.

أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنیا کم هذه أزهد عندي من عفطة عنز!

(قالوا) وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضي اللّه عنه : يا أمير

ص: 47


1- أي : مالَ
2- القصص/83.

المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت؟

فقال هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت.

قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين بلغ منه حيث أراد.

الشقشقية كما في نسخة الآبي

قال الوزير: وذكرت عنده الخلافة فقال : لقد تقمصّها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب ينحدر عني السيل ولا تترقى إلى الطير، فصبرت وفي الحلق شجى وفي العين قذى لما رأيت تراثي نهباً فلما مضى لسبيله صيَّرها إلى أخي عدي فصيرها في ناحية خشناء تمنع مسها ويعظم كلامها فمُني الناس بتلوُم وتلوّن وزلل واعتذار، فلما مضى لسبیله صيّرها إلى ستة زعم أني أحدهم! من أعترض فِيَّ الريب فأقرن بهذه النظائر، فمال رجل لضغنه وصغي آخر لصهره وقام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعلفه وقام معه بنو أبيه يهضمون مال اللّه هضم الإبل نبتة الربيع، فلما أجهز عليه عمله ومضى لسبیله ما راعني إلا والناس إلي سراعا كعرف الضبع وأنثالوا عليَّ من كل فج حتى وطئ الحسنان وأنشق عطفاي فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وفسق آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ

ص: 48

لِلْمُتَّقِينَ»(1)، بلى واللّه لقد سمعوها ولكنهم احلولت الدنيا في عيونهم وراقهم وراقهم زبرجها. أما واللّه لولا حضور الحاضر ولزوم الطاعة وما أخذ اللّه على العباد أن لا يقروا كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنیاکم هذه أهون عندي من عفطة عنز:

سیّان مايومي على كُورِها***ويَومُ حيّان أخي جابر

فقام رجل من القوم ناوله كتاباً شغل به، فقال أبن عباس : فقمت إليه وقلت : يا أمير المؤمنين لو بلغت مقالتك من حيث قطعت؟ فقال هيهات كانت شقشقة هدرت فقرَّت.

الشقشقية كما في إرشاد المفيد

أَمَ واللّه لقد تقمصّها ابن أبي قحافة وانه ليعلم أن محلي محل القطب من الرحي، ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلى الطير لكني سدلت دونها ثوبا وطويت عنها کشحا وطفقت أرتئي بين أن أصول بید جذآء أوأصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ریه، فرأيت الصبر على هاتی أحجی فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجی أری تراثي نهبا إلى أن حضره أجله فأدلى بها إلى عمر، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها :

ص: 49


1- القصص/83.

شتّان ما يومي على كورها***ويوم حيان أخي جابر

فصيّرها واللّه في ناحية خشناء يجفو مسها ويغلظ كلمها، صاحبها کراکب الصعبة إن أشنق لها خرم وان أساس لها عسف، يكثر فيها العثار، ويقل منها الاعتذار، فمني الناس لعمر اللّه بخبط وشماس، وتلون واعتراض إلى أن حضرته الوفاة فجعلها شورى بين جماعة زعم أني أحدهم، فيا للّه وللشوری متى اعترض الريب فيَّ مع الأولين منهم حتى صرت الآن أقرن بهذه النظائر، لكني أسففت إذا سفوا وطرت إذا طاروا صبرا على طول المحنة وانقضاء المدة فمالَ رجل لضغنه وصغي آخر لصهره مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وأسرع معه بنوا أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن ثوت به بطنته وأجهز عليه عمله فما راعني من الناس إلا وهم رسل إلي تعرف الضبع، يسئلوني أن أبايعهم وانثالوا عليّ حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالی يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1) بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت دنیاهم في أعينهم، وراقهم زیرجها. أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر ولزوم الحجة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على أولياء الأمر ألا

ص: 50


1- القصص/83.

يقرّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها ولاءلفوا دنیاهم أزهد عندي من عطفة عنز.

قال: فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع کلامه، قال ابن عباس : فما أسفتُ على شئ ولا تفجعت کتفجعي على ما فاتني من كلام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما فرغ من قراءة الكتاب قلت : يا أمير المؤمنين لو أُطردتَ مقالتك من حيث انتهيت إليها؟ فقال : هيهات! هیهات كانت شقشقة هدرت ثم قرت.

شقشقية البرقين عن كتاب علل الشرائع

شقشقية البرقي (1) عن كتاب علل الشرائع (2)

أما واللّه لقد تقمصّها ابن أبي قحافة أخو تيم وإنه ليعلم أن محلي محل القطب من الرحي ينحدر عني السيل ولا يرقى إلىّ الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها کشحا، وطفقت أرتأيّ بين أن أصول بید جذّاء أوأصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجی، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى إذا مضى لسبیله فأدلى بها لأخي عدي بعده، فيا عجبا بینا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته فصيّرها

ص: 51


1- أحمد بن أبي عبد اللّه محمد البرقي، أبو جعفر، كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء وأعتمد المراسيل، له كتاب المحاسن وکتاب صوم الأيام وكتاب البلدان والمساحة وغيرها، توفي سنة (274 ه). رجال النجاشي : 76.
2- علل الشرائع ج1 /150.

في حوزة خشناء يخشن مسها ويغلظ كلمها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة إن عنف بها حرن وإن أسلس بها غسق، فمُنِيَ الناس بتلوّن واعتراض وبلوى، وهو مع هَنٍ وهَنٍ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبیله جعلها في جماعة زعم أني منهم، فيا للّه وللشوری متى أعترض الريب فيَّ مع الاوّل منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، فمال رجل لضغنه وأصغى آخر لصهره، وقام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبت الربيع، حتى أجهز عليه عمله، وكبت به مطيته، فما راعني إلا والناس إلي کعرف الضبع قد انثالوا عليَّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة وفسقت اخرى، ومرق آخرون كأنهم لم يسمعوا اللّه تبارك وتعالى يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1)، بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها لكنهم احلولت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء ألا يقروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز.

ص: 52


1- القصص/83.

قال: وناوله رجل من أهل السواد كتابا فقطع كلامه وتناول الكتاب، فقلت يا أمير المؤمنين لو أطردت مقالتك إلى حيث بلغت؟ فقال: هيهات هيهات یا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرت.

قال ابن عباس: فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ لم يبلغ به حيث أراد.

شقشقية الجلودي عن كتاب معاني الأخبار

شقشقية الجلوديا (1) عن كتاب معاني الأخبار

واللّه لقد تقمصّها أخو تيم وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل، ولا يرتقي إليه الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها کشحا، وطفقت أرتئي (ما) بين أن أصول بید جذاء أوأصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى الله، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی، فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى إذا مضى الأول لسبیله عقدها لأخي عَديٍ بعده، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته، فصيّرها واللّه في حوزة خشناء، يخشن مسها، ويغلظ كلمها، ويكثر العثار والاعتذار فيها، فصاحبها كراكب الصعبة إن عنف بها حرن، وإن سلس بها غسق فمني الناس بتلون واعتراض وبلوى مع هَنٍ

ص: 53


1- عبد العزيز بن يحيى بن أحمد الجلودي يكنى أبا أحمد من أهل البصرة، له كتاب المرشد والمسترشد، وكتاب المتعة وما جاء في تحليلها، وكتاب مجموع قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، توفي سنة (332ه). ظ : الكنى والألقاب ج2 / 148

وهَنٍ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبیله جعلها في جماعة زعم أني منهم ! فيالله لهم وللشورى، من اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن بهذه النظائر؟ فمال رجل بضبعه، وأصغى آخر لصهره، وقام ثالث القوم نافجا حضينه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أمية يهضمون مال اللّه هضم الابل نبتة الربيع، حتى أجهز عليه عمله، فما راعني إلا والناس إلي تعرف الضبع، قد انثالوا عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة وفسقت أخرى ومرق آخرون، كأنهم لم يسمعوا قول اللّه تبارك و تعالی «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها لكنهم احلولت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء ألا يقروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنیا کم هذه عندي أزهد من حبقة عنز.

قال: وناوله رجل من أهل السواد كتابا فقطع کلامه وتناول الكتاب، فقلت يا أمير المؤمنين لو أطردت مقالتك إلى حيث بلغت؟ فقال : هيهات هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرت. قال ابن عباس : فما أسفت على كلام قطر كأسفي على كلام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ لم يبلغ به حيث أراد.

ص: 54

وعند أجراننا للبناء الفني للنصوص أجمعها وقفنا على ما يأتي:

أولاً: الاستهلال: يُعد الاستهلال ركناً مهماً في عملية الكلام الفني؛ كونه يمثل الدفقة الأولى له، فهو طلائع الكلام لِما يختمر في النفس من رؤىً وأفكار، كونه أول ما يقرع السمع، وقد أولى القرآن الكريم اهتماما كبيراً لذلك، إذ جاءت جميع فواتح السور في القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها كالتحميدات، وحروف الهجاء، والنداء وغير ذلك(1)، وجعلَ علماء البلاغة أحسن الابتداءات ما ناسب المقصود وسمّوه براعة الاستهلال (2)، وسمّوه حسن الابتداء، وبراعة المطلع، واهتم علماء البلاغة بأول الكلام وأرادوا منه أن يكون أعذب الألفاظ وأجزلها وأساسها وأحسنها نظماً وسبعاً وأصحّها مبنى وأوضحها معنى، وأخلاها من الحشو (3).

ولا ريب في ذلك، فالاستهلال أوالمطلع يتكئ عليه الكلام اللاحق، فهو يمثل هُوية الكلام وصفته ویشي عن أسرار المتكلم وينبئ عما يختلج في أطوائه من رؤى مكبوتة، وحين يأتي أوان تلك الأشياء ليُظهرها اللسان فإنها تصبح وثيقة إنسانية، لاسيما إذا دخلت في مصاف الكلام الإبداعي، لأن الأخير (إيحائية تضم الذات والموضوع في وقت معاً)(4)، فهنالك خصائص

ص: 55


1- ظ : أنوار الربيع 1/ 34.
2- ظ : الإيضاح، 431.
3- ظ : الإيضاح، 425.، وخزانة الأدب، 3، وظ أنوار الربيع، 1/ 34.
4- مذهب التحليل النفسي والفرويدية الجديدة، فاليري ليبين، دار الفارابي، ط1، 1981، 114.

تدعو إلى تحريك القرائح وإنتاج العمل الإبداعي، لاسيما الكلام المصوغ فنياً، فهناك بواعث للكلام، إذ (إن الدواعي إذا قامت في النفوس، وحرکت القرائح أعملت القلوب، وإذا جاشت بمكنون ودائعها، وتظاهرت مكتسبات العلوم وضرورياتها نبعت المعاني ودرّت أخلاقها)(1).

فعملية القول حين يحين وقت انبثاقها فإنها مدفوعة بالعاطفة والرغبة معاً على وفق ما يراه بشر بن المعتمر(210ه) (والشيء لا يحنّ إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة) (2).

فهناك علاقة بين الانفعال النفسي والعمل الفني (لأن عملية الخلق الفني تعتمد على القدرة الباطنية في إثارة القوى الانفعالية للذات)(3). وهناك إيحائية تفرضها القوى الباطنية النامية عن الإحساس بحرارة الأشياء، أوقل تأثيرها الباطني على الذات الإنسانية فهناك وجهان رئیسان لجوهر العمل الإبداعي الوحي، والإخراج الشكلي(4).

ويظل الاستهلال مهماً، كونه نتاج باعث معين، وأن المبدع على رأي

ص: 56


1- شرح دیوان الحماسة، المرزوقي، نشره أحمد أمين بالاشتراك مع مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، ط1 1952، 12.
2- ظ : البيان والتبيين، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان 1968، 1 /95 وما بعدها
3- الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث، د.عبد القادر فيدوح، 36.
4- ظ : مسألة اللاوعي في الصورة الشعرية، د. صبحي البستاني، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 23، 1982- 1903، 99.

يونج (إنسان جمعي حامل لواء الروح الفعالة اللاشعورية للإنسان)(1)، وهو الذي يقدر على كشف خفايا اللاشعور الجمعي بالغوص في مكنونات الماضي وبغرفِه من (معين المصدر المثيولوجي كي يفكر بعيداً وينسجم ومعاناته) (2)، فثمة علاقة بين مقدمة النص الخارج من النفس الإنسانية وبين فحوى الكلام العام من جهة، وبين عالم الاستبطان الذي يُظهر الخبرة الشعورية والواقع الخارجي الذي تتحكم فيه معايير المجتمع، فالاستهلال وثبة شعورية تتحكم بها عوامل النفس الداخلية وما يعتمل في اللاوعي من شعور بالاضطهاد أوعدم الإنصاف أو غير ذلك، فضلاً عن الواقع المعيش الذي لا يسایر رغبات القائل، وعلى وفق ذلك يأتي الأسلوب متوجاً بالاستهلال، فيقع على عاتق الأسلوب إظهار (القيم الوجدانية محمولة على ألفاظ ومفردات المنشئ، إذ يتدخل البيان في إظهار تلك القيم، فيأتي التركيب البياني متماشياً مع ما يعنيه المبدع) (3)، وبعد هذه التوطئة، ندخل إلى فضاء النص للخطبة الشقشقية، فقد وقفنا على أقدم نسخة هي لأحمد بن محمد البرقي (ت 278 ه)، ووردت عنده في استهلالها ب(أما واللّه لقد تقمصّها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي محل القطب من الرحی).

ص: 57


1- علم النفس التحليلي، يونج، ترجمة نهاد خیاط، دار الحوار، ط1، 1980، 209.
2- الإنسان والحضارة والتحليل النفسي، ويلهام رایش وآخرون، ترجمة انطوان شاهين، وزارة الثقافة، دمشق، 1975، 38.
3- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية،103.

والأمر نفسه عند المفيد (413 ه)، غير أن الآبي (من أبناء القرن الرابع الهجري ) زاد كلمة (منها) فأصبحت عبارته (محلي منها محل) ومثله ابن أبي الحديد (606ه)، واختلفت عند الجلودي (من القرن الثالث الهجري) وهو مؤرخ فقد استبدلت عبارة (ابن أبي قحافة) ب(أخوتيم)، وقد وجدت نسخة الرضي شاملة وهي أقرب إلى تكامل النص بعد تمحيص النسخ الأخرى التي لا تختلف عنها إلا بما أشرنا اليه سابقاً، لذا سأقف عندها تحليلاً، فقد بدأ الاستهلال بالقسم، وأردف القسم خبر إنكاري وهو ما تعددت فيه المؤكدات، وهذا الخبر ينكره المخاطب، فيحتاج فيه إلى تأكيد بأكثر من مؤكد، وقد ورد كثيرة في القرآن الكريم : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)، أوقوله تعالى : «قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ»(2)، فيأتي هذا الكلام حين تستولي إمارات الإنكار على المخاطب، وعوداً إلى نص الشقشقية (الاستهلال)، فقد بدأ ب(أما) حرف التنبيه، وهي تفيد الاستفتاح وتكثر قبل القسم، وتفيد التوكيد، وقد أدت وظيفتها التوكيدية، ليأتي التأكيد بعدها مباشرة بالقسم (واللّه) وهو عند النحاة جملة يؤكد بها الخبر، ثم جاء حرف التحقيق (لقد) تأكيداً بعد تأكيد القسم مباشرةً، ثم جاء الاسم المعني (ابن أبي قحافة)، ليردف بتأكيد مباشرة (وإنه) ثم يردف بتأكيد آخر (اللام) لتفيد تأكيد مضمون النص، ويختم الاستهلال بالتأكيد أيضا فكانت المهيمنة على النص

ص: 58


1- الحجر /9.
2- يس/16.

متحققة عبر التأكيد، فالعبارة احتوت على ستة توكيدات، وهذا يفسر مدی إنكار الآخرين لحقه، فجاء بالإستهلال ليؤكد المضمون، ويكون الخبر ضمن الضرب الإنكاري، لعلم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمدى إنكارهم ليس جهلاً منهم، وإنما إصراراً على ركوب السبيل الباطلة، لذلك جاء الاستهلال ممهداً لثورةٍ وجدانية انبثقت عن يقين، ثم بدأت العبارات تكتسي حلل النفس العاتبة، فكان الاستهلال صلة الوصل بين عالمي الإمام الداخلي والخارجي، فهذه الصلة. صلة الأشياء (الخفية بالمشاعر - ودورها في العملية الإبداعية هي الصلة نفسها التي تنتاب الذات بوصفها ظاهرة شكلية، وهي مقارنة من حيث ارتباط الذات بالعالم الخفي ليس إلا)(1)، فضلاً عن ذلك فإن (الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فريما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية، فكأنَّ متكلماً يتكلم معه، ومخاطباً يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد في نفسه) (2). وهذا يفسر قوله (تلك شقشقةٌ)، وامتناعه عن الاستمرار بالكلام حين طلب منه ابن عباس رضي اللّه عنه الاستمرار بالكلام (لو أطردت مقالتك حين أفضيت) (3)، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (هيهات يا ابن عباس! تلك شقشقة هَدَرت ثم قَرّت )(4).

ص: 59


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر فيدوح، 53.
2- التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 87/1.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /135.
4- م.ن، 1 /135.

فكان النص كله صوتاً جاش في أعماق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وحقق بذلك علاقة وطيدة بين ما تحس به النفس من آلام وآهات، وبين رغبة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد أخرجها إلى الفضاء فباح بها، (لأن النفس والقوى والهمة عند ارتجال الخطب والأشعار تجتمع إلى القلب، فإذا قطع الإنسان وفرغ، تفرقت وخرجت عن حجر الاجتماع واستراحت)(1).

ولم يقتصر الاستهلال على التأكيد فحسب، وإنما رافقته الصورة، فجاء التأكيد مؤطراً بالصورة، وقد نمت صورتان في مقطع الاستهلال، أولهما الصورة الحسية المرئية، عبر كلمة (تقمصّها)، أي لبس الخلافة جاعلا إياها كالقميص مشتملة عليه، ثم استمرت الصورة الحسية لتنمو فيها الصورة الثانية في إطار حركي تحقق عبر القطب والرحي، لتؤكد محل الإمام من الخلافة تلك، فهو كالقطب من الرحي، إنه مرکزها ومستقرها، فظهرت أمام المتأمل صورتان متوازيتان كلاهما حسيتان، الأولى تمثلت بالأخذ والسلب عبر دلالة مفردة (تقمصّها)، والثانية ثابتة في إطار حركي عبر عبارة (محلي منها محل القطب من الرحی)، ولا يخفى على أحد أن الصورة الحسية نتاج الانفعال، فكلما تصاعد انفعال الإنسان كلما مال إلى رسم صوره بالحسية، وبذلك أعطت هاتان الصورتان معنى آخر للاستهلال، لأن (الصورة بمعناها العام هي الشكل المنظور إليه بالنظر أو بالذهن) (2)، وهي (قوة تحفظ ما یدرکه الحس

ص: 60


1- م.ن، 1/ 136.
2- الأداء البياني في شعر الشيخ علي الشرقي، د. صباح عباس عنوز، 53.

المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها) (1)، فكان التكافؤ في التعبير حاضراً، والتكافؤ هو أن يصف المتكلم (شيئاً أويذمه أويتكلم فيه بمعنى ما، فيأتي بمعنيين متكافئين) (2)، فرسمت الصورتان شيئين وجعلت المقارنة للمتلقي، ثم أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يصرّح بالخلافة ومنحها الضمير الغائب دليلاً على تغيّبها عنه، فقال (تقمصّها)، فللاستهلال دائمًا صلة بالموضوع، وهذه المقدمة تقع ضمن نوع من الخطب تسمي استشارية وهي الخطابة السياسية وفيها (يقول الخطيب شيئاً عن نفسه، أوعن خصومهِ، أو يثير السامعين، ليكونوا أكثر قبولاً لما يقول، وطبيعة هذه الخطابة القضائية تجعل المقدمات جداً نادرة، وإذا أراد الخطيب أن يمحو مزاعم خصمه فله أن يثيرها في شكل افتراضات و اعتراضات (3).

وتسمى استدلالية من جهة أخرى كوها تتم البرهنة على أن العمل الذي يقال فيه نافع أونبيل وموضوعها المدح والذم (4).

فقد وجدنا منذ الوهلة الأولى في نص الشقشقية التنبيه والتأكيد والاعتراض (أما والله.... وإنه ليعلم)، وهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك أكد عدم

ص: 61


1- التعريفات. السيد الشريف، 54.
2- نقد الشعر العربي، قدامة بن جعفر، 166.
3- الخطابة، أرسطو، 1350 أ، س 39-32، وس14- 22، و ظ : النقد الأدبي الحديث د. محمد غنيمى هلال، ص139.
4- الخطابة، أرسطو، الكتاب الأول، الفصل الثالث، وظ : النقد الأدبي الحديث، 102.

جدوى الفعل الذي حدث، وهذا ما تتطلبه الخطابة الاستشارية )السياسية)، ففي المقدمة والمضمون ينتهي الأمر إلى البرهنة على )أن الرأي المقترح غير عملي وغير علمي، ولكنه ظالم، أولا يحمل نتائج طيبة... ويراعي أن إثبات أي خطأ فيما يسوقه الخصم من قول، يعد بمثابة برهان على خطأ العمل جميعاً وتكون البرهنة بالمَثَل) (1)، فقد جاء الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالمثل صريحاً (وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرّحي)، وهنا يستوجب علينا الوقوف عند وحدات العمل الفني الثلاث، إذ لابد للمنشئ أن يمر بها، إذا كان عمله الفني صميمياً نابعة من أعماقه، وهذه الوحدات :

وحدة الصراع: وهي ترتكز على الباعث الذي حفز المنشئ للقول أو العمل الإبداعي، وتمثل موقفه من الوجود أوالواقع، فتنعكس رؤية المتكلم من خلاله رفضاً أوقبولاً، فهي تمثل رسم المتكلم لعواطفه المستقاة من الطبيعة بما يمثله العامل الجغرافي (2) من جهة، ومن جهة يتوافر فيها الإحساس الذي يتدخل في العمل الأدبي ليعكس موقف القائل من وجوده في هذا الواقع، (وهو موقف متوازٍ مع الحياة من حوله، ومع الصراع من أجل إثبات الذات، وهو ما يسوّغ لنا ربط هذا الموقف بحياته الفكرية التي عكست نتاجه الفني ضمن وحدة فنية) (3)، وقد حفلت الشقشقية بهذه الوحدة، وحددت موقف

ص: 62


1- الخطابة، الكتاب الثاني، فصل 4، و ظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 104.
2- ظ : قضايا النقد الأدبي (بين القديم والحديث)، د. محمد زكي العشماوي، 126.
3- ظ : الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 298.

الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من ذلك الواقع المعيش (ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتني بين أن أصول بیدٍ جذّاءٍ، أوأصبر على طخية عمياء)(1)، فقد كان موقفه من الواقع حاضراً فهو بين الصبر والعتب، وبين قلة الناصر، كما أوحت بها عبارة (يد جذاء) بمعنى المقطوعة، ولكن الصبر على الظَلَمة كان أهون عليه، كناية عما يلبّد ذلك الواقع من نقائض، تلك النقائض يبرهنها الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لأن الخطابة الناجحة هي ما قامت على البرهان، فالقياس المنطقي مسند من ينشد الحق وقد (وهبت الناس من الاستعداد ما يكفيهم لمعرفة الحق في أغلب الأحيان.. وهكذا يفترض مثل هذا الاستعراض عندما تلتقي الاحتمالات بالحقيقة.. فالخطابة نافعة، لأن الحق والعدل لهما - طبيعة - من القوة أكثر مما النقيضها) (2)، ولما كانت الخطابة هي (القدرة على الكشف نظرياً - في كل حالة حالة من الحالات - عن وسائل الإقناع الخاصة بتلك الحالة) (3)، فإن نص الشقشقية قد حظي بوسائل الإقناع وحقق تلك الوظيفة التي تبين موقف الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الوجود من خلال التقرير والبرهنة والتفنيد، فيقول (وطفقت أرتني بين أن أصول بیدٍ جذّاءٍ أوأصبر على طخيةٍ عمياء) ويقرر

ص: 63


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 99/1.
2- الخطابة. أرسطو 1355 أس 14- 22. وظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 97.
3- م.ن، أس 1-3.

أنه لو كان ذلك حاصلا سوف (يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی)(1)، أي صبرت على هذه بالركون إلى العقل، فأحج بمعنى أعقل، وهنا قد تجلى لنا موقفه (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الواقع لأن وحدة الصراع مثلما لها القدرة على تحقيق (الوحدة في العمل الفني من التطابق بين العواطف، فإنها تتحقق كذلك من التباين والتقابل) (2)، فظهرت في الخطبة بفعل وحدة الصراع الاحتمالات والتوقعات، والتباين والتقابل، فهي رؤيته الخاصة (أرتئي بين الصولة بيدٍ مقطوعة لا عون ولا نصير، وبين الصبر على الغيم الأسود، بين هرم الكبير وشيخوخته المستعجلة وشيب الصغير قبل أوانه، وقتل المؤمن بغير روية منه، وبين الصبر، ومن ثم يفضي كل ذلك إلى القرار (فرأيت الصبر على هاتا أحجي)، ولما كانت وحدة الصراع لها القدرة على دفع المتكلم أوالخطيب إلى أن يؤسس أحكامه، ويقرر حقيقة ما يريد على ضوء هذه الظاهرة التي أحاطت به، أويموقفه من الواقع المعيش، فإنها تبنى في أطواء النص على أساس أنه (يبلغ بهذه المواد المتصارعة المتباينة درجة عالية من التوازن، بحيث يصل في النهاية إلى العمل الذي تنصهر فيه جميع الأجزاء وتعطي في النهاية أثراً واحداً....) (3) فوجدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتخذ قراره لأنه في الخطابة

ص: 64


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /99.
2- الأتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 301.
3- قضايا النقد الأدبي (بين القديم والحديث)، 159. 160.

الاستشارية (السياسية) لابد من البرهنة على الرأي، فكانت البرهنة حاضرة بعد أن نوّه بالاحتمالات التي يجر إليها الحديث حول ما أحاط بخلافته على المسلمين، ولما كانت من طبيعة الخطابة البرهنة بالمَثَل (1)، فكان التمثيل حاضراً من أجل الإقناع كما مر سابقاً، ولما كانت خصائص الخطباء الذين يوحون بالثقة تتركز بصفات الفطنة والفضيلة والتلطف للسامعين (2)، فإن نص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قد إشتمل على الصفات الثلاث من خلال فطنته التي بانت في نص الخطبة وفي العمل الذي أنبأ عنه، فهو فضَّل المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، فالفضيلة جميلة وكذا كل ما يوصل إليها وخير الفضائل أعمّها نفعاً وأبعدها عن المنفعة الخاصة (3).

وتستثمر وحدة الصراع أو الموقف من الوجود في عموم النص بعد أن اتخذ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قراره (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا) (4)، إنه الصراع بعينه بين الحقيقة والباطل (أري تراثي نهبا) (5)، (فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة) (6)، متي اعترض الريب فيّ مع الأول منهم، حتى صرت

ص: 65


1- الخطابة، أرسطو، 1417 ب س 31-34، و ظ : النقد الأدبي الحديث، 142.
2- الخطابة، الكتاب الثاني، الفصل الأول، و ظ النقد الأدبي الحديث، 104.
3- الخطابة، الكتاب الأول، فصل 9، و ظ : النقد الأدبي الحديث، 104.
4- شرح ابن أبي الحديد، 99/1.
5- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 99/1.
6- م.ن 121/1.

أقرن إلى هذه النظائر) (1).

ويستمر موقفه الرافض لذلك الواقع، (وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع) (2)، (فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(3)، بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها)(4)، لقد تجلت وحدة الصراع أي الموقف من الواقع، فأبانت هذه الوحدة عن رفض الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لذلك الواقع المزري، ولكنه وقف بين أمرين، فاختار ما يحمي الناس ويخرجهم من ركوب المدلهمات، وآثر أن يبقى هو نهباً للقهر والسقم وله في ذلك رضا اللّه سبحانه، فتميزت وحدة الصراع، بأسلوبها، (فَمَرَدُّ الأمر في استعمال الألفاظ وسبك الأسلوب إلى المعنى والموقف، ومردُّ الحكم في ذلك إلى الذوق الذي حملته التجارب الأدبية، وطبعة المران.. وهو ما تستخبر به النفوس المهذبة، وتستشهد عليه الأذهان المثقفة) (5)، وهذا ما ألفناه في عبارات الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو

ص: 66


1- م.ن 1/ 1331.
2- م.ن، 1/ 133.
3- القصص/83.
4- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 1331.
5- النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 266.

يعطي الحجة والبرهان في إزاء كل موقف يذكره، وقد تأطرت هذه الوحدة بالصورة الفنية، فالأخيرة (تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق)(1)، وأنت لو وقفت على صور الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لانتابك العجب، فالمنشئ في حالات الإنفعال يميل إلى التشبيه الحسي، لأن التأمل ينغلق أمامه بسبب الإنفعال، ويهرع المبتكرون إلى الاستعارة وما سواها حين يطمئن الذهن بالاستقرار واللطف وروعة الهدوء، ولكننا نجد الإمام يستعمل الاستعارة وهو في لجّة الحرب حيث يضرب الخوف أطنابه على الناس، وحيث تنغلق فضاءات التأمل، وليس سوى القلق الذي لا يدع للكلام إلا الرجز المصحوب بالتشبيه الحسي، وفي هذه الخطبة العصماء كانت أساليب البيان بالاستعارة وغيرها تنطلق من الاستهلال، فكانت الصور البيانية فيها دالةً موصلةً إلى المعاني والدلالةً في آنٍ واحد، لأن لها المغزى الكبير الذي يعنيه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فحصل توائم بين الصورة المنتقاة وبين غرض الكلام، إذ إن سبيل الكلام

(سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه)(2)، فانظر الصورة التي آزرت الموقف في الوجود من خلال (تقمصّها)، (محلي منها محل القطب من الرحی)، (أرى تراثي نهبا)، (يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع)، (نکثت طائفة منهم

ص: 67


1- الوساطة بين المتنبي وخصوصه، علي بن عبد العزيز الجرجاني، 426 - 427.
2- دلائل الأعجاز، عبد القاهر الجرجاني، 196- 197.

ومرقت أخرى)، (حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها)، (فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا)، وغيرها من الصور، وكل ذلك أكد تمثيل وحدة الصراع لاستجابة وجدانية بسبب تجربة شعورية خاض غمارها الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فباح بما يعتمل في أطوائه، وهذا ما يتجلى في :

الوحدة الحيوية: ونعني بهما (أن يكون بين موضوعاتها انسجام في العاطفة المسيطرة، وفي الاتجاه المركزي في حقائق الكون وتجارب الحياة)(1)، فلهذه الوحدة علاقتها بسابقتها. وحدة الصراع - ولا تتحقق إلا إذا توافر لها شرطان :

أحدهما : وحدة الباعث أو الدافع الذي دفعه إلى القول.

والآخر : وحدة الغاية أوالهدف الذي يصبو إليه من القول (2). فالوحدة الحيوية ترتكز على ما يعبئه القائل من عواطف وأحاسيس في كلماته، لتنتشر في مساحة النص الكبرى، وتشي عن نوع ومدى انسجامها مع قصديّته، وتأتي علاقتها بالوحدة السابقة من التصاقها بالباعث الذي كان مصدراً لانطلاق القول، و(يشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى هادفة لتحديدها استجلاء وحدة في الوجود أوفي موقف البشرية منه) (3).

ولا غرو في ذلك لأن العلاقة بين الشكل العام للنص ووحدة الصراع

ص: 68


1- الشعر الجاهلي منهج في دراسته وتقويمه، د. محمد النويهي، 2 /435، 436.
2- ظ : م.ن، 437/2.
3- قضية الشعر الجديد، محمد النويهي، دار الفكر مكتبة الخانجي، ط 1971، 109، 2.

والوحدة الحيوية قائمة على الإحساسات مضافاً إليها التعبيرات، ولا قيمة في الشكل على رأي (بندتوکروتشيه) لكلمات مفردة من حيث هي مادة التعبير، ولا من حيث الجرس والصوت منفصلين عن المعنى والصورة(1)، وهذا الأمر يتطلب إحساساً، لأن الإحساس يؤدي إلى التعبير والأخير نتاج عاطفة يودعها المنشئ في كلماته، ولمّا كانت من خصائص الأسلوب الصحة والوضوح والدقة(2)، فالكلام الذي يُعْجَزُ عن أداء معناه في وضوح، يَفُوتُ الغرض منه، منه، فضلا عن ذلك فإن العاطفة تُعد المحرك الأساس الذي يموّج السياق بالدلالات الإيحائية، وتعد هذه الوحدة (الحيوية) معیاراً مهماً على صدق قول المتكلم، إذا ما رُكن إليها في استجلاء موقف العاطفة من الوجود، فالخطبة كما أشرنا إليها سابقا هي استدلالية من جانب، ضمّت المدح والذم، واستشارية (سياسية) من جانب آخر؛ تنظر الأمور الواقعية والمستقبلية، ولابد من حجج، فقد كثرت العبارات المؤكدة لوجود الوحدة الحيوية في النص، وقد أُشْفِعت بالإحساسات الملونة بعدم الرضا من فعل ما حصل للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكثرت الضمائر الدالة على المتكلم وأصبحت مهيمنة على عموم النص، تعكس مشاعر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تجاه الحال، فأصبحت هذه الضمائر أوعودة الكلمات على المتكلم مصابيح مضيئة في النص وأواصر

ص: 69


1- ظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 288.
2- الخطابة أرسطو، الكتاب الثالث، 1404 أس 1- 9، و ظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 118.

شدت لُحمة الموضوع وقوّت عُرى بنائه، وهذه الخصيصة لوحدها تؤكد عودة النص إلى منشئِةِ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فحسب، لأنها تنامت تحت مظلة إحساسٍ واحدة، ولو كان هناك من أضاف شيئاً على النص، لتقطع سدی النص بوثبات نفسية دخيلةٍ، فلنتابع شبكة الوحدة الحيوية على عموم النص وبحسب تكرار الكلمة في عدة مواضع (محلّي، عني، إلي، تراثي، عليّ، عطفاي، حولي، إني، فيّ، لكني، إلي)، ثم مجيء الأفعال التي تنبئ عن المتكلم والضمير المستتر المقدر(أنا) (أرى، أصول، أصبر، أقرن)، فضلا عن ورود(تاء) الفاعل آصرة قوية في النص، عاكسةً الشحن العاطفي والشعوري معاً في الكلمات المختارة في النص، من خلال تألفها مع المفردات الأخرى، لتكوین صورة دالة، مثل : (سدلْتُ، طویْتُ، طفقْتُ، رأيْتُ، صبرت، فصبرت، صرت، أسفت، طرت، نهضت، لألفيت، لسقيت)، فكان عدد الكلمات المتصلة بتاء الفاعل (12) أثنتي عشرة كلمة، والدالة على الضمير المستتر (4) أربع کلمات، وما تبقى (11) إحدى عشرة كلمة، فتكون الكلمات التي نهضت عليها الوحدة الحيوية في النص (27) سبعاً وعشرين كلمة، تحمل في تضاعيفها دلالات كثيرة لأن (الألفاظ أدلة على إثبات معانيها لا على سلبها)(1)، وللألفاظ علاقة تربط المنشئ بنصه، فيعد الكلام كله بیاناً، والأخير (إسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون

ص: 70


1- الخصائص، ابن جني، 100/3.

الضمير) (1).

وللكلام وظيفة محورية هي الفهم والإفهام، تحتّم على المتكلم (جملة من النواميس اللغوية تحتل من تفكيره محل الأساس الضروري لكل عملية تواصل لغوي مهما كان مستواها)(2)، فلابد أن تحمل كل كلمة دلالتها وارتباطها بالمتكلم، فهي تأتي في أثناء التفصيل حاملة رؤاه وأفكاره وما يستوطن العالم الباطني لديه، وهذا هو فصل الخطاب الذي ألفناه عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين يقرن الحجة بالإقناع، وينتقي اللفظ الملون بصدق مشاعره، فلقي كلامه كله استحساناً عند سامعيه، مؤدياً وظائفه الإفهامية التي تُنتِجُ عنده على الدوام وظيفة إقناعية عبر تخيّره ألفاظا عبّأها بيقظة شعوره، فإنك (إن أوتيت حجة اللّه في عقول المكلفين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الأذن، المقبولة في الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنّة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت على اللّه جزيل الثواب) (3). وبذلك كان الاستشهاد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالآية القرآنية التي وردت في نص الشقشقية تعضيداً الرؤاه، وترشيحاً لحجته ودليلاً على اكتساء نصه بالعاطفة الصادقة، أوما

ص: 71


1- البيان والتبيين، الجاحظ، 79/1.
2- التفكير البلاغي عند العرب، د. حمادي صمود، 187.
3- البيان والتبيين، 1/ 114.

يسمى بوحدة الشعور أو الوحدة الحيوية، التي تبين إن كان الكلام مصطنعاً، لأنها تقطع وحدة الموضوع إن كانت خالية من المشاعر الحقيقية، وتثبت الحقيقة إن انبثقت من صميم الروح، فأصبحت هذه الكلمات المشحونة بالضمائر المكتسية بألوان العواطف الثائرة كلها علامة على صدق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نفسه، وفي الوقت نفسه هي علامة ًعلى عودة النص إليه لا إلى سواه، كونها أدت وظائف الكلام كما يريدها جاکوبسن (1) من النص، فضلاً عن ذلك فإن عناصر توليد الكلام تواجدت في إزائها وظائف تلك العناصر على وفق الوحدة الحيوية.

ت - العناصر في الخطبة الشقشقية - وظائف الكلام

1-المرسل الإمام علي- أدت وظيفة تعبيرية وصفت الخارج مع ما يسكن أطواء الإمام علي، وأنه أفضى به إلى الصبر والتحمل، كما أومأت الكلمات السابقة.

2- المرسَل إلیه وهم الناس- وكانت الوظيفة إفهامية، وأنه سكت وأدى ما عليه لعللٍ ذكرها إليه وهم النص، إذ كان رافضاً للخلافة لولا مخافة اللّه سبحانه كما في الناس قوله: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام

ص: 72


1- ظ : الأسلوبية والأسلوب، د. عبد السلام المسدي : 158- 160.

المجتمعون - الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يُقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتُم دنياكم هذهِ أزهد عندي من عفطة عنز) (1).

فضلاً عن التذكير بعدم مبالاته بالخلافة لأن الترتيب الزمني الذي ذكره كان دالاً على ذلك، بعد أن أخذها الأول ومنحها للثاني، ثم جاء الثالث (فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً) ثم آل به المصير إلى الصبر، بعد الاستدلال والمقارنة وربط الأسباب بالمسببات (فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة).

3- السياق - أدى الوظيفة المرجعية التي انتهى إليها فهم الخطاب والأدوات التي استندت عليها، فكانت الخطبة قائمة على الاستدلال من جهة باعتماده المنطق والبرهنة على سوء ما حصل، واستشارية، فقد ذُكِرَت فيها بعض الحوادث الماضية وتمت فيها البرهنة والقياس (فياللّه وللشوری، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرْتُ أقرن إلى هذه النظائر) (2) وبذلك تحقق العنصر التالي.

4- الصلة -وأدت الوظيفة الإنتباهية، فجعلت المتلقي يعتمد منطق الإمام

ص: 73


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /130.
2- م.ن، 121/1.

وينصاع إلى حججه لأن (قوة المنطق في تفنيد الحجج أشد إثارة للإنتباه)(1)، وهذا ما وجدناه في النص.

5- السنن- أدت وظيفتها المعجمية من خلال ما جاء في الخطبة من لسان لغوي عالي المستوى أسهم في شد الإنتباه إليها، والتركيز في مدلول اللفظ، وكنه المقصود وجميل العبارة.

6- الرسالة - كانت الخطبة كلها رسالة، أدت وظيفتين، الأولى إنشائية أفصحت عن قول الإمام علي وأوصلت ما يريد إيصاله للسامع من جهة، ومن جهة ثانية أدى النص وظيفة فنية إذ حضر التكثيف الشعري والشعوري عبر الصورة والإبداع الفني، والاكتشاف للأشياء المبتكرة من لدن المتلقي.

وبذلك كانت الوحدة الحيوية كلها علامة في النص دل عليها التعبير، لأن العلامة التعبيرية تتمتع بتسنين :

(أي هناك قواعد تقیم روابط عرفية بين الدال والمدلول، أما العلامات الأخرى فلا يمكن فهمها إلا من خلال الحدس) (2)، وفي هذه الحال فالعلامة

ص: 74


1- الخطابة، أرسطو، 1418، ب س 1- 21، و ظ : النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال، 143.
2- العلامة تحليل المفهوم وتاريخه، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنکراد، مراجعة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت ط1 1428ه. 2007م، 73.

(يمكن أن تكون متعددة المعاني وتأويلها مرتبط بالسياق)(1)، ويعد حينئذ الحدس ضرباً من الاستدلال العقلي، وهو يعبّر عن واقع المبدع الذي يدرکه الوجدان في تمثله للعالم الباطني (2)، وبذلك أصبحت عبارات الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الآتية كلها علامات تضيء بالإيحائية لما تحتوي دلالاتها من معاني، كما في أقواله : (تقمصّها )، (ينحدر عن السيل، ولا يرقى إلىّ الطير)، (فصاحبها كراكب الصعبة)، (وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل)، (الصبر على هاتا أحجی)، (وصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا)، (قام ثالث القوم، نافجة حضنیه بین نشیله ومعتلفه)، (الناس إليَّ کعرف الضبع)، (حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي کربیضة الغنم)، (لألقيت حبلها على غاربها)، (ولسقيت آخرها بكأس أولها)، (ولألفيتم دنیا کم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).

فأدت الوحدة الحيوية دورها في إظهار مشاعر الإمام الصادقة، وحددت في الوقت نفسه موقفه من ذلك الواقع، وبذلك اشتبكت وحدة الصراع مع الوحدة الحيوية لتتعاضدا في إنتاج الوحدة الأخيرة وهي وحدة التداعي أوما يسمى بالتلوين الشعوري ليصبح الموضوع كله وحدة موضوعية واحدة.

وحدة التداعي أو وحدة التلوين الشعوري: يطلق هذا المصطلح على كل

ص: 75


1- م.ن، 76.
2- ظ : التفكير السديد، جوزيف جاسترو، ترجمة نظمي لوقا، مطبعة السعادة، مصر، ط1، 1975، 11، و ظ : الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 73.

الأفكار التي ترد إلى الذهن إما انطلاقا من عنصر معين وإما بشكل عفوي وهو مصطلح مستعار من المدرسة الترابطية، ويعني كل ارتباط ما بين عنصرين نفسيين أو أكثر تشكل سلسلتهما رابطة من التداعيات (1)، فعند عملية توليد المعاني تقفز إلى الذهن الصور (فتحيا هذه الصور وتنتعش انتعاشا طبيعياً عن طریق تولد الأفكار واستدعاء المعاني، وعندئذ تتحقق الوحدة الشعورية بين التداعي والحضور، غير أن صورة امتثال تداعي الوعي الجمعي هو الأساس في جمع شتات العواطف والأفكار لرسم الصورة) (2)، وتأتي هذه الصور التي تتتالى - على رأي يونج - استجابة للقدرات اللاواعية الكامنة في الذات الجماعية التي تحرك مشاعرنا (3) ولا خلاف في ذلك لأن (مسألة اللاوعي في الصورة الشعرية مرتبطة أساساً بالفكرة والتصوير) (4) وهي (ثراء للفكر) (5)، فتنهال الصور في أثناء ذكر الحدث وفي أثناء الفعل الإبداعي سواء كان نثراً أوشعراً، وهنا تأتي التداعيات محمولة على صور نطلق عليها (بالمدى البياني) ونقصد به (عمق البيان وأتساعه في بنية النص بما يحمله من دلالات متحققة

ص: 76


1- ظ : مصطلحات التحليل النفسي، جان لا بلانش، 170 وما بعدها، و ظ : الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 304.
2- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 304.
3- ظ : الانسان والحضارة والتحليل النفسي، 40، وعلم النفس التحليلي، يونج، 209.
4- الاتجاه النفسي في نقد الشعر، 389.
5- مقدمة لدراسة الصورة الفنية، د.نعيم اليافي، 86.

عبر أساليب البيان المختلفة وإيحاء الصورة)(1)، والمبدع الراقي هو الذي يستطيع أن يمسك بعنان هذه الصور ويطوّعها في خدمة موضوعه، فتكون عاملاً على وحدة الموضوع. ولو تأملنا الشقشقية لوجدناها حفلت بالصور منذ انطلاق الاستهلال حتى نهايته، ولكن هذه الصور المتقافزة إلى الذهن قد قدمت لنا وظيفة نفعية، إذ تمت الإطلالة من خلالها على وقائع تاريخية، فامتازت بكونها جمعت الفنية إلى التاريخية، الأمر الذي أسهم في سبك النص وجعله قطعة واحدة، فهو انبثاقة وجدانية ووثبات نفسية متدفقة من مصدر واحد حمل المعاناة وعاشها وكظمها واكتوى بحرارة السكوت عنها، لكنه آثر تغليب المصلحة العامة على الخاصة إرضاءً للّه سبحانه، فامتازت التداعيات الصورية المنثالة ب:

1. الطاقة الشعورية، وهي التي يبنى عليها (الجو الملائم لعملية الخلق الفني ولا يتم ذلك إلا في حالة الرغبة المدفوعة بالعاطفة، بوصفها المؤثر الفعال في العملية الإبداعية) (2)، هذا من جانب، ومن جانب فإن أسباب الإفصاح عن النص يكمن وراءها باعث، ذلك الباعث جعل الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يبدأ بحرف التنبيه (أما) ثم القسم ثم التوكيد المتكرر المهيمن الذي أشرنا إليه، فلابد من دافع خارجي جعله يقذف ما يجيش في صدره ليجعلها شقشقة مثيرة للآخرين، مريحة له، فبدأ التلوين الشعوري بصورة من يلبس

ص: 77


1- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، 34.
2- الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 32.

