توبوا إلى الله بحث حول التوبة حسب منهج التدبر القرآني
محاضرات السید مرتضی الحسیني الشیرازي
حقوقه الطبع محفوظة
الطبعة الثانية
1443 ه - 2022 م
منشورات:
موسسة التقی الثقافیة
النجف الأشرف
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
حقوقه الطبع محفوظة
الطبعة الثانية
1443 ه - 2022 م
منشورات:
موسسة التقی الثقافیة
النجف الأشرف
7810001902 00964
m-alshirazi.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿1﴾
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿2﴾ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿4﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴿7﴾
ص: 4
اَللّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَعَلى آبائِهِ فی هذِهِ السّاعَةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلیلاً وَعَیْناً حَتّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً.
ص: 5
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
قال اللهُ تعالى في محكم كتابِه: «يَرْفَعْ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(1).
وروي عن الإمام الهمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): «علماءُ شعيتِنا مُرابطونَ في الثغرِ الذي يَلي إبليس وعفاريتَه يَمنعونَهم عن الخروجِ على ضعفاءِ شيعتِنا وعن أنْ يتسلّطَ عليهم إبليسُ وشيعتُهُ»(2).
لا يخلو أي عصر من الأعصار من أنْ توجد فيه ثلّة من العلماء الكرام , يتخرّجون من مدرسة أهلالبيت (علیهم السلام) ويضطلعون بالقيام بمسؤلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرشدون الناس إلى ما فيه صلاحهم و فلاحهم في الدنيا والآخرة، وينفضون عن التراث العظيم ركام السنين، ومن هؤلاء العلماء الأفاضل آية الله السيد مرتضى الشيرازي (حفظه الله) نجل المرجع
ص: 7
الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (قدس سره).
وقد مَنَّ اللهُ تعالى به علينا ونحن كوكبة من طلبة العلوم الدينية في حاضرة العلم الكبرى النجف الاشرف؛ حيث افتتح بنا درسه الخارج في (الفقه) و(الأصول) إضافة إلى دروس في (تفسير القران الكريم) في المدرسة الغروية في الصحن العلوي المقدس؛ حيث المرقد الطاهر لإمام المتقين, ووصي رسول ربِّ العالمين الامام علي بن ابي طالب (عليه صلوات المصلّين).
وقد بدا لي أنْ أُقرّر درسه التفسيري فعرضت الامر على سماحته فحبّذ إليَّ ذلك فأجبته شاكراً له حُسن ظنه ولطفه بي،سائلاً المولى تعالى أنْ يوفّقني لانجاز هذا العمل وإتمامه وإكماله، نشراً لمعارف القرآن المجيد , وابتغاءً لوجه الله الكريم , وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثمَّ وافق سماحته على طباعة بعض هذه التقريرات بعد اطّلاعه عليها وإبداء عدد من الملاحظات عليها، على أنْ تتبعها البقية بمشيئة الله تعالى.
فنحن بين يدي بحوث قيمة ومواعظ وحِكَم وأفكار جرى استلهامها من الآيات القرآنية الكريمة، فمن الجدير التأمل فيها والتزود منها، وما توفيقي إلاّ بالله تعالى عليه توكلت واليه أُنيب.
هادي الإسماعيلي
النجف الأشرف
1433ه \ 2012م
ص: 8
الحمد لله ربِّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين.
ثمَّ الصلاة والسلام على سيدنا ونبيِّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
إنَّ مناهج التفسير متعددة ومختلفة، فهناك المنهج العقلي وهناك المنهج النقلي، وفي نظرة أكثر استيعاباً وتدقيقاً: هناك منهج تفسير القرآن بالقرآن وهناك منهج تفسير القرآن بالمأثور، وهناك التفسير العلمي، كما هنالك التفسير(الاشاري) بأنواعه من تفسير عرفاني، أو صوفي أو باطني أو شهودي. كما أنَّ هنالك تفاسير تتمحور حول (التنزيل) وأخرى تتمحور حول (التأويل) وليس
ص: 9
ههنا موضع بحثها، إلّا أنّ منهجنا في التفسير في هذه السلسلة من المباحث، وفي التدبّر في القرآن الكريم، يعتمد غالباً على منهج التفسير بالتعليل مع مزيج انتقائي من التفسير بالقرآن وبالمأثور والعلم والعقل حسب موطن الحاجة، وقد نتطرق للتأويل أحياناً، إلاّ أنَّ الطابع العام يبقى هو منهج التفسير بالتعليل، وإن استند إلى إحدى تلك المصادر الأربعة(1).
وهذا المنهج في تصورنا لم يعطَ حقّه، ولذا حاولنا أنْ نركّز في مباحثنا القرآنية على هذا المنهج، أي التفسير بالتعليل، ونعني بذلك ذكر العلل أو الحِكَم المختلفة التي يمكن أنْ تذكر لهذا التشريع، أو لهذه الموعظة، أو لإنتقاء هذهالمفردة دون غيرها، أو لإختيار هذا الموقع، أو لتفصيل هذا اللون من التسلسل المنطقي أو ذلك النوع، أو غير ذلك.
هذا هو المنهج الذي نعتمده كأساس في هذه السلسلة من المباحث إن شاء الله تعالى.
كما أنَّ هذه المباحث هي عبارة عن سلسلة محاضرات، كان الغرض منها أن تجمع - إلى حدٍّ ما - بين الخطاب الجماهيري والخطاب التخصصي.
ولعلَّ الباري تعالى يوفِّق لكتابة تفسير تخصصي على ضوء هذا المنهج إنَّه الموفق المستعان.
ص: 10
وأمّا البحث عن (التوبة) فهو بحث يتعلّق بعلوم عديدة؛ فهو يتعلّق من جهة ب(علم الفقه) نظراً لوجود أحكام شرعية فرعية عديدة تتعلّق بالتوبة، وهو من جهة ثانية يرتبط ب(علم الأخلاق) نظراً لارتباطه بتهذيب النفس وتقويم السلوك وسموِّ الذات، كما أنَّه يرتبط أيضاً ب(علم الكلام) من جهة ثالثة نظراً لأنَّه يبحث عن العلاقة بين العبد وبين ربِّه؛فإنَّ موضوع علم الكلام هو المبدأ والمعاد، ولذا نجد علماء الكلام والعقائد يبحثون عن (التوبة) في كتبهم الكلامية كالتجريد وشروحه، وحقِّ اليقين وكفاية الموحدين وغيرها، كما أنَّه يرتبط ب(علم التفسير) من جهة رابعة نظراً لأنَّ الكثير من الآيات القرآنية تدور حول التوبة وما يتعلّق بها.
وسنركّز في الغالب على مزيج من البحوث التفسيرية -- الأخلاقية، مع إشارات للجانبين الآخرين أيضاً.
ومن الله تعالى نستمدُّ التوفيق والتسديد والعون والبركة إنّه سميعٌ مجيب.
النجف الأشرف
مرتضى الشيرازي
ص: 11
ص: 12
ص: 13
ص: 14
بسم الله الرحمن الرحيم
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِير»(1).
هناك الكثير من البصائر القرآنية التي يمكن أنْ نستنير بها في هذه الآية الشريفة من سورة التحريم لبيان وجوه توجيه الخطاب الشريف فيها إلى المؤمنين دون غيرهم؛ إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ».
فإنَّ الخطاب في هذه الآية الشريفة وجّه إلى المؤمنين، حيث قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل المولى جلّ اسمه (ياأيها الناس)، مع أنَّ جميع الناس مكلّفون بالتوبة والإنابة، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما هم
ص: 15
مكلّفون بالأصول.
فلماذا خصَّ الله تعالى المؤمنين بالخطاب؟
الجواب:
يمكن أنْ يجاب عن هذا التساؤل بوجوه عديدة نذكر منها:
الوجه الأول: إنَّ المؤمنين أقرب إلى الاستجابة من غيرهم لذا وجّه الخطاب إليهم.
وتوضيح ذلك:
لنفترض أنَّ أحدهم كان جالساً في مجلس يضمُّ مؤمنين وكفاراً ومنافقين، وأراد الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، لدخول وقتها مثلاً، فإنَّه كثيراً ما يوجه الخطاب للمؤمنين ويقول لهم: هلمّوا لنذهب إلى المسجد، ولا يوجّه هذا الكلام إلى الكفّار أو المنافقين، إذا كان لا يتوقع منهم الإستجابة.إنَّ المؤمن هو الذي يستجيب أو أنَّه أقرب للاستجابة لذا وجّه الخطاب إليه، أمّا غيره فهو ممّن لا يستجيب أو أنَّه أبعد عن الاستجابة.
لكنْ (إثبات الشيء لا ينفي ما عداه)، فلا يعني توجيه الأمر بالتوبة إلى المؤمنين عدم شمول الحكم لغيرهم.
ص: 16
الوجه الثاني: إنَّ المؤمنين هم (الأحبُّ) إلى الربِّ تبارك وتعالى.
وتوضيح ذلك:
لو كانت في منطقة ما شخصية محبوبة ومحترمة جداً، كما لو كان هنالك أحد العلماء الربانيين مثلاً، فإنَّ الجميع يحبُّ أنْ يخدمه، لأنَّ الإنسان بطبعه يحب أنْ يخدم الأولياء الصالحين، ولكنْ هذا الولي - مع تطلّع الكلِّ إليه - إذا أراد شيئاً طلبه من الأقرب إليه، والأحبِّ لديه عادةً .
إذن فحوى هذا الوجه هو: إنَّ المؤمن حبيب الله، والأقرب إليه،والله تعالى حينما يخاطبه فلمزيد عنايته به، ولطف توفيقه له، ولا ينافي ذلك مخاطبة غيره في مواطن أُخرى، كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ»(1).
الوجه الثالث: إنَّ في ذكر صفة (الإيمان) وتوجيه الخطاب للمتّصف بها، إشعاراً بالعليّة، أيْ بسببية الإيمان للتوبة، ولو بنحو الاقتضاء.
وتوضيح ذلك:
ص: 17
إنَّ (توبوا إلى الله) أمر، وإنَّما وجّه الأمرإلى المؤمنين خاصة، لأنَّ الإيمان يقتضي التوبة، فكأنَّه قال: أيها المؤمن لأنَّك تؤمن بالله فتبْ إليه وارجع، أمَّا من لا يؤمن بالله تعالى فلا يؤمر بالرجوع من هذا الحيث؛ إذ أنَّه لا يؤمن بوجود الخالق أصلاً، وإنْ كان يصحُّ توجيه الأمر إليه، لا من هذا الحيث بل من جهة علوِّ الآمر واستعلائه ومقام مولويته الحقيقية.
إنَّ العلاقة بين الإيمان والتوبة هي علاقة السببّية والمسببيّة، فإنَّ الإيمان عامل وباعث نحو التوبة وسبب لها، وعلى ضوء ذلك فإنَّنا قد نكتشف وبالبرهان الإنَّي: أنَّ من لم يتب إلى الله، ولم يلحَّ على نفسه بالتوبة، فليس بمؤمن بنفس ذلك القدر وعلى حسب درجات الإيمان.
فمن يغتاب الناس، ويتهمهم، ويكذب، ويغش، ويعمل المنكرات، وهو لا يبالي، فإنَّ في إيمانه نظراً؛ لأنَّ الإيمان كلّما اشتدَّ وقوى كلمّا اقتضى من الإنسان تمنُّعاً عن المعاصي وإتقاءً لها، ثمَّ إذا زلّت قدمه - لا سمح الله - اقتضى منه إيمانه توبة ورجوعاً إلى الله تعالى.
فالمؤمن إذا خانته عينه بنظرة إلى امرأة أجنبية، فإنَّ ذلك سيؤرّقه، وسيلوم نفسه ويعاتبها أشدَّ العتاب، وهكذا عندما يكذب أو يغتاب، أو يضرب ولده أو زوجته ظلماً، أو غير ذلك من المحرمات، فإنَّه سيتوب حقاً، ويصمّم على عدم العود، ويلحُّ
ص: 18
بالدعاء والاستغفار.أمّا إذا لم يبالِ، وكان ممّن تمرُّ عليه هذه الأمور مرور الكرام، فليعلم أنَّ في إيمانه خللاً، وعليه بمراجعة نفسه قبل فوات الأوان.
ينقل عن بعض أحوال السيد البروجردي (قدس الله سره) أنَّه كان سريع الغضب، رغم أنَّه لم يكن يتجاوز عند غضبه حدود الشرع، ففكّر في نفسه ذات يوم، أنَّ هذا الأمر لايليق به وبمكانته الدينية، وأنَّ عليه أنْ يكون قمة في الحلم والسكينة والوقار، فقرّر أنْ ينذر لله: أنَّني إذا غضبت مرة أخرى فسأصوم سنه كاملة، وبعد ذلك غضب مرتين، فصام سنتين كاملتين وفاءً لنذره ومجاهدة لنفسه، رغم أنَّ هذا كان في شيخوخته المباركة.
وهذه عقوبة قاسية وصعبة جداً، ولكنَّ المؤمنين يسعون بكلِّ جهدهم لإصلاح نفوسهم، وتقوية ملكاتهم، ولا يتركون الحبل على الغارب.
ص: 19
وفي الرواية : «قَالَ رَسُولُاللَّهِ (صلی الله علیه و آله): يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ تَحْتَ صَخْرَةٍ يَخَافُ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِ وَالْكَافِرَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ ذُبَابٌ مَرَّ عَلَى أَنفِهِ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً جَعَلَ الذُّنُوبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُمَثَّلَةً يَا أَبَا ذَرٍّ لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»(1).
وفي رواية يرويها الكليني (رحمه الله) في كتاب الكافي:
«عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً أَجَّلَهُ اللَّهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ وَإِنْ مَضَتِ السَّاعَاتُ وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُذَكَّرُ ذَنْبَهُ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ فَيَغْفِرَ لَهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيَنْسَاهُ مِنْ سَاعَتِهِ»(2).
فالمؤمن يتذكّر ذنوبه، ويبكي على اقترافها، ولا يسمح لنفسهبالإسراف في الذنوب، ولا ينسى ذنبه ولو كانت معصية طفيفة، لأنَّه ينظر إلى عظمة من عصاه وجبروته، لا إلى صغر المعصية كما تبدو في بادئ النظر.
روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربعة في الذنب شرٌّ من الذنب: الاستحقار، والافتخار، والاستبشار، والإصرار»(3).
فينبغي للإنسان أنْ لا (يستحقر) ذنبه، وأنْ لا يعتبره صغيراً أبداً، وعليه أنْ لا (يفتخر) أمام الآخرين بمعاصيه وموبقاته، كما نسمع عن بعض أهل الفسق والفجور، اذ أنَّهم يتباهون ويفتخرون فيما بينهم على ما ارتكبوه من المآثم، بل قد يتنافسون على ارتكاب الموبقات، والعياذ بالله.
ص: 20
ولا (يستبشر) مع نفسه ويفرح ويتلذذ كلما تذكّر ذلك الذنب، أو (يصرّ) عليه، وقد ورد في روايات أهل البيت(1) (علیهم السلام) إن الله تعالى يطّلع على عبده، فإذاوجده على معصية، فقد يسخط عليه، فلا يرضى عنه أبداً، وأحياناً يطّلع على عبده فيراه على طاعة، فيرضى عنه، فيسعده أبداً.
نام أحدهم على سطح داره، وفي السحر جاءته ذبابة مشاكسة، وبدأت تزعجه فطردها فعادت إليه، ثمَّ طردها فعادت إليه، وهكذا حتّى إذا عادت في المرة الرابعة خاطب ربَّه متذمراً: ياربِّ إنْ كنتَ أرسلتَ إليَّ هذه الذبابة لكي أصلّي صلاة الليل، فإنَّي لنْ أصلّي صلاة الليل!.
فذهبت الذبابة، وغرق المسكين بالنوم، حتى أشرقت الشمس ولم يصلِّ صلاة الصبح، وكان من الخاسرين، والآن لنتدبّر: ألمْ يكنْ ذلك - أي حرمانه من صلاة الصبح أيضاً - عقوبة له على سوء أدبه مع ربِّه؟
الوجه الرابع: وهو ما ترشدنا إليه مادة (التوبة)(2)، فإنَّالتوبة تعني الرجوع، وتاب إليّه: أي رجع إليه وأناب، وإذا كان كذلك،
ص: 21
فالتوبة تستبطن - في مرتبة سابقة - القرب ثمَّ البعد ثمَّ العودة، فإذا حصل البعد لمن كان قريباً فعندئذٍ يقال للمبتعد تُبْ وعُدْ.
وتوضيح ذلك:
إنّ الكافر مثلاً لايقال له - بلحاظٍ وبوجهٍ - : تُبْ، إذ لم يكن قريباً من الله تعالى أصلاً، أمّا المؤمن فهو قريب من سيِّده ومولاه، فإذا عصى فقد ابتعد عن ذلك القرب، فيأتيه الخطاب: أنْ تب (إرجع) وعد إلى ما كنت عليه من القرب، وكنْ من الصالحين.
نعم قد يخاطب الكافر بالتوبة والرجوع، ولكنْ ذلك من باب التوبة التكوينيّة بلحاظ الفطرة، أي إنَّ فطرته تقتضي أنْ يكون مطيعاً لله تعالى، ولكنَّه ابتعد عنها فيؤمر بالرجوع، وهذا اعتبار آخر غير ما نحن فيه(1)، وهو اعتبار دقيق.
