مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيراً

هویة الکتاب

مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيراً

النجف الأشرف 1442ه-/2020م

دار الصادقين العراق- النجف الأشرف

محاضرات المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الأولى

ص: 1

اشارة

ص: 2

بحوث مختارة من موسوعة فقه الخلاف (7)

مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيراً بحث فقهي استدلالي

محاضرات المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

النجف الأشرف 1442ه-/2020م

ص: 3

الطبعة الأولى

1442ه- -- 2020م

دار الصادقين العراق- النجف الأشرف

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيراً

للإنسان قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية فهو خليفة الله تعالى في أرضه «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة: 30) واستحق بذلك التكريم من الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء: 70) وجعل للنفس الإنسانية حرمة كبيرة تفوق حرمة الكعبة، ففي الحديث الشريف عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه أقبل إلى الكعبة وقال: (الحمد لله الذي كرّمك وشرّفك وعظّمك، وجعلك مثابة للناس وأمناً، والله، لحَرمةُ المؤمن أعظم حرمة منك)(1)، وفي صحيحة أبي حمزة عن أحدهما (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال مستنكراً ومغضباً في حادثة قتل وقعت لم يُعرف القاتل: (قتيل بين المسلمين لا يُدرى من قتله! والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والأرض شرِكوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكَبَّهم الله على

ص: 7


1- مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي: 9/46، باب 105 باب وجوب أداء حق المؤمن وجملة من حقوقه الواجبة والمندوبة، ح 15. ط. 2، 1408 ه 1988 م مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - بيروت.

مناخرهم في النار، أو قال: على وجوههم)(1).فقتل الإنسان لأخيه الإنسان خروج عن زيّ العبودية لله تعالى ومنازعة له سبحانه في سلطانه؛ لأن الله تعالى خالق الإنسان ومالكه وهو وحده مَن له حقّ التصرف فيه فضلاً عن إعدامه الحياة.

ووقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى حين قضى مناسكه في حجة الوداع أمام عشرات الآلاف من المسلمين ليبلّغهم هذه الرسالة ولينزع من نفوسهم استخفاف الجاهلية -أي جاهلية لا تعمل بأحكام الله تعالى - بحرمة الدماء وامتهان القتل فقال (صلى الله عليه وآله): (أي يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا اليوم، فقال: فأي شهر أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا الشهر، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم

ص: 8


1- الكافي: 7/272، باب 172، ح8. ط. دار الكتب الإسلامية.

ولا ترجعوا بعدي كفاراً)(1).

ولبيان هول هذا الأمر فقد جُعل الاعتداء على الفرد الواحد اعتداءً على الإنسانية جميعاً «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: 32).لذا غلّظت الشريعة الإسلامية العقوبات على إزهاق النفس، فمن قتل متعمداً فلولي المجني عليه الاقتصاص من القاتل «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً» (الإسراء: 33)؛ لأن مثل هذه العقوبة تردع من يفكّر بالعدوان على الآخرين وتدع الناس يعيشون حياتهم بأمن وسلام «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 179).

وأوجب الشارع المقدس دفع مال كثير يسمّى (الدية) لذوي المجني عليه إذا كان القتل خطأً محضاً أو خطأً شبيهاً بالعمد؛ لكي لا يذهب الدم المحترم شرعاً هدراً حتى لو وقع القتل خطأً محضاً.

ولكي يتجنب الناس أي فعل يمكن أن يؤدي إلى القتل أو الإضرار بالآخرين حتى ولو خطأً، وفي دفع الدية تطييب لخواطر

ص: 9


1- وسائل الشيعة: 29/10، أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح3. الطبعة الثانية، آل البيت، قم 1414 هج-.

ذوي المجني عليه وغلق باب الانتقام والثأر والانجرار إلى القتل المتبادل، ولذا سميت الدية (عقلاً) لأنها تعقل أي تمنع من وقوع الدم وتحمي المجتمع من التجري على الدماء قبل الحادث باجتناب الأسباب وتمنع استمرارها بعد وقوعه.

وقد حدّدت الروايات الشريفة الدية بستة أصناف من الأموال وعدد كل صنف الذي يمكن أن تؤدى الدية منها.

والأصناف المالية الستة التي تؤدى بها الدية مع ذكر مقاديرها بحسب المشهور هي:-

مائة من الإبل.

مائتان من البقر.ألف من الغنم.

ألف دينار ذهبي (وزن الدينار 3.45 غرام).

عشرة آلاف درهم فضي (وزن الدرهم 2.415 غم).

مائتا حلة تتكون الواحدة من ثوبين.

وقد دلّت على ذلك روايات صحيحة كثيرة بلغت حد الاستفاضة نذكر منها الآن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سمعت ابن أبي ليلى يقول: كانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وفرض على أهل الشاة ألف شاة ثنية، وعلى

ص: 10

أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة ألف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل مائة(1)

حلة. قال عبد الرحمن بن الحجاج: فسألت أبا عبد الله عليه السلام عما روى ابن أبي ليلى فقال: كان عليّ عليه السلام يقول: الدية ألف دينار، وقيمة الدينار عشرة دراهم وعشرة آلاف لأهل الأمصار، وعلى أهل البوادي مائة من الإبل، ولأهل السواد مائة بقرة، أو ألف شاة)(2).وصحيحة جميل بن دراج في الدية قال: (ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، ويؤخذ من أصحاب الحلل الحلل ويؤخذ من أصحاب الإبل الإبل، ومن أصحاب الغنم الغنم، ومن أصحاب البقر البقر)(3).

ورواية أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الدية فقال: دية المسلم عشرة آلاف من الفضة، أو ألف مثقال من الذهب، أو ألف من الشاة على أسنانها أثلاثاً، ومن الإبل مائة على أسنانها، ومن البقر مائتان)(4).

ص: 11


1- هذا هو المذكور في المصادر وهي الكتب الأربعة ومقنع الصدوق إلا أن صاحب الوسائل نقلها مائتين وكذا في البقر ولعله من خطأ النسّاخ وارتكاز المائتين في الذهن.
2- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1.
3- وسائل الشيعة: 29/195، الباب السابق، ح4.
4- وسائل الشيعة: 29/194، الباب السابق، ح2.

ولم ترد الستة مجتمعة في رواية واحدة لكنها وردت موزعة في الروايات، قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((واعلم أن هذه الخصال الستة وإن لم يشتمل على تمامها رواية في ما أجده، إلا أنها مستفادة من الجمع بين روايات المسألة بعد ضم بعضها إلى بعض مع تضمن جملة منها خمسة ما عدا الحلّة))(1).

أقول: وهذا يفتح باب النقاش في بعضها كالحلل؛ لذا قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) عن أخبار الباب: ((هذه الأخبار مع عدم صراحة شيء منها في المطلوب، بل دلالة بعضها على بعض المطلوب وأنه الدية)) وقال: ((وبالجملة، مانعرف دليل هذه الأحكام، كأنه إجماع أو نص ما اطلعنا عليه، الله يعلم وهو المستعان))(2).

أقول: أجاب جملة من الأعلام عن تشكيكه (قدس سره) بشكل غير مباشر كصاحب الرياض في كلمته السابقة وردَّ عليه صريحاً صاحب مفتاح الكرامة(3)، وأجاب صاحب الجواهر (قدس سره)

ص: 12


1- رياض المسائل: 16/349، ط. مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
2- مجمع الفائدة والبرهان، للمحقق أحمد المقدس الأردبيلي: 14/312. ط. جماعة المدرسين- قم.
3- مفتاح الكرامة: 21/155، ط. دار التراث.

بما ذكرناه وقال: ((فوسوسة بعض متأخري المتأخرين في ذلك في غير محلها))(1).

أقول: يمكن أن يكون مقصود المحقق الأردبيلي (قدس سره) أن الدليل ليس تاماً على جميعها لعدم تماميته في بعضها كالحلل، ولعله (قدس سره) أراد أنه لم يثبت أن كل هذه الأصناف المذكورة في الروايات هي الدية وإنما بعضها بدائل بالقيمة وربما استشعر ذلك من اختلاف مقاديرها بل والتصريح في بعضها بأنها قيمة للإبل كما سيأتي إن شاء الله، ورواية أبي بصير قال: (دية الرجل مائة من الإبل, فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك, وإن لم يكن فألف كبش, هذا في العمد, وفي الخطأ مثل العمد ألف شاة مخلّطة)(2)، ولعل قوله: ((بل دلالة بعضها على بعض المطلوب وأنه الدية)) يشير إلى هذا المعنى، أي أن بعض الأصناف هيالدية والبقية عوض عن قيمتها، وخصّها في فقه الرضا بثلاثة، قال: (والديه في النفس ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو مائة من الإبل على حسب أهل الدية إن كانوا من أهل العين ألف دينار وإن كانوا من أهل الورق فعشرة آلاف درهم وإن كانوا من أهل

ص: 13


1- جواهر الكلام، للشيخ محمد حسن النجفي: 43/12، ط. دار الكتب الإسلامية.
2- تهذيب الأحكام: 10/161، ط. دار الكتب الإسلامية.

الإبل فمائة من الإبل)(1).

ولم أجد من دافع عن المقدس الأردبيلي (قدس سره) بمثل هذا.

ويظهر من بعض الأخبار أن دية القتل كانت في بداية تشريعها مائة من الإبل، وأن أول من وضع هذه الدية على القتل عبد المطلب جد النبي (صلى الله عليه وآله) وأمضاها الله تعالى في الإسلام، فقد روى الشيخ الصدوق في الفقيه والخصال بأسانيده عن جعفر بن محمد عن آبائه - في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)- قال: (يا علي إن عبد المطلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام - إلى أن قال: - وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله ذلك في الإسلام)(2).

ولعل عبد المطلب -وهو سيد قريش والأبطح- جعل هذه السنة لتغليظ العقوبة على من يسفك الدماء أو أنه فهم أن حكم الله تعالى في الدية ذلك بعد حادثة فداء عبد الله والد النبي (صلى

ص: 14


1- فقه الرضا: 312، ط. مؤسسة إحياء التراث.
2- وسائل الشيعة: 29/198، الباب السابق، ح14. رواها الصدوق في من لا يحضره الفقيه: 4/352، وبسند آخر في العيون: 2/189، وفي الخصال:312 بسند آخر. ورواها الشيخ الطبرسي في مكارم الأخلاق: 442، الطبعة السادسة 1392 هج-- 1972 م.

الله عليه وآله) بمائة من الإبل بالقرعة-والقرعة لكل أمرٍ مشكل- هذه الحادثة التي وصفها الشيخ المفيد بأنها ((قصة مشهورة يعرفها أهل السير))(1).

أقول: اشتهر قول النبي (صلى الله عليه وآله): (أنا ابن الذبيحين) وهما جده إسماعيل (عليه السلام) وأبوه عبد الله (عليه السلام) وروى الشيخ الصدوق في وجه ذلك عن ابن فضال قال: (سألت الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا ابن الذبيحين، قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وعبد الله بن عبد المطلب)(2)

وبيّن فيها كيف افتدى عبد المطلب ولده من الذبح بأن اقترع بين عبد الله وعشرة من الإبل فخرجت القرعة على عبد الله فجعلها عشرين فخرجت على عبد الله فزادها إلى أن وصلت مائة فخرجت على الإبل فأعادها ثلاث مرات ليطمئن فخرجت جميعاً على الإبل فنحر عبد المطلب مائة من الإبل وأطعم الناس.

هكذا كانت الدية في أول الإسلام مائة من الإبل، ثم عيّن

ص: 15


1- بحار الأنوار: 36/48 عن الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 32-37.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1/189، باب 18، ح1، ط. مؤسسة الأعلمي.

الشارع المقدّس أجناساً أخرى يمكن أداء الدية منها لتمكين(1)

الجاني من إبراء ذمته ولوحظ فيها مقاربتها لقيمة الإبل.والمشهور أن الجاني مخيَّر بين هذه الأصناف بل حكي الإجماع عليه تسهيلاً على الجاني لامتثال الأمر وتسليم الدية إلى أهلها لأنها تمثّل أصول الثروة المالية المتعارفة وقد يوجد عنده صنف منها ولا يوجد آخر.

قال السيد الخوئي (قدس سره) في تكملة المنهاج: ((يتخير الجاني بين الأصناف المذكورة، فله اختيار أي صنف شاء وإن كان أقلها قيمة، وهو عشرة آلاف درهم أو مائتا حلة في زماننا هذا،

ص: 16


1- هذا التعبير أدق من تعبير السيد الخوئي (قدس سره) بأن التخيير بين الأصناف هو للإرفاق بالجاني (الموسوعة: 42/231) وكذا غيره (قراءات فقهية معاصرة: 1/183)؛ لتعلّق حق ذوي المجني عليه بهذه الدية فالإرفاق بالجاني يلازمه إجحاف بهم ويعتبرون أحياناً التساهل معه إهانة لهم وتقليل من شأن قتيلهم كما يحصل في بعض الجلسات العشائرية اليوم ما يستفز ذوي المجني عليه ويوغر صدورهم. والوارد في الروايات مراعاة مصلحة ولي الدم ففي رواية الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (فقلت له: أرأيت من كان اليوم من أهل البوادي ما الذي يؤخذ منهم في الدية اليوم إبلٌ أو ورق؟ فقال: الإبل اليوم مثل الورق بل هي أفضل من الورق في الدية) (الكافي: 7/329، من لا يحضره الفقيه: 4/104، تهذيب الأحكام: 10/254، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار: 4/288).

وليس لوليّ المقتول إجباره على صنف خاص من الأصناف المذكورة))(1) وعلّق عليه: ((من دون خلاف بينالفقهاء، وتدل عليه عدة روايات تقدم بعضها. وما دلّ على الترتيب قد عرفت حاله)) وحكى في موضع آخر ((عن بعضٍ دعوى الإجماع عليه))(2).

أقول: نفي الخلاف في المسألة غير دقيق لوجوده من عدة جهات:-

1- ذهاب بعض أساطين المتقدمين كالشيخين وغيرهما إلى أن هذه الأصناف على التنويع بحسب الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها الجاني فيدفع أهل البوادي من الإبل وأهل القرى والأرياف من البقر والغنم وأهل التجارة من الدينار والدرهم، واستظهره من بعض الروايات، فيجب على الجاني أن يدفع مما يقتضيه صنفه إلا أن لا يوجد عنده فيتراضى مع ولي الدم على صنف آخر أو القيمة.

2- ما ذهب إليه عدد من الفقهاء من أن بعض هذه الأصناف أصل كالإبل والدنانير وبعضها بدل مشروط بعدم وجود الأصل، فالجاني مخيَّر بين أصناف الأصول لا مطلقاً إلا مع

ص: 17


1- مباني تكملة المنهاج من موسوعة السيد الخوئي: 42/235، 242. مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ، 1422 هج-.
2- المصدر السابق، 230.

عدم وجدانها.

3- ما نحتمله وعقدنا هذا البحث من أجله وهو عدم الاجتزاء بدفع الصنف الذي تقلّ قيمته السوقية عن الأصناف الأخرى بشكل غير متعارف.

4-إن عدة روايات ذكرت أعداداً غير هذه كاثني عشر ألف درهم وعشرين شاة لكل بعير بدل عشرة ومائة وعشرين درهماً لكل بعير بدل مائة، وغير هذا من محاور الخلاف مما يدعو إلى البحث والتحقيق خلال المطالب والفروع الآتية.

قراءة عامة في منظومة الروايات:

الذي يقتضيه النظر في مجموعة الروايات الواردة في المسألة أن الدية كانت في بداية التشريع مائة من الإبل كما في رواية الصدوق السابقة، وتشهد لها صحيحة جميل قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: الدية مائة من الإبل)(1)

وفي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أحدهما (عليهما السلام) نفي جعل أي صنف آخر بإزائها، قال (عليه السلام): (هي مائة من الإبل وليس فيها دنانير ولا دراهم ولا غير ذلك)(2).

ص: 18


1- وسائل الشيعة: 29/195، أبواب ديات النفس، باب 1، ح5.
2- وسائل الشيعة: 29/201، أبواب ديات النفس، باب 2، ح7.

