معالم المجتمع المدني في الفكر الإسلامي

هویة الکتاب

معالم المجتمع المدني في الفكر الإسلامي

تقرير أبحاث سماحة السید مرتضی الحسیني الشیرازي

المقرر: د. هيثم الحلي

الطبعة الثانية

1439 ه- - 2018 م

منشورات موسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1439 ه- - 2018 م

منشورات موسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

009647810001902

m-alshirazi.org

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿1﴾

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿2﴾ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿4﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴿7﴾

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.

بين يديك أيها القارئ الكريم، كتاب يتناول بالبحث والدراسة موضوعاً حيوياً كونه يرتبط برؤية الفكر الإسلامي حول أهداف المنظومة المجتمعية ومكوناتها ومسؤولياتها، لضمان الحقوق والواجبات والوظائف الاجتماعية.

فهو من الموضوعات المعتبرة، ذات البنية الاستراتيجية، التي تخلص لتأصيل البناء الأساس لمؤسسات المجتمع المدني، وتبيان وظائفها ومهامها البينية، ومسؤولياتها باتجاه المكونات المجتمعية الأخرى، بغرض استقصاء الرؤية الإسلامية، التي تهدف الى تنمية وبناء المجتمع، وضمان استقراره وازدهاره، وعلاقته المتوازنة بالدولة.

يبسط المؤلف رؤاه وتصوراته في هذا الموضوع، استناداً الى الفكر الإسلامي، واستضاءة من النص المقدس في توخيه لوحدة الموضوع، وفق آية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» كونها تمثّل الأساس الحقوقي

ص: 5

لموضوعة المجتمع المدني، وفق منهجه التفسيري وتتبعه للروايات المعتبرة، المرتبطة بمادة الموضوع.

وللمسؤولية التي ينهض بها المؤلف، وإيمانه بضرورة تبيان مسؤوليات المكونات المجتمعية في المجالات الكمية والنوعية والإتجاهية، حيث يرى إن الجماعة في صيغتها المفردة والجمعية تعبر عن وحدة البناء لمؤسسات المجتمع المدني، وضرورة تنميتها إيمانياً ضمن المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانياً في الإطار المجتمعي الأوسع وفق الأطر القانونية والشرعية لها.

فقد نهض سماحته في نشر هذه المفاهيم والرؤى ضمن محاضرات متسلسلة، ولأهميتها الرائدة، سواء للفرد أم للهيئات المجتمعية ولمؤسسات الدولة، فقد جرى تضمينها في كتاب بعد إعادة تحريرها ومنهجيتها وترتيبها المنطقي، ضمن متطلبات الكتاب الشكلية والهيكلية.وإذ تبادر مؤسسة التقى الثقافية لنشر هذا الكتاب، فإنها تتوجه بالشكر الوافر لكل من ساهم في إعداده، من تحريرات نصوصه، وتتبّع منهجيته، وإبداء الملاحظات الشكلية والموضوعية، وأعمال التصميم والإخراج والطباعة.

نسال الله عز وجل أن يوفق جميع العاملين في هذا المشروع الواعد للمزيد من الانتاج والعطاء، خدمة للإسلام والمسلمين والإنسانية الخيرة جمعاء، ومنه تبارك وتعالى التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مؤسسة التقى الثقافية ربيع الأول 1434 ه-

ص: 6

المقدمة المنهجية للكتاب

أهمية البحث ومعضلته:

قد يعرّف المجتمع المدني وأنشطته وفق الفكر الفلسفي والمجتمعي الغربي: بأنه المكونات المجتمعية التي تقع ما بين الأسرة والدولة، أو قد يعبّر عنه: بمجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، أو هو مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية وغير الحكومية.

غير إن للرؤية الفكرية المجتمعية الإسلامية نظرة أخرى تتقاطع مع هذه التعريفات، لكنها قد تقبل بعضاً من مضامينها، فضلاً عن إن هذه الرؤية النقدية لمنظومة المجتمع المدني، وانطلاقاً من عدم قبول جلّ تعريفاتها تشكل على التسمية ب-«المدني» ذاتها، فضلاً عن مدركاتها، مما يبين الحاجة البحثية فيها وفق مقاربة نقدية تحليلية.

إن هذه الرؤى تعكس أهداف المنظومة المجتمعية ومكوناتها، ثم وظائفها

ص: 7

ومهامها، فهي تتأطر في الرؤية الإسلامية باتجاه تشييد المجتمع السليم، وتأمين الخدمات الضرورية له، وتوفير الموازن الاستراتيجي للحكومة، ليحول دون الاستبداد الحكومي لحقوق الناس ومصادرة حرياتهم الأساسية، وذلك بما يتوافق مع المنهج الإسلامي في رؤيته السامية والشاملة والمتعمقة للمجتمع، إن كان في المدى الأفقي أو المدى العمودي، في إطار يستوعب كافة مكونات المجتمع والوانه، من حيث الحقوق والواجبات والوظائف الاجتماعية، وكذا من حيث تنفيذ المهام والواجبات، بما يؤمن توسع الفائدة منها في كمّها ونوعها، فضلاً عن اتجاهاتها، وهي مادة بحثية تحتاج الدراسة المعمّقة.ينظر الفكر الإسلامي الى المجتمع من حيث تفرعاته ومكوناته ووحدة البناء فيه، الى إنها تشمل الفرد ثم جماعة الأفراد ثم مجموع الجماعات التي تؤلف سواد المجتمع، ثم تستكمل هذه المنظومة بالدولة، التي تتبادل مع جميع المكونات المجتمعية وظائفها ومهامها، كما أن المكونات الأخرى تتبادل فيما بينها نفس الدالات الوظيفية حسب موقعها ووظيفتها في المجتمع.

وعليه، فإن هذه المجموعات المجتمعية الأربع ستكوّن ستة عشر اتجاهاً وظيفياً، وفق المعادلة الشبكية بينها، وهو ما يفرض شمولها بالبحث والدراسة، غير أن مجموعة الجماعة في صيغتها المفردة والجمعية هي التي تشكّل البناء الأساس لمؤسسات المجتمع المدني، والتي سينصرف البحث للتفصيل في وظائفها ومهامها البينية، وباتجاه المكونات المجتمعية الأخرى.

غاية الدراسة وأهدافها:

إن واقع المجتمع المدني ومعطياته الحالية يستوجب الدراسة والبحث

ص: 8

المعمّق؛ لغرض استقصاء الرؤية الإسلامية في هذا المجال الحيوي، وبالتالي وضع البرامج والمناهج التفصيلية لبيان الطريق الأمثل الذي يتطلب أن تسلكها هذه المكونات؛ لتحقيق أهدافها وغاياتها بما يضمن تنمية المجتمع واستقراره وازدهاره إيمانياً وفق إطار المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانياً، وفق الإطار المجتمعي الأوسع.

منهجيات الدراسة ومرجعياتها البحثية:

تتبع الدراسة منهجاً تحليلياً استقصائياً في استقراء واقع جزئيات المجتمع المدني ومعوقاته، ومن ثم استباط المسالك المثلى لمعالجته وتقويمه، أو حتى لبناء أسسه ابتداءً، لتشكّل مخرجاته الكلّية البحثية مجموع الوظائف والمهام والمسؤوليات، التي تلقى على عاتق منظومة المجتمع المدني وضروراته وأهدافه.

وكدأب البحوث التي سبقت هذا الكتاب، فالدراسة تسلك الاستضاءة بالنص القرآني المقدس في وحدة الموضوع، الذي ينسجم والعنوان وأهدافه، وفق منهج نقلي وعلمي، وحيث إن آية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» تمثّل الأساس القانوني والنظري الواسع لمؤسسات المجتمع المدني، وفق تشريعات التماسك والتكامل والتكافل الاجتماعي، الذي يتحمل فيه جميع الأفراد المسؤولية تجاه بعضهم، أفراداً ومجاميع ومؤسسات ودولة، وفق وظائفهم ومواقعهم المجتمعية، فقد كانت هذه الآية الشريفة هي المرجعية النقلية في استباط مباني البحث ومخرجاته.

وكذا يستكمل المنهج النقلي أبعاده الدراسية البحثية في استقصاء الروايات المعتبرة في السنة الشريفة عن نبي الرحمة لسائر العالمين، الرسول

ص: 9

الأعظم (صلی الله علیه و آله)، واله أئمة الهدى % التي شكلت المادة التفصيلية في استباط أحكام الموضوع ومبانيه، بما يجعله ملامساً للبحث الفقهي والعقدي.

نطاق الدراسة البحثية:

إن المباحث المتضمنة في هذا الكتاب تقدم إضاءات عن الرؤية الإسلامية والإنسانية حول مؤسسات المجتمع المدني، وفق إطار معرفي ينبع من نظرة الإسلام الى المجتمع، وموقفه من المدارس المجتمعية المتنوعة، سواء تلك التي تنظر للمجتمع على إنه عبارة عن الأفراد والآحاد، وفق رؤيتها الخاصة في(محورية الفرد)، أم التي تنظر اليه وفق الصفة الجمعية، وما بينهما من المدارس التي قد تتوسط الرؤيتين.

ويشمل نطاق البحث الجوانب الوظيفية للمجموعات المجتمعية الأربع، وهي الفرد، والجماعة، والمجموع، والدولة، بضمنها المهام الكمية والنوعية والاتجاهية، وكما سيكون الاتجاه الوظيفي المنطلق من الجماعات المؤسسية، بصيغتها الفردية والجمعية، والتي تشكل منظومة المجتمع المدني، وكذا مسؤولياتها ومهامها، هو النطاق البنائي الهيكلي للبحث، حيث إن مخرجات هذا الاتجاه هي المعبّرة عن موضوع البحث وأهدافه، وتحقيق الغاية البحثية فيه.

هيكلية البحث في الكتاب:

تأسس الكتاب في مادته على أصل محاضرات القيت تباعاً في الموضوع، ونشرت بشكل حلقات متسلسلة في بعض القنوات الفضائية، وقد أعيد تحريرها ومنهجيتها وترتيبها المنطقي بما يتلاءم ومتطلبات بناء الكتاب وهيكليته.

ص: 10

ويشتمل الكتاب على عشرين فصلاً مع الخاتمة، الفصل الأول: هو مقاربة في المدارس المجتمعية وأصالة الفرد أو المجتمع في الفكر الإسلامي، والفصل الثاني: عنوان المجتمع المدني، أو تسمياته المفترضة والمثلى، فيما يتناول الفصل الثالث الجوانب الكمية والكيفية والاتجاهية في المجتمع المدني، وتنصرف الفصول من الرابع الى السادس لبيان المسؤوليات الاتجاهية المجتمعية، لكل من الفرد والدولة والجماعة تجاه بعضها في منظومة الفكر الإسلامي.

بينما يبحث الفصلان السابع والثامن في مسؤوليات الجماعة تجاه الجماعات الأخرى في المجالين المجتمعي والاقتصادي أو القطاع الخاص، باعتبارها تعبر عن عنوان البحث، وبصفتها تمثل الوحدة البنائية لمؤسسات المجتمع المدني، وبضمنها مبحث عن مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني، والفصل التاسع يبحث في مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني تجاه الدولة.وينصرف الفصل العاشر الى مسؤوليات المرأة والطفل المميز، والولاية المجتمعية ل-هما في الرؤيا الإسلامية، أما الفصل الحادي عشر فيبحث في مهمة المجتمع المدني في درء التداعيات الداخلية والخارجية، بينما ينصرف الفصل الثاني عشر لتبيان حكم العمل والعامل في الإسلام، والفصل الثالث عشر لبيان العلاقات البينية لمؤسسات المجتمع المدني وضوابطها، والفصل الرابع عشر للبحث في سبل معالجة المؤسسات الهدامة للمجتمع المدني.

أما الفصل الخامس عشر: فيبحث في مسؤوليات المجتمع المدني عن مستقبل الأمة، ومقدمات مسؤوليته تجاه الجميع أو المجموع، بينما يتعمّق الفصل السادس عشر في تفاصيل هذه المسؤولية تجاه مجموع الأمة والروح العامة لها.

بينما يبين الفصل السابع عشر مسؤوليات الجماعة تجاه الأفراد، باعتبارها

ص: 11

تشكل وحدة (مؤسسة المجتمع المدني)، ويبحث الفصل الثامن عشرعن الأخطار المجتمعية في (الليبرالية) أو التحررية الحديثة، وما يعبر عنها (النيوليبرالية) والمؤسسات التخريبية.

ويبحث الفصل التاسع عشر في التوكيل والتفويض في (الولاية)، وبضمنه مبحث عن تكامل العناوين الاعتبارية مقابل التزاحم فيها. أما الفصل العشرون والأخير فيكمل البحث في المسؤوليات الاتجاهية للمجموعات في مناقشة المسؤوليات المجتمعية (للمجموع)، ضمن دراسة محوري الكواشف عن روح الأمة وتجسيداتها، وبؤر التركيز فيها، وهو تعبير عن مخرجات البحث في الكتاب.

وقد شكّل العنوان الأخير خاتمة الكتاب، المتعلقة بمن هم الذين يشكلّون المرجعيات العظمى في الأمة في النهوض بأدوار المجتمع المدني(الإيماني أو الإنساني) ومهامها، باتجاه تحقيق غاياتها وأهدافها.

ص: 12

* معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي * دراسة في الرؤية المجتمعية الإسلامية

الفصل الأول: مقاربة في المدارس المجتمعية وعنوان المجتمع المدني

اشارة

ص: 13

ص: 14

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

بسم الله الرحمن الرحيم «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

1- المدرسة الفردية «الرأسمالية والليبرالية»:

المدرسة الرأسمالية تذهب الى أن المجتمع، الذي ينبغي أن يكون محور القيم والأحكام والقوانين، هو عبارة عن الآحاد، وعبارة عن الأفراد، فالقيمة كل القيمة للفرد، وهذه هي المدرسة الرأسمالية إجمالاً في جوهرها، وإن حظيت ببعض المكملات، فهي في جوهرها مدرسة فردية تتماهى مع اللبرالية في إحدى قراءاتها ومدارسها وتصوراتها كون المجتمع في تقديرها عبارة عن آحاد وأفراد، والقوانين يجب أن تسخر بأجمعها لخدمتهم، كما وانطلاقا من ذلك يجب أن تطلق الحريّات للأفراد لكي تتفجر - كما يرون - طاقاتهم بشكل

ص: 15


1- سورة التوبة:71.

متكامل، ولكي يستطيع الفرد أن يخدم البلاد بشكل أفضل.

أما المدرسة الليبرالية فإن لها قراءات ومذاهب، كما لها نقاط مشتركة، فهنالك أسس مقبولة لليبرالية، نظير نظام فصل السلطات، حيث تبتني الدولة على فصل السلطات الثلاث، وهذا أمر مقبول، ولكن هنالك مدركات أُخرى لليبرالية، أو لإحدى المدارس الليبرالية، مثل وجوب فصل الدين عن قوانين الدولة، ما يعد امراً مرفوضاً.

ومن إحدى القراءات الليبرالية، ما ذهب اليه بعض الليبراليين والتحرريين، من أن الفرد ينبغي أن يمنح الثقة المطلقة، و أن يُتسامح معه بشكل مطلق كامل أو شبه كامل فله كل الثقة وكل التسامح وكل الحرية، أو ما يكاد يقارب تلك (الكلّية!) وليست القضية بالضرورة مطلقة تماماً، لكن الأولوية عندهم تكون لهذا الفرد في ضمن هذه المدرسة على حساب المجتمع والمجموع كمجموع، فيحتم - بناءً على هذا الأساس - على القوانين كلها، و بالدرجة الأولى أن تراعي المصالح الفردية للأشخاص،فالمدرستان الرأسمالية والليبرالية بما تعبّران عن الأفراد والأحاد والوحدات المستقلة تشتركان في أن المحور الأساس في طريقة تفكيرهما هي قضية الفرد بما هو فرد، وبالتأكيد فإن هذا الأساس بإطلاقه وكليته لا ينسجم مع مرتكزات إنسانية ولا إيمانية ولا عقلائية.

2- مدرسة المجموع «الشيوعية»:

المدرسة الثانية: هي مدرسة المجموع بما هو مجموع، والتي ترى إنَّ كافة الأفراد ينبغي أن يصهروا في بوتقة المجتمع الكبير، وأن تُذوّب الخصوصيات الفردية فلا بقاء للفرد ولا للملكية الفردية، وإنما الملكية للمجموع، ولا وجود

ص: 16

للعائلة، ولا الأخلاق، بل كل شيء ينحل ويتحلل ويذوب، وفق اللاءات الخمس الشيوعية المعروفة، وهي: لا لله، لا للعائلة، لا للأخلاق، لا للدين، لا لرأس المال.

فهذه المدرسة الثانية تلغي الخصوصيات الفردية، فحتّى ملكية مثل الملابس و ملكية الدار والبستان وما شابهها، من الممتلكات العائدة للأفراد، لا نصيب لها في هذه المدرسة، بل هي ملك للجميع، ويتعدى الامر ليشمل مثل الجهد المبذول من قبل شخص ما، و الكتاب الذي هو لزيد، و براءة الاختراع، فهي ملك لكل احد ولكل احد فيها نصيب وحق.

3- المدرسة الاسلامية ومعالم الرؤية الإسلامية للفرد والمجتمع:

أما المدرسة الإسلامية ورؤيتها، فقد بينت الآية الكريمة «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» معالمها فانه يستفاد منها ومن مجموع الآيات الأخرى، ومن الروايات: أن الفرد بما هو فرد ليس هو المحور الأول والأخير للتشريع، كما ان المجتمع بما هو مجموع ومجتمع كذلك، وأن مصالح الجماعة متشابكة، فلا يصح أن ينظر للأفراد بما هم أفراد فقط، ولا أن ينظر للمجموع بما هو مجموع، وإنما القضية في الرؤيا الإسلامية ذات ثلاثة أضلاع:

الضلع الأول: هو آحاد الأفراد، فل-هم قيمتهم ول-هم حقوقهم ول-هم احترامهم، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» فلكل فرد رأسماله.

والضلع الثاني: هو المجموع بما هو مجموع، وله اعتباره و قيمته، كما ان

ص: 17

له أحكامه وقوانينه.

والضلع الثالث: وهو المجاميع المتنوعة المختلفة التي تكونت في ظل هذا المجموع.فهذه الدوائر الثلاث متسلسلة، الأفراد كآحاد، ثم المجاميع، ثم المجموع كمجموع، ويجمع ذلك كله: «لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» و«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» و«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

(الغابة) ومثال الأبعاد المجتمعية الثلاثة

ولتوضيح ذلك بمثال، حتى يعرف معنى الآية الشريفة وعمق دلالاتها، نمثل بالغابة؛ فإن الغابة تتكون من أشجار، لكن الأشجار المنفصلة لا تشكّل غابة، بل الآحاد المجتمعة المتجاورة هي التي تشكّلها، ولذلك فإننا نلاحظ في الغابة ثلاثة أمور:

الأمر الأول: احاد الاشجار، هذه الشجرة وتلك الشجرة والشجرة الثالثة، وهكذا، ولكل شجرة شخصيتها ولها جذورها و أغصانها و أثمارها، والطيور التي تحط عليها وتغرد عليها، فلا ذوبان كلي لكل شجرة في المجموع، بل إن الشجرة لها خصوصياتها، لها شأنها ولها شبابها وشيخوختها نموها وازدهارها ثم ضمورها وانكسارها.

الأمر الثاني: أصناف من الأشجار، كأشجار جوز الهند والرمان و الاوكاليبتوس مثلاً، و غيرها من مجاميع الأشجار ذات الالوان والاشكال المختلفة.

ص: 18

الأمر الثالث: الغابة كمجموع من حيث المجموع. إذن، هنالك ثلاثة أشياء بما ينطبق ايضاً على المجتمعات: الآحاد، و المجاميع، ثم المجموع المكون من الاحاد والمجاميع.

الإنسان وخلايا جسده في النموذج المجتمعي

المثال الآخر بدن الإنسان، المتكون من خلايا قد تصل الى عشرة تريليونات من الخلايا، اي عشرة الاف مليار خلية، او ما يفوقها، فان كل خلية لها وضعها الخاص بها من نشاط او مرض او موت، كما إنَّ هذه الخلايا أيضاً مشكّلة في مجاميع، مثلاً سلسلة الأعصاب تتكّون من خلايا تصنف كخلايا عصبية، و لمجاميع العظام خلايا، لها خصوصياتها الأخرى، و كذلك لكل من العضلات مجموعة أخرى منها، وكذلك اللحوم، والشحوم في البدن، وهكذا، ثم بعد ذلك كله نجد أن البدن الجامع لكل هذه الخلايا بأفرادها و مجاميعها وبمجمله ومجموعه له أحكام ومواصفات ومعادلات مختلفة.من هنا يظهر إنه تختلف أحكام الفرد أحياناً عن أحكام المجموعة، وعن أحكام المجموع بما هو مجموع، فالمجتمع في الواقع يتشكل من هذه الأمور الثلاثة، وهي حقيقية واعتبارية أيضاً.

وعودا الى الآية التي بدانا بها البحث فان الله سبحانه وتعالى يقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» وهي ناظرة الى الاضلاع الثلاثة: المؤمنون كأفراد ، كل مؤمن مؤمن، فهو وحدة قائمة بذاتها، والمؤمنون كمجاميع؛ مجموعة مجموعة، حيث و ان كان كل واحد من المؤمنين وحدة قائمة بذاتها، الا ان له ارتباطاً وتشابكاً وتداخلاً مع سائر المجاميع والوحدات الاخرى، والمؤمنون كمجموع

ص: 19

تنضوي تحته المجاميع كلها.

كما أن قوله تعالى: «بَعْضُهُمْ» يشمل الأفراد والمجاميع، فزيدٌ من الناس حيث إنه بعض المؤمنين، فهو ولي لسائر المؤمنين، وهذه العائلة حيث إنها بعض المؤمنين فهي مسؤولة عن سائر العوائل وعن المؤمنين الآخرين، والعشيرة يصدق عليها بعض المؤمنين، فهي أيضاً مسؤولة عن سائر العشائر، وكذلك النقابات والاحزاب والاتحادات، وما أشبه ذلك من التجمعات.

رؤية الإسلام في المسؤولية الفردية والمجتمعية

وعليه، فكلمة «بَعْض» تنطبق على الفرد الواحد، كما تنطبق على المجموع، فالمسؤولية الملقاة في الآية الكريمة على المؤمنين والمؤمنات متجهة للفرد بما هو فرد، فهو ولي ومسؤول، كما انها متجهة للمجموعة بما هي مجموعة، فهي أيضاً مسؤولة، مثل مجموعة الأطباء فهم مسؤولون، فالطبيب الواحد بما هو طبيب مسؤول، ولكن أحياناً تعرض مسؤولية لا تتأتى من الطبيب الواحد، و انما يجب على مجموعة من الأطباء التعاون الطبي العلمي مثلاً للقضاء على وباء او مرض مستشر، وكذا الشأن في مثل العلماء ، فان المسئولية موجهة لآحاد العلماء، كما انها موجهة ل-هم كمجاميع.

كما ان هناك مسئوليات تأخذ برقبة الجميع، تتجاوز الافراد والمجاميع، وذلك كما في حال حدوث بعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة او تناميها في المجتمع، و التي لا يمكن القضاء عليها الا بتعاون جميع العلماء، والخطباء، وكل المؤلّفين والمفكرين، أو ما أشبه ذلك، ولا تستطيع مجموعة واحدة منهم

ص: 20

القضاء عليه(1).والدليل على شمول الآية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» للأطراف الثلاثة هي: كون لفظي (المؤمنون والمؤمنات) في الآية الكريمة جمعاً محلّى بال، وهي تفييد العموم فتفيد كل الآحاد، وكل المجاميع والجميع، فتأمّل.

هذا إضافة الى إمكان الاستناد الى كلمة «بَعْضُهُمْ» فإن (البعض) تنطبق على الواحد، كما تنطبق على المجموعات، هذه المجموعة وتلك المجموعة والمجموعة الأخرى، وهكذا.

و أما معنى الولي على وجه الاشارة والاختصار فهو: أن بعضهم يدبّر أمر بعض، ويدير أمر بعض، ويقوم بأمر بعض، وفي مجمع البيان (بعضهم أنصار بعض)(2) وفي تقريب القرآن الى الأذهان (فإن كل واحد منهم ينصر صاحبه ويؤيده ويعينه؛ لأنهم من عنصر واحد وأصل واحد، وتجمعهم عقيدة واحدة)(3). وسياتي تفصيل ذلك انشاء الله في مطاوي البحث.

«الأصل» الاجتماعي بين الفرد أو المجتمع والمبنى اللغوي لمفردته التحقيق في إن (الأصالة) للفرد أو للمجتمع والاحتمالات الخمسة فيها ثم انطلاقاً من ان الاسس الفكرية للنظريات الاجتماعية و مثيلاتها من السياسية والاقتصادية والنفسية وغيرها، لابد و ان تستقى من منابعها الصافية

ص: 21


1- ويظهر ذلك بوضوح أكثر في حالة التصدي للغزو الخارجي أو للإرهاب الداخلي هذه الأيام في بعض الدول.
2- تفسير مجمع البيان ذيل الاية الشريفة من سورة التوبة.
3- تفسير تقريب القران الى الاذهان ذيل الاية الشريفة.

من هنا كان من الضروري التدبر في الآية القرآنية الكريمة: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، وفي سائر الآيات والأحاديث الشريفة، مثل «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(1)، و«وَالذِينَ فِي أَمْوَال-هم حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُوم»(2)، و«لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ»(3)، «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(4)، وكذلك الروايات الشريفة مثل: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(5)، و«الناس سواسية كأسنان المشط»(6) أو غير ذلك، لجهة الاستكشاف والاستدلال من هذه الأدلة ونظائرها، على البحث الحيوي الهام المطروح في علم الاجتماع من ان الاصالة هل هي للفرد ام للمجتمع؟ومن التدبّر والتأمل في الآية القرآنية الشريفة «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» نستكشف الاجابة عن السؤال المطروح، و الاحتمالات في بادئ النظر هي أربعة، وليست احتمالين فقط. وهي:

الاحتمال الأول: أن يكون الأصل هو الفرد، والمجتمع هو الاستثناء، أو هو العنوان الثانوي، أو إنه يكون بالمرتبة اللاحقة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المجتمع هو الأصل، والفرد يأتي في المرتبة الثانية، أو في الدرجة اللاحقة في الأهمية، أو إن شئت فقل: الفرد هو

ص: 22


1- سورة البقرة: 29.
2- سورة المعراج: 24 -25.
3- سورة البقرة: 279.
4- سورة المؤمنون: 52.
5- بحار الأنوار: ج 72 ص 38.
6- بحار الانوار: ج 78 ص 251.

الاستثناء.

الاحتمال الثالث: هو أن يكون الاثنان معاً هما الأصل، بمعنى أن الفرد والمجتمع معاً قد لوحظا بعنوان الأصل.

الاحتمال الرابع: وهو أن نقول بالتفصيل، وأن يكون الأمر مختلفاً باختلاف الموارد والصور.

وهذا البحث مطروح إن في الشارع الحنيف أو عند العقلاء، وهو من المباحث المهمة جداً بما لها من اثار وتداعيات قد تصل لسنين متمادية.

ولتوضيح أصل البحث والمحتملات الاربعة الانفة الذكر، نطبق الامر على الأسرة، إن كان الأب هو الأصل أم أن الأم هي الأصل، أم كلاهما معاً الأصل، أم نقول بالتفصيل، فتارة الأب هو الأصل، و اخرى الأم هي الأصل وذلك باختلاف الموارد، كمثل تربية الأولاد، أو التأمين المعاشي، أو ما أشبه ذلك، وكذلك في البحث بين الزوج والزوجة، وهل الزوج هو الأصل أم الزوجة هي الأصل أم الاثنان معاً، أم يختلف ذلك باختلاف الموارد، ففي الإدارة مثلاً: يكون الزوج هو الأصل، وفي شان آخر و لنفرضه التربية مثلاً، فالزوجة تكون هي الأصل، وهذا الرأي كما لا يخفى ليس لإبداء الحكم الشرعي.

ومن الغريب أن يرى البعض رأياً خامساً، وهو ارجاع الاصالة للدولة والحكومة، بل إن بعض الحكام يرى نفسه او اسرته هو الأصل، وقد نقل عن أحد هؤلاء الحكام المخلوعين أخيراً(1) و عندما كان يقول له بعض أعوانه أو

ص: 23


1- وهو الرئيس التونسي.

وزرائه: إن القانون لا يسمح لنا بالتجاوز على حقوق الناس و مصادرة الحريات - بعد أن كان قد تجاوز القانون الى أبعد الحدود حتى إن عملاءه كانوا يستثقلون ذلك - فكان يجيب يكفي(1) الكلام عن القانون، فإن أولادي وأصهاري هم فوق القانون!، فهذا هو القانون الأول والأخير لديهم.. فبعض الحكام المستبدين بل أكثرهم يرى أنه هو الأصل في تصريحهإن تجرأ، أو في عمله إن لم يتجرأ بالتصريح، كمثل فرعون, وفي الواقع فإنه لا يرى المصلحة الا مصلحته هو.

الاحتمالات الأربعة في معنى (الأصل)

وهذا البحث يتوقف على بيان مقدمات عديدة في مقدمتها تبيان المراد ب-)الأصل(، إذ عندما نتساءل: هل (الأصل) هو الفرد أم المجتمع أم الفرد والمجتمع معاً، أم أنه في بعض الموارد يكون الأصل هو الفرد، وفي موارد أخرى يكون الأصل هو المجتمع، فلابد أن نحدد ماذا نعني بكلمة «الأصل»؟ إن الاحتمالات في كلمة الأصل هي بدورها عديدة:

الاحتمال الأول: أن يراد بالأصل مورده في باب التزاحم، فلو كانت هنالك مصلحة ومصلحة أخرى مزاحمة لها، فنبحث أية مصلحة هي (الأصل) أي هي المقدّمة وفي مثالنا السابق، لو تزاحمت المصلحتان؛ مصلحة الأب مع مصلحة الأم، أو مصلحة الزوج مع مصلحة الزوجة، أو الأب مع الطفل، فأية مصلحة هي المقدمة و ايها المأخوذ بها؟ فهذا مثال مصغّر في العائلة لتقريب الذهن إن كان الأصل هو الفرد أم الأصل هو المجتمع.

ص: 24


1- كان يقول حسب لهجتهم: ييزي!

عليه، فإن الاحتمال الأول في كلمة الأصل هو أن يراد بها في باب التزاحم، فلو تزاحمت مصلحة المجتمع - بما هو مجتمع - مع مصلحة الفرد - بما هو فرد - فأية مصلحة هي المقدمة؟ أم ينبغي أن نلاحظ المجموع من المصلحتين، فنعمل - مثلاً - بقاعدة العدل والإنصاف.

والاحتمال الثاني: أن يراد بها (الأصل لدى الشك)كما هو المراد في الأصول العملية، ففي باب الاستصحاب مثلاً عندما يقال: إن الأصل هو الاستصحاب فيعني أنه لو شككنا فإننا نستصحب الحالة السابقة، أو قلنا الأصل هو الاشتغال، فإن المراد انه لو كان هناك علم إجمالي بالتكليف وكان شك بالمكلف به، وكان يمكن الجمع بينهما فالأصل الاشتغال أو الاحتياط، وإن دار الأمر بين المتباينين فالأصل هو التخيير، و في الصورة الرابعة ما لو شككنا في أصل التكليف فالأصل البراءة.

فعليه، أن الأصل وحسب الاحتمال الثاني يقصد به الأصل لدى الشك، فلو شككنا في مفاد الأدلة فعندئذ الأصل أن نقدّم مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد أو العكس أو حسب الموضوع والحالة، أو غير ذلك.

الاحتمال الثالث: ما كان في باب العموم والخصوص، بمعنى أن نريد بالأصل معنى القاعدة العامة لبيان ما هو العام وما هو التخصيص، وما إن كانت العمومات قد انصبت على الأفرادأولاً وبالذات، والمجتمع يحتاج الى أدلة تخصيصية أم أن العمومات والإطلاقات الشرعية أو العقلائية تنصب في المجتمع أولاً، ثم تستثنى منها الأحكام والتشريعات للأفراد.

الاحتمال الرابع: أن يراد بالأصل معنى الأساس والجذر، فمثلاً نقول: إن أصل الشجرة هو جذورها ثم جذعها، في مقابل الأغصان والأوراق

ص: 25

والأثمار، وما أشبه ذلك، ففي مبحثنا يراد به ما هو الأساس.

ومن الواضح إن الاحتمال الرابع يشير الى البعد التكويني للموضوع, بينما الاحتمالات الثلاثة تتحدد في الإطار الحقوقي - القانوني أو في الإطار التشريعي.

ثم الظاهر ان الأصل بالمعنى الأول، هو المراد ههنا، وقد يتبع ذلك في فلسفته الأصل بالمعنى الرابع. هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً فكلا المعنيين؛ الثاني والثالث، قد يكونان مرادين، فالثالث لو فُقِد الدليل، والثاني مع وجوده، ولكن في بعض الصور، مما نترك تحقيقه الى علم الفقه.

وهذا البحث في الواقع من البحوث المهمة والمفتاحية، والتي ترتبط بسياسة الإسلام واجتماعه واقتصاده، كما ترتبط بسياسة واقتصاد واجتماع أي دين آخر أو أي قوم، وإن لم يلتزموا أو يدينوا بدين ما.

ولتحقيق القول في ذلك نحتاج الى بحوث تخصصية لسنا الآن في مقام ونطاق البحث عنها، وإنما نشير لها فقط، وستنصرف البحوث القادمة الى مقدمة أخرى في هذا السياق في معرض الإجابة عن هذا التساؤل، وعلى أي تقدير، سواء أقلنا: إنَّ الفرد هو الأصل أم أنّ المجتمع هو الأصل أم كلاهما أم التفصيل، فإنه محطة للأحكام والتشريعات المختلفة.

فأي قول من هذه الأقوال ارتضيناه، وعلى أي تقدير، فإن الفرد له مسؤولية - بلا شك - باتجاه المجتمع، والمجتمع له مسؤولية تجاه الفرد، سواء أكان هذا هو الأصل وذاك هو الفرع أم العكس، وفي مثالنا المصغر: سواء أقلنا إن الأب هو الأصل، والأم هي الفرع أم بالعكس فان لكل منهما ادواراً و مسئوليات ملقاة على عاتقهما يجب الالتزام بها و ادائها.

ص: 26

كما انه مما لا شك فيه إن هنالك ضوابط وحدوداً، سواء أقلنا بالمعنى التكويني، وهو إن الأصل هو الجذع والفروع هي الأغصان، أم قلنا بالعكس، أو أي شيء آخر، فجميعها مهمة وضرورية ولازمة وإن كانت على درجات، وبعبارة اخرى نقول: إنّ هنالك علاقة متقابلة بين الطرفين و ان هنالك مسؤولية مزدوجة.

تشريعات مصبّها الفرد وأخرى مصبها المجتمع

ثم عند تصفح مختلف تشريعات الدين الإسلامي الحنيف، نجد أن بعض الأحكام والقوانين، - سواء الشخصية أم الاجتماعية، لحقوقية أم الجزائية، الاقتصادية أم السياسية أم غيرها - مصبّها الفرد، وقد لوحظت فيها مصلحة الفرد بالدرجة الأولى، وإن تموّجت تلك المصالح على المجتمع أيضاً.

كما قد نجد العكس أحيانا، وأن تشريعاتٍ مصبُّها المجتمع، وقد لوحظ فيها المجتمع، بما هو مجتمع، والمجموع بما هو مجموع، أو قطاعات واسعة منه على الأقل، وإن كان ذلك التشريع ينعكس بفوائده - أيضاً - على الأفراد.

الصلاة والصوم و... مصبّها الفرد

فمثلاً «الصلاة» تشريع مصبه الفرد، وإن كان الإنسان عندما تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فان ذلك ينعكس بإيجابياته على المجتمع.

وكذا «الصوم» فإنه تكليف موجّه للفرد، وإن كان ينعكس - أيضاً - على المجتمع، لأنه يروض النفس على السيطرة على الشهوات، ويذكر الإنسان بالفقراء والمساكين، والى غير ذلك من الفوائد.

ص: 27

وكذلك (فلكم رؤوس أموالكم) فهذا التشريع - أيضاً - مصبه الأولي هو الفرد الذي له رأس ماله، وله ما جنت يداه، أو ما كسب بتفكيره، أو ما أشبه ذلك.

فبعض التشريعات يكون مصبها الأولي هو الفرد، وإن كانت فوائدها الاجتماعية كثيرة جداً. حتّى تكاد أحياناً تساوي أو تتغلب على الفوائد الفردية، كما في الحج على احتمال.

الخمس والزكاة والأنفال مصبّها المجتمع

كما ان هنالك سلسلة اخرى من التشريعات مصبها الأولي هو المجتمع، مثل الخمس» مما ربحه أو غنمه الشخص من المكاسب أو غيرها، فحق المجتمع هنا موجود في الخمس، فهذا المال الذي بذل فيه الفرد جهداً كبيراً يتعلق به حق المجتمع، وهو الخمس قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»(1) فإن كل شيء لله، لكن ذكر اسمه القدوس هو لتشريف مقام النبي (صلی الله علیه و آله).وكذلك (الزكاة) التي روعي فيها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وسائر الأصناف، وهذه أمثلة معهودة معروفة لعامة الناس.

وهنالك نماذج غير معهودة عند عامة الناس، وإن كانت لدى العلماء معروفة، مثل (الأنفال) الذي مصبه الأولي هو المجتمع بإجازة من الرسول (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: «يَسْالونَكَ عَنْ الأَنْفَال»(2)، وهي ليست للأفراد، بل لله

ص: 28


1- سورة الانفال: 41.
2- سورة الانفال: 1.

وللرسول، ثم إنه بحكمته ينفقها في مصالح المسلمين، كما قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «عادى الأرض للّه ولرسوله ثمّ هي لكم منّي»(1).

وتدل الآية الشريفة من سورة الأنفال على الأصل الأولي للأنفال، «يَسْالونَكَ عَنْ الأَنْفَال قُلْ الأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» فالرسول (صلی الله علیه و آله) ينفقها على عامة الناس، وليس لآحاد الناس كآحاد، وإنما ترجع الى بيت المال ثم تعود للمجتمع من جديد.

وللأنفال مفردات كثيرة، فالأنهار من الأنفال، وكذا سيف البحار، والآجام - وهي جمع أجمة -، وبطون الوديان، ورؤوس الجبال، فمصاديق ومفردات الأنفال كثيرة، وهي تشكل ثروات كثيرة جداً، لكن الدول في عالم اليوم تحتكر ملكيتها مدعية انها ملك لها، وهذا خطأ فاحش؛ لأنها كلها في الواقع ثروة للمجتمع وليست للدولة، فالله سبحانه وتعالى يقول: هي لي ثم للرسول، ثم إن الرسول (صلی الله علیه و آله) أباحها للمسلمين.

وكذلك« الفيء»، وآية الفيء صريحة الدلالة ولا نحتاج الى ضم رواية اليها، ففي سورة الحشر يقول الله سبحانه وتعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ(2)»، ومبدئياً أفاء بمعنى أرجع، أي للرسول، لأن كل شيء هو للرسول تكويناً بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لكن هذا الفيء هو إعادة تشريعية ظاهرية، فتشريع الفيء هو للمجتمع بلطف من الله ورسوله(3).

ص: 29


1- جامع احاديث الشيعة: ج 23 ص1018.
2- سورة الحشر: 7.
3- في كلا مثالي الأنفال والفيء تأمل.

عليه، فإن التشريعات تختلف، فبعضها مصبها الفرد، وبعضها مصبها المجتمع، مع إن ما هو للمجتمع ينفع الأفراد، وما هو للأفراد ينفع المجتمع طبيعياً.

الحدود و التعزيرات وفلسفة القصاص

ومن التشريعات التي لوحظت فيها - أيضاً - مصلحة المجتمع بالدرجة الأساس، هو تشريع الحدود والتعزيرات.

وبذلك يظهر وجه جديد من وجوه الإجابة عن الشبهة المثارة من قبل بعض على القصاص من القاتل بقتله؛ من حيث ان الأصل المطلق عندهم هو الفرد، فإذا قتل القاتل فرداً فان اجراء القصاص عليه تعتبر خسارتين، وفق منطقهم؟ لكن القرآن الكريم يقول: «وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الالبَابِ» فالشخص الذي يمتلك عقلاً ولبّاً يفهم أن القصاص من القاتل - في الواقع - هو الذي يحافظ على المجتمع؛ إذ من الصحيح إننا نخسر بذلك فرداً جديداً، لكنه جرثومة وميكروب وسرطان، والسرطان ينبغي أن يقضى عليه؛ لأن ذلك يحصن المجتمع من المزيد من الجرائم.

وذلك لوضوح إنه إذا علم المجرم بعدم الاقتصاص منه عند ارتكاب القتل، فإن ذلك سيفتح الباب أمام كل إرهابي، وكل سفاك وكل مستبد، ومن الطبيعي آنذاك ان تزداد وتيرة القتل بشكل متصاعد، على العكس ما لو عرف القاتل انه سيقتص منه بالمثل، فإن ذلك يشكل حماية للمجتمع ورادعاً قوياً عن الجريمة، وبتعبير آخر كمّي: لو لم يشرّع قتل القاتل فسنرى إنه بدلاً

ص: 30

من أن تكون إحصائية القَتَلة عمداً في البلد الفاً في السنة، سيصيرون عشرين الف مثلاً، لكن إذا شرّع قتل القاتل فسيتقلص عددهم الى الف مثلاً.

هذا وان صح ان بإزاء تشريع القصاص قد شرع ايضاً العفو او الدية، وبالتالي سينال بعض القاتلين عفواً من قبل الولي، وبعضهم قد يكتفي منهم الولي بالدية، لكن المهم هو الرادع؛ لأن الأولياء مخيرون بين أن يقتلوه قصاصاً، لو كان عمداً، وبين المنّ عليه والعفو عنه، وبين أخذ الدية، وعلى ذلك فإن هؤلاء الالف إذا قتلوا الفاً سيقتل منهم مثلاً خمسمائة، فمجموع القتلى قد أضيف ل-هم خمسمائة، أما إذا لم يشرّع القصاص فسيكون المقتولون عشرين الفاً باستثناء الخمسمائة قاتل، وهذا يعني إنه لوحظت في القصاص مصلحة المجتمع، والأمر كذلك في مطلق (الحدود والتعزيرات) تماماً.

ومن الضروري التنبيه على إن للحدود ضوابط صعبة جداً، وقد أشار السيد الوالد 6 في (الفقه الاقتصاد) و (الفقه الحدود) و(الفقه القضاء) وغيرها اليها، منها: أن يكون الاقتصاد الإسلامي مطبقاً، وأن يكون النظام بشكل عام إسلامياً؛ لأن (الحدود) مفردة وفي ضمن منظومة متكاملة، وعلى هذا فإنالدول المسمّاة بالإسلامية التي تترك قوانين الإسلام في السياسية والاقتصاد(1) وتتمسك بالحدود والتعزيرات فقط، هي ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض آخر، ولهذا بحث مفصل نتركه لمحله.

ص: 31


1- مثل: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» و «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» و«وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ» و«خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» و«لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ».. إلى غير ذلك.

الأمر بالمعروف مصبّه المجتمع

وهناك مثال هام آخر لوحظ في تشريعه (المجتمع) أولاً وبالذات، وهو(تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضران - عادة - بالشخص، لما فيه من المشقة أولاً، و لما يحمل في طياته من كراهية الاخرين تجاه الامر والناهي، لأن الآخرين يجدونه سداً بينهم وبين ملذاتهم، وحاجزاً يقف أمام طغيانهم، فيكرهونه طبعاً، وكمثال مبسط تصوروا شخصاً يغتاب الآخرين، فلو نهاه أحدهم عن ذلك فإنه سوف ينزعج ويتخذ موقفاً منه، مع أن الناهي يحاول منعه من السقوط في فخّ الشيطان وحفر النيران.

إذن تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عائد لمصلحة المجتمع في الواقع، وإن كانا في ضرر الشخص ظاهرياً. نعم، في النظرة الأعمق نجد النفع يرتد عليه كشخص أيضاً، نتيجة كون المجتمع سليماً، فإنه عندما يكون الجو نظيفاً ينتفع الكل، وإذا تلوث الجو يكون الأمر بالعكس.

التقية لها حالتان

وعلى أي تقدير، وكما سبق فإن التشريعات تختلف باختلاف الموارد، بل إننا قد نجد عنواناً مثل (التقيّة) انها تارة لوحظت فيها مصلحة الشخص، فله أن يتقي، ولكن إذا وصلت المرحلة الى الدماء فلا تقية فيها، فقد لوحظت فيها مصلحة الآخرين، أو مصلحة المجتمع، والبحث في هذا الحقل بمفرداته ومناقشاتها وبشعبه المختلفة مترامي الأطراف، نقتصر منه على هذا المقدار.

ص: 32

إذن، عندما نسال ونتساءل: هل الأصل هو الفرد أم المجتمع، أم كلاهما أم بالتفصيل؟ في الواقع يكون جوابنا هو الرابع، أي التفصيل، فأحياناً تلاحظ مصلحة الفرد أولاً، ثم مصلحة المجتمع، وأحياناًتلاحظ مصلحة المجتمع أولاً ثم مصلحة الفرد، ولكن هل هنالك تشريع معين لوحظت فيه المصلحتان على نحو واحد وبشكل واحد سيان، وهو القول الثالث؟ هذا ما لم نعثر عليه حسب الملاحظة المبدئية.

وعوداً الى الآية الكريمة «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» هل يصح أن نستنبط من هذه الآية إنه قد روعي الجانبان، وقد لوحظت المصلحتان؟ وبأية درجة؟ وعلى أي تقدير سواء أقلنا: إن الفرد هو الأصل أم هو المجتمع أم غير ذلك، فإن هنالك ضوابط وهنالك مسؤولية مشتركة، وهذا ما لعلنا نتطرق له في المستقبل، إن شاء الله.

مقاربة التداعيات في مقياس الفرد ومحوريته

ولا يخفى اهمية هذا البحث وتداعياته فانه إذا كان المقياس هو الفرد فالنتيجة هي أن مصالح الفرد لو اصطدمت بمصالح المجموع فهي المقدمة، بل قبل ذلك وفي مرتبة سابقة، فان هذا الفرد سيصبح هو المحور، كما لا تلقى عليه مسؤولية ذات شأن تجاه المجموع، مما يؤول الى الاهمال تجاه المجتمع، وسيكون الأمر حينئذ كالتاجر المعروف في احدى البلاد الصغيرة التي لم تتعد نفوسه الملايين من البلاد العربية، والذي كان قسم كبير من الناس فيها يعيشون في بيوت الصفيح، بنى لنفسه قصراً فخماً لنفسه، طلى بعض ابواب قصره بالذهب الخالص، و الاغرب من ذلك انه جعل ارضية حمامه من الذهب الخالص، في

ص: 33

الوقت الذي كان قسم كبير من قاطني البلدة تحت فقر مدقع. فماذا يعني ذلك؟ الا يعني محورية الفرد، وإنه هو المحور الأول والأخير من دون اهتمام و رعاية للمجتمع؟ و من الغريب أننا نجد في مستشفيات الكثير من الدول قانوناً يتماهى مع المحورية المطلقة للفرد، ذلك ان بموجب قانونها لا تجرى لأي مريض كان وفي أية وضعية - وان كانت خطيرة - العملية الجراحية الا بعد تسديد مبلغها قبل اجراء العملية، فإذا لم يكن بحوزة المريض ما يسدد به العملية، فإنه سيطرد وليكن ما يكون! ومن القضايا التي تختزن عبرة متجسدة تلك التي حدثت في إحدى البلاد الإسلامية أخيراً , حيث إن طبيباً معروفاً قام ببناء مستشفى خاص على أحدث ما يكون، واتبع فيها هذا القانون اللاإنساني، حيث المحورية المطلقة للمنافع الشخصية، ولا يهم بعد ذلك ماذا يحل بالآخرين، وذات مرة و بينما كان المدير في مكان اخر خارج المستشفى، دهست سيارة طفلاً بقرب المستشفى فنقل الى المستشفى لإجراء عملية عاجلة لإنقاذ حياته، فامتنع الأطباء عن علاجه، اتباعاً للقانون الصادر من مدير المستشفى، القاضي بدفع الأجر مقدماً، ويبدو أن الذين قاموا بنقل الطفل الجريح للمستشفى لم يكونوا من أقربائه ولعل-هم لم يكونوا يملكون هذا المال، فطلبوا من الاطباء تأجيل الدفع لحين معرفة والدي الطفل وحضورهما، لكن الإدارة والأطباء تغاضوا عن علاجه، وتباطأوا بحسب القانون الى أن يستلموا المبلغ الى أن مات الطفل أمام أعينهم.وعندما جاء الطبيب المدير الى المستشفى اكتشف أن الطفل المتوفى هو ولده، فغضب أشد الغضب لذلك، وعندما عنّفهم بشدة لعدم معالجته أجابوه بأنه هو من

ص: 34

وضع القانون، ومن أدرانا بأنه ابنك؟ فذاق العذاب والالم وشرب من نفس الكأس التي سقى بها الآخرين... ولكن كم من الناس قبل ذلك قد ماتوا، وكم من الناس بعد ذلك سيموتون؟ إن الأناني هذا هو مذهبه، والمحتكر هذا هو منهجه، لا يفكر بصالح المجموع، بل يفكر في نفسه ليس الا، ولكن ستدور عليه دائرة السوء يوماً ما.

وهذه المحورية المطلقة مما ترفضه الشريعة كما جاء في الآية الشريفة حيث تقول: «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» فالفرد له رأس ماله كفرد، وله قيمة، وله ملكية فردية، ولكن في إطار آخر أوسع، بمعنى أن هناك تشابكاً وتكاملاً بين المصالح الشخصية والمصالح النوعية العامة، «لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ»:(لا تظلم) بأن تجحف، بأن تحتكر، بأن ترابي، وبأن تمنع زكاة مالك وخمس أرباح مكاسبك، و)لا تُظلم) بأن يأخذوا منك أكثر من الذي ينبغي أن يؤخذ منك، ذلك أن الضريبة الشرعية هي الخمس والزكاة فقط على المسلمين، أو الجزية والخراج فقط على غير المسلمين، وليس أكثر من ذلك، هذا حق المجموع بهذا المقدار، وحقك بذلك القدر، وكل شيء عنده بميزان.

ص: 35

ص: 36

الفصل الثاني: التعريفات المعاصرة للمجتمع المدني

اشارة

ص: 37

ص: 38

قد ذكرت للمجتمع المدني تعريفات كثيرة تصل الى العشرات، وسنفصّل في النقد والتحليل بعض أهم بنودها في المباحث القادمة بإذن الله تعالى.

فقد يعرّف المجتمع المدني بأنه (ما يقع بين الأسرة والدولة(، و هو التعريف الذي كتبه أحد فلاسفة الغرب في العام 1812م ، فما يقع فوق دائرة الأفراد مباشرة، وهي الأسرة والعوائل، لا تعتبر من المجتمع المدني، بينما المنظمات الوسيطة بين الأسرة وبين الدولة تعتبر - حسب هذا التعريف - من ضمن المجتمع المدني، كونها تقع بين الأسرة والدولة.

وأما المنظمات الوسيطة، فتشمل النقابات والاتحادات والأحزاب والجمعيات الخيرية، وغير ذلك، فالمجتمع المدني إذن يتكون من الطبقات والجماعات والمؤسسات، تنتظم كلها داخل القانون المدني بحسب التعريف.

وفي تعريف آخر:(هو مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزماً بذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف).

وهناك تعريف آخر:(هو مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية وغير الحكومية(، وفي الإشارة الى إحدى المآخذ على هذا التعريف فإننا

ص: 39

لا نرى صحة القيد فيه (غير الإرثية(، بل نقول: فلتكن تلك التنظيمات إرثية، مثل العوائل، حيث نعدها من مؤسسات المجتمع المدني، ومثل العشائر التي نعدها أيضاً من مؤسسات المجتمع المدني غير الإرثية وغير الحكومية.

وسنبحث لاحقاً عدم دقة هذه التعريفات في المنظار الإسلامي بإذن الله تعالى، و ستنصرف الدراسة الى نقد وتقييم هذه التعريفات، لكنها حتى الآن تتفق بمجملها على أن تلك المؤسسات الوسيطة، التي تقع أسفل من الدولة وأعلى من الأسرة، تعد من مؤسسات المجتمع المدني، ومن هذه المنظمات أيضاً:نوادي الشباب، ودور العبادة، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومنظمات الدفاع عن السجناء وغير ذلك.

التسميات المحتملة والشاملة لمنظمات المجتمع المدني

إن البحث في المجتمع المدني ومكوناته يدور حول التسمية نفسها.و قبل الخوض في المقاربات التحليلية والنقدية لمدركاته نرى إن التسمية الأصح والأدق هي(مؤسسات المجتمع الإيماني(، وإن شئت فسمّها(مؤسسات المجتمع الإنساني(، فإنه إذا كان منطلقنا منطلقاً دينياً فعلينا أن نسميها مؤسسات المجتمع الإيماني، وإذا كان المنطلق منطلقاً إنسانياً فنسميها مؤسسات المجتمع الإنساني، وكلاهما صحيح؛ إذ «الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(1) كما يقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (علیه السلام): «وكما يقول

ص: 40


1- نهج البلاغة: الرقم 53 من كتاب له (علیه السلام) كتبه للاشتر النخعي لما ولاه على مصر واعمالها حين اضطرب أمر اميرها محمد بن ابي بكر، وهو اول عهد كتبه واجمعه للمحاسن.

رسول الله (صلی الله علیه و آله):«كلكم لآدم وآدم من تراب»(1) فالمنطلق إما إنساني، وإما إيماني، فإذا كان المنطلق إيمانياً، باعتبارنا كمسلمين، فنسميها مؤسسات المجتمع الإيماني أو الإسلامي، وإذا كان المنطلق غير إسلامي فنسميها منظمات المجتمع الإنساني.

التسمية الأمثل للمجتمع المدني

أما التسمية بمؤسسات المجتمع المدني فهي في تصورنا خاطئة من جهات عديدة:

منها: إن المدني نسبة الى المدينة، وهذا يعني إن مؤسسات المجتمع المدني لا تحتضن (القروي)، أو(البدوي)، لأنها في مقابل القروي و البدوي وهذا خطأ كبير؛ لأن المجتمع المدني لا يتكون من أهل المدينة أو أهل الحضر فقط، بل إن أهل الريف و القرويين - وهم أحياناً أكثر من أهل المدينة - هم أعضاء ايضاً في أسرة المجتمع المدني، فليسوا خارج قوس الإنسانية ولا خارج دائرة المسؤولية، ولا خارج دائرة الحقوق والواجبات، وعليه فإن التسمية الأصح والأشمل هي(مؤسسات المجتمع الإنساني(، أو(مؤسسات المجتمع الإيماني).ولا يتوهم ان (المدني) قيد توضيحي وليس قيداً احترازياً؛ إذ الظاهر اٴنهم يعتبرونه قيداً احترازياً، ولذلك نجد أحد الأعلام، يبني تعريفاً للمجتمع المدني يخرج شريحة واسعة منه، فال التعريف الى تفسير الشيء بنقيضه، و منشأ الخطأ لم يكن الا وجه تسمية هذه المؤسسات بالمجتمع المدني، وتوصيفها بالمدني

ص: 41


1- تحف العقول: ص33.

وذلك حيث يقول: (إنه مهما كان الاختلاف في تعريف المجتمع المدني فإن ما هو بديهي(1), هو أن المجتمع المدني أولاً وقبل كل شيء هو مجتمع المدن وأن المؤسسات هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة)، فهذا اخراج لمجتمع الريف، وهم أحياناً بالملايين، وأحياناً بعشرات الملايين وأحياناً بمآت الملايين - كما في الهند والصين - كما أنه اخراج لمجتمع البدو، وهذا هو الإجحاف بحق أولئك، وعين القصور في التقصير والتفكير، حيث انهم أيضاً صناع هذا البلد، و ل-هم الحق في التصويت، كما انهم بسواعدهم يبنون هذا البلد، سواء المزارعون أم غير المزارعين، فالبلد يعتمد عليهم، ثم هم - قبل ذلك ومع ذلك - أيضاً بشر.

وعليه، فإن الكلام الانف الذكر يعاني من خلل منهجي وفكري؛ حيث بذلك يخرجون المؤسسات التي تؤسس في الريف، أو في الصحارى أو في الغابات، كما لو أسسوا مؤسسة خيرية، أو اتحاد المزارعين أو الصيادين أو جمعية البدو أو غير ذلك، عن عداد مؤسسات المجتمع المدني وبالتالي فلا يتمتعون بحقوهم، بل لا قيمة ل-هم، مع أن الأمر بالعكس؛ إذ تبنى على سواعدهم وأيديهم المجتمعات، وتنبني الحضارة أيضاً.

فقول-هم: «هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية» غير صحيح؛ إذ في بعض الدول يتواجد 60% من الناس في القرى والأرياف، أو 70% أو أقل أو أكثر، وهؤلاء ل-هم - ولابد ل-هم من - حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية، كما انهم يحتاجون الى مؤسسات، حاضنة ترعى شؤونهم، بل ان تطور الحياة في منظوره الأشمل لا يكون الا بتطور القرية والريف، وبمستوى تطور المدينة أيضاً، وذلك بديهي

ص: 42


1- ونحن نقول: إن ما اعتبره بديهياً فانه لدى التبصر خلاف البديهة تماماً، وخلاف العقل والحكمة.

وواضح جداً، لكن(التسمية الخاطئة)هي التي أوقعت كثيراً من الناس، والعديد من العلماء في مثل هذا الخطأ، كونها ناقصة وخاطئة، فالتسمية الصحيحة التي نقترحها كمسلمين هي (مؤسسات المجتمع الإيماني) أو (الإسلامي)، وإذا كان عالم الاجتماع أو المفكر غير مسلم فليسمها مؤسسات المجتمع الإنساني، كونها تنبثق من شعاع الإنسان والإنسانية، وترعى مصالح الإنسان.ومنها: ما صرح البعض من قوله:(على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع المدني، وفي مواجهتها تقع المؤسسات الطبيعية، التي يولد الفرد منتمياً اليها، مندمجاً فيها، ولا يستطيع الانسحاب منها، كالقبيلة والطائفة) وهذا يعني بصريح عبارة عدد كبير من علماء المجتمع المدني، اخراج تجمعات مثل العشيرة والقبيلة والطائفة من دائرة(مؤسسات المجتمع المدني) ما هو امر غير مقبول؛ ذلك لان كثيراً ما يبنى على اكتاف العشائر والقبائل والطائفة المجتمع، وبها استقرار البلد وازدهاره ، فهي التي تحافظ على (الأمن (في البلد، وهي التي تسهم في تنميته أكبر الاسهام.

وقد يقال: قد تكون العشائر أو الطوائف عامل فتنة ومنشأ اضطراب! لكننا نقول: إن العشائر والطوائف، هي كالأحزاب والاتحادات تماماً، فإذا كانت صالحة، فستنهض بالبلاد، وإذا كانت طالحة فستخرب البلاد، و لا فرق في ذلك بين المجتمع الحضري أو القروي، كما لا فرق بين المجتمع الحزبي والمجتمع العشائري، فكلها سيان، فإن تلك التنظيمات أو التجمعات إذا سارت في طريق بناء البلد، فالبلد يزدهر، والا فالبلد يتراجع وينكمش، وعليه فهذا الاصطلاح في حد ذاته قاصر مجحف نوعاً ما بحق الشرائح الاخرى الموجودة في المجتمع.