وفي ختام المبحث، نذكر هذه الرواية الواردة في تفسير الصافي الشريف(2)، للفيض الكاشاني (رحمه الله):
«...في تفسير الإمام العسكري (علیه السلام)(3)، لما زلّت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربِّه عزَّ وجلَّ قال: يا ربِّ تُبْ عليَّ واقبل معذرتي وأعدني إلى مرتبتي وارفع لديك درجتي فلقد تبيَّن نقص
ص: 22
الخطيئة وذلّها بأعضائي وسائر بدني. قال الله تعالى يا آدم أمَا تذكر أمري إيِّاك بأنْ تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك وفي النوازل التي تبهظك؟ قال آدم: يا ربِّ بلى! قال الله عز وجل: فبهم(1)، بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) خصوصاً فادعني أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك(2).فقال آدم (عليه السلام): يا ربِّ يا الهي وقد بلغ عندك من محلِّهم أنَّك بالتوسل بهم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي وأنا الذي أسجدتَ له ملائكتك وأبحتَه جنتك وزوجتَه حواء أمتَك وأخدمته كرام ملائكتك؟
قال الله تعالى: يا آدم إنَّما أمرت الملائكة بتعظيمك، وبالسجود لك، إذ كنتَ وعاء هذه الأنوار ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أنْ أعصمك منها وأن أفطنك لدواعي عدوك إبليس حتى تحترز منها لكنتُ قد جعلتُ ذلك، ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقاً لعلمي، فالآن فبهم فادعني لأجيبك.
فعند ذلك قال آدم (علیه السلام): اللّهم بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم (علیهم السلام) لما تفضلّت بقبول توبتي وغفران زلّتي وإعادتي من كرامتك إلى مرتبتي. فقال الله عزَّ وجلَّ: قد قبلت توبتك وأقبلت برضواني عليك وصرفت آلائي ونعمائي إليك واعدتك إلى مرتبتك من كراماتيووفرت نصيبك من
ص: 23
رحماتي فذلك قوله عز وجل: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)».
1: أذكر وجهين من وجوه توجيه الله الخطاب في الآية « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» للمؤمنين دون غيرهم؟
2: ما هي العلاقة بين الإيمان والتوبة؟
3: ماذا تعني كلمة (التوبة)؟
4: ما هو الدعاء الذي دعا به آدم، حتى غفر الله له خطئيته؟
5: ماذا يقصد المؤلف (دام ظله) بالتوبة التكوينية بلحاظ الفطرة؟
ص: 24
ص: 25
ص: 26
في هذه الآية الشريفة هناك محطات عديدة للتأمّل وللتزود، وفق منهج التفسير بالتعليل، وذلك عبر البحث عن العلل أو الحِكَم الكامنة وراء كلِّ كلمة كلمة، ولكنْ نتوقف هنا عند كلمة (عسى) فقط.
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هذه المفردة، وهي مفردة (عَسَى)؟ رغم أنَّ ذلك قد يواجَه بمشكلة كلامية - عقدية، وهي أنَّ (عَسَى) - كما نعلم - فيها نوع من الترجّي والاحتمال واللا يقين واللا إطمئنان، مثل (لعلَّ) كقولنا (لعل الله يرزقني صلاحاً) كما في البيت المعروف(1).
ف(عَسَى) مثلَ (لعَلَّ) تفيد أنَّ الإنسان غير قاطع بالنتيجة وبالمآل وبالتالي لهذا المقدَّم، فيستخدم - عندئذٍ - كلمة (عَسَى) وهي تفيد الاحتمال بالدلالةالتضمنية، وكما أنّها تفيد الرجاء؛ فيها طمع أيضاً.
وهذه المعاني كلُّها منتفية عن الله سبحانه وتعالى، فكيف يقول الله تعالى «عَسَى ربُّكُم»؟ مع أنَّ الله تعالى يعلم الحقائق كلَّها، ويعلم أنَّه هل سيكفّر سيئاتهم ويدخلهم الجنة، أوْ لا يفعل
ص: 27
ذلك، فكلُّ شيءٍ عنده منكشف - كما هو واضح - بالعلم الحضوري - حسب ما يقولون - أو بنحو آخر نجهله؛ فانّنا نعلم أنَّه ليس بجاهل، لكن (نحوَ علمِهِ) لنا مجهول، أي حقيقة ونوعية وماهية(1) علمه ممّا لا نعلمها ولا يمكن أنْ نعلمها أبداً، لأنَّ علمه عين ذاته، وكما تستحيل الاحاطة بذاته كذلك الاحاطة بكُنه علمه، وهذا بحث يذكر في محله.
والحاصل: إنَّه في الله سبحانه وتعالى لا يوجد إحتمال، ولا يوجد طمع، ولا يوجد ترجي، ولا ما أشبه ذلك.
فهذا السؤال يمكن أنْ يجابعنه بوجوه عديدة، ذكر بعضها بعض المفسرين، وأضفنا وجوهاً أربعة، فمجموع الوجوه التي يمكن أنْ يجاب بها هذا السؤال، تسعة:
الجواب الأوّل: ما ذكره العديد من المفسِّرين(2) وهو:
إنَّ المراد من أمثال «عَسَى» هو (المدلول الإلتزامي) وليس المدلول المطابقي؛ لأنَّ إرادة المدلول المطابقي خطأ بحقِّ الله تعالى بل لا يعقل فيه ذلك، إنَّما المراد هو المدلول الإلتزامي ل«عسى». توضيح ذلك:
ص: 28
إنَّ اللفظ تارة يطلق ويراد به لازمه، وذلك مِثل «غَضِبَ»؛ فإنَّ الغضب من الحالات النفسية، وهو من الحوادث، والله سبحانه وتعالى ليست له حالات نفسية ولا هو عرضة للحوادث، فعلى هذا فإنَّ «غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ» تعني: أنَّ نتيجة الغَضَب ولازمه حقّقه فيهم، وهو العقوبةأو الانتقام، فعندما يقول سبحانه: «غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ» فإنَّ المعنى أوقع بحقهم العقوبة؛ أي: إنَّ لازم الغضب هو المراد وليس الغضب في حدِّ ذاته.
فحسب كلام هؤلاء المفسِّرين في تحليل مختلف أمثال هذه الصفات، إنَّها إذا أُسندت إلى الله سبحانه وتعالى يراد بها اللازم، و«عسى» في الآية الكريمة نتيجتها وما يترتب عليها هو وقوع المرجو، ف«عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» يعني: إذا تبتم سيقع هذا اللازم، أي سيقع من الله تكفير السيئات عنكم.
وهذا نظير استخدام الأفعال الناقصة في الله تعالى، مثل: (كان الله ولم يكن معه شيء) و(كان الله غفوراً رحيماً)، حيث إنَّها عندما تستخدم في الله جلَّ وعلا تُجرَّد من معنى الزمان، إذ ليس المعنى قطعاً: كان الله غفوراً رحيماً في زمان ومن ثمَّ لم يكن، بل هو دائماً غفور رحيم شكور ودود.
الجواب الثاني: إنَّ استخدام كلمة «عسى» في المقام إنَّما هوبلحاظ حال القابل لا بلحاظ حال الفاعل، أي بلحاظ حال الإنسان
ص: 29
لا بلحاظ مقام الربِّ تعالى(1).
وبتعبير آخر: الهدف من اختيار مفردة (عسى) هو أنْ يُوجِدَ فيك الرجاء، لا أنَّه هو الراجي. لكنْ عبَّر عن ذلك بهذا التعبير الأدبي الرائع، يعني أنَّه بدل أنْ يقول: فَكُن راجياً أيها الإنسان إنْ تبت، قال: (عسى ربُّكم)، وما أروعه من تعبير.
إذن الجواب الثاني هو: أن «عسى» والترجي والاحتمال، بلحاظ حال الإنسان لا غير.
وتوضيح ذلك بمثال:
إنَّ الأب مع أنّه يعرف إبنه جيداً، وأنَّه ذكي جداً، وأنَّه لو دخل الجامعة لحققّ النجاح، ولكنَّه مع ذلك قد يقول له: إذهب لهذه الكليّة الخاصّة عسى أنْ تنجح في الامتحان فأعطيك جائزة كبرى. فلماذا يقول له هذا الكلام؟ لإنّه إذا قال له بأنَّه قطعاً سوف ينجح في الامتحان، فلعلَّ الابن سيتواكل وسيتكاسل،فقوله (عسى) بلحاظ القابل: أي قوله (عسى أن تنجح) وهو يعلم أنَّه سينجح. لكنَّه إنَّما قال ذلك لحكمة، وهي أنْ يُجِدَّ هذا التلميذ في الدراسة أكثر.
ويمكن التمثيل بعكس ذلك، كما لو كان يعلم بأنّ إبنه حتماً سوف يرسب في الامتحان، ولكنَّه مع ذلك يقول له: أدرس، عسى أنْ تنجح في الامتحان. لِمَ؟ لكي تبقى جذوة الأمل فيه مشتعلة، علّه
ص: 30
يحصل على درجة ثلاثين بالمائة بدلاً من عشرة بالمائة مثلاً.
الجواب الثالث: ما ذكره الفيض الكاشاني في تفسيره (الصافي)(1)، هذا التفسير القيّم حقّاً، وسنوضّح كلامه في كلمتين: إنَّ الله سبحانه وتعالى قال: «عسى» لكي يكون الإنسان بين الخوفِ والرجاء؛ لأنَّ الإنسان لا يصلحه إلاّ الخوف أو الرجاء - في علم الله سبحانه وتعالى - فإذا زاد رجاء الإنسان عن الحدِّ فإنَّه سيبطر - عادة - أي تبطره النعمة ويطغىويعصي، وكذلك إذا زاد خوفه عن الحدِّ الطبيعي، فإنَّ ذلك قد يوجد فيه حالة من اليأس والقنوط من رَوْح الله؛ لذا فإنَّ المطلوب من المؤمن أنْ يكون الخوف والرجاء فيه متساويين ومتوازيين.
وهناك رواية تقول: «ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران، نور خِيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(2). هكذا المؤمن يجب أنْ يكون دائماً بين الخوف والرجاء، في طاعاته وعند معاصيه أيضاً، لا سمح الله.
ينقل أنَّ أحد الزهّاد والعبّاد في إحدى المدن المقدسة كان يزور الإمام الحسين (علیه السلام) زيارة يغبطه عليها الناس لكمالها وحسنها ولِما
ص: 31
كان يتمتع به من خضوع وإقبال، فالتقى به أحد المؤمنين في الطريق وقال له: هل لك أنْ تبيعني إحدى زياراتك؟! فرفض أنْ يبيعه، فأصرَّ عليه إصراراً شديداً وزاد فيالمبلغ وتوسّل به بإلحاح، ففكّر ذلك العابد في نفسه أنَّه من الخسران أنْ يبيع حتّى إحدى تلك الزيارات، لكنْ ذلك المؤمن ألحَّ عليه بألسنة شتّى، ففكّر مرة أخرى في نفسه ثمَّ قال له: عندي زيارة هي بسيطة جداً، لو أردتها!
فقبل الرجل لأنَّه كان يرجو أنْ يشتري أية زيارة كانت من زياراته، وكما روى فإنَّ تلك الزيارة كانت: أنَّه في أحد الأيام قام من منامه في منتصف الليل فوجد نفسه مجنباً فخرج للحمام - خارج المنزل - لكي يغتسل، وفي طريقه شاهد القبّة المنورة، فتردد أنْ يسلّم على الإمام وهو في هذه الحالة؛ لأنَّه لم يكن على طهارة، وهذا نوع من المعرفة، فقد جاء شخص إلى الإمام الصادق (علیه السلام) ولم يكن قد اغتسل فردعه الإمام وقال له: «أما تعلم أنَّه لا ينبغي لجنب أنْ يدخل بيوت الأنبياء والأوصياء»(1).المهم إنَّ هذا الزاهد ترددَّ في البداية ثمَّ سلَّم بسلام سريع ومقتضب، وكلُّه خجل وحياء، فباعه هذه الزيارة السريعة البسيطة المقتضبة، وبعد فترة توفى هذا الزاهد، فشوهِد في المنام بعد ذلك فقال: إنَّ الله لم يتقبّل أيَّة زيارة من زياراتي إلّا تلك الزيارة التي بعتها! فلماذا لم يتقبّل إلّا هذه؟ الذي يبدو أن السبب في ذلك هو
ص: 32
أن الزيارة تلك كانت على خوف ورجاء، وأمّا سائر الزيارات فقد خالطها عجب أو رياء!
ومن نافلة القول أنْ نشير ههنا إلى أنَّ زيارة المعصومين (علیهم السلام) شرف عظيم وفخر ومجد وأيُّ فخر وأيَّ مجد! إذ منْ نحن حتّى نكون بمحضر الإمام المعصوم ونسلّم عليه ويجيبنا أيضاً؟ فكم هو لطف منه؟ وكم هو كرم منه، أنْ يقبلنا ضيوفاً في بيوته ولو للحظات! فعلى الإنسان أنْ يتجسّد هذه المعاني في ذاته، وعليه أنْ يطهّر قلبه إذا حضر في تلك المشاهد، وليعلم أنَّه في محضرأيِّ عظيم هو؟ وعندها ستكون عنايتهم (علیهم السلام) به أكثر وأكثر وأكثر.
إذنْ فإنَّ السرَّ في قوله تعالى: «عَسَى رَبُّكُمْ»، لعلّه لأجل أنْ نكون بين خوف ورجاء، فحتّى لو أنَّك قمت بأفضل الأعمال وأعطيت أكبر العطاء وتهجدت أفضل التهجّد، عليك مع ذلك أنْ لا تفرض على الله شيئاً فلعلَّ الله لمْ يقبل ذلك العمل.
وهنا نستنتج نتيجة أخرى معاكسة وهي: إنَّ الإنسان عليه أنْ لا يستهين بالأعمال البسيطة الصغيرة، فقد يصادف فقيراً في الطريق يطلب منه ديناراً - مثلاً -، فيستثقل ذلك، ولكنَّه لو تأمّل قليلاً وتفكّر في نفسه فإنَّ هذا العمل الضئيل - ظاهراً - لعل الله سيتقبَّله منه ويرفع به درجته، فعندئذٍ سوف لا يزهد في أيِّ عمل خير يمرُّ به، فعلى الإنسان أنْ لا يستثقل ولا يستقلّْ من عمل الخير، فلعلَّ هذا العمل البسيط العادي سيقبله الله منه ولا يقبل غيره.
ص: 33
وفي المقابل فإنَّ حال (المعاصي) و(الذنوب) كذلكأيضاً، ففي رواية عن الرسول (صلی الله علیه و آله) يقول: «إنَّ العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنَّه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن»(1).
فلاحظ هذا العقاب ولمدة مئة عام، على ذنب واحد من ذنوبه!
إنَّ بعض الناس يستهزئ - أحياناً - بشخص وهو فرح بذلك مسرور، أو يجرح بمرِّ القول أصحابه أو زوجته أو أولاده أو أيَّ أُناس آخرين، وهو غافل عن أنَّ (أشد الذنوب ما استهان به صاحبه) (2)! فكيف لو سرق أو ظلم أو ضرب وغير ذلك.
إنَّ آدم (على نبينا وآله وعليه السلام) عظيم جداً جداً، ولكنَّه عندما ترك الأولى سقط من مقام القرب، فكيف بنانحن؟
إذنْ الجواب الثالث عن الوجه في قوله تعالى: (عسى) هو أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أنْ يكون الإنسان بين الخوف والرجاء حتّى لو تاب إلى الله توبة نصوحاً.
الجواب الرابع: كلمة (عسى) هي بلحاظ لوح المحو والإثبات، لا اللوح المحفوظ.
إذ يوجد هنالك لوحان:
ص: 34
الأوّل: اللوح المحفوظ حيث إنَّ النتائج النهائية مسجلة هنالك، وأنَّ هذا الإنسان سعيد أو شقي، وأنَّ نتيجة هذا الزواج ستكون كذا من الأولاد، وأنَّ عمر هذا الإنسان سيبلغ كذا من السنين.
الثاني: لوح المحو والإثبات حيث النتائج الاوّلية، فمثلاً: قد يكون من المكتوب في لوح المحو والإثبات أنّ هذا الشخص سيعيش سبعين سنة، لكنَّه لو قطع رحمه فسيقصِّر الله من عمره ثلاثين سنة، كما في الرواية(1)، فيكون المسجَّل في اللوح المحفوظ هو أنّ هذا الإنسان سيعيش أربعين سنة فقط، يعني أن النتيجة النهائيةمكتوبة هنالك، ولكن المكتوب في لوح المحو والإثبات هو التقدير المبدئي، وهو أنَّه يعيش سبعين سنة.
ومن ههنا نشأ (البداء)، فقوله: (بدا لله)، هوبلحاظ لوح المحو والإثبات، وأنَّ الأنبياء (علیهم السلام) عندما كانوا يخبرون عن الشيء ثمَّ لا يتحقق أحياناً فإنَّهم كانوا يخبرون في الواقع عن لوح المحو والإثبات.