ثم لمّا أصبح للمسلمين دولة مدنية متحضرة واقتصاد قائم على التجارة والأموال النقدية جُعل صنفٌ آخر تتأدى به الدية مضافاً للإبل وهو ألف دينار من الذهب وعشرة آلاف درهم مراعياً المناسبة بالقيمة مع مائة من الإبل حيث قدرت قيمة البعير الواحد بعشرة دنانير كمعدل؛ لذا نسب الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج هذا التوسيع إلى أمير المؤمنين(1) (عليه السلام).وكذا في رواية(2) الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر (عليه

ص: 19


1- ومن العامة مَن ينسبه إلى عمر بن الخطاب إذ روى الشعبي, أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت: فقوّمَ على أهل الذهب ألف دينار, وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً وعلى أهل البقر مائتي بقرة (سنن أبي داوود: 2/387، ح 4541، ط. دار الفكر) وحسّنه الألباني في (إرواء الغليل: 7/305، ط. المكتب الإسلامي، 1985). ولا يبعد أنه فعل ذلك بمشورة أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في قضايا كثيرة أخرى من شؤون الدولة الإسلامية، ثم نسب الناس ذلك إليه، ومن المتوقع أنه حصلت حاجة لهذا التقنين في زمان عمر للتغيرات الاقتصادية التي حصلت لمجموع الدولة.
2- وصفها صاحب الجواهر بالصحيحة (جواهر الكلام: 43/8) وكذا بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) في عدة مواضع من بحثه في (قراءات فقهية معاصرة) وسندها كذلك إلا من جهة الحكم بن عتيبة (عيينة) فإنه من فقهاء العامة بحسب ابن فضال وعدّه الكشي والشيخ في رجاله من البترية، وإن روت بعض مصادر العامة أنه كان يتشيع ويفضّل علياً على الأولين، إلا أن الذهبي نفى ذلك (سير أعلام النبلاء: 5/209، ط. التاسعة، مؤسسة الرسالة- بيروت) فالحكم لم تثبت وثاقته بل رويت عدة أحاديث في ذمّه وانحرافه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (راجع رجال الكشي ومعجم رجال الحديث: 7/182) إلا أن المحدّث النوري وثّقه باعتبار رواية الأجلّة عنه (خاتمة مستدرك الوسائل: 1/133، ط. مؤسسة آل البيت) وهو طريق غير كافٍ للتوثيق خصوصاً مع ما ورد في بعض روايات الكشي أن الإمام الصادق (عليه السلام) شهد بكذبه على أبي جعفر (عليه السلام)، ولعل هذه الشهادة صدرت تقية لأن راويها وهو زرارة قال لما خرج من الإمام (عليه السلام): (ما أرى الحكم كذب على أبيه) وتدل بعض الروايات على أن الإمامين السجاد والباقر (عليهما السلام) كانا ينفتحان عليه بالخصوصيات فقد روى الحكم حديثاً عن الإمام السجاد (عليه السلام) في باب (أن الأئمة عليهم السلام محدَّثون مفهَّمون) (الكافي: 1/270) وفي نفس الباب روى عبيد بن زرارة قال: (أرسل أبو جعفر عليه السلام إلى زرارة أن يعلم الحكم بن عتيبة أن أوصياء محمد عليه السلام محدَّثون)، ونقل النجاشي إكرام الإمام الباقر (عليه السلام) له فقد روى بسنده عن عذافر الصيرفي قال: (كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليه السلام له مكرماً، فاختلفا في شيء فقال أبو جعفر عليه السلام: يا بني، قم فأخرِجْ كتاب علي، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً وفتحه (ففتحه) وجعل ينظر حتى أخرج المسألة. فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا خط علي عليه السلام وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله. وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد، اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل عليه السلام) (رجال النجاشي: 360، ترجمة محمد بن عُذافر، رقم 966، ط. جماعة المدرسين). وروى الكشي بسند صحيح عن زرارة أن الإمام الباقر (عليه السلام) حمّله رسالة إلى أخيه حمران ورد فيها (لِمَ حدّثت الحكم بن عيينة عني أن الأوصياء محدّثون/ لا تحدثونه وأشباهه بمثل هذا الحديث) (معجم رجال الحديث: 7/271، ترجمة حمران بن أعين). أقول: على أي حال فإن هذه القرائن لا ترقى برواية الحكم إلى مستوى الصحيحة فإن الحكم ليس إمامياً.

ص: 20

السلام) في حديث قال: (فقلت: إن الديات إنما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل والبقر والغنم، قال: فقال: إنما كان ذلك في البوادي قبل الإسلام، فلما ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسمها أمير المؤمنين عليه السلام على الورق.قال الحكم: قلت: أرأيت من كان اليوم من أهل البوادي، ما الذي يؤخذ منهم في الدية اليوم؟ إبل؟ أو ورق؟ فقال: الإبل اليوم مثل الورق، بل هي أفضل من الورق في الدية، إنهم كانوا يأخذون منهم في دية الخطأ مائة من الإبل يحسب لكل بعير مائة درهم فذلك عشرة آلاف، قلت له: فما أسنان المائة بعير؟ فقال: ما حال عليه الحول ذكرانٌ كلها)(1) .

فهذه التوسعة إلى الأصناف الأخرى إجراءٌ حكومي قام

ص: 21


1- وسائل الشيعة: 29/201، أبواب ديات النفس، باب 2، ح 8.

به ولي الأمر في الدولة الإسلامية بل صرّحت بذلك رواية ظريف بن ناصح في كتابه في الديات المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الكتاب عُرض (على أبي عبد الله عليه السلام قال: أفتى أمير المؤمنين عليه السلام فكتب الناس فُتياه وكتب به أمير المؤمنين إلى أمرائه ورؤوس أجناده)(1).

وقد وردت الروايات المعتبرة في صحة هذا الكتاب، ففي صحيحة يونس وابن فضال قالا: (عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: هو صحيح)(2).

وقد ذكرنا(3) نظير هذا التحوّل في اعتبار المد وزناً مع أنه كيل بحسب الأصل لكن الدقة في التبادلات التجارية وتمدّن المجتمع اقتضى هذا التحوّل بأمر الشارع المقدس.ولعل بعض الشواهد تشير إلى احتمال أن هذه التوسعة في بعض أصناف الدية حصلت في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ودى قتلى بني جذيمة بالمال كما تصرّح به بعض

ص: 22


1- الكافي: 7/330، باب 208، ح2.
2- الكافي: الموضع السابق، ح1.
3- راجع: فقه الخلاف: 2/207,ط.الأولى.

السير(1)، ولعل رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم) ودى قتلى بني جذيمة بالإبل وعوّضهم عن الممتلكات التالفة بالمال، حين فتك

ص: 23


1- ذكر ابن كثير نقلاً عن سيرة ابن إسحاق: (قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً. ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد. فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكُتِّفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه ليدي ميلغة الكلب! حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات. ...) السيرة النبوية لأبي الفداء إسماعيل بن كثير: 3/591-593، ط. 1976 ، دار المعرفة بيروت.

بهم خالد بن الوليد بعد إعلان إسلامهم فأرسل علياً ليدفع ديات القتلى وتعويض ما تلف من ممتلكات حيث جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موضعاً خاصاً لإبل الصدقة خارج المدينة، ففي معتبرة أبي صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في أبواب حد المحارب إلى أن قال: (فبعث -النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها فلما برئوا واشتدوا) إلى آخر الحديث(1). مما يرجّح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل من اتخذ بيتاً للمال في الإسلام حيث اتسعت واردات الدولة الإسلامية بعد غزوة خيبر خلافاً للرأي النافي لذلك، وإلا فمن أين جاء بالمال الذي ودى به بني جذيمة أو الهدايا والجوائز التي كان يصل بها الوفود الزائرة.

ولا ينافي هذا الجعل ما ورد في صحيحة زرارة من قوله (عليه السلام) في الدية: (هي مائة من الإبل وليس فيها دنانير ولا دراهم ولا غير ذلك)(2) للقطعبإجزاء دفع الدنانير ولعل المراد أن الدنانير لم تكن الأصل في تشريع الدية وإنما الإبل ثم جعلت الدنانير بقيمة الإبل المتعارفة لتمكين الجاني من الأداء.

فمقدار الدية في بداية التشريع كان مائة من الإبل ثم

ص: 24


1- وسائل الشيعة: 28/310، أبواب حد المحارب، باب 1، ح7.
2- وسائل الشيعة: 29/195، أبواب ديات النفس، باب 1، ح6.

توسّعت إلى ألف دينار الذي هو مثقال شرعي ذهباً، ثم عودل الدينار بالدراهم (سعر الصرف الأصلي عشرة دراهم لكل(1) دينار) مراعاة لوضع أهل المدن والأمصار، وعودلت الإبل بالبقر والغنم بحسب القيمة المتعارفة في السوق مراعاة لأهل الأرياف، وقد صرّحت بذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، ولوحظ في هذه المعادلة قيمة الأصناف بمعدل السعر المتعارف، فكان معدل سعر الشاة ديناراً أو عشرة دراهم -كما في رواية عروة البارقي(2) المعروفة في المكاسب- ومعدل سعر البعير عشرة دنانير.

ص: 25


1- هذا بحسب القيمة أما من حيث الوزن فإن كل سبعة دنانير تساوي وزن عشرة دراهم فالدينار يساوي 10 \ 7 أي 1 و 3 \ 7 درهم وزناً، وتقدم أن وزن الدينار يساوي 3.45 غرام ووزن الدرهم يساوي: 2.415 فالنسبة بينهما من حيث الوزن 3.45 \ 2.415 = 10 \ 7 أي أن قيمة غرام من الذهب يومئذٍ تساوي 7 مرات قيمة غرام من الفضة.
2- روى الأحسائي في عوالي اللئالي: 3/205 عن عروة بن الجعد البارقي (أن النبي صلى الله عليه وآله أعطاه ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع أحداهما بدينار في الطريق. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله بالدينار والشاة، فأخبرته، فقال عليه السلام: بارك الله لك في صفقة يمينك) ورويت في سنن الترمذي: 3، كتاب البيوع، باب 34، ح 1258، ورواه في مستدرك الوسائل: 13/245، كتاب التجارة، باب 18 من أبواب عقد البيع وشروطه، حديث 1، نقلاً عن ثاقب المناقب لأبي جعفر محمد بن على الطوسي.

والظاهر أن هذه الأصناف لها قيمة مرجعية أو معيارية بحسب المصطلح ترجع إليها بقية الأصناف وتقاس عليها وتكون معياراً لها في الإجزاء وعدمه، بحيث تكون مقاربة لها ولا تختلف عنها بشكل كبير لا يتسامح به العرف والعقلاء، وهي الإبل والدنانير؛ لأنها القدر المتيقن من النقد المقطوع إجزاء الدفع منه، والذي دعانا إلى اعتبار هذه القيمة المعيارية عدة أمور، منها:-

1- إن أصل التشريع كان هكذا فالدية كانت مائة من الإبل ثم توسّعت الدية إلى ما يساويها من الدنانير فكانت ألف دينار بلحاظ النقلة الحضارية والمدنية التي حصلت للمجتمع الإسلامي فوردت مثل صحيحة جميل في الدية قال: (ألف دينار أو عشرة آلاف درهم)(1) وصحيحة الحلبي (الدية عشرة آلاف درهم أو ألف دينار)(2)

فكان الدينار معياراً لمعادلة الدراهم كقوله (عليه السلام): (قيمة الدينار عشرة دراهم)(3)، وإن الدراهم لوحظ فيها أن كل عشرة بدينار فرجع الأمر إلى الدنانير، ثم فصلت عليها الأصناف الأخرى بما يعادل قيمتها.2- إن الدينار ثابت لم يتغير لعدة قرائن، فقد ذكر علماء الفريقين

ص: 26


1- وسائل الشيعة: 29/195، أبواب ديات النفس، باب 1، ح4، 5.
2- وسائل الشيعة: 29/195، أبواب ديات النفس، باب 1، ح4، 5.
3- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1، 8، باب 2، ح1.

((أن الدنانير لم يختلف المثقال منها في جاهلية ولا إسلام))(1)

بينما تغيرت الدراهم فبعد أن كانت نوعين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): بغلية زنة الدرهم ثمانية دوانيق، وطبرية زنة الدرهم أربعة دوانيق، توحدت في زمان عبد الملك بن مروان على معدلهما وهو ستة دوانيق. وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، وإن كانت الشواهد تشير إلى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أول من أمر بضرب السكة الإسلامية في خلافته ثم أُكمل الأمر في زمن عبد الملك بن مروان(2).

وهنا يوجد غموض فإن روايات المسألة ذكرت أن الدينار عشرة دراهم في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا ندري من أي النوعين البغلية أو الطبرية والأول ضعف الثاني فلا بد أن تختلف النسبة، ثم بقيت النسبة محفوظة بعد أن أصبح وزن الدرهم ستة دوانيق كما في الروايات عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) فكيف يتم هذا؟ والأمر في الزكاة هيّن لأنه يخرج خمسة

ص: 27


1- الحدائق الناضرة: 12/90.
2- قواعد الحديث، للسيد محيي الدين الغريفي: 3/9 عن دائرة المعارف البريطانية: 904، ط. 23 كما في أعيان الشيعة: 3/599 نقلاً عن رسالة غاية التعديل في الأوزان والمكاييل وقد عُثر على أحد هذه الدراهم في متاحف فرنسا.

دراهم من نفس المائتي درهم التي عنده، لكن الأمر في الدية مشكل، ونحن نوكل علمه إلى أهله والملخّص أن الدينار ثابت عكس الدرهم.3- الموجود في الروايات الآتية أن عدد البقر والغنم يقاس بلحاظ الإبل فورد فيها عشرة من الغنم لكل بعير أو عشرين، ومن البقر بقيمة ذلك، وأن الدراهم تقاس بلحاظ الدنانير فيقال عشرة دراهم بدينار أو سبعة أو اثنا عشر بدينار ولم نجد العكس وإن كانا متلازمين لأن صعود قيمة الدرهم يعني نزول قيمة الدينار إلا أنه لا يقال تغيرت قيمة الدينار، فالإبل والدنانير هما المرجعان لتقييم بقية الأصناف.

4- إن عدد الغنم والدراهم طرأ عليها تغيير فورد عشرة وعشرين من الغنم بدل البعير ومائة ومائة وعشرين درهماً للبعير وعشرة آلاف واثنا عشر ألف درهم للألف دينار بينما بقي عدد الإبل والدنانير ثابتاً.

5- إشارات في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) في رواية الحكم بن عتيبة: (الإبل اليوم مثل الورق، بل هي أفضل من الورق في الدية) فالتقديم للإبل؛ حتى مع كون عدد الدراهم مثل قيمة مائة من الإبل.

وهكذا الروايات المعتبرة التي استفاد منها القدماء الترتيب

ص: 28

بين أصناف الدية كصحيحة معاوية بن وهب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دية العمد، قال: مائة من فحولة الإبل المسان فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم)(1) ومثلها معتبرة أبي بصير الآتية وغيرها، ونحن حملنا (فإن لم يكن) على ((فإن لم يدفع من الإبل)) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد صرّحت عدة روايات بمراعاة هذه القيمة المعيارية أو المرجعية عند أداء الدية، ففي صحيحة الحلبي وعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: (وإن كان في أرض فيها الدنانير فألف دينار، وإن كان في أرض فيها الإبل فمائة من الإبل، وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب ذلك اثنا عشر ألفاً)(2).

وفي رواية أبي بصير قال: (دية الرجل مائة من الإبل، فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك فإن لم يكن فألف كبش)(3).

وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وقيمة كل بعير مائة وعشرون درهماً، أو عشرة دنانير،

ص: 29


1- وسائل الشيعة: 29/200، أبواب ديات النفس, باب2، ح2.
2- وسائل الشيعة: 29/196، أبواب ديات النفس, باب1، ح9، ح12.
3- وسائل الشيعة: 29/196، أبواب ديات النفس, باب1، ح9، ح12.

ومن الغنم قيمة كل ناب -وهي المسنّة- من الإبل عشرون شاة)(1).

وفي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (فإنْ قبِل أصحاب العمد الدية، كم لهم؟ قال: مائة من الإبل، إلا أن يصطلحوا على مال أو ما شاؤوا ذلك)(2).

وفي صحيحة معاوية قال: (سألت أبا عبد الله عن دية العمد فقال: مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم)(3).وفي رواية الحكم بن عتيبة المتقدمة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الإبل اليوم مثل الورق بل هي أفضل من الورق في الدية) وفي صحيحة ابن الحجاج المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وقيمة الدينار عشرة دراهم).

وإنما حصل التأكيد على القيمة المعادلة للأصناف؛ لأن سعر السوق كان يتغير تغيراً كبيراً أحياناً لا يتسامح به العرف كالذي ورد في رواية عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال: (سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورقاً في حوائجه، وهو يوم قبضت سبعة

ص: 30


1- وسائل الشيعة: 29/199، أبواب ديات النفس، باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة:29/201، الباب السابق، ح7.
3- وسائل الشيعة: 29/200، الباب السابق، ح2.

وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه، ثم يتغير السعر قبل أن يحتسبا حتى صارت الورق اثني عشر بدينار، هل يصلح ذلك له، وإنما هي بالسعر الأول حين قبض كانت سبعة وسبعة ونصف بدينار؟ قال: إذا وقع إليه الورق بقدر الدنانير فلا يضره كيف كان الصروف فلا بأس)(1).

وتجد روايات كثيرة في أبواب بيع الصرف صريحة بتغير قيمة العملة لذا تشترط تعيين سعر الصرف حين العقد في المعاملات كتحويل ما في الذمة من نقد إلى آخر(2).ويظهر من بعض الروايات أن التغير يكون سريعاً أحياناً بحيث يتغير أثناء إجراءات المعاملة والتسلم والتسليم كما في موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير، أيُّ السعرين أحسب له، الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي الذي أحاسبه؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها

ص: 31


1- وسائل الشيعة: 18/183، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب9، ح1.
2- وسائل الشيعة: 18/174، أبواب الصرف، باب 4.

عنه)(1).

كما ينبغي الالتفات إلى أن الدراهم على أنواع ربما بحسب بلدة سكّها، وتختلف هذه الدراهم في قيمتها أيضاً وإن كانت واحدة وزناً فيباع بعض الدراهم ببعض مع فرق، فالألف من درهم الغلة تساوي ألفاً وخمسين من الدراهم البصرية والدمشقية(2)، وتوجد الدراهم المدنية والكوفية واليوسفية(3)، وفي رواية السعي بالإمام الكاظم (عليه السلام) لدى هارون العباسي أن الإمام اشترى أرضاً زراعية بثلاثين ألف درهم فلما سلمها إلى المشتري قال: أريد دراهم من النوع الفلاني فأرجعها الإمام وأعطاه من ذلك النوع.

لذا لم يكن ثابتاً أن سعر الدينار هو عشرة دراهم إلا أن يشترط عليه هذا النوع من الدراهم خاصة التي سعر صرفها عشرة ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (اشترى أبي أرضاً واشترط على صاحبها أن يعطيه ورقاً كل دينار بعشرة دراهم)(4).

ص: 32


1- وسائل الشيعة: 18/183، أبواب الصرف، باب 9، ح2.
2- وسائل الشيعة: 18/178، أبواب الصرف، باب 6، ح1، ح5.
3- وسائل الشيعة: 18/181، أبواب الصرف، باب 7، ح 1، ح3.
4- وسائل الشيعة: 18/181، أبواب الصرف، باب 7، ح2.

وفي ضوء هذا نفهم لماذا تغيّر عدد الدراهم في الدية حتى بلغ اثني عشر ألفاً بدل عشرة آلاف في صحيحة عبد الله بن سنان والحلبي(1)

ورواية عبيد بن زرارة وفي صحيحة عبد الله بن سنان قيمة التغير مائة وعشرون درهماً للبعير بدل مائة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الدية مائة من الإبل وقيمة كل بعير من الورق مائة وعشرون درهماً أو عشرة دنانير، ومن الغنم قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاةً)(2).

فالوجه الذي نرجحه له هنا أن هذا حصل نتيجة تغير القيمة حتى تبقى الدية محافظة على القيمة المعيارية أو المرجعية بحسب المصطلحات الحديثة والتي تمثلها يومذاك الإبل والدنانير، وإن جملة من الروايات صريحة في ذلك كقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي وعبد الله بن سنان: (وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب ذلك اثنا عشر ألفاً)(3)، ولعل هذا الاحتمال أقرب مما أورده الشيخ (قدس سره) وإن كان هو ومن روى عنهم أقرب إلى زمان صدور النص وأعرف بأحوال تلك الأزمنة قال (قدس سره): ((ذكر الحسين بن سعيدوأحمد بن

ص: 33


1- وسائل الشيعة: 29/196، أبواب ديات النفس، باب 1، ح9، ح10.
2- وسائل الشيعة: 29/194، الموضع السابق، ح3.
3- وسائل الشيعة: 29/197، أبواب ديات النفس، باب 1، ح9.

محمد بن عيسى معاً، أنه روى أصحابنا أن ذلك (يعني الاثني عشر ألف درهم من وزن ستة) وإذا كان كذلك فهو يرجع إلى عشرة آلاف، ويمكن أن تكون هذه الأخبار وردت للتقية لأن ذلك مذهب العامة))(1).

أقول: لا وجه للحمل على التقية بعد إمكان الجمع العرفي بما ذكرناه، وأما تفسيره بوزن ستة فإن فيه خلطاً بين نسبتين ملحوظتين بين الدينار والدرهم إحداهما بلحاظ القيمة وهي دينار لكل عشرة دراهم والأخرى بلحاظ الوزن وفيه كل عشرة دراهم تساوي وزن سبعة دنانير، والملحوظ في الدية الأول، وقرّب (قدس سره) الثاني مضافاً إلى عدم تصوّر كيف ساوى اثنا عشر ألف درهم وزن ستة عشرة آلاف من غيره سواء كان الغير وزن ثمانية أو أربعة، فالنسب متفاوتة كما هو واضح، وسنذكر (صفحة 53) أن كلامه (قدس سره) يؤول إلى ما نقوله من اشتراط مقاربة القيمة بين الأصناف.

ووافقه بعض الأعلام المعاصرين، قال (قدس سره): ((بحمل هذه الصحيحة -أي صحيحة عبد الله بن سنان- على الدراهم التي ضربت في الدولة الإسلامية فيما بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث كانت تضرب بوزن أقل من الفضة أي بوزن خمسة

ص: 34


1- وسائل الشيعة: 29/197، أبواب ديات النفس، باب 1، ح11.

دوانق بينما كانت تضرب قبل ذلك بوزن ستة دوانق والتي كانت كل عشرة منها تساوي سبعة مثاقيل شرعية. ومن هنا سمي ذلك الدرهم بوزن سبعة والآخر الأقل فضة سمّي بوزن ستة حيث إن كل عشرة منها كانت تساوي ستة مثاقيلشرعية تقريباً))(1). فالنتيجة بحسب تقريبه (قدس سره) أن اثني عشر ألف درهم وزن خمسة دوانيق تساوي عشرة آلاف درهم وزن ستة دوانيق.

ويرد عليه:-

1- لا يوجد في الدراهم وزن خمسة ولم يذكر في التأريخ فقد نقل المحقق البحراني (قدس سره) إجماع ((علماء الفريقين أنها كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سابقاً كما كان قبل زمانه بغلية وكان وزن الدرهم منها ثمانية دوانيق، وطبرية وزن الدرهم منها أربعة دوانيق، وهكذا بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زمن بني أمية، فجمعوا الدرهمين وقسموها نصفين كل درهم ستة دوانيق واستقر أمر الإسلام على ذلك))(2).

ص: 35


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/195، ط. الأولى، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، 1423 هج- - 2003م.
2- الحدائق الناضرة: 12/90, ط. مؤسسة النشر الإسلامي، جماعة المدرسين - قم.

أقول: ذكرنا في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) أن ذلك كان باستشارة من الإمام زين العابدين (عليه السلام) وإشراف من الإمام الباقر (عليه السلام) في عملية سك العملة بعد أن وقع عبد الملك بن مروان في حيرة من أمر ملك الروم.

نعم ورد ذكر الخمسة في رواية حبيب الخثعمي (أن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام سئل عن الخمسة في الزكاة من المائتين،كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله جعل في كل أربعين أوقية أوقية، فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة، وقد كانت وزن ستة كانت الدراهم خمسة دوانيق، فقال له عبد الله بن الحسن: من أين أخذت هذا؟ قال: قرأت في كتاب أمك فاطمة)(1).

أقول: الرواية ضعيفة سنداً ومبهمة مضموناً.

ونقل عن الشهيد في الذكرى قوله: ((والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام بالكسروية فحدث لها هذا الاسم في

ص: 36


1- وسائل الشيعة: 9/149، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 4، ح1.

الإسلام والوزن بحاله وجرت المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق، فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق))(1).

2- إن روايات عديدة واردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ذكرت أن الدية عشرة آلاف درهم فهذا الاختلاف في عدد الدراهم ليس ناشئاً من اختلاف عصر صدور النص بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الصادق (عليه السلام) وما يرافقه من نوع الدراهم كما أفاد (قدس سره).3- التفاوت ظاهر بين صدر كلامه (قدس سره) وذيله فإن النسبة بين درهمين وزن خمسة دوانيق وستة دوانيق لا تساوي النسبة بين ستة دراهم في الدينار وسبعة دراهم فهذه لا تؤدي إلى هذه كما قرّب (قدس سره).

4- النسبة بين الدينار والدرهم (تارة) تلحظ فيها القيمة فيساوي الدينار عشرة دراهم (وتارة) يلحظ فيها الوزن فيساوي الدينار 1 و 3 \7 درهم؛ لأن كل عشرة دراهم تساوي 7 دنانير وزناً، والملحوظ في الدية النسبة الأولى أي قيمة الدراهم، وتفسيره (قدس سره) مبني على النسبة الثانية أي وزن الدراهم.

ص: 37


1- ذكرى الشيعة- الشهيد الأول: 1/136.

وحمل الشيخ (قدس سره) هذا الاختلاف في عدد الغنم على وجهين قال (قدس سره): ((إنه إنما يلزم أهل البوادي دية الإبل فمن امتنع منهم من إعطاء الإبل جاز أن يؤخذ منهم مكان كل جمل عشرون شاة بالقيمة، والوجه الآخر: أن نحمله على عبدٍ قتل حراً فإنه يلزمه ذلك إذا أراد أولياؤه أن يعطوا عنه الدية))(1) ثم أورد رواية زيد الشحام(2) في عبدٍ قتل حراً وذُكر فيها هذا المعنى.وفيه: إن الوجه الأول مبني على تعين صنف الدية بحسب صنف مهنة الجاني أي أن الواجب في الدية هو تسليم الإبل وإنما اعتبرت الغنم قيمة بديلة عنها، وهو خلاف مشهور المتأخرين، فيعود الخلاف مبنائياً، وأما الثاني فلا موجب لحمل الروايات المطلقة المتقدمة على هذا المورد الخاص.

هذا وقد طرح السيد الخوئي (قدس سره) هذه الروايات المعتبرة التي فيها مضامين مخالفة للمشهور قال (قدس سره): ((بقي

ص: 38


1- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي محمد بن الحسن: 10/161، ذيل الحديث 644، ط. دار الكتب الإسلامية، الاستبصار: 4/260 ذيل الحديث 977، كتاب الديات، باب مقدار الدية. ط. دار الكتب الإسلامية.
2- وهو ما رواه الشيخ عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في العبد يقتل حراً عمداً قال: مائة من الإبل المسان، فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم) (تهذيب الأحكام، الموضع السابق).

هنا أمور:

الأول: أنه قد ورد في روايات ثلاث: أن قيمة كل بعير عشرون غنماً:

منها: صحيحة ابن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في حديث: (إن الدية مائة من الإبل، وقيمة كل بعير من الورق مائة وعشرون درهماً، أو عشرة دنانير، ومن الغنم قيمة كل ناب -وهي المسنة- من الإبل عشرون شاة).

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دية العمد، قال: (مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبلٌ فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم).

ومنها: معتبرة أبي بصير، قال: سألته عن دية العمد الذي يقتل الرجل عمداً، قال: (فقال: مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبلٌ فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم).أقول: هذه الروايات - مضافاً إلى أنه لا عامل بها وأن مضمونها مقطوع البطلان، حيث أنه ليس قيمة كل بعير عشرون شاة- معارضة بما دل على أن الدية ألف شاة، فتحمل على التقية لموافقتها للعامة على ما في المغني))(1).

أقول: صحيح أن هذا القول موجود عند العامة كما نقلنا في

ص: 39


1- مباني تكملة المنهاج، مصدر سابق: 232.

الهامش (صفحة 19) إلا أنه لا يبرر حمل الروايات على التقية؛ لأن ألسنتها تأباه، ولأن هذا الحمل فرع عدم وجود جمع عرفي وقد تحقق وجوده بما قلناه أو بما قاله الشيخ على الأقل. بل إن هذا الحمل بعيد في نفسه ((لأن تحديد قيمة البعير بالدرهم والدينار، أو بالغنم موضوع خارجي واضح عند السامع، أو قابل للاستيضاح، فلا يمكن أن يصدر فيه بيان من المعصوم على خلاف الواقع الذي كان جارياً في زمانه)).

وأضاف (قدس سره): ((فالحاصل: لو كانت الصحيحة وردت ابتداءً بعنوان (الدية اثنا عشر درهم وألفا شاة) أمكن صدورها تقية؛ وأما بهذا اللسان الذي هو لسان تحديد ما يعادل من الغنم كل ناب من الإبل - والذي لا تكون نتيجته ألفين، بل تضعيف الغنم في خصوص ما يلزم من الإبل كونه ناباً، وهو أربعون لا أكثر- فمما لا يحتمل فيه التقية، ولا معنى لها فيه))(1).أقول: لم يقل السيد الخوئي (قدس سره) ألفي شاة وإنما ذكر أن نتيجة هذا العدد تختلف عن الألف المروية وهي تتحقق بزيادة الغنم بإزاء بعض المائة أي الأربعين، وهذا في غير العمد، أما فيه فالإبل كلها من المسان.

ثم قال (قدس سره): ((الثاني: أن الظاهر من الروايتين

ص: 40


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/196-197.

الأخيرتين المتقدمتين - أي صحيحة معاوية بن وهب ومعتبرة أبي بصير- وإن كان هو الترتيب بين الإبل والشاة إلا أنه لا قائل به من الأصحاب، بل المتسالم عليه بينهم عدم اعتباره، ولأجل ذلك لا بد من طرحهما، لأنهما روايتان شاذتان)).

أقول: سيأتي في الفروع الآتية أن مشهور المتقدمين قائل بالتنويع فيجب على أهل البوادي إعطاء الإبل فإن لم يجدوا دفعوا من الغنم والدراهم بحسب قيمة الإبل، كما أن بعض الأصحاب ذهب إلى أن الإبل أصل وليس الغنم كذلك، وإن الغنم أشبه بأن يكون بدلاً عن قيمة الإبل فالترتيب معتبر عندهم على هذين الاحتمالين.

كما يمكن فهم الروايتين بما يوافق مراده (قدس سره) فتحمل على أن كل أصناف الدية أصل يمكن الدفع منه ولا ترتيب بينها لكن يجب أن يُراعى في عدد الغنم ما يقارب قيمة الإبل، فإذا روعيت أمكن التخيير بينها، وإلا فلا بد من المحافظة على المقاربة مع قيمة الإبل، فقوله (عليه السلام): (إن لم يكن إبل) أي إن لم يدفع الدية من الإبل فكذا - وهو معنىً احتمله صاحب الجواهر(1)

(قدس سره)-، وليس الترتيب هنا بمعنى عدم إجزاء الغنم إلا إذا لم تتوفر الإبل وهوالمعنى الذي نفاه السيد الخوئي (قدس سره)، ومع إمكان حمل الرواية على معنى مقبول فلا مسوِّغ لطرحها.

ص: 41


1- جواهر الكلام: 43/15.

ثم قال (قدس سره): ((الثالث: أنه قد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان: أن الدية إذا كانت من الدراهم كانت اثني عشر ألف درهم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من قتل مؤمناً متعمداً قيد منه، إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية، فإن رضوا بالدية وأحبّ ذلك القاتل فالدية اثنا عشر ألفاً) الحديث.

وفي صحيحة عبيد الله بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: الدية ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم) الحديث.

أقول: أنه لا بد من رفع اليد عنهما، فإنهما - مضافاً إلى عدم عامل بهما منا- محمولتان على التقية، لمعارضتهما بما دلّ على أنها إن كانت من الدراهم كانت عشرة آلاف درهم، وموافقتهما للعامة))(1).

أقول: لا وجه لطرح هذه الروايات المعتبرة بعد أن فهمنا وجه جعل الدية اثني عشر ألف درهم بدل عشرة آلاف، وعدم وجود وجه لحملها على التقية.

إلفات: قال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((أو عشرة آلاف على المشهور، ولكن لا يبعد أن تكون اثني عشر ألف

ص: 42


1- مباني تكملة المنهاج، مصدر سابق: 232-233.

درهم والاكتفاء بالأقل من ذلك لا بد أن يكون مع التراضي))(1).أقول: تقدم أكثر من وجه لورود اثني عشر ألف درهم في الروايات وأنه ذُكر مراعاةً للتغير في القيمة وأن الروايات التي ثبتت عدد الدراهم بعشرة آلاف كثيرة لا تقتصر على روايات بيان أصناف الدية وإنما في أبواب أخرى كصحيحة عبد الله بن سنان في دية المرأة قال (عليه السلام): (وإن شاؤوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم)(2). وفي دية العبد إذا قتله الحر قال (عليه السلام) في صحيحة ابن مسكان: (دية العبد قيمته، فإذا كان نفيساً فأفضل قيمته عشرة آلاف درهم، ولا يجاوز به دية الحر)(3)،

وما ورد في ديات الأعضاء وغيرها.