ص: 43

أساس المجتمع المدني في الرؤية الإسلامية

إن آية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» تؤسس الأساس القانوني النظري الواسع لمؤسسات المجتمع المدني؛ إذ إنها تضع قانوناً أسمى يحكم الأفراد، وهو قانون التماسك والتكامل والتكافل الاجتماعي، الذي يتحمل فيه جميع الأفراد المسؤولية تجاه الجميع، أفراداً ومجاميع ومؤسسات ودولة، كل بحسب طاقته.

فالمجتمع المدني يستبطن في مفهومه حالة من التماسك، وحالة من التعاون في أدنى صورة وأبسطها، لكن الآية الشريفة تشير لأكثر الصيغ تطوراً، حيث تتضمن ست عشرة صورة من صور التماسك والتكامل والتكافل كما سيأتي، وهذا هو الأساس النظري، أو الإطار العام لفكرة المجتمعات المدنية في الرؤية الإسلامية، وهو: أنه هنالك حالة من المسؤولية المتقابلة بين كافة أطراف هذا المجتمع في ضمن حزمة من أربع مجاميع، كل مجموعة تتضمن صوراً أربع.

وصفوة القول: إن هذه الآية الشريفة تبين وتوضح الإطار العام، والبنية التحتية لفكرة المجتمع المدني، حيث تقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ».

كما أن الروايات الشريفة - أيضاً - ترشدنا الى هذا المعنى، إذ إن كل فرد يتحمل المسؤولية تجاه الآخرين، ولا يصح لهذا الفرد أن يتحرك ويتعامل كمن يعيش في جزيرة منعزلة، بل إن لكل فرد مسؤولية تجاه سائر الأفراد، وله مسؤولية تجاه المجاميع، وله مسؤولية تجاه المجموع، وهذه النقطة سيشير لها البحث لاحقاً بإذن الله تعالى.

ص: 44

وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انه قال: «من قضى لأخيه المؤمن حاجة، كان كمن عبد الله دهره»(1) وأي تأسيس أعظم من هذا التأسيس لحالة التكامل والتكافل والتواصل والإحساس بالمسؤولية، التي ينبغي أن يكون عليها الجميع؟ فإن هذه الرواية تعني أن العلاقة بين العبد والخالق ،تمر فيما تمر، عبر العلاقة بين العبد وأخيه، ونلاحظ الروعة في هذا الحديث هذا التشابك وهذا التشاطر في حمل هموم الآخرين، وفي قضاء الحاجات، «فكأنما عبد الله دهره» والدهر يتسع ليشمل خمسين سنة أو سبعين سنة، من العبادة أو أكثر أو أقل، وقضاء حاجة واحدة لمؤمن تتسامى حتى كأنها هي تلك العبادة، فلو أن هذا الأساس قد أعتمد في المجتمع فسوف لن يبقى هنالك فقير، ولن يبقى هنالك يتيم مطرود، أو مقهور، أو مستضعف.

وفي رواية أخرى يقول (صلی الله علیه و آله):«من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضها، كان خيراً له من اعتكاف شهرين» بمعنى أنه سواء أتمكن من قضاء حاجة أخيه أم لم يتمكن، فان له هذا الأجر العظيم، والمهم أنه قد سعى.

وفي رواية أخرى عن الامام الباقر (علیه السلام): «من مشى في حاجة أخيه المسلم، أظله الله بخمسةٍ وسبعين الف ملك، ولم يرفع قدماً الا كتب الله له حسنة، وحط عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله عز وجل له بها أجر حاج ومعتمر»(2).

ص: 45


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص 361 ح 11.
2- الكافي الشريف: ج 2 ص 197 ح3.

فإذا بنيت ثقافة المجتمع على هذه الروايات فسوف لن تبقى حاجة معطلة في المجتمع، وسيكون المجتمع مثالياً كأسمى ما تكون المثالية، بينما المجتمع المدني بالمفهوم المعاصر لا يصل الى هذا المستوى المتطور من المجتمع المتكافل والمتكامل، ولا حتى في عالم الأحلام.

ص: 46

الفصل الثالث: الجوانب الكمية والكيفي والاتجاهية في المجتمع المدني

اشارة

ص: 47

ص: 48

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1)».

مقدمات نطاق البحث في المجتمع المدني

يدور البحث في مؤسسات المجتمع المدني عادة حول الجهة الكمية تارة، وحول الجهة الكيفية تارة أخرى، كما يدور ثالثة حول الاتجاه(2) لجهة اتجاه العلاقة بين مكونات المجتمع؛ إذ يتوجب الاستضاءة من الآية القرآنية الكريمة التي تشكّل الإطار العريض، والخلفية الفلسفية للبحث كله، لتبيان الجوانب القياسية في نظم المجتمع المدني، وهي الكمية والكيفية والاتجاهية.

ص: 49


1- سورة التوبة: 71.
2- وسيأتي في المباحث اللاحقة البحث في الجانب الثالث وهو (الجانب الجهوي)، بإذن الله.

الجوانب الكمية في منظمات المجتمع المدني

من الناحية الكمية نرى أنَّ الشعوب والمجتمعات في أي مجتمع من المجتمعات، إسلامية كانت أم غيرها، يجب أن تعج بمؤسسات المجتمع المدني، التي اقترحنا فيما سبق تسميتها بإحدى التسميتين البديلتين الأخريين، (مؤسسات المجتمع الإنساني)، أو (مؤسسات المجتمع الإيماني)، وان كنا نجري في مطاوي البحث حسب المصطلح المتداول المشهور مماشاة.

مجتمع المؤسسات ونسبته للسكان

من هنا كان من اللازم على اصحاب الفكر و القلم والارشاد توجيه هذه المجتمعات نحو تأسيس مزيد من المؤسسات الهادفة الى ارساء الايمان و التنمية المعرفية و الاخلاق، لتعج بها، ولكن المؤسف ما نشاهده من ضعف هذا التوجه كما يتضح ذلك من خلال المقارنة بين بلدين، هما: (العراق) نموذجاً، و)أمريكا) كنموذج آخر.

فقد تأسست في العراق بعد سقوط الطاغية الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، وقد بلغ مجموع المؤسسات حسب الإحصاء ثلاثة عشر الف مؤسسة، تأسس أكثرها بعد السقوط، وان وجدت قبل السقوط مؤسسات الا انها لم تكن مستقلة عن هيمنة الدولة وسلطانها، ومن شرائط مؤسسات المجتمع المدني أن تكون مستقلة عن الدولة، والا كانت أداة بيد الطاغوت، ومعول هدم للمجتمع المدني في مجمل الفروض أو معظم الحالات.

لكن المشكلة في هذه الكمية انما هي في كم المنظمات غير الناشطة ميدانياً،

ص: 50

من أصل ثلاثة عشر الف منظمة قانونية في مختلف القطاعات في العراق الشاسع المترامي الأطراف، فليست بأكملها فاعلة ونشطة، بقدر ما هي حبر على ورق، ومجرد شكل وديكور، وتسجيل رسمي لا أكثر، أو انها قليلة الفاعلية والنشاط.

إن عدد نفوس العراق ما يقارب (30) مليون, و بالمقارنة مع أمريكا التي يبلغ عدد سكانها (300) مليون وأكثر، فكم توجد فيها من المؤسسات الخيرية؟ مع العلم بأن مؤسسات المجتمع المدني هي أوسع دائرة من المؤسسات الخيرية وهي التي ترعى الأيتام أو ترعى الفقراء أو المرضى، أو الشؤون الخيرية الأخرى، فإن هذه كلها تشكل قسماً من مؤسسات المجتمع المدني الى جوار النقابات، التي تعد ايضاً منها، وكذا الأحزاب والمنظمات والاتحادات وغيرها، مع إنها لا تعد مؤسسات خيرية.

إن المؤسسات الخيرية الموجودة في أمريكا وحدها قد بلغت حسب الإحصاء الرسمي، مليون و200 الف مؤسسة، حسب دراسة عن أوضاع امريكا، أعدّت في العام (2010)، كما أن الأموالالمخصصة للأعمال الخيرية تذهب الى أكثر من مليون و 200 الف مؤسسة خيرية مسجلة، وهناك مؤسسات أخرى كثيرة غير مسجلة.

إن من الواجب على الإنسان، أن يعرف كلاً من نقاط قوة الآخرين، و نقاط ضعفهم، ويبحث عن اسرار التفوق والتميز لدى الدول الاخرى المهيمنة حضارياً، ان جزءاً من ذلك عائد الى توفير عناصر القوة في بلادهم، والله سبحانه وتعالى يقول :«كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ

ص: 51

رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(1), سواء التقي أم الشقي، السعيد أم غير السعيد، المؤمن أم الكافر، فالله سبحانه وتعالى يمدّه من الأسباب الظاهرية الدنيوية ما به يتقدم الى الأمام ويسيطر أو لا يسيطر، على حسب كفاءاته ونشاطه وعمله.

لنتصور مرة أخرى - و لنلاحظ سعة القياس بين البلدين - بلداً واحداً يمتلك من المؤسسات الخيرية مليوناً و200 الف مؤسسة خيرية مسجلة رسمياً، دعك عن غير المسجلة، وحسب هذه المعادلة فإن العراق الذي يبلغ نفوسه (30) مليون نسمة - ما يعادل عشر الشعب الأمريكي - يجب أن يضم في جنباته - على الأقل - 120 الف مؤسسة خيرية، إضافة الى سائر منظمات المجتمع المدني.

وسنُصدم أيضاً عندما ننظر الى سائر بلاد الإسلام، فكم مؤسسة خيرية هنالك في هذه البلدان؟ و غير خفي إن حيوية الأمم و نشاطها و ازدهارها تقاس بكمية وبحجم وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني فيها.

الحاجات الكمية للمجتمع المدني

وعوداً على بدء، فإن هذه المجتمعات الإسلامية يجب أن تضج بالمؤسسات، و يجب أن تكون هناك عشرات الالوف، بل - وحسب تعداد السكان - مئات الالوف من مؤسسات المجتمع المدني بمختلف الوانها واشكالها من الروضات والمدارس والجامعات والمعاهد ورعاية الأيتام و المستوصفات، و المساجد، والمكتبات والحسينيات، و النقابات، والاتحادات، ونوادي الرياضة، ونوادي الشباب، و العشائر والقبائل، فالمجتمع السليم هو المجتمع الذي تكثر فيه المؤسسات الإنسانية والإيمانية، في حين أننا نلاحظ الآن في مدننا المقدسة،

ص: 52


1- سورة الإسراء ، الآية 20.

ان المؤسسات الفكرية والانسانية والدينية والثقافية فيها لا ترقى الى مستوى التحدي الذي نواجهه، فكم مكتبة توجد فيها؟ وكم معهداً تربوياً يوجد فيها؟

الجوانب النوعية في بنية المجتمع المدني

هذا من جهة الكم، اما من جهة النوع والكيف، فالذي نراه ان هناك قسماً من مؤسسات المجتمع المدني اخرجتها التعريفات السابقة الذكر، بينما هي داخلة فيها ومن صميمها، مثل: أ:العائلة، ب: التنظيمات الإرثية على التفصيل الاتي.

فإن مؤسسات المجتمع المدني يجب أن تحتوي ايضاً على اللبنة الأساسية الأولى في المجتمع، وهي العائلة، غير أن التعاريف التي جرى ذكرها في البحث الماضي لمؤسسات المجتمع المدني تخرج العائلة عن منظومتها، زاعمةً انَّ مؤسسات المجتمع المدني هي المؤسسات الوسيطة التي تقع تحت الدولة وفوق العائلة.

)

العائلة) المكوّن الأساس للمجتمع المدني

لكن الحق هو: إن إخراج العائلة - كإخراج القبيلة والعشيرة - من دائرة مؤسسات المجتمع المدني هو أمر خاطئ، كونها في الواقع هي المحطة الأولى التي يتربى الفرد فيها، و التي يأخذ فيها الفرد كطفل ويعطى كأب أو أم، أو يأخذ ويعطى كأخ وأخت ، والعائلة هي المعهد التربوي الأول، فينبغي أن تولى العائلة عناية كبيرة في إطار مؤسسات المجتمع المدني.

ولذا نجد التفات بعض علماء الاجتماع - أخيراً - الى هذه النقطة، منبهاً

ص: 53

على أنه لا يصح أن تهمل العائلة أو تخرج من مكونات المجتمع المدني؛ وذلك لأنها تكوّن البنية التحتية لكافة المؤسسات الأخرى، التي تبتنى عليها.

خاصة مع ملاحظة وجود كل المقومات في كيان العائلة، فهي جماعة متكاتفة، من أب وأم وأخت وابن، وعم وخال وابن عم وما شابههم، وتتوافر فيها مقومات التعاون و التكامل، و بناء المجتمع كله، وعليه لا مبرر أبداً لإخراجها من المجتمع المدني.

وتترتب على هذا البحث ثمرة هامة، لأن بعض الدول قد أسست وزارة باسم وزارة مؤسسات المجتمع المدني، أو ما يقرب من هذا الاسم، فعندما يقول قائل-هم: إنَّ العائلة خارج دائرة مؤسسات المجتمع الدولي فستهمل العائلة، أو لا تحظى بالعناية والرعاية الكافية، والحال إن العائلة إذا تحطمت وضعفت وتفككت فذلك يعني تحطم أو ضعف أو تفكك كل المجتمع، فإن المعهد التربوي الأول هو العائلة، وهذا واضح، وقد ظهر من ذلك كله إن قولنا: إن العائلة داخلة في مؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني أو الإنساني ليست مسالة اصطلاحية و نظرية، وإنما هي مسالة عملية ذات آثار خارجية كبرى.

التنظيمات الاجتماعية الإرثية

كما يلاحظ على تعريف بعض علماء الاجتماع للمجتمع المدني ب-)أنه مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية( حيث نرى عدم صحة هذين القيدين أيضاً؛ إذ ليس من الضروري أن تكون هذه التنظيمات تطوعية وغير

ص: 54

إرثية.

أما الأن فنفصل في قيد (غير إرثية)(1) فنقول: إن تقييد مؤسسات المجتمع المدني بكونها غير إرثية، يوجب خروج اصناف مهمة في كيان المجتمع من دائرة هذه المؤسسات، تجمعات نظير العشائر، والطوائف والمذاهب، ما يعد من الاخطاء الكبرى.

فمثل القبائل والعشائر، التي يتداول فيها نظام التوارث كونها عائلة كبيرة تتوسع بمرور الزمن شيئاً فشيئاً، ويصير لها أفخاذ وأقسام، لتصل الى مئات الالوف او اكثر، يبنى البلد على سواعدهم لو ساروا - كما هو الغالب - سيرة صحيحة، مع ما تتميز بها من أخلاق حميدة جداً ، مع الاعتراف بوجود اخطاء و بعض السلوكيات غير المرضية فيها، شانها شان كل تجمع وجماعة، الا ان هذه العشائر لها قيمة كبيرة وهي تعد لبنة أساسية في صرح المجتمع المدني، فإخراجها منها خسارة كبرى للمجتمع المدني، قال الله سبحانه وتعالى:«وَجَعَلناكم شُعُوبًا وقَبَآئِلَ لِتَعارَفُوآ» ولذا نجد أنه إذا ثار العلم الحديث بأكمله ضد القبيلة، وأراد نسفها فإنه لا يستطيع؛ وذلك لأنها هي بنية طبيعية و إنسانية و الهية، فهي مثل العائلة التي يمكن تضعيفها، ولكن لا يمكن تحطيمها بالمرة.

«وَجَعَلناكم شُعُوبًا وقَبَآئِلَ لِتَعارَفُوآ» فكما لا يمكن إزالة الشعوب، لا يمكن القضاء على القبائل أيضاً، وكما يمكن أن يضعف شعب ويقوى شعب

ص: 55


1- البحث عن قيد ( التطوعية ) ومناقشته ياتي في الفصل السابع عند البحث عن مسؤولية الجماعات تجاه الجماعات الاخرى بما فيها الشركات و القطاع الخاص ومسؤولية هذه الشركات عن بناء الامة و تطويرها.

كذلك القبائل، إن الشعوب والقبائل حقائق تكوينية لا يمكن الغاؤها، وهي تشكل إحدى أهم مظاهر(التعددية) وأنماطها.

والغريب أن نجد هذه المصطلحات والتفسيرات تقوم - بشكل مقصود أو غير مقصود - بالسعي لتهميش العشائر، بل قد يكون هناك تعمد في الغاء دور العشائر في بناء البلاد، فيجري تعريف مؤسسات المجتمع المدني بحيث تخرج منها العشائر والقبائل والعوائل وما أشبه ذلك، وهذا خطأ فادح، وعند الكثير منهم مقصود، حيث يحددون المجتمع المدني بإطار ضيق هو (مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية) لتخرج بذلك المذاهب والطوائف بأكملها، والعشائر والقبائلجميعها، وهذا يعني إنهم تسلحوا بدعاوى (التحضر) و)الحضارية) لالغاء(التعددية) الطبيعية، ذات الأثر الكبير في بناء الأمم وتماسك المجتمعات على مر التاريخ، وذلك بمجرد كون هذا الانتماء (غير إرادي وغير تطوعي) لكنا نقول:

أولاً: هل أن كل انتماء غير إرادي هو غير حسن وغير صحيح وغير مفيد؟ ثانياً: إن هذه الانتماءات هي(إرادية) على مستوى الواقع الخارجي، فإن لكل منتمٍ لدين أو مذهب أن يستمر أو ينتقل الى مذهب آخر، كما أن أبناء العشائر ل-هم أن يفكّوا ارتباطهم بالعشيرة والقبيلة، وحينئذٍ تتحلل القبيلة من التزاماتها تجاههم أيضاً - كما هو جار في الكثير من العشائر -.

والمحصلة أن الانتماء النسبي الى العائلة والعشيرة هو انتماء غير إرادي، لكنه من حيث (العقد الاجتماعي الخاص) إرادي، بل إنه شيء محبب للنفوس، إضافة الى أن العوائل والعشائر إذا كانت متماسكة فإنها تتقدم أكثر،

ص: 56

وتتطور أكثر، وتسهم بشكل أفضل في بناء البلاد.

كما انه يتجلى لنا خطأ اخراج المجتمعات الإرثية من دائرة مؤسسات المجتمع المدني عندما نلاحظ مجموعة مهام مؤسسات المجتمع المدني، والغايات المتوخاة منها:

وأولها:(بناء المجتمع(، فإن من البداهة بمكان خطأ عزل العشائر والقبائل من المساهمة في بناء المجتمع، بل على العكس تستطيع العشيرة أن تساهم في بناء المجتمع أفضل مساهمة، وكذا العائلة؛ لأن المجتمع كله يتالف من العوائل، والعوائل هي القاعدة التي يبتني عليها المجتمع، فالمجتمع في الواقع يقوم على أكتاف العوائل و العشائر والطوائف ، وليس من الحكمة أبداً أن تعزل هذه الشرائح الهامة، والطاقات الجبارة فيها عن عملية البناء.

والمهمة الثانية: هي توفير الخدمات، ولا شك أن العشائر تقوم بدور رئيس في ذلك، وكذلك العوائل تقوم بأدوار في هذا الحقل، وفي سائر الحقول، وكذلك الطوائف والمذاهب.

والمهمة الثالثة: أن تكون الموازن الاستراتيجي للدولة، فتحول دون دكتاتورية الدولة، وقهرها وجبروتها، والسلطة الهائجة لها، والعشائر هي أفضل موازن استراتيجي لقدرة الدولة التي تستند الى الجيش، والتي تريد من خلال الجيش أن تستعلي على الأمة، وتتحكم في مصيرها بيد من حديد، بل إن الطوائف والمذاهب توجد بدورها توازناً في داخل البلد.

والمحصلة النهائية إنه بملاحظة العلة الغائية، والهدف المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني، نجد أنَّ العشائر والقبائل والعوائل والمذاهب تستطيع أن تكون - بل هي بالفعل كذلك - مساهماً رئيساً في كل هذه المهام، فلا يجوز

ص: 57

إقصاؤها عن دائرة مؤسسات المجتمع المدني أبداً.بل قد يقال بضرورة أن لا نحمل المسالة على حسن الظن؛ إذ يوجد هنالك غرض خفي من وراء ذلك؛ إذ إن هذا الإقصاء يصب بشكل او باخر في طريق استبداد الدولة، وتكريس نفوذها وقوتها، وتكريس الاستعمار من وراء ذلك، ذلك لأن الاستعمار في بلادنا - عادة - استند الى دول تتكئ على الجيش، فإذا كان للعشائر ثقلها و وفرت لها الشرعية واعُترِف بها رسمياً وبقوة كافية، كانت لا محالة الموازن الطبيعي للجيش، بما قد يقف امام جبروت جيش الدولة و طغيانها، نعم يلزم ان يكون ذلك تحت اطر وقواعد لئلا تخرج من اطارها و من الاهداف المرسومة لها، و لئلا تكون مطية لأطماع دول اخرى كأوراق للضغط و لكسب مطامع سياسية او اقتصادية او نفوذية.

لكن الملاحظ ان الاستعمار قد نصّب قادة مستبدين في بلادنا، يستندون الى جيش من المرتزقة، و جيش من الموظفين الذين لا يعرفون الا التمجيد والتسبيح للسلطان الجائر، من هنا كان اكثر ما يخيف الطغاة والظلمة هو العشائر المسلحة الوطنية والمتزنة و المدركة للمصلحة العامة، و غير القابلة للاختراق.

ومن هنا نعرف أن هذا القيد - (غير الإرثية) - غير صحيح على الإطلاق، بل هو مناقض تماماً للأهداف التي لأجلها يجب أن نرشِّد ونقوِّي مؤسسات المجتمع المدني.

وبذلك يظهر ايضاً عدم تمامية ما ذكره البعض من ضرورة افراز العشائر عن مؤسسات المجتمع المدني، كونها من المنظمات التقليدية، بينما تتسم مؤسسات المجتمع المدني، بالحداثة والحداثوية، إذ لا يبرر ذلك الغاءها

ص: 58

وإقصاءها، بل ما دامت الأهداف الثلاثة السابقة كان للعشائر والعوائل فيها أكبر الأدوار، فلتكن تقليدية، فما الذي يضر؟ ذلك إن هذه تسهم وتلك تسهم في بناء الوطن، وهذه توفر الخدمات، وتلك توفر الخدمات، وليكن هنالك تنافس بينهم، فهذه تحدّ من سلطان الدولة، وتلك تحد من سلطان الدولة وعنجهيتها.

وإذا اتضح عندنا هذا المقياس فسيتضح وجه عدم صحة الكثير من القيود التي ذكروها، كما أشرنا الى بعضها في المبحث الماضي.

موقف الشريعة من التنظيمات الإرثية

إن موقف الشرع تجاه التنظيمات الإرثية موقف إيجابي جداً، فقد ركز الشارع على التماسك الأسري بشكل كبير جداً، كما نجد تركيزاً كبيراً على مؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني بشكل عام، والعائلة بشكل خاص عبر اليات مختلفة منها صلة الرحم، فكلما ازداد الناس صلة للأرحام وتأسست مؤسسات لتقوية العوائل، وتقوية الوشائج والروابط كان المجتمع صالحاً مستقراً مزدهراً، وهذه وقفة مهمة جداً،وأنا أدعو جميع المهتمين، سواء المفكرين أم علماء الدين، أم أساتذة الجامعة للالتفات والتركيز على هذه النقطة الجوهرية المفصلية في مبحث مؤسسات المجتمع المدني.

وحتى نتعرف أكثر على المنطلق الإسلامي والمنطلق الغربي، ولماذا دعونا الى تغيير المصطلح، من مؤسسات المجتمع المدني الى المجتمع الإيماني أو الإنساني، علينا أن نتذكر مرة أخرى إن مفردة «المدني » لا تتضمن العشيرة ولا القبيلة ولا العائلة، وأن نلاحظ إنها تحمل الكثير من الظلال السلبية، كونها

ص: 59

تجعل(الشرعية) و)المحورية) للمدينة لا غير، وتحطم غيرها: الأرياف، العشائر وغير ذلك، بعكس مصطلح مؤسسات المجتمع الإيماني، ومؤسسات المجتمع الإنساني.

وعند ملاحظة الروايات التالية يتضح لنا المنطلق الإسلامي أكثر فأكثر، ففي رواية نقلها السيد الوالد 6 في كتاب (الفضيلة الإسلامية( ، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أوصي الشاهد من أمتي والغائب، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء الى يوم القيامة أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنةٍ فان ذلك من الدين»(1)، وما أعظمها من وصية؟! وما أقواها من دعوة؟! للشاهد والغائب.. والى يوم القيامة! إنها دعوة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) الى التماسك الأسري، عبر صلة الرحم، سواء أكانت الرحم قريبة، كأب، وابن، وأخ، وعم، أم بعيدة، كأبناء العمومة والخؤولة، بالمباشرة ام بوسائط وهكذا.

إن وصية الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) هذه ونظائرها من الوصايا، تسدّ الطريق على من يحاول وباسم مؤسسات المجتمع المدني أن يحطّم مهمة المجتمع، وأن يقضي على أهم مكونين من مكوناته، وهما: (العوائل( و)العشائر(؛ لأن الوصية بصلة الرحم وإن كانت على مسيرة سنة لا تعني إعطاء الشرعية للجماعات (الإرثية( و)غير الإرثية) - حسب مصطلحهم - فحسب، بل إنها دعوة صريحة لتقوية وشائج القربى وتكريس التشابك الأسري.

وتتجلى أهمية هذه الوصية بصلة الرحم وإن كانت على مسيرة سنة، في هذه الأزمنة، أكثر فأكثر، لأن العالم الآن يضج بالملايين من المهجّرين

ص: 60


1- الكافي: ج2 باب صلة الرحم ص 151.

والمهاجرين، فإن كثيراً من شعوبنا هم من الناس المهجّرين أو المهاجرين، من مختلف الدول الإسلامية من شمال أفريقيا الى الباكستان والهند، فالكثير من المسلمين قد هاجروا الى الغرب أو الى بلاد أخرى، من الشرق الى الشرق، ومن الغرب الى الغرب، والرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) يقول:«صل رحمك ولو كان على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدين» . وهذا يعني ضرورة تواصل الأرحام وان كانت الفاصلة بينهم مسيرة سنة - مشياً أو ركوباً - فلابد أن نمشي اليهم سنة حتى نصل-هم، ونزورهم، ونتفقد أحوال-هم، وإذا سرنا على هذا المنهج، سنرى كيف أن المجتمع سينهض من جديد، وسينمو ويزدهر ويستقر.لنتصور لو أن كافة الذين يعيشون في الأرجنتين أو البرازيل أو أمريكا أو اليابان أو الصين أو أي بلد فكروا في أهاليهم الموجودين مثلاً في لبنان، أو العراق أو أفغانستان أو غير ذلك، والعكس بالعكس، أي عالم رائع سيكون هذا العالم؟ وما الذي سينجم عن ذلك؟ إن الذي ينجم عن ذلك هو نوع فريد من التماسك والتكامل في المجتمع من جميع الجهات؛ إذ سيفكر كل فرد في الدفاع عن حقوقهم وعن حرياتهم، ويفكر في ايتامهم و فقرائهم ومساكينهم، ويفكر في سائر حاجاتهم! نعم، هذا هو منهج الإسلام، وهذه هي سلسلة من أهم مؤسسات المجتمع الإيماني أو مؤسسات المجتمع الإنساني، مؤسسة العائلة ومؤسسة العشيرة، والتي قوامها بصلة الرحم بمفهومها الواسع.

وفي رواية أخرى، وقيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله): من خير النَّاسِ؟ فقال: «أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَ أَوْصَلُهُمْ لَرَحِمِهِ»(1) والملاحظ إنه (صلی الله علیه و آله) ذكر بعد تقوى الله سبحانه

ص: 61


1- . مستدرك الوسائل: ج15 ص245.

وتعالى مباشرة الرحم ، وقال (صلی الله علیه و آله): «أن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموال-هم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة»(1) روي أنه لَما نزل قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» الآية، سأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) جبرئيل عن معناها. فقال: لا أدري حتى أسأل ربك! ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك.(2) سنتوقف قليلاً عند الآية الشريفة لكي نتدبر فيها تدبراً آخر، في اتجاهات العلاقات الاجتماعية في المجتمع المدني أو الإيماني، فهناك ست عشرة صورة أو أكثر من ذلك لكيفية هذا الترابط بين مكونات المجتمع المدني، وسنبيِّن أن نوعية هذه العلاقة هي نوعية الاتجاه الشبكي وليس العمودي.

المسؤوليات الاتجاهية في المجتمع المدني

إن اتجاهات المسؤولية واتجاهات العلاقة بين أفراد وشرائح المجتمع المختلفة يمكن أن نقسمها الى مجاميع أربع، وكل مجموعة من هذه المجموعات، تضم أربعة صور، فالصور المبدئية هي ست عشرة صورة، يمكن أن تتجسد فيها اتجاهات العلاقة والمسؤولية في إطار المجتمع، فهي بذلك أربع مجاميع وست عشرة صورة.كما إن صورة علاقات المجتمع الإسلامي أو الإنساني يمكن أن تكون

ص: 62


1- الكافي: ج3 باب صلة الرحم ص397.
2- عوالي اللئالي: ج2 ص137.

عمودية، أو أن تكون أفقية، أو هي مزيج من ذلك، حيث يمكن أن نعبر عنها بالعلاقات الشبكية، أي أنها ذات اتجاهات متقابلة من هذا الاتجاه ومن ذلك الاتجاه، وهي كالتالي:

المجموعة الأولى: هي تلك التي تبتدئ من الفرد.

والمجموعة الثانية: هي تلك المجموعة التي تبتدئ من الجماعة.

والمجموعة الثالثة :هي تلك التي تبتدئ من المجموع.

والمجموعة الرابعة: هي تلك التي تبتدئ من القمة أي الدولة.

وسينصرف البحث في الفصل القادم من الكتاب الى اتجاهات المسؤولية في المجموعة الأولى على صورها المختلفة الأربعة.

ص: 63

ص: 64

الفصل الرابع: مسؤوليات الافراد في منظومة الفكر الإسلامي

اشارة

ص: 65

ص: 66

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

اتجاهات المسؤولية المجتمعية في المجاميع الأربعة

اشارة

المجموعة الأولى: وهي التي تبتدئ من الفرد، وتتضمن صوراً أربعة:

الصورة الأولى: ان يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد الى الفرد أو للأفراد.

الصورة الثانية: ان يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد الى الجماعات بما هي جماعات.

الصورة الثالثة: ان يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد الى الجميع، أي للشعب كله وللأمة كلها.

الصورة الرابعة: يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد الى لدولة.

ص: 67


1- سورة التوبة: 71.

1- مسؤولية الأفراد تجاه الأشخاص

الصورة الأولى: هي الصورة المعهودة والتي تتداول بالبحث عادة، فالفرد مسؤول تجاه فرد اخر او افراد اخرين، مثل أن يزور جاره وأن يعود صديقه وأن يصل رحمه، أن يصل الأب والأخ، وابن الأعم، وهكذا، فهذه الصورة هي الصورة المعهودة، والتي يبدأ فيها اتجاه المسؤولية من الفرداتجاه الأفراد واتجاه أصغر لبنة في بناء المجتمع وهي العائلة، يقول تعالى: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا‚(1).

2- مسؤولية الأفراد تجاه الجماعات الأخرى

والصورة الثانية: و هي للأسف مما لا يلتفت اليها عادة، أو قليلاً ما يلتفت اليها، وهي التي يكون فيها اتجاه المسؤولية من الفرد الى الجماعات الاخرى، ففي رحاب الوطن يوجد هنالك مختلف أنواع مؤسسات المجتمع المدني من مساجد وحسينيات، و نقابات واتحادات وأحزاب ومنظمات، والأفراد عادة عندما يكونون أعضاء في تجمع أو هيئة أو حسينية أو مكتبة أو نادي شبابي وأي تنظيم آخر، يحسون بالمسؤولية تجاهه، فإذا حدثت مشكلة ما فإنهم يحسون أن عليهم المساهمة في حلها، كما نجد أن كل فرد يحاول أن يسدد أو يرشِّد المسيرة قدر المستطاع، لكن الأفراد بالنسبة الى التجمعات الأخرى التي ليسوا أعضاءً فيها، لا يعتريهم ذلك الاحساس بالمسئولية تجاهها، وهذا مما يخالف عموم المسؤولية المشار اليها في هذه الآية القرآنية الشريفة: «وَالمُؤْمِنُونَ

ص: 68


1- سورة التحريم: 6.

وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» فإنه لا فرق، سواء أكان الفرد عضواً في تجمع أم لم يكن، فهو مسؤول تجاهه.

وكمثال على ذلك، ما لو حدثت مشكلة في الناحية الاقتصادية وتعرضت الهيئة او التجمع لضغط مالي أو إفلاس، فإن المنتمي لها سيتصدى للحل بنشاط و اندفاع ، بخلاف ما لو حدثت المشكلة في تجمع آخر منافس فإننا نجد هذا الشخص لا يرى نفسه ملزماً تجاهه، ويقول عندها أن لا وجود لعقد اجتماعي بيني وبينهم، وأن عقده كان فقط بينه وبين نقابته، مع اتحاد الأطباء أو اتحاد الصحفيين ، أو المسجد أو العشيرة.

وكذلك إذا حصل نزاع في عشيرة أخرى، فإنه سيقول أن لا رابطة بينه وبين تلك العشيرة الأخرى، فلا مسؤولية عليه.

وكذلك إذا حصلت مشكلة في بلدته، فهو يرى نفسه مسؤولاً تجاهها، ولكن إذا حدثت المشكلة في بلدة أخرى فهو لا يحس بالمسؤولية تجاهها.

هذه الطريقة من التفكير تعدّ من وجهة نظر إسلامية طريقة مدانة، ذلك أن الإنسان كفرد مسؤولٌ تجاه الأفراد أولاً، وهو كفرد مسؤولٌ تجاه التجمعات ايضاً، فأي تجمع في البلد، إنسانياً كان أو دينياً، هو مسؤول تجاهه، فان «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(1).إن الأساس والبنية التحتية والمنظور العام هو في المسؤولية المتقابلة والمتشابكة والمتعددة الاتجاهات، تجاه كافة مصاديق ومفردات مؤسسات المجتمع المدني ، فإذا عاش كل الأفراد بهذه الروح فستختلف الحالة تماماً، وسنكون

ص: 69


1- عوالي اللئالي: ج1 ص129.

حقاً مصداقاً ل-«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» وسنجد حينئذٍ إنه لو حدث من الناحية الإدارية ضعف في إحدى المؤسسات كحوزة او كلية او مدرسة او مكتبة او تنظيم اخر، فإن الكل سيهبّون للنجدة، كل واحد بشكل ما، فقد يكتب رسالة يضمنها بعض المقترحات ويبعثها لتلك الجهة، أوقد يلتقي بالمسؤول أو قد يبعث شخصاً، أو قد يكتب دراسة حول هذا الموضوع، وغيرها من الطرق الأخرى المتعددة.

3- مسؤولية الأفراد تجاه(جميع) أفراد الأمة

اشارة

الصورة الثالثة: وهي اتجاه المسؤولية من الفرد الى الجميع، فسيكون الفرد مسؤولاً تجاه الجميع، وكل شخص سيكون كجندي تحت الطلب.

ومن ابرز مصاديق ذلك اذا تعرضت البلاد بأجمعها لهجوم أجنبي كاسح، فان الأفراد بأجمعهم يجمعهم حينئذٍ حس مرهف وموقف موحدا تجاه الهجوم الأجنبي العسكري، وتجدهم جميعاً يهبون متكاتفين متعاونين لدحر الأجنبي، هذا بعضلاته وذاك بماله والآخر بإعلامه وقلمه، وكمثال على ذلك الاستعمار الغربي أو الشرقي، الذي داهم بلادنا واحتلها؛ إذ نجد أن كل فرد يحس بالمسؤولية في مقابل إسرائيل أو أمريكا، أو أية دولة أخرى تحتل بلداً إسلامياً، أو بلداً من بلاد العالم، بشكل هجوم مسلح، فكل فرد عند هذا الشكل من الغزو يحس بالمسؤولية تجاه الوطن كله.

لكن الغريب والمؤسف غياب هذه الروحية وهذا التصدي العام في حالة الأشكال الأخرى من الغزو.

ص: 70

مسؤولية الفرد تجاه الغزو الأخلاقي

فإننا نجد الامر في حالة الشكل الآخر من الهجوم المذهل، وهو الهجوم الأخلاقي عبر الفضائيات الفاسدة المفسدة والمنحدرة، وعبر شبكة الإنترنيت وغيرها من وسائل التواصل والاعلام، نجد الأمر بالعكس تماماً؛ إذ نجد الأفراد مفككين، متناثرين، مشلولين، لا يجمعهم جامع، بل نجد أكثرهم لا يهتم بما يتعرض له سائر الأفراد، من ضياع وانحلال وانحراف، بل إن أهمّه أمر فهو حفظ نفسه أو عائلتهأو بعض أصدقائه على أفضل الفروض، ولكن أين هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه كافة أبناء الوطن؟ وأين هو التخطيط الموحد؟ وأين هو العمل المشترك؟ الم يقل الله جل اسمه: «وَتَعَاوَنُوا عَلَی البِرِّ وَالتَّقوَى»(1).

ولنضرب لذلك مثلاً: فإن بعض الفضائيات تبث نوعاً من المسلسلات والأفلام، التي تحطم مئات الالوف من العوائل، وتزلزل البلاد من أقصاها الى أقصاها، وهذا خطر يهدد البلاد كلها؛ وقد بلغت نسبة مشاهدة بعض المسلسلات الفاسدة حسب الاحصاءات حوالي ثمانين مليونا، وهي تفسد الكثير من العوائل، بما فيها من انحلال و رذيلة، ان هذا النوع من الهجوم وان لم يكن عسكرياً، لكنه أخطر من الهجوم العسكري بمراتب، كونه هجوماً أخلاقياً يحطم العوائل في بحر المجتمع، ويميع الهوية والاصالة.

ولذا لم يكن من الغريب ان نجد أن نسبة الطلاق في إحدى البلاد العربية وصلت قبل عدة سنوات الى حوالي 40%، وأما هذه السنة فقد بلغت نسبة الطلاق في هذا البلد العربي الإسلامي ذي الأكثرية المطلقة المسلمة حوالي

ص: 71


1- سورة المائدة: 2.

62%، وهو رقم مذهل، وما ذلك الا من نتائج هذه الفضائيات الفاسدة، والشبكة العنكبوتية، والأقراص المدمجة المتضمنة أشياء وأشياء، وليس ذلك الا نتاج الجامعات ونظامها، والأسواق وأسلوبها، والشركات وكيفية خلطها أو دمجها بين الرجال والنساء، حيث يضعونهم في مكان واحد، وفضاء واحد، وهو طريق يفتح الأبواب على مصراعيه للفساد.

إن الآية الشريفة: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» تكشف عن شمولية المسؤولية، وأن كل فرد مسؤول عن كل الوطن الإسلامي، وعن كل الناس؛ لأن هذه البرامج المفسدة تحطم البشرية بما هي بشرية.

وعلى ضوء الآية القرآنية الكريمة، على العوائل كافة أن تتصدى بكل قوة للفضائيات والإذاعات الفاسدة، ولشركات الإنتاج الفني الفاضحة ونظائرها، وذلك باتباع الطرق التالية:

1- أن ترفع العوائل شكوى قانونية رسمية لدى الأمم المتحدة، ولدى دولتهم، ولدى تلك الدولة التي تبث عبرها تلك الفضائية. وكما أنه إذا تعرض المنزل للسرقة فإنه يجب أن يشتكي المتضرر، كذلك يجب أن يكون الموقف تجاه هذه الفضائيات التي تقوم بسرقة الإيمان والأخلاق والفضيلة، وتحطم البنية الأساسية في المجتمع.

2- أن يقاطعها الناس ويقاطعوا كل من يعمل بها.3- أن يبعث الناس بملايين الرسائل الالكترونية عبر البريد الالكتروني، احتجاجاً واعتراضاً الى نفس هذه الفضائيات والقائمين عليها، ولدولها وللأقمار التي تبث عليها وللجهات التي تمولها.

4- كما يجب عليهم القيام بمظاهرات سلمية واعتصامات أمام مقارّ تلك

ص: 72

الفضائيات أو الإذاعات.

فإذا قامت العوائل بكل ذلك فسوف تغلق تلك الفضائيات الفاسدة المفسدة، ولن تتجرأ بعدها على مواصلة مسيرة الافساد.

إن مكافحة الفضائيات الفاسدة والمفسدة والأفلام والبرامج والنشرات غير الأخلاقية، التي تغزو البلاد الإسلامية بأكملها، و التي لا تزال تتطور يوماً بعد يوم مع الأسف الشديد، هي مسؤولية كل إنسان؛ لأنها تتجاوز مسؤوليته الشخصية تجاه ذويه وخاصته، كونها فتنة أخلاقية عامة، وعلى كل إنسان أن يتصدى لها.

4 - مسؤولية الأفراد تجاه الدولة

أما الصورة الرابعة: فهي التي يكون الاتجاه فيها من الفرد للدولة، وإن من الغريب والمؤسف جداً أن نجد حالة عامة من اللامبالاة في كافة الدول الإسلامية تجاه قرارات الدولة، فالدولة تشرّع وتسن عبر البرلمان قوانين مختلفة، وتجري معاهدات دولية وغير دولية، والناس غائبون عن كل ذلك وتداعياته، وأكثرهم لا يعرفون ما يحدث، وأما من يعرف فإنه - غالباً - لا يتصدى لعمل حقيقي ميداني، حتّى لمثل كتابة رسائل احتجاج أو مقالات أو دراسات، متذرعاً بأنه لا يرى فائدة ترجى منها، و سیكون الناتج من ذلك كله أن تتحول الدولة الى دولة مستبدة، أو تزداد استبداداً فيما اذا كانت من اساسها مستبدة.

ولنعرض القصة المعبّرة التالية: يقال: كان هناك شيخ عشيرة، وكان الناس يطلقون له هتافات التأييد ويقدرونه، فقال له أحد المستشارين: إنَّ هذا

ص: 73

الحب وهذا التقدير صوري ومظهري وليس حقيقياً، فقال له: كلا، بل الناس يحبونني حقيقاً.

فقال المستشار: إن الطريقة لكشف حقيقة ذلك سهلة، لنصنع خزاناً كبيراً ونضعه في الميدان العام ، بعد ذلك نقول للناس إن كل من يحب شيخ العشيرة عليه أن يأتي الى الخزان في منتصف الليل، حيث لا أحد والوقت متسع طوال الشهر المقبل، وعليه أن يصب فيه كيلوغراماً من العسل، فسيفعل ذلك من يحب شيخ العشيرة فقط. تصور الشيخ أن الجميع سيفعلون ذلك بمليء إرادتهم ودون رقابة أو حساب، وبعد أن انقضت مهلة الشهر وإذا بالخزان فارغ تماماً؛ لأن الجميع تصوروا أن لا فائدة من وضع العسل في الخزان سراً، كما تصوروا أن الآخرين سيضعون العسل، ولا يتبين مقدار الفرق.. وهكذا كان.. كل واحد فكر بهذه الطريقة، وإذا الخزان فارغ! وسواء أ كانت هذه القصة حقيقية أم رمزية، لايهم ذلك إنما المهم إنها قصة تحدث كل يوم في مختلف بقاع الأرض، واليكم إحدى تجسيدات هذه القصة العملية في بلادنا، والتي كشفت عن ظاهرة عامة:

منذ مدة وجيزة في إحدى البلاد الإسلامية، كان الكثير من الناس يتكلمون حول بعض ما يدور خلف الكواليس في الدولة(1)، أو بعض القوانين والقرارات الغريبة(2)، التي ينبغي أن يتصدى لها الناس، و كان يسالني الكثير عن فائدة عمل الفرد الواحد! فقلت ل-هم: عندما يفكر الجميع بهذه الطريقة فالنتيجة ستكون مثل الذي حصل في خزان العسل، أما إذا فكر الجميع أن

ص: 74


1- من سرقات واختلاسات ورشاوي ومن اتفاقيات سرية تعقد دون اٴي يعرف الناس عن حقيقتها شيئاً.
2- القوانين التي تصادر الحريات وتكمم الاٴفواه وتسحق الحقوق.

يصنع شيئاً، كأن يدعو لمظاهرة ويشارك في اعتصام أو يكتب مقالة أو دراسة أو يتواصل مع سائر الجهات، فالدولة لا تتجرأ عندئذٍ على أن تنتهك حرمات الناس، وعندئذ ستجد نفسها مجبرة على إنجاز مهامها، مثلاً: إعمار سامراء فوراً، وليس بتراخ ولفترة طويلة، أو لإعمار البقيع فوراً، أو لتوزيع الأراضي على الناس بالمجان(1) فإذا أحسّ كل شيعي وكلّ مسلم، وكلّ موال لأهل البيت % بأنه مسؤول؛ لأن الله سيحاسبه وهو في قبره، سواء أدى الآخرون أدوارهم أم لم يفعلوا، عندها ستكون الأحوال بخير.

وعليه، فإن الصورة الرابعة في هذه المجموعة، هي اتجاه المسؤولية من الأفراد الى الدولة، وهذه هي الصور الأربعة للمجموعة الأولى من اتجاهات المسؤولية للأفراد، تجاه الفرد والجماعات والمجتمع والدولة.

المسؤوليات المجتمعية للفرد في ضوء الروايات الشريفة

تضع الروايات الآتية الأساس الأخلاقي والشرعي لهذه المسؤولية المتعددة الأبعاد، بعضها الزامي وبعضها غير الزامي، وقد يكون اقتضائياً أو لااقتضائياً، فقد ورد في الرواية الموجودة في الكافي الشريف، عن أبان بن تغلب، قال: سالت أبا عبد الله (علیه السلام) حق المؤمن على المؤمن؟ فقال (علیه السلام): «حقالمؤمن على المؤمن أعظم من ذلك لو حدثتكم لكفرتم»(2) ولا يخفى ان كل

ص: 75


1- (الاٴرض لله ولمن عمرها) كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فليست ملكاً للدولة، ولا يحق لها اٴن تمنع الناس من حيازة الاٴراضي واعمارها، بل للكل اٴن يبادر بحيازة ما شاء من الاٴراضي للبناء اٴو للزراعة و غير ذلك، وانما قلنا (توزيع) من باب التنزل ليس إلا، فراجع (الفقة: الدولة الإسلامية والفقه الاقتصاد للإمام الشيرازي).
2- الكافي: ج2 ص191.

حق فإنه يستتبع مسؤولية الشخص تجاه الشخص الاخر، واعظم من ذلك يعني أعظم من الذي تتوهمه، و لكفرتم يعني لكفرتم بهذا الكلام، مع إنه يؤمن بالأئمة %، كقادة للبشرية، ويؤمن بأنهم معصومون وأئمة، إذا كان شيعياً، أو يؤمن بأنهم من قمم البشرية، إذا كان غير شيعي، ولكن مع ذلك، فالإمام يقول: لو حدثتك بواقع الموضوع والأجر العظيم لكفرت.

(السرور) المتجسد في عالم الآخرة

وفي رواية اخرى يشير الإمام (علیه السلام) الى نقطة هامة جداً، حيث يقول (علیه السلام): «إن المؤمن إذا خرج من قبره، خرج معه مثال من قبره، يقول له: أبشر بالكرامة من الله والسرور، فيقول له: بشرك الله بخير. قال (علیه السلام): ثم يمضي معه يبشره بمثل ذلك،و إذا مر بهول قال ليس هذا لك، و إذا مر بخير قال هذا لك، فلا يزال معه يُؤمِنه مما يخاف، ويبشره بما يحب حتى يقف معه بين يدي الله عزوجل، فإذا أمر به الى الجنة قال له المثال: أبشر بالجنة فإن الله عزوجل قد أمر بك الى الجنة، فيقول له: من أنت يرحمك الله بشرتني حين خرجت من قبري و آنستني في طريقي وخبرتني عن ربي؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت تدخله على أخوانك في الدنيا»(1).

ولكي تتضح الصورة جيداً، لنتصور شخصاً يسير في الصحراء الموحشة لوحده وقد ضل طريقه، فإذا التقى بشخص يعرف مجاهيل الصحراء فسيفرحه ذلك، وسيساعده على مواجهة الأخطار، وإن صحراء المحشر هي أعظم وأكبر وأخطر بكثير من صحاري الدنيا بما لا يقاس و لا يدرك، فكم يفرح المؤمن لو

ص: 76


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص 396 -397.

جاء معه من يشجعه ويشد من أزره ف--(يقول له بشرك الله بخير ثم يمضي معه يبشره بمثل ما قال) أي إنه يؤكد عليه الكلام ويطيب خاطره، او كأناس يسيرون في صحراء خاوية تواجههم سباع ضارية، وبجوارهم من يدافع عنهم و يدفع عنهم، فحينئذ سيحسون بالأمن والاطمئنان.

ويتضح الامر ايضاً في مثال المهاجرين الذين يهاجرون الى بلد آخر طلباً للجوء او غيره ، إذ تجرى مقابلة معهم تطرح فيها اسئلة ان اخطأ في اجابتها او بعضها فيرفض طلبه، أما إذا كان في جواره خبير يرشده ويوضح له فإنه سيشعر بالطمأنينة، وعموماً فإن المرافق الخبير يعد خير سند وعون للإنسان، وإذا ما مر بمتاعب قال له إن هذا ليس لك، وإذا مر بخير قال هذا لك، كما لو بشرك الخبير بأنك بعد شهر ستشفى من هذا المرض، الا يؤثر ذلك على معنوياتك؟ (فلا يزال معه يُؤمِنه مما يخاف، ويبشره بما يحب حتى يقف معه بين يدي الله عز وجل، فإذا أمر به الى الجنة قال له المثال: أبشر فإن الله عز وجل قد أمر بك الى الجنة، فيقول له: من أنت يرحمك الله) لقد كان خير مرافق طوال المسيرة التي استمرت الوف السنين (في يوم كان مقداره خمسين الف سنة)ولقد كان طوال هذه الفترة كمثل من يخدم الآخر مجاناً في أصعب الظروف وأحلك الأوضاع في منطقة خطرة، الا يحس الفرد عندئذٍ أنه مدين له بشكل غريب؟ الى أن قال: (فيقول: أنا السرور الذي كنت تدخله على إخوانك في الدنيا) وذلك مثل مَن عليه دين فتقضي دينه وتفرحه، أو شخص مقبل على الزواج فتسعى لإنجاح أمر زواجه، أو شخص ملقى في السجن ظلماً فتساعد لإطلاق سراحه، أو نزاع بين أخوين تصلح بينهما، وهكذا في مختلف الأنشطة والخدمات، التي تكشف عن إحساس الفرد بعمق المسؤولية تجاه الناس.

ص: 77

والحاصل: إن هذا المنقذ الغيبي هو السرور الذي كنت تدخله على إخوانك في الدنيا، وقد تجسد(السرور) في هذا المنقذ فيقول له: أنا خلقت منه لأبشرك وأونس وحشتك!! وتجدون هذه الرواية ونظائرها في كتاب وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة، وفي كتاب العشرة من بحار الأنوار، وكتاب الفضيلة الإسلامية وغيرها.

مجتمع(التنافس الإيجابي)

إن الرواية الشريفة التالية تشير الى واحدة من أهم القواعد الباعثة على ترشيد وتطوير مؤسسات المجتمع الإيماني، وتكريس الإحساس بالمسؤولية، كأفراد وكجماعات وكمجموع أيضاً، وقد رواها السيد الوالد 6في كتاب )الفضيلة الإسلامية(، عن بحار الأنوار، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله الا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله به ملكين واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته(1)».

ونلاحظ هنا في الرواية مدى روعة كلمة (تنافسوا) فلو كان على شخص دَين مثلاً فقد يذهب أحدهم ليسدد دينه، وما أقل الناس من هذا القبيل، وقد (يتنافس) الأفراد على ذلك بمعنى أن أسرع وأبادر لكي أقضي دينه، وأن يسارع الآخر ويبادر، وذاك الثالث أيضاً يحاول أن يسبقنا معاً.. وهكذا.. وإذا اصبح

ص: 78


1- الكافي: ج2 ص195.

المجتمع كله في حالة تنافس على الخير.. فهل يبقى عندئذٍ فقير أو شخص عاطل عن العم؟.

إذا تنافسنا كأفراد وكمؤسسات وكدولة، و معهم الناس ، لتوفير فرص العمل للعاطلين، فهل يبقى عندئذٍ عاطل، أو محروم، أو مظلوم؟ و إذا تنافسنا لالغاء التشريعات الكابتة للحريات، وإذا تنافسنا في تكفل الأيتام والمساكين التي تزداد يوماً بعد يوم اثر الحروب والفتن ، فهل يبقى يتيم بدون قيّم، وبدون راع، وبدون مهتم بشؤونه؟وإذا عملت مجتمعاتنا بهذه الرواية وحاولت اتخاذ (التنافس في المعروف( منهجاً في الحياة، الا يكون هذا المجتمع المدني قمة القمة؟ نعم، إنه سيكون بالفعل مجتمعاً إيمانياً مزدهراً متطوراً مستقراً، بل سيكون المظهر للمدينة الفاضلة.

(تنافسوا في المعروف لإخوانكم ) يعني فيما يعني: التنافس في مختلف المجالات و بمختلف المستويات، ومنها التنافس في تثقيف الناس وتوعيتهم، فحينئذٍ لن يبقى أميّ في القراءة والكتابة، ولا أميّ في المسائل الشرعية، ولا أميّ في الفكر والثقافة، بل ولا أمي في السياسة والاقتصاد والإدارة!.

والحال نفسه إذا تنافست المجاميع الاربعة كلها في إغناء الفقراء، وفي تشغيل العاطلين عن العمل، وفي تأسيس صناديق الإقراض الخيري، وفي تأسيس المستوصفات والمستشفيات وغير ذلك.

فقوله (علیه السلام): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم» تشكِّل الإطار العام، والبنية التحتية والمنطلق الأخلاقي، الذي يؤسس لمجتمع مدني متطور إيماني مزدهر متكامل حقيقي.

ص: 79

نعم، ولكن ذلك التنافس بإطاره الواسع الشامل كمّياً وكيفياً، وفي كلتا الجهتين (فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل به الله عز وجل ملكين) لنلاحظ لطف الله، وهذا يعني أنه سيتواجد مليارات من الملائكة أو أكثر - على حسب التعداد - موكلين بالذين يقضون حوائج الناس (أحدهم عن يمينه وآخر عن شماله يستغفران له ربه) ولعل الفرق بين استغفار الإنسان لذنبه واستغفار الملائكة له، في أن استغفاره لنفسه مشروط بشروط الاستغفار الحقيقي، وهي الشروط الستة التي ذكرها أمير المؤمنين (علیه السلام) لكن استغفار الملائكة له غير مشروط، فإذا استغفرت الملائكة له يغفر الله له، خاصة إن الملكين بأمر الله يستغفران له ربه، فتأمل . (ويدعوان بقضاء حاجته) ذلك أن له أيضاً حاجاته، فإذا مشى في حاجات الناس يسهل الله حاجته.

ثم قال الإمام الصادق (علیه السلام): «والله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أسرُّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت اليه من صاحب الحاجة»(1) ولعمري أن ذلك يكفي أجراً - وأي أجر - ! على قضاء حوائج الناس أن تدخل السرور على قلب سيد الرسل وحبيب اله العالمين! ولنتصور - كمثال - أنه لو كان أحدهم مسجوناً ظلماً، ومحكوماً عليه بالسجن لعشر سنوات، مثلاً، أو فقيراً لشدة فقره لا يقدر أن يعيل عياله، أو ما أشبه ذلك، فالإنسان لو نفّس كربته وأخرجه من السجن أو منحه ما يغنيه فأية فرحة عظيمة ستملأ قلب ذلك السجين أو الفقير! إن الإمام الصادق يقول: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (اشد فرحاً) من صاحب الحاجة، وهذا يعني أيضاً إشراف رسول الله على عالم الإمكان.

ص: 80


1- الكافي: ج2 ص195.

والحاصل: إن أي مؤمن قضى حاجة لأي مؤمن، فإن الملائكة أو غيرها(1) تنقل الخبر فوراً لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فهو في ذلك العالم سيسر وأي سرور إذا أدخلت السرور على قلب رسول الله(صلی الله علیه و آله) فأي بركة الهية ستشملك.

وفي رواية أخرى لا تقل روعة عن تلك الرواية: «ما قضى مسلم لمسلم حاجة الا ناداه الله تبارك وتعالى عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة»(2). فالله ~ سيتكفل ثوابه، والله سبحانه وتعالى جواد كريم فكم سيعطي؟ ولنلاحظ إنه إذا كان أحدهم يمتلك عشرة دنانير، فقال أنا أثيبك، فكم سيعطيه؟ لكنه إذا كان يمتلك ملياراً فقال أنا أثيبك، فكم ستكون العطية إذا كان جواداً كريماً؟ فكيف بالله سبحانه وتعالى، وكل شيء بيده (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن) فيخلق ب-)كن) الى ما شاء الله من العطايا والمنح والهبات «عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة».

وهناك رواية أخرى ذات دلالة بالغة أيضاً، فقد ورد في رواية عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من طاف بهذا البيت طوافا واحدا كتب الله عزوجل له ستة الاف حسنة، ومحى عنه ستة الاف سيئة، ورفع له ستة الاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله له سبعة أبواب من ابواب الجنة» [يقول الراوي:] قلت له:جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف؟ قال (علیه السلام): «نعم! وأخبرك بأفضل من ذلك، قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف» حتى بلغ عشرة(3).

ص: 81


1- أو إن له(صلی الله علیه و آله) إشرافاً مباشراً، واحاطة تامة بكل ما يجري من غير توقف على نقل الملائكة للأخبار.
2- الكافي: ج2 ص194.
3- الكافي: ج2 ص194.

هذا علماً بأن تجليات قضاء حاجة المؤمن لا تنحصر في امر او امرين فقد يكون في شربة ماء، أو إهداء كساء، ومع ذلك نجد البعض قد يتكاسل عن أن يناول قدح الماء لأخيه الأصغر أو الأكبر أو لأخته، أو ان الزوج يتثاقل عن أن يعين زوجته في شؤون المطبخ، وما الذي يضيره لو إنه دخل للمطبخ وأعطى ما يسر به زوجته، من فاكهة أو قدح ماء، أو ما أشبه ذلك، اليس بذلك سيسرّ رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ أوَ ليس إن الله يعطيه بذلك ثواب طواف وطواف وطواف وطواف، الى عشر طوافات؟! وهكذا وهلم جراً.

إن الناس بأجمعهم إذا تمثلوا هذه المعاني السامية فإن وجه الأرض سيختلف، ورحمة الله سبحانه وتعالى ستمطر علينا من جديد، وسنؤسس بذلك لأكمل وأفضل وأرقى مجتمع مدني على وجه الأرض.. وهذا هو المنطلق الأخلاقي والمنطلق الشرعي، الذي يؤسس للمسؤولية الشرعية والأخلاقية المتقابلة بين أفراد المجتمع.

وهناك بعض الكلام لبعض فلاسفة الغرب حول مؤسسات المجتمع المدني يتوجب نقده في المباحث القادمة إن شاء الله.

ص: 82

الفصل الخامس: مسؤوليات الدولة تجاه نفسها والفرد والمجتمع

اشارة

ص: 83

ص: 84

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1)».

المسؤوليات المجتمعية للدولة

المجموعة الثانية من سلسلة المجاميع الأربعة للاتجاهات المجتمعية، هي التي تبدأ من الدولة، ذلك إن مسؤوليتها رباعية الأبعاد، و بأربع صور، فعليها مسؤولية تجاه الأفراد أولاً، و مسؤولية تجاه المجاميع والتجمعات والمؤسسات ثانياً، و مسؤولية تجاه المجموع، وتجاه الجميع ثالثاً، والفرق بين الجميع والمجموع بالهيئة الاعتبارية للمجموع، كما ان للدولة أية دولة مسؤوليةً تجاه نفسها أيضاً، رابعاً.