كما في قصّة عيسى (علیه السلام) مع تلك العروس التي قال بأنَّ الثعبان سيلدغها وأنّها ستموت هذه الليلة ولكنّها لم تمت؛ لإنّها
ص: 35
تصدّقت(1).
أو قصّة الرسول (صلی الله علیه و آله) مع ذاك الحطّاب اليهودي الذي قال بأنَّ الأسود «الثعبان» سيعضَّه، لكنَّه لم يعضَّه(2).
فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: «عَسَى»، فإنَّه يشير إلى لوح المحو والإثبات، وهذا البحث بحث مفصل وهو بحث كلامي،فلنتركه لمظانِّه.
ولكنْ ما هي فائدة اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات؟
هناك فوائد عديدة نشير إلى إحداها ههنا:
وهي: إيقاد شعلة الأمل والرجاء؛ فإنَّه إذا علم الإنسان أنَّه من أهل النار فإنِّه سوف يقتحم المعاصي أكثر، وإذا علم أنَّه من أهل الجنة، فلعلّه سيقول: لاضير عليَّ؛ لأنَّي من أهل الجنة، فكلا الطرفين يقول: لا يهم، فلأرتكب معصية.
أمَّا إذا كان الإنسان لا يعلم ما في اللوح المحفوظ، وكان يعلم باحتمالات المحو والإثبات - فعندئذ - فإنَّ المؤمن سيسعى ويجدُّ في الطاعة أكثر فأكثر؛ إذ لو لم يفعل فلعله يمحى اسمه من ديوان السعداء ويكتب في ديوان الأشقياء - لا سمح الله -، وفي الإتجاه المعاكس كذلك فإنَّ ذلك يبعث بعض المنافقين والكفار على العودة إلى الله تعالى أو التقليل من المعاصي والذنوب؛ إذ يرجو بعضهم -
ص: 36
على الأقل -، أن يقبلهم الله تعالى من جديد فيمملكة رحمته.
وهذا البحث يستدعي تفصيلاً، لكنّنا نكتفي منه بهذا القدر ضمن هذا الجواب.
الجواب الخامس: لعلَّ استخدام كلمة (عسى) ههنا كانت لأجل الدلالة على أنَّ (التوبة مقتضية للمغفرة) وليست علّة تامة، على عكس ما قد يُتَوَّهم، فإنَّ كثيراً من الناس يتصور بأنَّه لو تاب فإنَّ التوبة علِّة تامّة للمغفرة الإلهية، لكنَّ كلمة (عسى) تفيدنا أنَّ التوبة ليست علِّة تامّة، وإنَّما هي مقتضٍ، فلابدَّ من استجماعها ل(شرائط القبول) فعندئذٍ يكفّر الربُّ سبحانه وتعالى عنّا سيئاتنا، وسيكون المصير هو الدخول في الجنة بإذنه تعالى.
ومن هذه الشرائط:
الولاية، فإنَّ التوبة بدون الولاية - ولاية أهل البيت (علیهم السلام) - غير مقبولة، وهذا البحث بالذات يستدعي ساعات من الحديث، وليس كلامنا الآن منصبّاً على ذلك وإنَّمانحن في مقام الإجابة عن ذلك الإستشكال، وعلى استغراب استعمال كلمة (عسى).
ونشير ههنا بإيجاز إلى بعض الآيات الأخرى التي تدل على ذلك، أي على أنَّ التوبة ليست علّة تامّة:
منها قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ
ص: 37
فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَ-هُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً»(1).
إذن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى بما هي هي ليست علّة تامّة لقبول الله ولمغفرته؛ إذ لو كانت التوبة علّة تامّة لكان استغفار النبي أجنبياً بالمرّة عن التأثير في المغفرة ولكان ذكره لغواً.
وبعبارة أخرى: لو كانت التوبة علّة تامّة ولا تحتاج إلى وسائط بيننا وبين الله - كما يقوله البعض - لما قال الله تعالى: واستغفر لهم الرسول (صلی الله علیه و آله)، ثمَّ فرّع عليه «لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً».كما نشير ههنا إلى بعض الآيات الدالة على أنَّ من شرائط قبول التوبة (الولاية) مما يعني ضمناً أنَّ التوبة ليست علّة تامّة لمغفرة الله. ومنها قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً»(2).
ومعنى ذلك أنَّ الإسلام بدون الولاية ليس مرضيّاً عند الله، وما لا يرضاه الله تعالى فليس مقبولاً لديه.
وكذلك قوله (علیه السلام): «بني الإسلام على خمس»(3) ومنها الصلاة، ومنها الولاية «ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية»(4).
ص: 38
ومعنى هذا الحديث أنَّ الشخص إذا لم يقبل الصلاة، وإذا لم يقبل الحج فهو غير مسلم! كما أنَّه إذا لم يقبل الولايةفليس بمسلم! أوَليس الإسلام قد بُني على ذلك كلِّه؟ وما حال البناء لو هدمت أساساته؟
ولتوضيح ذلك نقول: إنَّ الإسلام له اصطلاحان ومرتبتان:
المرتبة الأولى: تعصم بها الدماء وتصان بها الأعراض، ومنكر الولاية - بشرط أن لا يكون ناصبياً - له هذه المرتبة من الإسلام، فهو مسلم، مصونة دماؤه وأمواله وأعراضه.
المرتبة الثانية: تُقبل بها الأعمال، فإنَّ المسلم هو «مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ»(1)، فإذا لم يسلم وجهه لله ولم يأتمر بأمر الرسول أو بإمامة الإمام الوصي، فإنَّ الإسلام بالمرتبة الثانية منتفٍ عنه، فأعماله غير مقبولة، ومن الأعمال التوبة، وهذا يعني أنَّ توبته غير مقبولة.
وهذا المختصر مجرد إشارة للبحث، وتفصيل الأخذ والرد يترك لمقامه.
الجواب السادس: إنَّ اختياركلمة (عسى) لعلّه للإشارة إلى أنَّ المغفرة ليست حقّاً واجباً على الله سبحانه وتعالى، بل هي تفضّل منه تعالى، وهذه مسألة دقيقة، وهذا يعني أنّني لو استغفرت الله
ص: 39
سبحانه فإنَّه لا يوجد لي حقٌّ على الله أنْ يغفر لي!
وذلك مثل ما لو صفع أحدهم شخصاً ثمَّ قال له عفواً واعتذر منه، فإنَّ ذلك الشخص له أنْ يعفو وله أنْ لا يعفو، له أنْ يأخذ الديّة أو الأرش أو يقتص، وله أنْ لا يفعل ولا يجب عليه العفو.
إذن: المغفرة ليست حقّاً واجباً على الله تعالى، وإنّما هي فضل وتفضّل، فقوله تعالى: «عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» قد يكون للإشارة إلى هذا المعنى، أي أنَّ تكفير السيئات وإدخال الجنة هو فضل من الله ولا يصحُّ أن يُتَصوَّر أنَّ توبته أوجبت على الله أنَّ يكفّر عنه تلك السيئة وأنْ يدخل الإنسان إلى الجنة.
وهذا المعنى من المعاني الدقيقة التي ينبغي أنْ يلتفت إلإنسان إليها، ومن الجيدالاستعانة لإيضاح ذلك بمثال عرفي: فلو أنَّ شخصاً كان يعمل في شركة ولم يلتزم بالشروط التي اشترطت عليه لديمومة توظيفه، فإنَّ المسؤول له الحقَّ في أنْ يطرده من الشركة وفق الضوابط، فإذا جاء هذا العامل واعتذر، فإنَّ ذلك لا يوجب على المسؤول حقّاً ولا يلزمه ابقاؤه بل إنَّ الأمر بيد المسؤول فله أنْ يتفضل عليه بإبقائه أو اخراجه.
كما يجب علينا أن نشكر الله تعالى أبلغ الشكر على تفضّله بكونه (يقبل التوبة عن عباده) فإنَّ هذه نعمة من أعظم نِعَمِه تعالى، لكنْ المشكلة في الإنسان أنَّه لا يتأمّل في فضل الله، ولا يشكر الله
ص: 40
سبحانه وتعالى ولو بعض حقِّ شكره على نعمائه، فعندما تنزل علينا مصيبة وداهية ومشكلة، نرى تضرع الإنسان وانقطاعه إلى الله سبحانه وتعالى بالبكاء والتضرع والنذورات وإحياء الليل، ولكنْ عندما ينعم الله سبحانه على الإنسان بقبول توبته أو بشفاء مرضه مثلاً، فإنَّه قد يقول مرة واحدة شكراً لله أو يصليركعتي شكر، أو يذهب إلى زيارة سريعة وينهي ذلك الأمر، ويغلق الملف وكأنَّه قد أدّى شكر هذه النعمة.
إنَّ الإنسان إذا كذب كذبة واحدة فإنَّ هذه الكذبة على حسب مبنى تجسم الأعمال - وهو الظاهر من الآيات والروايات - تتحوّل مثلاً إلى عقرب تلدغ الإنسان إلى ما شاء الله، لكن الله لعظيم فضله يمحو ذلك، فأيُّ فضل عظيم لله هذا، لكنْ من الذي يشكر الله على ذلك حقّاً؟
ولتقريب الفكرة: نتصور لو كان هناك ثعبان ينهش الإنسان يومياً، ثمَّ جاء شخص وخلّصك منه، ألا يكون له عليك الفضل الكبير العظيم؟ وهل تؤدّي حقَّ شكره بقولك: شكراً لك؟ فما بالك بالله الذي يتفضّل عليك بقبول التوبة عن المعاصي التي تعدل كلُّ واحدة منها عقارب الأرض كافة وثعابينها وتزيد أيضاً.
الجواب السابع: وهو وجه دقيق ومهم ويرتبط بنا جميعاً، وحريٌّ بنا أنْ نتأمله، وهو: إنَّاختيار مفردة (عسى) لعلّه يكون
ص: 41
لاحتمال حدوث زيغ وانحراف بعد ذلك، مما يعني أنَّ عدم ذلك الزيغ والإنحراف هو شرط قبول التوبة بنحو الشرط المتأخر.
إنَّنا نتصور - عادة - عندما نندم حقّاً ونتوب صدقاً فإنَّ الله سوف يتوب علينا حتماً، لكن هذا التصور متأمَّلٌ فيه كما سيتضح.
إذ قد يقال إنَّ عدم المعصية اللاحقة هي شرط قبول التوبة عن المعصية السابقة بنحو الشرط المتأخر مطلقاً أو في الجملة، وكلا الكلامين له وجه،
لكنْ: هل عدم المعصية اللاحقة شرط بنحو الكاشف أو بنحو الناقل؟
فهنالك احتمالان:
الإحتمال الأوّل: الكشف، بأنْ يقال إنَّ الله سبحانه وتعالى رأى هذا الشخص قد اعتدى على أبنائه بالضرب أو على زوجته ظلماً ثمَّ تاب، لكنَّه جلَّ اسمه حيث يعلم بأنَّه بعد ساعة سيضربها من جديد فإنَّه سبحانه وتعالى لا يقبل توبته من البداية، فحيث علم اللهمعصيته اللاحقة لم يقبل توبته السابقة.
الإحتمال الثاني: النقل، أي: إنَّ هذا الذنب يُمحى بتوبته، لكنَّه إذا عصى من جديد فإنَّ تلك العقرب - في المثال السابق - يعاد خلقها من جديد، وبعبارة أخرى: إنَّ الكذبة تولّد عقرباً، فإذا ندم الكاذب وتاب فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقضي على تلك العقرب، فإذا كذب مرّة ثانية أُعيدت الحياة لتلك العقرب الأولى مع خلق
ص: 42
العقرب الجديدة الناتجة عن الكذبة الثانية، والله العالم.
وقد يستدلُّ على ذلك بأدلّة، منها:
أدلّة الحبط: كقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ»(1) ومن الأعمال التوبة، فتحبط بآثارها ونتائجها، فالحبط معناه: إنَّ الإنسان إذا صلّى وصام وزكّى وحجّ وخمّس وجاهد في سبيل الله خمسين سنة، ثمَّ بعد ذلك زاغ فإنَّ هذا الزيغ وهذا الإنحراف والضلال يكون كحريق أتى على الهشيمفأحرقه كله، وكقوله تعالى: «فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ»(2)، فهذه (التوبة) هي التي تُحبَط.
فإنَّ الإنسان إذا عصى معصية ثمّ تاب قبل الله منه توبته، وإنَّ نفس هذه التوبة هي منشأ لآثار ولبركات كثيرة، لكنَّه لو عصى بعد ذلك فإنَّ توبته ستحبط عندئذٍ وتعدُّ ك(لا توبة)، فتأمّل!
ولنلاحظ هذه الرواية: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في التوبة النصوح، التي هي مصبّ الآية الشريفة:
«أنْ يتوب التائب ثمَّ لا يرجع في ذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع»(3).
والمثال لطيف ودقيق، فإنَّ اللبن عندما يخرج من ضرع الشاة أو غيرها فإنَّه لا يعود أبداً إليه كما هو أوضح من الشمس، فالتوبة
ص: 43
النصوح هي هذه التوبة، بحيث إنَّ الإنسان إذا صدرت منه معصية وتاب فإنَّه لا يعود إلى ذلك الذنب أبداً.وقد يستشمُّ من هذه الرواية أنَّه لو رجع إلى الذنب فإنَّ توبته لم تكن توبةً نصوحاً، وليست مقبولة عند الله، وقد علّق الله سبحانه وتعالى التكفير والجنّة على التوبة النصوح.
كان (شريك) أحد مشاهير العلماء في الزمن الغابر، وكان مشهوراً بالعلم والزهد والمكانة الاجتماعية، فطمع الحاكم - المسمّى بالخليفة ظلماً وزوراً - فيه؛ لأنَّ الحاكم الجائر يحتاج إلى مظلّة من الشرعية ومن الاعتبار، فطلبه وقال له: أريد أنْ أنصبك في منصب قاضي القضاة، وهو منصب هام وخطير، فرفض الرجل وتعلل، فقال له الخليفة: إنْ رفضت فكنْ معلم أبنائي، فرفض ذلك أيضاً؛ لأنَّه يعلم أنَّ هذه أحبولة وشبكة لاصطياده كيْ يكون من أعوان الظلمة، فقال له المسمى بالخلفية: إنْ رفضت فلابدَّ من الثالثة، وهي أنْ تتغدى عندي هذا اليوم.
ففكر الرجل في نفسه ولم يرَ أيَّ إشكال في ذلك، يتغدّى معالخليفة لدقائق ويتخلّص منه أبد الدهر، فأوعز الخليفة بأنْ تُطبخ أفضل أنواع الأطعمة، لكن ذلك العالم لم يحتط من لقمة الشبهة، ومن الوقوع في أسر الشهوة، فأكل من ألوان الطعام وأصناف الشراب، فأعجب بها أي اعجاب! والدنيا بطبعها مغرية فاتنة،
ص: 44
وكان ذلك بداية السقوط والإنحراف.
وكان رئيس الطباخين ذكياً، فسأل القائمين على إعداد المائدة: هل أكل (شريك) من هذا الطعام؟ قالوا: نعم، فقال: إذن لا يفلح بعدها أبداً.
وبعدما أكل (شريك) الطعام، واستهوته اللذة العابرة، إلتفت للخليفة وقال له: لقد فكّرت في نفسي ولم أرَ إشكالاً في قبول منصب قاضي القضاة، كما أنَّني أوافق على أنْ أكون معلِّماً لأولادك فأصبح بعدها من أبرز أعوان الظلمة ومن أهل النار.
إنَّ هذه القضية تشكّل عبرة لنا جميعاً، إذ لا نعلم عن تقلّبات الدهر شيئا، فقد يضع الله أحدنا في يوم من الأيام في موضعامتحان دقيق، كامتحان رئاسة، أو مال أو شهرة أو غير ذلك، بل قد يُبتلى الكثيرون باستلذاذ الغيبة في مجلس ما، أو غير ذلك، فهل ترانا نصمد في هذا الامتحان أم لا؟
فإنَّ الله تعالى لا يترك الإنسان إلّا ويستخرج عمق أعماق نفسه - كما في الروايات(1) - فلا ندري هل تزلُّ أقدامنا في ذلك الامتحان أو لا تزل.
إنَّ الحلَّ يكمن في أنْ نضجَّ إلى الله ضجيجاً بالدعاء والتضرّع والابتهال خوفاً من سوء العاقبة، وبأنْ نتوسَّل بالرسول وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) ليل نهار، ولنا أنْ نتصور شخصاً سيحكم عليه في
ص: 45
المحكمة بالسجن مدى الحياة أو يعدم شنقاً، فكيف سيضجُّ ذلك الإنسان إلى الله ضجيجاً لا يفتر بل يزداد يوماً بعد يوم كلما اقترب موعد المحاكمة، بل قد تراه لا يأكل ولا يشرب، بل تتحوّل حياته بأكملها إلى دعاء وتضرّع، أوَ لا يجدر بنا ونحن معرّضون لأكبرالأخطار - سوء العاقبة - أن نكون كذلك؟ بل وأكثر!