وحمل بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) جعل عشرين شاة بدل البعير ((من جهة أن ما حددته الروايات بعشرين شاة إنما هو في قبال كل ناب من الإبل، أي ناظرة إلى الدية المغلّظة التي يجب فيها الإبل المسان الكبيرة بخلاف دية الخطأ المحض التي يكتفى فيها بمطلق البعير أي ابن اللبون وبنت مخاض ونحوهما،

ص: 43


1- منهاج الصالحين، للشيخ الفياض: 3/389، كتاب الديات، المسألة (1152)، ط. الخامسة.
2- وسائل الشيعة: 29/206، أبواب ديات النفس، باب 5، ح2.
3- وسائل الشيعة: 29/207، أبواب ديات النفس، باب 6، ح2.

والفرق بينهما كبير في المالية. وسوف نرى أن روايات التحديد للغنم بأنه في قبال كل واحد من الإبل عشرون من الغنم كلها واردة في الدية المغلّظة، بل و مصرّحة بأنّ اللازم فيها الإبل المسان))(1).أقول: لا بد أن قوله (قدس سره): ((ناظرة إلى الدية المغلظة)) لا تختص بالعمد وإنما كل ما ورد فيه مسان الإبل لأن بعض الروايات كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وقيمة كل بعير مائة وعشرون درهماً، أو عشرة دنانير، ومن الغنم قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاة)(2) أطلقت هذا العدد ولم تقيّدها بالعمد ولا مسوِّغ لتقييدها.

كما أن بعض الروايات ذكرت ألف كبش في المغلظة وليس ألفين ربما لأن الكبش يعادل شاتين كصحيحة معلى أبي عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (ومن الشاة في المغلّظة ألف كبش إذا لم يكن إبل)(3)،

وفي رواية أبي بصير قال: (دية الرجل مائة من الإبل فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك، فإن لم يكن فألف

ص: 44


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/197.
2- وسائل الشيعة: 29/199، أبواب ديات النفس، باب 2، ح1.
3- وسائل الشيعة: 29/202، أبواب ديات النفس، باب 2، ح9.

كبش هذا في العمد)(1).

ومع ذلك يرد عليه:-

1- يلزم من كلامه (قدس سره) أن الإبل أصل والغنم ليس كذلك وإنما يدفع عدداً منها بقيمة الإبل، وهذا مخالف لمبناه في كونها كلها أصولاً ولمبناه في التخيير في ما بينها.

2- إن ما ذكره (قدس سره) يؤكد ما رجحناه من الرجوع إلى القيمة المعيارية للإبل في الدية، وإلا فإن الغنم من أصناف الدية والجاني مخيَّر في دفع أي منها،فيدفع ألف شاة، ولا يختار الإبل ثم يدفع ما يساويها بالقيمة من الغنم فتكون مضاعفة عليه، ولأن القيمة المعيارية هي الملحوظة نجد أن المضاعفة غير مطردة في البقية فعدد الدنانير لم يتغيَّر، وتغيّر قيمة الدراهم 20 بالمائة فقط وليس الضعف كما في الغنم.

وقد تلخّص من البحث إلى الآن أن دية القتل لوحظ فيها أن يكون لها قيمة معيارية وهي مائة من الإبل أو ألف دينار -وهو مثقال شرعي- من الذهب وتجزي عنها الأصناف الأخرى ما دامت مقاربة لها في القيمة، فالتخيير بين الأصناف الذي قال به المشهور مشروط بلحاظ المقاربة وليس مطلقاً.

ويمكن أن نلخّص الأدلة على اشتراط المقاربة بوجوه:-

ص: 45


1- وسائل الشيعة: 29/197، أبواب ديات النفس، باب 1، ح12.

1- تصريح الروايات المتقدمة (صفحة 28) بمراعاة القيمة عند اختيار الصنف الذي تؤدى به الدية وتغيّر مقادير بعضها في الروايات بحسب تغيّر القيمة السوقية لها كمائة وعشرين درهماً وعشرين من الغنم بدل البعير، فإذا كان تغييراً بمقدار السدس (بين مائة ومائة وعشرين، وبين عشرة آلاف واثني عشر ألفاً) وجب أخذه بنظر الاعتبار فكيف فيما لو بلغ أضعافاً عديدة كالفضة اليوم.

2- انصراف ما دلّ على التخيير بين الأصناف عمّا لو هبطت قيمة الصنف إلى مقدار غير متعارف بلحاظ الأصناف الأخرى كانصرافها عمّا لو سقطت عن المالية كلها لنفس النكتة. والشاهد على هذا الانصراف أن العرف لا يستطيع فهم وجه عقلائي مقبول لتردد الدية بين مقدارين أحدهما عشرة أضعاف الآخر في أخطر قضايا الدين وهي القتل.وبتعبير آخر: إن المقاربة بين قيم وأجناس الدية حين صدور حكم التوسعة أنشأ ارتكازاً متشرعياً بأن التخيير مبني على هذا الأساس وهذا الارتكاز يصلح لتقييد إطلاق روايات التخيير ولا يضرّ كونه لبّيّاً، فلو انتشر بين الناس وباء يمنع من أكل لحم البقر فكسد سوق لحومها ولم يمكن الاحتفاظ بالبقر إلى حين زواله فهبطت قيمة البقر إلى قيمة

ص: 46

الغنم أو أقل فإن العرف لا يفهم من روايات التخيير شموله للحالة، ولولي الدم أن يرفض تسليم الدية من البقر.

3- إن القول بإجزاء تسليم الدية من الصنف الذي نزلت قيمته إلى مقدار غير متعارف فيه نقض للغرض وهو التغليظ المعلوم في الشريعة على الجاني والتشديد في حرمة الدم وصيانته الذي أشرنا إليه في بداية البحث ومراعاة جانب أولياء الدم الذي أشرنا إليه في الهامش (صفحة 16).

4- إن ديات الأعضاء والجراحات مقدَّرة بالإبل والدنانير وحينئذٍ ستكون دية الإصبع الواحدة بالدنانير -وهي عشر دية كاملة- تساوي دية النفس إذا قرّر الجاني إعطاءها بالدراهم وهو كما ترى؟ اللهم إلا أن يقول بأن دية الأعضاء تلحظ بالنسبة فإذا قال في الإصبع الواحدة عشرة من الإبل-كما في صحيحة أبان- فله أن يعطي ألف درهم وهي نسبة العشر، وقد يرد عليه بأنه قياس واستحسان، وسيأتي مزيد بيان في الفرع الرابع بإذن الله تعالى.وقد تسأل بأنه لو اختلفت قيمة مائة من الإبل مع ألف دينار بشكل فاحش فما هي القيمة المعيارية؟ مع التسليم بأن الصنفين حافظا على المقاربة إلى اليوم.

ونجيب باحتمال أكثر من قول:-

ص: 47

1- إمكان دفع أي من الصنفين لأن كلاً منهما قيمة معيارية كما قدمنا.

2- دفع الدية من الإبل مطلقاً لأنها هي الأصل في التشريع والتأكيد عليها في الروايات.

لكن هذا قد ينافي بعض ملاكات اشتراط المقاربة في الأصناف الأخرى فالأقوى أن يكون الدفع من الصنف الذي بقيت قيمته متعارفة غير شاذة ولم يتعرض للصعود أو النزول الفاحش نتيجة بعض العوارض أو قانون العرض والطلب ونحو ذلك فإن أهل الاختصاص في مثل هذه الحالات يعلمون هل أن أ نقص أم أن ب زاد بنحو غير متعارف.

إن قلتَ: ورد في كتاب الزكاة ما يدل على أن الأصل فيها وفي الديات الدراهم فيكون دفع الدية بها مجزياً لأنها هي الأصل بغضّ النظر عن قيمتها ففي معتبرة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم قال: (قلت له: تسعون ومائة درهم وتسعة عشر ديناراً أعليها في الزكاة شيء؟ فقال: إذا اجتمع الذهب والفضة فبلغ ذلكمائتي درهم ففيها الزكاة؛ لأن عين المال الدراهم وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدراهم في

ص: 48

الزكاة والديات)(1).

قلتُ:-

إن هذه الرواية غير معمول بها لتصريح الروايات المعتبرة في باب الزكاة بأن بلوغ النصاب يلحظ في كل جنس على حدة ولا يركّب من جنسين كما في الرواية لذا حملت الرواية على التقية أو أُوّلت.

إن غاية ما تدل عليه الرواية أن الدراهم -باعتبارها العملة النقدية الرائجة- هي الأصل في تقييم مالية الأشياء وأن قيمة الأشياء حين المبادلة بينها تعرف بتوسيط العملة النقدية، فإن معادلة مائة من الإبل بمائتين من البقر أو ألف شاة لم تعرف إلا بعد أن عرفت قيمة كل منها بالدراهم ثم لوحظت النسبة بينها، وإليه يشير قوله (عليه السلام): (ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع عرض مردود إلى الدراهم).

أو يراد بقوله (عليه السلام) أن هذه الأعيان إنما تطلب لماليتها وهي مقدّرة بالدراهم فيمكن الاجتزاء بدفع الدراهم والعملة النقدية عموماً بدلاً عن أي عين تعلّقت

ص: 49


1- وسائل الشيعة: 9/139، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح7.

بها الزكاة والدية، وهو مطلب الاجتزاء بدفع القيمة الذي سنبحثه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ولعل الحديث ناظر إلى شيء آخر وهو تسليم الزكاة بالدراهم كما هي إلى الفقير وعدم جواز إعطائه أعياناً بقيمة الدراهم لأن استحقاق الفقير الدراهم وهي تمكنهمن شراء أي متاع يريده فتكون بمعنى رواية سعيد بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت يشتري الرجل من الزكاة الثياب والسويق والدقيق والبطيخ والعنب فيقسّمه؟ قال: لا يعطيهم إلا الدراهم كما أمر الله)(1).

فالحديث أجنبي عن كفاية دفع العدد المذكور من الدراهم في الدية مطلقاً وإن لم تبلغ ماليتها قيمة الأصناف الأخرى.

ومال إلى مراعاة هذه المقاربة التي رجّحنا اشتراطها في أصناف الدية السيد السبزواري (قدس سره) قال: ((ويمكن أن يقال: إن التخيير بين الأصول الستة حكم من الأحكام الأولية التي يتغير بواسطة عروض العناوين الخارجية، فإذا صار أحد الأطراف في حدّ الأقل جداً بالنظر إلى الأطراف الأخر بحسب المالية، أو تغيير الأزمنة والأعصار، يمكن أن يقال بخروج الأقل -الذي

ص: 50


1- وسائل الشيعة: 9/168، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 14، ح3.

اختاره القاتل- عن طرف التخيير، فيكون التخيير بين بقية الأطراف حينئذ، لأن لحاظ الخصوصيات الواردة في الروايات، وملاحظة زمان الشارع هو أن التفاوت بين هذه الأطراف كان يسيراً لا ما إذا كانت فاحشة، بحيث يصير اختيار الأقل بالنسبة إلى الأكثر بمنزلة الثمن أو العشر أو أقل منهما، والشك في شمول أدلة التخيير لمثل هذه الصورة يكفينا في عدم صحة التمسك بإطلاقاتها، فإن ذلك قد يوجب الجرأة على القتل، ويشهد لما ذكرنا ما ورد من الأصل في الدية مائة إبل،ولوحظت ماليتها بالنسبة إلى ما ورد من الأطراف، فلا بد من مراعاة هذه الجهة، ولكن الأحوط التصالح والتراضي. واللّه العالم بحقائق أحكامه))(1).

وكذا بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) فإنه بعد أن أورد الروايات التي تدل على أن الدية من الإبل حصراً كصحيحة جميل ومحمد بن مسلم وزرارة وغيرها التي تقدمت (صفحة 18) قال: ((لو كنا نحن وهذا الظهور فهو يقتضي عدم إجزاء غير المئة من الإبل في الدية أصلاً، وأنه لا بد من إعطائها بخصوصيتها وبعددها وماليتها إلا أنه لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور بما دل على أن الدية أعم منها وأنه يجزي أحد الأصناف الستة.

ص: 51


1- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، للسيد عبد الأعلى السبزواري: 29/75، ط. السادسة دار الإرشاد، 2015.

ولكن تلك الروايات المتعرضة للأصناف الستة بعنوان الدية إنما تقيّد الإطلاق أو الظهور المذكور بمقدارها لا أكثر، كما هو مقتضى صناعة التقييد والجمع بين الأدلة.

وعندئذٍ يقال: إن قصارى مفاد تلك الروايات المقيدة رفع اليد عن خصوصية مئة إبل في قبال أحد الأصناف الأخرى لا رفع اليد عن مقدار ماليتها أيضاً))(1).

أقول: للمناقشة في هذا التقريب مجال؛ لأنه يجعل الأصناف الأخرى مأخوذة على نحو الطريقية إلى قيمة الإبل وهو خلاف ظاهر الروايات بدليل جعل أعدادمحدّدة لتلك الأصناف فهي مأخوذة على نحو الموضوعية لكن مع مراعاة عدم البون الفاحش مع القيمة المعيارية، وسيأتي مزيد من البحث في الفروع الآتية إن شاء الله.

وقال أحد الأعلام المعاصرين: ((وإذا كانت القيمة مختلفة لا اختلافاً دون المتعارف، كفى كل واحد من الأعيان الستة بلا إشكال ولا خلاف.

أما إذا كانت الاختلافات دون المتعارف، كما إذا كانت مأة من الإبل تساوي مأة دينار لتنزل الإبل في القيمة السوقية يشكل القول بلزوم قبول الولي لها إذ الظاهر من الروايات المتقدمة أنها جعلت للتساوي قيمتها، خصوصاً ما دلّ على ألفي شاة واثني

ص: 52


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/189-190.

عشر ألف درهم، وأن كل حلة خمسة دنانير إلى غير ذلك فالتعدي عن ذلك إلى ما يتعارف من تصاعد القيمة وتنازلها لا بأس به لأن العرف لا يفهم الخصوصية في أمثاله، أما التعدي إلى ما لا يتعارف فهو خلاف متفاهم العرف الذي ألقي إليه الكلام))(1).

وقال (قدس سره): ((إذا كان أحد الستة بقيمة عادلة كان للقاتل والعاقلة أن يؤدي ذلك، وإن كان كلها في ارتفاع أو انخفاض خارقين لأمرٍ وقتي كان لهما الرجوع إلى قيمة عادلة لإحداها، ومنه يُعلم أنه ليس للقاتل والعاقلة أن يعطي ما انخفض قيمةً لعارض، مثلاً صارت قيمة عشرة آلاف درهم مساوية لمائة دينار لالارتفاع الدينار، بل لانخفاض الدرهم، لما عرفت من أنه خلاف المنصرف من النص والفتوى))(2).

ويمكن أن نقول: إن هذه المقاربة يؤول إليها كلام الشيخ الطوسي (قدس سره) المتقدم (صفحة 34) الذي حمل فيه روايات اثني عشر ألف درهماً على وزن للدراهم بحيث تساوي عشرة آلاف درهم من الوزن الرائج فإن معنى هذا الحمل مراعاة قيمة الأصل، وهو مراد القاضي ابن البراج أيضاً بقوله: ((فدية العمد المحض إذا كان القاتل من أصحاب الذهب ألف دينار جياد، وإن كان من أصحاب الفضة فعشرة آلاف درهم جياد، وإن

ص: 53


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 90/23.
2- الفقه: 90/19، المصدر السابق.

كان من أصحاب الإبل فمائة مسنة، قيمة كل واحد منها عشرة دنانير، أو مائتا مسنة من البقر إن كان من أصحاب البقر، قيمة كل واحدة منها خمسة دنانير، أو ألف شاة إن كان من أصحاب الغنم، قيمة كل واحدة منها دينار واحد، أو مائتا حلة إن كان من أصحاب الحلل، قيمة كل حلة خمسة دنانير))(1).