الرداء وقد أخذه عنوةً، كمن يأخذ شيئاً منه فجعله عليه، يستر نفسه به وكأن الباعث وراء ذلك كان عدم الرضا وإيثار النفس معاً، وهما ممن وقف عندهما ابن قتيبة (276 ه)(1)، وهذا الأمر فيه صحة، لأن (السيكولوجيين يرون أن قوى الإلهام لا تتجاوز داخلة الإنسان وسبر أغوار مکنوناته) (2)، فما يعتمل في ذهنه، وما لا يرضى عنه يستوطن أطواءه، وإن شاء باحَ به وإن لم يُرِد فإنّ ذلك يبقى حبيس الصدر يخرجه في اللحظة المؤاتية، فالصور التي جلبها التداعي في خطبة الشقشقية امتازت فضلا عما ذكرناه ب:

2. اليقين المعرفي : وهو معرفة المبدع والمتحدث بالتاريخ والموروث الثقافي القريب منه للوقوف عليه بالعناية والرعاية، وهو وحده يقدم جوهر الحقيقة بإلمامه الواسع بالموروث (3)، وقد ألفنا ذلك في السرد التاريخي والوصف الطبيعي المصاحب لسلسلة الصور في الخطبة، فانتقلت الصور من تقمص الخلافة إلى معرفة محل الإمام منها، فثمة وحدة عضوية جزئية تركتها لنا الصورتان، وكي يعضّد ويبرهن جاء بصورة ثالثة تصف موضع الإمام من الخلافة (محل القطب من الرحی)، فالمبدع الكبير هو الذي يتحقق لديه اليقين المعرفي وهو أكثر إيمانا من غيره، لاسيما إذا تعرض لقضية تاريخية، فكان التمهيد مبنيا على تسلسل صوري، فضلاً عن ذلك فإن الصور الفنية في

ص: 78


1- ظ الشعر والشعراء، ابن قتيبة 23/1- 24.
2- الإتجاه النفسي في نقد الشعر، 49.
3- ظ : الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 118.

الشقشقية حجج ووسائل إقناعية، وهي عادة عند الخطباء المتميزين تكون جوهرية في الخطابة، (فمنها ما يتعلق بأخلاق الأديب وهذه الأخلاق من وسائل الإقناع، إذ إن شخصية الخطيب مبعث الثقة فيما يقول، ولكن يجب أن تكون هذه الأخلاق منبعثة من الخطبة نفسها، وموقف الخطيب منها، فلا يصح الاكتفاء بما يعمله الجمهور) (1)، ومنها ما يتعلق بأحوال السامعين وما يثيره الخطيب فيهم من انفعالات وتأملات، ومن الحجج ما يتعلق بالكلام نفسه ببيان الحقيقة أوما يظهر الحقيقة كافة، بوساطة براهين يمكن أن تكون مقنعة على حسب كل حالة من الحالات (2).

فكانت صوره (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الشقشقية حاملة هذا الإتجاه كما في أقواله :(ليعلم محلي منها محل القطب من الرحي)، و(ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير)، كناية عن علو المنزلة، فالصور هنا ولّدت أمثالا، والمثلُ يعتمد فيه (على إيراد حالات كثيرة للحالة التي يراد الاستدلال عليها للبرهنة على أنها نظيرتها، ويسمى في المنطق الإستقرار، ويسمى في الخطابة المثل) (3)، فهناك مثل تاريخي، وهناك مثل يخترعه الخطيب من نفسه وهنا الإبداع لا الإتباع، وتخترع فيه الأمثلة للمقابلة بين الحالات المتشابة،

ص: 79


1- الخطابة، أرسطو، الكتاب الثاني الفصول من 1-17.
2- ظ: الخطابة، الكتاب الأول، الفصل الثالث، والكتاب الثاني، الفصل الثالث إلى آخر الكتاب.
3- الخطابة، الكتاب الأول 13569، ب س 13- 8، و ظ : النقد الأدبي الحديث، 107.

وهو المثل التشبيهي (Parabole)(1)، ويستمر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتقديم الصور المعبرة الموحية، إذ تأتي الصورة الأخرى عبر التداعي وهي صورة حسية حركية (فسدلت دوا ثوبا) وتردفها صورة أخرى (وطويت عنها کشحا) أي (أجعت نفسي عنها، ولم ألقمها) (2) وكانت الحروف (الفاء، والواو، أو) عناصر رابطة للصور الجزئية المتلاحقة، فجعلت من ذلك الموضوع كله كتلة واحدة، فجاءت الوأولتناسب الصورة عبر التداعي، مبينة موقفه من الخلافة، وموظفةً ذلك التداعي لإقناع المتلقي في الصورة اللاحقة لها (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء) أي مقطوعة كناية عن قلة الصُحب، فقد كانت هذه الصورة رابطةً لصورة أخرى، فأفادت التخيير كما في قوله : (أوأصبر على طخية عمياء)، أي أصبر على وجود تلك الغيمة السوداء، وهي كناية عن ما يلبد الوجود في عهده من ركوب الأهواء، وانحدار الأمة إلى مسالك التشرذم، ثم أعطي عبر تداعي الصور أوالتلوين الشعوري وصفاً لما لو اختار الشق الثاني، إذ حضر الإحتمال والتوقع فعبَّر فيه أن ما يجري فيها سيكون مؤلمة كما دلت على ذلك الصورة (يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه) (3)، فاختار الحل الأول الصبر على البلاء، فكانت العبارات

ص: 80


1- ظ : النقد الأدبي الحديث، 108.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 99/1.
3- م.ن، 99/1.

متقابلة الأجزاء، ويفضل أرسطو هذا النوع فهو (مستحسن سهل الإتباع، أما حسنه فلأنَّ العبارة فيه محدودة، يشعر السامع أنه أفاد من كل جزء من أجزائها ليصل إلى نتيجة من سماعها)(1)، فهناك وحدة عضوية حافظت على تماسكها صور الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الأمر الذي يؤكد أن منبع الكلام واحد وقد عاش صاحبه أحداثه و خبر مساربه، ونال معاناته، لأن التسلسل الصوري كان متصلاً، منبثقا من نفسية واحدة ورؤية مصورة للأحداث، فجاءت الصورة اللاحقة لتؤكد النتيجة التي أفضى إليها استدلال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضمنا في أطواء النص بحسب قوله: (فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا) ليؤكد أن سبب ذلك أفضى إلى العبارة (أری تراثي نهبا)، نعم إنها المرارة بعينها والعناء والصبر على البلاء، والسكوت الذي كان على مضض. ولم نتفق مع ابن أبي الحديد في قوله (واعلم أن في الكلام تقديما وتأخيرا... لأنه لا يجوز أن يبدل دونها ثوبا ويطوي عنها کشحا، ثم يطفق يرتئي)(2)، لأن هذه الخطبة استدلالية استشارية، إذ (بعد أن تبرهن على الوقائع، من الطبيعي - بعد ذلك - أن تشيد بما أوتهوَّن من شأنها على حسب المقام، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن تكون الوقائع مقبولة لدى السامعين، كما أن نمو الجسم لا يتصور إلا بعد تصور وجوده أولا، فالوسائل الخطابية للإشارة

ص: 81


1- النقد الأدبي الحديث، 122.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 101/1.

بالحقائق والتهوين من شأنها هي التعظيم والتحقير وما يتصل بهما)(1)، فبعد أن تقرر الوقائع وتشيد بها أوتهون من شأنها، عليك بعد ذلك أن تنير مشاعر سامعيك (2)، وقد كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يمهد في خطبته لذلك بعد أن أشاح الوجه عنها - أي الخلافة - لكنَّ هول الأمر على المسلمين وما مروا به (وهذا ما نستوحيه من نصه)، جعل الأمور لم تتسق للإسلام على ما يرام، لذلك طفق يرتئي، ثم جاءت الخيارات، فوحدة الموضوع كاملة هي التي تؤكد لنا ذلك، لان الوحدة العضوية للنص تتحرك في كل أجزائه (عن طريق التابع المنطقي، وتسلسل الأحداث أوالأخطار، ووحدة الطابع) (3)، إذ إن النظر إلى الصور الجزئية بوصفها معينا رافدا للوحدة العضوية يؤكد ما ذهبنا إليه، فالتداعي الذي وجدناه في الشقشقية يعتمد على ما أشرنا إليه من تسلسل الأحداث والأفكار ووحدة الطابع، فضلا عن ذلك سيطرة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على تلك الصور وتطويعها لوحدة الحدث، لأن التداعي يقوم على علاقات منها ما تسهم (في ربط العناصر الحاضرة، وأخرى تقوم بينها وبين العناصر الغائبة، وتختلف هذه العلاقات في طبيعتها ووظيفتها معا) (4)، فالسيطرة عليها في

ص: 82


1- الخطابة، الكتاب الأول، فصل 9، والفصول 5- 7، 1419 ب س 20- 21، وظ: النقد الأدبي الحديث، 148.
2- ظ : م ن، الكتاب الأول، الفصل الثالث، ثم الكتاب الثاني، الفصل الثامن.
3- النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 394.
4- نظرية البنائية في النقد الأدبي، د. صلاح فضل، 306.

موضوع تاريخي يعد عملية إبداعية كبرى، ومع ذلك وجدنا التسلسل المنطقي للصور المنثالة إلى الذهن في تدرج زمني، الأمر الذي أضفى على النص وحدة عضوية كاملة، عبر الصور المتتالية تلك التي أشرنا إليها، ثم التواصل الذكي مع وحدة التداعي التي اضحت عاملا مساعدا على لمَّ الموضوع في هدف واحد، وهذا نادرا ما نجده إلا عند أولئك الذين سيطروا على المعاني، وأمسكوا بتلابيب الصور، وعرفوا مساحات الفضاءات وأين يوضع الشيء وأين يختم الكلام، ولا يخفى على أحد مقدرة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ذلك.

إذ بدأ التسلسل الزمني عبر التداعي، (حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده) وهنا إشارة واضحة إلى وقائع تاريخية في استلام الخلافة، إذ ذهب به التداعي إلى قول الأعشى ليعلق مختصراً على هذه الواقعة (1):

شتان ما يومي على كُورها***ويومُ حيانَ أخي جابرِ

فكلمة (أدلى) أخذت فوراً اقتباساً بغير نصها في قوله تعالى : «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(2)، فأراد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالبيت الشعري (شتان بين يومي الخلافة مع ما انتفض عليّ من الأمر ومُنيت به من انتشار

ص: 83


1- شرح ابن أبي الحديد 110/1.
2- البقرة/188.

الحيل واضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة)(1)، وقد ضمَّن نصه بیتا شعريا يتحدث عن علاقة الأعشی بندیمه حيان، وقد نسبه في بيت شعري إلى أخيه الصغير جابر فعاتبه، فقال له الأعشى : إن الرويَّ اضطرني، ففارقه (2)، وعاد به التلوين الشعوري والتداعي إلى صلب الموضوع، وهو يتذكر التسلسل التاريخي للأحداث، (فيا عجباً !! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته) وتستمر الصور ليعلل السبب في ذلك فيقول (لشد ما تَشَطّرا ضرعيها) أي اقتسما فائدة الضرعين ونفعهما، ويستمر ذلك التلوين الشعوري على وفق وجوه موضوعية (فجعلها في حوزة خشناء) أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة، ثم يأتي بالكلم (الجراح) كما في الصورة الأخرى (يغلظ كلمها) أي تضاعفت جروحها، وهو لمّا يزل في وحدة الموضوع، لأن ما يؤكد ذلك (ويخشن مسها، ویکثر العثار فيها)، ويستمر الوصف عبر صور متسلسلة تضيء مسری الأحداث التاريخية، (فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خَرَمَ، وإن أسْلَسَ لها تَقَحَّم) (3) ونجدُ الأمثال تعضّد الكلام، فالخطباء الجيدون لا تخرج حججهم عن المثل والقياس المضمر، وهنا يتم انتقاء الكلمات عن قصد، وكأن الشقشقية منحوتة نحتاً تلتصق الكلمة الأولى بتاليتها لينتج النص فكراً عبر اللغة المنتقاة، (فاللغة والفكر كلاهما مستقل عن حقائق الأشياء، فإذا

ص: 84


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 110/1.
2- ظ من، 109/1.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 106/1.

كانت الكلمة حركة عضوية ترمز إلى شيء حقيقي، فالكلام الممثل في الجمل.. عملية عقلية مميزة عن طبيعة الأشياء الحقيقية)(1)، فكان المثل الموضح للخلافة في محله، كالصعبة من النوق (إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها، وأن أسْلَسَ زمامها تقحّم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أونار، أوندّت فلم تقف حتى تُرديه عنها فيهلك)(2)، ولا شك أن الازدواج في الكلام والتوازي حاضر في السياق، فضلاً عن الصور (إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم)، وهذا دليل على وحدة الموضوع وانطباق الحافر على الحافر في مسألة تطابق المضمون مع الشكل، وبعد ذلك جاءت الصورة الأخرى (فمُنِي الناس - لعمر اللّه - بِخَبطٍ وشَماسٍ، وتلوّنٍ واعتراض) (3)، أي ساروا على غير جادة فحصل التلون والتبدل والاعتراض، واستمر المثل يقرّب الصورة ويزاوج في لمّ وحدتها، ويسهم في توظيف الصورة للسرد التاريخي كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ)، (حتى إذا مضى لسبیله، جعلها في ستة زعم أني أحدهم)، بعد ذلك جاءت صورته عبر الدعاء (فيا للّه)، وكانت (اللام) مفتوحة وقد كسرت (اللام) في (الشوری)، لأن الأولى للدعاء والثانية للمدعو إليه (4)، ثم تحدث عن صبره وشدة المحنة وبيّن منزلته، وكيف قُرن إلى هذه النظائر (سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهما، لكني طلبت الأمر وهو موسوم

ص: 85


1- الخطابة، أرسطو، 1356 ب س 1- 15.
2- النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 42.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 112/1.
4- ظ : م.ن، 122/1.

بالأصاغر منهم، كما طلبته أولاً وهو موسوم بأكابرهم، أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع جلیل القدر أوصغير المنزلة)(1)، فكنى بأمور ولم يصرح بها كما في قوله : (مع هَنٍ وهَنٍ) ثم استمر بالسرد التاريخي، فقامت وحدة التداعي بالإسهام في انبثاق الصور تحت إطار الوحدة الموضوعية التي أسسها فعل وجداني صادق مرّ بالمسألة وعرف مكانها وسبر مراميها.

فإنهالت الصور المرئية عبر التداعي (على أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه) (2)، فقد جلس مملوء البطن وأراد (أن همَّه الأكل والرجيع، وهذا محضّ الذم) (3) أي المؤلم، فأردفها بصورة لها علاقة بالمشهد الصوري الأول (وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع)(4)، فبيَّن شراهتهم ونهمهم، فكانت الاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات تؤسس لكل الصور التي ذكرت، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إلى أن أنتكثَ فَتْلُه وأجْهَزَ عليه عَمَلُهُ وكَبَتْ به بِطَنتُه) (5)، ثم انتقل التسلسل الصوري لتداعي الأحداث إلى يوم قام له الناس يريدون بيعته، وصور ذلك بصورة حسية حركية (فما راعني إلا والناس إلىَّ كعُرف الضبع ينثالون علي من كل جانب حتى تعد وطئ الحسنان وشُق عطفاي مجتمعين حولي کربيضة

ص: 86


1- م. من، 122/1.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 133.
3- ظ من، 131/1.
4- م .ن، 131/1.
5- م ن، 131/1.

الغنم)، فهو يصور يوم ألزموه على الخلافة وكيف تقادمت الناس إليه، لكنه يأسف على هؤلاء الذي غدروا به، ويظهر ذلك عبر صور متسلسلة (فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وفسق آخرون) (1)، ها هو يبين شَطَطَهُم وأهواءهم، وكأنهم خلَّفوا وراء ظهرانيهم کلامه سبحانه : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(2)، فكان المثل مأخوذاً من المثيولوجيا الإجتماعية ليوضح زحام الناس عليه بالبيعة (كعرف الضبع)، وهو مثل يضرب بالازدحام.

وبذلك حققت الخطبة الإستشارية قصديتها من جهة عبر تعضيد الخطيب لنصوصه بالأمثال، واستدلاليته من جهة أخرى، لأنها قامت على منهج خطابي واضح تم فيه التقديم والتوضيح والترتيب والتعليل، فأكد بُعد هؤلاء عن الحقيقة (بلی واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليتِ الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها)، وبهذه الصورة الموشاة بالحسية أكد سماعهم ووعيهم لكنهم زاغوا عن الحقيقة، فكان تعليله معتمداً على البرهنة والإيضاح معاً، الأمر الذي يؤكد استدلالية الخطبة، ثم جاء حسن الختام ليربط أول الخطبة بآخرها فقد بدأ بالقسم وختم بالقسم (أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها

ص: 87


1- م.ن، 1 /133.
2- القصص/83.

بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)(1).

لقد بدأ النص بالقسم والتوكيد وأنهاه بالقسم والتوكيد، ملقياً الحجة على المسلمين في ذلك، إذْ لولا البيعة ووجود الجمع وما أمره اللّه سبحانه للعلماء بعدم مجاراة الظلم، لألقى حبل الخلافة على غاربها، وهي استعارة مكنية راقية، فلولا مخافة اللّه لترك الخلافة على سبيلها، أي يركبها من يريد فلا حاجة له بها، وختمها بصورة معبرة عبر الإيماءة (عفطة عنز)، لأن الإيماءة أن تشير إلى الأمر إشارة واضحة(2)، وبذلك حققت الخاتمة مقاصدها للسامعين، ففيها تم التعظيم من شأن الحقائق الأساس أوالتقليل من أهميتها على حسب ما تطلبه موقف الخطيب، وأثارت مشاعر السامعين وجددت ذاکرتهم، وشرحت كل جزء من هذه الأجزاء، وهذا النوع من الخطبة هو من يحقق مقاصد الخطيب على رأي أرسطو (3)، لقد انقطع الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الاستمرار فيها، لإنها حققت أهدافها بأمرين :

الأول : وهو ما أراد البوح به.

والثاني : التذكير بكل شيء لتحصل المقارنة من السامع نفسه.

وبعد هذه الرحلة مع الشقشقية، نقول : إن الاستهلال والوحدات

ص: 88


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /135.
2- ظ : الإيضاح، 328.
3- ظ : الخطابة، أرسطو، 1419 ب، س19، وظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 146.

الثلاث تعاضدت لإنتاج وحدة موضوعية، لا يمكن أن تصدر إلا من رجل مرّ بالمحنة وسبر أغوارها وعاش معاناتها، وأضرمت في دواخله نارها، فصبر حفاظاً على الإسلام. وقد دلت وحدة الوجود أي الموقف من الواقع على أنها واحدة في كل النص، وكذلك دلت الوحدة الشعورية والحيوية أي المشاعر والأحاسيس الغاطسة في النص أنها من لدن القائل أي فيض وجدانه، فقد هیمنت الكلمات المعبأة بالأحاسيس على عموم النص، ثم جاءت وحدة التلوين الشعوري لتكون أكثر الوحدات تأكيداً في كون النص للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسبب التلوين الشعوري الذي لا يصدر إلا من رجل عانى وعاش الأمور المحزنة التي يكتب فيها، وبذلك تميزت الخطبة ب(الوجدان المعرفي)، أي علاقة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بغيره من الناس في الواقع الذي تم شرحه للسامعين عن السابقين والحاضرين، ثم بانَ الوعي الجمالي غير المصطنع أي ما حققته الصور بوضوحٍ وكمالٍ أغنى النص، فآب لوحةً فنية وتاريخية في آن واحد، وأنماز النص بالاستجابة الوجدانية، أي عملية التأثر والتأثير بمحيط الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فحصل توافق بين ما استنبطه الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على مر الأحداث، وبين ما هو متجلٍ في الواقع الملموس، فوصل نصه إلى الآخرين وثيقةً مقنعة، وأنماز النص أيضاً باليقين المعرفي، إذ قدر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) جوهر الحقيقة من خلال معرفته الواسعة وإلمامه بعناصر الأمور، فحرّك في المتلقي معاني الوقائع التاريخية والفنية معا بانتقائه الصور والأمثلة، والأسلوب المرتكز على الفطنة، الدربة، والدراية، وهذا ما

ص: 89

لم نشهده عند سواه، فهي خصائص تمتع فيها لوحده لأن كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي... فهو البحر الذي لا يساجل والجمُّ الذي لا يُحافل)(1)، ولأن كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (الكلام الذي عليه مسحة من العدل الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي) فهو كلام مختص به، و(أن للرضي وغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب) (2)، فكان نصُّه کلا منسجما، حَكَمَتْه وحدة حيوية وشعورية وموضوعية وموقف من الوجود، وتداخلت الضمائر والكلمات في سدي نصه، إذ لم نجد هفوة في البناء العام للسياق وهذا يعني أنها نفثة وجدانية صدرت من نفس واحدة في زمان واحدٍ فالشقشقية للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) کلاماً وصياغة، أسلوبا وفنية.

ص: 90


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 31/1.
2- م.ن، 137/1.

المبحث الثالث

مرجعية البناء الإبداعي الخاص لنصوص نهج البلاغة دراسة تطبيقية في ضوء النظريات الحديثة

ص: 91

ص: 92

ينأى بعض من الدارسين عن النظريات الحديثة، وكأنهم في ذلك يفرّقون بين نفسيتين إنسانيتين إحداهما قديمة والأخرى حديثة، وهذا عين الخطأ، لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يفرق بين إنسان وآخر من حيث الخلق والتكوين الفسيلوجي، «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا»(1)، و «خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ* وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ»(2)، «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ »(3)، فالإنسان هو الإنسان، منذ أن خلق اللّه سبحانه آدم، «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(4) وهذا قوله سبحانه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ»(5)، تأكيد على تساوي خلق البشر وانبثاقهم من أديم

ص: 93


1- الفرقان / 54.
2- الرحمن / 14- 15.
3- الطارق /5-6.
4- آل عمران/59.
5- الحج/5.