إنَّنا جميعاً معرضون لامتحانات وقد نسقط في إحداها - لا سمح الله - وتكفي هذه الرواية شاهداً وعبرة: فلقد كان في بني إسرائيل أخوان يعيش أحدهما في الطابق السفلي والآخر في الطابق الأعلى، وكان أحدهما منقطعاً إلى العبادة والثاني كان منقطعاً للفجور، وقد مضت عليهما سنون طويلة، وهم على هذه الحال، وبعدها فكّر الأخ الذي كان مشغولاً بالمعاصي في نفسه: إلى متى أبقى على معصية الله سبحانه وتعالى؟ فقرّر أنْ ينزل إلى أخيه ويتوب إلى الله ويطهّر نفسه من الذنوب وأنْ يقضي بقيّة عمره في طاعة الله سبحانه.
وفي نفس الوقت كان الأخ العابد يفكّر في نفسه: إلى متى أبقى على ركوعي وسجودي وتقشّفي؟ فلأصعد إلى أخي وأتمتّع ببعض متع الحياة! فنزل هذا وصعد ذاك، فأمر الله سبحانه وتعالى عزرائيل بأنْ يقبض روحيهما في تلكالحال، فأخذ ذلك العابد الزاهد إلى النار وقد حبطت أعماله بأجمعها!
ص: 46
إنَّنا لا نملك أيَّة ضمانة لحسن العاقبة، إلّا أنْ نضجَّ إلى الله ضجيجاً شديداً، ونخاف من سوء العاقبة خوفاً شديداً، وبأشدِّ الأنحاء، وأن نتوسّل إليه بأحبِّ الخلق إليه محمِّد وعليِّ وفاطمة والحسن والحسين والتسعة الطيبة من ذريّة الحسين (عليهم صلوات الله وسلامه) كي لا تحبط أعمالنا في أواخر أعمارنا وكيْ يختم لنا بالسعادة والشهادة.
وصفوة القول في الوجه السابع بتعبير آخر: إنَّ قبول التوبة يكون مراعى بأن لا يحبط الإنسان توبته السابقة.
الجواب الثامن: إنَّ «عسى» ليست بلحاظ العقوبة الأخروية، وإنَّما هي بلحاظ الأثر الوضعي، فإنَّ الأثر الوضعي لا ترفعه التوبة، وإنْ أمكن أن ترفعه، ولهذا البحث تفصيل سينصرف اليه الفصل القادم تخصيصا بإذن اللهتعالى.
ص: 47
1: ماذا تعني (غضب الله)؟
2: ماذا تعني «عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»؟
3: لماذا قد يقبل الله عملاً طفيفاً ويثيب عليه بثواب عظيم لكنَّه قد يرفض عملاً عظيماً ويحبطه؟
4: ما هو لوح المحو والإثبات؟
5: أكمل رواية (إن العبد ليحبس على ذنب...)
6: هل التوبة علِّة للمغفرة أو مقتضى؟ وماذا يعني كلٌّ منهما؟
7: هل (الولاية) شرط الإسلام، وبأيِّ معنى؟
8: هل المغفرة فضل من الله أو حقٌّ عليه؟
9: هل عدم المعصية في الأزمنة اللاحقة شرط في قبول التوبة؟
10: ما اسم القاضي الذي أكل من طعام الخليفة فاستهوته الدنيا؟
11: ما هي ضمانة (حسن العاقبة)؟
ص: 48
ص: 49
ص: 50
تقدّم البحث في الفصل السابق عن وجوه فلسفة وحكمة ورود كلمة «عسى»، في هذه الآية القرآنية الكريمة «عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»، مع أنَّه في علم الله المحيط لا مجال للاحتمال وللترجّي وللتوقّع والتربّص وما أشبه ذلك، فإنَّ الله عالم بما سيحدث، وبأنَّه سيكفّر عن هذا العبد المذنب التائب سيئاته، وأنَّه سيدخله الجنَّة أوْ لا.
وقد اشرنا الى وجوه ثمانية في الإجابة عن هذا السؤال المتعلّق بحكمة ورود مفردة «عسى» في الآية الشريفة، وهذا الفصل سيختص بتفصيل الجواب الثامن، الذي انتهى اليه الفصل السابق بإيجاز، والمتعلق بالآثار الوضعية للمعاصي والذنوب، ووجوهها المحتملة، وبتفصيل الجواب التاسع المتعلق بالسرِّ في العقوبات الأخروية اللامحدود لها لجهة ورود مفردة «عسى» في الآية الشريفة.
لعلّ وجه ذكر (عسى) هو لحاظ الأثر الوضعي للمعاصي - أعاذنا الله وإيّاكم منها -، ذلك أنَّ المعصية لها عقوبة تغفر بالتوبة؛ فإنَّ الله كريم واسع فيّاض، لكنّ للمعاصي آثاراً أخرى تتأطّر بإطار التسمية بالآثار الوضعية، وهذه هي التي قد تكفّر وقد لا تكفّر،
ص: 51
وهنا تتجلّى أهمية الشفاعة.
ولنوضح ذلك ببعض الأمثلة:
توضيح ذلك: إنَّ الحسد - مثلاً - يعدُّ من الرذائل الخلقية، فلو حسد شخص منافسه في علم أو مال أو شهرة أو ما أشبه ذلك، ثمَّ استغفر الله سبحانه وتعالى منه، فإنَّ الله غفّار يتوب على العبد، لكنَّ للحسد أثراً وضعياً أيضاً؛ فإنَّ من يحسد الآخرين تتحطّم أعصابه، ويصاب بأمراض مختلفة كمرض السكّري وغيره، نتيجة ما يعتمل في صدره من الحقد والحنق.
يقول الشاعر:
إصبر على حسد الحسود فإنَّصبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها إنْ لم تجد ما تأكله(1)
فهل تشفيه التوبة من أمراضه هذه؟ إنَّ التوبة لها اقتضاء غفران الله سبحانه وتعالى، لكن الآثار الوضعية لاترتفع بالتوبة، ولذا - لعله - الله سبحانه وتعالى استعمل كلمة (عسى)، فإنَّه يمكن أنْ تكون لدرجات من التوبة تأثير وضعي على الإنسان، لكن ليست كلُّ توبة ممّا تمتلك هذا التأثير، ولذا احتجنا إلى الشفاعة أيضاً.
إنَّ قيمة الشفاعة تتجلّى في مثل هذا الموطن، فإنَّ من جملة فوائدها وثمارها أنَّها تمحو الآثار الوضعية للذنوب، فالحسود
ص: 52
- في المثال السابق - عندما يذهب لحرم أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) يطلب منه الشفاء من مرضه الذي ابتلي به - وهو الحسد ومرض السكّري مثلاً - فإنَّه سيشفى بإذن الله تعالى من كليهما مع توفر شرائط الشفاعة.
مثال آخر: الغيبة - أعاذنا الله جميعاً منها - فإنَّه عندما يغتاب الإنسان شخصاً يتسبّب ذلك في حدوث أمرين:
أولهما: استحقاقه للعقوبة، وهذا يرتفع بالتوبة.
والثاني: هو الأثر الوضعي للغيبة، وهو ردُّ الفعل المعاكس، أي غيبة الناس لك كما اغتبتهم، وكُرههم لك؛ لأنَّه قد ثبت في العلم الحديث أنَّ أمواج قلب الإنسان وأمواج فكره تصل إلى قلوب الآخرين فتؤثّر أثراً عكسيّاً، فكيف بكلامه؟ فلو حسدت زيداً مثلاً، فسيخرج شعاع من قلبك ويصيب قلبه، فتفقد مكانتك عنده من حيث لا تدري، ومن حيث لا يدري هو أيضاً، وهذا أثر وضعي.
فمن آثار الغيبة أنَّ الناس سيغتابونه أيضاً، لا للتموجات فقط، بل لأنَّ طبيعة (الغيبة) أنْ تصل إلى أسماع أولئك الذين إغتابهم الإنسان، فلو استغفر الله سبحانه وتعالى من ذلك وندم (لعلَّ) الله يمحو الأثر الوضعي، ولكنْفي غالب الأحيان التوبة لا تمحو الأثر الوضعي، إلاّ تلك الدرجات العالية الرفيعة من التوبة في الجملة.
ص: 53
ومثال ثالث أوضح: السُكْر، فلو شرب شخص الخمر - والعياذ بالله - وتاب بعد ذلك، فإنَّ السكْر وهو أثر وضعي لا ترفعه التوبة، نعم من الممكن لدرجات عالية جداً من التوبة أنْ تؤثّر على هذا الأثر التكويني - أي الأثر الوضعي - لكن الأمر في المعتاد ليس كذلك.
شاهد آخر: النبي يوسف (علیه السلام) - والأنبياء (علیهم السلام) هم قمم البشرية كما نعلم - لعلّه للحظة واحدة أحس بنوع من الصعوبة أنْ يترجّل من جواده احتراماً لوالده (تأملوا لحظة واحدة فقط، فأحياناً نظرة واحدة - مهما كانت قصيرة - قد تسلب التوفيق من الشخص، فكيف بالمعصية الطويلة الممتدة؟).
وإذا جبرائيل (علیه السلام) يهبط من السماء بأمر الله سبحانه وتعالى فينتزع نوراً من بين أصابعه، ولدى سؤال يوسف (علیه السلام) عن مغزى ذلك؟
أجابه جبرائيل (علیه السلام) بأنَّه نورالنبوة التي كان من المقرر أنْ يكون في أبنائه، وههنا نجد أنَّ الأثر الوضعي حصل فوراً، ولا تنفع التوبة عندئذٍ ولا تجدي شيئاً.
إنَّ مصير أبنائنا مرهون بلحظات أعمارنا، ومفردات قراراتنا، فإنَّ الإنسان في لحظه معينة إذا واجه معصية فصمد، وإذا بالله تعالى يبارك في أولاده إلى زمان ظهور الإمام المهدي المنتظر f.
ص: 54
فمحصّل الجواب الثامن: إنَّ المعاصي لها آثار وضعيّة، وهذه الآثار الوضعيّة هي أمر آخر غير العقوبة بمعناها المتداول، وهي لا ترفع عادة بالاستغفار، ولعلّها ترفع أحياناً بدرجات عالية من التوبة النصوح، فلعلَّ قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...»، في ظاهره يشير إلى الأثر الوضعي.
الجواب التاسع: ولابدَّ فيه أولاً من ذكر شبهة أخرى والإجابة عليها.
الشبهة:كيف يعاقب الله سبحانه وتعالى عبيده بذلك العقاب الطويل الممتد اللامحدود اللامتناهي شدَّة ومدَّة وعدَّة على معاصي محدودة متناهية؟
وكنموذج على العقاب الأخروي ما روي في كتاب (حقُّ اليقين): أنَّ أحد أنواع عذاب جهنَّم - كما في الآية الكريمة «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً»(1) - هو وضع الإنسان بحيث يكون كالمسمار في الجدار، والكل يعرف مدى ضيق مكان المسمار في الجدار، وإنَّ أحدنا لو كان يستحضر بعض عذابات جهنَّم في ذهنه باستمرار لكان وضعه مختلفاً جداً.
ص: 55
وللإجابة عن هذا السؤال هناك وجوه عديدة:
الوجه الأوّل للجواب: إنَّ نسبة المعصية للعقوبة هي نسبة الأثمار، ونسبة البذرة للثمرة، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيانُؤْتِهِ مِنْها»(1).
إنَّ الإنسان يمكن أنْ يصرف على غرس شجرة البرتقال خمس دقائق فقط، بينما هذه الشجرة ستنتج لمدة عشرين سنة وما يزيد على ذلك.
والإنسان قد يُلقي بنفسه من شاهق في ثانية، لكنْ قد ينكسر عموده الفقري ويبتلى بالإقعاد لمدة خمسين أو سبعين سنة، فإذن تلك الثانية على قصرها لها نتائج تكوينية شديدة جداً وذات امتداد في عمق الزمن.
وحاصل الجواب على هذا: إنَّ عذاب الآخرة هو نتاج تكويني لهذه المعاصي على طريقة الأثمار؛ ذلك أنَّ المستظهر - والله العالم، وعليه شواهد - أنَّ العقوبة في النار على نوعين:
النوع الأوّل: هي العقوبة بقرار إلهي - على تجوّز في التعبير - وهذا النوع يرتفع بالتوبة.
ص: 56
النوع الثاني: العقوبةبنحو الأثر التكويني، نظير الثمرة التي تنتج عن البذرة، وهذا الأثر التكويني لايرتفع بالتوبة وإنَّما يرتفع بالشفاعة وبتفضّل من نمط آخر من الله سبحانه وتعالى.
وبتعبير آخر، الوجه الأوّل هو: إنَّ هذه الأعمال هي ثمار تكوينية لتلك البذور التي بذرها الإنسان بإرادة، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار.
الوجه الثاني للجواب: إنَّ نسبة المعصية للعقوبة هي نسبة الباطن والظاهر، والجوهر والمظهر، أي إنَّ العقوبة ما هي إلا تجسّم وتجسيد للأعمال والمعاصي، ولا شيء في العقوبة إلّا تغيّر صورة المعصية وظهورها على حقيقتها، والحاصل: إنَّ الوجه الأوّل كان يرى أنَّ الإنسان إنْ صدرت منه كذبة فهي بذرة ستثمر عقرباً، أمّا الجواب الثاني فيرى بأنَّ واقع الكذب هو العقرب، ولكن ذلك ممّا سيظهره في الآخرة، وإنَّ الله تعالى يعطي الإنسان نفس عمله بذاته.
ويدلُّ على ذلك:قوله تعالى: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً»(1)، فوجدوا (ما عملوا) وليس نتيجة ما عملوا.
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»(2).
ص: 57
وقوله تعالى: «هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ»(1).
وبعبارة أخرى: العمل هو بنفسه يجزى به الإنسان، إذن ليست هناك عقوبة بقرار حتّى نستفسر عن الوجه في عقوبة الله بمليارات السنين مقابل سنة واحدة مثلاً، بل هي هي، أيْ العقوبة هي نفس المعصية تماماً.
ويمكن هنا أنْ نذكر وجهاً ثالثاً للجواب وهو:
إنَّ قبح المعصية وفداحتها لا تلاحظ بما هي هي، بل تقاس بالنسبة إلى مَنْ أجرم الإنسان في حقِّه، وكمثال على ذلك: فإنَّهتارة يَغتاب الإنسان شخصاً عادياً، وهذه لها عقوبتها الكبيرة عند الله سبحانه، وتارة يغتاب أو يتّهم واحداً من الأولياء فعقوبته أعظم، لماذا؟ لأنَّ جرمه أعظم، مع أنَّ الغيبة هي نفس الغيبة، فكيف بمن يغتاب أو يتّهم الأنبياء أو الأوصياء؟(2).
ومن ذلك نعلم أنَّ هؤلاء الذين يتجرؤون على مقام الأنبياء (علیهم السلام) - في بحث العصمة مثلاً - يقومون بجرم عظيم «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ»(3).
ص: 58
وعصارة الجواب التاسع على الوجهين الأوّل والثاني:
إنَّ «عسى» إنَّما هي بلحاظ ثمرات المعاصي التكوينية الأخروية في نار جهنم، أوْ بلحاظ ذوات المعاصي التي تجسّدت في شكل أفاعي وحيّات وعقارب.
وأمّا الآثار التي تكون بقرار إلهي فهذه يغفرها الله سبحانه وتعالى بالتوبة اقتضاءً مطلقاً،فهذه كلُّها (عسى) أنْ يغيّرها الله تعالى تكويناً بخارق للعادة على أثر التوبة، ولتقريب الفكرة بالمثال نقول:
لو أنَّ شخصاً كان يعمل في شركة فأثار ضجة وصراعات وفتناً في الشركة وخالف اللوائح والقوانين، فإنَّ من حقِّ مدير الشركة أنْ يعاقبه بقرار وأنْ يفصله مثلاً، ولو أنَّه تاب واستغفر فإنَّ من الممكن أنْ يرجعه إلى عمله، لو كان كريماً متخلقاً بأخلاق بارئنا سبحانه وتعالى.
لكن الآثار الاجتماعية والنفسية والتكوينية لأعماله وتصرفاته السابقة - كما لو صار مكروهاً في أوساط العاملين في الشركة - هذه الآثار لا تتغير بقرار من مدير الشركة عادة.
بل هي أثر وضعي حسب الجواب الثامن، أو ثمرات لتصرفاته المشاكسة والنزقة - حسب الجواب التاسع - أو هي عينها(1)، وهنا- كما سبق - فإنَّ الشفاعة هي التي تنفع، وذلك كما
ص: 59
لو أنَّ الشفيع جاء أيضاً إلى المنتسبين والموظفين وطيّب خواطرهم وأرضاهم عنه بهدايا ووعود وكلام مقنع وغير ذلك فستعود مكانته عندهم أيضاً.
وبكلمة: بالنسبة للعقوبات الأخروية على المعاصي فإنَّ هناك عقوبات بقرار فتمحوها - أي تلك العقوبات - التوبة، وهناك عقوبات هي أمور تكوينية أخروية، إمّا بنحو الإثمار أو بنحو التجسيم وتجسّم الأعمال، أو بنحو ثالث لا مجال لذكره الآن، و(عسى) وردت بلحاظ إحدى هذه الثلاثة.
