بصائر الوحي في الإمامة : المواصفات، الأشراط ، الموانع، الدعائم، الابتلاءات

هویة الکتاب

دروس في التفسير والتدبر 4

بصائر الوحي في الإمامة

المواصفات، الأشراط ، الموانع، الدعائم، الابتلاءات

محاضرات سماحة السید مرتضی الحسیني الشیرازي

الطبعة الثانية

1443 ه -2022 م

منشورات: موسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1443 ه -2022 م

بصائر الوحي في الامامة

منشورات: موسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿1﴾

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿2﴾ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿4﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴿7﴾

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.

قال تعالى: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ الى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالحِينَ»(1).

إن في قصص الأنبياء والصالحين أروع الدروس وأبلغ العبر، لما تحتويه سيرتهم من الجهاد والتضحية والفداء والعبودية المحضة لله سبحانه وتعالى, حتى يمكن القول: أن كل خيرٍ وفضيلةٍ ظهرت في هذه الحياة الدنيا فأن أساسها ومآلها إلى الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من المؤمنين الصالحين.

ومن هنا كان حرياً بنا أن نقتص أثارهم ونتفقد أحوالهم، لأستخلاص الدروس والعبر الرائعة منهم (علیهم السلام).

ص: 5


1- سورة النحل: 120- 122.

ومن الأنبياء العظام سيدنا ومولانا إبراهيم الخليل (علیه السلام) بطل التوحيد, وشيخ الأنبياء, والذي أخذت قصته وسيرته الخالدة حيزاً كبيراً من القران الكريم، حتى بلغ ذكر اسمه المبارك - إبراهيم - (69) مرة, وفي كل مرة يستشهد الوحي الالهي بعمل صالح أو قول صادق مخلص له (علیه السلام)! وإن من أروع الفضائل وأعلى المقامات التي حبى بها تعالى هذا النبي الكريم، أن جعله بحيث يكون مثالاً وقدوة حسنة تُضرب للأجيال المتلاحقة إلى يوم القيامة!

لقد كان (علیه السلام)

يمثل أمة قائمة بنفسها، كما نص القران الكريم على هذا المعنى, ففي سيرته العطرة أروع المعاني وأصدق البينات, وقد أمر الله تعالى نبيه الأكرم (صلی الله علیه و آله) أن يتبع ملته (علیه السلام), حيث يقول جلت قدرته:

«ثُمَّ أَوْحَيْنَا اليْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ»(1).

كما أنه تعالى ذكره ندب عباده المؤمنين إلى التأسي بسيرته (علیه السلام) وأخذ العظة والعبرة منها، حيث يقول عز اسمه:

«قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ»(2).

وقال عز من قائل أيضاً: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ

ص: 6


1- سورة النحل: 123.
2- سورة الممتحنة: 4.

مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»(1).كما أمر تعالى نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) أن يقصَّ على أُمته أنباء وأخبار سيد التوحيد وبطل الإيمان، إذ يقول عز أسمه: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ»(2).

ساق(3) تعالى وتقدس قصته المفعمة بالمعاني التوحيدية الرائعة، والمشبعة بالصور الجهادية الصادقة.

وكما أمر تعالى بكل ذلك فقد حذر أيضاً من ترك ملة وطريقة هذا النبي العظيم (علیه السلام)، واعتبر ذلك سفهاً في الرأي وخطأ في قصد السبيل, قال تقدس ذكره:«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ»(4).

وما ذلك إلا لأن ملة إبراهيم الخليل (علیه السلام) في جوهرها وواقعها تمثل الإسلام المحمدي الأصيل، والذي ختم الله تعالى به الأديان والملل، وجعله ديناً قيّماً لجميع الناس إلى يوم القيامة.

من خلال ذلك نُدرك مدى اهتمام القران الكريم بقصة هذا النبي العظيم (علیه السلام), الأمر الذي يكشف عن سيرة ومسيرة حافلة بالنجاحات والانتصارات والانجازات الكبيرة، فعلينا أن نستكشف أسرار هذه الشخصية الملهمة الكبيرة؛ عَلّنا نغترفُ من بحور نجاحاتها رواءً لظمأ إنتكاساتنا في

ص: 7


1- سورة الحج: 78.
2- سورة الشعراء: 69.
3- ساق قصته: أي قصها.
4- سورة البقرة: 130.

ميادين العلم والعمل, حتى أصبحت أُمتناالإسلامية مسرحاً لفريقين كلاهما ينخر في جسدها النحيل: الجهل والجهلاء .. والاستكبار والأعداء .. الأول عدو داخلي كدودة الأرضة(1) في الخشب، والثاني عدو خارجي ينهش في جسدها كالثعلب أو أشد!!

ولما كانت مهمة العلماء الكرام نشر المعارف الحقّة وبيان الحقائق لاسيما القرآنية منها والمتعلقة بأولياء الله العظام، ومنهم نبينا إبراهيم الخليل (علیه السلام) فقد تطرق سماحة السيد الأستاذ (حفظه الله تعالى) إلى سيرة ومسيرة وإمامة نبي الله إبراهيم الخليل (علیه السلام) من خلال الأبحاث التفسيرية القيّمة، والتي كان يتحفنا بها في كل أربعاء خلال مسيرتنا الدراسية العلمية في النجف الاشرف. - على مشرفها آلاف التحية السلام -.

وقد من الله عليّ مرة أخرى إذ قررتُ هذه الأبحاث الموسومة ب(بصائر الوحي في الإمامة) بعد أن صدرت مجموعة سابقة منها ورأت النور بأسم (الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين) و(توبوا الله) و(المرابطة في زمن الغيبة الكبرى) وغيرها مما لايزال مخطوطاً ليرى النور تباعا بإذن الله تعالى.

سائلاً المولى جلت قدرته أن يمتعنا بطول بقاء سيدنا الأستاذ, وأن يفيدنا من ألطافه وعلمه, ويحشرنا وإياه في زمرة آل محمد (علیهم السلام) في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأن يتقبل منا هذه البضاعة المزجاة بأفضل القبول, متضرعاً إليه

ص: 8


1- حشرة بيضاء مصفرة تشبه النملة تعيش في مستعمرات كبيرة، وتأكل الخشب ونحوه.

سبحانه أن يرفع أجر هذا العمل إلى الأرواح الطاهرة المطهرة من أهل البيت (علیهم السلام) وأن تكون موضع رضاهم وقبولهم.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.أبو الحسن هادي الاسماعيلي

النجف الاشرف/ 25 جمادى الأولى 1436ه

ص: 9

ص: 10

التمهيد

ظاهرة (داعش): الأسباب والحلول

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة غريبة، فاجأت الجميع فيما يبدو، وقد برزت من تحت السطح فجأة، تسمى ظاهرة (داعش)(1) ما أثارته من رعب وقلق وإرباك وتدمير وصعود مفاجئ غريب، فما هو السبب الكامن وراء هذا الظهور المفاجئ الشاذ والغريب؟!

التدبر الواعي في الآية الشريفة يعطينا جملة من الأسباب التي تكمن وراء أية ظاهرة شاذة وهمجية كهذه الظاهرة.

ولكن قبل ذلك، لا بد أن نشير إلى أن الملاحظ أنه في السابق كان الاستعمار والاستكبار العالمي وأيادي الشياطين تختلق مخلوقاً غريباً همجياً وهجيناً يثير في الأرض الفساد في كل (100) سنة أو أقل أو أكثر

ص: 11


1- داعش تنظيم إرهابي جديد ظهر حديثا في سوريا, وقد أسسه الإرهابي أبوبكر البغدادي - بحسب الظاهر -, قاتل في سوريا وسيطر على بعض مدنها, ثم تمدد إلى أن وصل إلى العراق قبل خمسة أشهر، فسيطر على مدينة الموصل العراقية الكبيرة, ولازال يحكم قبضته عليها إلى يوم كتابة هذه السطور (17/1/2015م). (المقرر).

ك(الوهابية) أو (البهائية) أو غيرهما، وكانت مهمة هذا المخلوق الفساد الإفساد وتشويه الإسلام عبر انتهاج منهجالقساوة أو الإنحلال والجمود الغريب أو الانفتاح اللامنضبط الفوضوي(1)، لكنهم في السنين الأخيرة وفي القرن الأخير - تحديداً - نجدهم بدل أن يخترعوا كل (100) سنة موجوداً عجيباً في الهمجية والوحشية، أخذوا يقلصون الفاصل الزمني حتى تسارعت الإنتاجات للتنظيمات المشوهة، حتى أصبح كل عقد من الزمان يبرز لنا وحشاً جديداً يلتهم البلاد ويدمّر العباد، لكن وكل مرة بشكل مختلف وباسم مختلف أيضاً، فتارة يسمونه (القاعدة)(2)

وأخرى يسموه (داعش) وثالثة (جبهة النصرة)(3)

أو (بوكو حرام)(4)، ولعله غداً يخرج لنا ديناصوراً(5)

غريباً بأسم آخر .. من يدري؟!

أفلا تستحق منا هذه الظاهرة أن نبحثها وندرس جذورها ونتائجها وكيفية علاجها؟ خاصة وأنها آخذة بعناقنا بل بعناق الجميع، كما يبدو من

ص: 12


1- الأول إشارة لمثل الوهابية والثاني إشارة لمثل البهائية.
2- تنظيم إرهابي سمي بالقاعدة ونشأ عام (1987) على يد عبد الله يوسف عزام بأفغانستان.
3- هي منظمة تنتمي للفكر السلفي الجهادي،وتم تشكيلها أواخر سنة (2011) خلال الأزمة السورية وسرعان ما نمت قدراتها لتصبح في غضون أشهر من أبرز قوى المعارضة المسلحة للدولة السورية.
4- هي جماعة نيجيرية سلفية جهادية مسلحة المعروفة بالهوساوية باسم بوكو حرام أي التعاليم الغربية حرام. القائد الحالي لها هو أبو بكر شيكاو، وسميت هذه الجماعة بطالبان نيجيريا.
5- من الزَّواحف المنقرضة من العصور القديمة، ضخم الجسم، صغير الدِّماغ، يقال بأنه أضخم من الفيل.

التحالفات التي بدأت تظهر بين دول العالم ضدها بحسب الظاهر؟إن خروج جماعة مجهولة تقفز من المجاهيل ليس لها اسم ولا تاريخ ولا علم ولا حضارة، وتسيطر في فترة وجيزة على 35(علیهم السلام) من أرض العراق، شيء يستحق التوقف والتأمل خصوصاً وإننا لم نسمع بمثل هذا الأمر على مر التاريخ؛ إذ أن السيطرة على الأرض تتطلب جهداً ووقتاً استثنائيين، في حين أنهم سيطروا على (9) مليون نسمة في العراق وسوريا في وقت قصير جداً، مع أن الجميع لم يقبل بهم: لا الشيعة ولا السنة، لا العراق ولا دول الجوار ولا غيرهم، بل حتى الدول العظمى فيما يبدو!.

فما هو الحل لمواجهة هذه المخلوقات الأرضية الغريبة(1) التي خرجت قياداتها من السجون الأمريكية والسعودية(2)، ومن بطون كتب الفكر التكفيري الوهابي، والتي تفتك بالناس بلا موازين عقلية ولا شرعية ولا عرفية ولا غير ذلك! فيلوثون الإسلام باسم الإسلام حتى أن جماعة (بوكو حرام) في نجيريا تخطف الفتيات الشابات، وتهتك الحرمات، وتعتبر ذلك من صميم الجهاد والدعوة إلى الله تعالى!!

إن علينا البحث والتنقيب عن أسباب هذه الظواهر الغريبة الشاذة والمتوحشة؛ إذ العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس(3)، والأسباب والعوامل

ص: 13


1- في السابق كان الناس يتخوفون من قدوم مخلوقات فضائية غريبة إثر موجة أفلام الخيال العلمي التي سادت في النصف الأخير من القرن الماضي. (المقرر)
2- وحصلوا هنالك على التدريب والتأهيل والإعداد، في ضمن صفقة مدروسة.
3- عن الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث طويل لمفضل بن عمر. الكافي: ج1 كتاب العقل والجهل ص26 -27.

كثيرة منها ما هو دولي، ومنها ماهو إقليمي وغير ذلك، ولكلٍ شطر وافر من الحديث، إلا أننا الآن نعرض عنها صفحاً ونتحدث فقط عن العوامل الداخلية.

ص: 14

الفصل الأول: المواصفات والأدوار

اشارة

* الإمامةُ الالهيةُ العامةُ, شاملةٌ لكل الشؤون

* ماهية الكلمات التي أتمها إبراهيم

* مقاييس الاختيار الالهي للأنبياء والأوصياء

*محورية عامل الإتمام والإتقان

* الإمامة السياسية للمعصومين (علیهم السلام)

* موقف الإمام الرضا (علیه السلام) من الحكام الجائرين

* الموقف من الحكومات وأساليب مواجهة الحكّام الظلمة

* الإعراض عن ولي الله هو سبب التيه والخسران في الدنيا

والآخرة

ص: 15

ص: 16

يقول تعالى:

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1).

هنالك في هذه الآية الشريفة بحر من المباحث والحقائق والدقائق والبصائر، وسنشير - بمناسبة مولد الإمام الرضا (علیه السلام) في هذه الأيام(2)- إلى بعض أهم عناوين تلك المباحث.

منها: مبحث الابتلاء على ضوء قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...».

ومبحث في كلمة «إِمَامًا»، وآخر في مفردة «فَأَتَمَّهُنَّ»، وأيضاً في «الظَّالمِينَ»، وسنتعرض لبقية المباحث مستقبلا إن شاء الله تعالى.

بصائر هامة في آية ابتلاء إبراهيم (علیه السلام)

وإذا تدبرنا في الآية الشريفة نكتشف بصائر كثيرة لها الموضوعية، كما أن لها الطريقية في حل عُقَدِ المعضلات الكبرى التي تواجه البشرية.

ص: 17


1- سورة البقرة: 124.
2- الموافق 11 ذي القعدة .

ومن أهم هذه البصائر:

البصيرة الأولى: الإمامةُ الالهيةُ العامةُ, شاملةٌ لكل الشؤون

ليس المراد من الإمامة, الإمامة في شؤون الشريعة فقط، أو في شؤون العقيدة فحسب، بل يراد الإمامة بقول مطلق، أي الإمامة السياسية والإمامة الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية وشبهها، إضافة إلى الأمور العقدية والفقهية، إلا أن بحث ذلك وأدلته إضافة إلى الاستدلال بإطلاق الآية ومناسبات الحكم والموضوع موكول إلى علم الكلام.

إلا أن هناك مباحث كثيرة أخرى سوف نشير إلى بعضها ههنا.

البصيرة الثانية: الإمامة من الصفات ذات الإضافة

إن الإمامة من الصفات ذات الإضافة إذ:

منه

الحقيقيُّ وما يشتهرُ

إن المضاف

نسبة تكرّرُ

فالإضافة هي النسبة المتكررة من الطرفين، فقد تكون متوافقة الطرفين كالإخوة مثلاً، بمعنى أن زيد لما كان أخا عَمرو، فإن عَمرواً أيضاً هو أخو زيد، وقد تكون الإضافة متخالفة الطرفين كالفوقية؛ ولذا كان قولنا (هذا فوق) يستبطن أن الطرف الآخر تحت ضمناً.

ص: 18

وقوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» يستبطن أن الناس كلهم مأمومون له، ولا شك أن الإمامة لهذا الطرف لا يمكن أن تجعل بدون جعل مأمومية الطرف الآخر، وهو الناس جميعاً في الآية، فجعل هذا هو عين جعل ذاك على إحتمال، أو هو مستلزم لذاك على إحتمال آخر.

البصيرة الثالثة: دلالة الآية على العصمة

إن هذه الآية الشريفة بنفسها دليل على عصمة إبراهيم (علیه السلام)، وعلى عصمة كل إمام نُصب من قبل الله سبحانه وتعالى على الخلائق؛ وذلك لمكان الإطلاق في الآية الشريفة: «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» أي في كل الجهات، فإنه لا يعقل أن يجعل غير المعصوم بقول مطلق إماماً على الناس بقول مطلق، وإلا استلزم أن يجعل الله تعالى ما أخطأ فيه هذا الإمام مورداً يُقتدى به مع أنه في ذلك المورد ليس بإمام يقيناً, أي لم يجعل له الله الإمامة فيه لمكان الخطأ أو المعصية.

نعم في غير القادر يمكن أن يتصور ذلك, فإنه لا يمكن لبشرٍ أن يجعل أو ينتخب للناس إماماً معصوماً من كل الجهات، ولذلك فإنه يضطر إلى اللجوء إلى قانون الأهم والمهم مثلاً، أما القادر على أن يخلق إماماً معصوماً من كل الجهات على أن يجعله إماماً لكل الجهات، فإنه يقبح منه عقلاً أن يجعل غير الإمام المعصوم بقول مطلق إماماً بقول مطلق، وتفصيل ذلك في

ص: 19

علم الكلام أيضاً.

البصيرة الرابعة: أفعال الله تعالى معلَّلة بالغايات

هناك نقاش كلامي معروف بين الشيعة الأمامية وبين بعض الأشاعرة، وهو: هل أن أفعال الله سبحانه وتعالى معللة بالأغراض أم لا؟

نحن الأمامية - وكل منصف - نذهب إلى الأول، أما أولئك فيذهبون إلى الثاني، علماً بأننا نقول بذلك لا لحاجة الله الى تعليل أفعاله بالأغراض، بل إن حكمته تقتضي ذلك، وإن هذه الآية الشريفة تصلح كدليل على ما نذهب إليه.بيان ذلك: إن الله تعالى أراد أن يستخلف خليفة في الأرض وإن ذلك يتحقق في جعله إبراهيم (علیه السلام) إماماً - وكذلك سائر الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) - لكنه تعالى لم يستخلفه حتى ابتلى إبراهيم بكلمات، كان لا بد عليه من إتمامهن ليكون خليقاً بالخلافة الإلهية المرجوة، فحيث نجح إبراهيم (علیه السلام) في ذلك الإمتحان والإختبار «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»، ومعنى ذلك أن أفعال الله معللة بالغايات كما نذهب إليه.

كما أن قوله تعالى: «لا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ» يؤكد أن أفعاله معللة بالأغراض ولذا لا ينال عهده إلا المحل القابل، وهو العادل بقول مطلق، غير الظالم بأي وجه من الوجوه.

ص: 20

البصيرة الخامسة: ماهية الكلمات التي أتمها إبراهيم (علیه السلام)

اشارة

ماهي هذه الكلمات التي وردت في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ»؟!

أهمية هذه الكلمات تنبع من أن إتمامها من قبل إبراهيم (علیه السلام) كان مقياساً للإستخلاف الإلهي في الأرض.

إضافة إلى أننا إذا عرفنا تلك الكلمات، فسوف نعرف السبب الأساس والجوهري وراء ظهور داعش وغيرها من المخلوقات المشوهة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً.

والجواب: هناك عدة تفاسير لهذه الكلمات نتعرض لأبرزها:

الأول: تفسير بعض العامةما ذهب إليه قتادة

اشارة

الأول: تفسير بعض العامةما ذهب إليه قتادة(1): أنها عشر كلمات، خمسة منها في الرأس وخمسة أخرى في البدن، فأما التي في الرأس: فقص الشارب وفرق الشعر والمضمضة والاستنشاق والسواك. وأما التي في البدن: فالاستنجاء وحلق العانة والختان وقص الأظافر ونتف الإبطين.

المناقشة:

وفيه: أولاً: لا سنخية بين هذه الأفعال ولا تجانس ولا مناسبة بينها

ص: 21


1- كما نقل عنه ذلك الشيخ الطوسي في التبيان.

وبين الاستخلاف الإلهي لإبراهيم (علیه السلام) لخلص أولياءه على الأرض، فأية سنخية بين قص الأظافر أو المضمضة وبين الاستخلاف وتوكيل إدارة وسياسة البلاد والعباد واقتصادهم وحقوقهم إلى هؤلاء؟

ثانياً: إن هذه الأفعال أو أكثرها، مما يقوم بها أغلب الناس حتى من غير الموحدين، ولا شك أنها أفعال طيبة خاصة إذا صدرت عن أخلاص وأتباع للدين الحنيف، لكنها لو كانت ملاك الاستخلاف الإلهي لصَلُح الكثير جداً من الناس ليكون في مقام إبراهيم خليل الرحمن (علیه السلام)!

الثاني: تفسير مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)

اشارة

ما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، فقد وردت روايات متعددة في هذا الشأن، إلا أننا نذكر رواية واحدة وهي رواية معتبرة سنداً، ومتوافقة مع أصول المذهب والمعتقد، وهي تصرح بأن الكلمات هي: الولاية واليقين والمعرفة والشجاعة والنزاهة والحلم وغير ذلك كما سيأتي.

وهذه هي الكلمات التي ينبغي أن يتحلى بها - على حسب درجاتها - النبي أو الخليفة أو أي قائد أو مرجع تقليد أو أي مدرس ومعلم ومربي، لكننا - ويا للأسف - أعرضنا عن هذه الكلمات فحل بنا ما حل، ولازلنا بعيدين كل البعد عن ذلك، فقد ورد في تفسير البرهان عن الشيخ الصدوق، عن الإمام الصادق (علیه السلام).

ص: 22

أ - الولاية العظمى لمحمد المصطفى (صلی الله علیه و آله) إلى المهدي من آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

قال - الراوي -: سالته عن قول الله عز وجل: «وإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ما هذه الكلمات؟

قال (علیه السلام): «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب، أسالك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين الا تبت علي، فتاب الله عليه، إنه هو التواب الرحيم».

فقلت له: يا بن رسول الله، فما يعني عز وجل بقوله: «فَأَتَمَّهُنَّ»؟قال (علیه السلام): «يعني أتمهن إلى القائم (علیه السلام) اثني عشر إماماً، تسعة من ولد الحسين »(علیه السلام)(1).

فهذه هي الكلمة الأولى وهي (الولاية العظمى) والإذعان بالقيادة الربانية العليا للرسول وأهل بيته (علیهم السلام) على جميع العوالم، فإن الله تعالى هو من يعين القيادة والإمامة العامة والمرحلية على الناس، فإن اتبع الناس إمامهم الذي انتخبه الله سعدوا ورشدوا واهتدوا ونالوا فوق المنى دنياً وديناً وأخرى.

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(2) وإلا فأنهم من الضالين.

ص: 23


1- البرهان في تفسير القرآن: ج3.
2- سورة الأعراف: 96.
ب - اليقين

ثم يقول الامام (علیه السلام): «فأما الكلمات فمنها ما ذكرنا(1) ومنها اليقين، وذلك قول الله عز وجل: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ المُوقِنِينَ»(2)

».

وهذه الصفة (اليقين) صفة أساسية في النجاح والفلاح في الدنيا قبل الآخرة؛ سواء في القائد أم الجندي أم المدير والمعلم أم غيرهم، لذا ترى مثلاً الجيش الذي يتحلى أفراده باليقين بالآخرة والجنة، فإنه يقاتل بكل حماسة وقوة وفدائية وعزة وثبات، فيَقتل ويُقتل فيكون من الشهداء وحسن أولئك رفيقا، وما ذلك إلا ليقينه بواجبه وبيوم القيامة وما يترتب عليه من النعيم المقيم، أما الجندي الذي لا يقين له، فإنه يهرب لدى أدنى مخاطرة، فيلحقه العار إلى يوم الدين.والحاصل: إن اليقين بالله وعدله وثوابه وعقابه وبالمثل الأخلاقية العليا في أي مكان حل، فإنه يحوّله إلى روضة غناء ويحوّل صاحبه إلى أنموذج، فكيف إذا كان يقيناً مثل يقين إبراهيم (علیه السلام)؟

ج - المعرفة

«ومنها المعرفة بقدم بارئه وتوحيده وتنزيهه عن التشبيه حتى نظر إلى

ص: 24


1- أي الرسول والائمة (علیهم السلام).
2- سورة الأنعام: 75.

الكوكب و القمر والشمس، واستدل بأفول كل واحد منها على حدوثه، وبحدثه على محدثه، ثم علمه (علیه السلام) بأن الحكم بالنجوم خطأ في قوله عز وجل: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَال إِنِّي سَقِيمٌ»(1) وإنما قيده الله سبحانه بالنظرة الواحدة، لأن النظرة الواحدة لا توجب الخطأ الا بعد النظرة الثانية، بدلالة قول النبي (صلی الله علیه و آله) لما قال لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا علي أول النظرة لك، والثانية عليك لا لك »(2).

د - الشجاعة

«ومنها: الشجاعة وقد كشفت الأصنام عنه بدلالة قوله عزوجل : «إِذْ قَال لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَال لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلال مُبِينٍ * قَالوا أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَال بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *فَجَعَلهم جُذَاذاً الاَّ كَبِيراً لهم لَعَلهم اليْهِ يَرْجِعُونَ»(3) ومقاومة الرجل الواحد ألوفاً من أعداء الله عز وجل تمام الشجاعة»(4).

أقول: كل صفة من هذه الصفات هي فضيلة عظمى من الفضائل،

ص: 25


1- الصافات 88 - 89.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص194، معاني الأخبار: ص127.
3- سورة الأنبياء: 52 - 58.
4- معاني الأخبار: ص 127 - 128.

وهي من المستقلات العقلية وتكشف عن ملاكات الانتقاء والانتخاب الالهي، فكلما تمتع الأفراد - قيادات وجماهير - بدرجة أعلى فأعلى فأعلى من هذه الصفات كانوا أقرب لرضى الله وأجدر بأن يتبوأوا المقامات والمناصب الأعلى.

ه - الحلم

«ثم الحلم: مضمن معناه في قوله عز وجل : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ»(1)».

و - السخاء

«ثم السخاء: وبيانه في حديث ضيف إبراهيم المكرمين».

ز - العزلة عن الظالمين والمبطلين

«ثم العزلة عن أهل البيت والعشيرة، مضمن معناه في قوله: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله»(2)- الآية -» (3).أقول: ومن الواضح أن اعتزال الظلمة والمبطلين والضلال والمنحرفين، من أكثر الأمور صعوبة.

ص: 26


1- سورة هود: 75.
2- سورة مريم: 48.
3- معاني الأخبار: ص 128.

والاعتزال قد يكون بالجسم والجغرافيا، وقد يكون بالقول والعمل والسيرة والسلوك، وإن خالطهم وعاشرهم. وتشخيص الصغرى موكول إلى المكلف البصير.

ح - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

«والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيان ذلك في قوله عزوجل: «يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً»(1) ودفع السيئة بالحسنة وذلك لما قال له أبوه: «قَال أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ الهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً»(2) فقال في جواب أبيه: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً»(3)»(4).أقول: وللأمر بالمعروف أنواع ومراتب، فكلما تمسك الإنسان بالأمر والنهي أكثر في مراحل حياته وفي شتى ما يواجهه، فإنه يكون أجدر بحب الله وأحرى بأن ينال المراتب العليا، واليق بأن تسند له المسؤوليات والمراتب الراقية.

ص: 27


1- سورة مريم: 42 - 45.
2- سورة مريم: 46.
3- سورة مريم: 47.
4- معاني الأخبار: ص 128.
ط - التوكل

«والتوكل بيان ذلك في قوله: «الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»(1)»(2).

ي - الانتماء إلى الصالحين

«ثم الحكم والانتماء الى الصالحين في قوله: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَالحِقْنِي بِالصَّالحِينَ»(3) يعني بالصالحين الذين لا يحكمون إلا بحكم الله عزوجل ولا يحكمون بالآراء والمقاييس حتى يشهد له من يكون بعده من الحجج بالصدق، بيان ذلك في قوله: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(4) أراد به هذه الأمة الفاضلة، فأجابه الله وجعل له ولغيره من أنبيائه لسانصدق في الآخرين، وهو علي بن أبي طالب (علیه السلام) و ذلك قوله عز وجل: «وَجَعَلْنَا لهم لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً»(5)»(6).

أقول: إذا كان إبراهيم (علیه السلام) على عظمته، يدعو الله تعالى أن يلحقه

ص: 28


1- سورة الشعراء: 78 - 82.
2- معاني الأخبار: ص 128.
3- سورة الشعراء: 83.
4- سورة الشعراء: 84.
5- سورة مريم: 50.
6- معاني الأخبار: ص 128 - 129.

بالصالحين فما بالك بنا نحن؟ ثم أهل يعقل أن يلتحق الإنسان بالصالحين وهو معرض عن قيادتهم وعن التمسك بحبلهم؟ وهل يعقل أن يلتحق بالصالحين وهو معرض عن منهجهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة وغيرها؟

ك - المحنة في النفس والولد والأهل والصبر

«والمحنة في النفس حين جعل في المنجنيق وقذف به في النار. ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل. ثم المحنة بالأهل حين خلص الله حرمته من عرارة القبطي في الخبر المذكور في هذه القصة. ثم الصبر على سوء خلق سارة»(1).

ل ، م - استقصار النفس على الطاعة والنزاهة

«ثم استقصار(2) النفس في الطاعة في قوله: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ»(3).ثم النزاهة في قوله عز وجل: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ المُشْرِكِينَ»(4)»(5).

ص: 29


1- معاني الأخبار: ص 129.
2- أي أن يقصرها على الطاعة فلا يصدر منه إلا الطاعة لله تعالى.
3- سورة الشعراء: 87.
4- سورة آل عمران: 67.
5- معاني الأخبار: ص 129.

أقول: النزاهة لها مراتب كما لها أنواع، فمنها نزاهة المعتقد، ومنها نزاهة القلب، ومنها التعلق بغير الله وبغير الحق، ومنها نزاهة الجوارح عن التلوث بالمعاصي من غش ورشوة وخداع وتدليس ونظر لما لا يحل، بل حتى لما لا يجمل وعن سماع غيبة أو غير ذلك.

«ثم الجمع لاشراط الكلمات في قوله: «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ»(1) فقد جمع في قوله: «وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالمِينَ» جميع أشراط الطاعات كلها حتى لا يعزب عنها عازبة، ولا يغيب عن معانيها منها غائبة»(2).

إلى آخر الرواية وما أعظمها من كلمة تختزل كل الكلمات، وتجمع بين ثناياها كل الخيرات والوان الطاعات!!

المقارنة بين التفسيرين

لو لاحظنا الرواية السالفة لتبين لنا الفرق الشاسع بين ما يصدر عن أئمة الهدى (علیهم السلام) وبين ما يقوله قتادة وأشباهه من مفسري العامة، الذين أخذوا من عين كدرة تفرغ من ماء آسن، ولم يأخذوا من العين الصافية التي تجري بأمرربها بكل خير إلى يوم يبعثون، أعني حجج الله تعالى وسادتنا وموالينا محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 30


1- سورة الأنعام: 162 - 163.
2- معاني الأخبار: ص 129.

ولذا تعتبر رواياتنا عن أهل البيت (علیهم السلام) قمة في الحكمة والمعرفة والربط الصحيح بين الأشياء، وبين الأسباب والمسببات.

ثم إن ما ذكره قتادة يعتبر من الشريعة والحنيفية ولا شك في ذلك، لكنه خلط بين السبب والنتيجة؛ فإن هذه الأمور العشرة هي إحدى النتائج التي تفرعت عن الكلمات التي ذكرتها رواياتنا والتي أتمها إبراهيم (علیه السلام)، فصلح لأن تنزل عليه الشريعة من قبل الله تعالى، وفيها ومنها تلك العشرة وذلك هو ما يشير إليه تفسير علي بن إبراهيم حيث فكك بوضوح بين بعض الكلمات التي اتمهن - وهي السبب في جعله إماماً - وبين النتائج التي ترتبت على كونه إماماً ومنها نزول الأحكام العشرة عليه، وهي من ضمن الشريعة، ولكن لأن قتادة وأمثاله لم يأخذوا من منابع الوحي فإنهم خلطوا أسباب الاستخلاف الإلهي ببعض الأحكام التي نزلت بعد الاستخلاف الإلهي.

