دروس في التفسير والتدبر اهدنا الصراط المستقيم

هویة الکتاب

دروس في التفسير والتدبر اهدنا الصراط المستقيم

محاضرات سماحة السید مرتضی الحسیني الشیرازي

الطبعة الثانية

1443 ه- 2022 م

منشورات: مؤسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

حقوق الطع محفوظة

اهدنا الصراط المستقيم

الطبعة الثانية

1443 ه- 2022 م

منشورات: مؤسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshiaazi.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿1﴾

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿2﴾ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿4﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴿7﴾

ص: 4

اَللّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَعَلى آبائِهِ فی هذِهِ السّاعَةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلیلاً وَعَیْناً حَتّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً.

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

المقدمة

اشارة

موضوع البحث ونطاقه هو: الآية القرآنية الكريمة: «اهدِنَا الصّ-ِرَاطَ المُستَقِيمَ» في دوائر أربعة (الهداية) و(الصراط) و(الاستقامة) و(الحجج على الصراط المستقيم).

غاية البحث: التعرف على مراحل الكمال والإرشاد إلى أنواع التكامل لكل مؤمن مهتدٍ، والمخاطر التي يواجهها المؤمنون والمهتدون في الحياة والتي يحتاجون فيها إلى طلب الهداية من الله تعالى.

وأيضاً: الحجج التي يمكن الركون إليها في الوصول إلى الحقائق الميتافيزيقية وأهمها وجود الخالق جل اسمه ووحدانيته وعدله وبعثه للرسل إضافة إلى سائر

ص: 7

مسائل أصول الدين.معضلة البحث: هي إن طلب الهداية من المهتدي بالفعل، هي طلب للحاصل، فلماذا نطلب الهداية من الله تعالى ما دمنا مهتدين بالفعل وما هي وجوه ذلك؟ وإن الحجج في الشؤون العقائدية قد لا تكون عقلية قطعية دائماً، فهل هنالك أنواع أخرى من الحجج وهل هي كافية ومؤمِّنة؟!

منهج البحث: تحليلي - فلسفي - لغوي وتاريخي، إضافة إلى كونه تربوياً - اخلاقياً، وهو يمزج بين المنهجين العقلي والنقلي في مباحثه كما يستخدم المنهج المنطقي القياسي للاستدلال على بعض مسائله أو للإرشاد إلى بعض مطالبه، كما اعتمد على الدلالات المتنوعة المنطقية - الأصولية، كالدلالة الالتزامية ودلالة الاقتضاء ودلالة التنبيه والإيماء أو الإشارة وشبه ذلك، وهو منهج علمي بالأساس مع تطعيمه بحوادث وقصص توجيهية تربوية.

هيكليته: تضمن الكتاب فصولاً وبحوثاً أهمها: ضرورة طلب الهداية من الله تعالى في مرحلة العِلّة المبقية، وللدرجات العليا، وفي القضايا المستحدثة والمواقف الصعبة.

وأيضاً: الهداية التكوينية والشهودية.

كما تطرق إلى أنواع الحجج والأدلة ومنها: الأدلة العقلية والعقلائية والعلمية والتجريبية، وأنواع أخرى مثل رهان باسكال ونظرية پلانتينگا في الروبوت المتطور والذكاء الصناعي وفلسفة الذهن والأذهان الأخرى.

مراجعه ومصادره:

اعتمد البحث على المراجع الأساسية في تفسير القرآن الكريم وفي مصادر الحديث، إضافة إلى بعض المصادر الكلامية والعلمية ذات الصلة بمحور البحث،

ص: 8

إضافة إلى أنه اعتمد - بشكل كبير - على منهج التدبر في القرآن الكريم والتفكر فيه واستنطاق آياته ودلالاته الخفية.

التمهيد

اشارة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»(1).

الكون في معادلةِ ثنائيّةِ الظاهرِ والباطنِ

إن هذه الآية القرآنية الكريمة: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» تعدّ من الآيات الظاهرة الدلالة الواضحة المقصود الجلية المعنى إلى أبعد الحدود، لكنّها - وهنا المفارقة الملفتة - تختزن بحراً من الأسرار والغوامض والمعاني والبطون، كما تستدعي الكثير الكثير جداً من البحوث الكلامية والفقهية والفلسفية والاجتماعية والنفسية والتاريخية وغيرها.

والغريب في الأمر أن كافة ما خلقه الله تعالى في عالم التكوين، ككافة آياته المفصلة في عالمي التشريع والإخبار، تتميّز بهذا الثنائي المزيج المتفرد من وضوح الظاهر وعمق الباطن:

ف(النور) - مثلاً - هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره لكنه وراء ظاهره المشرق الظاهر بنفسه يختزن بحراً من الحقائق والأسرار التي لم يصل البشر إلا إلى جزء بسيط منها فقط.

وكذلك (الزمن) الذي نعيشه لحظة بلحظة فإنه في شدة ظهوره لنا غامضٌ مبهمٌ مجهولٌ حتى اختلفت الأقوال فيه إلى أكثر من عشرة ومع ذلك لم يُعلم ما هو كنهه وجوهره إلا بإشارات هي في واقعها سطحية وإن بدت عميقة علمية.

بل وكذلك كل شيء: الأرض والمياه والأشجار، والشمس والقمر

ص: 9


1- سورة الفاتحة: 6.

والسحاب والحجر والمدر، فكلها تختزن في باطنها أسراراً لا تنتهي؛ والعلم رغم تطوره المذهل في علم الذرة والأمواج والجينات الوراثية والفيزياء والكيمياء، لم يقف حتى الآن إلا على العتبة الأولى من ما لا يتناهى من درجات الوصول إلى أعماق تلك الحقائق.

العلوم الأربع: ظاهر الدنيا والآخرة وباطنهما

والآية الكريمة: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(1) تشير إلى ذلك بنحو مذهل إذ يستنبط منها أن للعلم أضلاعاً أربعة، وإن البشر لا يعلمون إلا بعض إحدى تلك الأضلاع فقط، والعلوم هي: أ - علم ظاهر الحياة الدنيا. ب - وعلم باطنها. ج - وعلم ظاهر الحياة الآخرة. د - وعلم باطنها.

والبشر يعلمون بعض ظاهر الحياة الدنيا فقط لمكان (من) التبعيضية في قوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» فلا يعلمون من باطنها شيئاً كما لا يعلمون من الآخرة شيئاً لا من ظاهرها ولا من باطنها، وقوله: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ...» يقابله ما لو قال: (ظواهر الحياة الدنيا أو كل ظاهر حياة الدنيا).

وعوداً إلى الآية الشريفة: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» فإننا نجد أن ظاهر الآية واضح جداً وهو الدعاء بأن يهدينا الله تعالى إلى الصراط المستقيم، ولكنّ وراء هذا الظاهر تكمن العشرات من الحقائق والدقائق واللطائف والبحوث، وسنشير في هذا الكتاب إلى بعض ما تيسر منها.

ص: 10


1- سورة الروم: 7.

الفصل الأول : بحوث عن الهداية

اشارة

ص: 11

ص: 12

البحث الأول: طلب الحاصل محال فكيف يطلب المؤمن الهداية؟

اشارة

قد يثار عند التدبر في الآية الشريفة تساؤل هام وهو إن تحصيل الحاصل محال، وأما طلب الحاصل فلغو بل قد يقال باستحالته من الملتفت إلى حصوله، فإنك إذا كنت جاهلاً بالمسألة صح أن تقول للمعلم: علِّمني المسألة، أما إذا كنت عالماً بها فلا يصح حقيقةً أن تقول: علّمنيها، إلا مجازاً أو مجاملةً أو توريةً أو شبه ذلك، وكذلك إذا كنت مريضاً صح أن تقول للطبيب عالجني أو إسعَ لشفائي، أما إذا كنت صحيح الجسم معافى فان من اللغو ان تقول للطبيب: عالجني أو إسعَ لشفائي، وكذلك إذا كنت خارج السيارة أو الطائرة صحّ ان تقول: أركِبني أو أدخِلني، ولا يصح ذلك بالبداهة إذا كنت داخل الطائرة أو السيارة، فطلب الحاصل لغو بل هو محال من الملتفت بمعنى أن الطلب الحقيقي محال ولو صدر فإنما هو صورة طلب وليس بواقع الطلب وحقيقته.

وفي الآية الشريفة التي نقرأها كل يوم على الأقل عشر مرات في الصلوات، والكثير يقرأها في النوافل وغيرها مراراً كثيرة جداً، فإن الذي يدعو بهذا الدعاء: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» لو كان هو الكافر لصح منه ومن الضالّ عن الإمامة مثلاً، لكن كيف يقرأها ويتلوها ويدعو بها المهتدي إلى الصراط المستقيم؟ ذلك أن المفروض إن المؤمن بأصول الدين بدءً بالتوحيد ومروراً بالعدل والنبوة والإمامة

ص: 13

ووصولاً للمعاد هو مهدي للصراط المستقيم البتة، فكيف يدعو هذا الإنسان ويسأل من الله تعالى بأن يهديه إلى الصراط المستقيم؟

بل إن هذا الدعاء يدعو به وهذا الآية يقرأها حتى الأولياء بل وحتى الأئمة ورسوله الله(صلی الله علیه و آله) ودعاؤهم حقيقي وليس مجرد لقلقة لسان أو صورة دعاء! فما هو إذاً معنى هذا الطلب الذي يجب علينا (وعلى جميع المسلمين والمؤمنين) أن نكرره كل يوم في الصلوات الخمس؟ وكيف يمكن حل المعضلة؟!هنالك إجابة أولى معروفة عن هذا السؤال وإجابة ثانية ذكرها البعض، وقد خطرت بالبال أجوبة أربعة أخرى استنطقنا في بعضها لسان الروايات الشريفة، ولعل الباحث يجد في استقراء أوسع ذِكراً لبعضها، فتبلغ ستة أجوبة، وكل هذه الأجوبة مفتاحية جوهرية رئيسية ومصيرية أيضاً:

أولاً: طلب الهداية في مرحلة العِلّة المبقية

اشارة

الجواب الأول: إن «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» هو دعاء وطلب للهداية في مرحلة العِلّة المبقية، والمراد طلب الديمومة والاستمرارية في البقاء على الصراط المستقيم وليس الكلام عن العِلّة المحدثة فإنها الحاصلة، أما المبقية فغير حاصلة لذا احتاجت إلى طلب ودعاء وإلحاح، وتوضيح ذلك:

إن الهداية كسائر مخلوقات الله تعالى من الرزق والعمر والوجود كله، مما تحتاج إلى الإفاضة آناً فآناً، فهي كنهر الماء المتجدِّد الذي ظاهره يشكّل أمراً واحداً لكنه في واقعه ما لا يعد ويحصى من القطرات إذ تمرّ عليك وأنت واقف تتطلع إلى النهر في كل لحظة قطرات جديدة ومياه جديدة يتصورها الساذج أمراً واحداً ممتداً ولا غير؛ والإنسان المهتدى بالفعل إلى الصراط المستقيم والمؤمن بالفعل بالله ورسوله وأنبيائه وأوصيائه، قد لا يبقى كذلك وقد لا يعلم أنه سيبقى على الإيمان بعد شهر

ص: 14

أو حتى بعد أسبوع بل حتى بعد يوم بل بعد ساعة بل حتى بعد لحظة.

ويشهد لذلك: إننا كثيراً ما نجد الشخص المؤمن يسقط سقوطاً مدوِّياً في ثانية واحدة - أعاذنا الله وإياكم - في امتحان مالٍ (ورشوة واختلاس أو ربا أو غير ذلك) أو منصب أو شهرة أو شهوة أو نزوة أو غير ذلك، وما قصة بلعم بن باعورا منكم ببعيدة: «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1).

وذلك يعني أنه لا ضمان أبداً للمؤمن سابقاً وفي الحال الحاضرة، أن يبقى مؤمناً في مستقبل الأيام والأعوام.. فاستدعى ذلك ضرورة الدعاء بل والإلحاح بالدعاء بأن نقول ونكرر: «اهدِنَا

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» والتي تعني - حسب الوجهالأول - اهدنا في اللحظات الآتية إلى الصراط المستقيم كما هديتنا إليه في الماضي والحاضر، أي أَدِم لنا هذه النعمة الكبرى.

وذلك هو صريح كلام الإمام العسكري (علیه السلام) قال فِي قَوْلِهِ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ»، قَالَ: «يَقُولُ: أَدِمْ لَنَا تَوْفِيقَكَ الَّذِي بِهِ أَطَعْنَاكَ فِي مَاضِي أَيَّامِنَا حَتَّى نُطِيعَكَ كَذَلِكَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِنَا...»(2).

وفي القضية التالية أكبر العبرة والدلالة على ذلك:

قصة القاضي الذي مات ضميره بعد الإعدامات!

فقد نقل أحد القضاة المعاصرين أنه ذات مرة كان على وشك السفر للحج، وكانت لديه ملفّات عديدة ينبغي أن يبتّ الأمر فيها، وقد حاول أن

ص: 15


1- سورة الأعراف: 176.
2- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص44.

يكملها قبل السفر، وفي ليلة السفر أكمل على عجل مطالعة إحدى الملفات وتوصل إلى أن ذلك الشخص يستحق الإعدام فوقّع عليه وأعطى الملفّ لمساعده ليوصله للجهات المعنية لينفّذ بحق المتهم حكم الإعدام.

يقول القاضي: سافرت غد ذلك اليوم إلى مكة المكرمة وفي الطريق وأنا في الطائرة استرجعت ما قرأته في الملف عن ذلك الشخص فاكتشفت أنني تعجلت في اتخاذ القرار وأنه كان يجب عليَّ التريث أكثر ودراسة القضية بتأنِ وتروّ إذ بدت لي بعض النقاط غير واضحة الدلالة وبحاجة إلى تحقيق أكثر، فعزمت على أن أبرق فور وصولي إلى مكة بأنني أعدت التفكير في الأمر وتوقفت في الحكم، لذلك فإنني اسحب حكمي، فإما أن تحوّلوا الملف إلى قاضٍ آخر ليعيد النظر فيه، وإما أن تنتظروني ريثما أرجع لأعيد النظر فيه من جديد؛ لكنني - والكلام للقاضي - ويا للهول نسيت عندما وصلت وانشغلت بالزيارة ومن ثم أعمال الحج، وعندما رجعت سألت عنه فقالوا إنه أعدم!

يقول القاضي: آلمني ذلك بشدة، وظل وجداني يؤرقني لأشهر طويلة ولم يهنأ لي طعام ولا شراب، ولكن وبمرور الزمن بدأ صوت الوجدان يخبو ويخفت، ثم تراكمت عليَّ الملفات في قضايا كثيرة مختلفة، وفي إحداها ضغط عليَّ المسؤول لأوقّع بالإعدام، ولكنني لم أكن مقتنعاً تماماً فازداد الضغط وخفت أن أفقد المنصب فوقّعت، ثموقّعت على حكم إعدام ثانٍ كذلك.. فثالث .. فرابع.. وهكذا استمر الحال وأنا أوقّع بضغط شديد من بعض القوى الثورية، ولكن من غير اقتناع تام.

يقول القاضي: والآن - وأنا أفكر - أجد في ملفاتي حوالي عشرين حكماً بالإعدام لا أعلم أنهم كانوا يستحقونه بالفعل أم لا!! ورغم فداحة الأمر إلا أن وجداني لم يعد يصرخ في وجهي حتى ظننت أنه قد مات تماماً بتكرر هذه الجرائم

ص: 16

ولم أعد أستشعر وخزات الضمير إلا بشكل عابر لا يصل حتى إلى عُشر معشار تأنيب ضميري في القضية الأولى.

أقول: وكذلك حال المعاصي كافة فإن الشخص إذا أغواه إبليس فوقع في جريمة الزنا أو عمل قوم لوط لا سمح الله فإن ضميره يؤنبه بشدة، ثم إذا تكرر منه العمل زال قبحه بالتدريج ثم يزين له الشيطان عمله حتى أنه قد يعود ليجترح السيئات وضميره اشبه شيء بالأموات!

وكذلك الرشوة والربا والغيبة والتهمة والنميمة فإنه في أول الأمر لعله لا يكاد ينام الليل إذا اجترح تلك السيئة لكنه بمرور الزمن يتحول إلى: «كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(1) ويكون ممن «أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا»(2) وتتغير شاكلته النفسية فيتحول إلى كتلة من الشر المتجسّد فتراه لا يكاد يمكنه أن يعيش إلا في مستنقع السيئات - أجارنا الله وإياكم من ذلك -.

لنكن حسّاسين جداً تجاه حُسن أو سوء العاقبة

ومن ذلك نعرف ضرورة أن نكون في غاية الحساسية تجاه حُسن العاقبة وسوءها لا سمح الله وأن لا نركن إلى مجرد الاستصحاب أبداً في إيماننا، فإن الاستصحاب نافع في الأصول والفقه، أما في الإيمان وأصول الدين فلا يجدي الاستصحاب أبداً بل لا بد من قيام الدليل والعِلّة التامة للديمومة والتي تتوقف فيما تتوقف على الإلحاح في الدعاء ب«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

ص: 17


1- سورة الروم: 59.
2- سورة فاطر: 8.

وقد ورد في دعاء يوم عرفة: «يَا تَوَّابُ تُبْ عَلَيَّ وَاقْبَلْ تَوْبَتِي يَا مَوْلَايَ حَاجَتِيَ الَّتِي إِنْ أَعْطَيْتَنِيهَا لَمْ يَضُرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي وَإِنْ مَنَعْتَنِيهَا لَمْ يَنْفَعْنِي مَا أَعْطَيْتَنِي فَكَاكَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ»(1) وهذا الدعاء عظيم عظيم إلى أبعد الحدود وهو عين الواقع والحقيقة فإن الدنيا أيام معدودة والآخرة بلا حدود كماً وكيفاً وجهةً، فلو تمتع الإنسان بكل شيء من: الأموال الطائلة والثروات المتنوعة والبنين والبنات والعلم الوفير والشهرة والرياسة وكرم المحتد والعشيرة القوية وغير ذلك، لكنه فقد حُسن العاقبة، فإنه لا ينفعه ما حصل عليه أبداً إذ الدنيا تنقضي بسرعة: «وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ»(2) و«وَمِن

وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ»(3)؛ وبالعكس لو حرم الإنسان كل شيء وابتلي بالأمراض والأعداء والفقر والفاقة ثم رزق ب«جَنَّةٍ

عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(4) لما ضرّه ذلك شيئاً مادام مصيره هو «فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ»(5) حيث «لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(6).

ثانياً: طلب الهداية إلى الدرجات العليا

اشارة

الجواب الثاني: إن المراد ب«اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» الهداية إلى الدرجات العليا من المعرفة والورع والتقوى والطاعة، وذلك لأنه قد ورد في العديد من

ص: 18


1- كتاب المزار: ص159/ مصباح المتهجد: ص194.
2- سورة النحل: 77.
3- سورة إبراهيم: 17.
4- سور آل عمران: 133.
5- سورة الواقعة: 89.
6- سورة السجدة: 17.

الروايات تفسير الصراط المستقيم ب(المعرفة) أو (الطريق إلى المعرفة) أو شبه ذلك، ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «الطريق ومعرفة الإمام»(1) وفي رواية أخرى: «هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمَا صِرَاطَانِ صِرَاطٌ فِي الدُّنْيَا وَصِرَاطٌ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا الصِّرَاطُ الَّذِي فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْإِمَامُ الْمَفْرُوضُالطَّاعَةِ، مَنْ عَرَفَهُ فِي الدُّنْيَا وَاقْتَدَى بِهُدَاهُ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي الدُّنْيَا زَلَّتُ قَدَمُهُ عَنِ الصِّرَاطِ فِي الْآخِرَةِ فَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(2).

و(المعرفة) حقيقة تشكيكية ذات مراتب، وكذلك التقوى والورع، والطاعة أيضاً هي الأخرى أنواع ومراتب، فكل مرتبة عليا فهي صراط مستقيم وقد ورد من وصايا الإمام الباقر (علیه السلام): «وَسُدَّ سَبِيلَ الْعُجْبِ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفْسِ بِصِحَّةِ التَّفْوِيضِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَامِ الْقَلْبِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخَطَأ»(3) كما قيل: (اوَّلُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةُ الْجَبَّار وَآخَرُ الْعِلْمِ تَفْويضُ الْأمِرِ إلَيْهِ) والمعرفة تشير إلى العقل النظري والتفويض يرتبط بالعقل العملي، ومن الواضح اختلاف مراتب معرفة الله تعالى كما أن الناس في تفويضهم أمورهم إليه على درجات ومراتب أيضاً.

لنكن في حركة دائمة نحو الكمال

وذلك كله يعني أنّ على المؤمن أن يكون في حركة دائمة نحو الكمال وأن يصعد ويرتقي من مرتبة من مراتب الصراط المستقيم إلى مرتبة أخرى يوماً بيوم وساعة بساعة، وذلك يستدعي أن يتحول ذلك إلى هاجس في النفس كما يحتاج إلى رقابة مستمرة لدرجات القرب التي يحظى بها الإنسان ومراتب المعرفة

ص: 19


1- تفسير القمي: ج1 ص28.
2- معاني الأخبار: ص32.
3- تحف العقول: ص284.

والتقوى وحدود الطاعة التي يتميز بها، وإلا فقد يجد رجل الدين أو الشاب الجامعي أو الطبيب والمهندس نفسه بعد فترة طويلة وهو واقف على نفس المستوى المعرفي الذي كان عليه قبل سنة أو خمس سنوات مثلاً أو بنفس درجة التقوى أو الالتزام الديني والطاعة، هذا إذا لم يتدهور وضعه بمرور الأيام وبتوالي الامتحانات الإلهية عليه في محطات مختلفة.

خطر التراجع الروحي على طالب العلم

والملفت للنظر أن طالب العلم عندما يأتي إلى الحوزة العلمية يأتي بصفاء لا نظير له وبروح إيمانية ورغبة جارفة في أن يتحول إلى ولي من أولياء الله، ولكنّ بعضهم - وبمرور الزمن - وبتراكم انشغالات الحياة وبالانشغال ببعضالعلوم الهامشية أيضاً، تجده يفقد أَلَقه وصفاءه شيئاً فشيئاً ويعود وهو لا يستشعر كما ينبغي لذة المناجاة عندما يصلي صلاة الليل أو حتى في صلواته اليومية، أو يجد نفسه لا يستشعر عمق الخوف من الله تعالى، بل قد نجد البعض يتورط شيئاً فشيئاً في غيبة هذا وذاك بعذر أو آخر وإذا به يستمر في مسيرة الغيبة والنميمة وقد لا يخلو يوم من أيامه إلا وهو مجترح لهذه الكبيرة أو تلك، أعاذنا الله من ذلك.

والحاصل: إن على الإنسان أن يكون حساساً جداً ليس فقط تجاه البقاء على نفس المستوى الإيماني السابق بل وحساساً جداً على أن يتجذّر إيمانه ويتعمّق وأن تزداد معرفته بالله ورسله وأوصيائهم وتتوسّع.

شواخص التقدم معرفياً ومعنوياً

وكما نجد في الدراسة الحوزوية أو المدرسية ضابطاً تتميز عَبرَهُ مراحلُ النمو والتقدم من الصف الأول إلى الثاني إلى العاشر وهكذا، فإنه يجب أن يضع المرء لنفسه ضابطاً معرفياً وضابطاً معنوياً أيضاً.

ص: 20

والضابط المعرفي هو: ما يمكن قياس مدخلاته ومخرجاته، فمن شواخصه مثلاً أن يطالع يومياً على الأقل آية ورواية واحدة في أصول الدين بتدبر وإمعان وتفكر واعتبار، ويمكنه اتخاذ (مرآة العقول) مصدراً أساسياً له.

والضابط المعنوي: أن يراقب نفسه كل يوم: فكم مرةً استحضر رقابة الله تعالى عليه في هذا اليوم؟ وهل ازداد من الله تعالى خوفاً؟ وهل ازداد له - من جهة أخرى - حُبّاً؟

والاستمرار على ذلك صعب جداً، فإن الحالات المعنوية هي كالزئبق سريعة الانفلات فتحتاج إلى رقابة دائمة مستمرة وإلى دعاء مستمر مؤكد ب:«اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» فكما أن أصل الهداية وحدوثها كان من الله تعالى، فكذلك درجاتها ومراتبها فإنها لا تكون إلا بلطف منه وبجوده وكرمه إلا أن سعي العبد لذلك ضروري إذ ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام): «أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً وَجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً وَجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً وَجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) وَنَحْنُ»(1) وقد جرت سنته تعالى على: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى»(2) فكلما اهتديت إلى مرتبةٍودرجةٍ ونوعٍ زادك الله تعالى ورفعك إلى نوعٍ ومرتبةٍ ودرجةٍ أخرى، فإذا عرفت قيمة هذه النعمة الجديدة وشكرتها بالقول والعمل وبذلت جهداً أكبر زادك الله أكثر فأكثر.

إننا عندما نكرر: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» فإننا نطلب، إضافة إلى أن يمنّ الله تعالى علينا بديمومة الهداية للصراط المستقيم، الهداية إلى الدرجات العليا من الهداية للصراط المستقيم وإلى أن نرتقي يوماً بيوم في مدارج الكمال الروحي

ص: 21


1- الكافي: ج1 ص183.
2- سورة مريم: 76.

والسمو النفسي والقرب إلى الله تعالى أكثر فأكثر.

ولو أننا عرفنا اللذة الروحية العظمى التي يحظى بها أولياء الله وهم في الدرجات العليا من القرب إلى الله والمعرفة، لاستصغرنا أنفسنا إلى أبعد الحدود، ويكشف عن ذلك إن الإنسان ليستشعر التضاؤل إذا وقف أمام أحد أولياء الله، تصوروا أنكم لو اكتشفتم فجأة أن جاركم أو زميلكم أو هذا العالم أو ذلك الخطيب أو هذا المزارع أو البقال أو الخادم هو ولي من أولياء الله تجري الكرامات على يديه، وأنه ينظر مثلاً بالعين البرزخية وأنه يعلم علم المنايا والبلايا كما كان سلمان المحمدي (رضوان

الله عليه) يعلم، وأنه يقرأ في جبينكم كل مراحل حياتكم ومسيركم ومصيركم، ألا تحسون حينئذٍ بتضاؤل كبير؟ وألا تشعرون له بإكبار وإعظام منقطع النظير؟

وتصوروا أنكم لو كشف لكم الغطاء مثلاً فجأة فوجدتم أن أحد من تعرفون في المسجد أو المدرسة أو الحسينية، عندما يسبِّح تُسبِّح معه السماوات والشمس والقمر والأرض والجبال والأشجار والأقمار والأطيار؛ فأية هزة روحية عنيفة تعتريكم وأنتم تشاهدون ذلك المنظر؟!

ثالثاً: طلب الهداية التكوينية

اشارة

الجواب الثالث: إننا عندما نكرر «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» فإننا نطلب بذلك من الله تعالى الهداية التكوينية بعد الهداية التشريعية، أي إننا بعد الاهتداء إلى طريق الحق وتمييزه عن الباطل وإلى الواجب والحرام والهدى والضلال، نطلب أن يتفضل الرب علينا بالهداية التكوينية أيضاً.

من تجليات الهداية التكوينية، التوفيق، عكس الخذلان

وللهداية التكوينية معانٍ وتجليات، ومنها التوفيق الذي يقابله الخذلان.

وتوضيح ذلك: إن الهداية على قسمين:

ص: 22

الأول: إراءة الطريق.

الثاني: الايصال إلى المقصود.

فقد يسألك أعمى عن الطريق فتقول له مثلاً: إتجّه نحو اليمين ثم واصل المسير بمقدار ألف خطوة ثم انحرف يساراً؛ وهكذا فهذا هو إراءة للطريق، وقد تمسك بيده حتى توصله إلى المقصود.

والإنسان بحاجة إلى كلا القسمين من الهداية، والقسم الأول قد تحقق بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبالقرآن الكريم وكلمات المعصومين (علیهم السلام) فبمجرد وجود القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية وسائر الأحاديث، بيننا تكون قد تمّت الحجة علينا وجرى الإبلاغ النوعي وإراءة الطريق، ولكن هل يكفي ذلك لكي نكون من أولياء الله؟ بل هل يكفي لأن يهتدي بذلك أكثر الناس؟ والجواب كلا! ألا ترون أن أكثرنا لم يقرأ الصحيفة السجادية كلها طوال عمره بتدبر وإمعان؟ وألا ترون أكثرنا لم يقرأ نهج البلاغة بدقة واستيعاب؟ بل ألا ترون أكثرنا لم يقرأ القرآن الكريم بتبصر وتفهم؟ لماذا؟ فمع أننا نذعن بأن هذه الكتب هي أعظم الكتب المقدسة على الإطلاق ونؤمن بأن فيها مفاتيح النجاح في الدنيا ومفاتيح الفلاح في الآخرة، مع ذلك قد تمضي علينا عشرون سنة أو خمسون أو ستون ونحن لم نقرأها لا لعدم قدرتنا على القراءة مثلاً بل للانشغال بهوامش الحياة الدنيا: من الحضور في مجالس البطالين، إلى مشاهدة البرامج التلفزيونية، إلى الزيارات المطولة غير الضرورية، إلى التسكع في المحافل أو الشوارع أو الأسواق، وإلى النوم غير الضروري والسفرات الترفيهية، إلى غير ذلك!

لماذا ننشغل بالهوامش، ونتناسى أعظم الكتب المقدسة؟

فلماذا إذاً نترك بذل الوقت على أعظم الجواهر الربانية لننشغل بغير المهم بل حتى بالتوافه من الأمور؟ لماذا؟! هل لأننا لا نعلم؟ كلا! هل لأننا

ص: 23

شاكّون؟.. كلا! هل لأن البدائل التي تفوّت علينا قراءة القرآن والنهج والصحيفة والتدبر فيها هي بدائل اضطرارية لو لم ننشغل بها لهجم العدو علينا مثلاً واحتل بلادنا وسفك دماءنا؟ أو هل لأننا لو انشغلنا بها لأدى ذلك إلى تهشّم عظامنا وقطع أيدينا وفقأ أعيننا؟ كلا ثم كلا، وكما هو واضح، بل إننا نعلم بأن القارئ للقرآن والنهج والصحيفة بتدبّر وتبصّر وتفكّر واعتبار يكون الأفضل والأكمل، ويكون هو الحائز على المكرمات من أطرافها، ويكون هو الأقرب لأن يحظى بالأمن والحفظ والتقدم والازدهار.

فلماذا - إذاً - نجد أكثرنا معرضاً عن الانكباب، ولو ساعتين يومياً، على القرآن والنهج والصحيفة وتحف العقول وأصول الكافي والاحتجاج وشبهها؟ الجواب ما ذلك - في معظمنا - إلا للخذلان وسلب التوفيق، والتوفيق هو الهداية التكوينية التي يدور الحديث عنها الآن ونطلب من الله تعالى بإلحاح أن يمنحناه في دعائنا بإصرار إذ نكرر ثمّ نكرر الدعاء: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» أي هدايةً تكوينية بالتوفيق لما تحب وترضى إضافة للهداية بمجرد إراءة الطريق.

إشارة لفقه رواية الإمام الصادق (علیه السلام)

وفي رواية الإمام الصادق (علیه السلام) الآتية إشارات عديدة للمعاني السابقة:

قال: «قَالَ يَقُولُ أَرْشِدْنَا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَرْشِدْنَا لِلُزُومِ الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَحَبَّتِكَ وَالْمُبَلِّغِ إِلَى دِينِكَ وَالْمَانِعِ مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ أَهْوَاءَنَا فَنَعْطَبَ أَوْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلِكَ»(1).

فقوله (علیه السلام): «أَرْشِدْنَا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ» إشارة للهداية بمعنى إراءة الطريق.

ص: 24


1- معاني الأخبار: ص33.

وقوله (علیه السلام): «أَرْشِدْنَا لِلُزُومِ الطَّرِيقِ» إشارة للعلّة المبقية والديمومة على الهداية وقد يكون قوله (علیه السلام): «الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَحَبَّتِكَ وَالْمُبَلِّغِ إِلَى دِينِكَ» إشارة للمراتب التشكيكية للعليا والإرشاد لها مرة بعد أخرى نظراً إلى أن محبة الله تعالى ذات مراتب لا متناهية وان البلوغ إلى دينه درجات وأنواع، فلزومه مساوق للتكامل والصعود والترقي دائماً وأبداً. فتأملولعل قوله (علیه السلام): «وَالْمَانِعِ مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ أَهْوَاءَنَا فَنَعْطَبَ أَوْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلِكَ» إشارة للهداية التكوينية لظهور قوله (علیه السلام): «المَانِعِ» فيها لكن لا عن جبر بل مع حفظ الاختيار وهو المسمى بالتوفيق فانه مانع اقتضائي وليس علّياً.

ولعلنا نفصّل الكلام عن هذه الرواية ونظائرها لاحقاً بإذن الله تعالى.

الشيخ المفيد (رحمه الله) والرؤيا المذهلة

ولنختم بقصة شهيرة تكشف جانباً من الهداية التكوينية الإلهية والتوفيق الرباني:

فلقد كان الشيخ المفيد (قدس سره) من أعظم علماء الإسلام بل لعله كان في زمانه الأفقه الأعلم وكان زعيم الشيعة في وقته، وذات ليلة شاهد في المنام السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تدخل عليه وهي آخذة بيديها الكريمتين الحسن والحسين (صلوات الله عليهما أجمعين) ثم قالت له: يا شيخ علّمهما الفقه!

استيقظ الشيخ المفيد (رحمه الله) وهو منذهل لهذه الرؤيا ومتحير في تأويلها إذ ما معنى أن تطلب منه بضعة الرسول(صلی الله علیه و آله) ان يعلّم الحسن والحسين علیهما السلام الفقه؟ وظلّ الشيخ المفيد (رحمه الله) حائراً متفكراً، ثم ذهب صباحاً إلى المسجد الذي كان يدرّس فيه العلماء في منطقة الكرخ ببغداد، وبينما هو منشغل مع الطلاب والناس، وإذا بإحدى العلويات المعروفات من أهم الأسر الفاطمية وهي (فاطمة بنت الناصر) تدخل عليه

ص: 25

وبيدها ولداها الصغيران محمد وعلي (الشريف الرضي والسيد المرتضى) فقام واستقبلها بحفاوة، كونها امرأة فاضلة من أسرة فاضلة شريفة ومن أحفاد علي والزهراء علیهما السلام، فقالت له: يا شيخ علمهما الفقه! وهنا اهتزّ الشيخ المفيد (رحمه الله) من أعماقه وتملكته العَبرة إذ عرف التأويل الواضح لرؤياه، وكان ذلك هو السبب في أن يتقبلهما الشيخ المفيد (رحمه الله) بقبول حسن وأن يتعهد تربيتهما على أفضل وجه وأن يبذل قصارى جهده ليبزغا في سماء العلم والأدب والمعرفة، وهكذا كان.

والشاهد هو في الهداية التكوينية الإلهية التي دفعت الشيخ المفيد (رحمه الله)، وهو المرجع والأستاذ الكبير والذي لا يعقل عادة أن يتقبل تربية طفلين صغيرين بل كان مقتضى القاعدة أن يُرجع الأمر إلى أحد تلاميذه بل كان يكفي الإرجاع إلى أحد تلامذة أحد تلامذته، ولكن الله هداه بالرؤيا الصادقة، هداية تكوينية ليعرف الأصوب والأفضل له وللولدين وللشيعة على مر التاريخ.ومن الواضح إن الرؤيا في حد ذاتها ليست حجة، ولكنها إذا طابقت القواعد العامة الصحيحة كانت من المبشِّرات، وإذا كان تعبيرها جلياً واضحاً كانت من المؤيدات(1).

من مصاديق الهداية التكوينية لطلاب الحوزة العلمية

ونحن بأحوج ما نكون إلى الهداية التكوينية بمختلف مراحلها وأنواعها، وليتضح ذلك أكثر تصوروا لو أن أحدكم جاء إلى الحوزة العلمية فاحتفى به أحد العلماء الأبرار واحتضنه وأهتمّ به وبرمج له دروسه وهَنْدَس له كتب المطالعة والمذاكرة والمباحثة وعرّفه على ثلة من الأصدقاء الصالحين، فإنه يكون حينئذٍ ممن حظي بهذا الحظ والنصيب من الهداية التكوينية، لكنه لو دخل الحوزة فلم يهتمّ

ص: 26


1- راجع: (فقه الرؤى دراسة فقهية وأصولية في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم) للمؤلف.

به أحد ثم بدأ رحلة التجربة والخطأ في الدراسة عند هذا أو ذاك والصداقة مع هذا أو ذاك وغير ذلك، فقد يكتشف بعد زمن أنه أخطأ كثيراً وأضاع كثيراً من حظوظه بالدرس عند هذا لسنين دون ذلك الآخر الأعلم الأتقى الأفضل أو بالصداقة مع ثلة كانت تجره بعيداً عن الجادة بدل ان تعينه على نفسه.

وللكسبة والتجّار

وكذلك التاجر أو الكاسب فإنه تارة يبذل قصارى جهده في التجارة أو الاستثمار لكنه لا يوفق في مسيرته التجارية أبداً، أو ينجح حيناً دون آخر، وتارة أخرى تكون تجارته مباركة وتفتح له أبواب الرزق من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب وإذا به يحصل على (لقطات) تجارية لم تكن تخطر على باله، أو يقيّض الله له مدير أعمال ذكيٍّ شهمٍ ومدبر أو يضع أمامه بتسبيب إلهي شريكاً ناجحاً أو يمهد له للتعرف على أنماط جديدة من التجارة أو على أطراف أخرى تدير العمليات التجارية بكل حرفية ودقة وإبداع ومهارة.

وهكذا الأمر في كافة مجالات الحياة.ولذلك كله ولغيره أيضاً مما سيأتي كان علينا أن نبتهل إلى الله تعالى دائماً قائلين: «اهدِنَا

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»، فإذا دعونا الله تعالى حقاً وبصدق وانقطاع وبإلحاح وإصرار ووسّطنا سادات الكون وأئمة الورى فإن الله بلطفه وكرمه سيغير سوء حالنا بحسن حاله، أو ينقلنا من نجاح إلى نجاح أعظم ومن خير إلى خير أكبر ومن مرحلة من مراحل الهداية إلى مرحلة أسمى وأعلى، وما ذلك على الله بعزيز.

رابعاً: الهداية في القضايا المستحدثة

اشارة

الجواب الرابع: إن المراد من «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» طلب الهداية في القضايا المستحدثة الأعم من التجلِّيات المتجددة لمتعلّقات الصراط، بمعنى طلب

ص: 27

الهداية إلى الصراط المستقيم في الموضوعات المستحدثة والمصاديق المتجددة ونظائرها مما سيأتي، وليس المراد أن هنالك صراطات أخرى وأن المراد بالآية الهداية إليها؛ وذلك لبداهة أن الصراط واحد لا يتعدّد ولا يتكرّر فهو كلي منحصر بالفرد.

والغريب إن التتبع يقودنا إلى أن القرآن الكريم لم يَرِد فيه الصراط بصيغة الجمع أبداً، بل إنه إذا أراد جمع ما وقع في مقابل الصراط، عبّر عنه بالسُّبُل، مثل قوله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ»(1) وذلك لأن الصراط إلى الله تعالى واحد وإنما له متعلقات ومصاديق متعددة فإبراهيم النبي صراط إلى الله وموسى وعيسى وسائر الأنبياء (علیهم السلام) وعلى رأسهم النبي المصطفى محمد(صلی الله علیه و آله) كل منهم صراط إلى الله تعالى وكذلك كل واحد من الأئمة (علیهم السلام).

وبكلمة أخرى: إننا نطلب من الله تعالى أن يهدينا للصراط المستقيم عند مواجهة كل موضوع مستحدث، ذلك أن الإنسان كثيراً ما يواجه تحديات مصيرية وتكون أمامه خيارات صعبة حتى يتحير في الصراط المستقيم الذي يرضى الله تعالى به؟ ولذا ورد: «أَتَانِي جَبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ(صلی الله علیه و آله) سَيَكُونُ فِي أُمَّتِكَ فِتْنَةٌ قُلْتُ فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا قَبْلَكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ وَلِيَهُ مِنْجَبَّارٍ فَعَمِلَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ الْتَمَسَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ...»(2).

ص: 28


1- سورة الأنعام: 153.
2- تفسير العياشي: ج1 ص3.
طلب الهداية عند كل فتنة

ففي كل فتنة اجتماعية أو سياسية أو قانونية أو عشائرية أو حزبية أو غيرها على الإنسان أن يبحث عن الصراط المستقيم فيها وعليه أن يدعو الله تعالى ليهديه إلى الصراط المستقيم فيها مكرِّراً: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ».

وفي أثناء الاجتهاد والاستنباط

بل نقول إن المجتهد وهو منشغل بعملية الاستنباط عليه أن يدعو الله تعالى لكي يهديه للصراط المستقيم في اجتهاده فإن اجتهاده قد يصيب وقد يخطئ فإذا طلب من الله تعالى - وبإلحاح - أن يهديه للصواب في الحكم أو في معنى الآية أو الرواية وفقه حديثها أو في وجه الجمع الصائب بين الروايتين أو شبه ذلك، فإن الله تعالى يقول: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(1).

لنتذكر آية (الصِّرَاطَ) عند كل حدث وموقف

وهنا نؤكد على ضرورة أن يجعل كل منّا هذه الآية الكريمة «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» نصب عينيه دوماً وأن تتحول إلى جزء من حياته في كل موقف وحَدَث ومستجدّ ولدى كل فكرة وتدبر واستنباط واجتهاد، فكلما عنّ له وعرض أمر أو مشكلة أو فكرة استحضر فوراً هذه الآية الكريمة وعلّق قلبه بالله تعالى وأذعن - مرة أخرى - في قرارة نفسه ومن جديد بأن الهداية بيده تعالى فيطلب منه بانقطاع الهداية للصراط المستقيم، وإذا فعل الإنسانذلك بصدق وإذعان وانقطع قلبه إلى الله تعالى فإن الله جل اسمه سوف يهديه - بلطفه وكرمه - للصراط المستقيم في كل مسألة ولدى كل موقف مع استجماعه لسائر الشروط

ص: 29


1- سورة البقرة: 186.

الظاهرية المعتبرة، كاستفراغ الوسع ومدارسة العلماء وشبه ذلك.

وقد وردت أدعية متعددة في طلب التسديد الإلهي كلما عرض أمر شائك وحادث محيّر، ومنها ما ورد عن الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف بأن يقرأ الإنسان إذا تحيّر في أمرٍ:

عن محمَّد بن محمَّد الآويِّ الحسيني عن صاحب الأمر (علیه السلام) قال: «تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَدُونَهُ مَرَّةٌ ثُمَّ تَقْرَأُ الْقَدْرَ عَشْراً ثُمَّ تَقُولُ هَذَا الدُّعَاءَ ثَلَاثاً: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ وَأَسْتَشِيرُكَ لِحُسْنِ ظَنِّي بِكَ فِي الْمَأْمُولِ وَالْمَحْذُورِ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ مِمَّا قَدْ نِيطَتْ بِالْبَرَكَةِ أَعْجَازُهُ وَبَوَادِيهِ وَحُفَّتْ بِالْكَرَامَةِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ فَخِرْ لِيَ اللَّهُمَّ فِيهِ خِيَرَةً تَرُدُّ شَمُوسَهُ ذَلُولًا وَتَقْعَضُ أَيَّامَهُ سُرُوراً اللَّهُمَّ إِمَّا أَمْرٌ فَآتَمِرُ وَإِمَّا نَهْيٌ فَأَنْتَهِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِرَحْمَتِكَ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ تَقْبِضُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ السُّبْحَةِ تُضْمِرُ حَاجَةً إِنْ كَانَ عَدَدُ الْقِطْعَةِ زَوْجاً فَهُوَ افْعَلْ وَإِنْ كَانَ فَرْداً لَا تَفْعَلْ وَبِالْعَكْسِ»(1).