أقول: يريد (قدس سره) المقاربة في القيمة وليس المساواة الدقّيّة للقطع باختلاف القيم وتفاوتها ضمن المقدار المتعارف في زمن صدور النص فلا يقال: أن المساواة في القيمة إذا كانت مشترطة فلا اعتبار بالعدد لأن المهم انحفاظ القيمة؛ لأنه يقال: إن العدد منصوص فلا بد من المحافظة عليه لكن مع التقارب في القيمة بين الأصناف، وإلا فلا يكون مجزياً.ومنه يُعلم النظر في ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) عليه بقوله: ((وظاهره اعتبار التساوي في القيم، إلا أن النصوص عدا ما سمعت والفتاوى ومعقد الإجماع المحكي صريحه وظاهره على خلافه، بل إن كان الضابط اعتبار القيمة فلا مشاحة في العدد مع حفظ قدر القيمة وهي عشرة آلاف درهم أو ألف دينار، ضرورة كون المدار عليها لا عليه، وهو مما يمكن القطع بعدمه. ومن هنا

ص: 54


1- المهذب للقاضي ابن البراج: 2/457، ط. جماعة المدرسين - قم.

يتجه حمله على إرادة بيان الحكمة في شرعها ابتداءً وإلا كان واضح الفساد))(1).

أقول: حمل الأعداد المذكورة في الأصناف الأخرى التي عادلت مائة من الإبل على حكمة التوسعة في بداية التشريع فقط وعدم لزوم مراعاتها في كل زمان ومكان فلا مانع من اختلافها في القيمة: مخالف لصريح الروايات بأن المقاربة في القيمة مرعية في كل زمان ومكان بحسبهما كقوله (عليه السلام): (بقيمة ذلك) و (بحساب ذلك) ونحو ذلك، وإن العرف والعقلاء يفهمون استمراريتها كما في سائر أبواب الضمانات فيأبى التخيير بين أفراد تختلف بينها اختلافاً فاحشاً ولذا تضمنت الروايات أعداداً مختلفة أحياناً من بعض الأصناف، نعم لا عبرة بالقيم الاستثنائية التي تحصل بسبب حالات طارئة وإنما يرجع فيها إلى القيمة المتوسطة المتعارفة، وإنما استمر حكم التخيير بين الأصناف لأنها حافظت على هذه المقاربة إلى زماننا الحاضر عدا الحلل التي رخص ثمنها بدخول المكننةالصناعية، والدراهم لسقوط الفضة عن كونها معدناً نفيساً(2)،

وسيأتي مزيد من البيان في عدة مواضع من الأبحاث الآتية إن شاء

ص: 55


1- جواهر الكلام: 43/16.
2- سعر غرام الذهب اليوم (أيلول/2020) يساوي 63 مرة بقدر غرام الفضة بعد أن كانت النسبة 1 إلى 7 بحسب ما تقدم (صفحة 24).

الله تعالى.

وفي ضوء ما تقدم فإننا لا نوافق على إطلاق المشهور بتخيير الجاني بين الأصناف وإن هبطت القيمة بشكل فاحش غير عرفي كقول الشيخ (قدس سره) في المبسوط: ((فإذا لم يوجد -أي الجنس المتعين عليه- أخذ أحد الأجناس الأخر وسواء كانت بقيمة الإبل أو دونها أو فوقها))(1)، وقول السيد الخوئي (قدس سره) المتقدم (صفحة 16): ((فله -أي الجاني- اختيار أي صنف شاء وإن كان أقلها قيمة وهو عشرة آلاف درهم أو مائتا حلة في زماننا هذا))؛ فإن دفع الدية من الفضة والحلل -التي أشكلنا على كونها من أصناف الدية أصلاً في الأمر الأول الآتي- مشكل اليوم؛ لأمور:-

إن قيمتها تختلف اختلافاً فاحشاً عن القيمة المعيارية أو المرجعية التي شرحناها، وهو منافي لشرط المقاربة معها في القيمة الذي استظهرناه من الروايات.

وهذا الشرط هو المرتكز في أذهان العقلاء والعرف لعدم استيعابهم إجزاء أصناف من الدية التي هي ضمان لحق المجني عليه كسائر الضمانات المالية يدور أمرها بين أقل وأكثر يختلفان بشكل كبير.

ص: 56


1- المبسوط، للشيخ الطوسي: 7/118-119، ط. المكتبة الرضوية.

وهاتان القرينتان تقيّدان إطلاق الروايات الدالة على تخيير الجاني بينأصناف الدية وأنها منصرفة عن مثل هذه الحالة، بل تقيّدان قول المشهور بالتخيير أيضاً؛ لأنهم كلهم عاشوا في زمان كان الدرهم الفضي موجوداً مما يجعل القيم متقاربة، ومن اعترض على كلام القاضي المتقدم كصاحبي مفتاح الكرامة والجواهر نظرا إلى الحالة المتعارفة القائمة وليس إلى غيرها، ولو كانوا في زماننا لأعادوا النظر في ما قالوه.

إن الروايات صرّحت بأن الدراهم التي يجزي دفعها في الدية هي التي يساوي عشرة منها ديناراً كقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: (وقيمة الدينار عشرة دراهم)(1)، فإن تغيرت عن ذلك روعي فيها ذلك كقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان: (وإن كان في أرض فيها الدنانير فألف دينار، وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب ذلك اثنا عشر ألفاً)(2).

إن الفضة لم تعد معدناً يتنافس عليه العقلاء لانتفاء المنافع

ص: 57


1- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: 29/197، الباب السابق، ح9.

المهمة به كسكّ العملة بها واتخاذها زينة وادخاراً ونحو ذلك، فقيمتها لا تناسب تغليظ الشارع المقدس في حرمة الدم.

لا وجود اليوم للدنانير والدراهم المسكوكة التي هي من أصناف الدية، وإن المشهور اشترط كون الفضة مسكوكة بسكة المعاملة الرائجة بين الناس ليصدق عليه الدراهم فلا يجزي دفع وزنها من الفضة، وأن وزن الفضة اليوم بعيد جداً عن قيمة الدرهم زمن النص الذي كان يساوي عُشر دينار أي عشر مثقال من الذهب.إن قلتَ: لكننا نقبل بدفع وزن من الذهب الخالص غير المسكوك بدل الدينار الذهبي.

قلتُ: ذلك لأنهما متقاربان في القيمة وسببه أن الزيادة في قيمة المثقال الذهبي لما يصنع سكة للمعاملة فيزداد الطلب عليه تقابلها نقاوة الذهب الخالص غير المسكوك؛ لأن الدينار لما يضرب للسكة يضاف إلى كل مثقال حبّة أو حبّتان أو أكثر من معادن أخرى كالنحاس ليتصلب فهذا مقابل ذلك.

وسنبحث في الأمر السابع الآتي قضية اشتراط كون الدية من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية المسكوكة بسكة المعاملة

ص: 58

خاصة بحيث لا يجزي دفع وزنها ذهباً وفضة، وما نريد إن نقوله هنا: إن الفضة فقدت اليوم عنصر الجذب والمنافسة بعد تحوّل العملة إلى ورقية فنحن نلاحظ في الفضة أن تكون عملة لتكون مرغوبة ولها قيمة كبيرة تضاهي الأجناس الأخرى، وليس لاشتراط كون المدفوع في الدية من الدراهم المسكوكة، وهذا تفريق دقيق، وسنشير إليه في الفروع الآتية إن شاء الله تعالى.

وبتعبير آخر: إن دفع وزن الدراهم من الفضة غير المسكوكة إنما كان مجزياً في زمان صدور النص لأن قيمة الدرهم كانت تساوي قيمة ما في وزنه من فضة أو تقاربه، أما الفضة اليوم فبعيدة عن ذلك كثيراً، ويُعرف ذلك من نسبة قيمتها إلى الفضة يومئذٍ واليوم.ومال بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) إلى هذا القول، قال (قدس سره): ((إن مالية مئة من الإبل لا بد من حفظها في دفع أحد الأصناف الأخرى خصوصاً الدرهم))(1).

وقال (قدس سره): ((فالإنصاف أن اعتبار ذلك - أي مالية مائة من الإبل- خصوصاً في الدراهم إن لم يكن هو الأقوى فهو الأحوط الذي لا يمكن الخروج عنه))(2).

ص: 59


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/209.
2- قراءات فقهية معاصرة: 1/202.

فروع

بقيت عندنا عدة مطالب ينبغي البحث فيها نذكرها في الفروع التالية:

(الفرع الأول) في الدليل على كون الحلل من أصناف الدية.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((العمدة في كون مائتي حلة من أفراد الدية هو الإجماع والتسالم المقطوع به بين الأصحاب، وإلا فهو لم يرد إلا في صحيحة ابن أبي عمير عن جميل وصحيحة ابن الحجاج المتقدمتين، ولا يمكن إثبات ذلك بهما، فإن الأولى منهما موقوفة ولم يرو جميل ذلك عن الإمام (عليه السلام)، وأما الثانية فإن ابن الحجاج لم يرو ذلك عن الإمام، وإنما رواه عن ابن أبي ليلى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرسلاً، ولا عبرة بمسانيد ابن أبي ليلى فضلاً عن مراسيله.

نعم لا بأس بكون الصحيحتين مؤيدتين للحكم))(1).أقول: فتقريب الاستدلال بوجهين:

أولاً: الإجماع حيث حكاه في الرياض ومفتاح الكرامة والجواهر عن الغنية وظاهر المبسوط والسرائر والتحرير والمفاتيح قال صاحب الرياض (قدس سره): ((وهو الحجة دون

ص: 60


1- مباني تكملة المنهاج، مصدر سابق: 42/233.

الصحيح))(1) أي صحيحة ابن الحجاج الآتية.

ويمكن التشكيك فيه لعدم تعرّض جملة من القدماء للحلل مع بقية الأصناف كما في عبارة فقه الرضا الآتية (صفحة 81)، وقال ابن أبي عقيل: ((الدية في العمد والخطأ سواء، على أهل الورق عشرة آلاف قيمة كل عشرة دراهم دينار، أو على أهل العين ألف دينار، وعلى أهل الإبل والبقر والغنم من أي صنف كان قيمته عشرة آلاف درهم))(2). ونقلنا عن المحقق الأردبيلي (قدس سره) نفي علمه بكون الحلل من الدية، ويظهر من بعضهم أنهم قبلوا بالحلل باعتبار موافقة قيمتها للدنانير كما في عبارة القاضي ابن البراج المتقدمة، وروى في دعائم الإسلام: (قال جعفر بن محمد عليهما السلام: والدية على أهل الذهب ألف دينار) إلى أن قال: (وعلى أهل البزّ(3) مائة حلة قيمة كل حلة عشرة دنانير)(4)، ولذا نقل في مفتاح الكرامة عن العلامة في المختلف بعد أن حكى عن القاضي أن قيمة كلحلة خمسة دنانير

ص: 61


1- رياض المسائل: 16/345.
2- مختلف الشيعة: 9/288، مسألة (3)، ط. جماعة المدرسين.
3- البز: الثياب والقماش ويقال لبائعه: البزاز.
4- دعائم الإسلام، للقاضي النعمان المغربي: 2/412، ط. دار المعارف - مصر.

قوله: ((فإذا كان الضابط اعتبار القيمة فلا مشاحّة في العدد مع حفظ قدر القيمة وهي عشرة آلاف درهم أو ألف دينار))(1)

وظاهره أن الحلل ليست من أصناف الدية وإنما هي قيمة لها.

ومن هنا ينفتح باب التشكيك في الكبرى إذ أن اشتهار المائتين لا حجية فيه للظن إن لم يحصل القطع بأنه مدركي مستند إلى صحيحة ابن الحجاج أو أنه مبني على إجزاء الدفع بالقيمة فتجزي مائة حلة إن كانت قيمة الحلة عشرة دنانير كما عن الدعائم، وتجزي مائتا حلة إذا كان سعر الواحدة خمسة دنانير ليبيعها إن شاء ويحصل على ألف دينار، فالتسالم تسرّب إلينا من العامة بمساعدة الصحيحة وبملاحظة المطابقة في القيمة.

نعم يمكن تقريب حجية الإجماع بكبرى نقلها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والتزما بها حاصلها أن المدركية إنما تحتمل إذا كان مثل هذا المدرك قادراً على إنتاج مثل هذا الإجماع، أما إذا لم يكن كذلك فالمدركية غير محتملة كما في المقام إذ لا يمكن للرواية في المقام أن تنتج مثل هذا الإجماع والتسالم فنسأل حينئذٍ عن منشأ الحصة الزائدة من الإجماع عن المدرك

ص: 62


1- مفتاح الكرامة: 21/151، ط. دار التراث عن مختلف الشيعة، للعلامة الحلي: 9/430، ط. جماعة المدرسين - قم.

المدعى وليس هو إلا التعبد الكاشف عن حكم المعصوم (عليه السلام).خصوصاً وأن الرواية في جميع المصادر عدا بعض نسخ التهذيب ذكرت مائة حلة فمن أين أصبح معقد الإجماع مائتين؟.

لكن هذا التقريب يدفع احتمال مدركية الرواية أما مدركية مطابقة القيمة فلا يدفعها وهو احتمال وارد.

ثانياً: الروايات

وقد ورد ذكر الحلل في:-

1- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سمعت ابن أبي ليلى يقول: كانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وفرض على أهل الشاة ألف شاة ثنية، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل مائة(1)

حلة. قال عبد الرحمن بن الحجاج: فسألت أبا عبد الله عليه السلام عما روى ابن أبي ليلى فقال: كان عليّ عليه السلام يقول: الدية ألف دينار، وقيمة الدينار عشرة دراهم وعشرة

ص: 63


1- هذا هو المذكور في المصادر وهي الكتب الأربعة ومقنع الصدوق إلا أن صاحب الوسائل نقلها مائتين وكذا في البقر ولعله من خطأ النسّاخ وارتكاز المائتين في الذهن.

آلاف لأهل الأمصار، وعلى أهل البوادي مائة من الإبل، ولأهل السواد مائة بقرة، أو ألف شاة)(1).وهي صحيحة سنداً إلا أن الإشكال على الاستدلال بها من جهة أن إعراض الإمام (عليه السلام) عن ذكر الحلل مع ذكره للأصناف التي أوردها السائل ظاهر في عدم كونها منها ولا أقل من عدم تضمن الدليل ما يشير إلى كفاية الحلل.

إلا أن صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((وخلو كلام الصادق (عليه السلام) عن ذلك لا يدل على كذبه))(2) ولعل بيانه ما أورده بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) بقوله: ((إن مقصود الإمام (عليه السلام) إسناد الحكم المذكور الذي أرسله ابن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإمام علي (عليه السلام)، وأنه هو مصدر هذا الحكم إشعاراً بما يرتكبه هؤلاء من العناد في حق علي (عليه السلام) حتى في نقل الأحاديث والأحكام عنه، وأما التفاصيل المذكورة فكأنه أمضاها، غاية الأمر أنه اختصرها في مقام البيان فسكت عن بعضها، كيف؟! ولو فرض أن الحلل لم تكن مجزية من أهل الحلل لزم الإمام (عليه السلام) أن يبين ذلك أيضاً؛ للتطابق بين ما ذكره وما سمعه ابن الحجاج

ص: 64


1- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1.
2- جواهر الكلام: 43/8.

عن ابن أبي ليلى من سائر الأقسام، ولارتكازية كون الحلل من الديات في الأذهان وذهن السائل بالخصوص، فالسكوت عن نفيها خصوصاً مع نقل كونها من مفروضات رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل الحلل ظاهر في الإمضاء والقبول، فتكون الرواية من أدلّة كون الحلة من أصناف الدية أيضاً))(1).ويرد عليه: أن إمضاء الجميع معنى غير ظاهر خصوصاً مع إعادة الإمام (عليه السلام) ذكر خمسة من ستة، ولو أراده الإمام (عليه السلام) لاكتفى بذكرها إجمالاً اتكالاً على تفصيل السائل فذكر الإمام (عليه السلام) للجميع عدا الحلل بيان لعدم كونها منها وإعادة ذكر هذا العدد ليس اختصاراً وإنما فيه قصد لنفي السادس بل هو أبلغ في النفي لأن فيه تجاهلاً لما ذكره السائل فلا يقال لماذا لم يبيّن الإمام (عليه السلام) بل يظهر من جواب الإمام (عليه السلام) أنه إعراض وتجاهل لكل ما نقله عن ابن أبي ليلى وأنشأ (عليه السلام) حديثاً جديداً نقله عن علي (عليه السلام) وكأن لسان حاله يقول: دع عنك ما يقول هؤلاء وخذ بقول علي (عليه السلام)، فجواب الإمام مستقل عمّا رواه ابن الحجاج.

وعلى هذا فلا يزيد هذا المعنى الذي ذكره (قدس سره) عن كونه احتمالاً ولكنه ليس أقوى مما ذكرناه فلا يكون حجة

ص: 65


1- قراءات فقهية معاصرة للسيد محمود الهاشمي (قدس سره): 1/179.

وتكون الرواية مجملة من هذه الناحية إن لم تكن نافية للحلل كما قرّبنا.