فكما أن الإنسان مسؤول عن نفسه، ويجب أن يحاسب نفسه، ففي الحديث: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا»(2) كذلك

ص: 85


1- سورة التوبة، الآية 71.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص99.

الدولة مسؤولة عن محاسبة نفسها، وعليها أن تزن نفسها قبل أن يزنها الناس ويطيحوا بها طوعاً بالانتخابات، أو كرهاً بالثورات.

وتوضيح هذه الصور الأربعة:

1- مسؤولية الدولة تجاه الأفراد:

الصورة الأولى: إن الدولة مسؤولة تجاه الأفراد، ويتجلى ذلك فيما يتجلى في مسؤوليتها في البعد الاقتصادي من توفير فرص عمل لكل إنسان، خاصة اذا لاحظنا ارتفاع نسبة البطالة في بلادنا بشكل غريب؛ إذ هنالك الملايين من الناس عاطلون، فمن المسؤول؟ كما أن على الدولة توفير أرض لكل إنسان، وما على الدولة الا أن ترفع يدها عن الأراضي، فإن هذه الأراضي هي أراض لله والناس عبيد الله «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(1) فلماذا تكون الدولة حاجزاً بين عبيد الله وبين أراضي الله؟ بل يجب عليها أن تدع كل شخص يتملك المساحة التي يحتاجها من الأراضي، فيبنيها أو يزرعها أو يستثمرها، فعلى حسب الإحصاء العلمي التقريبي فإن قيمة الأرض من مجمل قيمة الأرض والعقار المبني عليها تتراوح على حسب المناطق بين 40% الى 70%.

فإذا رفعت الدولة يدها عن الأراضي، فإن تكاليف تملّك دار سكنية ستنخفض بنسبة 40 الى 70%، وعندئذ سيكون الأكثر ذوي مساكن، وتحل بذلك مشكلة السكن الى درجة كبيرة، ومشكلة البطالة، وسيوجه ذلك ضربة

ص: 86


1- سورة البقره: الآية 29.

قوية جداً للتضخم والفقر والحرمان.

2- مسؤولية الدولة تجاه المؤسسات

الصورة الثانية: مسؤولية الدولة تجاه المؤسسات، وليس فقط تجاه الأفراد، فإذا ضعفت أو ضمرت أو انهارت مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني، فالمسؤول الأول وليس الأخير هي الدولة، فعلى كاهل الناس والعلماء والجامعات والحوزات العلمية ايضاً تقع المسئولية، الا ان المسئول الاول هي الدولة كونها تملك إمكانات هائلة ولها يد ضاربة، و القدرات بيد الدول عادة، فإذا انهارت مؤسسة واحدة او وجدت مكتبة أو مسجد أو مدرسة أو حسينية لم تعمر، أو لم تكن كما ينبغي، أو معمل أو مصنع واحد اغلقت أبوابه فإن الدولة هي المسؤولة، والآن تجدون ما أكثر المدارس والمكتبات والمساجد والحسينيات التي ليست على ما ينبغي، تفتقد الى حاجاتها الاولية من انارة او تكييف او تهوية فضلاً عن حاجاتها الاساسية البنيوية، فالدولة مسؤولة عن كل ذلك، ومما يجب التنبيه عليه ان مسئولية الدولة لا تقتصر في الحفاظ على هذه المؤسسات فحسب بل انها مسؤولة ايضاً عن توفير المناخ والارضية المناسبة لكل هذه المؤسسات لكي تنمو وتزدهر وتتطور، ومن ضمن توفير الارضية الحد من هجرة العقول و المفكرين.

و من ضمنه ايضاً وعلى أقل تقدير، المنع من سن القوانين الكابتة للحريات، فإذا رغب أحدهم في تأسيس منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان، أو حقوق السجناء، أو منظمة لرعاية الأيتام، أو لرعاية المساكين والعناية بهم، أو أي شيء آخر، فاللازم على الدولة كأقل ما يمكنها فعله هو عدم سن القوانين

ص: 87

الكابتة، وأول قانون كابت هو الاستجازة من الدولة، واستحصال الترخيص منها فيماإذا أراد فرد او مجموعة أن تؤسس منظمة خيرية أو دينية أو إنسانية، فلماذا يجب أن يستجيز من الدولة؟ والحال إن(الولاية) ليست لها بذلك، فهذا قانون كابت، والناس كل-هم أحرار (الناس مسلطون على أموال-هم وعلى أنفسهم).

تعريف هيجل للمجتمع المدني

ومن هنا نعرف أن التعريف الذي ذكره أحد فلاسفة الغرب، وهو هيجل في كتابه (مبادئ فلسفة الحق(، المطبوع عام 1812، هو ناقص وخاطئ من جهات عديدة، نشير الى جهة واحدة، يقول التعريف: (إن المجتمع المدني يقع بين الأسرة والدولة) وهذا كما سبقت الإشارة اليه غير دقيق؛ لأن المجتمع المدني لا يقع بين الأسرة والدولة، وإنما يضم الأسرة أيضاً، وفي الواقع إن المجتمع المدني يقع بين الأفراد وبين الدولة؛ تتوسطها المؤسسات، وأول مؤسسة هي العائلة الى أن نصل الى الدولة.

ثم يقول: (بأنه يتكون من الأفراد)، وقد سبق تبيان أن هذا خطأ؛ إذ لا يتكون المجتمع المدني من الأفراد، بل إن (وحداته) هي (الجماعات(، وأما (الأفراد) فهم عناصر تتكون منها الجماعات وليس (المجتمع المدني(، الل-هم الا أن يتراجع عن قوله:(إن المجتمع المدني يقع بين الأسرة والدولة(، ويلتزم بأنه يتكون من الأفراد والطبقات والجماعات والمؤسسات.

وبيت القصيد هنا في تعريفه: (إنها - أي: مؤسسات المجتمع المدني - تنتظم كلها داخل القانون المدني(، ونحن نقول ان التقييد بالانتظام داخل القانون

ص: 88

المدني غير صحيح لوجهين:

الاول: إننا نلاحظ في الكثير من دول العالم الإسلامي نهوض الناس في وجه استبداد حكوماتهم، مع ان هؤلاء المنتفضين والثائرين من مؤسسات و احاد وعوائل وقبائل كلها أو كثير منها لم تنتظم في داخل دائرة القانون المدني، فعندما نقيد المجتمع المدني بهذا القيد " ان تنتظم داخل القانون المدني" فذلك يعني خروج هؤلاء من المجتمع المدني كونها غير منتظمة داخل القانون المدني، وذلك ما يوجب اعطاء الشرعية للسلطات الجائرة في قمع هذه الحركات والانتفاضات والثورات التي تقوم بها هذه المؤسسات والافراد، وذلك لأن هذه السلطات بمجالسها النيابية الديكورية قد وضعت قوانين مدنية، مما ينتج ان أية انتفاضة في مقابل هذه الدولة عندما لا تخضع لهذا القانون المدني ستكون مدانة محكومة، كونها تتحرك خارج إطار ضوابط مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي فان استهداف مثل هذه الانتفاضات والثورات والحركات سيكون سهلاً بذريعة خروجها عن القوانين المدنية.

وهذا مما حدانا - أيضاً - لتغيير التسمية الى(مؤسسات المجتمع الإيماني(؛ لأن باعث الانطلاقة هو الإيمان، والى(مؤسسات لمجتمع الإنساني(؛ لأن باعث الانطلاقة هو الإنسانية، فالقوانين الإنسانية إذن هي التي تشكل ضوابط مؤسسات المجتمع المدني، وليس القوانين المدنية التي خلقتها المدينة.وثانياً: ان القانون المدني بالذات هو الذي يحطم - في غالب الأوقات - المجتمع المدني، فان اكثر هذه القوانين قوانين كابتة، وما هو المبرر الذي به يجب على مؤسسات المجتمع المدني أن تنضوي تحت قوانين كابتة وضعتها الدولة، تصادر وتنتهك الحقوق المدنية لعامة الناس، ولكن بلباس قانوني؟

ص: 89

والبرهان على ذلك: أن كثيراً من هذه الدول المستبدة وغيرها، وحتى الديمقراطية منها، لا تسمح قوانينها بمعارضة حقيقية، وهي التي تنتزع حقوق الناس(1) الجوهرية، أو تنتزع حقوق شرائح من الناس، ذلك إن هذه الدول تدعي أن المعارضة لا تتبع قوانينها، وإن عندها برلماناً يشرع هذه القوانين والى آخره، فههنا نقول: إن قوانين المجتمع المدني تعاني من إشكالات من عدة جهات:

الجهة الأولى: إن كثيراً من هذه الدول لا تحظى عادة بالشرعية، فلا يحق لها أن تضع القوانين عبر برلمانات ديكورية كاذبة، تشريعاً او تأطيراً (حيث في الإسلام لا تشريع للقوانين، بل يوجد تأطير فقط، كما فصّله السيد الوالد في الفقه).(2) وإن من يطلق الكلام هكذا، ويقول :(أن تنتظم كلها داخل القانون المدني( عليه أن يلاحظ إن كثيراً من القوانين المدنية، بل أكثرها قد وضعت على أيدي حكومات غير ديمقراطية، وغير استشارية وغير شرعية.

الجهة الثانية: لنفترض إن هذه الحكومات هي حقيقة ديمقراطية صعدت عبر انتخاب الشعب، ومع ذلك ليس لتلك المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب أن تضع قوانين كابتة لحريات الناس أنفسهم في تأسيس المؤسسات، مستغلين ثقة الناس بهم، وجهل الناس بخفايا دهاليز السياسة والاقتصاد وأروقة صناعة القرار، والأبعاد غير المرئية التي قد يستهدفها صناع القرار من تشريع أو تسويق

ص: 90


1- وليس التي (تطالب) بها فقط، إذ الديمقراطية تسمح (بمعارضة تطالب بحقوق الناس) لكنها لا تسمح، وإن كان بطرق ذكية قانونية وغيرها (بمعارضة تنتزع حقوق الناس) الجوهرية وتحت اٴلف ذريعة وباٴلف اٴسلوب ماكر.
2- راجع الفقه الحقوق، الفقه القانون، الفقه الدولة الإسلامية.

أي قانون قد يبدو في ظاهره لصالح الشعب، الا إنه في واقعه لا يصب الا في مصلحة الشركات العابرة للقارات و اللوبيات وشبهها.

كما نجدها في بعض الدول الديمقراطية أن لوبيات وجماعات الضغط الموجودة فيها، والإعلام الموجّه ، والشركات الكبرى تتلاعب - عبر أساليب متطورة (1)- بعواطف الناس، وبثقافتهموبالمعلومات، وهي موجهة مبرمجة لتخدم مصالح فئة خاصة فلو فرضنا إنها ديمقراطية حقيقة فإنها لا يحق لها أن تسلب حريات الناس.

الجهة الثالثة: ولنفترض إن الشعب اطلع على كافة الأبعاد وعلى تفاصيل اللعبة السياسية أو الاقتصادية أو الحقوقية، ووافق على ذلك بملء إرادته، لكن نقول: هل للناس أن يشرعوا - أو يصادقوا على - ما يتناقض مع حقوقهم الأولية الفطرية؟ هل للناس أن يسلّطوا على أنفسهم حاكماً مستبداً ديكتاتوراً، وأن يوافقوا طواعية على سلب حريتهم بأنفسهم؟ هل يحق ل-هم أن يقولوا إن هتلر هو القدوة والاسوة، وإن صدام هو الحاكم المطلق؟ كلا..والف كلا.. فلا يحق لأي احد أن يسلب من نفسه الحرية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى له.

والحاصل: إننا نرفض هذا الإطار (أن تنتظم كلها داخل القانون المدني(، والأصح (أن مؤسسات المجتمع الإنساني تنتظم كلها داخل قانون الفطرة، وداخل إطار المستقلات العقلية)(2)، والإسلام يقول: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلال التِي

ص: 91


1- الشركات الكبرى تمتلك مراكز دراسات متطورة موجهة، وتشتري خدمات أساتذة كبار، بل وتمتلك جامعات كاملة، كما تمتلك أهم وأكبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.
2- حول المستقلات العقلية، فيما يرتبط بحقوق الإنسان الأساسية، براجع للمؤلف(الأوامر المولوية والارشادية.(

كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).

وملخص القول: إن الدولة لها مسؤولية تجاه الأفراد، ولها مسؤولية تجاه المجاميع، ونستنتج من ذلك أن ضعف مؤسسات المجتمع المدني تقع مسؤوليته و لومه وعقوبته على عاتق الدولة، كما يقع على عاتق مفكري الأمة وعلمائها، وعلى المؤسسات المختلفة، وعلى آحاد الناس أيضاً؛ إذ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

3- مسؤولية الدولة تجاه(المجموع)

الصورة الثالثة: ان الدولة مسؤولة أيضاً عن المجموع، ونمثل لذلك بمثال هام: وهو من الواضح إن قرارات الدولة السياسية في المعاهدات الدولية وغيرها، تنعكس فوراً على قيمة العملة؛ إذ نلاحظ على مستوى العالم أن الاقتصاد والسياسة متمازجتان متداخلان تماماً، وليسا وجهين لعملةواحدة فقط، بل أضحيا كأنهما وجه واحد لعملة واحدة، فأي قرار سياسي يؤثر على الوضع الاقتصادي، بل قد ينبع من قرار اقتصادي، وأي تطور اقتصادي يؤثر على القوة السياسية وبالعكس.

ولذا نجد إن الدولة عندما تتخذ قراراً معيناً في الحقل السياسي - وهذا يحصل بالعالم كله - فإنه ينعكس فوراً على القيمة الشرائية للنقد، وهذا تصرف في حقوق الناس وتلاعب بأموال-هم ولا حق للدولة فيه، فالعملة على ضوء هذا القرار السياسي المعين تفقد من قيمتها واحداً بالالف، أو أكثر أو أقل،

ص: 92


1- سورة الأعراف: 157.

وهذه سرقة من جيوب كل الناس، فليس للدولة الحق في ذلك، الا إذا كانت مخولة حقيقة من قبل الناس، وكان الناس على علم بحجم خسارتهم وأبعادها، ومختلف الخيارات المتاحة أمامهم، ثم سارت الدولة على حسب الأصول الشرعية والأسس الإنسانية.

و هذا نموذج بسيط لمسؤولية الدولة تجاه عامة الناس، وإن هذا القرار السياسي أو ذاك، ليس قراراً سياسياً محضاً تتخذه هيئة أو يتخذه شخص رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، بل إن هذا القرار في الواقع هو قرار اقتصادي أيضاً واجتماعي كذلك و... وهو يرتبط بعامة الناس، وهذا ما يشكل مسؤولية مضاعفة.

ونموذج آخر: وهو من الاهمية بمكان فائق، مرتبط بمكانة الامة بين الامم(1) ومستواها، حيث إن تصرفات الدول تؤثر على ذلك بشكل كبير؛ إذ من الملاحظ أن هناك شعوباً يتم تصنيفها - من حيث المكانة الحضارية - امةً منخفضة المستوى، بسبب تصرفات دول-هم وذلك واحد من الأسباب، فالدولة مسؤولة هنا؛ لأنها قد تلاعبت بالمكانة الاعتبارية للناس، ما يستلزم تداعيات مضرة بشكل كبير،كأن نجد سكان سائر الأمم قد يتخوفون أو يشكون في أي فرد ينتمي لهذه الدولة؛ في أمانته المالية، في صدق لسانه، بل حتّى في كونه إرهابياً! فمن المسؤول عن ذلك؟ الدولة هي المسؤولة عن ذلك، وهي مسؤولة عن تلك القرارات والمواقف الداخلية أو الخارجية التي تؤثر بالسلب على المكانة الاعتبارية للامة و تبعاً لآحاد الناس.

ص: 93


1- وبالتعبير الدارج : ماء الوجه والهيبة.

4- مسؤولية الدولة تجاه ذاتها

الصورة الرابعة: هي مسؤولية الدولة تجاه ذاتها و نفسها، ورغم اهمية هذه النقطة الا انها لا يلتفت اليها عادة، فإنَّ المفروض - انطلاقاً من «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» - أن تحاسب الدولة نفسها أيضاً، ولا تنتظر أن يحاسبها مجلس الشعب، أو الحزب المعارض، أو وسائل الإعلام.فعلى كل وزير أن يأتي بتقرير بأعماله، بجدول كامل، عمود الإيجابيات وعمود السلبيات، عمود الإنجازات وعمود الإخفاقات، كما على رئيس الجمهورية أن يقوم بذلك، لا في اجتماعات مغلقة، بل أمام الناس، وبشكل دوري؛ لأنه مسؤول، بل خادم، فإن رئيس الجمهورية خادم للناس - وكذلك الوزراء -، وهل للخادم أن يعمّي على المعلومات ويخفيها؟ ما أنجزه وما لم ينجزه، قصوراً أو تقصيراً.

إن الدول لو اتخذت منهجية محاسبة نفسها أمام موكليها وأمام الناس، فإن أمور الدولة والأمة ستسير بشكل حسن، ثم بشكل أحسن بإذن الله تعالى.

والنتيجة إن الدولة مسؤولة عن محاسبة نفسها أيضاً، وعن معاقبة نفسها بنفسها، ولهذا البحث مجال واسع، نكتفي منه ههنا بهذا المقدار.

وهذه المجاميع الاتجاهية الأربعة، التي تضم ست عشرة صورة، كلها تندرج في عموم أو إطلاق(1) قوله تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ

ص: 94


1- وعلى فرض التنزل في بعض الصور بالملاك.

اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(1) بما يشمل جميع هذه الصور؛ لأن هذه كلها مصاديق ومفردات لهذه المسؤولية.

ص: 95


1- سورة التوبة:71.

ص: 96

الفصل السادس: مهام المجتمع المدني ومسؤولياته ومواصفات الجماعة المجتمعية

اشارة

ص: 97

ص: 98

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

استضاءة قرآنية في الصيغة اللغوية لنسبة الفرد الى المجتمع

هناك سؤال دقيق وهام قد يطرح في قوله سبحانه وتعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، و هو: عن السر في استخدام مفردة (بعض( في هذه الآية القرآنية الكريمة، والحال إن البعض لا يكون الا منسوباً الى الكل؟ أي فيما إذا كانت النسبة هي نسبة الجزء والكل(2) في الاشياء المادية كما نقول: بعض الجدار او بعض البدن، ام في الاشياء المعنوية كما نقول: اجد بعض الصعوبة، لكن في المقام النسبة هي نسبة الأفراد والآحاد الى الكلي، اذ المجتمع البشري متشكل من آحاد وأفراد، فأنا فرد وذاك فرد والآخر فرد آخر،

ص: 99


1- سورة التوبة: 71.
2- فتاٴمل.

والكلي هو الإنسان، وعلى هذا كيف تستخدم كلمة «بعض »الموضوعة للدلالة على الجزء بالقياس الى الكل، في الجزئي بالقياس الى الكلي؟ ولعل الجواب على ذلك يكمن في لفتةٍ دقيقة رائعة، وهي أنه تارة تستخدم كلمة (بعض) في جزء منسوب الى كل، وتارة تستخدم في الجزئيات المنسوبة الى الكليات، وذلك بلفتة دقيقة ، وهي أن يلاحظ في الكلي جانب الهيئة الاجتماعية، فيكون كل فردٍ جزءاً من تلك الهيئة الاجتماعية، وهذا يعني إنه جزئي وهو في ذات الوقت جزء، هو جزئي باعتبار، وجزء باعتبار اخر.

وتوضيح ذلك ببيان أبسط، إن زيداً هو جزئي للإنسان، لكنه جزء للمجتمع، لأن المجتمع هو عبارة عن هذه الهيئة المجموعية، و هذه الحالة العامة،فالفرد والجزئي هنا جزء مع تغيير اللحاظ، ولذا نرى استخدام ذلك في العرف ايضاً، مثلاً نقول: قال بعض العلماء، حيث لا يراد ببعض العلماء جزء من بدنهم، بل لوحظ العلماء كهيئة مجموعية، فهذا الذي هو أحدهم صار بعضهم بتلك الملاحظة، وكذلكنقول مثلاً: سافرنا في بعض الأيام، أو في بعض الليالي، مع أن الأيام والليالي كليات، فاطلاق البعض بلحاظ ان الأيام بمجموعها كم متصل، وكأنها كلّ وهذا اليوم جزء له.

وعوداً الى الآية الشريفة نقول: كان من الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى: والمؤمنون والمؤمنات أحدهم ولي الآخر، أو آحادهم، أو أشخاصهم، أو أفرادهم أولياء لسائر الأفراد، لكنه سبحانه وتعالى حيث استخدم كلمة البعض الموضوعة للجزء بالقياس للكل، استخدمها في الفرد بالقياس الى الكلي، بلحاظ كونه جزءاً لعنوان آخر، وهو المجتمع.

هذا مضافاً الى أنه توجد في كلمة (بعضهم) نقطة دقيقة ، استوحيناها من

ص: 100

كلمة للسيد الوالد 6 في داب القران الكريم، فان من منهج القران الكريم عندما يذكر حكماً او تشريعاً او حظراً، فانه يبين قبل الحكم او بعده، فلسفة الحكم و وجه التشريع، بكلمة او بضع كلمات، وقد تقترن به الحكمة والعلة والفلسفة؛ وذلك في غاية الروعة والجمال، وفي الآية الكريمة في المقام فان الحكمة في اعطاء الولاية للمؤمنين والمؤمنات مذكورة معه «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، فلماذا يكون هذا ولياً لذلك، وذلك ولياً لهذا؟ فيأتي الجواب من داخل الآية: لأنني أنا بعض منه، وهو بعض مني، لأننا كلٌ متماسك، فما أضر هذا يضر ذاك والعكس بالعكس، والأفراد قد لا يكون بينهم تماسك وتعاون، بل قد يكونون متدابرين، لكن إذا لاحظنا الهيئة المجموعية فسنجد أنَّ هذا يشكل جزءاً من الكل، والجزء يتأثر بالكل، والكل يتأثر بالجزء، كما هو واضح، فإن اللبنة إذا انهدت من الحائط فإن الحائط ينفلق و يتداعى بنفس النسبة، من هنا وانطلاقاً من كوني بعضاً منك وبالعكس، فالعلاقة علاقة الولاية أحدنا ولي للأخر.

وبعبارة اوضح: ان الحكمة والفلسفة في تشريع كوني وليّاً لك، وكونك وليّاً لي، منطوية في موضوع الحكم نفسه، وهو كلمة ( بعضهم)، فهي تستبطن الإشارة الى فلسفة الحكم أيضاً؛ لأنني بعض منك وأنت بعض مني فينبغي علي ان اكون ولياً لك، كما ينبغي عليك أن تكون ولياً لي، وستاتي في المباحث القادمة بإذن الله تعالى معنى الولاية.

وهاتان لفتتان دقيقتان في الآية القرآنية الكريمة، وعلى ضوء هذا البحث، وكما سبق هنالك ست عشرة صورة، يمكن أن تنتزع من هذه الآية الشريفة في العلاقة التبادلية بين مكونات المجتمع، وقد ذكرنا منها صوراً ثمانية في المباحث

ص: 101

السابقة؛ علاقة الفرد بصوره الاربعة، وعلاقة الدولة بشعبها الاربعة، اما الاربعة الاخرى فهي ما نشير اليها في مباحث هذه الفصل، وهي مسؤوليات الجماعة.

المسؤوليات المجتمعية للجماعة (مؤسسة المجتمع المدني)

حيث يكون منطلق العلاقة الاتجاهية هي(الجماعة)، وهذه المجموعة أيضاً تتضمن صوراً أربع، تجاه الافراد، و تجاه المجاميع والمجموعات الاخرى، وتجاه الجميع، وتجاه الدولة، وعليها تبتني ايضاً مسؤولياتها تجاه هذه المكونات الاربعة.

وبيت القصيد في مباحث الكتاب يكمن في المجموعة الثالثة، وهي الجماعة ومجموعاتها، حيث ان مؤسسات المجتمع المدني مكونة من المجاميع والمجموعات والجماعات بشكلها الواسع الذي تطرقنا له.

المهامّ الثلاثة لمؤسسات المجتمع المدني

اشارة

إن الأهداف و المهام التي لأجلها انبثقت ضرورة تأسيس وتكريس مؤسسات المجتمع الإيماني، أو مؤسسات المجتمع الإنساني، كمصطلح بديل عن المجتمع المدني، سواء أ كان الاتجاه نسبة الى الأفراد أم للمجاميع الأخرى أم للجميع أم للدولة، هي ثلاثة مهام و أهداف:

المهمة الأولى: بناء المجتمع.

المهمة الثانية: توفير الخدمات الاساسية بل والثانوية ايضا، البنى التحتية منها والفوقية.

المهمة الثالثة: أن تكون الموازن الاستراتيجي لقدرة الدولة، والسلطة

ص: 102

الموازية، وإن شئت فقل: السلطة الخامسة، ليحول دون أن تسحق الحكومة حقوق الناس وتظلمهم، وتصادر الحريات، وتكبت الناس والجماهير والمؤسسات.

إن هذه العناصر الثلاثة هي أعمدة أهداف مؤسسات المجتمع المدني:

1- بناء المجتمع:

والبحث في الهدف الأول وهو بناء المجتمع فكرياً وثقافياً وعلمياً، وإيمانياً وأخلاقياً هو بحث طويل، نتركه للمستقبل إن شاء الله.

2- توفير الخدمات:

اما الهدف الثاني وهو(توفير الخدمات(، فإنه يعد إحدى أهم مهام ومسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني، وهو عنوان عريض يشمل كافة الخدمات التي تتعلق بالبنية التحتية للمجتمع، كالكهرباء، وتوفير الماء ثم المجاري، ثم المواصلات والنقل والطرق، وهي وسائل التواصل من سيارات وحافلات وقطارات وسفن وطائرات وما أشبه ذلك، ثم وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، من هاتف الى إنترنيت وغير ذلك، وهذه جميعاً على رأي البعض تعتبر ضمن مؤسسات البنية التحتية، التي هيبالأساس تعد من مسؤولية الدولة، لكننا نرى: أن مؤسسات المجتمع المدني هي شريكة في المسؤولية ايضاً.

لا يجوز للدولة احتكار الخدمات

انطلاقاً من ذلك فإننا نرى عدم صحة ما يرتئيه كثير من اعتبار هذه الخدمات الأربعة؛ 1: الكهرباء، 2: الماء والمجاري، 3: الطرق والجسور والمواصلات، 4: وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، والبعض يلحق بها

ص: 103

ك-5: الصحة كالمستشفيات وغيرها، 6: و التعليم من مدارس ومكتبات ومعاهد وجامعات وغيرها، اعتبارها من مسؤوليات الدولة حصراً، حيث نقول: لا ريب في أنها من مسؤولية الدولة، لكنها ليست مسؤولية حصرية للدولة، بل هي مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني أيضاً، بنحو الشراكة لا بنحو الطولية.

والفارق كبير وجوهري وأساسي: فإننا نجد الدول - وانطلاقاً من النظرية الحصرية - تقبض بيد من حديد على أزمّة الأمور في هذه المجالات الأربعة، أو الستة، ولا تسمح للناس بأية مبادرة ذاتية أو تطوعية، وكثيراً ما لا تصنع هي أي شيء، ولذا نلاحظ في بلادنا المختلفة إن هنالك - في هذه الأبعاد الستة - الكثير من الثغرات والنواقص، في الصحة والتعليم، والكهرباء والماء، وغيرها.

وكمثال على ذلك ما هو المشاهد في وضع (الطرق) حيث انها تنتمي الى العقود الماضية، مع أنه يجب أن يكون المخطط بحيث تستوعب ضغط السيارات وغيرها، للخمسين سنة القادمة، بينما لا تستوعب حتّى حدود الحاجة الفعلية.

فنشأت من هذا التصور الاحتكاري مشاكل عديدة و بقيت البلاد على ما هي عليها من تأخر و عدم تلبية الحاجات وعدم التطور، مثلاً في المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية، والمدينة المنورة، ومشهد المشرفة، وغير ذلك، نجد الدولة لا تسمح للناس للمبادرة في ذلك، ولو سمحوا ل-هم لكانوا قد طوروا هذه المشاهد المشرفة بشكل هائل، ولم يبق حتى الآن الكثير منها متخلفة في مختلف المجالات من المعاهد والمكتبات و الكهرباء، و الماء والمجاري، ومن الصحة والتعليم، الى غير ذلك.

والمحصّلة هي إننا نعتقد، أنَّ مؤسسات المجتمع المدني هي أولاً مسؤولة عن بناء المجتمع، وثانياً مسؤولة عن توفير الخدمات بمختلف أشكالها والوانها،

ص: 104

وليس هذا حقاً حصرياً للدولة بحيث تسمح أو لا تسمح، بل هي مسؤولية ابتدائية لمؤسسات المجتمع المدني وللناس، وعلى الدولة أن تقوم بواجبها كخادم للناس، ولا يجوز لها التقصير كما لا يجوز لها المنع، وليس لها فرض الاستئذان في كل مشروع تقدمي انساني وان ارتبط بالخدمات العامة، كما لا يحق لها أن تدخل القضية في دوّامة الروتين و البيروقراطية المتحكمة في بلادنا.وكشاهد على ذلك - وهو مما يؤسف له - نجد عدم توفر ادنى الخدمات البسيطة للزوار الكرام في المدن المقدسة التي تهفو لها قلوب الملايين من محبي ائمة اهل البيت % من انحاء العالم، حيث الدولة مقصرة في ذلك اولاً، وحيث انها صارت حجر عثرة أمام عطاء الناس في هذا الحقل ثانياً.

وانطلاقاً من ذلك نشاهد المرجعيات الشيعية، وعلماء الشيعة وعلماء المؤمنين - بالقدر الذي كان يمكن ل-هم - قد تصدوا لهذه القضايا الخدمية وغيرها، كالميرزا الشيرازي الكبير 6 والذي بنى جسراً في سامراء بأموال ضخمة في ذاك الوقت، وأيضاً أنشأ بعض المؤسسات الأخرى، والكثير من العلماء تصدوا للكثير من هذه القضايا وامثالها في الكثير من دول العالم ، كالسيد البروجردي، وكالسيد الوالد , والسيد العم وغيرهم من مراجعنا الابرار وعلمائنا الاخيار في قم المقدسة والنجف الاشرف وكربلاء المقدسة، ، وبتحريضهم وتخطيطهم وارشادهم أُسِّس الكثير من المكتبات والمدارس والجامعات وصناديق الإقراض الخيري والمستوصفات والمستشفيات، والكثير من آبار الماء في تلك المناطق البدائية وهكذا.

إن هذه مسؤولية مشتركة عامة، ولو آمنا بهذه المسؤولية وبهذه الشمولية، ولو آمن كل عالم ديني، وكل طبيب و مهندس و محامي، بأن عليه

ص: 105

أن يتحمل شطراً من المسؤولية - لا أن يتصور الطبيب نفسه مجرد طبيب، وكذا المهندس والمحامي وغيرهم، بل يستشعرون أن عليهم مسؤوليات أخرى تجاه المجتمع بأجمعه بهذه الأبعاد الخدمية التي أشرنا اليها - حينئذ فإن وجه الأرض سيتغير بشكل كبير، و كان الأمن والرخاء والسلم والاستقرار والازدهار هو الطابع العام لكافة البلاد.

من الوصايا المجتمعية للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

اشارة

وفي هذا السياق نذكر رواية لها دلالة كبيرة وردت في كتاب (تفصيل وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة) للشيخ العاملي 6 فإنه ينقل عن كتاب (عقاب الأعمال(عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنه قال في آخر خطبة خطبها، وهذه هي وصاياه (صلی الله علیه و آله) فلنعمل بها، سواء أكنا رجال دين أم مهندسين، أم كنا مزارعين، أم أي شيء آخر، وقد صرح الرسول (صلی الله علیه و آله) بمفردات عديدة لهذه المسؤوليات الولائية من بعض الأطراف للبعض الأخر:

1- المسؤولية تجاه المكفوفين:

المفردة الأولى: يشير اليها الرسول (صلی الله علیه و آله) بقوله: «من قاد ضريراً الى مسجده، أو الى منزله أو لحاجة من حوائجه كتب الله له بكل قدم رفعها ووضعها عتق رقبة، وصلّت عليه الملائكةحتى يفارقه، ومن كفى ضريراً حاجة من حوائجه، فمشى فيها حتى يقضيها أعطاه الله براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق، وقضى له سبعين الف حاجة في عاجل الدنيا، ولم

ص: 106

يزل يخوض في رحمة الله حتى يرجع»(1).

إن الكثير من الناس يستثقل أن يمسك بيد الضرير ويعبر به الشارع أو يوصله لمقصده، وقد يرى في ذلك بعض الغضاضة او عيباً، وقد يتعلل بأن له أعمالاً أهم، لكن هذه مسؤولية المؤمنين والمؤمنات؛ لأن بعضهم أولياء بعض، وهذا يعني قدراً من المسؤولية تجاه هذا الضرير، مع أنه قد لا أعرفه شخصياً، أما تبيان كونه براءة من النفاق وما ربطه، فيترك الى بحث أخر(2).

وقوله (صلی الله علیه و آله): «ومن كفى ضريراً حاجة من حوائجه...» تتسع لتستوعب حتّى مثل طباعة كتب للمكفوفين - و هم بالملايين - بلغة بريل مثلاً، والحال إن الكتب التي كتبت ل-هم هي أقل من حاجتهم بكثير، سواء الكتب التي كتبت من قبل المتدينين من رجال الدين العلماء، أم من قبل سائر الأخصائيين.

2- المسؤولية تجاه المرضى:

المفردة الثانية: يشير اليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: «من قام على مريض يوماً و ليلة بعثه الله تعالى مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) فجاز على الصراط كالبرق الخاطف اللامع، ومن سعى لمريض في حاجته قضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فإن كان المريض من أهله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «منْ أعظم الناس أجراً ممَنْ سعى في حاجة أهله، ومن ضيّع أهله وقطع رحمه حرمه الله تعالى حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيّعه ومن يضيّعه الله تعالى في الآخرة فهو يتردد مع الهالكين حتى يأتي بالمخرج ولن

ص: 107


1- وسائل الشيعة: ج16 باب استحباب نفع المؤمن ص343.
2- وذلك بنحو المقتضي اٴو العلة المعدة.

يأتي به»(1). وهذا يعني أن أي عذر فهو غير مقبول! فإذا أراد شخص أن يضيع في صحراء المحشر بكل أهوالها وأخطارها، فما عليه الا أن يضيع أهله ويقطع رحمه.

(ومن قام على مريض) إذ قد يتمرض أحد من ارحام الانسان او غيرهم، وقد يستثقل بعض الناس أن يطببه ، و يقوم بتمريضه، خاصة لبعض الامراض الصعبة، وخاصة لمن كان ذا شان اجتماعي من تاجر او مدرس او محامي، ولكن لننظر ماذا قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) فيمن يقوم على مريض يوم وليلة -لأربع وعشرين ساعة (بعثه الله مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) فجاز على الصراط كالبرق الخاطف اللامع، وإن من سعى لمريض في حاجة قضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فإن كان المريض من أهله؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من أعظم الناس أجراً ممن سعى في حاجة أهله، ومن ضيّع أهله وقطع رحمه، حرمه الله حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيّعه).

وهذه الرواية ونظائرها تؤسس للإطار التشريعي العام الذي يتكفل ببناء المجتمعات وتماسكها وتكامليتها، ويقيمها على الأسس الإيمانية أو الإنسانية؛ إذ يبعثه الله مع إبراهيم الخليل .(علیه السلام)

3- المسؤولية تجاه المَدِين:

المفردة الثالثة: يشير اليها رسول الله(صلی الله علیه و آله) بقوله: «ومن أقرض ملهوفاً

ص: 108


1- وسائل الشيعة: ج16 باب استحباب نفع المؤمن ص344.

فأحسن طلبته استأنف العمل وأعطاه الله بكل درهم الف قنطار من الجنة»(1).

و)أحسن طلبته( يعني أقرضه ثم لم يضيق عليه في استرداد القرض، و)استأنف العمل (يعني أن الله ~ يمحي ذنوبه السابقة كلها، ويقول له ابدأ حياتك من جديد، فإنك كيوم ولدتك أمك بلا ذنوب ولا أثقال ولا أوزار.

4- المسؤولية تجاه المكروب:

المفردة الرابعة: «ومن فرّج عن أخيه كربةً من كرب الدنيا نظر الله اليه برحمته فنال بها الجنة، وفرج الله عنه كربه في الدنيا والآخرة» (2).

5- المسؤولية تجاه الاختلاف الأسري:

المفردة الخامسة: «ومن مشى في إصلاح بين امرأة وزوجها أعطاه الله أجر الف شهيد قتلوا في سبيل الله حقا، وكان له بكل خطوة يخطوها وكلمة في ذلك عبادة سنة قيام ليلها وصيام نهارها»(3).

والبحث في هذا الحقل طويل، فإذا عمل الجميع بهذه الوصية من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فسوف نجد أن المجتمع قد تحوّل الى انموذج افضل و احسن مما هو موجود حالياً بمراتب لا تقاس.

ص: 109


1- وسائل الشيعة: ج16 باب استحباب نفع المؤمن ص344.
2- وسائل الشيعة: ج16 باب استحباب نفع المؤمن ص344.
3- وسائل الشيعة: ج16 باب استحباب نفع المؤمن ص344.

خواص (الجماعات) ومواصفاتها

مما يجب التطرق لها هو ما هي خواص الجماعات و ما هي مواصفاتها فنقول: تتميز الجماعة عن الافراد بما هي افراد بان لها:

أولاً: روحاً اخرى غير روح الفرد، فان الشخص له روحية أو هالة معينة، لكنه في الجمع تكون له روحية ونفسية وهالة أخرى.

ثانياً: واعتباراً اخر، فإن الفرد يُلاحظ تارة بما هو شخص، وتارة بما يحمل من اعتبار العائلة عائلته - أو بما له من اعتبار الشركة أو المنظمة، أو الجماعة أو البلدة التي ينتمي اليها، والأمر يختلف على التقديرين.

ثالثاً: و مسؤوليات أخرى، فإن للمرء كشخص - مثلاً - مسؤولية معينة كعضو أو كطالب أو كأستاذ في الحوزة العلمية المباركة، وله مسؤولية من نمط اخر كشخص منتم الى المدن المقدسة من مدني او مكي او نجفي او كربلائي او قمي ، أو كشخص عربي، أو هندي فانه مسؤول عن وطنه، وعن شعبه، كما أنه في مجال اخر مسؤول عن أهله، وصحبه، وجماعته، وعشيرته، ولكن بالحق، و من دون أن يظلم الآخرين، فعندما يقول أنا عراقي أو بحريني أو كويتي أو مدغشقري أو إندونيسي أو أشبه ذلك، فهذه الكلمة يجب أن تصب في البناء، كأن يقول: أنا بحريني لي تاريخ أكثر من الف سنة من التشيع ومن العطاء ومن العلماء، إذن فمسؤوليتي مضاعفة، أو يقول أنا نجفي وهذا يعني إن لي تاريخاً أكثر من الف سنة من الحوزة العلمية ومن المرجعية، ومن حفظ بيضة الإسلام وحماية ثغوره. إذن، أنا مسؤول، بل إنه حتى إذا لم يكن رجل دين، بل كان كاسباً عادياً أو طالباً عادياً فإنه مسؤول عن سمعة هذه المدينة

ص: 110

وعن شرفها ومكانتها.

فقه (الجماعة) ومفردة الانشقاقات

وفي هذا المقام نقول ان هنالك بحثاً هاماً جداً يستدعي تفصيلاً فقهياً، ونشير له ههنا إشارة ، وهو أن هذه الحالة الاعتبارية أو الهيئة الاعتبارية للجمع تترتب عليها سلسلة من المسائل الشرعية، المغفول عنها عادة، فمثلاً إذا اجتمعت جماعة وأسست منظمة أو شركة أو حزباً أو نقابة أو هيئة خيرية، وما شابه ذلك ، ثم انشق البعض عنها بعذر صحيح أو غير صحيح، بحق أو بباطل، فهل له أن يقول إني كنت مساهماً في صنع هذا الاعتبار، ولم تكن لكم كآحاد هذه المكانة وهذه السمعة، فلي بعض الحق، فهل له الحق بالفعل ككبرى كلية؟ ثم ما هو مصداق حقه؟ ومن الذي يحدده؟ فهل له مثلاً تأسيس منظمة ثانية بنفس الاسم؟ مع إضافة أو بدون إضافة، كأن يسميها رقم واحد أو رقم اثنين، مثلاً، فذلك التجمع رقم واحد، وهو يصير برقم اثنين! فالسؤال هو هل يحق له شرعاً ذلك أم لا؟ هذه المسالة لها شعب عديدة، ولها صور عديدة فإنه هل كان موظفاً لقاء أجر أو كان مساهماً مؤسساً؟ ثم ما هو الارتكاز العرفي في ذلك البلد؟ وما هو الشرط الضمني لهؤلاء المجموع كمجموع؟ وهل هناك هيئة أمناء أو هيئة إدارية أو مجلس تنفيذي؟ وما هي الصلاحيات الممنوحة ل-هم حسب العقد الاجتماعي أو نظام التوكيل أو غير ذلك؟ إن المعادلة تختلف على حسب صور عديدة، وعلى حسب تلك الصور العديدة، فهذا الشخص له الحق أو بعضه، أو لا حق له أبداً، أو يجب أن يصالح معه بشيء، والبحث له تفصيل يطلب

ص: 111

من مظانه.

رابعاً: كما ان للجماعة بما هي جماعة ومجتمعة اجراً وثواباً اخر.

التواصل الاجتماعي وبركاته على ضوء الروايات

اشارة

ولابد من أن نستضيء ببعض الروايات الشريفة المل-همة، والمعبرة في هذا الحقل، من كتاب (تفصيل وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة):

1- التزاور وآثاره وفوائده:

يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «تزاوروا فإن زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم وإن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم»(1).

وهذا أمر صريح ببعث وإحياء روح الجماعة في الأفراد، عبر التزاور وتداول أحاديثهم % ،وأن لا يكون الإنسان منعزلاً مهتماً بمصالحه الشخصية فقط، فإن الناس بتزاور بعضهم مع بعض يتماسك نسيجهم أكثر فأكثر ويتكاملون، وهذه الحالة الجمعية والروح الجماعية تتكرس وتتقوى باستمرار، وهذا هو المطلوب شرعياً.

إن كثيراً من الناس - على سبيل المثال - يجلس وراء الإنترنيت، ويقضي وقته هنالك لساعات وساعات، يتصفح المواقع، وقد يكتب المقالات، وقد يتحاور مع الآخرين عبر الجات والفيس بوك وما أشبه، لكن هذا لا يكفي،

ص: 112


1- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج9 ص400.

فالتزاور له موضوعية في الشريعة الإسلامية، كما ان له الطريقية أيضاً.

إن من الممكن أن يجلس الفرد في صومعة منشغلاً بالتاليف، أو أن يلقي محاضراته في (استديو) مثلاً ويبثها، وهو عمل ضروري وأساسي، ولكنه لا يجزئ؛ لأن الروح الجمعية مطلوبة في الشريعة ايضاً، فروح الجماعة غير روح الفرد، وبركاتها بركات أخرى، واعتبارها اعتبار آخر.

ولتوضيح أكثر، نمثل بالعلامة» الماركة « المسجلة، وأحياناً فإن الإنسان - بما هو شخص - ليست له تلك الرمزية، ولكن بما هو عضو عائلة له رمزية معينة، وماركة مميزة أو بما هو منتم الى بلدة ما له رمزية أو قدسية كذلك، فنقول له مدني، أو مكي، أو مشهدي، أو سامرائي، أو نجفي، او كربلائي، ، أو كاظمي، فهذا اعتبار آخر، وله نكهة أخرى، فإن الشخص - بما هو شخص - له روح، ولكنه بما هو مدني او مكي فإن له إحساساً بروح أخرى تحثّه نحو المزيد من الأخلاق الفاضلة ومن العطاء، ومن هداية الناس وإرشادهم، فهي روح أخرى، روح ثانية، نبعت من النسبة، ونبعت من الجمع ومن الانتساب للجماعة.

ولذلك يقول (علیه السلام): «إحياءً لقلوبكم وذكرى لأحاديثنا» وهذا أثر آخر؛ إذ إننا نحيي قلوبنا بالتزاور، بمعنى إنه لا يكفي الجلوس بالبيت ليلاً ونهاراً، ومطالعة روايات أهل البيت %، بل لابد للفرد من أن يتزاور، فهذا له تأثير من نمط آخر، أن يسمع من الغير ويذكر للغير أحاديث أهل البيت % لأن أحاديثهم% «تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم».

ص: 113

2- اجتماع المؤمنين وحضور الملائكة:

اشارة

وفي رواية أخرى، ذات دلالة بالغة، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) - كما ورد في الكافي الشريف -: «ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين الا حضر من الملائكة مثل-هم، فإن دعوا بخير أمّنوا، وإن استعاذوا بشر دعوا الله ليصرفه عنهم، وإن سالوا حاجة تشفعوا الى الله وسالوه قضاءها»(1).

إن هذه الرواية تشير الى أثر هام جداً من آثار الجمع، فإن زيداً لوحده، وأحمد لوحده، والثالث لوحده، لو دعوا لم يكن ل-هم أثر نفس الدعوة لو كانوا مجتمعين، والمطلوب أيضاً الاجتماع، لأن (ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين الا حضر من الملائكة مثل-هم(. فهذا الفرد مهما كان حاله، حتى لو كان مشغولاً بالعبادة، ليس له هذا الأثر، بل يختلف الحال.

ولذا ورد أيضاً(لا رهبانية في الإسلام( ، و)ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين الا حضر من الملائكة مثل-هم( وواضح إن هذا بشرط لا، عن الأقل لا عن الأكثر،(فإن دعوا بخير أمّنوا( الملائكة لدعائه، وأما إذا كان الفرد لوحده فلا يكون معه هذا العون من أولئك الملائكة (وإن استعاذوا بشرّ دعوا الله ليصرفه عنهم، وإن سالوا حاجة تشفعوا الى الله( وفي نسخة أخرى: (شفعوا الى الله(،(وسالوه قضاءها).

عليه فإن هذا الحديث يوجه بالذات لطائفتين:

أ- الصدمة والعزلة:

الطائفة الأولى : الذين يفضلون الانعزال عن المجتمع لأسباب شتى، وقد

ص: 114


1- الكافي: ج2 باب تذاكر الإخوان ص 187.

يكون منها ما تحملّوه وكابدوه من صدمات، و من بعض المواقف التي يمر بها الفرد في حياته الاجتماعية مما لم يكن يتوقعها، فينكمش وينزوي في صومعة أو في منزل منعزل أو في غير ذلك، وهو سلوك مرفوض شرعاً.

ب - النخبة والعزلة:

الطائفة الثانية: بعض النخبة السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية او حتى الدينية، والتي قد تنعزل بزعم ان ذلك هو الأفضل لها ولعطائها، مع أن اللازم عليهم تخصيص جزء من الوقت للتواصل مع الناس بأن يكون معهم؛ لأنه منهم واليهم، بل إن الآثار والبركات ستترتب عندئذ، والا فلا مهما كان الإنسان فطحلاً أو محسناً أو خيراً، (وإن سالوا حاجة شفعوا(، وشفاعة الملائكة لها قيمتها الكبيرة (الى الله، وسالوه قضاءها(.

3- لتقاء الإخوان واستغاثة الشيطان:

وفي رواية ثالثة، يرويها ثقة الإسلام الكليني في الكافي الشريف أيضاً - والكافي هو نور المعرفة وجواهر الحكمة - يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «ليس شيءٌ أنكى إبليس وجنوده من زيارة الأخوان في الله بعضهم لبعض»(1) ويقول (علیه السلام): «وإنّ المؤمنَين يلتقيان فيذكران الله، ثم يذكران فضلنا أهل البيت، فلا يبقى على وجه إبليس مضغةٌ الا تخدّد(2)، حتى أنّ روحه لتستغيث من شدة ما تجد من الالم، فتحسّ ملائكة السماء وخزّان الجنان، فيلعنونه حتى لا يبقى ملَكٌ

ص: 115


1- الكافي: ج2 باب تذاكر الإخوان ص 188.
2- ٲي إن وجهه - بل كل قطعة منه - يصير كالإخاديد.

مقرّبٌ الا لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً»(1).

أما إذا ذكر الفرد لوحده هذه الفضائل، فهذه الثمرة غير موجودة.

إن الذي يغيظ إبليس وجنوده هو أن يجلس رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، أو عضو البرلمان مثلاً مع عامة الناس، مع البقال والعطار، أو أي شخص آخر، في أي موقع كان، ليذكروا الله تعالى ويتذاكروا فضل أهل البيت %، فهذا هو الذي يغيظ إبليس ويحطمه، وينهي قدرته على التحكم في قلب هذا الإنسان - (حتى أن روحه تستغيث من شدة ما تجد من الالم، فتحس ملائكة السماء وخزان الجنان) بالام إبليس (فيلعنونه، حتى لا يبقى ملك مقرب الا لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً)

أين ينبغي أن يكون هذا التلاقي؟ وكم مرة بالشهر؟

الجواب: يومياً، أو بالأسبوع مرة على الأقل، في المساجد والحسينيات والمشاهد المشرفة، وفي المؤتمرات والندوات أيضاً، وفي الوزارات والشركات ومختلف مؤسسات المجتمع المدني أيضاً.

إذن، البحث في هذا الحقل يكشف عن وجود أبعاد غيبية أيضاً، ذات جوانب متعددة.

الفرد في الجماعةوالمحصل من كل ما سبق:

إن الجماعة سواء أكانت منظمة أم نقابة أم حزباً، أم هيئة أم عشيرة أم عائلة أم غيرها، بما هي هي، لها اعتبار آخر غير

ص: 116


1- الكافي: ج2 باب تذاكر الإخوان ص 188.

اعتبار الفرد، ولها روح أخرى، كما أن لها احساساً أسمى بالمسؤولية.

لذا فإن من المشهود إن الفرد عندما يكون لوحده فقد يكون لديه إحساس بضرورة التحرك والنشاط والدفاع عن الدين، لكنه إذا كان في ضمن جمع، في مؤتمر أو ندوة أو مجلس، فإن هذه الشعلة يشتد أوارها، و هذه الجمرة تزداد التهاباً و تأججاً، وهي روح أخرى، قد سرت في الجمع، وهذا مما ثبت ايضاً من الناحية العلمية.

الاجتماع والهالة

حيث من الثابت علمياً إنه إذا اجتمع جمع في مكان ما، فإن هالة تحيط بهم، ذلك إن لكل إنسان هالة تحيط به، فبعض الصالحين يستطيع بنظرة واحدة الى الشخص والى هالته أن يعرف إن كان كاذبا أو لا، فاسقاً أو لا، متقياً أو لا، عالماً أو لا، وهكذا، وقد اكتشف العلم الحديث جانباً من هذه الحقيقة، بوجود هالة وطاقة معينة تحيط بهذا الإنسان، وهذه الطاقة أو الهالة التي تحيط بالإنسان تختلف من إنسان الى آخر، كما أن لكل من الشجاع أو الجبان، الكريم أو البخيل، العادل أو الفاسق، الظالم أو العادل، هالة تختلف عن الآخر.

وتوجد هالة أخرى هي هالة الجمع، فإن الجماعة الحاضرة في مجلس ما توجد هالة أخرى تحيط بهم، و لعل ذلك من الحِكَم وراء ما ورد في حديث الكساء، عن الصديقة الزهراء (علیها السلام)،عن رسول الله:(صلی الله علیه و آله) «ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا، الا ونزلت

ص: 117

عليهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة، واستغفرت ل-هم الى أن يتفرقوا(1).إن هذه الهالة والروح السارية موجودة ما داموا مجتمعين، أما إذا تفرّقوا فإنها تنتهي أو تخبو؛ ولذا من المستحب أن تتجدد هذه الاجتماعات باستمرار، فلا يكفي أن يقول المرء: أنا اجتمع مع أصدقائي المؤمنين مرة في السنة، أيام الحج في مكة المكرمة، أو في الأربعين في كربلاء المقدسة، بل ينبغي على الإنسان أن يجدد الاجتماعات ويكثر منها لأنه بتجدد ذلك تتجدد الروح وتكثر البركات، بل وكذلك الأمر حتّى في اجتماعات العائلة، فان الهالة المحيطة بهم حينذاك هالة إيمانية و معنوية و علمية أيضاً، كما أنها محفوفة بالخيرات والبركات.

والملاحظ في المجتمعات الغربية، حيث إنهم لا مناسبات ل-هم تجمعهم كحج و عمرة او زيارة كزيارة الاربعين او زيارة سائر المشاهد المشرفة، وحيث لا حسينية ل-هم ولا مسجد، وحيث العوائل غالباً مفككة، نلاحظ انهم يحاولون التعويض عن ذلك بالنوادي الاجتماعية أو بالمؤتمرات؛ لأن الإنسان بما هو إنسان يحتاج الى هذه الروح الجمعية، ولو عاش الإنسان لوحده منعزلا

ص: 118


1- ورد في حديث أهل الكساء، عن جابر (رضوان الله عليه) ، عن الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، قالت: «فقال علي لأبي: «يا رسول الله ، أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله» ، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض ، وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا، إلا ونزلت عليهم الرحمة وحفت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا»، فقال علي (علیه السلام) : «إذًا والله فزنا وفاز شيعتنا ، ورب الكعبة ، فقال أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله):يا علي، والذي بعثني بالحق نبيا، واصطفاني بالرسالة نجياً ما ذكرخبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا ، وفيهم مهموم إلا وفرج الله همه، ولا مغموم إلا وكشف الله غمه، ولا طالب حاجة إلا وقضى الله حاجته»، فقال علي (علیه السلام): «إذاً والله فزنا وسعدنا، وكذلك شيعتنا فازوا في الدنيا والآخرة، ورب الكعبة.»

لأصيب بمرض الكآبة من حيث يدري أو لا يدري؛ لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، كما خلقه الله سبحانه وتعالى.

يقول الله سبحانه وتعالى:«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» سواء أكانوا مؤمنين، أم كن مؤمنات، افراداً أم جماعات، فإن الكل مسؤول، ثم إن هذه الجماعات لها روح أخرى، ولها اعتبار آخر، ولها أجر وآثار وضعية أخرى، ونحن مسؤولون عن تلك الآثار، كما نحن مسؤولون عن المقدمات.

ص: 119

ص: 120

الفصل السابع: مسؤوليات الجماعة «مؤسسة المجتمع المدني » تجاه الجماعات الأخرى في القطاع الخاص

اشارة

ص: 121

ص: 122

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

المجتمع المدني ودور القطاع الخاص والمؤسسات التجارية

لابد أن ننوّه الى صنف آخر من أصناف مؤسسات المجتمع المدني التي تملأ فضاء المجتمع ، وهي في غاية الأهمية، وغاية الحيوية، و قد اقصيت - اقصاءً في غير محله - من قبل علماء الاجتماع في تعريفاتهم وكلماتهم وبحوثهم عن مؤسسات المجتمع المدني، وهي المسماة بالشركات الخاصة، أو المؤسسات التجارية أو الأسواق أو القطاع الخاص.

إننا نرى أنَّ مئات الالوف من الدكاكين والمحلات والمتاجر و القيصريات والشركات الخاصة، والشركات العقارية والشركات المساهمة المحدودة وغيرها، داخلة ضمن منظومة مؤسسات المجتمع الإيماني، أو الإنساني، أو المدني، ونرى أن إقصاءها من تعريف مؤسسات المجتمع المدني خطأ فادح، وذلك استناداً الى

ص: 123


1- سورة التوبة:71.

الأهداف التي أريدت وقصدت من المجتمع المدني، لجهة أن الهدف والغاية والغرض والفائدة من مؤسسات المجتمع المدني، وكما أسلفنا هي ثلاثة، فهي منطبقة عليها، ويمكن تبيان ذلك بما يلي:

1 - بناء المجتمع: فإن الشركات الخاصة والمحلات التجارية وغيرها تستطيع أن تسهم إسهاماً كبيراً في بناء المجتمع، بل هي بالفعل مسهمة، كما سيتضح أكثر.

2 - توفير الخدمات: ففي الأصل أن مهمة هذه المحلات التجارية هو توفير الخدمات، مثل محلات بيع الأدوات الصحية، أو بيع الأدوات الزراعية وهكذا.3 - أن تكون سداً منيعاً أمام طغيان الدولة، وذلك من أهم أهداف مؤسسات المجتمع المدني؛ فإن هذه الشركات الخاصة والأسواق وغيرها تستطيع أن تقف سداً منيعاً أمام جور و ظلم الدولة، بل لاحظنا أن بعضاً من الثورات الشعبية التي تأجج أوارها، تمكنت من الانتصار على السلطة الجائرة عبر تعطيل السوق، فللسوق كلمته، كما أن الجامعة لها كلمة، وكما أن الحوزة لها كلمة، فالسوق أيضاً له كلمة. وعلى أية حال، فإنه تستطيع الشركات أن تتصدى لجور الحكومة بشكل جيد لو جرى التخطيط لذلك وفق منهج سليم.

إن عدداً من علماء الاجتماع عرّف مؤسسات المجتمع المدني بصفات وقيدها بقيود، نرفض بعضها ونوافق على البعض الآخر:

1 - فمن القيود (أنها مؤسسات غير حكومية) وهذا مما نوافق عليه.

2 - ومن القيود (أنها غير إرثية( وقد اشرنا فيما سبق الى خطأ هذا القيد، فالعشائر رغم كونها مؤسسات إرثية، الا انها تسهم في بناء المجتمع المدني،

ص: 124

وتسهم في الخدمات ،كما أنها تقف بوجه الدولة، وهي تطوعية ومستقلة عن الجهاز الحكومي.

3 - ومن القيود (أن لا تكون ربحية) لكننا نرى عدم صحة هذا القيد، بل نرى أن (القطاع الخاص (هو جزء من مؤسسات المجتمع المدني، الذي ينبغي أن تنصب عليه الدراسات والبحوث لتطويره وتجذيره، والذي ينبغي أن تولى الاهتمام الكافي.

يقول أحد علماء الاجتماع : إن من شروط تكوين مؤسسات المجتمع المدني أن لا يكون هدفها الربحية، وبهذا تتميز عن مؤسسات النشاط أو القطاع الخاص.

الا اننا نقول ان مثل هذه المؤسسات التي تستهدف الربحية يمكن أن تكون أكبر مساهم في بناء الأمة السليمة، والعكس بالعكس، فإن التاجر أو البقال إذا كان محتالاً أو محتكراً فإنه يحطم الأمة، وبالعكس إذا كان التاجر أو البقال والعطار والمزارع والحلاق وغيرهم، و كذلك الشركة العامة أو الخاصة المساهمة أو غير المساهمة نزيهة أمينة تسير وفق ضوابط الشرع والإنسانية والأسس السليمة، فإن المجتمع سيكون مجتمعاً متماسكاً متكاتفاً متعاوناً.

هذا إضافة الى أمر آخر في غاية الأهمية أشارت اليه الرواية: «كيفما تكونوا يول عليكم» فإذا غلب على المجتمع والناس، الدجل والاحتيال، فإن الله سبحانه وتعالى سيسلط عليهم حاكماً دجالاً ومحتالاً، واذا بدأ الناس بظلم بعضهم بعضاً فإن الله سبحانه وتعالى سيسلط عليهم حاكماً يظلمهم، وان عكسالامر فكان مثل البقال والعطار والحلاق والمزارع والطبيب والمهندس والمحامي والتاجر، في غاية النزاهة والاستقامة، وكانوا ممن لا يطفف في الميزان

ص: 125

«وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» والمطفّف هو الذي يبخس الناس أشياءهم «الذِينَ إِذَا اكْتَالوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» بمعنى أنه يأخذ حصته كافية وافية «وَإِذَا كَالوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» بمعنى أنه حين يريد أن يعطي للآخرين حصتهم فإنه يخسر منها وينقصها«الا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ»(1) ، فإذا كان الناس بأجمعهم، وفي أسواقهم ومحلاتهم و شركاتهم الخاصة غير مطففين، فإن المجتمع يسري في طريقه الصحيح السليم.