المعاني الأربع، متكاملة غير متمانعة

ثم إن هذه الأجوبة والمعاني الأربع والمعاني والأجوبة الآتية، ليست من قبيل مانعة الجمع بل هي من قبيل مانعة الخلو، إذ لا تضاد بين كل تلك المعاني فلا إشكال في أن تراد بأجمعها بل إن الإطلاق محكّم إلا أن يدعى الانصراف عن المعنى الأخير فتدبر وتأمل إذ لا وجه لذلك بعد كونه تفسيراً بالمصداق والله العالم وسيأتي بإذن الله وجه لتقوية الشمول فانتظر.

ص: 30


1- وسائل الشيعة: ج8 ص81.
الصراط المستقيم في الحكومة الدينية وولاية الفقيه
دوائر الهداية في القضايا المستحدثة
اشارة

إن الهداية لدى مواجهة القضايا المستحدثة الأعم من المصاديق المتجددة والمفردات المستجدة للأحكام المعلومة ومن الأحكام المحتملة للمواضيع المتجددة، لهي ذات دوائر عديدة:

الدائرة الأولى: دائرة الأحكام.

الدائرة الثانية: دائرة الموضوعات.

الدائرة الثالثة: دائرة الأدلة والحجج والبراهين.

الدائرة الرابعة: دائرة النظريات العامة.

الدائرة الخامسة: دائرة القيادة الإسلامية.

الدائرة السادسة: دائرة المواقف.

1) الهداية في الأحكام

ويمكن التمثيل للأحكام ب(حكم المعاملات السابحة) و(حكم السرقفلية وحق الخلو) و(حكم القتل الرحيم) وحكم التعامل بعملة (البيتكوين) أو المراباة بها، وهكذا وهلم جراً مما يتسع ليستوعب الألوف من الأحكام.

ص: 31

2) الهداية في الموضوعات
اشارة

كما يمكن التمثيل للموضوعات بالرياضات الروحية المخترعة وتشخيص الموضوع في بعض أنواعها وكذلك تشخيص واقع (المعاملات الشبكية) الهرمية التي استحدثت على شبكة الانترنت.

وعلى نطاق أوسع ومع قطع النظر عن قيد المستحدثة فإن: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» قد يراد بها الهداية في الموضوعات، فإنها تحتاج إلى هداية من الله تعالى فمن الموضوعات مثلاً الغلو والتقصير والصراط الوسط بينهما فإن «الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ»(1) فالصراط الوسط بين الغلو والتقصير هو الصراط المستقيم الذي نطلب من الله تعالى ان يهدينا إليه، أي أنه من مصاديقه ومفرداته، وكذلك ولاية أمير المؤمنين والأئمة الميامين (علیه السلام) ومعرفتهم فإن الولاية والمعرفة صراط مستقيم ندعوا الرب الرحيم أن يهدينا إليه.

ولنضرب بعض الأمثلة الهامة من أمثلة الحاجة إلى الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم في الموضوعات:

أ - الهداية إلى الزواج الناجح

فإن الزواج، حسب تعبير أحد العلماء، يعدّ مغامرة كبرى مجهولة العواقب إلى حد كبير، فقد ينجح وقد لا ينجح وقد يسعد وقد يشقى، ومن الواضح أن اللازم على الرجل إذا أراد الزواج - والمرأة إذا أرادت - أن يحقِّق عن الزوجة - وتحقِّق عنه - وعن خصوصياتها الأخلاقية وعن أسرتها ومنبتها إذ إن منبت السوء خطير، فإذا حقّق واطمأنّ فتزوج فإن هناك نسبة غير مضمونة من الخطأ وهي مجال المغامرة المجهولة إذ إن بعض النساء تبدو صالحة، بل ومثالية ثم بعد

ص: 32


1- فلاح السائل: ص142.

الزواج بفترة تتغير أو قد لا تتغير بل تبدو على حقيقتها كالحة بشعة، وكذلك حال الرجال فإن من تشير كافة التحقيقات إلى حسن أخلاقه واستقامة دينه قد ينكشف عنه غير ذلك أو قد ينقلب لاحقاً فيتغير بزاويةمائة وثمانين درجة، فههنا بالضبط موطن الحاجة الأكبر للتمسك بالدعاء بالقول مثلاً: اهدنا يا رب إلى الصراط المستقيم في اختيار الزوجة الصالحة التي تكون عوناً لي على ديني ودنياي ولا تشقيني في دنياي أو ديني.

بل الأمر أوسع من ذلك والحاجة أبعد غوراً إذ قد يكون الرجل والمرأة معاً صالحين ويبقيان كذلك ولكنهما يرزقان بأولاد أشرار فلا يكون زواجهما مصلحة أبداً ولكن أنّى للإنسان أن يدرك ذلك قبل الزواج؟ فههنا تتجلى أكثر ضرورة أن يلحّ الإنسان على الله تعالى بأن يجعل زواجه طريقاً إلى الجنة وأن يهديه في هذا الموقف إلى الطريق الموصل إليها فإن كان الزواج بها هو الطريق الموصِل فليهد قلبه نحوها ويسوقه إليها وإلا فليضرب على قلبه وليصرف رأيه.

ب - الهداية للموقف من انتخابات الدول الغربية
اشارة

فهل الأفضل لبعض المسلمين المتواجدين بالغرب هو الانتماء للأحزاب المختلفة والمشاركة في الانتخابات وذلك لكي تكون لهم مواقع قيادية في تلك الأحزاب بدل أن يصل إليها الصهاينة والمتطرفون من اليهود والمسيحيين فيشحنوهم بالعداء للإسلام والمسلمين؟ بينما في مقابل ذلك، إذا وصل المسلمون فإنهم سيدفعون باتجاه اتخاذ قرارات لصالح المسلمين أو يَحُولون على الأقل دون اتخاذ قرارات معادية للإسلام والمسلمين؟!

فتلك هي حجة بعض الأطراف، ولكن تقابلها حجة آخرين وهي إن الانخراط في أحزابهم لا يخلو من مقارنة بعض المنكرات أولاً، وأنه لا يخلو من نوع تأييد وتقوية لهم ثانياً.

ص: 33

ويقول بعض آخر: بأن المسألة داخلة في صغريات باب التزاحم لأن لها جهات ترجّح الدخول وجهات ترجّح العدم، وإيجابيات وسلبيات، والسؤال هو إنه عند مواجهة هكذا موقف - والملايين من المسلمين يواجهون ذلك هنالك - فما هو الصراط المستقيم والقرار الحكيم في ذلك؟!

شروط سلامة الموقف في القضايا الخطيرة

ولعل الأصح هو إن القضية هي من الشؤون العامة، وليست شأناً شخصياً خاصاً، لذلك فانه لا بد من ثلاث أمور:

الأول: استشارة أهل الخبرة من ذوي الكفاءة والعلم والمعرفة وصولاً للتشخيص الموضوعي للأهم والمهم في باب التزاحم.الثاني: الاستئذان من الفقيه الجامع للشرائط.

والذي يدل عليه أو يؤيده إن انخراط الاشخاص في زمن الأئمة (علیهم السلام)، في سلك الحكومة كان منوطاً بإذن الإمام (علیه السلام) فكان (علیه السلام) يأذن لمثل علي بن يقطين ولا يأذن لآخرين.

ثم إن إذن الفقيه كمشورة أهل الخبرة، يعتمد على أركان ثلاثة:

أولاً: المعرفة الحصيفة بدخائل الشخص وشاكلته النفسية ومدى قوة شخصيته من عدمها؟ ومدى سيطرة شهواته أو قوته الغضبية عليه أو العدم؟ ومدى جُبنه أو شجاعته؟ ومدى حكمته أو تهوّره؟ إلى غير ذلك.

ثانياً: المعرفة الشاملة بوضع الحكومة وخصائص هؤلاء الحكّام أو أولئك وطريقتهم في التعاطي مع أمثال هؤلاء الأفراد (الظاهر الانتماء منهم أو الخفي المتقي).

ثالثاً: المعرفة بالوضع العام والإحاطة المستوعبة بوضع المجتمع والحاجات والضرورات التي لا يمكن اتخاذ أي قرار إلا بمعرفتها تفصيلاً.

ص: 34

فإذا كان الفقيه الجامع للشرائط والخبير الثقة المؤتمن محيطاً بالظروف الموضوعية والذاتية الآنفة الذكر لزم الرجوع إليهما، بل يجب وجوباً كفائياً ذلك.

الثالث: أن يكون ذلك شورى بين العلماء من جهة وبين أهل الحل والعقد من أهالي تلك البلاد من المخلصين الأكفاء من جهة أخرى، فإن أمكن اجتماعهم جميعاً فهو المطلوب، وإلا فعبر الوكلاء أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وإلّا كفى اجتماع ثلة منهم بحيث يصدق كون «أَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم» وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)(1).

ج - الحوزة أو المنصب؟

فلو دار الأمر في رجل الدين بين أن يستمر في الدراسة الحوزوية أو التدريس والتحقيق والتأليف، وبين أن يتوظف في الدولة في موقع مهم أو أن يتسنّم منصباً رفيعاً، فأيهما أهم؟ وما هو الصراط المستقيم الذي يوصله إلى المقامات السامية والأجر العظيم وإلى أعلى درجات الجنة، بل ما هو الصراط المستقيم الذي يكفل له القيام بوظيفته الشرعية على أحسن وجه، من بين الخيارين؟

ههنا تتجلى أهمية أن يكرِّر الإنسان هذا الطلب ويدعو بإلحاح بالغ قائلاً «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» والذي يعني - من باب التفسير بالمصداق -: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» في كل حادثة وأمرِ مستجدِّ وقضيةٍ حادثة، وهي التي أمرنا فيها أيضاً ب:«وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه»(2) لنعرف بالرجوع إليهم الصراط المستقيم في تلك الأمور بإذن الله تعالى.

ص: 35


1- للتفصيل يراجع: دراسة مركز الإمام الشيرازي (رحمه الله) عن (حدود ولاية الفقيه عند الإمام الشيرازي (رحمه الله)) على الرابط: annabaa.org/arabic/imamshirazi/3046
2- وسائل الشيعة: ج27 ص140.
3) الهداية في الحجج وفي مرحلة الاستنباط

كما أن «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» قد يراد بها الهداية في مرحلة الاستنباط للأحكام بالنسبة للمجتهد، وللمقلد في مرحلته، فان الحكم المستكشَف بالاجتهاد قد يكون صائباً فهو من مصاديق الصراط المستقيم أو لا فلا، ومن الواضح أن الحجة على الحكم الشرعي هي منجِّزة أو معذِّرة لكن كونها معذِّرة لدى الخطأ بعد استفراغ الوسع أمر مغاير ثبوتاً للهداية للصراط المستقيم فيه، فطلب الهداية ههنا هو طلب للتسديد لكي نرى الأحكام الشرعية كما هي وكما صدرت من الشارع الأقدس لا لكي نصل إلى المعذِّر فقط.

وسيأتي الكلام عن دائرة الحجج وفي مرحلة الاستنباط في ضمن البحث عن أنواع الأدلة والحجج في الفصل الأخير من الكتاب بإذن الله تعالى فلنعطف عنان الكلام إلى دائرتي النظريات العامة والقيادة الإسلامية.

4) الهداية في دائرة النظريات العامة
اشارة

إن من الواضح الفرق الكبير بين الحكم بالمعنى المعهود وبين النظرية؛ ذلك أن الحكم الشرعي هو عبارة عن الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة إضافة إلى الأحكام الوضعية، فذلك هو محور البحث في علم الفقه والذي يدور عملياً حول فقه الأحوال الشخصية، أما النظرية فتتحدث عن الإطار العام والأساس أو المنهج الكلي الذي ينتهجُهُ أو يبني عليه أو يدور في فلكه، المكلّفُ أو التجمعُ أو الأمة أو الدولة والحكومة.

فمثلاً: وجوب الصلاة حكم وحرمة شرب الخمر حكم، وهي أحكام هامة جداً نظراً لمصالحها أو مفاسدها البالغة، ولكن - في المقابل - لنضرب

ص: 36

انموذجين هامين للنظرية الإسلامية في بعض الشؤون العامة:

ولاية الفقيه أو الفقهاء أو ولاية الأمة؟

النموذج الأول: نظرية ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء التنجيزية أو التعليقية، أو على العكس من ذلك كله: نظرية ولاية الأمة من دون أن تكون للفقيه ولاية في الشؤون العامة، فإن كلّا منها إطار عام يحدد اتجاه الأمة ومسيرتها على اختلاف ألوانها واتجاهاتها وليس حكماً قائماً بشخص من آحاد المكلفين كما أنها الأساس الذي تبتني عليه - أو على عكسه - الأمة والحكومة وهو الإطار العام الاستراتيجي الذي يرسم مسار الأمة في دروب الحياة، وهنا فإننا نطلب من الله تعالى الهداية إلى السداد عند استفراغ الوسع في اكتشاف النظرية العامة في (الولاية) في الأمة أو على الأمة، ولك أن تقول: إن النظرية العامة هي حكم نوعي عام عكس الحكم المنصرِف إلى الحكم الفردي الخاص.

الأقوال في ولاية الفقيه

وتوضيح ذلك: إن رؤوس الأقوال في ولاية الفقيه هي:

أ - لا ولاية مطلقة للفقيه، وهذا رأي مشهور علماء الشيعة، وإن الولاية هي لعدول المؤمنين أو لأهل الحل والعقد أو للأمة، أو لا ولاية لأحد على أحد أبداً(1)، كما هو الأصل(2)، على اختلاف في الآراء.ب - إن للفقيه الولاية المطلقة، على درجات في حدودها.

ج - إن الولاية المطلقة هي للفقهاء فإن أجمعوا فهو وإلا كان المرجع هو رأي أكثريتهم، وان ولايتهم تنجيزية.

ص: 37


1- أي غير المعصوم (علیه السلام).
2- ومن يتصدى فإنما هو مجرد تصريف أعمال فيحتاج لرضا من يتصرف في حقهم.

د - إنها للفقهاء لكنها تعليقية بمعنى كونها معلَّقة على رضى الناس، وذلك نظير قاضي التحكيم على القول به فإن القاضي المنصوب من قِبَل الإمام حكمه نافذ وليس للناس نصبه أو عزله، أما قاضي التحكيم (في زمن الحضور أو - حسب رأي آخر - في زمن الغيبة أيضاً حيث عجز البعض عن تصوّره زمن الغيبة مع وجود أدلة النصب العامة إذا اشترطنا فيه شروط القاضي المعروفة، أما إذا لم نشترطها فتصوره سهل، كما قالوا - وتحقيق ذلك في مظانه) فإن الرجوع إليه طوعي وليس قهرياً فإذا رضي المتخاصمان به صحّ لهما الرجوع إليه، ثم إنه إذا حكم بينهما فقد قال جمعٌ بنفوذ حكمه وقال جمعٌ بتعليقه أيضاً على رضاهما.

والحاصل: إن رضاهما به - قاضي التحكيم - شرط قبل الحكم وبعده أو هو شرط قبله فقط ثم إذا حكم نفذ، على الرأيين، وموطن الشاهد هو إنه كما أن ثبوت الحق له في القضاء معلَّق على رضا المتخاصمين به ثم إن نفوذ حكمه بعد ذلك معلَّق أيضاً على رضاهما حسب رأي جمع، فكذلك يجري تصوير الولاية التعليقية للفقيه، فقد ذهب السيد الوالد (رحمه الله) إلى أن ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء (وهي مختارُه) تعليقية غير منجّزة(1) فإذا رضي به(2) أو بهم(3) الناس كانت له أو لهم الولاية مادام رضا الناس مستمراً أما إذا لم يرضَ الناس بالفقهاء حدوثاً أو بقاءً فلا ولاية لهم عليهم.

وهذا يعني أنه لا يجوز للفقيه أو الفقهاء فرض أنفسهم بالقوة على الناس بل واجبهم، في زمن الغيبة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط وليس إسقاط الحكومة وإقامة الحكم الإسلامي أو حتى إعمال الولاية في مساحات معينة حتى

ص: 38


1- يراجع دراسة (حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي (رحمه الله)).
2- الفقيه.
3- الفقهاء.

إذا أمكنهم ذلك مادام لم يرضَ بهم الناس.

(ولاية الفقيه) عند عرضها على كتاب الله تعالى

ولا نريد في هذا المبحث الموازنة بين هذه الأقوال ومحاكمة أدلة كل منها، بل مجرد الإشارة المبدئية إلى أن من الثابت أن الروايات المتعارضة - أو مطلقاً - يجب عرضها على الكتاب العزيز وقد ورد في الكافي: عن أَيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يَقُولُ: «كُلُّ شَيْ ءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ»(1).

وعن ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عن هشام بن الحكم وغيرِه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قَالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله) بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ»(2).

وكما ورد في تفسير العياشي: عن محمَّد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يَا مُحَمَّدُ مَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَخُذْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذْ بِهِ»(3).

وعَنْ سَدِيرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ(علیهما السلام): «لَا تُصَدِّقْ عَلَيْنَا إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ(صلی الله علیه و آله) »(4)، فهذه الروايات مطلقة غير خاصة بالخبرين المتعارضين، ومما ورد في المتعارضين:

وذكر الشيخ الصدوق: قول الإمام الرضا (علیه السلام): «فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُوداً

ص: 39


1- الكافي: ج1 ص69.
2- الكافي: ج1 ص69.
3- تفسير العياشي: ج1 ص8.
4- تفسير العياشي: ج1 ص9.

حَلَالًا أَوْ حَرَاماً فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ فَاعْرِضُوهُ عَلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) فَمَا كَانَ فِي السُّنَّةِ مَوْجُوداً مَنْهِيّاً عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ وَمَأْمُوراً بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله)...»(1).

فإذا كان حال الروايات هو هذا وإن كانت صحيحة السند في صورة التعارض فقط كما هو مقتضى الرواية الأخيرة أو مطلقاً حتى لو لم يكن تعارض بل كانت قد وصلتنا رواية واحدة مثلاً، كما هو مقتضى إطلاق الرواياتالأولى(2) فما بالك بالنظريات؟ وعند طرح نظرية شورى الفقهاء ونظرية ولاية الفقيه على الكتاب العزيز نجد نظرية الشورى موافقة لقوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(3) ونظرية الولاية مخالفة، أفلا يكون الكتاب هو المرجع حينئذٍ؟(4)

ولاية الفقيه التنجيزية أو التعليقية

ثم إننا عند طرح نظرية الولاية التعليقية والتنجيزية على الاصول والقواعد العامة، نجد ان الولاية هي خلاف الأصل إذ الأصل أنه لا ولاية لأحد على أحد أبداً (أما الله تعالى فولايته ذاتية لأنه المالك الحقيقي وأما المعصومون (علیهم السلام) فهم وسائط الفيض ولا شك في ولايتهم) والقاعدة العامة هي: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) فمدِّعي الولاية التنجيزية على الناس هو المطالَب بالدليل، وأما التعليقية فعلى الأصل إذ للناس أن يسلِّطوا على أنفسهم من جَمَع الشرائط بالحدود التي يقررونها، فإن ذلك من فروع سلطنتهم على

ص: 40


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص20.
2- فصلنا الكلام عن الأخذ والرد في ذلك في مباحث الفقه، فراجع!
3- سورة الشورى: 38.
4- تفصيل الأخذ والرد والإشكال على ذلك والجواب عنه طرحناه في كتاب: (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).

أنفسهم، وقد فصلنا الكلام عن ذلك وما قد يورد عليه والأجوبة في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع.

بل نقول: ذهب الكثير من الفقهاء إلى عدم إجراء الحدود في زمن الغيبة وإن إجراءها خاص بالإمام (علیه السلام) فكيف بالأعم من ذلك. فتأمل.

فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟

وبيت القصيد وموضع الشاهد: إن الفقيه إذا تفرغ لاستنباط النظرية العامة للشريعة المقدسة في ولاية الفقيه وكونها للفقيه الواحد أو لمجموع الفقهاء وأنها تعليقية أو تنجيزية فإن عليه أولاً أن يستعين بالله تعالى لإرشاده إلى الصراط المستقيم وهو ولاية الفقيه أو عدمها، وعلى تقديرها فهل هي للفقيه أو للفقهاء؟ ثم هل هي تنجيزية أو تعليقية؟ وعليه أن يفرِّغ ذهنه منالسوابق المعرفية والمواقف المسبقة وأن يُسلِس قياده لدى دراسة فقه الآيات والروايات ويستسلم لها، لا أن يحمل آراءه على الكتاب والسنة فإذا أخلص الدعاء ب:«اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» كان أحرى بأن يرشده الرب الكريم إليه.

وقد سبق إن (الصراط) يعني (الطريق ومعرفة الإمام (علیه السلام)) كما في الرواية، فهل ولاية الفقيه هي الطريق إلى رضا الله تعالى؟ أم شورى الفقهاء التعليقية أو التنجيزية؟ أو عدم الولاية مطلقاً؟

الحكومة الوطنية أو الدينية المستبدة أو الشورية؟

النموذج الثاني: النظرية السليمة في الحكومة الدينية، فإنها أيضاً مما تستدعي الالتجاء إلى الله تعالى في إلهام الصواب عند استفراغ الوسع في استنباطها من الأدلة الشرعية، وذلك لأن الآراء الرئيسية متعددة:

الرأي الأول: ما ذهب إليه عدد من الأعاظم من حرمة إقامة الحكومة

ص: 41

الدينية في زمن الغيبة وأن هذا المقام خاص بالإمام واستندوا إلى روايات مثل: عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: «كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1) وغير ذلك، بل قالوا بأن الأدلة دلت على حرمة إقامة الحدود (وهي إحدى شؤون الحكومة) زمن الغيبة فكيف بالحكومة؟

وقالوا: بأن المستفاد من الروايات أن سلبيات الحكومة الدينية، وإن كانت مستقيمة صالحة فرضاً، هي أكثر من حيث المجموع من إيجابياتها ليس فقط بلحاظ تموجاتها السلبية على عامة الناس إذ لا يستسيغون مرّ الحق (على فرض أنه الحق وإن تشخيص الحكومة الإسلامية صحيح) بل حتى لو فرض أن هذه الحكومة الدينية في هذه الحقبة الزمنية كانت ناجحة، إلا أن الروايات الشريفة حرّمت الحكم الديني في زمن الغيبة بنحو القضية الحقيقية نظراً للحكمة العامة وهي: إن فتح هذا الباب يؤدي إلى تسلط حكومات باسم الدين على رقاب الناس وظلمهم لهم بشعارات دينية في الأعمّ الأغلب، وإن ذلك لا يشفع لتجويز إقامة حكومة دينية حتى استثناءً؛ وذلك نظراًلقاعدة سنّ القانون وأن (الحكمة) لا يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً. فهذا هو الرأي الأول، والبديل الذي يطرحه أصحاب هذا الرأي هو (الحكومة الوطنية)(2).

الرأي الثاني: إن إقامة الدولة الدينية مطلوب إما على نحو الاستحباب أو على نحو الوجوب، لمن يقدر عليها، واختلف أصحاب هذا الرأي إلى مدرستين:

المدرسة الأولى: ان الحكومة الدينية يجب ان تكون شورية فيحرم الاستبداد باسم الدين، بل ذهب السيد الوالد (رحمه الله) وبعض الأعلام إلى أنه من

ص: 42


1- الكافي: ج8 ص295.
2- كما ارتأى عدد من الفقهاء أرجحية ذلك في العراق ولبنان وما إلى ذلك، وذلك إما بنحو القضية الخارجية أو لمبناهم العام في القضية الحقيقية.

الكبائر وأن الفقيه إذا استبد بالأمر سقط عن العدالة وزالت ولايته ووجب على المسلمين إسقاطه(1).

المدرسة الثانية: إن الحكومة الدينية هي حكومة استبدادية، فللحاكم المسلم أو الشيعي (أو البوذي أو المسيحي أو اليهودي، وهكذا في سائر الأديان) ان يفعل ما يرتأيه سواء أرضى الناس أم لا.

فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟

وموضع الشاهد ليس الآن المحاكمة بين هذه الأقوال، بل الشاهد إن أية واحدة من هذه النظريات اخترناها فإنها تترك تأثيرات عميقة وواسعة جداً على مصائر عامة الشيعة (أو السنة أو غيرهم) لا في هذه الحقبة الزمنية الخاصة بل تمتد إلى أعماق مجاهيل الزمن المستقبلي أيضاً، فما هو الصراط المستقيم منها إذاً؟

وقد سبق أن الصراط المستقيم هو (الطريق) وهو (الدين) فهل إقامة الحكم الديني من الدين؟ أو هو على النقيض من أحكامه؟ وهل هو الطريق إلى مرضاة الله تعالى؟ أو انه على النقيض من ذلك؟

5) الهداية في دائرة القيادة الإسلامية
اشارة

إن القيادة هي أقرب الطرق إلى الجنّة أو هي - على العكس من ذلك - أقرب الطرق إلى النار، وقد ورد في الحديث: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ(صلی الله علیه و آله): «الْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاءُ»(2) وقد قال تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ»(3) وفي المقابل: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ

ص: 43


1- يراجع كتاب: (أمير المؤمنين (علیه السلام) شمس في أفق البشرية).
2- تحف العقول: ص50.
3- سورة القصص: 41.

الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(1).

فهذا عن القادة، واما عن الناس فالروايات كثيرة ومنها: عنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَالَ: مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ»(2).

فإذا أردنا (الصراط المستقيم) فعلينا أن نتبع «سَاسَةَ الْعِبَادِ وَأَرْكَانَ الْبِلَادِ وَأَبْوَابَ الْإِيمَانِ وَأُمَنَاءَ الرَّحْمَنِ وَسُلَالَةَ النَّبِيِّينَ وَصَفْوَةَ الْمُرْسَلِينَ وَعِتْرَةَ خِيَرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ...» وهو صراط «أَئِمَّةِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى وَأَعْلَامِ التُّقَى وَذَوِي النُّهَى وَأُولِي الْحِجَى وَكَهْفِ الْوَرَى وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَالدَّعْوَةِ الْحُسْنَى وَحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه»(3) وهم الأئمة الأطهار (علیهم السلام) ثم من بعدهم وكلاؤهم المراجع جامعي الشرائط.

ثم إن (القادة) هم طيف واسع جداً، والقيادة ذات مستويات متنوعة مختلفة إذ تتسع لتشمل قادة الدول والأحزاب والمنظمات والجمعيات والحوزات والجامعات وغيرها.

الرقابة على القادة والحكام فريضة إلهية

وعلى ضوء ذلك فإن من أهم الواجبات أن تفرض الأمة والجماعات والشعوب والأفراد أكبر الرقابة على القادة بمختلف مستوياتهم، فإن القائد وإن فرض عادلاً ورعاً تقياً إلا أن خطر السقوط المدوّي والانحراف كبير جداً؛ إذ إن القدرة طبيعتها الطغيان وقد قال تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى»(4) وقال جل

ص: 44


1- سورة الأنبياء: 73.
2- الكافي: ج6 ص434.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص610.
4- سورة العلق: 6.

اسمه: «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(1).

وإذا كان أمير المؤمنين وسيد الموحدين (علیه السلام) رغم عصمته القطعية بنص الكتاب ومتواتر الروايات يقول: «... فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى...»(2) فما بالك بالغير؟!

ومن الواضح أنه صلوات الله عليه معصوم عن الخطأ؛ للآيات البيِّنات والروايات المتواترات على عصمة الرسول والأئمة وفاطمة الزهراء (علیها السلام) والأنبياء جميعاً، ولذا عبّر ب(لست في نفسي...) فإن العصمة من الله كسائر ما منحه وأعطاه «وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(3) و«وَلَوْلاَ

أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا»(4) لهذا أكّده من جديد ب:«إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي...» وقد كفاه بالأدلة القطعية، ومع ذلك قال (علیه السلام) ما قال ليكون حجة على كافة الحكام الذين لا يتمتعون بالعصمة قطعاً ولم يملّكهم الله من أنفسهم ما هو املك به منهم.ومن هنا كانت الرقابة على القادة والحكام فريضة إلهية لأن بيدهم مقدرات العباد والبلاد، وإذا لم يفعل الناس ذلك فإن مستقبلهم سيكون مظلماً قاتماً كما قال الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله): «وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ

ص: 45


1- سورة الذاريات: 53.
2- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (علیه السلام): من خطبة له (علیه السلام) خطبها بصفين: 216.
3- سورة المائدة: 67.
4- سورة الإسراء: 7 75.

الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُم»(1).

ومن الطبيعي إن القائد الإسلامي، على أي مستوى كان بدءً من الحاكم الأموي وصولاً إلى الحاكم الوهابي، يستخدم - بشكل ممنهج ومكثف - كافة الطرق لإضفاء الشرعية على قراراته بل إنه يستخدم طرقاً مبتكرة في التضليل والتنويم المغناطيسي الجماعي بل قد يتسلح حتى بسلاح الكرامات التي يصطنعها له بطانته أو التي يختلقها بشكل أو آخر.

ولنضرب لذلك مثلاً يعد من أروع الأمثلة المعبّرة عن عمق خطورة التلفع برداء الدين لتكريس دعائم السلطة الدينية وإحكام القبضة على قلوب البسطاء من عامة الناس:

حسن الصباح في امبراطورية الرعب والدهاء وغطاء الشرعية!

فقد ظهر في التاريخ وفي نهايات القرن الحادي عشر الميلادي وبالضبط من العام 1080م، قائد إسلامي بارز - كما يراه أتباعه - استطاع أن يقيم دولة فتية تحدّت الامبراطوريات الكبرى والحكومات القوية المحيطة بها (الفاطميين في مصر وخلفاء بني العباس والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والخوارزميين وحتى الصليبيين) والغريب أن هذه الدولة الفتية استطاعت تحدي كافة هذه الدول واستمرت مع ذلك فترة طويلة جداً!!

مؤسسة هذه الدولة هو حسن الصباح والذي كان من الطائفة الإسماعيلية النزارية(2) والذي هاجر من مصر (الفاطمية) إلى إيران وبذل جهوداً كبرى لنشر دعوته في بلاد الديلم وفارس وأصفهان وغيرها ... وبعد أن قام بدراسة معمقة لأوضاع البلاد الإسلامية توصل إلى استراتيجيات مذهلة مكّنته من تأسيس دولة

ص: 46


1- الكافي: ج7 ص51
2- تدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله.

استمرت مدة قرنين من الزمن!!

قلعة ألموت والانقلاب العسكري

في البداية قاده التفكير أنه لا بد أن يختار بقعة جغرافية محصّنة أمام جيوش الأعداء، وقد توصل إلى أن أفضل منطقة هي القِلاع المبنيةً على أعالي الجبال، ومن هنا بدأ رحلة البحث، مباشرة وعبر ثلة من خِيَرة أتباعه، إلى أن توصل إلى أن أفضل قلعة هي قلعة ألَمُوت إذ كانت تلك القلعة عبارة عن حصن منيع مبني على أعالي جبال البرز على ارتفاع ستة آلاف قدم فوق سطح البحر ولم يكن يمكن الوصول إليها إلا عبر طريق جبلي ضيق منحدرٍ صعب المرتقى مما يضطر جيوش الأعداء إذا أرادوا مهاجمة القلعة إلى ان يصعدوا بصعوبة وكأفراد وببطء نحو القلعة، وكان من السهل حينئذٍ اصطيادهم بالنبال والسهام المسمومة وغيرها.

وكان أهم ما يميز القلعة، إلى جوار ذلك، أنها كانت تشرف من الجهة الخلفية التي لا يصل إليها الأعداء، على وادٍ خصب ممتاز للزراعة يمتد إلى ثلاثين ميل طولاً وثلاثة أميال عرضاً، فكان هذا الوادي بمثابة الحديقة الخلفية التي تمدّ سكان القلعة بالغذاء إلى وقت غير محدود فيما إذا حاصر العدو القلعة من الجهة الأمامية وقطع عنها طريق الإمداد.

ولكنّ مشكلة القلعة كانت تكمن في أن لها سكّاناً ومالكاً؛ وهنا وفي العام 1090م وضع حسن الصباح خطة تقضي بتسلل مجموعة من جنوده وضباطه الأشداء إلى القلعة تحت عناوين شتى: فبعضهم عامل وبعضهم تاجر وبعضهم مسافر وهكذا، حتى أحاطوا بأوضاع القلعة خُبراً وعرفوا نقاط القوة والضعف ثم تسلل حسن الصباح بنفسه للقلعة، ووضع خطة دقيقة للقيام بانقلاب عسكري على مالكها وحاكمها السابق، وقد نجح الانقلاب العسكري نجاحاً

ص: 47

مبهراً إذ لم يكن يتوقع أحد من سكان القلعة أبداً ذلك، وهكذا سيطر حسن الصباح على قلعة ألموت وصار سيدها المطلق.

الغصب المقدس! رداء الشرعية على السرقة المقنّعة!

ولكن: وهنا تبدأ مرحلة التلبيس والمكر والدهاء لإغواء البسطاء وإحكام السيطرة عليهم، فقد استدعى الصباح حاكم القلعة السابق ودفع له مبلغاً قدره ثلاثة آلاف دينار ذهبي كثمن للقلعة التي اغتصبها منه! ولكن لماذا؟ وهل يجوز الغصب عنوة؟ ثم هل يصبح المال المغصوب حلالاً بمجرد أن تدفع المال لصاحبه حتى إذا كان رافضاً لفكرة البيع بالأساس؟ كلا! ولكنها مقتضيات السياسة المغلفة بغلاف الدين إذ إن التبريرات الشرعية جاهزة: الأهم والمهم العقلي والشرعي اقتضى السيطرة على القلعة! ولكن ومع ذلك فإن من اللازم إعطاء مبلغٍ لمالكها كي يطمأن عامة الناس إلى أنه متشرع مقدس ورع!وذلك ما يذكّرنا بما فعله الخوارج إذ بقروا بطن امرأة مسلمة حامل بلا ورع وتقوى ولكنهم احتاطوا في أكل تمرة بدون إذن صاحبه!

الخوارج: إرهاب وقسوة مع التلفع برداء الدين!

فقد ورد في التاريخ: (إن الخارجة التي خرجت على علي (علیه السلام) بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له، فعبروا إليه الفرات، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول إنه أمير المؤمنين وأول المسلمين إيمانا بالله ورسوله. قالوا: فما اسمك؟ قال: أنا عبد الله بن خباب بن الارت، صاحب رسول الله صلى الله عليه [واله] وسلم، فقالوا له: أفزعناك ؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول الله، لعل الله أن ينفعنا به. قال: نعم، حدثني عن رسول الله(صلی الله علیه و آله)، أنه قال:

ص: 48

ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافراً. فقالوا: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتّفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متمّ(1)، حتى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها فأخذها بعضهم فقذفها في فيه، فقال له أحدهم بغير حلٍّ، أو بغير ثمن، أكلتها؟ فألقاها من فيه، ثم اخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمة فقتله، قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الأرض، فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره، فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، ما عليَّ منكم بأس، ووالله ما أحدثت حدثا في الإسلام وإني لمؤمن وقد أمنتموني وقلتم لا روع عليك!!

فجاؤوا به وبامرأته، فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه فسال دمه في الماء، ثم أقبلوا إلى امرأته فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتّقون الله؟ قال: فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاثة نسوة فيهم أم سنان قد صحبت النبي عليه الصلاة والسلام. فبلغ عليّاً خبرهم، فبعث إليهم الحارث بن مرّة، لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب والنسوة، ويكتب إليه بالأمر، فلما انتهى إليهم ليسائلهم، خرجوا إليه فقتلوه، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا، سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام...)(2).إن فلسفة الطغاة والمستبدين والحكام باسم الدين على مرَّ التاريخ هي فلسفة متحدة وواحدة وهي: مصادرة الحقوق وقتل النفوس وخنق المعارضة وكمّ الأفواه باسم الدين وتحت عباءة الشرعية!

ص: 49


1- المرأة المتم: التي أتمت أشهرها وقاربت الولادة.
2- الإمامة والسياسة - تاريخ الخلافاء: ج1 ص 167 - 168.

ويُكَبِّرونَ بِأَن قُتِلتَ وإنَّما *** قَتَلوا بِكَ التَّكبيرَ وَالتَّهليلا

وهكذا نجد الألقاب والعناوين على مر التاريخ: الحاكم بأمر الله، المعتصم بالله، المستنصر بالله، قائد الأمة، خليفة الرسول(صلی الله علیه و آله)، ظل الله، ولي الله، خادم الحرمين الشريفين وهكذا.

استراتيجية الاغتيالات النوعية، والشرعية أيضاً!

وعوداً على بدء: ولكي يكرس حسن الصباح دعائم حكومته ويكتسب مزيداً من الشرعية، عَمَدَ إلى استراتيجية فريدة في التاريخ، حيث إنه وجد - رغم حصانة قلعته - أنه لا يمكنه أن يمتد إلى خارج القلعة مع وجود دولة قوية محيطة به وهي تمتلك من الجيوش والجنود ما لا قِبَل له به، لذلك ابتكر خطة مذهلة في فاعليتها وبساطتها في الوقت نفسه، والخطة هي (الاغتيالات النوعية الكبرى) حيث درّب مجموعة مميزة من الشباب الأشداء على فنون القتال كما غرس فيهم روح الجهاد المقدس والشوق إلى الجنة - تماماً كما تفعله قوى الاستبداد الديني كداعش والقاعدة وغيرهما وتماماً كما تعلّم منه ومن أمثاله مخططوا الغرب الاستراتيجيون، ثم كان يبعثهم نحو الأهداف الكبرى للقضاء عليها بعملية انتحارية نوعية لا تُكلّفه إلا أقل التكاليف الممكنة، وهي خسارة هذا الفدائي وقتله ولا غير!.

وهكذا بعث بعض فدائييه فاغتالوا الوزير السلجوقي نظام الملك، وكذلك اغتالوا الخليفة العباسي المسترشد والراشد!! ومن الواضح أن زعماء الإرهاب يكتسبون شرعية كبيرة ومصداقية عظيمة لدى اتباعهم إذا نجحوا في اغتيال أعظم شخصيات الأعداء من الدول الأخرى.

ص: 50

الشرعية للمستبدّ عبر بوابة مقارعة الصليبيين!

ولكن (الشرعية) و(القداسة) لا تكتسب عند أكثر الناس بمثل ذلك، بل تكتسب بأن يتحول القائد إلى رمز أو أسطورة في محاربة الاستعمار (القوى الصليبية حينذاك) وهكذا خطّط حسن الصباح لاغتيال قائد قوات الاحتلال لبيت المقدس وهو الملك (كونراد) الذي كان يتقاسم مع ريتشارد قلب الأسد، زعامة الصليبيين.

وينقل التاريخ أنه أرسل اثنين من فدائييه إلى بيت المقدس فتزييا بزيّ الرهبان وبقيا هنالك لمدة ستة أشهر يتظاهران بالقدس والرهبانية وكان يتجسسان سراً على أوضاع البلاد ويتسقطان الأخبار عن حركة الملك كونراد ويراقبانه عن كثب، ثم بعد هذه المدة الطويلة اكتشفا نقطة ضعف كونراد الأمنية إذ عرفا بعض مواعيد خروجه ودخوله وعدد الحراسات حوله وكيفيتها، ثم إنهما كمنا في طريق عودته في إحدى السكك وساعدهما على ذلك كونهما راهبين معروفين في تلك المنطقة، وعندما جاء الملك راكباً على حصانه مع حرّاسه تقدم أحدهما وبيده رسالة إلى الملك وحيث كان الجنود يعرفونهما بالصلاح والرهبنة لم يتعرضوا لهما ثم بمجرد أن مدّ كونراد يده إليه طعنه الراهب - الفدائي - في خاصرته، ثم طعنه الآخر بطعنات أخرى، فقتل كونراد على إثر ذلك، وقد قتل الجنود أحد المهاجمين واعتقل الآخر فوراً.

ولكم أن تتصوّروا كم هو مدى الشرعية التي يحصل عليها من استطاع قتل قائد الصليبيين الذين كانوا أسوأ حالاً عند المسلمين من الصهاينة الآن!!

كيف استبدل الناس مستبداً بطاغية آخر؟

وبذلك وبغير ذلك وبإرساله الدعاة إلى أطراف البلاد استطاع نشر الدعوة الإسماعيلية في إيران والشام وغيرهما، وقد سيطر أتباعه على طبس وتون

ص: 51

وشوش ورودبار ومناطق واسعة في خوزستان وفارس وغيرها متحدياً السلاجقة في عمق مملكتهم.

والغريب - وليس بغريب - إن الناس هم الذين أعانوهم على بسط سلطتهم وتوسعة حكومتهم لما كانوا يرونه من ظلم السلجوقيين فتوهموا أن النجاة والخلاص في الانضواء تحت راية مستبد آخر يتلفع برداء الجهاد والبطولة والفتوة والحمية!

بل بلغ من مكر القائد حسن الصباح أن اصطنع لنفسه كرامات أذهلت أتباعه وجعلتهم يتحولون إلى دمُى وآلات كآلات الربوت يحرِّكهم كيفما يشاء إذ وثقوا بأنه الإمام الأعظم والقائد الأكبر المرسل من السماء لإنقاذ البشرية!!

الخدعة الكبرى: الجنة الفردوس على الأرض!

وكان من جملة حِيَله وخُدَعه التي وجدها الأتباع معجزة كبرى وكرامة عظمى هي أن اقنعهم بأن (الجنة) هي بيده يدخل فيها من يشاء ويخرج منها من يشاء! وذلك أنهم بعد أن كانوا يختارون بعض الشباب الأقوياء لتجنيدهم كفدائيين، كانوا يقومون بدايةً بغسيل لأدمغتهم بملأها بمبادئ الإسماعيلية النزارية وقِيمها الصوفية وإنها الطريق الوحيد إلى الله تعالى و...، ثم عندما كانوا يجدونه مؤهلاً تماماً كانوا يشحذون له سلاحهم الأمضى وهو أنهم كانوا يُسرّون له أن حسن الصباح وشيخ الجبل يملك مفاتيح الجنة وأنه يمكنه أن يرسل الأحياء إليها لساعات أو أيام ثم يرجعهم إلى الدنيا من جديد!، وذلك كدليل قطعي لا يرقى إليه الشك على أنه الولي الإلهي والقائد الرباني والرسول السماوي، وعندما كانوا يلمسون فيه الدهشة العظمى والشوق الجارف كانوا يَعدِونه بذلك ثم يأخذونه إلى إحدى البيوت الضخمة المعدة لذلك سلفاً وهنالك يسقونه في ضمن الطعام بعض الحشيش المخدر(1) حتى يغيب عن الإحساس ثم ينقلونه إلى

ص: 52


1- لذا اشتهروا ب(الحشاشين) - كما قاله بعض المؤرخين.

(الجنة الموعودة) وكانت (الجنة الموعودة) هي المكر الأعظم الذي خطط له حسن الصباح طويلاً؛ فقد كان قد اختار أرضاً كبيرة جداً واستخدم أفضل المزارعين لصناعة روضة غنّاء في غاية الروعة والجمال كما شق جداول رائعة الحسن ولعله نثر فيها جواهر ودرراً، كما بنى له المهندسون قصراً في غاية الروعة والجمال والبهاء، وكان الفدائي المسكين بعد أن يخدّر كاملاً ينقل إلى هذه الجنة التي كانت تسرح فيها بعض الحوريات الإنسية أيضاً! وعندما كان يعود الفدائي إلى الوعي من جديد كان يذهل إذ يرى نفسه في الجنة وكانت الحوريات يزدنه ذهولاً باصطحابه هنا وهناك ثم، وفي فترات محددة محسوبة بدقة، كن يضعن في طعامه قليلاً من ذلك المخدر بحيث لا يستعيد وعيه تماماً وإلا فلعله كان يدرك الحقيقة رغم إتقان الصنعة وإحكام التدبير، ثم بعد ساعات من التجول في الجنة والتنعم بأنواع نعيمها كنّ يضعن له في الطعام مخدراً أقوى ليغيب عن الوعي فينقلونه إلى المنزل السابق، ثم يذهبون به إلى شيخ الجبل الذي يأمره إذا أراد الذهاب إلى الجنة بأن يقاتل في سبيل الله حتى يقتل، ثم يبعثونه في مهمة انتحارية!