ص: 31

مقاييس الاختيار الالهي للأنبياء والأوصياء ومحورية عامل الإتمام والإتقان

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1).

سبق أن في هذه الآية القرآنية الكريمة، هنالك سلسلة من البصائر واللطائف والحقائق والدقائق، وسوف نشير في امتداد البحث السابق إلى بعض ما تيسر لنا منها فيما يخص مفردة «فَأَتَمَّهُنَّ»، وسيكون المنطلق هو التدبر في مقاييس الاختيار الإلهي في القران الكريم من خلال هذه الآية وهذه المفردة بالذات. لكن هذا المنطلق سيخلص إلى عنوانين يرتبطان بحياتنا جميعاً، وهما عنوانان يشكلان سر تقدم الأمم أو تخلفها، وهما:

الأول: الإتقان في العمل.

الثاني: صناعة الكفاءات في المجتمع.

ص: 32


1- سورة البقرة: 124.

البصيرة السادسة: الإعجاز القرآني في اختيار الكلمات (أتمهن نموذجاً)

اشارة

إن كلمة «فَأَتَمَّهُنَّ» كغيرها من كلمات القران الكريم، تعد إحدى معاجز القران الكريم، والتي تتحير بها عقول ذوي الألباب، لجهات عديدة:

منها: إن من مظاهر إعجازه أن تراه مستسهلا، وإذا به يستصعب عليك أو تراه مستصعباً فإذا به يسهل لك!.

وهذا ما نلمسه جلياً في كلمة «فَأَتَمَّهُنَّ»، فإنها تبدو واضحة في بادئ الأمر، لكن عندما تتدبر فيها أكثر ستتحير لتموجّها بالحقائق والمطالب والدقائق والأفكار - وقد وقع لي ذلك بالفعل؛ إذ فكرت في ما الذي يريده تعالى من خلال إختيار هذه الكلمة بالذات؟ ولماذا لم يقل تعالى مثلا: (ونجح فيهن) أو (أكملهن) أو (أتقنهن)؟ وقد أرجعت النظر مراراً في هذه الكلمة وراجعت النظائر القرآنية لها.

حتى يمكننا أن نستضيء بآيات أخرى من القرآن الكريم، كونها تحمل نفس الجذر اللغوي لهذه الكلمة أو إحدى تصريفاتها.

ولكي نتعرف على بعض دلالات ومعاني كلمة «فَأَتَمَّهُنَّ» لا بد أن نرجع إلى بعض الأدعية الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة (علیهم السلام)، وبعض الآيات الكريمة التي تتضمن هذه المفردة ومن ثم تفسيرها.

ص: 33

معاني (كلمات الله التامات)

أ) ورد في بعض الأدعية: «أعيذ نفسي بكلمات الله التامات» وقد فسرت الكلمات التامات بوجوه منها:

الأول: التي لا يعتريها نقص ولا عيب؛ لأن كلماتنا قد تكون فيها نواقص معنوية أو لفظية، نحوية أو صرفية أو فكرية أو غير ذلك، بينما كلمات الله لا يعتريها نقص أو عيب بالمرة، بل لا يجوز عليها أن يعتريها نقص، وفيذلك إشارة هامة إلى البنية الداخلية للكلمات, أي أن هذا البناء كمنظومة متكاملة، لا يعتريه نقص ولا عيب ولا خلل ولا خطل.

الثاني: التي تحفظ من تعوّذ بها من أن يتعرض لمكروه، فهي تامة في حفظ المتعوِّذ، إضافة إلى تمامها في حد ذاتها - وهو المعنى السابق -.

معاني «اللهم رب هذه الدعوة التامة»

ب) كما ورد أيضا في بعض الأدعية: «اللهم رب هذه الدعوة التامة»(1).

وهنا تجري المعاني السابقة التي مرت بنا(2) ونضيف إليها:

ص: 34


1- عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «يقول بين الأذان والإقامة في جميع الصلوات: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَ الصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ...». بحار الأنوار: ج81 ب14 ص177.
2- مع أدنى تغيير في التعبير (التي تحفظ من التزم بها وعمل بها من المفاسد والأخطار وخسارة الدنيا والآخرة).

الثالث: التي لا ينالها - أي الدعوة التامة - الزمان وتطوراته وتغيراته وتبدلاته، بل هي متعالية على الزمان والمكان والظروف والتقلبات.

توضيح ذلك: إن قوانيننا وتشريعاتنا تكون عادة غير تامة، وطالما نستدرك بعد مدة من الزمن، فنحذف أو نضيف أو نعدل أو نرفع اليد عن الفكرة بالمرة، في حين أن كلمات الله تامة رغم امتداد الزمن، فهي حاكمة على البشريةإلى يوم القيامة وليست ناقصة من حيث ما قد يعتريها بسبب الامتداد الزمني، فهي تامة أي: لا يعتريها تغيّر بتغير الأزمان والأحوال والظروف، وغير ذلك.

وفرق هذا المعنى عن المعنيين السابقين، أنهما كانا يتمحوران حول الحاضر، أما هذا المعنى الثالث فهو يستهدف المستقبل الزمني والخلود الأبدي.

الرابع: التامة في الزام الغير بالحجة وإيجابها عليه.

توضيح ذلك: إن حجتي قد تكون غير تامة على الطرف الآخر، في حين أن كلمات الله تامة في الحجية عليه، فكاشفيتها عن الواقع ومرآئيتها للحقائق لا تشوبها شائبة، إضافة إلى أنها تناغم الفطرة والمستقلات العقلية، فلكلمات الله التامات في أعماق كل إنسان جندي من جنود الله يصحح له العقائد والأفكار والسلوكيات(1).

ص: 35


1- ولذا نحن المسلمون مقصرون في الحقيقة، لأن الصين مثلاً يبلغ سكانها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون ولعل أغلبهم بوذي، وأمريكا يصل تعداد سكانها إلى أكثر من (315) مليوناً أغلبهم » « مسيحيون وغير مسلمين، في حين كان المفترض أن يكونوا مسلمين شيعة ومن أتباع أهل البيت (علیهم السلام) .. وذلك لوجود جندي لنا في داخل كل منهم يهتف لصالحنا وهو المسمى بالفطرة، لكن لو بشرط أن نوصل اليهم الإسلام الصافي من نبع أهل البيت (علیهم السلام) .. وهكذا الهند وغيرهما .. لكن الذي يصل إليهم، هو الإسلام المشوه عبر أفعال الإرهابيين وحواضنهم، وعبر قوانين وممارسات الحكومات الجائرة في البلاد الإسلامية.

الخامس: هي دعوة تامة؛ لأن منشأها هو مصدر الكمال المطلق، القادر العالم المحيط وهو منشأ كل الكمالات؛ فلابد أن تكون دعوته دعوة تامة، لأن منشأها تام.وبكلمة جامعة: هي تامة من حيث العلة الفاعلية، كما أنها تامة من حيث العلة الغائية بل والامتداد الزمني؛ ولذا كان ديننا خاتم الأديان، كما أنها تامة من حيث العلة المادية والصورية، أي من حيث البناء الداخلي والشكل والمنهجية والأسلوب، كما أنها تامة من حيث الحافظية والمحفوظية.

من معاني «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله»

ج) قال تعالى: «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله»(1) أن من معاني التمام هو القيام بالأمر، فتكون «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله» أي قوموا بأمرهما لله تعالى، وعليه فمن قام بأمر بكل جوانبه حقاً فهو مُتمُّ له، ولا يقال مكمل له ولا متقن له، بل هناك معنى أخر أعلى وهو القيام، فإنه منشأ الإتقان والإكمال.

ص: 36


1- سورة البقرة: 196.

من معاني «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ»

د) قال تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا»(1) وقد فسرها بعض المفسرين: ب(انتهائها إلى حد لا تحتاج معه إلى شيء خارج عنها)، فكلمات الله تعالى لا تحتاج، نظراً لتكامل منظومتها الداخلية وشد بعضها من أزر البعض الآخر، إلى شيء خارج عنها(2)، وهي بخلاف كلماتنا التي غالباً ما تحتاج إلى مكمّل أو معدّل.

سبعة معاني ل«وَالله مُتِمُّ نُورِهِ»

ه) قال تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ»(3) «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله الا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ»(4) وهنا تأتي كل المعاني السابقة، فإن نور الله لا يعتريه نقص ولا عيب ولا ضعف ولا ما أشبه ذلك، ونور الله محفوظ من التحريف وحافظ لمن اهتدى به من الزيغ والضلال، كما أنه لا يزال هذا النور موجوداً بامتداد الزمن إلى أن يصل ليد ولي الله الأعظم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ويرث الله الأرض ومن

ص: 37


1- سورة الأعراف: 115.
2- نظير الجهاز الذي يحمل المحرك والدينامو بداخله. والمقصود أنها لا تحتاج إلى غيره تعالى فلا حاجة لعقول البشر لإكمالها.
3- سورة الصف: 8.
4- سورة التوبة: 32.

عليها، كما أن هذا النور هو الحجة البالغة والتامة، كما لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، كما أنه جل وعلا هو القائم بأمر هذا النور مباشرة.

عوداً على بدء: معاني «فَأَتَمَّهُنَّ»

والآن عندما نتدبر بعد هذه الجولة في آيتنا التي صدرنا بها البحث «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» فإننا سنجد أن هذه المعاني التي ذكرناها تجري ههنا أيضاً، وسنعرف أن معنى «فَأَتَمَّهُنَّ» أوسع وأعمق من أن إبراهيم (علیه السلام) نجح في ذلك الامتحان وحسب، بل إنه أثبت بجدارة أنه في عمود الزمن سوف يتكلل بالنجاح في الامتحانات اللاحقة أيضاً وأنه سوف لا يتعثر في الامتحانات اللاحقةوسوف لا يتراجع عما وصل إليه من الكمال الاستثنائي، فهو وفيٌ لمقتضيات ذلك الامتحان ملتزم بلوازمه، ولذلك وحيث أن الله تعالى علم أنه (علیه السلام) أتمها (كلمات الامتحان والابتلاء) بهذا المعنى الشمولي:

أ - في بناءها الداخلي.

ب - في استقامته على الدرب في قوادم الأيام.

ج - في كونه قد وفر لها الحصانة(1).

د - في قيامه بأمر الدعوة بما لكلمة قيام من معاني شمولية.

ص: 38


1- وههنا بحث يحتاج الى درس مستقل وهو: كيف أن إبراهيم (علیه السلام) وفر لدعوته الحصانة والمناعة من الأخطار والانحرافات على مدى الزمن؟ وان ذلك من جهات أن إبراهيم (علیه السلام) كان سيد الأنبياء عند كل الأديان السماوية الموجودة حاليا على وجه البسيطة

إلى سائر معاني التمام السالفة، فقد أتم الامتحان بما للكلمة من معنى، ولذلك جعله الله تعالى إماماً للناس ونال ما نال من مراتب الخلة والمحبة والرفعة.

البصيرة السابعة: الإعجاز القرآني في ذكر العام وإرادة الخاص وبالعكس

اشارة

إن من إعجاز القران الكريم أنه كثيراً ما عندما يذكر الخاص فإنه يصوغه بصياغة عامة، وكثيراً ما يذكر العام لكنه يريد به الخاص؛ فالقران في هذا المجال يُعدُ مُعجزاً، لأنه يجمع بين الضدين (العام والخاص) ظاهراً.ولنمثل لذلك لتبسيط الفكرة واستيعابها:

أ -«إِنَّمَا

وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آَمَنُوا»

1) أما مثال العام وإرادة الخاص، فقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آَمَنُوا الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) إذ لاشك أن المقصود خاص وهو أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة المعصومون (علیهم السلام) وصولاً إلى المهدي من آل محمد (علیهم السلام)، لكنه تعالى صاغها بصياغة عامة، وذلك ليعطي فيما يعطي ضوابط الانتخاب الالهي، وإن انتخاب هؤلاء للولاية العامة إنما كان لتميزهم المطلق في مناحي علاقتهم بربهم «وَالذِينَ آَمَنُوا الذِينَ

ص: 39


1- سورة المائدة: 55.

يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ» وفي مناحي علاقتهم بالناس «وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»، وهذه هي الفائدة الإضافية الأخرى.

ب -«وَالذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً»

2) وأما مثال الخاص وإرادة العام، فقوله تعالى: «وَالذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا الا الحُسْنَى وَالله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِأَبَدًا»(1) وهي قضية خاصة وواقعة تاريخية خاصة، لكنها قانون عام، فأي مسجد ضرار تنطبق عليه الشروط مع نظر الحاكم الشرعي فإنه يجري عليه الحكم الوارد في الآية الشريفة.

الابتلاء الإبراهيمي والمقاييس الالهية

وفي آيتنا الشريفة «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» نجد أنه تعالى يتحدث عن إبراهيم وأنه نجح في الامتحان وأنه بذاته وشخصه جُعِل إماماً، فالحكم حكم خاص دون شك، لكن الصياغة إذ تضمنت ملاكات الانتقاء الالهي هي صياغة تفيد فوائد عامة إذ تعطينا ضوابط الاختيار والانتقاء الالهي ومن ذلك:

إن الإتمام في درجاته العليا ومعانيه الشمولية والتي بيناها سابقاً هو

ص: 40


1- سورة التوبة: 106 - 107.

ملاك النجاح والفلاح والاصطفاء وقد نال هذه المرتبة السامية خليل الله إبراهيم (علیه السلام)، وكلما توفرت معاني التمام المتعددة في دعوة أو عمل شخص ما أكثر فأكثر، كلما كان قريباً من النجاح والفلاح بنفس المرتبة التي أتم فيها عمله هذا، فرئيس الدولة أو المدير أو الأستاذ في الجامعة أو الحوزة، أو التلميذ فيهما أو الموظف أو العامل أو غير ذلك، كلما أتم عمله(1)

وأتقنه كانمحبوباً لله تعالى أكثر فأكثر، ونال أجر إتمامه وإتقانه بالقدر الذي أجهد نفسه في الوصول إليه، فله درجة من الإمامة اللُّغوية(2)

بذلك القدر.

ولذلك نجد أن الطبيب أو المحامي أو المهندس أو النجار المتقن لعمله يرجع إليه الناس وينهالون عليه، وكذلك المؤلف المتقن لكتاباته، وهكذا الخطيب في خطابته أو الأستاذ في تدريسه وبحثه أو غير ذلك، فلكل منهم المرجعية والإمامة اللُّغوية في حقل اختصاصه بقدر إتقانه لعمله وإتمامه له.

والحاصل: إن هذا ضابط عام استُبطن في ضمن ذكر حكم خاص، ومن هنا كان القرآن يجري مجرى الشمس والقمر كما في الرواية فإنه لم يقتصر على ذكر قصص الأمم السابقة للتسلية أو لمجرد سرد التاريخ، بل إنه يعطي ضوابط وإرشادات عامة، ولو بدلالة الإيماء والإشارة أو دلالة الاقتضاء، لنيل الكمال والنجاح لكل من يولد إلى يوم القامة.

ص: 41


1- إذا كان صناعة أو واجباً من الواجبات الكفائية فكيف إذا كان عبادة كالدعوة والتبليغ.
2- في قِبال الإمامة الاصطلاحية والتي لا تنال بعلم او عمل معينين , بل هي اصطفاء من الله تعالى يختص به من يشاء من عباده(المقرر) .

البصيرة الثامنة: الإتمام احد أهم المقاييس الالهية

اشارة

وعند التدبر في الآية الشريفة نجد أنها تشير إلى مقياسين جوهريين:

الأول: الإتمام واللاإتمام، «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ».الثاني: العدل والظلم، «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ» - وسيأتي البحث عن هذا المقياس مفصلاً إن شاء الله تعالى في بحث لاحق -.

أما فيما يخص المقياس الأول وهو (الإتمام) في العمل والسلوك، فنقول:

(الاتمام) مقياس الكمال وطريق التكامل

لو أن الناس التفتوا إلى هذا المقياس القرآني وطبقوه في حياتهم وتصرفاتهم اليومية فأنهم سيصلون إلى أعلى الدرجات، وسوف يحصلون على أفضل الملكات والكمالات، وسيبدعون حتى في صناعاتهم وشؤون معاشهم، فالحدّاد مثلاً أو الطبيب أو غيرهما إذا أتموا عملهم وأتقنوه واحكموا جوانبه واخلصوا فيه، فأنهم سينجحون في حياتهم العملية أيّ نجاح؛ ذلك أن قانون الإتمام لا يختص بكونه شرط التدرج في مدارج الكمال في شؤون الآخرة فحسب، بل هو عام يشمل العالمين ويجري في النشأتين

ص: 42

أعني الدنيا والآخرة.

وبالعكس: فإن الطالب في الدراسة مثلاً قد لا يُجدُّ في دراسته، فلا يصغي للأستاذ جيداً، ولا يكتب أو يقرر الدرس ولا يستعد له بالمطالعة المسبقة من قبل ولا يتباحث في موضوعاته، وبكلمة الذي لا يكون متمّا لدراسته فإنه سوف لا يَحصل في أخر المطاف على شيء ذي بال، في حين أن الطالب المتم والمجد والملتفت سيجني ثمار إتمامه وإتقانه لدراسته فيكون متفوقاً، وبالتالي سوف يرجع الناس إليه ويأتمون به ويكون علماً من الأعلام.

نموذج من إتمام الشيخ الأنصاري في (رسائله)

ويكفينا شاهداً معبراً عن ذلك: الكتاب الأصولي الشهير للشيخ الأنصاري (رحمه الله)، وهو كتاب (الرسائل) وكذا الكتاب الفقهي الأخر (المكاسب)، فأنهما لم يمكن أن يُستغنى عنهما رغم مرور أكثر من (150) سنة على تاليفهما, حتى أن الطالب الحوزوي لا يعد طالباً فاضلاً ما لم يدرس هذين الكتابين بإتقان، كما أن العلماء عكفوا على دراسة وتدريس هذين الكتابين، وعلقوا عليهما وشرحوهما وناقشوا الكثير من مباحثهما، ومازالوا على هذا المنوال.

وما ذلك إلا لبلوغ الشيخ فيهما حد الإتمام والإتقان الممكن له بعد استفراغ الوسع، ومن أكثر الشواهد دلالة على ذلك ما نقل من أن الشيخ

ص: 43

كتب في الرسائل كلمة ثم شطب عليها - دون أن يمحوها - وكتب فوقها كلمة بديلة عنها(1)، والسبب في ذلك: أن الشيخ عندما ألف كتابه كتب تلك الكلمة، لكن تلامذته - ومنهم الميرزا الشيرازي الكبير (قدس سره) والذي طلب منه الشيخ تنقيح الرسائل فرفض الميرزا تأدباً منه في مقابل أستاذه(2)- ناقشوا أستاذهم في إبدال هذه الكلمة، وطال النقاش فترة معتد بها إذ ارتأوا أن هذه الكلمة هي الأدق والأتم في إيفاء المقصود حقه بدون ورود إشكال، وبعد النقاش المطول لم يخلص الشيخ إلى صحة ما ذهب إليه، بل تأمل فيه، بل لعله ترجح لديه ما ذهب إليه تلاميذه، فتقرر - كما يبدو - أن يشطب على الكلمة الأولى بدون محوها وتكتب الثانية فوقها جمعاً بين النظرين والاحتمالين ولكي يكون للباحثين بعدها مجال المقارنة والمناقشة(3)!

إن ذلك كنظائره - وما أكثرها - يكشف عن مدى دقة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) وإتمامه لكتابيه، بحيث أن كلمة واحدة أخذت كل هذا الحيِّز من النقاش والاهتمام ثم الاحتياط، فكم كان ملتزماً بإتمام العبارات والأفكار التيطرحت فيهما؟ ومن هنا لا نجد لهذين الكتابين بديلاً في العمق والدقة وسلاسة التعبير، وفي التوفر على مواصفات وشرائط ومقومات تنمية ملكة الطالب وصناعة كبار الفقهاء والمحققين.

ص: 44


1- ويوجد ذلك في النسخ الحجرية القديمة والتي توجد عندي نسخة منها (المؤلف).
2- الأمر الذي يكشف عن مستوى الأستاذ والتلميذ معاً.
3- وعندما كنت أبحث هذا الموضع من الرسائل استظهرت أن كلمة الشيخ كانت هي الأدق والله العالم (المؤلف).

نموذج من إتقان بعض علماء الغرب لعمل

ولنستعرض مثالاً أخر من الغرب كي نعرف السبب وراء ما توصلوا إليه من تطور في العديد من العلوم والصناعات والتكنولوجيا الحديثة وتقدمهم في ذلك، فأصبحوا بذلك هم من بيدهم أزمّة الأمور.

هناك كتاب يسمى (الاقتصاد) للكاتبين (سامويلسون(1)

ونورد هاوس) وكان يدرس في الجامعات الأمريكية لمدة (40) عاماً, وقد طالعت شطراً منه فوجدته بالفعل كتاباً متقناً في مجاله على حسب ما ارتأه من نظريات وأفكار،وما ذلك إلا للجهد الذي بذله مؤلفه(2) في كتابته، فإنه كان يعيد مراجعته وتدقيقه وتوثيق مطالبه وتحديثها وتعديلها وتطويرها كل سنتين أو أقل بتغيير قد يصل إلى 30 (علیهم السلام)، ثم أخذ يغير فيه أيضاً حتى غير فيه أكثر من (17) مرة خلال أربعين سنة ليطبع كل سنتين معدلاً من جديد ليدرس في الجامعات بنسخته المحدّثة المتضمنة لكل نظرية جديدة, أو نقض

ص: 45


1- اقتصادي أمريكي، ولد في جاري إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1915،نال شهرة دولية لتقديمه مساهمات كبيرة في النظرية الاقتصادية, حيث تمكن من حل بعض التناقضات والمغالطات والتداخلات في لغة الاقتصاد الكلاسيكي، نشرله كتاب باسم (الاقتصاد) تحليل تمهيدي لأول مرة في 1948، والذي أصبح أفضل الكتب مبيعاً في الاقتصاد على مر الأزمنة حيث بيع منه أكثر من مليون نسخة، وترجم إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية والمجرية والبولندية والكورية والبرتغالية والإسبانية والعربية.
2- بمعونة مساعدة.

جديد على نظرية ما, أو إحصاء جديد, أو ابتكار جديد وهكذا(1).

ومن هنا وغيره، أصبح الغرب من الناحية الظاهرية حاكماً؛ وذلك لأن فيهم الكثيرين ممن يتقنون عملهم ويتفانون فيه، خلافاً لبلداننا الشرقية التي لا تتقن(2) شيئاً إلا إنتاج الحكام المستبدين أو صناعة الحقد والكراهية والعداوة والبغضاء وغير ذلك(3).

البصيرة التاسعة: موقع ومعنى (إذ) في بداية الآيات

اشارة

كثيراً ما ترد في القرآن الكريم آيات مصدرة بكلمة (وإذ)، ومن ذلك آيتنا الشريفة: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ»، والسيد الوالد(رحمه الله) يفسر ذلك بقوله: (واذكر يا رسول الله الوقت الذي امتحن فيه الله تعالى رسوله إبراهيم (علیه السلام))(4)،

فهذا هو وجه الربط.ومعنى ذلك أن الله يأمر نبيه (وأمة نبيه من بعده) أن يتذكروا ذلك، الأمر الذي يكشف عن عظمة هذا الأمر؛ لأن فيه العبرة والصلاح والفلاح والخير كل الخير، كما أن التذكر هو من بواعث الاقتداء والتأسي والعمل فلاحظ مثلاً هذه الكلمات العظيمة: (الولاية العظمى والإمامة، اليقين،

ص: 46


1- وتوجد لدي الترجمة العربية عن الطبعة المعدلة المنقحة الخامسة عشرة!
2- أي في الجملة.
3- وقد بحث السيد الاستاذ هذا الموضوع في محاضرة سابقة ضمن بحث الاية الشريفة. (المقرر).
4- تبيين القرآن: سورة البقرة 124.

المعرفة، الشجاعة، السخاء، التوكل..).

ولنفكر الآن قليلاً لو أن هذه الصفات تحلت بها كافة شرائح الأمة من تجار وكسبة إلى جامعيين وطلبة، إلى عمال ومزارعين وغيرهم، ألم يكن الشر مما سينعدم من على وجه هذه المعمورة؟ وألم يكن العدل والإحسان والسلام والإيمان هو سيد الأمم؟ لكن المسلمين كانوا مِن مَن أعرض عن ذلك، وكانت من نتائج ذلك أن خرجت علينا هذه الوحوش المفترسة التي تتلذذ بسفك الدماء وقطع الرقاب وخطف النساء وتهجير العوائل، والغريب أنها تفعل ذلك كله باسم الإسلام!

وبكلمة: فإن هذه البلايا وهذه الرزايا سببها الإعراض عن اللجوء إلى خليفة الله في الأرض، الإعراض القولي والإعراض العملي، والإعراض الفكري والنفس، وغير ذلك.

الإعراض عن ولي الله هو سبب التيه والخسران في الدنيا والآخرة

إن في قصة موسى (علیه السلام) عندما غاب عن قومه مدة معينة أكبر العِبَر، فإن قومه ما لبثوا أن عبدوا العجل رغم أن نبي الله هارون (علیه السلام) كان موجوداً بين أظهرهم، وهو خليفة ومنصوب من قبل الله تعالى، لكن الشر والأشرار تغلبوا عليه ولم يتمكن رغم مواجهته لهم من دحض شرورهم وجهلهم، فلم يكن بحوزته إلا إلقاء الحجة عليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكنهم أبوا إلا طغياناً وعصياناً.

ص: 47

وهذا الأمر يشكل الإجابة على اعتراض البعض على العلماء والمرجعيات الربانية تجاه بعض واجباتها ومسؤولياتها، وأنها لم تستطع أن تغير، فإن البعض يتوقع منها أن تفعل الأعاجيب كيتبسط العدل والأمان في البلاد في حين أن ما يقوم به المراجع الربانيون هو المطابق لإمكانياتهم وقدرتهم فيما بينهم وبين الله تعالى.

إن العلماء الربانيين لم يقصروا في هداية المجتمع وتربيته، لكن ما فعلوه هو قصارى ما يخرج من أيديهم كما أن هارون (علیه السلام) لم يستطع أن يقف بوجه انحراف قوم موسى (علیه السلام)، رغم أنه نبي عظيم، فما بالك بالعلماء والمراجع الأبرار؟ وذلك يعني أن البلسم الأعظم والحل الناجع والأساس هو في الاستغاثة بولي الله الأعظم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) والإلحاح على الله عز وجل في تعجيل فرجه المبارك، وعبر تزكية أنفسنا والالتزام بتعاليم السماء في كافة مناحي حياتنا، كي يلطف الله تعالى بنا فيأذن لوليه الأعظم بالفرج.

والحاصل: إن المشاكل والدواهي والرزايا والبلايا التي تحيق بالمسلمين، بل بالعالم كله، هي أعظم من أن يقتلعها العلماء من الجذور، إن المشكلة أعظم بكثير، وهي إن الخلافة أخذت من أيدي الأنبياء والصالحين وأولياء الله وأصبحت بيد أولياء الشياطين والحكومات الظالمة؛ ولذا كانت النتائج سيئة مفزعة، حتى مُلئ الكأس بدم الأبرياء، وتخضبت الأرض بما فاض منه، وأخرج الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا: الله اكبر(1).

ص: 48


1- عندما يذبح الدواعش بريئاً، يهتف أحدهم: (الله اكبر)، إيحاءً منه إلى الذابح والمشاهد والمستمع أن الأمر تم بمباركة الرب. (المقرر).

نعم، لو أن الجهود تضافرت، واشتغلت مراكز الدراسات الإسلامية وتلاقحت أفكار العلماء والمفكرين فيما بينهم، لأمكننا أن نحجّم الأضرار ونقلّص الأخطار إلى حد كبير جداً، ونجهض فيما نجهض خطر داعش وغيرها قبل أن تستفحل أكثر فأكثر.

لكن الخمول والكسل وعدم امتلاك مراكز دراسات بالمستوى، والجهل بمداخل الأمور ومخارجها، جعل الجميع يذهل لما وقع بالفعل في العراق وغيره، فلم يكن أحد يتوقع أن يقوم أذناب الغرب بما قاموا به بهذه الصورة المفجعة.

إن من الواضح أن الإنسان عندما يكون في السياسة كالأعمى فإن البلية سوف تنزل عليه من حيث لا يحتسب، في حين أن الشعب والحكومة ومؤسسات المجتمع المدني لو كانت على مستوى عال من الوعي والاستعداد والتهيؤ وكانت مراكز الدراسات تعمل ليل نهار، ولو كانت للحوزات العلمية والجامعات لجان مشتركة وتعاون مشترك، وكذلك بين الأحزاب الدينية بل وكل الجهات، - لأن البلية عامة - لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

فإذا لم نقم بذلك كله، فستبقى الحالة كما هي وإن بزيادة أو نقيصة على حسب الجهد الذي يمكن لنا أن نقوم به.

وهذا كله هو مقتضى جهدنا البشري الممكن، وهو واجب دون شك، بل من أوجب الواجبات، وبذلك نحول دون الكثير من الرزايا كمّاً أو من تجذرها كيفاً، ولكن مع ذلك كله يبقى أن البلسم الأعظم - كما سبق - هو في

ص: 49

ظهور ولي الله الأعظم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فإنه لا خلاص للعالم من مشكلاته إلا بعودة خليفة الله في أرضه إليهم ظاهراً غير مستور، ولذا جاء في الدعاء(1):

«أين معز الأولياء» فإن المعز الحقيقي للمؤمنين هو الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، «ومذل الأعداء، أين جامع الكلم على التقوى... »، فقد يكون المتقون كثرة، لكن كلمتهم قد لا تكون مجموعة.«أين باب الله الذي منه يؤتى» فإن به تنزل السماء بركاتها وتخرج الأرض خيراتها ويسود العدل والإنصاف والسلم والإحسان.

كما ويكشف عن البعد الآخر للمعادلة ما ورد في الدعاء: «أين مبيد العتاة والمردة»، فإنه المبيد للمجرمين والسفاكين بأجمعهم «أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد»، وعندئذ تشرق الأرض بنور ربها ويتحقق الوعد الالهي الأكبر «وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لهم دِينَهُمْ الذِي ارْتَضَ-ى لهم وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً»(2).

قبل أن يبعث الرسول (صلی الله علیه و آله) كانت هناك ملامح ومعالم هداية متناثرة، ولم يكن الظلام مطبقا تماماً، ولكن وعلى حسب تعبير السيد الوالد(رحمه الله) كان النور والهداية كالحباحب(3)

فقط، لكن بعد مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) أصبح

ص: 50


1- دعاء الندبة.
2- سورة النور: 56.
3- الحباحب: جمع حبحب, وهي حشرة صغيرة تضئ في الليل على الأشجار لوجود مادة فسفورية مطلية على أجنحتها.

النور كشلال من الضياء والبهاء يعم الأرجاء والأنحاء، لكنه لم يقضِ على الظلام تماماً ولكن قد قدر تعالى أن هذا النور سوف يملأ الكون كله في زمن ظهور وليه الأعظم (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً بإذن الله ولطفه وكرمه.