واحد في خلقه، «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ»(1)، وقد اقترنت كلمة (خلق) بالمفردة (تراب) ست مرات (2)في القرآن الكريم، توکيداً لتساوي الخلق عند الناس، وقد تختلف الطبيعة البشرية من شخص إلى آخر بحسب ما تفرضه عليه البيئة والمعارف التي يكتسبها في أثناء تكوين سلوكه، لأن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة أخذ وعطاء، بل علاقة فعل و انفعال، وتأثير متبادل، وصراع موصول، وهو في تفاعله معها يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات ويرغب ويفكر، ويقدر ويصمم، وينفذ ويتعلم ويعي ما تعلمه (3)، فالإنسان يمتلك وحدة نفسية منذ أن خلق الباري عز وجل وجل البشر، وجعله خليفة له في الأرض، ووهبه العقل تفريقا له عن باقي مخلوقاته الأخرى، وكل نشاط قام به الإنسان منذ الأزل إلى اليوم يركن إلى ميوله واتجاهاته، ولم تتغير تلك الحال بمرور الأزمنة إلا من خلال ما تهبه الثقافات للبشر، وهي مكتسبة، أما الإنسان دائما (هو وحدة جسمية نفسية متكاملة لا تتجزأ) ولما كانت الوثيقة الأدبية أوالنص بشتى ضروبه هو رسالة المنشئ إلى المتلقي، فإنه رهن بسلوك يستقيه من الواقع الخارجي، لأن الكتابة سلوك، وإن أي نشاط فكري أوذهني (يقوم وراء هذا السلوك من استعدادات كامنة ودوافع شعورية وغير شعورية.. فضلا عن الظروف الخارجية المختلفة

ص: 94


1- الروم /20.
2- ظ : آل عمران/59، الكهف 137، الحج/5، الروم/20، فاطر/11، غافر/67.
3- ظ : اصول علم النفس، د.أحمد عزت راجح، دار القلم، بيروت، 9.

التي ينبعث فيها هذا السلوك)(1)، فلا يمكن فصل الإنسان عن محيطه من جهة، ولا يمكن القول بأن النفس الإنسانية تتجزأ إلى قديمة وحديثة.

وإن التفتح الذهني عند الإنسان ذو علاقة بتطور المعارف، ولذلك جعل اللّه سبحانه وتعالى القرآن الكريم معجزة عقلية، لأنها تساير النمو المعرفي للعقل المنطلق من نفس بشرية ثابتة في تكوينها السایکلوجي، متطلعة إلى التزود بالمعارف، وهذه النفس لها حاجات وغرائز، ومن ثم فإن للإنسان إدراكا حسيا حين يكيّف نفسه للبيئة التي يعيش فيها، لأنها مکان وانطلاق العملية التي تتم بها معرفة الإنسان لما حوله من أشياء، وبذلك يُصبح الإدراك الحسي عملية تأويل للإحساسات تأویلا يستقي عما في العالم الخارجي من أشياء (2)، فالنفس واحدة غير أن التطورات البيئية واختلاف مشاربها تمنحُ فطرة الإنسان أشياء تنعكس على نفسه، ومن هنا أرى أن النص الأدبي أيا كان زمانه ومكانه، فهو وثيقة منبثقة من النفس، إذ يمكن دراستها على أساس نفسي من جانب، ومن جانب آخر إن الإفادة من الدراسات الحديثة ونظرياتها، يمكن تطويعها لخدمة الحقيقة ومعرفة المسكوت عنه، فهي بمثابة الاكتشاف الطبي الجديد، فلا يمكن أن تفيد منه جماعة إنسانية دون أخرى، ومن ثم فإنه يمكِّن الكاتب الفطن أن يفيد من النظريات الحديثة لإثبات إعجاز القرآن مثلا، أويسلط الضوء من خلالها على الرُقي الفني للنص.

ص: 95


1- م.ن، 13.
2- ظ : أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، 188.

لذا لجأت في هذا المبحث إلى تسليط الضوء على نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نهج البلاغة، انطلاقا من الإفادة من تلك النظريات، وإثبات براعة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عبر أدائه الخاص في إنتاج القول.

ومن ذلك مثلاً :

الاستعمال غير العادي لأساليب البيان، فمن المعروف إن الإنسان كلما اشتد انفعاله، واشتد أوار الغضب أوالخوف لديه، فإن مسافات التأمل تكاد تنغلق عليه فيهرع إلى التشبيه الحسي، بغية إيصال قصديته سريعا إلى السامع، لكي يكون الأخير مستعدا لقبول المراد عبر الوظيفة الافهامية، لأن استجابة المنشئ إلى القول (استجابة مرتكزة على دور الانفعال المتبادل بين مشاعر الذات وقواها الطبيعية الدافقة)(1)، أي الباعث الكامن في الواقع الخارجي وما يملكه من أثر في سلوك المنشئ حيث السياق الاجتماعي الذي (يمثل التربة التي يمكن أن تنبت فيها الأفكار المبدعة، وتتم فيها عملية الإبداع)(2)، وبذلك فلابد من وجود (قدر من التوتر النفسي اللازم للإبداع على أن يكون هذا التوتر مصحوبا بمناخ نفسي متميز بخصائص) (3)، وهنا يظهر الفعل الإبداعي محكوما بأواصر نفسية لَعَلَّ الانفعال من أقوى ما يصاحبها، ويوجهها تجاه تعبير معين، يكون أقرب إلى إيصال القصدية بأسرع ما يمكن، وأقرب أساليب البيان إلى

ص: 96


1- الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 291.
2- الابداع والشخصية، د. عبد الحليم محمود السيد، دار المعارف، 1971، 92.
3- م.ن، 389.

ذلك التشبيه، لأنه أقصر الطرق المؤدية إلى إيصال الوظيفة الإفهامية لدى المتلقي، لاسيّما حين يحرص المتكلم على إيصال القول مباشرة، وغالباً ما يحدث عندما يرافقه الانفعال الذي يتصاعد في مواقف ومنها الحرب وما يصاحبها من خوف، إذ إن الرهبة التي توجه الإدراك صوب (التداعي الحر) لها عواملها التأثيرية في النفس الإنسانية المنشئة، و(كل حالة شعورية كالرغبة أو الشعور بالخوف أو النشاط العقلي في أثناء عملية التفكير، وكل استعداد لا شعوري کالرغبة المكنونة في الانتقام من شخص أو الهرب من موقف محرج، هذه الحالات والاستعدادات لا يمكن أن تكون موضع دراسة علمية إن لم يستطع الشخص أن يعبر عنها تعبيرا خارجيا عن طريق اللغة أوالحركات أوالإشارات المختلفة (أي عن طريق السلوك)(1) فيكون التعبير المباشر أقرب الى المتكلم فهناك بيئة واقعية، وهي ما يحيط بالفرد من عوامل مادية فيزيقية واجتماعية لها أثر في إبداعه، و إن البيئة السيكولوجية التي يدركها الإنسان ويشعر بها فيستجيب لها هي التي تثير انتباهه واهتمامه ونشاطه (2)، وإليها يعود التأثير في سلوك المنشئ ومنها قوله. ومهما يكن من أمر فإن الإنسان حينما يحاصر فكره بما يثير فيه الانفعال الكبير، فإن الأخير أثرا في استعمال الأداءات البسيطة التي تقع عليها مهمة إيصال القصد بأيسر الطرق وأسرعها إلى السامع، فيأتي التشبيه الحسي بدرجة قبل التعبير المباشر، بينما في حالة الرخاء النفسي

ص: 97


1- أصول علم النفس، احمد عزت راجح، 17.
2- ظ : م.ن، 19.

يهرع الإنسان إلى الاستعارات والكنايات والمجازات التي تتطلب منه ترفا نفسيا وهدوءا انفعاليا لكي يدع القول محاطا بالتأمل والتدبر والتفكر، حيث يتواجد العدول أوالانزياح بالعبارة إلى معنى مكثف بالشعرية، وحيث تشتغل الطاقة الإيحائية بأعلى قدراتها التوصيلية، وحيث يعمل العقل فيربط بين أجزاء القول ومقاصده، فيتأمل ويتدبر، ويشعر بلذة الاكتشاف وينبهر بمتعة التصوير، ويطمئن البديع الدلالة، ويتلطف بانسجام العبارة. لقد وقفنا عند أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو في أصعب المواقف وأحرجها، وفي فضاء الحرب وأهوالها، وفي ساعة الراحة وغيرها، فهو لم يعبأ للانفعال فتذعن له قريحته، ولم تأخذ منه الرهبة فتنساق لها حالته، فقد بقي تعبيره خارجا عن المألوف، الأمر الذي يدل على وحدة إيمانه المتماسكة في الحرب والسلم، وقوة شكيمته في الكرب والنعم، وعبقرية بلاغته في الحب والسأم، والغضب والألم، ومصداق رؤيته في الراحة والهم، فيقيناً إن كلامه (عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.... فهو البحر الذي لا يساجل، والجم الذي لا يحافل ) (1)، وبذلك فإننا حين نستقرئ كلامه، ونستنطق بيانه، ونتلبث عند كنه الدلالات، وننظر في فحوى العبارات، نجد كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) سایکلوجياً، قد اختلف عن من سواه، فهو لم ترهبه الحرب وذلك دليل إيمانه، وهو لم يغضب إلا لأجل اللّه سبحانه وهذا منار إسلامه، فقد آمن بالقول الإلهي المبارك

ص: 98


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 31/1.

«أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»(1)، فأشاح وجها عن الخوف، فقال : (الدنيا حلم والآخرة يقظة، ونحن بينهما أضغاث أحلام) (2)، وبذلك فإن نفسه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مطمئنة دوماً بقدر اللّه سبحانه وقضائه، ولم يركن إلى غير ذلك، لذا كان الاستقرار النفسي هو المهيمن على سلوكه، وهذا الأمر يعكس وحدة عمله الإبداعي بأداء خاص، لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (الزهد بين كلمتين من القرآن، قال اللّه سبحانه : «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا»(3)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه)(4)، فمثلا في كلام له (عَلَيهِ السَّلَامُ) بخطبة (خطبها بعد مقتل طلحة والزبير مخاطبا بها لهما ولغيرهما من أمثالهما)(5)، وهنا لابد للإنسان أن ينفعل، ولابد لكلامه أن يأخذ مدی آخر على وفق أساليب القول والبيان، فإما يلجأ إلى المباشرة أوالتشبيه الحسي البسيط المعروف، غير أننا وجدنا العكس هنا، فقد تواجدت الاستعارات والمجازات والكنايات، فضلا عن القدرة الفائقة في تماثل الكلام و التوازي وهيمنة الإيقاع الداخلي واستعمال الرمز، الأمر الذي يدل على رباطة جأشه، وعدم ضعف قواه النفسية في إزاء الحدث المحزن، فهو يقول : (بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنَّمتم

ص: 99


1- النساء/78.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 31/1.
3- الحديد /23.
4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 295/20.
5- م.ن، 1/ 139.

العلياء وبنا انفجرتم عن السّرار، وُقر سمعٌ لم يفقه الواعية، وكيف يراعي النبأة مَنْ أصَمَّته الصيحة ربط جنان لم يفارقه الخفقان، ما زلت انتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الدين، وبصّرَنيكم صدق النية، أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون. اليوم أُنطِقُ لكم العجماء ذات البيان، عزب رأي إمري تخلَّف عني، ما شككت في الحق مذ أُرِيتُه، لم يشفق موسی خيفةً على نفسه، أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، اليوم توقفنا على سبيل الحق والباطل، من وثق بماء لم يظمأ) (1).

بدأ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) خطبته بالاستعارة: أي بنا اهتديتم في الجهالة، فكنا نبراسا لكم تشقون ظلمتكم به، ثم انتقل إلى الكناية (تسنمتم العلياء)، أي بنا نحن ركبتم سنامها - وهذه استعارة مكنية حَضَرَ المشبه (العلياء) وغاب المشبه به أصلا (سنام الجمل)، فجاء بشيء من لوازم المستعار منه، وهنا يستوجب الأمر هدوءا نفسيا عند التعبير، لكي تأتي هذه الاستعارات والعبارات مكثفةً شعریا، لأن (الاستعارة تمتلك قدرة على تفعيل التأمل لدى السامع وتصنع بعدا دلاليا حال حملها على السياق، بوصفها آلة بيانية تسهم في إيصال مبتغى القول إلى السامع)(2)، وهنا الغرابة، فالرؤية النفسية لأساليب البيان تجد الإنفعال مصاحبة للحدث في الحرب حين يتنامى العتاب والأسف على فعل

ص: 100


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 137- 138.
2- الأداء البياني في لغة الحديث الشريف، د.صباح عنوز، 93.

الآخرين، ويكون أقرب الأساليب البيانية إلى ذلك التشبيه الحسي، لكننا ألفناه تعبيراً استعارياً راقياً هنا، خالف الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) به الآخرين، وذلك دليل على ثبات نفسه في كل آن وقوة إيمانه بالله سبحانه وبقدره.

ثم يأتي قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (وبنا انفجرتم عن السرار) بمعنى (دخلتم الفجر، والسرار : الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر)(1)، وفي عبارة (بنا انفجرتم) كناية عبر التعريض كثرت فيها الوسائط، فتطلبت تأملا فكريا للوصول إلى الدلالة، لأن الكناية (من الأساليب البيانية التي تحقق نموا تأمليا عند المتلقي بوصفها إناء المعنى الذي لم يعبّر ظاهر اللفظ فيه عن مستواه السطحي للبنية مباشرة، وإنما على السامع أن يلاحظ مضمونه عبر طبقات المعني و يغوص في المعنى العميق في تلك البنية) (2)، ف(انفجرتم : دخلتم الفجر)، ولعلها أفجرتم أما (عن السرار) فهذا مجاز مرسل عبر علاقة المجاورة أي (منتقلين عن السرار ومتجاوزین له)(3)، أما (وقر سمع)، فهذا (دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثقل والصمم، والواعية : الصارخة من الوعاء، وهو الجلبة والأصوات، والمراد العبر والمواعظ)(4)، وقد نهض التعبير هنا على الكناية عبر الإشارة بالمثل، الذي أسهم في إستمرار

ص: 101


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 1381.
2- الأداء البياني في لغة الحديث الشريف، 109.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 138/1.
4- م.ن، 1381.

الكلام لينتج لنا نصا آخر عبر التعريض، أي ما يفهم من السياق كما في قوله (كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة)، أي (كيف يلاحظ ويراعي العبر الضعيفة من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة، بل فسد عندها)(1)، وهذا مثل آخر ؟(2)، وتستمر الكناية في إنتاج الدلالات في هذه الخطبة ليأتي مثل آخر يُحتم على المتلقي أن يُعمِل عقله لاستنطاق معانيه، فيقول الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (رُبِطَ جنان لم يفارقه الخفقان)، وهذا (دعاء لقلب لا يزال خائفا من اللّه سبحانه يخفق بالثبوت والاستمساك) (3)، وتستمر الكناية على هذا النحو من الألفاظ مانحة العقل تأملا وتدبرا لاستنتاج مقاصد الدلالات، لأن (اللفظ في الكناية ليس إلا مولّدا للمعنى المختبئ خلف ستارة السياق، وبذلك تمنح الكناية صياغة شكلية خاصة بها تختلف عن أساليب البيان الأخرى، بوصفها محفزة لذهن السامع وجاذبة له لكي يتأمل ويتوصل بنفسه إلى مراد المتكلم)(4)، فيأتي قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (مازلت انتظر بكم)، أي (كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغَرر وهو الغفلة) (5)، ويستمر الأمر نفسه أي هيمنة الكناية في نصه كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (سترني عنكم جلباب الدين) فهو يحتمل تفسیرین وفي كليهما تدخلت الكناية في إنتاج الدلالة، إذ إن (هذا

ص: 102


1- م.ن، 1/ 139.
2- ظ : م.ن، 1/ 138.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 1/ 139.
4- الأداء البياني في لغة الحديث الشريف، د.صباح عباس عنوز، 109.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 139/1.

يحتمل وجوها، أوضحها إن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني مع علمي بنفاقكم، وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصدق نیتي كما يقال : المؤمن يبصر بنور الله، ويحتمل أن يريد : سترني عنكم جلباب ديني ومنعني أن أعرفكم نفسي وما أقدر عليه من عَسْفكم، كما تقول لمن استهان بحقك : أنت لا تعرفني ولو شئت لعرفتك نفسي)(1)، وتبقى الكناية مهيمنة على تعبيره (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في قوله : (وبصَّرَنيكم صدق النية) أي (لوصدقتم بنیاتكم ونظرتم بأعين لم تعرف الحسد والغش وأنصفتموني، أبصرتم عظیم منزلتي)(2)، ويبقى التعبير الكنائي الذي يتطلب تأملا فكرياً مستمرا في خطبته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ يحتوي على الإيحائية أكثر من المباشرة، وينتمي إلى التعريض أكثر من التصريح، وكل ذلك مردُّه إلى نفسية المتحدث، إذ ترتبط الكناية بالشعور المخزون أكثر من غيرها، لذلك فإن كلام الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هنا تقف خلفه خبايا نفسية استقرت حزينة في أطواء ذاكرته، وجاء دور البوح بها، فأطلق لها العنان. وكانت الكنايات متسلسلة بوحدة موضوعية، تعضد التالية السابقة والعكس كذلك ليكتمل التعبير قوة ودلالة كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (وأقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة)، أي وقفت لكم على جادة الحق ومنهجه حیث طرق الضلال كثيرة، في الأرض (3)، (حيث

ص: 103


1- م.ن، 39/1.
2- م.ن، 39/1.
3- ظ : شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 140/1.

تلتقون ولا دليل وتحتفرون ولا تميهون) وهنا كناية أخرى،( فأنتم تائهون تلتقون ولا دليل لكم، وتحتفرون لتجدوا ماء تنفعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء)(1)، فكان التعبير الكنائي الراقي في كلمة (ولا تيهون)، أي لا نفع من أعمالكم، مثلكم مثل الذي يحفر في الأرض المضلة باحثا عن الماء وليس له سوى التعب، فلم يلتق بالماء، أي إنكم ضللتم طريق الماء (الحق) لأنكم لا دليل لكم، وتستمر الكناية في تواصلها التعبيري وعبر المثل أيضا ( اليوم أُنطِقَ لكم العجماء ذات البيان) و(العجماء التي لا نطق لها، وهذه إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة يقول : خفية غامضة، وهي مع غموضها جلية لأولي الألباب فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة، كما قيل : ما الأمور الصامتة الناطقة ؟ فقيل : الدلائل المخبرة والعبر الواعظة، وفي الأرض سل الأرض : من شق أنهارك، وأخرج أثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا)(2)، فكانت خطبته هذه كلها كناية عما تجليه الحقائق، وما تطلقه دلالاتها من مقاصد، وهنا وضحت الطاقة الشعورية للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) من خلال النشاط الإبداعي الذي رافق النص وما تجلى من قصد أفصح عن قدراته داخل بناء النص العام، وما منحه من صور تعبيرية ذات علاقة بمكنونات الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لأن المهم في الإبداع هو (ما يعطيه معناه الحقيقي ليس فقط أن ينقل الصورة، أعني الجوهر في الفن هو التعبير لا

ص: 104


1- م.ن، 140/1.
2- م.ن، 140/1.

الصور، لأن الصور في ذاتها ليست جميلة وإن الجميل ما يجعل الصورة متحققة بوضوح وكمال، أعني الأثر)(1)، هذا أمر، ومن جانب آخر فالعمل الأدبي الخارق يتطلب توافقا بين النفس وانفعالها، وبين الفكر وملاحظاته التي يريد المبدع إيصالها، وهنا يتطلب الأمر وضعا نفسيا مستقرا إلى حد ما، لأن المطلوب من النص الأدبي (موضوع جمالي، قادر على إثارة تجربة جمالية) (2)، إذ يتجلى الإبداع الخارق عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) من مسألة استحضار الأمثال، وذهاب الفكر إلى إنتاج صور تتواءم مع غاية القول، ومناقشة قضية ذات اتصال نفسي بالمنشئ تتفاعل طردياً مع دواخله، وأقل ما تثير عنده الندم من السلوك الملتوي للناس، كل ذلك يثير العجب في تعبير الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ كيف اجتمعت مجريات العملية الإبداعية الثائرة تحت خيمة الهدوء النفسي لديه وهو يقف على القتلى ويحاسب الضمائر، فيدخل الحوار والجدل في أثناء المحاجة العقلية، ومن المعلوم أن العقل كلما تحكم في النص، كلما اخذ به إلى صوب المباشرة، لكننا وجدنا الأمر مختلفا عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد وظف الجانبين الفني والتراث معاً وهذا الأمر يستوجب حضورا عقليا متميزا، وقد مال إلى المحاجة والبرهنة والقياس والمثل معا وهو في ساحة

ص: 105


1- شوبنهور : دار النهضة المصرية، ص164- 165. عن فلسفة الفن عند سوزان لنجر، إعداد اراضي حکيم، دار الشؤون الثقافية، العراق 42، 1986.
2- اوستن دارین، رينيه ويلك، نظرية الأدب ترجمة محيي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب، 318.

حرب، وهذا النوع في الإنشاء الذي صدر عنه يتطلب أيضاً إمعانا عقليا، من هنا نؤشر عظمة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإن نفسه لا يتجلى فيها إلا التميز الذي أراده اللّه سبحانه له، إذ تأتي عنده الصورة التي تريد من الذهن استحضارا خياليا يربط المحسوس باللامحسوس أو غير ذلك انسيابية من دون تصنع وتكلفٍ.

وفي كل الأحوال فإن مثل هذه الأمور تحفز الانفعال ليهرع إلى الحسية والمباشرة، لكننا وجدنا الأمر مختلفا عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإبداعه الخاص خاص به، لأن قابلية المبدعين تظهر في ابتكار المعاني ويتفاضلون بحسب مراتبهم في الموهبة، وعلى وفق قابليتهم في إنتاج عمليتي المعنى والتأويل في أثناء خطابهم وتخيرهم أساليب البيان، وإيجادهم العلاقة بين الأسلوب والمعطى البلاغي)(1)، وذلك ما يتطلب منهم جوا نفسيا يشعرهم بالاستقرار والطمأنينة بعيدة عن انفعالات النفس الحادة، لكن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قد اختلف عن كل هؤلاء في إنتاجه لنصه، لأنه امتلأ بالإيمان فلم يختلف عنده الخطب الجلل عن الفرح اللطيف، ولأنه يتمتع بنفسية لا تتوخى إلا رضي اللّه سبحانه، فهو مؤمن بأن ما يجري في الدنيا لا فائدة منه إلا ما حسب عملا صالحا عند اللّه تعالى، أي بمعنى إنه يشعر بما يخلّفه الحزن والفرح بوصفه إنسانا، لكنه ثابت الجنان بانتمائه إلى وحدانية اللّه سبحانه ومعرفته بأنه

ص: 106


1- ظ : أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، 123.