التاريخ يعيد نفسه

والتاريخ يعيد نفسه، ولو بأشكال أخرى؛ وهكذا نجد الآن مثلاً فرقاً ضالة، كمدعي اليمانية، يصورون لاتباعهم أنهم موصولون بحبل السماء بكرامات وهمية يتصورها البسطاء حقيقيةً، مستفيدين من (السحر الأسود) تارة ومن(الرياضات الروحية) تارة ومن (التنويم المغناطيسي) ثالثة ومن بعض (الحيل العلمية) رابعة ومن (تسخير الجن) خامسة وهكذا، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (مناشئ الضلال ومباعث الانحراف) فراجع.

نعم لقد شكك بعض المؤرخين في صحة الرواية السابقة، لكن الظاهر صحتها بما نعهده من دهاء حسن الصباح وبما نعهده من طريقته الصوفية وبما

ص: 53

نعهده من مجمل سيرته.

وعلى أي فإن (الخدع) و(الكرامات المزوّرة) لا شك في أنها كانت على مرّ التاريخ إحدى أهم أسلحة الطغاة المستبدين المتلفعين برداء الدين لإغواء البسطاء والمساكين، ولا نعني بالبسطاء الجهال إذ البساطة ترتبط بالنفس والعقل لا بالعلم، ولعل أستاذاً في الجامعة أو الحوزة أو عالماً في الفيزياء أو الطب أو الهندسة أو الفلسفة والعرفان، يكون بسيطاً تنطلي عليه الخُدُع المتقنة والحِيَل المحكمة فيُسلِس قياده للأئمة الذين يدعون إلى النار وهو يتصورهم من سادات الأخيار! اللهم ربَّنا إليك التجأنا ف«اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» أمين رب العالمين.

6) الهداية في دائرة المواقف

فإن الإنسان يكون بأمسّ الحاجة إلى هداية الله تعالى وتسديده في كافة المواقف الصعبة خاصة المصيرية منها.

الموقف من الحكومات المستبدة الجائرة

ومن أهم المواقف التي تبرز فيها الأهمية البالغة للهداية الإلهية المباشرة، الموقف من الحكومات الجائرة والذي يُعدّ على امتداد التاريخ من أصعب المواقف إن لم يكن الأصعب على الإطلاق، ذلك إن الحكومات المستبدة تمتلك الأموال والمناصب والوظائف والإعلام كما تمتلك جمهوراً عريضاً من الغوغاء الذين ينعقون مع كل ناعق، كما أن من يقف أمامها فإن بمقدورها أن تسحقه بلا رحمة، بل وفوق ذلك فإنهم قد يقتلونه بسلاح الشرعية وباسم الإسلام المحمدي الأصيل:

ويُكَبِّرونَ بِأَن قُتِلتَ وإنَّما *** قَتَلوا بِكَ التَّكبيرَ وَالتَّهليلا

ص: 54

فهم يمتلكون العصى الغليظة والجزرة الحلوة! ويمتلكون أن يحرموا من ينهاهم عن المنكر ولو بأبسط العبارات، من المنبر والمحراب والتدريس والتأليف، أو السفر والحضر والتجارة بل وأي نوع من أنواع المشاركة في الحياة العامة إلى غير ذلك.

لذلك فإن من الطبيعي أن يصاب الأكثر بالرعب حتى من مجرد التفكير في مقارعة الحاكم الجائر.

معادلات وأحكام في العلاقة بالحكام
اشارة

وعلى ضوء ذلك كان من الضروري الإشارة إلى بعض القواعد العامة والأحكام الهامة التي تحكم معادلة المظلوم - الظالم.

والحديث موجه لكافة الطلاب الكرام والعلماء والأفاضل ولكافة المثقفين والأطباء والمهندسين والصحفيين والجامعيين ولعامة الناس أيضاً، فإن امتحان العلماء والمثقفين وعامة الناس مع الحكام الظلمة والسلطات المستبدة عسير شديد وما أكثر من سقط في هذا الامتحان الصعب فقد قال تعالى: «الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1) بل بلغ الأمر بالناس إلى درجة أن يتظاهروا على سبط رسول الله وأعظم خلائق الله في ذلك العصر متسلحين بسلاح الشرعية الكاذبة التي أضفاها أمثال (عمرو بن سعد وشبث بن ربعي) وأضرابهم حتى ورد بفتوى شريح القاضي: إنه (علیه السلام): (خرج عن حدّه فقتل بسيف جدّه).

1 - المظلوم أقوى من الظالم دائماً
اشارة

فمن المعادلات: إن المظلوم أقوى من الظالم دائماً وإن بدا الظالم منتصراً؛ ذلك ان فوقهما الله تعالى تعالى وقد ورد «يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ

ص: 55


1- سورة العنكبوت: 1 - 3.

الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ»(1).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: «مَا مِنْ مَظْلِمَةٍ أَشَدَّ مِنْ مَظْلِمَةٍ لَا يَجِدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا عَوْناً إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَّارِينَ أَنِ ائْتِ هَذَا الْجَبَّارَ فَقُلْ لَهُ إِنَّنِي لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاتِّخَاذِ الْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَّ عَنِّي أَصْوَاتَ الْمَظْلُومِينَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ ظُلَامَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي (علیه السلام) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا اللَّهَ»(4).

عقوبة غريبة لمن رمى الإمام الحسين (علیه السلام) بسهم

وقد جاء في التاريخ إن بعض الظلمة من جيش يزيد وبن زياد وعمرو بن سعد رمى الإمام الحسين (علیه السلام) بسهم فحال بينه وبين أن يشرب الماء، والظاهر إن القضية كانت حين سقط سيد الشهداء (علیه السلام) على الأرض وقد غطت دماؤه الطاهرة بدنه الزاكي وكان على وشك اللقاء بجبار السماوات والأرض فجاءه أحدهم بماء ليشرب، فرماه ذلك اللعين بسهم فحال بينه وبين شرب الماء، فدعا عليه الإمام الحسين (علیه السلام) قائلاً: (اللهم أضمِئه).

ص: 56


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) الحكمة: ص241.
2- الكافي: ج2 ص331.
3- الكافي: ج2 ص333.
4- الكافي: ج2 ص331.

وبعض الأدعية سرعان ما تستجاب وبعضها يؤخره الله تعالى لأجلٍ، لكنّ الدعاء لا محالة يستجاب لقوله تعالى: «وَقَالَ

رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1) وكان هذا الدعاء على ذلك الظالم مما أسرعت إليه الإجابة، فابتلي بمرض غريب حتى أنه كان يصيح مما يستشعره من الحرارة الشديدة في بطنه ومعدته ومما يتملكه من البرودة الشديد في ظهره، وكان البرد في ظهره والحرّ في بطنه من الشدة حتى إنهم كانوا يضعون الثلج على بطنه ويسلطون على بطنه المراوح ولم يكن ينتفع منها بشيء! كما كانوا يضعون خلف ظهره المصطلى وجمرات النيران المتوقدة حتى يكاد ظهره يحترق ولكن ومع ذلك كان البرد القارس على شدته لا يتغير أبداً!إضافة إلى ذلك فقد كان يؤتى بسويق كثير جداً، والسويق هنا يراد به الماء مع الحليب ممزوجاً، فكان يشرب بمقدار ما يشربه خمسة أشخاص وهو مع ذلك يصيح (اسقوني! اهلكني العطش!) وكان لا يجديه شيئاً! وكان يشرب ويشرب ويشرب حتى انقدّ بطنه وانفجر كما ينقدّ البعير! فهذه معادلة من المعادلات.

2 - التبرير للحاكم الظالم، من الكبائر
اشارة

ومن الأحكام: إن التبرير للظالم والحاكم المستبد، حرام بل هو من أشدّ المحرمات، فإن بعض الناس دَرَجَ على اختلاق الأعذار للظالم بدل الانتصار للمظلوم، فإذا رأى عالماً سجن لأنه نطق بالحق ونهى عن المنكر أو مؤمناً حُبس لأنه دافع عن ظلامةٍ من ظلامات الناس، برّر للظالم واعترض على المظلوم لو بمقدار أن الحق عليه أو العتب عليه، وباللهجة الدارجة (صوچه)!! أو بالقول: إن الذي يقارع الظالم ولو بنهي عن المنكر وأمر بالمعروف فإنه قد خالف القانون وعرّض نفسه للسجن والأذى فهو الذي قد حفر قبره بيديه فماذا تتوقعون منّا!

ص: 57


1- سورة غافر: 60.
«مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ»

والغريب إن الله تعالى قد أعدّ العقوبة لمن يعذر الظالم بظلمه، في الدنيا قبل الآخرة، فقد ورد عن أبي عبد الله(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَلَمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ عَلَى ظُلَامَتِهِ»(1) فالأثر الوضعي لمن يعذر الظالم في ظلمه هو أن يسلط الله عليه من يظلمه جزاء خذلانه للمظلوم وإعذاره الظالم في ظلمه، وفوق ذلك فإنه لا يعطيه الله أجراً رغم وقوعه مظلوماً مع أن أجر المظلوم عظيم وذلك لمجرد انه أعذر ظالماً يوماً ما في ظلمه!وعن جعفر بن محمَّد (علیه السلام) قال: «مَنِ ارْتَكَبَ أَحَداً بِظُلْمٍ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ عَلَى وُلْدِهِ أَوْ عَلَى عَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ»(2).

فهذا حكم من الأحكام مع بعض آثاره الوضعية.

3- الآثار الأخروية لإعانة الظالم
اشارة

ومن المعادلات: ما ورد في الحديث الشريف عما هو مكتوب على الباب الرابع من أبواب جهنم فقد ورد: «وَعَلَى الْبَابِ الرَّابِعِ مَكْتُوبٌ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ:

أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ الْإِسْلَامَ، أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ لِلْمَخْلُوقِين»(3).

والظاهر من الحديث أن هذا الباب الرابع مخصص لدخول هذه الطوائف الثلاثة إلى النار: 1- من أهان الإسلام. 2- من أهان أهل البيت (علیهم السلام). 3 - من أعان

ص: 58


1- الكافي: ج2 ص334.
2- ثواب الأعمال: ص273.
3- مستدرك الوسائل: ج13 ص126.

الظالمين على ظلمهم للمخلوقين، فهم جميعاً في موقع واحد من مواقع جهنم!

«مَنْ مَدَحَ سُلْطَاناً جَائِراً كَانَ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ»

بل وفوق ذلك ورد في أمالي الصدوق: في مناهي النبي(صلی الله علیه و آله): «قَالَ: مَنْ مَدَحَ سُلْطَاناً جَائِراً وَتَخَفَّفَ وَتَضَعْضَعَ لَهُ طَمَعاً فِيهِ كَانَ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ».

وَقَالَ(صلی الله علیه و آله): قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلا

تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(1).

وَقَالَ(صلی الله علیه و آله): «مَنْ دَلَّ جَائِراً عَلَى جَوْرٍ كَانَ قَرِينَ هَامَانَ فِي جَهَنَّمَ».وقال(صلی الله علیه و آله): «مَنْ تَوَلَّى خُصُومَةَ ظَالِمٍ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ لَهُ: أَبْشِرْ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَنَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وَقال(صلی الله علیه و آله): «أَلَا وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّوْطَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنَ النَّارِ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعاً يُسَلَّطُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

ونهى عن إجابة الفاسقين إلى طعامهم(2).

وعن أبي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» قَالَ: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»(3). فهذه قاعدة من القواعد.

4- من أكبر الكبائر إضفاء الشرعية على الحاكم الجائر
اشارة

ومن الأحكام: إن من أكبر الكبائر ومن أشد المحرمات إضفاء الشرعية على الحكام الظَّلَمة.. ذلك إن الحكومات المستبدة الظالمة وعلى مر التاريخ كانت

ص: 59


1- سورة هود: 113.
2- الأمالي: ص426.
3- الكافي: ج2 ص331.

تتسلح في ظلمها للناس بسلاح الشرعية الذي تستحصله من الكهنة والقسيسين والرهبان والأحبار ورجال الدين السنة أو الشيعة، أي العلماء في كافة المذاهب والأديان.

فسرِّحوا النظر إلى كافة الحكومات الجائرة عبر التاريخ فهل تجدون حكومة خلت من العلماء من أعوان الظلمة؟

رسالة نادرة من الإمام السجاد (علیه السلام) إلى الزهري

ويكفينا نموذجاً على ذلك أن الزهري كان واحداً من أعلم علماء العصر وكان معروفاً بالقدس والورع وكان عظيم المنزلة جداً عند العلماء كما عند عامة الناس، ولكنه تحوّل إلى واحد من أهم أركان الخليفة الأموي الجائر وكان من المكانة العظيمة عند الناس بحيث آلم الإمام السجاد (علیه السلام) أشد الإيلام بتلبيسه على الناس، بل إنه أحرج موقع الخلافة الشرعية إذ أسدل عباءة الشرعية على الخلافة الأموية، وذلك أنه كان من أعلم علماء عصره إن لم يكن الأعلم ويكفي قول الإمام السجاد (علیه السلام) عنه: «فَقَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَأَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ وَقَامَتْ عَلَيْكَ حُجَجُ اللَّهِ بِمَا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ وَعَرَّفَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله) ».

بل بلغ الأمر إلى درجة أن يكتب الإمام السجاد (علیه السلام) له رسالة نادرة غريبة في مضامينها تكشف عن عمق المأساة عندما يدخل العلماء في سلك الحكام ويبررون للحكام أعمالهم وظلمهم وجورهم.

فقد كتب الإمام علي بن الحسين علیهما السلام في كتابه للزهري محذِّراً له عن عظيم عقاب الله له على إعانته الظلمة على ظلمهم: «كَفَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْفِتَنِ وَرَحِمَكَ مِنَ النَّارِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ بِهَا أَنْ يَرْحَمَكَ فَقَدْ

ص: 60

أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَ أَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ وَ قَامَتْ عَلَيْكَ حُجَجُ اللَّهِ بِمَا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَ فَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ وَ عَرَّفَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله).

فَرَضَ لَكَ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ وَ فِي كُلِّ حُجَّةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْكَ الْفَرْضَ فَمَا قَضَى إِلَّا ابْتَلَى شُكْرَكَ فِي ذَلِكَ وَ أَبْدَى فِيهِ فَضْلَهُ عَلَيْكَ فَقَالَ «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» فَانْظُرْ أَيُّ رَجُلٍ تَكُونُ غَداً إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَسَأَلَكَ عَنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ رَعَيْتَهَا وَعَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا؟

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ قَابِلًا مِنْكَ بِالتَّعْذِيرِ وَلَا رَاضِياً مِنْكَ بِالتَّقْصِيرِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ كَذَلِكَ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي كِتَابِهِ إِذْ قَالَ «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ».

وَاعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا كَتَمْتَ وَ أَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنْ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ وَسَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِنْهُ حِينَ دَنَوْتَ وَإِجَابَتِكَ لَهُ حِينَ دُعِيتَ فَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ تَبُوءُ بِإِثْمِكَ غَداً مَعَ الْخَوَنَةِ وَأَنْ تُسْأَلَ عَمَّا أَخَذْتَ بِإِعَانَتِكَ عَلَى ظُلْمِ الظَّلَمَةِ إِنَّكَ أَخَذْتَ مَا لَيْسَ لَكَ مِمَّنْ أَعْطَاكَ وَدَنَوْتَ مِمَّنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ حَقّاً وَلَمْ تَرُدَّ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ وَأَحْبَبْتَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ».

ثم قال (علیه السلام): «أَوَلَيْسَ بِدُعَائِهِ إِيَّاكَ حِينَ دَعَاكَ جَعَلُوكَ قُطْباً أَدَارُوا بِكَ رَحَى مَظَالِمِهِمْ وَ جِسْراً يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَايَاهُمْ وَ سُلَّماً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ دَاعِياً إِلَى غَيِّهِمْ سَالِكاً سَبِيلَهُمْ يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَ يَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَالْجُهَّالِ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْلُغْ أَخَصُّ وُزَرَائِهِمْ وَ لَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ وَ اخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَ الْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ فَمَا أَقَلَّ مَا أَعْطَوْكَ فِي قَدْرِ مَا أَخَذُوا مِنْكَ وَ مَا أَيْسَرَ مَا عَمَرُوا لَكَ في كَنَفِ مَا خَرَّبُوا عَلَيْكَ...»(1).

ص: 61


1- تحف العقول: ص275.

وعبارات الإمام (علیه السلام) دقيقة ذات دلالات بالغة جداً ولنسلط العدسات على بعضها فقط:

أ - «وَاعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا كَتَمْتَ وَأَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنْ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ...» فحتى هذا المقدار حرام وإثم ومعصية.

ب - «جَعَلُوكَ قُطْباً أَدَارُوا بِكَ رَحَى مَظَالِمِهِمْ وَ جِسْراً يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَايَاهُمْ وَ سُلَّماً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ» وذلك لأن الحكام الظلمة لا يمكنهم عادة الظلم إلا متسلحين بسلاح الشرعية التي يمنحها لهم العلماء مقابل بعض حطام الدنيا!

ج - قوله (علیه السلام): «يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ» وهو أغرب إذ يظهر منه أن الزهري كان أكبر أو من أكبر علماء عصره حتى أن العلماء إذ كانوا يرونه مع الحاكم الأموي كانوا يشكون في أن الحق مع من؟ مع أهل البيت (علیهم السلام)؟ أم مع الشجرة الملعونة في القرآن؟ بل لعلهم كانوا يخدعون به حتى ليكاد يخيل إليهم أن الأمويين على حق لأن مثل الزهري معهم! وما أعظم ما يشكّله ذلك من إحراج لجبهة الحق وأعلام التقى بل ما أعظم ما شكّله من إحراج للإمام السجاد (علیه السلام) بنفسه حتى كتب له هذه الرسالة المؤلمة - المقرحة.

د - قوله (علیه السلام): «فَلَمْ يَبْلُغْ أَخَصُّ وُزَرَائِهِمْ وَلَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ»(1) والذي يدل بوضوح على أن أقوى دعائم الظلم هم العلماء وأنهم أقوى من سائر أعوانهم كافة من ضباط وقادة ورؤساء وجيوش ووزراء ومسؤولين.

أحاديث غريبة وضعها ضد الأئمة (علیهم السلام) تزلّفاً للسلطان

ولعل السر في تشدّد الإمام السجاد (علیه السلام) في الكلام مع الزهري وعمق تألمه منه

ص: 62


1- راجع تمام رسالته (علیه السلام) للزهري في الملحق.

يعود إلى أنه كان قد برع في جعل الأحاديث ضد أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء علیهما السلام (وهذا لعمري من العجائب) وفي وضع الأحاديث التي تكرس دعائم الحكم الأموي الجائر حتى أن ابن أبي الحديد صرح بأن الزهري كان مثل أبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو العاص في وضع الأحاديث واختلاقها وجعلها على لسان رسول الله(صلی الله علیه و آله).

فقد روى(!) الزهري بأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) طرق باب علي وفاطمة، فقال لهما: ألا تصليان؟ قال علي فقلت: يا رسول اللّه إنّما أنفسنا بيد اللّه عزّ وجلّ فإن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف النبي وهو يقول: «وَكَانَ

الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»(1).

والكذب والدجل واضح بيّن وقد أراد الزهري أن يحوّل الفضيلة إلى رذيلة بعد أن لم يمكنه إنكارها من أصلها إذ كان الناس يعلمون أن الرسول(صلی الله علیه و آله) عندما نزل قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(2) كان يمر على بيتهما لمدة ثمانية أشهر أو تسعة ويتلو عليهم قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» ليكرس في أذهان الناس أنهم هم أهل البيت (علیهم السلام) وأن: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(3)(4) لا يراد بها إلا هم! فتطوعالزهري لوضع هذا الحديث

ص: 63


1- سورة الكهف: 54.
2- سورة طه: 132.
3- سورة الأحزاب: 33.
4- روى الحافظ الحسكاني (الحنفي) قال: أخبرنا الحاكم الوالد (بإسناده المذكور) عن أبي الحمراء خادم النبي(صلی الله علیه و آله): إنّه لمّا نزلت هذه الآية: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها». كان النبي(صلی الله علیه و آله) يأتي باب علي وفاطمة كل صلاة فيقول: الصلاة رحمكم الله «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». (شواهد التنزيل - وهامشه: ج1ص381 - ص382). تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 ه). » « وقوله: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» فإن الله أمره أن يخص أهله دون الناس ليعلم الناس أن لأهل محمد(صلی الله علیه و آله) عند الله منزلة خاصة ليست للناس إذ أمرهم مع الناس عامة ثم أمرهم خاصة فلما أنزل الله هذه الآية كان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يجيء كل يوم عند صلاة الفجر حتى يأتي باب علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فيقول علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام): وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم يأخذ بعضادتي الباب ويقول: «الصلاة الصلاة يرحمكم الله: « إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» » فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا, وقال أبو الحمراء خادم النبي(صلی الله علیه و آله) أنا أشهد به يفعل ذلك. وفي العيون عن الرّضا (علیه السلام): في هذه الآية قال خصّنا الله بهذه الخصوصيّة إذا أمرنا مع الأمّة بإقامة الصّلاة ثم خصّنا من دون الأمة فكان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يجيء إلى باب عليّ وفاطمة (علیهم السلام) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات فيقول: الصلاة رحمكم الله وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصّنا من دون جميع أهل بيتهم.

ليصورهما(علیهما السلام) متثاقلين عن الصلاة ويصوّر انزعاج النبي(صلی الله علیه و آله) منه (علیه السلام) ووصفه له بأنه أكثر شيء جدلاً!

والأغرب من ذلك أنه ترقى في عدائه وكذبه وتدليسه وحقده حتى وضع الحديث التالي:

كما روى الزهري عن عائشة أنّها قالت: كنت يوماً عند رسول اللّه فجاء العباس وعلي فقال رسول اللّه: يا عائشة هذان يموتان على غير ديني!! وذلك ما لم يقله إلا أبغض النواصب وأشدهم حقداً وخبثاً ومكراً ودناءة.فهذا كله من جهة ومن جهة أخرى كان يكذب في الاتجاه الآخر أيضاً إذ كان من أكاذيب الزهري ولأجل أن يلبس على الناس ويخفف من حدّة كراهيتهم لآل مروان يقول: (وكان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك)!!

ص: 64

5- جماهير الناس، في معرفة الحق، ليسوا هم المقياس!

ومن المعادلات: إن الكثير من الناس يتصور أن الحق هو مع هذه الحكومة أو تلك، لا للتضليل الإعلامي فحسب بل لأنهم يجدون الحكومات قادرة على تحشيد الملايين من الناس في الشوارع وفيهم العلماء وأساتذة الجامعات ووجوه المجتمع، فكيف تكون الحكومة على باطل!

ولكن ذلك غفلة عن أن (الحق) لا يعرف بذلك، وإلا لكان فرعون والحجاج وهتلر وستالين وموسوليني، من سادة المحقين وطليعة أهل الحق، وكان النبي نوح وموسى(علیهما السلام) والإمام السجاد (علیه السلام) والمظلومون على باطل!

ويكفي أن نشير إشارة خاطفة إلى أن الناس كيف تخلّوا - بعلمائهم ووجهائهم - عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين (علیه السلام) وعن البضعة الطاهرة وانحازوا إلى صف الطغاة بل وشارك كثير منهم في العدوان السافر ضد سيد الأوصياء أو - على الأقل - لم يحركوا ساكناً حين هجم الأعداء الغاصبون على دار ابنة الرسول وبضعته (علیها السلام) وأحرقوا الباب ولطموا خدّ سيدة نساء العالمين (علیها السلام)، وما أعظمها من فاجعة كبرى تهتز لها الجبال الرواسي وتبكي لها العيون دماً:

قال سليمٌ قلتُ يا سلمانُ *** هل دخلوا ولم يك استئذانُ

فَقَالَ إِي وعِزَةِ الجبارِ *** وما على الزهراءِ من خمارِ

لكنها لاذتْ وراءَ البابِ *** رعايةً للسترِ والحجابِ

فمُذ رَأَوها عصروها عصره *** كادت بنفسي أن تموتَ حسره

نادت أيا فضةُ أسنديني *** فقد وربي أسقَطُوا جَنِينِي

فَأسقَطَت بنتُ الهدى وا حزنَا *** جَنِينَها ذاكَ المسمَى مُحْسِنا

ص: 65

أتُضْرَمُ النارُ بِبَاب دَارِها *** وآيةُ النُورِ على منارِها

وبابُها بابُ نبيِ الرحمةْ *** وبابُ أبوابِ نجاةِ الأمة

بل بابُها بابُ العليِ الأعلى *** فثَمَ وجهُ اللهِ قد تجَلَى

ماكْتَسَبُوا بالنارِ غَيرَ العارِ *** ومن ورائِهِ عذابُ النارِ

ما أجْهَلَ القومَ فإن النارَ لا *** تُطْفِأُ نورَ اللهِ جَلَ وعلا

فاحْمرَّتِ العينُ وعينُ المعرفةْ *** تُذْرَفُ بالدمعِ عَلى تلك الصِفَةْ

ولا يُزيلُ حُمْرَةَ العَينِ سِوى *** بِيضُ السُيوفِ يومَ يُنْشَرُ اللِوا

وللسياطِ رَنَةٌ صَدَاهَا *** فِي مَسْمَعِ الدَهْرِ فَمَا أَشْجَاهَا

والأَثَرُ البَاقِي كَمِثْلِ الدُمْلُجِ *** في عَضُدِ الزَهْرَاءِ أَقْوَى الحُجَجِ

ومن سَوَادِ مَتنِهَا اسْودَ الفضا *** يا ساعدَ اللهُ الإمامَ المرتضى

ووَكزُ نَعلِ السَيفِ فِي جَنْبَيْهَا *** أتَى بِكُلِ مَا أَتَى عَليها

ولَسْتُ أَدْرِي خَبَرَ المِسْمَارِ *** سَلْ صَدْرَهَا خِزَانَةَ الأسْرارَ

وفِي جَبِينِ المَجْدِ ما يُدْمِي الحَشَا *** وهَلْ لَهُمَ إخْفاءُ أمرٍ قد فشا

والبابُ والجِدَارُ والدِمَاءُ *** شُهُودُ صِدْقٍ مَا بِهَا خَفَاءُ

قال سليمٌ قلتُ يا سلمانُ *** هل دخلوا ولم يك استئذانُ

لَقَدْ جَنَىْ الجَانِي عَلَى جَنِينِها *** فَانْدَكَتِ الجِبَالُ مِنْ حَنِينِها

أَهَكَذَا يُصْنَعُ بِابْنَةِ النَبِي *** حِرْصًا على المُلكِ فَيَا لِلْعَجَبِ

أَتُمْنَعُ المَكْرُوبَةُ المَقْرُوحَه *** عَنِ البُكَا خَوْفًا مِنَ الفَضِيحَةْ

واللهِ يَنْبَغِي لَهَا تَبْكِي دَمَا *** مَا دَامَتِ الأَرْضُ ودَارَتِ السَمَاءْ

ص: 66

لِفَقْدِ عِزِهَا أبِيهَا السَامِي *** ولِاهْتِضَامِهَا وذِلِ الحَامِي

لَكِنَ كَسْرَ الضِلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ *** إلا بِصِمْصَامِ عَزِيزٍ مُقْتَدِرْ

إِذْ رَضُ تِلْكَ الأَضْلُعِ الزَكِيَةْ *** رَزِيَةٌ مَا مِثْلُهَا رَزِيَةْ

ومع كل تلك الجرائم المروعة لم يفعل الناس شيئاً إما لجبن وخوف أو لطمع في مال أو منصب أو شبه ذلك، وقد قال سيد الشهداء (علیه السلام): «النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ»(1).

السيد الحكيم (رحمه الله) مسيرة علم وجهاد

وأخيراً لنضرب مثلاً من التاريخ القريب يضجّ بالعِبَر والدروس والدلالات، عن أحد أكبر مراجع التقليد العظام الذين تصدّوا للحكومات الجائرة الظالمة ودفعوا ضريبة ذلك غالية جداً، ولكنّ ذلك لم يُثنِهم عن مواصلة المسيرة الجهادية لعشرات السنين رغم كافة الضغوطات المرعبة، ورغم أن الناس تخلّوا عنهم في أحرج اللحظات، ليعيد التاريخ نفسه.

وسوف نجد في هذه اللقطات من التاريخ المعاصر أنموذجاً مشرقاً من الوكلاء في عصر الغيبة ينطق بعمق المأساة في خذلان الأكثر حتى للمرجع الأعلى إذا ما قارع الحكام الظلمة وواجههم بمرّ الحق ولم ينحنِ لهم ولم يرضخ لباطلهم.

السيد محسن الحكيم (رحمه الله) المرجع الأعلى في زمانه، كان من طلائع العلماء المجاهدين منذ سني عمره المبكرة ففي عام 1914م (وكان عمره آنذاك 25 عاماً) شارك في ثورة الشعيبة بالبصرة ضد الإنكليز، وهي الثورة التي قادها علماء

ص: 67


1- تحف العقول: ص245.

الدين وعلى رأسهم السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد علي الداماد والسيد عبد الرزاق الحلو والسيد مهدي الحيدري وغيرهم.

وقد قاد هؤلاء العلماء الشعب العراقي لمقاتلة الانكليز ومنعهم من دخول العراق ودارت معارك ضارية في منطقة الشعيبة، واستشهد في هذه المعارك عدد من العلماء، ثم شارك السيد الحكيم (رحمه الله) في ثورة العشرينبقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي (رحمه الله) ثم شيخ الشريعة الاصفهاني والشيخ محمد جواد الجزائري والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي والشيخ جواد الجواهري والشيخ مهدي الخالصي وغيرهم.

عبد الكريم يتبنّى الشيوعيين، والحكيم يواجهه بصلابة

وفي عام 1958 وبعد انقلاب 14 تموز، تبنّى عبد الكريم قاسم سياسة تضرب الدين في الصميم إذ تحالف مع الحزب الشيوعي وفتح له المجال بل واحتضنهم واعطائهم أعلى المناصب في الدولة وسخر لهم كافة الامكانيات والأموال والإعلام وغير ذلك مستهدفاً أن يحولهم إلى رقم صعب يحكم الشعب كله، منطلقاً من فلسفة خرقاء إذ أراد دفع الفاسد بالأفسد حيث أراد مواجهة التيار القومي الذي يقوده جمال عبد الناصر، بالتيار الشيوعي الذي لا يقارن به من حيث الانحراف والفساد من عدة جهات.

وعند ذاك تصدى السيد الحكيم (رحمه الله) وسائر العلماء لهذا المخطط بكل قوة وذلك على الرغم من جوّ الرعب الحاكم إذ كانوا الشيوعيون يسحلون من يعارضهم بالشوارع ويقتلون المعارضين بدم بارد بتأييد من عبر الكريم قاسم شخصياً، فاصدر فتواه المعروفة:

ص: 68

(بسم الله الرحمن الرحيم

لا يجوز الإنتماء للحزب الشيوعي، فإن ذلك كفر وإلحاد، أو ترويج للكفر والإلحاد. أعاذكم الله وجميع المسلمين من ذلك، وزادكم إيماناً وتسليماً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محسن الطباطبائي الحكيم

17 شعبان 1379. وقد وافق ذلك 15/2/1959م)

وسارع العلماء الأعلام إلى تأييد السيد محسن الحكيم (رحمه الله) في فتواه ومنهم آيات الله العظام السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي والسيد ميرزا مهدي الشيرازي والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد عبد الله الشيرازي والشيخ عبد الكريم الزنجاني والسيد جواد التبريزي و الشيخ عبد الكريم الجزائري والسيد محمد علي الطبطبائي والشيخ مرتضى آل ياسين ».

انتقام السلطات والشيوعيين من السيد الحكيم والمتدينين

وفي مقابل ذلك وغيره أطلق الشيوعيون حملات تسقيطية: سياسية - اجتماعية - جماهيرية - فكرية رهيبة ضد رجال الدين والمتدينين، وكان من ذلك:

أ - إنهم أشاعوا في الأجواء أن (الدين أفيون الشعوب) وأنه رجعية وتخلف.

ب - بل وأكثر من ذلك: فقد عمموا على كافة كوادرهم ووسائل إعلامهم أن (كل متدين فهو مجرم) والسبب (إنه يعيق تقدم المجتمع)! ومن الواضح أن مفردة (المجرم) تتسع إلى درجة الحكم عليه بأنه يستحق القتل بأبشع الصور، كما كانوا يفعلون ذلك بالفعل! إذ تكرر أن أمسكوا ببعض المعارضين وربطوا إحدى رجليه إلى سيارة ورجله الأخرى إلى سيارة أخرى بحبال قوية، ثم وفي مظاهرات صاخبة مرعبة تنطلق السيارتان بسرعة كبيرة في اتجاهين متضادين

ص: 69

لكي يرى الناس بأمّ أعينهم كيف ينشطر المتدين المعارض إلى شطرين بأفجع الصور لمجرد انه عارض الشيوعية!

ج - وحرّكوا الجهلة والغوغاء ضد السيد الحكيم (رحمه الله)، حتى أنه بلغ من وقاحتهم أن صاحب دكان مجاور لمنزل السيد محسن الحكيم، كان عندما يخرج السيد من داره يرفع صوت المذياع بأناشيد الشيوعيين، حتى إذا اقترب السيد من دكانه رفع صوته: عفلقي عفلقي! بمعنى أنه من جماعة ميشيل عفلق، وكان ذلك هو إتهامهم المعلّب لمن لا يخضع لعبد الكريم! وكان من جملة شعاراتهم: (وِلْما يصفگ عفلقي، والحبال موجودة!) أي: من لم يصفق للشيوعيين ولعبد الكريم فهو بعثي، والحبال جاهزة لكي تسحله في الشوارع!

وإذا رجعتم إلى الوراء وعشتم في تلك الأجواء وتجسدتم الرعب الحاكم على العراق كله لعرفتم قيمة الجهاد والمجاهدين وأنه لولاهم لالتهمت الشيوعية العراق وعمَّ الإلحاد والفساد بأبشع صُوَرِه، بلادَ علي والحسين (علیهما السلام)!

د - وبلغت الحالة من الشدة إلى درجة أن طلاب الحوزة العلمية كانوا لا يتجرأون على الخروج إلى دروسهم وإلى المساجد فرادى إذ كان يمكن أن تهاجمهم في كل لحظة جماعات المقاومة الشعبية!

وكان كثيراً من الطلاب وعوائلهم يعيشون في رعب وقلق إذ كان يحتمل في كل ليلة أن تهجم عليهم في بيوتهم قوات المقاومة الشعبية وتقتادهم إلى المجهول أو تقتلهم رأساً!

حزب البعث يواجه الحوزة العلمية ويطارد العلماء

وفي العام 1968 قام حزب البعث، وبتخطيط ومساندة أسياده، بانقلاب عسكري وأمسكوا أزمّة الحكم في العراق بالعنف والإرهاب وقاموا بمطاردة

ص: 70

العلماء وملاحقة المؤمنين، بل نص قرار صادر عن القيادتين القطرية والقومية في 4 نيسان 1969م على ضرورة القضاء على المرجعية الدينية لأنها العقبة الكبرى أمام أهدافهم(1).

وقد أقدمت السلطات الجائرة على تسفير أعداد كبيرة من طلبة العلوم الدينية والعلماء إلى ايران متذرعين بأن أصلهم إيراني وكانت عناصر الأمن تداهم المدارس الدينية وتعتقل الطلاب والعلماء وتسوقهم إلى السجون، وكان السيد محسن الحكيم (رحمه الله) حينذاك في كربلاء لزيارة الأربعين فقطع زيارته ورجع إلى النجف احتجاجا على ذلك، وقد أرسلت السلطات وفداً رفيع المستوى لمقابلة السيد الحكيم (رحمه الله) وتهدئته وكان في الوفد حردان التكريتي.

المرجعية العليا تستعرض قوتها الجماهيرية

ثم سافر السيد الحكيم (رحمه الله) إلى بغداد ليستعرض قوة المرجعية الدينية العليا وجماهيريتها.

قال حردان التكريتي في مذكراته: (إن السيد الحكيم سافر إلى بغداد بحجة المرض وكان يقصد عرض القوة التي يتمتع بها، وفعلاً جاءت إليه الوفود من كل مكان وعندما زاره اثنان من المسؤولين موفدين من قبل الرئيس خاطبهم بلهجة قاسية مطالباً إياهم الإفراج الفوري عن رجال الدين والكف عن ملاحقة الاخرين)(2).

السلطات تعتقل العلماء وتحاصر المرجع الأعلى

والآن لننتقل إلى الوجه الآخر للأمر، فقد افتعلت الحكومة مسرحية هزيلة اتهمت فيها نجل المرجع الأعلى، وهو العلامة السيد مهدي الحكيم (رحمه الله) كما

ص: 71


1- راجع مذكرات حردان التكريتي.
2- مذكرات حردان التكريتي: ص19.

اتهمت السيد العم آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) بالتجسس وأمرت بإلقاء القبض عليهما فأمكنهم اعتقال السيد العم وعذبوه في سجن بعقوبة بأنواع من التعذيب بلغت 44 نوعاً! وكان منها أنهم كانوا يدقون ابراً طويلة بالمطرقة في أصابع يديه (بين الأظفر والأصبع) حتى تنفذ إلى داخل الأصبع أو تنكسر! ولَكُمْ أن تتصوروا العذاب الرهيب والألم الشديد الذي يعتصر السجين في تلكالدقائق وحتى إلى أيام أو أسابيع! وقد ذكر السيد الوالد (رحمه الله) أنواعاً كثيرة منها في كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام).

واما السيد مهدي الحكيم (رحمه الله) فقد أمكنه أن يهرب متخفياً، ولكن قوات الأمن طوقت منزل المرجع الأعلى السيد الحكيم (رحمه الله) وقطعت عنه الماء والكهرباء لفترة من الزمن، ومع ذلك كله لم نجد الناس يحركون ساكناً؛ نعم خرجت بعض المظاهرات وعطلت الأسواق لفترة، ولكن الناس استسلموا بعد ذلك! وبقي السيد الحكيم (رحمه الله) وحده! ولكن ذلك كله لم يثنه عن عزمه أبداً.

وموطن الشاهد: إن تلك الأيام انقضت، وبقي السيد الحكيم (رحمه الله) قامة شامخة في سماء العلم والجهاد، ورمى التاريخُ الشيوعيينَ والبعثيينَ بلعناته وأصبحوا مثلاً للطغاة الذي ينتقم الله منهم شر انتقام ولو بعد مضي السنين والأعوام فإن (الله يمهل ولا يهمل) إذ قال النّبي(صلی الله علیه و آله): «إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى يَقُولَ قَدْ أَهْمَلَنِي ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَةً رَابِيَةً، إِنَّ اللَّهَ حَمِدَ نَفْسَهُ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّالِمِينَ فَقَالَ: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(1) »(2) و«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(3).

ص: 72


1- سورة الأنعام: 45.
2- أعلام الدين: ص315.
3- سورة الفجر: 14.

والتاريخ يعيد نفسه وباستمرار...

مستقبلكم بأيديكم: إما من أعوان الظلمة أو من أنصار المظلومين!

وكلكم أخوتي الأفاضل وأبنائي الكرام طوال سِنيّ عمركم القادمة، وقد تكون عشرات السنين بإذن الله، ستواجهون حكومات جائرة في أي بلد عشتم فيه وستشهدون قرارات ظالمة من الحكومات المتعاقبة، فاحسموا أمركم: فهل تريدون عَرَض الحياة الدنيا أم تريدون رضا الله والآخرة! وهل تريدون عزاً زائلاً أو تطلبون مجداً خالداً؟ وهل تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو تكونون من أعوان الظلمة وأنصار المستبدين؟مهما كان فتذكروا قوله تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(1) و«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» وقوله (علیه السلام): «وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ»(2) وقوله (علیه السلام): «مَنْ أَرَادَ عِزّاً بِلَا سُلْطَانٍ وَكَثْرَةً بِلَا إِخْوَانٍ وَهَيْبَةً بِلَا مَالٍ فَلْيَنْتَقِلْ مِنْ ذُلِّ مَعَاصِي اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ»(3).

ص: 73


1- سورة هود: 113.
2- نهج البلاغة: ص49.
3- تحف العقول: ص376.
الملحق

كِتَابُ الإمام السجاد صلوات الله عليه إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ يَعِظُهُ:

«كَفَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْفِتَنِ وَرَحِمَكَ مِنَ النَّارِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ بِهَا أَنْ يَرْحَمَكَ فَقَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَأَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ وَقَامَتْ عَلَيْكَ حُجَجُ اللَّهِ بِمَا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ وَعَرَّفَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله) فَرَضَ لَكَ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِها عَلَيْكَ وَفِي كُلِّ حُجَّةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْكَ الْفَرْضَ، فَمَا قَضَى إِلَّا ابْتَلَى شُكْرَكَ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى فِيهِ فَضْلَهُ عَلَيْكَ فَقَالَ «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» فَانْظُرْ أَيُّ رَجُلٍ تَكُونُ غَداً إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَسَأَلَكَ عَنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ رَعَيْتَهَا وَعَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا.

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ قَابِلًا مِنْكَ بِالتَّعْذِيرِ وَلَا رَاضِياً مِنْكَ بِالتَّقْصِيرِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ كَذَلِكَ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي كِتَابِهِ إِذْ قَالَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا كَتَمْتَ وَأَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنْ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ وَسَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِنْهُ حِينَ دَنَوْتَ وَإِجَابَتِكَ لَهُ حِينَ دُعِيتَ فَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ تَبُوءُ بِإِثْمِكَ غَداً مَعَ الْخَوَنَةِ وَأَنْ تُسْأَلَ عَمَّا أَخَذْتَ بِإِعَانَتِكَ عَلَى ظُلْمِ الظَّلَمَةِ إِنَّكَ أَخَذْتَ مَا لَيْسَ لَكَ مِمَّنْ أَعْطَاكَ وَدَنَوْتَ مِمَّنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ حَقّاً وَلَمْ تَرُدَّ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ وَأَحْبَبْتَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ.

أَوَلَيْسَ بِدُعَائِهِ إِيَّاكَ حِينَ دَعَاكَ جَعَلُوكَ قُطْباً أَدَارُوا بِكَ رَحَى مَظَالِمِهِمْ وَجِسْراً يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَايَاهُمْ وَسُلَّماً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ دَاعِياً إِلَى غَيِّهِمْ سَالِكاً سَبِيلَهُمْ يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَيَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَّالِ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْلُغْ أَخَصُّ وُزَرَائِهِمْ وَلَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ

ص: 74

وَاخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ فَمَا أَقَلَّ مَا أَعْطَوْكَ فِي قَدْرِ مَا أَخَذُوا مِنْكَ وَمَا أَيْسَرَ مَا عَمَرُوا لَكَ فَكَيْفَ مَا خَرَّبُوا عَلَيْكَ.

فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ لَهَا غَيْرُكَ وَحَاسِبْهَا حِسَابَ رَجُلٍ مَسْئُولٍ وَانْظُرْ كَيْفَ شُكْرُكَ لِمَنْ غَذَّاكَ بِنِعَمِهِ صَغِيراً وَكَبِيراً فَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا إِنَّكَ لَسْتَ فِي دَارِ مُقَامٍ أَنْتَ فِي دَارٍ قَدْ آذَنَتْ بِرَحِيلٍ فَمَا بَقَاءُ الْمَرْءِ بَعْدَ قُرَنَائِهِ طُوبَى لِمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجَلٍ يَا بُؤْسَ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.احْذَرْ فَقَدْ نُبِّئْتَ وَبَادِرْ فَقَدْ أُجِّلْتَ إِنَّكَ تُعَامِلُ مَنْ لَا يَجْهَلُ وَإِنَّ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ لَا يَغْفُلُ تَجَهَّزْ فَقَدْ دَنَا مِنْكَ سَفَرٌ بَعِيدٌ وَدَاوِ ذَنْبَكَ فَقَدْ دَخَلَهُ سُقْمٌ شَدِيدٌ وَلَا تَحْسَبْ أَنِّي أَرَدْتُ تَوْبِيخَكَ وَتَعْنِيفَكَ وَتَعْيِيرَكَ لَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَنْعَشَ اللَّهُ مَا قَدْ فَاتَ مِنْ رَأْيِكَ وَيَرُدَّ إِلَيْكَ مَا عَزَبَ مِنْ دِينِكَ وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أَغَفَلْتَ ذِكْرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَسْنَانِكَ وَأَقْرَانِكِ وَبَقِيتَ بَعْدَهُمْ كَقَرْنٍ أَعْضَبَ انْظُرْ هَلِ ابْتُلُوا بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيتَ أَمْ هَلْ وَقَعُوا فِي مِثْلِ مَا وَقَعْتَ فِيهِ أَمْ هَلْ تَرَاهُمْ ذَكَرْتَ خَيْراً عَلِمُوهُ وَعَلِمْتَ شَيْئاً جَهِلُوهُ بَلْ حَظِيتَ بِمَا حَلَّ مِنْ حَالِكَ فِي صُدُورِ الْعَامَّةِ وَكَلَّفَهُمْ بِكَ إِذْ صَارُوا يَقْتَدُونَ بِرَأْيِكَ وَيَعْمَلُونَ بِأَمْرِكَ إِنْ أَحْلَلْتَ أَحَلُّوا وَإِنْ حَرَّمْتَ حَرَّمُوا وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَلَكِنْ أَظْهَرَهُمْ عَلَيْكَ رَغْبَتُهُمْ فِيمَا لَدَيْكَ ذَهَابُ عُلَمَائِهِمْ وَغَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ وَطَلَبُ الدُّنْيَا مِنْكَ وَمِنْهُمْ أَ مَا تَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةِ وَمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ قَدِ ابْتَلَيْتَهُمْ وَفَتَنْتَهُمْ بِالشُّغُلِ عَنْ مَكَاسِبِهِمْ مِمَّا رَأَوْا فَتَاقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا مِنَ الْعِلْمِ مَا بَلَغْتَ أَوْ يُدْرِكُوا بِهِ مِثْلَ الَّذِي

ص: 75

أَدْرَكْتَ فَوَقَعُوا مِنْكَ فِي بَحْرٍ لَا يُدْرَكُ عُمْقُهُ وَفِي بَلَاءٍ لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ فَاللَّهُ لَنَا وَلَكَ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.

أَمَّا بَعْدُ فَأَعْرِضْ عَنْ كُلِّ مَا أَنْتَ فِيهِ حَتَّى تَلْحَقَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ دُفِنُوا فِي أَسْمَالِهِمْ لَاصِقَةً بُطُونُهُمْ بِظُهُورِهِمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ وَلَا تَفْتِنُهُمُ الدُّنْيَا وَلَا يُفْتَنُونَ بِهَا رَغِبُوا فَطُلِبُوا فَمَا لَبِثُوا أَنْ لَحِقُوا فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا تَبْلُغُ مِنْ مِثْلِكَ هَذَا الْمَبْلَغَ مَعَ كِبَرِ سِنِّكَ وَرُسُوخِ عِلْمِكَ وَحُضُورِ أَجَلِكَ فَكَيْفَ يَسْلَمُ الْحَدَثُ فِي سِنِّهِ الْجَاهِلُ فِي عِلْمِهِ الْمَأْفُونُ فِي رَأْيِهِ الْمَدْخُولُ فِي عَقْلِهِ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عَلَى مَنِ الْمُعَوَّلُ وَعِنْدَ مَنِ الْمُسْتَعْتَبُ نَشْكُو إِلَى اللَّهِ بَثَّنَا وَمَا نَرَى فِيكَ وَنَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبَتَنَا بِكَ فَانْظُرْ كَيْفَ شُكْرُكَ لِمَنْ غَذَّاكَ بِنِعَمِهِ صَغِيراً وَكَبِيراً وَكَيْفَ إِعْظَامُكَ لِمَنْ جَعَلَكَ بِدِينِهِ فِي النَّاسِ جَمِيلًا وَكَيْفَ صِيَانَتُكَ لِكِسْوَةِ مَنْ جَعَلَكَ بِكِسْوَتِهِ فِي النَّاسِ سَتِيراً وَكَيْفَ قُرْبُكَ أَوْ بُعْدُكَ مِمَّنْ أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ قَرِيباً ذَلِيلًا مَا لَكَ لَا تَنْتَبِهُ مِنْ نَعْسَتِكَ وَتَسْتَقِيلُ مِنْ عَثْرَتِكَ فَتَقُولَ وَاللَّهِ مَا قُمْتُ لِلَّهِ وَاحِداً أَحْيَيْتُ بِهِ لَهُ دِيناً أَوْ أَمَتُّ لَهُ فِيهِ بَاطِلًا فَهَذَا شُكْرُكَ مَنِ اسْتَحْمَلَكَ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا اسْتَحْمَلَكَ كِتَابَهُ وَاسْتَوْدَعَكَ عِلْمَهُ فَأَضَعْتَهَا فَنَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَالسَّلَامُ»(1).

ص: 76


1- تحف العقول: ص274 - 277.

خامساً: الهداية الشهودية بعد الهداية العلمية

اشارة

الجواب الخامس: سبق الكلام عن شبهة: إن طلب الهداية من الله تعالى في قولنا «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» إنما هو طلب للحاصل، خاصة وإن هذا الطلب في هذه السورة جاء بعد التصريح بالإذعان بالله تعالى وبصفات جماله «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وبحمده والثناء عليه «الْحَمْدُ للّهِ» وبكونه المربي للعوالم كلها «رَبِّ الْعَالَمِينَ» وبعد التصريح بالإيمان بالآخرة وأنه تعالى مالك لها «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ثم بعد كل تلك الاعترافات تقول: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» أفليس ذلك طلباً للحاصل؟

وقد أجبنا عن ذلك بأجوبة عديدة وأما الجواب الآخر(1) فهو:

إن الهداية على قسمين: الهداية العلمية - العقلية، والهداية القلبية - الشهودية(2)،

فيكون من مصاديق الآية الشريفة الدعاء بالهداية القلبية والشهودية بعد حصول العلمية والعقلية، وتوضيح ذلك:

إن الهداية العقلية - العلمية تعتمد على البراهين والأرقام الجافة وعلى المعادلات الجامدة، وذلك كبرهان إبطال الدور أو التسلسل لإثبات أن الممكن لابدّ له من خالق هو واجب الوجود بالذات وإلا للزم أحدهما، وهذه البراهين تفيد العلم لكن العلم جافّ بطبعه فإنه يتعامل مع الحقائق كما هي ومع منطقة العقل فقط، أما القلب فإنه منطقه المحبة والعاطفة والتفاعل الوجداني، فقد يعتقد الإنسان بوجود الله تعالى وقد يتعلق لُبُّهُ به فيستشعر محبته في أعماق كيانه ويَخفِق قلبه عند ذكر اسمه تعالى، قال تعالى: «وَالَّذِينَ

آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ»(3) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَا

ص: 77


1- وهو الجواب الخامس.
2- وهي لدى التحقيق أربع أنواع، فتدبر.
3- سورة البقرة: 165.

كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ»(1) وعندما سأل (علیه السلام) عن معناه أجاب «وَيْلَكَ لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ».

ويتضح الفارق بين لغة العقل والعلم من جهة وبين لغة القلب والعاطفة والمحبة والشهود من جهة أخرى، في أمثلة عديدة منها مثال (الضيافة):

(الضيافة) بين لغة الأرقام ولغة القلب

فإن استضافة الغرباء بل حتى الأقرباء بمنطق القلب والحب فضيلة وكمال وربح ومغنم وقوة، لكنها بمنطق العقل والأرقام خسارة في خسارة: إذ إنها خسارة في الوقت وخسارة في المال (إلا فيمن يستضيف الآخرين ليستدرجهم إلى توظيفه أو قضاء حوائجه مثلاً!) فإن من كان من ذوي الدخل المحدود الذي يغطي بالكاد نفقات معيشته أو إذا كان يعاني من عجز شهري، فإن استضافته للآخرين عمل خاطئ بمقياس الأرقام الجامدة والفكر المادي الصرف، لكنه بمقياس العقل والعاطفة والمحبة والوشائج الاجتماعية قيمة من أسمى القيم وكمال من أفضل أنواعه وهو الرصيد والربح الأكيد، وقد شاهد الكثيرون في الغرب الكثير من الماديين الذين يكرهون الضيوف لأنهم يقيسون الأمور بمقياس عقلي - علمي صرف ويتعاملون بلغة الأرقام فقط.

وكذلك الاعتقاد بالله تعالى فقد يكون معتقداً به على حسب ما أدى إليه الدليل الجافّ الجامد، وقد يترقى اعتقاده ليستشعر هيمنة الله تعالى وحضوره وكونه «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ»(2) و«وَاللَّهُ

مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ»(3) وأين هذا من ذاك؟

ص: 78


1- الكافي: ج1 ص95.
2- سورة الحديد: 4.
3- سورة البروج: 20.
العلامة الاميني (رحمه الله) حافياً حاسِراً ذاهلاً!

والحديث عن ذلك رائع وطويل ولكن: لنختم بمثال رائع معبر وقصة مميزة من العلامة الأميني (قدس سره) فقد كان (رحمه الله) مُتيَّماً وَلهَان بأمير المؤمنين (علیه السلام) إذ لم يكن ممن يعتقد به فحسب بل كان العاشق الحقيقي له، وكان ذلك هو الباعث له ليسحق كافة ملذات الجسد متفرغاً للكتابة والتحقيق عنه صلوات الله عليه حتى أنه كان في الكثير من الأيام لا ينام - حسب المنقول عنه - في اليوم والليلة إلا ساعتين أو ثلاثة ويقضي 21 ساعة تقريباً في الاستنساخ والتحقيق والكتابة وما إلى ذلك.

والقصة التالية تعبر عن مدى محبته لسيد الأوصياء (علیه السلام) فقد نقل بعض الأكارم أنه قرّر جمع من الوجهاء زيارة العلامة الأميني (رحمه الله) أيام كان في طهران، وكان معهم رادود (مدّاح) ممن يعرف عمق محبة العلامة الأميني لأمير الكائنات (علیه السلام) فتحركوا جميعاً إلى منزله وعندما اقتربوا من زقاق الدار قال لهم المداح هل تريدون أفعل شيئاً يفقد معه العلامة رزانته وهيبته المعهودة ويخرج راكضاً إلى الشارع كالذاهل! قالوا: لِمَ؟ قال: لِسرّ رائع عظيم سأكشفه لكم بذلك، وبطريقة مبتكرة! قالوا: أفعل ما شئت! فرفع صوته الشجي منشداً أشعاراً في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) وإذا بهم يفاجأون بالعلامة الأميني (رحمه الله) خارجاً من منزله مسرعاً نحو مصدر الصوت ذاهلاً حاسراً حافياً وقد أنشدّ إلى تلك المدائح كما ينشدَّ الحديد إلى المغناطيس!

قال لهم الرادود: أوجدتم كيف إنه العاشق حقاً للأمير (علیه السلام) حيث شدّهُ المديح إليه بلا اختيار حتى ذهل عما كان يعمله وخرج مسرعاً نحو مصدر الصوت الذي يصدح بذكر الحبيب!!

.. وهكذا، الهداية قسمان: قلبية شهودية ينبض معها القلب بالحب

ص: 79

ويتموج بالعشق، وعقلية علمية تصلح لقطع الشك باليقين ولإفحام المعاندين، لكنها إذا جمدت على هذا المستوى بقيت أرقاماً مجردة وهياكل متقنة ولكنها بلا روح أو عاطفة أو هيام.

وهكذا نتلوا وندعوا «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» لِيُري المولى جل اسمه قلوبَنا الصراطَ وروعتَه وجمالَه بعد ان رأت عقولُنا صوابيتَه وصحتَه.

منطقتا القلب والعقل، وما تحتضنانه

وبعبارة أخرى: هنالك منطقتان في الإنسان تحتضن كل منهما سلسلة من الخصائص والمواصفات والقدرات وهما: منطقة القلب ومنطقة العقل.فأما منطقة القلب فتحتضن فيما تحتضن: الجبن والشجاعة، والجود والبخل، والحب والبغض، وأما منطقة العقل فتحتضن العلم والمعرفة.

ف(الجبن والشجاعة) يرتبطان بقوة القلب وضعفه ورباطة الجأش وعدمها وليستا من الأمور العلمية التعقلية الصرفة فإن الكثير من الناس يعلم مثلاً بأن الميت لا يمكنه إيذاؤه لكنه مع ذلك يخاف من النوم في حجرة واحدة مع الميت وذلك لضعف قلبه وسيطرة القوة المتخيلة عليه، والكثير منهم يخاف من الذهاب إلى المقبرة ليلاً أو يخاف من المشي على الحبل حتى وإن علم أنه لا يسقط، بل بعضهم يعاني من رهاب الطائرة أو المناطق العالية أو غير ذلك.

وكذلك (الجود والبخل) فإنهما يرتبطان بالنفس والقلب، لا المخ والعقل، فإن الكثير من الناس يقطع بثواب الآخرة وبتعويض الله تعالى له أضعافاً مضاعفة إن هو جادَ وأعطى، لكنه مع ذلك يبخل بالصدقة والعطاء والبرِّ والإحسان، بل قد يبخل حتى بأداء الواجب من الخمس والزكاة وردّ المظالم والكفارات والنفقة الواجبة.

ص: 80

وبالعكس: الكثير من الناس جواد كريم لا لأنه يعلم بأن سيُعوَّض بل مع علمه بأنه سيفتقر إذا بذل وأعطى لكنه مع ذلك يجود ويعطي وذلك لأن طبعه الكرم ولأن قلبه جواد.

تعارض مدركات العقل مع أحاسيس القلب

وفوق ذلك كله: (الحب والبغض) فإن كثيراً من الناس ينبعث عن الحب في أعماله وتصرفاته أكثر مما ينبعث عن الأحكام العقلية، أو ينبعث عن البغض أكثر مما ينزجر عن أحكام العقل والمدركات النظرية.

بل قد يدخل ذلك في باب التعارض أو التزاحم أيضاً فإن مدركات العقل قد تتعارض أو تتزاحم مع أحاسيس القلب، وقد تكون الغلبة تارة للعقل وأخرى للقلب؛ ألا ترى أنه كثيراً ما يقع بعض الأشخاص في غرام امرأة يحكم عقله بضرورة الابتعاد عنها لكن قلبه يأسره ويستعبده؟ أو العكس إذ إنه كثيراً ما ينقبض قلبه من شخص ما لكن حساباته العقلية تدفعه للتقرب إليه والتودد له بل وإطاعته والانقياد له؟وصفوة القول بناءً على ذلك: إن الهداية تارة تكون عقلية مبتنية على الأدلة النظرية والبراهين العقلية العلمية دون أن تلامس شغاف القلب كي يحنّ ويَخفِق، وأخرى تكون قلبية تتملك قلبه وتهيج مشاعره وتتفاعل معها كافة جوانحه حتى كأنها تنبض بالنور والهدى وتتموج بالحب والإيمان.

وقد قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) واللافت للنظر أنه تعالى لم يقل (سنعلمهم آياتنا) مع أن العلم هو القطع المطابق للواقع الذي لا يحتمل معه الخلاف، إلا أن الرؤية هي فوق ذلك

ص: 81


1- سورة فصلت: آية 53.

وذلك لأنه قد يعلم الشخص بآيات الله علماً نظرياً، وقد يراها بأم عينيه (الباصرتين) وقد يراها بعين قلبه، وهذه هي الدرجة العليا من الهداية ولذا قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ»(1) و«لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ».

ولعل المراد من «سَنُرِيهِمْ» رؤية القلب، لا البصر المجرد عن رؤية القلب فإنه قليل القيمة إن لم يكن عديمها، ولعل «وَفِي أَنفُسِهِمْ» تصلح قرينة على أن المراد: رؤية القلب لا الباصرة إذ ما في النفس لا يُرى بالعين الباصرة، وقد يكون المراد: الأمران معاً فيما أمكنا فيه وإلا فرؤية القلب خاصة، فتدبر!

شهادة الرسول(صلی الله علیه و آله) لأويس القرني بالجنة

وفي حالات أويس القرني الرائعة أكبر الشواهد على ذلك وأكبر العِبَر أيضاً:

فقد كان (أويس القرني) من القلائل الذين بشّرهم رسول الله(صلی الله علیه و آله) بالجنة، بل إن الغريب أن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) كان يكرر في مواطن شتى وعلى رؤوس الأشهاد الشهادة له بالجنة، حتى تضافرت رواية ذلك عند العامة والخاصة، ولعله من القلائل الذين أجمعت العامة والخاصة على جلالة شأنهم وإنه من أهل الجنة، ولعل السرّ في ذلك ان النبي(صلی الله علیه و آله) أراد أن يصنع مرجعيات وأعمدة هداية كبرى وشواهد صدق عظمى لا يمكن لأحد من الناس أن ينكرها، على حقّانية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه الخليفة الأول بعد الرسول ووصيه ووارث علمه، حتى إذا ما اختلف الناس وجار المبطلون ضد أمير المتقين (علیه السلام) صدح أولئك بالحق فتمت الحجة على الجميع.

ص: 82


1- الكافي: ج1 ص95.

وجاء في منتهى المقال في أحوال الرجال:

(أويس القرني: بفتح الراء، أحد الزهّاد الثمانية، قاله الفضل بن شاذان، صه(1).

وفي كش(2): عليّ بن محمّد بن قتيبة، قال: سُئل أبو محمّد الفضل بن شاذان عن الزهّاد الثمانية فقال: الربيع بن خيثم وهرم بن حيّان وأويس القرني وعامر بن عبد قيس، وكانوا مع عليّ (علیه السلام) ومن أصحابه، وكانوا زهّادا أتقياء)(3).

وقال: (وكان أويس من خيار التابعين، لم يرَ النبيّ(صلی الله علیه و آله) ولم يصحبه. فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله) ذات يوم لأصحابه: «أبشروا برجل من أُمتي يقال له: أويس القرني، فإنّه يشفع لمثل ربيعة ومضر»... إلى أن قال(4): ثمّ قتل بصفّين في الرجالة مع عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

وفيه أيضاً في أوائل الكتاب: ... قال أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواريّ محمّد بن عبد الله(صلی الله علیه و آله) الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان، والمقداد، وأبو ذر.

ثمّ ينادي المنادي: أين حواريّ عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) وصيّ رسول الله(صلی الله علیه و آله)؟ فيقوم عمرو بن الحمق، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم التمّار - مولى بني أسد - وأويس القرني.

ثمّ ينادي المنادي: أين حواريّ الحسن (علیه السلام)؟... »(5).

وقال: (ومضى في الفوائد حصول الظن المعتبر شرعاً من أمثال هذه الروايات.

ص: 83


1- الخلاصة: ج8 ص24.
2- رجال الكشي.
3- منتهى المقال في أحوال الرجال: ج2 ص111 - 112.
4- أي الكشي.
5- منتهى المقال في أحوال الرجال: ج2 ص112 - 113.

وفي حواشي السيّد الداماد على كش: هذه الرواية يعوّل عليها في ارتفاع منزلة هؤلاء المتحوّرين السابقين المقرّبين؛ وقول بعض شهداء المتأخّرين في حواشي صه: إنّ في طريقها عليّ بن سليمان وهو مجهول، لا تعويل عليه كما قد دريت)(1).

وجاء في مستطرفات المعالي: (أُويس القرنيّ: عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه خير التابعين أو: من خير التابعين أويس القرنيّ. واستشهد مع أمير المؤمنين في صفّين. وهو من الزهّاد الثمانية. وهو من حواريّ أمير المؤمنين (علیه السلام).

قال المامقاني: أتّفق الفريقان على وثاقة الرجل، وتقواه وزهده، وعلاه)(2).

عمر يبلغ سلام الرسول(صلی الله علیه و آله) لأويس!

وقد بلغ من إشادة النبي(صلی الله علیه و آله) به أنه أوصى من يسمع شهادته له بالجنة، بأن يبلغه سلامه إن رآه، أي أن يبلغ سلام النبي(صلی الله علیه و آله) لأويس، وقد شاع ذلك وضاع عطره وذاع صيته، حتى أن عمر بن الخطاب أبان حكومته ارتقى المنبر ذات يوم وأعلن للناس عن أنه سمع الرسول(صلی الله علیه و آله) يطلب أن يبلغوا سلامه إلى أويس!!، وقد نقل إنه: (قال لعمر: "يا عمر إن أنت أدركته فاقرأه مني السّلم" فبلغ عمر مكانه بالكوفة فجعل يطلبه في الموسم لعلّه أن يحج حتى وقع إليه هو وأصحاب له وهو من أحسنهم هيئة وارثّهم حالاً، فلما سأل عنه انكروا ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين تسأل عن رجل لا يسأل عنه مثلك! قال: فَلِمَ؟ قالوا: لأنّه عندنا مغمور في عقله وربما عبث به الصّبيان! قال عمر: ذاك أحبّ إليّ! ثم وقف عليه فقال: يا أويس إنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) أودعني إليك رسالة وهو يقرأ عليك السّلم، وقد أخبرني أنّك تشفع لمثل ربيعة ومضر فخّر أويس ساجداً

ص: 84


1- منتهى المقال في أحوال الرجال: ج2 ص114.
2- مستطرفات المعالي أو منتخب المقال والأقوال في علم الرجال: ص42.

ومكث طويلاً ما ترقى له دمعة)(1).

وهنا ملاحظات:الأولى: إن النبي(صلی الله علیه و آله) أمر عمر - على فرض صحة الرواية - أن يبلغه سلامه لأويس، كي تقع الحجة عليه وعلى كافة من يتبّعه، في أن أويس هو رجل الحق والجنة، وبذلك يتجلى بوضوح أن الحق مع علي (علیه السلام) لأن أويساً كان من أشد المدافعين عنه حتى أنه قتل بين يديه في صفّين.

الثانية: إن عمر كان يريد بذلك وأشباهه إضفاء الشرعية على حكومته كي يرى الناس بذلك أنه أصبح وسيط إبلاغ سلام رسول الله(صلی الله علیه و آله) لشخصية عظيمة من أهل الجنة!

الثالثة: إن أويساً أطال السجود كي يتهرب من الكلام مع عمر والجواب عليه، وعندما اضطر أجاب بما أتم الحجة عليه أكثر(2).

وعلى أي حال، فإن عمر عندما طلب من الناس أن يبلغوا سلام الرسول(صلی الله علیه و آله) لأويس، أجابه بعض من يعرفون أويساً - مستغربين - بأن أويساً مغمور في عقله مجنون، وأنه يعبث به الصبيان ويتلاعبون به كشأنهم مع كل مجنون!

وذلك كان مثار الاستغراب أكثر إذ كيف يبلغ الرسول(صلی الله علیه و آله) سلامه لمجنون! بل كيف يهتم بذلك اهتماماً كبيراً ويكرّر الطلب على مجاميع مختلفة؟

لماذا تظاهر أويس بالجنون؟

والذي استظهره: إن اويس القرني كان قد تظاهر بالجنون فراراً من أن يُوليه عمر بعض الولايات والدول، فقد كان عمر حريصاً - وكما سبق - على

ص: 85


1- مجمع الرجال: ج1 ص242 - 243.
2- والظاهر أن (أمير المؤمنين) هي من إضافة النسّاخ، والدليل قول أويس في نفس الرواية (ما لقيت أذى مثل ما لقيت من عمر).

التلفع بلباس الشرعية التي كان يفتقدها بشدة إثر مواجهته لباب مدينة علم رسول الله(صلی الله علیه و آله) ولفاطمة الزهراء (علیها السلام) التي أذعن الخاصة والعامة ب«إِنَّ اللَّهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَ يَرْضَى لِرِضَاهَا»(1) وكان من الطرق: ما سبق، ومن الطرق أيضاً: محاولة اصطياد الأعلام والأوتاد من المعروفين بالقدسوالصلاح ليكونوا أمراء على البلاد من قِبَله، ولذلك طلب من سلمان المحمدي مثلاً أن يكون حاكماً على المدائن، ولولا إذن الإمام علي (علیه السلام) له لما قَبِل، ولعله لم تكن المصلحة في أن يتولى أويس أمرةً كما لم تكن المصلحة في أن يتولاها أمثال أبو ذر، ولعل المستظهر أن الطريقة الوحيدة التي رآها ناجعة للفرار من الامرة والتولية هو التظاهر بالجنون.

والذي يدل على ذلك أنه بعد تجاوز مرحلة الخطر، استعاد أويس القرني، عقله فجأة ورجع كما كان من الرزانة والمتانة ورجاحة العقل، فهذا هو المستظهر بالنظر البدوي والله العالم.

ثم إن أويساً انضم إلى جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) في صفّين حتى قتل بين يديه شهيداً فشاهداً.

وقد جاء في مجمع الرجال عن الكشي: (وروى الحسين بن الحسين القمّي عن علي بن الحسن العُرنَي عن سعد بن ظريف عن الأصبغ بن نباتة قال: كنا مع علي (علیه السلام) بصفّين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ثم قال (علیه السلام): «أين تمام المائة لقد عهد

ص: 86


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص26. كما جاء في البخاري أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) قال: «إنّما هي بضعة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها». صحيح البخاري: ج6 ص158. وأنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) قال: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني» صحيح البخاري: ج4 ص210. وروى في كنز العمّال أيضاً أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «يا فاطمة! إنّ الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» كنز العمّال: ج12 ص111.

إليَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل». قال: فجاء رجل عليه قباء صوف متقلّداً بسيفين قال: أبسط يدك أبايعك، قال علي (علیه السلام): «على ما تبايعني؟» قال: على بذل مهجة نفسي دونك، قال (علیه السلام): «من أنت؟». قال: أنا أويس القرني. قال: فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قُتل فُوجد في الرّجالة)(1).

وموطن الشاهد: إن الكثير من الناس يركض وراء الشهرة أو الرياسة بل إنه قد لا يمانع من أن يبيع كل دينه لمجرد أن يحصل على رياسة عادية، بل إن أدنى إشارة يشير بها الحاكم الجائر إلى البعض تكفي ليتراكض نحوها، وذلك على الرغم من علمه ب:«وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(2) وبقول رسول الله(صلی الله علیه و آله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَمَنْ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ رَبَطَ كِيساً أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ فَاحْشُرُوهُمْمَعَهُمْ»(3) والسبب في هذا الانزلاق الخطير هو إن الهداية لم تتمكن من قلبه ولم تتجاوز حدود العقل النظري الجامد الجافّ.

وأويس القرني، في الاتجاه المقابل، يرفض الرياسة ويدفع ثمناً غالياً جداً لقاء ذلك ألا وهو التظاهر بالجنون لفترة طويلة جداً، والتظاهر بالجنون صعب جداً جداً لوجهين:

الأول: إن من أعزّ ما يمتلكه الإنسان - بل الأعز مطلقاً لدى البعض - هو ماء وجهه، بل نجد إن الكثير يضحي بكل شيء حتى بنفسه لأجل ماء وجهه، والجنون يهبط بالإنسان إلى أسفل الدرجات ويفقده اجتماعياً ماء وجهه تماماً، ومن منّا يستعد لهذه التضحية العظمى لأجل الفرار بدينه؟ أو تراه يتعلل بمختلف

ص: 87


1- مجمع الرجال: ج1 ص242.
2- سورة هود: 113.
3- جامع الأخبار: ص155.

الأعذار ليبرر تقبله للدخول في سلك ديوان السلاطين.

الثاني: إن نفس التظاهر بالجنون عمل شاق جداً، خاصة إذا كان لفترة طويلة كسنة أو أكثر إذ يجب عليه أن يتقن التمثيل وأن لا يغفل عن دوره كممثل أبداً وإلا افتضح أمره، فهذا كله من جهة.

يعبد الله 24 ساعة متواصلة ثم يشكو من (عين نوَّامة)!

ومن جهة أخرى: وكشاهد آخر على مفتاحية اختراق نور الإيمان والهداية منطقة القلب حتى يصير متيّماً بحب الله تعالى، فإنه قد جاء في التاريخ: إن أحد الرجال الذين سمعوا عن أويس كثيراً، شدّ الرحال إلى بلاده ليراه عن قرب، وكان ذلك أبان ظهور عقله، وعندما وصل إلى منطقته وسأل عنه قالوا إنه في المسجد، فوصل مع صلاة الفجر فوجده منشغلاً بها فانتظر حتى ينهيها لكنه وجده انشغل بالتعقيب حتى شروق الشمس، فظن أن سينفتل، لكنه استمر إلى أذان الظهر، ثم صلاها ووصل تعقيباتها والأذكار بصلاة العصر، ثم استمر مواصلاً حتى صلى المغرب، فتوهم الزائر أنه سينصرف إلى منزله لِيُفطر، لكنه استمر حتى العشاء، ثم - وهنا الغريب حقاً - استمر حتى فجر اليوم الثاني! ثمّ - ولعل ذلك كان مع طلوع الشمس - يقول الراوي: إنه هوّمت عينا أويس لدقائق معدودة ثم قام فزعاً متألماً من انقطاعه عن العبادة وقال: (اللهم اني أعوذ بك من عينٍ نوَّامة ومن بطن لا يشبع)! ومعنى ذلك إنه يستعيذ من نوم دقائق بعد 24 ساعة عبادة ويعتبرها عيناً نوَّامة! ويعتبر رغبته إلى الطعام بعد هذا الإمساك الطويل من سيئات بطنه الذي لا يشبع!.ولا نعلم كم يوماً كان أويس على هذه الحال، ولعلها كانت مواسم يحييها بالعبادة بهذه الطريقة لأيام أو أسابيع إذ من المعروف أن الإنسان يتحمل الجوع

ص: 88

والحرمان من الطعام حتى 40 يوماً وقد يبلغ بعضهم السبعين يوماً، نعم لا يمكنه تحمل العطش أكثر من ثلاثة أيام، كما أن بعض الناس ممن شاهدناهم تمرن على مقاومة النوم لثلاثة أيام بل لخمسة أيام كاملة(1)(2).

لماذا تكون عبادة بعضهم نقراً كنقر الغراب!

وموطن الشاهد: إن الإتيان بمثل هذه العبادة وهذا الانقطاع مما لا يمكن أن يكون مبعثه إلا القلب الممتلئ إيماناً وحباً لله وهداية ونوراً، أما العالم بالله فقط من دون أن يمتلأ قلبه بالحب فإنك قد تراه يصلي حتى صلاته الواجبة وذهنه مشتت إلى الشرق أو الغرب، بل إنه قد يصليها مسرعاً للانفلات منها حتى تكون (نقراً كنقر الغراب) كما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله)، عنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَقَالَ(صلی الله علیه و آله): نَقَرَ كَنَقْرِ الْغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ هَذَا وَهَكَذَا صَلَاتُهُ لَيَمُوتَنَّ عَلَى غَيْرِ دِينِي»(3).

فهذا هو فارق الهداية العقلية التي لا تبعث إلا على أداء الوظيفة الشرعية وبمقدار أدائها فقط، عن الهداية القلبية التي ترتفع بالإنسان إلى مصافِّ الملائكة المقربين الذين «يُسَبِّحُونَ

اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ»(4).

ولنا من الشواهد على ذلك الكثير:

فالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت تصلي واقفةً على رجليها

ص: 89


1- ومنهم آية الله المفكر الشهيد السيد حسن الشيرازي.
2- ولعل الراوي استقام هو تلك ال24 ساعة ليرى كيف حال أويس، أو انه أرصد معه شخصاً وتناوبا على رصده، أو انه كلما نام قليلاً وأفاق وجده منشغلاً بالعبادة.
3- الكافي: ج3 ص268.
4- سورة الأنبياء: 20.

فترات طويلة جداً حتى ورد أن قدميها تورمتا من كثرة العبادة، وذلك مذهل حقاً إذ إن الرجلين لا تتورمان من كثرة الوقوف إلا إذا استمر ذلكلفترة طويلة جداً، وممن روى ذلك الحسَنُ الْبَصْرِيُّ إذ قال: (مَا كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْبَدَ مِنْ فَاطِمَةَ (علیها السلام) كَانَتْ تَقُومُ حَتَّى تَوَرَّمَ قَدَمَاهَا)(1).

وقد أجهد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) نفسه المباركة في العبادة حتى خاطبه الحق تعالى بقوله: «طَه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى»(2).

وكان سيد الساجدين (علیه السلام) يطيل السجود حتى صارت في جبهته الثفنات، والأغرب أنها من كثرتها وتناميها كان يأمر (علیه السلام) كي تقصّ في السنة أكثر من مرة! فعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «كَانَ لِأَبِي (علیه السلام) فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ آثَارٌ نَاتِئَةٌ وَكَانَ يَقْطَعُهَا فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ خَمْسَ ثَفِنَاتٍ فَسُمِّيَ ذَا الثَّفِنَاتِ لِذَلِكَ»(3).

وصفوة القول: إن منطق العاقل العالم من حيث علمه وعقله المجرد يختلف عن منطق المحبّ المتيم العاشق الولهان، بل قد لا يدرك العاقل منطق الأحباب وسرّ الكثير من تصرفات المحبين، وأما الحياة فإنها لا تقوم على منطق العلم وحده بل تتوقف على منطق الحب كذلك، بل الكمال كل الكمال والسعادة كل السعادة قد تكون مرتهنة بالتعامل بمنطق آخر فوق منطق (العدل) و(العلم) و(القانون).

بين منطق العقل والقانون ومنطق القلب والمحبة

ولنضرب لذلك مثلاً: فإن الزوجة لها على الزوج حقوق وبالعكس، ولكن لو تعامل كل منهما مع الآخر بمنطق الحق المجرد ولم يرتفعا بالحياة الزوجية من منطق (العدل) و(القانون) إلى منطق (الإحسان) و(الحب)، لتحولت حياتهما

ص: 90


1- مناقب آل ابي طالب (علیه السلام): ج3 ص341.
2- سورة طه: 1 - 2.
3- مناقب آل ابي طالب (علیه السلام): ج4 ص167.

إلى جحيم، فإن حق الزوجة لا يتعدى - حسب المشهور - إلا قضاء الوطر كل أربعة أشهر مرة، ولا يجب عليها الطبخ ولا غسل الملابس ولا حتى إرضاع طفلهما (ولو شاءت كان لها أخذ الأجرة على الإرضاع) ولكن تصوروا حياةً زوجية تبتني على هذه الطريقة القانونية الصارمة! إنها حياة بلا حب ولا إحسان ولا عاطفة ولاتفاعل، بل قد تكون جحيماً تماماً؛ إنما الحياة السعيدة تبتني على منطق فوق منطق (الواجبات) و(الحقوق المجردة) إذ تبتني على منطق المعاشرة بالمعروف والتضحية والإيثار والشفقة والعفو والصفح وغير ذلك.

الأميني (رحمه الله) يبيع داره ليطبع كتابه!

ولقد نقلت مرة: إن العلامة الأميني (رحمه الله) بعد جهود مريرة استمرت سنين طويلة، أكمل تأليف كتاب (الغدير)، ثم بحث عمن يطبعه لكنه لم يجد أحداً - وذلك غريب حقاً - إذ كان من المفترض أن يتسابق مَن عَلِم من التجار والشباب والنساء لطبع هذا الكتاب الخالد، لكنه (الغياب) عن منطق الحب الصادق لأمير الكائنات (علیه السلام) والغرق في أوحال المادة والأرقام والحسابات الضيقة.

ولكن الأميني (رحمه الله) كان رجلاً من طراز آخر، لذلك قرّر أن يبيع بيته الذي يسكن فيه ليطبع به الكتاب! وهكذا كان بالفعل إذ باع بيته رغم أنه لم يكن له مسكن غيره ولا كان يُرتجى أن يُعوِّضه أحد، وطبع المجلدات العشر في الألوف من النسخ، بثمن البيت كله، فكان هذا السِّفر الخالد.

ص: 91

إن هذا المنطق (بيع الدار الشخصية لطباعة كتاب) ليس منطق الحسابات المادية الجامدة بل قد لا يكون منطق الفقه أيضاً إذ ليس ذلك بواجب إلا إذا اندرج في عنوان ثانوي مما يحتاج إلى دليل، لكنه منطق الولاء الخالص والحبّ العميق الصادق لأمير الكائنات عليه الصلاة والسلام.

إن منطق الفقه هو منطق العقل الذي يشرف على كل قضية من زاوية الواجب والحرام والتزاحم ومرجحاته، وقد يرجع إلى الأصول العملية التي قد تقتضي البراءة في المقام، وذلك عكس منطق القلب والحب والوَلَه والهيام.

ومن ذلك مثلاً: إن منطق الحق الجامد والفقه والعقل لا يوجب عليك النفقة على الأرحام البعداء كما لا يوجب عليك إقراء الضيف ولا البذل أكثر من الخمس والزكاة، أما منطق الحب والقلب فإنه لا يعرف شعاراً أسمى من شعار المواساة والإيثار، إنه المنطق الذي يحملك على أن تُقدّم كل ما تملك على طبق من ذهب للمؤمنين أو لمن تحب وإن كنت بأحوج ما تكون إليه، قال تعالى: «وَالَّذِينَ

آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للّهِ»(1) و«الَّذِينَ

يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاءوَالْكَاظِمِينَ

الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(2) و«لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا»(3).

هل نستشعر كل لحظة إشراف إمام العصر والزمان f؟

وأخيراً: إن المهتدي بالهداية القلبية يستشعر في كل لحظة وعند كل نظرة وهمسة ولمسة وخطرة وخطوة، وبشراشر وجوده، عينَ الله الناظرة في خلقه، وهي تشرف على كافة تصرفاته وتحيط بها، أنه يحس بهذه الرقابة دائماً وأبداً لذا يستحيل - عرفاً - أن يصدر منه محرم كما يستبعد أن يصدر منه مكروه، أوليس ولي الله الأعظم f هو الناظر له ولأفعاله مباشرة!

ص: 92


1- سورة البقرة: 165.
2- سورة آل عمران: 134.
3- سورة الطلاق: 7.

ومن المعروف أن سِجلَّ أعمالنا يرفع كل اثنين وخميس إلى ولي العصر والزمان f، وذلك وإن كان فيه الحافز القوي للمؤمن لكي يراقب أعماله كافة، ولكن الأمر أعظم من ذلك فإنه، لمن اهتدى بالهداية القلبية، ليستشعر إحاطة الإمام (علیه السلام) به، بإذن الله تعالى له، وبأفعاله لحظة بلحظة.

وإذا وصلنا إلى هذا المقام، ترقّينا عن مصاف الملائكة الكروبيين، وكان حينئذٍ الأمل أكبر فأكبر بأن يمنّ علينا إله الكون بتعجيل فرج وليه الأعظم f، ومن يدري؟ فلعله يكون - بإذن الله تعالى - في الفترة القريبة القادمة؛ وليس ذلك من باب التوقيت لبطلانه وحرمته، بل هو من باب القضية الشرطية(1) والأمل والرجاء وما ذلك على الله بعزيز وقد ورد: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَة»(2) وقد نقل بعض العلماء أنه ورد: (إنه يصلح الله تعالى أمره في ساعة).وهكذا.. علينا أن ندعوا الله تعالى دوماً وأبداً أن يهدينا إلى الصراط المستقيم .. إنه السميع القريب المجيب البر الرحيم.

ص: 93


1- كما دلت عليه الرسالة للشيخ المفيد (قدس سره) وغيرها.
2- إعلام الورى: ص435.

البحث الثاني: هل الهداية فعل الله قسراً أو هي فعل العبد؟

اشارة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»(1).

السؤال الذي أرّق الكثير من الباحثين في علم الكلام والفلسفة على مرّ التاريخ هو إن الهداية هل هي فعل الله تعالى تكويناً أم هي فعل العبد؟ وإذا كانت فعل العبد فهل هي فعله طوعاً أو هي فعله قسراً؟!

أقسام عطايا الله تعالى

إن تحقيق ذلك يبتني على مقدمة هامة وهي: إن عطايا الله ومنحه للعباد على ثلاثة أقسام:

ما يمنحه للعبد دون توسط ميشئته

الأول: ما يمنحه الله تعالى لعبده من دون توسط مشيئته(2) أي من غير أن تكون للعبد مشيئة فيه أو إرادة واختيار، وذلك كنعمة الوجود إذ وهبها الله لنا من غير أن يكون لنا من الأمر شيء، وكذلك بعض الصفات والملكات الأخرى، كالذكاء والبلادة، والشجاعة والجبن، والبخل والكرم وشبه ذلك؛ حيث إن بعض الناس يولد ذكياً أو شجاعاً أو كريماً بطبعه أو العكس، وذلك بنحو العلة المحدثة.

ص: 94


1- سورة الفاتحة: 6.
2- أي مشيئة العبد.

ثم تنقسم الصفات إلى ما لا تكون لإرادة للعبد مدخلية في أصله ولا في درجاته ومراتبه حتى في مرحلة علته المبقية وما يكون له التغيير في أصل الصفة أو الملكة أو في بعض درجاتها، والطول والقصر والجمال والقبحمن قبيل الأول، بشكل عام، أما الصفات النفسانية فمن قبيل الثاني بشكل عام، فإنه وإن كان من الصعب جداً تغييرها لكنها تبقى ممكنة، نعم قد يقال بأن البعض غير قادر على تغيير بعض ملكاته، وتحقيق ذلك في مبحث (الشاكلة).

ما يمنحه له بواسطة مشيئته وإرادته

الثاني: ما يمنحه الله تعالى لعبده بتوّسط إرادته(1) فلا يملِّكه قسراً بل طوعاً، وذلك إن شاء وسعى وجدّ واجتهد، وذلك نظير العلم النظري الاكتسابي، وهو ما عدا الفطري وما عدا مطلق الأوليات اليقينية، فإن العلم موكول أمره إلى الإنسان فإن سعى وتعلم عَلِم - بدرجة أو أخرى - سواء أكان تعلّمه بدراسة أم تفكير أم اعتبار أم تجربة أم غير ذلك، وإن لم يسعَ ولم يتعلم فإنه يبقى جاهلاً، وأما العلم اللدني بالإفاضة الإلهية، فنادر مختص بالأنبياء والأوصياء (علیهم السلام).

ما يكون مزيجاً من الأمرين

اشارة

الثالث: ما يكون مزيجاً من الأمرين، فقد يكون بسعي الإنسان وإرادته وقد لا يكون وذلك نظير الرياسة والرزق والمحبوبية:

أ - الرياسة:

فالرياسة كثيراً ما يصل إليها الإنسان بالسعي، ولكنها قد تصل للبعض بدون أي نوع من أنواع السعي بل قد تراه يفرّ منها لكنها تطارده حتى تقتحم عليه حياته وتوقعه في شباكها طائعاً أو مكرهاً! وقديماً قال الشاعر:

ص: 95


1- أي إرادة العبد.