ص: 51

الأدوار والمواقف

الإمامة السياسية للمعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام)

وبمناسبة مولد الإمام الرضا (علیه السلام) نتعرض لموضوع من أهم المواضيع، وهو موضوع الإمامة السياسية للأئمة الأطهار (علیهم السلام) والذي يستبطن الإشارة إلى أحد أهم الأدوار المواقف التي يتخذه الإمام - ومن ثم على الناس الإقتداء - في الحياة، وهو الموقف من حكومات الظالمين.

والذي يؤكد أهمية طرح هذا البحث أمران:

الأول: إن وضع أتباع أهل البيت (علیه السلام) في العالم في هذا الزمن يختلف عن وضعهم في السابق؛ لأن الوضع العالمي اليوم متحرك بشدة، والأجواء العالمية إذا كانت راكدة، فإن المؤسسة الدينية ورجالاتها لا تنتزعهم الضغوط الخارجية والطوارئ والأحداث إلى غير مهمتهم الأساسية، وهي طلب العلم ونيله وبذله لأهله وتزكية النفوس وتربية الأجيال، خصوصاً وإن السياسة في الوقت الحاضر أقبلت على المتدينين بشكل ملفت، فما هو الموقف من السياسة ومن الحكام ومن مختلف التقلبات السياسية؟ وكيف يمكن للمؤمنين أن يخوضوا هذا المعترك الشائك، والذي غرق فيه خلق كثير على مر العصور الغابرة؟

ص: 52

الثاني: إن المعصومين (علیهم السلام) هم «ساسة العباد وأركان البلاد»(1) فعلينا إذن أن نذهب إلى أهل البيت (علیه السلام) ونستفتيهم أو ندرس سياستهم ومواقفهم السياسية, بأن نذهب إلى مدرسة الإمام الرضا (علیه السلام) وآباءه وأجداده وأبناءه الكرام (علیهم السلام)، فهم أئمتنا في كل الحقول, ومنها المجال السياسي، خصوصاً في الوقت الحاضر، فما هو موقفنا إتجاه الحكومات والحكام الجائرين؟

هل الموقف من الحكومات، المتاركة أم المشاركة أم المواجهة؟

إن رؤوس العناوين في كيفية التعامل مع الحكام الجائرين والطواغيت هي ثلاثة:

أولاً: المتاركة والإهمال، بمعنى أن نترك الطواغيت ويتركوننا، ونبقى أحلاس البيوت، وعلى ذلك سار جمع من علماءنا الكرام كالسيد اليزدي صاحب العروة في فترة من حياته حيث التزم بعدم التدخل بالسياسة مطلقاً، وقد كان تدخل فترةً معينة ثم انسحب بشكل مطلق، كما أن السيد أحمد الخونساري من علماءنا الأبرار كان من هذا القبيل أيضاً - كما يبدو -.

ولعل عدم تيسّر تشخيص الأهم والمهم في السياسة وعدم الإحاطة بدهاليزها وما وراءها هو السبب وراء ذلك، فإنه يؤدي إلى خداع وتورط المؤمنين فيما لا يجمل به أو لا يصح له؛ لأن اللعبة يديرها الآخرون خلف

ص: 53


1- كما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة.

الكواليس المحكمة، والمراكز الإستراتيجية الفاعلة والمؤثرة، فإذا دخل فيها من لا يعرفها أو من لا يملك القدرة على توجيهها الوجهة الصحيحة، زلّ أو ضاع أو خُدع.

ثانياً: المشاركة والتعاطي، وهو على أنواع:

فمن ذلك: أن يتعاطى كشريك مصادق مع الحاكم الفاسق أو الجائر.

ومن ذلك: مشاركة التابع والمتبوع، وكان من هذا النوع وعاظ السلاطين حيث يشاركون الحاكم مشاركة المتابعة.

ومن ذلك: مشاركة المنافس, فتكون الرقابة شديدة بين الطرفين.

ومن ذلك: مشاركة الموجه الضاغط الفاعل من العلياء.ثالثاً: المواجهة، وهي أيضاً على أنواع:

فقد تكون مواجهة عسكرية، وهو النوع الذي يرفضه في زمن الغيبة مجموعة كبيرة من الفقهاء على مر التاريخ، إلا في الدفاعي كما لا يخفى، والمواجهة العسكرية قد تكون مباشرة أو تكون غير مباشرة، ومن الأول: مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)، ومن الثاني: مواجهة الإمام السجاد (علیه السلام) حيث كان يدعم المختار الثقفي (رحمه الله) وغيره، وكذلك الإمام الصادق (علیه السلام) والذي كان يدعم الحركات المسلحة مع تقية شديدة حسب التحقيق.

ومن أنواع المواجهة أيضاً المواجهة السياسية، وكذلك المواجهة الفكرية الثقافية الفقهية، ولكل ذلك تفصيل لا يسعه المقام، إنما سنشير لبعض الكلام عن ذلك على ضوء بعض ما يتيسر لنا ذكره الآن من سيرة الإمام الرضا (علیه السلام).

ص: 54

موقف الإمام الرضا (علیه السلام) من الحكّام الجائرين

لقد كان موقف الإمام الرضا (علیه السلام) من الحكام الجائرين هو المعارضة من خارج الحكم وببعض أنماط المواجهة، ولذلك أيضاً رفض ولاية العهد جملة وتفصيلا في بادئ الأمر، فكان معارضةً من خارج الحكم، لكن بعد ذلك ولأسباب كثيرة ظاهرها الضغط والإجبار، قَبِل (علیه السلام) ولاية العهد وتحوّل إلى المواجهة والمعارضة من داخل الحكم، وكان طليعة ذلك إنه اشترط أن لا يقوم بأي عمل تنفيذي أو قضائي، الأمر الذي أفرغ ولاية العهد من محتواها ففهم الواعون من الأمة الإسلامية استنكار الإمام لهذه الخطوة - القسرية - من جانب المأمون، فيما لم يفهم البعض ذلك فاستشكلوا على الإمام (علیه السلام) حتى وصل بهم الأمر إلى محاولة إغتيال الإمام (علیه السلام)، لكن كان من وراء ذلك حِكَم أخرى(1)،

وليس هذا محل ذكرها، والشاهد أن الإمام (علیه السلام) قَبِل ولاية العهد ودخل في الحكم إلا أن موقفه كان موقف المعارض والمواجِه الناقد.

أساليب مواجهة الحكام الظلمة

اشارة

وسوف يتضح ذلك أكثر عبر التطرق إلى أهم ما ينبغي فعله في التعامل

ص: 55


1- لعل منها أن يكون قريباً من السلطة الظالمة ومراقبتها واستنقاذ ما يمكن استنقاذه منها، فتكون المراقبة أشد إذا كان الإمام (علیه السلام) قريباً من مركز القرار السياسي؛ ولذا كان كلامه (علیه السلام) مسموعاً أكثر في كل البلاد الإسلامية, بينما كان مقتصراً على المقربين والموالين, فلعل الإمام (علیه السلام) بطرقه الخاصة ألجأ المأمون إلى استقدامه إلى مركز السلطة (المقرر).

والتعاطي مع الحكام الجائرين حسب تتبع بعض روايات المعصومين (علیهم السلام) وسيرتهم، مقتصرين الآن على بعض ما وردنا عن ثامن الأئمة (علیه السلام):

1- سلب الشرعية من الحكام الجائرين

سلب الشرعية من الحاكم الجائر وعدم منحه الشرعية أصلاً، فإن الحكّام على مر العصور يسعون إلى كسب الشرعية والتأييد من المؤسسة الدينية بأي شكل كان، ولو كان ذلك صورياً ليقنعوا الجماهير بحقانيتهم وليأمنوا جانبها، لكن الأئمة الأطهار (علیهم السلام) والعلماء الأبرار والفقهاء الصالحين منا كانوا لايؤيدون الحاكم الجائر, بل كانوا يسعون إلى سلب الشرعية عنه بكل صورة ممكنة في حدود القدرة الشرعية.

ومن القصص الرائعة الدالة على ذلك، عندما كان الإمام الرضا (علیه السلام) في خراسان جاءه شخصان مسافران، فسألاه عن صلاتهما، أنها قصر أم تمام؟ فقال (علیه السلام): «أما أنت فقصِّر وأما الأخر فأتم»، فاستغربا اختلاف الحكم مع أنهما سيان في السفر، فأوضح لهما الإمام (علیه السلام): «أما أنت فصلاتك قصر، لأنك قصدتني فسفرك سفر طاعة، وأما أنت فصلاتك تمام لأنك قصدت المأمون - ولعله جاءه ليأخذ عطاياه أو ليتقرب إليه - فسفرك سفر معصية، فإن منشروط القصر في السفر، أن لا يكون السفر سفر معصية». وأما نص الرواية عن أحمد بن هلال، عن أبي سعيد الخراساني، قال: دخل رجلان على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) بخراسان فسالاه عن

ص: 56

التقصير؟ فَقَال (علیه السلام) لأحدهما: «وجب عليك التقصير، لأنك قصدتني», وقال (علیه السلام) للآخر: «وجب عليك التمام، لأنك قصدت السلطان»(1).

وفي رواية أخرى: أن الأمام الرضا (علیه السلام) ذهب من المدينة إلى مكة، فمر على جبل يسمى (فارع)، فالتفت إلى من معه فقال: «باني فارع وهادمه يقطع إربا إربا» ومضى فلم يفهم الحاضرون مرامه، ثم بعد مدة مرّ بهذه المنطقة (جبل فارع) هارون اللارشيد ومعه جعفر بن يحيى البرمكي وكان وزيراً لهارون اللارشيد، وكان طاغية من الطواغيت، وكانت أموال بيت المال بيده ظلماً وعدوانناً، فأمر أن يُبنى له مجلس على الجبل ليسكنه بعض الساعات أو عدة أيام! ففعلوا ذلك، ثم تركه ومضى إلى مكة ولما رجع من مكة، صعد إلى ذلك البيت أو القصر فأمر بهدمه بخلاً منه ولم يتركه للمارة ليستفيدوا منه، وذهب إلى بغداد حيث مركز الحكومة الجائرة، فلما وصل أمر هارون - على أثر قضية معروفة في مصير البرامكة - فقطعوا جعفر بن يحيى هذا إرباً إرباً، وهنالك عرف الناس مراد الإمام الرضا (علیه السلام) من كلامه. ونص الرواية:

علي بن إبراهيم، عن أبيه عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام)، أنه خرج من المدينة في السنة التي حج فيها هارون، يريد الحج فانتهى إلى جبل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، يقال له: فَارِع، فنظر إليه أبو الحسن، ثم قال: «بأني فَارِعٍ وهادمه يقطع إرباً إرباً». فلم ندرِ ما معنى

ص: 57


1- التهذيب: ج4 ص220/ ووسائل الشيعة: ج8 ص478.

ذلك، فلما ولى وَافَى هارون ونزلبذلك الموضع، صعد جعفر بن يحيى ذلك الجبل وأمر أن يبنى له ثَمَّ مجلسٌ، فلما رجع من مكة صعد إليه فأمر بهدمه، فلما انصرف إلى العراق قطِّع إرباً إرباً»(1).

ومن دلالات كلمته (علیه السلام) «باني فارع...» أن الأمام (علیه السلام) أراد القول بإنني أنا الإمام وهؤلاء هم الظلمة؛ لأنني أنا الذي أكشف لكم المغيبات، وأنا الذي أكشف لكم مصير هؤلاء، فاتبعوا من نصبه الله للناس إماماً ولا تتبعوا الحكام الجائرين، كما أنه (علیه السلام) كشف بذلك عن بعض تبذير أولئك الظلمة وتلاعبهم ببيت مال المسلمين، ولولا كلامه (علیه السلام) لما وصلنا خبر بناء يحيى لفارع، ثم هدمه له كما لم تصلنا الألوف من نظائرها. وعلى أي فإن هذا نوع من أنواع سلب الشرعية عن الجائرين، لكن بأسلوب غير مباشر.

هذه هي النقطة الأولى وهي سلب الشرعية عن الحاكم الجائر.

2- الاستخفاف بالحكام الجائرين وإهانتهم

الاستخفاف بالحكام الجائرين والتحقير لهم والتنقيص منهم، وهذا مسلك عام في حياة المعصومين (علیهم السلام) والعلماء والصالحين منا، فإنهم لا يكتفون بسلب الشرعية عنهم وحسب، بل كانوا يستحقرون الظلمة وأعوانهم.

ولنذكر شاهداً واحداً من حياة الإمام الرضا (علیه السلام) على ذلك:

ص: 58


1- الكافي: ج1 ص488.

فعندما نصب الإمام الرضا (علیه السلام) ظاهرياً ولياً للعهد، قام الإمام (علیه السلام) بالاستخفاف بالظالم وأعوانه, حتى أن الفضل بن سهل ذو الرياستين والذي كان هو الحاكم حقيقة وكان هو العقل المدبر لحكومة المأمون العباسي، جاء يوماً إلى الإمام الرضا (علیه السلام) وكان الامام (علیه السلام) مشغولا بشيء ما، فلم يعبأ به ولم يلتفت إليه، وما ذلك إلا للاستخفاف بالجائر وتحقيره وتنقيصه، بل إن الإمام (علیه السلام) لم يأذن له بالجلوس!، وفي ذلك أكبر الاستخفافبطاغية مثل الفضل بن سهل، بعد ذلك رفع الإمام (علیه السلام) رأسه وسأله: «ما حاجتك؟» فقال الفضل بن سهل: إن المأمون وصلني بصلة كذا وكذا، وأخرج كتاباً كبيراً فيه تفصيل ما أعطاه المأمون من دور وبساتين وأموال وغير ذلك ثم قال للإمام (علیه السلام): وأنت أولى بأن تعطينا - بإعتبارك ولياً للعهد - مثل ما أعطى أمير المؤمنين!!، فقال له الإمام (علیه السلام): «يا فضل، لك علينا هذا ما اتقيت الله عزوجل...»، وهذه إهانة كبيرة له ولجميع الطواغيت؛ لإن الطواغيت يرفضون أشد الرفض أن يقال لهم: اتقوا الله ويعتبرونها إهانة بالغة، وقد قال الله تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ»(1).

نعم أحياناً يقتضي الأمر كتم السر والتقية، ومن ذلك ما ورد من أن الإمام الرضا (علیه السلام) في زمن هارون اللارشيد ذهب إلى السوق، فاشترى ديكاً وكلباً وكبشاً، فوصل الخبر على الفور إلى الحاكم الجائر لشدة الرقابة التي وضعها على الإمام (علیه السلام) فقال: أمنت جانبه، فإن الإمام (علیه السلام) أراد أن

ص: 59


1- سورة البقرة: 206.

يوصل رسالة، وهي أنه لم يكن مشغولاً بالمواجهة السياسية وهي نفس الرسالة التي أراد الإمام (علیه السلام) أن يوصلها إلى الحاكم الجائر؛ لأن الكلب يؤتى به لحراسة الماشية أو المزرعة، والديك يشترى بهدف الاستيقاظ للصلاة فجراً، فهو كناية عن الانشغال بالعبادة، والكبش قد يكون كناية عن الانشغال بالضيافة، أو كناية عن الانشغال بالتربية, ونص الرواية:

عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن الطيب قال: لما توفي أبو الحسن موسى (علیه السلام)، دخل أبو الحسن الرضا (علیه السلام) إلى السوق فاشترى كبشاً وكلباً وديكاً، فلما كتب صاحب الخير بذلك إلى هارون، قال: قد أمنا جانبه، و كتب الزبيري: إن علي بن موسى قد فتح بابه، ودعا إلى نفسه، فقال هارون: واعجبا! إن علي بن موسى قد اشترى كلباً وكبشاً وديكاً و يكتب فيه ما يكتب(1)!والظاهر إن ذلك كله كان تقية من الإمام لكي يخفي ما يُعِد له للمستقبل، أو حتى ما كان يفعله في الحاضر, فإن التقية من الوقاية، وهي وقاية لواقع موجود وليس وقاية لا للاشيُ. فتأمل!

3 - عدم إعذار الظالم في ظلمه

إن من أهم الأمور أن لا يعطى الشخصُ الظالمَ الحقَّ، وأن لا يعذره في ظلمه، بل وأن يستخف به، قال (علیه السلام): «مَنْ عَذَرَ ظَالماً بِظُلْمِهِ، سَلَّطَ الله

ص: 60


1- كشف الغمة: ج2 ص315.

عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ، فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَ لَمْ يَأْجُرْهُ الله عَلَى ظُلَامَتِهِ»(1) وهذا هو الأثر الوضعي لمن يقوم بذلك.

ويكفي ذلك رادعاً للبعض الذي يبرر للظلمة والحكام الجائرين قوانينهم وأحكامهم التي فرضوها على الناس ظلماً وعدواناً.

ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة للتبرير بإيجاز:

- أن يعذر الظالم في جعله للحدود والجمارك.

- أن يعذر الظالم في أخذه المكوس والضرائب.

- أن يعذره في سجن معارضيه ومنتقديه، ولو بتعليل أنه لأنكم تركتم التقية لذا كان حقكم أن تسجنوا!! فإنهم لو تركوها اجتهاداً أو تقليداً فهم معذورون أو مصيبون، والظالم آثم بكل المقاييس ولو تركوها في غير موردها ولو تقصيراً فحسابهم على ربهم، لكن لا يصح إعذار الظالم لأنه ظلمهم لمجرد أنهم نهوه عن المنكر، فتدبر!

- أن يعذره في إقرار مختلف القوانين التي لم ينزل الله بها من سلطان.- أن يعذره في مصادر الأموال وسحق الحقوق بألف عذر وعذر.

وإلى غير ذلك(2).

ص: 61


1- الكافي: ج2 ص334.
2- وكل هذه المبررات واهية ومخالفة للعدل والإنصاف، وهي تكرس عملية صنع الطواغيت في الأمم حتى يستعبدوا الناس ويسلبوهم حقوقهم وامتيازاتهم (المقرر).

ص: 62

الفصل الثاني: الأشراط والشروط

اشارة

* الأشراط والشروط في المنظومة الإسلامية

* أمثلة ونماذج من الأشراط

* كاشفية الأشراط عن سعادة النفس أو شقاوتها

* أهدافنا وعلاقتها الجوهرية بالأشراط

ص: 63

ص: 64

الأشراط والشروط في المنظومة الإسلامية

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1).

البصيرة العاشرة: منظومة الأشراط والشروط

اشارة

التي سوف يدور الحديث بإذن الله تعالى عنها وعلى ضوء مفردة «أتمهن» في الآية الشريفة، هي منظومة (الأشراط) وفرقها عن منظومة (الشروط)، وهو بحث من النادر أن يطرح بهذا العنوان رغم جوهريته ومحوريته في شؤون الحياة، وفي شؤون الآخرة أيضاً.

وقد سبق أن ذكرنا أن (الإتمام) له عدة معاني مضى الحديث عن بعضها، ومنها ما صرحت به الرواية الشريفة عن الإمام (علیه السلام)، وهو الجمع لأشراط الطاعة، وأشراط الطاعة هي التي أشارت اليها الآية الشريفة: «قُلْ

ص: 65


1- سورة البقرة: 124.

إِنَّصَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ»(1).

فلا بد من التدبر في هذه المفردة المحورية التي استخدمتها الرواية الشريفة في تفسير هذه الآية الكريمة، فإنها مفردة هامة جداً لكنها لا تزال في مجاميعنا شبه مهملة، ولعل أكثر الناس لم يسمع بها أبداً وهي (الجمع لأشراط الطاعة).

الفرق بين الأشراط والشروط

ويتضح ذلك بدراسة الفرق بين (الشروط)، وهي جمع (شَرْط)، وبين (الأشراط)، والتي هي جمع (شَرَط)، وكلاهما من الأساسيات في الحياة، والملفت أن نجد الإمام (علیه السلام) عندما تطرق لمعاني الإتمام في الآية الشريفة ذكر (الأشراط) لا (الشروط)، حيث قال (علیه السلام): «... ومنها: جمعه - أي إبراهيم (علیه السلام) - لأشراط الطاعات ...» وتمام الرواية هو:

يقول الامام (علیه السلام): «... ثم الجمع لأشراط الطاعات في قوله: «قُلْ

إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُالمُسْلِمِينَ»، فقد جمع في قوله: «مَحْيَاي

وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالمِينَ» جميع أشراط الطاعات كلها حتى لا يعزب عنها عازبة، ولا تغيب عن معانيها منها غائبة...»(2).

والشَرْط: هو إلتزام في إلتزام كما جاء في الأصول، وهو قد يكون شرط

ص: 66


1- سورة الانعام: 162 - 163.
2- الخصال: ج1 ص308/ ومعاني الأخبار: 127.

الصحة وقد يكون شرط القبول، ومثال الأول: الطهارة في الصلاة، ومثال الثاني: حضور القلب فيها وكذا الولاية لأهل البيت (علیهم السلام) في جميع الأعمال(1).

لكن: للصلاة (أشراط) وهي غير (الشروط) بقسميها، فعلينا بحثها ومعرفتها كما سيأتي، ولنمثل بمثال آخر وهو: الحياة الزوجية السعيدة، فإن لها شروطاً، منها: إن تبتني على الأخلاق والدين «اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

لكن هناك (أشراط) للحياة الزوجية السعيدة وهي غير الشروط وهي عادة لا تبحث.والحاصل: إن هذا البحث بحث أساسي ومهم جداً، خصوصاً مع ملاحظة أن الإمام (علیه السلام) في الرواية الشريفة استخدم مفردة (أشراط) ولم يقل شروط الطاعات، فعلينا البحث في تعريف (الأشراط) وإلقاء الضوء حولها، حتى يمكننا التفريق بين منظومة (الشروط) ومنظومة (الأشراط)، فنقول:

أن الشَرَط - وجمعها أشراط - لها معنيان:

1) العلامات، قال تعالى: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ الا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لهم إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ»(3) أي: علاماتها، وهذا المعنى هو من عالم الإثبات.

ص: 67


1- فإن الولاية شرط قبول الأعمال دون شك، لكن هل هي صحة صحتها أيضاً؟
2- عوالي اللالي: ج3 ص340.
3- سورة محمد: 18.

2) المقدمات والممهدات، وهذا المعنى هو من عالم الثبوت.

وقد فصلنا الكلام حول هذه المفردات في كتاب (المرابطة في زمن الغيبة)، فراجع!

أمثلة ونماذج من الأشراط

والآن سنستعرض عدداً من نماذج ومصاديق الأشراط والشروط لتوضيح المطلب أكثر فأكثر:

الطالبإن من (شروط) فهم الطالب لدرسه هو حضور ذهنه أثناء الدرس، بينما (أشراط) الدرس غير ذلك، فإن منها: أن يحضر للدرس مبكراً بأن يحتاط في الخروج مبكراً من المنزل؛ لأحتمال انسداد الطرق أو غير ذلك، فالخروج مبكراً شَرَط وليس شرْطاً(1).

الخطيب الناجح

كما أن من (شروط) الخطابة الناجحة أن يتميز الخطيب بالعلم والثقافة الواسعة والتحضير الجيد، بينما نجد أن من علامات وأشراط ذلك: تركيز الجميع وإنشدادهم إلى حديثه حتى كأن على رؤسهم الطير، إذ بذلك نكتشف أن هدوء الجمهور وسكون أعضاءهم وجوارحهم كلها، فلا حركة ولا تململ، هو من أشراط الخطابة الناجحة(2).

ص: 68


1- وهنا فسرنا الشرَط بمعنى المقدمة.
2- وهنا فسرنا الشرَط بمعنى العلامة. فتدبر!

الصلاة

كما أن (شَرَط) قبول الصلاة حضور القلب في الوضوء، وهو غير حضور القلب في نفس الصلاة والذي هو (شَرْط) وليس من الأشراط، وقد ذكرت بعض الروايات ذلك وأشارت إلى أن استجماع الإنسان لقلبه في الوضوء علة مُعِدَّة أو مقدمة موصِلة بنحو الإقتضاء للدخول خاشعاً متفكراً إلى الصلاة.

الحياة الزوجية السعيدة

كذلك من (أشراط) الحياة الزوجية أو العائلية السعيدة، التزاور المكثف الذي يكشف عن العلاقة الطيبة الحميمية بين أفراد الأسرة، ونفس الأمر ينطبق على الجيران أو العشيرة أو المحلة أو الأمة الواحدة، فلو أردنا معرفة مدى سعادتها أو تعاستها في العيش المشترك فما علينا إلا تتبع الأشراط بكلا معنييها: العلائم والمقدمات.ومن الغريب المؤسف أن نجد بعض الأعراف قد جرى ديدنهم على أن المرأة عندما تريد أن تتزوج، فإن أهلها يثقلون كأهل الزوج بالمهر المرتفع، وهم يعتبرون ذلك شَرْطا في استمرار الحياة الزوجية، ولكن ذلك من أكبر الأغلاط، لأن ذلك ليس شَرطا وعاملاً لتوفير الحياة السعيدة واستقرارها، بل هو متوهم الشرطية؛ لأنهم يعتقدون أن الزوج سيتردد كثيراً في طلاق ابنتهم، في حال كان مؤجل مهرها كبيراً، متناسين أن الزوج إذا كره زوجته - ولم يكن له دين - فإنه سيؤذيها حتى تخضع وتتنازل عن مهرها, في حين إن العكس هو الصحيح، فإن تخفيف المهر يعتبر شرَطاً(1)

للحياة الزوجية السعيدة، وقد ورد في الحديث:

ص: 69


1- أي مقدمة وكذا علامة.

«خَيْرُ نِسَاءِ أُمَّتِي أَصْبَحُهُنَّ وَجْهاً وَ أَقَلُّهُنَّ مَهْراً»(1).

وصفوة القول: إنه إذا أردنا معرفة مدى استمرارية هذا الزواج من عدمه، فإن علينا أن نبحث عن الأشراط، فمثلاً علينا أن نلاحظ تعامل الزوج مع إخوته وسائر أفراد أسرته وعشيرته، هل يحترمهم أم لا؟ هل يضربهم أم لا؟ فإن كان يضربهم - مثلا - فإن ذلك علامة على أنه بطريق أولى سيضرب زوجته ويهينها.

كما أن الطالب أو الكاسب الذي يتطلع إلى هذه الفتاة أو تلك في الجامعة أو السوق مثلاً، فإنه يكشف بذلك عن إنذار مبكر عن سلوكه المستقبلي، فعمله هذا - عدم نزاهة نظراته الآن - شَرَط أي علامة على وضعه وحالته في المستقبل.

إن كل إنسان يُقدّم علامات وأشراطاً مسبقة قبل تبوءه أي عمل أو منصب وقبل تحوله من حالة - كالعزوبة - إلى حالة أخرى كالزواج -، وهذه الأشراط تكشف عن خبايا نفسه ومطويات سريرته، وعلينا ملاحظتها أشراط حياته، والتدقيق فيها كيف كانت؟ وبِمَ تنذر؟ فإنه حتى لو كان الآن مُستجمعاً للشروط، لكنه لو افتقد الأشراط، فهو مما يخشى منه.

التبليغ

فإن شرط التبليغ هو معرفة ما تبلغ به، لكن شَرَط التبليغ واشراطه هي التأهيل والتدريب فاذا لم يكن المبلغ مُدرّبا ومتدربا فان هذا علامة على أنه

ص: 70


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص160.

سيفشل في تبليغه, وعوداً على قضية النبي إبراهيم (علیه السلام) فإننا نجد أن إبراهيم نجح لا في الشروط فحسب بل في الأشراط أيضاً، فان حياته كلها كانت سلسلة من المقدمات والممهدات الموصلة للنجاح في مختلف تقلبات الحياة، كما كانت حياته تحتضن الكثير من العلامات المشرقة المبشرة بالنجاحات الآتية المنطقة النظير.

كاشفية (الأشراط) عن سعادة النفس أو شقاوتها

كان السيد الأخ (رحمه الله) يقول: تارة ننظر إلى المعصية بما هي معصية فقد يستخف بها الإنسان(1)،

وتارة ننظر إليها بإعتبارها حلقة من سلسلة تجر الإنسان إلى النار - والعياذ بالله تعالى -، فإن المعصية تستتبع معصية أخرى، فهي علة معدة لما بعدها فثالثة ورابعة وهكذا، فالمجترح للمعاصي يحوك سلسلة كبيرة حول عنقه تجره لاحقاً إلى الهاوية، فتكون كل معصية بذلك شَرَطاً وعلامةً على سوء مستقبله وخطورة أمره، كما تكون شرَطاً وعلامة على خبث نفسه وشقاوتها.وهذا نظير ما يثار في مبحث التجري، إذ أن الإطار العام في البحث فيه يتمحور حول الأشراط؛ لأن الفعل المتجَرى به، يكشف عن خبث نفس المتجري، ففعله علامة على ذلك، وإن لم يكن الفعل في حد ذاته معصية.

وقوله تعالى في الآية الشريفة: «لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(2) تشير الى

ص: 71


1- ولا ينبغي أن يستخف بها؛ لأن «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ». (نهج البلاغة حكمة 340) كما يقول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فعلى الإنسان أن ينظر إلى عظمة من يعصيه، لا إلى حجم المعصية أو درجتها.
2- سورة البقرة: 124.

الشَرَط بإعتبار أن الإنسان وإن كان عادلا الآن، لكنه إن كان قد ظلم ولو مرة واحدة فيما سبق فإن عهد الله لا يناله؛ لأن الظلم السابق شرَط - أي أنه ثبوتاً مقدمةٌ وإثباتاً هو علامة - لعدم نيله عهدَ الله وعدم نيل عهد الله له، نعم لا ينفي ذلك أن يكون شرْطاً أيضاً إذ قد يجتمع الشرْط والشرَط، لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه. فتدبر جيداً!

أهدافنا وعلاقتها الجوهرية بالأشراط

إن كلاً منا يهدف إلى أن يصبح شخصاً ذا بال، فقد يسعى أحدنا لكي يصبح مرجع تقليد، وآخر قد يهدف أن يكون خطيباً عالمياً أو كاتباً أو طبيباً أو مهندساً مثالياً على مستوى العالم إذ أنه يشار إلى المؤلف المتميز أو المهندس المبدع بالبنان، وفي ذلك رفعة للدين أو الوطن أو المذهب(1)،

لكن ما لم تتوفر الأشراط لذلك، فإن النجاح قد لا يكون حليف الإنسان الطموح والساعي إلى نيل العلياء، أما إذا لاحظ هذه الأشراط في نفسه باستمرار، فإنها ستكون مقدمات وعلامات على نجاحه وتقدمه.

الإمام الجواد (علیه السلام) يتفقد الرعية ويعوّض المتضررين

وقد ورد في التاريخ عن الإمام الجواد (علیه السلام)، إن احمد بن حديد خرج مع جمع من صحبه إلى حج بيت الله الحرام، لكن اللصوص اعترضوا طريقهم وسرقوا كل ما لديهم، ثم بعد ذلك واصلوا مسيرهم إلى المدينة

ص: 72


1- فلو قصد الإنسان، بينه وبين ربه، من السعي للتميز ولأن يطرح على مستوى العالم كشخصية متميزة، لو قصد بذلك علو شأن الإسلام والمسلمين لكان مأجوراً على ذلك.