ليس على الإنسان إلا أن يكون مقتنعا بالمعاد، قانعا برزقه، موقنا بأجله، مخلصا لدينه، نقيا في تعامله، لا يهاون في الحق، ولا يصمت أمام الباطل، وإن الحياة ليست إلا رحلة وهو يرى (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ویری (من كانت الدنيا همه كثر في القيامة غمه)، فالأداء الخاص سمة تميُّزِ كاتبٍ من سواه، وتقدم مبدعٍ على غيره، فالمبدع هو من يبعث حركةً وإيحائيةً للدلالة لتكون جديدة ليس كما جاء بها الآخرون، وذلك على وفق قدرته الإنشائية وملكته التعبيرية، فتكون ثمة حاجة يبتغيها الناس من السياق، فيظهر الأسلوب وسيلة لمعنى ينشده القائل، وعلى هذا الأساس فالكناية (وسيلة لمعنى آخر في عقل المنشئ وقلبه)(1)، وعودا إلى النص فالإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أكثر من الكنايات كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (عزب رأي أمرئ تخلف عني)، عزب بمعنى : بعد. وربما أفاد الدعاء، وأراد الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من تخلف عن طريقه وعن نهجه الواضح السليم الذي لا عوج فيه، ويلحق بذلك تعبيراً يؤكد رؤيته تجاه الحق عن طريق الكناية أيضا المعضدة بالتجسيد (ما شككت في الحق مذ أُريته)، فقد جعل الحق شيئا مجسدا ماثلا للرؤيا وهو بذلك يدمج بين صورتين جزئيتين، وهذا الأمر يتطلب تعمقا عقليا يركن إلى التفكر والتدبر، على الرغم من كونه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في موقف يتطلب الانفعال عند غيره واللجوء إلى غير هذه السياقات كما أشرنا سابقا، ويعود عبر الكناية

ص: 107


1- الصورة الفنية في شعر أبي تمام، عبد القادر الرباعي، 192.

بالرمز ليبيّن حاله (عَلَيهِ السَّلَامُ) آخذاً رمزه من النص القرآني الكريم «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى»(1)، عبر الاقتباس الذي يتطلب هو الآخر حضورا ذهنيا، والأخير ينبثق من النفس في حال الرخاء والهدوء النفسيين ليجعل التذكر وربط الأشياء بعضاً لبعض، فقال (لم يوجس موسی) وهو يقصد (لم يكن ذلك الخوف على نفسه، وإنما خاف من الفتنة والشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم، فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وهو بذلك يريد الفكرة، وكذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء الذين نصبوا لي الحبائل وأرصدوا لي المكائد، وسعَروا عليّ نيران الحرب، وإنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشُبَهِهِم وتمويهاتهم، فتقوی دولة الضلال، وتغلب كلمة الجهال) (2)، ثم أنهي كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالكناية والمثل، (اليوم تواقَفْنا على سبيل الحق والباطل، من وثق بماء لم يظمأ) أي اتضح مسلك الحق وبان مسلك الباطل وكلانا (ويقصد الفريقين) اطلعنا على حقيقة المسلكين، وختم قوله بمثل مبتکر (من وثق بماء لم يظما) بمعنى (إن وثقتم بي وسكنتم إلى قولي کنتم أبعد عن الضلال وأقرب إلى اليقين وثَلَجِ النفس، كمن وثق بأن الماء في أدواته، يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك) (3)، وبذلك نجد أسلوب الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد اختص به من

ص: 108


1- طه /67.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 140/1.
3- م.ن، 141/1.

سواه، فهو لم يركن إلى الانفعال النفسي الذي أومأت إليه النظرية النفسية سابقا في أثناء قيام العملية الإبداعية لحظة ما يتعرض له الإنسان من ضغط نفسي في مواقف تثير القلق ومنها الحرب، والتي أكدت (أن جانبا كبيرا من مشكلة الإلهام يدخل في نطاق مشكلة اللاشعور)(1)، إذ إننا وجدنا أن إبداع الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يرافقه الانفعال الذي يُخرس الخيال ويلغي تكوين الصور التعبيرية المؤثرة، على عكس ما يراه علماء النفس في أثناء عملية التعبير عند الإنسان، فيقول أحد علماء النفس المعنيين بذلك (إننا نطلق كلمة الإلهام على لحظات الإبداع الفجائية وهي لحظات تنتابنا مصحوبة بأزمات انفعالية، وتبدو بعيدة عن العمليات العادية للعقل والشعور، بعيدة عن حكم الإرادة وسيطرتها) (2)، بيد أننا وجدنا نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) تجمع بين التأمل والتدبر، وتنأى عن الانفعالية المصحوبة بالمباشرة أوالممزوجة بحسية عالية، والتي يهرع إليها الإنسان في لحظات القلق وتعود بنتائجها على تعبيره فيميل إلى الإيضاح السريع عبر التوضيح بأسلوب التشبيه، فكلما انفعل المرء، كلما مال إلى التشبيه الحسي تبيانا لمقاصده، ولا ينطبق الأمر هذا على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلا بد أن كلامه كان منفردا حباه اللّه سبحانه بما لم يعطه للآخرين، ولعلنا نذهب إلى ما ذهب إليه الشريف الرضي في وصف كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من

ص: 109


1- یوسف مراد والمذهب التكاملي، مراد وهبه، 285.
2- الأسس النفسية للإبداع الفني (في الشعر خاصة)، د.مصطفى سويف، 190.

الكلام النبوي)(1)، فضلا عن ذلك فإنك تجد الوحدة العضوية في كلامه، وهي تتطلب تركيزا فكريا وجهدا عقليا للمسك بتفاصيل القول وتطويعه إلى خدمة القصد، وعلى الرغم من كثرة الصور والإيماءات إلى الأحداث والمواقف، وهذا ما يُفعّل وحدة التلوين الشعوري التي تلقي بتتابع الصور على المنشئ، إلا إننا لم نجد لتسلسل الصور إلا خدمةً وإيضاحاً للموضوع وزيادةً في السبك عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ نمسك بنص متماسك، كأنه سدى واحدة، إذا أخذت أوله اتصل به آخره، وإذا نقبت في وسطه امتدت الأواصر إلى البدء والختام فهو كلُّ منسجم يفصح عن قدرةٍ معرفية خارقة، ودربة بيانية عالية وخبرة لغوية مبدعة، ففي قوله السابق الذي مر تحليله، نجد الوحدة العضوية حاضرة، وإذا ربط (کولردج ) بين ملكة الخيال ووحدة العمل حين عدَّ الخيال (القوة التي بواسطتها تستطيع صور معينة أو إحساس واحد أن يهيمن على عدة صور أو أحاسيس فيحقق الوحدة بطريقة أشبه بالصهر)(2)، فهذا ما ألفناه عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد كان التعبير عنده يتكاثف ليرتفع إلى مستوى المثل، فيحقق خطابه وظيفةً إفهامية لدى المتلقي، ويصبح نصه معيارا إبداعيا لمن يرتضي المقارنة بين النصوص الإبداعية الأخرى، ولما كانت النفس الإنسانية تتأثر بالمنبه أوالمؤثر أوالمثير (stimulus ) وهو العامل الخارجي والداخلي الذي يثير نشاط الكائن الحي

ص: 110


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 31/1.
2- قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، د. محمد زكي العشماوي، 99.

أونشاط عضو من أعضائه أويغيره أويكفه ويعطله، فإن موقفا لابد أن يكون تجاه ذلك المنبه من لدن المنشئ، (وحين تكون المنبهات معقده مركبة، تلك التي تصدر من البيئة الاجتماعية يسمى مجموعها الموقف... والفرد يرد على المنبهات باستجابات مختلفة، ويقصد بالاستجابة كل نشاط يثيره منبه، وقد تكون الاستجابة حركية... أوفسيولوجية أولفظية. أوعقلية كالتفكير والتذكير، أوانفعالية كالغضب وقد تكون الاستجابة بالكف عن الحركة)(1)، ولا يختفي السلوك الظاهر للإنسان عما يلاقيه من منبهات خارجية، فلابد من أثر إن كانت تلك المنبهات فعالة ذات تأثير في صميم نفسه، وقد وجدنا ميل الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى تقديم فكرته مصورة أومكثفة حتى أصبحت مثلا، وقد استعان الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالمستوى الحسي ليعضده بالمستوى التصويري وفي هذا الجانب (يستعين التفكير بالصور الحسية المختلفة... وقد يكون التفكير بالصور عونا على حل بعض المسائل)(2)، فضلا عن ذلك فقد وجدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحالات التي تتطلب انفعالا يميل إلى التفكير المجرد (abstract thinking ) أوالمعنوي وهو (التفكير الذي يعتمد على معاني الأشياء وما يقابلها من ألفاظ وأرقام لا على ذواتها المادية المجسمة أوصورها الذهنية، وهو أيضا التفكير الذي يرتفع عن مستوى الجزئيات العينية

ص: 111


1- أصول علم النفس، د.أحمد عزت راجح، 20.
2- اصول علم النفس، د. أحمد عز راجح، 333.

الملموسة)(1) وهذه سمة إبداعية أخرى في التعبير لديه تجمع بين الحسية والتأمل العقلي، فقد نجد التوازي الذي يتطلب جهدا فكريا وإعمالاً عقليا مؤطرا بالصورة والوظيفة الاقناعية معا، فثمة فكر وأدب، ويقين معرفي ووعي جمالي وهي عناصر متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، تأمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون)(2)، لقد كان الاستهلال بالحمد وتم نفي الوصف فأصبح النفي مهيمناً في المقطع فلا يبلغ مدحته سبحانه کل قائل ولا يمكن إحصاء نعمه مهما عدَّ العاد، ولا يمكن لمجتهد أن يؤدي حقه، فهذه السياقات جاءت بتقنية معمارية عالية المستوى والمضمون، متكونةً (من لا النافية + فعل مضارع + مفعول به مضاف إلى ضمير يعبر عن لفظ الجلالة + فاعل بهیئة جمع مذکر سالم)، فكان إعمال العقل حاضرا في إنتاج السياق بتأملٍ وتفكر.

إن نظرية النص هنا تأخذ بنا إلى السياق أو (التركيب النحوي)، فهو (منظومة من المفاهيم المتراتبة، ومن وجهة أخرى فإن هذه المنظومة تتشكل من مجموعة من الأحكام، أي لها طابع معياري إلزامي، وهذه البنية المعمارية مترسخة في عقل جماعة لغوية معينة) (3).

ص: 112


1- م.ن، 334.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 37/1.
3- نظرية النص من بنية المعنى إلى سيمائية الدال، د. حسين قمري الدار العربية للعلوم، ناشرون منشورات الاختلاف ط : 1428، 2007م، الجزائر، 220.

وقد نبَّه عبد القاهر الجرجاني (471ه) إلى مسألة اختيار الكلمة على وفق نظرية النظم والتلازم في الحضور والغياب أوالذكر والحذف بقوله (واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله)(1)، فالعلاقة بين اختيار اللفظ ودمجه في السياق وانتمائه للفكرة ومساعدته في إيصال الدلالة تتطلب جهدا عقليا، فكيف إذا أضيف لكل ذلك مناقشة فكرة كونية كما هي الحال في كلام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) السابق، لذا تحول كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى مناص، ونعني بالأخير (مجموعة التضمينات (implication) التي تتمثل في الإحالات والاستشهادات والقطاعات المتبادلة بين النصوص الحالية في النص الكامل)(2).

والدليل على أهمية كلام الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وما ذهبنا إليه إنه قد ارتقى إلى نقطة مضيئة في نصوص الآخرين، حين يُقتبس ليكون مناراً في فضاء النص المنقول إليه، (ومن هنا تتجلى قيمة المناص لأنه من جهة يساعد على مقروئية النص، لأن النص المسطح العاري من الإثارة الثقافية هو نص جامد لا يستطيع الانتقال داخل المنظومة الثقافية، ومن جهة ثانية فإن بنيته تتقلص إلى متتالية من الكلمات أوالجمل)(3)، فيكتسب اكتنازه المعرفي والفني بالاقتباس والتضمين وهو صالح لكل زمان ومكان، وهنا الإبداع، لذا رأينا

ص: 113


1- دلائل الإعجاز، 66- 67.
2- نظرية النص، 259.
3- م.ن، 259.

أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد فرضت نفسها لتكون مناصا يسهم في تثوير معاني نصوص الآخرين وإيضاح مقاصدهم، وعودا إلى النص السابق، فإننا وجدنا هذا النص كثيرا ما تصدّر خطب الآخرين وأصبح نقطة الإضاءة الأولى لنصوصهم حين يبدأ الكتاب نصه حامدا وشاكراً للّه سبحانه.

ويستمر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في إظهار فكرته جليا عبر النفي والتوازي، فيأتي المقطع الثاني : (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن)(1)، وفي هذا المقطع تكوّن التوازي في السياق من : (لا النافية + فعل مضارع متصل بالهاء التي في محل نصب مفعول به + فاعل على وزن (فَعْلُ) وهو مضاف + مضاف إليه على وزن (فِعَل)).

وبذلك اكتسب السياق سمة إيقاعية فضلا عن المعنى أي (إن همم النُظّار وأصحاب الفكر، وإن عَلَت وبَعُدت فإنها لا تدرکه تعالى، ولا تحيط به)(2)، ثم استمر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بنفي الصفات عن الباري عز وجل تحت إطار السياق المبتكر.

(الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت منعوت، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود) (3).

ص: 114


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 39/1.
2- م.ن، 37/1.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 371.

إن هذا التفنن في التعبير والسيطرة الكبرى على مجريات النص تنبئ عن القدرة العقلية الخارقة التي امتلكها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهيمنت على وحدة النص، (وجعلت من نفي الصفات عن الباري عز وجل قصدية للقول، وقد جاء النفي مرسوما أيضا بطريقة سياقية ذات وقع إيقاعي اختلف عن المقاطع الأولى، ولكن تحت سلطة التوازي، فكان للتباين في هذا الإيقاع أثره الواضح في إضفاء سمة الإيقاع الداخلي فهو يقتل الرتابة الإيقاعية من خلال السيطرة على تنويع الايقاع بما تأنس له النفس السامعة، الأمر الذي حقق تواصلا مع المتلقي فجاء النص من : (لا + اسم على وزن فَعْلٌ + صفة على وزن (مفعول)) منتهية بالدال، فأضفى السجع نغمة معوضة عن الروي في الشعر، لأن (الكلام الفني مصوغ على أساس صوتي، ولا يكتسب تأثيره إلا بتنوع صور الأداء، ومن هذه الصور الاستعمال الأمثل للإيقاع، ذلك يعني استغلال قيم الألفاظ الصوتية مضافا إليها حسن التصرف في بناء الجمل)(1)، وقد (تأتي قوة الإدراك والإيحاء من خلال ما يحمله الإيقاع من تنظيم حيث تتحرك موجة الصوت طبقا للفكرة)(2)، لذلك نجد تنسيقا بين اختيار الكلمة وبين السياق من جهة، وبين الفكرة وإطارها الصوري من جهة أخرى حين ينبثق المد الإيقاعي، إذ تُخَلّفُ (معاني الكلمات مع رنين الأصوات وقعا إيقاعيا يحمل صورة للتوتر أو صورة للتماثل بين انفعال الذات والملفوظ من خلال

ص: 115


1- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، 220.
2- م.ن، 225.

مظهري البنية الإيقاعية، فضلا عن الفضاء وما يصنعه من أمكنة نصية تتحدد معها الدلالات والمعاني، وطبيعة البنية الصوتية والموسيقية بحثا عن تناسب.. ثم تبدأ رحلة البحث في التجنيس والترصيع من خلال تكرار الصيغ من الصوت إلى التراكيب)(1)، وفي هذه الحال كثيرا ما نجد تناسبا في الزمن النفسي في النص عبر التكرار للكلمة أووزنها، فالتكرار عامل مشترك يتوغل في النص فيكونّ المقاطع الصوتية ويحدث تناسبا مع الزمن الإيقاعي، فيصبح الأخير تبعا للزمن النفسي الذي هو (إطار تحدث داخله كل العمليات الإبداعية، وبه تكون الصورة محاولة منظمة لإشباع حاجات المبدع، وعنده يستريح الإحساس، فترى المبدع يقتنص الأزمنة من امتدادها الطويل ليضعها داخل أوقات محددة، ذلك ما يعلل غوصه إلى الأزمان الماضية، أوالرجوع إلى الحاضر، أوالتطلع نحو أزمان مستقبلية ليست بالحسبان، فيصحبه حينئذٍ التنبؤ )(2)، وعودا إلى نص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد استمر على هذا النحو السياقي مصورا للمتلقي عظمة الخالق سبحانه، فجاء السياق مبنيا على فعل ومفعول به وجار ومجرور كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته)(3)، وختم المقطع الأول ب(ووتد بالصخور میدان أرضه)، لينتقل إلى مقطع آخر غير غافل عن الإيقاع، ولا مبتعدا عن التوازي في

ص: 116


1- نظرية، النص، 200.
2- أثر الزمن النفسي في تكوين الصورة الحسية، مجلة كلية الآداب - مؤتمر الجواهري، 54.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1/ 37.

سياقاته، ولكن المعنى تحول من نفي الصفات عنه سبحانه إلى موضوع آخر، يذكر فيه إن اللّه سبحانه هو الذي خلق كل شيء، ونشر الرياح برحمته لتقدم خيرها للناس، وإنه حفظ الأرض من الميدان عبر تثبيتها، وحفظها من التحرك، والتموج، ثم انتقل (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى رؤية جديدة متصلة بالأولى، وهي معرفة الخالق سبحانه ولكنه هنا استعمل التالي المنطقي، أي ارتباط العبارة بما سبقها، فبانَ النص كله وحدة موضوعية متماثلة بقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار اليه، ومن أشار اليه فقد حدَّه ومن حدَّه، فقد عدَّه)(1)، فهنا تسلسل منطقي يدع المتلقي في لهفة وشوق إلى تلقي الكلام وما بعده وصولا إلى الحقائق، فبانت هنا خصلتان فنيتان في التعبير هما : الحفاظ على الإيقاع عبر التكرار لاسيما تكرار الكلمات التي كانت أواصر الربط القوية للمعني من جهة، والمانحة للإيقاع الصوتي قوته من جهة ثانية، فضلا عن ذلك فقد أسهم التكرار في التتالي المنطقي الذي أصبح مهيمنا على النص فمنحه سبكاً ووحدة موضوعية في آن واحد.

ص: 117


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 47.

أول الدين معرفته = وكمال معرفته = التصديق به = وكمال التصديق به = توحيده = وكمال توحيده = الإخلاص له = وكمال الإخلاص له = نفي الصفات عنه

والأمر نفسه في الفقرة اللاحقة : ومن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه

ومن قرنه = فقد ثناه = ومن ثناه = فقد جزأه = ومن جزأه = فقد جهله = ومن جهله = فقد أشار إليه = ومن أشار إليه = فقد حدّه = فقد عدّه

ص: 118

إن هذا التكرار الصوتي بالكلمات أو بالحروف ((الواو) أو (من) أو (فقد))، أضفى على النص صورا تعبيرية اتسمت بالإيقاع الواضح، والتالي المنطقي الذي فرض على المتلقي تتبعا للنص بذائقة مهادها اللذة والاكتشاف، فضلا عن ما جاد به التعبير من حجج إقناعية في آن واحد، فقدمت وظيفة نفعية عبر المنطق، وهذا ما لم نألفه عند غيره (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فالتكرار قد خلَّف لنا إيقاعا وترکیبا نحویا ثابتا ودلالة، فضلا عن ذلك فإن الإيقاع (يساعد على تنسيق المشاعر والأحاسيس المشتتة)(1)، لذا أسهم التكرار والإيقاع في إنتاج صور فكرية في النص السابق، لأن التكرار المنضبط يحتوي على (طاقة إيحائية كامنة في الأبنية الصوتية)(2)، وهذا الأمر أفضى إلى صور أصبحت دالة ودلالة في آن واحد، لأن الصورة (أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المعاني مقترنة بألفاظها فیکسب العمل الأدبي مناخا يشعرك بالتئام اللغة والفكر)(3)، وبذلك تحققت الفكرة والإيقاع والصورة في بناء فني أنبأ عن الرقي الإبداعي عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقدرته في تطويع كل هذه الأشياء من أجل المحاجة وإثبات الشيء على أساس منطقي، وهنا يظهر لنا التميز، إذ من المعلوم أن التعويل كثيرا على العقل يضعف المخيلة الأدبية عند الإنسان، ويأخذ به نحو المباشرة، وربما كانت سياقاته وأبنيته محدودة التعبير الفني، فكيف بنا ونحن نجد الفكر الواعي والمنطق المقنع والصورة

ص: 119


1- الشعر العربي المعاصر، د. عز الدين اسماعيل، 63.
2- نظرية البنائية في النقد الأدبي، د. صلاح فضل، 472
3- الصورة الفنية في المثل القرآني، د. محمد حسين علي الصغير، 11.

الفنية والسياق المنظم والدلالة المحملة بالوظيفة الإفهامية كلها حاضرة في نص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فهو إذن فعلا كما قال عنه الرضي رحمه اللّه (يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعا في كلام، ولاجموع الأطراف في كتاب)(1). فالبناء المعماري في نص نهج البلاغة تهيمن عليه ظواهر التكرار والتوازي والتالي المنطقي، ويجتمع العقل مع العاطفة في بناءٍ فني غريب، فأصبح التكرار الصوتي منوعا؛ مرة بالحرف وتارة بالكلمة، ووظفت الأخيرة لخدمة التتالي المنطقي والتوازي معا كما رأينا ذلك قبل قليل مثل : (من قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه)، فأصبحت هذه الظواهر مندمجة مع بعضها وهنا الرقي القولي، فالتكرار ينشأ (عن وثبات لحظة شعورية في الزمن، قبل أن تستأنف الذات المبدعة تموجها في الخط الأفقي للزمن الإبداعي المتنامي، وينتج التكرار عن عوامل متداخلة بينة التعقيد - يمكن إرجاعها - أولا- إلى الرغبة في تحقيق (شبع) شعوري في لحظة زمنية ثابتة... وثانيا إلى الرغبة في محاولة تحقيق قدر من التناغم والتآلف الموسيقي (Harmonic) اللذين ينيران الجوانب الإيقاعية)(2)، فيسهم التكرار على مستوى الكلمة أوالحرف في صنع مسافات زمنية متساوية للعبارات المتكررة، فينتج عن ذلك (تكثيف صوتي يعطي [الإيقاع السطر]، وقد يحيل إلى معنى معين،

ص: 120


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 31/1.
2- البنيّات الدالة في شعر أمل دنقل، عبد السلام المساوي، 75.