أَتَتهُ الخِلافَةُ مُنقادَةً *** إلَيهِ تُجَرِّرُ أَذيالَها

وَلَم تَكُ تَصلُحُ إِلّا لَهُ *** وَلَم يَكُ يَصلُحُ إِلّا لَها

وبالعكس من ذلك مَن تجده يسبب كافة الأسباب الظاهرية ليصل إلى الرياسة الدنيوية ولكن لا تتحقق له أمنيته، لطارئ غير اختياري أو حتى لأن ملك الموت سارع إليه قبل أن يحقق أحلامه أو وهو على بعد خطوات منها!

ب - الرزق:

وكذلك الرزق، وقد ورد: «الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ...»(1) فمنه ما هو بالسعي بالزراعة والتجارة وغيرهما، ومنه ما ليس هو بالسعي كما فيما يصل للإنسان من إرث أو هبة غير متوقعة أو غير ذلك، وذلك لجهات عديدة منها: أن الأرزاق توزع بين الطلوعين فمن نام بينهما تعداه رزقه.

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «نَوْمَةُ الْغَدَاةِ مَشُومَةٌ تَطْرُدُ الرِّزْقَ وَتُصَفِّرُ اللَّوْنَ وَتُقَبِّحُهُ وَتُغَيِّرُهُ وَهُوَ نَوْمُ كُلِّ مَشْئُومٍ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْسِمُ الْأَرْزَاقَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِيَّاكُمْ وَتِلْكَ النَّوْمَةَ»(2) وَقَالَ الرِّضَا (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «فَالْمُقَسِّماتِ

أَمْراً»، قَالَ: «الْمَلَائِكَةُ تُقَسِّمُ أَرْزَاقَ بَنِي آدَمَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَمَنْ يَنَامُ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَنَامُ عَنْ رِزْقِهِ»(3)، والظاهر أن المراد نوع من الرزق وهو الذي قد يسمى برزق الفضل مقابل الرزق المحتوم، والمحتوم هو الذي يطلب الإنسان حتى يدركه وإن فرّ منه، والفضل رزق جعل له الله تعالى أسباباً غير مادية كصلة الرحم واليقظة بين

ص: 96


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص384.
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص502.
3- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص504.

الطلوعين والصدقة، وقد ورد: «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ»(1) وإن كانت هناك وجوه ظاهرية أو مادية أيضاً لتأثيراتها.

ج - المحبوبية:

وكذلك المحبوبية فقد ترى من يحبه الناس حباً جمّاً رغم أنه لا يسعى إليها بل قد لا يفكر فيها أبداً، وقد ترى من يكرهه الناس رغم أنه يسبّب ليحبه الناس كل الأسباب، وقد ورد ما مضمونه: إن الملائكة تضحك في موضعين، الأول: إذا أراد الله أن يعز عبداً وأراد الناس أن يذلوه (ولا يكون إلا ما يشاء الرب)، الثاني: إذا أراد الله أن يذل عبداً وأراد الناس أن يعزّوه (ولا يكون إلا ما يريد الرب تعالى).

الكافي: الهداية فعل الله، ولا يمكننا هداية من أراد الله ضلالته

وأما الهداية، فهل هي من النمط غير الاختياري؟ أو هي من النمط الثاني الاختياري؟ أم هي من النمط الثالث المزيج المنوع منهما؟!

ذهب البعض إلى أن الهداية غير اختيارية أبداً بل هي فعل الله قسراً وذلك استناداً إلى عدد من الروايات ولنقتصر ههنا على واحدة منها:

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): «يَا ثَابِتُ مَا لَكُمْ وَلِلنَّاسِ كُفُّوا عَنِ النَّاسِ وَلَا تَدْعُوا أَحَداً إِلَى أَمْرِكُمْ فَوَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوهُ كُفُّوا عَنِ النَّاسِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ

ص: 97


1- الكافي: ج4 ص3.

عَمِّي وَأَخِي وَابْنُ عَمِّي وَجَارِي فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً طَيَّبَ رُوحَهُ فَلَا يَسْمَعُ مَعْرُوفاً إِلَّا عَرَفَهُ وَلَا مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَهُ ثُمَّ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ كَلِمَةً يَجْمَعُ بِهَا أَمْرَهُ»(1).

وقبل الخوض في تحليل هذه الرواية نشير إشارة هامة إلى حقيقة مفتاحية نوعية هامة تتعلق بشاكلة الناس وباتجاههم العام في الحياة وهي:

المواقف المتنوعة من هذه الروايات

اشارة

إن مواقف الناس تجاه أمثال هذه الرواية، تتوزع بين ثلاث أنواع من المواقف:

* موقف المستسلم

الموقف الأول: موقف المستسلم بل المتواكل بل المتخاذل، والمتخاذل أسوأ حالاً من المتواكل والمتواكل أسوأ حالاً من المستسلم؛ ذلك أن البعض يجد في أمثال هذه الرواية تبريراً لتقاعسه عن النشاط والعمل وعن التبليغ والهداية والإرشاد ونصرة الدين وأهله والدفاع عن أهل البيت (علیهم السلام)، أما البعض الآخر فليس بالمتقاعس المتخاذل بل هو المستسلم الذي خيّم اليأس على زوايا قلبه فاستسلم للأمر الواقع أو الذي عدّ كل ذلك من القضاء القاسر والقدر اللازم القاهر، ومن ذلك ما فسّر به هذا الفريق من الناس أحاديث الانتظار ك:«أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ»(2) إذ لا يرون في معناه إلا السكون والجمود والانتظار السلبي فقط، مع أن المنتظر الحقيقي هو من يُعدّ ويستعد وينتظر بقوله وعمله وقلبه وسلوكه؛ ألا ترى من ينتظر غائباً عزيزاً عليه كأمّه أو أبنه يستعد أبلغ الاستعداد ليستقبله أفضل الاستقبال؟

ص: 98


1- الكافي: ج1 ص165.
2- مناقب آل أبي طالب (علیهم السلام): ج4 ص425.
* موقف المتهور

الموقف الثاني: موقف الاقتحامي والثوري المتهور، الذي ما إن يسمع برواية من أمثال هذه إلا وتجده يرميها بالضعف أو يضرب بها فوراً عرض الحائط أو حتى - لا سمح الله - يستهزأ بها أيضاً.

وكنت قد جمعني مجلس بأحد العلماء:

فقال لي: يجب أن نهذب الكافي ونظائره من كثير من الروايات!!

فقلت: مثل ماذا؟

فقال: مثل ما ورد في الكافي مما ظاهره التجسيم.أقول: لعله يقصد نظير ما ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِ الْعِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَ كَمَلَتْ بِهِ أَحْلَامُهُمْ»(1).

وقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضِ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضاً وَأَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ يَغْبِطُهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ يَقُولُ النَّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ»(2).

فقلت له: وماذا تصنع بالقرآن الكريم؟ قال: كيف؟

قلت: جوهر المضمون نفسه ورد فيه نظير: «وَجَاء

رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا»(3) و«يَدُ

اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(4) و«وُجُوهٌ

يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(5)؟

ص: 99


1- الكافي: ج1 ص25.
2- الكافي: ج2 ص126.
3- سورة الفجر: 22.
4- سورة الفتح: 10.
5- سورة القيامة: 22 - 23.

فتحير وقال: وما العمل؟!

قلت: كما إن الآيات تحمل على المجاز بقرينة سائر الآيات ك:«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(1) وبقرينة القواعد العقلية المسلّمة، كذلك أمثال هذه الروايات فما تقوله في الآيات قلة في الروايات!

* موقف الصراط - الوسط

الموقف الثالث: هو موقف الصراط - الوسط، وهو موقف الباحث عن الحقيقة والمنصف غير المتسرّع الذي لا يحكم بعجلة ولا يبدي رأياً بغير رويّة، وهو الموقف الذي يتصفح جميع الآيات الكريمة والروايات الشريفة ويستعرض مختلف القواعد الأصولية والفقهية، ويبحث عن وجوه الجمع والمحامل الصحيحة، إذ قد ورد: «أَنْتُمْأَفْقَهُ النَّاسِ مَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا إِنَّ كَلَامَنَا لَيَنْصَرِفُ عَلَى سَبْعِينَ وَجْهاً»(2) وورد عن أبي عبد الله (علیه السلام): «قَالَ حَدِيثٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوِيهِ وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَعْرِفَ مَعَارِيضَ كَلَامِنَا، وَإِنَّ الْكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِنَا لَتَنْصَرِفُ عَلَى سَبْعِينَ وَجْهاً لَنَا مِنْ جَمِيعِهَا الْمَخْرَجُ»(3).

وجوه الجواب عما ظاهره قسرية الهداية

اشارة

ومن الوجوه التي يمكن أن تذكر:

1- عرضها على كتاب الله
اشارة

الوجه الأول: عرض هذه الروايات وأشباهها على الكتاب فقد ورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَ عَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ

ص: 100


1- سورة الشورى: 11.
2- الاختصاص: ص288.
3- معاني الأخبار: 1403ه، ص2.

اللَّهِ فَخُذُوهُ وَ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ»(1)، وورد أيضاً عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ»(2)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى أَخْبَارِ الْعَامَّةِ فَمَا وَافَقَ أَخْبَارَهُمْ فَذَرُوهُ وَمَا خَالَفَ أَخْبَارَهُمْ فَخُذُوهُ»(3).

وظاهره إرادية الدعوة والهداية

وعند عرض هذه الطائفة من الروايات على الكتاب نجدها مخالفة بظاهرها لقوله تعالى: «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(4) و«الَّذِينَ

يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّااللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا»(5) حيث ورد فيهما الأمر بالدعوة والحض على التبليغ، وكذلك: «هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ»(6) و«فَإِنْ

تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»(7) وقوله عزَّ وجل: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»(8) و«وَأْمُرْ

بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ»(9).

ص: 101


1- الكافي: ج1 ص69.
2- الكافي: ج1 ص69.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص118.
4- سورة النحل: 125.
5- سورة الأحزاب: 39.
6- سورة إبراهيم: 52.
7- سورة النحل: 82.
8- سورة النور: 54.
9- سورة لقمان: 17.

فهذا من جهةِ وجوب الدعوة وإبلاغ رسالات الله للناس وإنذارهم وأمرهم بإطاعة الله تعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وأيُّ معروف أعظم من الدعوة للتوحيد والنبوة والإمامة، وحيث كانت تلك الروايات مخالفة للكتاب وجب حملها على بعض المحامل وإن كانت على خلاف ظاهرها، وإلا للزم طرحها رأساً ولا وجه له مع إمكان الحمل على خلاف الظاهر للقرينة القطعية.

وهي ما يُحلّ بالطولية

ومن جهة أخرى: يجب عرض هذه الروايات على الكتاب من حيث توهم قسرية الهداية والضلال إذ إن هذه الرواية وأشباهها هي صغرى كبريات آيات كريمة قد يتوهم منها الجبر، والجواب عنها هو الجواب عنها، قالتعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى»(1) و«أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(2) و«وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ»(3).

وظاهر هذه الآيات إننا لسنا الزارعين بل: «نَحْنُ

الزَّارِعُونَ» بل وأقوى «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى»، لكن وجه الحل بالطولية الذي هو صريح الآية الأخيرة: «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ» إذ إن الله تعالى أعطانا القدرة والإرادة والمشيئة فنفعل الأشياء بها، ولكنّ مشيئتنا رغم ذلك هي تحت هيمنته جل اسمه، فله أن يمنع تكويناً مشيئتنا عن النفوذ وله أن يسلبها أصلاً، لكنه سبحانه لمقتضيات الامتحان لا يفعل ذلك عادة أي إنه منحنا القدرة على الطاعة والمعصية وأعطانا الإرادة فإذا أطعنا كان بإرادتنا وإذا عصينا كان بإرادتنا أيضاً لكن ذلك كله تحت

ص: 102


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الواقعة: 64.
3- سورة الإنسان: 30.

سيطرته فلو شاء لمنع.

وقد وجّه السيد الوالد (رحمه الله) أمثال هذه الآيات والروايات بأن إرادته جل اسمه هي: (على حسب ما قرره من القوانين) فمثلاً في قوله تعالى: «فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء»(1)، المراد أنه إن أراد أن يهديه بحسب ما قرره من السنن فمن سلك سبيل الهداية وأسلم نفسه لله هداه «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى»(2)، هذا في الزيادة وأما في الأصل «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ»(3)، فلاحظ موقع باء السببية في «بِإِيمَانِهِمْ» والأمر في الرواية كذلك: «فَوَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوهُ...» ف«يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ» أي بحسب ما قرر منالسنن، ومنها: إن من أكثر من المعاصي ران على قلبه فانحرف وضل وأضل وربما كفر، ومن أكثر من الطاعات كان ذلك سبباً لهدايته بنحو العلة المعدّة.

2 - طرحها؛ للإشكال سندياً فيها

الوجه الثاني: طرح هذه الروايات؛ وذلك للإشكال السندي فيها، فإن هذه الرواية مجهولة كما صرح به العلامة المجلسي، لكون بعض رواتها مجهولين وبعضهم مشترك، ولكن هذا الوجه قد يردّ بتواترها الإجمالي أو المضموني، فتأمل!

ص: 103


1- سورة الأنعام: 125.
2- سورة مريم: 76.
3- سورة يونس: 9.
3 - حملها على أنها قضية خارجية ومن التقية

الوجه الثالث: حملها على أنها قضية خارجية وليست حقيقية، ومن وجوه كونها خارجية أنها كانت صادرة تقية.

كلام العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول: (ويمكن الجمع بينها بوجوه: الأول:-

حمل أخبار النهي على التقية والاتقاء على الشيعة، فإنهم لحرصهم على هداية الخلق ودخولهم في هذا الأمر كانوا يلقون أنفسهم في المهالك، ويحتجون على المخالفين بما يعود به الضرر العظيم عليهم وعلى أئمتهم (علیهم السلام)، كما كان من أمر هشام بن الحكم وأضرابه، فنهوهم عن ذلك وأزالوا التوهم الذي صار سببا لحرصهم في ذلك من قدرتهم على هداية الخلق بالمبالغة والاهتمام في الاحتجاج فيها، بأن الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب من قبل الله تعالى، ولو علم الله المصلحة في جبرهم على اختيار الحق لكان قادراً عليه ولفعل، فإذا لم يفعل الله ذلك لمنافاته للتكليف وغير ذلك من المصالح، فلم تتعرضون أنتم للمهالك، مع عدم قدرتكم عليه، وقد منع الله نبيه صلوات الله عليه من ذلك وقال: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ»(1) وأما إظهار الحق فإنما يجب مع عدم التقية، مع أنه قد تبين الرشد من الغي وتمت الحجة عليهم بما رأوا من فضل الأئمة وعلمهم وورعهم وكمالهم، وفجور خلفائهم الجائرينوبغيهم، وانتشرت الأخبار الدالة على الحق بينهم، ويكفي ذلك لهدايتهم إن كانوا قابلين، ولإتمام الحجة عليهم إن كانوا متعنتين)(2).

ص: 104


1- سورة القصص: 56.
2- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (علیه السلام): ج2 ص243.

مؤيدات للتقية في الرواية

ويمكن تأييد كلام العلامة المجلسي (رحمه الله) بوجوه:

منها: إن كلمة (الناس) في مصطلح الروايات، كما هو مقتضى تحقيق بعض الأعلام، يراد به أهل العامة، لا عامة الناس ولا ما يشمل الكفار والمسيحيين واليهود، فيدل تخصيص الكفّ عن الدعوة بهم، على أن في أهل العامة خصوصيةً وليست إلا التقية إذ كان المذهب الرسمي هو مذهب أهل العامة وكانوا على عداء شديد مع أهل البيت (علیهم السلام) وكانت دعوة أهل العامة للتشيع تعد جريمة سياسية خطيرة.

ومنها: ورود كلمة (أمركم) فإن (الأمر) في (هذا الأمر) ظاهر في أن المراد به أمر التشيع وأما (أمركم) فهو صريح في ذلك إذ لا يقال (أمركم) إلا في مقابل العامة ولم نجد إطلاق أمركم في مقابل الكفار مثلاً.

وهناك وجوه ومحامل عديدة لهذه الرواية وأمثالها، ذكرها العلامة المجلسي طاب ثراه في مرآة العقول، فراجع!

ص: 105

ص: 106

الفصل الثاني: بحث عن (الصراط)

اشارة

ص: 107

ص: 108

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»(1).

من البصائر: (الصراط المستقيم) هدف أو وسيلة؟

قد يُواجَه المتدبّر في هذه الآية الكريمة، بتساؤل هام عن الوجه في قوله تعالى: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» مع أن الصراط هو الطريق والطريق مقصود لغيره، وذو الطريق هو المقصود لذاته، وبعبارة أخرى: الطريق مقدمة وذو المقدمة هو المطلوب لذاته، فكان الأولى أن تُطلب الهداية للهدف والغاية بدل أن تطلب للمقدمة إليها فإن هذا الطلب: (طلب الهداية للطريق والمقدمة) وإن صح لكنه لا يكون إلا بلحاظ الغاية والهدف وذي الطريق!

الجواب: الأقسام ثلاثة

ويمكن الجواب عن ذلك بوجه دقيق يبتني على مبحث مبنوي هام، وهو: إن المعروف هو تقسيم الأمور إلى مقدمة وإلى ذي المقدمة، والذي يتصوره البعض هو أن المنفصلة حقيقية، لكن التحقيق يقودنا إلى وجود قسم ثالث وهو ما كان مقدمة وذا المقدمة في الوقت نفسه أي ما كان مطلوباً لنفسه ومطلوباً لغيره وما كان هدفاً ووسيلة في الوقت ذاته، وطريقاً وغاية وهدفاً معاً جميعاً، وعليه فتكون الأقسام ثلاثة:

ص: 109


1- سورة الفاتحة: 6.

المتمحِّض في المقدمية والآلية

الأول: ما هو متمحِّض في جهة المقدمية أو الطريقية، وذلك كنصب السّلم للصعود على السطح فإنه لا موضوعية فيه أبداً، ولذا لو أمكنه الطيران للسطح بآلة أو القفز إليه بالمظلة فرضاً بدون مؤونة زائدة أو مضاعفات سلبية لَما كان للسّلم حينئذٍ قيمة أبداً.

المتمحِّض في المطلوبية الذاتية

الثاني: ما هو متمحِّض في جهة الغائية أي ما كان مطلوباً لذاته لا لمقدميته لشيء آخر (وإن أمكن أن يقع مقدمة أيضاً لكنه وقع مورد الطلب نظراً للجهة الأولى بالأساس) وذلك كالإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته، فإنه مطلوب لذاته فحتى لو لم يردعه ذلك عن المعصية فإنه مطلوب نفسي ولذا قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء»(1)، نعم لا شك في أن المؤمن بالله مع تجنبه معاصيه أفضل من المؤمن فقط، لكنّ القصد هو أن الإيمان به تعالى مطلوب نفسي بل هو أسمى الغايات والأهداف؛ وبذلك أيضاً يظهر الفرق بين شخصين كلاهما يخدم الناس ويتجنب أمثال الرشوة والغش والخداع والتدليس والظلم والإيذاء، لكن أحدهما يؤمن بالله ورسوله والآخر يكفر بهما فإن المؤمن المتقي العامل أفضل من الكافر غير العامل بلا شك، وليس ذلك من منظار المُسلم المسلِّم فقط بل حتى من منظار العلم والعقل إذ «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2)؟ فمن يعلم قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء ويعمل بها أشرف ممن يعمل بها من دون علم بلا شك، بل العامل

ص: 110


1- سورة النساء: 116.
2- سورة الزمر: 9.

العالم بها عن اجتهاد أفضل من العامل العالم عن تقليد.

الجامع للجهتين

اشارة

الثالث: ما هو جامع للجهتين بأن يكون مطلوباً لذاته ومطلوباً لغيره، وذلك إنما يكون إذا كانت في ذاته مصلحة ملزمة وكان أيضاً مقدمة لغاية ذات مصلحة ملزمة أهم أو حتى مساوية له في الأهمية، فيكون هدفاً من جهة ووسيلة من جهة أخرى فهو هدف لأنه حامل للمصلحة بذاته وهو وسيلة لأنه مقدمة للوصول إلى غاية أخرى، ولنمثل لذلك بمثالين:

أ- تعلّم العلم

اشارة

الأول: تعلّم العلم فإن العلم مطلوب لذاته كما هو مطلوب لغيره إذ العلم (كعلم العقائد والفقه والأصول، وعلم الطب والهندسة، وعلم الكيمياء والفيزياء) كمالٌ وفضيلة في حد ذاته ولذا كان العالم أشرف من الجاهل حتى إذا كان العالم مثلاً مسجوناً في طامورة تحت الأرض بحيث لا يُنتفع بعلمه أبداً إلا أنه في حد ذاته أشرف من الجاهل وإن كان طليقاً.

وجه أفضلية الزهراء (علیها السلام) على الإمام الصادق (علیه السلام)

وهذا ما يفسر به أفضلية مثل السيدة الصديقة الزهراء (علیها السلام) على الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وسائر الخلائق رغم أن قتلها في عمر الورود وهي ذات ثماني عشرة سنة حال دون الكثير الكثير جداً من عطاءاتها للبشرية فكيف تكون أفضل من الإمام الصادق (علیه السلام) مثلاً وقد طبَّقت علومه الدنيا؟

والجواب واضح وهو: إن القيمة قيمتان: قيمة ذاتية وغيرية، والأشخاص - كما الأشياء - تتفاضل بقِيَمِها الذاتية أولاً وبالذات، ألا ترى أن الذهب أفضل

ص: 111

وأشرف من الفضة وهما أشرف من التراب، في حد ذواتها؟ وكذلك الإمام الكاظم (علیه السلام) الذي كان مضطهداً مغلولاً في ظُلَم المطامير وبطون السجون لسنوات قيل إنها بلغت 14 عاماً فهل أنقص ذلك من قيمته شيئاً؟ كلا ثم كلا.

ب- حبّ الله والرسول والآل (علیهم السلام)

اشارة

الثاني: الحبّ، فإنه كذلك؛ ألا ترى أن حبّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) له الموضوعية في حد ذاته (وإن كانت له الطريقية أيضاً) ولذا ورد في الحديث: «حُبُّ عَلِيِّ (علیه السلام) حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ...»(1).

كيف يكون «حُبُّ عَلِيِّ (علیه السلام) حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ»؟

وقد اعترض أحد الطلاب على أحد العلماء بأن هذا غير معقول فأجابه العالم قائلاً: أسألك سؤالين فأجب عنهما وستعرف وجه الحقيقة بوضوح!

قال: تفضل! فقال:

السؤال الأول: ألا تعتقد بالشق الأول من الحديث وهو «حُبُّ عَلِيِّ (علیه السلام) حَسَنَةٌ»؟ فقال الطالب: نعم فإنه قد وردت الروايات من كتب الفريقين بذلك. (بل ورد أنه(صلی الله علیه و آله) قال لعلي (علیه السلام): «لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ...»(2) وقال (علیه السلام): «لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ(صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لَا

ص: 112


1- عوالي اللآلئ: ج4 ص86.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص319.

يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ»(1))(2) فلا شك في أن حبّ علي (علیه السلام) حسنة كما أن حبّ رسول الله حسنة، ولكن الإشكال في الشق الثاني: «لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ»؟

فقال العالم: إذاً أجب على السؤال الثاني: ألم يقل الله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»(3)؟

فقال الطالب: نعم! فقال العالم: إذاً حب علي حسنة بنص الروايات فهذه هي الصغرى، و«إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» بنص الآية فهذه الكبرى، فأين وجه الاعتراض!

ولا يعني ذلك الإغراء بالمعصية أبداً

أقول: وإن ذلك لكذلك، ولا يعني ذلك إغراء الناس بالمعاصي إذ كما أن الاستغفار يمحو الذنوب فكذلك حب الرسول والآل (علیهم السلام)، وكما أن الله إذ اعتبر الاستغفار ماحياً للذنوب لم يكن مشجعاً لهم بذلك على المعصية فكذلك إذا اعتبر حبّ الرسول والآل (علیهم السلام) ماحياً للذنوب.نعم يبقى أن الذنب تكمن خطورته في أنه يترك أثراً وضعياً على المحبة فمن يذنب ثم يذنب ثم يذنب فإنه يُخشى أن تُفقده ذنُوبُه المتتاليةُ محبته لله تعالى والرسول(صلی الله علیه و آله) والأمير (علیه السلام)، فيكون إيمانه مستعاراً لا مستقراً، بل حتى من يذنب الذنب الواحد فلا يستهيننّ به إذ قد يجرّه إلى ثانٍ فثالث فرابع حتى يُفقده إيمانه والعياذ بالله، بل إن الذنب الواحد مما يترك أثراً على المحبة والتعلق القلبي والفكري والنفسي والروحي بقَدَره ولذا نجد أن من نظر إلى المرأة الأجنبية لا سمح الله فإن رغبته في الصلاة ومناجاة الرب وحضور قلبه في الصلاة يقلّ أو

ص: 113


1- نهج البلاغة ص477.
2- ما بين القوسين اضافة توضيحية منا.
3- سورة هود: 114.

ينعدم وقد تقفز صورتها إلى ذهنه وهو وسط الصلاة أو الدعاء أو الزيارة فتسلبه خشوعه بالمرّة، وما أعظم تلك من خسارة!

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ *** هذا محالٌ في القياس بديعُ

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ *** إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

في كلِّ يومٍ يبتديكَ بنعمةٍ *** منهُ وأنتَ لشكرِ ذاكَ مضيعُ

وقد فصلنا الكلام حول ذلك وحول أصل الإشكال والجواب في كتاب (شعاع من نور فاطمة)، فراجع!

وموطن الشاهد هو أن العلم والحب، كل منها مطلوب لذاته لما فيهما من الشرف الذاتي والمطلوبية الذاتية وقد قال تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(1) و«الَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ»(2) و«هَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ»(3) كما أنهما مطلوبان طريقياً أيضاً فإن حب الله طريق إلى إطاعته أيضاً وإلى تجنب معاصيه، كما ظهر مما سبق أن حبّه طريق لجهة أخرى وهي محو ذنوبه أيضاً، فالحب إذاً: 1- ذو قيمة ذاتية. 2- كما أنه طريق إلى محو الذنوب الماضية. 3 - كما أنه طريق مشجع للالتزام بالطاعات والعبادات؛ فإنه على قدر المحبة تزداد الإطاعة والمودة.وكذلك العلم فإن الطالب الجامعي يدرس ليتخرّج ليتوظّف لينفق على عياله، فتعلّمه مطلوب وكمال وفضيلة كما هو مقدمة لغاية أخرى وهي صَون ماء الوجه وحفظ النفس والإنفاق على الأهل والعيال.

ص: 114


1- سورة الزمر: 9.
2- سورة البقرة: 165.
3- الكافي: ج8 ص79.

ج - الركض نحو الجامعة!

بل ويمكن التمثيل لذلك بمثال عرفي معروف وهو الركض كرياضة من الرياضات فإنه مطلوب لذاته لما فيه من المصلحة إذ به يحافظ المرء على صحته الجسدية والنفسية والعقلية أيضاً فهو مطلوب نفسي بما هو هو (أي المصلحة كامنة فيه) فإذا ركض باتجاه المدرسة أو الجامعة كي يصل إليها في الموعد المحدد فإنه يكون مطلوباً غيرياً أيضاً.

وجه جديد لكون الثواب على نفس المشي لزيارة الحسين (علیه السلام)

وبذلك تنحلّ عقدة معروفة وشبهة طرحها صاحب الكفاية وهي أن الأجر يكون على ذي المقدمة لأنه المأمور به والمطلوب وحامل المصلحة، وعليه فلا معنى لأن يؤجَر الإنسان على المقدمة لأنها لا مصلحة فيها أبداً، وعليه: فكيف نفسِّر الأجر العظيم المذكور للمشي لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) مثلاً؟ فإن المشي طريقي مقدمي، فأجاب: بأنه إما من باب أن خير الأعمال أحمزها أو من باب التفضل الإلهي المحض والصرف.

ولكن التحقيق غير ذلك وهو يعتمد على هذه المقدمة التي أشرنا إليها، وهي أن من الأشياء ما هو جامع للجهتين: الطريقية والموضوعية، إذ تكون فيه في حد ذاته المصلحة كما أنه مقدمة لأمر آخر فيه المصلحة أيضاً كما سبق من مثال العلم والحب لله، والمشي لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) هو كذلك، فإنه من جهةٍ مقدمة للزيارة فالغاية هي الزيارة وهي الهدف وهي الحامل للمصلحة، ولكن ومن جهة أخرى فإنه مطلوب لذاته أي إن المطلوب ليس فقط (المشي لزيارة الإمام (علیه السلام)) بل المطلوب أيضاً (المشي في طريق زيارة الإمام (علیه السلام)) فإذا فرض أن شخصاً لا يستطيع الزيارة وأمكنه فقط أن يمشي خطوات مع (المشّاية) فإن فيها

ص: 115

الثواب أيضاً(1)، وهذا جواب آخرنضيفه إلى أجوبة أخرى ذكرناها في ذلك المبحث. وتحقيق هذا الجواب مع الأخذ والرد فيه موكول لذلك الموطن.

و(الصراط المستقيم) هو من هذا القسم الثالث فإنه مطلوب لنفسه ومطلوب لغيره، وهو غاية وهدف وهو في الوقت نفسه وسيلة، وهو الحامل للمصلحة بذاته كما أنه طريق للوصول إلى ما فيه المصلحة، فافهم يا من رعاك الله واغتنم!.

معاني الصراط المستقيم

اشارة

ويظهر ذلك أكثر بالتدبر في المعاني التي ذكرت للصراط المستقيم والمعاني وهي:

أولاً: القرآن الكريم

إن القرآن الكريم هو الصراط المستقيم، كما فسرته به بعض الروايات فقد ورد عن الحارث الأعور قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ سَمِعْنَا الَّذِي نَشُدُّ بِهِ دِينَنَا(2)، وَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ سَمِعْنَا أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مَغْمُوسَةً، لاَ نَدْرِي مَا هِيَ؟! قَالَ (علیه السلام): «أَ وَ قَدْ فَعَلُوهَا؟!»(3).

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ (علیه السلام): «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: أَتَانِي جَبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، سَتَكُونُ فِي أُمَّتِكَ فِتْنَةٌ. قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟

فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ بَيَانُ مَا قَبْلَكُمْ مِنْ خَبَرٍ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ

ص: 116


1- حتى إن لم يقصد الزيارة، بل قصد مجرد الكون مع المشاية والزيارة معهم.
2- أي من نصائح وإرشادات ومواعظ وحِكَم وترغيب في الثواب وترهيب من العقاب.
3- لعل المراد: بغصبهم الخلافة، أو بتجريهم على تفسير كتاب الله وتأويله بغير علم ولا هدى.

مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ وَلِيَهُ مِنْ جَبَّارٍ فَعَمِلَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ(1)، وَمَنِ الْتَمَسَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لاَ تُزِيغُهُ الْأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ.

هُوَ الَّذِي لَمْ تُكِنَّهُ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: «إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ»(2) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي «لاَ

يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(3)»(4).

فإنه - القرآن الكريم - مطلوب لذاته فإنه المقصد والغاية كما هو مطلوب لغيره فإنه الطريق إلى الله تعالى، ولذلك تجد أن تلاوة القرآن في حد ذاتها لها الثواب، وكذلك حفظه أو النظر إليه، ثم بعد ذلك فإن العمل به له ثواب آخر، فتلاوته فيها المصلحة كما أنه من جهة أخرى مقدمة للعمل كما أنه من جهة ثالثة مقرِّب إلى الله تعالى.

ثانياً: الأنبياء والمرسلون والأئمة الميامين

إن الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) هم الصراط المستقيم.

أما الأنبياء فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله في تفسير هذه الآية الْعَيَّاشِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ:

ص: 117


1- كالظلمة العاملين بالظلم والاستبداد، وقد رأينا كيف قصم الله كثيراً منهم في الربيع العربي، والباقي في الطريق بإذن الله تعالى.
2- سورة الجن: 1 2.
3- سورة فصلت: 42.
4- البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص15 - 16.

«وَلَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثٰانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»، فَقَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ [يُثَنَّى فِيهَا الْقَوْلُ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ] مِنْ كَنْزِ الْعَرْشِ، فِيهَا:«بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» الْآيَةُ الَّتِي يَقُولُ [فِيهَا]: «وَإِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً».

«وَاَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ» دَعْوَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، حِينَ شَكَرُوا اللَّهَ حُسْنَ الثَّوَابِ.

«وَمٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قَالَ جَبْرَئِيلُ: مَا قَالَهَا مُسْلِمٌ قَطُّ إِلاَّ صَدَّقَهُ اللَّهُ وَأَهْلُ سَمَاوَاتِهِ.

«إِيّٰاكَ نَعْبُدُ» إِخْلاَصُ الْعِبَادَةِ. «وَإِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» أَفْضَلُ مَا طَلَبَ بِهِ الْعِبَادُ حَوَائِجَهُمْ.

«اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ» صِرَاطَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» الْيَهُودُ وَ(وَغَيْرِ الضَّالِّينَ) النَّصَارَى».»(1).

وأما الأئمة (علیهم السلام) فقد ورد عنهم: «نَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ»(2).

ثالثاً: أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعرفته

إن (الصراط المستقيم) «هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) وَمَعْرِفَتُهُ»(3) كما ورد في الرواية، فنفس الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وعلى مقدمتهم أمير المؤمنين (علیه السلام) صراط مستقيم فهم بذاتهم «الْأَدِلَّاءِ عَلَى اللَّهِ... »(4)، وهم مطلوبون لذاتهم كما هم

ص: 118


1- تفسير العياشي: ج1 ص22 / و في (البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص115).
2- تفسير القمي: ج2 ص66.
3- معاني الأخبار: ص32.
4- الكافي: ج4 ص578.

مطلوبون لأنهم المقرِّبون إلى الله تعالى، ويوضح ذلك إن بِرّ الوالدين بين مستحب وواجب حتى إذا كانا كافرين فإذا كانا مؤمنين كانت لبرهما جهتان:أ - بما هما والدان. ب - وبما هما والدان مؤمنان، والأنبياء والأئمة (علیهم السلام) حيث كانوا وسائط الفيض وجب شكرهم وطلب رضاهم من هذه الجهة كما وجب شكرهم لكونهم الطرق إلى الله تعالى.

ولأنه (علیه السلام) وسائر المعصومين (الصراط المستقيم) لذلك كان قول المعصوم حجة وفعله وتقريره أيضاً، فإنها بأجمعها صراط مستقيم؛ ولذلك كان ما سنّه النبي(صلی الله علیه و آله) واجب الإتباع مثل ما فرضه الله(1)، وقد أوضحنا في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) إن ذات المعصوم ونفسه هي حجة لا قوله وفعله وتقريره فقط فراجع وجه تصوير ذلك هنالك.

والحاصل: إن نفس معرفة أمير المؤمنين (علیه السلام) كمال بل هي من أسمى الكمالات ولذلك نجد أن كل من ازداد بمقاماته وفضائله ومناقبه وعلومه ومواقفه معرفةً ازداد كمالاً ومنزلةً عند الله تعالى ولديهم أيضاً، ومعرفته، من جهة أخرى، طريق إلى معرفة الله تعالى ومقربّة إليه.

رابعاً: حبّ محمد وآله (علیهم السلام)

كما ورد عن ابن عباس قوله في تفسير الآية (حب محمد وآله) فحبهم موضوعي - طريقي كما أوضحنا ذلك أيضاً.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»(2) وقال جل اسمه: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ»(3) وفي مقابل الصراط المستقيم تقع

ص: 119


1- راجع (المعاريض والتورية) وغيرها.
2- سورة الفاتحة: 6.
3- سورة الأنعام: 153.

السبل كما سبق إذ يقول تعالى مثلاً: «وَلاَتَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ».

ومن أهم سبل الضلال ما ذكره تعالى بقوله: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ»(1).

من بصائر النور في آية الصراط المستقيم

ولنتوقف أخيراً عند بصيرة قرآنية هامة في آية الصراط المستقيم فنقول: إن مفردة (الصراط) تحتل موقعاً شديد الأهمية في هذه الآية الكريمة لخصوصيتها وفرادتها وتميّزها على سائر المفردات المضارعة والمشابهة، ومن تلك المفردات (الطريق) فان الصراط كما فسروه يعني (الطريق).

لماذا (الصراط) وليس (الطريق)؟

ولكن لماذا لم يقل جل اسمه (اهدنا الطريق المستقيم) مع أن الطريق مفردة واضحة جليّة الدلالة والمعنى؟

وعندما نتدبر ونتفكّر في الأسباب والعلل المحتملة الآتية فإننا سنكتشف جانباً من تجليات عظمة القرآن الكريم وبعض أسرار إعجازه في انتقاء الكلمات، بنحو مذهل، ويمكننا ههنا الإشارة إلى بعض ما يخطر بالبال من العلل المطروحة على ساحة البحث والتحليل:

(الصراط) تحمل إرثاً تاريخياً وكنزاً من البطون

أولاً: لأن كلمة (الصراط) تحمل إرثاً تاريخياً وتستبطن كنزاً من البطون والمضامين والدلالات.

ثانياً: لأن كلمة (الصراط) تحيط بها هالة من الإبهام، بحيث تتناسب مع

ص: 120


1- سورة القصص: 41 - 42.

تعلق مفردة (إهدنا) بها، تماماً.

ثالثاً: لأنها لا مثنّى لها من لفظها ولا جمع لها، مما يستشم منه أن الصراط ذاتِيُّهُ الوحدة والتفرد.

وتوضيح ذلك:

اللغويون: الصراط يعني: البلع والازدراد!

1 إن الخزين التاريخي المعرفي الذي يكتنزه (الصراط) يتضح عبر إلقاء نظرة سريعة على ما ذكره اللغويون في مفردة الصراط ومناقشته على ضوء علم فقه اللغة، فقد ذكروا:(سرط: سَرِطَ الطعامَ والشيءَ، بِالْكَسْرِ، سَرَطاً وسَرَطاناً: بَلِعَه، واسْتَرَطَه وازْدَرَدَه: ابْتَلَعَه، وَلَا يَجُوزُ سرَط؛ وانْسَرَطَ الشَّيْءُ فِي حَلْقِه: سارَ فِيهِ سيْراً سهْلًا. والمِسْرَطُ والمَسْرَطُ: البُلْعُوم، وَالصَّادُ لُغَةٌ. والسِّرْواطُ: الأَكُول؛ عَنِ السِّيرَافِيِّ. والسُّراطِيُّ والسِّرْوَطُ: الَّذِي يَسْتَرِطُ كُلَّ شَيْءٍ يَبْتَلِعُهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: رَجُلٌ سِرْطِمٌ وسَرْطَمٌ يَبْتَلِعُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مِنَ الاسْتراط... وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ حُلْواً فتُسْتَرَطَ، وَلَا مُرّاً فتُعْقى، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْقَيْتُ الشَّيْءَ إِذا أَزَلْتَه مِنْ فِيك لمَرارتِه كَمَا يُقَالُ أَشْكَيْتُ الرَّجُلَ إِذا أَزلته عَمَّا يَشْكُوهُ. وَرَجُلٌ سِرْطِيطٌ وسُرَطٌ وسَرَطانٌ: جَيِّدُ اللَّقْمِ. وَفَرَسٌ سُرَطٌ وسَرَطانٌ: كأَنه يَسْتَرِطُ الجرْي. وَسَيْفٌ سُراطٌ وسُراطِيٌّ: قَاطِعٌ يَمُرّ فِي الضَّريبةِ كأَنه يَسْتَرِطُ كُلَّ شَيْءٍ يَلْتَهِمُه.

والسِّراطُ: السَّبِيلُ الْوَاضِحُ، والصِّراط لُغَةٌ فِي السِّرَاطِ، وَالصَّادِ أَعلى لِمَكَانِ المُضارَعة، وإِن كَانَتِ السِّينُ هِيَ الأَصل، وقرأَها يَعْقُوبُ بِالسِّينِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ ثَبِّتْنا عَلَى المِنْهاج الْوَاضِحِ؛ وَقَالَ جَرِيرٌ:

أَميرُ المؤمنينَ عَلَى صِراطٍ، ... إِذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مُسْتَقِيم

ص: 121

والمَوارِدُ: الطُّرُقُ إِلى الْمَاءِ، وَاحِدَتُهَا مَوْرِدةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَنَفَرٌ مِنْ بَلْعَنْبر يصيِّرون السِّينَ، إِذا كَانَتْ مُقَدِّمَةً ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهَا طَاءٌ أَو قَافٌ أَو غَيْنٌ أَو خَاءٌ، صَادًا وَذَلِكَ أَن الطَّاءَ حَرْفٌ تَضَعُ فِيهِ لِسَانَكَ فِي حَنَكِكَ فَيَنْطَبِقُ بِهِ الصَّوْتُ، فَقَلَبَتِ السِّينُ صَادًا صُورَتَهَا صُورَةَ الطَّاءِ، وَاسْتَخَفُّوهَا لِيَكُونَ الْمَخْرِجُ وَاحِدًا كَمَا اسْتَخَفُّوا الإِدْغام، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ الصِّرَاطَ وَالسِّرَاطَ، قَالَ: وَهِيَ بِالصَّادِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ...)(1).

فهؤلاء يرون أن الصراط هي بالأصل السراط ثم ؛نهم فسروا السراط بالابتلاع والازدراد كما يقال سرط الطعام إذا بلعه واسترطت الطعام إذا ازدرته، وسمي الطريق صراطاً لأنه يبتلع سالكه أو لأن سالكه يبتلعه!

قال الراغب في مفرداته: (السِّرَاطُ: الطّريق المستسهل، أصله من: سَرَطْتُ الطعامَ وزردته: ابتلعته، فقيل: سِرَاطٌ، تصوّرا أنه يبتلعه سالكه، أو يبتلع سالكه، ألا ترى أنه قيل: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها، وعلى النّظرين قال أبو تمام:

رَعَتْهُ الفيافي بَعْدَمَا كانَ حِقْبَةً ... رعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ)(2).أقول: الوجه فيه:إن الراكب على جواد أو في سيارة مسرعة مثلاً فإنه إذا نظر أمامه إلى الأرض فإنه يخيل إليه أن السيارة تبتلع الأرض لسرعة طيّها من تحته، أو إن الناظر من بعيد أو من علّ إذا رأى الراكب أو الماشي في الطريق يبتعد رويداً رويداً حتى يختفي فكأنه يستشعر أن الطريق قد ابتلعه!

وبعبارة أخرى: كما أن ابتلاع الطعام يتضمن مروراً للطعام من الفم إلى الحلق والحنجرة والمريئ واختفائه، كذلك السائر في الطريق فإنه يذهب فيه

ص: 122


1- لسان العرب: ج7 ص353.
2- مفردات الراغب الاصفهاني مع ملاحظات العاملي: ص388.

إلى أن يختفي.

وقال في معجم مقاييس اللغة: (سرط: السين والراء والطاء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على غَيبة في مَرّ وذَهاب. من ذلك: سَرَطْت الطّعام، إذا بَلِعْته؛ لأنَّه إِذا سُرِطَ غاب. وبعضُ أهل العلم يقول: السِّراط مشتقٌّ من ذلك، لأنَّ الذاهبَ فيه يغيب غيبةَ الطعام المُستَرَط)(1).

المناقشة:

أ- الصراط كلمة من الإرث الإبراهيمي (علیه السلام)

ولكن الظاهر أن ذلك ليس بالصحيح وان الصراط ليس من مادة سرط ولا ان معناه انه يسترط المارة ويبتلعها أو المارة تسترطه وتزدرده! فذلك تكلّف واضح واجتهاد حدسي لا دليل عليه وهو مبنيّ على مجرد تقارب الحروف في الكلمتين.