المنورة فلما وردوها واستقر بهم الحال في محل سكناهم، وإذا هم بالإمام الجواد (علیه السلام) يبتدرهم إلى محل إقامتهم فيسلم عليهم مرحباً بهم ومتفقداً لأحوالهم... ثم إنه (علیه السلام) أمر بكسوتهم جميعاً ودفع إليهم أموالاً كثيرة... وبعد أن خرج (علیه السلام) عدوا المال، فوجدوه مطابقاً لجميع ما سُرق من كل واحد منهم!!! وذلك رغم أن الإمام كان يمكن أن يبعث لهم من يتفقد أحوالهم ورغم كثرة مسؤولياته وجسامتها إلا أنه (علیه السلام) لم يهمل حتى أولئك النفر القليل بل تكفل بكل ما سرق منهم!

أين نحن من مأساة النازحين؟

إن علينا أن نأخذ العظة والعبرة من هذه القصة المعبّرة، ونحن نعيش هذه الأيام محنة النازحين في العراق الذين بلغ عددهم ما يقرب من مليون وثمانمائة ألف نازح في الفتنة الداعشية الوهابية الأخيرة(1)،

والنازحون بشتى الوانهم هم بشر بينهم الشيخ الكبير والطفل الصغير والمقعد والمريض والمرأة الحامل والمرضع، وقد اُخرج الجميع من أرضهم وديارهم، ومشاكلهم المتنوعة واحتياجاتهم الكثيرة، والآن لنسال أنفسنا:هل تأسينا بإمامنا الجواد (علیه السلام) في الاهتمام بمن دهمتهم الدواهي ونزلت بهم البلايا، ولو بالحد الأدنى؟ وهل نجد أنفسنا قد أتممنا الامتحان الإلهي في النازحين - كنموذج -؟ ذلك أننا مسؤولون عنهم دون شك إذ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(2) وذلك في حدود القدرة بطبيعة الحال.

ص: 73


1- أواخر سنة 2014 للميلاد, كما أنها أواخر سنة 1435 للهجرة .
2- بحار الأنوار: ج72 ص38 /وعوالي اللئالي: ج1 ص129.

والغريب إن البعض لا يفكر حتى مجرد تفكير في مساعدة النازحين والمهجرين أو المطاردين أو المستضعفين، ولا يبذل أي جهد ولو اليسير منه، ألا يكشف ذلك عن البعد الشاسع بينه وبين الإمام الجواد (علیه السلام)، والذي يذعن بأنه له شيعة!!

والأمر لا يقتصر - في المسؤولية والتفكير على الأقل - على نازحي العراق فقط ومستضعفيه، بل يشمل كل مهجر أو مطارد أو سجين، بل أي مظلوم في أي مكان كان، في لبنان أو سوريا أو أفغانستان أو غيرها.

ولعل سائلاً يسال: كيف لنا أن نهتم بكل النازحين؟ فكيف بكافة المستضعفين؟! مع أن قدراتنا محدودة جداً.

والجواب: إن القدرة على رعاية النازحين وغيرهم تتوقف على مقدمات وأشراط، ومنها الاستعداد المسبق عبر تأسيس الحواضن وشتى أنواع مؤسسات المجتمع المدني، وعبر التأهيل المسبق حتى يمكن احتواء أمثال هذه المأساة الكبيرة التي حلت بالعراق وغيره من دول الجوار, بل سيمكن بذلك الحيلولة دون حدوث أمثال هذه الفجائع، - دفعاً لا رفعاً فقط -.

حوار غريب بين ابنة هولاكو وأحد علماء الإسلام

كما يحكى إن ابنة هولاكو زعيمِ التتار - وهم وحوش بشرية أهلكوا الحرث والنسل ودمروا البلاد قبل أن يسلموا(1)

- كانت تطوف في بغداد، تتفحص الأحوال - ويبدو من قصتها أنها كانت مثقفة حصيفة - فرأت جمعاً

ص: 74


1- وقد اسلموا بعد ذلك ببركة الشيخ نصير الدين الطوسي (رحمه الله).

منالناس يلتفون حول رجل معمم، فسالت عنه، فقالوا: إنه عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما حضر سالته: ألستم من المؤمنين بالله؟ قال: بلى.

قالت: ألا تزعمون أن الله يؤيد بنصره من يشاء؟ قال: بلى.

قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟ قال: بلى.

قالت: أفلا يعني ذلك أن الله يحبنا ويبغضكم ويبغض دينكم؟

قال: لا.

قالت: لمِ؟! قال: ألا ترينَ راعي الغنم؟ قالت: بلى.

قال: ألا يصطحب قطيعه بعض الكلاب؟ قالت: بلى.

قال: فما يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه وخرجت عن سلطانه؟ قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى قطيعه وسلطانه.

قال: فكم تستمر الكلاب في مطاردة الخراف؟

قالت: ما دامت شاردة.

قال: فأنتم - ولله المثل الأعلى - أيها التتار، كلاب الله في أرضه، وطالما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته فستبقون ورائنا حتى نعود إلى طاعته ومناهجه وقوانينه!.إن هذه حقيقة عظيمة عامة وسيالة، فما دمنا بعيدين عن طاعة الله وعن قوانينه ومناهجه - كالتعاون والإيثار والصدق والوفاء والحريات والنزاهة والأمة الواحدة - فإن البلاء سيستمر حتى نعود إلى الله وكتابه ورسوله وعترته، والأمر أعظم مما نتصور فإنه لا يقتصر على هذه الفتنة الأخيرة وخروج داعش، بل إن

ص: 75

دوائر الاستكبار العالمي ومراكز دراساتهم تعد منذ عشرات السنين جماعات ومنظمات إرهابية ومذاهب مبتدعة هدفها تدمير بلاد المسلمين، فقد خرجت علينا الوهابية ثم طالبان والقاعدة ثم داعش وجبهة النصرة ثم إن مخابراتهم تحذر الآن من خروج ما هو اخطر من داعش(1).

لقد خططوا لذلك وغيره من عشرات السنين، ويكفي أن نعلم إن بعض الصحف الخليجية نشرت مقالاً عن إحدى الصحف الغربية جاء فيه: إن العراق سوف يقسم إلى ثلاث دول تبدأ بالفدرالية ثم الكونفدرالية ثم التقسيم التام، وكذا السعودية وايران وسوريا ولبنان.

فالغرب يعمل على الأشراط التكوينية، ويعد ويستعد قبل أن يقوم بأي عمل، وقد يخطط للخمسين أو المائة سنة القادمة - أو أكثر -، ولا زالوا يخططون، بينما تجدنا لا زال عازفين عن الانشغال بالإعداد الجاد والتخطيط البعيد المدى, بل ولا توجد لدينا مراكز دراسات جادة بمستوى التحديات، ولذا لا نرى العلامات والأشراط ولا نشعر بالنُذُر رغم وجودها في كثير من الأحيان.

ويكفي أن نشير إلى أن من أشراط فشلنا وتخلفنا إنك تجد في طول بلاد الإسلام وعرضها أية جهة تصل إلى السلطة، فإنها تستأثر بها وتتمسك بدل اللجوء إلى التداول السلمي للسلطة بشكل طوعي بل وبإندفاع وبدل«أحب لغيرك ما تحب لنفسك»(2) بل قد تجد البعض(3) يتخلى عن انتماءه إلى بلده،

ص: 76


1- وهي منظمة (خراسان) والتي تنشط الآن في سوريا (المقرر) .
2- ورد في وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لإبنه الإمام الحسن (علیه السلام). مستدرك الوسائل: ج11 ص311.
3- كأغلب - إن لم يكن كل - الرؤساء الذين جاءوا للحكم إثر ثورات الربيع العربي.

فيكون أداة طيعة بيد الغرب كي يضمن له الجاه والسلطان!!

مخططات المأمون للنيل من الإمام الجواد (علیه السلام)

لقد كان المأمون يعرف الإمام الجواد (علیه السلام)، بل كان منذهلاً لعظمته وسموه في عليائه، لكنه مع ذلك لجأ إلى مجموعة من الخطط الشيطانية محاولاً بذلك إستمالة الإمام وجره معه إلى حضيض عَرَض الحياة الدنيا، حيث توهم أن الإمام قد تزل قدمه أمام امتحان دنيوي قوي وشديد، جاهلاً أو غافلاً، أن الإمام قد أتم الامتحانات الإلهية الكبرى بنجاح منقطع النظير في العوالم السابقة وفي هذا العالم أيضاً!!

وكان من خطط المأمون أنه بدأ يغدق على الإمام الجواد (علیه السلام) الأموال والهدايا، حتى بلغت فترة من الفترات مليون درهم! كما صرح بذلك المؤرخون، وهو مبلغ كبيراً جداً بالنسبة لشاب بين التاسعة من العمر والأكثر، خاصة إذا لاحظنا إن القيمة الشرائية لمليون درهم كانت كبيرة جداً، قد تعادل (20) مليون دولاراً في هذا الوقت(1).

وذلك كله ظناً منه بأن الإمام (علیه السلام) سوف يتشرب حب الأموال وينجذب إليها، لكنه - بأبي وأمي - أنفق كل هذه الأموال في طريق الله تعالى، وواسى بها المضطهدين والفقراء من شيعته وغيرهم.

ص: 77


1- لأن قيمة الشاة ذلك الوقت كانت - ربما - تتراوح بين عشرة وعشرين درهماً، فلو فرضنا أن قيمة الشاة الآن مائتا دولار (وهي في العراق تبلغ حتى ثلاثة مائة دولار)، فذلك يساوي عشرة إلى عشرين مليون دولاراً.

إن هذا الامتحان وإن كان بسيطاً بالنسبة إلى الإمام (علیه السلام)؛ لأنه (علیه السلام) تجاوز ماهو أعظم منه بكثير، لكن الغرض من ذلك العبرة والتوقف عند حالنا، عندما تصلنا مثل هذه الأموال الطائلة وتكون الدنيا بين أيدينا فما نحن فاعلون؟ خاصة إذا لاحظنا أنه لا تقتصر الامتحانات الإلهية على الأموال بل هناك المناصب والجاه وغير ذلك.

إن على الإنسان أن يعدّ نفسه باستمرار كي ينجح في الاختبار الإلهي، وهذا الإعداد هو الشَرَط وهو الأساس في صناعة مستقبل الإنسان.

هل إن عبادتنا ومناسكنا لله تعالى؟

وإن الرواية سابقة الذكر تصلح خير دليل لنا في معرفة أشراط السعادة والفلاح والنجاح، إذ يقول الإمام (علیه السلام): «...ثم الجمع لأشراط الطاعات في قوله تعالى: «إِنَّ

صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1)

...» فإن الآية - التي شرحت بها الرواية كلمة «أتمهن» في الآية الأخرى - واضحة في أن أشراط الطاعات هي أن تكون أمور أربعة كلها لله تعالى وهي:- الصلاة والنسك والمحيا والممات، ولكن ماذا تعني النسك التي جعلت من أشراط الطاعات؟

معاني النسك: المذهب والمسلك و...

إن المعاني التي تفسر بها كلمة النسك هي عدة معاني متدرجة من الدائرة الأضيق إلى الدائرة الأوسع، وهي:

ص: 78


1- سورة الانعام: 162.

1) الذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى.2) كل أفعال الحج، ولذلك جرى التعبير ب(مناسك الحج).

3) العبادة، فيكون معنى الآية على هذا: إن صلاتي وعبادتي لله رب العالمين.

4) النسك هو المذهب، أي مايذهب إليه الإنسان، أي الطريقة أو الشريعة(1)، فكل مسلك يسلكه الشخص وكل طريق يذهب فيه فهو نسك، وعلى هذا فإن المنسك هو المسلك وليسا أمرين مختلفين.

وعلى هذا الأخير فإن الآية تدل على أن كل لحظة من لحظات حياة الرسول (صلی الله علیه و آله) - وكذلك إبراهيم (علیه السلام) وسائر الأنبياء والأوصياء بأدلة اشتراكهم في ذلك ونظائره - هي «لله رَبِ العَالمَين».

إن علينا أن نراقب كل أفعالنا حتى المباحة منها، وأن نضعها في المقياس الإبراهيمي الدقيق، حتى مثل الأكل والشرب أو تصفح الانترنيت أو مشاهدة التلفاز أو حتى الرياضة أو غير ذلك، وأن نسعى لأن نجعل ذلك كله لله رب العالمين، وذلك إذا نوينا بذلك(2) التقوي على العلم والعبادة، أو قصدنا أن نثري معلوماتنا بمشاهدة البرامج العلمية أو الاجتماعية أو حتى برامج عن الطبيعة وغيرها في الانترنيت والتلفاز، كي نعرف ما هو الداء وما هو الدواء وما هي أسرار التخلف والتقدم أو السعادة والنجاح وغير ذلك،

ص: 79


1- وهو ما ذهب اليه السيد الوالد (قدس سره) في التبيين.
2- أي الأكل والشرب والرياضة.

لا أن يكون ذلك من أجل التلذذ مجرداً عن كل قصد عقلائي.

ومقياس ذلك: أن نلاحظ مادة افتراق (المفيد) عن (اللذيذ)، فالأكل مثلا قد يكون صحياً، لكنه ليس بلذيذ أو بالعكس أي قد يكون لذيذاً لكنه ليس بصحي؛ فمن كان همه لله وحياته لله، فإنه لا يأكل إلا ما كان صحياًفحسب كي يتقوى به على العلم والعمل الصالح والجهاد أو العبادة، أما الغافل فلا يأكل إلا ما كان لذيذاً وإن لم يكن صحياً(1)!!

إن من تضعف شهوته عن مقاومة نوع من أنواع الحلويات المستوردة من الغرب أو غيره(2)

فإنه سيحقق بذلك شرَطاً من أشراط الفشل في امتحاناته القادمة الكبرى، كما أن عدم مقاومة الشهوة المحللة يُعَدُّ من أشراط النجاح في مقاومة الشهوة المحرمة. والمستعان بالله تعالى على ذلك كله أولاً وأخيراً.

ص: 80


1- وما أكثر الأطعمة والمشروبات الضارة التي يأكلها أو يشربها الناس لمجرد أنها لذيذة أو منعشة!
2- كأنواع الشكولاتة أو أصابع الحلويات.

الفصل الثالث: الموانع

اشارة

* الظلم التكويني والقصور الذاتي في علمي الكلام والاجتماع

* حقيقة الظلم وأنواعه

* الظلم التشريعي والظلم التكويني

* الجواب على شبهة تنصيص القرآن على ظلم بعض الأنبياء

ص: 81

ص: 82

الظلم التكويني والقصور الذاتي في علمي الكلام والاجتماع

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1).

توطئة

في هذه الآية الشريفة مواطن كثيرة للاستلهام والاستضاءة والتدبر والتزود، ومنها ما سنطرحه تحت عنوان مستحدث سيكون كثير الفائدة في علم الكلام وعلم الإجتماع وغيرهما، كما أنه يشكل حلاً آخر وجواباً جديداًعلى بعض المشاكل الكلامية أيضا، إضافة إلى أنه مفيد أخلاقياً وإجتماعياً، وسننطلق في ذلك كله من التدبر في كلمة «الظَّالمِينَ» الواردة في الآية الشريفة وعلى حسب علم فقه اللغة وبعض القواعد الاخرى.

ص: 83


1- سورة البقرة: 124.

البصيرة الحادي عشرة: حقيقة الظلم وانواعه

اشارة

إن الظلم كما هو المتصور في الأذهان هو نوع واحد، وهو الذي يُبحث عنه في مباحث التحسين والتقبيح العقليين والذي هو القبيح عقلاً بلا شك، والحرام شرعاً ايضاً، بناءً على جريان قاعدة الملازمة في المستقلات العقلية كما هو الحق المنصور.

كما أن هذا هو الظلم معروف عند عامة الناس، قال الشاعر:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فَلِعلةٍ لا يظلم

وقد اكتشفنا معنى آخر للظلم وهو معنى مغفول عنه عادةً، لكنه يُعرف بعد التدبر في الآيات والروايات، وفي لغة العرب وعبر تصفح ودراسة عدد من الأمثال والحكم السائدة.

وهذا المعنى الجديد لا يقل أهمية عن المعنى الأول المعروف وهو منشأ أبحاث وأثار كثيرة, مع أنه لا يدخل في دائرة التشريع وليس للحرمة والكراهة دخل فيه، وهنا وجه الدقة في الكلام، كما سيتضح إن شاء الله.

اختيار الأسماء والالقاب في تعاليم الإمام الباقر(علیه السلام)

لكن قبل ذلك سوف نستعرض كلمة قصيرة معبِّرة بمناسبة استشهاد

ص: 84

الإمام الباقر (علیه السلام)، فإنها تلقي الضوء إجمالاً على بعض جوانب المبحث، والقصة رغم بساطتها تحتوي وتكشف عن بحر من المعاني، وعن الإنسانية المذهلة للائمة (علیهم السلام)، إذ نقرأ في تعليمات الإمام الباقر (علیه السلام) لأصحابه قوله: «لا تقولوا للسائل، يا سائل خذ هذا!» - لأن نفس هذه الكلمة فيها نوع من الذلة؛ لأن السؤال ذل، وإن كان السؤال (أين الطريق؟) - بل قولوا: «يا عبد الله بورك فيك» - إلفاتاً له كي يأتي فتعطيه -، ثم قال الامام (علیه السلام): «سموهم بأحسن أسماءهم»(1)... وهي إلتفاتة إنسانية رائعة. فإن من الواضح أن السائل الفقير المستعطي، له مرتبة نازلة في نظر المجتمع، ولذلك يُنظر إليه عادة بعين الاحتقار أو الضِّعة، لذلك كان لابد من نوع من التعويض، وهذا من طرق التعويض.

وهذا الكلام كلام سيّال؛ وعلينا أن ننطلق من توجيه الإمام(علیه السلام) في هذا المورد الخاص إلى مختلف التسميات الاجتماعية, فإذا ما كانت في بعض التسميات دلالات سلبية فإن علينا أن نغيرها إلى الأفضل,كما في الكلمة المتداولة في هذه الأعصر: (الأجانب) ويقصد بها من لم يكن مواطناً وإن كان مسلماً!؛ فإن فيها الشيء الكثير من الدلالات السلبية المخالفة لشرع الله تعالى، وكذلك أمثال كلمة (المعوقين)(2)!

وهذا ما يحتاج إلى بحث وتدبر

ص: 85


1- عيون الأخبار: ج3 ص208 والبيان والتبيين 158. كما جاء في التاريخ وكان لا يُسمع من داره: يا سائل بورك فيك !.. ولا: يا سائل خذ هذا!.. وكان يقول: سمّوهم بأحسن أسمائهم/ كشف الغمة: ج2 ص320.
2- كذلك مثل كلمة (المتجاوزين) أو (الحواسم) أو (المعوضين) التي تطلق في هذا الزمن على كل » « من استثمر أرضاً للسكن أو الزراعة، كما أمر الله ورسوله: «من أحيا أرضا فهي له»... غايته أنه لم يستثمرها عن طريق السلطة الحاكمة!! ليس إلا... (المقرر).

نتركه إلى وقت آخر.

الظلم التشريعي والظلم التكويني

وعوداً على بدء نقول إن الآية الشريفة تصرح: «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1) وعلينا أن نبحث عن ما المراد من «الظَّالمِينَ» في الآية؟

ألمحنا فيما سبق إلى وجود نوعين من الظلم، ولم نفصل في ذلك، وقد حان أوان التفصيل فنقول:

إن الظلم على قسمين(2):

1) الظلم التشريعي: ونقصد به ما كان محط الأمر والنهي أو البعث والزجر، أي ما كان في دائرة الحرمة، والذي يقع في مقابل العدل الواجب.

والظلم بمختلف أنواعه حرام, ولعله العنوان الوحيد الذي هو علة تامة للحرمة, فكل ما صدق عليه أنه ظلم فهو قبيح وحرام شرعاً، والقبيح عقلاً حرام. وهو الظلم الذي عادة ما يُتحدث عنه.

2) الظلم التكويني: وفرقه عن الظلم التشريعي أنه لا يدخل في دائرة

ص: 86


1- سورة البقرة: 124.
2- وهو بحث جديد يمكن أن يناقش الإنسان فيه أو يؤيده, وسنذكر بعض الأدلة عليه.

التحريم ولا الكراهة ولا يرفعه القصور الذي يرفع التكليف(1)

لكنه يبقى ظلماً, إلا أنه من النوع التكويني منه, فلو كسر شخص رقبة أخر فإنه فعل حراماًلو لم يكن بحقه كما في القصاص بشروطه، أما لو سقط من سطح قهراً فوقع على رقبة شخصٍ فكسرها، فإنه لم يفعل حراماً إذ لم يكن بإختياره وليس ذلك ظلماً تشريعياً, إلا أنه ظلم تكويني.

والظلم التكويني لا يدخل في دائرة التشريع، إلا أنه مندرج تحت عنوان الظلم بالمعنى الأعم، والآية والشريفة باستنباطنا تشمله.

توضيح ذلك: إنه قد يقال إن مفاد الآية الشريفة لا ينحصر بالمعنى المتداول للظلم والمعروف لدى الجميع، بل هي ناظرة أيضاً إلى معنى أدق وأعمق(2) ولتوضيح المطلب وبرهنته لابد من أن نذكر بعض الشواهد والأمثلة، ثم نعقب ببعض الآيات الشريفة كي نستخلص النتيجة النهائية:

الظلم التكويني في الأمثال والحِكَم

يقال في المثل: (ظلمت اللبن أو ظلمت السقاء) وذلك إذا شربته أو سقيته غيرك قبل إدراكه وقبل أن تؤخذ زبدته، مع أن اللبن ليس محل قابلاً،

ص: 87


1- فإنه كان الإنسان قاصراً فإنه غير مكلف كما أنه غير معاقب على المخالفة قصوراً كالمريض المصاب بلوثة في عقله.
2- وهذا المعنى للظلم وهو (التكويني) هو معنى حقيقي له وليس مجازياً على ما سنسوقه من الأدلة، فإن تمت وإلا فهذا معنى مجازي ساقتنا إليه القرائن الآتية، على أنه حاله في المجازية لا يقل عن القول بان المراد من الظلم ترك الاولى.

لأن يُظلم ولا يقع عليه الظلم بالمعنى التشريعي، لكنه محل قابل لأن يُظلم بالمعنى التكويني.ويقال في مثال آخر من أمثلة العرب: (اظلم من حية) مع أن عملها لا يندرج في دائرة الظلم التشريعي لمكان حيوانيتها وعدم تكليفها، لكنها لما كانت انتهازيةً تحتل الجُحر المعد سلفاً لغيرها قيل أنها ظالمة، فيدخل ظلمها في الظلم التكويني لا التشريعي من غير حاجة لدعوى التجوّز.

وتقول العرب أيضاً: (ظلم السيل الأرض) إذا خدّ فيها أخاديد على خلاف مقتضى الطبيعة، كما لو كان سيلاً عارماً عَرَمْرَماً فأحدث فيها ما أحدث؛ وهو ظلم تكويني أيضاً، بل هو أوضح من سابقه في الحيوان دون الجماد ونظائره.

المثال الآخر: يقال: (ظلم الأرض) إذا حفر فيها في غير الموضع الذي ينبغي أن يحفر فيه، ويقال أيضاً: (المظلوم)(1)

ويراد به الأرض والبلد الذي لم يصبه غيث ولا كان فيه مرعى، حتى أنه روي أو هو مثل عربي: (اذا أتيتم على مظلوم فأغذّوا السير) وقد توهم بعضهم أن المقصود هو المظلوم من الإنسان، في حين أن المراد هو الأرض المظلومة أي الجرداء والتي لا ماء فيها ولا كلأ، فينبغي للمسافر أن يهرب منها؛ لأنها مهلكة وليست مفازة.

ص: 88


1- توجد منطقة مشهورة في بحر النجف الأشرف تسمى (مظلوم) كما أشار السيد الأستاذ في المتن إلى ذلك, ولا يبعد أن تكون سميت بذلك لطبيعة جغرافيتها غير الملائمة للسكن او الزراعة حتى ان أهل النجف لا يحبذون السكن فيها (المقرر).

كما يقال: (الأرض المظلومة) وهي التي لم تحفر قط ثم حفرت، ويسمى ذلك التراب ظليماً، كما يسمى تراب لحد القبر ظليماً بهذا الوجه أو نظره.

ومن الأمثلة المعروفة: (ومن يشابه أبه فما ظلم) عندما يراد به المشابهة في الخلقة، فإنه ليس المراد الظلم التشريعي إذ ليس مشابهة الابن لأبيه مما هي تحت اختياره، بل هو إشارة إلى الظلم التكويني؛ نعم لو أراد به الشبه في الأخلاق الفاضلة كما هو مورد الشعر المعروف، فإنه من دائرة العدل والظلم التشريعي.

والأمثلة على ذلك كثيرة، فنخلص من ذلك كله إلى أن الظلم والظالم والمظلوم، لها أطلاقات أخرى غير الأطلاقات المعروفة.

وأما كونها حقيقة كما هو المستظهر فقد يستدل عليه بصحة الحمل دون عناية وبالإطراد, ولعله يمكن الاستدلال على ذلك أيضاً بقوله تعالى: «كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالهما نَهَرًا»(1) مع أن الجنة غير مكلفة ولا عاقلة ولا مأمورة بشيء فلا يراد الظلم التشريعي، بل هو الظلم التكويني وقد يستظهر أن هذا الإطلاق بلا عناية.

تعريف اللغويين وعلماء الكلام للظلم

وقد يستدل على ذلك بالتعاريف التي ذكرها علماء اللغة وعلماء

ص: 89


1- سورة الكهف: 33.

الكلام عن الظلم والعدل، فإنها تعيننا وتسعفنا على ما ذهبنا إليه, فمن التعاريف:العدل: إعطاء كل ذي حق حقه(1).

والظلم: منع ذي الحق من حقه.

ولكن هناك تعاريف أخرى للعدل(2)

والظلم، ومنها:

العدل: هو وضع الأشياء مواضعها، وإلا فهو ظلم(3)، كما قالوا: (وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد) وقالوا: (الظلم: الميل عن القصد)(4).

وقولهم (مواضعها) يشير إلى (الانبغاء) حسب الاصطلاح الأصولي المفصل في محله(5)،

وهذا المعنى أعم من المعنى السابق، فإن مجاوزة الحد أمر ثبوتي غير مرتهن بالقصد والإرادة فكل ما جاوز الحد فهو ظلم، وكل ما لم يوضع موضعه فهو ظلم، فإن اقترن بالقصد والإرادة فهو ظلم تشريعي يستحق عليه العقاب, وإلا فتكويني فقط، كما يقال: (بالعدل قامت السماوات والأرض)، إذ كل شيء فيها بميزان، وكل ركن من أركانها عدل، موضوع في محله، أي كما ينبغي، وكما هو مقتضى الطبع الأولي له.

فالظلم والعدل ليس المراد منهما ما يقع في دائرة التشريع فحسب، بل

ص: 90


1- وذلك مع تعميم (ذي الحق وحقه) إلى الاستحقاق بحسب ذاته ومقتضى طبعه. فتأمل!
2- وهو تعريف للحكمة كما أنه للعدل أيضاً.
3- قال في لسان العرب مادة ظلم ج12ص437: (واصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه) .
4- لسان العرب ما ظلم ج12 ص 434.
5- أي ما ينبغي ان يكون عليه الشئ حتى لو صدر من غير عاقل.

ما يشمل الظلم والعدل التكوينيين أيضاً.وهذه التعاريف وإن كان ظاهر بعضها الظلم والعدل التشريعيين نظراً - لأن ظاهر الأفعال القصدية - لكن بعضها لم يذكر فيه الفعل(1) فتشمل العدل والظلم التكوينيين، والانصراف لو كان فبدوي، ناشئ من كثرة الاستعمال في التشريعي لاغير.

ولعله يشهد لذلك قوله تعالى - كما سبق -: «كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا» فإن المراد هو الظلم التكويني، إذ الجنة ليست فاعلاً مختاراً ولا قاصداً، ويمكننا أن نعّبر عن ذلك بتعبير آخر فنقول: أي لم يصدر منها ما يخالف مقتضى طبعها الأولي وما ينبغي أن يصدر منها، وذلك رغم أن الثمار غير قابلة للانظلام(2).

كما قد يستدل على المدّعى بقوله تعالى - على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه -: «يَا بُنَيَّ لَا تُشْ-رِكْ بِالله إِنَّ الشِّ-رْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(3)، فهل الشرك هو ما صدر عن التفات فقط وإنه هو الظلم دون غيره؟

الجواب: كلا، بل إن الشرك ثبوتاً أي بما هو هو وبمقياس الواقع هو ظلم عظيم، حتى لو كان يعتقد المشرك أنه أول الموحدين، كما يرى بعض المسيحيين ذلك، مع أنهم واقعاً مشركون، كذلك القائل بوحدة الموجود

ص: 91


1- بل ذكر المصدر ك(مجاوزة) (الميل).
2- عبرّنا بالانظلام توسعاً وإلا فلا يرد باب الانفعال في مفردة (الظلم).
3- سورة لقمان: 13.

سواءً التفت لمعنى ما يقول ولوازمه أم لم يلتفت.وقال الشيخ الأنصاري: (ويؤيد ما ذكرناه أن التارك للتدين ببعض الدين، خارج عن الدين. والسيرة المستمرة من الأصحاب في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريات مع العلم أو الظن بأن لم يكذب النبي (صلی الله علیه و آله) في ذلك، لا أقل من الاحتمال)(1).

وما ذلك إلا لأن الأمور الواقعية(2) لا تتغير بالقصد أو بغير القصد، بل حتى العلم أو بالجهل أو بالإرادة وعدمها، نعم بالقصد تدخل الأمور في دائرة الحكم التشريعي، لكن يبقى الشرك ظلماً عظيماً بالمعنى التكويني حتى لمن لا يعتقد بأنه مشرك ولا يقصد الشرك، وحتى إذا كان قاصراً فهو ظالم، حيث لم يضع الأشياء مواضعها، وحيث لم يصدر منه ما كان ينبغي أن يصدر من المخلوق اتجاه خالقه، وإن كان قاطعاً بالعكس.

والحاصل: إن الشرك ظلم، سواء أعلم بأنه مشرك أم لا وسواء علم أنه ظلم أم لا، وسواء أكان قاصراً أم مقصراً فإنه ظلم بمعنى (الميل عن القصد) أي قصد السبيل وسوائه وبمعنى (مجاوزة الحد) وبمعنى (وضع الشيء في غير موضعه) نعم ليس ظلماً بالمعنى الأخص أي (مجاوزة الحد عن علم أو عن قصد والتفات أو عن تقصير) أوالميل عن القصد عن علم أو تقصير أو التفات.

ص: 92


1- كتاب الطهارة: ج2 ص356.
2- ومنها الكثير من العناوين الثبوتية.

وبعبارة أخرى: (الظلم) ك(الجهل)، فإنه صادق بالحمل الشائع الصناعي سواءً علم الجاهل أنه جاهل أم لا، وسواء أراد أن يكون جاهلاً أم بقي جاهلاً دون اختيار وقصد، أو هو كالكسر، فإن كاسر الزجاج كاسر له في كل الحالات ويصدق عليه بالحمل الشائع الصناعي أنه كسر الزجاج وإن كان غير قاصد لكسره أو كان غير مختار أو غير ذلك .

الجواب على شبهة تنصيص القران على ظلم بعض الأنبياء

بعد ما تبين لنا هذا الأمر بوضوح، يتضح لنا وجه جديد للجواب عن شبهة كلامية قديمة وهي:

إن ظاهر بعض الآيات هو أن آدم ويونس 3 وبعض آخر من الأنبياء ظلموا، والظلم حرام فلم يكن فعلهم من باب ترك الأولى الذي تجيب به الإمامية عن الشبهة؛ فقد قال تعالى: «وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالمِينَ»(1)، لكنهما اقتربا من الشجرة فهما من الظالمين بنص القران الكريم، فآدم ليس معصوماً بالتفسير الذي نفسر به العصمة!