إن مما لا شك فيه أن مؤسسات القطاع الخاص، حتى لو هدفت الربحية، فإنها ستكون من أكبر المساهمين في توفير الخدمات وبناء البلد، ولا يشكل(الربح) أية غضاضة أو أية مشكلة فيما اذا كان من الحلال والى الحلال (من حِلّه في محله).

فأصحاب المهن والتخصصات المختلفة سواء أ كانوا مهندسين ام اطباء ام بقالين ام عطارين ام حلاقين وغيرهم، إذا كان كل منهم مستقيماً، فلأنه يمارس مهنة يحتاج اليها المجتمع فهو يبني المجتمع أفضل بناء، ويوفر أفضل الخدمات للناس، كما أنه يصلح أن يكون سداً منيعاً بوجه الدولة، وبالعكس، فإنه إذا كان الناس والمستشارون والأعوان سرّاقاً فالدولة ستكون سارقة أيضاً، أما إذا راعى الناس بعضهم حق بعض، فالحاكم سوف لن يقدر أن يكون سارقاً؛ لأنه واحد من الناس، ولا يسبح الا في بحرهم، ولو سرق فإنهم سيعزلونه أو يثورون ضده، ولذا (كيفما تكونوا يولى عليكم).

ص: 126


1- سورة المطففين: 1.

باع غالياً فقطعت رجله!

وهنا ننقل قضية تتضمن عبرة بالغة، ففي فترة من الفترات أصاب القحط بعض البلاد، حيث إن السماء أمسكت قطرها، فمنعت الأرض زرعها، ونباتها وثمارها، وهلكت الكثير من المواشي والحيوانات، وتصاعدت الاسعار بشكل نجومي.

يقول من شهد تلك الفترة: اصطحبني والدي - وانا صغير - الى تاجر وقال له: نريد أن نشتري ثلاثين كيلواً من الحنطة أو الشعير، وعرض والدي على التاجر مبلغاً كبيراً، لكن التاجر المحتكر قال: الثمن قليل.

فقال والدي له: إن هذا مجحف جداً، فرفض التاجر، فاضطر والدي لرفع السعر لكن التاجر الحريص لم يقبل أيضاً، وقال: اصعد فوق! ولعل تصعيد السعر تكررت عدة مرات، من قيمة الى قيمة أعلى!يقول الطفل: انطبعت كلمات الرجل في ذهني: اصعد فوق! في البداية لم أفهم ما يعني ب-(اصعد فوق) الى أن عرفت بعدئذ إنه يعني: ارتفع بالقيمة الى أعلى، وهكذا كان حتّى استقر السعر على رقم مبالغ فيه جداً، ولكن الأب كان مضطراً لإعالة عائلته والتي كانوا على وشك الموت من الجوع.

مضت القضية وذهب شاهد القضية وهو طفل الى المدرسة، و تخرج من كلية الطب، وصار مساعداً لطبيب جراح، وقد اتى على القضية - قضية القحط واصعد فوق - قرابة عشرين سنة.

يقول: وذات يوم كنا في المستشفى، فأتوا برجل مسن يعاني من الام شديدة في الرجل، وبعد الفحص قرر الطبيب الجراح أن تقطع بعض رجله،

ص: 127

فسالت هل أقطعها مثلاً من وسط الساق؟ قال: لا، اصعد فوق، قلت له: من الركبة؟ قال: لا، اصعد فوق، قلت له: من وسط الفخذ؟ قال: لا، اصعد فوق! فقلت: من وسط الفخذ؟ فقال لي: اصعد فوق!! وإذا بي فجأة تذكرت أني قد سمعت هذه الكلمة قبل سنين طويلة، وتجلى المنظر أمامي، أنا مع والدي، وقد حضرنا عند فلان المحتكر وهو يقول: اصعد فوق، اصعد فوق، وعند هذه المرحلة خطر في بالي إنه قد يكون هذا المريض هو نفس ذاك المحتكر ! ثم قطعنا رجله، وبعدئذ عالجناه الى أن استعاد بعض صحته، فسالته من أين أنت؟ فذكر لي بلدته، فإذا هي نفس البلدة، ثم المحلة هي نفسها الى أن تبين لي أنه هو نفسه، التاجر المحتكر الذي كان يقول: اصعد فوق!! إن كثيراً من الناس يتصور أنه يجني ربحاً إذا احتكر أو خدع هذا أو ذاك في معاملة ما، كأن يبيع البضاعة الرديئة بعنوان أنها جيدة، وبسعر مضاعف، وهكذا، لكنه في الواقع يجني على نفسه من حيث يدري أو لا يدري، وسيرتدّ عليه بؤس ما صنع وشؤمه.

ثم إن المجتمع إذا كان كله هكذا، يعمل بمعادلة «اصعد فوق »فإنه سيتآكل بالتدريج وسيسلط الله عليه ظالماً أسوأ منه، على العكس مما إذا كان المجتمع بكل مكوناته من الشركات الخاصة و المساهمة، ومختلف اصحاب المهن والعمل مستقيمين فسيكون المجتمع مثالياً، وسيرحمهم الله سبحانه وتعالى أيضاً؛ لأنه «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(1).

وعوداً على بدء، فإننا نرى أنه من الخطأ الفظيع ما درج عليه قسم من

ص: 128


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص56.

علماء الاجتماع من العقلية الإقصائية، كإقصاء (العشائر) و(العوائل) و(شركات القطاع الخاص) او القطاع الخاص بشكل عام، عن دائرة مؤسسات المجتمع المدني، مع أن المجتمع يتكون من هذه المكونات، مما يجعل من الضروري التخطيط لها لاستنهاضها واستقامتها و تحسین مسيرها وسلوكها.

وقد أجبنا سابقاً بأجوبة حلّية على شبهة فساد بعض العشائر والشركات، فكيف تعتبر من منظومة المجتمع المدني؟ ونضيف الآن جواباً نقضياً إذ لنا أن نعكس عليهم بجواب نقضي، إذ يلزم على هذاالغاء كل الأحزاب! لأنها عادة تكون منحرفة، ففي الشرق دكتاتورية، وفي الغرب أيضاً دكتاتورية مقنعة، تبتني على الخداع والدجل والضغوط، وما يجري خلف الكواليس من الاتفاقات السرية وحالات التزوير والإعلام المضلل والمزيف، عليه فهل يصح القول بضرورة إقصاء كافة الأحزاب والنقابات والاتحادات من مؤسسات المجتمع المدني؛ لأنها لا تسلك سلوكاً صحيحاً؟ إن القاسم المشترك هو إن الشركة والنقابة والجامعة والحوزة، هذه كلها يتكون منها المجتمع، فإن كانت سليمة فهو سليم، و إن كانت سقيمة فهو سقيم.

مسؤولية الشركات تجاه الشركات الأخرى

وبعد أن اتضحت ضرورة إدراج القطاع الخاص بشركاته وفروعه في دائرة مؤسسات المجتمع المدني، يجب أن نسال هل إن الشركات تشعر بالمسؤولية تجاه الشركات الأخرى؟ كتلك المهددة بالخسارة أو الانهيار مثلاً.

عادة كلا، مع إن إطلاق (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته( يشمل ذلك، فهذه المؤسسة مسؤولة عن سائر المؤسسات الأخرى، إذا كانت تستطيع

ص: 129

أن تمد يد العون لتلك الشركة أو لذلك التاجر، أو الكاسب أو المزارع أو أية مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص.

والحاصل: إن المجموعة الثالثة هي(الجماعات) بالنسبة لاتجاه المسؤولية فيها الى الجماعات الأخرى، وأهم مصاديقها الشركات، فإن هذه الشركات مسؤولة عن الشركات الأخرى في تحسين ادائها و تطويرها و مساندتها اذا ما واجهت عاصفة اقتصادية .

ثم انه من الغريب أن الشركات في بلادنا لا تضع - عادة - نسبة مئوية جيدة من أرباحها للأعمال الخيرية، عكس البلاد الغربية، وقد اطلعت على تقرير عن إحدى بلاد الغرب يكشف عن أن هناك حوالي خمسة وسبعين مليون أسرة تدفع تبرعات لأعمال خيرية في منطقتهم، وهناك ما يصل الى مليون وخمسمائة الف شركة ملتزمة بدفع تبرعات سنوية أو شهرية، أو غير ذلك، للمؤسسات الخيرية أو الدينية في أنحاء البلاد، ما هو امر غير متعارف و غير متداول لدى الشركات في بلادنا.

ذلك أن الفرد قد يدفع - كشخص - الخمس، وهذا واجب شرعاً، لكن ماذا عن الشركة بما هي شركة؟ فهي مسالة اخرى مغفول عنها عادة.

إن علينا أن نثقف شركاتنا والقائمين عليها بأنها إضافة الى واجبها الشرعي بدفع الخمس، ينبغي أن تدفع خمساً آخر باسم الإمام الحسين (علیه السلام) شهرياً مثلاً او احد المعصومين عليهم السلام، ويعني أن تدفع من ريع الشركة وحاصلها، شهرياً عشرين بالمائة، للمؤسسات الخيرية ولأعمال البر، ثم عند رأس السنة إذا كان لها فائض تخمّس الخمس الواجب الشرعي، وعندئذٍ ثقوا بأن البلاد ستتغير الى الأحسن فالأحسن فالأحسن بإذن الله تعالى.

ص: 130

الفلسفة الوجودية في تقنين المجتمع المدني

والحاصل: ظهر ان من مفردات مسؤولية الجماعات، مسؤوليتها عن الجماعات الأخرى، ومن أهم مفردات ذلك هي القطاع الخاص والشركات، ومنها الشركات الخاصة، وكذلك المصانع والمعامل والدكاكين والمحلات التجارية، فنعتبرها جميعاً من مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإسلامي، كما ظهر إن إقصاء البعض لكافة المؤسسات الربحية من مؤسسات المجتمع المدني غير مقبول.

ونستدل على ذلك ببرهان الغاية، ونعني به برهان الغاية والهدف المتوخاة من مؤسسات المجتمع المدني، ولإثبات ذلك، نطرح سؤالاً عن السر في هذا النمط من أنماط التقنين، وعن سرّ البحث المستفيض المستوعب حول مؤسسات المجتمع المدني، الذي انطلق قبل أكثر من مائتي سنة في أوروبا وغيرها؟ والجواب، كما سبق، أن أهداف مؤسسات المجتمع المدني هي ثلاثة:

1. أن تكون سداً منيعاً بوجه جور السلطات الجائرة، وأمام الاستبداد والدكتاتورية والأوليغارشية(1).

ص: 131


1- الأوليغارشية Oligarchy (أحيانا الأوليغاركية) أو حكم القلة هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية. الكلمة "أوليغاركية" مشتقة من الكلمة اليونانية: أوليغارخيا. وفي القرآن الكريم تسمّى الفئة الحاكمة الملأ .وغالبا ما تكون الأنظمة و الدول الأوليغاركية مسيطر عليها من قبل عائلات نافذة معدودة تورث النفوذ و القوة من جيل لاخر.

2. أن تسهم في تقديم الخدمات للوطن وللمواطنين، وتنهض بالخدمات بشكل جيد.

3. أن تساهم في بناء الأمة، ثقافياً وفكرياً وعلمياً وحضارياً.

القطاع الخاص والإسهام المباشر وغير المباشر

اشارة

إن هذه هي الأهداف الثلاثة، المتوخاة من تأسيس مؤسسات المجتمع المدني ومن تكريسها وتجذيرها وتقويتها، ومن وضع القوانين والتشريعات للحفاظ عليها، یمكن للقطاع الخاص والشركات الخاصة والمصانع والمعامل أن تسهم فيها أفضل إسهام، و ذلك بطريقتين ونمطين:

أ- الإسهام المباشر في بناء البلاد

النمط الأول: هو النمط المباشر، وهو يعني أن هذه المؤسسات أو الشركات أو المحال التجارية أو المصانع أو المعامل، لو أحسنت العمل وقامت بأعمالها بكفاءة، واكتسبت المال من حله وأنفقته في محله، ولو درجت على السير على حسب الأصول التجارية الإنسانية الإسلامية الصحيحة، ولو تجنبت الربا والاحتكار والإجحاف، ولو تميزت خدماتها بالجودة المطلوبة، ولو تمتعت بالنزاهة ولم تلجأ الى الرشوة أخذاً بما يثقل كاهل الناس، بل وحتى عطاءاً كأن ترشو ذوي النفوذ حتى تمرر معاملاتها رغم وجود شركات اكفأ منها، لو تم كل ذلك بكفاءة و نزاهة فعندئذ يسير البلد نحو مدينة فاضلة من حيث الخدمات، كما انها تساهم عندئذ في بناء الأجيال الصالحة؛ كونها تربت ونمت في هذا الجو الإنساني النموذجي ، حيث يلحظ كل طفل أباه أو أخاه أو عمه أو أقرباءه

ص: 132

وجيرانه، ويجد كلاً منهم في أي موقع كان، صادقاً في وعوده، أميناً نزيهاً لا يدلس ولا يحتكر ولا يخدع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا المجتمع المتكون من هذه المؤسسات المستقيمة النزيهة لا يسمح لحاكم جائر بأن يمارس الرشوة والخداع والتدليس والاستبداد؛ لأنه (كيفما تكونوا يولى عليكم)، فإذا كان الناس مدلسين ودجالين وأهل رشوة - والعياذ بالله - فالحكومة تكون مثلما كانوا؛ كون الحاكم واحداً من هؤلاء الناس، لا يسبح الا في بحرهم، ولا يستعين الا بهم، ولا يتكون اعوانه و وزراؤه وأجناده الا منهم، هذا هو النحو الأول من أنحاء إسهام مؤسسات المجتمع المدني في بناء المجتمع الصالح، وبناء الفرد الصالح وتقديم الخدمات، والنهوض بالأمة الى الأمام وفي مختلف هذه الحقول.

ب- الإسهام غير المباشر

النمط الثاني: هو الإسهام غير المباشر، فإن القطاع الخاص والشركات إضافة الى كون وجودها في حد ذاته مما يسهم في البناء، فإن لها أثراً آخر في بناء المجتمع و توفير الخدمات، وذلك عبر تبرعات هذه المؤسسات من ريعها وأرباحها للأعمال الخيرية، فلو إن كل شركة التزمت بذلك لصَلُح حال البلاد والعباد، وهذه فكرة مهمة نؤكد عليها، وعلى ضرورة أن تتحول الى ثقافة عامة في الشركات والمحلات التجارية، وكل مكتب ومطب ومركز.وهذا يعني أن كل شركة عليها أن تحس بالمسؤولية، كأن تؤسس حسينية أو مكتبة أو مدرسة أو ميتماً، وعلى هذا فلو رأى كل طبيب ومهندس ومحامٍ ان من صميم مسؤوليته أن يؤسس المؤسسات الناهضة كالتي سبق

ص: 133

ذكرها، فسنرى كيف يزدهر البلد عندئذ.

وللأسف فإن القائم في بلادنا هو العكس ، في حين نلاحظ في بعض البلاد الاجنبية أن الشركات ترى من واجبها الاسهام في الأعمال الخيرية؛ ولذا فهم في هذا الحقل متقدمون جداً، وقد سبق أن مليوناً وخمسمائة الف شركة مسجلة رسمياً في احدى البلاد تسهم في أعمال الخير.

ثم إن أعمال الخير التي تسهم بها تلك الشركات منوعة ، فمنها تكفل طلاب الجامعات الذين تعسر عليهم تغطية نفقات دراستهم مما يضطر بهم الحال الى ترك الجامعة و الدراسة، فتتكفل شركة ما الف طالب، أو خمسمائة، أو عشرة الاف طالب، أو حتّى ثلاثة طلاب، بل ليقوم بالأمر الاخرون غير الشركات مثل الطبيب، بل حتّى البقال بأن يتكفل طالباً مؤمناً متديناً في التخصص الفلاني فترة دراسته في الجامعة، فإن هذه السلسلة من هذه الأعمال تبني المجتمع وتسهم في تطوره.

ثقافة الخُمس الثاني!

إذا عممنا هذه الفكرة بحيث تحولت الى ثقافة في كل الشركات، وخصصت كل شركة - مثلاً - عشرين بالمائة من واردها شهرياً باسم الإمام الحسين (علیه السلام)، من أجل النهوض بواقع الأمة، وازدهار الحياة بشتى أبعادها، فإن الأمر سيختلف كثيراً ، وستتبدل الأرض بشكل كبير عندئذ، وإن رحمة الله سبحانه وتعالى ستهطل عندئذٍ بشكل وافر، وسيدفع الله سبحانه وتعالى عن بلادنا الكثير من البلايا والرزايا والمصائب والمحن.

وأنا شخصياً، أعرف بعض أصحاب الشركات في أكثر من دولة، ممن

ص: 134

التزموا بدفع خمسين: الخمس الشرعي في رأس السنة، وخمس آخر بإسم الإمام الحسين (علیه السلام) كنذر أو مجرد التزام، حيث يدفع شهرياً أو يومياً حسب اختلاف نذره أو التزامه، عشرين بالمائة من الربح ، للمؤسسات الخيرية الإنسانية والدينية الحسينية أو الأعم من ذلك، ما يعني انه يعطي أربعين بالمائة سنوياً من أرباحه في سبيل الله تعالى، وقد بارك الله سبحانه وتعالى في أمواله أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم؛ لأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

إن الإنسان الضعيف الإيمان، يتخوف عادة، ويفكر مع نفسه كيف أدفع عشرين بالمائة من مالي؟ وكيف أخسر ما اكتسبته بعرق جبيني؟ وهكذا يتوهم إنه أضاع عشرين بالمائة من مدخوله، بينما الإنسان المؤمن يعلم أن الله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، إن الله سبحانه هو الذي أعطاك، وهو الذي يأخذ منك، فإذا كان الإنسان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى فإن الله هو الذي سيأخذ بيده ويرفعه بطريقة مباشرة معلومة، أو غير مباشرة وغير معلومة، فمثلاً قد لا يعوضه الله تعالى مالياً ولكن يعوضه بالأهم و الأكثر، كما لو كان من المقدر أن تصدمه سيارة فيصاب بشلل والعياذ بالله، ويدفع حينها أضعاف أضعاف ذاك المبلغ من المال، ثم لا يشفى، وبالنتيجة يبقى طول العمر مشلولاً، فيدفعالله كل ذلك عنه، وهو لا يدري، ويتصور مع ذلك إنه خسر 20% ! أو كان من الممكن أنه سيفقد ابنه أو زوجته في حادث أوغير ذلك.

كما أعرف شخصياً أحد التجار في إحدى البلاد، أسس العشرات من المؤسسات وكانت غايته أن يصل الى رقم 110 مؤسسة - والذي يطابق أبجد علي (علیه السلام) - ومؤسساته بعضها ضخمة جداً، وكانت إحدى أعماله الصالحة أنه تكفل بخمسة الاف يتيم، والأهم من ذلك، أنه عندما نشأت الأزمة الاقتصادية

ص: 135

الأخيرة، وعصفت بالبلاد، وحطمت الكثير الكثير من التجار والشركات خنقته بدوره هذه الأزمة، وكادت أن تسقطه أرضاً، بحيث خشي عليه أن ينكسر، لكن الغريب في أمره - وقد أكبرت فيه هذه الروح حقاً - أنه جاهد جهاداً مريراً كي لا يقطع أعماله الصالحة، فرغم ضائقته الشديدة استمر في كفالة الأيتام كل-هم، ولم ينقص من مبلغ المساهمة التي يدفعها ل-هم شيئاً، وكانت مساهمة جيدة، وهكذا وجدنا أن الله سبحانه وتعالى أمسك بيده، وتجاوز الأزمة بسلام، وصعد من جديد، بل صار أفضل مما كان، مع إن الكثير من التجار تحطموا وصاروا تحت الصفر.

إن الكثير منا عندما يوسع الله عليه يبذل ويعطي، ولكن إذا بدأت الحلقات تضيق يبدأ بالتقليل من الأعمال الصالحة التي كان ملتزماً بها، ولعل الذي كان يدفع للحسينية الفاً، سيدفع مائة أو خمسين أو أقل، هذا إن لم يقطع! أما مستوى معيشته الشخصية فإنه يحاول أن يحافظ عليها قدر المستطاع وحتى سفراته ونزهاته! إن المؤمن الحقيقي على العكس من ذلك تماماً، فقد يقلص من نفقاته الشخصية ومصاريفه الخاصة، ولكن لا يقلص من تخصيصاته للعمل الصالح؛ لأنه يعلم أن الله هو الرزاق، وإن الإنفاق هو مفتاح الفرج.

فإذا تمتعت الشركات - كل الشركات في العالم الإسلامي - بهذه الروح وبهذه الدرجة من الايثار، إضافة الى روح النزاهة والاستقامة، وإذا التزمت كل مؤسسة وشركة وكل محل، وكل مطب أو مركز صحي، أو غير ذلك، بإنفاق عشرين بالمائة من واردها في سبيل الله للحوزات العلمية وطلابها وللجامعات والمعاهد وطلبتها ، ولرفع مستويات التعليم ، ولتشغيل العاطلين

ص: 136

عن العمل، و لللجان الخيرية الهادفة، ولتزويج العازبين والعازبات، وللأيتام والأرامل، وللفقراء والمحتاجين، و لإكساء الشوارع، و حفر الآبار و توفير الكهرباء أو لأي شيء آخر في البلدان التي تحتاجها، فهل ستبقى عندئذٍ حاجة معطلة؟ وهل سيبقى فقير أو مسكين؟ وهل ستبقى بلادنا متخلفة؟ كلا بل إن الوضع سيكون عندئذ مميزاً؛ ذلك إن هذه الأعمال تسهم في بناء المجتمع المتطور المزدهر الصالح، وتسهم في كسب رضا الله سبحانه وتعالى كي يلطف بعبيده، فلا يتسلط عليهم حاكم جائر، إضافة الى ما سبق من إن الحاكم الجائر في الواقع يعدّ ولادة طبيعية لهذه الأمة ولحالات الناس؛ إذ: هل تلد الحية الا الحية؟ و)كيفما تكونوا يولى عليكم(، ليس لأجل الجانب الغيبي فحسب، وإنما من حيثية الجانب الطبيعي أيضاً.

الحقوق الشرعية ليست منحصرة بالزكاة

ولابد أن نستضيء ببعض الروايات الشريفة، وهي من كتاب (الوسائل(، حيث ينقلها عن الكافي الشريف عن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام)، يقول: «ولكن الله عزّ وجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة، فقال عزّوجل:«وَالذِينَ فِي أَمْوَال-هم حَقٌّ مَّعلُومُٴ لِّلسَّائِلِ» »(1).

وعن سماعة قال: سالت أبا عبد الله (علیه السلام) قلت: قوم عندهم فضول وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس تسعهم الزكاة، أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم، فإن الزمان شديد، فقال (علیه السلام) : «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه،

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج9 ص46.

ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه، والتواصل والتعاون عليه والمواساة لأهل الحاجة، والعطف منكم تكونون على ما أمر الله فيهم، رحماء بينكم، متراحمين»(1).

ومن هذا يظهر إن أولئك الذين يمتلكون الأمور التسعة التي تتعلق بها الزكاة من حنطة، وشعير، وتمر، وزبيب، أو ذهب، أو فضة، أو الأنعام الثلاثة، لا يكفي أن يلتزموا بالزكاة بنصابها، بل ينبغي ل-هم أن يدفعوا أكثر من الزكاة، بنص كلام الإمام:(فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة)، فهم قوم عندهم فضول ولله الحمد، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس تسع الزكاة هؤلاء الإخوان، فكيف يشبعون ويجوع إخوانهم؟ فإن الزمان شديد.

ويقول (علیه السلام): «المسلم أخو المسلم»،وهل يمكن للأخ أن يترك أخاه متذرعاً بالقول بأنني دفعت الحقوق الواجبة، وليمُت أخي من الجوع؟ كلا، إذ «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله» وهذا نوع من الخذلان، بل لعله يمكن أن يستشف من ذلك أنَّ هذا نوع من الظلم أيضاً ،فلو كان أخوك محتاجاً رغم انك دفعت زكاة مالك، فعليك أن تدفع أكثر؛ لأن تركه في حاجة شديدة (ظلم)، (لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه) من فضل هذا المال، إذن (فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون والمواساة لأهل الحاجة والعطف منكم)، فإذا فعلتم ذلك (تكونون على ما أمر الله فيهم، رحماء بينكم، متراحمين)، ومادة الأمر تفيد الوجوب، وقد استخدمها الإمام (علیه السلام) ههنا (على ما أمر الله فيهم).

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج16 ص385.

ونضيف رواية أخرى، وسندها صحيح، عما فعله الإمام الجواد (علیه السلام): (فقد فرض في إحدى السنين على الشيعة الخمس مرتين) حيث إنه (علیه السلام) الزمهم بدفع خمس اخر في سنة واحدة، مع ان الخمس يتعلق بالمال لمرة واحدة بالسنة، ولكنه قد يجب من باب الولاية وبعنوان ثانوي، وهذه الرواية توضح الخلفية والفلسفة في ذلك؛ إذ فرض الإمام (علیه السلام) الخمس على شيعته مرتين.وعلى هذا، فكم هو محبّب أن تلتزم الشركات بطوعها نظرا للحاجة الاجتماعية بدفع خُمسَين في السنة، أو بدفع خمس واحد شهري تلتزم به، للفقراء والمساكين والأيتام، وللمدارس والمكتبات والمساجد والحسينيات ولسائر مؤسسات المجتمع المدني، والخمس الثاني تدفعه عند رأس السنة، وكم ستتطور البلاد عندئذٍ؟ ونختم البحث برواية أخرى، فيها أبلغ الإنذار والتحذير للبخلاء والمحتكرين والأنانيين، فعن فرات بن أحنف، عن الإمام أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج اليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسودّا وجهه، مزرقّة عيناه، مغلولةً يداه الى عنقه، فيقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به الى النار»(1).

وهذا يعني إنه لا يكفي دفع الخمس والزكاة للخلاص من العقوبة الالهية، ما دامت هناك حاجة ضرورية معطلة لأخ مؤمن، بل عليه أن يسدّها بنحو الواجب الكفائي، إما من جيبه الخاص، أو أن يتوسط عند غيره، والا(أقامه الله)، أي هذا الذي منع العطاء (يوم القيامة مسوداً وجه مزرقة عيناه

ص: 139


1- الكافي: ج2 ص367.

مغلولة يداه الى عنقه) ولا يدرأ عنه هذا العذاب أن يقول لقد دفعت الخمس والزكاة، حيث كان يقدر على أكثر من ذلك ما دام الناس بحاجة ملحة، (فيقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به الى النار) والعياذ بالله، وهل تنفعه حينئذٍ أرصدته الضخمة في بنوك الدنيا؟ وهل تنقذه شركاته ومزارعه وعلاقاته وسلطته الدنيوية التي خلّفها وراء ظهره؟ كلا.. والف كلا.. الل-هم أعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم، يا أرحم الراحمين.

ص: 140

الفصل الثامن: مسؤوليات الجماعات عن بعضها في المجتمع المدني ومبنى الولاية المتبادلة في مهامها

اشارة

ص: 141

ص: 142

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1)».

سيجري البحث في مسؤولية الجماعة تجاه الجماعات الأخرى، ولابد قبل ذلك من التعرف على الأبعاد الأخلاقية والأسس الإنسانية لهذه المسؤولية الجماعية، فنقول: إن أخطر عدوّين تواجههما المسؤولية الجماعية هما (مرض محورية الذات) ومرض (صنمية الجماعة).

أ - مرض محورية الذات:

اشارة

إن من أشد الأمراض خطورة وترسخاً في الأنفس مرض صنمية الذات أو محورية الذات، والتي تعني أن يرى الإنسان كل شيء بمنظار(الأنا)، فيكون كمن يضع نظارات داكنة سوداء يرى كل شيء بنفس اللون، على خلاف واقعه وحقيقته، فالصنمية في جوهرها بحث عن عوائد الاشياء للذات من دون اخذ

ص: 143


1- سورة التوبة:. 71

اعتبار الاخرين، ومن دون البحث عما يرجع نفعه للآخرين.

فائدة الإمام الغائب

وكمثال هام على ذلك، ما نلاحظه من التفكير بطريقة أنانية وفي دائرة الأنا من قبل بعض فيطرح سؤالاً يتمحور حول ماهية فائدة الإمام الغائب المنتظر f بالنسبة لنا؟ معتبراً نفسه - في الواقع - هي المحور، والحال إن أصل التفكير خاطئ في جوهره، فإن الإنسان الكامل ذا المستوى الرفيع لا يفكر بهذه الطريقة، فلا يفكر بالعوائد الشخصية عليه، فإذا أعطى لليتيم شيئاً لا يفكّر: ما هي فائدته لي؟ فإنَّ هذا تفكير أناني يعبر عن مستوى النفس وال-همة والعقل.بل لتكن الفائدة للغير ايضاً، فإذا بنيت المسجد أفكّر ما هي فائدته للناس؟ وإذا عدلت في الرعية أفكر ما هي فائدته للمجتمع؟ والسؤال الصحيح بالنسبة للإمام المنتظر f هو: ما هي فائدتنا له؟ لماذا يتمحور كل تفكيرنا حول الذات وكأننا نحن محور الكون، وأن كل شيء لابد ان ترجع فائدته لي؟! ومثاله المبسط :إن الله سبحانه وتعالى خلق البرتقال والتفاح ونظائرهما من الفواكه للإنسان، ولم يخلق الإنسان للتفاحة أو للشاة والدجاج، مما يعني أن الأدنى خُلق للأعلى، لا أن الأعلى خلق للأدنى، فهل يصح للبرتقال - إذا كان لها أن تفكر - أن تقول ماهي فائدة الناس لي؟ فنقول لها: إن الله قد خلقك للإنسان؛ لأن الإنسان أشرف منك، ولم يخلق الإنسان لك.

إن الإمام المنتظر f هو سيد الكائنات على الإطلاق، وهو الأشرف على الاطلاق؛ لذا لزم أن نفكر ما فائدتنا له؟ وما الذي نتشرف بتقدميه له؟

ص: 144

وليس ما هي فائدته لنا؟!! وهذا بحث جوهري وأساسي، ويدل على شاكلة الإنسان وحقيقته وعمقه .إن على كل منّا أن يغيّر طريقة تفكيره، ليبحث وفق منطق ما هي فائدته للآخرين؟ وفق منطق العطاء وليس مجرد الأخذ، ليبتعد عن مرض صنمية الذات، وتاليهها، ومحورية الذات لجهة حب الشهرة والسمعة أو الكرامة الشخصية، بدلا من الانتصار للدين، إن الكثير من الناس إذا جرحت كرامته يظل يتلوّى كالأفعى، أما إذا جرحت كرامة الدين فلا يظهر أثر ذلك عليه، إذن، يجب تعديل المحور في المعادلة بما يتعلق بالفرد والجماعات أيضاً.

ب - مرض صنمية الجماعة

المرض الثاني: مرض صنمية الجماعة، فقد يبتلى كثير من الناس بصنمية جماعته، أو عشيرته أو حزبه وحتى شعبه، وذلك يعني أن صنمية وتاليه الجماعة تدعوه لاجتذاب كل الخيرات لجماعته على حساب الجماعات الأخرى، وهو تفكير أناني تماماً في دائرة اوسع من الانانية الفردية، فهي انانية في دائرة العشيرة او الحزب، فيرى عشيرته او حزبه دائماً على حق والبقية على باطل، بل يتجاوز الامر احياناً هذا المدى، فيقف مع جانبهم مع معرفته ببطلان معتقدهم او مسلكهم، وهذا هو الداء العضال، بينما ما ندب اليه الاسلام ودعا اليه هو ما قاله الرسول (صلی الله علیه و آله): «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقيل: يا رسول الله كيف انصره ظالماً؟ فقال (صلی الله علیه و آله): «ترده عن ظلمه فذاك نصرك اياه»(1). فإن

ص: 145


1- رياض المسائل: ج15 ص291.

هذه هي النصرة الحقيقية له؛لأنها تعبِّد له طريق آخرته، بل وتكفل له السعادة في الدنيا أيضاً، وعلى ذلك فإن القاعدة هي: إذا طغت جماعتك وتجبرت فعليك أن تقف بوجهها وليس معها أبداً!وهذا المرض العضال والخطير، له تأثير مباشر في مساق البحث على مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني ؛ لأنه ينخر في البنية التحتية للمجتمع، وهي أخلاقياته وأخلاقيات مؤسسات المجتمع المدني.

إن الغاء الصنمية والغاء المحورية وسحق الأنا، سواء الفردية أم الجمعية يجب أن تحدد ضمن الأولويات القصوى، فإن الصنمية مرض خطير يبعد الإنسان عن رضا الله سبحانه وتعالى، فكما أن الواجب على الإنسان أن يفكر في جماعته والنهوض بهم فكرياً وثقافياً، إيمانياً و أخلاقيا، اقتصادياً وسياسياً، كذلك من الواجب عليه أن يفكر في الجماعات الأخرى أيضاً، ويسعى للنهوض بهم، وإن على الإنسان أن ينطلق - أساساً - من الحب في الله سبحانه وتعالى، لا من الحب للجماعة، فالإنسان المؤمن ما دام مؤمناً فإن عليه أن ينهض أيضاً بواقع الجماعات الأخرى ما دامت مؤمنة، سواء أكانت قريبة أم بعيدة، وسواء أكان عضواً فيها أم لم يكن.

(المتحابون في الله) البلسم لجراحات المجتمع المدني

وفي رواية لها من الروعة ما لها، ذكرت في الكافي الشريف، - والكافي الشريف كما هو معلوم يتضمن كنوزاً من المعرفة والعلم والحكمة والجواهر - يروي أبو حمزة الثمالي عن الإمام علي بن الحسين السجاد (علیه السلام) أنه قال: «إذا جمع الله عزّوجل الأولين والآخرين، قام منادٍ فنادى يسمع الناس، فيقول:

ص: 146

أين المتحابون في الله» قال (علیه السلام): «فيقوم عنق من الناس، فيقال ل-هم: اذهبوا الى الجنة بغير حساب» قال (علیه السلام): «فتلقاهم الملائكة، فيقولون: الى أين؟ فيقولون: الى الجنة بغير حساب» قال (علیه السلام): «فيقولون: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله» قال (علیه السلام): «فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم، قالوا: كنا نحب في الله، ونبغض في الله» قال (علیه السلام): «فيقولون نعم أجر العاملين»(1).

(إذا جمع الله الأولين والآخرين) في يوم القيامة، ذاك اليوم المهيب المخيف بشتى أبعاده، بل إن نفس اجتماع المليارات من الناس في مكان ما يعد أمراً مهيباً جداً، فكيف إذا كانوا في صحراء المحشر.

(أين المتحابون في الله( فالنداء والسؤال عن المتحابين في الله ، وليس المتحابين في العشيرة، أو في الحزب، أحبُّ هذا أو ذاك لأنه مؤمن، وأدافع عنه لأنه مؤمن، وأنصره لأنه مؤمن، من أيِّ جماعة كان، والى أية مجموعة انتمى، ولا يخفى ان المراد بالتعصب الحزبي والفئوي هو معناه السلبي والذي يعني الانتصار المطلق ل-هم من دون الاخذ بالاعتبار كونهم على حق او على باطل، اذ من الواضح ان حب العشيرة او الجماعة في حده الطبيعي امر مرغوب فطري، فالكلام في ذلك انما هو في صورة دوران الحق والباطل وملازمة الجماعة او الحزب او العشيرة حتى عند سلوكهم طريق الضلال والباطل كما لا يخفى .(فيقوم عنق من الناس) أي مجموعة من الناس (فيقال ل-هم اذهبوا الى الجنة بدون حساب( ولا يخفى اهمية هذا المقطع اذ (الحساب) في ذلك اليوم

ص: 147


1- الكافي: ج2 ص126.

العسير وامام رب العالمين الذي لا يخفى عليه شيء، في حد ذاته أمر مخيف، فإن الإنسان قد يخاف من القاضي أو الحاكم أو حتّى الشرطي الذي يريد أن يحاسبه، فكيف إذا كان الحساب أمام رب العالمين جلّ جلاله؟! خاصة وان الحساب دقيق و(الكتاب) لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً الا أحصاها، حتى مثل الابتسامة الواحدة في وجه امرأة أجنبية، فانه محاسب ، وللأسف فان كثيراً من الناس في الجامعة أو الشركة أو السوق ومحل العمل قد يفعل ذلك، والناس يعتبرون - المفاكهة - من الأمور البسيطة، في الغرب أو في الشرق، والحال أن كل شيء له حساب، حتّى الكلمة البسيطة محاسب عليها.

(فتلقّاهم الملائكة) أي تتلقاهم، فيذهبون الى الجنة بدون حساب، يعني إنهم يخترقون الحواجز كلها؛ لذلك فإن الملائكة الموكلين بأمر المحشر أو الواقفين أمام باب الجنة، يتعجبون من ذلك، لأنهم قدموا قبل الموعد، أي قبل موعد انفضاض الناس من ساحة المحاكمة المحشرية، والتي هي«فِي يومٍ كانَ مِقدَارُهُ خَمسِنَ الفَ سَنَةٍ»(1)، (فيقولون الى أين) إذ يرونهم الى الجنة مسارعين (في ولون الى الجنة بغير حساب).

وهنا يتساءل الملائكة (أي حزب من الناس)؟ وأي ضرب ونوع من الناس أنتم؟، (فيقولون نحن المتحابون في الله)، كنا نحب من نحب في الله، وليس في هوى جماعتي وحزبي وعشيرتي، وإذا كان الامر كذلك فسنجد أي مؤمن من اية جنسية اخرى يهيب لنصرة و مساعدة مؤمن اخر من اية جنسية كان، لا لشيء سوي كونه مؤمناً وحسب.

ص: 148


1- سورة المعراج: 70.

(فيقولون: أي شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله) نحب هؤلاء في الله، ونبغض أولئك في الله، فلو كان المنافق من عشيرتي فأبغضه في الله، ولوكان هذا المخرب أخلاقياً من جماعتي فأبغضه في الله، وقد يكون عضواً في جماعة تخريبية، أو قد يعمل في فضائية مفسدة، أو في أفلام فاسدة، حتى وإن كان من أخوته و عشيرته، فإن عليه أن يكون مبغضاً له في الله، وأن يقف بوجهه كذلك، وكذا الأمر في الحكومات؛ إذ كثيراً ما تحابي الأحزاب الحاكمة جماعاتها، فتأتي بعضو من جماعتها الى الوزارة أو الوظيفة؛ لأنه من أعضاء الحزب، رغم أن الحزب يعرف أنه ليس كفؤاً وبالمستوى المطلوب، ويستبعد الحزب ذاك الأخر المؤمن؛ لأنه من جماعة ثانية رغم أنه كفوء، وهذا يعني أنه لا يوجد حب في الله أو بغض في الله.

وللحق فإن هذا عمل صعب، ان يحب المرء في الله ويبغض في الله فقط، وهناك روايات أخرى عديدة في هذا المضمار، تذكر في مظانها.والحاصل: ان المرض الأول هو محورية الأنا، وتاليه الذات، وصنميتها، والمرض الثاني هو تاليه الجمع والحزب أو صنميته، فعلى الإنسان أن يتجاوز هذه الحالة.

من مقاييس التحابّ في الله

واليكم المقياس والمؤشر الآتي: فإنه إذا كان أحدهم عضواً في هيئة أو في حزب، وحقق حزبه إنجازات فإنه سيفرح ويرفع رأسه عالياً، فهل سيفرح عندما يحقق الحزب الثاني المنافس إنجازاً ؟ و في مثال ثاني لو كانت هناك هيئة او حسينية او مسجد او مرجعية او غيرها، قد حققت انجازاً إيمانياً، وتقدمت

ص: 149

مكتسحة للساحة، فهل يفرح الانسان كما لو انه كان هو المنجز والناجح؟ وكذلك هل يعتريه الحزن فيما إذا تعثرت جماعة منافسة أو مُني جمع من المؤمنين بهزيمة ما، من أي نوع كانت الهزيمة، اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها؟ مع إننا نجد أن بعض الجماعات الثانية تفرح عندئذٍ وتشمت، بينما الإنسان المؤمن عليه أن يحب في الله، ويبغض في الله، فإذا حقق الآخر إنجازاً إيمانياً فيعتبره نصراً له شخصياً؛ لأن الهدف هو خدمة الله، وخدمة أهل البيت الأطهار % .

ولكن ما أصعب أن يحب الإنسان في الله، ويبغض في الله؟ إذن، لابد على الإنسان أن يوجد هذه الحالة في أعماق ذاته، وأن يحس كأنه يطير بجناحين: أحدهما: جناح جماعته وعشيرته وحزبه و مرجعيته، وبما لا يخالف رضا الله تعالى، وثانيها: هو جناح بقية الجماعات بما يوافق رضا الله أيضاً؛ لأن الأمة لا تنهض بهذه الجماعة فقط، وإنما تنهض بالمجموع، فالإنسان عليه أن يمنهج ويبرمج حياته على أن يطير بالجناحين، جناح الأصدقاء وجناح المنافسين، أو جناح جماعته وجناح الجماعة الأخرى، فيحبهم ويمنحهم من عطائه أيضاً.

مقترحات عملية لتكامل مؤسسات المجتمع الإنساني

وهنا نقترح ثلاثة اقتراحات:

1- أن تخصص كل جماعة من الجماعات الإيمانية مقدراً من وقتها ومن وارداتها للجماعات الثانية، ولدعمها وتقويتها وتطويرها، فإننا نلاحظ أن كل جماعة أو هيئة تحاول أن تقوّي نفسها - عادة -، وهذا ممتاز لا خلاف فيه، بل

ص: 150

لابد أن نشجعه ونحرِّض عليه، ولكن ينبغي على كل هيئة أو جماعة وكل موكب و عشيرة و حزب أن تخصص ايضاً مقداراً من طاقاتها لكي تقوي بقية الجماعات، والهيئات والمساجد، وبذلك تنمو مؤسسات المجتمع المدني وتتعاضد وتتقدم معاً بخطوات واثقة الى الإمام.بل نقول: إذا كان ذلك، فحتى لو كانت تفكر هذه الجماعة تفكيراً أنانياً - والعياذ بالله - فستكون أقوى بذلك! إذ روي عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)، أن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «ومن يقبض يده عن عشريته، فإنما يقبض عنهم يداً واحدة، ويقبض عنه منهم أيدي كثيرة» (1)؛ لأن الكل سيتعاون معه إذا تعاون هو مع الآخرين.

2- كما أن من المقترح، أن يسجل في النظام الداخلي لكل جماعة، ولكل هيئة و نقابة أو حزب أو أتحاد، بند يصرح بتخصيص جزء من الموارد المالية، والمكانة الاجتماعية ومن الوقت، والوساطة للإصلاح - وهو من أهم الأمور - وغيرها، من أجل النهوض بالجماعات الأخرى الى الأمام، وأي تعاون على البر أسمى وأعلى من ذلك؟! 3 - كما أن من المقترحات في هذا الحقل، أن تؤسس مجالس شورى، أو ما يشبه البرلمانات، وفي الجماعات الدينية مثل ان يكون في المساجد برلمان يعدّ بمثابة مجمع للمساجد؛ لأن المسجد الواحد قد لا يستطيع أن يقضي على الفساد في البلد، لكن مجلس أئمة الجماعة يمكنه بالتعاون مع غيره أن يقضي على ظواهر سلبية، مثل المخامر والمقامر ودور البغاء وغيرها.

ص: 151


1- الكافي: ج2، 154.

وكذلك الحسينيات لو تعاونت وتكاتفت وكوّنت مجمعاً شورياً، وكذا الأحزاب الدينية والوطنية في مختلف بلاد الإسلام لو تعاونت في مواجهة الاستعمار، والاستبداد، ومكافحة سياسة التجهيل وتكميم الأفواه، فسيحدِث ذلك تطوراً كبيراً في فاعلية وأداء مؤسسات المجتمع المدني؛ إذ ستكون قدرة كل مؤسسة من هذه المؤسسات على مواجهة الاستبداد والظلم أكثر فأكثر فأكثر؛ فان «يد الله مع الجماعة».

حجم التحديات يفرض التعاون والتكامل

ومما يؤكد ذلك أن حجم التحدي كبير جداً، وإن الإنسان لا يعيش في جزيرة منعزلة له أن يفعل فيها ما يشاء، ولو في الجملة، فإننا نعيش في عالم نجد الجماعات الأخرى فيه متكاتفة متعاونة حتّى السحرة ، فقبل فترة، اجتمع السحرة بما يقارب اربعة الاف ساحر من أنحاء العالم في بريطانيا، وعقدوا مؤتمراً ل-هم لثلاثة أيام، وكانت أهدافهم المعلنة البحث في كيفية تطوير سحرهم، هكذا وبشكل رسمي، والغريب أن مؤتمرهم هذا مستمر سنوياً!.فالسحرة الذين هم في ضلال ل-هم هذا المقدار من العقل، فعلى الرغم من باطل-هم الا أنهم يسعون الى التطوير عبر المؤتمرات والتشاور والتعاون، فكيف بنا نحن المؤمنين، الذين أمرنا الله تعالى بصريح القول: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ»(1)؟ إننا إذا عرفنا أنَّ حجم التحديات كبير جداً، وأن الأخطار التي تداهمنا

ص: 152


1- سورة المائدة: 2.

هي فوق أن نتصور، وأن الدول الكبرى والاستعمار والأيادي الخفية تشتغل - ليل نهار - وتعمل للإفساد ليل نهار، لتغيرت حالتنا الفردية كثيراً، واتجهنا نحو التكاتف والتكامل والتعاضد والتعاون اكثر.

ولنضرب مثالين عن تخطيطهم المدروس:

أ - في إحدى المدن المقدسة وبالقرب من المشهد المقدس، كانت تباع بعض الأقراص المدمجة (السيديات) الفاضحة المفسدة أخلاقياً، وبسعر مدعوم، فالقرص الذي كانت قيمته - مثلاً - عشرة في السوق كانوا يبيعونه بواحد، وبعد فترة اكتشفوا أن هذا العمل مدعوم من جهات دولية معينة، كانت تريد أن تفسد هذا البلد.

ب - وكذا المخدرات من هذا القبيل، وقد وصلتنا أخبار - لا أرغب في ذكر تفاصيلها الآن - عن بعض المناطق التي يعيش بها أتباع أهل البيت %، حيث إن الدولة الظالمة التي هي على خط آخر بدأت وفق منهج وبرنامج مركز، لأجل سحب أولئك الشباب الى حبال وشباك مهربي المخدرات، والى تعاطي المخدرات بتخطيط متعمد، وهذا يعني أن الأمر ليس عادياً، والأمور لا تجري هكذا، وإنما الشيطان وحزبه وجمعه يخططون على مر التاريخ، وفي مقابل-هم ينبغي على المؤمنين والأولياء أن يخططوا لمجابهتهم بحكمة ودقة وتعاون وتعاضد ومثابرة.

إذا تقوقعت كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني على نفسها، ولم تمد يد العون الى الجماعات الثانية، ولم تمد الجماعات الأخرى يديها اليها

ص: 153

فستبقى ضعافاً كلنا، والأمير (علیه السلام) يقول: «فيا عجباً عجباً والله يميت القلب ويجلب ال-هم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطل-هم، وتفرقكم عن حقكم(1)».إذن، ينبغي على الإنسان أن يضع هذه القضية نصب عينيه، أن على مؤسسات المجتمع الإنساني أو الإيماني مسؤولية جوهرية بالقياس الى الجماعات الأخرى، تطويراً وتنزيهاً ودعماً وتقوية، وللبحث صلة.

ص: 154


1- نهج البلاغة: من خطبة له (علیه السلام) 27.

مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني

مقاربة بحثية لمعاني مفردة« الولي»

من الضروري التدبر في كل مفردة من مفردات الآية القرآنية الكريم:«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» لنصل الى تصور أشمل وأعمق للأساس الدستوري العام للمجتمع المدني، من زاوية النظرة الإسلامية القرآنية، خاصة مفردة (ولي) فقد ذكرت لكلمة (ولي) معان عديدة(1).

فالولي قد يراد به:

1: (القيم والوصي) و (علي ولي الله( بمعنى كونه قيّماً ووصياً وذا ولاية من قبل الله تعالى على الأمة.

وكذا في مثل ولاية الاب على الاطفال، و الزوج على الزوجة بمقدار الولاية التي له عليها، وفي مثل ولاية الفقيه على القصّر والغيّب، يعني القيمومة

ص: 155


1- فهل هي على نحو الحقيقة في (القيِّم) ذي الولاية، والمجاز في غيره؟ وهذا هو الحق، وعلى فرض التنزل فانه حقيقة في (الجامع(، كما سيأتي في المتن في الاحتمال الثاني، ولا ريب إنه ليس بنحو الاشتراك اللفظي بين مجمل هذه المعاني كما سيتضح، وكما فصّله العلامة الأميني في الغدير.

والسلطنة في حدود المجعول شرعاً، نعمولي الأمر بقول مطلق ومن كل الجهات هو الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومون % لا سواهم.

2: او (المحب) فعلي ولي الله، قد يراد بها أنّه محب لله، حباً حقيقياً بأعلى درجات الحب والمحبة، حيث لا يضارعه في ذلك أحد الا رسول الله .(صلی الله علیه و آله) 3: او (المطيع)، فعلي ولي الله قد يقصد به إنه مطيع لله حق الطاعة، بأكمل المعاني وأتمها.

4: او(الصديق).

5: وقد يراد به (النصير(، فعلي ولي الله، يمكن أن يراد به نصير الله حقاً وصدقاً؛ لأنه نصر الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة، وكان الساعد الأيمن لرسول الله . (صلی الله علیه و آله) 6: والمعنى السادس من معاني الولي هو (الحليف) فهذا ولي أولئك القوم يعني حليف ل-هم.

7: ومن معاني الولي (المالك).

ثم بملاحظة ما ذكر يمكن ان نذهب في المعاني المذكورة لكلمة (ولي) الى أحد الرأيين التاليين:

1- فإما أن نقول أنَّ هذه بأجمعها موارد استعمال وبتعبير آخر: هي مجازات لعلقة ما، وإنما الموضوع له الحقيقي للولي هو (القيم وذو الولاية(، فالولي في الآية الشريفة «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آَمَنُوا الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) لا يعني: محبكم الله؛ إذ إن كل مؤمن قد يحب

ص: 156


1- سورة المائدة: الآية 55.

مؤمناً آخر، بل قد يحب غير المؤمن المؤمن، فلا يصح الحصر ب- «إِنَّمَا» لو أريد من ولي (المحب(، ولا يعني: نصيركم الله سبحانه وتعالى ورسوله، وأمير المؤمنين الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع؛ إذ قد ينصر مؤمن مؤمناً وقد ينصر غير المؤمن مؤمناً، بل يراد ب-- «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ» - وبأدلة كثيرة، ومنها أداة الحصر المستخدمة فيها «إِنَّمَا» - القيمومة و ولاية الأمر، ويمكن مراجعة كتاب (الغدير) لمعرفة تفصيل ذلك.

ثم بناءً على هذا الراي سيكون معنى الآية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» أن الله سبحانه قد منح الولاية و القيمومة لكل مؤمن على مؤمن آخر، لكي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ولكي يجرّه الى طريق الطاعة ويبعده عن طريق المعصية، فإنه بولاية من الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمن بالمعروف؛ ولذلك يجب أن يلتزم به، وليس له حق أن يتخلى ويتهرب، وهي من مصاديق الولاية.وبعبارة جامعة: لو صِرنا الى أن الولي المراد به القيم، فالمعنى في هذه الآية الشريفة هو: أن الله سبحانه وتعالى جعل أبعاض المؤمنين، و إن شئت فقل: جعل مكونات المجتمع الإيماني أو الإنساني بعضهم ولياً على البعض الآخر، في بناء هذا المجتمع إيمانياً وعقدياً وفكرياً وثقافياً أولاً، وفي توفير الخدمات ثانياً، وفي ردع السلطات عن أن تسحق حقوق الناس ثالثاً.

2- والاحتمال الآخر: أن تكون كلمة «ولي» مستخدمة في هذه المعاني لا على نحو المجاز، وإنما لأن هنالك جامعاً بين هذه المعاني بأجمعها، والجامع

ص: 157

هو: القيّم بالمعنى الأعم ،أي من يقوم بأمرٍ من أمور الطرف الآخر.

ثم إن القيمومة على أنواع بلحاظ اتجاهها، فقد تكون من فوق، كما في القيم بالمعنى الأخص، وقد تكون من المساوي للمساوي، كما في الصديق، وقد تكون أيضاً من فوق بنوع من الفوقية المتصورة كما في النصير، حيث إنه من حيث نصرته فوق، وقد تكون من الأسفل الى الأعلى، كما في المطيع، ويكون ذلك نظير عكس الحمل؛ لأن القيمومة هي من المطاع للمطيع، فتأمل.

إذن، هنالك جامع، وهو المراد، وانطباقه على المصاديق قهري لو ذكرنا هذا المعنى والتزمنا به، فإنه يجري في هذه الآية الشريفة، وفي آية الولاية أيضاً.

والحاصل: إنه على الاحتمال الأول: فإن (الولي) هو القيّم ومن له السلطة والولاية بالمعنى الأخص، فيكون قسيماً لسائر المعاني، وعلى المعنى الثاني فالولي حقيقة في الجامع، فيراد من الولي القيم بالمعنى الأعم، فتكون تلك المعاني الأخرى قسماً، فلو أطلق(الولي) شمل كل المعاني لصحة إرادتها منه، وحيث لا مقيد عمّ ، ولو استعمل في أحدها صح لكونها أصنافاً، لكنه بحاجة الى قرينة معيِّنة حينئذٍ - كالمشترك اللفظي - لا صارفِة، وعلى الاحتمال الثاني: فإنه يراد في الآية الشريفة (القيم( دون شك، كما يراد أيضاً بالولي (النصير(، لأن النصير لكم حقاً هو الله سبحانه وتعالى، والرسول(صلی الله علیه و آله) وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) والأئمة الأطهار%، أما الآخرون فنصرتهم من درجات أخرى نازلة جداً، بل قد تكون نصرة مجازية، أقرب للمجاز منها للحقيقة.

والحاصل: إن أغلب المعاني يمكن أن تكون مشمولة لهذه الآية الشريفة، حتّى (المحب) فإن الله يحب عباده، وليس في ذلك شك وهكذا، ولكن معنى المطيع لا يصدق قطعاً للقرينة الخارجية في الآية الشريفة.

ص: 158

والأمر في آية: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» من هذا القبيل، فأي معنى من هذه المعاني أمكن تطبيقه ولم يدل دليل على خلافه فلا بأس به على هذا الرأي، حيث يراد بكلمة الولي الجامع لتلك المعاني، بمعنى أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم محب للبعض الآخر، وصديق للبعض الآخر، يصدُقُه ويصدِّقه في ما ينبغي له أن يصدقه فيه، وكذلك هو نصير، حليف، وقيم.

3- اما الاحتمال الثالث: فهو أن تكون كلمة(ولي) مشتركاً لفظياً بين كل تلك المعاني.والحق هو الاحتمال الأول: وهو أن (الولي) حقيقة في القيّم بالأمر ذي الولاية عليه والسلطة الشرعية بالمعنى الأخص، وذلك للتبادر، وعلى فرض التنزل فإن المعنى الثاني هو المتحتم.

أما المعنى الثالث، ففيه إنه خلاف الظاهر، لندرة الاشتراك اللفظي، كما أنه خلاف الأصل؛ لأصالة عدم وضعٍ آخر زائدٍ على الوضع الأول لقطعيِّة وضع (ولي) للقيم وذي الولاية، والشك في وضع آخر للباقي فالأصل العدم.

وأما الاستعمال فهو أعم من الحقيقة، كما هو مقرر في محله، وأهل اللغة يفسرون الكلمة بموارد استعمالها من غير تقيّد بالموضوع له الحقيقي، وهذا البحث له تتمة طويلة تترك للبحوث العقدية والاصولية، وفي مجال آخر بإذن الله.

الولاية المتبادلة في مهام ومسؤوليات المجتمع المدني

ومن ذلك نستنتج: إن الخلفية والإطار العريض والأساس الحقيقي

ص: 159

لفكرة المجتمع الإنساني أو الإيماني، في منظومة الفكر الإسلامي هو مبنى الولاية المتبادلة، وعلى ضوء ذلك سنكمل البحث في مسؤوليات ومهام مؤسسات المجتمع المدني، مثل النقابات والاتحادات، كاتحاد الصحفيين أو نقابة الأطباء، وكذلك المساجد والحسينيات والمدارس، وكذا الحوزات والجامعات، والأحزاب و والمنظمات التي تعنى بالدفاع عن حقوق السجناء، والمنظمات التي تتكفل وترعى الأيتام لجهة مهمات هذه المؤسسات، انطلاقاً من آية الولاية والأولياء.

ص: 160

الفصل التاسع: مسؤوليات الجماعة« مؤسسات المجتمع المدني» تجاه الدولة

اشارة

ص: 161

ص: 162

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

مسؤولية إيجاد الموازن الاستراتيجي للدولة:

من المسؤوليات الرئيسية لمؤسسات المجتمع المدني أن تكون الموازن الاستراتيجي لقوة الدولة، كي لا تطغى؛ إذ«كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى»(2)، فالقدرة من طبيعتها الميلان نحو التمركز، فان كل شخص وكل عائلة وعشيرة أو حزب، وكل دولة تحب أن تزيد من قدراتها، قدرة على قدرة، وأن تسلب من الآخرين قواهم؛ لتضيف لقواها قوة على قوة، من غير فرق بين الإنسان المؤمن، وغير المؤمن، فهذه طبيعة القدرة؛ الميلان نحو التمركز والتركيز والتكرس والتكثف والازدياد والسعة والعمق، من هنا يتضح إن من مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني أن تكون درعاً حصيناً أمام طغيان قوة

ص: 163


1- سورة التوبة: 71.
2- سورة العلق: 6-7.

الدولة.

وإننا نرى أنه يجب أن تكون مؤسسات المجتمع المدني (السلطة الخامسة)؛ بعد سلطة القوة التنفيذية كسلطة أولى، والقوة التشريعية كسلطة ثانية، والقوة القضائية كسلطة ثالثة، والصحافة أو الإعلام كسلطة رابعة، لتكون السلطة الخامسة هي مؤسسات المجتمع المدني، وقد تكون هي الموازن لتلك القوى بأجمعها .

مسؤوليات المجتمع المدني الأربعة تجاه الدولة

إن مسؤوليات أربعة تقع على عاتق هذه المؤسسات إزاء الدولة، وبالالتزام بها جميعاً ستكون حقاً الموازن الاستراتيجي للدولة:المسؤولية الأولى: رصد الانتهاكات والخروقات التي تقوم بها الدولة بحق الأفراد والجماعات والجميع، أو المجموع، فهل مساجدنا و حسينياتنا - مثلاً- تقوم بذلك؟ فانه من منطلق كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته يتوجب عليها كمسؤولية مثل باقي المسؤوليات الملقاة على عاتقها أن ترصد انتهاكات الدولة لحقوق الله، ولحقوق الإنسان، ولحقوق الناس، بل وحتى مثل المكتبات والمدارس، والمستشفيات، أي الهيئة الإدارية للمستشفى، فكيف بالنقابات والاتحادات والأحزاب والمنظمات؟ المسؤولية الثانية: سلب الشرعية، فإن على مؤسسات المجتمع المدني - كالهيئات والمساجد والحسينيات والمكتبات والحوزات العلمية والجامعات والمدارس والنقابات والاتحادات - عندما ترى خروقات أن تقوم بالنصح أولاً، ثم بالتحذير ثانياً، ثم بالإنذار ثالثاً، فإذا لم تستجب الدولة فعلى المجتمع

ص: 164

المدني أن يسلب الشرعية عنها، ولذلك مراحل ودرجات وسيطة وتفصيل نتركه لوقت آخر.