وختام هذا الجواب، فإنَّ الملفت في قول الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً»، هو هذا الخطاب الربّاني المحبّب لقلوب العارفين، فإنَّ هذا الخطاب يكشف عن غاية اللطف من الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الله غني عنّا، لكنّه منلطفه ورحمته بنا أنْ يخاطبنا بهذا الخطاب الذي يضوع منه شذى المحبة والرأفة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعا، من التائبين حقّاً حقّاً، ونسأله تعالى أنْ يجعلنا جميعا ممّن يكفّر عنه سيئاته، وممّن يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار.
ص: 60
1: ماذا يعني الأثر الوضعي للمعاصي؟
2: ما الذي تمتاز به (الشفاعة) على (التوبة) بالقياس للآثار الوضعية للذنوب؟
3: ما هو الوجه في العقوبات الأخروية اللا متناهية؟ أذكر وجهين لذلك.
4: هل تختلف فداحة الجريمة باختلاف الشخصية التي ارتكبت بحقها الجريمة؟
5: ماذا يعني تجسّم الأعمال؟
ص: 61
ص: 62
ص: 63
ص: 64
البحث في هذه الآية القرآنية الكريمة والتفصيل في مفرداتها طويل، وسنقتصر في هذا الفصل - بإيجاز - على أقسام التوبة، وبعض البصائر في قوله تعالى: (توبة نصوحاً).
التوبة على قسمين:
وهي تلك التوبة المقرونة بتأنيب شديد من الضمير، فلو كذب كذبة تسمّى بيضاء فإنَّه لا يراها بيضاء كما يزعمون بل يراها سوداء مظلمة قاتلة، فالتوبة النصوح هي تلك التوبة المقرونة بألم نفسي شديد، وبعتاب شديد للنفس وبملامة شديدة لها، والمقترنة بعمق الخوف من الله سبحانه وتعالى، كما أنَّ التوبة النصوح هي تلك التي لا يعود بعدها للذنب أبداً، كما سيأتي في بحث قادم، وكما سيأتي في آخر هذا المبحث معنى آخرلها، فانتظر.
وفي مقابل التوبة النصوح تقع التوبة غير النصوح، وهي التي قد يكون فيها ندم، لكنَّه لم يتوغل ولم يتغلغل في الأعماق.
ص: 65
وهنا نقطة ولفتة دقيقة في الآية الشريفة، وهي أنَّ «نصوحاً» على وزن فعول، وفعول صيغة مبالغة، مثل قولنا: عجول، أو خجول، فهي صفة للشخص لا للشيء، وكذلك شكور أو غفور فإنَّها صفة للفاعل وليست للفعل، واللفتة الدقيقة في الآية الشريفة هي أنَّ كلمة «نصوح» - وهي صفة للفاعل - أُسندت للفعل (توبة نصوحاً) مع أنَّ «نصوح» ليست صفة للتوبة وإنَّما هي صفة للتائب أي يقال: تائب نصوح، كما تقول: تائب شكور أو غفور أو ما أشبه ذلك، فما هو السبب في ذلك؟
الظاهر أنَّ السبب في إسناد ما حقُّه أنْ يسند للفاعل للفعلهو أحد أمرين:
أولهما: هو المبالغة بإسناد ماهو صفة للفاعل للفعل نفسه، فكأنَّ التوبة من الشدِّة والقوِّة والعمق بحيث تنصحه مرة إثر أخرى، أيَّ أن التوبة بنفسها تنصحه، فكأنَّها تقول له: الآن وقد عصيت فلا تكرّر المعصية ولا تذهب نحوها من جديد، ففي الواقع الصفة للفاعل لكنَّها أُسندت للفعل كناية عن شدِّتها وقوِّتها وتجذِّرها، بحيث لا يزيلها مزيل، فإذا عَرضت له معصية مرة أخرى فإنَّ نفس تلك التوبة السابقة تردعه عن المعصية.
وبعبارة أخرى: المحتمل أنْ يكون المجاز في الإسناد كما في
ص: 66
قوله سبحانه وتعالى: «وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ»(1) حيث أسند السؤال إلى القرية والحال أنَّ السؤال يوجّه إلى أهل القرية بنحو المجاز في الإسناد لا الحذف.
ثانيهما: أنْ يكون المجاز مجازاً في الحذف، يعني: توبةعبد نصوحٍ، أي ينصح نفسه باستمرار لتوقي المعاصي.
لكن الاحتمال الأول هو الأقوى والأمتن والأجمل والأشدُّ بلاغة.
ينقل أنَّه كان هناك شخص له بعض المكانة والشهرة، وكان أستاذاً في علم من العلوم، وكان معروفاً بتهذيب النفس وتطهيرها، وفي يوم من الأيام شاهد طلّابه ظاهرة غريبة منه، وهي أنَّه أمسك في يده مسبحة وانشغل بذكر من الأذكار وقد استغرقه ذلك، ومرّت على هذه الحال عدِّة أيام، حتّى أقلق الأمر الطلاّب.
فسأله بعض التلاميذ عن السبب، وعن نوع ذكره الذي أشغل به نفسه، فلم يجب، فأصرّوا عليه مرّة ثانية وثالثة ورابعة ومرات عديدة حتّى قال: إنَّ الذي أقوم به ليس ذكراً من الأذكار، وإنّما أقوم بمخاطبة نفسي وتقريعها بشدِّة، ذلك لأنَّني منذ فترة طويلة أجاهد نفسي في مقابل المعاصي المختلفة، ولكن المعاصي تهاجمني ورغم أنَّني لا أزال أقاوم تلك المعاصي، إلاّ أنَّنيأخاطب
ص: 67
نفسي وأقول لها بأنَّك صرت شخصاً مشهوراً وأستاذاً مرموقاً وصارت لك رياسة، ولكنَّك لم تصبح (آدمياً) بعد!
نلاحظ هذه الكلمة وعمقها، يقول: وأخاطبها بأنَّك لم تصبح ذلك الإنسان الذي يحبه الله، والذي يسحق كلَّ الشهوات في ذاته، ولم تصبح ذلك الإنسان الذي يخلص حقَّاً في نيته لله تعالى.
إنَّ هذه القضية جديرة بالتفكير، فقد يصل الإنسان إلى مقامات عالية، وقد يصبح رئيساً لدولة أو شركة أو مؤسسة أو عشيرة أو غير ذلك، أو يصبح خطيباً شهيراً، أو مؤلفاً قديراً، أو غير ذلك، لكنْ عليه أنْ يخاطب نفسه دوماً:
هل أنا ذلك الإنسان المثالي النموذجي الذي يريده أهل البيت (علیهم السلام)؟ وهل أصبحت آدمياً وإنساناً حقيقياً؟
ينقل لنا التاريخ أنَّه كتب أحدهم رسالة إلى الشيخ الأنصاري (رحمة
الله تعالى عليه) ضمِّنها السبُّ والشتيمة قائلاً له: «أنت الآنأصبحت عالماً وما أسهل أنْ يصبح الإنسان عالماً، لكنَّك لم تصبح إنساناً وآدمياً، إذ من المستحيل أنْ يصبح الإنسان آدمياً».
لكن الشيخ الأعظم كتب له الجواب بكلِّ هدوء وموضوعية قائلاً له:
إنَّ ما ذكرت من (أنْ يصبح الإنسان عالماً سهل، لكنَّه أنْ
ص: 68
يصبح إنساناً مستحيل)، هذا خطأ، إنّما الصحيح أنْ تقول: أنْ تصبح عالماً صعبٌ، لكن أن تصبح إنساناً أصعب.
إنَّ الشيخ الأعظم (رحمة الله) أرشده إلى القاعدة الصحيحة بكلِّ خلق وأدب، ولم يهمّه أنْ يدافع عن نفسه.
يمكن للإنسان أنْ يصل إلى مرتبة «التوبة النصوح»، من خلال طرق عديدة منها:
أنْ يتجسّد الإنسان باستمرار بعض أنواع عقوبة الله سبحانه وتعالى في نار جهنَّم، أعاذناالله وإيّاكم من غضب الجبار ومن حرِّ النار.
وعلى الإنسان أنْ يراجع الآيات الكريمة، فهي خير منبّه للإنسان ومربٍّ له، وكذا الروايات الشريفة، فإنَّها خير واعظ ودليل.
وهنا نشير إلى بعض أنواع عذاب الله تعالى وهو (الغسّاق) إذ يقول جلَّ اسمه:
«إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً Q جَزَاءً وِفَاقاً»(1)، فإنَّ لكلمة (غسّاقاً) دلالة عميقة جداً.
لكن ماذا تعني «غسّاق»؟ فهناك احتمالات عديدة، وقد
ص: 69
ذُكرت لها معان مختلفة:
* المعنى الأول: أنْ يراد من «الغسّاق» البرد الزمهرير(1)؛ لأنَّ العقوبة تارة تكون بالإحراق بالنار والحار، وتارة تكون بالإحراق بالبارد، والبرد الشديد يولّد حرقة كما هو واضح.* المعنى الثاني: المراد بكلمة «غسّاق» عين في جنهم يجري منها كلُّ سمٍّ فتّاك وقتّال(2).
وهذا السمُّ يُسقى منه هذا الإنسان الفاسق الكافر الظالم لنفسه، ونحن نرى أنَّ بعض السموم الشديدة الموجودة عندما توضع على بدن الإنسان فإنَّ لحمه يتفتّت ويتشقّق ويتساقط، وبعض أنواع السمِّ لو اقتربت من وجه الإنسان فإنَّ لفحها يتسبّب في تساقط لحمه، فكيف بمجلى غضب الله سبحانه وتعالى، وهو الحميم والغسّاق؟ ولو أنَّ هذا المعنى استحضره الإنسان في باله فإنَّه سوف لا يحسُّ بلذة إطلاقاً لهذه المعصية، وسيكون ذلك خير رادع له عن المعاصي والآثام.
توفي شخص من الصالحين، ويبدو من هذه القضية أنَّه لم يجترح معصية قط إلاّ معصية واحدة وهي التي أُخذ بها وعوقب
ص: 70
عليها. فهذه إذن رسالة من عالمالغيب إلينا جميعاً.
فشاهده أحدأصدقائه - وهو من الصالحين أيضاً - بعد ليلة من وفاته في المنام، يقول هذا الصديق الصالح: رأيت قصراً منيفاً شامخاً ورياضاً نضرة، تسرُّ الفؤاد وتبهج القلب، فمشيت في الروضة إلى أنْ وصلت إلى باب القصر فوجدته مشرعاً، فدخلت القصر، ومشيت إلى أنْ وصلت إلى القاعة الرئيسة فدخلتها وإذا هي قاعة كبيرة جدّاً، وفارهة إلى أبعد الحدود، وصديقي المتوفَّى جالس في صدر القاعة، وجمهرة من الملائكة هم خدام له، فلما رآني فرح بي، فاقتربت منه وسلّمت عليه وأجلسني إلى جواره، وهو في أفضل حالات البهجة والسرور.
وبينما نحن كذلك وإذا بلون وجهه يتغيّر، وبدأ يرتعد وهو شاخص ببصره إلى الباب، فلما نظرت إلى الباب وإذا بعقرب موحِشة، سوداء كبيرة بحجم الجَمَل دخلت القاعة واقتربت منه، فإذا به يقوم لها كالمكرَه والمجبَر، ويخرج لسانه فلدغته تلك العقرب لدغة تحول جسمه منها إلى رماد.ثمَّ بعد ذلك أحياه الله من جديد، وعاد إلى وضعه الطبيعي، فسألته عن حالته هذه؟ فقال لي: هذه العقرب يومياً تأتي وتلدغني، وذلك لمعصية لسانيّة واحدة صدرت مني، فإنّي آذيت شخصاً بلساني ولا يزال ذلك الشخص ساخطاً عليّ.
يقول: فتوسّل بي ذلك الميت لأنقذه بأنْ أذهب لذلك المظلوم
ص: 71
الساخط عليه وأحاول استرضاءه، فلمّا استيقظت من النوم ذهبت إلى أحد كبار العلماء وحدّثته بالقضية وكان يعرفه، فحاول أنْ يرضيه فلم يرض، ولكنْ بطريقةٍ ما أرضاه، فشاهدت صاحبي مرّة أخرى فرحاً مسروراً، وشكرني على إنّني حرّرته من تلك العقرب السوداء ولدغاتها المميتة.
إنَّ على الإنسان إذا أراد أنْ يأخذ بغيبة مؤمن - مثلاً - أن يستحضر هذا المعنى، وأنَّ عقرباً ستلدغه - أو غيرها - وأنَّها سوف لا تتركه حتّى يرضى عليه ذلك المؤمن، ومن أدراه بأنَّه سيرضى؟ ومتى وبعد كمْ سنة من العقاب؟ وهكذا إذا أراد أنْ يرابي أويظلم أو يجترح أيَّة معصية أخرى، عليه أنْ يتذكر عظيم عقوبة الله تعالى.
* المعنى الثالث: أن يراد بالغسّاق: الصديد النتن الذي يخرج من الجروح والقروح(1).
ف(الغسّاق) إذن هو صديد يخرج من أبدان أهل جهنّم يُسقى بعضهم به .
ولا شك أنَّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين ولكنَّه في نفس الوقت أشدُّ المعاقبين، ولعلَّ الله يغفر للإنسان عشرة آلاف معصية لكنْ المعصية الأخيرة قد لا تغفر له مثلاً، فتُردِيه هذه المعصية - مثلاً - مليون سنة في عالم البرزخ، ولعلَّ الله سبحانه وتعالى يحبس
ص: 72
الإنسان على هذه المعصية في نار جهنّم مئات السنين، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وهنالك تفسير آخر للتوبة النصوح، ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) وهو:
«التوبة النصوح أنْ يكون باطنالرجل كظاهره وأفضل»(1).
وهذا في الحقيقة يحتاج إلى سنين من الجهاد وتهذيب النفس وتزكيتها، مع أنَّنا - في الواقع - ظاهرنا أفضل من باطننا عادة، وفي الرواية: «لو تكاشفتم ما تدافنتم»(2).
ينقل عن السيد بحر العلوم (رحمه الله) أنَّه قال بما هو مضمونه: الآن وبعد (25) سنة من جهاد النفس أستطيع أنْ أقول بضرس قاطع أنَّه لا توجد في قلبي ذرّة من حبِّ الدنيا.
وهذا كلام عظيم؛ فإنَّ السيد على عظمته احتاج إلى (25) سنة من الجهاد للنفس، حتّى نزع حبَّ الدنيا (المال، الشهرة، الرياسة، وغيرها) من قلبه.
فإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة السامية فإنَّه سيكون حقّاً (التائب النصوح) الذي باطنه أفضل من ظاهره، بحيث إذاتكلّم الناس عليه لم يهمّه الأمر، بل إنَّه لا يتألّم حتّى في نفسه مادام الله
ص: 73
راضياً عنه، ومادام قد أدى الوظيفة الشرعية، وبالعكس، فإنَّه إذا مدحه الناس فلا يتملّكه حتّى بعض الفرح؛ إذ هو مشغول بهمّه، مهموم بشأن آخرته.
نسأل الله أنْ يَقِينَا جميعاً من الآثام والمعاصي، بلطفه وكرمه وببركة أهل بيت نبيّه (صلوات الله وسلامه عليهم)، وأنْ يجعلنا جميعا من التائبين توبة نصوحاً، إنَّه سميع الدعاء.
1: ما هي التوبة النصوح؟ اذكر تعريفين لها.
2: لماذا وُصفت التوبة ب(النصوح) مع أنَّها صفة التائب؟
3: ماذا أجاب الشيخ الأنصاري (قدّس سره) عن ذلك الذي شتمه؟
4: ما هو معنى (الغسّاق) أذكر معنيين؟5: ماذا يعني أنْ يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره؟
ص: 74
ص: 75
ص: 76
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»(1)
يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا» وهنا قد يُتسائل عن هذه التوبة النصوح، وهل المراد بها التوبة الدفعية؟ أم المراد بها التوبة التدريجية؟ وهل المراد بها الكميّة؟ أم المراد بها الكيفية؟ وهل المراد ب«توبة نصوحاً» توبة واحدة شاملة؟ أم أنَّ المراد توبات متعددة؟ ثمَّ لو أُريد منها توبات متعددة فهل هي توبات متعددة متناهية؟ أم هي توبات متعددة لامتناهية بنحو اللامنتاهي اللايقفي؟
لقد جاءت كلمة (توبة) في الآية المباركة بصيغة النكرة،ولكنْ ما هي حقيقة (النكرة)؟
وتحقيق الجواب عن هذه الأسئلة يحتاج إلى مجال أوسع، لكنَّنا في هذا البحث الموجز سنقتصر على الإشارة إلى مسألة أصولية، نستثمرها في هذه الآية الشريفة، وسينفعنا هذا البحث - فيما ينفعنا -
ص: 77
لفتح نوافذ جديدة في التطبيقات على المسائل الأصولية، إذ كثيراً ما تُحجز المسألة الأصولية وتُحصر في إطار ضيّق، فيتوّهم من لا خبرة له بأنَّ هذه المسألة قليلة الفائدة أو عديمة الفائدة.