كذلك تجري الشبهة في كلام نبي الله يونس (علیه السلام) حيث يقول تعالى على لسانه: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا الهَ الا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِينَ»(2) وقد قرّره تعالى ولم يكذبه

ص: 93


1- سورة البقرة: 35.
2- سورة الانبياء: 87.

في هذا القول.

الجواب الأول: لم يصدر منهم (علیهم السلام) الظلم التشريعي

هناك عدة إجابات ذكرت في المقام لسنا بصدد استعراضها فضلا عن استقصائها(1).

لكن سوف نذكر هنا إجابتين خطرتا بالبال، إحداهما على ضوء ما ذكرناه من بيان أقسام الظلم، فنقول:ليس المقصود من الظلم الذي صدر منآدم أو يونس 3 الظلم التشريعي والذي هو في دائرة الأمر والنهي، فهما لم يكونا منهيين شرعاً ولو بنحو الكراهة عن الإقتراب من الشجرة بالنسبة إلى آدم وحواء 3، أو مغادرة القوم ساخطاً عليهم بالنسبة إلى يونس (علیه السلام)، وإنما تكويناً لم يكن ماكان منهما في محله، أي لم يكن ذا سنخية مع نحوِ وجودهما ونورانيتهما، وما كان مقام يونس (علیه السلام) ومقتضى أحد المتزاحمين وهو الرأفة بالرعية ينسجم مع صدور ذلك منه، فلذا فإنه ظالم بالمعنى التكويني والذي ينطبق على المباح(2) بل حتى على غير الممكن أي غير المقدور ايضاً، فتأمل!

ولنضرب لذلك مثلاً: فإن مقتضى العدل أن يكون الكرسي - مثلاً -

ص: 94


1- ومنها أن النهي كان ارشادياً، ومنها أن ما صنعوه كان ترك الأولى فقط، ومنها أن (العصمة) بالمعنى الشامل هي في عوالم الاستخلاف وليست بالضرورة لكل نبي حتى في العوالم السابقة كجنة آدم - مثلاً -.
2- والمباح هنا نظراً لتزاحم المقتضيات لا لفقدها، فتدبر!

قائماً على أرجله الأربع، لكن لو قلبناه بالعكس وجعلناها إلى الأعلى، فإننا وإن لم نرتكب حراماً ولا مكروهاً، لكن هذا بمقاييس العدل التكويني يعتبر ظلم وعلى خلاف كون الشئ على مقتضى طبعه وأصله وإصوله، لكنه ليس بظلم تشريعي, وأما النهي فهو إرشاد للابتعاد عن من يرتكب هذا الظلم التكويني(1)

وليس مولوياً فلا كراهة ولا حتى ترك أولى تشريعي، بل هو مجرد ترك أولى تكويني، وفرق هذا الإرشاد عن الإرشاد المطروح عادة، هو أن ذاك الإرشاد يراد به الإرشاد إلى ما فيه المصلحة والمفسدة، والإرشاد الذي نعنيه هو الإرشاد إلى مقتضى طبع الشئ التكويني ومضاده، وفي ذاك الإرشاد طلب, لكنه لا طلب في هذا الإرشاد بل واقعه الإخبار، فهو مجاز أو الإرشاد إلى العلل البعيدة للشئ الممكّنة عليه دون وجود قدرة فعلية حالياً. فتأمل!

الجواب الثاني: كانا من الظالمين ولم يكونا ظالمين

ويمكن أن يقال بإن آدم ويونس علیهما السلام لم يكونا ظالمين حتى بالمعنى التكويني بل كانا من الظالمين فقط (2) استناداً إلى وجود كلمة (من) في الآية الشريفة: «...وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالمِينَ»(3)، أو قوله تعالى:

ص: 95


1- أو للحذر عن مقدماته البعيدة.
2- أي من جماعة الظالمين ولم يكونا كفردين ظالمين .
3- سورة البقرة: 35.

«...فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا الهَ الا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِينَ»(1) في حين أنه تعالى لم يذكر كلمة (من) في الآية مدار البحث «...قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(2) الأمر الذي يشير إلى أن آدم وحواء ويونس (علیهم السلام) كانوا فقط منتمين إلى دائرة الظالمين ولم يكونوا منهم حقيقةً.

وتقريب ذلك أن تقول: أنا (من) مكة أو النجف الاشرف، فإن معنى ذلك إنك منتمي إلى ذلك البلد وليس كونك جزء منه! فالشخص لا يكون جزءاً من مكة أو أي بلد آخر أو جزئياً لها إذ البلد جماد لا غير(3).

وكذلك قول الرسول(صلی الله علیه و آله): «سلمان منا أهل البيت» (4) فليس المراد كون سلمان من أهل البيت نسباً، فيصبح ويمسي قرشياً هاشمياً بأن نطفته منتسبة إلى تلك السلسلة النورية المباركة، بل المراد أن سلمان المحمدي منتمٍ إلينا، ومحسوب علينا، أي حتى كأنه منا أهل البيت ولك أن تعبر بالوجود التنزيلي.ويوضحه قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(5) فمن جعل نفسه ضمن مجموعة خاصة، فإن أحكامها تشمله وإن

ص: 96


1- سورة الأنبياء: 87.
2- سورة البقرة: 124.
3- وهذا غير إن يقول أنا من أهل كذا فإنه جزئي للأهل.
4- الكافي: ج2 ص396.
5- سورة الأنفال: 25.

لم يكن منهم، وآدم ويونس علیهما السلام جعلا نفسيهما بتصرفهما هذا من هذه الدائرة ولم يكونا بهم فهما ليسا ظالمين حقيقةً.

وقد يقال: إن (من) في «مِنَ الظَالِميِنَ» بمعنى (في)، كما قاله البعض في (من) في الآية الشريفة «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ»(1).

والحاصل: إن الآية الشريفة عبرت ب «لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ» ولم تعبر ب(لا ينال عهدي من كان من الظالمين) فيما لم ترد الآيات الأخرى إلا مع (من): «فَتَكُونَا مِنَ الظَّالمِينَ» ولم تقل الآية (فتكونا ظالمين)، ومن الواضح أن كل حرف في القران فإنه بدقة وحكمة بالغة، فلماذا ذكرت (من) هناك ولم تذكر هنا؟

الثمرات الاجتماعية لنظرية الظلم التكويني

لو جعلتم شخصاً غير كفء معلماً في قرية ما مثلاً، وكنتم مضطرين إلى ذلك، كما لو لم يكن هناك معلم كفوء في القرية، لكن هذا الشخص كان على الأقل يقرأ ويكتب ويعرف بعض المسائل، فإن قاعدة الأهم والمهم تجري بلا شك فإن وجود هذا الشخص هو أفضل من الحرمان المطلق والذي يكون معه أطفال القرية صفراً.

ص: 97


1- راجع (مغني اللبيب) حرف (من) المعنى الثالث ج1 ص 279 ط: دار احياء التراث العربي، كما يحتمل أن تكون بمعنى (عند) وهو المعنى التاسع من معاني (من) لكنه بعيد بالنظر لمعنى الاية.

فهنا نقول: صحيح أننا لم نظلم الطلاب بالمعنى التشريعي، بل قد يقال: نِعْم ما صنعنا في هذه الدائرة، ولكن المسلم به أننا ظلمناهم بالمعنى التكويني!! إذ أرسلنا إليهم المعلم غير الكفء، والذي لا يستطيع أن يحلق بهم إلى المستوى الذي ينبغي لأمثالهم واقرأنهم أن يتمتعوا به, فلم نضع الأشياء مواضعها تكويناً, وإن كنا قد وضعناها مواضعها تشريعاً إذ كنا مضطرين لذلك.

مثال آخر: إذا لاحظنا بعض بلادنا وما تعيشه من فوضى في الإدارة والخدمات الأساسية فهو ظلم واضح، وإن لم يكن عن تقصير من العاملين المباشرين ومن المسؤول الذي كبّلته القيود، فلم يعد يستطيع أن يفعل أكثر مما فعل.

والحاصل: إنه يصح أن يقال - مثلاً - أننا ظلمنا النجف كمدينة أو الحوزة العلمية وإن كان لم يكن بمقدورنا فرضاً أن نفعل أكثر مما فعلنا، وهذا الظلم لو أريد به التشريعي فمجاز أو التكويني فحقيقة.

وجه آخر في حقيقة ما طلبه إبراهيم من الله تعالى

والآن نعود إلى آيتنا الشريفة: «...قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1)، فهل يعقل أن يطلب إبراهيم الإمامة لواحدٍ من ذريته وقد ظلم ظلماً تشريعياً حتى في بعض غابر أيام حياته؟!!

ص: 98


1- سورة البقرة: 124.

إن هذا المستوى من التفكير ومن الطلب لا يصدر عن خليل الرحمن إبراهيم (علیه السلام).

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة أن التقابل بين العدل والظلم التشريعي هو تقابل يكون في أدنى المستويات، فإمام الجماعة - مثلاً - ينبغي أن يكون عادلاً بمعنى أن لا يكون ظالماً أو فاسقاً، فكيف الحال في مرجع التقليد؟ وكيف الحال في النبوة؟ ثم تأتي الإمامة الخاصة التي لا ترقى إلى معرفتها العقول! فلا يعقل أن يكون طلب إبراهيم (علیه السلام) وجواب الباري تعالى عن المستوى المنخفض من العدالة وهو عدم الظلم التشريعي, حتى لو فسر بالمعنى الغابر الماضي، وإنما الآية الشريفة تشير إلى رتبة عالية جداً من العدل في مقابل الظلم، أي لا ينال عهدي من كان فيه أي نوع من القصور التكويني ليكون مهبط رحمة الله تعالى بأعلى تجلياتها، ولكي يكون قادراً على إدارة الكون كله.

وهذا المعنى معنى سام جداً يتلائم ومستوى أبي الأنبياء والمرسلين إبراهيم (علیه السلام).

أ - لأن من الواضح أن إمامة صلاة الجماعة - والتي تتحقق بأدنى مستويات العدالة - لا تنال الظالم! فكيف بأعلى رتبة يمكن أن ينالها الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)؟

ب - وإن بعض المناصب لدى العقلاء في الدنيا لا تعطى حتى لمن ظلم ظلماً واحداً في غابر أيام حياته، وإن تاب عنه وأصلح أو إنهم يجدون في

ص: 99

ذلك حزازة، فكيف يتوقع أن ينال مثل هذا الشخص مرتبة الإمامة(1)؟

الاستشهاد برواية عيون أخبار الرضا (علیه السلام) على العدل التكويني

وقد وجدت رواية تكاد تفيد ما ندعيه وهي رواية معروفة عن الإمام الرضا (علیه السلام) والمذكورة في كتاب (عيون أخبار الرضا (علیه السلام)) وغيره.

قال (علیه السلام): «هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً وَأَعْظَمُ شَأْناً وَأَعْلَى مَكَاناً وَأَمْنَعُ جَانِباً وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولهم أَوْ يَنَالوهَا بِآرَائِهِمْ أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ (علیه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالثَةً وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ فَقَال إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَقَال الخَلِيلُ (علیه السلام) سُرُوراً بِهَا وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لا يَنال عَهْدِي الظَّالمِينَ فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالمٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ ...»(2).

فلو تدبرنا في كلمة (الصفوة) لأنكشف لنا الكثير!

ومن ذلك: أن الصفوة هم الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى من كل جهاتهم نفسياً، روحياً وجسدياً، ومن حيث النطفة وغير ذلك، وإلا فإن

ص: 100


1- تنبيه: (أ) للإشارة إلى عدم قابلية الظالم بالفعل لنيل الإمامة إذ من لا يصلح لإمامة الجماعة فكيف يصلح للمرجعية ثم كيف يصلح للإمامة؟ و(ب) للإشارة إلى عدم قابلية من ظلم آناً ما للإمامة، فتدبر جيداً!
2- كما ورد في الكافي: ج1 ص199.

الذين لا يظلمون كُثّر، لعل أعدادهم تصل إلى الملايين من الناس! كما أن من لم يظلموا ظلماً تشريعياً طوال حياتهم أوسع دائرة وأكثر ممن منحوا مرتبة الإمامة فلماذا لا ينالون الإمامة؟

الجواب: لأن الكلام أو الملاك ليس خاصاً بالظلم التشريعي المعروف بل ذلك الظلم والعدل التكويني والذي هو اصطفاء تكويني قبل أن يكون أمراً تشريعياً.وذلك لأن الإمامة تعني فيما تعني: «لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها»(1) وهي مرتبة لا تنال بوصول الإنسان الكامل إلى مرتبة العدل التشريعي فقط، بل بوصوله إلى مرتبة العدل الأعلى التكويني, أي أن وراء ذلك عالم التكوين والذي تم فيه الاصطفاء من الله تعالى لصفوة وثلة من الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) لاترقى إلى معرفة مستوياتهم لطائف أوهام أولي الالباب ولا تعرف كنه حقائقهم ومقاماتهم عباقرة العلماء والفقهاء.

وللتقريب للذهن نقول: إن موقع الإمامة تكويناً هو أعظم من قوة الجاذبية، فالقوة الجاذبة والقوة الطاردة يقوم على أساسهما نظام العالم الشمسي، بحيث لولاهما لانهار كل شيء وتدمر، إذ لو ازدادت الجاذبة - أي جاذبية الشمس - فإن الكون يندك، بينما إذا ازدادت الطاردة تبعثر وانفصل وتباعد بعضه عن بعض.

وفي الروايات الكثيرة إن موقع الإمامة أهم من ذلك! ولولا الصفوة

ص: 101


1- بحار الأنوار: ج57 ص213.

من الأئمة (علیهم السلام) لانهار كل شيء، ليس في عالمنا الشمسي وحسب، بل في جميع عوالم الملك والملكوت وغير ذلك، فالإمام هو الذي لا يوجد في وجوده ذرة من الظلم التكويني, أي الذي قامت السماوات والأرض بالعدل التكويني على مرتبة إمامته من مراتب وجوده.

فالأئمة (علیهم السلام) الصفوة بعد اصطفائهم تكوينناً، منحهم الله تعالى الولاية التكوينية العظمى(1)، ويؤيد ذلك إن لم يدل عليه آيات التفضيل ك«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» وأحاديث الطينة وأحاديث مثل: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(2) ومئات الروايات التي تدل على التفضيل التكويني.والحاصل: أن العدل التكويني الإلهي إبتنى على أن يكون أشرف الأنبياء وأعلى الأولياء على الكون هو محمد المصطفى (صلی الله علیه و آله) وأن يكون خليفته أمير المؤمنين (علیه السلام)، ومن العدل أن تُختم الأوصياء بالإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وبالعدل قامت السماوات والأرض، وذلك لأن الإمامة لا تعني مجرد الخلافة الظاهرية والتي قد يستامها فلان أو فلان! بل إنها ولاية على الكون كله عن الله تعالى.

ص: 102


1- بل لعل الظاهر أن «أني جاعلك» أي بالجعل التكويني.
2- عن ابي عبد الله الصادق (علیه السلام)/ الكافي: ج8 ص177.

الفصل الرابع: الدعائم

اشارة

* دعائم الإمامة والقيادة الربانية العظمى

* دعائم الدور الإبراهيمي (علیه السلام)

* دعائم الدور المحمدي(صلی الله علیه و آله)

* دعائم دور الصديقة فاطمة (علیها السلام)

* دعائم دور الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام

* دعائم دور الإمام الحسين (علیه السلام)

* احتياج الدعائم إلى الترسيخ والتجذير والتطوير

ص: 103

ص: 104

دعائم الإمامة والقيادة الربانية العظمى

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1)

لقد سبق البحث عن أن للإمامة والإمام شروطاً لا بد لكي يصل النبي إليها من أن يحوز تلك الشروط والمواصفات, وقد جمع الله تعالى هذه الشروط في كلمة إعجازية بقوله جل اسمه «فَأَتَمَّهُنَّ» وفي الرواية الواردة في تفسير البرهان شرح مفصل لتلك الشروط وقد ذكرناها سابقاً، كما سبق أن هناك (ادواراً) منوطة بالإمام، عليه أن يحملها ويضطلع بها.

البصيرة الثانية عشرة: دعائم الإمامة والقيادة

اشارة

وهنالك ثالثاً دعائم مترابطة مع الشروط والأدوار، وهي التي يرتهن بها درجات نجاح أو أنجاح مهمة الإمام ودوره أو سلسلة أدواره.

ص: 105


1- سورة البقرة: 124.

وكل واحد من تلك العناوين الثلاثة يستدعي بحثاً شاملاً، إلا أن كلامنا الآن سيدور حول الدعائم التي تتحصن بها الأدوار، التي اضطلع بها الإمام من طوارق الحدثان ومن العواصف والموانع التي تتجدد على امتداد عمود الزمان المستقبل، تلك الدعائم التي تسند تلك الأدوار وتوفر الضمانة لامتداداتها وتموجاتها.

وسنلقي الضوء بشكل موجز على بعض الدعائم لبعض أهم أدوار عدد من الأنبياء والأئمة (علیهم السلام):

دعائم الدور الإبراهيمي (علیه السلام)

إن من الملفت أن إبراهيم (علیه السلام) كان حريصاً على أن تكون له ذرية صالحة تناط بها مسؤولية الإمامة من بعده على مرّ الأجيال, ونلاحظ اهتمامه الفريد بذريته، حيث كانت أول شيء يطلبه من الله تعالى بعد نصبه إماماً مباشرة!

قال تعالى: «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»، كما نلاحظ في مواطن أخرى طلباته المتضرعة ودعواته المتنوعة ليمنح الله ذريته مزايا إستراتيجية، بل وأحياناً استثنائية فقد قال تعالى عن لسان إبراهيم (علیه السلام): «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي اليْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهم يَشْكُرُونَ»(1)،

ص: 106


1- سورة ابراهيم: 37.

والمطلوب هنا معنوي ومادي.

المعنوي هو: اجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، والمراد ب«مِنَ النَّاسِ» كل الناس الصالحين على امتداد الزمن!

والمادي: أرزقهم من الثمرات، والمراد به الرزق الحلال الطيب.وقال تعالى عن لسان إبراهيم (علیه السلام): «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ»(1).

واللطيف في الأمر أن العديد من الآيات على لسان إبراهيم (علیه السلام) كانت تأتي بمصطلح ومفردة (من ذريتي) فما هو السر في دأب إبراهيم (علیه السلام) على طلب الذرية الصالحة القيادية المتميزة الذين يكونون في قمة القمم من الطهارة والتقوى والصلاح؟ بل يكونون أئمة يهدون إلى الخير وبه يعدلون؟

الجواب: إن الإمامة - كما قلنا - لها شروط وادوار ودعائم, والدور الكبير الذي اسند إلى إبراهيم (علیه السلام) كان يستدعي عدداً من الدعائم التي تضمن لمهمته النجاح والاستمرار والديمومة، ويبدو أن من أهم تلك الدعائم، بل لعلها أهمها على الإطلاق - بحسب ما نستقرء ونستظهر - هي:

أولا: هي الذرية الصالحة.

وثانيا: الذكر الحسن.

قال تعالى على لسان إبراهيم (علیه السلام): «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي

ص: 107


1- سورة ابراهيم: 40.

الآَخِرِينَ»(1) وذلك لأن إبراهيم (علیه السلام) كان مؤسساً لمرحلة جديدة عظمى في تاريخ الأديان، وكان هو الأب لما عرف بالأديان الإبراهيمية, والمؤسس يحتاج إلى دعائم قوية لكي يضمن ديمومة حركته في امتداد التاريخ وتجذرها واستقرارها، وكان الذكرالحسن دعامة مهمة لتتلقي الأجيال القادمة قيادته وإمامته بالقبول، ذلك أن القائد إذا كان مشوه السمعة عند الناس فأنهم لا يسكنون إلى قيادته طوعاً وإن رضخوا لها قسراً, والقيادة الإبراهيمية هي قيادة ربانية طوعية وهي قيادة للعقول والقلوب.

ولذلك أراد إبراهيم الخليل (علیه السلام) أن يضمن تمامية قيادته وإمامته للأمة في امتداد التاريخ عبر دعامة الذكر الحسن وعبر دعامة الذرية الصالحة الواعية القيادية المتميزة الواصلة إلى مرحلة الإمامة العظمى، وبالفعل تحقق ذلك بفضل الله تعالى, فكان إبراهيم (علیه السلام) قائداً ربانياً يعترف الجميع(2)

بإمامته وريادته في الدعوة إلى الله تبارك تعالى، كما أنه استجيب دعاءه الآخر إذ جعل الله تعالى له ذرية طيبة مباركة خالدة إلى أبد الآبدين؛ فالنبي محمد(صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) هم من ذريته, كما أن كافة الأنبياء في الفاصلة بين إمامته حتى زمن خاتم الأنبياء هم من ذريته؛ ولذا سمي بأبي الأنبياء (علیه السلام) مع أن عدداً من الأنبياء الذين سبقوه كانوا هم أيضا أباء للأنبياء اللاحقين, إلا أنه (علیه السلام) اختص من بينهم باسم (أبي الأنبياء) كرامة وتكرمة

ص: 108


1- سورة الشعراء: 84.
2- من أتباع الأديان السماوية الشهيرة.

وإشادة بتأسيسه الأسس الرصينة للتوحيد والدعوة إلى صراط الله القويم على مستوى العالم كله.

دعائم الدور المحمدي(صلی الله علیه و آله)

كما أن نبينا (صلی الله علیه و آله) كانت له أدوار وكانت لأدواره دعائم؛ أما دوره الأساس فكان في ما يتعلق بمرحلة التنزيل, أما الدعائم فهي متعددة, وكان منها:أ ) المساجد: ولكم أن تتصوروا كيف سيكون الحال لو خلت بلاد المسلمين من المساجد! ألم يكن ينهار أحد أهم دعائم قيادة النبي(صلی الله علیه و آله) وهدايته للمسلمين على مر العصور؟

ب) الكعبة المشرفة والمدينة المنورة.

وغير ذلك مما لا نريد التوسع في بيانه الآن.

دعائم دور الصديقة فاطمة (علیها السلام)

ولو جئنا إلى دور الزهراء (علیها السلام) مثلا فسوف نجد أن تحدي الظالم والبراءة منه ومقاومته ومواجهته تعدّ أهم أدوارها (علیها السلام), أما دعائم ذلك الدور العظيم فمنها:

أ) فدك: وهي دعامة أساسية وبرهانية بأعلى درجات البرهنة, إذ لا غبار على أحقية الزهراء (علیها السلام) فيها, فمع أن فدك من الناحية المادية لا قيمة

ص: 109

لها عند أهل البيت (علیهم السلام)؛ لأنهم لا يقيمون للمال وزناً, إلا أن من وراء هذه الدعامة (فدك) والمعركة الصغرى التي قادتها الزهراء (علیها السلام) في المطالبة بفدك تكمن معركة كبرى وهي معركة الخلافة ومواجهة جريمة اغتصاب منصب الخلافة الظاهرية التي هي من حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

ولعل من أسباب ذلك أن القضية الكبرى - غصب حق الإمامة - هي أمر قابل للتأويل والتزوير بحجج وشبهات قد تنطلي على الكثير من المسلمين، كما قاموا بذلك بالفعل وزوروا الحقائق وابتدعوا ما يسمى بالخلافة الراشدة والخلفاء الأربعة, في حين أن القضية الصغرى (غصب فدك) هي أمر أبعد عن القابلية للتأويل والتزوير! ولذا نجد أنه على مر التاريخ إن الخط المقدم لنسف شرعية أبي بكر وعمر كان قضية غصبها لفدك، وكانت فدك هي بوابةمعرفة الحقائق الكبرى، فكانت هي المعركة الصغرى التي تعد المدخل الناجح للنصر المعنوي في المعركة الكبرى.

ب) كما أن بيت الأحزان يعتبر من دعائم دور الزهراء (علیها السلام)؛ وإلا فلماذا كانت تذهب إليه يومياً رغم حرارة الشمس وشدة التعب والنصب وهي تأخذ بيدي ولديها الحسنين علیهما السلام وتبكي هناك ليلاً ونهاراً؟

دعائم دور الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام

وإذا جئنا إلى دور الإمامين الهمامين، الإمام الباقر (علیه السلام) وابنه الإمام الصادق (علیه السلام) فنجد أن نشر العلوم والمعارف أهم أدوارهما, بينما دعامة هذا

ص: 110

الدور الخطير هي الحوزات العلمية المختلفة في الحواضر الإسلامية كالمدينة والكوفة والنجف وقم وكربلاء ومشهد والحلة وحلب وجبل عامل وغيرها، وإعداد الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والوكلاء على امتداد التاريخ.

ونخلص من هذه الإشارة السريعة إلى أن كل دور يقتضي دعائم من سنخه, وإن كل قائد رباني له دور أو سلسلة أدوار أساسية, وعليه أن يجد دعائم رصينة تحمي ذلك الدور وتحافظ عليه وتضمن له الديمومة والاستمرار من جهة والتوسع والتجذر من جهة أخرى.وهذا بحث مهم لم نعثر على من تطرق إليه تفصيلاً, إذ لاشك أن أمير المؤمنين (علیه السلام) له دور، ولدوره دعائم وكذلك الإمامان الحسن والحسين ثم السجاد(1) وسائر أئمتنا (علیهم السلام) مما يستدعي بحوثاً مفصلة.

ولا بد من التنبيه على أن ذكرنا لدور كل إمام لا يعني أنه لم يضطلع بأدوار أخرى, بل القصد أن هذا الدور هو الدور البارز في حياته، والذي تميز

ص: 111


1- يمكن أن يقال: إن دور الإمام الحسن (علیه السلام) هو فضح الدولة الأموية, ودعامته (الصلح) الذي لم يلتزم معاوية ببنوده، مما أدى إلى كشف القناع عن زيفه؛ كما أن دور الإمام الحسين (علیه السلام) هو الإصلاح في أمة جده(صلی الله علیه و آله) ودعامتة (ثورته المقدسة واقعة كربلاء الشهادة)؛ كما أن دور الإمام السجاد (علیه السلام) هو حفظ الأمة من الضياع والترف المادي الذي ساد البلاد الإسلامية أثر موجة الفتوحات والغزوات التي كانت تقوم بها الحكومات آنذاك, ودعامته (الدعاء) الذي تمثل بزبور آل محمد(صلی الله علیه و آله) وهو الصحيفة السجادية؛وهكذا سائر الأئمة (علیهم السلام)، لكل منهم دور ودعائم ساندة (المقرر).

به فيما نقله إلينا التاريخ, الأمر الذي لا ينفي اضطلاعه بأدوار أخرى كما توجد شواهد عديدة على ذلك.

كما لا بد من التنبيه على أن كل الدعائم بدورها قد تستند إلى دعائم أخرى تسندها، فتكون للدعائم دعائم أيضاً وهكذا.

بعد هذا التمهيد المفتاحي ننطلق لبعض الحديث عن دور سيد شباب أهل الجنة وبعض دعائم ذلك الدور الخطير:

دعائم دور الإمام الحسين (علیه السلام)

دعائم دور الإمام الحسين (علیه السلام)(1)

أما إذا جئنا إلى دور سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) فسوف نجد أنه الثورة ضد الطاغوت والحكومة الجائرة والسلطان الظالم, وأما دعامة هذا الدور فهي تأجيج العواطف النبيلة في النفس الإنسانية وإذكاء شعلة الغيرة والحمية والشهامة والبطولة والفتوة والتضحية والإيثار في نفوس الأمة, ولذا نرى أن كل المصائب التي مرت عليه كانت تصب في هذا الحقل في مختلف المراحل وأسماها من مصيبة الطفل الرضيع إلى مصيبة أخيه العباس (علیه السلام) إلى سبي الحوراء زينب (علیها السلام) وسائر بنات الوحي، وغير ذلك مما تتصدع له الجبال وتتفتت له الأكباد.

ص: 112


1- إنما أخر السيد الأستاذ (حفظه الله) دور الإمام الحسين (علیه السلام) عن دور الإمامين الصادقين (علیهما السلام) لأن محور الحديث وجله سيتركز على قضية الإمام الحسين (علیه السلام), خصوصاً وإننا نعيش أيام محرم الحرام 1436ه (المقرر).

ثم إن دعائم هذه الدعائم تتمثل في الخطباء الكرام والشعراء والرواديد والمداحين والشعائر الحسينية، والحسينيات، بشكل أساسي.

وعند المقارنة بين دوري الإمام الصادق (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) ثم دعائم هذين الدورين، نجد أن ذلك في فلسفته وجوهره يعود إلى حقيقة الإنسان نفسه, ذلك أن الإنسان يسيّره أمران: العقل والقلب, ولكل منهما دوره الخاص به، وإن القلب مركز المحبة والعاطفة والحمية والغيرة والإخلاص والتضحية، أما العقل فهو مركز العلم والمعرفة, وإن إذكاء المحبة في النفس الإنسانية له طريق أخر غير طريق إذكاء شعلة العلم والمعرفة في العقل.ومن هنا نجد أن الإمام الرضا (علیه السلام) كان يعقد مجلساً حسينياً في بيته ومحل إقامته في خراسان، ويبكي ومن معه على جده أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)(1).

احتياج الدعائم الى الترسيخ والتجذير والتطوير

ثم إن هذه الدعائم سواء أكانت الحوزات العلمية أم الشعراء أم الخطباء أم المساجد والحسينيات وغير ذلك من مختلف الدعائم التي أرسى

ص: 113


1- إذ كان يدعو الشعراء إلى إلقاء قصائدهم الرثائية الرائعة، كما حصل ذلك مع الشاعر المعروف دعبل الخزاعي في قصيدته التائية الشهيرة والتي مطلعها: مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات (المقرر).

أسسها ودعائمهما الأئمة الأطهار (علیهم السلام) حفاظاً على أدوارهم في مسيرتهم الإسلامية والحركية, هذه الدعائم تحتاج - كلما مضى الزمن - إلى تركيز وترسيخ وتعميق وتوسعة أيضاً؛ لأن الدعائم مهمتها الأساسية هي المحافظة على ذلك الدور الخطير, الأمر الذي يتطلب المحافظة والمراجعة والصيانة لكل ما من شأنه أن يحافظ على قوة ورسوخ وشموخ، ذلك الدور العظيم الذي ضحى من أجله المعصوم (علیه السلام) سواء بنفسه كما حصل ذلك مع الإمام الحسين (علیه السلام) مثلاً أم بعمره ووقته وطاقاته ومكانته، بل وحتى بنفسه كما حصل ذلك مع الإمام الصادق (علیه السلام)(1).فكلما كانت الحوزات العلمية أكبر وأوسع كمياً وأكثر ثراءً كيفياً, وكلما كانت أقوى نشراً للفقه والمعارف الأخرى, كان دورها أعظم في المجتمع وأكثر تأثيراً, وكانت الدعوة إلى التوسعة والتجذير والتقوية والتشذيب والمراجعة وإعادة تقييم بعض الأداء في الصميم وفي صالح الدور المناط بتلك الدعامة الكبيرة.

والذي يؤكد ذلك ما نشهده من أن الحوزات في بعض البلدان الإسلامية قد ابتعدت عن مهمتها وفقدت ريادتها ومهمتها المناطة بها كما حصل ذلك بالفعل في (الزيتونة) في تونس, و(الأزهر) بمصر إلى حد كبير إذ أصبحت حوزاتهم رقماً عددياً من أرقام جامعات ومعاهد البلاد الأكاديمية

ص: 114


1- إذ انه صلوات الله عليه قتل مسموماً كسائر آبائه وأبنائه المعصومين كضريبة على قيادته الربانية للأمة الإسلامية.