2- صحيحة جميل بن دراج في الدية قال: (ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، ويؤخذ من أصحاب الحلل الحلل ومن أصحاب الإبل الإبل، ومن أصحاب الغنم الغنم، ومن أصحاب البقر البقر)(1).

أقول: أشكل عليها من جهتين:-

أ- السند لأن جميل لم ينسبها إلى المعصوم (عليه السلام) فالرواية موقوفة(2)

وربما كان هذا رأياً لجميل.وأجاب صاحب مفتاح الكرامة بقوله: ((ولا يضرّ كونه موقوفاً لأن مثل جميل لا يحكي إلا عن معصوم ولذلك اعتنى به ثقة الإسلام والشيخ وروياه))(3)،

وأضاف بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) بأن ((عدم التصريح باسم الإمام (عليه السلام) فيه لا يضر بكونه رواية عنه، وذلك:

أولاً: لكونها مضمرة لا موقوفة؛ إذ لو كان السند هكذا (ابن أبي عمير قال جميل أو عن جميل أنه قال: في الدية ألف

ص: 66


1- وسائل الشيعة: 29/195، الباب السابق، ح4.
2- وصفها المحقق الأردبيلي (قدس سره) بالمرسلة وهو خلاف المصطلح.
3- مفتاح الكرامة: 21/155، ط. جماعة المدرسين.

دينار..) صح كونها موقوفة إلا أن السند ورد كالتالي ((ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج في الدية قال الدية ألف دينار..)) وظاهره أن جملة ((في الدية قال)) من مقول قول جميل أيضاً، فتكون الرواية مضمرة جميل؛ إذ لا فرق في المضمرات بين أن يكون الضمير بارزاً كما في ((سمعته)) أو ((قلت له)) وبين أن يكون مستتراً كما في ((قال)).

وثانياً: لو لم نقبل كونها مضمرة مع ذلك أن ظاهر حال مثل جميل الذي كان من الأصحاب البارزين للإمام الصادق (عليه السلام)، ومن حملة أحاديثه، ومن أصحاب الإجماع، وكان له أصل معروف متسالم عليه -كما يظهر من مراجعة كتب الرجال- والذي ينقله عنه ابن أبي عمير ناقل هذا الحديث نفسه، وكذلك نقل ابن أبي عمير عنه، كل ذلك يكون ظاهراً في كون الرواية حديثاً عن المعصوم (عليه السلام)، بل قد يطمأن بكونها من جملة ما في أصل جميل الذي ينقل فيه أحاديثه عن المعصوم (عليه السلام)؛ لأن هذا السند أحد نفس الأسانيدالتي نقل بها أصل جميل، فيكون عدم التصريح باسم الإمام (عليه السلام) من جهة التقطيع لأحاديث الأصول وتوزيعها على الأبواب الفقهية المتناسبة بعد ذلك خصوصاً الأخبار الطوال منها كالأحاديث الواردة في باب الديات، فلا ينبغي الإشكال في صحيح جميل من

ص: 67

هذه الناحية.

أقول: الوجه الأول كبراه مقبولة وهو أن مضمرات مثل جميل معتبرة، لكن التقريب الذي ذكره لا يمكن الاعتماد عليه لإثبات أن الحديث مضمر وليس موقوفاً خصوصاً على ما في التهذيب (عن جميل بن دراج قال: (الدية..) فإنه بنفس الصياغة التي اعترف (قدس سره) بأنها موقوفة.

أما الوجه الثاني المبني على التفصيل في حجية الأحاديث الموقوفة بين مثل جميل في فقهه وجلالة قدره وغيره، فيكون الحديث الموقوف حجة في الأول دون الثاني، فإنه مقبول لدى بعض الأصحاب، لكن حكي عن أكثر الفقهاء عدم حجية الأحاديث الموقوفة مطلقاً(1) ولذا خدشوا فيها كرواية ابن أذينة التي تقدمت في بحث التلقيح الصناعي في المرأة الميتة يشق بطنها ويخرج ولدها ((قال في المعتبر: وإنما قلنا في رواية لأنها رواية ابن أبي عمير عن ابن أذينة(2)

وهي موقوفة فلا تكون حجة واستحسنه في المدارك))(3).

ص: 68


1- قواعد الحديث، للسيد محيي الدين الغريفي: 1/318، وحكاه عن الشهيد الثاني في الدراية: 46.
2- وسائل الشيعة: 2/471، كتاب الطهارة، أبواب الاحتضار، باب 46، ح7.
3- جواهر الكلام: 4/376.

والوجه فيه: أن ما قيل من التفصيل يمكن قبوله في المضمرات حيث نسب الراوي الحديث إلى غيره أما في الموقوفة فلم ينسبه إلى غيره وعليه فنحتمل أنه رأي رآه وأفتى به بناءً على ما صحّ لدينا من ثبوت الاجتهاد والفتوى من قبل الفقهاء الرواة وإن لم يكن على نحو العملية المعروفة اليوم إلا أنهم كانوا يستنبطون الحكم من الأصول والأدلة العامة وعُرف عن جملة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الاجتهاد، ونقلت جوامع الحديث عنهم آراءهم كفقهاء كقول الشهيد الثاني في ميراث المجوس: ((وقد اختلف الأصحاب فيه فقال يونس بن عبد الرحمن: إنهم يتوارثون بالنسب والسبب الصحيحين دون الفاسدين، وقال الفضل بن شاذان .. إلى آخره))(1)

ويونس من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) والفضل من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام).

ونقل صاحب الحدائق عن الكليني والشيخ قول يونس بعدم وجوب الزكاة في غير الغلات الأربع ووصفه بأنه من قدماء أصحابنا(2).

ص: 69


1- شرح اللمعة، للشهيد الثاني: 8/221، ط. الثانية، منشورات جامعة النجف الدينية.
2- الحدائق الناضرة: 12/106. ط. جماعة المدرسين - قم.

بل صرّح عبد الله بن بكير في بعض أحاديثه الموقوفة بأنه من رأيه كالذي رواه الشيخ عن الحسن بن سماعة أنه قال: (وكان ابن بكير يقول: المطلقة إذا طلقها زوجها ثم تركها حتى تبين ثم تزوجها فإنما هي عنده على طلاقمستأنف، قال ابن سماعة: وذكر الحسين بن هاشم أنه سأل ابن بكير عنها فأجابه بهذا الجواب، فقال له: سمعت في هذا شيئاً؟ فقال: لا، هذا مما رزق الله من الرأي)(1)،

وحينئذٍ قد يكون احتمال الاجتهاد والفتوى عند ذوي الفقاهة وجلالة القدر من أصحاب الأئمة أقوى من غيرهم لأنهم هم أهل النظر أي عكس ما قيل في المضمرات.

فالتحقيق في هذه الكبرى أن أجلاء الأصحاب وإن لم يعملوا الاجتهاد بطريقة الاستنباط المعروف اليوم وكانوا لا يفتون إلا على أساس فتوى المعصوم (عليه السلام) فلا يحتمل أن أحاديثهم الموقوفة من استنباطاتهم ولا من نقلهم آراء غيرهم، لكن المشكلة تبقى من حيث عدم العلم بأنه يروي الحديث عن المعصوم (عليه السلام) مباشرة أو بواسطة فيكون مرسلاً كما في رواية جميل الآتية حيث نسب الحديث إلى واسطة عن المعصوم، إلا أن يدفع الاحتمال بأصالة العدم ولو وجد لذكره، ومن جهة أن ما

ص: 70


1- تهذيب الأحكام: 8/ 30، الاستبصار: 3/271، ط. دار الكتب الإسلامية- طهران.

نقله هل هو عين كلام المعصوم أم أنه فهمه له.

نعم قد يُحلّ إشكال الوقف بوجود الحديث مسنداً في موضع آخر أو مصدر آخر كالذي أثبتناه عن رواية ابن أذينة المتقدمة(1)،

أو يحصل الاطمئنان بأن هذا الحديث الموقوف هو من كلام الإمام (عليه السلام) كما في المقام؛ للقرائنالتي ذكرها (قدس سره)، ولأن بعض روايات الباب تصرح أن جميلاً لا يجيب إلا عن حديث رواه عن المعصوم (عليه السلام) ففي صحيحة ابن أبي عمير عنه عن محمد بن مسلم وزرارة سأله ابن أبي عمير: (وهل للإبل أسنان معروفة) فقال جميل: (نعم) إلى أن قال: (روى ذلك بعض أصحابنا عنهما عليهما السلام).

ولعله لهذا نسب صاحب الدعائم مضمون رواية جميل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: ((روينا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم أنهم قالوا: تؤخذ الدية من كل قوم مما يملكون من أهل الإبل الإبل ومن أهل البقر البقر ومن أهل الغنم الغنم ومن أهل الحلل الحلل ومن أهل الذهب الذهب ومن أهل الورق الورق ولا يكلّف أحدٌ ما ليس عنده))(2).

ص: 71


1- فقه الخلاف: 12/12.
2- دعائم الإسلام: 2/412، ط. دار المعارف.

هذا ولكننا نقلنا عن جملة من الأساطين كسيد الرياض وصاحب الجواهر أن الأصناف الستة لم ترد في رواية واحدة وهذا يعتبر تشكيكاً ضمنياً في صدور صحيحة جميل عن المعصوم (عليه السلام) وإلا فإنها اشتملت على الستة وقد وصفها صاحب الجواهر (قدس سره) بالصحيحة، اللهم إلا أن يريدوا عدم ذكرها بتفاصيل أعدادها، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وأما صحيح جميل بن دراج فليس فيه سوى الدلالة على ثبوت أصل الحلل دون عددها))(1)، لكن يمكن أن يقال: إنهم إذا سلّموا بحجية دلالة الصحيحة على الحلل فيتعين العدد بالمائتين لعدم احتمال غيره وللإجماع عليه.ب- إهمالها ذكر عدد الحلل.

كما في كلام صاحب الجواهر الآنف، وأجاب بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) فقال: ((نعم، لا تعيين فيها لمقدار الحلل إلا أنه إذا ثبت أصل كونها من أصناف الدية يثبت مقدارها أيضاً بعدم احتمال غيره بعد تسالم العامة والخاصة عليه وكونه المناسب والمطابق في القيمة وقتئذٍ مع الأصناف الأخرى))(2).

ص: 72


1- جواهر الكلام: 43/8.
2- قراءات فقهية معاصرة: 1/178.

أقول: ذكرنا أن كل الأصول(1)

التي أوردت صحيحة ابن الحجاج ذكرت (مائة حلة) وبه قال الشيخ الصدوق في المقنع عدا بعض نسخ التهذيب على ما قيل ففيها مائة حلة وفي بعض آخر (الخيل) بدل (الحلل)(2)،

وأن عدد المائتين ربما تسرَّب إلينا من فقه العامة وإذا كان الدافع إلى قبول هذا العدد مطابقة القيمة فلتكن القيمة هي المعيار وليس العدد كما تقدّم عن العلامة في المختلف وكأن الحلل ليست أصلاً من أصناف الدية وإنما هي بديل لقيمة الإبل والدنانير.

والنتيجة عدم وجود دليل تام على أن من أصناف الدية مائتي حلة إلا أنها قبلت باعتبار بلوغ قيمتها ألف دينار تيسيراً على الجاني.وعلى أي حال فإن الالتزام بهذا العدد من الحلل مشكل اليوم لنفس ما ذكرناه في الدراهم الفضية لانخفاض قيمتها بنحو لا يتسامح به العرف وتتنافى مع غرض الشارع فلا يجزي دفعها.

إلفات: اتفق الفقهاء على أن الحلة ثوبان وهو ما نصّ عليه أكثر

ص: 73


1- راجع الكافي: 7/280، الفقيه: 4/78، تهذيب الأحكام: 10/160، الاستبصار: 4/259، المقنع: 182، ط. مؤسسة الإمام الهادي (عليه السلام).
2- رياض المسائل: 16/346، جواهر الكلام: 43/7.

أهل اللغة، قال أبو عبيد الهروي: ((الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين))(1)

وقال ابن الأثير في النهاية: ((الحلة واحدة الحلل، وهي برود اليمن ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد))(2)، وفي العين ((الحلة إزار ورداء بُرد أو غيره، لا يقال لها حلة حتى تكون ثوبين))(3).

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ينبغي الاقتصار فيها على برود اليمن لأنه المتيقن، ونصّ عليه الفاضلان والشهيدان وأبو العباس وغيرهم على ماحكي عن بعضهم))(4)، ((ثم إن المعتبر من الثياب ما يصدق عليه اسم الثوب عرفاً، لا مجرد ما يستر العورة خاصة، كما ربما يقال، لفساده قطعاً))(5).

ص: 74


1- حكاه عنه الجوهري في الصحاح: 4/1673، وهو في غريب الحديث: 1/139.
2- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجزري: 1/415، ط. مؤسسة إسماعيليان - قم.
3- كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي: 3/28، ط. الثانية، مؤسسة دار الهجرة ط. الثانية في إيران.
4- جواهر الكلام: 43/10.
5- رياض المسائل: 16/347، ولعل المشار إليه المحقق الأردبيلي، قال (قدس سره): ((ويحتمل كونه - أي الثوب- للرِجل (الرَجل) بحيث يستر عورته المستحب سترها)) (مجمع الفائدة والبرهان: 14/312)، ط. جماعة المدرسين - قم.

(الفرع الثاني) هل تختلف الدية بين أقسام القتل؟

اتفق الأصحاب على أن مقدار الدية لا يختلف بين قتل العمد وقسيميه وهما شبه العمد والخطأ المحض من حيث الأصناف أو عدد كل صنف، وإنما تختلف من جهتين فيهما تغليظ على العمد، وهما:

1- أسنان الإبل، فإنها كلها من المسان في العمد إذا رضي ولي الدم بالدية بدل القصاص، أما في الآخرين فهي على عدة أسنان اختلف فيها الفقهاء بحسب الروايات، والمسنّة ما أكملت الخامسة ودخلت السادسة وتسمى ثنية أيضاً لنبات ثنيتيها في هذا السن.

2- مدة الأداء، فتؤدى في العمد خلال سنة وفي شبه العمد على سنتين وفي الخطأ المحض على ثلاث سنين.

لكن التغليظ في الأسنان لا يبقى له معنى مع تخيير الجاني بين الأصناف الستة وجواز اختياره لأي منها وإن كان أقل قيمة من الإبل.ولتحقيق التغليظ في دية العمد يمكن أن نقدم قراءة أخرى للروايات غير قراءة المشهور ونقول: إن الروايات المعتبرة الكثيرة صريحة بأن دية قتل العمد متعينة بالإبل مراعاة لهذا التغليظ وأن

ص: 75

الأداء من غيرها مترتب على عدم الأداء منها وإذا أراد الجاني أن يدفع من صنف آخر فلا بد أن يدفع من الأصناف الأخرى بقيمة الإبل المسان لذا ورد في عدة روايات عشرون شاة إن لم يدفع البعير فتكون الدية ألفي شاة مع أن الغنم صنف من أصناف الدية وعددها ألف شاة فلو كان قاتل العمد مخيّراً كفاه دفع ألف شاة، كصحيحة معاوية بن وهب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دية العمد، قال: مائة من فحولة الإبل المسان فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم)(1).

ومعتبرة أبي بصير قال: (سألته عن دية العمد الذي يقتل الرجل عمداً، قال: فقال: مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبلٌ فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم).

وروايته الأخرى قال: (دية الرجل مائة من الإبل، فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك، فإن لم يكن فألف كبش، هذا في العمد، وفي الخطأ مثل العمد ألف شاة مخلطة)(2).ورواية زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العبد يقتل حراً عمداً، قال: (مائة من الإبل المسان، فإن لم يكن

ص: 76


1- وسائل الشيعة: 29/199، أبواب ديات النفس، باب 2، ح2.
2- وسائل الشيعة: 29/197، أبواب ديات النفس، باب 1، ح12.

إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم)(1).

وصحيحة علي بن حديد قال: (قيل لجميل: فإن قبل أصحاب العمد الدية كم لهم؟ قال: مائة من الإبل إلا أن يصطلحوا على مال أو ما شاؤوا غير ذلك)(2).

وصحيحة معلى أبي عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وفي شبيه العمد المغلظة ثلاثة وثلاثون حقة، وأربعة وثلاثون جذعة، وثلاثة وثلاثون ثنية، خلفة طروقة الفحل، ومن الشاة في المغلظة ألف كبش إذا لم يكن إبل)(3).

ويظهر من بعض الأعلام المعاصرين الميل إلى هذا الرأي، قال (قدس سره): ((هذه الروايات ناظرة إلى لزوم حفظ قيمة الدية المغلظة في قتل العمد إذا أعطيت من غير الإبل في الأصناف الأخرى إما بزيادة عددها أو أسنانها الموجب لزيادة قيمتها))(4).