المسؤولية الثالثة: تقديم المقترحات واللوائح والأنظمة القانونية الإيجابية، التي تصب في طريق بناء الوطن واستقراره وازدهاره، لمجلس الأمة، علماً بأن مجلس الأمة أو البرلمان أو مجلس الشعب أو سواها، ليست لها صلاحية التشريع؛ لأن المشرِّع هو الله سبحانه وتعالى وحده، وإنما صلاحيتها هي التأطير وتطبيق الكليات على المصاديق، في بحث فصّله السيد الوالد (قدس سره) في العديد من كتبه.

والحاصل: إن مؤسسات المجتمع المدني يمكن أن تسهم في بناء البلد عبر تقديم المقترحات البناءة، وعبر تقديم مسودات التشريعات أو التأطيرات التي تنفع البلد، بل إن ذلك من مسؤوليات الحوزة العلمية حيث توجد الحوزات العلمية المباركة، وكذلك الجامعات، فإن عليها أن تسهم في هذا الحقل، ومسؤوليتها أن تقدم باستمرار للدولة مقترحات وتوصيات ومشاريع قوانين أو أنظمة، وهذا مما يسهم ويؤثر، بشكل كبير في تطوير أداء الدولة وفي استقامتها ونزاهتها.

المسؤولية الرابعة: أن تقوم هذه المؤسسات بمدّ يد المساعدة العملية الميدانية للدولة في تحقيق تلك الأهداف، فالمسؤولية الثالثة هي البعد النظري، والرابعة هي البعد العملي.

مواجهة السلطان الجائر واجب على المجتمع المدني

وسنستعرض في هذا المقام رواية فيها الكثير من الفائدة في هذا الحقل، إذ

ص: 165

قد ذكرنا بأن مؤسسات المجتمع المدني تهدف ضمن ما تهدف الى أن تكون الموازن الاستراتيجي لقدرة الدولة، وتكون درعاً حصيناً أمام اختراقات الدولة لحقوق الله ثم لحقوق الإنسان و الناس ، فلنلاحظ الرواية التالية:ففي كتاب الوسائل، وعن كتاب السرائر، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «من مشى الى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوّفه، كان له مثل أجرالثقلين الجن والأنس، ومثل أعمال-هم»(1).

والظاهر إن (من مشى) بإطلاقها(2) تشمل أن يمشي شخص واحد الى سلطان جائر، أو أن تمشي مجموعة ، ولا فرق في ذلك بين أنواع المشي للجائر فتشمل المظاهرات، إما لفظاً وإما مناطاً وملاكاً، وفي الوقت الحاضر لا يسمح السلطان الجائر لآحاد الناس وللمؤسسات أو المنظمات أن تمشي وتدخل الى قصره، أو مكتبه أو وزارته أو دائرته، كما هو دأب اكثر المستبدين ان لم يكن كل-هم ، فإن الآحاد من الناس، بل حتى المفكرين والعلماء والسياسيين لا يستطيع أحدهم أن يذهب ويطرق باب الحاكم الجائر، ويكلمه عن حقوق الناس وواجباته، أو ان يخوفه من الله سبحانه وتعالى، بدون أن يرمى في السجن، أو يلاحق فيما بعد، كما لا يسمح للناس أن يخرجوا زرافات ووحداناً في مظاهرات عامة ضد ذلك الحاكم الجائر.

ولعمري ان الاجر المذكور في الحديث أجر عظيم، و قد يكون من أسباب هذا الأجر العظيم تشجيع الناس على ذلك؛ لأن الناس عادة يتثاقلون في ذلك حيث ينتاب كثير منهم الخوف من الذهاب الى السلطان الجائر ليناقشه ويحاسبه

ص: 166


1- وسائل الشيعة: ج16 باب وجوب الأمر والنهي بالقلب و... ص 134.
2- وعلى فرض التنزل فبملاكها.

ويعاتبه بل ويعاقبه أيضاً، لذا قرر الله سبحانه وتعالى لذلك أجراً عظيماً.

وهناك روايات كثيرة في هذا الحقل، لكن نقتصر في هذه العجالة على هذا المقدار.

وصفوة القول: إن من أهداف مؤسسات المجتمع المدني أن تكون درعاً أمام السلطات الجائرة، ومانعاً من أن تنتهك حقوق الناس.

يقول الله سبحانه: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ(1) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »إن ممن ينبغي أن يؤمروا بالمعروف هو الحاكم الجائر، بل هو من أجلى المصاديق.

ص: 167


1- أما غيرهم، فهل سيرحمهم الله؟ الظاهر: كلا.

ص: 168

الفصل العاشر: مسؤوليات المرأة والطفل المميز والولاية المجتمعية ل-هما في الرؤية الإسلامية

اشارة

ص: 169

ص: 170

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم(1)».

استلهامات قرآنية عن الدور المجتمعي للمرأة

يمكننا أن نستل-هم حقائق عديدة، من الآية القرآنية الشريفة، ومن هاتين الكلمتين «المؤمنون والمؤمنات».

الحقيقة الأولى: هي أنه لا يصح عزل المرأة عن المسؤولية العامة الاجتماعية بأنواعها المختلفة، فالمرأة مسؤولة كالرجل، والآية القرآنية الكريمة لم تخصص المسؤولية والولاية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرجل وبالمؤمنين؛ حيث قالت: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ» وهذا الضمير يعود للمؤمنين وللمؤمنات «أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» فبعض يراد به أيضاً المؤمنون والمؤمنات.

فالمرأة - أيضاً - مسؤولة تماماً كالرجل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف هو كافة الواجبات والمنكر كافة المحرمات، فهي كالرجل

ص: 171


1- سورة التوبة: 71.

مسؤولة عن محاربة المقامر ومحال اللعب بالميسر والقمار، و محاربة المخامر ومحلات بيع الخمور، و مسؤولة عن مواجهة الضُّلال والفاسدين والمفسدين والمبتدعين والمنتحلين، والغالين، وأشباه أولئك من سراق العقيدة، أو سراق الأخلاق.

الحقيقة الثانية: أن المرأة لو نصحت وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر بعد توفر الشروط المعتبرة فيهما، فإنه يجب أن يسمع لها، مع إننا نشاهد في كثير من المجتمعات الاستخفاف بها والاستهانة وعدم الاهتمام بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ إذ يعدون المرأة في مرتبة نازلة عن مرتبة الرجل، فإذا وجدت الزوجة من زوجها ارتكاباً لمحرم فلا يعطي لها الحق في أن تتكلم، بل إنها إذا تكلمت تواجه بالعنف من الأب أو الزوج أو الأخ، بينما الآية الكريمة تقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ» فهي مسؤولية الهية، فإذا المرأة أمرت زوجها أو أباها أوأخاها بالمعروف، ونهته عن المنكر فعليه أن لا يتكبر على الحق وأن لا يستكبر؛ لأن استكباره إنما هو على الله سبحانه وتعالى، بل عليه أن يرضخ للحق.

الحقيقة الثالثة: على ضوء هذه الآية الشريفة، إن على المرأة أن تتصدى للمسؤولية الاجتماعية، وهذه تعد مرحلة متقدمة على الحقيقة الثانية السابقة؛ إذ مؤدى الحقيقة السابقة كان القبول منها والاستماع لها كلما أمرت بالمعروف أو نهت عن المنكر، والحقيقة الثالثة تقول: إنه يجب عليها أن تتصدى لهذه المسؤولية، وذلك يعني أن الله سبحانه وتعالى كما جعل الرجل ولياً وقيماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليه أن يتصدى، فالمرأة أيضاً جعلها الله تعالى ولياً وقيماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليها أن

ص: 172

تتصدى.

ومن مصاديق ذلك، بل لعله من أبرز مصاديقه تأسيس المؤسسات التي تعنى بهذه الحقوق، بأن تكون هناك مؤسسات نسوية خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهمتهنّ التصدي للمفاسد في المجتمع، إذا رأين - على سبيل المثال - فضائيات هدامة للأخلاق، أو أفلاماً تحطم الفضيلة، أو مواقع في الانترنيت تستهدف مكارم الأخلاق، فإن عليهن التصدي لذلك بمختلف الإشكال والطرق، كما يجب على الرجل تماماً أن يؤسس مؤسسات متخصصة وأخرى متنوعة المهام للتصدي لتلك الأبواب المشرعة للجحيم.

والحاصل: إنه يجب على المرأة أن تتصدى لما ولاها الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبشكل عام إطاعة أمر الله وأمر رسوله والأئمة المعصومين %، حيث إن أمرهم هو أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولم يفرد الأئمة % بالذكر في قوله تعالى: «وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، لأن إطاعة أئمة أهل البيت %، هي إطاعة لرسول الله؛ لأنهم أوصياء له، فأمرهم أمره، ونهيهم نهيه، فلا يستشكل بأنه لَمْ يذكر الأئمة % في الآية.

الحقيقة الرابعة: أن المرأة لها مقام الولاية حسب هذه الآية: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »وبالمعنى الذي تفسر به هذه الآية، لكن من الواضح ان لهذه الولاية حدوداً، وليست بلا حدود، و هذه الحدود أيضاً مما يعينها الله سبحانه وتعالى الذي منحها ولاية الأمر بالمعروف ولاية النهي عن المنكر وما أشبه ذلك، ومن الحدود «وَ إِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْالوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ

ص: 173

حِجَابٍ» فعلى المرأة أن تتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لا يعني ذلك أن لها أن تتبرج، وأن تختلط الاختلاط المحرم مع الرجال، ومنه الاختلاط الذي هو في معرض الفتنة والفساد، فإنه محرم طريقياً ومقدمياً،كالاختلاط في الشركات و المدارس و الجامعات، و الوزارات، والشركات وما أشبه ذلك، فإن هذه عادة هي الطريق والمقدمة للوقوع في أحابيل وشباك إبليس، فما كان مقدمة لمحرم فهو محرم، وما لم يكن مقدمة فالأفضل تجنبه تنزهاً وإجلالاً لمقام المؤمن ومقام المؤمنة، فهذه الولاية معطرة ومؤطرة بالحشمة والعفاف والوقار والحجاب.

مسؤولية (المرأة) في مقارعة السلطة الجائرة

قد ذكرنا في الحلقات السابقة أن أهداف المجتمع المدني الأساسية هي ثلاثة و إن هذه المسؤوليات أو الأهداف الثلاثة لمؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني هي مسؤوليات مشتركة بين الرجل والمرأة، فكما أن الرجال المؤمنين عليهم أن يقوموا ببناء المجتمع وبتوفير الخدمات وجوباً كفائياً، وأن يتصدوا للحاكم الجائر كفائياً كذلك، كذلك على النساء المؤمنات أن يقمن ببناء المجتمع وتوفير الخدمات، بحركة فردية أو جماعية و مجموعية واجتماعية، وأن يتصدّين للحاكم الجائر أيضاً، كواجبات كفائية.

وصفوة القول :إن«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »تتسع لتشمل بشعاعها هذه الأهداف الثلاثة، وعلى كل من الرجل والمرأة.

ص: 174

الولاية العَرْضية للمؤمنين والمؤمنات

الحقيقة الخامسة: وهي حقيقة مهمة على ضوء موقع« الواو» في هذه الآية القرآنية الكريمة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ»، ف--«الواو» هنا لها دلالة كبيرة بالغة، ويختلف المعنى جذرياً لو أن الله سبحانه وتعالى قال: والمؤمنون فالمؤمنات، أو ثم المؤمنات، بعضهم أولياء بعض.

إن الذي نستفيده من وجود «الواو» هنا بدلا عن حرف الفاء او ثم العاطفة، أن الولاية التي منحها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين والمؤمنات هي ولاية عرضية بالنسبة للمؤمنة الى جوار المؤمن، وليست ولاية طويلة، فليست ولاية المؤمنات في طول ولاية المؤمنين، وإنما ولاية المؤمنات هي في عرض ولاية المؤمنين.

والولاية الطولية: مثل ولاية الأب والحاكم الشرعي على الصغير او الصغيرة، فان الولاية اولاً للاب ولو فقد الأب فالولاية للحاكم الشرعي(1)، فالولاية هنا طولية وليست عرضية، ولكن في ما نحن فيه، فان الولاية عرضية، وليست طولية.نعم لو قال سبحانه وتعالى: (المؤمنون ثم المؤمنات) لأفادت أن الولاية قد منحت للمؤمنين اولاً، فإن لم يستطع المؤمنون أن يقوموا بتلك الولاية، أو لم يقوموا بها، لسبب أو لآخر، عصياناً أو لغير ذلك، فتنتقل الولاية

ص: 175


1- هناك تفصيل حول ذلك: مثلًا في (الحضانة) إذا فقد الأب فإنها للأم، ومع وجودها لها أن تطالب بحضانة الطفل لكن تحت نظر الأب، أما (العقد) على البكر الرشيد فعلى القول بعدم استقلالها، فذهب جمع إلى استقلال كل من الجد والأب، وذهب البعض - كصاحب العروة - إلى تقدّم عقد الجد لو تقارن العقدان مثلاً.

للمؤمنات، لكن بما ان حرفي ثم أو الفاء لم تستخدما، بل المستخدم هو كلمة الواو، فقد يستكشف من ذلك أن الولاية في عرض واحد، فالمؤمنون مسؤولون ول-هم ولاية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك، كما ان المؤمنات مسؤولات وعليهن ولاية الأمر بهذا المعنى.

انطلاقاً من ذلك، عندما نلحظ - على سبيل المثال - مشكلة البطالة في المجتمع، وما تنجم عنها مشاكل خطيرة كثيرة كالفساد الأخلاقي، وكذلك الكثير من النزاعات، والمشاكل الأسرية وغيرها، فالمسؤول عن مشكلة البطالة ليست الدولة لوحدها، بل الناس رجالاً و نساءاً ايضا مسؤولون عن ذلك.

والحال إن من ثقافة النساء في بلادنا إنهن لا يجدن أنفسهن مسؤولات عن حل مشكلة البطالة، أو مشكلة ارتفاع سن الزواج بالنسبة للنساء، وكذا عن حل مشكلة العنوسة، كظاهرة عامة مستشرية في مجتمعاتنا، وهي مشكلة اجتماعية كبيرة جداً تتولد منها أمراض وأخطار كبيرة، والمسؤولية في ذلك تقع على جميع المؤمنات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وغير أمهات، كما أن جميع المؤمنين مسؤولون أيضاً.

عليه، فإنَّ مشكلة البطالة والعنوسة، ومشكلة الانحلال الخلقي في المجتمع، ومشكلة النزاعات الرهيبة التي تعصف بالمجتمع، من هنا وهنالك، ومن مختلف الأطراف، بما تتضمن من غيبة وتهمة ونميمة وتدابر وتقاطع، وما أشبه ذلك، فالنساء مسؤولات عن ذلك، تماماً كالمؤمنين.

وإذا تحوّل هذا النمط من التفكير الى ثقافة عامة ففكر كل مؤمن ومؤمنة بهذه الطريقة، بأنهم جميعاً مسؤولون تجاه أية ظاهرة خطيرة انحرافية تحدث في المجتمع، وإذا فكر الجميع أنهم مسؤولون في قبال تلك الفضائيات الهدامة

ص: 176

الفاسدة المفسدة أخلاقياً أو عقدياً لتغير الوضع بدون شك، وهكذا الحال لو فكروا في أنهم مسؤولون تجاه القرارات الاقتصادية، التي تصدر من الدولة، والتي تقول :إن الأرض لله، لكن ثم لي - أي للدولة - أو تقول إنها لي من البداية، على عكس صريح كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث يقول: «الأرض لله ولمن عمرها»، فكل مؤمنة هنا مسؤولة فعليهن أن يأمرن الدولة بالمعروف، كون الأراضي كلها للناس، وليس للدولة الحق في أن تضع اليد على هذه الأراضي وتمنع الناس من تملكها، الا باستجازة وبضرائب، وبقيود وشروط وبيروقراطية، وروتين إداري وغير ذلك.

بعض الأصول الفقهية في ولاية المرٲة

الحقيقة السادسة: سبق البحث في حقائق خمسة في ما يتعلق بكلمة «المؤمنات» ونضيف الحقيقة السادسة والتي تتعلق بتأسيس (الأصل) في العلاقة التي يمكن أن تكون:

أ - بين المؤمنين والمؤمنات كمجموعتين.

ب - وبين المؤمنين والمؤمنين.

ج - وبين المؤمنات والمؤمنات.

د - وبين المؤمنين والمؤمنات كأفراد لا بلحاظهما كمجموعتين، من حيث مصطلح (أولياء)، ونعني الأصل: الأصل من حيث كون المؤمن ولياً للمؤمن، والمؤمنة وليةً للمؤمنة، وكذلك المؤمن ولي للمؤمنة، أو المؤمنة ولي للمؤمن.

إن هذا بحث مهم، وله تفصيل أصولي وفقهي، ولكن بمقدار الإشارة الموجزة، فإن تأسيس الأصل في هذا المقام سيكون نافعاً في مواطن الشك في

ص: 177

وجود الولاية للمرأة وعدمه، فإنه:

1. يرجع اليه عند الشك في أن لها بعض مصاديق أو أنواع الولاية المشكوكة أو لا؟ 2. وأما لو كانت هنالك أدلة خاصة فإنها تكون حاكمة حينئذٍ على الأصل، بل واردة(1) عليه، كما دلّت الأدلة الخاصة على إن المرأة لا يمكن أن تكون قاضياً، فإنه ما دام هنالك أدلة خاصة - حتى لو افترض وجود عام أو أصل - فإنها تخصص ذاك العام لو كان دليل الولاية لفظياً عاماً، أو ترد على ذلك الأصل لوكان اصلاً.

وعلى هذا فلو شك في صحة أن تكون المرأة رئيساً للجمهورية، او عدم صحتها، نظراً الى(2) أن الرئيس سابقاً أو الملك كان يملك زمام الأمور بأكملها، لكن رئيس الجمهورية في العقد الاجتماعي الحديث لا يملك كل شيء، وإنما يملك بعض السلطة أو بعض الولاية، وكذا عضو البرلمان، فهو يملك بعض الولاية.

فالسؤال هو هل لهذه المرأة الحق في أن تصبح رئيساً للجمهورية، أو أن تصبح عضواً في البرلمان، أو ليس لها ذلك؟وكذا لو شك في أنه هل يصح لها التصويت في الانتخابات، من حيث أن التصويت نوع من منح الولاية للمنتخَبين، سواء لرئيس الجمهورية أم لعضو البرلمان أو غير ذلك؟ فإن تأسيس الأصل، ينفع في هذا المقام ونظائره عديدة.

ص: 178


1- مصطلح الحكومة والورود مصطلحان اصوليان كما مصطلح التخصيص والتخصص، وفي بيان مواضع الفرق بينها يراجع الكتب الاصولية.
2- هذا بيان منشأ الشك.

لكن الحق: إن ذلك يتوقف على مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن مفردة (أولياء) التي هي جمع (ولي) يراد منها الولاية، كما هو ظاهر هذه اللفظة، أو المتضمن فيها(1)، وتعني القيمومة أي الوصاية، دون ان يراد منها معنى النصرة فحسب، فلو أننا فرغنا من هذه المقدمة الأولى وفرغنا من:

المقدمة ثانية: وهي أن «يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ »تفسير بالمصداق، وذلك لوجود احتمالين فيه، الاول منهما: أن يكون تفسيراً بالمصداق، و ثانيهما: أن يكون نظير عطف البيان.

لو صرنا الى الاحتمال الأول فالأصل محفوظ، يعني أن الأصل في المؤمنين والمؤمنات إن لبعضهم القيمومة على البعض الآخر، والولاية على البعض الآخر، لأن «يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر» والى آخره تفسير بالمصداق، ولا يفيد حصر مفهوم (أولياء) في صِرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والحاصل: إنه إذا سلمنا بهاتين المقدمتين؛ سلمنا أن (ولي) يعني المتولي والقيم والمالك للأمر، والوصي، وسلمنا بأن التتمة - (يأمرون بالمعروف) - إنما هي تفسير بالمصداق، فالأصل يتأسس بولاية المؤمنين وولاية المؤمنات بعضهم على بعض.

أما إذا شككنا في إحدى هاتين المقدمتين فلا يتأسس الأصل، ولذا ذكرنا ان تفصيل هذا البحث يتطلب التحقيق من الفقه والكلام,وما ذكر كان مجرد

ص: 179


1- سبق وجود احتمالين في (الولي)، وعلى الثاني فإنه موضوع للجامع، فراجع.

إشارة للموضوع.

وعلى ذلك لو أسسنا الأصل في المقام، فإن المسائل التي تكون مورداً للشك والشبهة في ان للمرأة الحق أو لا؟ نرجعها الى الأصل، الذي هو «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »في كل ما صدق عليه عنوان الولاية، وشك في شموله لها.

إن بعض المصاديق واضحة، مثل التصويت في الانتخابات لكونه توكيلاً(1)، باعتباره مقدمة للأمر بالمعروف، فهو ليس في حد ذاته أمراً بالمعروف، ولكن بنتيجته أن ننتخب حاكماً ظالماً أو حاكماًعادلاً، فاسقاً أو مؤمناً، وكذلك: أن ننتخب برلمانياً أو ممثلاً عادلاً أو فاسقاً، حريصاً على مصالح المسلمين ومصالح الشعب، أو حريصاً على مصالحه الشخصية، أو مصالح جماعته وفئته.

إن التصويت السليم مقدمة لإحقاق الحق ولإبطال الباطل، ولاستقرار و إحقاق وإقرار المعروف، وهو مقدمة لدفع المنكر؛ ورفع المنكر واجب كدفعه، حيث قد يكون سلطان جائر فنقف أمامه، فهذا رفع لظلاماته، وتارة نحول دون أن يصل الظالم للحكم عبر صناديق الاقتراع مثلاً، وهذا دفع لحصول الظلم، وكلاهما تنطبق عليه العناوين الكلية أو بعضها على الأقل.

المسؤوليات المجتمعية للطفل المميز

هناك مبحث هام جداً في علم فقه القانون والفقه الدستوري يدور حول

ص: 180


1- حول انه هل هو توكيل أو نوع إعمال ولاية أو غيرهما يراجع (شورى الفقهاء - دراسة فقهية أصولية) للمؤلف.

أن الطفل المميز هل له تكاليف؟ وما هي حدودها؟ ويُعَدَّ قوله سبحانه وتعالى« وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» إحدى مفاتيح الإجابة على هذا السؤال، وذلك على ضوء دراسة إن «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» يشمل الطفل المميز أم لا، وهل تشمله هذه الآية؟ وهل الطفل المميز مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ نقول اولا: أن المميز ايضاً مكلف لكنه في الجملة، و تختلف مقادير تكليفه عن البالغ، وهذا له بحث طويل، وقد أشرت الى جوانب من هذا البحث في كتاب (المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول).

وثانيا: الظاهر ان قوله تعالى«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ »يشمل المميز؛ لأن المميز المتدين بدين الإسلام والمؤمن يصدق عليه حقيقية وعرفاً أنه مسلم مؤمن.

المميز والحكم الوضعي والتكليفي

إذن فالآية الشريفة تنطبق على المميز، فإذا اكتفينا بهذا المقدار من الاستدلال فستقع على عاتق المميز مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً.الل-هم الاّ أن يقال: فأين يقع حديث الرفع «رفع القلم عن ثلاثة ... وعن الطفل حتى يحتلم»(1)؟

ص: 181


1- عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَ عَنِ الطِّفْلِ حَتَّى يَحْتَلِمَ». دعائم الإسلام:ج1 ص194.

والجواب عن ذلك: أن المرفوع عن الصبي هو قلم التكليف والاحكام التكليفية أو قلم المؤاخذة أيضاً لكن في الجملة، لا بالجملة، نعم قلم الأحكام الوضعية ليس مرفوعاً عنه، بل تترتب عليه، فإذا كسر الطفل زجاجاً فيثبت عليه الضمان، أو إذا لامست يده القذارة أو النجاسة فهو نجس، ولذا فالخمس أيضاً - كحكم وضعي - يتعلق بعاتق الطفل الا أنّ الولي يتخير في إخراج هذا الخمس بين اخراجه فوراً أو أن يتركه الى أن يبلغ الطفل فيدفع الخمس، فالأحكام الوضعية لا يرفعها حديث الرفع، أما الأحكام التكليفية فحديث الرفع منصرف عن المستقلات العقلية، وما علم من الشرع كراهته وقوعه مطلقاً كالقتل وبتر الأعضاء والزنا واللواط وشبهها، كما أن الفقهاء أفتوا بأن التعزيرات ثابتة بحق الطفل، فإذا زنا الطفل - لا سمح الله - أو فعل قبيحاً آخر كاللواط فإنه يعزر؛ اذ ليس له الحق في ذلك، كما أن كثيراً من المحرمات يردع عنها الطفل المميز، بل مطلقاً، كأن يضرب الناس أو يكسر أو يحطم أو يسرق أو غير ذلك، فظهر ان الصبي مكلف في الجملة.

وتفصيل هذا القول واختلاف الآراء فيه يترك الى مظانه، وفيه خلاف مفصل، وبعض المفردات فيها نقاش ، فبعض أنواع التعزير بالنسبة الى الطفل العاصي لا كلام فيها، وكذا بعض العبادات، كالحج، فإنه مندوب بالنسبة له، والصلاة مندوبة مستحبة، وهكذا وهلم جرا، ويترك تفصيله الى بحوث الفقه.

والحاصل: إن الظاهر في الآية الشريفة - لو آمنا بالمقدمة الأولى؛ كون المراد من الاولياء الوي والقيم والمتولي والمالك للأمر، ولو قلنا: إن هذه الآية الشريفة تشير الى حكم وضعي (هو الولاية) كما هو الظاهر، فإن هذه الآية ما دامت منطبقة بالحمل الشائع الصناعي على المميز فالحكم الوضعي أيضاً شامل

ص: 182

له، فهو ولي متول قيم في الجملة طبعاً.

ففي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقول: إن الطفل المميز في الجملة مكلف، مثلاً إذا رأى طفل مميز أحدهم يهم بجريمة قتل فيجب عليه أن يحول دون ذلك إن استطاع، وليس له أن يقول : أنا لست ببالغ، بل هو مكلف بالردع ، وأنه يؤاخذ ويحاسب على ترك ذلك - أي الردع - ويعاقب، أو لو رأى بعض المنكرات الأخرى التي علم من الشارع إرادة عدم وقوعها في الخارج بأي شكل من الأشكال ، فالطفل المميز مسؤول، كحكم تكليفي، وأما كحكم وضعي فله نوع من الولاية، وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الأعم من ذلك حسب تفسير الآية الشريفة.

ومن هنا نقول: إنَّ من أهم مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات الشبيبة التي يجب أن تنشط وتفعّل.فبمجرد أن يشبّ الفتى أو الفتاة، يجب علينا أن ندفعهما نحو الاشتراك في عضوية مؤسسة لتحفيظ القران الكريم مثلاً، أو في هيئة حسينية، أو في روضة من الرياض، أو في مؤسسة لخدمة الأيتام أو كل ذلك، على حسب ما يتحمله وضعهم، وذلك لان باستطاعة المميزين ايضاً المساهمة في بناء المجتمع بحسب وضعه.

ولو نشطت مؤسسات الشبيبة لكانت من أهم ركائز مؤسسات المجتمع المدني، و من أهم أعمدة المجتمع المدني أو الإنساني، فيجب أن تكون هنالك مئات الالوف من مؤسسات الشبيبة والمراهقين والمميزين التنموية الثقافية الدينية في الدول الاسلامية، كما ان علينا و على قادة المجتمع ومحركيه أن يوجههم لذلك.

ص: 183

إن بمقدور الصغار أن يقوموا بأدوار مفتاحية؛ فإن الأطفال يستطيعون أن يحولوا دون وقوع الكثير من المنكرات في البلد إذا كان ل-هم الوعي المطلوب وأرشدناهم لذلك، فمثلاً إذا شاهدوا بعض الفضائيات المنحرفة، التي تبث السموم الأخلاقية في الوقت الحاضر، فإن الصغار عادة يعرفون الإنترنيت ويمكنهم أن يبعثوا برسائل شجب واستنكار لإدارة تلك القناة، أو لتلك الدولة أو لتلك المحطة، التي تستضيف هذه القناة، أو حتى لمنظمات دولية أخرى، بل إن المراهقين - من الفئة العمرية عشر سنوات، أو أقل أو أكثر - يمكنهم أن يشكلوا تجمعاً لردع هذه المنكرات.

إن الصغار يمكنهم أن يصنعوا الكثير، وإننا عادة نستصغرهم، ولكن ل-هم شخصيات غنية متنوعة قوية وحافلة في حد ذاتهم، ولو أعطيناهم هذه الروح، وهذا الاعتبار والاليات الملائمة لاستطاعوا أن يصنعوا الشيء الكثير، كما يمكن أن نشجعهم لكي يؤسسوا ل-هم مسجداً، ويكون منهم إمام جماعة، ويمكن أن يؤسسوا حسينية، أو يقدموا برامج خاصة للأطفال، ويمكن أن يؤسسوا مكتبة، تحوي الكتب الخاصة بالأطفال، التي تلائم مستوياتهم، ويمكن أن يؤسسوا ميتماً لأجل الاهتمام بالأطفال الأيتام، الذين هم من سنهم وغير ذلك، كما يمكن للمراهقين والشبيبة أن يؤسسوا - أيضاً - قناة فضائية بمساعدة الكبار طبعاً، نعم، هم قادرون على أن يؤسسوا أو يديروا القناة الفضائية بكافة لوازمها وملزوماتها، أو على أقل تقدير أن يؤسسوا مركزا للإنتاج الفني.

ص: 184

إن انطلاقة الأطفال لإنجاز هذه الفعاليات والجهود سيشجع الكبار أيضاً، فالأب إذا رأى ابنه المميز المراهق وهو منخرط في سلسلة من الأنشطة الاجتماعية، فإنه سيتشجع للمزيد من العطاء، وكذلك الأم، وسنشهد عندئذ مصداقاً جديداً من مصاديق قوله تعالى«وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ» وستضاف بذلك سلسلة حيوية هامة الى سلاسل أو مؤسسات المجتمع المدني.

ص: 185

ص: 186

الفصل الحادي عشر: مهمة المجتمع المدني في درء التداعيات الداخلية والخارجية

اشارة

ص: 187

ص: 188

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

(1)المجتمع المدني ومواجهة التداعيات والأخطار الخارجية

اشارة

إن مؤسسات المجتمع الإيماني أو الإنساني ، وكما سبق لها ثلاث مهمات: المهمة الأولى :هي بناء المجتمع والأمة، والمهمة الثانية :هي توفير الخدمات، والمهمة الثالثة :هي أن تكون سداً منيعاً ودرعاً حصينة أمام طغيان الدولة، و افتراسها لمصالح الناس وسحقها لحقوقهم، وأنه يستفاد من هذه الآية القرآنية الشريفة، أن لعامة المؤمنين وعامة المؤمنات المسئولية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للدولة.

ولكن على مؤسسات المجتمع الإنساني أو الإيماني ، وعلى كافة المؤمنين والمؤمنات مسؤولية أخرى رابعة، مغفول عنها عادة، وهي :أن تكون هذه

ص: 189


1- سورة التوبة: 71.

المؤسسات درعاً وسداً منيعاً أمام التداعيات والأخطار الخارجية، وفي مقدمتها المنظمات الدولية العابرة للقارات، التي قد تكون سياسية، وقد تكون اقتصادية، وقد تكون عسكرية، وهذه قضية مغفول عنها عادة ومع الأسف.

المؤسسات الدولية العابرة للقارات

ولتوضيح ذلك، أن هنالك قوة عظمى في عالم اليوم، تسمى بالمؤسسات أو المنظمات الدولية العابرة للقارات، وهي في الواقع دول بدون جغرافية، وتترك بصماتها وتأثيراتها الهائلة على مجتمعاتنا، مع جهل عموم الناس بها أو بمدى قدراتها وتأثيراتها.

وهي على عدة أقسام:1. قد تكون سياسية، مثل الصهيونية، فهذه منظمة دولية عابرة للقارات، وكذلك البهائية.

2. وقد تكون عسكرية، مثل منظمة القاعدة، وهي منظمة دولية عابرة للقارات، تضرب في كل مكان مستهدفة الأبرياء والمؤمنين، وما تدعيه من جهاد المستعمرين ما هي الا كذبة، فهي في الواقع العوبة بيد الأعداء، يوجهونها كما يشاءون؛ لأنهم اتخذوا منها ذريعة لتحطيم سمعة الإسلام، وسمعة المسلمين، ولأجل تقليص الحريات في بلادهم، فلكي يسيطر الاستعمار والحكومات الجائرة على شعوبها بشكل أفضل اتخذوا من القاعدة وأشباهها، بعبعاً مخيفاً لشعوبهم، لتمرير مخططاتهم في المنطقة.

3. وقد تكون المؤسسات الدولية العابرة للقارات اقتصادية، كالتي ضربت دول نمور آسيا الأربعة المعروفة، والتي منها ماليزيا، التي انطلقت تلك

ص: 190

الانطلاقة الكبرى، وإذا بها تتلقى صفعة اقتصادية هائلة لتحطمها تماماً، قبل حولي خمس عشرة سنة، إذ قامت المؤسسات الدولية الاقتصادية العابرة للقارات فجأة بلعبة اقتصادية، قوامها مئات المليارات من الدولارات، حطمت بها اقتصاد هذه النمور الأربعة.

نماذج من المؤسسات الدولية العابرة للقارات:

أ - فرسان مالطا:

مجموعة(فرسان مالطة( تنظيم عالمي، يترك تأثيراً هائلاً على دول العالم، كما أنَّ بعض رؤساء دول العالم هم أعضاء في هذه المنظمة السرية سابقاً والتي أضحت غير سرية تقريباً، وقد كتبت بعض الكتب و تقارير وإحصاءات عنها، والتي تظهر أن بعض أهم الشخصيات العالمية من المستعمرين أعضاء فيها، بمناصب رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو وزير بارز.

ب - صندوق النقد الدولي:

ومن أمثلة المؤسسات الدولية الاقتصادية العابرة للقارات، البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فهاتان المنظمتان تعدان في الواقع من مخالب الاستعمار، التي تمتص دمائنا، في خطوة تغاير الخطوات السابقة للاستعمار وهي اخطر منها، حيث كان من سبل هيمنة الدول الاستعمارية على دولنا ما يتم عن طريق عسكري و عن طريق نماذج مثل القاعدة و افرعها، أو عن طريق حكام مستبدين مثل صدام، يأتون بهم ثم يذهبون بهم، اما في مثل هاتين المنظمتين و نظائرها فهي محاولة لهيمنة شبه تامة على الدول الاخرى بقفازات حريرية ما يصطلح عليه بالقوة الناعمة، وذلك تجنباً من الاستعمار من الطرق السابقة

ص: 191

المعتمدة على القوة الخشنة والعسكرية لاحتوائها على خسائر فادحة في طليعتها مقاومة الشعوب عادة لها، فهذه الطريقة الثانية استخدام القوة الناعمة بماتتضمن الطريقة الاقتصادية ايضاً، أكثر خبثاً وخفاءً، وأعمق تأثيراً، و البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من اليات ذلك.

فهاتان المؤسستان ونظائرهما تقدم - مثلاً - قروضاً كبيرة للبلاد المنكوبة، أو للبلاد النامية ومنها الدول الاسلامية، كونها بحاجة الى قرض عشرين مليار دولار مثلاً أكثر أو أقل، فتتبرع امثال هذه المؤسسات والدول الغربية كطريق وذريعة للهيمنة والسيطرة.

وقد قال علي امير المؤمنين (علیه السلام): «اسْتَغْنِ بِاللَّهِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَ احْتَجْ الى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَ أَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ»(1) فإن المحتاج أسير ذليل، هذا هو الجانب الأخلاقي والواقعي في الموضوع، ولكن لنبحث في الأرقام والمعادلات:

أولاً: عندما تقترض تلك الدولة النامية - إن كانت إسلامية أو غير إسلامية - من خلال البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو من أية دولة أخرى من الدول الاستعمارية الكبيرة، لا يأتي القرض بلا فرض فوائد بل تفرض الجهة المقرضة ربا على القرض، فتلك العشرين مليار دولار، يجب أن تعود للجهة المقرضة ان كانت دولة او بنكاً او صندوق النقد الدولي، على شكل ثلاثين مليار دولار، أو أربعين مليار دولار، مما يعد محرماً شرعاً و عقلاً ايضاً؛ حيث إذا كانوا يدفعون للدولة النامية بإقراض خيري، أي بدون فوائد لكان

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج100 ب2 ص20.

الأمر معقولا، ولكن مع الفوائد والربا فإنهم يزيدون على الدولة النامية المستضعفة حملاً على حمل! ثانياً: إن صندوق النقد و ما شابهه من المؤسسات لا يكتفي بأخذ الربا فقط، وإنما يعطوها ضمن مخطط يهدف الى توجيه دفّة الاقتصاد، وهكذا نجد أن صندوق النقد أو البنك الدولي يحدد للدولة المقترضة وبكل وضوح وصرامة نطاقات صرف هذه الأموال، وأنهم يجب أن يصرفوا هذه الأموال، في صناعة المطاط مثلاً، وليس في الزراعة او أي شيء اخر.

في العراق مثلاً، هم يستهدفون الزراعة ويريدون تدميرها، ليبقى الوارد المالي محدداً ضمن برامج معينة تحديدية، والكثير منا من المؤمنين والمؤمنات غير المتصدين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غافلون عن معرفة حقائق الأمور.

والحاصل: إنهم هم الذين يحددون الموارد والمصارف، ويفرضون إنفاق الأموال في صناعة محددة من المعامل، أو في إنتاج نوع من البضائع التي يحتاجونها، ويخططون لها.ثالثاً: حيث إن البلد المقترض لا يملك خبراء في هذا الحقل فالمقرِض يفرض خبراءه(1)، بدعوى عدم توفر الخبرة الجيدة في هذا الحقل، فتبعث ل-هم الخبراء، وهؤلاء يتعاطون رواتب ضخمةً، على الدولة النامية أن تصرفها ل-هم من أموال الفقراء والضرائب وخزينة الدولة! كما أن إدارة المشروع تكون بيد هؤلاء الخبراء في مفاصله الحساسة، فهم أصحاب الأمر والنهي.

رابعاً: في نفس الوقت، بعض هؤلاء الخبراء مضافاً الى دورهم الظاهري

ص: 193


1- هذا إذا لم تكن حكومة هذه البلدان النامية، هي التي تبادر باستجداء الخبراء .

يؤدون دور العين والجاسوس، بصيغة محترمة، جواسيس على الاقتصاد والتحولات الاقتصادية في البلد، حيث يطلعون على أوضاع البلد كله، ويجعل الامر كان ل-هم كل الشرعية في ذلك! بل مزيداً على ذلك يتحتم على الدولة أن تقدّم ل-هم التقارير الدورية عن الوضع الاقتصادي تفصيلياً، لا لسبب الا لكي يضمنوا إدارة مشروعهم الاقتصادي بنجاح كي يدر على الدولة الأرباح المستهدفة.

خامساً: إن صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي لا يكتفي بذلك؛ وذلك لأن الدولة ملزمة بإرجاع الأموال بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة، حسب هذا المخطط الاقتصادي الذي يفرض تواجد الخبراء على مدى سني القرض، لكن هذه الحكومة المستبدة أو العميلة لا تستطيع في كثير من الأحيان أن ترجع الأموال المستحقة عليها، وهو ما يخطط له، لأنهم في الواقع يريدون أن يمسكوا مفاصل الأمور بأجمعها، حتى يضمنوا أن تسير العملية الاقتصادية بما يضمن مصالحهم ،وهنا وبحجة توفير الإمكانات لإرجاع المستحقات، تبدأ سيطرتهم على مفاصل اقتصاد البلاد، من مناجم ومصانع وغير ذلك (1).

وبوجه آخر، لو عجزت الدولة بعد ذلك عن التسديد - وهذا ما يُخطط له - فإنهم سيعيدون جدولة القروض ولكن بشروط جديدة، ليغرق العملاء في بحر العمالة أكثر فأكثر.

ص: 194


1- كأن تعطى لهم ملكية أو نسبة من ملكية بعض المعادن، ليستخرجوا منها على مدى 50 عاماً ما يسد الدين، وما يعطونه للدولة أيضاً متفضلين عليها!

إن مؤسسات المجتمع المدني أو الإسلامي أو الإنساني، مسؤولة عن هذه الأخطار، الناتجة عن مخططات وأنشطة المنظمات العابرة للقارات.وفي مثال آخر للمؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات (البورصة)، وهذا مما يستدعي بحثاً مفصلاً يترك لمحله.

ج - الوهابية:

مثال آخر: الوهابية فإنها كالصهيونية منظمة عابرة للقارات، صنعها الاستعمار البريطاني لخنق المسلمين، ولتحطيم البلاد الإسلامية، وأول ما بدأوا به هو تكفير المسلمين أجمعهم بعنوان الشرك، فقد اتخذوه كذريعة لتكفير المسلمين قاطبة ما يوجب هدر دمائهم و اباحتها، مدعين في الوقت نفسه انهم الممثلون للإسلام الاصيل المحمدي، وكمثال لذلك: عندما استولى الوهابيون على بلاد الحجاز أصدروا قراراً جائراً بهدم قبور أئمة البقيع% ، وكل المقابر الموجودة في البقيع والتي كانت تحتوي على عشرة الاف صحابي من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكثير منهم كانت ل-هم قباب، بعضهن أيضاً كن من زوجات الرسول (صلی الله علیه و آله)، وكذلك السيدة أم البنين (علیها السلام)، لا لأمر سوى اعتقادهم الباطل أن البناء على القبور شرك، ونقول في جواب نقضي: إذا كان البناء على القبر شركاً، فقبر النبي (صلی الله علیه و آله) حسب منطقهم هو أيضاً شرك، ولا فرق بين أنواع الشرك كله! والآن يمكن أن تحاكم الوهابية بنفس سلاحها، فإذا كان شركاً، فكلاهما شرك، وإذا كان إيماناً فكلاهما إيمان.

ولكن الحقيقة هي إنه كان مخططهم هدم قبر الرسول الأعظم بعد هدم البقيع؛ لكن ردود فعل مسلمي العالم كانت قوية، فبعد ان انتشر الخبر في العالم خرج المسلمون في مظاهرات عارمة، ففي الهند خرج مليونا إنسان، وفي

ص: 195

مصر خرجت مظاهرات ضخمة، وهنا خشي الاستعمار البريطاني على مصالحه، فأوعز الى العملاء الوهابيين في بلاد الحجاز أن يكفوا عن هدم قبر محمد المصطفى (صلی الله علیه و آله)، وكان أن استجاب العملاء لأوامر السيد البريطاني! إن الوهابية منظمة دولية عابرة للقارات، وهي منشأ لمجموعة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وهي وراء الإرهاب في دول شتى، وما القاعدة الا إحدى نتاجاتها، وكل فساد يصيب الإسلام والمسلمين الا و ل-هم فيه نصيب! وموجز القول: إن من مسؤوليات مؤسسات المجتمع الإسلامي أو الإيماني، أن تقف أمام هذه المنظمات الدولية العابرة للقارات، سياسية كانت مثل الصهيونية والوهابية والبهائية، أم اقتصادية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أم عسكرية مثل القاعدة والشركات الامنية أو غير ذلك، وهذه مسؤولية واجبة شرعاً، لكن أغلب الناس عنها، غافلون! فالآية الشريفة تقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ».

وعليه، فإن المسؤولية لا تنحصر بأن نواجه المنكرات الفردية، أو المنكرات التي تصدر من الحاكم الجائر، بل تعم المنكرات والظلم الذي ينطلق من المؤسسات الدولية العابرة للقارات.

ص: 196

(2)المجتمع المدني ودوره في مواجهة التداعيات الداخلية

اشارة

إن مسؤولية التصدي للحاكم الجائر وللسلطات الجائرة لا تقتصر على الابعاد الخارجية فقط، بل تشمل الابعاد الداخلية أيضاً، كما أنها لا تقتصر على مواجهة الملك الجائر، بل تشمل مطلق ذي السلطة، أي عنوان كان يحمله، فقد يحمل عنوان ملك وقد يحمل عنوان رئيس الجمهورية أو الأمير أو الحاكم، أو أي عنوان آخر من العناوين، إذ لا يهمنا العنوان، إنما الذي يهم أن يكون كل ذي سلطة خاصة، ومن هو في الموقع الأول في البلاد، ومن السلطات بيده، تحت رقابة مدنية وجماهيرية دائمة وصارمة.

ذاك الإنسان البعيد عن جادة الحكمة، في ذاك البلد في شمال أفريقيا، كان يقول: (ليس لي موقع حكومي رسمي فلا يستطيع الشعب أو أي أحد أن يعزلني! ليس عندي شيء حتى يعزلني!) بينما في الواقع كانت مجاري الأمور كلها بيده، و الجميع من امي ومثقف كان يعلم بذلك، ولكنه استخدم مغالطة ساذجة بلهاء فزعم انه مجرد قائد ثورة لا يملك أي منصب في الحكومة.

إن هذه المسؤولية مسؤولية كبيرة، وليست مسؤولية موجهة الى العلماء والحوزات أو المثقفين والجامعات فقط، بل هي عامة شاملة لكافة المؤمنين وكافة المؤمنات، فإنهم جميعاً مسؤولون ومسؤولات عن التصدي لأي ظلم يصدر من أي رئيس أو وزير أو معاون وزير، أو من أي شخص له موقع رسمي في الدولة.

ص: 197

التداعيات المجتمعية في تغيير كتلة العملة

و من أمثلة التداعيات الداخلية المبحث المتداول في العديد من الدول، لالغاء الأصفار من العملة، الدينار العراقي كنموذج، فالالف دينار يعادل أقل من دولار تقريباً، فالبحث المطروح هو إن الأصفار تلغى، وتصير الالف دينار ديناراً واحداً، فتكون للدينار القوة الشرائية نفسها، فإن عامة المؤمنين والمؤمنات ينبغي أن يكون ل-هم موقف من ذلك، ففي هذه المعادلة الاقتصادية لابد من استبيان أن هذا القرار هل هو لصالح الشعب أم لصالح الدولة وبضرر الشعب؟ إن ذلك مما يحتاج الى وعي مسبق؛ لأن نتائج هذا القرار قد تكون سلبية على الملايين من العوائل.

وبرغم ادعاء الدولة أن القرار يؤثر إيجاباً، ولكن لنلاحظ الجانب السلبي للموضوع أيضاً، فإن قيمة البضائع وكلفتها سترتفع بذلك، لنفرض بضاعة ما، يسعر الكيلوغرام منها عشرة الاف دينار عراقي، فإذا أثّر التضخم والغلاء والاحتكار ومنع استيراد هذه البضاعة مثلاً ، فإنها ستصبح بقيمة خمسة عشر الف دينار أو عشرين الف دينار مثلاً، وهنا ستثور ثائرة الناس ضد الدولة، إذا ارتفعت بهذه النسبة كلفة الكهرباء والماء والوقود والخبز، وأية سلعة تدعمها الدولة، أو البضاعة المرتبطة بمنطقاليوم بالدولة، وإن كان بشكل غير مباشر، وسيحتج الناس بشدة على هذا الارتفاع بالأسعار، من عشرة الاف دينار مثلاً، الى خمسة عشر الف دينار، أو عشرين الف؛ لأن وَقْع ذلك شديد من الناحية النفسية، كما هو من الناحية الواقعية، وحيث تخشى الدولة من أن تفقد شعبيتها وتفقد الأصوات في الانتخابات، أو تخاف من حصول اضطرابات فإنها

ص: 198

ستحاول أن تسيطر على زيادة الأسعار.

ولكن إذا حذفت الأصفار من العشرة الاف دينار، فصارت عشرة دنانير، فالليتر من البنزين مثلاً اذا ارتفع من عشرة دنانير الى خمسة عشر ديناراً، أو حتى الى عشرين، فإن ذلك لن يؤثر نفسياً على الناس كثيراً، فهي مسالة نفسية اقتصادية، فإن الإنسان إذا رأى ما قيمته عشرة الاف دينار صار فجأة بخمسة عشر الف دينار فإنه سيتملكه الرعب، ولعله يواجه الدولة، أما إذا كانت قيمته عشرة دنانير فصارت خمسة عشر ديناراً فإن الأمر أهون بالنسبة له بكثير، وهذه القضية ذكرناها كمجرد مثال، والا فإن مثل هذه القضية تحتاج الى لجان متخصصة مشتركة بين الدولة وبين المؤسسات ومراكز الدراسات الأهلية والحوزات والجامعات ومفكري الأمة، لكي يدرسوا القضية من كافة زواياها في إيجابياتها وسلبياتها، ثم يتخذوا القرار المناسب.

لكن المشكلة أن الدولة متفردة باتخاذ القرارات، و لاشك إنها ستذكر بعض الإيجابيات لذلك؛ إذ في كل شيء حتى الضار منه منافع و إيجابيات، قال تعالى: «يَسْالونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا(1)».

وعليه، فإن المؤمنين والمؤمنات عامة إذا آمنوا بأن«بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» فإنهم سينظرون في مختلف القرارات التي تتخذها الدولة، بعين النقد والتمحيص، بل والمطالبة بأن لا تتخذ مثل هذه القرارات الا عبر دوائر مشتركة بين الدولة وبين الناس، وبين المراجع- المرجعيات الدينية والعلماء

ص: 199


1- سورة البقرة: 219.

والمفكرين والأحرار - لا في غرف مغلقة، وبعدئذ تسوق الدولة لرأيها ما تشاء، وما يحلو لها من الأدلة والبراهين.

مقارعة (الجائر) باللسان والأبدان وبالقلب أيضاً

هنا نذكر بعض الروايات لتزيدنا بصيرة ونوراً على نور، إن شاء الله.

يقول الإمام الباقر (علیه السلام) ،كما في الكافي الشريف، في حديث هذا بعضه: «فانكروا بقلوبكم والفظوا بالسنتكم وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ ل-هم عَذَابٌاليمٌ»(1) هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلم ظفراً حتى يفيئوا الى أمر الله، ويمضوا على طاعته»(2).

(فانكروا بقلوبكم والفظوا بالسنتكم) هذا المقطع يفيد أن المسؤولية ليست منحصرة في الإنكار باللسان والتكلم عن المظالم الصادرة من الحاكم الجائر فحسب، بل تعم المسؤولية القلب أيضاً فيجب أن يكره الحاكم الجائر، ويكره الظلم، كما هو صريح المقطع التالي: (وابغضوهم بقلوبكم).

ثم إن الظاهر من (السنتكم) أنها من باب المثال لا الخصوصية والموضوعية، فبالغاء الخصوصية او بالملاك نقول: ان الكتابة بالقلم أو بغيره

ص: 200


1- سورة الشورى: 42.
2- الكافي: ج9 ص483.

كالحاسبة أيضاً مشمول له، وكذلك الإشارة والحركات المعبرة عن الرفض والشجب، كالمظاهرات الصامتة مثلاً، على إننا في غنى عن ذلك لصريح قوله (علیه السلام): «فجاهدوا بأبدانكم».

فإذا جار الحاكم وظلم وسكت الكل فإنه سيزداد جرأة على جرأة، وجموحاً على جموح، وطغياناً على طغيان، على العكس مما إذا تكلم كل واحد واحد وكتب، أو صوَّر أو رسم سواء في مواقع الانترنيت، أو التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والمدوّنات و الواتساب وغيرها، إضافة الى المجلات والصحف، وما أشبه ذلك.

وإذا لم تكن هناك صحف ومجلات حرة فعن طريق استخدام التكنولوجيا الحديثة وإيصال أصواتهم للعالم عبر تطبيقات الهواتف الذكية والحاسبة وغيرها، إضافة الى كتابة رسائل و تهريبها من هنا وهنالك على شكل نشرات سرية.

إن جميع الناس لو اضطلعوا بهذه المسؤولية فسوف لا تبقى حكومة جائرة، ذلك إن من الواضح إن قلة من الناس لو تصدوا للنهي عن المنكر، فإن الحاكم الجائر قد يعتقل-هم، ويزجهم في السجون أو يواجههم بطرق أخرى، ولكنهم إذا كانوا ثلاثين مليوناً، أو خمسين مليوناً، أو ثمانين مليون إنسان، وإذا تحوّل كافة المؤمنين والمؤمنات الى كتلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يستطيع أي حاكم جائر أن يواجههم أبداً.

ثم إن تعسر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الكتابة و شبهها، فيمكن تطبيقه من خلال المظاهرات، كأن يخرج الناس في مظاهرات صامتة، أو لابسين السواد يوماً معيناً يصكون بها جباههم.

ص: 201

المظاهرات الصامتة والرموز الناطقة

في إحدى البلاد الإسلامية خرج الالوف من الناس محتجين على سياسة الحكومة الاقتصادية التي سببت فقر الناس، من غير حمل لافتة كونها ممنوعة، ولا توزيع ل-(بروشورات) ونشرات، ولا اطلاق شعارات، تجنبوا أي لفظ أو أية كتابة في الاحتجاج على السياسات الاقتصادية الجائرة لتلك الحكومة، حيث زادت الناس فقراً على فقر، بمنعها قانون «الأرض لله ولمن عمرها»، وبمنعها للتصدير والاستيراد بحرية، ووضعها الضرائب الباهظة على الاستيراد والتصدير، وبأخذها الضرائب الكثيرة من الناس على أي عمل، فخرج الناس بالالوف الى الشارع، بلا حركة و فعل سوى اخراج جيوبهم الفوقية والسفلية وقلبها الى الخارج، كإشارة وكناية عن الفقر و تردي الوضع الاقتصادي ، من سياسات الدولة الاقتصادية الجائرة.

فحضرت المخابرات وقوات مكافحة الشغب وشاهدت المنظر الغريب، حيث الناس خارجون بالالوف من غير مقال ولا فعل ولا رفع لافتات، فتحيرت المخابرات في البداية في كيفية تعاطيها مع الحدث؛ لعدم حجة مبررة للقمع، إذ سيجيبهم الناس إننا لم نقل شيئاً وهل من الممنوع أن نقلب جيوبنا؟ وإننا لم نقصد المسؤولين !!فتحيروا في الصنيع بهم، ثم بعد ذلك بدهاء المخابرات الشيطاني فتشوا عن المحاور الداعمة للحركة والمظاهرة، فأعتقلوهم فيما بعد.

إذا كانت الأمة أمة ناهضة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، فإن مصيرها سيكون بأيديها ، ولا يتمكن الطغاة من التلاعب بها أبداً، فإن من الواضح إن

ص: 202

100 مليون إنساناً، او 80 مليون إنساناً، أو 30 مليون إنساناً - أقل أو أكثر من تعداد سكان ذاك البلد - إذا خرجوا الى الشوارع كل-هم أو أضربوا عن العمل أو اعتصموا ضمن برنامج مخطط متين، فحينئذٍ لا يمكن لأحد أن يتصدى ل-هم، والحكومة ستسقط ببساطة، أو ترضخ طبيعياً.

(وصكوا بها جباههم) يعني تحدوهم و واجهوهم بقوة المنطق وبقوة الموقف ، ولا تخافوا في الله لومة لائم، أو لومة واعظ، وذلك لأن كثيراً من وعّاظ السلاطين يلومون الإنسان إذا خرج، بدعوى أن هذا خلاف الشرع والشريعة، وإن هذا القائد أو الرئيس أو الملك والأمير له القدسية والمكانة، أو ما أشبه ذلك، والحال أنه: لا شيء يعلو على الحق، ولا تخافوا في الله لومة لائم،« فإن اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ ل-هم عَذَابٌ اليمٌ»(1).

(هنالك فجاهدوهم بأبدانكم( فاذا لم ينفع معهم الكلام والموعظة فيكون الانتقال الى المرحلة التالية وهي جهاد الابدان.ومن مصاديق الجهاد بالأبدان - إما انطباقاً فهي كالصغرى لهذه الكبرى، أو مناطها فيها - (الخروج في مظاهرات سلمية( في مقابل الحكومة الجائرة، وكذا (الاعتصامات( و)الإضرابات السلمية( وغيرها من الاساليب القديمة والحديثة، في مقابل تشريع قانون جائر اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو حقوقياً، أو في مقابل ممارسة ظالمة، أو بحق مظلوم قد ظلم وسجن، أو منع من السفر أو أبعد عن وطنه، أو صودرت كتبه أو اغلقت مؤسسته أو غير ذلك، سواء أكان عالماً

ص: 203


1- سورة الشورى: .42

أم جامعياً أم غير ذلك.

(هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً) وهذه التفاتة هامة جداً الى ضرورة أن لا يكون النهي عن المنكر ذريعة للوصول للرياسة، أي لتحكم مكانه، فإن هذا هو منشأ الفساد؛ إذ الصراع يبدأ عندما يريد هذا أن يتسلط، وذاك يريد السلطة أيضاً.. وهكذا.. وهنا يبدأ الاختلاف بين الأمة، كلا، بل يكون كل ذلك لله وفي الله و إحقاقاً للحق، وإبطالا للباطل (غير طالبين سلطاناً( بما هو سلطان، وحباً للرئاسة،(ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلم ظفراً) ، فلا يكونن الهدف هو الظفر، وكأن الظفر له موضوعية حتّى لو مر عبر قاطرة الظلم ؟ )حتى يفيئوا الى أمر الله ويمضوا على طاعته).

ذنب العامة وذنب الخاصة

الرواية الثانية :وهي رواية رائعة أيضاً، قال أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين، كما في علل الشرائع : «إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة المنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله.(1)» فالخاصة يراد بها الملك أو السلطان أو الحاكم أو الوزير، بل يشمل هذا المفهوم حتّى مثل رئيس الجامعة والأستاذ في الجامعة و الحوزة، ورئيس اتحاد الصحفيين مثلاً، وهكذا.. ممن يعدون نخباً في المجتمع، فإنهم قد يسرون العمل بالمعاصي، فإذا لم يعلم الناس بذلك(2) فليس الناس بمسؤولين، ولا يؤاخذهم الله سبحانه

ص: 204


1- علل الشرائع: ج6 ص522/ وسائل الشيعة: ج16 ص 135 - 136.
2- الظاهر أن المقصود بقوله (علیه السلام): (من غير ان تعلم العامة) أي عن قصور، لا عن تقصير.