والصحيح هو: إن (الصراط) هي مفردة من إرث الأديان الإبراهيمية وإن هذه الكلمة كانت مجهولة لدى قريش إذ ضاعت كما ضاعت الكثير من معالم ديانة إبراهيم (علیه السلام)، وحيث وجدوها قريبة من سرط توهموا أنها هي! بل نطقوها بالسين أيضاً! وعلى الرغم من أن الكتابة في القرآن الكريم هي بالصاد ولكننا نجدهم يضعون سيناً فوقها إشارة إلى أنها بالأصل سين! وهو اجتهاد غريب.

ويكفينا دليلاً على ما ذكرناه أن بعض اللغويين(2) نص على أنها: (وَهِيَ بِالصَّادِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ الأَوّلين الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ، قَالَ: وَعَامَّةُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهَا سِينًا)(3) كما جاء في لسان العرب.والظاهر حجية نقل خبراء اللغة في مثل ذلك، كما فصلناه في كتاب (حجية

ص: 123


1- معجم مقائيس اللغة: ج3 ص152.
2- كالفرّاء مثلاً.
3- لسان العرب: ج7 ص354.

مراسيل الثقات المعتمدة)، ويكون نطق العرب للصاد بالسين توهماً منهم فإنهم حيث لم يجدوها بالصاد في لغتهم توهموا أن (الصراط) هو (السراط) مع أنه اجتهاد عقلي في أمر نقلي محض.

وعلى ذلك فالظاهر أن الصراط في «اهدِنَا

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» قد ذكر لأنها مفردة جاءت في الديانة الإبراهيمية (عليه وعلى نبينا وآله السلام) فتشير - فيما تشير - إلى أن الإسلام الذي جاء به الرسول المصطفى محمد(صلی الله علیه و آله) هو الصراط المستقيم الذي أرشد إليه أبو الأنبياء إبراهيم (علیه السلام) وأن صراط الله تعالى على امتداد تاريخ البشر هو صراط واحد مستقيم في أصوله وأسسه وقواعده وإن كان مما يتكامل في أحكامه وتفاصيله. ولعله يمكن استنباط ذلك من بعض الآيات الأخرى كقوله تعالى: «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا»(1) وإن كان ظاهرها المعنى لا اللفظ خاصة ولا اللفظ والمعنى، فتدبر!

ب - الصراط فيه نوع إبهام، فناسب (أهدنا)

ومن ذلك يظهر وجه احتمال آخر لاختيار كلمة (الصراط) وهي إن فيه، كما ظهر من البحث اللغوي الآنف، نوعاً من الابهام في نفس اللفظ كما أن فيه نوعاً من الابهام في ذاته لذا احتاج إلى مرشد من السماء إذ لا يعرف الناس الصراط المستقيم عادة إلا برسل مبعوثين من قبل الله تعالى فاحتاج الصراط الإلهي إلى هداية ربانية، فبذلك يكون عالم الإثبات قد طابق عالم الثبوت ويكون فيه إشارة خفية إلى أنه كما أن الصراط في لفظه تجهله قريش فكذلك هو في مصداقه وجوهره فاحتاج إلى الاستعانة بالله تعالى بالقول بصدق وإخلاص: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ

ص: 124


1- سورة الأنعام:161 .

غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ».

ج - لا مثنى للصراط، عكس الطريق

إن الصراط لا مثنى له من لفظه ولا جمع، عكس الطريق والسبيل، ولذا نجد - وكما سبق - إن القرآن الكريم لم يأت بتثنية أو جمع للصراط أبداً بل حيث وجب أن يذكر مقابلاً للصراط لم يذكر الصراطات مثلاً بل ذكر السبل، قال تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ»(1).

وذلك يستبطن دلالة أخرى أيضاً وهي إن الصراط واحد ولا يمكن أن تكون هناك صراطات مستقيمة! فكما أن الله تعالى (أحد) لا شريك له كذلك (الصراط) واحد(2) لا ثاني له! فكأنها تفيد أن الصراط ذاتيّه التفرد والوحدة! وذلك هو ما يؤكد حديث الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة فإن مضمونه يمكن أن يعضد بمثل هذه الآية القرآنية الكريمة.

د- الصراط أعم من الطريق والغاية

إن الطريق يقع في مقابل ذي الطريق أو الغاية أو الهدف وهي (المدينة) أو (السعادة) مثلاً، عكس الصراط فإنه يعم الطريق وذا الطريق جميعاً، ولعل ذلك من النوادر أو الغرائب وذلك لأن (للثنائيات) المتضادة في واقعها، أسماء متباينة أيضاً، فمثلاً (المقدمة وذو المقدمة) فإنها ثنائية متضادة إذ المقدمة بما هي مقدمة مغايرة لذي المقدمة بما هو ذو المقدمة، ولذلك وضع لكل منهما اسم أو صفة فوضع عنوان المقدمة لها وأما ذوها فوضع له عنوان الغاية أو الهدف أو ذو المقدمة، وكذلك ثنائية الانتزاعي ومنشأ الانتزاع كالأربعة والزوجية فإنه لا يطلق

ص: 125


1- سورة الأنعام: 153.
2- تلاحظ الدقة في تغيير أحد إلى واحد.

على أحدهما وصف الآخر، وهذه هي القاعدة العامة في الثنائيات ومنها المقام فإن لنا غاية ولنا طريق إلى الغاية فالغاية هي معرفة الله تعالى والطريق إليها هو التفكر والتدبر في القرآن الكريم مثلاً، ولكن الصراط لعله الاستثناء الوحيد الذي يطلق على الطريق وعلى ذي الطريق أيضاً فكل منهما صراط مستقيم فإن القرآن الكريم مثلاً صراط مستقيم ومعرفة وحدانية الله تعالى وعدله ورحمته صراط مستقيم أيضاً مع أن الأول طريق إلى الثاني، والإمام المعصوم (علیه السلام) بنفسه هو صراط مستقيم كما أن معرفته صراط مستقيم كما أن حبه أيضاً صراط مستقيم مع أن الأخيرين هما في طول الأول ومع أن المعرفة تقع طريقاً إلى المحبة وقد يصح العكس أيضاً.

وقد دلت على ذلك الروايات أيضاً، فقد ورد في تعريف الصراط المستقيم:- «الطريق ومعرفة الإمام»(1) فالطريق إلى معرفة الإمام صراط، ومعرفته هي صراط؛ فإن الظاهر أنه ليس من العطف البياني.

- «صِرَاطَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام):

- «نَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ»(3).

كما قيل إنه:

- (حب محمد وآله).

فهم (علیهم السلام) بأنفسهم صراط مستقيم وحبهم صراط مستقيم ومعرفتهم

ص: 126


1- تفسير القمي: ج1 ص28.
2- تفسير العياشي: ج1 ص22 / و في (البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص115).
3- تفسير القمي: ج2 ص66.

صراط مستقيم وصراطهم وصراط الأنبياء والطريق إليهم صراط مستقيم؛ وذلك من الأسرار المحتملة في وجه اختيار مفردة الصراط، والتي يمكن أن نقول إنه لا يشبهها في ذلك إلا (الدين) نفسه، حيث إنه يعم الطريق وذا الطريق أيضاً!

ص: 127

ص: 128

الفصل الثالث: بحث عن (الاستقامة)

اشارة

ص: 129

ص: 130

من بصائر النور في آية الصراط المستقيم

من البصائر الجوهرية في الآية الكريمة التي ينبغي أن تستوقف الباحث طويلاً، استكشاف السرّ في اختيار مفردة (المستقيم) كوصف للصراط ودلالاتها والمضامين التي يمكن أن تكتنزها هذه المفردة القرآنية الكريمة، ذلك أنه كان من الممكن أن يقال مثلاً (أهدنا الصراط القويم أو القائم) فلماذا اختيار المفردة من تصاريف باب الاستفعال؟

المحتملات في معنى المستقيم

اشارة

لعل بعض السرّ في ذلك ينجلي باستعراض المحتملات في تفسير مفردة (المستقيم) فان المحتملات بدواً حسب النظر القاصر هي ثلاثة:

أ - المراد به المجرد (القويم)

الأول: إن باب الاستفعال قد يأتي ليفيد معنى المجرد، فمثلاً استقرّ يفيد معنى قرَّ فإنه لا يراد به أنه طلب القرار والاستقرار بل إنه يستعمل عادة ويراد به أنه قرَّ بالفعل، كما قال الشاعر:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى *** كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ

ولكن لو كان المراد هذا المعنى من (المستقيم) أي كان المراد منه هو نفس

ص: 131

فعل المجرد، لكان من غير المبرّر الخروج عن صيغة المجرد إلى باب الاستفعال، فإن القاعدة هي أن هذه التصاريف إنما وضعت لتدل على معنى إضافي زائداً على ما تفيده مادة الكلمة الأصلية، والخروج عنها إلى إرادة المجرد خلاف الأصل، على أنه قليل بل نادر إذ ندر استعمال الاستفعال في معنى المجرد.

ب - المراد به المطاوعة

الثاني: إن باب الاستفعال قد يأتي ليفيد معنى المطاوعة، فمثلاً تقول: (أدرته فاستدار)، فإن المجيء بصيغة الاستفعال ههنا إنما هو ليفيد المطاوعة والتجارب والانفعال عمّا فعلتَه، وكان من الممكن أن يقال: (أدرته فدار)، لكنه يكون حينئذٍ خالياً عن نكهة المطاوعة، وكذلك تقول: (أرحته فاستراح)، فإنه لا يراد به أنه طلب الراحة كما هو الأصل في باب الاستفعال بل المراد أنه طاوعك في الاستراحة وانقاد لك واستجاب.

فقد يقال إن الوجه في التعبير في الآية الشريفة ب«الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» هو الإشارة إلى جنبة المطاوعة في الصراط ووجه الاستقامة فيه وإنه هو وجودُ عِلّة فاعلية له، إذ تقول مثلاً: اقمته فاستقام، فذلك يفيد أن هناك علّة لاستقامة الصراط هي التي بها كان الصراط مستقيماً فليس هو مستقيماً بذاته بل هو مستقيم بفعل فاعل وهو الله تعالى فكأنه قيل أهدنا الصراط الذي أقمته يا ربنا فأستقام، وكأنّ ذلك يستبطن التعليل في لزوم إتباعه فإنه إذا كان الخالق جل اسمه هو الذي أقام الصراط فاستقام فإنّ من الطبيعي أن علينا حينئذٍ المطاوعة والانقياد والمشيء على الصراط المستقيم: «أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(1).

ص: 132


1- سورة الملك: 22.

بل إن ذلك يتناغم مع طلب الهداية في صدر الآية الكريمة إذ تقول: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» فحيث إن الصراط هو الذي أقامه الله تعالى فاستقام بفعله تعالى فإن من اللازم أن نطلب من الله تعالى الهداية إليه؛ إذ ليس بمقدورنا أن نستكشف حقائق أفعال الله تعالى وكيفياتها وأغراضها وحدودها إلا منه جل اسمه، فإنه حيثكان جل اسمه هو الذي أقام الصراط على كيفية خاصة ولأهداف محددة وبضوابط معينة فاستقام عليها فإن علينا أن نطلب منه الهداية إلى ذلك كله والتي لا تكون - طبيعياً - إلا عبر الأنبياء والرسل والأوصياء؛ إذ لا يوجد - وكما هو واضح - اتصال مباشر بيننا وبين إله الأرض والسماء، يكفل لنا إيضاح ذلك إلا عبر الرسل والأوصياء.

ج - المراد به الطلب (طلب القيام والثبات والاستقامة)

الثالث: إن باب الاستفعال يأتي للدلالة على طلب الفعل، وهذا هو الأصل فيه والموضوع له، فمثلاً تقول: إستغَفَرَ الله تعالى أي أنه طلب غفرانه لذنبه أو استخرج الذهب من المعدن أي طلب خروجه، وإن كان قد يراد به إخراج الذهب منه.

ولكن هذا المعنى قد يقال بانه لا معنى لفرضه في الآية الكريمة إذ الصراط ليس مما يطلب القيام والقوام، بل هو مما يوصف بالقويم أو القائم، نعم يوصف به الإنسان باعتباره مدرِكاً شاعراً إذ يقال: إنسان مستقيم فقد يراد به المجرد ومعنى القويم، وقد يراد به انه طالب للقيام والثبات والاستقامة؛ كما تقول: إنسان مستثمِر أي طالب للثمرة والاستثمار، وشخص مستعمِر أي طالب للإعمار والعمران، وشركة مستخرِجة للذهب أي طالبة لخروجه، وذلك لأن الإنسان مدرِك شاعر فيصدق عليه أنه يطلب كذا، أما الصراط فهو غير مدرك

ص: 133

ولا شاعر لذا لا يصح وصفه بأنه طالب للقيام والقوام والاستقامة كي يوصف بانه مستقيم بطلب وإرادة وشعور منه.

وصف الصراط بالمستقيم مع أنه لا إدراك له!

اشارة

ولكنّ النظر الفاحص يقودنا إلى صحة وصف الصراط بالمستقيم وإرادة المعنى الأوّلي الموضوع له لباب الاستفعال منه، وذلك لأن الصراط المستقيم فُسِّر في الروايات وكما سبق بتفسيرات:

الأول: قال الإمام الصادق (علیه السلام): «نَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ»(1).

الثاني: «الطريق ومعرفة الإمام»(2) كما في رواية أخرى.الثالث: «اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»(3) حسب رواية ثالثة:

أولاً: لأن المراد به المعصومون (علیهم السلام)

فأما المعنى الأول للصراط وهو الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وكذلك الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم، فإن من الواضح صحة نسبة الاستقامة بمعنى طلب الثبات والقيام إليهم، وذلك لأن كل نعمة فمن الله: «وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ»(4) وقال تعالى: «وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً»(5) فإن أصل وجود الممكن من الله تعالى، والرسول والأئمة من الممكنات والمخلوقات لله تعالى كما هو بديهي، كما أن اتصافه بصفاته من الله تعالى أيضاً فإنها ممكنة وليست

ص: 134


1- تفسير القمي: ج2 ص66.
2- تفسير القمي: ج1 ص28.
3- تفسير العياشي: ج1 ص22 / و في (البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص115).
4- سورة النحل: 53.
5- سورة الإسراء: 74.

بواجبة الوجود، وبعبارة أخرى: لا هي واجبة الوجود ولا هي من ذاتي باب البرهان ليكون ثبوتها لذيها ضرورياً، على أن مطلق ذاتي باب البرهان محتاج للفاعل بحاجة ذيه إليه فيوجد بوجوده فهو محتاج إلى جعلٍ ولو بالواسطة.

بل يقول تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى»(1) و«وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ»(2).

والحاصل: إن الرسل والأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) يطلبون الثبات على الطريق والاستقامة على الدين القويم من الله تعالى، وعندما نقول: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» يراد به - حسب هذا المعنى الأول - أهدنا إلى الأئمة والأنبياء والرسل (علیهم السلام) الذين هم الصراط المستقيم إلى الله تعالى أي الذين هم صراط مستقيم بمشيئة الله تعالىوباستجابته لطلبهم إذ طلبوا منه الاستقامة والثبات على الصراط المستقيم الذي يراد به في تفسيرٍ آخر وإطلاقٍ آخر (دينه) جل اسمه فهذا (وهو هم) صراط وذاك (وهو دينهم) صراط، وهما طولياً موصلان لله تعالى.

ثانياً: لأن الطريق، ككل مخلوق، مدرِك شاعر

وأما المعنى الثاني: وهو (الطريق) والثالث هو (صراط الأنبياء) فقد يتوهم أن التعبير بالمستقيم عن الطريق نفسه (أو عن الصراط) مع إرادة المعنى الحقيقي للاستفعال مما لا يمكن إذ لا شعور للطريق ولا إدراك كي يطلب الثبات والاستقامة، وعليه فلا محالة يجب ان يفسر ذلك بلسان الحال لا بلسان القال.

ولكن ذلك غير صحيح؛ وذلك لأن من الثابت أن كل شيء شاعر مدرك قال تعالى: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ

ص: 135


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الإنسان: 30.

حَلِيمًا غَفُورًا»(1) والملفت في الآية والصارخ أيضاً أن الله تعالى يَسِمُنا نحن بالقصور والجهل «وَلَكِن

لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» كي لا نقول بأن المراد من تسبيحهم أنه مجاز أي أنه بلسان الحال! فيقول جل اسمه - ما مضمونه -: إن كل شيء يسبح لكنك أنت لا تفهم! أما إذا كان المراد التسبيح بلسان الحال فهو مجاز لا غموض فيه ولا مجال للاستنكار عليه فلا معنى لتقريعنا باننا لا نفقه!

كما يدل على شعورها قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(2) وهي ظاهرة من حيث مفردة «عَرَضْنَا» في المقصود؛ إذ لا يعرض الشيء على غير المدرك الشاعر فلا يقال عرضت على الحائط أن أصبغه مثلاً، كما هي صريحه من حَيث مفردتي «فَأَبَيْنَ» و«وَأَشْفَقْنَ».

وهذه الحقائق القرآنية تقمع غرور الإنسان إذ يتصور أنه العاقل والمدرك الوحيد وأنه أفضل المخلوقات! ولذا نجده تعالى يقول في آية أخرى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ

عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً»(3) فالإنسان ليس أفضل خلائق الله كما يتوهمه الكثيرون بل هناك أفضل منه ولذا قال تعالى: «وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» وليس على الجميع والكل.

وعليه: فالطريق والصراط مدرك شاعر يطلب من الله تعالى الثبات على القوامية والقيامية والاستقامة!

ص: 136


1- سورة الإسراء: 44.
2- سورة الأحزاب: 72.
3- سورة الإسراء: 70.

ماذا يعني ان يطلب الصراطُ الاستقامة؟

ولكن ماذا يعني أن يطلب الصراطُ الاستقامة؟ وما هو وجه ذلك؟

الجواب: أولاً: لأن الاستقامة ليست ذاتية له بل هي من الأعراض وكل ما كان كذلك فإنه بحاجة إلى جعل.

ثانياً: فلأن الاستقامة ليست هي الاستواء والسير على خط مستقيم بالضرورة، بل إن هذا هو المعنى الأولي أو الظاهري أو المادي للاستقامة؛ إذ قد يكون الصراط المستقيم هو المتعرج أو المتموج أو الحنيف: «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا»(1) فهو المائل عن سبيل المشركين أي بالمعنى الحسي المعهود، ولكنه المستقيم بالمعنى الحقيقي الآخر المنشود، وحيث كانت الاستقامة بالمعنى الآخر الأعمق، غامضةً في كثير من الأحيان، وصعبة المرتقى، لذلك استدعت تأكد طلبها من الله تعالى وإفاضتها آناً فآن وموقفاً فموقف وحادثة فحادثة وهذه حقيقة في غاية الأهمية ومزيد توضيحها:

معاني الاستقامة

اشارة

إن الاستقامة بمعنى الاستواء والسير على الخط المستقيم (بالمعنى المعهود) ليست مطلوبة لذاتها بل قد تكون هي الخطأ والضلال بعينه ويكون الهدى والرشاد في الاستقامة بمعنى آخر بل بمعاني أخرى أربعة وهي الاستقامة بلحاظ الغاية، والفاعل، والموضوع، والقابل.

أولاً: الاستقامة بلحاظ الغايةولنمهد لذلك بمثالين من عالم التكوين:

اشارة

ص: 137


1- سورة الأنعام: آية 161.
الصواريخ الذكية

المثال الأول: الصواريخ الذكية، فإن هذا النوع من الصواريخ قيمته الحقيقية في أنه يتتبع الهدف (وهو الطائرات الحربية المُغيرة على البلاد) بكل إلحاح وإصرار فمهما غيّرت الطائرة الحربية مسارها وتعرجت وارتفعت أو انخفضت فإنه يتّبع نفس المسار المتعرج، وهذا يعني أن استقامة الصاروخ الذكي ليست في سيره في خط مستقيم بل إن استقامته واقعاً هي في سيره باتجاه الهدف فمهما استقام استقام ومهما انحرف انحرف.

والسر إن الاستقامة بمعنى الاستواء ليست هدفاً ولا مطلوباً لذاته بل إنما قيمة الطريق هي بالايصال إلى المقصد والغاية فحينئذٍ يكون طريقاً وإلا كان مضلّة ومُنزَلقاً ومَتاهةً، وعليه: فطريقية الطريق هي بأن يوصل للهدف فقد يجب أن يكون متعرجاً حينئذٍ فيكون هو المستقيم حقاً وإن كان غير مستقيم بالمقياس المادي الظاهري لكونه متعرجاً، وقد يجب أن يكون مستقيماً بالمعنى المعهود لأنه الموصل للهدف.

الطرق الجبلية

المثال الثاني: الطرق الجبلية الضيقة المتعرجة المنحرفة الملتوية التي تستدير باستدارة الجبل وتتعرج بتعرجه، وهنا نشهد بوضوح أن المستقيم بالمعنى المعهود أي السير في خط مستوٍ هو غير المستقيم واقعاً إذ به الهلاك والضلال والسقوط في أسفل الوادي السحيق، وبالعكس فإن المستقيم بالمعنى الحقيقي هو الانحراف بانحراف الجبل والالتواء مع التواءاته.

السر في التعبير ب« يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ»

ومن هنا نفهم بعض السرّ في قوله(صلی الله علیه و آله): «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ

ص: 138

يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ»(1) بل المذهل هو التعبير ب«يدور» و«حيثما دار» وعدم التعبير بالمعهود كالقول بأنه يمشي معه على خط مستقيم أو أنه يواصل سيرهمعه في خط مستقيم أو شبه ذلك، والسر هو إن الغاية هي المِلاك والمقياس فقد تقتضي الدوران وقد تقتضي الاستقامة بالمعنى المعهود.

وهذا هو الذي لم يفهمه الخوارج من (علي صلوات الله عليه) حيث توهموا أنه كان يجب عليه أن يمشي على خط مستقيم ويرفض (التحكيم) مهما بلغ الأمر، كما غفل الجهال من أسلافهم إذ اعترضوا على صلح الحديبية، غافلين عن أن الهدى (وهو رضا الله تعالى) قد لا يكون في ذلك، فمثلاً: قد يكون الصراط المستقيم في الحركة وقد يكون في الجمود والسكون وقد ورد «كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ»(2) فقد تكون الثورة هي الصراط المستقيم كما صنع أبو الأحرار وسيد الشهداء (علیه السلام) وقد تكون الهدنة هي الصراط المستقيم كما صنع السبط الأكبر (علیه السلام) وقد تكون المعاهدة أو حتى التحالف.

ومن هنا يتأكد أن الصراط المستقيم بلحاظ الغاية لا يتطابق بالضرورة مع الصراط المستقيم بلحاظ نفس صفة الاستقامة الحسية الظاهرية.

لأن علياً (علیه السلام) صَمَت وسَكَن إذ وجبا ونَهَض ونَطَق إذ لَزِما

ومن هنا نفهم أيضاً السرّ في عظمة علي (علیه السلام) حيث إنه صمت إذ وجب الصمت ونطق إذ وجب النطق، ونعرف أنه كان في قمة البطولة والشجاعة والشموخ والتسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على بلائه إذ شهد هجوم الأعداء على الصديقة الزهراء (علیها السلام) ولم يقاتلهم مع أنه كان بمقدوره أن

ص: 139


1- بحار الأنوار: ج10 ص432.
2- الغيبة: ص196.

يزلزل بنيانهم ويجندل أبطالهم كما جندل أسلافهم من قبل، فذلك لأنه (قيّدته وصية من أخيه) فقد ورد:

عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسْتَفَادِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (علیه السلام): «قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) كَاتِبَ الْوَصِيَّةِ وَرَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) الْمُمْلِي عَلَيْهِ وَجَبْرَئِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (علیهم السلام) شُهُودٌ؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ قَدْ كَانَ مَا قُلْتَ وَلَكِنْ حِينَ نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) الْأَمْرُ نَزَلَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ عِنْدِاللَّهِ كِتَاباً مُسَجَّلًا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مَعَ أُمَنَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَكَ إِلَّا وَصِيَّكَ لِيَقْبِضَهَا مِنَّا وَتُشْهِدَنَا بِدَفْعِكَ إِيَّاهَا إِلَيْهِ ضَامِناً لَهَا - يَعْنِي عَلِيّاً (علیه السلام) -، فَأَمَرَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله) بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَا خَلَا عَلِيّاً (علیه السلام) وَفَاطِمَةُ فِيمَا بَيْنَ السِّتْرِ وَالْبَابِ.

فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ هَذَا كِتَابُ مَا كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ وَشَرَطْتُ عَلَيْكَ وَشَهِدْتُ بِهِ عَلَيْكَ وَأَشْهَدْتُ بِهِ عَلَيْكَ مَلَائِكَتِي وَكَفَى بِي يَا مُحَمَّدُ شَهِيداً. قَالَ: فَارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ رَبِّي هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ يَعُودُ السَّلَامُ صَدَقَ عَزَّ وَجَلَّ وَبَرَّ هَاتِ الْكِتَابَ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْهُ فَقَرَأَهُ حَرْفاً حَرْفاً فَقَالَ: يَا عَلِيُّ هَذَا عَهْدُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيَّ وَشَرْطُهُ عَلَيَّ وَأَمَانَتُهُ وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ وَأَدَّيْتُ، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): وَأَنَا أَشْهَدُ لَكَ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ بِالْبَلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّصْدِيقِ عَلَى مَا قُلْتَ وَيَشْهَدُ لَكَ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام): وَأَنَا لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ أَخَذْتَ وَصِيَّتِي وَعَرَفْتَهَا وَضَمِنْتَ لِلَّهِ وَلِيَ الْوَفَاءَ بِمَا فِيهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي عَلَيَّ ضَمَانُهَا وَعَلَى اللَّهِ عَوْنِي وَتَوْفِيقِي عَلَى أَدَائِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ

ص: 140

عَلَيْكَ بِمُوَافَاتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): نَعَمْ أَشْهِدْ. فَقَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله): إِنَّ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْآنَ وَهُمَا حَاضِرَانِ مَعَهُمَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لِأُشْهِدَهُمْ عَلَيْكَ، فَقَالَ نَعَمْ لِيَشْهَدُوا وَأَنَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أُشْهِدُهُمْ فَأَشْهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله).

وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ بِأَمْرِ جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ تَفِي بِمَا فِيهَا مِنْ مُوَالَاةِ مَنْ وَالَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْبَرَاءَةِ وَالْعَدَاوَةِ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ عَلَى الصَّبْرِ مِنْكَ وَعَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَعَلَى ذَهَابِ حَقِّي وَغَصْبِ خُمُسِكَ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ. فَقَالَ (علیه السلام): نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام): وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) يَقُولُ لِلنَّبِيِّ: يَا مُحَمَّدُ عَرِّفْهُ أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الْحُرْمَةُ وَهِيَ حُرْمَةُ اللَّهِ وَحُرْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) وَعَلَى أَنْ تُخْضَبَ لِحْيَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ بِدَمٍ عَبِيطٍ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام): فَصَعِقْتُ حِينَ فَهِمْتُ الْكَلِمَةَ مِنَ الْأَمِينِ جَبْرَئِيلَ حَتَّى سَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي وَقُلْتُ: نَعَمْ قَبِلْتُوَرَضِيتُ وَإِنِ انْتَهَكَتِ الْحُرْمَةُ وَعُطِّلَتِ السُّنَنُ وَمُزِّقَ الْكِتَابُ وَهُدِّمَتِ الْكَعْبَةُ وَخُضِبَتْ لِحْيَتِي مِنْ رَأْسِي بِدَمٍ عَبِيطٍ صَابِراً مُحْتَسِباً أَبَداً حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ.

ثُمَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأَعْلَمَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، فَخُتِمَتِ الْوَصِيَّةُ بِخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَدُفِعَتْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام). فَقُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام): بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَ لَا تَذْكُرُ مَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ؟ فَقَالَ: سُنَنُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ. فَقُلْتُ: أَ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ تَوَثُّبُهُمْ وَخِلَافُهُمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام)؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ شَيْئاً شَيْئاً وَحَرْفاً حَرْفاً أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما

ص: 141

قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ (علیها السلام) أَ لَيْسَ قَدْ فَهِمْتُمَا مَا تَقَدَّمْتُ بِهِ إِلَيْكُمَا وَقَبِلْتُمَاهُ فَقَالَا بَلَى وَصَبَرْنَا عَلَى مَا سَاءَنَا وَغَاظَنَا»(1).

إذاً كان (علیه السلام) مأموراً بالصبر؛ الصبر المرّ على الفاجعة العظمى، وما أصعب أن يصبر المرء على الهجوم على زوجته أمامه فكيف إذا كانت الزوجة وديعة رسول الله(صلی الله علیه و آله)؟ وكيف إذا كان الزوج أسد الله الغالب وقاتل عمرو بن ودّ ومرحب والقادر على نسف الأعداء نسفاً؟

إن كل ذلك يكشف عن أعلى درجات إيمانه (علیه السلام) وعن منتهى طاعته لله تعالى وعن أعظم وأروع درجات الاستقامة الحقيقية على طريق رضا الخالق وتحصيل رضاه؛ فكانت الاستقامة ههنا تعني بالضبط عكس مفهوم الاستقامة البدائي لدى البسطاء الذين يتصوروها في اثارتها حرباً طاحنة، وليكن بعدها ما يكون!

إن الغيرة والحمية والشجاعة قيم أساسية لكنها جميعاً يجب أن تخضع ل(الحكمة) ولمشيئة المبدأ الأعلى جل وعلا وللغاية الأسمى، وبتعبير آخر هي قيم إضافية أو نسبية.

وبتعبير آخر: الغيرة على أصل الدين هي الأسبق رتبة من الغيرة على الأشخاص مهما بلغت منزلتهم ورتبتهم، ولذلك قال أمير المؤمنين لفاطمة الزهراء علیهما السلام ما مضمونه أنه إذا أرادت أن يستمر صوت الشهادة بأن: (محمداً رسول الله) يصدح على المآذن أبد الدهر، فلتصبر.. وكانت هي روحي فداها عالمة بذلك، لكنهما أرادا إبلاغنا تلك الحقائق المرة عبر هذا الطريق والحوار.

ص: 142


1- الكافي: ج1 ص281 - 283.

وتتضح القيمة النسبية للغيرة والحمية أكثر عند التدبر في الرواية التالية، فقد ورد: «غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ وَ غَيْرَةُ الرَّجُلِ إِيمَانٌ»(1) والمتعلق في الغيرتين مختلف، والمقصود أن غيرة الرجل على امرأته بما يصون دينها وعرضها إيمان، وغيرة المرأة على زوجها بما تتفجر معه قوتها الغضبية ضد ما أباحه الله له، كفر أي إنه كفر بالقانون الإلهي.

النحو والمنطق أو الفقه؟

ومن الأمثلة على الاستقامة بلحاظ الغاية: إن رجل الدين قد ينشغل بدراسة النحو والصرف والمنطق وغيرها ثم يكتشف أنه قد توغل فيها بما ضيّع عليه الهدف الأسمى وأخرجها من جهة الطريقية إلى الموضوعية ومن الآلية إلى الاستقلالية فهنا عليه أن يصحح المسار ويغيِّره بلحاظ الغاية وهي علم الفقه الذي كانت كل تلك المقدمات مجرد طريق لاستنطاق الأدلة وتطويعها في عملية الاستنباط للحكم الشرعي الكلي الفرعي الإلهي.

الفقه أو العقائد؟

والأوضح من ذلك إن طالب العلم أو العالم لو رأى وفرةً في دروس الفقه والأصول وندرةً في دروس العقائد، فإن عليه أن يصحح المسار فيترك حتى تدريس الخارج ليتفرغ لحفظ عقائد الناس وصدّ الهجمات الثقافية والفكرية والعقدية وردّ الشبهات المتموجة في المجتمع يوماً بعد يوماً أكثر فأكثر.

وذلك يعني ان الصراط المستقيم ليس بالضرورة في ان يستمر في تدريس الفقه والأصول، بل قد يكون كذلك، وقد يكون في تركهما، وقد يكون في تنصيف الجهد وتنويعه.

ص: 143


1- نهج البلاغة: ص491.

ومن هنا نصل إلى قاعدة هامة هي الفيصل في النزاع الممتد على امتداد التاريخ بين الحداثة والأصالة، إذ كثيراً ما يسأل: هل الأصل هو التغيير والتجديد أو الأصل هو السكون والتجميد؟ وهل علينا أن نتبنى أصالة الجمود والسكون؟ أم أصالة الانطلاق والحركة والنهوض؟ والجواب المنبثق من مبدأ (الغاية)(1): أنه كلا، فلا هذاولا ذاك!، بل الأصل هو (الحكمة)، وقد قال: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(2) و«وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(3) فقد تقتضي الحكمة التي تعني وضع الأشياء في مواضعها، ومنها عدم تضييع الأهم بسبب التشبث بالمهم، التجديد والعصرنة وقد تقتضي الرجعية والتشبث بالماضي أو ببعض قيمه وأساليبه.

وبكلمة: فإن الصراط المستقيم لا يعني أن تبقى مصراً على الاستمرار في نفس الدرب السابق حتى:

أ - إذا تغيرت الأهداف الوسطى أو الآنية نظراً لمقتضيات باب التزاحم فصار هدفك السابق هو الحاجز الأكبر عن الهدف الأعظم فإنه «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ»(4).

ب - أو اكتشفت أهدافاً أعظم.

ج - أو بانَ لك استحالة الوصول إلى الهدف المنشود فكان اللازم تصحيح المسار باتجاه هدف آخر يعوّضك عما حرمته لدى العجز عن الهدف الأول.

ص: 144


1- أي الغاية الصحيحة الأهم، وليس الغاية الباطلة أو الصحيحة المرجوحة، والأخيرتان مذمومتان وهما اللتان يعبّر عنها ب(الغاية لا تبرر الوسيلة).
2- سورة لقمان: 12.
3- سورة البقرة: 269.
4- نهج البلاغة: ص475.

ثانياً: الاستقامة بلحاظ الفاعل

اشارة

وقد يكون المدار في الاستقامة والانحراف هو (الفاعل) لا (العمل نفسه) وهذا يعني أن (العمل) قد يشكِّل تارة خط الاستقامة وأخرى خط الانحراف إذا ما وقع بالضد من إرادة الفاعل الذي إليه يرجع الأمر ومشيئته.

إن الله يغضب لغضب فاطمة (علیها السلام)

ومن أبرز وأهم النماذج على ذلك قوله(صلی الله علیه و آله): «إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1) و«يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى لِرِضَاهَا وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهَا»(2) وذلك يتضح جيداً ويندفع عنده استغراب البعض عندما ننتقل إلى مثال آخر أقرب إلى الأفهام وهو (رضا الوالدين أو سخطهما) فإن (العمل المباح) كالخروج إلى الشارع أو السوق قد يتحول إلى عمل محرم إذا كان فيه إيذاءً لأحد الوالدين وقد يكون واجباً إذا كان تركه السبب في إيذائهما كذلك.

وبذلك يظهر أن الصراط المستقيم في الأعمال لا يدور دائماً مدار حسنها وقبحها ومصلحتها ومفسدتها أو خلوها من ذلك كله، بل قد يدور مدار النسبة إلى الفاعل وإلى رضاه ومشيئته أو سخطه وكراهته، وهنا يتجلى لنا أكثر عمق معنى الحديثين «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ» و«يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى لِرِضَاهَا وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهَا» إذ يكون:

أ - الحق مع علي يدور حيثما دار علي.

ب - كما يكون علي مع الحق يدور معه حيثما دار.

ج - ويكون رضى الله مترتباً على رضى فاطمة.

ص: 145


1- الأمالي: ص427.
2- بحار الأنوار: ج46 ص134.

د - وسخطه لاحقاً لسخطها.

فليس المدار والملاك والمقياس هو العمل فقط وإلا لكان كل أحد كذلك إذ يدور رضا الله مدار الصلاة والصوم والحج ونظائرها ويدور سخطه مدار الغصب والسرقة وشرب الخمر وأشباهها، من أي أحد صدر ذلك على درجات في مراتب الأشخاص والأعمال، لكن الخصيصة التي في فاطمة (علیها السلام) هي إن رضا الله يدور مدار رضاها ولم يقل إن رضا الله يدور مدار أعمالها الصالحة وإلا لكان التخصيص أشبه باللغو إذ إن كل أحد فإن رضا الله يدور مدار عمله الصالح(1).

والأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بالتوحيد والولاية

ويؤكد ذلك أيضاً الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على أن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالإيمان بالله تعالى والرسول(صلی الله علیه و آله) والولاية لأهل بيته (علیهم السلام) فرغم أن العمل صالح إلا أن انتسابه إلى الموحّد أو المسلم أو الموالي وصدوره منه هو ملاك القبول، ألا ترى قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء»(2) و«وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا»(3) و«إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا»(4) مع أنهم قد يعملون أعمالاً صالحة كثيرة و«وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ»(5) وقال: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ

ص: 146


1- وللحديث وجه آخر، فتدبر.
2- سورة النساء: 48.
3- سورة الفرقان: 23.
4- سورة النساء: 145.
5- سورة الحج: 31.

وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا»(1) وقال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا»(2) فبدون الإيمان بإمامة أمير المؤمنين والأئمة من بنيه (علیهم السلام) لا يرضى الله الإسلام ديناً من أحد.وقال(صلی الله علیه و آله): «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا»(3) فلو لم يقلها لم يفلح وإن عمل الصالحات وقال(صلی الله علیه و آله): «أَسْلِمْ تَسْلَمْ أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»(4).

وقال الشاعر مقتبساً المضمون من الآيات والروايات السابقة وغيرها:

لو أنّ عبداً أتى بالصالحاتِ غداً *** وودّ كلّ نبيٍّ مرسلٍ وولي

وصام ما صام صوّاماً بلا ضجر *** وقام ما قام قوّاماً بلا ملل

وحجّ ما حجّ من فرضٍ ومن سنن *** وطاف بالبيت حافٍ غير منتعل

وطار في الجوّ لا يأوي إلى أحدٍ *** وغاص في البحر مأموناً من البلل

يكسو اليتامى من الديباج كلّهمُ *** ويُطعم الجائعين البرّ بالعسل

وعاش في الناس آلافاً مؤلّفةً *** عارٍ من الذنب معصوماً من الزلل

ما كان في الحشر عند الله مُنتفعاً *** إلّا بحبّ أمير المؤمنين علي

نعم، يثيبه الله تعالى على أعماله الصالحة، في الدنيا، بالشهرة أو المال أو الرياسة أو غير ذلك.لا يقال: كثير من الناس جاهلون بالحق؟

إذ يقال: الجاهل القاصر يعاد امتحانه يوم القيامة فإن نجح استحق الجنة

ص: 147


1- سورة النساء: 65.
2- سورة المائدة: 3.
3- مناقب آل أبي طالب (علیه السلام): ج1 ص55.
4- بحار الأنوار: ج20 ص386.

وإن عاند استحق العقاب كما أراد.

والحاصل: إن الانتفاع يوم القيامة، بالأعمال الصالحة، متوقف على الإيمان بالله والرسول والأئمة (علیهم السلام) وكما أنه لا مجال لاستغراب عدم قبول أعمال الكافر بالله أو المنكر لرسول الله(صلی الله علیه و آله) (عن علم وعمد أو عن تقصير) كذلك لا مجال لاستغراب عدم قبول أعمال المنكر للأئمة (علیهم السلام) (عن علم وعمد أو عن تقصير).

وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (شعاع من نور فاطمة (علیها السلام) دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)) فراجع.

رضا المالك هو المقياس، لا المصالح والمفاسد

ويشهد لذلك كله المثال الآتي: وهو إن (رضا المالك) هو المقياس في صحة العمل وكونه مباحاً جائزاً أو كونه باطلاً محرماً، فالطريق المستقيم، إذا كنت في ملكٍ للغير، هو الحركة على حسب رضاه، والطريق المنحرف هو الحركة المستوجبة لسخطه، وذلك في دائرة اللااقتضائيات طبعاً، فمثلاً: لو دخلت دار الغير فأجاز لك الجلوس في هذه الغرفة أو تلك الزاوية جاز لك ذلك وإذا حظر عليك ذلك حرم، فالأمر منوط برضاه وسخطه لا بالمصلحة والمفسدة القائمتين بك، فلو كانت مصلحتك في أن تجلس في هذه الزاوية أو الركن لكونه الأجمل والأكثر تفريجاً للهمّ لكونه مشرفاً على حديقة غنّاء مثلاً، لكنّ المالك لم يرض بذلك فإنه حرام لأنه غصب وتصرف في ملك الغير بدون رضاه، فالمدار في الاستقامة على جادة الشرع والعقل والعدل، هو على رضا المالك وليس المدار على المصلحة والمفسدة في المتعلَّق أصلاً، نعم لا يمكن للمالك أن يحلل الحرام أو يوجب الحلال من قبل نفسه.

ص: 148

ثالثاً: الاستقامة بلحاظ الموضوع

فإن الموضوع قد يتغير فيتغير معه الحكم ويتغير معه مصداق الاستقامة على جادة الشرع، ولنضرب لذلك أمثلة:أ - المعدود إذا صار مكيلاً أو موزوناً، فإنه يحرم حينئذٍ بيعه متفاضلاً، والعكس بالعكس، فلو كان البيض مثلاً يباع بالعدد جاز بيع بيضةٍ جيدة ببيضتين رديئتين، ولو صار بعد ذلك موزوناً حرم ذلك، فالطريق المستقيم هو الحرمة تارة والجواز أخرى حسب تغيّر عُرف البلد في الموضوع، وليس خطأ ثابتاً واحداً متصلاً لا يتزحزح.

ب - إذا تحوّلت بعض الألحان المستخدمة في المدائح أو المراثي إلى ألحان أهل الفسوق بأن اقتبسوها وأكثروا منها وهجرها الرواديد بحيث عدّ عرفاً إنه من الغناء وألحان أهل الفسوق والمجون، حرم قراءة المدائح والمراثي بها، وبالعكس إذا كان طورٌ أو لحنٌ من الألحان من الغناء عرفاً ومن ألحان أهل الفسوق ثم سقط عن كونه كذلك فرضاً، جاز.

ج - آلة اللهو، فلو كانت آلة من الآلات ك(السامبلر) مثلاً متعددة الاستعمالات فليست حينئذٍ آلة لهو فتكون كالحاسوب الذي وإن أمكن نصب لوحة الشطرنج فيه واللعب به لكنه لأنه متعدد الاستخدامات فليس آلة لهو فيجوز بيعه وشراؤه، لكن (السامبلر) أو غيره لو تمحض بمرور الزمان في الاستعمالات اللهوية بحيث عدّ آلة لهو، حُرم استعماله، فليست الاستقامة على جادة الشرع بتحريمه أبداً ولا بتحليله دائماً.

رابعاً: الاستقامة بلحاظ القابل

اشارة

والقابل أيضاً له المدخلية التامة في استقامة هذا الأمر أو انحرافه، فقد تدور الاستقامة مداره فيكون الطريق المستقيم بلحاظ قابلٍ ما طريقَ ضلال وانحراف

ص: 149

وزيف ويكون بالنسبة لقابل آخر طريق هدى وصلاح:

فمثلاً: ورد في الحديث: «لَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُم...»(1) فإعطاء الحكمة قبيحٌ وظلمٌ تارة وحَسَنٌ وعدلٌ تارة أخرى.