وبذلك نجيب عن عدة إشكالات تقدم ذكرها:منها: أن عبارته (عليه السلام): (فإن لم يكن إبل) تدل

ص: 77


1- وسائل الشيعة: 29/201، أبواب ديات النفس، باب 2، ح5.
2- وسائل الشيعة: 29/201، الباب السابق، ح 7.
3- وسائل الشيعة: 29/202، الباب السابق، ح 9.
4- قراءات فقهية معاصرة: 1/185.

على التعيين(1) فكيف ذهب المشهور إلى التخيير، وهي أيضاً تعني أن الإبل أصل والبقية بدل وهم لا يقولون بذلك.

ومنها: ما تقدم من الإشكال على عدة روايات معتبرة فيها (ومن الغنم قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاة)(2) بأنه ما معنى الإلزام بدفع عشرين شاة بدل البعير إن لم يؤدَّ من الإبل ونتيجته أن تكون الدية ألفين من الغنم والمفروض أن الغنم أصل من أصول الدية كالإبل ويجزي دفع ألف منها، فالجاني يدفع ألف شاة ابتداءً ولا يتوجه إلى الإبل ثم يدفع بدلها ألفين.

وظهر الآن أن هذا مختص بدية العمد حيث تتعين في الإبل ويكون الغنم بديلاً عنها، وتكون النتيجة القول بالتفصيل بين العمد وقسيميه فدية الأول متعينة بالإبل دون الآخرين فإذا تراضى الطرفان على الدية بدل القصاص فالدية مائة من الإبل على الجاني ويكون الأمر أوضح فيما لو تراضوا على الدية وأطلقوا أو كان المورد من مستثنيات القصاص كقتل الأب ولده أو العاقل مجنوناً وعند فوات محل القصاص كموت الجاني أو هربه.

ص: 78


1- تقدمت قراءتهم لهذه العبارة عن صاحب الجواهر (قدس سره) وسبقه صاحب مفتاح الكرامة بقوله: ((إنه ليس نصّاً في البدلية لاحتمال أن يراد: فإن لم يؤدِّ الإبل فكذا)) (مفتاح الكرامة: 21/158).
2- وسائل الشيعة: 29/199، الباب السابق، ح1.

وهذا القول بالتفصيل على خلاف المتقدمين والمتأخرين لأنهم بين قائل بالتعيين مطلقاً كمشهور المتقدمين، والتخيير مطلقاً كمشهور المتأخرين على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن نقرّب هذا الحل للإشكال على القول بالتخيير والمحافظة عليه شكلاً بأن نجعل التخيير إلى الجاني في شبيه العمد والخطأ المحض، أما في العمد فإلى ولي الدم وهو سيختار الإبل لأنها أعلى قيمة من الأخرى، فكأن الدية تتعين بالإبل، وإن أراد غيرها فالتراضي حل.

وتخيير ولي الدم موافق للقاعدة لأن حق ولي الدم القصاص ولا ينتقل إلى الدية إلا برضاه ورضا الجاني فالتخيير حق له فله أن يختار ما يشاء.

ونُقل أن الأعراف العشائرية اليوم جارية على هذا، وهذا التقريب يحافظ على التخيير شكلاً لكنه يفرّق في من له الحق في الاختيار.

وفي ضوء هذه القراءة لا نحتاج أن نطرح الروايات المعتبرة الدالة على الترتيب أو نحملها على التقية كما نقلنا عن المشهور في المطالب السابقة وإنما نقول إنها دالة على التعيين فعلاً لكنها واردة في المغلظة خاصة.

نعم تعارض هذه القراءة صحيحة الحلبي وعبد الله بن

ص: 79

سنان قال: (من قتل مؤمناً متعمداً قيد به إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية، فإن رضوا بالدية وأحب ذلك القاتل فالدية اثنا عشر ألفاً أو ألف دينار أو مائة من الإبل)(1).والجواب أن هذه الرواية صريحة في التراضي بين ولي الدم والجاني على الدية ولهم أن يتراضوا بما يشاؤون وقد أرشدهم الإمام (عليه السلام) إلى ما يمكن أن يتراضوا عليه، ومعه لا كلام فلا تعارض ما ذكرناه.

(الفرع الثالث) هل أصناف الدية على التنويع بحسب أهل الصنف أم على التخيير؟

نقل الأول عن الشيخين وغيرهما من القدماء، والثاني هو مشهور المتأخرين ((وتظهر الثمرة فيما لو بذل رب كل صنف غيره بدون رضا ولي المقتول، فيجوز على المشهور، ولا على غيره))(2).

ظاهر عدة روايات كصحيحتي عبد الرحمن بن الحجاج وجميل بن دراج المتقدمتين (صفحة 10-11) أنه يتعين على أهل البوادي دفع الدية من الإبل وعلى أهل الأرياف والقرى من البقر والغنم وعلى أهل المدن والتجار من الدنانير والدراهم، وقد

ص: 80


1- وسائل الشيعة: 29/196، أبواب ديات النفس، باب 1، ح9.
2- رياض المسائل: 16/350، وحكي عن السرائر: 3/323، وكشف اللثام.

اختاره مشهور المتقدمين، وصرّح به في فقه الرضا فقال: (والدية في النفس ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو مائة من الإبل على حسب أهل الدية إن كانوا من أهل العين ألف دينار وإن كانوا من أهل الورق فعشرة آلاف درهم وإن كانوا من أهل الإبل فمائة من الإبل)(1).وقال ابن أبي عقيل: ((الدية في العمد والخطأ سواء على أهل الورق عشرة آلاف قيمة كل عشرة دراهم دينار، وعلى أهل العين ألف دينار، وعلى أهل الإبل والبقر والغنم من أي صنف كان قيمته عشرة آلاف درهم وأطلق))(2).

قال الشيخ في المبسوط: ((وقد قلنا إن عندنا ستة أصول كل واحد أصل في نفسه، وليس بعضها بدلا عن بعض، بل كل واحد منها بدل عن النفس، وهي مائة من الإبل أو ألف دينار أو عشرة ألف درهم أو مائتا بقرة، أو ألف شاة من الغنم، أو مائتا حلة، وكل من كان من أهل واحد من ذلك أخذ ذلك منه مع الوجود، فإذا لم يوجد أخذ أحد الأجناس الأخر وسواء كانت بقيمة الإبل

ص: 81


1- فقه الرضا: 312. ط. مؤسسة آل البيت.
2- مختلف الشيعة: 9/288، ط. مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية.

أو دونها أو فوقها))(1)،

وعبّر الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية وغيرهما بأنه يؤخذ مائة من الإبل إن كان القاتل من أصحاب الإبل، أو ألف من الغنم إن كان من أصحاب الغنم، أو مائتا بقرة إن كان من أصحاب البقر أو مائتا حلة إن كان من أصحاب الحلل، أو ألف دينار إن كان من أصحاب العين، أو عشرة آلاف درهم فضة إن كان من الورق؛ لذا قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ظاهر المقنع والمقنعة والنهاية والخلاف والمبسوط والمراسم والوسيلة والقاضي أنها على التنويع، بل في كشف اللثام نسبته إلى عبارات كثير من الأصحاب))(2).أقول: يمكن التشكيك في دلالة الروايات على التعيين خصوصاً مع كون لسان بعضها كصحيحة ابن الحجاج (ولأهل البوادي الدية مائة من الإبل)(3) وليس (على) فيدل على التخيير لا التعيين بل إن ذيل الصحيحة صريح في التخيير بين البقر والغنم إذ فيها (ولأهل السواد مائتا بقرة أو ألف شاة)، قال كاشف اللثام: ((وما في عدة من الأخبار وعبارات كثير من الأصحاب: من أن الإبل على أهلها

ص: 82


1- المبسوط في فقه الإمامية، للشيخ الطوسي محمد بن الحسن: 7/119، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
2- جواهر الكلام: 43/12.
3- كما في التهذيب: 10/160، الاستبصار: 4/259، الفقيه: 4/78.

والبقر على أهلها وهكذا فلعل المراد التسهيل على القاتل لئلا يكلف تحصيل غير ماله))(1).

فالمورد نظير ما ورد في مواقيت الإحرام في رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (فسألته عن المتعة في الحج، من أين إحرامها وإحرام الحج؟ قال: وقّت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأهل العراق من العقيق، ولأهل المدينة ومن يليها من الشجرة، ولأهل الشام ومن يليها من الجحفة)(2).

أقول: فإن الفقهاء لم يفهموا منها وجوب مرور العراقي على هذا الميقات للإحرام منه وأن هذا الجعل للتسهيل.

لذا ذهب مشهور المتأخرين إلى التخيير بينها، بل ادعي إجماعهم عليه، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((كما هو المعروف بين الأصحاب، بلالمجمع عليه من المتأخرين، بل عن صريح الغنية وظاهر السرائر والمفاتيح الإجماع على ذلك، فليس للولي الامتناع عن قبول أحدها مع بذله وإن لم يكن من أهل المبذول))(3).

أقول: لعل ادعاءهم الإجماع مع مخالفة مشهور المتقدمين لأنهم لم

ص: 83


1- كشف اللثام: 11/309، ط. الثانية، 1422، تحقيق جماعة المدرسين.
2- وسائل الشيعة: 11/310، كتاب الحج، أبواب المواقيت، باب 1، ح9.
3- جواهر الكلام: 43/12.

يفهموا من المتقدمين خلافاً في المسألة أي أن كلامهم غير صريح في التعيين والشاهد على ذلك عدم الإشارة إلى الخلاف ممن عادتهم ذلك كالمحقق الحلي في الشرائع والعلامة في المختلف وغيرهما، لكن بعض عبارات المتقدمين تدل على التعيين كحمل الشيخ (قدس سره) قول الإمام (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن وهب: (فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم) على ((أنه إنما يلزم أهل البوادي دية الإبل فمن امتنع منهم من إعطاء الإبل جاز أن يؤخذ منهم مكان كل جمل عشرون شاة بالقيمة))(1).

ويمكن الاستدلال على التخيير بما تقدم من أن ظاهر الروايات أن جعل هذه البدائل هو للتوسعة على الجاني وتمكينه من الأداء، وقد صرّحت به رواية الدعائم المتقدمة وفيها (ولا يكلف أحد ما ليس عنده).

وهو ظاهر من قوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي ورواية عبد الله بن سنان (وإن كان في أرض فيها الدنانير فألف دينار وإن كان في أرض فيها الإبل فمائة من الإبل، وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب ذلك) بتقريبعدم الملازمة بين وجوده في أرض فيها الإبل مع كونه من أهل الإبل، فذكر

ص: 84


1- الاستبصار: ج4، باب مقدار الدية.

خصال الدية بلحاظ أصناف الناس للتخيير وليس للتعيين على أهل كل صنف وإلا لزم سقوط الدية عمن لا يكون من أهل أحدها.

ولظهور روايات كثيرة في التخيير كما تقدم ومنها صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الدية ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مائة من الإبل)(1)، بل صرّحت به رواية الحكم بن عتيبة، حيث ورد فيها عن دية أهل البوادي (الإبل اليوم مثل الورق) ولاكتفاء عدد من الروايات بذكر بعض الأصناف ولازمه إجزاؤها عن الجميع وكذا ((ما ورد في روايات ما دون النفس حيث جاء في أكثرها تحديدها بالدرهم والدينار فقط، وفي بعضها التحديد بالإبل فقط كصحيح أبان(2) وحديث ابن سنان(3)(4).

ص: 85


1- التهذيب: 10/159، الاستبصار: 4/261.
2- وسائل الشيعة: 29/352، كتاب القصاص، أبواب ديات الأعضاء، باب 44، ح1. وفيه عن أبان بن تغلب قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون قلت: سبحان الله .. الحديث).
3- وسائل الشيعة: 29/288، أبواب ديات الأعضاء، باب1، ح14، وفيه عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين عليه السلام في دية الأنف إذا استوصل مائة من الإبل ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر، ودية العين إذا فُقئت خمسون من الإبل، ودية ذكر الرجل إذا قطع من الحشفة مائة من الإبل على أسباب الخطأ دون العمد، وكذلك دية الرجل، وكذلك دية اليد إذا قطعت خمسون من الإبل، وكذلك دية الأذن إذا قطعت فجدعت خمسون من الإبل.. الحديث).
4- قراءات فقهية معاصرة: 1/183.

فيجمع العرف بين ظهورها وظهور غيرها بالتعيين بحمل الأصناف على التخيير وأما ما ورد في بعض الروايات من الدلالة على الترتيب كما في صحيحة معاوية بن وهب قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن دية العمد فقال: مائة من فحولة الإبل المسان فإن لم يكن إبل فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم)(1)،

وغيرها فإنها لا يستفاد منها التعيين وإنما هي في مقام مراعاة كون الأصناف متقاربة القيمة مع الإبل ولو لتعيينها فيها بناءً على ما قرّبناه من القول بالتفصيل للإبقاء على شدة الجزاء والتغليظ فيه منعاً للاستخفاف بالدماء؛ لأن هذه الروايات واردة في الدية المغلظة في قتل العمد كما تقدم.

هذا ويمكن الانتصار للقدماء بوجهين:-

1- حمل الروايات الظاهرة في التخيير على بيان أصل الأصناف التي تؤدى منها الدية وهي مجملة من حيث التعيين أو التخيير فتكون الروايات الظاهرة في التعيين مبيّنة لها، ويرد عليه أنها مجرد

ص: 86


1- التهذيب: 10/159، الاستبصار: 4/260.

دعوى للوجوه العديدة التي استدللنا بها على التخيير (صفحة 83).2- موافقة قولهم للاحتياط خصوصاً عند من يقول بجريان قاعدة الاشتغال عند قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير لتحصيل البراءة اليقينية.

ويرد عليه: أن الصحيح جريان أصالة البراءة في المقام؛ لأنه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الاستقلاليين، وفي مثله تجري أصالة البراءة من التعيين, وله أن يختار أحدها؛ لأن المتيقن اشتغال ذمته بدفع أحد الأصناف التي ينطبق على كل منها عنوان الدية ويتحقق بها الامتثال, ولم يتعلق حق ولي الدم بالعنوان الجامع لها حتى يقال بقاعدة الاشتغال، أما التعيين بأحدها فمشكوك ابتداءً، وقد بيّنا وجه التشكيك، فالصحيح القول بالتخيير.

وقد أورد بعض الفقهاء المعاصرين (قدس سره) إشكالاً على التخيير وأجابه بمضمون ما ذكرناه، قال (قدس سره): ((لا يقال: إن مقتضى استصحاب بقاء شغل ذمة الجاني بالدية على إجمالها ما لم يدفع محتمل التعيين إنما هو التعيين والخروج اليقيني عما اشتغلت ذمته به للمجني عليه. فإنه يقال: ليس الواجب تفريغ الذمة عن الدية بهذا العنوان الانتزاعي، وإنما الواجب أداء واقع ما يستحقه المجني عليه ويملكه على الجاني، وهو مردّد بين ما هو

ص: 87

مقطوع الأداء - لو كان الجامع واجباً بنحو التخيير- وما هو مشكوك أصل استحقاقه واشتغال الذمة به من أول الأمر - وهو أحد الأصناف بخصوصيته- والأصل عدمه))(1).أي أن ذمة الجاني اشتغلت بعنوان الدية المنطبق على كل من هذه الأصناف لأنها هي واقع الدية الذي تعلّق به حق ولي الدم وليس على العنوان الانتزاعي، وكونه متعيناً بأحدها مشكوك ابتداءً فيُنفى بالأصل.

(الفرع الرابع) هل أن أصناف الدية كلها أصل أم أن بعضها بدل؟

ونريد بالأصل أي أن الأداء يتعين به أولاً ولا خيار للجاني في دفع غيره من الأصناف فإذا تعذّر انتقل إلى الصنف الآخر الذي يكون حينئذٍ بدلاً عن الأصل وليس عن النفس، وعلى القول بالتخيير فإن النتيجة واضحة وهي كون كل الأصناف أصولاً لأنه من لوازم التخيير، وإنما يصحّ تقسيم الأصناف إلى أصل وبدل على القول بالتعيين؛ لأن الدية إذا تعينت بصنف وجب الامتثال به ولا يصح دفع غيره إلا إذا تعذّر، وهو معنى البدلية.

والتعيين له نحوان:

أولهما: تعيين أداء أهل كل صنف من صنفهم فأهل

ص: 88


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/181.

البوادي عليهم الدفع من الإبل وأهل المدن من الدنانير والدراهم، ولا ينتقل إلى صنف آخر إلا عند تعذّره فالتعيين هنا بلحاظ طبيعة المجتمع وهو المحكي عن مشهور المتقدمين وقد نقلنا بعض عباراتهم.