وحينئذ يكون المتلقي أمام ما يسمى بالرمزية الصوتية)(1)، ولو قست المسافات الزمنية للمقاطع التي ذكرها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خطبته لوجدتها متساوية زمنيا، وذلك لأنه اعتمد الميزان الصرفي في سياقات متساوية، وهذا الأمر أيضا يتطلب إمعانا فكريا، فلو رجعنا إلى التخطيط الآتي لوقفنا على القصد:

المفردة الميزان الصرفي النتيجة

فمن فعل

ومن فعل

قرنه فعله

ثنّاه فعله

جزّاه فعله

جهله فعله

حدَّه فعله

عدَّه فعله الأزمنة متساوية

ونجد التكرار الصوتي يصنع إيقاعا داخليا عجيبا كما في المخطط الآتي :

فقد قرنه، فقد ثناه، فقد جزأه، فقد جهله، فقد أشار إليه، فقد حده، فقد عده

ص: 121


1- م.ن، 75.

فضلا عن صوت الفتح الذي أصبح آصرةً بين التوقع والاحتمال، أي بین (فَعَلُه) و(ومن) و(قد)

تحققت سمة الصوت عبر هيمنة الفتح = ومن قرنه فقد ثناه

ومن ثناه فقد جزاه

ومن جزأه فقد جهله

ومن جهله فقد أشار إليه

وهكذا أصبحت هيمنة الحركة بالتكرار مانحةً شيئا مضافا للنغم الإيقاعي، فاكتسب التعبير عبر تكرار الصوت بأنواعه إيقاعا جميلا مهَّد لقبول فكرة التتالي المنطقي المبني على الإخبار وإلقاء الحجة بواسطة (ومن ) والإجابة ب(فقد)، فأصبح التوقع والاحتمال حاضرين في النص، فأفضيا إلى زيادة سبكة النص، فضلا عن ما ذكرناه قبل قليل من أن لتكرار الكلمة وظائف دلالية تقف جنبا إلى جنب مع الإيقاع، وربما كان الأخير نتاجا لانتقاء الكلمات، لاسيما تلك التي باتت آصرة تربط النص عبر تکرارها، فكانت تمنح النص قوة وإيحائية في آن واحد عبر وحدة الوزن المتكررة مع الإيقاع، فأفضت إلى التوازي الذي هو (تألیف ثنائي قائم على التماثل وبنية تتحدد على مستوى الوزن والتكرار وعناصر الدلالة النحوية والمعجمية)(1)، وهذا التوازي له دوره الفاعل في منح المتلقي فرصة للمتعة والاستئناس بضروب

ص: 122


1- قضايا الشعرية، رومان جاکوبسن، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، 108.

الإيقاع المتساوية الحاملة للمعاني الهادفة، وقد ألفناه مهیمناً هو الآخر عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكنه يتّحد بغرابة مع التكرار والتتالي المنطقي لينتج عن ذلك الاندماج زمن سياقي للصيغ الصرفية المستعملة، فيمنح المتلقي نوعا من الموائمة الموسيقية مع الدلالة التي تؤثر فيه كثيرا وتشده إلى الإنصات، فتأمَّلْ تشابك الإيقاعين الداخلي والخارجي في نصه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (أحمدَهَ استتماما النعمته، واستسلاما لعزته، واستعصاما من معصيته، وأستعينه فاقةً إلى كفايته إنه لا يضل من هداه، ولا يَنِل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه، فإنه أرجح ما وزن، وأفضل ماخزن، وأشهد أن لا اله إلا اللّه وحده لا شريك له شهادة ممتحنا إخلاصها، مُعْتَقَدا مُصَاصُها، نتمسك بها أبدا ما أبقانا، وننخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان ومرضاة الرحمن، ومدحرة الشيطان)(1). نجد الإيقاعين الداخلي والخارجي يأتيان على هيئة أمواج صوتية متغيرة في امتدادها لكن الدفقة الشعورية واحدة، ويحصل التموج الصوتي من خلال التقديم والتأخير، أوالتركيب السياقي المتغير المراعي للدفقة الشعورية الصادقة، فهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) حمد اللّه سبحانه ثم تنامی بناء النص على الحذف لأنه لم يكرر كلمة (أحمده) إلا مرة واحدة، فالحذف ظاهرة بلاغية راقية التعبير لا يستعملها إلا من امتلك قدرة إبداعية عالية، لأن الحذف تكثيف دلالي، وحضور فکري ينماز بقدرته الفنية على إنتاج الدلالة

ص: 123


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 86/1.

بالاستعانة المبنية على قوة الفكر ودربته على التأمل والتدبر، فضلا عن ذلك فقد قدَّم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) المصادر (استماما واستسلاما، واستعصاما) ثم أردفها بتكرار اللام وكلمات على أوزان متقاربة (نعمته، عزته، معصيته) ثم الماء التي تكررت في هذا النص كاملا (20) مرة، فصبغ النص بصوتها، فكان التكرار مبنيا على بناء الجمل المتساوية و المتوازية ثم انتقل الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد الربط ب(إنه) الى إيقاع صوتي حفل بشقّيه الداخلي والخارجي، فبعد أن كانت الصيغ الصرفية (انفعالا) و (فعلته) هي المهيمنة على النص، إذ ذهب الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى مقطع حظي بوزن وإيقاع جديدين، وأيضا تم حذف (إنه) ولم يكررها سوى مرة واحدة (إنه لا يضل من هداه، ولا يئل من عاداه) فقام التوازي هنا على الصيغة التركيبية المتساوية، المتكونة من لا + فعل مضارع + من + فعل ماض مقصور اتصل بهاء الغائب (هدي، عادی، کفی)، إن هذا الأمر يتطلب جهدا فكريا وتوكيدا ذهنيا، أي يجعل الذهن رقيبا على ما يقوله المنشئ من خلال اختيار الأنظمة السياقية وعلاقاتها بالدلالة، فتضعف المخيلة عند الآخرين، لأن العقل الواعي يتدخل بقوة في إنتاج الدلالات، وكثيرا ما يرجع المنشئ إلى المباشرة، غير أننا وجدنا الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجمع التركيز الذهني إلى جنب المخيلة المنتجة للصور والعبارات، وهذا بحد ذاته رقي فني لم نره عند أرقى المبدعين نتاجا، وظل الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يغير بالصياغة الأسلوبية غير غافل عن الزمن الإيقاعي ولا التوازي

ص: 124

ولا التتالي المنطقي، معتمدا الذكر تارة والحذف تارة، فضلا عن الصيغة المتوازية مع اختها، فقال مستعملا فعل التفضيل أفعل + ما + فُعِل : فإنه أرجح ما وزن وأفضل ما خزن، فالمحذوف في الجملة الثانية (إنه) ثم عدل بعد الشهادة إلى تركيب سياقي اتسم بالإيقاع القوي الصارم والحذف، وهذا النوع من التركيب السياقي يميل إلى تأكيد الكلام (شهادة ممتحنا إخلاصها مُعْتَقَدا مُصَاصُها)، فحذفت (شهادة) من الثاني ليكون الإيقاع متناغما عبر التوازي المتكون من اسم المفعول المصاغ من الخماسي على وزن (مفتعلا)، وجاء بعدها اسم المفعول الذي سد مسد الخبر، وبعدها جاءت التراكيب الأخرى معتمدة التنوع الإيقاعي الداخلي والخارجي (نتمسك بها أبدا ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا).

ثم عاد إلى الحذف وبناء الجمل المتوازية المشبعة بالإيقاعين الداخلي والخارجي مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

(فإنها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمن، ومدحرة الشيطان).

فانظر التوازي العجيب في التركيب المبني على حذف (فإنها)، ثم تكرار الصيغ الصرفية الموحدة فضلا عن تكرار الحروف، فكان التوقع والاحتمال حاضرين، وأصبح نتيجة فكرية يتلقفها الذهن بعد نطق الكلمة الأولى بناء على الإيقاعين الداخلي والخارجي المنبثقين من الصيغة الصرفية والحرف الأخير.

ص: 125

الكلمة التوقع والاحتمال

عزيمة الايمان

فاتحة الاحسان

مرضاة الرحمن

مدحرة الشيطان

هذا الأمر يتطلب إمعانا فكريا، ومن ثم فإن ذلك يضعف المخيلة، وينعكس التأثير على الأسلوب، ولم نجد لذلك وجودا أوأثرا في إضعاف القدرة الإبداعية التي توطنت نتاج الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذا يعني ان اللّه سبحانه اجتباه بمواصفات عقلية وفكرية لم تمنح لغيره، تأمل ما ذهبت اليه من خلال التوازي والتنويع الإيقاعي والتوقع والاحتمال للقول، والصور الفنية والتكرار بأنواعه، ستجد ما أومأت إليه. (1)

تحقق التكرار والتوازي عبر النعت الذي جاء بالصيغة الصرفية (مفعول) + تكرار الراء = (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) ، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور

ص: 126


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 1 /88.

والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمرالصادع = تحقق التكرار والتوازي بالصيغة الصرفية (فاعل) + تكرار العين

ويتألف التعبير بخصیصته هذه في مقطع آخر أنظر إلى تغير الصيغ الصرفية والانتقال بالتكرار من صوت إلى آخر، فضلا عن حذف كلمة (أرسله)، وهذا الأمر يتطلب إمعانا ودقة من أجل سبك النص وحبك دلالاته، فحذفت كلمة (أرسله) لتأتي العبارات التالية دالة عليها، فأصبح الحذف هنا رابطا لوحدة الموضوع، وهذا الإبداع بعينه، إذ يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أن نضيف الفعل الغائب (أرسله) :

إزاحة للشبهات، واحتجاجا للبينات، وتحذيرا بالآيات، وتخويفا بالمثلات = تحقق التكرار والتوازي بالصيغة الصرفية (المفعول لأجله المنصوب المقدم + الصيغة الصرفية فعلات)

وهكذا تتشاكل التراكيب صوتيا في كل فقرة الأمر، الذي يوحي بالتجانس ويصنع ترددا إيقاعيا، وربما كان مرد هذا التحول في الإيقاع إلى تواصل المعنى، والحفاظ على وحدة الموضوع، ونجد أمكنة في النص، وقد

ص: 127

حفل كل مكان بوقفة، إذ تتسلسل الوقفات، وترتبط الأخيرة مع المكان النصي ارتباطا وثيقا، لأن الوقف يقوي التجزء الناتج من قواعد التركيب ضمن المعنى(1)، ويستلزم اتصال القراءة وثبات نفسية قصيرة، لكي يتم من خلالها التحول نحو وثبة شعورية أخرى، وما يتمخض عنها من نص، ومع كل هذا التنوع وجدنا نص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يمتاز بوحدة موضوعية متكاملة، وعلى الرغم من تواجد الوحدات الثلاث، وحدة الصراع وموقفه من الوجود، والوحدة الحيوية وما يمنحه من شعور وإحساسات للنص، ووحدة التداعي والتلوين الشعوري، فهو يكبح جماح الأخيرة ليجعلها في خدمة النص، على الرغم من صعوبة السيطرة عند الآخرين على هذه الوحدة، إذْ كان العمل الأدبي يتضمن وثبات شعورية متحركة تصنع معها إيقاعين داخلي وخارجي متناغمين متطورين بسلم ترتيبي إلى نهاية النص، مع وجود فكرة تعريفية أو فلسفية في النص، الأمر الذي يتطلب حضور العقل ليتأمل ويتدبر ويفكر، وهذا العمل يكبح جماح الصيرورة الأدبية وتحولات الصور داخل النص، لأن الأخيرة تتطلب بعدا خياليا كبيرا، أقول على الرغم من كل هذا وجدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) متمكنا لا يحد إبداعه أي نوع من هذا الجانب وإن فعله الإبداعي يجمع بين هذا وذاك في نصه، فاتسم كلامه بهوية الابتكار الخاص، أي كان كلامه خاصا به لا يقدر سواه على الإتيان بمثله،

ص: 128


1- ظ : لسانیات النص، أحمد مداس، جدار للكتاب العربي، عمّان، الأردن، 207.

تأمل الحال نفسها في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند وصفه لآل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1) :

هم موضع سره

وملجا أمره

وعيبة علمه

وموئل حكمته

وكهوف كتبه

وحبال دينه

نلاحظ هذا التكثيف الدلالي والتناسق الصوتي بعد أن حذف (هم) من العبارات اللاحقة، ليبقى التعبير مبنيا على إيقاع موسيقي داخلي وخارجي في آن واحد، وأنبأ عن قدرته في مزج أسلوبين بيانيين في آن واحد أحدهما التشبيه البليغ (هم موضع سره) والآخر الاستعارة حين حصلت الإضافة (موضع سره) اموئل حكمته.... الخ، بمعنى (موضع سره في نفوسهم، في تقواهم، في معرفتهم) فاستعار (موضع، وملجأ، وعيب، وموئل، وكهوف، وحبال) لتمنح النص صورا شعرية معبرة، فأصبح التركيب السياقي بكل ما يحمل على وفق إيماءاتنا السابقة وحدة عضوية متكاملة، ثم قوّى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك المعنى بإضافات معنوية أعدّها ذهبا تلمّع الدلالة وتقويها وتمنحها بريقا

ص: 129


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 90/1.

فيقول (1) في المنافقين : (زرعوا الفجور، وسقوا الغرور، وحصدوا الثبور....) فكان التوازي حاضرا في الفعل الماضي من الأفعال الخمسة + صيغة فعول، فتجده (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينوع بالأداء الخاص به كلما أراد التعبير عن قضية معينة، لكنه لا يهمل الإيقاعين الداخلي والخارجي ولا ينأى عن الدلالة ولا ينسی القصد، وبذلك لا يحمل كلامه مللا إلى المتلقي، وهو يستعمل هذه الأساليب في كل اللحظات التي تمر عليه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلا يؤثر انفعاله في صوغ خطاباته، تأمل قوله في ذم المتخاذلين، وهذا الأمر يتطلب انفعالا نفسيا لكننا نجد صفاته الانشائية واحدة، إذ يقول (2) :

(أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم)

لقد أضْفتِ الصيغ الصرفية الموحدة الحذف والتكرار إيقاعا داخليا وخارجيا. ثم حصل حذف لعبارة (أيها الناس) كي يعود في مواصلة كلامه :

كلامكم يوهي الصم الصلاب

وفعلكم يطمع فيكم الأعداء

فكان التوازي والإيقاع والفكرة والصور المتحققة كلاً منسجما، فحققت الكناية في الشطر الأول دلالتها، كناية عن تفرقهم وعدم اجتماعهم على أمر، على الرغم من كونهم مجتمعين معا، فيما كان المجاز عبر علاقته السببية

ص: 130


1- م.ن، 90/1.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 305/2.

حاضراً في الشطر الثاني (كلامكم يُوهي وفعلكم يُطمعُ)، فالأمر هنا ما بني للفاعل وأسند إلى السبب، فذكر (كلامكم، فعلکم) لأنهما السبب في دفع الآخرين أوالإيحاء لهم بالطمع فيكم، وهذا التنوع البياني المرافق للتنوع التركيي والسياقي وما يتمخض عنه من تواز وإيقاع باشكاله يمنح النص سبكا، وينبئ عن مقدرة المنشئ في إعمال العقل والعاطفة معا في إنتاج النص، فيبهر الدارس ذلك التركيز، فيأخذ بالمتلقي إلى الاقتناع بتظافر البناء الفني مع المضمون، وهذا الأمر الفني لا يفارق نصوص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتى في الإرشاد والنصح اللذين يستوجبان إعمال العقل أكثر من التركيز على الصورة، وهذا دليل على رقي أساليب البيان عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي يجمع بين هذا وذاك، تأمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في استنفار الناس إلى أهل الشام (1):

(أُفٍ لكم ! لقد سأمت عتابكم

أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا

وبالذل من العزخلفا)

فارصد هذا التقابل الدلالي الذي يستوجب التركيز، فضلا عن الإيقاع إذ حذف (أَرِضيتُم) في الثانية تكثيفا لفحوى النص، فكان التقابل في : الحياة الدنيا من الآخرة = عوضا وبالذل من العز = خلفا.

وجاء التوقع والاحتمال ليفصح بدلالته عن الأولى، فكان (عوضا)

ص: 131


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 357/2.

وعن الثانية (خلفا)، إذ حضر الإيقاع والتوازي والمعنى، ثم جاءت الكناية لتكون الأسلوب البياني الذي حمل كل هذا المعطي الدلالي المنصهر في وحدة موضوعية، ثم أكمل (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله :

(إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم)

ويأتي التوقع والاحتمال بماذا؟ : (دارت أعينكم)

ثم يكمل (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

(كأنكم من الموت في غمرة ومن الذهول في سكرة)

فحصل حذف (كأنكم) حفاظا على وحدة الإيقاع، وحضر التكثيف الدلالي عبر الاحتمال والتوقع اللذين يمنحان المتلقي فرصة الربط بين الأشياء، ومن ثم الاستنتاج، فحصل التلازم بين الحدث و التذكر بقوله تعالی «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (1)، أوقوله تعالى «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»(2).

لقد تماسك النص وتلاءمت دلالته على الرغم من كثرة التحولات الفكرية التي ذهب إليها، بدءا من كلمة (أُفٍّ) (وهي كلمة استقدار ومهانة) إلى سأم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عتابهم وما ينطوي تحت كلمة (سئمت) المؤكدة ب(لقد) من دلالات، ثم تحول الكلام بالأسئلة المحملة بعتبه (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 132


1- محمد/20.
2- الأحزاب/19.

عليهم، وهنا لابد من الانفعال، والأخير لم يؤثر على النص، لقد حصل العتب بالسؤال والمقارنة بأرقی مراحل القول، وحصل التقابل والتذكر بقوله تعالی آنفاً، وتواجدت الصور ووضح الفكر مقاصده، وكل ذلك كان في بناء فيني منسجم، فجاءت الوحدة الموضوعية قائمة على تواصل نصه، وتشابك أجزائه، فهناك وحدة موضوع وحكمة، وقوة ايقاع وتجربة إنسانية في إنتاج القول، فالوحدة العضوية هي (التحام النص الإبداعي، وارتباط أجزائه، من حيث وحدة الموضوع ووحدة المشاعر) (1)، وهي تسهم في جمع ما ينصهر في أطواء النص وتوحيده تحت إطار المعنى ووحدة القصد، لأنها ذات أثر في الصور والأخيلة، إذ تصبح كالبنية الحية في النص وتسهم في إذكاء الشعور فيه (2)، تأمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد التحكيم وهنا يتطلب الأمر انفعالا نفسيا يخفف من فنية التعبير، لكننا لم نجد خطابه قد تأثر بذلك، وهذا دليل ثباته الإيماني وسمو نفسه، وعدم اعترافه بمغريات الدنيا، فيقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3):

(أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجّرب تورث الحسرة وتعقب الندامة وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاع لقصيرأمرٌ، فأبيتم علي اباء المخالفين الجفاة، والمنابذین العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضنَّ الزند بقدحه).

ص: 133


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر منياوي، 275.
2- ظ : النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، 398.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 2 /367.

لقد حضرت الاستعارات والكنايات في هذا التعبير فضلا عن التوازي والتكرار الصوتي، وإن مثل هذا الموقف بعد يوم التحكيم كان من المفروض أن يجعل کلام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مباشرا خاليا من الفنية بسبب الانفعال العالي الذي لابد أن يكون حاضراً، بسبب ما تعرض له الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأتباعه من غدر، لكننا وجدنا النص متماسكا احتوى على كل ما أشرنا إليه، إذ بدت العبارات حاضنة لشعور مكثف انسجم مع مغزی النص وكان الأخير نتاج حدث أثر في النفس، فأنشأ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نصاً تحت إطار وحدة موضوعية متكاملة، إنضوت تحتها السياقات الفنية والدلالات الإيحائية عبر الاستعارة والكنايات، فسيطر على الفكرة على الرغم من التنوع في سیاقات القول، فارتبط الأخير بالقصدية القائمة على التجاذب والتماس المبني على أحداث الترابط الحدثي، وحصل توازن بين الأخبار والتصوير من جهة، وبين التداعي أو التذكر ووحدة الموضوع من جهة أخرى، فضلا عن ذلك فقد تواجدت وحدة المشاعر، وهي التي يثيرها الموضوع وما يستلزم ذلك من ترتيب الصور والأفكار ترتیبا به يتقدم النص شيئا فشيئا (1)، فضلا عن ذلك فإن (بنية المعنى تتولد من صوره)(2)، فكانت صوره (عَلَيهِ السَّلَامُ) معبرة، جمعت بين القوى الإدراكية، وتدرّج الصور الذي جاء منبثقا من الوثبات النفسية المستحضرة في أثناء كتابة النص، لأنه لا يمكن

ص: 134


1- ظ : النقد الأدبي الحديث، 394.
2- نظرية البنائية في النقد الأدبي، 356.

تجاوز علاقة الواقع بالمنشئ، إذ يتجلى لنا الإبداع الذي هو (علاقة اجتماعية معقدة بين ثلاثة أطراف رئيسية... هي (المنبع أوالواقع والمفهوم والمنتج وهو المنشئ، والمتلقي وهو مستهلك القيم الفنية) (1)، فظهر ذلك الترابط جليا في نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذا ديدنه في التعبير مهما كانت الأزمات أوالأفكار، ومهما تغير المكان أوالزمان، فاشتغلت الكنايات عبر (معصية الناصح الشفيق، العالم المجرب) مع الاستعارات (تورث الحسرة، وتعقب الندامة) وأسهمت في إنتاج دلالات إفهامية مقنعة ارتقت الى مستوى المثل، بسبب التكثيف الشعوري والدلالي معا، لأنها نابعة من صدق الإحساس، واليقين الوجداني، ثم انتقل الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) معاتبا المحيطين به عبر الكناية بالإيماءة (وقد كنتم أمرتكم في هذه الحكومة أمري)، ثم جاءت الاستعارة (ونخلت لكم مخزون رأيي) لتتعانق الكناية والاستعارة في إنتاج دلالة النص هنا أيضا، موضحة عتبه (عَلَيهِ السَّلَامُ) على القوم ومبينة عدم مطاوعته، ليختم نصه بالاستعارة والكناية معا (حتى ارتاب الناصح بنصحه، وظن الزند بقدحه)، وكأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يريد القول لهم بأنكم تريدون أن توصلوني إلى الشك في اليقين على الرغم من علمي به ومعرفتي إياه، أي بمعنى، (خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح، لإطباقكم وإجماعكم على خلافي... فلم يقدح لي بعد ذلك رأي، لشدة ما لقيت منكم

ص: 135


1- قضايا الإبداع الفني، د. جمعة حسين، 63.

من الإباء والخلاف والعصيان) (1)، وبذلك تلاءمت العبارات فنيا مع ملتقى القول، فاجتمعا وانصهرا معا وحققا موضوعية للنص.

ولنقف على ظاهرة الايقاع بشقيه مؤكدين علاقته بوحدة الموضوع في نصوص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ إن الإيقاع الداخلي يتخذ مسارا مميزا في بناء القول عنده، ويضيف شغفا ولذة سمعية يأنس لها المتلقي، وهذه الخصيصة مهيمنة مميزة في نصوصه، قال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جور الزمان.. (2) (أيها الناس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن كنود يعد فيه المحسن مسينا، ويزداد الظالم فيه عتواً، لاننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا...).