بذل العلم لغير أهله وكتمانه عن أهله

مثال آخر: ذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم هو صراط مستقيم دون شك، ولكن لو كان القابل ممن لا يتحمل ذكر بعض مقاماتهم وكان - لضعف نفسه - لو ذكرت له يرتدّ - لا سمح الله - عن الدين أو يتّهمَ لا سمح الله - الرسول أو الإمام بالكذب في دعوى اتصافهم بتلك الفضائل والمقامات، فإن ذكر تلك المقامات لذلك الشخص يكون محرماً حينئذٍ.

ولذلك ورد: «إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ»(2).

ووردت أحاديث عديدة في ذمِّ بذل العلم واعطائه أو ذكر فضائلهم لمن لا يتحملها، والأمر بالعكس فيمن يتحمل فإن كتمان الفضائل عنه حرام إذا كان من دائرة الواجب الكفائي أو فرض فيما لو لم يذكرها لاندثرت، وذلك في بعض المراتب أو المصاديق مما لا شك فيه، فتدبر!

وتدلّ على أحد الطرفين أو كليهما الأحاديث التالية:

«إِنَّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا صُدُورٌ مُنِيرَةٌ أَوْ قُلُوبٌ سَلِيمَةٌ أَوْ أَخْلَاقٌ حَسَنَة»(3).

ص: 150


1- أعلام الدين: ص336.
2- نهج البلاغة: ص280.
3- الكافي: ج1 ص408.

و«خَالِطُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوهُمْ مِمَّا يُنْكِرُونَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَيْنَا، إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ قَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ»(1).

و«أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا، وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالًا وَأَمْقَتَهُمْ إِلَيَّ الَّذِي إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَعْقِلْهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ قَلْبُهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَرَ بِمَنْ دَانَ بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً مِنْ وَلَايَتِنَا»(2).وعَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ (علیه السلام) قَالَ: «ذُكِرَ التَّقِيَّةُ يَوْماً عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَبُو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ وَلَقَدْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله) بَيْنَهُمَا فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الْخَلْقِ.

إِنَّ عِلْمَ الْعَالِمِ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ. قَالَ: وَإِنَّمَا صَارَ سَلْمَانُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ امْرُؤٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلِذَلِكَ نَسَبَهُ [نَسَبُهُ] إِلَيْنَا»(3).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ»(4).

ومن هنا نعرف إحدى أهم مقاييس التقية فإنها تارة تكون بلحاظ الفاعل وأخرى تكون بلحاظ القابل، فهي من القضايا الخارجية لا الحقيقية بمعنى أنها قد تكون في ظرف ما ولشخص ما واجبةً وقد تكون محرمة لشخص آخر أو لنفس

ص: 151


1- الخصال: ج2 ص624.
2- بصائر الدرجات: ص537.
3- بصائر الدرجات: ص25.
4- سورة البقرة: 159.

الشخص في ظرف آخر، بل ذهب بعض الأعلام إلى تقسيمها إلى الأحكام الخمسة وان تنظّر فيه بعض آخر(1).

وورد «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ وَصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِهِ»(2).

ص: 152


1- راجع كلام الشهيد عن التقية وكلام الشيخ الانصاري عنها.
2- الكافي: ج2 ص217.

الفصل الرابع: بحث عن أنواع الأدلة والحجج

اشارة

ص: 153

ص: 154

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»(1).

من البصائر: طرق الهداية متعددة مختلفة باختلاف الشاكلة

إن الهداية إلى الصراط المستقيم تارة تستند إلى البرهان العقلي، وأخرى إلى الحجة العقلائية، وثالثة إلى الدليل العلمي والرياضي، ورابعة إلى الطريق التجريبي، وهناك مصادر أخرى للهداية وموصلات ومداخل وطرق فصلنا الحديث عنها في كتاب (مدخل إلى علم العقائد)، والحديث ههنا يدور حول الطريق الثاني من الطرق الأربعة الأولى، إضافة إلى بعض الطرق الأخرى غير المعهودة في العلوم المتداولة.

والعبد عندما يسأل من ربه وبارئه أن يهديه إلى الصراط المستقيم فإنه لا يحدد في طلبه طريق الهداية بل يطلب ذات الهداية منه تعالى، أما الطريق فإن الله تعالى قد يرشد عبده إلى سبل محبته وشرائع دينه ومراتب رضاه وقربه، عبر أية واحدة من الطرق السابقة أو غيرها مما قد لا يدخل في أي تصنيف منطقي أو فلسفي.

هذا من جهة ومن جهة أخرى: فإن على المكلف أن يسلك الطرق التي تتناغم مع شاكلته النفسية وتركيبته العقلية فقد لا يجديه إلا برهان العقل وقد لا تنفعه إلا حجة العلم وقد لا يوصله إلا سلوك طريق العقلاء.

ص: 155


1- سورة الفاتحة: 6.

أنواع الأدلة إلى الله تعالى:

أ - الدليل العقلي

أنواع الأدلة إلى الله تعالى(1): أ - الدليل العقلي

والدليل العقلي يراد به: الأدلة العقلية المحضة التي يدركها العقل بنفسه من غير توقف على علم أو تجربة أو غير ذلك، وذلك نظير ما مثّلنا به من الاستدلال بمثل بطلان الدور والتسلسل على أن سلسلة عالم الإمكان وكافة الحوادث والمخلوقات تستند في وجودها إلى الصانع الواجب الوجود جل اسمه استناداً إلى أن ترجّح أحد طرفي الممكن المتساوي النسبة للطرفين، بدون مرجّح محال، وإن المرجّح إن كان ممكناً احتاج إلى آخر وهكذا فإن وصلت السلسلة إلى واجب الوجود بالذات فهو المطلوب وإلا للزم أن لا يوجد مخلوق أصلاً؛ وذلك لأن حكم الكل هو حكم الآحاد وكما أن كل حلقة من حلقات سلسلة الممكنات الطولية تحتاج إلى علة وأنه لولاها لما وجدت فكذلك كل السلسلة المتكونة من حلقاتٍ ممكنةٍ فانها جميعها ممكنةٌ (إذ لا يمكن أن يتركب الواجب من ممكنات إذ النتيجة تتبع اخس المقدمات) فإن لم يكن لها صانع واجب الوجود بالذات، لزم عدمها بأكملها ولزم ان لا يكون أي منها ومما نراه أو لا نراه موجوداً، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله.

ولكنّ البرهان العقلي عادةً دقيق وعميق، ولعل أكثر الناس لا يدركونه أو إنهم إن ادركوه فإنهم لا يستطيعون الإجابة على أية شبهة تورد عليه، لذلك فتح الله تعالى الأبواب لأنماط أخرى من الاستدلال ومنها الدليل العقلائي - مورد البحث -.

ب - الدليل العقلائي

والدليل العقلائي يراد به: ما رأى العقلاء بما هم عقلاء طريقيته إلى الواقع نوعاً، بمعنى أنهم ارتأوا أن كاشفيته الظنية النوعية عن الواقع تكفي دليلاً عليه من غير حاجة إلى الاستناد في ذلك إلى دليل عقلي قطعي، والأمثلة على ذلك كثيرة:

ص: 156


1- وإلى سائر أصول الدين.

ومنها: حجية الظواهر كظاهر الأوامر وظاهر العمومات والمطلقات وغيرها، فإن حياة العقلاء تبتني عليها في كافة شؤون معاشهم ومعادهم، مع أنها ليست طرقاً قطعية نظراً لاحتمال الخلاف فيها، لكن العقلاء يعتمدون عليها باعتبارها ظنوناً غالبة المطابقة لواقع مرادات المتكلمين.

ومنها: حجية خبر الثقة، مع أن الثقات قد يخطئون بل قد يكذبون.

ومنها: حجية قول أهل الخبرة، كالطبيب والمحامي، مع أنه ما أكثر خطأهم وزللهم.

ومنها: حجية اليد فان العقلاء يرونها عادة امارة الملك.. إلى غير ذلك.بل إن العقلاء يقتحمون في المخاطر والمهالك ولا يتحرزون عنها؛ وذلك استناداً إلى مجرد طرق ظنية قد تخطأ فتوقعهم في أشد المهالك والمفاسد؛ ألا ترى مثلاً أن التجار يقتحمون لجج البحار ويقطعون الفيافي والقفار ويركبون شتى المخاطر، لأجل الفوز بأرباح غير قطعية بل إنها حتى مع قطعيتها لا يمكن أن تكافئ مخاطر إزهاق الأرواح والنفوس وربما بأبشع الطرق: في أعماق البحار أو بين أنياب الضواري والمفترسات؟

إن معتمدهم في ذلك كله على ظنون نوعية بسلامة الطريق، ولا غير.

ج - د - الدليل العلمي والدليل التجريبي

وأما الدليل العلمي فيراد به: الدليل الرياضي الذي تبتني عليه العلوم القطعية كالهندسة والحساب وشبه ذلك.

وأما الدليل التجريبي فهو: المعتمد على التجربة والتي لا تشكل في أحسن الفروض إلا استقراءً ناقصاً، وذلك كعلم الطب وشبهه، ومن الواضح أن التجارب وإن تكاثرت فإنها مما لا يمكن اصطياد قاعدة كلية عامة منها إلا إذا

ص: 157

أُرجعت إلى الاستقراء المعلَّل، والاستقراء المعلَّل قسمان: ظني وقطعي، وكلاهما يرجع - في واقعه - إلى حكم العقل(1)، فيخرج عن دائرة التجربة المحضة.

وصفوة القول: إن (الهداية) لا تتوقف على الدليل العقلي فقط، بل إن الكثير من الناس يصلون إلى الحقائق وإلى الصراط المستقيم عبر الطرق العقلائية.

حجية الأدلة العقلائية في أصول الدين

وقد اختلف الأعلام في ذلك فقد ذهب المشهور، وادعي عليه الإجماع، إلى أن أصول الدين لا يصح فيها إلا التمسك بالبراهين اليقينية وأن الظنون المعتبرة ليست بحجة في دائرة أصول الدين، ولكن المختار هو الاكتفاء بها، كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقد نقل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ستة أقوال في المسألة فراجع.

الفيلسوف المعاصر پلانتينگا في طريقه إلى الله تعالى

وقد كان الدليل العقلائي هو الذي قاد الكثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين إلى الله تعالى، بعد موجات التشكيك الكبرى التي عصفت بهم أو بالمجتمع، وكان من أولئك الفيلسوف المعاصر (ألوين پلانتينگا) الذي ألّف كتاباً باسم (الله والأذهان الأخرى): (God and other Minds) حيث استدل على عدم الحاجة في إثبات وجود الله تعالى، إلى الدليل البرهاني القطعي، بدليل مبتكر عقلائي، ودليله المبتكر يعتمد على فرع من فروع الفلسفة التخصصية التي تبحث عن العلاقة بين فلسفة الدين والحاسوب (الكمبيوتر)، وهذا الفرع هو المسمى ب(فلسفة الذهن) والذي من مسائله مسألة (الأذهان الأخرى).

ص: 158


1- القطعي أو الظني، وقد حققنا في محله أن للعقل هذين النوعين من الأحكام، خلافاً للمشهور.

فلسفة الذهن والحاسوب والذكاء الصناعي، طريق آخر إلى الله

وتوضيح كلامه واستدلاله بإيجاز:

إن الفلسفة على قسمين: الفلسفة العامة أو المطلقة والفلسفة المضافة، والفلسفة العامة هي الفلسفة المعهودة منذ مئات السنين(1) والفلسفة المضافة هي أنواع عديدة تفرعت من الفلسفة ثم استقلت بالبحث حتى صار كل منها علماً قائماً بنفسه، وذلك مثل: فلسفة الدين، فلسفة العلم، فلسفة الفن، فلسفة التاريخ، فلسفة السياسة، فلسفة الاجتماع ، فلسفة الحقوق، فلسفة المنطق، فلسفة الرياضيات وحتى فلسفة الفلسفة.

ومن تلك العلوم والمباحث: (فلسفة الذهن) والتي تشكل الوسيط بين الفلسفة والحاسوب (الكمبيوتر) ومن أهم مسائل هذا العلم مسألة (الذكاء الصناعي) ومن أهم مباحثه مسألة (الأذهان الأخرى).

وفي (الحاسوب) يبحث عن نوعين من الذكاء: الذكاء القوي والذكاء الضعيف:

والذكاء الضعيف للحاسوب يعني أنه يمكن أن يستعمل كأداة متطورة لمطالعة أذهان الناس والتعرف على ميكانزمات حركة الذهن البشري ولكن الذكاء الضعيف ليس ذهناً في حد ذاته.أما الذكاء القوي للحاسوب فيعني أنه، إذا تمّت برمجته بشكل متكامل، قد تحول إلى ذهن حقيقي كأذهان البشر؛ والذكاء الضعيف يعني أن الكمبيوتر يجري معادلات علمية دقيقة بطريقة ميكانيكية لكنه لا يدرك ولا يعقل ولا يشعر ولا يحس ولا يفهم، وإن كان يمكن أن يجري التعبير عن ذلك كله بلغة الأرقام في

ص: 159


1- وهي التي تبحث عن أحوال الموجود بما هو موجود.

الحاسوب المتطور، أما الذكاء الصناعي القوي فإنه يعني أن الحاسوب يصل إلى درجة من التطور بحيث يدرك ويفهم ويشعر!

بل بلغ التطور في أمر صناعة الروبوتات ذات الذكاء الصناعي الفائق إلى درجة أن الاتحاد الأوروبي شكل لجنة خاصة لسنّ قوانين ووضع تشريعات تنظم وتضبط حياة الروبوتات وعلاقتها بالناس والحد المسموح به من تطوير ذكائها، بل إنهم تخوفوا من بلوغها درجة هائلة من الذكاء بحيث إنها يمكن أن تتآمر على البشر لكي تستعبدهم مثلاً! أو أن تقرر القضاء على الحياة البشرية في الكرة الأرضية تماماً! لذلك كان من القوانين: إنّ من الإلزامي صنع (زر التدمير) في كل روبوت حتى إذا أحس صاحبه بالخطر منه فإنه يمكنه بضغطة زر أن يفجره ذاتياً! ولكن ومع ذلك لا تزال مخاوفهم قائمة من أن تطور الروبوتات أنفسها (أي البرامج) لتستكشف طرق إبطال مفعول تلك الأزار فتسيطر من ثمّ على الأرض كلها!!

وقد اختلف فلاسفة الذهن وفلاسفة الحاسوب في إمكانية الوصول إلى هذه المرحلة المتطورة، لكنه - عند البعض على الأقل - من المحتملات؛ وقد اعتقد (جان سِرل) - الفيلسوف المعاصر المتخصص في فلسفة الذهن واللغة - أنه لا يمكن للحاسوب مهما تطورت إمكاناته أن يصل إلى مرحلة الذهن العاقل والفاهم والمدرك والشاعر.

كما تدرك قطعاً أن للغير ذهناً، فكذلك تدرك قطعاً أن لك خالقاً!

وموطن الشاهد: إن كل واحد منا يدرك أن له ذهناً وله أحاسيس ومشاعر وفهماً والتفاتاً وحالات ذهنية، وأنه موجود حيّ وليس بجهاز حاسوب يجري عمليات ذهنية مجردة دون فهم أو شعور كما يجريها الحاسوب ذو الفهم

ص: 160

الضعيف! فذلك واضح وبديهي لدى كل واحد منا، ولكن ماذا عن أذهان الآخرين؟ هل هم مثلنا تماماً؟ أم هم مجرد أجهزة حاسوب متطور وروبوتات تحاكي صنع البشر لكنهم ليسوا ببشر؟ من قال بأن الناس الذين يمشون في الشارع هم مثلنا تماماً؟ فلعلهم مجرد حاسوب مبرمج وروبوت متطور؟إننا لا نستطيع إقامة الدليل البرهاني أو الرياضي على ذلك! ولو أقمنا الدليل لأمكن أن يعترض عليه باعتراضات دقيقة حسب معادلات حساب الاحتمالات! ولكننا مع ذلك مقتنعون بأن هذا الصديق وذاك المعلم وهذه المرأة - الزوجة مثلاً - وهذا الطفل و... هم بشر لهم ذهنٌ واعٍ فاهمٌ وشاعرٌ وليسوا رجلاً آلياً أو امرأة روبوتية ذات ذكاء صناعي متطور يشبه الذهن البشري لكنه ليس بذهن بشري أبداً!

الإيمان بالله أمر عقلائي، وإن لم تتسلح بدليل فلسفي

ونقطة الانتقال من بحث الذهن الصناعي والذكاء المتطور إلى المبحث الفلسفي عن وجود الله تعالى، تبدأ، لدى پلانتينگا، من هنا بالضبط؛ إذ يقول: (إن المؤمن لا يحتاج في إيمانه بالله تعالى إلى أن يقيم براهين فلسفية قطعية على ذلك أو أن يكون قادراً على أن يجيب على مختلف الإشكالات على هذه الأدلة وقادراً على أن ينفي الاحتمالات العقلية المعارضة حسب حساب الاحتمالات، بل إن إيمانه بالله تعالى هو أمر معقول وعقلائي ومطمئن إليه وإن كان غير مسلح بدليل عقلي فلسفي قطعي، ويكفي أن المؤمنين يطمئنون في قرارة أنفسهم بأن لهم خالقاً متعالياً كما أنهم يطمئنون في قرارة أنفسهم بأن الناس الآخرين هم بشر وليسوا مجرد روبوتات صناعية وأن أذهان الآخرين هي أذهان بشرية وليست ذكاء صناعياً! ولا يحتاجون في إيمانهم هذا إلى إقامة أي دليل، ومع ذلك إيمانهم الله

ص: 161

بالمقدار الكافي عقلائي ومورث للاطمئنان...).

ويقول: (كما أن اعتقاد الناس بوجود الأذهان الأخرى، غير أذهانهم، ليس أمراً لا معقولاً ولا منطقياً، كذلك اعتقادهم بوجود الله تعالى ليس أمراً لا معقولاً على الرغم من عدم امتلاك بعضهم الدليل على ذلك أو عدم امتلاكهم دليلاً قطعياً لا تمكن الخدشة فيه).

ويقول: (بعبارة أخرى: إن استدلالنا المنطقي هو هكذا: لو كان اعتقادي بوجود سائر الأذهان معقولاً لكان اعتقادي بوجود الله معقولاً، لكنّ اعتقادي بوجود سائر الأذهان معقول، فاعتقادي بوجود الله تعالى أيضاً معقول).

والحاصل: إننا نعتقد بأن لأصدقائنا وسائر الناس أذهاناً ونعتقد في الوقت نفسه بأن الحاسوب لا ذهن له، مع أننا لا نستطيع أن نجيب بشكل استدلالي رياضي علمي على الشبهة التي يطرحها القائلون بأن الذكاء الصناعي قد يرتقي إلى أن يصل إلى مستوى الفهم والشعور والإدراك، والشبهة هي: إذا لم نستطع أن نذعن من التشابه الظاهري بين تحركات الإنسان وتصرفاته وبين تحركات الروبوت المتطور وتصرفاته، بأن الروبوت ذو ذهن وشعور وإدراك، فإننالا نستطيع أن نذعن من التشابه الظاهري بين حركاتنا وتصرفاتنا وبين حركات سائر الناس وتصرفاتهم، أن لهم ذهناً وشعوراً وإدراكاً! ولكننا مع ذلك نعتقد بأن تشابهنا مع الكمبيوتر والروبوت صوري وهو هيكل بلا روح، ولكن تشابهنا مع سائر الناس واقعي وهو هيكل معه الروح!

وكما ترى فإن هذا الدليل ونظائره عقلائي مبني على التنظير وتنقيح المناط وشبه ذلك، كما أنه يتطرق إليه الاحتمال من حيث هو هو، لكنه مع ذلك يبني الناس كل حياتهم عليه بل لا يجدون أدنى مجال للترديد فيه!

ص: 162

مرجع كافة الأدلة إلى الأوليات فكيف تحتاج هي إلى دليل؟

ويمكننا أن نعبر عن ذلك بمصطلحات المنطق فنقول: إن ذلك نوع من أنواع الحدسيات وهي من أصناف اليقينيات، ولكنك لا يمكنك إقامة الدليل عليها إذ كيف تقيم الدليل على حدسك! ولكن ذلك رغم ذلك هو حجة لك وإن لم تستطع أن تحتج به على الغير.

كما يمكن التعبير عن ذلك بلغة قرآنية وكلامية وهي: إن ذلك هو مقتضى (الفطرة) الإلهية أو فقل هو ما يدركه (الوجدان) بنفسه.

فهذه القضية هي من سلسلة القضايا الفطرية التي قياساتها معها وهي من العلوم الضرورية التي لا يمكن إقامة البرهان عليها وذلك لأن كل البراهين تعود إليها ولا تعود هي إلى برهان؛ وإلا للزم التسلسل في براهين العلم والمعرفة وللزم من ثَمّ الجهل المطلق - كما حُقق في علم المنطق.

والحاصل: إن أمثال هذه القضايا إما هي حدسية قطعية أو هي ظنية، وفي كلتا الصورتين فإنه لا يمكن الاستدلال بها على الغير ولا الدفاع عنها ببراهين استدلالية، كما أن الصورة الثانية هي محتملة للخلاف ومع ذلك نجد كافة العقلاء يستندون إليها ويعتمدون عليها ويعتبرونها حجة بلا كلام.

فهذه هي كبرى بنائهم في عامة قضاياهم وليست الأمور العقائدية إلا من مفردات هذه القضايا العقلائية المسلّمة. فهذا إذاً بعض الحديث عن الحجج العقلائية.

طرق أخرى غير معهودة، توصل إلى الله تعالى

ولكن، ومن جهة أخرى، فإن الأدلة إلى الله تعالى وإلى كافة الشؤون العقدية، لا تنحصر في تلك الأربعة بل ولا العشرة، بل هي طرق كثيرة جداً لا يندرج أكثرها تحت أي إطار منطقي معروف ولا يقع ضمن أي تصنيف معهود،

ص: 163

ولكنه مع ذلك طريق موصل إلى الله تعالى أو إلى الرسول المصطفى(صلی الله علیه و آله) أو إلى الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين أو إلى سائر حقائق أصول الدين.

ولنذكر شواهد حية وأمثلة حقيقية لأشخاص من أديان مختلفة ومن بلاد مختلفة اهتدوا إلى الحق ولكن بطرق غير متوقعة.

اليهودي الأمريكي الذي أسلم إذ قرأ آيات القرآن ضد اليهود!

أولاً: (إستيفز اسكلر)، وهو يهودي من أمريكا حاصل على شهادة البكالوريوس في الآداب، وقد نشأ في أسرة يهودية عريقة ولكنه أسلم وتشيع عبر طريقة غير معهودة بالمرّة، وبسببٍ كان ينبغي أن ينتج العكس (أي أن يكره الإسلام أكثر) لكنه أسلم بنفس السبب الذي قد يصدّ الكثير من أبناء جلدته عن الإسلام!

والسبب في إسلامه هو إنه فتح ذات يوم القرآن الكريم ففوجئ بآية قاسية ضد اليهود إذ يقول تعالى: «لَتَجِدَنَّ

أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ»(1) وبآية أخرى أعنف: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ»(2)، ومع أن الإنسان بطبعه ينفر ممن يهاجمه بعنف ويحطّ من شأنه ويؤكد على شدة عداوته له، إلا أنه - على العكس - كان ذلك هو البوابة إلى هدايته وهو النور الذي أضاء له طريق الهدى والفلاح! فقد استوقفته الآية الأولى وتساءل مع نفسه حقاً لماذا نعادي المؤمنين؟ وهل نحن على حق في ذلك أو باطل؟ كما استوقفته الآية الثانية وأنه كيف يقول القرآن الكريم: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» مع أن اليهود الآن أقوياء ومن سادة العالم؟ وقاده ذلك في رحلة تاريخية

ص: 164


1- سورة المائدة: 82.
2- سورة البقرة: 61.

طويلة ليجد أن اليهود بالفعل كانوا على مرّ التاريخ أذلاء قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وأنهم كانوا يقتلون أنبيائهم، وأنهم عادوا الرسول(صلی الله علیه و آله) والمؤمنين أشد العداء وتآمروا على رسول الله(صلی الله علیه و آله) بوجوه كثيرة، وأنهم تحالفوا حتى مع المشركين ضد الرسول(صلی الله علیه و آله) مع أن المفروض أنهم مع الرسول» في صف واحد لأنهم جميعاً يوحدون الله تعالى. فذلك كان منطلق بحثه ليصل إلى جوهر الحقيقة حتى كان أن أعلن إسلامه.

لماذا كان اليهود منبوذين وأذلة على مرّ التاريخ؟

أقول: اليهود منبوذون وأذلة الآن أيضاً رغم كل ما لهم من القوة الظاهرية الضاربة، ولذا تراهم يعتمدون على المكر والحيلة والتدليس في تمرير مخططاتهم، كما أنهم يعتمدون أكبر الاعتماد على الجنس في إفساد الناس من جهة وعلى الإيقاع بالمفاتيح الاجتماعية من جهة أخرى، وذلك عبر اصطياد فضائحهم الأخلاقية لتمرير أهدافهم السياسية: فأما من لا يخضع لهم فإنهم يحطمونه أشد التحطيم متذرعين بأنه فاسد أخلاقياً، وأما من يخضع لهم فإن المجال مفتوح له ليفعل ما يشاء من قبائح الأعمال بل يكونون هم الذين يمهدون له الطريق لذلك بل يهيئون له ما يحتاج من أنواع المفاسد، وهذه صفة الأذلاء الحقراء من الناس.

والمتوقع أن تزداد كراهية الشعوب والأمم لهم بمرور السنين أكثر فأكثر نتيجة سوء استخدامهم للسلطة ومحاولات السيطرة على العالم بالربا والقهر والمكر، ومن الأدلة على ذلك اعتمادهم على حق النقض (الفيتو) لمنع التصويت على أي قرار إنساني في الأمم المتحدة يتعلق بفلسطين أو ما أشبه، بل الذي نتوقعه هو أن تنقلب عليهم أكبر قوة داعمة لهم وهي الولايات المتحدة كما انقلبت عليهم أكبر قوة داعمة لهم سابقاً وهي بريطانيا، والسبب أيضاً مؤامراتهم المستمرة حتى ضد أسيادهم

ص: 165

والتي كان من أبرز مظاهرها تجسسهم على أمريكا لسرقة بعض أسرارها العسكرية الخطيرة رغم أن أميركا تفانت في الدفاع عن إسرائيل واليهود تفانياً مذهلاً وإلى أقصى الحدود، وقد بلغت خطورة جواسيسهم إلى درجة اضطرت السلطات الأمريكية لاعتقالهم، ولا يزال بعض جواسيسهم الآن في السجون الأمريكية!

البوذي الياباني الذي اسلم إذ استنكر إهمال بوذا لإله الكون!

ثانياً: (كاتسومي سوددو)، وهو بوذي ياباني، وقد أسلم بطريق غير معهود آخر، وهو أنه استوقفته هذه الفكرة المؤرقة يوماً ما، وهي إن من الغريب أن بوذا - فيما لديهم من الكتب والتعاليم - لم يهتمّ بالحديث عن إله الكون بل إنه نهى أتباعه عن الخوض في ذلك! وهنا فكّر كاتسومي مع نفسه: كيف يمكن أن يهمل بوذا الحديث عن الإله؟ بل كيف يصح له أن ينهى عن الخوض في الكلام عنه وعن تعاليمه؟ مع أن الإله هو الخالق الرازق المنعم علينا بألوان النعم؟ أفليس من الواجب أن نتعرف عليه وأن نعرف لماذا خلقنا وماذا أراد منا؟وكانت هذه الومضة الفكرية هي التي قادته في رحلة مضنية أوصلته إلى اعتناق الإسلام الذي وجده أكثر الأديان عقلانية وتفصيلاً في الحديث عن خالق الكون جل اسمه.

المسيحي الفرنسي الذي أسلم إذ شرب كأس الشاي في المجلس!

ثالثاً: (وارتون كرباسي)، وهو مسيحي من فرنسا من قرية (فونتنبلو) على مقربة خمسين ألف كيلو متراً من باريس وكان متخصصاً في هندسة الراديو والكهرباء، وقد سافر إلى طهران وعمل في مطار مهرآباد سنة كاملة ثم أمضى ثلاث سنين متعاقداً كمترجم في عدد من المعاهد التجارية.

وكان المدخل إلى هدايته أمراً من نمط آخر تماماً إذ كان هو كأس شاي

ص: 166

واحد فقط!! لكنه كان كأس شاي في مأتم الإمام الحسين (علیه السلام) ذلك أنه أصيب بمرض عضال وقد أشتدّ مرضه وازدادت آلامه رغم العلاج المكثف الذي كان يتلقاه حتى أنهم اضطروا لإجراء عملية جراحية له، لكنه رغم ذلك ازداد وضعه سوءاً على سوء.

وفي يوم من أيام محرم، يقول وارتون، إنه تشوّق للمشاركة في مجلس عزاء للإمام الحسين (علیه السلام) يقام على مقربة من داره، ليرى ماذا يقولون وكيف هي مجالس العزاء عند الشيعة، ودفعه الشوق والفضول لكي يشارك في المجلس وعندما جلس قدّم له أحد خدّام الإمام الحسين (علیه السلام) - وما أعظم منزلة خدّامه - كأسَ شاي، أخذ وارتوى الشاي، وفجأة لمعت في ذهنه فكرة اضاءت له درب الهداية، وهي أن يطلب من الله تعالى أن يشفيه بحرمة الإمام الحسين (علیه السلام) لديه، وأن يريه معجزة جلية واضحة بشفائه العاجل من هذا المرض المؤلم؛ وهكذا شرب الشاي بهذه النيّة المباركة وذهب إلى منزله ونام وعندما استيقظ من منامه وجد العجب العجاب إذ انه كان قد شفي تماماً!!

وهكذا أسلم وتشيع ببركة وميض فكرة لمعت عند رشفةٍ من كأسٍ شاي في مجلس أبي الأحرار (علیه السلام)!

لماذا كانت بوابة الإمام الحسين (علیه السلام) للهداية هي الأوسع؟

وهنا نقول: إن الغريب - وليس بالغريب - إن بوابة الإمام الحسين (علیه السلام) هي أكبر بوابات الهداية للناس وأوسعها على مرّ التاريخ، وهي البوابة الموطرة بإطار (العاطفة) والمتموجة ب(الاحساس بالمشاطرة الوجدانية) و(التألم لعظيم ما جرى عليه صلوات الله عليه من المصائب والرزايا والخطوب)، وعلى الرغم من ان بوابة الإمام الصادق(علیه السلام) هي بوابة العلم والمعرفة إلا أن أكثر من يهتدي فإنما

ص: 167

يهتدي عبر بوابة العاطفة الحسينية المتأججة الجياشة، ولذا اشتهر (كلنا سفن النجاة ولكن سفينة الحسين أوسع وفي لجج البحار أسرع)، ولذا ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): (قَالَ لِي: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَنْشِدْنِي فِي الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ علیهما السلام » قَالَ: فَأَنْشَدْتُهُ فَبَكَى ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فَبَكَى. قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا زِلْتُ أُنْشِدُهُ وَيَبْكِي حَتَّى سَمِعْتُ الْبُكَاءَ مِنَ الدَّارِ.

قَالَ: فَقَالَ (علیه السلام): «يَا بَا عُمَارَةَ مَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ علیهما السلام شِعْراً فَأَبْكَى خَمْسِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَأَبْكَى ثَلَاثِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَأَبْكَى عِشْرِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَأَبْكَى عَشَرَةً فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَأَبْكَى وَاحِداً فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَبَكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَنْشَدَ فِي الْحُسَيْنِ شِعْراً فَتَبَاكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ»)(1).

بل إن الذي يحافظ على إيمان أكثر الناس هو الإمام الحسين (علیه السلام) بشعائره ومجالسه وحسينياته ومنابره، بل لقد اهتدى الملايين في الهند واندونيسيا والباكستان وغيرها ببركة الشعائر الحسينية ومنها المشي على الجمر والتطبير.

وذلك كله على الرغم من أنه لا توجد جهة دلالة فلسفية في العاطفة تبرهن على الحقّانية، ولا أنه يمكن تشكيل قياس منطقي من الشعائر أو من المصائب للوصول إلى أن الإسلام هو الدين القويم وإن الرسول وأهل بيته (علیهم السلام) هم الصراط المستقيم؛ ولكنها (الهداية الربانية) التي لا تنحصر في الأطر المنطقية والاستدلالات الفلسفية قال تعالى: «وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(2) وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «سِتَّةُ أَشْيَاءَ لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ الْمَعْرِفَةُ

ص: 168


1- الأمالي: ص141.
2- سورة يونس: 25.

وَالْجَهْلُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالنَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ»(1) لعلنا نوفق في بحث آخر إلى تفصيل الكلام عن هذا الحديث والوجه فيه بإذن الله تعالى.كما ورد عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) إِنِّي نَاظَرْتُ قَوْماً فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ أَجَلُّ وَأَعَزُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ بَلِ الْعِبَادُ يُعْرَفُونَ بِاللَّهِ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «رَحِمَكَ اللَّهُ»(2).

الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق

وقد اشتهر أن (الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق) والمراد: إن كل نَفَس يتنفسه مخلوق فهو دليل على الله تعالى فإنه حادث يدل على محدثه الأزلي، ومحتاج يدل على الغني بالذات، وممكن يدل على الواجب، ومعلول يدل على العِلّة، كما أن المراد: إن كل مخلوق قد يجد طريقه إلى الله تعالى بنحوٍ يختلف عن الطريق الذي وصل عبره سائر المخلوقات إلى الرب الكبير المتعال.

والعبرة من ذلك كله: إن علينا أن لا نسجن أنفسنا في سجن الأدلة المنطقية والفلسفية فقط بل علينا أن نكلم الناس على قدر عقولهم وأن نقوم بعملية ترشيد لكافة الطرق العقلية والعقلائية والعلمية والتجريبية وغيرها مما لا يحصى من الطرق التي قد لا تكون مألوفة لدى أرباب صناعة المنطق والكلام والفلسفة.

ومنها: ما أشرنا إليه من استثمار طريق العاطفة الحسينية، وبأروع الطرق، لهداية الناس، وفي هذا الصراط علينا أن لا نستخف بقراءة قارئ، أو مدائح شاعر، أو مراثي رادود، أو شعيرة من الشعائر، فإن لله في خلقه شؤوناً وقد قدّر للهداية طرقاً كثيرة متوقعة وغير متوقعة، فليس من الصحيح أبداً أن نضيّق وسيعاً

ص: 169


1- الكافي: ج1 ص164.
2- الكافي: ج1 ص86.

مهّده الله، أو أن نغلق باباً فتحه الله، أو أن نحرم الدعوة والدعاة من طرق إلى الصراط المستقيم جعلها الله مفتاح بصيرة للكثير من الجاهلين وإن لم يكن يبدو لنا أي ربط جوهري بينها وبين الهداية - منطقياً - أبداً.

وقد ورد في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً طَيَّبَ رُوحَهُ فَلَا يَسْمَعُ مَعْرُوفاً إِلَّا عَرَفَهُ وَ لَا مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَهُ ثُمَّ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ كَلِمَةً يَجْمَعُ بِهَا أَمْرَهُ»(1).

وورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً مِنْ نُورٍ وَفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِهِ وَوَكَّلَ بِهِ مَلَكاً يُسَدِّدُهُ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ وَسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِهِ وَوَكَّلَ بِهِ شَيْطَاناً يُضِلُّهُ».ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ»(2)»(3).

وسيأتي(4) شرح الحديث وبيان وجهه بإذن الله تعالى.

المسيحي الفيلسوف الذي أسلم إذ رأى نهج البلاغة!

رابعاً: (الدكتور محمد لكنهاوسن) - المولود عام 1953م والذي نشأ في أسرة كاثوليكية وحصل على شهادة البكالوريس في الفلسفة من جامعة ولاية نيويورك، وعلى الماجستير والدكتوراة في الفلسفة أيضاً من جامعة (واتيس) في (تكساس) يقول الدكتور: إنه عندما ذهب للجامعة ارتد عن المسيحية وأصبح ملحداً - لكنه اعتنق الإسلام بعد ذلك - وكان الوميض الذي دفعه للبحث عن الحقيقة ومن ثم إعلان إسلامه، أمران:

ص: 170


1- الكافي: ج1 ص165.
2- سورة الأنعام: 125.
3- الكافي: ج1 ص166.
4- تحت عنوان (وهي ما يحل بالطولية).

الأول: يقول (اعجبتني في الإسلام شموليته)! ومع أن الشمولية لا تصلح دليلاً بحسب علم المنطق إذ هي أعم من المدعي، بل إن الكثير من الناس يراها نقطة ضعف ويدعي أن الأديان لا شأن لها بشؤون المعاش وأمور العباد والسياسة والاقتصاد والحقوق وأشباهها(1)، إلا أن هذه القضية بالذات كانت المدخل إلى هدايته!

الثاني: المدخل الثاني لتشيعه وإسلامه هو (نهج البلاغة) للإمام علي (علیه السلام) إذ يقول: (اعجبتني في الإمام علي شخصيته السياسية والاجتماعية والعرفانية) والتي تجلت في صحائف نهج البلاغة وغيره.

وهكذا نرى أن الطرق إلى الله تعالى هي بعدد أنفاس الخلائق، بل إن كلمة واحدة قد تكفي لهداية رجل قد يتحول إلى عَلَمٍ في أمة كما حدث للسارق الذي سمع وهو يتسلق الجدار في قلب الليل البهيم ليسرق، قولَهتعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ»(2) فهزّته الآية وهو على الجدار وقال: بلى قد آن لي أن يخشع قلبي لذكر الله، فرجع وتاب وصار من الصالحين.

أنواع ودوائر أخرى من دائرة الأدلة والحجج والبراهين

إن دائرة الحجج والبراهين تشكل أيضاً الجواب السادس عن إشكال طلب الحاصل في قوله تعالى: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» إذ يراد على هذا أن المهتدي للصراط المستقيم يطلب من الله تعالى هدايته إلى الحجج عليها أو المزيد من الحجج أو حججاً أقوى، إضافة إلى ما يتضح في هذا البحث من تنوع دوائر الحجج وتكثرها.

ص: 171


1- راجع (أسلمة العلوم الإنسانية) للمؤلف.
2- سورة الحديد: 16.

وتوضيح ذلك: إن الإنسان بحاجة إلى هداية الله تعالى له كي يقع على الحجج الصحيحة المنتجة الموصلة إلى لُباب الواقع وذات الحقيقة ونفس الأمر؛ وذلك لأن الأقسام ثلاثة:

الفارق بين البرهان والجدل والمغالطة

أ - فقد يكون الدليل صحيحاً والمستدَلّ عليه صحيحاً أيضاً.

ب - وقد يكون الدليل باطلاً والمستدَلّ عليه صحيحاً.

ج - وقد يكون كلاهما باطلاً.

والأول: هو المسمى في علم المنطق بالبرهان.

والثاني: هو المسمى بالجدل.

والثالث: هو المسمى بالمغالطة في مباحث الصناعات الخمس.

والمقصود إن جوهر الفارق بين الصناعات الثلاث هو بما ذكر، وليس الكلام عن الإطراد وعدمه أو إن النسبة بينها هي التباين أو من وجه حقيقةً أو توسعاً ك«وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ»(1) كما ليس فيالتعريفات الفنية لكل منها والتي قد تكون بها الصناعة المنطقية أوسع مما ذكرناه أو أضيق نظير تخصيص البرهان مثلاً (بالمقدمات اليقينية التي تنتج بنفسها يقيناً آخر) كما ليس في احتمال تعدد الإطلاقات في الجدل والمغالطة.

وعلى أي فموطن تحقيق ذلك وقبوله أو رفضه هو مباحث المنطق، إنما الكلام في جوهر فلسفة هذه الصناعات الثلاث، فيما نرى، عندما نحاول أن نرجع إلى الوراء لندخل في عقل واضع علم المنطق لنكتشف أن من العقلائي أن يرى ذلك التقسيم الثلاثيّ:

ص: 172


1- سورة غافر: 5.

فإن بعض الأدلة هي أدلة صحيحة مستوفية لشروط إحدى الأشكال الأربعة مثلاً من ناحية العِلّة الصورية كما أنها سليمة من حيث مادتها فتوصل إلى الحقيقية كما هي، فهذا هو الجدير بأن يسمى البرهان، وأما المغالطة فالجدير أن توضع على الأدلة السقيمة الفاقدة لشرائط الإنتاج والخاطئة من حيث المادة أيضاً بأن أوصلت إلى الخطأ المحض فهذا الدليل هو المغالطة (أو هو أعلى درجاتها) وبعض الأدلة سقيم من حيث شرائط الاستدلال والدليلية لكنه يوصل - ولو في نظر السامع - إلى الواقع لاعتماده على مقدمات مسلمة لديه وإن كانت باطلة واقعاً لكنها صادف أن تكون موصلة للواقع فهذا هو الجدل (حصراً أو في صورته الراقية)، فتدبر!

وموطن الشاهد إننا نطلب من الله تعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم في مراحل الاستدلال والاحتجاج بأن يرشدنا للبراهين الصحيحة الموصلة إلى النتائج السليمة أيضاً.

استدلال الإمام (علیه السلام) على الملحد: لقد سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ، أو اسْتَوَيْتُمْ!

ولنتوقف ههنا عند مثال كلامي - تطبيقي هام في إحدى أهم استدلالاتنا على الملحدين وعلى مغالطة بعضهم لردّ هذا الدليل، ثم الجواب عن المغالطة:

فقد استدل الإمام الصادق (علیه السلام) على بعض أكابر الملحدين ببرهان احتمالات الربح والخسارة، ثم جاء بعد أكثر من ألف سنة أحد الفلاسفة ليصوغ ذلك البرهان في صيغة أخرى اشتهرت ب(برهان باسكال) وجاء من بعده بعض الملحدين ليناقش رهانه ومن ثَمَّ استدلالَ الإمام الصادق (علیه السلام) (وإن لم يطلّع على أن جوهر استدلال باسكال يعود لاستدلال صادق أهل البيت (علیهم السلام)) ثم نذكر بعض الأجوبة الدامغة على مناقشة أولئك الملحدين:

ص: 173

استدلال الإمام الصادق (علیه السلام):فقد ورد في التاريخ: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا... قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُقَفَّعِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: تَرَوْنَ هَذَا الْخَلْقَ؟ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعِ الطَّوَافِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ لَهُ اسْمَ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْخُ الْجَالِسُ! - يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ علیهما السلام - فَأَمَّا الْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ وَبَهَائِمُ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هَذَا الِاسْمَ لِهَذَا الشَّيْخِ دُونَ هَؤُلَاءِ؟

قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ!

فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: لَا بُدَّ مِنِ اخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ مِنْهُ.

قَالَ: فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ!

فَقَالَ: لَيْسَ ذَا رَأْيَكَ وَلَكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلَالِكَ إِيَّاهُ الْمَحَلَّ الَّذِي وَصَفْتَ!

فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: أَمَّا إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا فَقُمْ إِلَيْهِ وَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الزَّلَلِ وَلَا تَثْنِي عِنَانَكَ إِلَى اسْتِرْسَالٍ فَيُسَلِّمَكَ إِلَى عِقَالٍ وَسِمْهُ مَا لَكَ أَوْ عَلَيْكَ.

قَالَ: فَقَامَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَبَقِيتُ أَنَا وَابْنُ الْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ الْمُقَفَّعِ مَا هَذَا بِبَشَرٍ وَ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا رُوحَانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ ظَاهِراً وَيَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ بَاطِناً فَهُوَ هَذَا! فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرِي ابْتَدَأَنِي فَقَالَ: «إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، يَعْنِي أَهْلَ الطَّوَافِ، فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقُولُونَ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ وَهُمْ»!

فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَيَّ شَيْ ءٍ نَقُولُ وَأَيَّ شَيْ ءٍ يَقُولُونَ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ؟

ص: 174

فَقَالَ وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً وَثَوَاباً وَعِقَاباً وَيَدِينُونَ بِأَنَّ فِي السَّمَاءِ إِلَهاً وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَد...»(1).

رهان باسكال

ثم جاء (باسكال) وصاغ هذا الاستدلال بعبارة أخرى فقال بما حاصله:

1 إن آمنتَ بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لا محدود.

2 - إن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه خسارة لا محدودة.

3 - إن آمنتَ بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.

4 - إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود).

وإذا وضعنا الرهان في جدول، سيتضح لنا أن الإيمان يعطينا إما الربح اللا محدود أو خسارة عادية جداً، في حين أن عدم الإيمان يعطينا إما الخسارة اللا محدودة أو ربحاً عادياً فقط.

ص: 175


1- الكافي: ج1 ص74.

بل نقول: إن الإنسان إذا آمن بالله تعالى وبالمعاد والثواب والعقاب وكان الله موجوداً وله رسل وثواب وعقاب، فأطاعَهُ رَبِحَ الربّحَ اللا محدود إذ إن الدنيا مجرد سنوات معدودة أما الآخرة فهي تمتد على مساحة ملايين السنين بل المليارات بل الترليونات بل ما لا يتناهى من السنين، كما أن نعيمها: «وَفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَىقَلْبِ بَشَرٍ»(1)، وإذا كفر فإنه يخسر الآخرة ويبتلى ب«نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ»(2) و«إِذِ

الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ»(3).

تطوير رهان باسكال

ولكن - وهذا تطوير لاستدلال باسكال - إن آمن الإنسان بالله والآخرة والمعاد والثواب والعقاب ولم يكن الله تعالى فرضاً موجوداً فإننا - كمتدينين - لا نخسر - كما توهم باسكال - شيئاً، ولا يربح المنكر شيئاً (وهو الذي سماه أنه يعيش حياته) بل نبقى نحن الرابحين وذلك لأن المؤمنين الملتزمين هم عموماً أسعد حالاً من غيرهم من الكفرة العصاة؛ وذلك لأن المحرمات إنما حرمت لمفاسد واقعية وأضرار حقيقية فيها، فالمؤمن المتدين يتجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والزنا مثلاً وغير المؤمن لا يرى سبباً لتجنبها، وقد ثبت في العلم أيضاً أن الخمرة تضر العقل والبدن وتتسبب في الكثير من الأمراض الخطرة وكذلك لحم الخنزير، كما أن الزنا يهدم العوائل ويدمر المجمعات ويتسبب في مجموعة من أخطر الأمراض كالسفلس والسيلان وغيرهما.

من أضرار شرب الخمر

ولنذكر كنموذج على ذلك ما ذكره بعض الباحثين عن أضرار الخمرة ليتضح لنا ان المؤمن الملتزم أفضل حالاً بالفعل من غيره وإن فُرِض أن الله غير

ص: 176


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص295.
2- نهج البلاغة: ص247.
3- سورة غافر: 71.

موجود وأن الأديان أوهام!

الآثار الصحية للخمرة على المدى القصير

1 - التأثير السلبي على المخ ومسارات التواصل العصبية، مما يؤدي إلى إعاقة القدرة على الحكم على الأمور.

2 عدم القدرة على تنسيق حركات الجسم مثل المشي أو القيادة.

3 - الاضطراب.

4 - صعوبة التركيز.

5 - التلعثم في الكلام.

6 تراجع الرادع الأخلاقي والعقلائي، إذ قد يكسر المخمور القوانين ويسرق أو يرتكب الجرائم كالاغتصاب مثلاً.

7 - كما أن الإسراف في الخمر قد يؤدي إلى صعوبات في التنفس، والغيبوبة والموت نتيجة الإفراط في الكحول.

الآثار الصحية في المدى الطويل

تشير المؤسسات الوطنية للصحة في الولايات المتحدة إلى أن الخمر:

1- يؤثر على النسيج الدماغي وقد يؤدي إلى انكماشه، كما يؤدي إلى:

2 - صعوبات في الذاكرة.

3 - بطء في التفكير.

4 - تغييرات في المزاج والسلوك كالاكتئاب.

5 - زيادة مخاطر اعتلال عضلة القلب.

6 - اضطرابات في نبضات القلب.

7 - ارتفاع ضغط الدم.

8 - السكتة الدماغية.

9 - تغيرات دهنية في الكبد، مما قد يقود في بعض الحالات إلى حدوث فشل في الكبد.

ص: 177

10 - التهاب الكبد الكحولي.

11 تشمع الكبد.

12 سرطان الكبد.

13 التهاب البنكرياس.

14 سرطان الفم.

15 سرطان الحلق.

16 سرطان المريء.

17 - سرطان الثدي.

18 - إضعاف جهاز المناعة مما يزيد من احتمالية إصابة الشخص بالأمراض مثل التهابات الرئة)(1).

والحاصل: إن من أضرار تناول الخمور: التهاب البنكرياس وسرطان الرئة والحلق، كما أنه يؤدي إلى ضعف في التفكير وزيادة مخاطر إصابة عضلة القلب وارتفاع ضغط الدم والسكتة الدماغية وبطء شديد في التفكير وسرطان المريء وسرطان الثدى كما يؤدي إلى التهاب الكبد الكحولي وتشمع الكبد وسرطان الكبد وضعف جهاز المناعة، وفي المقابل فإن المؤمن الملتزم بمنأى عن ذلك كله.

والحاصل: إن الاستقراء والتجربة يدلاننا على أن المؤمن الملتزم أسعد من غيره في أسرته ومجتمعه فإن الصدق والوفاء النزاهة وحب الأهل والوطن ومواساة الجار والقريب والبعيد والصلاة والصوم وغيرها مما أمر به الشارع الأقدس كلها عوامل سعادة وسلام وتقدم ورفاه وأمن وطمأنينة.

لا يقال: يوجد في المؤمنين الكثير من الفقراء والمرضى؟

إذ يقال: وكذلك يوجد في الكفار الكثير من الفقراء والمرضى! فكما في الكفار أغنياء وفقراء وعلماء وجهال فكذلك في المؤمنين!، وإنما الكلام هو في أن المؤمن من حيث إيمانه والتزامه بتجنب المعاصي وبفعل الطاعات رابحٌ، عكس

ص: 178


1- من موقع الجزيرة نت، طب وصحة، مقالة بعنوان (الخمر.. سُمّ يُشرب وعقل يُسلب وصحة تذهب) مع تصرف.

الكافر من حيث كفره وعصيانه، وأقل ما في الأمر إن المؤمن لأطمئنانه بالآخرة والجنة والثواب العظيم، أقدر على تحمل المصائب والنوازل من الكافر ولذلك تراه - على حسب درجات إيمانه - يمتلك الهدوء النفسي والطمأنينة والسكينة إذ يرى كل ذلك بعين الله، عكس الكافر الذي لا يؤمن به جل اسمه، كما أن الكافر إذا تعرض أبوه أو أخوه أو ابنه لحادث مؤلم أودى بحياته، فإنه لا سلوان له ولا مستند يتكأ عليه إذ يراه قد تحوَّل إلى عدمٍ محض وأنه فقده نهائياً، أما المؤمن فإنه يرى حبيبه قد انتقل إلى عالم أرحب وأوسع وأجمل وأفضل فَلِئن حزن عليه ساعة أو أياماً اطمأن بعظيم لطف الله تعالى ساعات وأسابيع.

وعوداً إلى برهان باسكال نقول:

جوهر فكرة رهان باسكال

لقد صاغ باسكال معادلة الخسارة والربح السابقة بصيغة يتقبلها العقل المعاصر بشكل أكبر، وهي إنه أدخل تلك المعادلة في دائرة المراهنة: وذلك كما لو فرضنا وجود حلبة سباق للخيول وشاهدنا الحصان الأبيض هو الفائز في كافة المسابقات الماضية ولنفرضها مائة سباق، ووجدنا الحصان الأسود هو الخاسر في كل المسابقات الماضية، بل لو وجدنا الحصان الأبيض فاز في 99(علیهم السلام) من المسابقات الماضية والحصان الأسود فاز في 1(علیهم السلام) منها، والآن إذا أردت الرهان على الفائز في السباق القادم، فعلى أي حصان تراهن؟ إن من الواضح إنك تراهن على الحصان الأبيض، وذلك على الرغم من أنه عقلاً يحتمل أن يكون الأسود هو الحصان الرابح هذه المرة، ولكن العقلاء بالإجماع يرون من السفاهة أن تراهن على الحصان الأسود (الخاسر دائماً أو في 99(علیهم السلام) من الموارد أو حتى في 90(علیهم السلام) منها) ويرون من الحكمة والمنطق ان تراهن على الحصان الفائز دائماً أو غالباً.

ص: 179

والحاصل: إن العقل وإن احتمل العكس، لكن العقلاء بما هم عقلاء يلغون احتمال الخلاف ويعتبرون الحجة في اقتفاء أثر التجارب الناجحة السابقة.

وكذلك تماماً رهاننا على وجود الخالق تماماً، وإن كان بصيغة أخرى، فإننا إن راهنا على وجوده ووجود الثواب والعقاب وكان موجوداً كان الثواب العظيم بما لا يتناهى شدةً ومدةً وعِدةً، وإذا راهنا على عدم وجوده وعدم الجنة والنار وكان موجوداً كان الخسارة هائلة مذهلة، وفي المقابل لو لم يكن موجوداً فإن الكافر غاية الأمر أنه سيربح حياته المحدودة، وقد سبق أن المؤمن هو الرابح حتى في هذه الحياة إذ يتجنب السرقة والغش والزنا وغير ذلك فيزداد مكانةً ومصداقيةً لدى الناس كما سيحظى بالصحة والسلامة وغير ذلك!

فأي الرهانين يجب عليك أن تختاره: رهان الربح اللامتناهي أو رهان الربح المحدود جداً؟

نقد بعض الحداثويين لرهان باسكال

ولكن بعض الحداثويين من الملاحدة المتفلسفين، هاجم هذا البرهان بضراوة بل استهزأ به واعتبره ضعيفاً هشاً باطلاً من الأساس!

والغريب أنني عندما لاحظت الإشكالات وجدت مدى ضعفها وهشاشتها بما لا ينبغي أن يصدر من طالب في المتوسطة فكيف بفيلسوف علماني!قال بعضهم: (يفترض الرهان أن الإله الحقيقي هو بصورة الإله الإبراهيمي الذي يجازي أتباعه. يمكننا هنا تخيل أن الإله الحقيقي هو عكس ذلك تماماً: فقد يقوم على سبيل السخرية بزج بالمؤمنين به في الجحيم وبجزاء غير المؤمنين به بالجنة. أو قد يكون الإله الحقيقي هو إله الفكرة المالثيسية والتي تقول بأن الآلهة تأكل أرواح المؤمنين بعد موتهم).

ص: 180

وقال: (الرهان المعاكس إحدى الطرق التي نرد بها على الرهان تكون بافتراض إله آخر في محل إله باسكال (إله المسيحية). الإله الآخر يعاقب هؤلاء الذين يؤمنون بوجوده من دون دليل ويجزي من سواهم!! لاحظ أن هذه الفرضية لا تفترض مسبقاً أن الإنجيل أو القرآن أو ما شابههم من الكتب المقدسة ليست من مصدر إلهي، فقد يكون الإله قد أنزلهم بالضبط لاختبار مدى سذاجة البشر.

تحت هذه الافتراضات، والتي تستمد بأدلة عقلية لا تزيد ولا تقل على وجود الإله الذي يفترضه باسكال، نرى أن السيناريو يعطي الملحدين ربحاً في كلا الحالتين سواء أكان الله موجوداً أو لا، بينما نجد المؤمنين في خسارة في الحالتين. بما أن احتمالية وجود الإلهين (الإله هنا وإله باسكال) متساوية بالاحتمالات، يظهر أن الإلحاد يوفر الفرصة الأكبر للربح، وهذا يقلب حجة باسكال رأساً على عقب).

الجواب: احتمال عقوبة المطيع غير عقلائي!

والجواب واضح وبديهي بل إن نفس رهان باسكال يستبطن الجواب عنه بوضوح، وذلك لأن احتمال أن يعاقب الله (المفترض) عباده الذين يؤمنون به وأن يثيب المنكرين له والمعارضين بالجنة، هو صفر لدى العقلاء، وهو وإن كان احتمالاً عقلياً إلا أنه ليس بعقلائي أبداً بل لا تجد عاقلاً في حياته العملية ينساق مع مثل هذا الاحتمالالهش؛ فمثلاً: هل تجد عاقلاً يقول: بأن الجندي في الجيش إذا أطاع الضابط، أو الموظف في الشركة إذا أطاع المدير والتزم بأوامره

ص: 181

ونفذ التعليمات كلها كما طلبت منه فإنه من المحتمل أن يعاقبه المسؤول أشد العقاب ويسجنه ويعذبه، على سبيل السخرية مثلاً!!، وأنه إذا عصى المدير ودمر شركته وممتلكاته، أو خالف قرارات الجيش وأفسد خططه العسكرية فإنه حينئذٍ سيقرِّبُه إليه أكثر وسوف يمنحه ترقية كبرى في الشركة أو الجيش!

إن هذا الاحتمال وإن كان عقلاً ممكناً، لكنه عقلائياً صفر، وهل يلتزم هذا الفيلسوف بمقتضى كلامه؟ فمثلاً إذا وجد هذا الفيلسوف شرطي المرور يأمره بالوقوف عند الإشارة الحمراء فهل يعصيه ويعارضه متذرِّعاً بأنه من يدري(!) فلعلني إذا عصيته أعطاني هدية رائعة(!) أما إذا أطعته ووقفت عند الإشارة ضربني بالهراوة الغليظة على أمّ راسي وقادني إلى السجن المظلم وفي أشد أنواع التعذيب(!).

مثال آخر: تصوّر أن هنالك غابة تقع في وسط بلدتين (أ و ب) وإن فيها عصابة من الأشرار يعتدون على كل من يمرّ عبرها ويسلبونه كافة أمواله ثم يقتلونه شر قتلة، وإن هناك طريقاً آخر للوصول إلى البلدة (ب) وهو طريق آمن، فهل تجد عاقلاً يعكس الرهان ويقول سأسلك طريق الغابة إذ من المحتمل أن هؤلاء الأشرار إذا رأوني أن يحتضونني ويكرموني ثم يهبونني كل أموالهم؟ ومن المحتمل أنني إذا سلكت الطريق الآمن أن تهاجمني الشرطة (المعروفة بالنزاهة) وتسلبني حتى ثيابي ثم تقتلني شر قتلة؟

من البديهي أن العقلاء يراهنون على خيار الطريق الآمن وإن احتمل عقلاً أن يتحول الشرطة الأخيار (وهم تحت رقابة صارمة) فجأة إلى أشرار!! وأنهم يَعُدُّون من يسلك طريق الغابة الخطر لمجرد ذلك الاحتمال العقلي الواهي (أن الأشرار فجأة يتحولون إلى أخيار عشاق له ويكرمونه) من السفهاء بل من أكثر

ص: 182

السفهاء سفاهة ويرون تفكيره أشد الأفكار تفاهةً!

وهناك شبهات أخرى لا تقل ضعفاً وهشاشة - لدى التدبر - عن هذه الشبهة التي أوردت على هذا البرهان، ونشير إلى الجواب عن إحداها: وهو أن هذا البرهان لا ينفي وجود شريك لله ولا يثبت أنه مجرد مثلاً.

والجواب: إن كل برهان إنما يتكفل البرهنة على ما هو في حدود مقتضاه ولا يتكفل الأكثر من ذلك، فهذا البرهان الصادقي (علیه السلام) ثم البرهان الباسكالي مثلاً إنما يتكفل أصل احتمال وجود إله خالق للكون وأن البناء عليه هو الأسلم الأفضل بلا شك، وهو على تقدير التنزّل، والخطاب فيه موجه لمن يشك في وجوده تعالى ولا يطمئنللأدلة كبرهان إبطال الدور والتسلسل فرضاً، فنقول له حينئذٍ: لكن هذا الرهان هو الرهان الرابح وذاك الرهان هو الخاسر - حسبما مضى - ولكنه - بصيغته الحالية - لا يتكفل الأكثر من ذلك أي لا يتكفل بمجرده إثبات عدم وجود شريك للباري وعدم التثليث مثلاً، إلا إذا جرى تطويره، كما لا يتكفل إثبات أن الله مجرد مثلاً، بل ذلك يحتاج إلى تتميم أو ضمائم من أدلة أخرى، وذلك ككافة الحقائق التي تفتقر إلى إقامة العديد من البراهين على أصل وجودها تارة ثم على تفاصيل حقائقها، وبذلك تندفع بعض الإشكالات الأخرى على هذا البرهان، ولا حاجة للإطالة باستعراضها مع الأجوبة عليها.

ص: 183

الخاتمة

القاعدة العامة: المقياس (الحق)، وبه يُعرف أهلهُ

من المعروف أن القاعدة العامة هي تلك التي أشار إليها إمام المتقين (علیه السلام) بقوله: «انْظُر إِلَى مَا قَالَ وَلَا تنظر إِلَى مَن قَالَ»(1)، وقال أيضاً: «فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»(2) للحارث الهمداني الذي أدهشه كثرة الاختلاف في أصحاب الإمام (علیه السلام) والذين كان يتميز بعضهم بأنهم من العبّاد الذين انطبعت على جباههم آثار السجود وكان الكثير منهم أهل تعبّد وتهجّد وتضرّع، فقال له الإمام (علیه السلام): «فَإِنَّكَ امْرُؤٌ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ»، ويروي لنا التاريخ تفصيل الحوار بين الإمام (علیه السلام) وبين الحارث إذ: (دَخَلَ الْحَارِثُ الْهَمْدَانِيُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (علیه السلام) فِي نَفَرٍ مِنَ الشِّيعَةِ وَكُنْتُ فِيهِمْ فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَتَّئِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَخْبِطُ الْأَرْضَ بِمِحْجَنِهِ وَكَانَ مَرِيضاً، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) وَكَانَتْ لَهُ مِنْهُ مَنْزِلَةٌ.

فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ يَا حَارِثُ؟»

فَقَالَ: نَالَ الدَّهْرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنِّي وَزَادَنِي أَوَباً غَلِيلًا اخْتِصَامُ أَصْحَابِكَ بِبَابِكَ.

ص: 184


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص438.
2- الأمالي: ص3.

قَالَ: «وَفِيمَ خُصُومَتُهُمْ؟»قَالَ: فِيكَ وَفِي الثَّلَاثَةِ مِنْ قَبْلِكَ فَمِنْ مُفْرِطٍ مِنْهُمْ غَالٍ وَمُقْتَصِدٍ تَالٍ وَمِنْ مُتَرَدِّدٍ مُرْتَابٍ لَا يَدْرِي أَيُقْدِمُ أَمْ يُحْجِمُ

فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَخَا هَمْدَانَ أَلَا إِنَّ خَيْرَ شِيعَتِي النَّمَطُ الْأَوْسَطُ إِلَيْهِمْ يَرْجِعُ الْغَالِي وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالِي».

فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: لَوْ كَشَفْتَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي الرَّيْنَ عَنْ قُلُوبِنَا وَجَعَلْتَنَا فِي ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا.

قَالَ: «قَدْكَ فَإِنَّكَ امْرُؤٌ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ بَلْ بِآيَةِ الْحَقِّ فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ، يَا حَارِثُ إِنَّ الْحَقَّ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَالصَّادِعَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَبِالْحَقِّ أُخْبِرُكَ فَأَرْعِنِي سَمْعَكَ ثُمَّ خَبِّرْ بِهِ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَصَانَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ أَلَا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ وَصَدِيقُهُ الْأَوَّلُ قَدْ صَدَّقْتُهُ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ... »(1).

والسر في قوله (علیه السلام): «إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ بَلْ بِآيَةِ الْحَقِّ فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»« واضح وهو إن الأشخاص يقيَّمون بمدى اقترابهم من الحق وتفاعلهم معه وانقيادهم له ف(الحق) هو المقياس وليس (الشخص) فإن الحق حق مطلقاً وأما الشخص فقد يكون على حق وقد لا يكون، فعليك ان تتخذ من الحق مقياساً لتقييم الآخرين وليس العكس، ولذلك أيضاً ورد: «خُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَجَانِينِ»(2) فإن الحق وإن كان في فم المجنون هو كالجوهرة فإنها جوهرة وإن ابتلعتها الكلاب، و«الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ

ص: 185


1- الأمالي: ص625.
2- مصباح الشريعة: ص160.

ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا»(1)، وورد أيضاً: «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ»(2).

من البصائر: المقياس (أهل الحق)، وبهم يُعرف الحق!

وذلك كله صحيح وعلى حسب مقتضى القاعدة، ولكن الغريب الملفت أن القرآن الكريم في آية الصراط المستقيم عندما أراد تعريفه، عَدَل عن تعريفه بالقيم والمثُلُ العليا والمبادئ إلى تعريفه بالأشخاص، فبدل أن يعرف الصراطالمستقيم بأنه (الدين القويم) أو أنه (العدل والإحسان والصلاة والصيام) وشبه ذلك، عرّفه ب«صِرَاطَ

الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ»(3) فكيف وجه الجمع؟ وما هو السر في ذلك؟

والجواب هو: إن هذا هو الاستثناء من تلك القاعدة والذي يؤكد في الوقت نفسه القاعدةَ العامة، فإن القاعدة هي ما ذكر ولكن يستثنى من ذلك أشخاص هم قمة، قمة القمة في الطهارة والنزاهة والعلم والمعرفة والسير والسلوك والخلق القويم والقلب السليم، وهم (المعصومون (علیه السلام)) من كل دنس ورجس ونجس وخطأ وخطل وريب وشبهة، وهم المطهرون من الرجس العملي والفكري والقلبي حتى أنهم لا تخطر في بالهم أشباح المعاصي ولا وساوس الصدور وهم الذين قال عنهم تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(4).

فهؤلاء هم مقاييس الحق والصدق، والفرق بينهما هو أن الحق هو بلحاظ المطابَقية، والصدق وهو بلحاظ المطابِقية، فإذا لاحظت (الكلمة الصائبة) من

ص: 186


1- الكافي: ج8 ص167.
2- عوالي اللآلئ: ج4 ص70.
3- سورة الفاتحة: 7.
4- سورة الأحزاب: 33.

حيث إنها مطابِقة للواقع كانت صدقاً وإذا لاحظتها من حيث إنها مطابَقة له حتى لكأنّها الأصل والواقع الفرع كانت حقاً.

ولذلك كله قال تعالى: «اهدِنَا

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ»(1) فالصراط المستقيم إذا أردت اكتشافه فعليك بالبحث عن القمم السامقة التي تجسّده وعن الأشخاص النموذجيين الذين يحتضنونه، أي إن عليك أن تبحث عن: «الَّذِينَ

أَنعَمتَ عَلَيهِمْ...».

وهؤلاء تصرح آيتان أخريان بشخوصهم الكريمة وهما: «وَمَن

يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(2) و«وَاذْكُرْ

فِيالْكِتَابِ

إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا»(3) و«وَاذْكُرْ

فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا»(4) و«وَاذْكُرْ

فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا»(5) و«وَاذْكُرْ

فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا»(6) إلى أن يقول: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا»(7).

السر في مَدارِيّة المعصومين (علیهم السلام) رغم وجود العقل

وسرّ السرّ في ذلك كله: إن الإنسان بعقله المتأرجح بين الحكمة وبين

ص: 187


1- سورة الفاتحة: 6 - 7.
2- سورة النساء: 69.
3- سورة مريم: 41.
4- سورة مريم: 51.
5- سورة مريم: 54.
6- سورة مريم: 56.
7- سورة مريم: 58.

الأهواء والشهوات، والمتذبذب بين نور البصيرة وبين حكومة القوة الغضبية ونوازع المادية، والمختلف من حيث القوة والضعف باختلاف الحالات والطوارئ وباختلاف الأشخاص، لا يمكنه أن يصل إلى (الدين) بنفسه إلا للاوحدي من الرجال(1)، على أن دائرة المستقلات العقلية محدودة جداً فلا يمكنه إلا معرفة مفردات وجوانب قليلة من الدين فقط، ويكون فيما عداها مسرح الأخطاء الكبرى والزلات العظمى.

لذلك جعل الله مقياس الحق والباطل هو: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْآيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا»(2) وقال: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ».

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

ص: 188


1- وفي بعض أبعاده وجوانبه.
2- سورة مريم: آية 58.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللهمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

وَصِلِ اللهمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(4) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

ص: 189


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).
4- (وَيَمْكُثُ).

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 190

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

* الكافي: ثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية - طهران.

1. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة البعثة.

2. تفسير القمي، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، مؤسسة دار الكتاب - قم.

3. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، المكتبة العلمية - طهران، 1380ه.

4. تفسير الإمام العسكري (علیه السلام)، الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، مدرسة الإمام المهدي f - قم.

5. مصباح الشريعة، الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1400ه.

6. إعلام الورى، أمين الإسلام الطبرسي، دار الكتب الإسلامية - طهران.

ص: 191

7. الأمالي، الشيخ الصدوق، المكتبة الإسلامية - قم، 1404ه.

8. الأمالي، الشيخ الطوسي، دار الثقافة للنشر - قم، 1414ه.9. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء - بيروت، 1404ه.

10. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن، مكتبة آية الله المرعشي – قم، 1404ه.

11. تحف العقول، الحسن بن شعبة الحراني، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

12. التهذيب، الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية - طهران.

13. ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، دار الرضي للنشر - قم، 1406ه.

14. جامع الأخبار، تاج الدين الشعيري، دار الرضي للنشر - قم، 1405ه.

15. الخصال، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1403ه.

16. عوالي اللآلئ، ابن أبي جمهور الاحسائي، دار سيد الشهداء (علیه السلام) - قم، 1405ه.

17. عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، الشيخ الصدوق، دار العالم للنشر (جهان)، 1378ه.

18. غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد التميمي، مكتب الإعلام الإسلامي - قم.

19. الغيبة، محمد بن إبراهيم النعماني، مكتبة الصدوق - طهران، 1397ه.

20. فلاح السائل، السيد علي بن طاووس الحلي، مكتب الإعلام الإسلامي - قم.

ص: 192

21. كتاب المزار، الشيخ المفيد، المؤتمر للشيخ المفيد - قم.

22. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (علیه السلام)، العلامة المجلسي، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1404ه.

23. مستدرك الوسائل، المحدث النوري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) - قم.

24. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، مؤسسة فقه الشيعة - بيروت.25. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

26. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1413ه.

27. مناقب آل ابي طالب (علیه السلام)، محمد بن شهر آشوب المازندراني، مؤسسة العلامة للنشر - قم.

28. وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) - قم.

29. الإمامة والسياسة - تاريخ الخلافاء ، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق الشيري، انتشارات الشريف الرضي - قم.

30. أعلام الدين، الحسن بن ابي الحسن الديلمي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) - قم.

31. رجال الكشي.

32. مجمع الرجال، الشيخ عناية الله علي القهبائي، مؤسسة مطبوعاتي اسماعيليان - قم.

33. مستطرفات المعالي أو منتخب المقال والأقوال في علم الرجال، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

ص: 193

34. منتهى المقال في أحوال الرجال، محمد بن إسماعيل المازندراني، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم.

35. دراسة (حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي (رحمه الله))، مركز الإمام الشيرازي (رحمه الله) للدراسات.

36. لسان العرب، ابن منظور، دار الكتب العلمية - بيروت، ط2، 2009م.

37. مذكرات حردان التكريتي.

38. معجم مقائيس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي التابع للحوزة العلمية في قم.

39. مفردات الراغب الاصفهاني مع ملاحظات العاملي، الراغب الاصفهاني، دار المعروف للطباعة والنشر.

ص: 194

المحتویات

المقدمة 7

التمهيد 9

الكون في معادلةِ ثنائيّةِ الظاهرِ والباطنِ 9

العلوم الأربع: ظاهر الدنيا والآخرة وباطنهما 10

الفصل الأول بحوث عن الهداية/ 11

البحث الأول: طلب الحاصل محال فكيف يطلب المؤمن الهداية؟ 13

أولاً: طلب الهداية في مرحلة العِلّة المبقية 14

قصة القاضي الذي مات ضميره بعد الإعدامات! 15

لنكن حسّاسين جداً تجاه حُسن أو سوء العاقبة 17

ثانياً: طلب الهداية إلى الدرجات العليا 18

لنكن في حركة دائمة نحو الكمال 19

خطر التراجع الروحي على طالب العلم 20

شواخص التقدم معرفياً ومعنوياً 20

ثالثاً: طلب الهداية التكوينية 22

من تجليات الهداية التكوينية، التوفيق، عكس الخذلان 22

لماذا ننشغل بالهوامش، ونتناسى أعظم الكتب المقدسة؟ 23

ص: 195

إشارة لفقه رواية الإمام الصادق (علیه السلام) 24

الشيخ المفيد (رحمه الله) والرؤيا المذهلة 25

من مصاديق الهداية التكوينية لطلاب الحوزة العلمية 26

وللكسبة والتجّار 27

رابعاً: الهداية في القضايا المستحدثة 27

طلب الهداية عند كل فتنة 29

وفي أثناء الاجتهاد والاستنباط 29

لنتذكر آية (الصِّرَاطَ) عند كل حدث وموقف 29

المعاني الأربع، متكاملة غير متمانعة 30

الصراط المستقيم في الحكومة الدينية وولاية الفقيه 31

دوائر الهداية في القضايا المستحدثة 31

1) الهداية في الأحكام 31

2) الهداية في الموضوعات 32

أ - الهداية إلى الزواج الناجح 32

ب - الهداية للموقف من انتخابات الدول الغربية 33

شروط سلامة الموقف في القضايا الخطيرة 34

ج - الحوزة أو المنصب؟ 35

3) الهداية في الحجج وفي مرحلة الاستنباط 36

4) الهداية في دائرة النظريات العامة 36

ولاية الفقيه أو الفقهاء أو ولاية الأمة؟ 37

الأقوال في ولاية الفقيه 37

(ولاية الفقيه) عند عرضها على كتاب الله تعالى 39

ص: 196

ولاية الفقيه التنجيزية أو التعليقية 40

فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟ 41

الحكومة الوطنية أو الدينية المستبدة أو الشورية؟ 41

فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟ 43

5) الهداية في دائرة القيادة الإسلامية 43

الرقابة على القادة والحكام فريضة إلهية 44

حسن الصباح في امبراطورية الرعب والدهاء وغطاء الشرعية! 46

قلعة ألموت والانقلاب العسكري 47

الغصب المقدس! رداء الشرعية على السرقة المقنّعة! 48

الخوارج: إرهاب وقسوة مع التلفع برداء الدين! 48

استراتيجية الاغتيالات النوعية، والشرعية أيضاً! 50

الشرعية للمستبدّ عبر بوابة مقارعة الصليبيين! 51

كيف استبدل الناس مستبداً بطاغية آخر؟ 51

الخدعة الكبرى: الجنة الفردوس على الأرض! 52

التاريخ يعيد نفسه 53

6) الهداية في دائرة المواقف 54

الموقف من الحكومات المستبدة الجائرة 54

معادلات وأحكام في العلاقة بالحكام 55

1 - المظلوم أقوى من الظالم دائماً 55

عقوبة غريبة لمن رمى الإمام الحسين (علیه السلام) بسهم 56

2 - التبرير للحاكم الظالم، من الكبائر 57

«مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ» 58

ص: 197

3 - الآثار الأخروية لإعانة الظالم 58

«مَنْ مَدَحَ سُلْطَاناً جَائِراً كَانَ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ» 59

4- من أكبر الكبائر إضفاء الشرعية على الحاكم الجائر 59

رسالة نادرة من الإمام السجاد (علیه السلام) إلى الزهري 60

أحاديث غريبة وضعها ضد الأئمة (علیهم السلام) تزلّفاً للسلطان 62

5 - جماهير الناس، في معرفة الحق، ليسوا هم المقياس! 65

السيد الحكيم (رحمه الله) مسيرة علم وجهاد 67

عبد الكريم يتبنّى الشيوعيين، والحكيم يواجهه بصلابة 68

انتقام السلطات والشيوعيين من السيد الحكيم والمتدينين 69

حزب البعث يواجه الحوزة العلمية ويطارد العلماء 70

المرجعية العليا تستعرض قوتها الجماهيرية 71

السلطات تعتقل العلماء وتحاصر المرجع الأعلى 71

مستقبلكم بأيديكم: إما من أعوان الظلمة أو من أنصار المظلومين! 73

الملحق 74

خامساً: الهداية الشهودية بعد الهداية العلمية 77

(الضيافة) بين لغة الأرقام ولغة القلب 78

العلامة الاميني (رحمه الله) حافياً حاسِراً ذاهلاً! 79

منطقتا القلب والعقل، وما تحتضنانه 80

تعارض مدركات العقل مع أحاسيس القلب 81

شهادة الرسول(صلی الله علیه و آله) لأويس القرني بالجنة 82

عمر يبلغ سلام الرسول(صلی الله علیه و آله) لأويس! 84

ص: 198

لماذا تظاهر أويس بالجنون؟ 85

يعبد الله 24 ساعة متواصلة ثم يشكو من (عين نوَّامة)! 88

لماذا تكون عبادة بعضهم نقراً كنقر الغراب! 89

بين منطق العقل والقانون ومنطق القلب والمحبة 90

الأميني (رحمه الله) يبيع داره ليطبع كتابه! 91

هل نستشعر كل لحظة إشراف إمام العصر والزمان f؟ 92

البحث الثاني: هل الهداية فعل الله قسراً أو هي فعل العبد؟ 94

أقسام عطايا الله تعالى 94

ما يمنحه للعبد دون توسط ميشئته 94

ما يمنحه له بواسطة مشيئته وإرادته 95

ما يكون مزيجاً من الأمرين 95

الكافي:

الهداية فعل الله، ولا يمكننا هداية من أراد الله ضلالته 97

المواقف المتنوعة من هذه الروايات 98

* موقف المستسلم 98

* موقف المتهور 99

* موقف الصراط - الوسط 100

وجوه الجواب عما ظاهره قسرية الهداية 100

1- عرضها على كتاب الله 100

وظاهره إرادية الدعوة والهداية 101

وهي ما يُحلّ بالطولية 102

2 - طرحها؛ للإشكال سندياً فيها 103

ص: 199

3 - حملها على أنها قضية خارجية ومن التقية 104

كلام العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول 104

مؤيدات للتقية في الرواية 105

الفصل الثاني بحث عن (الصراط)/ 107

من البصائر: (الصراط المستقيم) هدف أو وسيلة؟ 109

الجواب: الأقسام ثلاثة 109

المتمحِّض في المقدمية والآلية 110

المتمحِّض في المطلوبية الذاتية 110

الجامع للجهتين 111

أ- تعلّم العلم 111

وجه أفضلية الزهراء (علیها السلام) على الإمام الصادق (علیه السلام) 111

ب- حبّ الله والرسول والآل (علیهم السلام) 112

كيف يكون «حُبُّ عَلِيِّ (علیه السلام) حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ»؟ 112

ولا يعني ذلك الإغراء بالمعصية أبداً 113

ج - الركض نحو الجامعة! 115

وجه جديد لكون الثواب على نفس المشي لزيارة الحسين (علیه السلام) 115

معاني الصراط المستقيم 116

أولاً: القرآن الكريم 116

ثانياً: الأنبياء والمرسلون والأئمة الميامين 117

ثالثاً: أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعرفته 118

ص: 200

رابعاً: حبّ محمد وآله (علیهم السلام) 119

من بصائر النور في آية الصراط المستقيم 120

لماذا (الصراط) وليس (الطريق)؟ 120

(الصراط) تحمل إرثاً تاريخياً وكنزاً من البطون 120

اللغويون: الصراط يعني: البلع والازدراد! 121

المناقشة: أ- الصراط كلمة من الإرث الإبراهيمي (علیه السلام) 123

ب - الصراط فيه نوع إبهام، فناسب (أهدنا) 124

ج - لا مثنى للصراط، عكس الطريق 125

د- الصراط أعم من الطريق والغاية 125

الفصل الثالث بحث

عن (الاستقامة)/ 129

من بصائر النور في آية الصراط المستقيم 131

المحتملات في معنى المستقيم 131

أ - المراد به المجرد (القويم) 131

ب - المراد به المطاوعة 132

ج - المراد به الطلب (طلب القيام والثبات والاستقامة) 133

وصف الصراط بالمستقيم مع أنه لا إدراك له! 134

أولاً: لأن المراد به المعصومون (علیهم السلام) 134

ثانياً: لأن الطريق، ككل مخلوق، مدرِك شاعر 135

ماذا يعني ان يطلب الصراطُ الاستقامة؟ 137

معاني الاستقامة 137

ص: 201

أولاً: الاستقامة بلحاظ الغاية 137

الصواريخ الذكية 138

الطرق الجبلية 138

السر في التعبير ب« يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ» 138

لأن علياً (علیه السلام) صَمَت وسَكَن إذ وجبا ونَهَض ونَطَق إذ لَزِما 139

النحو والمنطق أو الفقه؟ 143

الفقه أو العقائد؟ 143

ثانياً: الاستقامة بلحاظ الفاعل 145

إن الله يغضب لغضب فاطمة (علیها السلام) 145

والأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بالتوحيد والولاية 146

رضا المالك هو المقياس، لا المصالح والمفاسد 148

ثالثاً: الاستقامة بلحاظ الموضوع 149

رابعاً: الاستقامة بلحاظ القابل 149

بذل العلم لغير أهله وكتمانه عن أهله 150

الفصل الرابع بحث

عن أنواع الأدلة والحجج/ 153

من البصائر: طرق الهداية متعددة مختلفة باختلاف الشاكلة 155

أنواع الأدلة إلى الله تعالى: أ - الدليل العقلي 156

ب - الدليل العقلائي 156

ج - د - الدليل العلمي والدليل التجريبي 157

حجية الأدلة العقلائية في أصول الدين 158

ص: 202

الفيلسوف المعاصر پلانتينگا في طريقه إلى الله تعالى 158

فلسفة الذهن والحاسوب والذكاء الصناعي، طريق آخر إلى الله 159

كما تدرك قطعاً أن للغير ذهناً، فكذلك تدرك قطعاً أن لك خالقاً! 160

الإيمان بالله أمر عقلائي، وإن لم تتسلح بدليل فلسفي 161

مرجع كافة الأدلة إلى الأوليات فكيف تحتاج هي إلى دليل؟ 163

طرق أخرى غير معهودة، توصل إلى الله تعالى 163

اليهودي الأمريكي الذي أسلم إذ قرأ آيات القرآن ضد اليهود! 164

لماذا كان اليهود منبوذين وأذلة على مرّ التاريخ؟ 165

البوذي الياباني الذي اسلم إذ استنكر إهمال بوذا لإله الكون! 166

المسيحي الفرنسي الذي أسلم إذ شرب كأس الشاي في المجلس! 166

لماذا كانت بوابة الإمام الحسين (علیه السلام) للهداية هي الأوسع؟ 167

الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق 169

المسيحي الفيلسوف الذي أسلم إذ رأى نهج البلاغة! 170

أنواع ودوائر أخرى من دائرة الأدلة والحجج والبراهين 171

الفارق بين البرهان والجدل والمغالطة 172

استدلال الإمام (علیه السلام) على الملحد: لقد سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ، أو اسْتَوَيْتُمْ! 173

رهان باسكال 175

تطوير رهان باسكال 176

من أضرار شرب الخمر 176

الآثار الصحية للخمرة على المدى القصير 177

الآثار الصحية في المدى الطويل 177

ص: 203

جوهر فكرة رهان باسكال 179

نقد بعض الحداثويين لرهان باسكال 180

الجواب: احتمال عقوبة المطيع غير عقلائي! 181

* الخاتمة 184

القاعدة العامة: المقياس (الحق)، وبه يُعرف أهلهُ 184

من البصائر: المقياس (أهل الحق)، وبهم يُعرف الحق! 186

السر في مَدارِيّة المعصومين (علیهم السلام) رغم وجود العقل 187

فهرس المصادر 191

الفهرس 195

كتب أخرى للمؤلف 205

ص: 204

كتب أخرى للمؤلف

الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

الأصول مباحث القطع، مخطط.

إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

الاقتصاد الاسلامي المقارن، مطبوع.

الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

بحوث في العقيدة والسلوك، مطبوع.

بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط.

التبعيض في التقليد، تحت الطبع.

تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

توبوا إلى الله، مطبوع.

الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.الحوار الفكري، مطبوع.

ص: 205

الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

خلق لكم ما في الأرض جميعا (الأرض للناس لا للحكومات), تحت الطبع.

دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

رسالة في أسلمة العلوم الإنسانية – مطبوع.

رسالة في الحق والحكم، التعريف والضوابط والآثار، مخطوط.

رسالة في السيرة العقلائية - مخطوط.

رسالة في شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات - مخطوط.

رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

السرقفلية (حق الخلو) موضوعاً وحكماً .

السلطات العشر والبرلمانات المتوازية ، مطبوع.

سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.السيد نرجس (علیها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

شعاع من نور فاطمة الزهراء (علیها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، مطبوع.

شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث أصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة

ص: 206

والعقل، مطبوع.

فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

فقه المكاسب - مباحث البيع، مخطوط.

فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، تحت الطبع.فقه المكاسب المحرمة مباحث الرشوة، مطبوع.

قاعدة اللطف، تحت الطبع.

قولوا للناس حسنا ولا تسبوا - تحت الطبع.

القيمة المعرفية للشك - مطبوع.

كونوا مع الصادقين، مطبوع.

لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ, بحث فقهي عن المكاسب المحرمة، على ضوء الآية الشريفة, تحت الطبع.

لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

ص: 207

مباحث الأصول: (الحكومة والورود)، تحت الطبع.

مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

مباحث الأصول، التعارض - مخطوط.

المبادئ التصديقية للاجتهاد والتقليد (بحوث تمهيدية)، مطبوع.

المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

مقتطفات قرآنية، مطبوع.

مقدمات الاجتهاد والاستنباط وشروطه.

ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

وجيزة في التقليد - مطبوع.

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 208

درباره مركز

بسمه تعالی
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
با اموال و جان های خود، در راه خدا جهاد نمایید، این برای شما بهتر است اگر بدانید.
(توبه : 41)
چند سالی است كه مركز تحقيقات رايانه‌ای قائمیه موفق به توليد نرم‌افزارهای تلفن همراه، كتاب‌خانه‌های ديجيتالی و عرضه آن به صورت رایگان شده است. اين مركز كاملا مردمی بوده و با هدايا و نذورات و موقوفات و تخصيص سهم مبارك امام عليه السلام پشتيباني مي‌شود. براي خدمت رسانی بيشتر شما هم می توانيد در هر كجا كه هستيد به جمع افراد خیرانديش مركز بپيونديد.
آیا می‌دانید هر پولی لایق خرج شدن در راه اهلبیت علیهم السلام نیست؟
و هر شخصی این توفیق را نخواهد داشت؟
به شما تبریک میگوییم.
شماره کارت :
6104-3388-0008-7732
شماره حساب بانک ملت :
9586839652
شماره حساب شبا :
IR390120020000009586839652
به نام : ( موسسه تحقیقات رایانه ای قائمیه)
مبالغ هدیه خود را واریز نمایید.
آدرس دفتر مرکزی:
اصفهان -خیابان عبدالرزاق - بازارچه حاج محمد جعفر آباده ای - کوچه شهید محمد حسن توکلی -پلاک 129/34- طبقه اول
وب سایت: www.ghbook.ir
ایمیل: Info@ghbook.ir
تلفن دفتر مرکزی: 03134490125
دفتر تهران: 88318722 ـ 021
بازرگانی و فروش: 09132000109
امور کاربران: 09132000109