خذ مثلاً بحث (النكرة) وما الذي تدلُّ عليه؟
فهل تدلُّ على الفرد المردّد(1)؟
أمْ تدلَّ على الفرد المنتشر(2)؟
أم تدلُّ على الحصّة الكلية(3)؟أم تدلُّ على الطبيعة بقيد الوحدة(4)؟
أم تدلُّ على الكليِّ في المعين(5)؟
أم تدلُّ على الكليِّ المشاع(6)؟
وهو بحث أصُولي معروف، لكنْ قد يتصور البعض أنَّه بحث لغوي جمالي كمالي، فقد يسأل أحد بأنَّه لِمَ أتعبَ الأصوليون أنفسهم في تحقيقه وتحقيق أمثاله؟
إنَّنا إذا نظرنا إلى المسائل الأصولية من منظار أوسع - أي في
ص: 78
مجالات استخدام هذه القاعدة الأصولية في علم الكلام وفي علم الأخلاق وفي علوم أخرى إضافة إلى علم الفقه - فسوف نجد أنَّ أبواباً جديدة قد فتحت، وأنَّ هذه المسألة كانت ذات فوائد كثيرة ومتنوعة.
وسيجري البحث في ذلك بشكل موجز، ككبرى كلية، ثمَّ نقوم بتطبيق هذا البحث على (التوبة)المذكورة في الآية الكريمة، لكي نقوم بالاستثمار العملي في المسألة الفقهية وفي المسألة الأخلاقية.
مثلاً: إذا قال شخص: إنَّه يوجد في الحوزة العلمية رجل أعلم - وهذه نكرة وإنْ كانت موصوفة - أو قال شخص: يوجد في هذا المجلس ولي من الأولياء، وهذه اللفظة نكرة أيضاً، أو قال: جئني بولي من الأولياء، فماهي المحتملات عندئذٍ في المراد من قوله يوجد شخص أعلم أو يوجد ولي، كخبر، وما هي المحتملات في جئني بولي، كإنشاء؟
الجواب:
إنَّ المحتملات عديدة - كما سبق - لكنّنا الآن نشير إلى بعضها فقط:
* المحتمل الأوّل: هو الفرد المرددّ ثبوتاً، وهذا الاحتمال مردود؛ إذ في الواقع الخارجي كلُّ شيً فهو هو، وليس هو أو غيره.
ففي الآية الشريفة «تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» الاحتمال الأوّلمنتفي، لعدم إمكانه عقلاً؛ إذ لا يعقل وجود توبة مردّدة في
ص: 79
عالم الواقع ونفس الأمر، كما لا يعقل طلب إيجاد توبة مردّدة.
* المحتمل الثاني: عندما يقال: يوجد هناك شخص أعلم أو ولي، يراد الفرد المعيَّن ثبوتاً، لكنْ في عالم الإثبات هنالك عدَّة صور:
1) الصورة الأولى: أنْ يكون هذا الفرد في عالم الإثبات مجهولاً عند المتكلِّم والمخاطب.
2) الصورة الثانية: أنْ يكون في عالم الإثبات مجهولاً للمتكلِّم، لكنَّه معلوم للمخاطب، فيسأل عنه.
3) الصورة الثالثة: عكس الصورة الثانية، أي أنَّ المتكلِّم يعلم والمخاطب يجهل.
4) الصورة الرابعة: أنْ يكون معلوماً للطرفين.
وفي الآية الشريفة:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً».
فإنَّ هذه التوبة النصوح لا شكَّ في أنَّها عند الله تعالى وفي متن الواقع معيّنة؛ إذ لا يوجد عندهفرد مردّد، لكنْ في عالم الإثبات لا توجد إلّا صورتين من الصور الأربع، لأنَّ الله عالم بها بلا شكٍّ، فقد تكون مجهولة لدينا وقد تكون معلومة، هذا كلَّه من حيث شخص التوبة ومصداقها، وكذلك الحال في صنف التوبة أو نوعها.
فلو أنَّ شخصاً عصى معصية - مثلاً - فإنَّه قد لا يعلم ما هي التوبة النصوح عن هذا العمل؟
ص: 80
وما هي خصوصياتها؟
إذنْ في مرحلة الواقع التوبة النصوح محدَّدة عند الله ومعلومة، وهو المتكلِّم في هذه الآية الشريفة، لكنَّها مجهولة لدينا.
وهنا لابدَّ أنْ نسأل عن الثمرة التي تترتب على ذلك؟
والجواب: قد يقال مبدئياً: بأنَّها هي لزوم الاحتياط؛ لأنَّني لا أعلم أيّة توبة هي المحقِّقة للمأمور به في هذه الآية الشريفة، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.
مثلاً: هناك شخص أخاف وأرعب بعض الناس ثمَّ ادركته التوبة وقد غاب أولئك الناس وابتعدوا عنهبحيث لا يستطيع أنْ يستحلَّ منهم، فالتوبة النصوح بماذا تكون؟ هل هي بأنْ يصلِّي عنهم صلاة واحدة أو صلاتين أو ثلاثاً؟ أو بأنْ يتصدّق عنهم اليوم أو غداً أو بعد غد؟ أو هل هي بأنْ يذهب إلى الحرم الشريف ويزور ثمَّ يزور ثم يزور، أو بأنْ يستغفر الله اليوم وغداً وبعد غد؟ إذ لا يعرف بأيِّها سيغفر الله سبحانه وتعالى له، مع أنَّ حقَّ الناس هاهنا آخذ بعنقه.
نعم من الصحيح أنَّ الله يوم القيامة لعلّه سيرضي خصمائه عنه، لكنْ بأيْ عمل وبأيْ حدٍّ من حدود التوبة؟
إذن الاشتغال يقيني «تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» لكنْ لانعلم إنْ كانت التوبة محقَّقة، أيْ لا نعلم أنَّ مصداق التوبة النصوح بأيِّها يتحقَّق، أو بأيَّة مجموعة منها يتحقَّق؟
ص: 81
إنَّ الكثير منا يقول «استغفر الله» ويتصور أنَّ الذنوب قد انمحت بذلك، لكنْ حقوق الناس لا تمحى بذلك، وهذا هو القدر المتيقن، ثمَّ إنَّه من الصحيح أنَّ الله في يوم القيامة سيُرضي خصماء المؤمن عنه، وبعد رضاهم يسقطعنه العذاب، لكنْ هذه ال(بعد) متى تتحقَّق؟ فهنا المجرى مجرى الإحتياط.
نعم، الحقُّ أنَّ هذا الاحتياط استحبابي، وأنَّ المجرى مجرى البراءة؛ إذ ليس المقام من قبيل (العنوان والمحصِّل)(1).
ولكنْ مع ذلك فإنَّه لو تدبَّر الإنسان في ذلك، ولاحظ قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام):
«أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2).
فإنَّ عليه أنْ يحتاط، وأنْ يبقى متندماً ساخطاً على نفسهقالياً لها، زاجراً لها، ويكرّر الاستغفار ثمَّ يكرِّر ثمَّ يكرِّر، وإنَّ هذه علامة من علامات الإيمان الحقيقي والتوبة النصوح.
ص: 82
وممّا يرشدنا إلى ذلك رواية في الكافي الشريف تكشف بُعداً آخراً من أبعاد التوبة النصوح، إذ يُسأل الإمام الصادق (علیه السلام) عن التوبة النصوح؟ فيقول: «هي أنْ يتوب من الذنب ثمَّ لا يعود فيه أبداً»(1)، لكنْ من هو الذي لا يعود أبداً؟ إنَّه ذلك الذي يبقى قالياً لنفسه، زاجراً لها، ساخطاً عليها دوماً، لمعصية واحدة صدرت منه في قديم الأيام! فإنَّ هذا السخط الشديد هو الذي يحصّنه من المعصية.
كما ونلاحظ الرواية من جديد (هي أنْ يتوب من الذنب ثمَّ لا يعود فيه أبداً)، فإنَّ الإمام (علیه السلام) في هذه الرواية، يعلّق التوبةالنصوح على عدم الوقوع الخارجي للذنب في المستقبل أبداً(2)، أي أنْ يتوب من الذنب ثمَّ لا يعود فيه أبداً، ولكن من أدراني بأنَّ هذا الاستغفار المجرّد - وإنْ كان مع ندم حقيقي - يعصمني من العودة إليه؟
إذن عليَّ أنْ أتوب مرّة ثانية، وأتوب مرّة ثالثة، وأستغفر الله مرّة رابعة، وأتقرّب إلى الله وأتهجّد وأتضرّع وأبكي مرّة إثر أخرى، حتّى يقطع الإنسان بأنَّ التوبة النصوح قد تحقّقت.
ولنعد إلى محتملات المراد ب(النكرة)، فنقول: الرأي الذي توصّل إليه عدد من أعلام الأصوليين في (النكرة) أنَّها موضوعة
ص: 83
للطبيعة، وهي تدلُّ على الطبيعة بقيد الوحدة، لكنْ بنحو تعدّد الدال والمدلول، مثلما لو قلت (رجُلٌ) فإنَّ (رجل) يدلُّ على هذه الطبيعة، أمّا الوحدة فهي تستفاد من التنوين؛ إذ إنَّ (ال) و(التنوين) و(الإضافة) تفيدفوائد جديدة، فلو قلت: (رَجُلْ) دلَّ على الطبيعة، ولو قلت (رَجُلٌ) دلّ على الطبيعة المتفرّدة المتمصدقة.
وفي الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً» وههنا بيت القصيد، والبحث كان مقدمة لهذا، وإنْ كان لِما تقدّم موضوعية أيضاً، فقد يقال: (توبةً) المراد منها توبة واحدة فقط، لكنْ لماذا؟ لأنَّ المراد بها توبة شاملة جامعة مانعة، وذلك يعني أنَّ الله لا يريد من الإنسان أنْ يتوب اليوم ثمَّ يعود في المعصية ثمَّ يتوب، بل إنَّ الله يريد من الإنسان قراراً نهائياً شاملاً كاملاً، توبة واحدة (توبة نصوحاً) ويؤكد هذا المعنى كلمة (نصوح) أيضاً.
وذلك يعني أنَّ على المرء أنْ يخلو مع نفسه عندما يدخل الحرم الشريف مثلاً، ويستعرض المعاصي التي يجترحها - لا سمح الله - أو الرذائل الخلقية، ثمَّ يتخذ قراراً نهائياً بتركها بالمرّة أبد الآبدين، تماماً - مثل العملية الجراحية - ثمَّ لا يعود إليها أبداً.ذلك أنَّ الإنسان تارةً يطهّر نفسه بالتدريج ويزكيّها شيئاً فشيئاً، والناس عادة هم هكذا، حتّى الأخيار منهم يترقّى ويسمو ويزكّي نفسه قليلاً قليلاً، وتارةً أخرى: يطهّر ذاته بقفزة نوعية عملاقة؛ حيث يحدِّث نفسه: لِمَ لا أكون كما قالت الآية الشريفة؟
ص: 84
وبذلك يقرّر أنْ يوجِد في نفسه تحوّلاً جوهرياً دفعةً واحدة، وهذا ممكن إذا عزم الإنسان عليه وصمّم، لكنْ الإنسان - عادة - لا يتخذ هكذا قرار، وإنّما يريد الارتقاء شيئاً فشيئاً وبالتدريج.
لكنْ أَلا يجدر به أنْ يفكّر في نفسه: لِمَ لا أتخذ قراراً صارماً جازماً بإيجاد تحوّل ذاتي جوهري دفعي بقفزة جبّارة، مستعيناً بالله تعالى ومتوسلاً بأمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين) إنَّ الإنسان إذا اتخذ هكذا قرار فسوف يتغيّر ويتحوّل ويتطوّر دفعة واحدة بإذن الله تعالى؛ فإنَّه كريم والمعصومون (عليهم السلام) كرام.
ولكنْ المشكلة في الإنسان نفسه، وفي ضعف همته فإذا طلب من الله تعالى أنْ يرتقي شيئاًفشيئاً فإنَّه سيعطى ذلك، وإذا صمم على التحوّل الجوهري الدفعي، وطلب ذلك وتاب إلى الله توبةً نصوحاً فإنَّه سيعطى ذلك، فعلى الإنسان عندما يذهب إلى الحرم الشريف حيث مراقد أئمة أهل بيت العصمة والطهارة (علیهم السلام) ، أو إذا صلى في قلب الليل البهيم، وفي سجود صلاة الليل عليه أنْ ينقطع إلى الله سبحانه وتعالى ويطلب منه ذلك، وأنْ يتوب إليه توبةً نصوحاً، توبةً واحدة، جامعةً مانعةً.
إنَّ الآية لا تقول (توبات) وإنما (توبة) وهذا هو ما يريده الله من الإنسان، أمّا أنْ يتوب الإنسان ويخطئ ثمَّ يرجع فإنَّه الأقلَّ حظاً ونصيباً.
إذن قد يستظهر من هذه الآية - اعتماداً على القاعدة الأصولية التي تقول إنَّ النكرة تدلُّ على الطبيعة بقيد الوحدة - إنَّ
ص: 85
الله يريد منك هذه التوبة الواحدة، التي تنقلب بها رأساً إلى كتلة من الذهب الخالص، بحيث لا يفكر هذا الشخص بعدها لا في هذه المعصية ولا في تلكالمعصية، وبحيث لا يرى إلّا رضا الله سبحانه وتعالى، لا يرى إلاّ أهل البيت (علیهم السلام).
ومن نافلة القول أنْ نقول: إنَّ المشكلة أنَّ كثيراً منّا يرى نفسه أولاً وبالذات، فإنَّه - مثلاً - يفكّر في مرضه أكثر ممّا يفكّر في مرض المجتمع الإسلامي وإنقاذه، ويفكّر في وضع بيته أكثر من تفكيره في بناء (البقيع)، وهذا نوع خذلان لأهل البيت (علیهم السلام) يحتاج إلى توبة، ولعلَّ غالب الناس - إلاّ من عصمه الله - ساقطون في هذه المعصية وهي خذلان أهل البيت (علیهم السلام) - أعاذنا الله سبحانه من ذلك وإيّاكم - وإلاّ لما بقي البقيع مهدماً هكذا حتى الآن، وما كان البناء والترميم والإعمار في سامراء حتى الآن متعثّراً، فأكثرنا مقصِّر في حقِّ أهل البيت بدون شك.
والحاصل: إنَّ الإنسان تارةً يفكّر هكذا: عليّ أنْ أتصدى بالتدريج أكثر فأكثر فأبدأ بالكتابة أولاً، ثمَّ بالمتابعة، وبالخطابة، وبالتنظيم، وبالمتابعات الحقوقية، وتارة يفكر هكذا: كلّا، بل لابَّد منانطلاقة جبّارة استثنائية، فيتخذ قراراً واحداً جازماً لا رجعة فيه.
وأذكر ههنا حادثتين متقابلتين، تعبّران عن مجمل ما جرى طرحه:
ص: 86
فقد التقيت بالعديد من (المهتدين) الذين كانوا فيما مضى بعداء عن مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ومن الخط الآخر:
* الحادثة الأولى: أحدهم كان من السادة الأشراف، وقد رأيته شخصياً، هذا الشخص استغرقت رحلته من ذاك الخط إلى مذهب أهل البيت (علیهم السلام) عشرين سنة كاملة، وكان طوال هذه العشرين سنة يحقّق ويطالع وهو في بلد آخر، ثمَّ أتى النجف، وذهب إلى كربلاء والتقى بالعلماء والأفاضل، ثمَّ أعلن تشيُّعه، فلقد كان في طوال عشرين سنة كاملة! في حالة تحقيق حتّى تحوّل واهتدى، وهذا نمط من الناس، وهذه توبة تدريجية، وهو شئ جيّد فقد أفلح أخيراً.
* الحادثة الثانية: ولكنْ فيالمقابل هناك قصّة حقيقية أخرى، لشخص آخر في بلد آخر وهو من العلماء أيضاً، قال لي: التقيت بعالم من الخط الآخر في شهر رمضان، حيث كنّا في إحدى العواصم الإسلامية، وفي إحدى مدراسها طوال الشهر الكريم، ففكّرت أنَّ هذه فرصة جيّدة كي أعرِّفه على مذهب أهل البيت (علیهم السلام).
يقول: في الليلة الأولى ناقشته إلى الصباح فلقد كان ذلك الإنسان عَلَماً في ذلك المذهب، وفي الليلة الثانية استمرَّ النقاش إلى الصباح أيضاً، والليلة الثالثة إلى الصباح كذلك، والليلة الرابعة وهكذا إلى الليلة العشرين من شهر رمضان، يقول: فتحيرّت كثيراً فقد ذكرت له مختلف الأدلة من (المراجعات) إلى (الغدير) وإلى
ص: 87
غيرهما، وفكّرت في نفسي أنَّ هذا الإنسان رغم عناده إلاّ أنَّه يبدو لي طيّباً في جوهره، لكنَّه لم يقتنع بعد، فما الذي يمكنني فعله حتّى أُحدِث فيه تحوّلاً دفعياً؟
يقول: وبعد تفكير وتأمّل توصّلت إلى أنَّ المفتاح هو السيدة الزهراء (علیها السلام) الصديقةالكبرى.