لقد تم تكرار النون (14) مرة فأضفى تكرارها إيقاعا داخليا، ثم جاءت الألف (16) مرة، وأضاف كل من (حرفي المد) الوأووالألف حركة ملائمة للإيقاع الداخلي.

وأفضى الأمر إلى تطابق صوتي داخلي دلّ على وحدة موضوع واحدة تعلقت بوصف أمر الناس، ونأيهم عن الخير، وتحذيرهم من جور الزمان الذي لا أمان له. أما الإيقاع الخارجي فقد تم مرة بتكرار الوزن، ومرة بتكرار المقطع وأخرى بتكرار الحرف، يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3) :

ص: 136


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 2 /367- 368.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 345/2.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 6/ 453.

((الحمد للّه المعروف من غير رؤية، والخالق من غَيْرِ رويةٍ

الذي لم يزل قائما دائما

إذْ لا سماء ذات أبراج

ولا حُجُب ذات أرتاج

ولا ليل داج

ولابحر ساج

ولا جبل ذوفجاج

ولا فج ذو اعوجاج

ولا أرض ذات مهاد، ولا خلق ذواعتماد))

لقد أعطى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكرة مفادها بأن اللّه سبحانه معروف من غير أن تتعلق الأبصار بذاته، ويخلق من غير تفكر وتروٍّ فيما يخلقه أي لا يستأذن أحداً فهو لم يزل قائما وهو الثابت الذي لا يزول (1)، فلولا وجوده سبحانه لم تكن هذه الأشياء ولا تمنعه كل الصفات المنسوبة للكلمات أن تعيق علمه سبحانه بالأشياء، إذ يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (ذلك مبتدع الخلق ووارثه، وإله الخلق ورازقه، والشمس والقمردانبان في مرضاته، يبلیان كل جديد، ويقربان كل بعيد) (2)، فأكد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إن اللّه سبحانه

ص: 137


1- ظ : شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 1 /453.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 453/2.

مخرج الخلق من العدم المحض، فكانت أفكاره (عَلَيهِ السَّلَامُ) مستوحات من نصوص القرآن الكريم «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (1)، «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ»(2) «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ»(3)، وبذلك حقق وحدة موضوعية لنصه لم تهمل الإيقاع ولم يأت الأخير على حساب الفكرة فيسلبها، فضلا عن البناء المعماري الرصين للنص القائم على التوازي والتكرار الذي صنع الإيقاعين الداخلي والخارجي بوضوح، فكانت الفكرة تتحدث عن فرادة الخالق في إبداعه وقدرته وعظمته، ونجد الأمر نفسه من خلال العلاقة الجلية بين الإيقاع ووحدة الموضوع، نری آصرة قويةً بين اللفظ والسياق ووحدة الموضوع، فاللفظة (تستمد معظم تأثيرها من ملاءمتها لسياقها أكثر ما تستمده من جمالها الذاتي) (4)، فيأخذ التكرار وظيفة دلالية تتسق مع الإيقاع ليقويه (فيجعله أكثر تعبيرا عن لون ذلك الانفعال المغموس في أعماق المبدع) (5).

وينعكس ذلك على وحدة الموضوع التي تجعل المتلقي منصاعا لها، مفكرا في دلالاتها، ممعنا في إيحاءاتها، إذ وجدنا الإيقاعين الداخلي والخارجي

ص: 138


1- البقرة/117.
2- البروج /1.
3- الأعراف/54.
4- الاحساس بالجمال، جورج ساسيانا، ترجمة د. محمد مصطفی بدري، مراجعة د. زكي نجيب محمود - مكتبة الأنجلو المصرية، 138.
5- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، 204.

في نصوص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسهمان إسهاما كثيرا في شد وحدة الموضوع وجمع أطرافها إلى نواة القول فيها.

فالتكرار الصوتي الذي حصل في المقطعين السابقين سواء كان تکرار النون في المقطع الأول أم الجيم في المقطع الثاني صنعا إيقاعين في كل مقطع كان الأول داخلياً والثاني خارجياً، ولم يخرجا عن قصدية النص، وبذلك أسهما في بناء وحدة موضوعية واحدة وأثرا في المتلقي عبر انشداده لفحوى القول المحمول على جرس موسيقي موحٍ، وهذا الأمر يكثر في نصوص نهج البلاغة، مع انه يستلزم ربط الفكر إلى المغزى من لدن المنشئ، لكن ذلك لم يضعف فنية القول عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وبعد هذه الرحلة فقد وجدنا نصوص الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ترتقي إلى مستوى المثل بعد أن تتكاثف الوحدات الثلاث (الصراع والحيوية والتلوين الشعوري)، كما سنتناوله في المبحث الرابع، ولكن ما أريد القول عن هذا المبحث هو إن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يستعمل الاستعارات والكنايات والمجازات في أشد المواقف قساوة وأكثرها ضراوة في حين تتطلب مثل هذه الأمور تدبرا عقليا وتأملا وتحتاج الى ترف نفسي، وبذلك خالف الشعراء والكتاب الذين يهرعون في ساحات الحرب الى الرجز المؤطر بالتشبيه الحسي، ووجدناه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يستعمل التوازي والتكرار والتراكيب السياقية المبنية على مباني صرفية متساوية، الأمر الذي ينتج عنه إيقاعين داخلي

ص: 139

وخارجي، فضلا عن أزمنة نفسية موحدة تثمر المتعة فتلقي بظلالها على المتلقي الذي يأنس لتلك الأقوال، فكلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يمتاز بثبات نفسي، ووجدان يقيني موحد، وإذا قال علماء النفس إن ظاهرة الانفعال من خلال التأمل الذاتي تمثل حدثا لرغبة مكبوتة لا تتحرك إلا بفعل تمیج الإنفعال وإثارة المشاعر فينعكس ذلك على العمل الفني (1)، فإننا وجدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد حافظ على انفعاله ولم يأخذ منه الأخير مأخذا في إضعاف عملية التعبير، لأننا لم نجد هبوطا لنصوصه التي ذكرها في حالات الشدة، وهذه ميزة انفرد بها من سواه، فما من نص له (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلا وكان راقيا في بنائه الفني، ومبهراً في صورة الدالة، وبديعاً في استحداث الفكرة، وقد وجدت ذلك مهيمنا على كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فضلا عن إعمالهِ الفكر مع الخيال في إنتاج نص يحاكي الحدث، إذ لم يأخذ الانفعال مأخذا في النمو البياني ورقيّ القول عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فبقيت سمة التعبير الفني تتنقل على أغصان الفن القولي، وتتغذى من أريج الاستعارات والكنايات والمجازات والتشبيه، ولم يهمل الإيقاع الصوتي ولا التتالي المنطقي فحضر الجدل، وبانت الحجة ووضحت الغاية، والتئمت الوحدة الموضوعية، تأمّل كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأصحابه على النحو الذي اشرنا إليه، يوم منع الأعداء أصحابه من الوصول الى شريعة الفرات وحرموهم الماء في صفين، وكان قبل ذلك لم

ص: 140


1- ظ : الإتجاه النفسي في نقد الشعر، 77.

يمنعهم، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ((قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلَّةٍ، وتأخير محلَّة، أو روُّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين، ألا وانّ معاوية قاد لمَّةً من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية)) (1).

هل رأيت التقابل الدلالي والجناس العجيب والاستعارات الفريدة (استطعموكم القتال)، (رووا السيوف من الدماء)، والحكمة المبنية على التوازي (فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين) إنها الكنايات التي امتدت متغلغلة في النص فأنبأت عن أن الكلام كان ينبثق من نفس لم يُرَق اليها الانفعال حتى في تلك الحالات، فكان التأمل والتفكر حاضرين في إنتاج النص، وهذا الأمر يتطلب حالا نفسية هادئة، وهذا ما نؤكده في كتابنا هذا، فالحرب تفرض الرهبة على المرء، ويشتد الانفعال، فتنغلق أمامه فضاءات التأمل في القول فيهرع الشعراء والخطباء إلى التشبيه ولا سيما الحسي لإيصال إغراض القول، لكننا لم نجد ذلك عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الذي امتاز بهدوئه النفسي في كل الحالات ومن ثم كانت الوحدة العضوية حاضرة وأصبح النسيج كله نصا ملتحما يعبر عن غدر العدو واستدبار المخاطبين، فكان حثهم يستوجب كلاما مشحونا بالحسية، إلا اننا وجدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) حثهم عبر أساليب الكلام الراقية وخرج بنتيجة بانت حكمة وعلامة في تصرفهم

ص: 141


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 163/.

القادم إزاء العدو عبر كلامه (فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين)، وبذا التأم النص وأدى الكلام غرضه منبعثا من وجدان يقيني هادئ، اختلف عن قادة الحرب حين يحثون الجند معتمدين على التشبيه الحسي والكلام المباشر، إذ تغرب عنهم روافد التعبير بسبب موقف الحرب وما تفرضه من رهبة، وهذا الأمر لم يفارق الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حروبه وغزواته، تأمل قوله عبر المسير إلى الشام، (الحمد للّه كلما وقب ليل وغسق، والحمد للّه كلما لاح نجم وخفق، والحمد للّه غيرمفقود الإنعام، ولا مكافأ الإفضال، أما بعد فقد بعثت مقدمتي، وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري، وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم، موطنين أكناف دجلة، فأنهضهم معكم إلى عدوكم، وأجعلهم من امداد القوة لكم (1)))، إنها مسألة إخبار وإرشاد وتكليف وشرح للجند، لكنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كرر الحمد للّه ثلاث مرات وبدأ بحمده الأبدي (كلما وقب ليل وغسق، كلما لاح نجم وخفق)، إنه يستهل كلامه بالتوازي والتكرار ويبقى محافظا على هذه السمة التعبيرية ليجعل الكلام ذا أثر مرضي عند المتلقي ومؤثر فيه، فينصت اليه برغبة، ويستذوقه بمحبة، إذ إن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يستحضر ألفاظه من القرآن الكريم، فالتلوين الشعوري حاضر لكنه لا يأخذ الإمام عن وحدة النص، هذا أمر عجيب فهو لم يضمّن نصه الآية القرآنية وإنما يستجلب معناها ويمضي في كلامه، الأمر الذي يجعل

ص: 142


1- نهج البلاغة. شرح ابن أبي الحديد،3/ 134.

النص يخلو من الإقتباس الحرفي ويكتفي باقتباس المعنى، وهذا الأمر أصعب في مثل هذه المواقف، لأن المنشئ يكون أكثر التصاقا بإعمال العقل، فكان نصه حاملاً لدلالة ما يقول وخاضعاً لحركة الوعي الإبداعي في آن واحد، وهنا الابداع الخاص للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إذ أفاد من قوله تعالى : «وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ»(1).

وكانت الكناية حاضرة مثلما حضرت الاستعارة في بدء الكلام عبر مفردتي (وقب) (ولاح)، ثم جاءت الكناية بمفردة الملطاط (لأنه يعني ساحل البحر، وهو طريق بقية المؤمنين، وقد خطب الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذه الخطبة وهو في النخيلة خارجا من الكوفة ومتوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين للهجرة) (2).

ومهما يكن من أمر فإن كلام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد اتسم بالسمو البلاغي ومراتب الفن القولي، واستعمال أرقى الأساليب البيانية التي تتطلب هدوءا نفسيا، وقد استعملها وهو في الحرب، أو في العتب أوفي كل ما يثير العاطفة ويهيج الاشجان، فلم يهبط الفن القولي عنده إلى المباشرة ولا يتقوقع عند الحسية وإنما كان تأمله وتدبره على وتيرة واحدة، فصح أن يقول الرضي (رحمه اللّه) في كلامه (إذا تأمله المتأمل، وتفكر فيه المفكر.. ولا يكاد يوقن بأنه

ص: 143


1- الفلق /3.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 3/ 134- 135.

كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه، فيقطع الرقاب ويجدِّل الأبطال، ويعود به ينطف دما، ويقطر مهجا، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد، وبدل الأبدال وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة)(1)، نعم لقد وجدنا كلامه مكثفا حتى ارتقى إلى مستوى المثل، فأصبح ومضة إرشادية تنفع لكل زمان ومكان كما سنراها في المبحث القادم.

ص: 144


1- م.ن، 33/1.

المبحث الرابع

الوحدة العضوية مفتاح الومضة الدلالية في نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 145

ص: 146

يعد التحام النص بعضه ببعض وارتباط أجزائه في بنية واحدة كي يؤدي قصدية القول شيئا مهما لدى المتلقي، وقد عرفه العرب الأوائل فأعاروه أهميته، ومنحوه حقه، ولعل ذلك دعاهم إلى دراسة الوحدة العضوية في النص الأدبي، وتطالعنا كتب النقد بحكومة ربيعة بن حذار الأسدي في شعر كل من الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأيهم، وعبدة بن الطيب والمخبل السعدي يوم قال لهم (أما أنت یا زبرقان فشعرك كلحم أسخن لا هو نضج فأكل، ولا ترك نيئا فينتفع به، وأما أنت يا عمرو فشعرك أدنى من شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وأما أنت ياعبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فلیس تقطر ولا تمطر) (1)، ويقول ابن طباطبا : (وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره) (2).

ص: 147


1- الاغاني، أبو الفرج الأصفهاني، دار احیاء التراث العربي، بيروت، 1414ه، 13/ 136.
2- عيار الشعر 126- 127.

وقد قصد بذلك وحدة النص ودلالته التي تتوخى من عموم شبكات الكلام، وما ينطمر تحتها من مستويات كلامية لغوية كانت أوصرفية، بيانية أم ذات دلالات أخرى، وهو ما سُمّيَ بعد حين في النقد الأدبي بالوحدة العضوية، (لأن الوحدة العضوية لها أثر في الصورة والأخيلة إذ تصبح كالبنية الحية في بناء القصيدة، وإذكاء الشعور فيها) (1).

وهو المعنى نفسه الذي أومأ إليه بشر بن المعتمد (210ه) حين قال : (ينبغي أن تعرف المعاني فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين وبين أقدار الحالات، فتجعل لكل طبقة كلاما ولكل حالة مقاما) (2)، أي مراعاة مقتضی الحال وهو ما يسمى اليوم بالمقامية، عينه الذي أراد به الجاحظ (ت 255ه) بمصطلح القرآن، فأراد بأن تتألف أصوات الحروف في بنية اللفظ الصوتية، وقسَّمه على اقتران الحروف واقتران الألفاظ، فشمل الأخير اقتران أجزاء القول وانسجامها (3)، حتى أراد أن يكون (البيت بأسره كلمة واحدة وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد) (4)، وعلى الشاكلة نفسها تحدث ابن طباطبا العلوي (322ه) عن الشعر المحكم (5).

ص: 148


1- النقد الأدبي، د. محمد غنيمي هلال، 398.
2- کتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري، 135.
3- ظ : البيان والتبيين، الجاحظ، 69/1.
4- م.ن، 67/1.
5- ظ : عيار الشعر، ابن طباطبا، 3.

فالمواءمة بين تنسيق الأسلوب والمعنى هو عمل يدخل في صلب تحقيق الوحدة العضوية للنص، وهو الذي قصده ابن رشيق (456ه) في حديثه عن وحدة القصيدة فقال عنها : (مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض)(1).

وقد توّج هذا التوجه كله عبد القاهر الجرجاني (471ه) حين أكد في نظرية النظم ضرورة التمسك بالوحدة العضوية، إذ رأي (ليس الغرض بنظم الكلم أن توالف الألفاظ في النطق بل إذا تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل)(2).

كل ذلك دعاني إلى هذه المقدمة وأنا أتأمل وحدة النص في أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فوجدت الوحدة العضوية مفتاحا للومضة الدلالية عند المتلقي، فضلا عن أن قصدية القول كانت متجلية في تلك الوحدة، التي تكاملت فيها أركان الخطاب، فانعكس الأمر على الوحدة الموضوعية فظهرت هذه الوحدة بنية متكاملة لتصبح معیارا دلاليا متأسسا على الوحدة العضوية، وهذه انفرادة في أقوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، تأمل قوله : (القلب مصحف البصر) (3)، أي ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنه يكتب فیه(4).

ص: 149


1- العمدة، ابن رشیق، 117/2.
2- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، 40- 41.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 20 /275.
4- ظ: م.ن، 96.

فهذا النص الذي قام على بناء المسند والمسند إليه وقيد فيه الخبر بالإضافة، تكاملت أركانه ليعطي ومضة دلالية تؤكد أن كل شيء يلتقطه البصر في النظر يرسل إلى القلب لينسطر فيه، أي أن الذاكرة الحافظة التي تعتمد أساسا على الحواس، والبصر منها، إنما يخزن فيها كل ما هو واقع في الفعل المنتمي إلى الحواس، هكذا كانت الوحدة العضوية حاضرة في شد أزر الوحدة الموضوعية إذ تأسست الأخيرة عليها، أي أحكمت الأولى وحدة النص من جهة، ومن جهة أخرى كانت عاملا مساعدا على إيضاح الدلالة. ومثل ذلك نجده في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (التقى رئيس الأخلاق) إذ قامت شبكات المعني على البناء نفسه في المسند والمسند إليه المقيد، وكانت الوحدة العضوية ومضة دلالية أيضا تمنح معنى القمة للتقي الذي يتسيد هرم الأخلاق، ولا ريب في ذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى مدح المتقين فجاءت كلمة (المتقين) في (43) موضعا، ووردت كلمة (المتقون) (6) مرات في القرآن الكريم، وأكد اللّه سبحانه مكانة المتقين العالية في الآخرة، مثل قوله تعالى : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1). ولا يغيب عن الأذهان إن المتأمل لنصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجده

ص: 150


1- القمر /54-55 و ظ : ق/31، الذاريات /15، الطور/17، القلم / 34، المرسلات /41، النبأ/31، الزخرف/35، الدخان/51، الجاثية/19، آل عمران/133، وغيرها.

يستحضر مكونات العالم الخارجي في ذهنه، ومن ثم يودعها طاقته الإبداعية التي توفق بين سياقات التكوين العام للنص، أي بمعنى إنه يتحدث عن تأمل واستنطاق للواقع الخارجي، ومن ثم يستحضره ذهنيا، فيفلسفه بوحدة عضوية حاملة للدلالة بشكل ملفت للنظر تدخل عاملا مساعدا في الوحدة الموضوعية، وتسهم في إعطاء دفقة معنوية، أي إضاءة ذهنية للمتلقي وهي تحمل الدلالة المبتغاة من القول المستند على تجربة شعورية، تأمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (قليل تدوم عليه أرجی من كثير مملول)(1)، أي : اعمل قليلا وداوم عليه فهو أفضل من كثير تسأم منه فتتركه(2)، فالقول جاء عن تجربة شعورية تجسدت عبر شبكات المعني المبنية أساسا على حكمة، لأن النفس الإنسانية ميالة إلى الملل حين تغرق في كثرة الأشياء، وهي صفة يحملها الإنسان، فكان اتصال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع الواقع مرآة الاتصال بالتجربة عن قرب، فترجم هذا الاتصال بحكمة مستخلصة عبر مستويات المعني هذه، المصرحة عن ضرورة القناعة، وكان الإيضاح قد تم لدى المتلقي عبر هذه الومضة الدلالية التي تكاثفت تكوينات المعني وسبله فيها حتى أصبحت حكمة. ولتتأمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرة) (3)، أي أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يذكر الناس أن بينهم وبين الموعظة حجاب من الغفلة،

ص: 151


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 112/9.
2- ظ : م.ن، 4 /68.
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 19 /95.

وقد اعتمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بناء هذا السياق على الاستعارة فأخذت الأخيرة وظيفة دلالية أنتجت علاقة بين بناء النص أي لفظه وبين مضمونه، فكانت الوحدة العضوية متكئة على العبارة الأخيرة (حجاب من الغرة) إذ جعلها تكملة لعبارة (بينكم وبين الموعظة) وهنا لا يمكن فصل العبارتين عن بعضهما فحصل ترابط بين أجزاء النص، وهو ما يتوخى في الوحدة العضوية، لأن النص إن كان صادقا وحاملا لقصديته يجب أن يكون مترابط الأجزاء (1)، فجمال النص إنما تتساوى فيه الصور الذهنية بتحقيقها، لأن الوحدة العضوية هي عرض للحقيقة التي هي إجراء داخل جمل وبالتئامها تتكون الوحدة الموضوعية، ونجد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يهتم بترابط أجزاء القول وهي خصيصة يمتاز بها اسلوبه، وتتوضح أكثر حينما يذهب كلامه إلى الموعظة المتكئة على تكثيف الدلالة، المستندة على التجارب الإنسانية كما في قوله (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار)(2)، أي أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجد العبر كثيرة في الدنيا ولكن الإنسان بحسب میله إلى التناسي أونسيانه أوتقصده على ارتكاب الأخطاء وولعه في الدنيا فإنه قليل الاعتبار بما يلاقيه في حياته من تجارب، أي عدم أخذه تلك العبر درسا في حياته فتكثفت العبارة حتى وصلت إلى ومضة دلالية، مستندة على الوحدة العضوية التي هي قلب الوحدة الموضوعية، فنجد الموعظة والإرشاد عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تبين غايتها، وتتوضح مقاصدها في عبارة

ص: 152


1- ظ.ك.، قضايا النقد الأدبي، روثفن، 355.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 19 /112.

مكثفة دلاليا، جعلها ذلك الأمر ترتقي إلى مستوى المثل الذي يصلح لكل زمان ومكان، كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) (كفى بالأجل حارسا)(1)، ففي هذه العبارة التي ظهرت فيها الاستعارة المكنية طريقا موصلا إلى الدلالة. قد أسهمت في إعطاء المعنى لوحدة عضوية لا تقبل الانفصام، إذ ساعدت الاستعارة على شد بناء النص المعتمد على الجملة الفعلية المتصلة بالماضي، فتولد التكثيف الدلالي الذي ساعد هو الآخر على إيضاح وحدة الموضوع، وهذا الأمر المستند على التجربة أفضى إلى حقيقة مرادها : إن الأجل حارس الإنسان متى وأين ما ذهب فهو معه، وهو تعبير بياني معتمد على الصورة الاستعارية، ساعد على وجود نواة النص وهي الوحدة العضوية، التي شعت بطاقتها الإيحائية وبأقصى دلالاتها، فكانت الدلالة الإيحائية متحققة بالوحدة الموضوعية التي استندت على التكثيف الدلالي، وقد اعتمده الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بيانه، فأصبح كلامه في مصاف الحكمة بسبب الومضة الدلالية للوحدة العضوية التي صارت في بعض نصوصه وحدة عضوية وموضوعية في آن واحد. والمتتبع لنصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجد التحام وحدتي المشاعر والموضوعية من جانب، والوحدة العضوية مع الوحدة الموضوعية من جانب آخر، وهما وحدتان متعشقتان بعضهما ببعض في نصوصه، الأمر الذي جعل نصوصه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حاملة للدلالة والعبرة معا، فضلاً عن التحام

ص: 153


1- م.ن، 116/19.