وتعالى، ولكن الله يؤاخذهم إذا جاهرت الخواص بالمعاصي و علم العامة بذلك من غير نكير ولا محاولة تغيير ولا امر بمعروف ونهي عن منكر ، كما اذا رأوا عالماً او صحفياً او جامعياً او سلطاناً او قائداً يعصي الله سبحانه وتعالى جهاراً كمصافحة الاجنبي المستعمر، او توقيع اتفاقيات و معاهدات يرجع صلاحها لأولئك بالأساس أكثر مما هي لصالح الشعب، ولربما لا مصلحة تعود ل-هم، من غير ان يحركوا ساكناً ومن غير ردع و اعتراض منهم.والحق: إن كثيراً من المعاهدات والاتفاقيات التي تجريها الدول في الغرف المغلقة لا تصب في صالح البلاد بتاتاً، إذ لو كانت لصالحنا ، لما كان المستعمرون يركضون وراءنا، خذ لذلك مثال صفقات الاسلحة التي تجريها الدول الاسلامية مع الدول الكبرى بمئات المليارات، فان من الواضح إن الدول الكبرى الاستعمارية تحقق اهدافها من هذه الصفقات، لأنهم (مالياً) هم الرابحون، و(عسكرياً) كذلك من خلال بيع الاسلحة لكلتا الدولتين المتصارعتين، فيبيعون لكل الأطراف، لتبقى هيمنتهم على الدول، وعلى قرارها، وعلى خلق التوازن بينها، ولكي يبقى الاحتياج لها ، ولكي تبقى معامل-هم ومصانعهم وشركاتهم فعّالة شغّالة غير عاطلة، ثم إنهم يشعلون فتيل المعركة بين الأطراف لتبقى الحاجة اليهم والى أسلحتهم دائمة وأبدية! فهم المنتفعون أولاً وأخيراً ونحن المخدوعون.

والمحصلة إن المستفاد من الرواية إنه إذا رأت العامة من الخاصة خضوعاً للاستعمار مثلاً، أو ظلماً لعامة الناس، فعليهم أن يتكلموا، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً جهاراً ،كأن يصافح أحدهم قادة إسرائيل، أو يوقع على الاتفاقيات الضارة بالبلاد ولم تنكر العامة ذلك بمختلف الطرق، استوجب

ص: 205

الفريقان ، العقوبة من الله عزّ وجلّ.

عقوبة العلماء بصمتهم عن الظلم والمنكر

الرواية الثالثة: ما في تفسير العياشي في تفسير قوله تعالى: «أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا (1)».

عن الامام الصادق (علیه السلام) - واجمال الرواية - : «إن الله بعث الى بني إسرائيل نبياً يقال له إرميا»، حتى يحذرهم من شمول العذاب ل-هم نتيجة الاستهزاء والضحك بعد ان عطفهم برحمته وفضله وكرمه.

«فقال: قل ل-هم: ما بلد بنفسه من كرام البلدان وغرس فيه من كرام الغروس ونقيته من كل غريبة فأخلف فأنبت خرنوبا فضحكوا منه و استهزؤوا به، فشكاهم الى الله فأوحى الله اليه أن قل ل-هم : إن البلد بيت المقدس، والغرس بنو إسرائيل تنقيته من كل غريبة، ونحيت عنهم كل جبار، فأخلفوا فعملوا بمعاصي فلأسلطن عليهم في بلدهم من يسفك دماءهم، ويأخذ أموال-هم، فإن بكوا فلم أرحم بكاءهم، وإن دعوا لم أستجب دعاءهم، فشلوا وفشلت أعمال-هم لاخربنها مائة عام، ثم لاعمرنها» هنا انبرى علماء بني اسرائيل مستفسرين عن الامر.

قال: «فلما حدثهم جزعت العلماء فقالوا : يارسول الله ماذنبنا نحن ولم نكن نعمل بعمل-هم؟...» فلم نكن نحن من الظلمة ولا من العصاة فجاء الجواب من الله تعالى على لسان النبي «قل ل-هم : انكمرأيتم المنكر فلم تنكروه ، وسلط

ص: 206


1- سورة البقرة: 259.

عليهم بختنصر(1) فصنع بهم ماقد بلغك»(2) فصنع بهم تلك الأهاويل الغريبة، وذاك العذاب الرهيب. الى اخر الحديث الشريف وهذا تحذير خطير للعلماء، ولا يقتصر التحذير على العلماء الفقهاء فقط، بل العالم بالظلم قد يكون طبيباً، أو محامياً، أو مهندسا ، أو أي شخص علم بالظلم فسكت، فهو أيضاً يستحق العقوبة.

إن مسؤولية تحقيق أهداف مؤسسات المجتمع الإنساني الإيماني، من بناء المجتمع وتوفير الخدمات، والتصدي للاخطار الخارجية والداخلية والتصدي للحاكم الجائر والحكومة الطاغية، والقوانين غير الاسلامية غير الإنسانية، لهي مسؤولية عامة شاملة لكل المؤمنين والمؤمنات، من علماء وخبراء وأطباء ومحامين ومهندسين وصحفيين وتجار، وشباب ونساء وشيوخ، وحرفيين ومزارعين وغيرهم، فهل من مدّكر(3)؟

ص: 207


1- بختنصر الكلدي، وهو الملك البابلي نبوخذ نصر بن نبوبلانصر(605 - 563) ق.م، قاد الجيوش البابلية في معارك حاسمة على منطقة بلاد الشام، ودمر عدة ممالك، منها مملكة يهوذا، في حملتين، وسبا الكثيرين من سكانها إلى بابل.
2- بحار الأنوار: ج97 ص86 - 87.
3- سياتي في الفصل السابع عشر والثامن عشر ما يكمل بعض جوانب هذا المبحث بإذن الله تعالى.

ص: 208

الفصل الثاني عشر: حكم العمل والعامل في الإسلام

اشارة

ص: 209

ص: 210

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1)».

هل في الإسلام تقاعد؟ وهل المسؤولية تتأطر بالموقع؟

علينا أن نستضيء بهذه الآية القرآنية الكريمة لجهة الإجابة على سؤالين: الأول: هل هنالك تقاعد عن العمل في الإسلام؟ والثاني: هل إن مسؤولية الفرد تتحدد في إطار وحدود المنصب والموقع الذي يشغله؟ والجواب عن السؤال الأول بكلمة واحدة هي: انه لا يوجد تقاعد في الإسلام، ونعني به التقاعد عن العمل، وعن المسؤولية وليس عن الوظيفة الروتينية.

فعندما يصل الإنسان الى سن معينة تجري إحالته الى التقاعد، وتختلف الدول عادة في تحديد السن التقاعدية، فبعضها تضع سقف الخامسة والستين، وبعضها تحدد الأقل من ذلك، كما أن الموظف قد يتقاعد عن الوظيفة لأسباب

ص: 211


1- سورة التوبة: 71.

أخرى عديدة، لكن التقاعد عن المسؤولية لا مجال له في الإسلام، وفي المنطق الإنساني أيضاً، بل لا تقاعد عن العمل أيضاً، فإنه من الممكن أن يتقاعد الإنسان عن وظيفة معينة، لكنه يبقى ملزماً أخلاقياً وإنسانياً، وفي الجملة شرعياً، لكي يستمر في العطاء والإنتاج حتى لحظة مماته، بنحو الوجوب تارة وبنحو الاستحباب تارة أخرى.

ان الآية الشريفة تقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»وطبقا للقاعدة المعروفة: ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فإن هذا الحكم(1) بل الأحكام علقت وحملت علىالموضوع وهو«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ»، و مثل هذا التعليق للحكم على الوصف مشعر بالعلية، مما يعني لأنك مؤمن فأنت ولي وبالنتيجة مسؤول، ولأنك مؤمن فيجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أكان عمرك خمس عشرة سنة أم أكثر، وسواء أكنت في هذا الموقع الرسمي أم لم تكن ف-«المؤمنون» تعني بما هم «مؤمنون»، وتعني بوصف إيمانهم، فلأنهم (مؤمنون) فهم «أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ».

إذن، من الممكن أن ننطلق من هذه القاعدة العامة لإثبات أنه لا تقاعد في الإسلام، وأنه لا يصح أن يتقاعد الإنسان عن المسؤولية في أي سن كان، وفي أي موقع كان، وذلك نظراً لتعليق الحكم على الوصف، أي ما دام الإنسان مؤمناً فهو مسؤول، ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

ص: 212


1- الحكم الوضعي وهو الولاية، والأحكام التكليفية: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإطاعة الله ورسوله.

وإن بلغ من الكبر عتياً.

ومن جهة أخرى، فإن البعض يتصور أنه إذا كان عضواً في الهيئة الإدارية للجامعة - مثلاً - فهو مسؤول عن أخلاقيات الطلبة، أو عن تطوير الجامعة وتنزيهها، لكنه إذا كان خارج الجامعة فلا مسؤولية له، وهو تصور غير صحيح؛ لأن«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» عام شامل لجميع المواقع سواءً أكان أحدهم في هذا الموقع أم لم يكن؛ فلأنه مؤمن فهو مسؤول؛ فليست المسؤولية مرتبطة بالموقع، نعم من الممكن أن يزيده المنصب الزاماً على الزام، وعهداً على عهد.

وفي مثال آخر: البعض يتصور أنه إذا أصبح وزيراً أو نائب وزير أو وكيل وزارة، أو عضو البرلمان أو موظفاً في أي جهاز حكومي، فحينئذٍ يكون مسؤولاً عن ذلك الحقل فحسب، بالتأكيد إنه مسؤول، لكن الواقع هو قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك، يبقى مسؤولاً، وهذا يعني فيما يعني أن كل إنسان مسؤول عن وضع الزراعة كمثال في البلد، وليس وزير الزراعة فقط.

نعم، إن إمكانيات وزير الزراعة أكبر، والمحاسبة القانونية عليه أشد، لكن ذلك لا ينفي ثبوت المحاسبة الالهية عليّ أيضاً إذا لم أشارك - رغم قدرتي - في النهضة الزراعية في البلد في الحدود الواجبة من الزراعة، وكذلك فيما لو سمحت للاستعمار وأياديه في بلادنا أن يحطم زراعتنا، ويحطم الاقتصاد الوطني، ويحطم الشركات أو المعامل أو المصانع الوطنية بخطط ملتوية، أو بخطط مباشرة، فكل إنسان من موقعه يستطيع أن يقوم بدور في هذا الحقل.

وهنا ننقل لكم قصة معبرة على قصرها، ينقل السيد الوالد (قدس سره)إنه عندما كنا في الكويت كان هنالك أحد المؤمنين من كبار السن، يأتينا بين فترة

ص: 213

وأخرى، وعادة كان يأتي عصرا او مساءاً، وذات يوم جاء صباحاً وأطال الجلوس، مع أن الموظف والكاسب والتاجر مشغول فترة الصباح عادة، ثم تكرر مجيئه أياماً صباحاً.

فساله الوالد (قدس سره) عن قدومه المتكرر، وماذا صنع بعمله؟فقال: لقد تقاعدت! فقد بلغت الستين عاماً، وتركت العمل، فجئت بخدمتكم، فقال له الوالد (قدس سره): لا تقاعد في الإسلام، فسال فماذا أعمل إذن، قال له عليك بتأسيس دار نشر، وبقليل من التحريض والتشويق انطلق هذا المؤمن وأسس دار نشر، ثم توفي بعد ذلك بمدة فخلفه بعض أرحامه في إدارتها، والآن مُنذ خمس وثلاثين سنة تقريبا لا تزال تلك المؤسسة موجودة، وهي نشيطة وعامرة - ولله الحمد - بالإنجاز وبالعطاء.

فملخص ما مضى: انه استلهاماً من الآية القرآنية الكريمة، واستنطاقاً من قاعدة أصولية، عرفنا انه لا تقاعد في الإسلام من حيث المسؤولية، بل ومن حيث العمل والعطاء أيضاً، حيث لا تتحدد المسؤولية في إطار وحدود الموقع والمنصب الذي يشغله الفرد، مستندين في ذلك بتعليق الحكم على الوصف والذي يشعر بالعلية في قوله تعالى «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» فالمؤمن بما هو مؤمن ولي ومسؤول، وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.

ثم إن هنالك قاعدة أخرى نستطيع أن نستل-هم منها المدَّعى في إثبات أنْ لا تقاعد في الإسلام، من حيث المسؤولية، وإنه لا تتحدد المسؤولية في إطار وحدود الوظيفة:

ص: 214

الإطلاق الأحوالي والأزماني لولاية المؤمنين

والقاعدة الثانية هي التي يمكن أن نتمسك بها لكي نتعرف على مسؤوليتنا، على ضوء هذه الآية القرآنية الكريمة، أكثر فأكثر، هي :قاعدة الإطلاق الأحوالي، وقاعدة الإطلاق الأزماني، إضافة للعموم الأفرادي، ففي هذه الآية الشريفة «والمؤمنون والمؤمنات» هنالك:

أ - عموم أفرادي، فإن«وَالمُؤْمِنُونَ »تعني كل مؤمن، كما سبق ذكره، أيَّ مؤمن كان، رجل دين كان أم جامعياً، بقالاً أم تاجراً، مميزاً أم بالغاً، فهذا عموم أفرادي شامل لجميع أفراد المؤمنين.

ب - وهنالك إطلاق أحوالي؛ إذ« وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» تعني كل فرد في أية حالة من حالاته، سواء أكان وزيراً أم لم يكن ، وسواء أكان غنياً أم لم يكن، و في أية حالة من الحالات؛ لأن الآية لم تخصص، ولم تقل المؤمنون والمؤمنات في حالة كونهم أغنياء فقط، أو حالة كونهم متسنمين لهذا المنصب فقط، فهو إطلاق أحوالي في مختلف حالاته وأحواله، من قوة وضعف، وغنى وفقر، و علم وجهل، وهكذا.ج - وهنالك إطلاق أزماني؛ إذ لم تحصر الآية هذه التكاليف والأحكام الوضعية(1)، بزمان خاص، قبل التقاعد أو بعده، قبل سن الأربعين أو بعده، قبل سن التسعين أو بعده، قبل الوزارة او معها او بعدها، قبل رئاسة الشركة أو الدولة، أو المؤسسة ومعها وبعدها، قبل المرض او معه او بعده، وقبل

ص: 215


1- فإن (ولي) هنا حكم وضعي، ووجوب الأمر والنهي حكم تكليفي.

الإفلاس او معه او بعده، وقبل الغنى او معه او بعده، وقبل القوة او معها او بعدها، وهكذا، فليس هناك تحديد من حيث الزمن، فالإطلاق الأزماني أيضاً محكَّم بدون ريب، فهذه هي القاعدة الثانية التي يمكن أن نستند اليها في تعميم المسؤولية.

إن المسؤولية لا تعرف تقاعداً ولا غيره، ولا تعرف منصباً ولا غيره، فإن الكل مسؤول، في أي موقع كان وفي أي منصب، وفي أي سن.

وهنالك قاعدة أخرى أيضاً يمكن أن نستند اليها، ستأتي في البحوث القادمة، إن شاء الله.

ص: 216

الفصل الثالث عشر: ضوابط ومواصفات مؤسسات المجتمع المدني السليم

اشارة

ص: 217

ص: 218

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

جرى البحث في اتجاه مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني، وقد تبين أنها تارة تلاحظ مسؤوليتها تجاه الأفراد، وأخرى تجاه الدولة، وثالثة تجاه المجموع من حيث المجموع، ورابعة تلاحظ مسؤولية هذه المؤسسات تجاه سائر المؤسسات، وسيتواصل البحث في العلاقات البينية لهذه المؤسسات، ووشائج الترابط بينها، وما ينبغي أن تكون عليه.

ضوابط مؤسسات المجتمع المدني:

إن لمؤسسات المجتمع المدني ضوابط ومواصفات، ان لم تنطبق تلك الضوابط و المواصفات على مؤسسة ما لا تحسب ضمن مؤسسات المجتمع المدني، بل قد تكون عندئذٍ مجرد مؤسسات هدامة، تهدف الى تخريب وتحطيم المجتمع المدني، فليست كل مؤسسةٍ منظمة تصب في خدمة البلاد، أو في تقوية

ص: 219


1- سورة التوبة: 71.

نسيج مؤسسات المجتمع المدني، وإنما هنالك جملة من المؤسسات أو المراكز المجتمعية تصب في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن هدفها هو تحجيم أو تحطيم اقتصاد البلد، أو قد تهدف الى تحريف سياسة البلد، أو ما أشبه ذلك.

عليه، فإن مؤسسات المجتمع المدني تتوزع على مجموعتين مبدئياً: الأولى: هي المؤسسات التي تسعى الى تحقيق الأهداف العليا للمجتمع المدني، وهي بناء المجتمع فكرياً وثقافياً وخدمة أبنائه، وأن تكون سداً منيعاً بوجه الطغاة.

والثانية: هي المؤسسات التي تصب أهدافها في الاتجاه المقابل تماماً، تهدف الى تخريب المجتمع بدل بنائه، وتسعى لكي تحطمه وتنسف أُسسه، وبدلاً من أن تسعى لترتقي بالخدمات في البلد نجد أن منهجيتها تحطيم البنى التحتية، التي تكفل الخدمات المنوّعة للناس، من كهرباء وماء وصحة وتعليموغير ذلك، إن شئت فقل: إنها في الواقع بمثابة عصابات تدافع عن الظالم، وتدافع عن الجائر، وتتبنى منهجية تحطيم الكفاءات والخدمات والمؤسسات الدستورية.

وهذا الفرق بين النوعين من المؤسسات لابد أن يلاحظ في علاقة هذه الجماعة بغيرها من الجماعات، وبمؤسسات المجتمع المدني الأخرى، أو ما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقة في مبحث اتجاهات المسؤولية فيها.

ويتبين من الآية الشريفة التي بدأ بها البحث، أن في مقابل المؤمنين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، هنالك الظالمون العاملون للمنكر والتاركون للمعروف، وكافة المؤسسات ذات الأهداف السلبية، أو ذات الأجندة الخارجية، كما أنَّ في مقابل «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ» يكون و(الكافرون والكافرات) فهذه مجاميع أربعة.

ص: 220

ولنا في هذا الحقل آيتان كريمتان أُخريان:

الآية الأولى: «وَإِنَّ الظَّالمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(1)، فكما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فكذلك الظالمون والطغاة والجبابرة وعملاء الاستعمار وأنصار الظلمة ووعاظ السلاطين - هؤلاء أيضاً - بعضهم أولياء بعض.

وكما أن المجتمع الإيماني متماسك، ويجب أن يكون متماسكاً، وينصر بعضهم بعضاً، فكذلك نرى ان وعاظ السلاطين، و أنصار الظلمة والجائرين يحاولون التماسك في مشوارهم الهدمي ، ولعل القضية هي بنحو (اقتضاء طبيعة الشيء (فإن (شبيه الشيء منجذب اليه والطيور على أشكالها تقع).

الآية الثانية هي قوله تعالى: «المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ»(2)، واللطيف الملاحظ في آية البحث إنها تقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(3)، أما في الآية المقابلة فتقول: «المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ»، فهناك اختلاف دقيق في التعبير، ربما نتطرق له في المستقبل.

فالمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر بدلاً أن يأمروا بالمعروف، كما نشاهد ذلك في أولئك الناس الذين يشجعون الآخرين على مشاهدة الفضائيات الفاسدة، أو على مشاهدة بعض الأفلام أو الأقراص المنحلة، أو يشجعون زملائهم على تعاطي قليل من المواد المخدرة، بزعم أنها غير مؤثرة، ولا ضرر في تعاطي القليل منها، بل يخدعه بالقول إنها تدخله الى

ص: 221


1- سورة الجاثية: 19.
2- سورة التوبة:67.
3- سورة التوبة: 71.

عالم ثانٍ مثالي بعيداً عن قساوة الحياة وصعوباتها! وهكذا يجره شيئاً فشيئاً الى الإدمان بتعاطيها، أو يشجعه على قليل من الخمرة - والعياذ بالله - أو بالذهاب الى السينما لمشاهدة بعض الأفلام البذيئة أو التنزه علىالشواطئ الموبوءة أخلاقياً بحجة إننا سنكون بعداء عن ذلك الجو! لكن هذه مصيدة الشيطان وأية مصيدة! وهذه حقيقة اجتماعية سجّلها القرآن الكريم بقوله: «المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المَعْرُوفِ»، لذا نرى بعض الناس إذا علم أن صاحبه يريد أن يتبرع الى حسينية أو مسجد أو الأيتام، أو الى غيره، فإنه يثبّطه بعذر أو آخر، وهذا هو الغريب، فإنه يبخل حتى من انفاق الغير، فهم ينهون عن المعروف «وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» عن كل عمل خيري ، فتراه محجماً عنه، أو عن أي نشاط خيري تعرضه عليه، «نَسُوا اللَّهَ»،كأن الله ليس موجوداً، فتجده يتعامل وكأن هذا الكون ليس له اله وخالق ومحاسب ومعاقب ومثيب، ومن يحاكم العباد في الدنيا والآخرة، «فَنَسِيَهُمْ»، فهو تبارك وتعالى قد تعامل معهم تعامل مَنْ ينسى الآخر، فإن الله سبحانه وتعالى لا ينسى - كما هو واضح - لكن مثل هذه الصفات عندما تطلق على الله عزّ وجل فالمراد بها نتائجها، بمعنى قد تعامل معهم تعامل الناسي مع المنسي، بمعنى إنه يهمله عن دائرة الثواب والأجر والعطاء ولا يهتم به، وبعد ذلك يختم الله حال هؤلاء بقوله«إن المنافقين هم الفاسقون» و(فَسَقَ) يعني خرج، فهؤلاء خارجون عن دائرة الدين، و الإيمان، و التقوى، و عن دائرة الخير والفضيلة والأخلاق الفاضلة، وعن دائرة المجتمع الإيماني والمجتمع الإنساني.

ص: 222

الأعداء الأربعة للمجتمع المدني

اشارة

في هذا الحقل سنبحث عن أربعة أنماط من الظالمين والمنافقين، الذين خرجوا عن دائرة أهداف مؤسسات المجتمع، بل كانوا الدّ أعدائه، وهؤلاء هم هادمو أعمدة المجتمع المدني و الإنساني و الإيماني، وعلى ضوء هذه النظرة ينبغي أن تتعامل سائر الجماعات معهم.

1- أعداء الاقتصاد الوطني

النمط الأول من أعداء المجتمع المدني ومن الظالمين ومن المنافقين: هم أولئك الذين يستهدفون (الاقتصاد الوطني(، حيث إن هنالك منظمات وأحزاباً وشركات تؤسس في بلادنا هدفها تحطيم الاقتصاد، تارة عن طريق التشريع في البرلمان بالتخطيط لكي تشرّع قوانين تضر باقتصاد الوطن، ولكن بأسلوب ذكي، حيث يطرح القانون بعد القيام بعملية (مكيجة) لهذا القانون، لكي يتصوره الناس شيئاً إيجابياً.

وهنالك مستشارون يأتون الى بلادنا، وشركات أهلية أيضاً تتجسس على الأحوال الاقتصادية للبلد، فالمؤسسة التي قد تكون مؤسسة دولية تحافظ على ظاهر محترم، بل إنساني، فتمد أفرعاً الى بلادنا، وتبدأ النشاط والحركة، وهي في الواقع ذات أهداف مبيتة.وأذكر هنا مثالاً مبسطاً، لكنه شديد الدلالة، وعلى ذلك فقس ما سواها التي هي بالالوف.

ينقل السيد الوالد (قدس سره): أن أحد الموظفين الذين كانوا يعملون في قسم

ص: 223

(التلكس والتلغراف) قبل حوالي نصف قرن جاء الى أحد العلماء، وقال له: إني ارتكبت جريمة، أتصور أن الله سبحانه لا يغفرها ، فهل من توبة؟ قال له العالم: إن الله سبحانه وتعالى يتوب عن كل ذنب، قال لكن ذنبي عظيم جداً، قال له: وما ذنبك؟ قال : إنني في الواقع من حيث لا أدري ساهمت مساهمة كبرى في تحطيم اقتصاد البلد، بخدعة خدعت بها، ولم أكن أعلم حجم التأثيرات السلبية لذلك.

يقول: كنت موظفاً في مركز التلكس الرئيسي في العاصمة، وكانت مهمتي أن أتلقى الرسائل البرقية (التلكسات والتلغرافات) التي تأتي من الخارج، أو تنطلق من الداخل، وأوصلها الى أصحابها، من أشخاص أو شركات أو جهات في الداخل أو في الخارج.

وذات يوم، جاءني أحد اليهود وقال لي: سوف أعطيك مبلغاً كبيراً من المال - وكان بأضعاف مرتبي شهرياً - وقال: إن طلبي منك في مقابل ذلك لا يضر بأحد، وهو أنه عندما تستلم (التلغرافات) التجارية، من الداخل أو الخارج، فاعرضها عليّ قبل أن توصلها الى أصحابها، ثم أوصلها الى أصحابها بعد أربع وعشرين ساعة فقط.

فمثلاً عندما يأتي (تلغراف) بأن فلان دولة أو شركة لتصنيع السيارات قد وافقت على إرسال مائة الف سيارة لهذا البلد، ولتلك الجهة المستوردة، وإن هذه السيارات ستدخل بعد شهر، فاطلعني على مضمون (التلغرافات) التي تتضمن المعلومات المختلفة الاقتصادية، قبل أن توصلها الى أصحابها بأربع وعشرين ساعة، يقول الموظف: عرفت أن في الأمر حيلة ما، لكني رأيت أن لا ضرر في ذلك! إذ لا يستلزم قتلاً، ولا سفك دم، ولا سرقة، لكنه مجرد

ص: 224

خيانة في التوقيت، فبدلاً أن أوصل الخبر لأصحابه في نفس اللحظة أتعمّد تأخيره لأربع وعشرين ساعة، وكنت أحصل إزاء ذلك على مبلغ كبير أعمى عيني عن حجم الخيانة.

يقول الموظف: بعد قرابة العشر سنوات اكتشفت حجم الدمار الذي الحقته بالمسلمين، وبتجار المسلمين، وموالي أهل البيت %، وكيف أني قد حطمت اقتصاد البلد؛ لأنه قد تبين أن ذلك اليهودي - والمجموعة التي كانت تقف وراءه - عندما كانت الأخبار تصله عن مختلف التعاملات التجارية والاقتصادية كان يوصلها للجهات اليهودية المعنية، مثلاً: لتجار الأقمشة أو المواد الغذائية أو لتجار الخشب أو المطاط، أو لشركات السيارات اليهودية.. وغيرها.

فمثلاً: كان مقرراً أن تصل شحنة من الحنطة بمقدار كذا مليون طن، مما سيعني انخفاض الأسعار لكن (التلكس) جاء بأنها سوف لن تصل لعلةٍ أو أخرى، مما يعني إن الأسعار سترتفع لو انتشر الخبر، فكان هذا اليهودي عندما كانت تصله الأخبار يتعامل مع الحدث بسرعة، فيشتري - أو من خلفه - أكثر كميات الحنطة الموجودة في السوق بسعر معتدل، ثم بعد انتشار الخبر وارتفاع الأسعار يبيعها فيربح ويربح جماعته أرباحاً كثيرة، ويكبّد المسلمين خسائر كثيرة.مثال آخر: عندما يأتي الخبر بأنه بعد ثلاثة أسابيع، ستصل شحنة كبيرة من السيارات، مما يعني إن سعر السيارات سينخفض طبيعياً بسبب الوفرة في العرض، فكان يخبر الجهة اليهودية فوراً، التي تملك معارض سيارات من ذلك النوع، لكي تبادر وتسارع لبيع السيارات التي لديها بالسعر المرتفع الحالي؛

ص: 225

لأن الناس لا يعلمون، أنَّ السيارات ستصل، وحتى الجهة المعنية لا تعلم بذلك ، وفي خلال يوم واحد يبيع ما يستطيع أن يبيعه بالجملة والمفرد، فيربح الكثير، والعكس بالعكس عندما يأتي الخبر بأنه شحنة معينة قد تأجلت أو تأخرت مثلاً، فإنه يعني قلة العرض وشدة الطلب والحاجة للسيارات، فكلما مضى الزمن فإن سعر السيارة يزداد؛ لأن الطلب عليها كبير، والعرض قليل، فكان يؤخر عملية بيع السيارات، بل بالعكس كان يشتري منها في هذه الأربع وعشرين ساعة بالسعر الحالي الطبيعي، ثم بعد ذلك يبيع بسعر مرتفع، وهكذا كان يربح الجالية اليهودية من الجهتين.

2- أعداء النسيج الاجتماعي والاداري

النمط الثاني من أعداء المجتمع المدني: هم مخربو البنية التحتية للمجتمع المدني، وهم أولئك العلماء أو الأذناب الذين يعملون في البعد الاجتماعي والإداري وما أشبه ذلك، اما في البعد الاجتماعي كتلك الحركات التي تنشر الفساد الاجتماعي بذريعة التحرر الانساني، من خلال اليات معينة كالدعوة الى الاختلاط في المجاميع العامة، والدعوة الى التعري باسم الفن، وغيرهما من الأساليب المتبعة في بعض الدول، اما في البعد الاقتصادي كتلك الشركات الاستشارية ذات الارتباط بالجهات الأجنبية، حيث من الطبيعي أن يطلع المستشار على الوضع كله، وما أكثر المستشارين في بلادنا، فإن من المتعارف أن تقوم الشركات والمصانع المحلية بالاتصال بالشركات العالمية أو المحلية لترشح لها مستشاراً - بطبيعة الحال - فيطلع على كل ما يتعلق بأوضاع الشركات أو المصانع أو غيرها، وبالتالي تكون كل أخبار البلاد بأيديهم - أي الجماعات الدولية - من

ص: 226

خلال المستشارين.

والشيء نفسه يجري في مراكز التدريب والتأهيل، فقد اطلعت على تقارير عن العديد من المؤسسات في عدد من البلاد الإسلامية الخاصة بالتدريب أو التأهيل، والتي كان هدفها الظاهري هو التنمية البشرية، ولكن في الواقع كان هؤلاء - بعض أعضاء مجلس الإدارة أو المدربين أو المعلمين - مرتبطين بجهات أجنبية، تهدف في الظاهر الى تقديم خدمة بشكل برامج ودورات تدريبية في الإدارة أو الاقتصاد أو التجارة، لفترة من أسابيع الى سنة، وعن هذا الطريق يجري استغلال الدارسين والمتدربين فيها، الذين يقدمون عادة من وزارات مختلفة في الدولة، مثل وزارة الداخلية أو الخارجية أو التجارة، كون الوزارات تتعاقد مع هذه المراكز لتدريب وتأهيل وتطوير موظفيها، وقد يكون فيهم ابن الوزير نفسه، أو معارفه أو غيرهما.

فعن هذا الطريق يمد الأساتذة إخطبوطهم الى داخل الوزارات، على شكل علاقة بين الأستاذ والتلميذ؛ كون علاقة الأستاذ بالتلميذ محترمة عادة، لكن هذا الأستاذ وفي أثناء الدرس أو قبله أو بعده أو في ضيافات ولقاءات جانبية أخرى يجلس مع التلاميذ، ويعرف مواقعهم وخصوصياتهم، ويعقد الصداقات معهم، فيطلع على نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم، ثم يخبر الجهات المعنية، وليس بالضرورةيقوم بنفسه بعمل ما، لكن الجهات المعنية ستعرف هذا الشخص المتدرب، وما هو موقعه؟ ونقاط قوته ونقاط ضعفه، ومن أين يمكن أن تدخل اليه؟ ومن أين يمكن أن يستثمر ليصبح أداة في تلك الجهة الدولية؟ والبحث في هذا الحقل طويل والشواهد كثيرة جداً.

والذي يتتبع هذا الموضوع يجده مرعباً، فإن الاستعمار لم يستمكن في

ص: 227

بلادنا بالشعارات فقط، ولا بالعسكر والعسكرتارية فقط، وإنما صنع واقعاً متنوعاً من هذه المؤسسات التي ظاهرها مليح، وباطنها قبيح، وهو عمل المنافق الذي يتظاهر بالطيبة والوداعة والمحبة، و بحب الوطن والشعب، وفي الواقع ليس الا (كالحية ليِّن مسها وفي جوفها السام الناقع) حيث يحمل أهدافاً وأجندة خارجية.

3-4- أعداء الفكر والدين

النمط الثالث والرابع: من مخربي النسيج الاجتماعي والبنية التحتية لمؤسسات المجتمع المدني: هم أولئك الذين يستهدفون الفكر، ويحاربون الثقافة الصحيحة من خلال مراكز الدراسات أو الجامعات التي تعمل فيها هيئات تدريسية لإنتاج الفكر الهابط المنحل من جانب، ولتحطيم العقيدة والإيمان والدين من جانب اخر، وهي مشكلة عامة سيالة، ومنبعها الأساس من الغرب، خاصة المانيا وفرنسا، حيث يوجد في هاتين الدولتين نمطان من الجامعات التي تهدف لتحطيم (الدين) بقول مطلق، سواء أكان دين الإسلام أم المسيحية أم غيرهما، ذلك إن النمط الالماني يحاول أن يخرب الدين من الخارج، بينما النمط الفرنسي الذي يتجسد أساساً في جامعة السوربون، فإنه يحاول أن يحطم الدين من الداخل.

ويظهر للمتتبع أن هذه الجامعات لها دور أساس في نشر الحالة اللادينية، والفكر المضاد للدين، بعناوين وأساليب مختلفة، فإن كثيراً من الأفكار الهدامة المعادية للأديان، بشكل عام، ولدين الإسلام بشكل خاص، قد انطلقت إما من فرنسا أو المانيا من خلال جامعات متخصصة في هذا الشأن، لكن كثيراً من

ص: 228

أساتذة جامعة السوربون متلبسين بلباس المنافقين، يحاولون إثارة الشبهات والتشكيكات، ويشهد على ذلك بعض أبرز الكتاب في العالم الإسلامي - وبدون ذكر التسميات - حيث إن كتاباتهم كلها سم ناقع ، لكن بطريقة دينية وباستخدام بعض مفردات الدين لضرب الدين، وهم خريجو جامعة السوربون(1).والطريقة الالمانية، هي طريقة أخرى، إذ تحاول أن تهدم من خارج الدين؛ إذ تهاجم الدين بصراحة ومن موقع العدو، لا من موقع المتظاهر بنوع من التدين أو الفكر الديني بإثارة الشبهات، وهي صنعة يهودية أساساً، وقد وردت في كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون)، حيث جاء فيها وفي غيرها ما مضمونه: بان ما نتميز به نحن اليهود، هو إننا نلتقط الباطل وكل فكرة ضالة ومنحرفة أو حتّى خطيرة، ثم نزيّنها ونجمّلها ونصنع لها نظرية برّاقة لتسويقها، وذلك كنظرية داروين مثلاً، التي تقول: إنَّ أصل الإنسان هو قرد، وقد تطور تطوراً طبيعياً، والهدف غير المعلن هو توجيه ضربة قاضية للأديان، وللأخلاق أيضاً؛ إذ اليس القرد حراً في أن يفعل ما يشاء! فنقتنص الفكرة الباطلة، ك-)الشذوذ الجنسي( مثلاً وكل ما هو ضد الدين والأخلاق، ومن خلال المفكرين والإعلاميين نبتكر لها نظرية محببة، ثم نسوّقها على مستوى عالمي).

فهذا الامر؛ تزيين الفكرة الزائفة الباطلة وتجميلها ومن ثم تسويقها وكأنه قمة الحضارة، مما برع فيها المستعمرون الهادفون لتحطيم الاسس الدينية،

ص: 229


1- للمؤلف بعض الكتب حول بعض تلك الأفكار، ومنها كتاب (نقد الهرمنيوطيقا ونسبية النصوص والمعرفة والحقيقة(، وكتاب (نسبية النصوص والمعرفة .. الممكن والممتنع( .

فيطرحون مثل العلمانية وكأنها قمة الحضارة والحداثة، والفساد وكأنها قمة الحرية الانسانية، والشبهات والتشكيكات وكأنها قمة العقل والذكاء! إن مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني والإيماني أو الإنساني تجاه هذه المؤسسات التخريبية هي مسؤولية أساسية، وعليها أن تتمتع بدقة بالغة، وبرصد حقيقي لهذه الحركات، وأن تتميز بتخطيط مركب في مواجهتها.

الموقف الشرعي من أعداء المجتمع

في رواية يقول الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): «إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم»(1)، وذلك أعم من أن يكون في الجانب الاجتماعي أو الأخلاقي، أو الاقتصادي أو غيرها فتلك الشركة أو تلك المؤسسة، التي تمتهن التدليس والاحتكار، وذلك المرابي والمحتكر، وكل عاصٍ وفاسق وفاجر، فلا تصاحبهم ولا تصادقهم، وتباعد عن ساحتهم؛ لأن مثل هذه الصداقات هي التي تفتتن الإنسان عن دينه.

وفي رواية ثانية عن الجعفري، قال سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول لأبي: «ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ قال: إنه خالي، فقال له (علیه السلام): إنه يقول في الله قولاً عظيماً، يصف الله تعالى ويحده والله لا يوصف، فإما جلست معه وتركتنا، وإما جلست معنا وتركته» فقال: ان هو يقول ما شاء أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن (علیه السلام): «أما تخاف أن ينزل

ص: 230


1- الكافي: ج8 ص16.

به نقمة فتصيبكمجميعاً»(1)، فلاحظوا قوله (علیه السلام): «يصف الله تعالى ويحدّه، والله لا يوصف» وذلك يعني أن هذا الإنسان منحرف عقدياً، فهو يصف الله الذي لا يوصف سبحانه وتعالى، فإما «جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته».

وكما بالنسبة للأفراد كذلك بالنسبة للجماعات، وبالنسبة لمراكز الدراسات الضالة والمضلة والمنحرفة، والجامعات والهيئات التدريسية ، فيجب الحذر منها والابتعاد عنها، الا لمن يمتلك الحصانة الكافية والتخطيط والمقدرة على التأثير والتغيير «أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً»، لأن بلاء الله إذا نزل لا يفرق بينه وبينك ما دمتم متجاورين، ولو ظاهرياً، والرواية لها تتمة(2)، جديرة بالملاحظة والتأمل.

ص: 231


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص349.
2- «أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى(علیه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون موسى(علیه السلام) تخلف عنه ليعظه، وأدركه موسى (علیه السلام) وأبوه رٲي غمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى (علیه السلام) الخبر، فسأل جبرئيل عن حاله، فقال له: غرق رحمه الله ولم يكن على رأي أبيه، لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع.»

ص: 232

الفصل الرابع عشر: الموقف من المؤسسات الهدامة للمجتمع المدني وسبل العلاج

اشارة

ص: 233

ص: 234

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

جرى البحث في أن مؤسسات المجتمع المدني - الإنساني أو الإيماني كما هو الأولى في التسمية - لها مسؤولية أخرى تجاه المؤسسات التي تهدف الى تحطيم البلد واقتصاده، أو أخلاقه وفضيلته وتقواه، أو فكره ودينه، كون هذه المؤسسات القائمة على الفساد والإفساد لا تشارك في عملية بناء المجتمع المدني، بل هي معاول هدم للمجتمع المدني، وكان الأحرى ببعض علماء الاجتماع أن يخرجوا هذا النمط من المؤسسات من عنوان مؤسسات المجتمع المدني، بدلاً من أن يخرجوا منه العشائر أو العوائل أو ما أشبه ذلك.

وعلى سبيل المثال فإن تنظيم القاعدة(2) - وهو تنظيم عالمي - لا نستطيع أن نعده من مؤسسات المجتمع المدني؛ لأنه يهدف الى تخريب المجتمع المدني، الى

ص: 235


1- سورة التوبة: .71
2- وكذا باقي التنظيمات اللاحقة التي ولدت حديثاً لتشويه سمعة الاسلام او لاغراض سياسية اقتصادية تقويضية كتنظيم باكو حرام و داعش و غيرها.

الفساد والإفساد، بالتفجير والإرهاب والتخويف والإفساد بمختلف الوانه، فإن مؤسسات المجتمع المدني كما مضى هي تلك المؤسسات التي تسهم في بناء البلاد ، وفي خدمة العباد ، وفي الحيلولة دون طغيان واستكبار واستبداد السلطات الجائرة والعصابات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.

الموقف الشرعي الحازم تجاه الجهات الهدامة:

وقد تم البحث في هذا الصدد، ونضيف الى ذلك أن الروايات الشريفة تؤكد على لزوم اتخاذ موقف حازم، سواء من قبل الأفراد أم الجماعات أم المجموع أم الدولة إزاء المافيات الاقتصادية، وشبكات تهريب المخدرات، ومجاميع الإضلال الفكري والعقدي، والشبكات التي تهدف الى بث ونشر الانحلال الخلقي عبر الأفلام الفاسدة والمنحلة وغيرها، بل وكذلك شبكات الرشوة التي لا تعتبر من مؤسسات المجتمع المدني، والتي يجب أن يتخذ منها موقف حازم؛ وهي ما تهدف من تمرير برامجها ومشاريعها ومخططاتها المعنية عادة ما ترتبط بأجندة خارجية أو داخلية.

النقمة الالهية لا تختص بالمنحرفين والمخربين

وسنتعرض الآن الى باقة عطرة من الروايات الشريفة ليكتمل ما أنهينا به بحثنا الماضي، فقد أوردنا رواية(1) عن الإمام أبي الحسن (علیه السلام) حيث عاتب الجعفري كونه يزور خاله، مع أنه رَحِمُهُ؛ وذلك لأنه كان يقول في الله سبحانه وتعالى قولاً عظيماً، ما يعني ابتلائه بانحراف فكري عقدي في أصول الدين،

ص: 236


1- في الفصل السابق، من الكتاب.

فالجعفري حيث سال الإمام عن وجه الإشكال في زيارة خاله لكونه يعتقد برأي، وخاله اعتقد برأي آخر «فقلت: هو يقول ما يشاء، فأي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول، فإنني لا أقول الذي يقوله، فأنا حر وهو حر!»، فقال الإمام أبو الحسن(علیه السلام) : «أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً»

النقمة تعم الأصدقاء والجلساء

إن هذه الرواية ليست محدودة بالأقوام السابقة، أو بحالات شاذة فردية، بل هي رواية عامة لكل الأزمان ولكل البلاد، الأفراد، و المجاميع، فقد يكون في مجلس ما اجتماع لبعض الذين يستهترون بالمقدسات، أو بالأخلاقيات والفضائل، فإن الجالس معهم في ذلك المجلس، وإن لم يشاركهم المعتقد، ستنزل به النقمة، وليس بالضرورة أن تكون رجزاً من السماء، بل قد تكون سلب توفيق أو بركة أو حرمان رزق، أي قد ينظر الله تعالى اليهم فيكتب عليهم جميعاً، بأن تشل أمورهم من الناحية الاقتصادية، بعد أن كان المقرر - فرضاً - لذلك الجالس في مجلسهم أن يوسع الله عليه من الناحية المادية، ولكن بحضوره في هذا المجلس فإنه يدمّر مستقبله الاقتصادي، فشركته - مثلاً - قد تتحطم وهو لا يدري من أين أصابه البلاء، وقد يسبب ذلك المجلس انحراف أبنائه، بينما لو أنه لم يشترك في ذلك المجلس، ويجالس ويصادق أولئك الجمع، فإن أبناءه كانوا بلطف الله سيبقون أبناءً خيرين.

عليه، فإن النقمة ليست مجرد عذاب أو رجس أو صخور أو نيران تنزل من السماء، بل إن أنماطها مختلفة ومتنوعة «أما تخاف أن تنزل به نقمة» فتصيب ذاك الظالم، وتصيب جميع من معه، ثم يستشهد الامام (علیه السلام) بما جرى على

ص: 237

احد اصحاب نبي الله موسى على نبينا واله وعليه السلام لمزيد منتثبيت وتكريس الفكرة التي اعطاها للراوي «أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (علیه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون» فكان هو المهتدي وأبوه الظالم «فلما لحقت خيل فرعون بموسى (علیه السلام) تخلف عنه» تخلف الابن عن موسى وبقي الى جنب أبيه (ليعظه) وينصحه ويسحبه الى جيش موسى، كي لا يهلك، فقد كانت نيته صالحة، ولكن النية الصالحة قد لا تنفع لدفع البلاء،فإنه إذا انخسف السقف فحتى الإنسان الصالح سيجرح أو يموت، فمضى أبوه وهو يراغمه ويعانده، وكان يناقش أباه نقاشاً وافياً «فادركه موسى وأبوه يراغمه، حتى بلغا طرف البحر» و تجاوز موسى البحر «فغرقا جميعاً، فأتى موسى الخبر» أن هذا الصالح هلك مع والده الطالح «فسال جبرئيل عن حاله فقال له هو في رحمة الله، ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع» فان نية الرجل كانت بالفعل صالحة، وكان يحاول أن ينقذ أباه من الظلام والضلال فهو في رحمة الله، لكن العقوبة إذا نزلت بقوم لا تستثني الصالح، ما دامت الجغرافيا تجمعهم.

إن الذين يصادقون مَنْ يشربون الخمر، في الوظيفة أو الجامعة، أو الذين يصادقون مَنْ يتحرش بالفتيات، أو يتعاطى المخدرات نعوذ بالله من ذلك، أو يصادقون من يحمل أفكاراً هدامة، أو تشكيكات بالعقائد، هم في معرض الخطر؛ إذ «من حام حول الحمى أوشك ان يقع فيه»(1) فعلى المؤمن أن يجتنب أولئك؛ لأنهم سيؤثرون عليه، بل حتى لو فرض أنه محصن، فإنه إذا نزل البلاء على ذلك الصديق المنحرف فسوف ينزل عليه أيضاً.

ص: 238


1- مرآة العقول: ج10 ص250 ح17.

منهج التشكيك

وعوداً على ما ذكرناه في المبحث الماضي، نقول: إن(منهج التشكيك( هو من أهم أسلحة أعداء المجتمع المدني الإيماني ومن مخرباته الأساسية، ولا بأس بالتأكيد عليه مرة أخرى، فقد ثبت أن خطره على مؤسسات المجتمع المدني الهادفة لصلاح العباد والبلاد، لهو أكبر من خطر الاستعمار ومن خطر الظالمين معاً؛ لأنه ينخر في جسم الأمة من الداخل، ولأن خطر التشكيك يشمل الجانب الفكري إضافة للجانب الأخلاقي والديني، بل وحتى الجانب الاقتصادي، فإن بعض المؤسسات و مراكز الدراسات، وبعض أساتذة الجامعة والمفكرين وبعض دور النشر نجدها متخصصة كلياً أو جزئياً بطباعة الكتب و المقالات و الدراسات التي تحطم البنى الفكرية أو الأخلاقية أو العقدية، فينبغي الحذر منها أشد الحذر.وقد نقلت وسائل الإعلام خبراً عن امرأة ارتدت عن الإسلام في أمريكا، وحسب التحقيق، فإن السبب كان يكمن في شذوذها الجنسي، وهو عمل حرام في الإسلام وفي كل الأديان، فارتدت عن الإسلام حتى تفعل الفاحشة بمثلها، ثم بعد ذلك ولأن الشيطان لا يترك الشخص حتّى يدخله في جهنم، ولا يخرجه من واد الا الى واد أعمق، ومن حفرة الا الى حفرة أعمق، ارتبطت هذه المرأة بعد ارتدادها بجهة مشبوهة معادية للإسلام، فاستشارت بعض مراكز الدراسات عن خطة دفاعية لنفسها بعد أن اتهمت بالارتداد لمواجهة هجمة المسلمين ضدها، فأشار عليها مركز الدراسات باثارة الشبهات ضد الاسلام يميناً وشمالاً، وحينئذ لا حاجة بعدها للدفاع عن نفسها.

ص: 239

وكما أن الشخص الذي يصاحب ويصادق السرّاق مثلاً قد يسري فيه طباعهم ، كذلك الذي يصاحب المشكِّك ومثير الشبهات، فإنه حتّى إن سلمت عقيدته، شخصياً فرضاً، فإن من الممكن أن تتأثر زوجته أو ابنه أو شركته أو جماعته أو منظمته، «فالنقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع».

اجتماعات الجاحدين يحضرها عشرة أضعافهم من الشياطين!:

وفي رواية رائعة أخرى من كتاب الوسائل، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث: «وما اجتمع ثلاثة من الجاحدين الا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين، فإن تكلموا تكلّم الشياطين بنحو كلامهم، وإذا ضحكوا ضحكوا معهم، وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتلى من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه، فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء»، ثم قال (علیه السلام) : «فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة»(1).

إن الجاحد هو الذي ينكر وجود الله سبحانه وتعالى، أو الذي ينكر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أو الذي ينكر ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، والجاحد أيضاً هو الذي ينكر وجوب الصلاة مثلاً، أو وجوب الحجاب، أو احدى الضرورات الدينية.

يقول أحد أصدقائنا من الفضلاء: ذهبت الى مركز إسلامي في إحدى بلاد الغرب لكي القي عليهم محاضرات، وإذا بي أجد كبيرهم - وهو دكتور -

ص: 240


1- وسائل الشيعة: ج16 ص263.

يدعو النساء ليخلعن الحجاب، والمفروض إنه إنسان مؤمن مسلم؛ لذا فإن أكثرهنّ في المركز كنّ غير محجبات رغم إنهن كنَّ من النساء المسلمات، فعندما رأيت هذه الظاهرة صعدت على المنبر في أول يوم، رغم أن ذلك الدكتور كان سيد المكان، وبدأت حديثاً مفصلاً عن الحجاب، مستدلاً بآية قرآنية، هي: «وَإِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْالوهُنَّ مِنْوَرَاءِ حِجَابٍ»(1)، لأن ذلك الدكتور كان قد أخبر الناس أن لا آية قرآنية تدعو للحجاب، ثم ذكرت ل-هم أن إجماع الفقهاء على ذلك، وإن الكثير من الروايات تؤكد ذلك، وإذا بذلك الدكتور تثور ثائرته ويقاطعني ويحتج، لكنه حيث لم يكن يملك المنطق، فإن كثيراً من النساء اقتنعن وتحجبن بعد هذا الكلام البسيط.

إن بعض الناس مولع بالقاء الشبهات، وهناك مراكز للدراسات متخصصة في القاء الشبهات، فينبغي علينا أن نلتفت الى ذلك، وأن نقوم في مقابل ذلك بإنشاء مركز(متعدد الأبعاد) أيضاً، وسأشير لاحقاً الى ما نعنيه بمتعدد الأبعاد.

ولنرجع الى كلام الإمام (علیه السلام): «ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين» و إطلاقه يشمل ما إذا كان الاجتماع في مركز للدراسات، أو في هيئة تعليمية، أو في شركة اقتصادية أو في غيرها، «الا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين» وذلك لكون الشياطين يوحون الى أوليائهم، كما أن الملائكة يوحون للمؤمنين ويسددونهم، فالكفار والمنافقون والظالمون والطغاة والمستبدون كل أولئك، توحي اليهم الشياطين زخرف القول غروراً «فإن تكلموا تكلم الشياطين بنحو

ص: 241


1- سورة الأحزاب: 53.

كلامهم» ولعله لمزيد التلقين وإيجاد التموجات «وإذا ضحكوا ضحكوا معهم، وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم» وقوله عليه السلام فليقم اشارة الى مواجهتهم ومجابتهم و الاحتجاج عليهم و ردهم ومناقشتهم، و على ذلك فلو وجد الطالب في الجامعة - مثلاً - أن الأستاذ يطعن في الدين فعليه أن يقوم، ويحتج ويعترض، لا أن يسكت خوفاً على درجاته في الامتحان؛ وذلك لأنه عندما يتخاذل هذا الطالب ويتخاذل زيد وعمر وبكر وهكذا، فإن الظلال والظلام يستولي ويخيم؛ ولذا فإن على الشخص المعني أن يتخذ موقفا صريحاً وبشجاعة فائقة،كذلك الأمر في الإذاعة والتلفزيون، وفي الدولة أو في أي مؤسسة أخرى، «ولا يكن شرك الشيطان» وهناك احتمالان في «شرك الشيطان»: الأول: أن يكون شريك الشيطان في عمله، الثاني: أن يكون شركاً من شراكه.

«ولا جليسه، فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء»؛ لأن الله سبحانه وتعالى، سيلعن هذا الجاحد، بمعنى إنه سيطرده من رحمته، وقد يسلب منه إيمانه بالتدريج.

ثم قال (علیه السلام): «فإن لم يستطع» مواجهة الباطل حقيقةً وبأي وجه من الوجوه، «فلينكر بقلبه وليقم» أي ليخرج من هناك إن لم يمكنه أن يناقش الأستاذ، أو أن يواجه هذه الفئة الضالة المضلة، فليقم و يخرج من المجلس، أو من قاعة الدرس، أو من ذاك الاجتماع الحزبي، الذي يخطط بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى لضرب جماعة أخرى منافسة مثلاً لا لسبب إيماني، بل لمصالح أنانية، «ولو حلب شاة» أي حتى بهذا المقدار أن يخرج ولو بمقدار حلب الشاة، والذي لا يستغرق وقتاً طويلا «أو فواق ناقة» وهو الصوت الذي تخرجه مثل

ص: 242

الشهيق والزفير، نظير ذلك، وهي فترة قصيرة جداً، وقد تكون لثانية أو ثانيتين، فليخرج من المجلس بعذر أو آخر ولو بهذا المقدار، فإنه نوع تبرير.

مجالسة المنحرفين ومدحهم

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السلام) يقول: «من جالس لنا عائباً أومدح لنا قالياً، أو وصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(1).

فبعنوان الأخوة والصداقة يجالس أحدهم من يعيب على أهل البيت %،كلا.. ليس له الحق في ذلك؛ لأن الحق أحق أن يتبع، فلا تجوز مجالسة المبغض للرسول (صلی الله علیه و آله) أو لأهل البيت %، وليكن من أعلم العلماء، فكيف بالترويج ل-هم وامتداحهم! ومن الغريب أن نجد الكثير من المؤمنين - ومع الأسف - يمتدح هؤلاء الأعداء! إن المتميز في مجال الإدارة أو الاقتصاد أو السياسة أو الفيزياء أو الكيمياء إذا كان مبغضاً للرسول أو لأهل البيت % فلا يصح أن نمدحه؛ إذ عندما نمدحه فإننا نصنع منه نموذجاً عالمياً، ونعطيه الشرعية بذلك.

والغريب إن اليهود هم أكثر الناس نشاطاً في حقل تلميع الوجوه وصناعة الأبطال و(النمذجة)، ومن الملاحظ إن قسماً من العلماء المعروفين على مستوى البسيطة، هم من الذين روج ل-هم اليهود أكثر مما يستحقون، ولا بُعد أن يكون له وزن علمي، لكن الإعلام العالمي طبّل حوله وزمر كي يتحول

ص: 243


1- وسائل الشيعة: ج16 ص264.

الى رمز أو أسطورة، أما إذا كان مسلماً شيعياً فلا أحد يتحدث عنه، أو يكون الحديث عنه بشكل هامشي مقتضب ولا غير.

«من جالس لنا عائباً» وهذا مرض خطير «أو مدح لنا قالياً» وهو المبغض لأهل البيت % ومن المدح أن تقول: إن خطاباته جميلة، أو إنه يمتلك ذهناً وقاداً، أو له أفكار نيرة؛ إذ عندما يسمع الناس هذا الكلام سيتأثرون به؛ إذ ليس الكل ممن يستطيع أن يميّز بين الغث والسمين، كما ان ليس كل إنسان محصّناً، فقد يجرّه ذلك الى الانحراف، وهلم جرا.

واليكم هذا المثال والشاهد الحي، فإن بعض المفكرين المنحرفين - وهم من المتأثرين بجامعة السوربون أو غيرها - بدأوا الدعوة الى النسبية، نسبية المعرفة، أو نسبية اللغة، أو نسبية الحقيقة المسماة ب-(الهرمنيوطيقا).وهي نظرية منتشرة في كثير من الجامعات، ومضمونها أن الحقيقة و المعرفة نسبية و اللغة نسبية، وأن لا شيء مطلق وفق هذا الفكر، وقد حللنا في كتاب (نقد الهرمنيوطيقا ونسبية اللغة والحقيقة والمعرفة ((النسبية) الى خمسة عشر معنى، ومدارس عديدة تتفرع اليها هذه الفلسفة، والهدف الأساس من (الهرمنيوطيقا (ببعض مذاهبها هو تحطيم البنى العقدية والفكرية لكل دين، فهل يصح أن نمدح أحدَ هؤلاء، لأن كتاباته مثلاً قوية؟! مع أن من يستمع الى هذا الرأي قد يتأثر به بسبب امتداحها، ولو لا شعورياً.

«أو وصل لنا قاطعاً أو قطع لنا واصلاً ، أو والى لنا عدواً أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم» والسبع المثاني هي سورة الحمد، ولا يخفى أن الكفر درجات، وهذه إحدى درجاته.

ص: 244

الخطط المركبة

ثم إن مواجهة هذه المؤسسات الهدامة لا يمكن الا من خلال وضع خطة مركبة، أو منوعة من الأفراد والجماعات والجهاز الحاكم أيضاً.

أ - ففي المؤسسات الحكومية لابد من انتهاج منهج الحزم، فإن المشاهد في كثير من الدول الإسلامية، في الوزارات ومختلف مرافق الدولة، أنه يجري التستر على الفساد مع أن الشخص المرتشي أو المخادع أو الفاسد أو المقصِّر، لا يحق لحزبه أن يدافع عنه، بل يجب أن يعاقب أو تجمّد عضويته أو أن يُقال من موقعه، وذلك يُعدّ من الفروق بين الحكم الديمقراطي والدكتاتوري، ففي البلاد الديمقراطية - وإن كانت ديمقراطيتها نسبية - لا يجري التستّر فيها على المفسد الا بحدود معينة، خوفاً من الإعلام والرأي العام، ولذلك تراهم مضطرين لإقالته أو عزله أو استجوابه أو محاكمته، أو شبه ذلك، في أي موقع كان، وهذا من أسرار قوتهم النسبية.

أما في بلادنا، فإذا كان أحدهم في موقع قيادي، في حزب أو شركة أو له منصَب في الدولة ثم ارتكب جرماً، كأخذ رشوة، أو إهمال شؤون الموظفين، أو التكاسل عن الالتزام بالخطة التنموية التي كان ينبغي أن يسير عليها، فالملحوظ أن الحزب أو الدولة أو الجماعة تحاول أن تتستر عليه، وهذا خطأ فادح، بينما ينبغي أن يحصل العكس، بأن تتخذ الدولة أو الحزب، موقفاً حازماً مع أمثال-هم، كما صنع أمير المؤمنين (علیه السلام) من عزل ابي الاسود الدؤلي القاضي لا لأمر سوى إنه كان يعلو صوته صوت الخصمين والغريب أن نجد بعض الحكومات، وبعض الجهات تتستر على مَنْ

ص: 245

شارك في قتل الناس، أو من ساهم فكرياً أو مالياً في دعم تنظيم ارهابي، كحزب البعث أو القاعدة، بل وتدافع عنهم!إن غضب الله إذا نزل سينزل عليهم وعلينا أيضاً إذا سكتنا عنهم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

ب - قد تكون معالجة الموقف ب-)الاحتواء(، فالشاب الذي بدأ ينحرف يلزم احتوائه (فكرياً( بالكتب والمقالات والحوار والحديث وما أشبه ذلك، و)تنظيمياً) بإشراكه في هيئات وأنشطة وبرامج دينية متنوعة، وفي تجمعات إيمانية أو اتحادات ونقابات وشبهها، و)عملياً) بحل بعض مشاكله، فإن هذا الشاب عندما ينحرف لسبب ما فلابد من معالجة السبب، وتلبية احتياجاته الطبيعية، وذلك لمحاصرة الانحراف عملياً أيضاً، وذلك كأن يجري تزويجه، مثلاً، أو توفير فرصة عمل له أو ما أشبه ذلك.

ج - وقد تكون معالجة المعضلة بما يسمى ب-)الاحتواء المزدوج(، فجزء منه ضغط، وجزء منه ترغيب، وجزء منه ترهيب، وجزء منه فكر الى غير ذلك، لكن الموقف يحتاج الى دراسة وتقييم متواصلين.