يقول: في ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان جلست معه وقلت له: ما هو موقع الزهراء (علیها السلام) في قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ كم كان يحبها رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟
ألم يقل: «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، من أغضبها فقد أغضبني»؟
ثمَّ ألم يكن النفران قد آذياها وظلماها وغصباها حقَّها؟
يقول: أخذت أسرد هذه القضايا بالتفصيل، وكنت أبكي عندما أتكلَّم، وإذا بي أراه هو الآخر أخذ يبكي معي أيضاً!
يقول: وبعدما أكملت كلامي بعد ساعتين أو أكثر، قال لي ذلك العالم المخالف: إنَّني أفكِّر في نفسي الآن وأنا أخيّرها بين الزهراء (علیها السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أولئك النفرين من جانب آخر، وأخاطب نفسي بأنَّ لهما حبّاً موجوداً في القلب يصعب عليَّ اقتلاعه، لكنْ هذه حقائق في كتبنا موجودة، فما العمل؟
ثمَّ قال: ولكنْ مع ذلك والله لا أفضِّل على الزهراء (علیها السلام) ورسول الله(صلی الله علیه و آله) أحداً، وقد اهتدى في نفس المجلس وحسن اهتداؤه.
ص: 88
هكذا بعض الناس لكي يصبح مثل سلمان - ولو أنَّه لا يمكن عادةً أنْ يكون أحد مثله ولكنَّه قد يقترب منه - يحتاج إلى خمسين سنة من جهاد النفس، أو حتى يتشيّع يحتاج إلى عشرين سنة من التحقيق، لكنْ بعض الناس حالهم كحال هذا العالم الثاني، يتوبون دفعةً وفجأةً توبةً واحدةً كاملةً شاملة، «تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً».
فيعرج هذا الإنسان في توبة واحدة نصوح إلى أعلى عليين، وإذا به قد تحوّل من فضة إلى ذهب أو من تراب إلى ذهب، فلِمَ لا نكون كذلك؟ والمفتاح موجود، والبوابة واسعة، إذ يمكن للمرء أنْ يذهب إلى حرم أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين) ويطلب منه ويلحُّ بالدعاء، ويتفرّغ طوال ساعات إلى نفسه وإلى تهذيبها، ويضع أمام ناظريه جدول سيئاته، يفكّر برذائله وسيئاته ومعاصيه، ثمَّ يتوب إلى الله منها توبةً نصوحاً بقرار واحد صارم جازمٍ، متوكِّلاً على الله ومستعيناً بآل الله (علیهم السلام)كيْ ينقلع عنها وبلا رجعة أبداً.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً». نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يجعلنا جميعاً من التائبين توبةً نصوحاً، توبةً واحدةً شاملةً عامةً كاملةً، نحرز بها رضا الله سبحانه وتعالى، ورضا الرسول الأكرم وأهل البيت (علیهم السلام).
ص: 89
1: هل المراد ب(توبةً نصوحاً) التوبة التدريجية أمْ التوبة الدفعية؟
2: (توبة) في الآية الشريفة نكرة، فهل المراد بها الفرد المردد أمْ المراد الطبيعة بقيد الوحدة؟
3: ماذا يعني الاحتياط في التوبة؟
4: هل الأفضل أنْ يتوب العبد إلى الله تعالى توبات متعددة كثيرة؟ أو أنْ يتوب توبةً واحدةً شاملةً جامعةً مانعةً؟
5: ما السرُّ في كون الصديقة الزهراء (عليها السلام) هي السبب الأكبر في هداية الكثير من الناس للمذهب الحق؟
ص: 90
ص: 91
ص: 92
بسم الله الرحمن الرحيم
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»(1).
سيتمحور البحث في الفصل القادم (السابع( - وهو الأخير في الكتاب - حول مفردة (توبوا) في قوله تعالى: «تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» في مقاربة وجه المدّ في قوله تعالى «توبوا».
إذ أنَّ الآية الشريفة ينبغي أنْ تقرأ بمدِّ الواو الثانية، وليس من المحبّذ أنْ تقرأ بدون مدّ، وقد جرى بعض البحث في ذلك في كتابنا (الحجة معانيها ومصاديقها) فراجع، لكنْ سنضيف في هذا الكتاب، بإذن الله تعالى، بعض ما لم نذكره هناك.
والبحث في هذا الموضوع يستلزم التمهيد والتقديم له فيقضيّة هامّة، كونها تعدُّ مرجعية منهجية له، وإنْ كانت هي بحدِّ ذاتها لها الموضوعية ولها الأهمية القصوى، وهي البحث في كيفية أنْ يكون القرآن تبياناً لكلِّ شئ في وجوه معادلة الظاهر والباطن
ص: 93
منه، والهندسة الحرفية فيه، وأثارها في تبيان الدلالات والمعاني، ممّا يتطلب تفصيله في هذا الفصل من الكتاب، ليكون مدخلاً للفصل الأخير، كونه من المخرجات البحثية في الكتاب.
كيف يمكن أنْ يكون القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء؟
كتاب يتكوّن من حوالي (600) صفحة كيف يكون تبياناً لكلِّ شيء؟
توجد الآن مكتبة في إحدى الدول فيها (150) مليون كتاباً غير المجلات، لكنَّها تملأ بنايات ضخمة ذات طوابق عديدة! ولو أردت أنْ تحيط بما في الكون لبلغت المجلدات التريليونات، ولقصرت رغم ذلك عن ذلك، «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَالْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي»(1) لكنْ كلُّ هذه الكلمات متضمّنة في القرآن الكريم أي في ال(600) صفحة، فكيف؟
نعم إنّنا نتعبّد بالقول وهذا صحيح، وذلك له وجهه أيضاً، لكنْ تارة نريد إضافة إلى ذلك أنْ نتعقّل، فكيف يمكن ذلك؟
والجواب: هنالك وجوه عديدة تزيد على السبعة(2)، لكنْ نذكر منها وجهين فحسب:
ص: 94
أ. فمن الوجوه: معادلة الظاهر والباطن، إذ إنَّ للقرآن سبعين بطناً والسبعين يراد بها الكثرة لا الحدّ والعدد، وهذا له بحث مفصّل وليس ذلك شاهدنا الآن.
ب. ومن الوجوه: هندسة الحروف والكلمات والجمل وموقعها بالقياس إلى مختلف الحروف والكلمات والجمل الأخرى، من أول القرآن الكريم إلىآخره.
وتوضيح ذلك سيتمُّ ضمن المجاميع التالية:
المجموعة الأولى: موقع الحروف، فإنَّ الحروف إذا تغيّرت هندستها تغيّر المعنى، فمثلاً: مالَ، يميلُ، ميلاً، إذا عكستها أصبحت: لامَ يلوم لوماً، ومعنى مالَ يختلف عن معنى لامَ، مع أنَّ الحروف هي نفس الحروف، وإنَّما الهندسة هي التي تغيرت فقط.
مثال آخر: عَسَى، وسَعى، فإنَّ الحروف نفس الحروف ولكنْ أينْ سعى من عسى؟ وهكذا في مختلف أنواع هندسة الحروف المتصوّرة، مثلاً: روح وحور، أحدهما عكس الآخرى لكنْ الروح لها معنى وحور لها معنى آخر.
إنَّ هذا هو الذي نفهمه نحن ونمارسه ونعرفه، أي موقع الحرف بالقياس إلى مجمل الكلمة، مثل سعى وعسى، لكن الذي لا
ص: 95
نعرفه ولا نقدر عليه - إلا النادر النادر - هو:
موقع هذا الحرف بالنسبةلحروف الكلمة المجاورة.
موقع هذا الحرف بالقياس إلى حروف الكلمات البعيدة.
موقع هذا الحرف بالنسبة إلى نفس الكلمات البعيدة الأخرى.
والآن لنفكِّر معاً في الثمانية والعشرين حرفاً، فكم كلمة يمكن أنْ تتركب منها؟
والجواب بوضوح أنَّه يمكن أنْ تتكون منها ملايين الكلمات، وهذا ما نجده الآن في المعاجم، إذ إنَّ بعضها يحتوي على أكثر من مليون كلمة.
فلو ضربت الثمانية وعشرين حرفاً ببعضها البعض لتولدت كلمات ذات كمية هائلة، فكيف لو كانت المفردات بالألوف؟
فإنَّ المفردات القرآنية أكثر من مليون ونصف حرف، وعلى هذا ستكون نسبة بعضها إلى بعض فوق طاقة أي حاسوب، فماذا لو كانت نسبة حرف في القرآن إلى أيِّ حرف آخر تفيد معنى؟
ونحن لا نفهمه وبالطبع فهو «تِبْيَانَاً لِكُلِ شَيءٍ»، والدالِّ عليه موجود، وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) والأمير(علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام)، يعلمون ذلك ونحن لانعلم ذلك. قال تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» (1).
ص: 96
المجموعة الثانية: موقع الكلمات بالقياس إلى الكلمات القريبة والبعيدة ثنائياً وثلاثياً ورباعياً فصاعداً، ونضرب مثالاً معروفاً: (إيّاك نعبد) فلو قلت (نعبدك) فسيختلف المعنى؛ إذ إنَّ (إيّاك نعبد) هي نفس (نعبدك) لكن تقديم ما حقُّه التأخير يفيد الحصر، إذن موقع الكلمة بالقياس إلى كلمة ثانية يفيد معنى جديداً، والقرآن الكريم من وجوه إعجازه أنَّ موقع الكلمة بالقياس لكلِّ كلمات القرآن محسوبة بدقِّة؛ ولذا قال القرآن «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»(1).
إنَّ من المستحيل أنْ يستطيع الإنسان أنْ يحسب موقع الكلمة بالقياس إلى جميع باقي الكلماتالأخرى، وتكون لكلِّها دلالات مفهومة مفيدة عنده.
فلاحظ: موقع الكلمة ليس بالنسبة للكلمة المجاورة بل بالنسبة لكلِّ الكلمات.
المجموعة الثالثة: موقع الجملة بالنسبة للجمل الأخرى، فكذلك أيضاً ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً وهكذا، فإنَّ الذي نعرفه نحن هو موقع الجملة في السياق، لكنْ موقع أيَّة جملة قرآنية
ص: 97
بالنسبة لكلِّ القرآن الكريم لهو أمر خافٍ علينا ولا نعرفه، أمّا بالنسبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإنَّه كما قال تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(1) فالإحصاء موجود هناك: فقد أحصى الله تعالى كلِّ شيء في إمام مبين من عباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول، وعند هؤلاء الأطهار أودع هذا العلم أيضاً بدون شكٍّ وبدون كلام، وهذا وجه من الوجوه الواضحة لهذا المعنى.ولكي أقرّب هذا المعنى أذكر مثالاً: كنت أقرأ قبل فترة مقالاً علمياً حول الأهرام - هذا للتقريب إلى الذهن وإلّا أين عمل المخلوق من عمل الخالق؟ - يقول المقال: اكتشف العلماء سرِّاً من أسرار عظمة الأهرام - الظاهرية - فإنَّ الأهرام ليس مجرد بناء ضخم، بل الأهرام في الواقع هو موسوعة في علم الفلك، فإنَّ هندسة الأحجار وحجمها ونسبة الحجر للحجر الآخر مدروسة هندسياً بعناية كبيرة، بحيث تكشف دقائق علم الفلك على المقدار الذي توصلوا إليه في ذلك الزمان، وقد ذكر في المقال تفصيل ذلك.
ويتّضح ذلك بملاحظة أنَّ الإنسان العادي يضع حجراً هنا وحجراً هناك ولا يلاحظ الترابط، أمّا الإنسان العبقري المتميّز فيمكن أنْ يهندسها كي تكوّن كلُّ مجموعة جملة أو تفيد معنى، فمثلاً يضع ثلاثة أحجار هنا ويضع في مقابلها أربعة أحجار هناك
ص: 98
من حجم أصغر ليفيد معنى ما، ثمَّ يستمر بترتيب المجموع على هذهالهندسة، وهذه تحتاج إلى عبقرية كما لا يخفى.
وإذا كان البشر - وهو مخلوق من مخلوقات الله - يصل إلى مرتبة من مراتب ذلك، فما بالك بالخالق العظيم؟
المجموعة الرابعة: الإعراب، وكما هو واضح فإنَّ له دلالاته، فمثلاً عندما تقول: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) بنصب كلمة (الله) فهذا إيمان، وإذا رفعت كلمة (الله) في الآية الشريفة فهذا كفر، وهذا هو المثال المبسط، وقس عليه ما لا نقدر عليه من ملاحظة نسبة كلِّ إعراب أو حالة لكلمة ما إلى كافّة حالات وإعراب سائر الكلمات.
المجموعة الخامسة: علامات التجويد - وهو بيت القصيد - وكلُّ هذه لها دلالات دقيقة.
ولعلَّ ما سبق كان كلُّه من وجوه نزول القرآن باللغة العربية، لأنَّ قدرة اللغةالعربية وطاقتها الاستيعابية كبيرة جداً، فلو لاحظنا قواعد التجويد من مدٍّ وإدغام وإشمام وإمالة وإلى آخره من القواعد المعروفة، فإنَّ كلَّ هذه القواعد لها حكمة عظيمة، وميزان دقيق، وسوف نقوم بتطبيق بعضها في الآية الشريفة، وفي آيات
ص: 99
آخرى مشابهة، في بحث الفصل القادم.
إنَّ الله القادر المحيط خلق لغةً، وهذه اللغة قادرة على أنْ تستوعب كلَّ كلمات الله في القرآن الكريم، ذلك أنَّ كافّة علامات التجويد وقواعده ذات دلالة، وكلُّ حرف وكلُّ علامة وكلُّ مدٍّ أو إدغام أو إمالة أو إشمام أو وصل أو وقف، فإنَّ له دلالة وفائدة، مع أنَّ الكثير منّا يتصور الأمر أمراً ديكورياً، وشيئاً جمالياً، وليس كذلك.
ص: 100
ص: 101
ص: 102
بسم الله الرحمن الرحيم
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»(1).
لبيان وجه الحكمة في المد في «توبوا»، في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ» نلاحظ أنَّ اختيار (إلى الله) دون (لله) هو الذي سبّب تولّد المدّ، إذْ المدَّ إنّما يكون في حروف العلة الثلاثة: إذا كانت بعدها همزة - وهذه إحدى الصور - فهنا يكون المدُّ بين ألِفَيْن إلى خمس ألِفات حركية، إذ القاعدة هي أنَّه لو كانت بعد حروف العلِّة همزة فالمدُّ يكون - تجويدياً - بين حرفين إلى خمسة أحرف.
ولعلَّ من أسباب اختيار (إلى الله) هو هذا المدّ بالذات، لماذا؟ قد يكون من أسباب ذلك ما يحمله (المدّ) من دلالة على الديمومة والاستمرارية، فإنَّ الحركية في(توبوا) ومدَّ الحرف الأخير وتطويله قد يقال بأنَّه يدلُّ على ضرورة استمرار التوبة إلى آخر عمر الإنسان، وأنَّ التوبة ليست حركة واقفة، يعني: ليست أمراً ساكناً جامداً ينتهي، وإنَّما هي حركة مستمرة متموّجة متصاعدة دائماً وأبداً إلى الأعلى، كمن يرتقي جبلاً لا حدود لرفعته وشموخه.
ص: 103
وهنا يظهر فرق من الفروق بين الاستغفار وبين التوبة، فإنَّ كثيراً من الناس يتصورون أنَّ الإستغفار (يرادف) التوبة، أو يتصورون أنَّه (يساوي) التوبة، فإمِّا يتصورون المرادفة المفهومية أو يتصورون المساواة المصداقية، لكنْ الواقع خلاف ذلك، فإنَّ الإستغفار أمر والتوبة أمر آخر، والله تعالى يقول: «وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ»(1) إذن الاستغفار شيء والتوبة شيء آخر، والناس - عادة - لهم أنس بمفهوم الاستغفار وبالقول مثلاًاستغفر الله ربِّي وأتوب إليه، لكن التوبة مفهومها غير متداول لديهم - عادة - وهنا بيت القصيد.
إنَّ الاستغفار يعني أنْ تطلب من الله سبحانه وتعالى أنْ يغفر لك ذنوبك، وهذه حركة دفعية، لكنْ التوبة مفهوم أسمى من ذلك بكثير، يقول تعالى: «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» يعني: ارجعوا إليه، وهذا الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى لا حدَّ له، ولا يقف عند حدِّ.
أمَّا الاستغفار فهو دفعي، فهو أمر واحد، لكنْ التوبة هي الرجوع إلى الله وحيث إنَّه تعالى فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى من كلِّ الجهات، فتكون التوبة إليه حركة صعودية مستمرة إلى الله «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْ-مُنْتَهَى»(2) وعلى الإنسان أنْ يكدح في الإرتقاء حتّى الوصول إلى الله تعالى:
ص: 104
«يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ»(1).