التي تشرف عليها الحكومات الجائرة، ففقدت بريقها ورونقها وارتباطها المباشر بالدين ومعارف السماء إلى حد بعيد بل أصبحت بدرجة وأخرى أدوات في أيدي السلطة الحاكمة توجهها حيث تشاء.

بينما لا نجد ذلك، بفضل جهود المراجع والعلماء ويقظتهم وحذرهم وشجاعتهم ووضوح الرؤية لديهم، في الحوزات العلمية الشيعية العريقة بشكل عام.

وعليه: فكلما طُوِّرت الحوزة ورفدت بالعلماء الأبرار والخطباء الفطاحل ومراكز الدراسات المتخصصة كان ذلك أفضل وأحرى وأجدر.

وهكذا أداء الخطباء الكرام، فكلما تطور الخطيب كان ذلك أفضل ومن صور التطوير أن يكون الفقيه خطيباً وأن يكون الخطيب فقيهاً؛ فإن الخطيب الفقيه أفضل وأكمل من غيره غير الفقيه, والخطيب المفسر أقوى في التأثير والهداية والإرشاد من الخطيب غير المفسر وهكذا.وإن مما يؤسف له أن من النادر أو القليل أن تجد خطيباً متكلماً(1) وهو أولى من غيره وأجدر وأفضل، لأن من مهام الخطيب بيان العقيدة الصحيحة من الفاسدة للناس وذلك ما يتيسّر للخطيب المتكلم.

الشعائر الحسينية ومناهج التعليم المتطورة

كذلك الحال في الشعائر الحسينية، فإنها تحتاج إلى تعميق وترسيخ

ص: 115


1- المتكلم مأخوذة من علم الكلام، وهو العلم الذي يُعنى بدراسة العقائد والمحاججة مع الغير (المقرر).

وتجذير وتوسعة وتطوير!

وعوداً على بدء، فإننا إذا بحثنا مسالة الشعائر الحسينية وأنواعها المختلفة الموجودة حالياً كالبكاء واللطم والتطبير ولبس السواد وغيرها, نجد أنها تشكل أهم دعامة للحفاظ على قوة دفع الثورة الحسينية المقدسة؛ وذلك لأنها ترتبط بينبوع الصفات النفسية المحركة نحو الثورة على الطغاة ونحو الأنشداد إلى القادة الربانيين، مثل الشهامة والغيرة والحمية والرجولة والبطولة، وهذا كلها تؤججها العاطفة المشبوبة المتوقدة نحو سيد شباب أهل الجنة وأهل بيته والثلة الطيبة من المستشهدين معه، والتي تشكل هذه الشعائر الأسلوب الأمثل للحفاظ عليها.

ويتضح ذلك أكثر إذا لاحظنا البحوث المتطورة لعلماء النفس في نظرية المنعكس الشرطي والاستجابة الشرطية وإذا لاحظنا النظريات العلمية في أساليب التعليم المتطورة.

توضيح ذلك: إن نظام التعليم عندنا يعتمد عادة على الإلقاء من الأستاذ والسماع من التلاميذ, ومعنى ذلك أننا استعملنا حاسة واحدة فقط هي السماع, إلا أن التعليم الأكثر تطوراً يعتمد على حاسة البصر أيضا عبر الشاشات الإلكترونية, وعبر عرض رسوم ثابتة أو متحركة توضيحية, الأمر الذي يساعد على وضوح وتركيز المعلومات أكثر في الذهن, بل وإيصال المعلومة إلى الذهن بشكل أسهل وأيسر وأفضل وأكمل.ومن البديهي أن مزيداً من الحواس إذا تفاعلت مع عملية التعليم،

ص: 116

كانت الفائدة المرجوة منه أكبر وأعمق وأكثر ثراء وإنتاجاً, فلوا أدخلنا حاسة اللمس مثلاً إضافة إلى ما تقدم في عملية التعليم والتربية والتزكية، فإن الفهم والنضج والتركيز لدى التلاميذ والمتعلمين سيكون أقوى وأكثر حيوية ووضوحاً وتأثيراً, وكذلك الحال مع حاستي الذوق والشم؛ وسيتجلى لنا بوضوح أهمية المنعكس الشرطي في تطوير نظام التعليم عندئذٍ.

التعليم التقليدي للحج, والتعليم المتطور

ولنضرب لذلك مثالاً حيوياً ملموساً، يقوم المرشدون لقوافل الحج بإقامة دورات تعليمة لمن يرومون الحج وهي تعتمد في الغالب على الطريقة التقليدية في التعليم من الإلقاء والسماع، فيقول المرشد مثلا: (الطواف أن تضع الكعبة المشرفة على يسارك، وتبدء الطواف من الحجر الأسعد ثم تدور سبعاً حول الكعبة المشرفة), وهذا تعليم نظري، إلا أن الأمر مختلف عملياً، لأن الطواف في الحج يقام به وسط زحمة من الحجاج, وتعب من الجسد وحركة تموجية ضاغطة من الحشود الكثيرة تسلب الطائف طمأنينته واستقراه, بل وكثيراً ما يرتبك الطائف لأول مرة وقد ينسى أو يغفل عن معلوماته النظرية التي أخذها من المعلم المرشد.

ومن هنا على من يريد أن يعلّم الحج للآخرين أن يستعين بسائر الحواس كحاسة البصر واللمس، بأن يجسد لهم ذلك عملياً من خلال الرسوم المتحركة وصناعة مجسمات مشابهة للكعبة والمقام، يدور حولها

ص: 117

المتعلم ويلمس شبيه الحجر الأسعد بيده وغير ذلك مما يسمى بنظام المحاكاة(1).

الشعائر الحسينية في أجواء معركة الطف والمنعكس الشرطي

كذلك الحال في مسالة الشعائر الحسينية، فإن الغاية من التطبير - مثلاً - هي أن يعيش المؤمن أجواء الحرب، ولذلك يُستخدم الطبل والصنج ليملأ السمع بأصوات المعركة، والبصر بمشهد من مشاهدها، وكذلك جرح الرأس ليشاهد الناس منظراً تجسيدياً من مناظر المعركة، بل وليشموا رائحة الدم أيضاً فيعيشوا أجواء واقعة الطف، وكأنها على الطبيعة لا مجرد كلمات وخطب وأشعار وكذلك المشي على الجمر ليتجسد المؤمنون مشاهد حرق خيم العترة الطاهرة وامتلاء أرض المنطقة بشرارات النار وقطع الخشب والقماش المحترق وفرار العترة الطاهرة من نساء وأطفال على أرض مزدحمة بالنار والحرارة والجذوات المشتعلة.

وفي القصة التالية شاهد على ما نقول:

في إحدى البلاد الغربية كان أحد الأباء يخاف على أولاده أن ينخرطوا مع المدمنين على المخدرات؛ لأن نسبة المدمنين في ذلك البلد في المدراس المتوسطة قد تصل إلى 30 (علیهم السلام)!

ص: 118


1- ويمكن أن يتضمن التعليم في بعض مفرداته حاسة التذوق والشم، كأن يعطي للمتعلم بعض ماء زمزم مثلاً ليشمه ويشرب منه فيعيش أجواء الحج بشكل أقوى وأفضل.

ففكر ذلك الأب في الوسيلة المثلى لتحصين أولاده، فتوصل إلى أن أفضل طريقة هي طريقة المشاهِد الحقيقية والإحساس المباشر عبر اطلاع أولاده على حال المدمنين على أرض الواقع, ففتش عن المراكز والدور المعدة لذلك، فوجد إحدى المراكز التي تضم عدداً من المدمنين الذين تجاوز إدمانهم الحد الطبيعي، فاخذ أبناءه الثلاثة معه في جولة اعتيادية، وفي ضمنها مرّ بهم على هذا المركز فشاهد الأولاد المرضى المدمنين وحالتهم المزرية وانبطاح بعضهم على الأرض أو السلالم وخروج السوائل من أفواههم وأنوفهم بلا إرادة واختيار، وشاهدوا بعض تصرفاتهم الشاذة الغريبة، وغير ذلك مما تشمئز منه النفوس وتنفر منه الطباع, فأدركوا لما رأوا ذلكحقيقة الإدمان على المخدرات وخطرها على حياتهم ومستقبلهم, فرجعوا إلى أهلهم وقد تعلموا أحد أعظم الدروس في حياتهم.

فلسفة التكرار في القرآن الكريم

بعض المفكرين حلّل فلسفة التكرار في القرآن الكريم بغير ما عهدناه من تأكيد، إنه لا تكرار في القرآن نظراً، لأن الزوايا مختلفة والأبعاد متعددة والخصوصيات متفاوتة والدرس المستفاد مختلف, فالتكرار ظاهري وليس حقيقياً، وهذه الأجوبة وإن كانت صحيحة إلا أن هذا المفكر تناول القضية من بُعد آخر وذهب إلى أن الفائدة التكرار تكمن في بعد آخر أيضاً وهو أن نفسر التكرار من زاوية القلب وليس من زاوية العقل فقط, فالتكرار تلقين

ص: 119

وإيحاء وتجذير فله موضوعية أذن بحد ذاته.

مثلاً قوله تعالى: «إهْدِنَا الصِّ-رَاطَ المُسْتَقِيمَ»، فإنه ليس المراد من تلاوة هذه الآية كل مرة معنى جديداً بأن يراد إهدنا الصراط المستقيم في السياسة تارة, وفي الاجتماع مرة اخرى, وفي الاقتصاد ثالثة، وغير ذلك من الزوايا المختلفة, بل أن التكرار يراد منه التركيز على نفس المضمون مرات ومرات حتى يتجذر ويتجوهر ويتركز، وليس بالضرورة أن يكون ناظراً إلى زاوية مختلفة وإلى تنويع في مفردات الهداية ومصاديقها.

وبعبارة أخرى: إن نفس الكلي الطبيعي للصراط المستقيم الساري في كل أفراده، هو بذاته وبكل دلالاته يجري تأكيد طلبه وتكراره ليمنحناه الله من فضله وجوده وكرمه.

مثال أخر: الأب حينما يحتضن ولده ويقول له: أحبك ويكرر ذلك مراراً وتكراراً، فإنه لا يريد أن يقول: إني أحبك في هذه المرة من هذه الجهة وفي المرة الثانية من الجهة الأخرى وهكذا, بل يريد تركيز هذا الحب في منطقة القلب وإذكاء هذا الشعور في نفسه؛ لأن عالم الأحاسيس يحتاج إلى تأجيج والهاب، وتسكينها أيضاً عبر التكرار.وبكلمة: فإن منطقة القلب والعواطف النبيلة لها مقتضيات كما لها محفزات ودعائم ومظاهر وتجليات، كما أن منطقة العقل لها مقتضيات وروافد ودعائم وتجليات.

ومن هنا لايمكن أن نحصر قضية الإمام الحسين (علیه السلام) في قالب الفكر

ص: 120

الجامد وحسب، بل لابد من وجود الدعامة الصحيحة لهذه القضية الكبرى الثرة المعطاء، وهذه الدعامة هي العواطف النبيلة الجياشة، والتي تحتضنها الشعائر وتعد الدعائم لها من جهة والتجليات لها من جهة أخرى.

اشكال واهٍ: يضحكون منا!

قد يقال: إن الغرب يضحك منا إذ نمارس بعض أنواع الشعائر الحسينية!!

فنقول: متى أخذنا ديننا من انطباعات الآخرين عنا ومن مواقفهم تجاهنا؟ فليضحكوا أو لا يضحكوا, فليس ذلك هو المقياس في شرعية الشعيرة من عدمها.

ومثال ذلك: ولاية الفقيه, فإذا ما توصل الفقيه إلى أن ولاية الفقيه بحدودها - سعة وضيقاً - هي النظرية الصحيحة بحسب الأدلة الشرعية التي توصل إليها, فإنه يجب عليه أن يفتي طبقاً لذلك ولا يضره من قَبِل بذلك أو رفضه, ضحك عليه أو بكى منه, حتى وإن سماه البعض استبداداً ودكتاتورية دينية أو غير ذلك.

مثال آخر: الحجاب.

وكذلك: حرمة الذهاب إلى النوادي المختلطة الماجنة, فإن البعض قد يستهزء بلبس الفتيات المسلمات في الجامعات للحجاب أو في بعض بلاد الغرب، أو قد يستهزأ بذلك الذي لا يذهب أو بتلك التي لا تذهب إلى تلك

ص: 121

النوادي المختلطة.والمهم أن يقال: إن استهزاء الآخرين غير مؤثر في شرعية تعاليم ديينا الحنيف, أي لا يسلب شرعية مناهجنا وقوانيننا وشعائرنا, كما أنه لا يمنح غيرها الشرعية.

بل إن الغرب أصلا يضحك على أصل ديننا فضلا عن فروعه وتفاصيله، ويعتبره ديننا مزيفا يدعو إلى الإرهاب وسفك الدماء وغير ذلك.

هذا كله إضافة إلى أن الاستهزاء بالدين أو تعاليمه أو مناهجه أو شعائره كان من دأب الكفار والمنحرفين في مقابل مناهج الأنبياء والمرسلين (علیهم السلام).

فقد قال تعالى: «يَا حَسْ-رَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ الاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»(1)، فهل يبقى مع ذلك مجال لأن نجعل استهزائهم وضحكهم منا مقياساً لمدى شرعية عملٍ ما وأن نهندس أفعالنا وتروكنا على ضوء مقاييسهم؟!

استدلال سقيم: إنها تخلف ورجعية!

وقد سمعت البعض يستدل على حرمة بعض الشعائر الدينية بأنها تخلف ورجعية!!

وهذا الاستدلال خطأ واضح، لأن التحضر والتخلف ليس من

ص: 122


1- سورة يس: 30.

المقاييس الشرعية, ولا يعدّان أدلة إلى جوار الأدلة الأربعة!

مثلا: لبس القلادة الذهبية أو الساعة الذهبية, يعتبره البعض تحضراً وموضة، في حين أن الإجماع قائم على حرمة لبس الذهب للرجال, فهل نتخلى عن أحكامنا الشرعية من أجل ما يسمونه تحضراً وموضة؟!!

نموذج مذهل من غسيل دماغ شبابنا

قبل 20 سنة كنت في بريطانيا والتقيت هناك بشخص من عائلة معروفة, منها العديد من رجال الدين وكان يدرس في إحدى كلياتهم السياسية وكنت أعرفه قبل ذلك بسنين فوجدت أفكاره متغيره ومتبدلة, وكان من المذهل لي أن وجدته يقول: أنني وصلت إلى قناعة جديدة في سر تخلفنا وهي أن السبب الأساس في تخلفنا هو إقامتنا لمجالس الإمام الحسين (علیه السلام) ومشاركة جماهيرنا فيها!!

وفي الحقيقة استغربت كثيراً بل ذهلت لما قال!، لأني كنت أظن أن يقول مثلاً أن سر تخلفنا هو الجهل أو الحكومات الدكتاتورية أو عدم تطبيق القوانين الإسلامية الحيوية كالشورى والحريات أو غير ذلك، فقلت له: كيف وصلت إلى هذه القناعة؟

فقال: لأنها تشدّنا إلى الماضي السحيق! وما التخلف إلا الرجوع إلى الوراء، لأن هذه الحادثة حصلت قبل أكثر من 1300 سنة, ثم تأتون أنتم يارجال الدين فترجعون الناس إلى ذلك الزمن السحيق, والمفروض أن نفكر

ص: 123

في المستقبل وحسب كما يصنع الغرب!!

فاستغربت أكثر وقلت له من جنس تفكيره: هل رأيت شوارع لندن وبناياتهم القديمة؟ قال: نعم, قلت: ألا ترى كيفية محافظتهم عليها وسنهم القوانين التي تمنع من هدمها وتحافظ على نفس هيئتها الموغلة في القدم لأنهم يعتبرونها من الآثار؟ ثم قلت له: إن الأمة التي لا تاريخ لها لا مستقبل لها أيضاً، ونحن نتزود من الماضي لإذكاء وتنوير المستقبل، و«لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الالبَابِ»(1).

وذكرت له أمثلة أخرى إلا أنه بقي مصراً وانحرف بعد ذلك أكثر ولم يرعوِ؛ ومن الواضح أن (الانهزامية) تبدأ من قضية أو شعيرة أو موقف ثم تمتد وتتوسع إلى آفاق قد لا يتصورها حتى الشخص نفسه!

نموذج غريب آخر!

في زمن البهلوي برزت موجة من نوع آخر ضد المجالس الحسينية - ذلك أن هذه الموجات لا تتوقف عن حد، بل تتغير اتجاهاتها فقط فتارة ضد هذه الشعيرة وأخرى ضد تلك - وقالوا: ما هذه المجالس التي يقيمهما رجال الدين المتخلفون؟ أليست مجالس العجائز؟ بتكرارها ورجعيتها وجمودها، والغريب انخداع البعض بهذا الكلام غير المنطقي الذي لا يعدو أن يكون استدلالاً بالصغرى على الكبرى، وببعض المفردات على كل الظاهرة مع أن

ص: 124


1- سورة يوسف: 111.

الجزئي لا يكون كاسباً ومكتسباً, فلو فرضنا وجود مجالس متواضعة علمياً وفكرياً فإن ذلك لا ينفي وجود مجالس حسينية يقيمها المفكرون والمحققون والخطباء الكبار وفيهم الفقهاء والمحققون والمثقفون.

وكان السيد الوالد يقول لهم:

أولاً: هل تزدرون بالعجائز وهنَّ أمهاتنا أو جداتنا أو أخواتنا؟ وماذا يضركم لو عقدت مجالس لهن حسب النمط الذي يلبي حاجاتهن ويتناسب مع مستوياتهن؟

وثانياً: إن تكرار الخطيب والقارئ ليس بالفعل المذموم، بل هو فعل ممدوح حسن وذلك لأنه لا يكرر إلا الكلام عن الشجاعة والوفاء والتضحية والغيرة والحمية والعاطفة تجاه حماة الدين ومظلوميتهم وما جرى عليهم، ومقارعتهم لأعتى حكومة إستبدادية على وجه الأرض حينذاك.

وثالثاً: مَن الأفضل، هل هذه العجوز التي تبكي على قادة الإسلام وحماة الإنسانية وتتفاعل معهم روحياً وعاطفياً, أو تلك العجوز في الغرب حيث تقضي باقي عمرها في مشاهدة الأفلام والمسلسلات الفارغة؟ وكيف لا يكون هذا تخلفاً وتحجراً ويكون ذاك تخلفاً ورجعية!

في الختام

وصفوة القول: إن الدعامة الرئيسية للثورة الحسينية هي العاطفة المذكاة المشبوبة المتأججة عبر شتى الشعائر الحسينية من بكاء أو صرخة أو لطم شديد

ص: 125

أو إدماء أو شبه ذلك ...

وقد تواترت الروايات في كتبنا المعتبرة في شرعية ذلك وفي الحث عليه، وهنا نشير إلى ما ورد في كتاب كامل الزيارات عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (علیهما السلام) فإنه فيه مأجور»(1).

وفي التهذيب: «ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطمياتُ على الحسين بن علي (علیهما السلام) وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب»(2).

والحديث حول الروايات يستدعي عقد فصل خاص سنتطرق له إن شاء الله تعالى.

ص: 126


1- كامل الزيارات: ب 32 ص100.
2- كما ورد في وسائل الشيعة: ج22 ص402.

الفصل الخامس: الابتلاءات والمحن

اشارة

* الابتلاء في الأديان والأبدان والسلطان

* الابتلاء بتسفيه الآراء والتشكيك في الانتماء

* الشعائر الحسينية ثلاثية الأبعاد: فكر وعاطفة وموقف

* تخوين المصلحين واتهامهم بالعمالة

* مواجهة التهم وتسفيه الآراء بالكلمات الإبراهيمية

(الشجاعة والحلم)

* خاتمة: حِكَم الابتلاء الالهي

ص: 127

ص: 128

(1) الإبتلاء في الأديان والأبدان، ومع السلطان

اشارة

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا, قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لَا يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ»(1).

يتركز الحديث بإذن الله تعالى حول قوله عز وجل: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ» في إطار مفردة (الابتلاء) فقط، وسيتدرج في محورين:

الأول: أطلاقات الابتلاء.

الثاني: أنواع الابتلاء.

كما سيتضمن البحث في مطاويه تحديد الموقف من الابتلاء.

البصيرة الثالثة عشرة: المحور الأول: أطلاقات الابتلاء

معاني الابتلاء، لعل أذهان الكثيرين تختزن شحنة من السلبية حول

ص: 129


1- سورة البقرة: 124.

مفردات الابتلاء والامتحان والاختبار؛ إذ المعهود عند عامة الناس أن الامتحان والاختبار مثلاً - وهما اللذان فُسر بهما الابتلاء - أمر صعب عسير يستبطن المشاكل والمحن والرزايا أو السقوط والخسران، إضافة إلى ما يستلزمه الابتلاء والامتحان من التعب النفسي والجسدي.

لكننا عندما نتتبع إطلاقات الابتلاء في كتب اللغة، ثم في القران الكريم نجدها أوسع من ذلك، ذلك أن للابتلاء إطلاقات:

1) فقد يطلق على النقمة.

2) وقد يطلق على النعمة.

3) وقد يطلق على الاختبار بنفسه.

فإن النعمة ابتلاء، والولد الصالح نعمة, ولا شك لكنه ابتلاء، كما أن الولد الطالح نقمة, وهي ابتلاء أيضاً, فإن الله تعالى يبتلي عبده بالنعمة ليمتحن شكره كما قد يبتليه بنقمة ليختبر صبره.

كذلك الأمن فإنه من الابتلاء كما أن اللا أمن والفوضى والاضطراب أيضاً ابتلاء، وإن الله تعالى قد يمنّ على عباده في بلد ما بالأمن ليختبر مدى التزامهم وعدم اغترارهم بأمنه وأمانه؛ إلا أننا نجد من يستغل ذلك لمعصيته تعالى، كما أن اللا أمن نقمة لكنه في نفس الوقت ابتلاء.

كذلك أن يكون الإنسان عالماً نوع اختبار وابتلاء، فهل يتكبر ويعلو على الآخرين، ويرى نفسه أفضل منهم أم يتواضع لمن يعلمهم فيرشدهم إلى ما فيه الخير والصلاح بكل تواضع وسعة صدر وأخلاق فاضلة؟ كما أن

ص: 130

يكون الإنسان جاهلاً - وهو مكروه - فإنه أيضاً نوع اختبار وامتحان, وهل أنه سيسعى ليسال ولا يأنف بل يتواضع للعلم والعلماء أم يبقى متردداً في جهله وغيه؟وموجز القول: أن الابتلاء بحسب ما يستفاد من اللغة أنه يطلق على النقمة وعلى النعمة، كما يطلق على الاختبار نفسه فهو يطلق على المتعلِّق والمتعلَّق معاً.

وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجده تعالى يقول:«وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَاليْنَا تُرْجَعُونَ»(1) فالشر والخير إذن كلاهما فتنة، وقد عبرنا في مستهل بحثنا بالإطلاقات ولم نعبر بالمعاني، لأنها مصاديق لا معاني، أو لأن الابتلاء يحصل بالشر وبالخير، وليس الشر والخير مرادفين للابتلاء معنىً، بل لهما معانيهما الخاصة بهما كما هو واضح.

وعلى ذلك فإن كل هذه الدوائر من النقم والنعم هي دوائر ومساحات الاختبار والامتحان والفتنة.

وعلينا أن نلاحظ الآية الكريمة: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...» على ضوء إطلاقات الابتلاء هذه بأجمعها.

ص: 131


1- سورة الانبياء: 35.

المحور الثاني: انواع الابتلاء

البصيرة الرابعة عشرة:

1) الابتلاء في الأبدان و الأديان

إن الابتلاء له عدة أنواع وأقسام ومصاديق، فقد يكون الابتلاء في الأديان وقد يكون في الأبدان، وقد تكون بلية واحدة تعم الأديان والأبدان معاً.

فالإرهاب مثلاً بلاء لكن مصبَّه عادة على الأبدان، كما أن الوهابية أيضاً بلاء لكنَّ مصبَّها الأديان والابدان معا!

وأما بعض مشتقات الوهابية مثل القاعدة وداعش وغيرهما فإنه يمكن القول أن مصبها الأبدان فقط.

دعاوى المهدوية والشهادة الشيطانية

عن بعض الذين يدعون الارتباط بعالم الغيب أو يدعون الارتباط بالإمام المهدي (علیه السلام) أيضاً هم فتنة في الاديان، وقد قال لي أحدهم: إن فلاناً له ارتباط خاص بالإمام (علیه السلام) حيث إنه أخبرني بما لم يطلع أحدٌ عليه من حياتي الخاصة؛ ومعنى ذلك أن عنده علم الغيب، وهو شاهد صدق على ارتباطه بالإمام الغائب (علیه السلام)!!

ص: 132

والجواب: لكن الحقيقة أن الائمة (علیهم السلام) حذرونا من ذلك وبينوا أن من يخبر عن المغيبات ليس بالضرورة مرتبطاً بالرحمن وعالم الغيب، بل قد يمده بذلك الشيطان.قال تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(1).

فالمقياس بين الرحماني والشيطاني هو البراهين والعقل الذي يحكم بصدق هذا عن كذبه، أما ما يخالف ذلك فقد يكون من الرياضة والارتياض أو من أخبار الشياطين أو الجن كما هو معروف عن الكهّان وغير ذلك.

والأدلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها ما رواه الشيخ القمي في سفينته(2)

عن تفسير العياشي(3)،

قال الإمام الصادق (علیه السلام) لعبد السلام الأزدي: «يا عبد السلام إحذر الناس ونفسك!»، فقلت: بابي أنت وامي، أما الناس فقد أقدر على أن أحذرهم وأما نفسي فكيف؟ فقال: «إن الخبيث(4) يسترق السمع فيجيئك فيسترق ثم يخرج في صورة أدمي».

أقول: وهنا يحتمل أن الشيطان (لعنه الله) نفسه يتجسد في صورة آدمي، بناءً على إمكان تجسده ولو نادراً للبعض، كما يحتمل أن يأتي آدمي، لكن الشيطان أوحى له أو تلبس بعقله وروحه وسيطر على حواسه فأصبح

ص: 133


1- سورة الاسراء: 20.
2- سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار: مادة بلس ج1ص369.
3- تفسير العياشي ج2 ص239.
4- أي الشيطان.

ناطقاً باسم الشيطان وما أكثر اولئك!

(فيقول: قال عبد السلام:) لأن الشيطان يسمع ويسترق السمع، لأنه يجري مجرى الدم من الإنسان، (فقلت: بابي أنت وأمي هذا ما لا حيلة له)، أي كيف استطيع أن أمنع الشيطان من أن يطلع على نواياي؟ وهل يمكنني أن أحول بين نفسي وتفكيري؟! فهذه بلية وطامة كبرى؛ لأن الشيطان له قدرات استثنائية، ولولا ذلك لما تم الامتحان (قال(علیه السلام): «هو ذاك»)، أي صحيح لا يمكنك أن تمنع الشيطان من أن يطلع على تفكيرك عادة، وهذا امتحان عظيم وهو من أنواع الابتلاء في الأديان.

ومن هنا ندرك خطورة الابتلاءات خصوصاً في آخر الزمان، فإنها ابتلاءات صعبة خَطِرة؛ وعلى الإنسان أن يلتجئ إلى الله تعالى وإلى أهل البيت (علیهم السلام) بالدعاء والتضرع والتوسل، إضافة إلى استعانته بعلماء أهل البيت (علیهم السلام) وبالعقل والآيات والروايات فإنها خير مرشد ودليل.

من خصال الأنبياء (علیهم السلام) وأتباعهم

إن الابتلاء له أنواع كثيرة، وقد أشارت الرواية الواردة في الخصال عن الإمام الكاظم (علیه السلام) إلى بعضها، حيث يقول الإمام (علیه السلام): «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَأَوْلَادَ الأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَ الأَنْبِيَاءِ خُصُّوا بِثَلَاثِ خِصَال» - وهي خصال إبتلائية إمتحانية - «السُّقْمِ فِي الأَبْدَانِ وَخَوْفِ السُّلْطَانِ وَالفَقْرِ»(1).

ص: 134


1- الخصال: ج1 ص88.

وهنا علينا أن ندرس حياتنا باستمرار، فهل هذه الخصال مما نتصف بها مجتمعة أو متفرقة، بشكل إجمالي أو تفصيلي، طوال حياتنا أم لا؟ إذ أنها علامات على الإيمان والتقوى؛ لأنها تلازم الأنبياء (علیهم السلام) وأتباعهم كما ينص الإمام (علیه السلام).

الابتلاء بالفقرأ

ما الفقر فهو من خصال الأنبياء (علیهم السلام) وأتباعهم، ولقد كان إبراهيم (علیه السلام) وهو أبو الأنبياء فقيراً وقد عانى منه - الفقر - فترة من الزمان إلى درجة أنه لم يكن يجد حتى الخبر لطعام نفسه وعياله!

ولكن في المقابل إن أحدنا إذا مر بضائقة مالية من دين أو غيره تجده عبوساً متجهماً، أقرب الناس إلى الكفر - والعياذ بالله - أو قد يعتب ويتململ ويشك وغير ذلك.

ففي الرواية عن الامام الصادق (علیه السلام): «كاَنَ إبراهيم (علیه السلام) إِذَا ضَاقَ(1)

أَتَى قَوْمَهُ، وَ أَنَّهُ ضَاقَ ضَيْقَةً فَأَتَى قَوْمَهُ فَوَافَقَ مِنْهُمْ أَزْمَةً فَرَجَعَ كَمَا ذَهَبَ...»(2).

ولكن كيف يرجع إلى بيته خاوي الوفاض وليس معه حتى الدقيق؟

إلا أنه كان يحمل خرجاً، فملأه بالرمل(3) ودخل بيته ووضع الخرج

ص: 135


1- ضاق عليه الرزق وسيأتي أن ضائقته كانت بدرجة انه لم يكن يجد حتى الطعام.
2- تفسير العياشي: ج1 ص277.
3- ولعل منطقته كانت ترابية فحمل الرمل أثناء سفره.

جانباً، وأخذ يصلي وأطال الصلاة ولعله كان محرجاً فيما يبدو, فرأت زوجته سارة أنه أطال المكث في الصلاة، فجاءت إليه وحركته وقالت: هيا يا نبي الله إلى تناول الطعام، فاستغرب!! ولما أنفتل من صلاته قال: من أين لنا الطعام؟ فأشارت إلى الخرج, وإذا به (علیه السلام) يرى أن الله تعالى حول الرمل إلى دقيق!! فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء، وقال: أشهد انك الخليل!!

ونص الرواية: «فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ مَنْزِلِهِ نَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ، فَمَلَأَ خُرْجَهُ رَمْلًا، إِرَادَةَ أَنْ يُسَكِّنَ مِنْ رُوحِ سَارَةَ - فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَخَذَ الخُرْجَ عَنِ الحِمَارِ، وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَجَاءَتْ سَارَةُ فَفَتَحَتِ الخُرْجَ فَوَجَدَتْهُ مَمْلُوءاً دَقِيقاً، فَاعْتَجَنَتْ مِنْهُوَاخْتَبَزَتْ، ثُمَّ قَالتْ لِإِبْرَاهِيمَ: انْفَتِلْ مِنْ صَلَاتِكَ فَكُلْ, فَقَال لَهَا: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الذِي فِي الخُرْجِ! فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ فَقَال: أَشْهَدُ أَنَّكَ الخَلِيلُ»(1).