أجزاء وحدة الموضوع مع الوحدة العضوية اللتين أنتجتا بنية نصية مكتنزة بمستويات المعني في كلامه، وكلما ظهرت هاتان الخصيصتان المرتكزتان على التجربة الشخصية الناظرة إلى الواقع بتأمل كلما أفضتا إلى نص قصير مكتنز بالوحدة الدلالية عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في قوله : (نفس المرء خطاه إلى أجله) (1)، أي بمعنى ان كل نفس يتنفسه الإنسان يدنو به خطوة يخطوها إلى الأجل، وعلى هذا الأساس فإن الإنسان دائما يسعى نحو النهاية، وبذلك المعنى تضمن النص طاقة إيحائية كانت دلالتها توحي بأنه لابد للإنسان أن يلتزم بقيم اللّه سبحانه وتعالى، كي لا يكون عونا للظلم والشر على الفضيلة، وقد كان المعني هنا متحققا بالكناية، التي هي الآلة الحاملة للوحدة العضوية، فأسست الأخيرة لوحدة موضوعية مترابطة الأجزاء أوضحت مبتغى النص، ويتجلى هذا الأمر في أقواله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (استنزلوا الرزق بالصدقة) (2)، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (ما أعال من اقتصد) (3) وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (الهم نصف الهرم)(4) وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (اعتصموا بالذمم في أوتادها)(5)، فهذه نصوص اعتمدت على الأساليب البيانية لاحتواء بنية النص، فتألّف الأسلوب البياني مع بنية الكلام أوالقول، فأنتجا وحدة عضوية كانت أساسا

ص: 154


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، 18 /325.
2- م.ن، 390/18.
3- م.ن، 391/18.
4- م.ن، 18 /392.
5- م.ن، 18 /422.

حيويا لوحدة الموضوع، وهكذا نجد أن الوحدة العضوية في نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مفتاح لومضة دلالية تشع في نسيج الوحدة الموضوعية للنص، فضلا عن ذلك فقد تألفت تجربة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نظرته للواقع مع الاستحضار الذهني الخارق للكلام، إذ حباه اللّه سبحانه بقوة الحدس وهذا له دور في استنطاق الأشياء لأنه (يهدي سلوكنا اليومي نوعا من البصيرة أوعمليات الاستدلال السريعة، ففي هذه الحال تكون البصيرة أوالحدس ضربا من الاستدلال العقلي)(1)، كل ذلك أنتج بدوره عباره لغوية مكثفة مكتنزة بالدال أوالمدلول معا، وكلما تكثفت العبارة كلما حضرت الوحدة الموضوعية، فاقترنت بها الوحدة العضوية التي تصبح ومضة دلالية، وهذا مرد الرقي الإبداعي في تعبير الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو اسلوب خاص به، فضلا عن ذلك فالإيحاء العام للكلام يصبح أيضا هو الوحدة الموضوعية، وكلما زاد التحام وحدة الصراع (أي الموقف من الوجود) بحسب التجربة الشخصية مع الوحدة الحيوية عند الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كلما ذهب الكلام ليكون مثلا أوحكمة، وهذه خصيصة رافقت كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أقواله القصيرة، وحينئذ كانت الوحدة العضوية مفتاحا للومضة الدلالية في تلك النصوص.

إذ نجد الوحدة الموضوعية في النصوص القصيرة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 155


1- التفكير السديد، جوزيف جاسترو، ترجمة نظمي لوقا، مطبعة السعادة مصر، ط1 1975، 111.

تأخذ طابعا إبداعيا خاصا لا يقوى عليه غيره، إذ له القدرة في السيطرة على الوحدات الثلاث التي تظهر في نصه القصير فتنصهر في وحدة دلالية ذات ومضة إيحائية، فالموقف من الوجود يعبر عنه برؤيته التحليلية والإيضاحية، ثم يحرص على تقديم الرؤية الإرشادية لدى المتلقي، أما الوحدة الحيوية فجسدها، بأحاسيسه إذ يعبئ الكلمات موقفه الشعوري عبر العواطف والأحاسيس وما يتطلبه منه واجبه الديني النابع من الوجدان اليقيني لديه، ليجعل ذلك في خدمة التذكير والنصح حين يقرع كلامه ذهن المتلقي، ويسحبه نحو عاطفة أصيلة، فيحكم المتلقي من خلالها على أعماله، ثم تأتي وحدة التداعي أوالتلوين الشعوري ليجعلها في خدمة الوحدتين السابقتين فتوظف الوحدات الثلاث : وحدة الصراع، والوحدة الحيوية ووحدة التداعي توظيفا واعيا مصورا للواقع المعيش، فيحصل التذكر لواقعة الحدث، والرؤية الواعية لجادة الصواب من لدن المتلقي، وبذلك تؤدي الوحدة الموضوعية بتعشقها مع الوحدة العضوية هدفها، إذ يحصل التكثيف الشعوري في أقواله (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي لا نظير له عند الأدباء في موروثهم الكلامي، حتي آبَ قوله كلا منسجما، فارتقى إلى مستوى المثل، ومن هنا تميز الأداء الخاص للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من غيره، ولم تألف هذا الجمع بين الشكل والمضمون على هذا النحو في أدبنا العربي، إلا عند الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ففي كل نص قصيرٍ نجد الوحدات الثلاث متواجدة تحت إطار الوحدة العضوية المتداخلة مع الوحدة الموضوعية فتداخلت الدلالات، وتماسكت الكلمات وقصرت العبارات لتكون

ص: 156

مثلا يصلح لكل البشر في كل آن، إذ إننا لو شرحنا العبارة المتكونة من ثلاث كلمات أو أكثر دلاليا، لوجدنا الوحدات الثلاث (وحدة الصراع والوحدة الحيوية ووحدة التداعي) متواجدة في النص القصير فضلا عن الوحدتين المنصهرتين معا، الوحدة العضوية والوحدة الموضوعية وهنا الابتكار، وهذا أمر خاص بالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا يقدر عليه سواه. ولإثبات هذا الأداء الخاص المبتكر للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على هذا النحو الذي أشرنا إليه تأمل أقواله، وارصد الوحدات الثلاث بنفسك أخي القارئ، وتحقق من التخطيط الآتي بتأملك لكل نص، إذ تتوضح لديك عمق خبرته (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقدرته على تطويع اللغة وموقفه مما يقول كما سترى:

الصورة

ص: 157

والآن تابع معي النص والعلاقة بين الوحدة العضوية والموضوعية والوظيفة الإفهامية :

الصورة

ص: 158

الصورة

ص: 159

الصورة

ص: 160

الصورة

ص: 161

الصورة

ص: 162

الصورة

ص: 163

الصورة

وبعد.. فنصوص نهج البلاغة وثيقة أدبية مصوغة فنية، ومرتبة فكريا، اتسمت بخصائص كلامية لم نجدها في كلام الآخرين فكان أداؤه خاصا به، فجاء كلاما إبداعا لا اتباعا فصحَّ أن يؤخذ مثلا أواقتباساً لينير نصوص الآخرين، إذ إن كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : عالي المقام، عميق الغور، بعيد السنام غريب السير، لا يقوى على مسايرته الأدباء، ولا ينأى عن الاقتداء به العلماء، فهو قول ومَثَل، وقِيَمٌ ومُثُل وحقيقة وحقائق، وعجيبة وعجائب، سلك أساليب البيان فانفرد بها، وركب مسالك السياق فتألق فيها، اختار الكلم بعناية ربانية، وأودع اللفظ إيماءة روحانية، فبات كلامه قيمة وقمة، وصار حديثه حجة ومحجةً، لم ينأ كلام المتفنّين عن مساراته، ولم تقو قرائح المبدعين على مجاراته، فاتخذه المبدعون دالة، والتزمه القائلون رؤية، فكلامه في الحرب والسلم ينبثق منه انبثاق اليقين وينبع أنسا ولطفا في أسماع العارفين، فظل مورقا في ضمير السنين، وختاما اسأل اللّه سبحانه أن أكون

ص: 164

قد أسديت خدمة للحقيقة ومقاصدها، وأمطت لثاما عن وجهها وملامحها واللّه من وراء القصد.

ص: 165

مناجات قدسیه

في رحاب سيدي الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

أسعى اليكَ وكلُّ الروحٍ منعطف***هذا فؤادي ذبيحٌ فيَّ يرْتَجِفُ

فُرْأيّها القلب واسبح في سما شممٍ***إذ موجةُ الكبرِ من علياهُ تنذَرِفُ

واخلع شموخَك إن تدنو لقبتَهِ***كلُّ الشموخ على مثواهِ يعتكِفُ

وانفض رمادَكَ جرحي لائذاً بعلي***منْ روابيه ليلُ الهمِ ينكشفُ

إبنُ الذي حمل العليا بهيبته***فاضَتْ سجاياه حتى أذعَنَ السلفُ

إبن التي كُرِّمَت، شقَّ الجدارُ لها***عند المخاض ونور القدس ملتحِفُ

ماءُ المعين وللاخلاق منبعُها***مجرىً تزاحم فيه العدلُ والشرفُ

بحرُالنقاءِ ومدفي تموجه***ماناله الجزرُ، دُر والإبا صدفُ

هو طلعة من ضياء الدين مشرقة***يفرُ عنها شتاتُ الليل والقرفُ

زوجُ البتول ويكفي أنها قَبسٌ***فانظر على أيما مُسْتشرف تقِفُ؟!

* * * * * * * * *

ص: 166

يا زارعاً شجر الإيثار ألويةً***وشاطئاً ما دناهُ المالُ والترفُ

بُوركتَ من جبلٍ شَعَّتْ مناقبُه***كأنَّهُ الفجرُ والأنظارُ تغترفُ

مذ طاف صوتَي بالمحرابِ مختنقاً***وأدمُعُ الخافقِ الصديانِ تنخطفُ

قد كَبَّر الصدقُ صحواً حاضناً خجلي***وطأطأ القلبُ رأساً وانحنى الطرفُ

وفاض وجدي خشوعاً منه قد نهضت***منارةُ الحب عشقاً اسمه النجفُ

واعشو شبت في دماءِ الصمتِ أمنيتي***وراح عني سوادُ الخوفِ ينصرفُ

* * * * * * * * *

عطفاً إمامي أبا السبطين ما حِيلَي***يجتاحني وجعٌ أظفارُهُ الأسفُ

مالي أطارحُ هماً كان يحمِلُني***إني على ضعفيَ المسكينِ أعترِفُ

ذاتي بلادٌ من الأحزانِ تنهشني***عضَّ التشردُ بعضي، نابُهُ الصَلَفُ

رشَّ الأماني وحلم العمرِ في بيدٍ***حتى تولّى وكأسُ النارِ تغترفُ

فاليومَ عاصفةٌ ريحُ القذى شجناً***وغیَّض الحقدُ فاسودَّ الذي نزفوا

لم ينسوا خيبرهم إذْ فزَّ هاجسُهُم***عادوا وكلُّ غدٍ بالأمسِ يلتحفُ

مرَّتْ ليالٍ وأخرى في أكمَّتها***مُنقارُها وجعٌ يصطادُهُ السرفُ

الريحُ عاصفةٌ والنارُ ما انطفأت***وذا العراقُ على هاماتِنا يقفُ

تذوي عليه جنونُ الحقدِ غاضبةً***وهو الإباءُ ببرجِ العزِ يعتكفُ

حيث استطالُ علواً بينُها قصروا***نجمٌ بكم في أمانِ اللّهِ ينتصفُ

ص: 167

* * * * * * * * *

اثبت فؤاديَ ما بلواكَ ترتجفُ***كيف الثبوتُ ونبضي دِفقُهُ النجفُ

ياسيدي كلّما حجَّ الولاءُ لكم***تجري السعادةُ نهراً ماؤُهُ الشرفُ

إن أوغلَ الكفرُ في ايماننا صلفاً***يبقى الولاء بفيضِ العهدِ يرتشفُ

يخضرُّ حبُّكُمُ جسراً لأزمنةٍ***تسعى عليه دروبُ الحقِ والخلفُ

حتى تنامي هواكُم في دمي شجراً***جذورُهُ في الحشا، كبرٌ له السعفُ

أسعى إليك وكلُّ الروحِ منعطف***هذا فؤادي ذبيحٌ فِيَّ يرتجفُ

صباح عنوز - النجف الأشرف

أيلول / 1998

ص: 168

المصادر والمراجع

خير ما أبدأ به القرآن الكريم

1- الإبداع النفسي في إبداع الشعر، ثائر حسن جاسم، سلسلة الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1979م

2- الإبداع والشخصية، عبد الحليم محمود السيد، دار المعارف، 1971م.

3- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د.عبد القادر منياوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1992م.

4- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، د.صباح عباس عنوز، دار الضياء للطباعة النجف الاشرف، 2007 - 1428ه.

5- الإحساس بالجمال، جورج ساسيانا، ترجمة د. محمد مصطفى بدوي، مراجعة د. زكي نجيب محمود، المكتبة المصرية.

6- الأداء البياني في شعر الشيخ علي الشرقي، د.صباح عباس عنوز، دار الضياء للطباعة والنشر، النجف الأشرف، 1424ه -2002م.

ص: 169

7- الأداء البياني في لغة الحديث الشريف، د. صباح عباس عنوز، التميمي للنشر والتوزيع النجف الأشرف، ه1433، 2012م.

8- الأداء البياني في لغة القرآن، د. صباح عباس عنوز، التميمي للنشر والتوزيع النجف الأشرف ه1433، م 2012.

9- الإرشاد، المفيد، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1377ه.

10- الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، مصطفى سويف، دار المعارف مصر، ط 3، 1970.

11- الأسلوبية والأسلوب، عبد السلام المسدّي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1982.

12- أوستن دارین، رينيه ويلك، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب، مطبعة الطرابيش، 1392ه. 1972م.

13- أصول علم النفس د. أحمد عزت راجح، دار القلم، بيروت لبنان.

14- الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1980م.

15- الأغاني، الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412ه.

16- الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي، د. محمد حسين علي الصغير، مؤسسة العرف للمطبوعات، بيروت، ط1، 1423ه -2002م.

17- أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1394 ه.

18- الإنسان والحضارة والتحليل النفسي، ويلهام رايش، وآخرون، ترجمة انطوان شاهين، وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

19- أنوار الربيع في أنواع البديع، ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شكر، النجف،

ص: 170

1388 - 1968م.

20- الإيضاح، الخطيب القزويني (بإشراف محمد محيي الدين عبد الحميد)، القاهرة.

21- بحارالأنوار، العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1403ه- 1983م.

22- البنيّات الدالة في شعرأمل دنقل، عبد السلام المساوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1994م.

23- البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، الطبعة الرابعة.

24- التعريفات، (أبو الحسن علي بن حمد بن علي)، الدار التونسية للنشر، تونس، 1971م

25- التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3.

26– التفكير البلاغي عند العرب (أسسه وتطوره إلى القرن السادس)، د. حمادي صمود، منشورات الجامعة العربية التونسية، 1981.

27- التفكير السديد، جوزيف جاسترو، ترجمة نظمي يوقا، مطبعة السعادة مصر، الطبعة الأولى، 1957.

28- الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، السيد سامي البدري، طور سينين للطباعة والنشر، بغداد، ط2، 1430- 2009م.

29- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، مطبعة السعادة، القاهرة، 1933م.

30- خزانة الأدب، عبد القادر البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م.

ص: 171

31- الخصائص، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت.

32- الخطابة، أرسطو، تح: عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، لبنان، 1979.

33- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد الداية + فائز الداية، مكتبة سعد الدين، مصر، 1971م.

34- الدولة الأموية، الشيخ الخضري، دار المعرفة بیروت، 1418ه.

35- الزمن النفسي في تكوين الصورة الحسية (بحث) د. صباح عباس عنوز (مؤتمر الجواهري) مجلة كلية الآداب، جامعة الكوفة.

36- شرح ديوان الحماسة، المرزوقي، نشره أحمد أمين بالاشتراك مع مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1952م.

37- الشعر الجاهلي (منهج في دراسته وتقويمه)، دار القومية للطباعة، مصر.

38- الشعر العربي المعاصر (قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) د. عزالدين إسماعيل، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1697م.

39- الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة، دارالمعارف، ط2، 1971م.

40- شواهد التنزيل، الحسكاني، مؤسسة الطبع والنشر، وزارة الثقافة والآثار الإيرانية، 1411ه.

41- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر للطباعة، بيروت، 1401ه.

42- صحيح مسلم، الإمام مسلم، دار الفكر، بيروت.

43- الصراط المستقيم، زين الدين علي بن يونس العاملي، تح: محمد الباقرالبهبودي،

ص: 172

مطبعة الحيدري، 1384 ه.

44- الصورة الفنية في المثل القرآني، د. محمد حسين علي الصغير، دار الهادي، بيروت، لبنان، ط2، 1412ه 1989م.

45- الصورة الفنية في شعر أبي تمام، عبد القادر الرباعي، الأردن ارید، 1980م

46- المعجم الكبير الطبراني،، تح: حمدي عبد المجيد السلفي، مطبعة الزهراء الحديثة، الموصل 1989م.

47- العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، انبرتو ايكو، ترجمة سعيد بكارد، مراجعة سعيد الغانمي، طبع كلمة والمركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1428 ه 2007م.

48- علل الشرائع، ابو جعفر محمد بن علي الصدوق، منشورات المكتبة الحيدرية، 1385ه.

49- علم النفس التحليلي، يونج، ترجمة نهاد خياط، دار الحوار، ط1، 1980م.

50- العمدة في محاسن الشعر وادابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، ط2 القاهرة، 374ه 1955م.

51- عيارالشعر، ابن طباطبا، شرح وتعليق د. طه الحاجري والدكتور محمد زغلول سلام، القاهرة.

52- الفتنة الكبرى، د. طه حسين، دار الجمال، بيروت.

53- الفرقة الناجية، الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي، تحقيق ونشر دار المصطفى لإحياء التراث، بيروت - لبنان، 1422ه.

54- فن الشعر وشرحه، أرسطو طاليس، ترجمة د.عبد الرحمن بدوي، ط2، دار الثقافة،

ص: 173

بيروت، 1973.

55- الفهرست: ابن النديم، نشر الأستاذ فلوجل الانبرج، 1871 - 1872، تحقيق رضا تجدد، مطبعة دانشکاه، طهران، 1391 ه.

56- قضايا الإبداع الفني، حسن جمعة، دار الأدب، بيروت، ط1، 1983.

57- قضايا الشعرية، رومان جاكوبسن، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، الدار البيضاء دار توبقال، المغرب، 1988.

58- قضايا النقد الأدبي (بين القديم والحديث) د. محمد زكي العشماوي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

59- قضايا في النقد الأدبي، ك.ك. روثفن، ترجمة الدكتور عبد الجبار المطلبي، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1989م.

60- قضية الشعر الجديد، محمد النويهي دار الفكر مكتبة الخانجي، ط2، 1971م.

61- كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، طبعة البالي، حلب 1971م.

62- الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضى، كاظم عبود الفتلاوي، مكتبة الروضة الحيدرية.

63- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد اللّه الشهير بحاجي خليفة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

64- لسانيات النص، أحمد مداس، دار الكتاب العلمي، عمان، الأردن.

65- ما هو نهج البلاغة، السيد هبة الدين الشهرستاني، تعليق السيد عبد الستار

ص: 174

الحسيني، مجلة اللغة العربية وآدابها، العدد 11 عدد خاص ببحوث المؤتمر الاستذكاري لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري / كلية الآداب 11-10 / نيسان/2011.

66- المدخل في علم النفس، د.هاشم جاسم السامرائي، مكتبة الشرق الجديد، ط2 بغداد 1988.

67۔ مذهب التحليل النفسي والفرويدية الجديدة، فاليري ليبين، دار الفارابي، الطبعة الأولى 1981م.

68- یوسف مراد والمذهب التكاملي، مراد وهبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974.

69- مسألة اللاوعي في الصورة الشعرية، د.صبحي البستاني، مجلة الفكر العربي المعاصر 1982-1983م.

70- معاني الأخبار، ابن بابويه القمي، الصدوق، المطبعة الحيدرية، النجف/1391 ه.

71- معجم مصطلحات التحليل النفسي، جام لابلانش وجونتاليس، ترجمة د. مصطفى حجازي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1985.

72- المغازي محمد بن عمر الواقدي، تحقيق الدكتور مارسدن جونس، لندن 1966م.

73- مقدمة لدراسة الصورة الفنية، نعيم اليافي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1982.

74- موجز التاريخ الإسلامي، احمد شلبي، القاهرة، ط7، 1984.

75- نظرية الأدب، رينيه ويلك، أوستن دارین، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة الدكتور حسام الخطيب. مطبعة الطراييش، 1392 ه - 1972م.

ص: 175

76- نظرية البنائية في النقد الأدبي د. صلاح فضل، دارالشؤون الثقافية، بغداد 1987.

77- نظرية النص، من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، د.حسین قمري، منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، ناشرون، ط1، 1428ه.2007م.

78- النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، دار الثقافة + دار العودة، بيروت، 1973.

79- نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق، محمد عبد المنعم خفاجي، بيروت.

80- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، شرح ابن أبي الحديد، دار الكتاب العربي، بغداد 2009م - 1430ه.

81- الوساطة بين المتنبي وخصومه، القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعلي البجاوي، القاهرة، ط2، 1370ه- 1974م

ص: 176

المحتويات

الإهداء...7

مقدمة...8

مقدمة المؤلف...11

المبحث الأول...13

كتاب نهج البلاغة بين الحقيقة والانبثاق...13

المبحث الثاني...37

نص الشقشقية في ضوء النظريات الحديثة انبثاق يقيني وحقيقة وجدانية...37

تمهید...39

وقد رويت الشقشقية في عصر الشريف الرضي وبعده من :...44

الشقشقية في نهج البلاغة...46

الشقشقية كما في نسخة الآبي...48

ص: 177

الشقشقية كما في إرشاد المفيد...49

شقشقية البرقيعن کتاب علل الشرائع...51

شقشقية الجلودي عن كتاب معاني الأخبار...53

وعند أجرائنا للبناء الفني للنصوص أجمعها وقفنا على ما يأتي....55

المبحث الثالث...91

مرجعية البناء الإبداعي الخاص لنصوص نهج البلاغة دراسة تطبيقية في ضوء النظريات الحديثة...91

المبحث الرابع...145

الوحدة العضوية مفتاح الومضة الدلالية في نصوص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...145

مناجات قدسیه...165

في رحاب سيدي الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...165

المصادر والمراجع...168

المحتويات...176

ص: 178

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.