ولكيْ يتّضح لنا ذلك أكثر،نلاحظ انَّ الجميع عندما يواصلون الدراسة يومياً فانِّهم سيلمسون الترقّي والتقدّم باستمرار، ولو تجمّد الانسان فترة من الزمن لأَحسَّ بالخسارة، ولكنْ ماذا عن الترقّي والتعالي يومياً في مدارج القرب إلى الله تعالى؟ هل نحن في توبتنا إلى الله، أي في رجوعنا إلى الله سبحانه وتعالى، هل نحن كذلك؟
أي هل إنِّنا نقارن باستمرار بين الأيام، فبالأمس مثلاً كان انقطاعي إلى الله وحضور قلبي وقربي إليه بدرجة، واليوم كمْ هو قربي وعروجي إلى الله تعالى؟
في الأدب الحديث هناك ما يسمى بالأدب التصويري، وهذا نوع من الأدب الراقي جداً، وإنَّ قواعد التجويد تسهم في تطوير الأدب التصويري؛ وذلك أنَّها تعطي تموّجاً وحركية وصورة للكلمات.
وهذه الأمثلة تعدُّ من الشواهد على ذلك:
أ. يقول تعالى: «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ»(2) فلماذا لم يقل تعالى:وأُتِيَ أو وجئنا؟ فهناك جهات كثيرة وحكم عديدة لاستخدام (جيء) بدل (أُتِي أو جئنا)، وقد يكون منها أنَّ أُتي وجئنا ليس فيهما مدٌّ ولا حركية وليس فيها أدب تصويري، أمّا (جيء) ففيها حركية
ص: 105
وفيها تصوير لفظيٍّ لشيءٍ ثقيل عظيم جداً يجرجر نحو أولئك العصاة.
ب. مثال آخر للمدِّ قوله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ»(1)، فإنِّها تتضمن أدباً تصويرياً وحركية، ولم يستخدم الله سبحانه وتعالى كلمة (أتى) لما سبق.
وقد يشهد لذلك أنَّه في مكان آخر حيث يوجد في مادة الاتيان مد، آتى بكلمة (أتى) في قوله تعالى: «ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ»(2).
والحاصل: إنَّ هناك فوارق وفوائد كبيرة من مختلف قواعد التجويد، بل لو إنَّنا عرفناها ككبريات كليّة لما استطعنا أبداً - رغم ذلك - استخدامها بهذه الدقِّة الفائقة إطلاقاً بل كان الميسور لنا بعض التطبيقات فقطلا غير.
ج. مثال آخر من القرآن الكريم حتى نعرف بعض عظمة القرآن الكريم، قال تعالى: «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ»(3) أمّا لو استخدمت مفردة (ينير) لوقفت الآية وجَمُدت لعدم إمكانية مدَّ كلمة (ينير) لكن (يضئ) فيها مدٌّ وحركيّة وأدب تصويري.
د. ومثال آخر: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ»(4) وأمّا لو كانت الجملة: (وهزّي بجذع النخلة) لكان كلاماً عاديّاً؛ لأنَّ حروف العلِّة إذا لم تكن بعدها ألف أو شدّة أو ما أشبه ذلك فإنَّه لا
ص: 106
يصحُّ مدُّها، فلعلَّ من جهات المجيء بكلمة (إليك) هو لكي يكون هناك مدٌّ وحركيّة.
ومن ذلك نستنتج أنّنا ببعض التدبّر في الآيات القرآنية الكريمة قد نكتشف نحن البشر الضعاف القاصرون بحاراً من المعارف، فكيف إذا كان المرجع هو عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) أميرالمؤمنين ومولى الموحدين باب مدينة علم رسول الله، الذي يتموّج بحر العلم في صدره؟
إنَّ علينا أنْ نرجع إليه (علیه السلام) لكي يفيض علينا من بحار معارفه غيبيّاً أيضاً، إذ من الناحية الظاهريّة على المرء أنْ يدرس ويطالع ويجد ويجتهد، لكنَّه إذا أراد أنْ تفتح له نافذة وروشن من رواشن عالم الغيب فعليه بالتوسّل بوسائط الفيض الإلهي، وعندها قد يقطع مسيرة مليون سنة في يوم واحد! و(ليس العلم بكثرة التعلّم، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أنْ يهديه)(1).
وصفوة القول: لقد ورد أمر إلهي صريح بالتوبة في الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» وهذه الكلمة تميّزت بالمدّ، وهذا المدُّ في (توبوا) يدلّنا على لزوم أنْ تكون هناك حركة مستمرة إلى الله تعالى، أي أنْ يكون الرجوع إلى الله تعالى في كلِّ آنٍ آن، فهل نحنكذلك الآن؟ أمْ أنَّ هموم الحياة الشخصية استحوذت على الكثير منّا فلم يعد يفكِّر إلّا في الحوائج المادية اليومية
ص: 107
الضيقة، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب وشبه ذلك(1)؟
إنَّ هذه القضية بالذات تعدُّ من امتيازات أولياء الله الأبرار، فسلمان المحمدي (رضوان الله عليه) - الذي كان من الحواريين - كيف كان يتعامل مع لحظات حياته؟
الذي يستظهر أنَّه كان في حالة عروج وسموٍّ وتكامل دائم، وسعي متواصل للمزيد من القرب إلى الله تعالى، أمّا نحن فإنَّ أكثرنا من حيث القرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن حيث الرجوع إلى الله جلَّ اسمه مغبونون، أي إنَّ يومنا هذا هو كاليوم السابق عليه، إنْ لم يكن أسوأ - لا سمح الله - يجب على الإنسان أنْ يكون كادحاً إلى الله سبحانه دوماً: «يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاًفَمُلاقِيهِ»(2) وفي كلِّ ثانية لابدَّ أنْ يكون هناك تطوّر، وفي كلِّ لحظة لابدَّ أنْ يزداد حبّاً لله تعالى وقرباً منه، وكذلك الحال بالنسبة إلى حبِّ أولياء الله والتقرّب إليهم.
وعلى سبيل المثال فإنَّ بعض الناس عندما يسمع اسم علي بن أبي طالب (علیه السلام) يخفق قلبه حبّاً، وبعضهم لسان حاله كما قال الشاعر:
لا عذَّب الله أُمّي إنّها شربت *** حبَّ الوصي وغذّتنيه باللبن
وكان لي والد يهوى أبا حسن *** فصرتُ من ذي وذا أهوى أباحسن
ولكن يوجد إنسان آخر حبُّه أشد، ودقات القلب تكون عند
ص: 108
سماع اسمه أشد، وهذا هو حال الكثير من الناس عندما يسمع اسم الإمام الحسين (عليه السلام) فترى قلبه يخفق لكن بنوع آخر، يخفق باللوعة، ويخفق بالأسى، ويعتصر قلبه حزن رهيب، والمحبون والمفجوعون في ذلك على درجات.
والأمر كذلك تماماً بالنسبة لحبِّنا لولي الله الأعظم f فإنَّنا إذا كنَّا حقيقة نزداد يوماً بعديوم حبّاً لولي الله الأعظم f لكان ذلك من بواعث تعجيل الفرج، ولكن المشكلة أنَّه لا توجد لدينا القابلية ولا تلك المحبة الحقيقية الطافحة الجياشة، نعم قد نتذكّر في اليوم والليلة مرّة أو مرّتين ذلك الإمام المؤمِّل الغائب المنتظر والذي بيده مقاليد الكون كلِّه، لكنْ المتيّم العاشق هو من يفكِّر في كلِّ لحظة في سيّده ومولاه، وهو في البيت، في الشارع، في المدرسة، في محلِّ عمله، بل حتّى حين يدرُس أو يُدرِّس أو يكتب أو يزرع أو يتحدّث مع الناس.
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ» ارجعوا إليه، كونوا في حركة راجعة صاعدة إلى الله، لأنَّنا من الله وإلى الله «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى»(1)، فهذا هو الرجوع إلى الله، فنحن أتينا من عالم الروح والنور ومن عالم الذر إلى عالم المادة الدانية المظلمة... لذا (توبوا إلى الله) وارجعوا إليه، تساموا وترفّعواعن مقتضيات هذا البدن المادِّي الضيِّق الظلماني.
ص: 109
نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يجعلنا وإيِّاكم ممّن يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى، وممّن يتوبون إليه توبةً نصوحاً إنَّه سميع الدعاء، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
1: كيف يمكن أنْ يكون القرآن الكريم بصفحاته المحدودة تبياناً لكلِّ شيء؟
2: أُذكر ثلاثة أمثلة لموقع الحرف، وموقع الكلمة، وللإعراب؟
3: ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟
4: على ماذا يدلَّ المدُّ في (توبوا) وفي (إذا جاء نصر الله) و(يكاد زيتها يضيء)؟
5: لماذا طالت غيبة ولي الله الأعظم الإمام المنتظر f؟
ص: 110
1: القرآن الكريم.
2: الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، تحقيق: محمد باقر الخرسان، النجف الأشرف، مطابع النعمان، 1386ه - 1966م.
3:
الأمالي، للشيخ الطوسي، ط: أولى، قم، دار الثقافة، 1414ه.
4: الكافي، للشيخ الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ط: الخامسة طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363ه.ش.
5: مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري، ط: أولى، بيروت، مؤسسة آل البيت (عليهم
السلام)، 1408ه - 1987.
6: جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين البروجردي، قم، المطبعة العلمية، 1399ه.
7: لسان العرب، ابن منظور، قم، أدب الحوزة، 1405ه.
8: تاج العروس، محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري بيروت، دار الفكر، 1414ه.
9: تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ط: الثانية، قم، مؤسسة الهادي، 1416ه.
10: تفسير الإمام العسكري (علیه السلام)، المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي f،ط: أولى، قم المقدسة، مهر، 1409ه.
11: مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق: لجنة من العلماء، ط: أولى، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1415ه.
12: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،
ص: 111
جار الله الزمخشري، مصر، مطبعة الحلبي وأولاده، 1385ه - 1966م.
13: التبيان في تفسير القرآن، شيخ الطائفة الطوسي، تحقيق: أحمد قصير العاملي، ط: أولى، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409ه.
14: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان، ط: الثانية، قم، طليعة النور، 1427ه.
15: مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، ط: أولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1421ه.
16: بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، طهران، مؤسسة الأعلمي، 1404ه.
17: نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، شرح: محمد عبده ط: أولى، قم، دار الذخائر، 1412ه.
18: بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ط: الثانية، بيروت مؤسسة الوفاء، 1403ه.
19: مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، ط: الثانية، طهران،انتشارات مرتضوي، 1362ه.ش.
20:وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، ط: الثانية، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)1414ه.
21:الحجة معانيها ومصاديقها، المؤلف، ط: أولى، بيروت، مؤسسة التقى، 1432ه.
22: المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، السيد مرتضى الشيرازي، ط: أولى، بيروت، مؤسسة التقى، 1432ه.
23: الوافي، الفيض الكاشاني، تحقيق: ضياء الدين الحسيني، ط: أولى، أصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) 1406ه.
ص: 112
كلمة المقرر 7
تمهيد 9
منهج التفسير بالتعليل 9
الفصل الأوّل
لماذا خصَّ الله تعالى المؤمنين بخطاب التوبة؟/13
وجوه توجيه الخطاب إلى المؤمنين في الآية 15
1. المؤمنون أقرب للاستجابة 16
2. المؤمنون هم الأحب للرب 17
3. الإشعار بسببية الإيمان للتوبة 17
العلاقة بين الإيمان والتوبة 18
السيد البروجردي (رحمة الله) وسرعة الغضب 19
إستذكار المؤمن لذنبه 20
الذبابة وصلاة الليل! 21
4. التوبة تستبطن البعد والقرب 21
آدم (علیه السلام) والأنوار الخمسة (علیهم السلام) 22
أسئلة للقارئ الكريم : 24
الفصل الثاني
مفردة (عسى) وعلّة التكفير عن السيئات في التوبة/25
علل اختيار كلمة (عسى) رغم علم الله المحيط 27
1. المراد المدلول الالتزامي 28
2. (عسى) بلحاظ القابل لا الفاعل 29
3. ليكون المرء بين الخوف والرجاء 31
ص: 113
باع (زيارته) فخسر جناته! 31
4. (عسى) بلحاظ لوح المحو والاثبات 34
5. التوبة ليست علّة للمغفرة 37
6. المغفرة فضل وليست حقّاً 39
7. عدم المعصية شرط متأخر 41
صار من أعوان الظلمة بأكلة واحدة! 44
الأخوان: العابد والماجن 46
8. التوبة لا ترفع الأثر الوضعي 47
أسئلة للقارئ الكريم: 48
الفصل الثالث
الآثار الوضعية والأخروية للمعاصي والذنوب/49
الآثار الوضعيّة للمعاصي والذنوب 51
أ: الحسد 52
ب : الغيبة 53
ج: السُكْر 54
د: إنتزاع نور النبوة 54
9: السر في العقوبات الأخروية اللامحدودة 55
أ: الثمرة هي نتاج نوع البذرة: 56
ب: العقوبة ما هي إلا تجسيد للمعصية 57
ج: من الوجوه الأخرى للجواب 58
أسئلة للقارئ الكريم: 61
الفصل الرابع
أقسام التوبة والبصائر القرآنية في التوبة النصوح/63
أقسام التوبة 65
1: التوبة النصوح 65
ص: 114
2: التوبة غير النصوح 65
هل (نصوح) صفة التوبة أم صفة التائب؟ 66
هل أصبحت آدمياً؟ 67
الشيخ الأنصاري (رحمة الله) وتهذيب النفس 68
الطريق إلى (التوبة النصوح) 69
نموذج من عذاب جهنم 69
عذاب البرزخ: العقرب 70
بعد (25) سنة من جهاد النفس 73
اسئلة للقارئ الكريم : 74
الفصل الخامس
مقاربة بحثيّة أصوليّة في مصاديق التوبة/75
أسئلة متنوعة عن (التوبة) 77
ما هي حقيقة النكرة؟ 77
(توبة) مردٌّد ثبوتاً أو إثباتاً؟ 79
الثمرة: ضرورة الاحتياط الشامل 81
المراد ب(توبةً) التوبة الشاملة الجامعة المانعة 83
الاهتداء ببركة الزهراء (علیها السلام) 86
أسئلة للقارئ الكريم 90
الفصل السادس
النصُّ القرآني وتبيانه لكلِّ شيء/91
مقدمة الفصل ونطاقه 93
كيف يكون القرآن تبياناً لكلِّ شيء؟ 94
معادلتان:
الباطن والهندسة 95
1: موقع الحروف وهندستها 95
2: موقع الكلمات وجغرافيتها 97
3: موقع الجمل وإضافاتها 97
ص: 115
4: الإعراب 99
5: علامات التجويد 99
الفصل السابع
وجه حكمة المدِّ في قوله تعالى:«توبوا الى الله»/101
الفرق بين الاستغفار والتوبة 104
نماذج من المدّ ودلالاته في القرآن الكريم 105
الحركة المستمرة المتصاعدة إلى الله تعالى 107
أسئلة للقارئ الكريم: 110
مصادر الكتاب ومراجعه 111
كتب اخرى للمؤلف 117
ص: 116
1. (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) - مطبوع.
2. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.
3. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، مطبوع.
4. الأصول مباحث القطع، مخطط.
5. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.
6. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.
7. الاقتصاد الاسلامي المقارن، مطبوع.
8. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.
9. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.
10. بحوث في العقيدة والسلوك، مطبوع.
11. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.
12. تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط.
13. التبعيض في التقليد، تحت الطبع.
14. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.
15. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.
16. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.
17. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.
18. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.
19. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي . نموذجاً)، مطبوع.
ص: 117
20. الحوار الفكري، مطبوع.
21. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.
22. خلق لكم ما في الأرض جميعا (الأرض للناس لا للحكومات), تحت الطبع.
23. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.
24. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.
25. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.
26. رسالة في أسلمة العلوم الإنسانية، مطبوع.
27. رسالة في الحق والحكم، التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.
28. رسالة في السيرة العقلائية - مخطوط.
29. رسالة في شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات - مخطوط.
30. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.
31. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.
32. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.
33. السرقفلية (حق الخلو) موضوعاً وحكماً .
34. السلطات العشر والبرلمانات المتوازية ، مطبوع.
35. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.
36. السيد نرجس (علیها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.
37. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.
38. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.
39. شعاع من نور فاطمة الزهراء (علیها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، مطبوع.
40. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث أصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل، مطبوع.
ص: 118
41. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.
42. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.
43. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.
44. فقه المكاسب - مباحث البيع، مخطوط.
45. فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.
46. فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.
47. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.
48. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.
49. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.
50. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.
51. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، تحت الطبع.
52. فقه المكاسب المحرمة- مباحث الرشوة، مطبوع.
53. قاعدة اللطف، تحت الطبع.
54. قولوا للناس حسنا ولا تسبوا - تحت الطبع.
55. القيمة المعرفية للشك - مطبوع.
56. كونوا مع الصادقين، مطبوع.
57. لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ, بحث فقهي عن المكاسب المحرمة، على ضوء الآية الشريفة, تحت الطبع.
58. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.
59. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.
60. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.
61. مباحث الأصول: (الحكومة والورود)، تحت الطبع.
ص: 119
62. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.
63. مباحث الأصول، التعارض - مخطوط.
64. المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد (بحوث تمهيدية)، مطبوع.
65. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.
66. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.
67. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.
68. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.
69. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.
70. مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.
71. مقتطفات قرآنية، مطبوع.
72. مقدمات الاجتهاد والاستنباط وشروطه.
73. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.
74.ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.
75. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.
76. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.
77. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.
78. وجيزة في التقليد - مطبوع.
79- الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.
ص: 120