ومن ذلك نكتشف شدة ما كان فيه إبراهيم (علیه السلام)، خصوصاً إذا علمنا أن تدخلات الله الغيبية في مثل هذه القضايا الشخصية قليلة جداً.

وقد كان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يشد حجر المجاعة على بطنه ثلاثة أيام.

الابتلاء بخوف السلطان

أما خوف السلطان فهو أيضا من علامات أتباع الأنبياء، وهو من خصال المؤمنين وصفاتهم، وذلك لأنهم دائماً في مواجهة السلطان الجائر

ص: 136


1- تفسير العياشي: ج1 ص277.

يستنكرون عليه ظلمه وجوره ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ إذ السلاطين عادة جائرون، وأما السلطان العادل فهو أعز من الكبريت الأحمر، فأين تجد البشرية المعذبة سلطاناً عادلاً كأمير المؤمنين والرسول الأكرم (علیهما السلام)؟!!

وهذا مقياس هام ودقيق! على المؤمن أن يضعه نصب عينيه دائماً؛ فعليه أن يلاحظ ما إذا كان لا يخاف من السلطان الظالم وما إذا لم يكن يتعرض له السلطان بشيء، فلابد عندئذٍ أن يشك على الأقل هل مواقفه سليمة أم لا؟ ونعني بالسلطان الأعم من السلطان الغربي أو الشرقي، أو الحكومي المسيطر على بلادنا بقوة النار والحديد.

ونحن كرجال دين - بل وكل مؤمن - تقع على أعناقنا مسؤولية أكبر، فإن مهمتنا خطيرة إلى أبعد الحدود، وقد نتقلب في دول عديدة ونهاجر إليها وقد تتغير الحكومات، وهي حكومات جائرة عادة، فعلينا أن نجعل المقياسفي كوننا من أتباع الأنبياء (علیهم السلام)، مدى توفر علاماتهم - ومنها خوف السلطان - فينا، وخوف السلطان مما لا يحصل في كثير من الأحيان، إلا لدى معارضة الظالم وأفعاله وأقواله التي تخالف الدين والإنسانية.

جهاد إبراهيم (علیه السلام) مع الروم

ولقد كان إبراهيم (علیه السلام) من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ففي نوادر الراوندي، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): إن إبراهيم (علیه السلام) قاد جيشاً من أتباعه

ص: 137

وذهب إلى قتال الروم، لأنهم اختطفوا لوطا (علیه السلام) وحاربهم وحرر لوطا (علیه السلام).

ونص الرواية: نوادر الراوندي، بإسناده عن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قَال: قَال رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله): «أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ الله إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ (علیه السلام)، حَيْثُ أَسَرَتِ الرُّومُ لُوطاً (علیه السلام)، فَنَفَرَ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام) وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ»(1).

الجهاد ضد داعش والإرهاب

والآن نرى هذه الجماعة المؤمنة من رجال الدين والشبان الغيارى الذين يقاتلون الإرهابيين ويجاهدون في سبيل الله تعالى، وهم مفخرة البلاد حقاً وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ فَتَحَهُالله لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَسَوَّغَهُمْ كَرَامَةً مِنْهُ لهم وَ نِعْمَةٌ ذَخَرَهَا وَ الجِهَادُ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ الله الحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ البَسَهُ الله ثَوْبَ الذُّل...»(2).

إن المؤمن هو من يتصدى دائماً للظالم ويواجهه، سواءً في سوح القتال أم على الأصعدة السياسية والإعلامية، أم في المجالات الفكرية والثقافية والتوعوية.

ص: 138


1- بحار الأنوار: ج12 ص10.
2- الكافي: ج5 ص4 فضل باب الجهاد.

بعض العلماء ممن ذهب إلى الجهاد(1)

في بعض الجبهات - وهو ممن يحضر هذا المجلس -، لما رجع شاهدت أثر حرارة الشمس على وجهه وارتفاع معنوياته، وقد قال كلمة أثرت فيّ كثيراً، قال: هؤلاء المجاهدون وجدتهم أفضل مني كثيراً، وهو يقصد ما لمسه فيهم من إخلاص وتفانٍ وبطولة وشهامة ورجولة، رغم إني أعلم ما يتمتع به هذا العالم من إخلاص وغيرة وشجاعة!إن السلطان له أجهزة وأذرع وأدوات مختلفة، وقد ينال من المؤمنين من خلالها، ففي زمن اللانظام الصدامي السابق كان بعضهم لا يسقط في امتحان التهديد بالقتل، بل الكثيرين كانوا يتمنون القتل إذ بعد ذلك راحة الأبد، لكن البعض قد يسقط في امتحان اهتزاز المكانة الاجتماعية، لان الظالم وأجهزته يعرف أن الكثير من الناس يهتمون كثيراً بسمعتهم ومكانتهم، وهي نقطة ضعف كبرى بالنسبة لهم، لذا يتخذ الطغاة منهجية التسقيط الاجتماعي وإثارة الإشاعات الكاذبة واتهام المخلصين بأبشع التهم السياسية كالعمالة، أو اللاأخلاقية أو غيرها، وكان البعض ينهار أمام أمثال

ص: 139


1- في هذه الأيام - محرم 1436ه تشرين الثاني 2014 م - هبّ المجاهدون الأشاوس من أبناء العراق لمقاتلة الإرهابيين الوهابيين (الدواعش) في شمال وغرب العراق، أثر احتلالهم مدينة الموصل وما حولها من المدن, وقد ارتكبوا من الجرائم النكراء ما يندى له جبين الإنسانية خجلاً وحياءً, حتى وصل بهم الأمر هذه الأيام (بداية 2015م) إلى حرق العشرات من الأبرياء بالنار، وهم أحياء فضلاً عن الذبح والتقتيل المريع, ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. (المقرر)

هذا الابتلاء والامتحان.

الإمام الحسن (علیه السلام) والابتلاء بالسمعة والمكانة

ولعل المستظهر هو أن أخطر ابتلاء واجهه الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وتحداه ونجح فيه أكبر النجاح، هو الامتحان والابتلاء بمكانته الاجتماعية وتزعزعها حتى عند الأصحاب الخلص، والظاهر أن امتحان القتل كان أسهل بكثير - لو كانت الوظيفة الشرعية تقود إليه - من الابتلاء بمصالحة معاوية بن أكلة الأكباد.

وتتجلى لنا مدى صعوبة هذا الابتلاء عندما نعرف أن مثل حجر بن عدي وهو ذلك البطل عظيم المنزلة، تكلم بكلام - وفي حضور معاوية - ثقيل جداً، فقال - وهو يخاطب الامام الحسن سيد شباب اهل الجنة (علیه السلام) -: (أَمَّا وَالله لَوَدِدْتُ أَنَّكَ مِتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَمِتْنَا مَعَكَ وَلَمْ نَرَ هَذَا اليَوْمَ، فَإِنَّا رَجَعْنَا رَاغِمِينَ بِمَا كَرِهْنَا وَرَجَعُوا مَسْرُورِينَ بِمَا أَحَبُّوا)(1)

وقد أجابه الإمام (علیه السلام) بجواب بليغ يكشف عمق المرارة كما يكشف عمق الحكمة(2).كذلك عدي بن حاتم الطائي، نجده يخاطب الإمام (علیه السلام): (يا ابن رسول الله، لوددت أني مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور،

ص: 140


1- مناقب آل أبي طالب (علیهم السلام): ج4 ص35/ وبحار الأنوار: ج44 ص57.
2- قال (علیه السلام): «يَا حُجْرُ قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكَ فِي مَجْلِسِ مُعَاوِيَةَ وَ لَيْسَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُحِبُّ مَا تُحِبُّ وَ لَا رَأْيُهُ كَرَأْيِكَ وَ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ مَا فَعَلْتُ إلا إِبْقَاءً عَلَيْكُمْ وَ الله تَعَالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن». بحار الأنوار: ج44 ص57.

فتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه, أعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا) وقد أجابه الإمام بجواب حكيم(1).

ولكم أن تتصوروا مدى مرارة وثقل هذا الكلام، إذا خوطب به مرجع تقليد؟ فكيف بالإمام المعصوم؟

فأي ابتلاء كان الامام الحسن (علیه السلام) يواجه معه في مكانته وموقعه؟ ومع ذلك ضحى به صابراً محتسباً إذ اقتضت الوظيفة الشرعية ذلك.

رضا الله أو ثناء الناس!

إن علينا أن نلاحظ هذه المعادلة بكل دقة في أنفسنا في أي موقع ومكانة كنا في سدة الحكم والمسؤولية الحكومية والإدارية، أو في قيادة حزب أو تجمع أو عشيرة، أو كنا في موقع المدرس أو الوكيل أو المرجع أو غير ذلك، فإذا ما تعرضنا لابتلاء في موقعنا ومناصبنا ومكانتنا، فما الذي ينبغي علينا فعله؟ وهل نقدم عندئذٍ رضا الله تعالى أم رضا أنفسنا؟ وهل نرجح الاحتفاظ بكرامتنا وماء وجهنا وسمعتنا مقابل أن نخسرها إذا أصررنا على الدفاععن المظلوم أو على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو أصررنا على مواجهة الطغاة والمستبدين؟ إنه ابتلاء بحق، وأي ابتلاء؟

ص: 141


1- قال (علیه السلام): «يا عدي! إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيتُ دفع هذه الحروب الى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن).

إن من أشد الابتلاءات التي تواجه المصلحين أن الطغاة يشهرون بوجوههم سلاح التشويه وسلاح التهمة والانتقاص، وهي التي عادة ما يستعملها الظالمون.

وقد سب معاوية وأتباعه وجلاوزته، أمير المؤمنين (علیه السلام) لأربعين سنة، خلت من عمر الأمة الإسلامية على سبعين ألف منبر على ما في بعض الروايات، أو تسعين الف منبر في روايات أخرى صحيحة حتى من طرق العامة.

اهتداء أحد السلفية بسبب روايات سب أمير المؤمنين علي (علیه السلام)

وهذه الروايات سببت تشيع أحد أشد الوهابية سلفية وتشدداً, وقد نقل لي هو ذلك شخصياً، فقال:

كنت سلفياً متشدداً وكانوا يعطوني بعض المصادر المحددة التي لا يُسمح لي بتجاوزها كي استخرج منها بعض المآخذ على الشيعة، ثم كانت تطبع على شكل كتيبات وتوزع على الناس.

وفي يوم من الأيام قالوا لي: إن الشيعة كذابون دجالون، ومن دجلهم أنهم اتهموا معاوية بأنه كان يسب علي بن أبي طالب (علیه السلام) على سبعين ألف منبر!! فخذ هذه المصادر واكتب كتيباً عن ذلك، تثبت فيه كذبهم في هذه الفرية على معاوية.

يقول فاستغربت وقلت: كيف وصل الأمر بالشيعة إلى أن يتهموا خال

ص: 142

المؤمنين بارتكاب مثل هذه الأعمال المشينة؟!!يقول: حيث تملكني الفضول قررت أن أبحث في غير المصادر التي أعطوني لأتوسع في البحث أكثر، فراجعت بعض المكتبات من غير أن أخبرهم فوجدت رواية صحيحة الإسناد من طرقنا أيضاً، وقد وثَّق رجالها أعلامُ الرجال من أهل العامة، والرواية تقول:

(إن علي بن ابي طالب بأمر معاوية كان يُسب على تسعين الف منبر!).

يقول: ما إن عثرت على هذه الرواية من طرقنا حتى اهتزت كل قناعاتي، وكل المنظومة الفكرية التي بنيت على الضلال، فانهارت في لحظات...

ثم إنه أخذ يبحث أكثر وأكثر حتى منَّ الله عليه بالتشيع والاستبصار, ثم كتب كتباً عديدة عن مذهب أهل البيت (علیهم السلام).

لا تخافوا من التهم أو المقاطعة!

إن سلاح التهمة سلاح فعال ينطلي على الكثير من المغفلين وكثيراً ما يستعمله الظالمون ضد المؤمنين، وعلى الإنسان المؤمن أن لا يخاف منه ولا يهتز ولا يتراجع ما دام على الحق.

وفي قصة إبراهيم (علیه السلام) عبرة بالغة ودلالة أكيدة, ولعل مسالة حرقه بالنار كانت الأهون والأيسر لديه, ولعل الأصعب منها كان امتحان تشويه

ص: 143

السمعة والحصار الاجتماعي، بل والمقاطعة العامة التي ضربها عليه النمرود وأتباعه، وهو أمر لا يتحمله غالباً حتى الأشداء من الرجال.

وإننا الآن قد لا نشعر بمدى صعوبة هذا الابتلاء؛ لأننا نعيش في بحر من الصداقات والعلاقات الاجتماعية المتميزة, فما أكثر إخواننا وأصدقاءنا في الحوزة العلمية المباركة أو في خارجها، وهي نعمة كبيرة علينا أن نشكر الله عليها، لكن ماذا لو قاطعنا أحد الجيران ثم ثان ثم ثالث؟ وماذا لو هجرنا كل الأقرباء أيضاً؟ وماذا لو عادانا الناس بأجمعهم؟إن ابتلاء النبي أو أي مصلح هو أن يتعرض إلى السب والإهانة والشتائم حتى من أقرب الناس إليه, ثم إن يتعرض إلى المقاطعة الاجتماعية الشاملة، لكنه يبقى مع ذلك شامخاً صابراً محتسباً! وهذا مقام عظيم لايلقّاه إلا ذو حظ عظيم.

ويشير إلى بعض ذلك قوله تعالى عن لسان إبراهيم (علیه السلام): «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله»(1).

إبتلاء إبراهيم (علیه السلام) بالمقاطعة الاجتماعية

وفي الرواية: أن من الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم (علیه السلام): اليقين، ومنها : الشجاعة، ومنها: الاعتزال , وقد بقي إبراهيم (علیه السلام) وحيداً فريداً إلى فترة طويلة إلى أن آنسه الله تعالى بإسماعيل

ص: 144


1- سورة مريم: 48.

وإسحاق, وهذه الفترة لا يعلم مقدارها إلا الله(1).

وقد جاء في تفسير العياشي: («إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا»(2) فصبر بذلك ما شاء الله! ثم إن الله تبارك وتعالى آنسه بإسماعيل وإسحاق, فصاروا ثلاثة).

ولأجل ذلك يقول الإمام امير المؤمنين (علیه السلام): «لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الهُدَى لِقِلَّةِ مَنْ يَسْلُكُهُ»(3).ذات يوم من الأيام لقيت أحد الفضلاء - وقد كان يعتقد أن الحق في أمرٍ ما، إلا أن الجو الضاغط كان في إتجاه آخر، وقد كان متحيراً - فقلت له: إجعل المقياس بينك وبين نفسك هو أن تتدبر قليلاً وترى أن كلمة الحق هذه هل رضا الإمام الحجة (علیه السلام) فيها أم لا؟

(ذلك أنه أحياناً قد يتضح الأمر للإنسان فعليه أن يأخذ به ويعمل على طبق وظيفته، لكن إذا لم يتضح له وجه الصواب فعليه أن يأخذ بالأصول العامة.

والحاصل: أن على الإنسان أن يلاحظ هذا الأمر، ثم لا عليه بمن يعترض أو يغضب.

ص: 145


1- لأن الذرية جاءت إلى إبراهيم (علیه السلام) في آخر عمره كما يصرح القران بذلك: «وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالتْ يَا وَيْلَتَى أَالدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» سورة هود: 71 -73. (المقرر).
2- سورة النحل: 120.
3- الآمالي: ص137، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج10 ص261.

وبعبارة أخرى: في باب التزاحم لا تلاحظ شخصيتك أنت, بل لاحظ القضية بتزاحماتها, وما الذي ينبغي أن يقال فيها, ثم اجعل ذلك كله كأنه معروض على الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مباشرة).

فقال لي: إنه لو كان يفكر بهذا التفكير حينذاك لنطق بتلك الكلمة الحقة ولقالها غير هيّاب، إلا أنه لم يكن يجرأ عليها قبل ذلك خوفاً من ردود فعل بعض الرموز والمحاور!

مواجهة الإمام الحسن (علیه السلام) الشديدة لمعاوية

في هذه الأيام نعيش أيام شهادة الإمام الحسن (علیه السلام) وعلينا أن نضع مواقفه الصلبة في مقابل معاوية وجلاوزته، وكيفية مواجهته لهذا الطاغوت، مدّ أبصارنا دائماً.

وكنت أفكر مع نفسي إن الإنسان قد يبتلى في مختلف الحالات، فقد تستدعي ظروفه لسبب أو آخر أن يكون ضمن السلطة وفي بعض أجهزة الحكم أو القريبة منها، وقد تقتضي وظيفته أن يكون ضد السلطان وأن يواجهه من خارج منظومة السلطات الثلاث، لكن عليه في جميع الحالات أن لا يتخلى عن وظيفته الشرعية في النهي عن المنكر بشجاعة وحكمة وقوة سواء من خارج السلطة أم من داخلها.وتكفينا مواقف الإمام الحسن (علیه السلام) وكلماته بعد الصلح فقد كانت قوية جداً.

ص: 146

ومنها: قوله (علیه السلام) في قضية حدثت وهو يخاطب معاوية: «ولو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دماءها».

وفي موضع آخر: قال معاوية للإمام (علیه السلام) - في ضمن مواجهة طويلة بينهما - : أما إنك تحدث نفسك بالخلافة.

فقال الإمام (علیه السلام): «أما الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنة نبيه، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطل السنة، إنما مثل ذلك مثل رجل أصاب مُلكاً فتمتع به وكأنه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه»(1).

وفي رواية أخرى: قال معاوية للإمام الحسن (علیه السلام): يا حسن أنا خير منك! فقال له الإمام (علیه السلام): «وكيف ذلك يا ابن هند؟». - وهذا تعريض شديد بمعاوية وبأمه آكلة الأكباد، مع أنه كان إمبراطوراً جباراً طاغياً شديد الخبث - فقال معاوية: لأن الناس قد أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك. فقال له الإمام (علیه السلام): «هيهات! لشرّ ما علوت به يا ابن آكلة الأكباد، المجمعون عليك رجلان بين مطيع ومكرَه، الطائع لك عاص لله, والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أكون خيراً منك؛ لأنك لا خير فيك, فإن الله قد برّأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل».

نسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ينجحون في كافة الابتلاءات والامتحانات، وعلى مختلف المستويات حتى اللقاء برسول الله

ص: 147


1- بحار الأنوار: ج44 ص121.

وأمير المؤمنين وسائر الأئمة الطيبين الطاهرين (علیهم السلام) في لحظات الاحتضار، ثم عند مسألة منكر ونكير - أو مبشر وبشير بلطف الله - ثم في عالم البرزخ، ثم في عرصات المحشر ووصولاً - بلطف الله ومنّه وكرمه وبشفاعة المعصومين (علیهم السلام) - إلى روح وريحان وجنةٍ ورضوان. إنه السميع المجيب.

ص: 148

(2) الابتلاء بتسفيه الآراء والتشكيك في الانتماء

اشارة

أ) تسفيه الآراء.

ب) التشكيك في الانتماء.

أولاً: تسفيه الآراء

اشارة

وهو سلاح فعال كان ولايزال المبطلون يستخدمونه في مواجهة أهل الحق بل والأنبياء (علیهم السلام) على مر التاريخ، وهو سلاح نافذ ومؤثر في نفوس الكثير من الناس، ولعله يسبب للكثير من المحقيّن الإحباط بل والإحجام؛ لأنه يواجهم بحملة من التلويث والتشويه وتسفيه الرأي أو الفكرة والحقيقة.

أ- الطوباوية
اشارة

ومن التهم التي يكثرون من إستخدامها هي تهمة الطوباوية وهي مأخوذة من كلمة يونانية أصلها (يو تبوس) أي ليس في مكان(1)، وهي تهمة

ص: 149


1- وهي تطلق على ما لا يمكن تحقيقه إلا في الأحلام والتصورات وعالم الخيال، كالمدينة الفاضلة التي يزعمون أنها لا تتحقق أبدا!! (المقرر)

تزعزع الكثير ممن لا ثبات قدم له في المعرفة، ولا قوة له في النفس، كما شاهدت أنا ذلك شخصياً ولعل الكثير منكم شاهد ذلك أيضاً.

طوباوية الدعوة الى إسقاط الحدود الجغرافية!

فعندما تدعو وتسعى للوصول إلى الأهداف الإنسانية أو الإسلامية, فإن سلاح الاتهام بالخيالية والعيش في عالم الأحلام والأماني تجده جاهزاً في متناول أيدي المثبطين والأعداء الذين لا يريدون تحقق هاتيك الأهداف العليا.

فمثلا: عندما تدعو إلى الأمة الواحدة وإلى إسقاط الحدود الجغرافية بين البلدان الإسلامية، انطلاقاً من قوله تعالى: «هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»(1)، أو تدعو إلى إسقاط الجنسية، لأن الإسلام لا يعترف بالجنسية وما أشبه، عندئذ يتهمونك بأنك طوباوي وأنك تحلق في عالم الخيال، مستدلين على ذلك بأن الدول سواء الإسلامية أو الغربية، لا يمكن أن تسمح بذلك!!

وكذلك عندما تقول أن القانون الإسلامي يقول: «الأرض لله ولمن عمرها»(2) وهي رواية مسلمة عند الشيعة والسنة، فإنك سوف تتهم بالطوباوية وتتهم بعدم معرفة معطيات الواقع!

ص: 150


1- سورة المؤمنون: 52.
2- مروي عن الإمام الصادق (علیه السلام). وسائل الشيعة: ج25 ص414.

ولكن يجب أن نتسائل: أليس هذا القانون الإسلامي مشرَّعاً من قبل الله ورسوله(صلی الله علیه و آله)؟ وألسنا نحن المخاطبين به؟!! وألا يجب علينا أن ندعو إلى الآيات الحيوية والقوانين الإسلامية المنظمة لحياة الناس، وإن اتهمنا بالطوباوية وحياة الأحلام؟!!

طوباوية الخروج للإصلاح في أمة محمد(صلی الله علیه و آله)!

ألم يقل الإمام الحسين (علیه السلام): «وَإِنَّمَا خَرَجْتُ أَطْلُبُ الصَّلَاحَ فِي أُمَّةِ جَدِّي مُحَمَّدٍ أُرِيدُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، أَسِيرُ بِسِيرَةِ جَدِّي وَسِيرَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الحَقِّ فَالله أَوْلَى بِالحَقِّ وَهُوَ أَحْكَمُ الحَاكِمِين...»(1).

إن حكومة يزيد كانت تسيطر على معظم الكرة الأرضية آنذاك، فهل يمكن أن نعتبر خروج الإمام (علیه السلام) وطلبه للإصلاح في الكيان الفاسد خروجاً وطلباً طوباوياً؟!! بل وخروجه لأجل أن يسير بسيرة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام)؟ خصوصاً وإن الإمام الحسين (علیه السلام) خرج مع مجموعة صغيرة من أهل بيته وأصحابه وكان يعلم بأنهم سيقتلون عن بكرة أبيهم.

والغريب أنه حتى الكثير من الأصدقاء والمحبين كانوا يستبعدون ذلك ويعتبروه خروجاً غير ذي جدوى، حتى إن مثل محمد بن الحنفية (رضوان الله عليه) يستغرب من خروج الإمام (علیه السلام)، لكن مع ذلك خرج الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 151


1- بحار الأنوار: ج44 ص329.

وأصر على ممارسة دوره ووظيفته وإن بدا الأمر مستحيلاً؛ فإن الواجب على المؤمن أن يؤدي واجبه ورسالته, أما الوصول إلى النتائج في نفس الحقبة الزمنية، فليس من شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذن هذا نوع من الابتلاء وهو تسفيه الآراء بالاتهام بالطوباوية والمثالية.

ب - الخرافية
اشارة

وهي نمط ثانٍ من الابتلاء بتسفيه الآراء، وتهمة الخرافية يراد بها الإيمان بالخرافات والأساطير وما لا يقبله العقل أو العلم وعدم الواقعية، وقد استخدم الغرب هذه التهمة بشكل واسع في أوساطنا الإسلامية، حتى أصبح البعض - مع الأسف - يشعر بالدونيّة عندما تَذكر معاجز أو كرامات للأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ويتخوف من أن نتهم بالخرافية من قبل البعض الذين يحاولون أن يشككوا بالرواية الدالة على هذه المعجزة أو تلك الكرامة، أو أن يؤولوا - بتكلف وتعسف - الآية الواردة في القران الكريم، بل قد يصل الأمر بالبعض إلى الارتداد عن الإسلام بسبب هذه التوهمات والإستبعادات.

إن الاتهام بالخرافية ونظائرها سلاح من أهم أسلحة الشيطان وأتباعه؛ وقد استُخدم هذا السلاح وأشباهه ضد الشعائر الحسينية، حتى قال البعض: أن مثل البكاء على سيد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه هو

ص: 152

نوع خنوع وذلة وصغار!

وقال البعض: إن ركظة طويريج وحشية!

وقال البعض : إن التطبير هو نوع من الوحشية، ولسنا ندري ما المقصود من الوحشية ههنا؟ وذلك لأن الوحش يهاجم الآخرين ويجرحهم ولم نشاهد وحشاً يجرح نفسه!وهل يقال لمن يقوم بتمثيل مشهد حربي أو عسكري إنه وحشي؟ وهل يقال لمن يمثل المعذّب في ظلم المطامير إنه قاسٍ أو وحشي؟ بل - ومن زاوية أخرى - هل يقال لمن يحجم رأسه إنه وحشي؟ أو يقال للطبيب الذي يجري عملية جراحية إنه وحشي؟ فكيف يقال لمن يطبر رأسه أو يركض في عزاء طويريج أو يلطم صدره أو يضرب ظهره بالسلاسل، لهدف نبيل ولكي يتجسد الآلام ويعيش المعاناة بنفسه، ولكي يتدرب على البطولة ويتمرن على درجات من الألم والتضحية، كيف يتوهم أن يقال له إنه وحشي؟!

وبكلمة: فإن محيي الشعائر الحسينية لا يتعرضون إلى أي أحد بسوء، بل إن أعمالهم وشعائرهم هي قمة في تجسيد الإنسانية لأنها تنطلق من منطلق المواساة والعاطفة الإنسانية النبيلة.

الشعائر الحسينية ثلاثية الأبعاد : فكر وعاطفة وموقف

إن الشعائر الحسينية ثلاثية الأبعاد، فهي فكر وموقف وعاطفة، فمثلاً وراء لُبسنا للسواد فكر, فإنها تعبير عن ما يجول في خلدنا من فكرة وفلسفة

ص: 153

وحكمة نريد إبرازها، ثم إنه موقف يميزنا عن الآخرين ممن لا يقفون مع قادة الإسلام وسادته، إضافة إلى أن ذلك يختزن في الداخل بحراً من العاطفة النبيلة.

فلا ينبغي أن تخيفنا اتهامات الآخرين لنا ما دمنا على الحق، فإن الإمام الحسين (علیه السلام) أتُهم وقيل عنه أنه خارجي، خرج على إمام زمانه، إلا أن ذلك لم يثنه عن عزمه على إكمال مسيرته، وعلى أتباعه وشيعته السائرون على دربه أن لا يتراجعوا أو أن يستسلموا للآخرين, وإن شهروا في وجوهنا أسلحة الطوباوية والخرافية وغيرها!

قال لي أحد الكبار - وهو ينتقد أحد العلماء -: إنه يكثر من القصص في محاضراته ودروسه مما يستوجب انخفاض مستوى المحاضرة, ثم إن القصص فيها الكذب والصدق، ولِم لا يملأ محاضراته بالأفكار والآراء وهي أسمى من القصة؟

قلت: سبحان الله! إن القرآن مليء بالقصص، وقد قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الالبَابِ»(1)، ثم إن الفكرة إذا كانت متجسدة في قصة فإنها تكون أوقع في النفوس؛ والشعائر الحسينية هي فكرة متبلورة في قالب عاطفة متشكلة(2)، وهي عاطفة تعبر عن فكرة؛ والإنسان بطبعه تقوده القصة - عادةً - أفضل مما تقوده الفكرة المجردة، ولو أن خطيباً جاء بخطبة

ص: 154


1- سورة يوسف: 111.
2- أو فقل: إنها فكرة متبلورة في قالب تجسيدي عاطفي.

مشحونة بأفكار تتبعها أفكار أخرى إلىأن انتهى، فإن أغلب جمهوره لا يتفاعل معه ولا ينشدّون إليه، وستراهم يملون من حديثه ويستثقلون توالي الأفكار المجردة عليهم، بخلاف ما لو كان هناك ترويح عن النفس بقصة هادفة أو بيت شعر واعٍ أو حكمة مستظرفة.

وفي بعض السنين السابقة قال البعض بلا جدوائية زيارة الأربعين مدّعين أن في ذلك تعطيلاً لمصالح العباد والبلاد، وتعطيلاً للإنتاج الوطني!

وهذه الشبهة قد تنطلي على الكثيرين، فيرددونها في مجالسهم بسوء نية أو بلاسوء نية منهم، لكننا نعلم إن وراء هذه الشبهات أيادي خفية مشبوهة تريد تسفيه معتقداتنا والنيل من مقدساتنا(1).

التهم المزدوجة للرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والقرآن الكريم

بل إن القرآن الكريم وهو أعظم كتاب إعجازي الهي في الكون كله، لم يسلم من رشقِهِ بسلاح التهمة بالخرافية، قال تعالى: «وَقَالوا أَسَاطِيرُ

ص: 155


1- ومن الواضح إن صلاح العباد والبلاد، بل وازدهارها ورقيها وتطورها، بل وأمنها واستقرارها هو بالتمسك بالرسل والأوصياء والتشبُّث بشعائر الله تعالى إذ أن بها تقوى القلوب وتهذيب النفوس وتكامل الأنفس والأخلاق الفاضلة، وهي قوام تقدم الأمم وسعادتها إذ: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فان هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا بل قد قال تعالى من قبل: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» وزيارة الأربعين ونظائرها هي من أمثل الطرق لتقوى الله وصلاح الأمة.

الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»(1) وبذلك فقد اتهموا الرسول (صلی الله علیه و آله) بتهمتين مزدوجتين:

الأولى: إن القرآن خرافة وغير مطابق للواقع ومجرد أوهام وكذب! (والأساطير هي الأكاذيب المختلقة).

والثانية: إن النبي(صلی الله علیه و آله) أخذها من الآخرين، فهو لا ينتمي إلى السماء، وليس القرآن وحياً من الله العلي القدير كما يزعم!!

ولقد قالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ القرآن من شخص مسيحي اسمه (بلعام)(2)

وهو عبد مملوك رومي، ومن الواضح أن هذه تهمة لا تكشف إلا عن جهل قائلها ومن يتبناها؛ لأن القرآن عجزت عقول جميع البشر عن أن تأتي بسورة من مثله، والتحدي قائم إلى يوم القيامة، فكيف يكون من نتاج عبد رومي ضعيف؟ وكيف له أن يسطّر هذا الدستور الخالد والكتاب الذي لا نظير له الذي عجزت عنه عقول عباقرة البشر على مر التاريخ؟ وكما هو بيّن فإن هذه التهمة المزدوجة تعد من أسوء أنواع التهم، إلا أنهم أستسخفوا عقول الآخرين، فكان أن قالوا ما قالوا!