ومن جهة أخرى فإن مؤسسات المجتمع المدني، من حوزة علمية أو جامعة أو هيئة أمناء مسجد أو حسينية أو عشائر أو عوائل، أو أية مؤسسة أخرى، إذا شاهدت أي خلل فكري أو أخلاقي، ولو كان بسيطاً في تصرف عضو، أو تصرف شخص أو مؤسسة، فعليهم أن يعلنوا حالة الاستنفار ، وذلك لأن من الخطأ الفادح إذا انحرف أحدهم أن نقول: إن هذه ليست مشكلة جادة، أو أن انحرافه مجرد انحراف بسيط؛ إذ (ومعظم النار من مستصغر الشرر(، وكل سيل من الانحراف بدأ بخطوة أو حركة أو قرار، ثم لعله يقضي

ص: 246

على البلد بأكمله.

وأؤكد مرة أخرى إذا رأت إحدى الجماعات في حزب أو نقابة أو عشيرة أو في ميتم، أو مسجد أو في حسينية، أن انحرافاً قد حصل فيها، وأن زيداً من الناس ظهرت عليه بوادر الاستبداد، أو الاستهانة بحقوق الآخرين، فإذا أعلن الجميع حالة الاستنفار والاهتمام تجاه أي انحراف، ولو كان بسيطاً، فإن ذلك التنظيم أو تلك العشيرة أو المسجد والحسينية ستكون بخير والى خير.

وكذلك إذا شاهد الأب ابنه - مثلاً - يستخدم الإنترنت في المواقع غير الأخلاقية، فعليه أن يعاتبه ويراقبه، بل عليه أن يستنفر كل القوى المتاحة، ويبحث عن جذور المشكلة ليعالجها، ويكتشف الأبعاد الأخرى للقضية، فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها، قد يكون الفراغ هو السبب، أو أصدقاء السوء، أو العزوبية، أو بعض الأستاذة في الجامعة، أو فقدان الرعاية الأبوية الكافية، أو كل ذلك، فإذا استنفر الإنسان كل طاقاته منذ البداية، فإن بمقدوره أن يحول دون انهيار البيت والبناء بأكمله، أما إن لم يستنفر الإنسان طاقاته فمن الطبيعي أن الأمر سينجر الى ما لا تحمد عقباه.

والخلاصة: إنه تجب معالجة الموقف بهذا الشكل، فمن جهة تكون الخطة مركبة متعددة الأبعاد، من ضغط و ترغيب و ترهيب، وفكر، واحتواء، ومن جهة ثانية ينبغي استنفار كل الطاقات لمواجهة المؤسسات الفاسدة، بل ولمواجهة بوادر الانحراف، فإذا وجدنا إحدى الصحف نشرت مقالة نالت جانبا من الجوانب، فلا يصح أبداً أن نمر عليها، فإنها البداية وستليها مقالات وسيبدأ السيل منها، وكذلك الحال في برامج القنوات الفضائية، أو محتويات الشبكة العنكبوتية.

ص: 247

إذا استنهض الجميع طاقاتهم عند أُولَيات البوادر فسنقضي على الفساد وهو في مهده، وسنقف أمام الضلال وأمام الانحراف قبل أن يتسع الخرق على راقعه، والبحث في هذا الحقل طويل، و نكتفي بهذا القدر، وسينصرف البحث القادم الى موقف الجماعات ومسؤوليتها تجاه الجميع، وسنطرح رؤية جديدة حول هذا الموضوع، إن شاء الله.

ص: 248

الفصل الخامس عشر : مسؤوليات المجتمع المدني عن مستقبل الأمة والأجيال الصاعدة

اشارة

ص: 249

ص: 250

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

المسؤولية عن الحاضر والمستقبل:

لدى الاستضاءة والاستنارة والتزود عبر التدبر في هذه الآية القرآنية الكريمة، نكتشف بعداً جديداً من أبعاد مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني، وهو مسؤوليتها تجاه مستقبل الأمة، فكما ان الإنسان مسؤول عن الحاضر، كما هو واضح، كذلك هو مسؤول أيضاً عن المستقبل، ففي قوله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا» تتبين المسؤولية عن الحاضر، بما يتعلق بالأولاد مثلاً، كي لا ينحرفوا عن الدرب، ولا يخرجوا عن سواء السبيل، ولكن المسؤولية هذه قائمة ايضاً عن المستقبل بعد خمسين سنة مثلاً.

ص: 251


1- سورة التوبة:. 71

المسؤولية (عن المستقبل) و)في المستقبل (:

فهناك (مسؤولية في المستقبل) وهناك (مسؤولية عن المستقبل) والفرق بين الأمرين دقيق(1)؛ إذ نلاحظ أن لهذه الآية إطلاقاً أزمانياً، كما جرى بحثه، لكن الكلام في المسؤولية عن المستقبل يختلفبعض الاختلاف عن الإطلاق الأزماني، وتوضيح ذلك: أن الولاية في «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» تمثل المسؤولية في اليوم، وكذا أمس وغدا، وهذا يعني الإطلاق الأزماني؛ إذ ان مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست متعلقة بزمن معين، وفي أية قطعة زمنية وُجِد الإنسان من خلال الإطلاق الأزماني.

وهو أمر واضح، و هو الذي يذكره الأصوليون عادة، لكن الذي نشير اليه حالياً، هو إطلاق أزماني من نوع آخر(2)، وهو المسؤولية تجاه المستقبل، أي المسؤولية في الحال الحاضر (عن المستقبل) والتي تتحملها الأمة أو الجماعة، والبحث هنا منصرف الى الجماعة أو الفرد لجهة المسؤولية عن المستقبل، كما هي عن الحاضر، من خلال هذا الشكل من الإطلاق الأزماني الذي يرتب مسؤوليتين في آنٍ عن الحاضر والمستقبل، وهذا يحتاج الى تدبر والى بحث معمق.

فعندما يكون الفرد موجوداً في الحاضر فإن مسؤوليته قائمة، وإذا امتد وجوده الى المستقبل تتجدد المسؤولية لتجدد الموضوع، وهذا واضح في الإطلاق الأزماني، إنما البحث في المسؤولية الآن عن المستقبل المعدوم حالياً،

ص: 252


1- إذ الأولى ظرفها المستقبل، أما الثانية فظرفها الحاضر، لكن المتعلّق هو المستقبل.
2- حيث يكون (الزمن) هو (المتعلَّق) لا (الظرف).

فهو نوع اخر من الاطلاق الزماني مما بحاجة الى تدبر وتعمق اكثر، وليس البحث الآن في صدد تنقيح الموضوع الأصولي إنما في الإشارة الى الوجوب ببرهان الغرض.

فنقول:

وان صح أن المستقبل معدوم ، ولكن حفظ أغراض المولى الملزمة واجب، فلو لم تعد المقدمات الآن لفات قطار المستقبل(1)، وإذا قصر الإنسان من هذه الجهة يكون عندئذ مسؤولاً لتفويته الأغراض الملزمة للمولى، فيجب من الآن بناء المدارس التي ستسع المقدار المتزايد من التلاميذ بعد خمس سنوات، حيث يزداد أعداد الدارسين، سواء في رياض الأطفال أم في الابتدائية، كما يجب في بناء مدن المستقبل التي تراعي نسبة نمو السكان، أن تبنى مكتبات ومدارس ومستوصفات حسب الحاجة المتصورة، وأن تلاحظ الكوارث أيضاً، لا سمح الله، فتبنى مياتم وغير ذلك.

اذن هذه مسؤولية عن المستقبل ننطلق اليها من منطلق حفظ أغراض المولى الملزمة، علماً بأن هنالك بوابة أخرى لتثبيت المسؤولية تجاه المستقبل، من خلال بحث الواجب الاستقبالي والوجوب الفعلي، وهذا له تفصيل نتركه لمحله.والحاصل: الجماعة مسؤولة عن حاضر الأمة، و مستقبلها، كما هي مسؤولة عن حاضر الجماعات الأخرى، وعن مستقبلها وولاية المؤمنين والمؤمنات «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» غير محدودة أو متأطرة بالزمن الحالي، وهي تتسع وتمتد للزمن المستقبلي(2) لبرهان الغرض، أو للوجوب الحالي، وإن كان الواجب

ص: 253


1- من غير فرق بين من سيعيش المستقبل، ومن لا يمتد عمره إليه، والأول هو ما عبرنا عنه ب-(في) والثاني عبرنا عنه ب-(عن).
2- لمن يعلم ٲنه سيعيشه، ولمن يعلم ٲنه لا يعيشه، ولمن لا يعلم أياً منهما.

استقبالياً أو غير ذلك.

المسؤولية تجاه الأجيال القادمة:

وكان السيد الوالد يبحث هذه القضية بشكل آخر في (فقه الاقتصاد)، حيث يطرح قضية مسؤولية الدولة، ومسؤولية الأمة تجاه الأجيال القادمة، وأنه لا يجوز شرعاً للدولة وللشعب الحاضر أن يقضي على الثروات ويلتهمها كلها فيحرم الشعب في المستقبل من هذه الثروات، مثل النَّفط(1)، والغابات وغيرها فهي ثروة، فلا يحق أن تستنفد كل هذه الثروات؛ لأن الأجيال القادمة أيضاً لها حق فيها.

فيجب أن نلاحظ نسبتنا مع الأجيال القادمة فنأخذ حصتنا، وتترك ل-هم حصتهم، وهذا البحث مرتبط بفقه المستقبل، واستشرافه مما هو خارج عن محل الكلام.

وقد جرى البحث في إمكان أن نصنف المسؤوليات المجتمعية الى أربع مجاميع، وقد وصلنا الى المجموعة الثالثة، وذكرنا أن الجماعة لو لاحظنا سهم المسؤولية منطلقاً منها، فإن سهم المسؤولية قد يتجه الى الفرد والأفراد، وقد يتجه الى الجماعة والجماعات، وقد يتجه الى الجميع، وقد يتجه الى الدولة.

وأما محور البحث في هذه الفصل - بإذن الله سبحانه وتعالى - فهو حول (مقدمات) مسؤولية الجماعة تجاه الجميع، وتبقى (مسؤولية) الجماعة تجاه الجميع أو المجموع، والتي سيأتي تفصيلها في الفصل القادم، ثم مسؤولية الجماعة تجاه الأفراد.

ص: 254


1- بفتح النون وكسرها ايضاً، حيث ذكر بعض اللغويين: ان كليهما صحيح.

المسؤولية عن جميع ومجموع الأمة:

لتوضيح ذلك، نلاحظ أن كل جماعة وكل مجموعة من جماعات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني مسؤولة عن جميع ومجموع الأمة بما هي مجموع، وذلك يعني - وهي نقطة تغيب عن الأذهان عادة - المسؤولية عن (الروح العامة للأمة) أولاً، وعن (الاتجاه العام للأمة) ثانياً، وهنا موطن الشاهد، فأحدهما يتعلق بالحاضر، والثاني يتعلق بالمستقبل، والروح العامة للأمة هو مبحث غاية في الأهمية، نوكل بحثه الى فرصة أخرى، وسنتوقف الآن قليلاً عند:

الاتجاه العام للأمة:

بمعنى أن هذه الأمة الى أين تتجه مسيرتها؟ وهو بحث دقيق سيال يجري في الفرد، و العائلة، ويجري في مختلف الجماعات والمجاميع، وفي مجموع الأمة بما هي مجموع، وفي الدول أيضاً، فلابد أن نفكر ونتساءل دوماً عن مسيرة هذا الفرد العامة وإنها الى أين؟ وهذه العائلة والعشيرة والحوزة ، أو هذه الجماعة ما هو اتجاهها العام؟ هل هو تصاعدي أم تنازلي أم هو دائري؟ وهذا البحث يعدّ من مباحث علم الاجتماع، وهو من أهم البحوث في هذا العلم، في ان حركة الأمم هل هي حركة تصاعدية على مر التاريخ، أم هي تنازلية وانحدارية وهبوطية، أم هي دورانية، بمعنى أنها تصعد ثم تنزل وترجع لتدور في نفس الحلقة؟

ص: 255

حركة الأمم تصاعدية أم تنازلية أم دورانية:

رجح السيد الوالد في كتاب (الفقه الاجتماع) ان حركة الأمم العامة هي تصاعدية، ويستشهد فيما يستشهد به ببعثة الأنبياء %، حيث إن الأنبياء بعثوا في حركة تصاعدية توّجت ببعثة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهذا أيضاً له بحث طويل، وننتخب من البحث ما يرتبط بصميم موضوعنا.

فنقول: إن الرأي المنصور في حركة الأمم والحضارات ان يقال بأن حركتها تصاعدية، لكن هذا لا ينفي أن تكون حركة خصوص هذا الفرد، أو تلك العائلة والعشيرة، أو ذلك الحزب والمنظمة، تنازلية أو متوقفة، كما لا ينفي أن تكون هناك انتكاسات صغرى أو كبرى في حركة الأمم، بمعنى أن تبدأ في حقبة تاريخية معينة قد تستمر لعشرات السنين بالتراجع، الا إنها ستعود من جديد للصعود، تماماً كمن يرتقي جبلاً ثم يواجه في طريقه منخفضاً أو حفرَة فإنه يبدأ الهبوط، لكن مع ذلك هو في طريق الصعود أيضاً، وعلى ذلك فإن من اللازم على كل فرد أن يفكر مع نفسه، هل أنّ حركته تصاعدية أم تنازلية؟ وهل كان سابقاً يدرس بجد بدءاً من المتوسطة، ثم الثانوية ثم الجامعة، ثم توقفت مسيرته العلمية أو إنه تراجع؟ وكذلك الأمر في الحوزة، إذ قد يبدأ طالب العلم في الفقه من شرائع الإسلام الىأن يصل الى اللمعة، ثم الى المكاسب والكفاية ثم يتوقف، أو يستمر الى البحث الخارج ويتصاعد كذلك.

من مقاييس الحركة التنازلية والتصاعدية:

اشارة

وهذا البحث - في غاية الأهمية، بل عليه تدور رحى المستقبل بأكمله،

ص: 256

كما أنه مبحث شامل يلفّ الأفراد والجماعات والأمة والدولة أيضاً، ففي هذا البحث الاستراتيجي المحوري الحضاري والأخلاقي أيضاً، لابد أن يراقب كل شخص وكل جماعة مسيرته العلمية والعملية والأخلاقية أيضاً، فإن بعض الناس يبدأ متواضعاً ثم بمرور الزمن كلما ازداد رئاسة أو علماً أو قوة أو شهرة يزداد تواضعاً كذلك، فمسيرته إذن هي مسيرة تصاعدية أخلاقية، ولكن قد يتوقف ذلك الإنسان المتواضع السابق، أو أن يتحول الى متكبر ومستكبر، وكذلك قد يكون المرء شجاعاً في مجابهة الحكومات الجائرة، لكن يجب أن نلاحظ إنه هل استمرت مسيرته تصاعدية الى أن يقبضه الله اليه، شجاعاً مجاهداً، أو إنه بدأ يتوقف أو يتراجع شيئاً فشيئاً، ولعله سيصير جزءاً من وعاظ السلاطين وحواشيهم بعد أن نفدت إرادته الجدية على الجهاد، والأمر كذلك تماماً في الجماعات والمجاميع والدول.

ومن الضروري أن تكون هنالك مراكز للتفكير والتخطيط والرصد الاستراتيجي للجماعات وللأمة وللأفراد أيضاً؛ إذ نرى بعض الأحزاب أو المنظمات أو الهيئات أو المرجعيات تبدأ بقوة ونشاط وحركية وتفاعل وفعل وانفعال شديدين، ولكن بعد مضي فترة من الزمن تجدهم يتملكهم العجب من إنجازاتهم أو الغرور والكبرياء، كذلك الكسل والترهل، فإن بعض الناس ما أن يمضي بعض الزمن حتى يبدأ مسيرة التكاسل، ويتعكّز على إنجازاته الماضية، ويفكّر مع نفسه: حسناً، أنا أسّست ما أسّست وكتبت ما كتبت وهديت مَنْ هديت الا يكفي ذلك؟ وهكذا تتحول المسيرة الى مسيرة تراجعية.

وفي مثال آخر: نجد أن الكثير من الجماعات الإسلامية - بمرور الزمن - قد تصل الى موقع القوة، وقد تكون مواقع القوة سلطوية، وقد تكون غير ذلك؛

ص: 257

إذ تصل الى مصادر المال أو الشهرة، أو تصل الى مفاتيح التأثير على الدول، لكننا نجدهم عندئذٍ يتغيرون؛ إذ قبل أن يكون أحدهم في السلطة أو موقع القوة، كان بشكل طبيعي مع الناس، بينهم ومنهم واليهم، ولكنه عندما وصل الى السلطة بدأ يبتعد عنهم ويعيش في قصوره العاجية.

لكن المؤمن حقاً هو الذي يزداد صلابة وإيماناً ورسوخ قدم وثبات عزم في مختلف الظروف والمتغيرات.

وفي مثال آخر: نلاحظ إن الكثير من الهيئات والمنظمات وسائر الجماعات المختلفة تكون في بدايات عملها مفلسة يبذلون من كرامتهم والجهد الشيء الكثير لكي يحصلوا على بعض الأموال البسيطةلكي يؤسسوا مدرسة أو حسينية، أو فضائية أو مكتبة أو أي شيء أخر، لكن كثيراً من هذه الجماعات وبمرور الزمن وشيئاً فشيئاً، تتحسن قدراتها المالية، ثم تبدأ مرحلة الفائض المالي، فكيف تتصرف عندئذٍ بهذه الأموال؟ هل تصرف في وجهها الشرعي ام يختزن في البنوك، و يتحول الى عمارات وأسواق وغيرها؟ وهذا هو بالضبط ما يستدعي القلق والأرق، فإن هذه الجماعات عندما كانت ضعيفة تفتقد الأموال اللازمة كانت ذات أخلاقيات نموذجية، ثم عندما حصلت على الأموال تحولت (شاكلتهم النفسية)، بل إن الأمر في التصرف بالأموال لهو أدق من ذلك ؛ إذ ليس الأمر بأن تختار الحسن من بين السيء والحسن، وإنما أن تختار الأحسن من بين الحسن والأحسن.

ف-:(ليس الحكيم من يفاضل بين السيء والحسن فيختار الحسن، وإنما الحكيم هو من يوازن ويفاضل بين الحسن والأحسن، فيأخذ بالأحسن (، قال

ص: 258

تعالى: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(1) فما هو الأحسن في إنفاق هذه الأموال؟ وهل كان هناك ترشيد في الإنفاق؟ هل كان من الممكن أن يحقق (التجمع( بهذا المال إنجازات وخدمات أكبر وأكثر، في مسؤولية الجماعة تجاه الجماعات الأخرى؟ إذن، يجب علينا وعلى كل مؤسسات المجتمع المدني أن تعيش هذا الشعور والإحساس والقلق دوماً، وأن تراقب المسيرة العامة للأمة الإسلامية، ولكل شعب شعب، ولكل جماعة جماعة، هل هي في طريقها الى النهوض أو التوقف، أو الى المزيد من التراجع، وهذا كله يحتاج الى تفكير متواصل مشوب بالقلق، ويحتاج الى تدبر وتأمل، و الى دراسات؛ لأن المسيرة إذا بدأت بالتراجع فإن ذلك قد لا يظهر للعيان فوراً في حالة الأمة، بل قد يحتاج الى مائة سنة ليتعرف عليها الشخص العادي؛ لأن سقوط الأمة التدريجي قد يستمر مائة سنة، أو مائتي سنة ، وببطيء غير ملحوظ الا للباحث المحقق المدقق، كما أن نهوض الأمة قد يستمر الى مائة أو الى مائتين أو ثلاثمائة سنة، وهكذا، ما يستدعي تفكيراً استراتيجياً ؛ وذلك لأن كافة الجماعات تحمل مسؤوليةً، ليس فقط تجاه أنفسها، لكي تحافظ على الاتجاه العام لها كي يكون تصاعدياً، بل عليها أيضاً مسؤولية أخرى تجاه الأمة الإسلامية بأجمعها، وذلك:

أ - من حيث الأخلاقيات، هل هي تصاعدية أم هبوطية أم دائرية؟ ب - ومن حيث الروح الجهادية؟ ج - ومن حيث النشاط والإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة جمعاء. إن هذا

ص: 259


1- سورة الأعراف: 145.

الإحساس ينبغي أن يكون متكرساً في كل جماعة بأن تعتبره أصلاً من أصولها الأصلية.د - ومن حيث التقدم المعرفي و الفكري.

إن الأمر بمجمله يستدعي مزيداً من الرصد والدراسة ومن القلق أيضاً، سواء على مستوى الأمم أم الجماعات أم الأفراد، فهذه الأمة أو هذه الحركة أو هذا التنظيم أو هذه الجماعة، ما هي مسيراتها العامة؟ وما هي تحولاتها الداخلية؟ من المعايير الدينية:

أ - الأزهد والأشد عبادة هو الأنصح جيباً:

نذكر روايتين في هذا الحقل ل-هما دلالة كبيرة على ما نقول:

الرواية الأولى: ما في الكافي الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنسك الناس نُسُكاً أنصحهم جيباً، وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين»(1)، وما أبلغ العبارة (لجميع المسلمين) فإن علاقة الإنسان لا تتحدد بمحلته أو بعشيرته، أو ببلدته أو دولته، بل تتسع لتعمّ جميع المسلمين، وهي رواية صريحة واضحة قوية جداً.

وقوله (صلی الله علیه و آله): «أنسك الناس نسكاً» يعني أحد معنيين أو كليهما معاً، المعنى الاول: ما يعنى به في العرف العام أي: المنقطع عن الناس، لكن الرسول (صلی الله علیه و آله) يقول: إن الزاهد الحقيقي ليس من ينقطع عن الناس، بل إنه الذي

ص: 260


1- الكافي: ج2 ص163 - 164.

ينقطع عن العيوب الباطنية، وعن الشهوات والأنانيات والعصبيات الجاهلية ويزهد فيها، فهو «أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً» وبهذا المعنى فإن أنسك الناس يعني أكثرهم زهداً أو أشدهم زهداً. والمعنى الآخر: تعني أشدهم تعبداً، وكلاهما صحيح.

«أنصحهم جيباً»، و)الجيب( له مصداقان: الأول: أخص وهو الشق المفتوح في الثوب، والذي يشكل فتحة في (كيس) ملتصق بالثوب أو جزء منه، وهذا هو المعنى الشائع للجيب، والمعنى الثاني: أعم كما نقول: الجيوب الأنفية، أو يقال: جيب ماء، أو جيب غاز طبيعي، فيقصد بالجيب في هذه الكلمة: التجويفات الموجودة والتي تتجمع فيها سوائل معينة لتكشف عن ثروة معينة أو مرض معين، أو غير ذلك، فجيب ماء يعني تجويفاً تحت الأرض، فهنالك إذن جامع بين هذه المصاديق كلها.

وحاصل المعنى: أن كل الثغرات والرذائل الخلقية في حياته مغلقة، فلا نقيصة فيه ولا مثلبة، فليس بجبان ولا بخيل ولا كسول ولا متكبر ولا مترهل، فأنسك الناس نسكاً هو أنصحهم جيباً؛ لأن كل هذه الجيوب و العيوب هو منها خالص مخلّص.

ب - الأنفع للخلق هو الأحب للرب:

والرواية الثانية: وهي أيضاً عن الإمام الصادق(علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الخلق عيال الله، وأحب الخلق الى الله من نفع عيال الله»(1)، وهذه الرواية دليل واضح على إن كل الخلق، هم عيال الله، وإن أحب الخلق الى الله

ص: 261


1- الكافي: ج2 ص164.

ليس هو الذي ينفع زوجته وأولاده فقط، بل والذي ينفع أهل محلته، والذي ينفع أهل العالم كله، فالخلق عيال الله، وأحب الخلق الى الله من نفع عيال الله.

و(أنفع) قد يكون بالاكتشافات والاختراعات، وقد يكون بنشر العلم والمعارف الصحيحة، وقد يكون بإيجاد الأجواء الإيمانية، وقد يكون بتأسيس مؤسسات المجتمع الإنساني، وللبحث صلة، نسال الله سبحانه وتعالى أن يوفق للجميع لخدمة المؤمنين بأجمعهم، ولخدمة البشرية بما هم خلائق لله تعالى، ولكي ننمي بأنفسنا الإحساس بالمسؤولية تجاه الجميع والمجموع بما هو مجموع، إنه سميع مجيب.

ص: 262

الفصل السادس عشر: المنظور الديني لمسؤولية المجتمع المدني تجاه مجموع الأمة والتقييم الاستراتيجي للحالة العامة

اشارة

ص: 263

ص: 264

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

في الفصل السابق، في الاستضاءة من الآية القرآنية الكريمة، جرى استنباط بعض مسائل فقه المستقبل، والبحث في هذا الفصل مبني على ذلك، فمن الممكن أن يستند البحث الى النوع الثاني من الإطلاق الأزماني، وهو غير النوع المعهود والمتداول من بحث الإطلاق الأزماني.

الأمر بالمعروف واجب عيني أو كفائي:

وبإضافة موجزة نترك تفصيلها الى المبحث القادم إن شاء الله تعالى نقول: هل (الأحكام التكليفية) في الآية الشريفة وهي: «يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، وكذلك (الحكم الوضعي) في: «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، هل كل ذلك هو من فروض الأعيان، بمعنى أنها واجبات عينية أم هي واجبات كفائية؟

ص: 265


1- سورة التوبة :71.

استظهر صاحب مجمع البيان، أن هذه العناوين المذكورة في الآية الشريفة هي من فروض الأعيان، وليست من الواجبات الكفائية، التي إذا قام بها من فيه الكفاية سقطت عن الآخرين واستدل على ذلك بأنها قد جُعِلت صفات للمؤمنين، فكل من هو مؤمن، مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يقل بعض المؤمنين وليُّ للبعض الآخر، يأمرون بالمعروف، بل «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف»، فيأمرون صفة لكل المؤمنين.

فعليه، فإن كل مؤمن هو مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب عليه ذلك وجوباً عينياً، قال في مجمع البيان: (في الآية دلالة على أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من فروض الأعيان لأنه جعلهما من صفات جميع المؤمنين و لم يخص قوما منهم دون قوم)(1).وهنالك بعض النقاش مع صاحب مجمع البيان في هذا الاستظهار نتركه للمستقبل إذا شاء الله تعالى، كما أن هناك بحثاً آخر حول الواجب الكفائي لو صرنا اليه، وهو إن التفسير المشهور للواجب الكفائي هو الذي إذا قام به من فيه الكفاية سقط عن الآخرين، وإذا لم يقم به من فيه الكفاية أثم الجميع، ولكن توجد تصويرات أخرى للواجب الكفائي لوجود إشكال على هذا التعريف المشهور؛ لعدم وفائه لدفع تلك الإشكالات نتركه لمحله.

وعلى أي حال، فإن البحث يدور الآن حول هذه المسؤولية، سواء أفرضناها واجباً عينياً أم واجباً كفائياً، وأن هذه المسؤولية - باتجاهاتها الأربعة - تارة تكون على الفرد، وتارة على الدولة، وثالثة على المجموع، ورابعة على

ص: 266


1- مجمع البيان: ج5 ص76.

الجماعة، وهو موضوع البحث، وإن جماعات مؤسسات المجتمع المدني لها مسؤولية تجاه الأفراد، وتجاه المجاميع والجماعات الأخرى وتجاه المجموع وتجاه الدولة، فموضوع البحث هو المحور الثالث، وهو مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني تجاه الجميع أو المجموع، أي جميع الأمة.

المسؤولية تجاه مجموع الأمة في المنظار الديني:

وهذه المسؤولية خطيرة جداً، وتوضح لنا الرواية التالية إطار العلاقة بين الفرد وسائر المجتمع، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الخلق عيال الله، فأحب الخلق الى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً»(1)، وفي رواية أخرى: «خير الناس أنفعهم للناس»(2).

وفي رواية ثالثة: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(3) فهذه الروايات تدل على رؤية شمولية عامة تجاه البشرية بأجمعها، وليس فقط اتجاه الملتزمين بالشرائع أو المسلمين أو اتجاه أتباع أهل البيت % فقط، بل اتجاه كل إنسان، لكن نوع المسؤولية مختلف، فالإنسان عليه أن يلاحظ حاله وموقفه وعطاءه لا بالنسبة لعائلته وعشيرته وشعبه فقط، بل بالنسبة لكل البشرية.

فالخلق إذاً عيال الله، فقد خلقهم الله سبحانه وتعالى جميعاً، فهم عيال لله بأجمعهم، ولو فعلت ما نَفَعَهُم لدنياهم أو لآخرتهم لكنت أنت الرابح؛ لأنك خدمت عيال الله.

ص: 267


1- الكافي: ج2 ص164.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص391.
3- عوالي اللئالي: ج1 ص129.

نعم، قد يختلف نوع الخدمة، إذ هناك خدمات مشتركة، كتلبية الحاجات المادية من إطعام وإسكان ونظائرهما، وهناك خدمات اٴُخروية وهي مختلفة، فإن خدمتك للكافر مثلاً، أن تهديه الى سواء السبيل، وأن ترشده الى طريق الجنة، وخدمتك للفاسق أن تجعل منه إنساناً ورعاً تقياً صالحاً، وتدله على الطريق السالك للجنة.وقوله (صلی الله علیه و آله): «أدخل على أهل بيت سروراً» من باب عطف الخاص على العام، و توضيح لذلك بالمصداق، وليس حصراً للمفهوم السابق العام والشامل او تخصيصاً له، فإن من مصاديق «نفع عيال الله» أن يدخل على أهل بيت سروراً، وإن احتمل أن يكون «النفع» إشارة للجانب الجسدي المادي و«السرور» إشارة للجانب النفسي.

ولكن هنا يأتي هذا السؤال، وهو :إنه كيف يكون ذلك والإنسان محدود القدرات ومحدود الطاقات؟ أي كيف تقع على الجماعة أو الفرد المسؤولية تجاه الجميع، ليس جميع المسلمين فقط، بل جميع البشرية؟ كيف يمكن أن نقول: إنَّ الجماعة سواء أكانت هيئة حسينية أم حزباً أم منظمةً أم مرجعيةً أم حوزة علميةً أم غيرها، لها مسؤولية تجاه الخلق بأجمعهم، وتجاه المسلمين بأجمعهم؟ والجواب: إن من الصحيح أن القدرة من شرائط التكليف العامّة، لكننا ندعي - كتنقيح للصغرى - بأن من (المقدور)(1) للإنسان أن (ينفع) عباد الله كافة أو أن (يرعاهم).. فان ذلك ممكن عند اتباع الاسباب والوسائل التي جعلها الله سبحانه وتعالى، فلو سلك الإنسان تلك السبل التي مهدها الله سبحانه وتعالى

ص: 268


1- وسيأتي توضيح وجه مقدورية ذلك لاحقاً.

لكان ذلك من الممكن، كما قال تعالى: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»، وذلك كمثل شخص يسال هل من الممكن أن أصل في ساعة من هذا البلد الى مكة، والفاصل هو الفا كيلو متر مثلاً؟ والجواب: نعم إذا وفرت الوسيلة - وهي الطائرة - أمكن ذلك، وإن لم توفرها لم يمكن ذلك، فالأمور بأسبابها و(المقدور بالواسطة مقدور).

الدور الاستراتيجي للمؤسسات العابرة للقارات:

والطريقة لذلك عملية ومجربة، ومع الأسف نحن المسلمون متخلفون في هذه الجهة الى أبعد الحدود، والآخرون قد سبقونا فأصبحوا هم السادة، والالية هي(مؤسسات المجتمع المدني العابرة للقارات)، فهي الالية الطبيعية التي تحتضن هذه المسؤولية الجمعية، وقد اطلعت مؤخراً على إحصاء يدل - مع الأسف - على مدى تقدم الآخرين، ومدى تخلفنا نحن.

فلنلاحظ أتباع أهل البيت %والمسلمين بشكل عام، فكم مؤسسة دولية عابرة للقارات لديهم؟ ونعني بها المؤسسات الدولية التي تُعنى بجميع القارات الخمس أو السبع، وتهتم بكل مسلم، سواء أكان في الصين و اليابان، أم في أمريكا وفرنسا والمانيا وبريطانيا، أم في مصر والسودان وتونس والمغرب والجزائر، أم في القطب الشمالي أو الجنوبي، فكم مؤسسة عابرة للقارات لدينا؟ سواء أكانت مهتمة بالشؤون الدينية، كتأسيس المساجد والمكتبات والمدارس والحسينيات في القارات الخمس، وهداية الناس، وطباعة وتوزيع الكتب على مستوى العالم كله، أو البث بلغات عديدة على فضائيات عديدة،أم كانت مهتمة بالشؤون الحقوقية، أم كانت مهتمة بشؤون الغذاء والأرامل

ص: 269

والأيتام على مستوى الكرة الأرضية كلها؟ ولنلاحظ الآخرين من جهة أخرى، إذ يشير هذا الإحصاء الذي تؤكده مجلة حولية تهتم بشؤون المنظمات الدولية، وحسب هذه الحولية - والرقم غريب حقاً - فإن المنظمات الدولية العابرة للحدود التي تُعنى بالشؤون المختلفة الإنسانية وغيرها في العام 1990 م كانت (ستة الاف) منظمة دولية، على أن عدد المنظمات غير الحكومية الدولية قد وصل في العام 2006، الى (خمسين الف) منظمة دولية، والعدد كبير جداً، والآن(1) نحن في العام 2011، والمنظمات قد ازدادت أكثر من ذلك.

لقد أصبح لمنظمات المجتمع المدني العابرة للقارات دور بارز في تقديم المساعدات الإنمائية، على مستوى العالم، فعند حدوث الكوارث، كم من المنظمات الإسلامية الإنسانية تتصدى لهذه الكوارث الطبيعية في مختلف الدول؟ وما هي نسبة مساهماتهم بالقياس الى نسبة مساهمات الدول الغربية؟ إن الدول الغربية فرضت هيمنتها على العالم، ليس فقط بالقوة العسكرية وإنما أيضاً بسبب اتباع بعض السبل والطرق والاليات التي من الطبيعي أن تؤدي الى فرض السيطرة والهيمنة، ومنها المؤسسات الدولية العابرة للقارات، فإن هذه الية ووسيلة من أهم الوسائل.

إن القائد أو الجماعة التي تعنى بشؤون هذه المحلة أو البلدة أو الدولة فقط لا تستطيع أن تتحمل المسؤولية تجاه مسلمي العالم بأجمعهم مادامت منغلقة التفكير، ومتقوقعة في أطر هذا البلد أو ذاك، لكن هذه الجماعة لو أحست بالمسؤولية - كما هو الواجب شرعاً - تجاه مسلمي العالم، بل تجاه الخلق

ص: 270


1- هذا في زمن إلقاء هذه السلسلة من المحاضرات.

بأجمعهم، فكان لها هذا النَفَس الدولي، وكانت لها البرامج العابرة للقارات، وكان لها التخطيط والتنفيذ الواسع النطاق، الذي يمتد على امتداد ربوع الأرض، عندئذ كنا سنرى أن الحيوية والفاعلية والريادة تعود للأمة الإسلامية، كما كانت وأفضل.

إن المنظمات والتجمعات العابرة للقارات لا تعترف بالحدود الجغرافية أو العنصرية أو غيرها كحواجز تحول دون التواصل والاتصال، وتجاه تحمُّل المسؤولية.

الرصد والتقييم الاستراتيجي للحالة العامة للأمة:

اشارة

إن مؤسسات المجتمع المدني عندما تستشعر المسؤولية تجاه الاتجاه العام للأمة، وتجاه الروح العامة للأمة، وعندما يكون في حوزتها مفكرون استراتيجيون، ومراكز دراسات، وعندما يكون هناكتعاون وتكامل بين مختلف المرجعيات والمنظمات، فإن (الأمل) بنجاة مجتمعاتنا من واقعها المزري حضارياً سيكون كبيراً جداً بإذن الله ورسوله وأوصيائه % .

ومن الضروري في هذا السياق ان نلقي نظرة سريعة على ما أشار اليه كتاب (أمريكا والفرصة التاريخية) لمؤلفه نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأسبق ، حيث يتكلم عن مستقبل الولايات المتحدة، وهذا الكتاب في هذا المقطع منه يتضمن عبرة كبيرة لنا؛ إذ يبدي المؤلف قلقه الشديد، وقلق كبار المفكرين الاستراتيجيين هنالك حول مستقبل أمريكا، ويقول: إن أمريكا تواجه خطر الانحدار الحضاري و السقوط الاستراتيجي في المستقبل، لأن هناك أربع مشاكل جوهرية تعصف بأمريكا، ثم يستحث هذا الكتاب مفكري ذلك البلد

ص: 271

لكي يضعوا الحلول الاستراتيجية لهذه المشاكل الأربعة.

ولأن الأمور تعرف عندما تقاس بأضدادها أو بأمثالها، لذا سننقل عناوين ما ذكره إذ يقول:

أ - تفكك العوائل:

المشكلة الأولى: هي مشكلة تفكك العوائل، فإن العوائل في أمريكا والغرب عموماً متحطمة الى أبعد الحدود.

وأقول: إن هذه المشكلة - للأسف الشديد - بدأت تنمو في بلادنا أيضاً، وقد ذكرنا في بحث آخر إن في إحدى الدول العربية في السنة الماضية وصلت نسبة الطلاق فيها الى 61 أو 62 بالمائة، بعد أن كانت في العام الماضي 40 بالمائة، وهذا رقم هائل. إن هذا المرض الغريب اي مرض تفكك العوائلوانهيارها الذي تعاني منه البلاد الغربية انتقل الينا، وهذا بحث استراتيجي يتعلق بمستقبل الأمة الإسلامية كلها، ويتطلب الأمر أن ندرس هذه الأمراض الموجودة عندهم وعندنا، والأسباب والحلول، إذ سبق إن من المسؤوليات الرئيسة لمؤسسات المجتمع المدني أن ترصد الروح العامة للأمة، وأن ترصد الاتجاه العام للأمة بنقاط ضعفها ونقاط قوتها.

ب - المخدرات:

والمشكلة الثانية: التي يشير اليها الكتاب: هي المخدرات التي تعصف بذلك البلد، والنسبة في ازدياد، ويقول: إن كمية المخدرات التي تستهلك في العالم كله في جانب، وكمية المخدرات المستهلكة في أمريكا في جانب!

ص: 272

وأقول: إن بلادنا - أيضاً - تعاني من نفس هذه المشكلة بسبب العصابات التي تغذيها والدول التي تدعمها، والتخطيط القائم، حتّى أصبحت المخدرات جزءاً لا ينفك ولا يتجزأ من شخصية الكثير من الناس، إن لم نقل من شخصية هذه الأمة.

ج - انخفاض مستوى التعليم:

والمشكلة الثالثة: هي انخفاض مستوى التعليم، كمّاً وكيفاً، فقد كان الشباب سابقاً يدرسون بجدية فائقة، لكن الوضع الآن اختلف بسبب التلفزيون والسينما وغيرها من الأجهزة التي انتشرت، وحوّلت اهتمامات الشباب، بل و اتجاهاتهم، ويستشهد في كتابه أيضاً على انخفاض مستوى التعليم وكَمِّه فيقول: أيام الدراسة في أمريكا - ولعله للمدارس الثانوية - هي (230) يوماً بالسنة، لكنها في اليابان تبلغ (270) يوماً بالسنة، فيقارن بين (230)يوماً وبين (270) يوماً، والناتج هو فارق (40) يوماً، وهذا يعني أن تتقدم اليابان عليهم بهذا الرقم سنوياً، فماذا سيحدث خلال جيل أو جيلين وفي غضون (20) الى (25) سنة.؟ وأقول: لننتقل الى بلادنا، فنرى النسبة العامة من خريجي الجامعات يدرس في الجامعة لكي يتوظف لا غير، وليس عنده ذلك الطموح ليصير مثل هشام بن الحكم أو جابر الجعفي، أو مثل نصير الدين الطوسي، أو العلامة الحلي أو الشيخ الصدوق أو الكليني أو الشيخ البهائي والعلامة المجلسي، أو من أشبه، إن القليل من جامعاتنا تنتج العلماء اللامعين، وهذه المشكلة توجد في الحوزات العلمية بدرجة ما، وفي الجامعات بشكل أكبر.

ص: 273

فهذه المقارنات يعكف عليها المفكرون الاستراتيجيون، فلابد من رصد ودراسة الاتجاه العام للأمة الإسلامية باستمرار وفي مختلف الجهات، في التعليم والتربية، وفي الطب والهندسة والتكنولوجية الرفيعة، والمحاماة والحقوق، وفي العلاقات الدولية والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وكثيراً ما يجري تقييم الاتجاه العام لطلابنا في الجامعات الهندسية والطبية، وهذا ممتاز، ولكن الأمة لا تنهض بالمهندسين والأطباء فقط، فإن لدينا حاجة كبیرة للعلماء والخبراء في الاقتصاد، حتى لا تعصف بنا، هذه الأعاصير الاقتصادية في سوق البورصة والأسهم وغيرها، وللعلماء والخبراء في السياسة كي لا نكون العوبة بأيدي الآخرين، وهكذا وهلم جرّا.

د- مستقبل الشباب الضائع:

والمشكلة الرابعة:- وهي مشكلة غريبة، والغريب أيضاً أنها في بلادنا موجودة كذلك، ولكنهم يفكرون في الحلول، و الكثير منّا لا يفكر فيها، ومؤسسات المجتمع المدني - عادة - ليست في هذا الوارد - يقول: المشكلة الرابعة هي وجود كم هائل من الشباب الضائع، وليس هنالك إحصاء دقيق حول ذلك، ولكن يخمن الخبراء بأن عددهم من عشرين الى ثلاثين مليون (في ذلك الوقت طبعاً(، وهم من الشباب الذين لا نعلم إن مستقبل-هم سيكون بيد من؟ وأن هؤلاء الشباب لا يمتلكون الاحساس بالهوية، وليس عندهم انتماء، ونحن لا ندري أية جماعة ستأتي وتسيّر هؤلاء الشباب بالاتجاه الذي تريده؟وإن مستقبل أمريكا - حسب كلامه - في خطر، لأنه لا يعلم من سيصطاد هؤلاء الشباب ويوجههم كما يريد!

ص: 274

أقول: والآن نلاحظ في البلاد الإسلامية أعداداً هائلة من الشباب الضائع عندنا - مع الأسف - حتى إنه لا توجد حتّى إحصائيات تقريبية عن أعدادهم، ولكن ليخرج الإنسان الى الجامعات والى الأسواق، وسوف يجد أنَّ نسبة كبيرة جداً من الشباب، بل الكبار والصغار ليس عندهم ذاك الإحساس بالانتماء القوي ، بل حتّى بالانتماء، وليس عندهم تلك الرؤية الاستراتيجية، ولا الاحساس بمسؤوليته ووظائفه تجاه شعبه و وطنه و أمته، فأولئك الشباب الذين يمكن أن يسرقوا هم بالملايين، وقد يكونون بعشرات الملايين، والواجب الاستراتيجي يقتضي من مؤسسات المجتمع المدني أن تخطط لكل ذلك.

فهذه إذن أبعاد أربعة قد أشرنا اليها، ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير، فمن مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني الرئيسية أن تلاحظ وترصد:

أ - الاتجاه العام لحركة الأمة.

ب - الاتجاه العام لحركة الجماعات.

ج - الاتجاه العام لحركة الدول.

د - الاتجاه العام لحركة المفاتيح والقيادات ،بل وحتى الأفراد، والى أين يسير هذا الاتجاه العام ؟

البقيع وسامراء المقدسة والربيع العربي:

ولنستشهد أخيراً بأربعة شواهد لها دلالة بالغة لنلاحظ عبرها وفي مرآتها مشاكلنا النفسية والحضارية.

الشاهد الأول: وهو البقيع الذي مضیٰ على هدمه حوالي 87 عاماً،

ص: 275

لكن الغريب هو طريقة تعاملنا مع هذا الحدث المأساوي الكبير، فإن مثلنا كمثل الإنسان الذي يعاني من مرض ما، والذي تجده في الأيام الأولى للمرض يبدأ بمكافحته، ثم شيئاً فشيئاً يستسلم للمرض، ويفقد الإحساس بضرورة أو حتّى بجدوائية المقاومة، وهو مرض خطير يكشف عن الاتجاه العام لنا مع الأسف، وبذلك يتأكد أكثر فأكثر ضرورة وجود مؤسسات المجتمع الإيماني والمدني التي ترصد هذه الظلامات، وهذه الحالة العامة، وتخطط لتغييرها ليل نهار.

الشاهد الثاني: هو قضية سامراء، وهي مأساة مدوّية في تاريخ البشرية، والأغرب هو تباطؤنا عن إعمار سامراء و تقصير الحكومة بالذات، إن من لا يحمي أقدس مقدساته، ولا يبال عندما يطعن في كرامته، ستجده في أماكن أخرى وفي أبعاد أخرى، يتصرف بنفس الطريقة؛ لأن الروح واحدة، والشاكلة النفسية هي بنفسها، والإنسان المجاهد هو مجاهد حيثما وضعته، والآخر المتخاذل هومتخاذل في معظم الحالات، أو كلها، والأغرب من ذلك ان أعدادنا - نحن أتباع أهل البيت % - هي بمئات الملايين، وأعداد المسلمين يقارب المليارين، هذه هي مقدسات كل المسلمين باستثناء شذاذ الآفاق من الوهابيين والسلفيين، ومع ذلك لا نحرك ساكناً! إن المأساة حقاً هي أن الروح العامة في الأمة الإسلامية تتسم بالتخاذل والتكاسل.

الشاهد الثالث: وهو القدس المحتلة من قبل أقلية صهيونية غاصبة، مع إنهم لا يعدّون الا كقطرة في بحر المسلمين، لكنهم منذ العام 1967 وحتى الآن يسيطرون على أولى القبلتين وسائر المقدسات هناك، فما نحن صانعون؟ الشاهد الرابع: إن الحكومات الجائرة تظلم شعوبها، لكن يجب أن نتساءل

ص: 276

عن بقية المسلمين في العالم، ما الذي يفعلونه تجاه اخوانهم الراضخين تحت وطأة المظالم؟ إنهم قد يتعاطفون مع الشعب، ولكن عملياً ما الذي يفعلونه؟ أين ذلك النتاج العملي الذي يترجم الإحساس بالمسؤولية العامة للأفراد ولمؤسسات المجتمع المدني تجاه الأمة جمعاء؟ إن البحث لهو من البحوث الاستراتيجية والمحورية والمفصلية، والذي يحتاج الى أن نتوقف عنده طويلاً طويلاً.

يقول الله سبحانه وتعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

ص: 277

ص: 278

الفصل السابع عشر: مسؤوليات الجماعة «مؤسسة المجتمع المدني» تجاه الأفراد

اشارة

ص: 279

ص: 280

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم(1)».

عوداً الى الآية الشريفة نقول: إنه يستنبط من الآية الشريفة: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ» أمور منها: لعله يستفاد من العموم الأفرادي والإطلاق الأحوالي في الآية الكريمة إن هنالك مسؤولية متقابلة على الفرد تجاه سائر الأفراد، وتجاه المجتمع، وتجاه الجماعات، وتجاه الدولة، وكذلك الحال في الدولة بالنسبة الى الأفراد والجماعات والمجموع كمجموع، والدولة بالنسبة للدولة أيضاً، وبالعكس، والجماعات بعضها بالنسبة الى البعض الآخر والى آخره.

وعلى أي تقدير، سواء أقلنا: أنَّ الأصالة للفرد أم للمجتمع أم قلنا بالرأي الثالث أو الرابع فإنه لا شك أنَّ المسؤولية حاكمة على الجميع وفي كل الصور.

فالبحث حول (مسؤولية الجماعة تجاه الفرد( في ضمن مبحث اتجاه أسهم

ص: 281


1- سورة التوبة: .71

المسؤولية، التي تخرج من الجماعة.

مسؤولية الجماعة تجاه الفرد:

والمبحث منصرف الى مسؤولية الجماعة والجماعات المختلفة، سواء أكانت هيئات، أم أحزابا أم اتحادات أم غير ذلك، تجاه الأفراد، وهو مبحث هام جداً وأمر مبتلى به بشدة؛ وذلك نظراً لأن الجماعات عندما تقوى، وتحصل على قوة أكثر فأكثر، فإنها - عادة - تهمل الأفراد وتتجاهل-هم وتنساهم، وقد تسحق حقوقهم بالكامل، فإن الجماعات وكذلك الحكومات والاحزاب ان كانت في موقف ضعف او حصر، فإنها في الغالب تتواضع، بل وتتملق الناس، و تحترم الفرد وتستمع له وتصغي لشكاواه واقتراحاته، وتبدي اهتماماً بالغاً بالجماهير والقاعدة، لكن الامر يجري على العكس فيما اذا قويت، فكيف بها لو دخلت للسلطة؟ وهذا مرض خطير وداء عضال يشكِّل الصورة المرَضية الأولى من صور علاقة الجماعة بالفرد.في الصورة الثانية: نرى أن الجماعات عندما تنمو عددياً فإنها - أيضاً - تهمل الأفراد، حيث يبدأ التجمع بأعداد قليلة فنجده يهتم بالأفراد كثيراً، لكنه عندما تتزايد أفراده لا يعود يهتم بهم، بل نرى بعض الحسينيات والمساجد والهيئات قد تكون كذلك، فعندما يكون الحضور في المجلس قليلاً نجد المدراء يهتمون بالأفراد ويقدرونهم من خلال توفير ما يتيسر ل-هم من الخدمات، وعندما يزداد الجمع ويكون الجمهور حاشداً فربما تجد بعض المدراء والمسؤولين لا يهتم ذلك الاهتمام الأول بالحضور، أو بنظافة المكان أو بالإضاءة أو بالاستقبال والتوديع، أو بما أشبه ذلك من الأمور الاعتبارية.

ص: 282

وهذا الأمر ملاحظ في الكثير من الأحزاب والتنظيمات والاتحادات والنقابات وغيرها، وهنا مكمن الخطر، ومربط الفرس في مبحث المخاطر والأمراض التي قد تبتلى بها مؤسسات المجتمع المدني؛ لأن الفرض في مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني انها انطلقت للأهداف الثلاثة الانفة الذكر من بناء المجتمع فكرياً وثقافياً، و توفير الخدمات للناس، والوقوف بوجه الطغيان ودكتاتورية الدولة.

ولكن هذه الأهداف الثلاثة قد (تنعكس) في نفس هذه المؤسسة التي انطلقت من أجل تحقيقها أو بعضها، فلم يعد مهتماً ببناء المجتمع - مثلاً -، أو إنّ هدف الخدمات سيغيب عن باله، ولا يبقى أمام ناظريه الا المزيد من السلطة، وكيف يحصل على هذه الوزارة، أو ذلك الموقع السيادي أو القيادي؟ وهذا خطر حقيقي؛ لأن هذه المؤسسة قد انطلقت لكي تكون خادمة للناس وإذا بها شيئاً فشيئاً وبمرور الزمان تصير فرعوناً يواجه الناس، والأعضاء والجماعات الأخرى، فبعد أن انطلقت لكي تكون سداً أمام الاستبداد، وإذا بالاستبداد والدكتاتورية تتجسد في أعمالها هي، وفي بنائها الداخلي.

وهذا البحث يرتبط جوهره بمبحث أخلاقيات مؤسسات المجتمع المدني، ويتداخل مع موضوع البحث في هذا الإطار، وهو أن هناك جملة من الأخطار والأمراض تبتلى بها (التجمعات) عادة، أولاً عندما تتقوى بسلطة أو تثرى بمال، وثانياً: عندما يزداد أعضاؤها أو مؤيدوها أو المنتسبون اليها أو المشاركون في أنشطتها، وثالثاً: عندما تتعارض مصالحها مع مصالح الأفراد، فإنها كثيراً ما تسحق الأفراد دون رحمة أو إنصاف.

ص: 283

مسؤوليات الجماعة تجاہ الأفراد واستراتيجية الاهتمام بهم:

يمكن أن ينصرف البحث الى عنوان استراتيجية الاهتمام بالأفراد، وضرورة إشراك القاعدة، وكافة الأفراد الذين ينضوون تحت لواء وراية هذا الجمع، أو هذه الجماعة، فنقول: إن الجماعة سواء أكانت مرجعية من المرجعيات، أم حزباً من الأحزاب ومنظمة أم نقابة أم اتحاداً، أم هيئةً في حسينية أو مسجد، يجب أن تكون استراتيجيتها أولاً: الاهتمام البالغ بالأفراد، فإن من المعتاد أن تقوم الجماعات التي ينتمي اليها الفرد بإهماله تدريجياً، مع تنامي قدرتها وتوسع قاعدتها.وإننا نرى التقريع الشديد في سورة(عبس) قال تعالى:

«عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ الا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى» وموجز القضية أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان جالساً مع جمع من أصحابه وفيهم عثمان، فجاء ابن مكتوم وكان مؤذِّنا لرسول الله، وكان أعمى، فقدمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على عثمان، فعبس عثمان وجهه وتولى عنه، فأنزل الله تعالى:

«عَبَسَ وَتَوَلَّى»، يعني عثمان،«أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى»، كما جاء في (تفسيرالقمي)، وكما نقل عنه (الصافي).

إن من الواضح أن النبي (صلی الله علیه و آله) و الموصوف في القران الكريم ب--(خلق عظيم) لا يمكن أن يقوم بما يستوجب تقريع الله سبحانه وتعالى الشديد له على مر التاريخ.

ص: 284

إضافة الى أن النبي معصوم لا يرتكب خطأ أبداً، وخاصة خطأ بهذا المستوى، وهو إهانة مؤمن، ثم هو على خلق عظيم، فلذا من البديهي أن لا يكون الرسول (صلی الله علیه و آله) هو الذي قد عبس.

ونحن نعجب من قوم، يبرّؤون ساحة عثمان بن عفان عن هذه القضية؛ لأنهم يعتبرونها نقيصة، ثم تجدهم يسندونها الى رسول الله الأعظم، فإذا كانت نقيصة فهي أولى بأن تسند الى عثمان، وإذا كانت فضيلة فما ضركم أن تنسب لعثمان؟ ثم من الواضح إنها نقيصة، لأن الله سبحانه وتعالى يقرع ذاك الشخص بعتاب شديد وذم أكيد«عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى».

فهذا الاهتمام بالفرد في هذه الآية له دلالات و مفادات كثيرة، ومنها: أن الفرد مهما كان صغيراً، ومهما كان ضئيلاً في تصور الناس، فإن له قيمته عند الله سبحانه وتعالى، فلا يحق للجماعة بحجة أن هذا الشخص إنسان مستضعف أو عادي أن يهملوه، أو أن يغضّوا الطرف عن مد يد العون اليه، وأما إذا كان الشخص ذا مكانة رفيعة فيهتمون به.

وبكلمة: فإن الفرد - كل فرد - في استراتيجية الجماعة يستحق:

أولاً: الاهتمام البالغ وعلى امتداد الخط، بعكس الجماعات التي عندما يلمع نجمها تبدأ باهمال الأفراد.

وثانياً: يستحق الفرد (المشاركة( في أبعاد عديدة، أولها: المشاركة في الرأي، وأن احد أهم أسباب تخلفنا في البلاد الإسلامية هو عدم وجود سهم للأفراد في الرأي، وذلك مشهود في الأحزاب والمنظمات ونظائرها الا القليل

ص: 285

النادر منها، فالقائد والرئيس بمفرده هو الذي يتفرد باتخاذ القرار، فلا شورى ولا مشورة، رغم قوله تعالى«وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر».

ولكن أين سهم الأفراد الذين قد يكونون بالمئات في الرأي وفي النقد البنّاء والاستماع له، أو في الاقتراح الإيجابي والتفاعل معه؟ والغريب إن آراء ومقترحات الأفراد الصغار في أغلب التنظيمات لا تصل الى القيادة أصلاً، وهذا هو الخطأ بذاته؛ وذلك لأن المشاركة هي حقهم الطبيعي أولاً، و ثانياً: ولأن الأفراد في مختلف الهيئات إذا شاركوا جميعاً في اتخاذ القرار فإن ذلك سيكون من أقوى عوامل التقدم بدون شك؛ لأن (من شاور الرجال شاركها في عقولها(، وهناك المئات من الروايات الشريفة الواردة في الشورى والاستشارة والتشاور، اورد قسماً كبيراً منها السيد الوالد في كتاب ( الشورى في الاسلام)، مثل«ما خاب من استخار ولا ندم من استشار»(1)، و«من استبد برأيه هلك»(2) و قيل يا رسول الله ما الحزم؟ قال: «مشاورة ذوي الرأي واتباعهم»(3) الى غير ذلك.

ص: 286


1- عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: بعثني رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلى اليمن فقال و هو يوصيني... كشف الغطاء: ج3 ص299.
2- عن أميرالمؤمنين (علیه السلام). وسائل الشيعة: ج12 ص40.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39.

الفصل الثامن عشر: أخطار«النيوليبرالية» والمؤسسات التخريبية

اشارة

ص: 287

ص: 288

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

مخاطر المؤسسات المعادية للمجتمع المدنی وٲنواعها:

اشارة

إن المجتمع (كمجموع) والدولة كدولة، والجماعات أو مؤسسات المجتمع المدني بما لها من هيئة اجتماعية وعلة صورية، كما سبق البحث فيه، وكذا المجتمع ك-(كجميع)، كما سيأتي بحثه، هذه كلها لها مسؤولية تجاه البعض الآخر، وقد جرى البحث عن أن بعض مؤسسات المجتمع المدني قد تكون من الد أعداء المجتمع المدني ومؤسساته، بمعنى أنها تكون في الواقع ضد جوهر المجتمع الإنساني.

ثم إن هذه المؤسسات المعادية للمجتمع المدني على قسمين:

أ - المؤسسات المحلية الهدامة:

فقد تكون مؤسسات محلّية هدامة، وذلك مثل بعض المافيات والعصابات

ص: 289

المحلية ، حيث إنها تمتلك تنظيماً معه تخطيط، وعندهم قيادة، وربما تنتهج بعضها نهجاً ديمقراطياً في القيادة فستكون لديهم انتخابات، لكنها مع ذلك تبقى عصابة السراق، أو عصابة الإرهابيين، أو عصابة المختلسين، أو عصابة الراشين والمرتشين، أو ما أشبه ذلك، وتبقى مؤسسات معادية للمجتمع المدني، مخربة، أو هدامة.

ب - النيوليبرالية وآثارها الاقتصادية المدمّرة :

وقد تكون المؤسسة دولية، وكمثال على ذلك نلاحظ المؤسسات والشركات العملاقة، وهي حوالي الالف، وفي الوقع هي التي تسير العالم، وهي الأذرع الاخطبوطية للدول الكبرى التي تستخدمها للسيطرة على الدول الصغرى، أو دول العالم الثالث أو الثاني، وإن التنظير الفلسفي الذي تعتمده الكثير من الدول الاستعمارية، ومنها هذه المؤسسات الدولية العابرة للقارات لنهب الشعوب، ولتحطيم الاقتصادات الوطنية، ولزيادة الأرباح، هو ما يسمونه ب-(النيوليبرالية) وهي الليبرالية الحديثة، أو التحريرية الحديثة، وهؤلاء سنّوا سلسلة من القوانين ووضعوا حزمة من برامج العمل هي كالتالي:

برنامج عمل (النيوليبرالية):

أولاً: تخفيض الضرائب المفروضة على الأغنياء دون الفقراء! وقد أشرنا في بحث آخر الى أن أصل الضرائب بهذا الشكل هو خطأ فادح، وإن النظام الضريبي الإسلامي المحدّد بالخمس والزكاة والجزية والخراج فقط وحسب ضوابطها هو الصحيح عقلياً، ومع قطع النظر عن هذا البحث، فإن الضرائب

ص: 290

إن كانت صحيحة فلماذا تخفف فقط عن الأغنياء بعنوان النيوليبرالية (الليبرالية الحديثة) مستندين الى حجة خادعة ، وهي أن المحرك الرئيس لاقتصاد البلد هم الأغنياء والشركات الكبرى، فعندما تفرض الضرائب عليهم تشل أيديهم، فلا يستطيعون أن ينهضوا باقتصاد البلد؟! ثانياً: تفكيك برامج التعليم العام، وأيضاً بحجة براقة مشابهة، وهي إن هذا يناقض سياسة السوق الحرة، وتفجير الطاقات الفردية!! ثالثاً: تفكيك برامج الرفاه الاجتماعي التي تستوعب المرضى المزمنين، والمقعدين والعاطلين عن العمل أو العاجزين عنه، وكبار السن، إن هؤلاء ينبغي أن يحظوا بالرعاية والعناية المالية وغيرها، لكن النيوليبرالية (الحديثة) تناهض ذلك بكل قوة، وتعاديه بعنوان أنه يحطم الأصنام الجديدة، أصنام تحرير الأسواق، والأسواق الحرة، والأسواق التنافسية، وما أشبه ذلك من هذه الشعارات البراقة.