إن التهم هذه سواءً بالطوباوية أم بالخرافية أم بغيرها لا تفلُّ من عزم المؤمن ولا تثنيه أبداً, بل إن من صفات المؤمن أن يحلق عالياً إذ: «يطير المرء

ص: 156


1- سورة الفرقان: 5.
2- وقيل أن المراد به سلمان المحمدي (رضوان الله تعالى عليه), وقول ثالث: إن اسمه عايش أو يعيش.

بهمته كما يطير الطائر بجناحيه».وطالما حاول الغرب أن يتهم ويسفه ويشكك في المصادر أو الشعائر أو القيم أو المبادئ ليمنع المسلمين من التحليق عالياً ومن الوصول إلى المكانة اللائقة بهم، وهذا نوع من الابتلاء والمؤسف أن الكثيرين سقطوا في مصيدة الغرب وانهاروا تحت وطأة تهمة كالخرافية أو الطوباوية أو الرجعية، حتى أصبح البعض يتبنّى آراء الغرب في المرأة أو الطفل أو السياسة والاقتصاد أو غيرها على الآراء الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي هي في الواقع ونفس الأمر أكثر إنصافاً مما يروجون له تحت لافتة حقوق الإنسان وما أشبه!

إن علينا أن لا نستسلم إلى اتهامات الآخرين ما دام الأمل بالله عظيماً، وما دمنا نقوم بوظائفنا على أكمل وجه، بل إن الله تعالى سيمنحنا على القيام بالشعائر الحسينية فوق ما نرجوه بفضله ومنّه وكرمه.

وفي الرواية: «كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو»(1) فليس بالضرورة أن نحصل على ما نرجو بالسعي الظاهري والمعادلات المادية - وإن كانت لازمة بل ووظيفة - بل هناك ألطاف إلهية عظمى، وكما يقول الشاعر:

ما بين طَرفَةِ عَينٍ وانتباهتها *** يقلّبُ الله من حال إلى حال

والذي يشهد على ذلك أننا نرى الشعائر تزداد علواً وارتفاعاً رغم كل

ص: 157


1- الكافي: ج5 ص83.

المحاولات البائسة لإسقاطها أو حتى النيل منها!.

ثانياً: التشكيك في الانتماء

اشارة

تشير الآية الآتية إلى إحدى مصاديق ومفردات التشكيك في الانتماء، إذ يقول تعالى: «إِنَّمَا

يُعَلِّمُهُ بَشَ-رٌ لِسَانُ الذِي يُلْحِدُونَ اليْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ»(1).

إن التشكيك في الانتماء طالما اُتهم به المصلحون، ونحن كرجال دين ودعاة إلى الله تعالى علينا مواجهة هذا النوع من التهم بكل حكمة وشجاعة وانتباه وحذر، إذ أننا نواجه أنظمة مختلفة ونذهب إلى دول عديدة وشعوبمتباينة في آدابها وأفكارها ورؤاها، ومن الواضح إن الدول والحكومات والقوى الاستعمارية بل والأحزاب المختلفة تضغط على عالم الدين لكي ينخرط في سلكهم، أو يؤيد سياساتهم على أقل الفروض، فإذا أصرّ العالم أو الوجيه أو المؤمن على أن لا يقف إلا مع الحق، وعلى أن ينصر المظلوم وينتصف له من الظالم انطلاقاً من قوله (علیه السلام) في وصيته للحسنين (علیهما السلام) عند وفاته: «قُولَا بِالحَقِّ وَاعْمَلَا لِلْأَجْرِ وَكُونَا لِلظَّالمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً»(2).

فإن من الطبيعي أن تحاول تلك الجهات إسقاطه في أعين الناس بسلاح

ص: 158


1- سورة النحل: 103.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص180.

التهم، ومن أهمها تهمة العمالة والانتماء للأجنبي! وعلى المؤمن أن يقارع الظلم أين ما حل وفي أي بلد كان.

تخوين المصلحين واتهامهم بالعمالة

والمصلحون على مر التاريخ كانوا ولا زالوا يُتهمون بالخيانة والارتباط بالأجنبي، وأنهم تابعون إلى جهة أخرى معادية، وقد لاحظنا ذلك في التاريخ الحديث في زمن الطاغية صدام مع أنه وأشباهه من حكام البلاد الإسلامية هم العملاء للغرب أو للشرق أو أذنابهم كإسرائيل، إلا أنك تجد الطغاة يتهمون المعارض لهم بالتخابر مع الأجنبي فيحكم عليه بالإعدام ظلماً وزوراً، فيغتالون شخصه بعد أن اغتالوا شخصيته!

إلا أن ذلك رغم مرارته لا يخيف المصلحين ولا يزحزحهم أبداً, بل إنه يزيدهم إصراراً وعزيمة، لأن المؤمن كالجبل بل أقوى من الجبل، فإن الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل منه، كما في الرواية عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إِنَّ الله فَوَّضَ إلى المُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَلَمْ يُفَوِّضْ إليْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا، أَمَا تَسْمَعُ الله تَعَالى يَقُولُ «وَلله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» فَالمُؤْمِنُ يَكُونُ عَزِيزاً وَلَا يَكُونُ ذَلِيلًا قَال إِنَّ المُؤْمِنَ أَعَزُّ مِنَ الجَبَلِلِأَنَّ الجَبَلَ يُسْتَقَلُ مِنْهُ بِالمَعَاوِلِ وَالمُؤْمِنَ لَا يُسْتَقَلُّ مِنْ دِينِهِ بِشَيْ ءٍ»(1)، إضافة إلى أنهم يعلمون أن ذلك كله ابتلاء لهم وامتحان وتمحيص، فإن طريق الحق ليس مزروعاً

ص: 159


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص179.

بالورود، وإلا لورَده كل أحد ولو لم يكن ذا أهلية ولياقة، بل أنه - الحق - طريق ذات الشوكة والأشواك، ولا يلقاها إلى ذو حظ عظيم.

السيد الكاشاني وامتحان التخوين والعمالة

كان السيد أبو القاسم الكاشاني من أكبر العلماء المجاهدين في إيران وكان عدواً من النمط الأول للاستعمار البريطاني، وكان قوياً أبيّاً، بل شرساً في الدفاع عن الحق والعدالة، فما كان من الاستعمار إلا أن لجأ إلى سلاح التهم المعلَّبة والخبيثة، فاتهموه بأن السيد يقبض أموالاً منتظمة شهرياً من السفارة البريطانية سراً وإنه عميل لهم!! وأشاعوا أن هناك اتفاقات سرية خفية له مع الاستعمار، وان مواقفه ضد الاستعمار ما هي إلا تغطية وستار! وأنتم أيها الشعب الإيراني لا تعلمون!!

وقبيل وفاته جاءه أحدهم وهو من البازاريين(1) وطلب منه براءة الذمة واعتذر منه قائلاً إنني ارتكبت بحقك جريمة كبيرة واطلب منك العفو!!

فقال له السيد: إنني أعدك بأن أعفو عنك لكن بشرط أن تخبرني ماذا فعلت؟ لكنه اعتذر عن ذكر جريمته لفداحتها وكرر طلبه العفو! فرفض السيد مؤكداً أن العفو مشروط بأن يذكر ما صنع! فقال: منذ عشر سنوات وأنا أقبض أموالاً من موظف في السفارة البريطانية شهرياً مقابل الترويج بأنك عميل لبريطانيا، في كل مجلس ومحفل أشارك فيه!

ص: 160


1- التجار.

هذا هو حال الأعداء وهذه هي سياستهم وهي التخوين والاتهام للمعارضة في سبيل تشويه سمعتهم وتسقيطهم اجتماعياً.

اتهام شيخ الموحدين (أبو طالب (علیه السلام)) بالكفر

والقصص والشواهد على ذلك كثيرة، بل بلغ الأمر إلى أن أبي طالب (علیه السلام) ذلك المؤمن المجاهد، ليث قريش وشيخها، اتهموه بالكفر والشرك والعياذ بالله! ولا زال الاتهام إلى الآن، ورووا زوراً: أن دماغه يغلي من النار!! مع أنه لولاه لما قام له عود! حتى أن الرسول(صلی الله علیه و آله) أعلن عام وفاته ووفاة السيدة خديجة عام الحزن، وقد ورد أنه «ما ثبت دعائم الإسلام إلاّ بأموال خديجة وحماية شيخ البطحاء أبي طالب ونصرته، وسيف علي بن أبي طالب وجهاده المستميت».

بل كان رأي الوالد (رحمه الله)(1) أن ما يذكر في التاريخ عن بعض أبناء المعصومين (علیهم السلام) ما هي إلا أكاذيب صنعتها الدولة الأموية والدولة العباسية، وهي تدخل في خانة الاتهام للمعارضة، وحيث أنهم - أي طغاة بني أمية والعباس - عجزوا عن الصاق التهم بالأئمة الأطهار (علیهم السلام) في كثير من الأحيان، حاولوا النيل منهم بتلويث سمعة أبنائهم أو أقربائهم! وهذا هو التحليل العام لتلك الأخبار والذي لا يتعارض مع وجود بعض.

ص: 161


1- المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).
ناصبيٌّ يتهم الإمامين العسكريين (علیهما السلام) بقلة العلم!

وقبل أيام رأيت مقطع فديو لشخص سلفي بغيض، وهو يتحدث عن أئمة الحق وقادة الإسلام (علیهم السلام)، فقال في جملة كلامه: أن (الإمام) الهادي والعسكري لم يكونا من العلماء وليسا معروفين بالعلم، نعم هم سادة وأبناء رسول الله لكنهم ليسوا من أهل العلم، ولم يعهد منهم العلم والفضل، فليس لهم تلامذة أو أحاديث أو أفكار أو نظريات أو غير ذلك.

أقول: أن من هوان الدنيا على الله أن يأتي مثل هذا الناصبي السلفي المقيت ليقيّم أمثال الأئمة الهداة المهديين (علیهم السلام)، مع أن بعض أحاديثهما (علیهما السلام)، التي وصلت إلينا، لو عرضت على الحكماء والعلماء والبلغاء لأدركوا أنهما فوق مصافّ العلماء, وإن كلامهم دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

مواجهة التهم وتسفيه الآراء بالكلمات الإبراهيمية (الشجاعة والحلم)

وفي مواجهة الأسلحة التي يشهرها الطغاة والمستعمرون وأذنابهم بوجه المصلحين، خاصة أسلحة التهمة والتسقيط الاجتماعي، لا بد أن يتحلى المصلحون بسلاح الشجاعة الفائقة، إلى جوار سلاح الحلم أيضاً مع المضلّلين، وهذا هو ما نستلهم من قضية إبراهيم (علیه السلام) ومن قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ»، ففي الرواية التي نقلها في تفسير

ص: 162

البرهان وغيره: أن من الكلمات التي أتمها إبراهيم (علیه السلام) في قوله تعالى: «فَأَتَمَّهُنَّ» هي الشجاعة، فإن إبراهيم (علیه السلام) كان في الشجاعة فريداً، وتجلى ذلك في مواجهته للنمرود وجلاوزته، كما كان مجاهداً من الطراز الرفيع وقد ذكرت رواياتنا أنه ذهب إلى جهاد الروم واستنقذ لوطا (علیه السلام) بعد أن كانوا قد أسروه(1)، كما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن إبراهيم (علیه السلام) انطلق مع جيش كبير منمسجد السهلة في النجف الأشرف إلى اليمن في قضية العمالقة، وهم قوم أبطال يرعب أسمهم الأبطال! كما أنه يروى: إنه (علیه السلام) كان أول من وضع الرايات المرسومة في الحروب.

لقد كان إبراهيم (علیه السلام) شجاعاً مجاهداً، بل لقد كان قائداً من الطراز الأول، وكان في الخطوط الأمامية للمواجهة، وليس كما يفعل الكثير من القادة حيث يقبع قادة العساكر في الخطوط الخلفية ليدبروا الأمر بزعمهم، وقد يكونوا على حق نظراً لتطور الأساليب القتالية الحديثة، لكن على أية حال يبقى القائد المتقدم أمام جنوده إلى الحرب أشجع ممن يتأخر عنهم، كما هو حال نبينا إبراهيم (علیه السلام).

وفي مضمون الرواية أن أربعة من الأنبياء قاموا بالسيف(2):

إبراهيم وموسى وداود (علیهم السلام) ونبينا محمد(صلی الله علیه و آله).

عندما نستقرء سيرة الإمام الحسين (علیه السلام) نجدها مشحونة مملوءة بأسمى

ص: 163


1- كما رواه (نوادر الراوندي) عن رسول الله(صلی الله علیه و آله).
2- طبعاً القيام الدفاعي.

آيات الشجاعة ليس في واقعة الطف فحسب، بل على امتداد حياته (علیه السلام)، ومن ذلك ما نقله لنا التاريخ من أن الإمام الحسين (علیه السلام) عندما واجهه الوليد بن عتبة في قضية، وكان والياً على المدينة من قبل معاوية، هجم عليه الإمام (علیه السلام) - رغم حراسه ومسلحيه وكونه الوالي الطاغية على المدينة - وأخذ بعمامته ثم أنزلها على رقبته وشدها على عنقه.

وفي الرواية الشريفة: إن الكلمة الثانية التي أتمها إبراهيم (علیه السلام) هي كلمة (الحلم) وهي نوع آخر من الابتلاء بمعنى دفع السيئة بالحسنة إذ «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ»(1).

ففي الوقت الذي كان فيه إبراهيم (علیه السلام) شجاعاً وبطلاً في قمة الشجاعة والبطولة، إلا أنه حليماً يغض الطرف عما لا يليق بمثله أن يفعله، فيدفع السيئة بالحسنة مهما أمكن ذلك.

الإمام الحسين (علیه السلام) في موقف فريد من مواقف الكرم

وفي الرواية أن الإمام الحسين (علیه السلام) زار أسامة بن زيد وهو في مرضه الأخير - وقد كان بعد وفاة النبي(صلی الله علیه و آله) في الجهة المعادية لأمير المؤمنين (علیه السلام) - فوجده يقول: واغماه!!

فقال له الإمام (علیه السلام): «وما غمك؟»

فقال: دين عليّ.

ص: 164


1- سورة التوبة: 114.

فقال (علیه السلام): «وكم هو» قال: ستون ألف درهم(1)، فقال (علیه السلام): «هي عليّ» . إلا أن أسامة بقي قلقا ولم يتيقن من أن الإمام (علیه السلام) سيسدد دينه بعد وفاته، لأنه لا يعرف الإمام حق المعرفة، فقال له الإمام (علیه السلام): «ساقضيها عنك قبل أن تموت» ثم قضى الإمام (علیه السلام) دينه فوراً وهو على حالته تلك.

من حلم العلماء في مواجهة الجهلاء

إن هذه القضايا والألوف من نظائرها تكشف للعالم عن أن الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ثم العلماء الأبرار، كانوا الأنموذج الصالح في الشجاعة من جهة، وفي الحلم والسماحة من جهة أخرى، وفي قصص الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) ما يذهل، ويكفي من قصص العلماء ما نقلناه هنا من أن السيد الكاشاني عفى وبكل بساطة عن ذلك التاجر الذي كان لقاء حفنة من المال، يشوه سمعته في مختلف المجالس طوال عشر سنين وبأبشع الأنحاء.

كما أن السيد العم K(2) اتهمته جهة من الجهات بتهم غريبة وعلى نطاق واسع، فما كان منه إلا أن كتب : «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(3)، وحال بذلك دون أن تحدث فتنة شيعية شيعية لا يعلم مداها إلا

ص: 165


1- أي (6) الأف دينار ذهب، وهو مبلغ يكفي لشراء ثلاثة الآف خروف في ذلك الوقت أي ما يعادل (700) مليون دينار عراقي تقريباً أو ستمائة ألف دولار في الوقت الحاضر!
2- سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي K.
3- سورة الشورى: 43.

الله تعالى!

وهكذا نجد أن علماءنا الكرام على مر التاريخ يتمثلون سيرة أئمتهم (علیهم السلام) وسير الأنبياء العظام (علیهم السلام)، ولا يزدادون على التهم والافتراءات التي تطالهم إلا ترفعاً وتكرماً وحلماً وعلماً وتفضلاً، كما لا تزيدهم التهم إلا صبراً وصموداً وعزة وشموخاً.

ص: 166

خاتمة

حِكَم الابتلاء الالهي

إن الابتلاء على أنواع، وجميعها ممكنة وواقعة بالنسبة إلينا، لكن أوّلها مستحيل في حق الله تعالى، وهي:

الاختبار ليتَضح له الحال

أولاً: ما يريد به المختَبِر إستخبار حال الطرف الآخر حقيقة، أي ما كان الاختبار عن جهل، وهو مستحيل في حق الله تعالى؛ لأن علم الله تعالى ذاتي محيط.

وبكلمة: أن يختبره ليتضح له - أي للفاعل المختبِر - الحال.

الاختبار ليوضّح له الحال

ثانياً: أن يختبر ويمتحن الفاعل غيره ليوضح له (للغير) الحال، فيختبره ليتضح له أنه ذو حافظة قوية أم لا؟ أو هل هو ذكي أم غبي؟ إذا كان

ص: 167

الطالب يجهل مثلاً مدى قوة حافظته أو ذكائه أو شبه ذلك، أو هل هو مدير من النمط المركزي أو اللامركزي؟ وإنه هل ينفجر تحت الضغط وبأية درجة أو لا ينفجر؟ وهكذا.

وبكلمة: أن يختبره ليوضّح له الحال.

الاختبار ليوضّح للناس الحال

ثالثاً: أن يختبره ليوضح للناس الحال، فإذا كان المختَبِر يعلم أية جوهرة هذا، وكان المختَبَر والممتحن يعلم حال نفسه أيضاً، لكن كان الناس يجهلون ذلك ولذلك كانوا - أو قد - يعترضون : لم جعله الله علينا إماماً؟! فيختبره ليظّهر للناس نجاحه المبُهر في الامتحان فيذعنون له.

وهذه الصورة كسابقتها - الثانية - ممكنة في حق الله تعالى، بل قد يستظهر أنها وسابقتها قد تكون من الحِكم في الاختبار الالهي لإبراهيم (علیه السلام) وللأنبياء وللائمة (علیهم السلام) على مر التاريخ، لكي يظهر للناس جميعاً أنهم بالفعل جديرون بأن يكونوا حجج الله تعالى على الخلق.

الاختبار للاقتداء

رابعاً: أن يختبره لكي يقتدي به غيره، فيتعلموا منه ويتأسوا به في الشجاعة والتفاني والإقدام والإخلاص، إذ ما راءٍ كمن سمعا، وهو ممكن في حق الله تعالى، ولعل من حِكَم ابتلاء إبراهيم (علیه السلام) هو ذلك.

ص: 168

بمعنى أن الله تعالى عندما أبتلى إبراهيم (علیه السلام) كان ذلك لعدة حِكَم، منها: أن يظهر فضله للناس وكفاءته وأرجحيته عليهم. ومنها: لكي يقتدوا ويتأسوا به.

الاختبار للتكامل

خامساً: أن يختبره لكي يتكامل بنفس عملية الاختبار، وهذه الصورة قد تكون من الحكم التي تعلل بها الآية الشريفة أيضاً.

والظاهر أن هذه الحكمة موجودة في جميع ابتلاءات الصالحين والمؤمنين، قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَال وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»(1).

كما أن الظاهر إن الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) والكثير من الصالحين هم في سير صعودي مستمر، ومن الخطأ ما تصوره البعض من أن الأنبياء (علیهم السلام) وقفوا عند درجة معينة من التكامل هي الأرقى والأفضل، بل الظاهر أن الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) هم في طور تكامل وازدياد حتى في لحظة وفاتهم أو شهادتهم(2)، بل نستظهر أنهم حتى بعد وفاتهم يعيشون حالة التكامل «يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ الى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(3).

ص: 169


1- سورة البقرة: 155.
2- كما دلت على ذلك روايات عديدة جاء بعضها في الكافي الشريف.
3- سورة الانشقاق: 6.

دلالة كلمة «ربه» والجزاء

والظاهر أن النوع الخامس هو من حكم ابتلاء إبراهيم بالكلمات.

ولعل ما يؤيد ذلك قرينتان:

الأولى: كلمة (ربه) في قوله «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّه» دون إلهه أو معبوده أو الله مثلاً، فإن الرب تعني المربي، فانتخاب هذا اللفظ من ألفاظ الجلالة قد يكون قرينة على ما ندعي من كونه (علیه السلام) كان في طور التربية والتكامل, وإن الله تعالى بما أنه مربي، ابتلى عبده إبراهيم (علیه السلام) ليتكامل، فإن التربية تلازم التكامل ورفع الدرجات.

الثانية: الجزاء المترتب على عملية الابتلاء.

وهو «قَال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» فإن الظاهر أن هذا الجزاء هو الجزاء الثبوتي(1) وليس مجرد الجزاء الإثباتي الذي هو خلاف الظاهر . فتأمل!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 170


1- أي ان ابتلاءه بكلمات فإتمامه إياها هو السبب أي الداعي ثبوتاً لجعله إماماً.

الفهرس

مقدمة الناشر 5

التمهيد 11

ظاهرة (داعش): الأسباب والحلول 11

الفصل الأول

المواصفات والأدوار /15

بصائر هامة في آية ابتلاء إبراهيم (علیه السلام) 17

البصيرة الأولى: الإمامةُ الالهيةُ العامةُ, شاملةٌ لكل الشؤون 18

البصيرة الثانية: الإمامة من الصفات ذات الإضافة 18

البصيرة الثالثة: دلالة الآية على العصمة 19

البصيرة الرابعة: أفعال الله تعالى معلَّلة بالغايات 20

البصيرة الخامسة: ماهية الكلمات التي أتمها إبراهيم (علیه السلام) 21

ص: 171

الأول: تفسير بعض العامة 21

المناقشة 21

الثاني: تفسير مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) 22

أ - الولاية العظمى لمحمد المصطفى (صلی الله علیه و آله) إلى المهدي من آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) 23

ب - اليقين 24

ج - المعرفة 24

د - الشجاعة 25

ه - الحلم 26

و - السخاء 26

ز - العزلة عن الظالمين والمبطلين 26

ح - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 27

ط - التوكل 28

ي - الانتماء إلى الصالحين 28

ك - المحنة في النفس والولد والأهل والصبر 29

ل، م - استقصار النفس على الطاعة والنزاهة 29

المقارنة بين التفسيرين 30

مقاييس الاختيار الالهي للأنبياء والأوصياء 32

ومحورية عامل الإتمام والإتقان 32

ص: 172

البصيرة السادسة: الإعجاز القرآني في اختيار الكلمات (أتمهن نموذجاً) 33

معاني (كلمات الله التامات) 34

معاني «اللهم رب هذه الدعوة التامة» 34

من معاني «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله» 36

من معاني «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» 37

سبعة معاني ل«وَالله مُتِمُّ نُورِهِ» 37

عوداً على بدء: معاني «فَأَتَمَّهُنَّ» 38

البصيرة السابعة: الإعجاز القرآني في ذكر العام وإرادة الخاص وبالعكس 39

الابتلاء الإبراهيمي والمقاييس الالهية 40

البصيرة الثامنة: الإتمام احد أهم المقاييس الالهية 42

(الاتمام) مقياس الكمال وطريق التكامل 42

نموذج من إتمام الشيخ الأنصاري في (رسائله) 43

نموذج من إتقان بعض علماء الغرب لعمل 45

البصيرة التاسعة: موقع ومعنى (إذ) في بداية الآيات 46

الإعراض عن ولي الله هو سبب التيه والخسران في الدنيا والآخرة 47

الأدوار والمواقف 52

الإمامة السياسية للمعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) 52

هل الموقف من الحكومات، المتاركة أم المشاركة أم المواجهة؟ 53

ص: 173

موقف الإمام الرضا (علیه السلام) من الحكّام الجائرين 55

أساليب مواجهة الحكام الظلمة 55

1- سلب الشرعية من الحكام الجائرين 56

2- الاستخفاف بالحكام الجائرين وإهانتهم 58

3 - عدم إعذار الظالم في ظلمه 60

الفصل الثاني

الأشراط والشروط /63

الأشراط والشروط في المنظومة الإسلامية 65

البصيرة العاشرة: منظومة الأشراط والشروط 65

الفرق بين الأشراط والشروط 66

أمثلة ونماذج من الأشراط 68

كاشفية (الأشراط) عن سعادة النفس أو شقاوتها 71

أهدافنا وعلاقتها الجوهرية بالأشراط 72

الإمام الجواد (علیه السلام) يتفقد الرعية ويعوّض المتضررين 72

أين نحن من مأساة النازحين؟ 73

حوار غريب بين ابنة هولاكو وأحد علماء الإسلام 74

مخططات المأمون للنيل من الإمام الجواد (علیه السلام) 77

ص: 174

هل إن عبادتنا ومناسكنا لله تعالى؟ 78

معاني النسك: المذهب والمسلك و... 78

الفصل الثالث

الموانع /81

الظلم التكويني والقصور الذاتي في علمي الكلام والاجتماع 83

توطئة 83

البصيرة الحادي عشرة: حقيقة الظلم وانواعه 84

اختيار الأسماء والالقاب في تعاليم الإمام الباقر (علیه السلام) 84

الظلم التشريعي والظلم التكويني 86

الظلم التكويني في الأمثال والحِكَم 87

تعريف اللغويين وعلماء الكلام للظلم 89

الجواب على شبهة تنصيص القرآن على ظلم بعض الأنبياء 93

الجواب الأول: لم يصدر منهم (علیهم السلام) الظلم التشريعي 94

الجواب الثاني: كانا من الظالمين ولم يكونا ظالمين 95

الثمرات الاجتماعية لنظرية الظلم التكويني 97

وجه آخر في حقيقة ما طلبه إبراهيم من الله تعالى 98

الاستشهاد برواية عيون أخبار الرضا (علیه السلام) على العدل التكويني 100

ص: 175

الفصل الرابع

الدعائم /103

دعائم الإمامة والقيادة الربانية العظمى 105

البصيرة الثانية عشرة: دعائم الإمامة والقيادة 105

دعائم الدور الإبراهيمي (علیه السلام) 106

دعائم الدور المحمدي(صلی الله علیه و آله) 109

دعائم دور الصديقة فاطمة (علیها السلام) 109

دعائم دور الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) 110

دعائم دور الإمام الحسين (علیه السلام) 112

احتياج الدعائم الى الترسيخ والتجذير والتطوير 113

الشعائر الحسينية ومناهج التعليم المتطورة 115

التعليم التقليدي للحج, والتعليم المتطور 117

الشعائر الحسينية في أجواء معركة الطف والمنعكس الشرطي 118

فلسفة التكرار في القرآن الكريم 119

اشكال واهٍ: يضحكون منا! 121

استدلال سقيم: إنها تخلف ورجعية! 122

نموذج مذهل من غسيل دماغ شبابنا 123

ص: 176

نموذج غريب آخر! 124

في الختام 125

الفصل الخامس

الابتلاءات والمحن /127

الإبتلاء في الأديان والأبدان، ومع السلطان 129

البصيرة الثالثة عشرة: 129

المحور الأول: أطلاقات الابتلاء 129

المحور الثاني: انواع الابتلاء 132

البصيرة الرابعة عشرة: 1) الابتلاء في الأبدان و الأديان 132

دعاوى المهدوية والشهادة الشيطانية 132

من خصال الأنبياء (علیهم السلام) وأتباعهم 134

الابتلاء بالفقر 135

الابتلاء بخوف السلطان 136

جهاد إبراهيم (علیه السلام) مع الروم 137

الجهاد ضد داعش والإرهاب 138

الإمام الحسن (علیه السلام) والابتلاء بالسمعة والمكانة 140

رضا الله أو ثناء الناس! 141

ص: 177

اهتداء أحد السلفية بسبب روايات سب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) 142

لا تخافوا من التهم أو المقاطعة! 143

إبتلاء إبراهيم (علیه السلام) بالمقاطعة الاجتماعية 144

مواجهة الإمام الحسن (علیه السلام) الشديدة لمعاوية 146

الابتلاء بتسفيه الآراء والتشكيك في الانتماء 149

أولاً: تسفيه الآراء 149

أ- الطوباوية 149

طوباوية الدعوة الى إسقاط الحدود الجغرافية! 150

طوباوية الخروج للإصلاح في أمة محمد(صلی الله علیه و آله)! 151

ب - الخرافية 152

الشعائر الحسينية ثلاثية الأبعاد : فكر وعاطفة وموقف 153

التهم المزدوجة للرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والقرآن الكريم 155

ثانياً: التشكيك في الانتماء 158

تخوين المصلحين واتهامهم بالعمالة 159

السيد الكاشاني وامتحان التخوين والعمالة 160

اتهام شيخ الموحدين (أبو طالب (علیه السلام)) بالكفر 161

ناصبيٌّ يتهم الإمامين العسكريين علیهم السلام بقلة العلم! 162

مواجهة التهم وتسفيه الآراء بالكلمات الإبراهيمية (الشجاعة والحلم) 162

ص: 178

الإمام الحسين (علیه السلام) في موقف فريد من مواقف الكرم 164

من حلم العلماء في مواجهة الجهلاء 165

خاتمة /167

حِكَم الابتلاء الالهي 167

الاختبار ليتَضح له الحال 167

الاختبار ليوضّح له الحال 167

الاختبار ليوضّح للناس الحال 168

الاختبار للاقتداء 168

الاختبار للتكامل 169

دلالة كلمة «ربه» والجزاء 170

الفهرس 171

ص: 179

كتب اخرى للمؤلف

(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) - مطبوع.

الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

الأصول مباحث القطع، مخطط.

إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

الاقتصاد الاسلامي المقارن، مطبوع.

الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

بحوث في العقيدة والسلوك، مطبوع.

تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط.التبعيض في التقليد، تحت الطبع.

تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

ص: 180

التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

توبوا إلى الله، مطبوع.

الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

الحوار الفكري، مطبوع.

الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

خلق لكم ما في الأرض جميعا (الأرض للناس لا للحكومات), تحت الطبع.

دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

رسالة في أسلمة العلوم الإنسانية – مطبوع.

رسالة في الحق والحكم، التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.

رسالة في السيرة العقلائية - مخطوط.

رسالة في شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات - مخطوط.

رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في

ص: 181

النجف الأشرف، مخطوط.

رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

السرقفلية (حق الخلو) موضوعاً وحكماً .

السلطات العشر والبرلمانات المتوازية ، مطبوع.

سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.السيد نرجس (علیها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

شعاع من نور فاطمة الزهراء (علیها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، مطبوع.

شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث أصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل، مطبوع.

فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

فقه المكاسب - مباحث البيع، مخطوط.

فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

ص: 182

فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، تحت الطبع.

فقه المكاسب المحرمة- مباحث الرشوة، مطبوع.

قاعدة اللطف، تحت الطبع.

قولوا للناس حسنا ولا تسبوا - تحت الطبع.

القيمة المعرفية للشك - مطبوع.

كونوا مع الصادقين، مطبوع.

لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ, بحث فقهي عن المكاسب المحرمة، على ضوء الآية الشريفة, تحت الطبع.

لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

مباحث الأصول: (الحكومة والورود)، تحت الطبع.

مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

ص: 183

مباحث الأصول، التعارض - مخطوط.

المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد (بحوث تمهيدية)، مطبوع.

المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

مقتطفات قرآنية، مطبوع.مقدمات الاجتهاد والاستنباط وشروطه.

ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

وجيزة في التقليد - مطبوع.

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 184

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.