رابعاً: مناهضة ومحاربة قوانين حماية البيئة.

خامساً: وهذه النقطة و هي التي ترتبط بنا مباشرة، وهي التي تدمر وتحطم دول العالم الثالث، لكن تحت شعارات براقة، فإن النيوليبرالية (الحديثة) تدعو الى رفع الحماية عن الاقتصاد الوطني لتلك الدول ، حيث يشترطون: إن أردتم أن نساعدكم فبشروط الشركات الكبرى! وإن الرأسمال الكبير لهذه الشركات الكبرى لا يأتي الى بلدكم جزافاً، وإنما يجب عليكم أن ترفعوا الحمايةالمفروضة من قبل الدولة لتحصين وحماية الصناعات الوطنية من المنافسة غير المتكافئة مع منتجات تلك الدول.

وهذا يعني بكلمة واحدة تحطيم الاقتصاد الوطني؛ لأن اقتصادهم مستقر منذ مئات السنين ومزدهر، وبضاعتهم متطورة، في حين إن بلادنا لتوّها

ص: 291

تريد أن تنهض باقتصادها، وتنهض بصناعاتها، وعندما تغزو صناعاتهم، من طائرة أو سيارة أو قطار أو نقال أو حاسوب أو غير ذلك، وهي الأكثر تطوراً والأدنى سعراً، فمن الطبيعي أن يتحطم اقتصاد البلد، وكذلك الأمر في مجال الزراعة، كما هو جارٍ في الثروة الحيوانية وإنتاج اللحوم، الى مختلف الأشياء الأخرى.

والغريب هو ازدواجية المعايير لديهم، فإنهم من جهة يقولون: إن مقتضى تحرير الأسواق رفع حماية الدول عن منتجاتها الوطنية، ومن جهة أخرى: يفرضون قوانين حمائية، كلما رأوا أن سِلَعاً منافسةً أقوى تدخل من دولة أخرى مثل اليابان وتغزو بلادهم، وتؤثر على اقتصاده الوطني! إن الدول الاستعمارية - مثل أمريكا أو بريطانيا - تحت شعار وستار تحرير الأسواق، وحرية حركة رأس المال، وتنافسية الأسواق، تسعى جاهدة لعقد - بل لفرض - الاتفاقات الاقتصادية مع دولنا، ودول العالم الثالث بشكل عام، والتي لا تنتج الا تحطيم الاقتصاد الوطني، وتطالب دولنا، بل تمنعها من حقها الطبيعي في أن تفرض حماية للمنتج الوطني عن طريق وضع الجمارك على بضائعهم، التي تغزو بلادنا ، فتحطم الصناعة، وتحطم الزراعة، وتحطم كافة منتوجات هذا الوطن وصناعاته، ولكن الأمر عندما يصل اليهم، وعندما تكون هناك بضاعة أجود وأرخص يراد تصديرها ل-هم، نجدهم فوراً يفرضون الحماية لمنتجاتهم الوطنية، ويتخلون عن منطق اقتصاد السوق في ازدواجية صريحة في المعايير ناسين، بل متناسين منطق تنافسية الأسواق، وحرية حركة البضائع ورأس المال، وناسين قاعدتهم الذهبية في أن الأسواق تصحح نفسها بنفسها، وإن التنافسية الاقتصادية هي الحكم لا غير!

ص: 292

إن الدول الاستعمارية وتحت شعار النيوليبرالية (الحديثة) تدمّر اقتصاد الشعوب المستضعفة، ومن الياتهم الشهيرة منظمة التجارة العالمية، وهي تدعو الى تحرير الأسواق، وتبشر بسياسة السوق الحرة وتنظّر بأن الأسواق تصحح أوضاعها بنفسها، وبذلك يزيدون المستضعفين استضعافاً، والفقراء فقراً، والأثرياء غنى، وهذه هي أعمدة النيوليبرالية (الحديثة).

فكرة الربح (لا الأخلاق) هو جوهر الديمقراطية:

ننقل هنا نصاً مهماً يعلمنا كيف يفكر عدد من أبرز مفكري النيوليبرالية، وأن الاستعمار أو الدول الكبرى في الواقع تتبع هذا النمط من التفكير! النص عن الأب الروحي للنيوليبرالية في كتابه (الرأسمالية والحرية)، والذي نلاحظ فيه التزوير الفلسفي لأجل تبرير الإجحاف الاقتصادي وفق التحوير في مفهومٍ لكي ينتج عكسه، كمثل أن يعبرأحدهم عن الظلم بالعدل، كأن يظلم الزوج زوجته ثم يسوّقه على إنه قمة العدل! فهكذا هم (النيوليبراليون) يظلمون الشعوب ولكن بمنطق إننا نريد أن ندافع عن حقوق الشعوب، فعليكم أن تسمحوا لمؤسساتنا العملاقة أن تأتي الى بلادكم وتؤسس المصانع والشركات الكبرى وغير ذلك، وأن لا تفرضوا حماية على منتجوكم الوطني، حيث نقدم لكم البضاعة الجيدة، وننهض ببلدكم كي تتطوروا.

يقول هذا الأب الروحي للنيوليبرالية في كتابه (الرأسمالية والحرية): (يمثل تحقيق الربح جوهر الديمقراطية) نلاحظ بدقة إنه لا يقول (يمثل تحقيق الأخلاق جوهر الديمقراطية)، ولا يقول: إنه (يمثل تحقيق حقوق الإنسان،

ص: 293

جوهر الديمقراطية)، ولا يقول بمنطقنا الإسلامي إنه (يحقق قضاء حوائج الناس، والنهوض بحاجاتهم، وإعطاء كل ذي حق حقه، جوهر الديمقراطية)، ولا يقول إنه (يحقق حصول الناس على حريتهم في التصويت) وغير ذلك من أشكال الحرية الحقيقية جوهر الديمقراطية، بل يقول (يمثل تحقيق الربح جوهر الديمقراطية) !!.

ولعل هنالك من لا يفهم كلامه جيداً؛ لذا يصرح بوضوح أكثر فيقول: (وبالتالي فالحكومة التي تتبع سياسة معارضة للسوق هي في الحقيقة حكومة معارضة للديمقراطية)، فنلاحظ عبارته (وبالتالي فالحكومة التي تتبع سياسات معارضة للسوق) وهذا يعني أن الحكومات التي تحاول أن توفر الحماية لاقتصادها الوطني هي برؤيته تكون معادية للديمقراطية.

ومن جهة أُخرى يوجد عندنا بيت المال، وهم يسمونه مؤسسة الضمان الاجتماعي، أو ما أشبه ذلك، لكن الفخر يعود للإسلام؛ لأنه الذي أسس للضمان الاجتماعي بأفضل الوجوه، ولأنه الذي عَلّمهم ذلك، فإن من مسؤوليات بيت المال توفير الرفاه الاجتماعي، وبيت المال مسؤول عن توفير الحوائج ذات الصلة بالفقراء وبالمرضى وبالمقعدين وبالمكفوفين، وبالأيتام وكبار السن والعاطلين عن العمل.

لكن هذا الأب الروحي للنيوليبرالية يدين (هذه السياسات) كلها، ويعني بها سياسات الرفاه الاجتماعي و السياسات التي تنهض بالتعليم، كما أشرنا الى ذلك سابقاً، وكذلك يدين زيادة الضرائب على الأغنياء والشركات العملاقة من مبدأ كونها كلها تعارض الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية عنده هي ديمقراطية السوق، وليست ديمقراطية الناس!

ص: 294

وبالتالي فهو يرى أن الحكومة التي تتبع سياسات معارضة للسوق هي في الحقيقة حكومة معارضة للديمقراطية لماذا؟ لأن السوق صار الههم، وأصبح دينهم دينارهم، فالمهم هو السوق حتى لو كان الشعب معارضاً بأكثريته لقوانين السوق التي وضعوها هم «النيوليبراليون»، فالديمقراطية هي مع السوق ومن السوق والى السوق، وبالتالي - وحسب رأيهم - فإن من الأفضل، بل من اللازم قَصْر دور الحكومات على حماية الممتلكات الخاصة للشركات العملاقة، وتنفيذ الاتفاقات لصالحهم، وحصر النقاشات السياسية بالموضوعات الثانوية، والبحث في هذا الحقل طويل، والحر تكفيه الإشارة.

الرؤية الإسلامية في علاقة الفرد بالمجتمع:أما في منطق الدين

ونص الروايات، فإن مؤسسات المجتمع المدني ينبغي أن تلاحظ مصلحة الأفراد والمجتمع (لا مصالح الذين يكنزون الذهب والفضة)، فأولئك لا يرون المحورية والموضوعية الا للأغنياء، بل لكبار الأغنياء فقط، وللشركات العملاقة لا غير، والتي ذكرنا أنها حوالي الف شركة تتحكم في مصير العالم.

فليس للناس مكان في هذه المعادلة؛ لأن جوهر الديمقراطية عندهم هو الربح وليس الإنسان، أما نحن فإن جوهر الديمقراطية عندنا هو الإنسان، وكما يصرح به أمير المؤمنين علي (علیه السلام) : «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»(1) في ضمن الضوابط الإسلامية التي تعطي طابعاً إنسانياً حقيقياً أكثر للموضوع.

ص: 295


1- نهج البلاغة: الرسائل: 53 من كتاب له (علیه السلام) كتبه إلى الأشتر النخعي لما ولاه على مصر و أعمالها.

واليكم هذه الرواية الشريفة التي تعد من أروع الروايات في هذا الحقل، كما تعد من أعظم الوثائق التي تكشف عن مدى إنسانية الإسلام وسمو مبادئه، يروي أبو حمزة الثمالي، عن الإمام السجاد (علیه السلام) أنه قال: «من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مائة حاجة في إحداهن الجنة، ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجته حتى قضاها فيسُرُّ بقضائها كان ادخال السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسو من الثوب سلك، ومن عاده عند مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول له: طبت وطابت لك الجنة، ومن زوّجه زوجة يأنس بها ويسكن اليها آنسه الله في قبره بصورةِ أحبَّ أهله اليه، ومن كفاه بما هو يمتهنه ويكف وجهه ويصل به ولده أخدمه الله عزّ وجلّ من الولدان المخلدين، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة في الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة، ومن كفنه عند موته فكأنما كساه من يوم ولدته أمّه الى يوم يموت، والله لَقَضاء حاجته أحب الى الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام»(1).

فلنلاحظ قوله (علیه السلام): «من قضى لأخيه حاجة» فليس المحور هو (أنا) أو(الربح والسوق( الذي يصب في جيب الأغنياء، بل المحور هو (الآخر)

ص: 296


1- وسائل الشيعة: ج16 ص342 - 343.

و)الأخ(، فهو محور أساسي له الموضوعية.

«فبحاجة الله قد بدأ» وهذا تعبير عظيم جداً، فكأنه أعطى شيئاً لله، فهو نظير قوله تعالى: «مَنْ ذَا الذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا» مع أن الله سبحانه وتعالى هو الغني الوهاب لكل شيء، لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يرفع من شأن هذا العطاء، فيقول له: إنك بذلك كأنك تعطيني شيئاً، وفي هذا تكريم للعبد وأي تكريم! وذلك مثل من يهدي هدية للملك فيقبلها الملك، فهذا - أي قبول الملك - هو الربح؛ لأن الملك أخذ منه، ففي المنطق المادي الضيق نجده قد خسر الف دينار، لكنه في الواقع يرى نفسه هو الرابح؛ لأنه ربح رضا الملك، أو أي شخص في رأيه له قيمة، وأين ملوك الأرض من الله العزيز الجبار؟ ولاحظوا روعة قوله (علیه السلام): «من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ».

«وقضى الله له بها مئة حاجة في إحداهن الجنة» والتي تستمر لما لا يعد ولا يحصى من السنين، وأين عطاؤه من هذا كله؟ «ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له» والظالم يشمل الدول الاستعمارية والشركات العملاقة، والأحزاب المستبدة والحكومات الطاغية، كما يشمل أي إنسان دجال أو مدلس أو مرابٍ أو غاشٍ أو خادع أو غاصب أو إرهابي.

و من الطرق الى إعانة المظلوم هو تأسيس المؤسسات الدولية العابرة للقارات، و المنظمات الحقوقية و وسائل الإعلام وغير ذلك.

«ومن أعانه على ظالم له أعانه على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجته حتى قضاها فيسر بقضائها كان كمن أدخل السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله) » وهذا يعني أن ملايين الناس عندما تُقضى حوائجهم فإن هذه

ص: 297

الأخبار كلها ستوصلها الملائكة الى الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، أو يُطلِعُه الله عليها بأي طريقة أخرى قررها، فيسرّ بذلك رسول الله وما أعظم ذلك:

أن نستشعر إننا غير منقطعين عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فانهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون»، فهم وسائط الفيض منذ بدأ الخليقة.

«ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة»، فما أعظم التفكير بالآخرين وخدمتهم؟ «ومن كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسو من الثوب سلك واحد ، ومن عاده عند مرضه حفّته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول له: طبت وطابت لك الجنة، ومن زوّجه زوجة يأنس بها ويسكن اليها آنسه الله في قبره»، وما أحوجنا الى ذلك؛ لأن القبر مظلم موحش، والشخص إذا بقي في غرفة صغيرة مظلمة فإنه يحس بالاختناق، فكيف إذا كان في قبر موحش؟«آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله اليه، ومن كفاه بما هو يمتهنه ويكف وجهه ويصل به ولده أخدمه الله عز وجل من الولدان المخلدين، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة في الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي بها الملائكة، ومن كفنه عند موته كأنما كساه من يوم ولدته أمه الى يوم يموت، والله لِقضاء حاجته أحب الى الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام».

إذن، فإن على مؤسسات المجتمع المدني، وكل إنسان وكل دولة أن تضع حوائج الناس نصب عينها دائماً، في آناء الليل وأطراف النهار، وعلى الإنسان أن يفكر دوماً في إنه ما الذي عمله للآخرين؟ وهكذا سوف ينهض المجتمع ويزدهر يوماً

ص: 298

بعد يوم أكثر فأكثر.

رزقنا الله وإياكم أن نكون من أولئك الأشخاص الربانيين، وأن نؤسس تلك المؤسسات الاجتماعية الدينية والإنسانية، التي تنهض بالأمة وتتكفل بقضاء حوائجها، وتكون من ضمن أهم أهدافها قضاء حوائج الناس، وصناعة المدينة الفاضلة، إنه سميع مجيب والله الميسر المستعان.

ص: 299

ص: 300

الفصل التاسع عشر: التوكيل والتفويض في« الولاية» والتكاملية في العناوين الاعتبارية

اشارة

ص: 301

ص: 302

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

لابد من الاستضاءة والتدبر دوماً في الآيات الكريمة، ومن جملة ذلك التدبر في مبحث الحكم الوضعي والأحكام التكليفية، التي ذكرتها الآية الكريمة: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر»، فإن التساؤل الذي قد يطرح عن(الولاية) الممنوحة لكل مؤمن، وهل أنها مما يقبل التفويض أو الاستنابة أو التوكيل، أو ما أشبه ذلك؟ ذلك أن المسؤوليات والواجبات والحقوق قد تكون مما لا تقبل التفويض أو الاستنابة أو التوكيل، وقد تكون مما تقبلها، إن في المطلق، أو في الجملة.

الحقوق والواجبات التي لا تقبل التفويض أو تقبله:

اشارة

ولتوضيح ذلك:

1- الحقوق والواجبات التي لا يمكن تفويضها:

إن هنالك مجموعة من الحقوق والمسؤوليات والاستحقاقات والأعمال لا

ص: 303

يمكن تفويضها للغير، أو التوكيل فيها أو الاستنابة، سواء أكانت حقوقاً على الإنسان أم له، أي سواء أكانت تلك الحقوق أو الاستحقاقات مما تلزمه وتأخذ بخناقه، مثل السجن أم لا، فلو أن شخصاً استحق أن يسجن فإنه لا يمكن توكيل الاخر ليدخل بدلاً عنه السجن أو ان يستنيبه في ذلك، ولو مقابل أجرة، فهذا استحقاق ثابت عليه لا يقبل التفويض أو التوكيل أو الاستنابة أو البيع والشراء أو المصالحة، كما لو كان لهعلى شخص دين، فيصالحه(1) ويقول له: أسقط عنك الدين في مقابل أن تدخل السجن بدلاً عني؛لأن هذا مما لا يقبل التفويض والاستنابة.

وقد يكون الحق للإنسان، ومع ذلك لا يقبل التفويض والاستنابة، مثل حق الاستمتاع بالزوجة أو استمتاع الزوجة بالزوج، فإنه لا يجوز عقلاً وشرعاً التفويض أو التوكيل فيه أو الإذن للغير فيه، وكذلك حقوق أخرى عديدة.

وكذلك الأمر في الواجبات، فإن الإنسان لا يستطيع أن يوكل غيره أو يستنيبه في الصلاة أو الصوم ليصلي أو يصوم بدلا عنه، أو ما أشبه ذلك من الواجبات، سواء أكانت هذه الصلاة واجبة يومية أم واجبة غير يومية، مثل صلاة الآيات.

2- الحقوق والواجبات التي يمكن تفويضها:

لكن بعض الأشياء قابلة للاستنابة أو للتوكيل أو لغيرهما، وذلك

ص: 304


1- أو يصالح إدارة السجن أو القاضي على أن يسجن غيره مكانه لقاء مبلغ من المال!

كالحج في الجملة(1)، ومن هذه العناوين الاعتبارية الزيارة كأن يستنيب شخص شخصا آخر، لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) فهو عمل قابل للاستنابة و للتوكيل، وكذلك إذا كانت بذمة إنسان زكوات أو أخماس أو ديون فله أن يوكلشخصاً آخر في إخراج زكاته من ماله ، أو يأذن له في اسقاط دينه عنه(2)، والأمثلة التي يمكن أن تذكر من الواجبات أو الحقوق لهذا أو ذاك ليست قليلة في المقام.

وكذا العقود والإيقاعات، فالمعاملات تقبل التوكيل، كأن أوكله في أن يبيع عني، أو أن يهب عني، أو أن يقوم بصلح عني، أو ما أشبه ذلك.

هل (الولاية) تقبل التوكيل أو التفويض؟:

وفيما نحن فيه، في عنوان الولاية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، فهل تقبل (الولاية) التوكيل أو الاستنابة أو التفويض؟ والجواب عن ذلك: أنه في مقام إعمال الولاية - أي التنفيد - فذلك ممكن، ولكن نفس الولاية لا يمكن أن تفوض أو توكل للغير، بمعنى أن هذه الولاية بما هي ثابتة لهذا الإنسان، مثل ولاية الأب على ابنه الصغير بالقدر الذي له منها، بما هي هي فلا تسقط حتى إنه لو أسقطها لما سقطت، لكن في مرحلة

ص: 305


1- تجوز النيابة في الحج المستحب، أما الحج الواجب فإن (الحي لا يجوز التبرع عنه في الواجب إلا إذا كان معذوراً في المباشرة لمرض أو هرم فإنه يجوز التبرع عنه ويسقط عنه، وجوب الاستنابة على الأقوى)، العروة الوثقى، كتاب الحج، فصل في النيابة م 25 ، ج 2، ص 365 ، من الطبعة ذات الحواشي الخمسة.
2- المشهور إن إبراء ذمة المدين من الدين (إيقاع) لا يحتاج إلى إذن المدين، لكن السيد الوالد تأمل في ذلك.

تنفيذ هذه الولاية وإعمالها، كإدارة الأولاد، له أن يحولها الى شخص ثقة، فيوكله أو يستنيبه، أو يأذن له، فالولاية بما هي هي لا تقبل الإسقاط.

كذلك الولاية التي منحها الله سبحانه وتعالى لعامة المؤمنين في قوله تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، فهذا المقام أو المنصب أو المسؤولية، أو هذا الاعتبار ، بما هو هو، لازم لذمة الإنسان، ولا يمكن أن يُسقط أو يفوض، لكن إعماله أي تفعيله أو تنفيذه أو تطبيقه العملي هو القابل لأن يوكل الإنسان غيره فيه أو نظائره.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ للإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مباشرة، ويمكنه أن يستأجر شخصاً، حيث إنه في مرحلة التفعيل يمكن الاستئجار، كأن يستأجر شخصاً أو يعطي مبالغ لأشخاص أو لهيئة أو يؤسس مؤسسة، لكي يقوموا بالنهي العملي أو القولي عن المنكرات، وهذا مما لا إشكال فيه، بل هو نوع من تطوير الأداء في بعض الصور، كأن ينحو العمل نحواً مؤسّسياً، لكن واجب الأمر بالمعروف بما هو اجب كفائي - أو عيني إذا لم يقم به من فيه الكفاية - لا يمكن تفويضه - كحكم - الى الغير.

وبتعبير آخر: هل تقتضي هذه الولاية (المباشرة) حصراً؟ أي هل تقتضي الإعمال والتنفيذ والتطبيق حصرياً بالمباشرة؟ والجواب: كلا، بل له أن يقوم بذلك بالمباشرة، كما له التسبيب عبر نظام التوكيل وتأسيس مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن من أفضل الأعمال في هذا الحقل تأسيس لجان مهمتها أو من مهامها أن ترصد الصحف والمجلات والكتب والدراسات والمراكز التي تروّج للانحراف العَقَدي، أو التي تروّج وتسوّق للأفكار الهدامة، والأفكار الضالة، أو التي تسوّق الفساد الأخلاقي، وما أشبه ذلك.

ص: 306

تكاملية العناوين الاعتبارية أو تزاحمها:

بتدبر في الآية القرآنية الكريمة، وباستنارة واستضاءة على ضوء قوله تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» لابد أن ينصرف البحث لجهة إن كان هناك تزاحم في العناوين الاعتبارية، والتي تستتبع مسؤوليات خارجية أم لا، فهل هناك تزاحم بين الاعتباريات التي تقابل الانتزاعيات، وتقابل الحقائق الخارجية، بل هل يوجد - إثباتاً - (تعارض) - وثبوتاً - (تزاحم) أو تضاد أو تناقض أو غير ذلك؟ وهذا بحث يستدعي تفصيلاً لدى الحديث عن عالم الاعتبار وخواصه وأحكامه، لكن نطاق المبحث يدور حول صنف من أصناف هذا البحث الكلّي، وهو هل يوجد تزاحم في الاعتباريات التي تستلزم مسؤوليات خارجية؟ والظاهر في الإجابة على ذلك أنه في الجملة على الأقل: كلا، بمعنى أن لا قاعدة كليّة بوجود تزاحم، أو تعارض بين الاعتباريات التي تنجم عنها مسؤوليات، بل أنّ هذه الاعتبارات قد تتعاضد في ما بينها أو تتكامل، وإن كانت قد تتضاد أيضاً في مراحل (الملاك) و(الجعل) و(الامتثال) من حيث القدرة و اللاقدرة.

وتوضيح ذلك بإيجاز في محل بحثنا في الولاية، المصرح بها في آية «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »أن ولاية هذا الإنسان هي ولاية اعتبارية، فهذا اعتبار تنجم عنه مسؤولية، وهذه المسؤولية هي «يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة».

ص: 307

فهذا الاعتبار الذي استتبع مسؤولية قد جعله الله سبحانه وتعالى على المؤمن بما هو مؤمن، وهذا الشخص بعد ذلك له اعتبار آخر، وهو أنه أب مثلاً، فالأبوة اعتبار من الاعتبارات قد يعبّر عنها بالتعبير الدقيق، إنها إضافة من الإضافات، فالأبوة التي هي إضافة، وهي اعتبار في الوقت نفسه، تستتبع مسؤوليات أخرى تجاه الابن، يعني أنّ الأب بما هو مؤمن مسؤول عن أبنائه، كما أنه بما هو أب مسؤول عن أولاده.

ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»، هذا إضافة الى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، فحتى لو لم أكن أباً له فأنا مسؤول عنه، وولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ثابتة بعنوان آخر أيضاً ، أي بعنوانأنه أب له ولاية أخرى، وهذه الولاية الأخرى لاتتصادم مع الولاية الأولى، بل تؤكدها؛ لذا فالمسؤولية مضاعفة من جهة، والعقوبة تكون أشد من جهة أخرى.

وهنا تظهر الثمرة، فإن الشخص إذا كان أباً وفرَّط في حق أبنائه فهو معاتب ومحاسب، بل ويستحق العقاب من جهتين: الجهة الأولى: أنه خالف الأمر الالهي بوجوب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر باعتباره أباً مأموراً ب-(قوا) والجهة الثانية :هي لأنه تساهل وتجاهل في مسؤوليته الناجمة عن هذا الاعتبار اللازم له، وهو (الولاية) «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» فالمعاتبة والمحاسبة والملاحقة والمعاقبة اللاحقة هي لأنه كان أباً وتخلى عن مسؤولية الأب، وهي أيضاً لأنه كان من (الأولياء) بشكل عام.

وفي مقاربةٍ اخرى نمثل بالأستاذ المعلم إذا كان أباً، فهو معلم وهو أب

ص: 308

وهو مؤمن، فهنا توجد ثلاثة اعتبارات تستتبع ثلاث مسؤوليات متداخلة أو متمايزة، فالمعلم له اعتبار أنه معلم فهو مسؤول عن التلاميذ، فإن فرط، في حق التلاميذ - كما لو رأى الأولاد ينحرفون ولم يفعل شيئاً - فستكون عقوبته أشد، عكس الإنسان العادي إذا رأى الناس والأولاد ينحرفون ولم يفعل شيئاً، فان عقوبته هي المتداولة، فالمعلم مسؤوليته مضاعفة، وله اعتبار مضاعف، وعليه مسؤولية أخرى.

وهكذا مرجع التقليد، أو وكيل مرجع التقليد، والخطيب وإمام الجماعة، فإن هؤلاء ونظائرهم ل-هم اعتبار آخر في المسؤولية تجاه الناس، ورغم ان عموم: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »يأخذ بعنق كل شخص لكن مسؤوليتهم أشد وأقوى، فل-هم ثلاث مسؤوليات بلحاظ ثلاثة اعتبارات، بل ربما أكثر.

وكذلك رئيس الهيئة أو لجنة إدارة الحسينية أو المسجد أو الفضائية أو المنظمة أو النقابة أو العشيرة، فلأنه رئيس هذه العشيرة أو المنظمة أو الحسينية والمسجد، فعليه مسؤوليتان كميّاً وكيفياً، كما أنه تكون المسؤولية عليه ثقيلة كيفياً، فإن مسؤولية عامة الناس ثقيلة لكن هذا أثقل مسؤوليةً، ومسؤولية وكلاء مرجع التقليد ليست كمسؤولية آحاد الناس، أما مرجع التقليد فمسؤوليته أثقل جداً.. وهكذا الى أن نصل الى قوله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً» عن خاتم الرسل المصطفى محمّد (صلی الله علیه و آله).

وعليه، فإنَّ مَنْ يفرط ويقصّر فهو معاقب، ولكن أين عقاب هذا من عقاب ذاك؟

ص: 309

وقد ورد في الرواية أن الله سبحانه وتعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً، قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، لماذا؟ لأن له إعتباراً آخر، وذاك الاعتبار العقلائي مبني على صفة واقعية، وهي علمه، فتأمل.«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» إن هذه الولاية لا تتزاحم(1) و لا تتنافى ولا تتضاد مع تأكدها بولاية ثانية، نابعة من كونه معلماً، أو أباً أو مرجع تقليد، أو رئيس هذه العشيرة أو الهيئة أو الحزب أو النقابة أو الدولة، بل إحداهما تعضّد الأخرى، وتؤكدها من جهة، ومن جهة أخرى فالعناوين الثانية قد تلزمه بمسؤوليات جديدة، وليس الأمر تأكيداً فقط، بل تأسيساً أيضاً، وهذا الموضوع يستدعي بحثاً مستقلاً، نكتفي منه إيجازاً بهذا المقدار.

ص: 310


1- لا في عالم الملاك ولا في مرحلة الجعل ولا في مقام الامتثال.

الفصل العشرون: الكاشفية عن روح الأمة و تجسيداتها في المسؤوليات المجتمعية للمجموع

اشارة

ص: 311

ص: 312

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

«وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

محاور البحث في المسؤوليات المجتمعية للمجموع:

في مساق بحثنا عن مؤسسات المجتمع المدني، وفي النظرة التحليلية للمجتمع وجدنا أن هنالك فرداً، وهنالك جماعات، وهنالك دولة، وهنالك مجموع، وكل مفردة من هذه المفردات لها مسؤولية تجاه الأفراد و الجماعات وتجاه الدولة و المجموع، فمجموع الصور - كما ذكرنا - ست عشرة صورة، وقد تطرقنا للمجاميع الثلاثة الأولى، وبقيت المجموعة الرابعة، وهي مسؤولية (المجموع) تجاه الأفراد و الجماعات، وتجاه المجموع بنفسه، وتجاه الدولة أيضا.

وهذا البحث طويل، ولكن في هذا الإيجاز سنقتصر على منطلق واحد من منطلقات البحث، حيث نبحث في محورين عن المجموع: مجموع الشعب ومجموع المؤمنين وعامة الناس، حسب تعبير الآية الشريفة «ويتبع غير سبيل

ص: 313

المؤمنين»(1)من خلال الكاشفية عن روح الأمة وضميرها، وبؤر التركيز فيها بما يخلص الى أدوار مرجعياتها الدينية والمجتمعية.

الكواشف عن ضمير الأمة وبُؤَر تركيز المجموع فيها:

اشارة

نبحث بإذن الله سبحانه وتعالى في عنوان مسؤولية (المجموع) عن محورين، المحور الأول: هو الكاشفية، والمحور الثاني :هو التجسيد، أو بؤرة التركيز، وتوضيح ذلك.

المحور الأول: (الكاشفية(، فما هو الكاشف عن رأي المجموع، وعن تطعاته وحاجاته؟ وما هو الكاشف عن ضمير الأمة؟ وهذا التعبير أكثر تداولاً، وأشد انساً لبعض الأذهان، ولهذا المحور بمفرداته جوانب فقهية عديدة في أنحاء الفقه، كما له زاوية حقوقية مطوّلة، وله حقل خاص في علم النفس الاجتماعي، وفي علم الاجتماع أيضاً، والبحث مطروح بعناوين أخرى، وسنشير لاحقاً لبعض العناوين.

ينصرف البحث في هذا المحور - بإيجاز - الى أنواع الكواشف عن المجموع، أو عن ضمير الأمة؛ إذ إن مما يكشف عن ذلك:

1- الشهرة:

والظاهر أن بناء العقلاء على حجيّة الشهرة(2) وكذا الروايات، مثل

ص: 314


1- سورة النساء، الآية 115 ، قد يستدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، بأن الله سبحانه قرن بين مشاققة الرسول(صلی الله علیه و آله) وبين إتباع غير سبيل المؤمنين، «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرا .»وقد يستدل بنحو آخر فتأمل.
2- وعلى حجية (الشياع) كما سيأتي.

قوله(علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر»(1)،«فإن المجمع عليه» أي المشهور بقرينة ما سبق «لا ريب فيه»، من غير فرق بين كون الشهرة روائية أم شهرة فتوائية(2).

ثم إن الشهرة الروائية على قسمين: شهرة روائية للرواية نفسها، أن تكون مذكورة في كتب حديث مختلفة وفي عدة من المصادر والقسم الثاني من الشهرة الروائية: هو أن تكون رواية واحدة مشتهرة في الأفواه، ومستندة اليها الفتاوى، وإن لم تكن مذكورة في أكثر من كتاب، فإن هذا مما يقوّيهذه الرواية ويجبر ضعفها، وهذا بحث تخصصي له محله، ولكن صفوة القول: إن المستظهر هو أن الشهرة سواء أكانت فتوائية أم روائية ليس فيها اقتضاء الحجية فحسب، بل هي حجّة بالفعل، الا إذا عورضت بحجة أقوى منها، كخبر الثقة فإنه حجة، ولكن لو عورض بحجة أقوى فإن تلك الحجة تتقدم.

2- الشياع:

والشياع كالشهرة - أيضاً - كاشف، فإن الشياع يعدّ حجة في بحوث كثيرة، كبحث القبلة وكبحث النسب، وصحيحة ابن أبي يعفور تدل على ذلك، والوالد (قدس سره) في (الفقه) ذهب الى أن الشياع حجة حتى لو لم يفد علماً ولا ظنّا - أي الظن الشخصي - فهو مثل خبر الثقة حجة نوعية من باب الظن النوعي، فحتى لو لم يفد ظنّا شخصياً فهو حجة ، والحاصل أن الشياع

ص: 315


1- يقول الإمام الباقر(علیه السلام) لزرارة: «يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» فالشاذ النادر من الخبرين يطرح ولا يؤخذ به، ويعوّل على الخبر المشهور بين الرواة.
2- هذا مبني على تعميم الموصول لغير(الخبرين( مما لا يرتضه عدد من الأعلام.

كاشف نوعي عن الحقيقة، كما أن الشهرة تكشف عن الحقيقة، كما في القبلة والنسب كما سبق، وكما في الملكية، وكذلك في الهلال، فحجية الشياع ليست خاصة بالهلال كما قد يتوهم البعض، الا أن الشياع - عادة - يذكر في الموضوعات، والشهرة تذكر في الأحكام، كشهرة فتوائية، أو في الروايات، فهذه تعد - أيضاً - من الكواشف عن ضمير الأمة، ومن الكواشف عن المجموع كما هي كواشف عن مثل النسب والملكية والهلال.

3- الارتكاز:

ومن الكواشف أيضاً (الارتكاز)(1) الذي يسمونه الآن باللاوعي الجمعي، فالارتكاز حجة، وذلك مثل بطلان (النكاح المعاطاتي( و هو الاكتفاء في تحقق العلقة الزوجية برضا الطرفين العملي، من دون ايجاب؛ أن تقول المرأة أنكحتك نفسي أو زوجتك، و من دون قبول لفظي من الرجل، فما هو الدليل على بطلانه؟ ذكر السيد الوالد 6 في الفقه عدة أدلة - لعلها عشرة - ومنها (الارتكاز(، وإن ارتكاز المتشرعة على عدم صحة ذلك، حيث ان ارتكاز المتشرعة وبل والعقلاء ايضاً على أن العلقة الزوجية تتوقف على الكلام ، إضافة الى الأدلة الأخرى، مثل الرواية «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام».

فالارتكاز - أيضا - من الأدلة، وهو على قسمين:

أ - ارتكاز عامة الناس، وهو حجة؛ لأن مرجعه الى الفطرة، فإنه يكشف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكلما كشف الارتكاز عن تلك الفطرة كان حجة.

ص: 316


1- وهو على قسمين: الارتكاز العقلائي وارتكاز المتشرعة.

ب - ارتكاز المتشرعة، فمثلاً: لابد أن يكون مرجع التقليد إمامياً، ومن الأدلة على ذلك ارتكاز المتشرعة، والمسائل التي يستند فيها الى الارتكاز ليست بالقليلة.

مثال آخر: يدخل أحدهم السوق ويشتري سلعة، لنفرض أنها ثلاجة أو غسالة أو سيارة، لكنه عندما اشتراها وجدها غير سليمة، فله خيار الفسخ، وهذا شرط ارتكازي؛ إذ إنه لم يقل إني اشتري منك هذه السيارة على شرط أن يكون محرّكها سالماً؛ فإنه شرط ارتكازي، والارتكاز لا يراد به الارتكاز الشخصي، بل الارتكاز عند عامة الناس.

والحاصل: إن الارتكاز سواء أكان عاماً أم كان ارتكاز المتشرعة، فإنه حجة؛ لأنه يكشف عن الفطرة أو يكشف عن المستقلات العقلية.

فالارتكاز إذن - وبتعبير آخر - هو من الكواشف عن ضمير الأمة وعن المجموع.

4- الاستبيان والاستطلاع:

ومن الكواشف الاستبيان أو الاستطلاع(1)، وهذان أمران ضروريان، وما أقل-هما في مجتمعاتنا مع الأسف، والغرب تقدم علينا في ذلك ونظائره، رغم سيئاته؛ إذ إنهم باستمرار يقومون باستطلاعات واستبيانات لمعرفة رأي الناس في هذه القضية السياسية، أو تلك المسالة الاقتصادية أو الاجتماعية، أو حول أداء أو موقف الحكومة من هذا الأمر أو ذلك.

وهذه الاستطلاعات و الاستبيانات تنشر في الصحف والمجلات على

ص: 317


1- لكن الظاهر ٲنه كاشف عن الكاشف ، أي كاشف عن الشهرة أو الشياع مثلًا، فتأمل جيداً.

نطاق واسع، وتشكل ضغطاً كبيراً على الحكومة؛ لأنها تصنع وعياً عاماً حركياً فاعلاً، أما في دولنا فنلاحظ أن اللجوء الى الاستطلاع والاستبيان أمر نادر، سواء في شؤون الدولة أم في شؤون الجامعات، أم في شؤون المدارس، أم في شؤون الأحزاب أو العشائر أم غير ذلك.

إن الاستطلاع ظاهرة إيجابية؛ لأنه يكشف عن الشهرة أو الشياع، ويكشف في الجملة عن روح الأمة، وعن ضميرها، وعن اللاوعي الجمعي.

والاستطلاع له فنونه والياته وسُبُله وقواعده، فهو علم من العلوم، فإنه ليس مجرد أن يُسال خمسة أشخاص مثلاً، بل يجب أن تؤخذ بعض العيّنات من الفلاحين والعمال والتجار، والجامعيين و الحوزوييين في انتخاب عشوائي، لعيّنات عشوائية، ولكن وفق قواعد وأصول حتى يكون هذا الاستبيان مرآة كاشفة بالفعل، وبهامش خطأ بسيط كواحد بالمائة، عن رأي الجميع أو رأي المجموع أو ضمير الأمة.إن هذا البحث يستدعي مقاماً مفصلاً لمقاربة المرآة الكاشفة عن ضمير الأمة، وعن رأي المجموع، فلنكتف منه ههنا بهذا المقدار.

محطات تجسد إرادة الأمة وضميرها:

المحور الثاني: من محاور البحث في المسؤوليات المجتمعية للمجموع ينصرف لبيان بؤرة التركيز لهذا المجموع، وبتعبير آخر: مكان تقبّضه(1)، فكيف نقبض على المجموع؟ أي أين نشهده ونلمسه؟ ذلك إن الشخص نراه وهو يعبر

ص: 318


1- ورد في المعجم، «يتقبَّض» ، بتشديد الباء، تقبُّضًا، فهو مُتقبِّض، والمفعول مُتَقبَّضٌ، وتقبّض الشيء بمعنى تجمع منقبضا، وتقبض فلان على الأمر بمعنى عكف، وتقبض عنه انقبض.

عن أرائه حقيقة، ويتكلم ويطالب ويتحرك، وكذا (الجماعة) نراها ونلمسها متحركة وفاعلة، وذلك مثل مجلس الإدارة أو هيئة الأمناء، فإنهم أمر مشهود كمجموعة بشرية، والعشائر كذلك، لكن المجموع أين نقبّضه ونلمسه ونشهده؟ وأين هي بؤرة تركيز المجموع؟ ولقد كان ذلك عملياً وسهلاً فيما مضى، فقبل خمسة الاف سنة مثلاً، كان يعيش في القرية مائة إنسان، وفي المدينة عشرة الاف شخص مثلاً، وكانت تجمعهم ساحة واحد فقط، ولكن العشرة ملايين إنسان، أو المائة مليون إنسان، كيف يمكن أن نقبضهم ونشهدهم ونرصد حركتهم؟؟

القادة الجماهيريون ومراجع التقليد:

الجواب على ذلك هو: إن بؤرة التركيز هو الوجودات الإجمالية التي تتجسد فيها تلك الوجودات التفصيلية، وهي بؤر التركيز الطبيعية التي نصطلح عليها بالقادة الجماهيريين، مثل مراجع التقليد.

ويتضح هذا الأمر جلياً عند دراسة الإجابة على السؤال التالي: ما هي أهمية مرجع التقليد في المجتمع؟ ونقول في الجواب:

أ - إضافة الى قيمة مرجع التقليد الذاتية، من كونه عالماً ورعاً تقياً صالحاً.ب - وإضافة الى قيمته الاستنادية التي اكتسبها من المعصومين % من الرسول (صلی الله علیه و آله) ومن أهل بيته الأطهار حيث ورد في رواية، عن الإمام (علیه السلام):«فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

ص: 319


1- الكافي: ج1 ص67.

ج - وإضافة الى قيمتهم الطريقية؛ إذ «الفقهاء حصون الإسلام»(1).

د - فإن له قيمة رابعة، وهي أن مرجع التقليد يجسد ضمير الأمة؛ ولذا جاء في الحديث: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(2) . فللمراجع الكرام قيمة ذاتية و استنادية و طريقية و تجسيدية لضمير الامة.

إن الله سبحانه وتعالى قد حفظ مصالح المجموع؛ إذ أقر نظام المرجعية التي تجسد ضمير الأمة؛ فإنهم يضعون اليد على حاجات الأمة ويتابعون همومها، وهذا ما أثبته التاريخ، فإن نظام المرجعية يكشف عن ضمير الأمة، ويدافع عن مصالحها، وعلى مر التاريخ كان مراجع التقليد كذلك، وهذا هو سر قوة مراجع التقليد، على الرغم من أن الظلمة والحكومات الاستعمارية - على مر التاريخ - كانت تعادي مراجع التقليد وبشدة، ولا تالوا جهداً في ضربهم وقصقصة أجنحتهم، وهذا البحث يستدعي دراسات معمقة لها مجالها(3).

وبكلمة: فإن مصالح المجموع والأمة تتجسد وتتبلور وتظهر وتتقبض على يد القادة الجماهيريين، الذين في طليعتهم مراجع التقليد، وكذلك تتجسد بما يسمّى (بالبرلمان) أو المجلس النيابي إذا كان حقيقيا، فإنه بؤرة تركيز وتجسيد لإرادة مجموع الأمة.

ص: 320


1- الكافي: ج1 ص38.
2- كمال الدين: ج2 ص484.
3- يراجع (كلمة الإسلام )للمفكر الإسلامي آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).

خاتمة الكتاب

من يشكّل المرجعية العظمى للأمة؟ وما هو مقياس الحق والباطل؟ وفي الختام(1)، لابد أن نشير الى المقياس الأول والأخير الذي على الأمة أن تضعه نصب عينها دائماً، لتفوز بالسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، وهو ما صرحت به الرواية الواصلة الينا عن الإمام العسكري (علیه السلام)، عن آبائه % أن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال لبعض أصحابه ذات يوم(2):

«يا عبد الله،أحبب في الله» فلا يكون حبك للمصالح الشخصية وشبهها.

ص: 321


1- وعسى الرب الجليل أن يوفقنا لإكمال هذه المباحث في مجلد قادم، إنه لما يشاء فعال.
2- عن أبي محمد العسكري، عن آبائه % قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبعض أصحابه ذات يوم: «ياعبدالله، أحب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فإنه لا تنال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً» . فقال له: وكيف لي أن أعلم إني قد واليت وعاديت في الله عزوجل ومن ولي الله تعالى حتى أواليه ومن عدوه حتى أعاديه؟ فأشار له رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى علي (علیه السلام) فقال: «أترى هذا؟» فقال :بلى، قال: «ولي هذا ولي الله فواله، وعدو هذا عدو الله فعاده، وال ولي هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك وعاد عدو هذا، ولو أنه أبوك وولدك». علل الشرايع: ج1 ص140 - 141.

«وأبغض في الله» وليس لأنه يعاديك أو يعادي حزبك أو عشيرتك، فقد يكون معادياً لي شخصياً لكنه إنسان صالح، فيجب أن أحبّه لله، وبذلك يزداد هذا الإنسان سمواً.«ووال في الله، فإنه لن تنال ولاية الله الا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك» فيحب في الله، ويبغض في الله.

وهنا يشير الرسول الاكرم فصلى الله عليه واله الى المشكلة الكبرى التي قد تعصف بالمجتمعات حيث يقول: انه «و قد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادون، وعليها يتباغضون»، فمن أعطاني المال أحبّه، ومن لم يفعل أعاديه وإن كان معذوراً، ومن أعطاني رئاسة ومنصباّ أحبّه، والذي لم يفعل استعديه، مع إن المفروض في المؤمن أن لا يجعل مقياس الرضا والسخط الا الحق، فإذا ما أعطاك بحق فعليك أن تحبّه، وإذا لم يفعل ذلك بحق عليك أن تحبه أيضا في الله« وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً » أي لا يغني من غضب الله عليهم شيئاً أو لا ينفعهم شيئاً.

(فقال له) أي قال الرجل (يا رسول الله وكيف لي أن أعلم إني قد واليت في الله؟ وعاديت في الله عزّ وجلّ، ومن وليُّ الله حتى أواليه؟ ومن عدوه حتى أعاديه؟) فأين هو التجسيد للحق وللعقل والفطرة و للامة الوسط؟ (فاشار له رسول الله (صلی الله علیه و آله) الى علي (علیه السلام)، فقال (صلی الله علیه و آله): «أترى هذا»، فقال: بلى، قال: «وليّ هذا وليّ الله فواله، وعدو هذا عدو الله فعاده، وال ولي هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك، وعاد عدو هذا ولو أنه أبوك وولدك».

إن علياً (علیه السلام)هو تجسيد للحق، وتجسيد لمصالح الأمة، بل هنا مظهر

ص: 322

ومجلى إرادة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» .

والبحث عن مقام ومنزلة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) لا تسعه الموسوعات ولا الأرضون والسماوات(1)، فلنكتف بالقول إن القرآن الكريم هو كتاب الله الصامت، وأمير المؤمنين هو كتاب الله الناطق، وهل فوق كتاب الله شيء؟ ولو إن الأمة القت اليه زمام أمورها «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُل-هم»، و«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »فإنا لله وإنا اليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، والعاقبة للمتقين.

نسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته ولخدمة دينه وعباده، إنه سميع الدعاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله على محمد واله الطاهرين.

ص: 323


1- يراجع (الغدير) و)عبقات الأنوار) و)ليالي بيشاور) و)فضائل الخمسة في الصحاح الستة) وغيرها.

ص: 324

الفهرس

ص: 325

ص: 326

الفهرس

مقدمة الناشر 5

المقدمة المنهجية للكتاب 7

أهمية البحث ومعضلته 7

غاية الدراسة وأهدافها 8

منهجيات الدراسة ومرجعياتها البحثية 9

نطاق الدراسة البحثية 10

هيكلية البحث في الكتاب 10

الفصل الأول

مقاربة في المدارس المجتمعية وعنوان المجتمع المدني 13

1- المدرسة الفردية (الرأسمالية والليبرالية) 15

2- مدرسة المجموع (الشيوعية) 16

3- المدرسة الاسلامية ومعالم الرؤية الإسلامية للفرد والمجتمع 17

(الغابة) ومثال الأبعاد المجتمعية الثلاثة 18

ص: 327

الإنسان وخلايا جسده في النموذج المجتمعي 19

رؤية الإسلام في المسؤولية الفردية والمجتمعية 20

(الأصل) الاجتماعي بين الفرد أو المجتمع والمبنى اللغوي لمفردته 21

التحقيق في إن (الأصالة) للفرد أو للمجتمع والاحتمالات الخمسة فيها 21

الاحتمالات الأربعة في معنى (الأصل) 24

تشريعات مصبّها الفرد وأخرى مصبها المجتمع 27

الصلاة والصوم و... مصبّها الفرد 27

الخمس والزكاة والأنفال مصبّها المجتمع 28

الحدود و التعزيرات وفلسفة القصاص 30

الأمر بالمعروف مصبّه المجتمع 32

التقية لها حالتان 33

مقاربة التداعيات في مقياس الفرد ومحوريته 33

الفصل الثاني

التعريفات المعاصرة للمجتمع المدني 37

التسميات المحتملة والشاملة لمنظمات المجتمع المدني 40

التسمية الأمثل للمجتمع المدني 41

أساس المجتمع المدني في الرؤية الإسلامية 44

ص: 328

الفصل الثالث

الجوانب الكمية والكيفية والاتجاهية في المجتمع المدني 47

مقدمات نطاق البحث في المجتمع المدني 49

الجوانب الكمية في منظمات المجتمع المدني 50

مجتمع المؤسسات ونسبته للسكان 50

الحاجات الكمية للمجتمع المدني 52

الجوانب النوعية في بنية المجتمع المدني 53

(العائلة)

المكوّن الأساس للمجتمع المدني 53

التنظيمات الاجتماعية الإرثية 54

موقف الشريعة من التنظيمات الإرثية 59

المسؤوليات الاتجاهية في المجتمع المدني 62

الفصل الرابع

مسؤوليات الافراد في منظومة الفكر الإسلامي 65

اتجاهات

المسؤولية المجتمعية في المجاميع الأربعة 67

1- مسؤولية الأفراد تجاه الأشخاص 68

2- مسؤولية الأفراد تجاه الجماعات الأخرى 68

ص: 329

3- مسؤولية الأفراد تجاه(جميع) أفراد الأمة 70

مسؤولية الفرد تجاه الغزو الأخلاقي 71

4- مسؤولية الأفراد تجاه الدولة 73

المسؤوليات المجتمعية للفرد في ضوء الروايات الشريفة 75

(السرور) المتجسد في عالم الآخرة 76

مجتمع(التنافس الإيجابي) 78

الفصل الخامس

مسؤوليات الدولة تجاه نفسها والفرد والمجتمع 83

المسؤوليات المجتمعية للدولة 85

1- مسؤولية الدولة تجاه الأفراد 86

-2 مسؤولية الدولة تجاه المؤسسات 87

تعريف هيجل للمجتمع المدني 88

-3 مسؤولية الدولة تجاه(المجموع) 92

4- مسؤولية الدولة تجاه ذاتها 94

ص: 330

الفصل السادس

مهام المجتمع المدني ومسؤولياته ومواصفات الجماعة المجتمعية 97

استضاءة قرآنية في الصيغة اللغوية لنسبة الفرد الى المجتمع 99

المسؤوليات المجتمعية للجماعة (مؤسسة المجتمع المدني) 102

المهامّ الثلاثة لمؤسسات المجتمع المدني 102

لا يجوز للدولة احتكار الخدمات 103

من الوصايا المجتمعية للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) 106

1- المسؤولية تجاه المكفوفين 106

2- المسؤولية تجاه المرضى 107

3 - المسؤولية تجاه المَدِين 108

4 - المسؤولية تجاه المكروب 109

5 - المسؤولية تجاه الاختلاف الأسري 109

خواص (الجماعات) ومواصفاتها 110

فقه (الجماعة) ومفردة الانشقاقات 111

التواصل الاجتماعي وبركاته على ضوء الروايات 112

-1 التزاور وآثاره وفوائده 112

-2 اجتماع المؤمنين وحضور الملائكة 114

ص: 331

-3 لتقاء الإخوان واستغاثة الشيطان 115

أين ينبغي أن يكون هذا التلاقي؟ وكم مرة بالشهر؟ 116

الفرد في الجماعة 116

الاجتماع والهالة 117

الفصل السابع

مسؤوليات الجماعة (مؤسسة المجتمع المدني) تجاه الجماعات الأخرى في القطاع الخاص 121

المجتمع المدني ودور القطاع الخاص والمؤسسات التجارية 123

باع غالياً فقطعت رجله! 127

مسؤولية الشركات تجاه الشركات الأخرى 129

الفلسفة الوجودية في تقنين المجتمع المدني 131

القطاع الخاص والإسهام المباشر وغير المباشر 132

أ - الإسهام المباشر في بناء البلاد 132

ب - الإسهام غير المباشر 133

ثقافة الخُمس الثاني! 134

الحقوق الشرعية ليست منحصرة بالزكاة 137

ص: 332

الفصل الثامن مسؤوليات الجماعات عن بعضها في المجتمع المدني ومبنى الولاية المتبادلة في مهامها 141

أ - مرض محورية الذات 143

فائدة الإمام الغائب 144

ب - مرض صنمية الجماعة 145

(المتحابون في الله) البلسم لجراحات

المجتمع المدني 146

من مقاييس التحابّ في الله 149

مقترحات عملية لتكامل مؤسسات المجتمع الإنساني 150

حجم التحديات يفرض التعاون والتكامل 152

مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني 151

مقاربة بحثية لمعاني مفردة (الولي) 155

الولاية المتبادلة في مهام ومسؤوليات المجتمع المدني 159

ص: 333

الفصل التاسع

مسؤوليات الجماعة (مؤسسات المجتمع المدني) تجاه الدولة 161

مسؤولية إيجاد الموازن الاستراتيجي للدولة 163

مسؤوليات المجتمع المدني الأربعة تجاه الدولة 164

مواجهة السلطان الجائر واجب على المجتمع المدني 165

الفصل العاشر

مسؤوليات المرأة والطفل المميز والولاية المجتمعية ل-هما في الرؤية الإسلامية 169

استلهامات قرآنية عن الدور المجتمعي للمرأة 171

مسؤولية (المرأة) في مقارعة السلطة الجائرة 174

الولاية العَرْضية للمؤمنين والمؤمنات 175

بعض الأصول الفقهية في ولاية المرأة 177

المسؤوليات المجتمعية للطفل المميز 180

المميز والحكم الوضعي والتكليفي 181

الفصل الحادي عشر

مهمة المجتمع المدني في درء التداعيات الداخلية والخارجية 187

المجتمع المدني ومواجهة التداعيات والأخطار الخارجية 189

ص: 334

المؤسسات الدولية العابرة للقارات 190

نماذج من المؤسسات الدولية العابرة للقارات 191

المجتمع المدني ودوره في مواجهة التداعيات الداخلية 197

التداعيات المجتمعية في تغيير كتلة العملة 198

مقارعة (الجائر) باللسان والأبدان وبالقلب أيضاً 200

المظاهرات الصامتة والرموز الناطقة 202

ذنب العامة وذنب الخاصة 204

عقوبة العلماء بصمتهم عن الظلم والمنكر 206

الفصل الثاني عشر

حكم العمل والعامل في الإسلام 209

هل في الإسلام تقاعد؟ وهل المسؤولية تتأطر بالموقع؟ 211

الإطلاق الأحوالي والأزماني لولاية المؤمنين 215

الفصل الثالث عشر

ضوابط ومواصفات مؤسسات المجتمع المدني السليم 217

ضوابط مؤسسات المجتمع المدني 219

الأعداء الأربعة للمجتمع المدني 223

1- أعداء الاقتصاد الوطني 223

ص: 335

2- أعداء النسيج الاجتماعي والاداري 226

3 - 4 أعداء الفكر والدين 228

الموقف الشرعي من أعداء المجتمع 230

الفصل الرابع عشر الموقف

من المؤسسات الهدامة للمجتمع المدني وسبل العلاج 233

الموقف الشرعي الحازم تجاه الجهات الهدامة 236

النقمة الالهية لا تختص بالمنحرفين والمخربين 236

النقمة تعم الأصدقاء والجلساء 237

منهج التشكيك 239

اجتماعات الجاحدين يحضرها عشرة أضعافهم من الشياطين! 240

مجالسة المنحرفين ومدحهم 243

الخطط المركبة 245

الفصل الخامس عشر

مسؤوليات المجتمع المدني عن مستقبل الأمة والأجيال الصاعدة 249

المسؤولية عن الحاضر والمستقبل: 251

المسؤولية (عن المستقبل) و(في المستقبل) 252

المسؤولية تجاه الأجيال القادمة 254

ص: 336

المسؤولية عن جميع ومجموع الأمة 255

الاتجاه العام للأمة 255

حركة الأمم تصاعدية أم تنازلية أم دورانية 256

من مقاييس الحركة التنازلية والتصاعدية 256

أ - الأزهد والأشد عبادة هو الأنصح جيباً 260

ب - الأنفع للخلق هو الأحب للرب 261

الفصل السادس عشر

المنظور الديني لمسؤولية المجتمع المدني تجاه مجموع الأمة والتقييم الاستراتيجي للحالة العامة 263

الأمر بالمعروف واجب عيني أو كفائي 265

الدور الاستراتيجي للمؤسسات العابرة للقارات 269

الرصد والتقييم الاستراتيجي للحالة العامة للأمة 271

أ - تفكك العوائل 272

ب - المخدرات 272

ج - انخفاض مستوى التعليم 273

د - مستقبل الشباب الضائع 274

البقيع وسامراء المقدسة والربيع العربي 275

ص: 337

الفصل السابع عشر

مسؤوليات الجماعة (مؤسسة المجتمع المدني) تجاه الأفراد 279

مسؤولية الجماعة تجاه الفرد 282

مسؤوليات الجماعة تجاه الأفراد واستراتيجية الاهتمام بهم 284

الفصل الثامن عشر

أخطار (النيوليبرالية) والمؤسسات التخريبية 287

مخاطر المؤسسات المعادية للمجتمع المدني وأنواعها 289

أ - المؤسسات المحلية الهدامة 289

ب - النيوليبرالية وآثارها الاقتصادية المدمّرة 290

برنامج عمل (النيوليبرالية) 290

فكرة الربح (لا الأخلاق) هو جوهر الديمقراطية 293

الرؤية الإسلامية في علاقة الفرد بالمجتمع 295

الفصل التاسع عشر

التوكيل والتفويض في (الولاية) والتكاملية في العناوين الاعتبارية 301

الحقوق والواجبات التي لا تقبل التفويض أو تقبله 303

1- الحقوق والواجبات التي لا يمكن تفويضها 303

ص: 338

2- الحقوق والواجبات التي يمكن تفويضها 304

هل (الولاية) تقبل التوكيل أو التفويض؟ 305

تكاملية العناوين الاعتبارية أو تزاحمها 307

الفصل العشرون

الكاشفية عن روح الأمة و تجسيداتها في المسؤوليات المجتمعية للمجموع 311

محاور البحث في المسؤوليات المجتمعية للمجموع 313

الكواشف عن ضمير الأمة وبُؤَر تركيز المجموع فيها 314

1- الشهرة 314

2- الشياع 315

3- الارتكاز 316

4- الاستبيان والاستطلاع 317

محطات تجسد إرادة الأمة وضميرها 318

القادة الجماهيريون ومراجع التقليد 319

خاتمة الكتاب

من يشكّل المرجعية العظمى للأمة؟ وما هو مقياس الحق والباطل؟ 321

الفهرس 327

ص: 339

كتب اخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

8. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

ص: 340

12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.

17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

18. توبوا إلى الله، مطبوع.

19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

23. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

24. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

25. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً،

ص: 341

مطبوع.

26. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث اصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، مطبوع 27. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

28. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

29. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

30. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

31. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

33. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

35. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.37. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة،

ص: 342

مطبوع.

38. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

39. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

40. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

41. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

42. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

43. بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مطبوع.

44. التبعيض في التقليد، مخطوط.

45. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

46. التقليد في مبادئ الاستنباط، مطبوع.

47. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

48. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

49. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

50. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

51. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

ص: 343

52. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

53. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

54. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

55. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

56. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.57. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

58. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

59. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

60. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

61. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

62. الحوار الفكري، مطبوع.

63. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

64. قاعدة اللطف، مخطوط.

ص: 344

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.