وقد انتهينا من هذا في المطلب السابق.

ثانيهما: تعيين بعض الأصناف بكونها واجبة الدفع أولاً على الجاني عموماً كالذي قيل في الإبل أو هي والدنانير وإن الأصناف الأخرى بدائل عنها تُلحظ فيها مالية الأصل، وهذا هو محل البحث هنا.وقد صرّح الأصحاب القائلون بالتخيير بين الأصناف بعدم التعيين هنا أيضاً أي أن الجاني مخيَّر في دفع الدية من جميع الأصناف بناءً على ظهور الروايات فيه حيث ذكرت الأصناف في عرض واحد من دون توقف بعضها على عدم البعض الآخر فيكون مقتضى الإطلاق إجزاء كل صنف عن الدية مباشرة وإن اختلفت في ما بينها بالقيمة، قال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((وهذه الستة أصول في نفسها، وليس بعضها مشروطاً بعدم بعض، والجاني مخير في بذل أيها شاء))(1)،

وأضاف صاحب

ص: 89


1- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للمحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن: 4/1017، . انتشارات استقلال- طهران، ط. الثانية، 1409ه-.

الجواهر (قدس سره): ((فلا يعتبر التساوي في القيمة ولا التراضي كما صرّح بذلك كله غير واحد، بل ظاهر كشف اللثام ومحكي المبسوط الإجماع عليه))(1)

وليس لذوي المجني عليه إلزام الجاني بصنف معين.

أما الروايات الدالة على الترتيب كالتي تقدمت (صفحة 84) فقد قالوا فيها -كما عن صاحب الجواهر- : ((إلا أن ذلك مع احتماله التقية ورجحان غيره عليه من وجوه، ليس نصّاً في البدلية، لاحتمال أن يراد بها فإن لم تؤد الإبل فكذا)).وقد قدّمنا قراءة أخرى لهذه الروايات وقلنا أنها خاصة بدية العمد المغلّظة.

أما على القول بالتعيين على النحو الأول فالمفروض أنهم قائلون بكون كل صنف أصلاً عند أهل الصنف؛ لأنه ملزم به إلا أن يتعذّر عليه فينتقل إلى البدل لكن كلماتهم ليست كذلك، كما في كلمة المبسوط السابقة فإنه اختار القول بالتعيين على النحو الأول بقوله: ((وكل من كان من أهل واحد من ذلك أخذ ذلك منه مع الوجود، فإذا لم يوجد أخذ أحد الأجناس الأخر وسواء كانت بقيمة الإبل أو دونها أو فوقها)) وهي صريحة في ما قلناه الآن إلا أنه (قدس سره) لم يقل بالتعيين على المعنى الثاني، قال

ص: 90


1- جواهر الكلام: 43/15.

(قدس سره): ((وقد قلنا أن عندنا ستة أصول كل واحد أصل في نفسه، وليس بعضها بدلاً عن بعض، بل كل منها بدل عن النفس))(1).

أقول: يمكن الجمع بين كلماته (قدس سره) للدفاع عنه بأن كل جنس أصل لكنه معيّن لأهله خاصة وإذا تعذّر أدى من الصنف الآخر المتيسّر الذي هو أصل أيضاً لكن إجزاء أدائه مرتب على تعذّر الأول، وكل واحد منها ينطبق عليه عنوان دية النفس وليس بديلاً عن الصنف المعيّن، كالكفارات المرتبة فإن كلا منها ينطبق عليه عنوان الكفارة وليس بديلاً عما يسبقه لكن امتثاله لا يجزي إلا إذا تعذّر الأول كإطعام ستين مسكيناً في كفارة الظهار لمن لم يستطع صوم شهرينمتتابعين وهو لمن لم يجد رقبة(2)، وهو (قدس سره) يريد بذلك أن يؤكد أن الصنف الثاني يؤدى بعدده الثابت شرعاً لأنه بدل عن النفس ولا يشترط فيه مراعاة قيمة الأول، ولو كان بدلاً عنه لوجب فيه حفظ مالية الأول ولما كان وجه لتحديد

ص: 91


1- المبسوط، مصدر سابق: 7/118-119.
2- قال الله تبارك وتعالى: «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (المجادلة: 3-4).

عدد كل صنف وهو ما سنبينه في الإشكال الآتي.

لكن يظهر من القاضي في المهذب اعتبار الدنانير أصلاً وأن إجزاء الأصناف الأخرى مشروط باستيفاء القيمة بالدنانير حيث قال: ((فدية العمد المحض: إذا كان القاتل من أصحاب الذهب، ألف دينار جياد. وإن كان من أصحاب الفضة، فعشرة آلاف درهم جياد. وإن كان من أصحاب الإبل فمائة مسنة. قيمة كل واحدة منها عشرة دنانير. أو مائتا مسنّة من البقر، إن كان من أصحاب البقر. قيمة كل واحدة منها خمسة دنانير. أو ألف شاة، إن كان من أصحاب الغنم. قيمة كل واحد منها دينار واحد. أو مائتا حلة، إن كان من أصحاب البزّ قيمة كل حلة خمسة دنانير))(1).أقول: بناءً على ما تقدم فإنه يترتب على تقسيم الأصناف إلى أصل وبدل مضافاً إلى عدم خصوصية لذكر الدينار والدرهم في الأصناف إلا باعتبارهما نقدين معبرين عن قيمة الأصل، وأن المطلوب تحقق مالية الأصل: عدم ثبات العدد في الأصناف البديلة؛ لأن الواجب استيفاء مالية الأصل، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ضرورة كون المدار عليها لا عليه وهو مما يمكن القطع

ص: 92


1- المهذب، للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي: 2/457، جماعة المدرسين-قم، 1406 هج-.

بعدمه))؛ لأن عدد كل صنف ثابت في الروايات ومحدد على نحو الموضوعية ولا يجزي أقل منه كما قلنا قبل قليل، قال (قدس سره): ((ومن هنا يتجه حمله على إرادة بيان الحكمة في شرعها ابتداءً وإلا كان واضح الفساد))(1)، ومراده (قدس سره) أن معادلة الأصناف الأخرى للإبل لوحظت في بداية تشريع التوسعة ولا يجب ملاحظتها في كل زمان حتى لو تغيرت كثيراً.

ويرد عليه نقضاً بما تضمنته الروايات من تغيّر بأعداد الأصناف فالدراهم أصبحت اثني عشر ألفاً والغنم عشرين لكل بعير بدل العشرة، ومائة وعشرين درهماً للبعير بدل المائة وقد عللناه بتغير القيمة، وهذا يعني أن معادلة القيمة ملحوظة باستمرار، نعم لا عبرة بالقيم الاستثنائية النادرة التي قد تحصل بسبب ظروف طارئة.

وحلاً بأن الأعداد ملحوظة في الأصناف على نحو الموضوعية مع ملاحظة التقارب في المالية بين الأصناف كما كان في زمن صدور النص فلونقصت ماليتها بشكل فاحش - كالفضة اليوم- أشكل الاجتزاء بها ولزم دفع الدية من الأصناف الأخرى.

فأعداد الأصناف مأخوذة على نحو الاستقلال والموضوعية، لكنها بنفس الوقت مشروطة بالتقارب في القيمة

ص: 93


1- جواهر الكلام: 43/16.

المتوسطة مع ما سميناها بالقيمة المرجعية أو المعيارية وهي قيمة الإبل والدنانير، ففي الأصناف من هذه الناحية شوب طريقية، وهذه نقطة افتراقنا مع المشهور فنحن لا نقول بكونها أصولاً مطلقاً، وستأتي عدة وجوه للاشتراط.

فهذه القيمة لم تلاحظ ابتداءً فقط وإنما في جميع الأزمان، والروايات ظاهرة بل صريحة في ذلك؛ لأن لسانها (بقيمة ذلك) أو (بحساب ذلك).

ولو مضينا مع ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره) من كون معادلة القيمة حكمه في بداية التشريع فإنه يؤدي إلى ما اخترناه؛ لأنه يشترط في إجزاء الصنف أن يكون مساوياً لقيمته ومعادلاً لقيم الأصناف الأخرى في زمن التشريع، حيث كانت هذه المقاربة في القيمة هي المعيار في تحديد عدد كل صنف، والفضة اليوم ليست كذلك، ولا تحفظ تلك القيم، فالاجتزاء بدفع وزن الدراهم اليوم يعني إلغاء خصوصيات المعادلة التي جرت في زمن التشريع.

قال أحد المعاصرين (قدس سره): ((إن الشاة والبقر اللتين لا تسوى قيمتهما مائة من الإبل لا تنفع، وحمل ما ظاهره ألفا شاة على ما إذا كانت بقيمة مائة من الإبل جمعاً بين الأدلة، وللإجماع

ص: 94

المقطوع به في المسألة))(1).وقد يكون هذا البيان المختصر غير وافٍ بالمطلوب لذا نزيد البحث تفصيلاً لأهمية المطلب مع التذكير ببعض البيانات السابقة فنقول:

تقدم أن الدية كانت مائة من الإبل بحسب أصل التشريع وقد دلّت عليه عدة روايات كصحيحة محمد بن مسلم وزرارة وغيرهما عن أحدهما (عليهما السلام) في الدية قال: (مائة من الإبل وليس فيها دنانير ولا دراهم ولا غير ذلك) وصحيح جميل (قال أبو عبد الله عليه السلام: الدية مائة من الإبل) وهي ظاهرة في الحصر.

لكن عدة روايات دلّت على كفاية أداء الدية من أصناف أخرى ومقتضى إطلاقها وذكر الأصناف في عرض واحد من دون توقف بعضها على عدم بعض هو التخيير في دفع أي صنف ويكون هذا الظهور موسّعاً للحصر الذي أفادته الصحاح الآنفة، وهذا هو مستند الأصحاب في القول بالتخيير، وإن هذه التوسعة في الأداء جاءت لتمكين الجاني من الأداء بحسب وضعه الاجتماعي وما يتوفر لديه من أموال، وبحسب تعبير رواية الدعائم المتقدمة (ولا يكلّف أحد ما ليس عنده)، ولمراعاة التطور المدني والحضاري

ص: 95


1- الفقه، للسيد محمد الشيرازي: 90/16.

الذي ارتقت إليه الدولة الإسلامية، وجعل كل صنف دية عن النفس وبديلاً عنها وليس بديلاً عن الصنف الأصلي وهي الإبل.

وهنا قال المشهور:أن قيمة الدية من الإبل لوحظت ابتداءً بالقيمة المتعارفة في زمن التوسعة فكان البعير بمائة درهم أو عشرة دنانير، والشاة بعشرة دراهم أو دينار فالبعير يعادل عشر شياه وهكذا، وحُدِّد على أساسها عدد أفرادالأصناف الأخرى، وليست هذه القيمة قيداً في إجزاء الأصناف الأخرى بحيث تجب ملاحظته في كل زمان، فهذه المعادلة في القيمة بين الإبل والأصناف الأخرى لوحظت في ابتداء التشريع لحكمة التوسعة وليست قيداً وعلة لإجزاء دفع الأصناف الأخرى تدور مدارها، وإلا لاكتفى بهذا البيان - أي تحصيل قيمة مائة من الإبل- ولم يتجه ذكر عدد مخصوص لكل صنف منها، وهذا هو مراد صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله المتقدم: ((ومن هنا يتجه حمله - أي اعتبار القيمة- على إرادة بيان الحكمة في شرعها ابتداءً وإلا كان واضح الفساد))(1)، ومن قبله قول كاشف اللثام: ((وما في صحيح ابن الحجاج عنه (عليه السلام) من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وقيمة الدنانير عشرة آلاف درهم) فهو بيان للواقع في تلك

ص: 96


1- جواهر الكلام: 43/16.

الأزمان، ولعله إشارة إلى الحكمة في شرح التقادير أول مرة))(1).

هذا مختصر ما يمكن قوله انتصاراً لقول المشهور بالتخيير بين الأصناف مطلقاً بغضّ النظر عن المقاربة في القيمة وعدم تقسيمها إلى أصل وبدل، لكن هذا التقريب فيه أمران:-

1- أصل التوسعة وتمكين الجاني من دفع الدية من أجناس أخرى غير الإبل، وإن كلاً من هذه الأجناس أصل تؤدَّى به الدية بأعدادها المحدَّدة.

2- إطلاق القول بإجزاء دفع الأعداد المذكورة من الأجناس المختلفة مطلقاً وإن تفاوتت بينها بالقيمة بشكل فاحش.ونحن نوافق على الأول دون الثاني ونعتقد أن ما يمكن استظهاره من الروايات هو الأول أي أن غاية ما تفيده روايات التوسعة رفع اليد عن التزام الجاني بدفع الدية من الإبل وعدم خصوصية فيها وإمكان الدفع من الأجناس الأخرى لا رفع اليد عن مقدار ماليتها أيضاً عندما تقلّ عن قيمة الإبل بمقدار مجحف بحق المجني عليه الواجب على الجاني ضمانه كسائر الضمانات المالية، فإطلاق الثاني يمكن تقييده بعدة قرائن تقدم بعضها (صفحة 45) وهي التي أوجبت الاشتراط الذي أضفناه إلى قول المشهور، منها:-

ص: 97


1- كشف اللثام: 11/309.

أ- الروايات الكثيرة التي دلّت على وجوب مراعاة المقاربة في القيمة وقد تقدمت (صفحة 29) كقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي: (فدراهم بحساب ذلك) وفي رواية أبي بصير (فمن البقر بقيمة ذلك) وفي صحيحة عبد الله بن سنان (قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاة) وفي صحيحة معاوية بن وهب (فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم) وفي رواية الحكم بن عتيبة (يحسب لكل بعير مائة درهم فذلك عشرة آلاف) وهي ظاهرة بل صريحة في وجوب مراعاة المقاربة في القيمة دائماً وليس فقط في ابتداء التشريع، فما في رواية الحكم أيضاً من قوله (عليه السلام): (فلما ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسمها أمير المؤمنين (عليه السلام) على الورق)(1)

ناظر إلى بيان أصل التوسعة.

وإن أبيت إلا دلالتها على إطلاق التوسعة من دون تقييدها بمراعاة القيمة، فيمكن القول أنها تتعارض مع ما دلّ على لزوم كونها بقيمة الإبل وتتساقطويكون المرجع الحصر الموجود في صحيحة جميل (الدية مائة من الإبل) وصحيحة محمد بن مسلم وزرارة الآنفة ونحوها لأنها تبقى بلا معارض بعد سقوط إطلاق ما دلّ على التوسعة، وهذا هو سر الرجوع

ص: 98


1- وسائل الشيعة: 29/202، أبواب ديات النفس، باب 2، ح8.

إلى العموم الفوقاني عند سقوط مخصصه بالمعارض.

ب- إن انخفاض قيمة الدية بحساب بعض الأجناس كالدراهم والحلل لا يناسب التغليظ في حرمة دم المسلم واتخاذ الإجراءات المانعة من قتله ولو خطأً محضاً.

ج-- إن الفهم العرفي والبناء العقلائي لا يساعد على جعل أمر الدية - وهي من باب الضمانات المالية؛ لأن فيها تعويضاً لولي الدم وغرامة على الجاني - دائراً بين الأقل والأكثر المتفاوتين في المالية بشكل كبير، فلا يقبل العقلاء أن تقول لهم أن الدية عشرة أو واحد (بلحاظ الانخفاض الذي حصل في قيمة الفضة اليوم) نعم في الأمور التعبدية يمكن ذلك كجعل الكفارة عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين وقيمة الأول أضعاف الثاني.

د- ((إن ارتكازية التعادل فيما بين الأصناف في المالية والقيمة السوقية حين صدور الروايات توجب الانصراف إلى خصوص ما يكون متعادلاً من تلك الأعداد في المالية، أو توجب على الأقل وجود قرينة لبّية ارتكازية في الأذهان العرفية مانعة عن انعقاد الإطلاق في الروايات للأصناف الأخرى مهما بلغت ماليتها أو سقطت قيمتها، فإذا لم يتم الإطلاق في هذه الروايات لفرض عدم التساوي في المالية وإن كان بنفس العدد كان المرجع إطلاق ما دلّ على أن الدية مائة منالإبل لا غير،

ص: 99

والذي يقتضي عدم إجزاء غيره عنه إلا ما شمله المقيد قطعاً، فلا يجزي من الأصناف الأخرى ما كان أقل مالية ولو كان بنفس العدد))(1).

إن قلتَ: إن أصناف الدية كغيرها من الأجناس كانت على مرِّ التأريخ غير ثابتة القيمة وتتغير صعوداً ونزولاً بحسب قوانين السوق ورغبة الناس والعرض والطلب ونحو ذلك، ولا بد أنها تعرضت لكثير من هذه التغيرات خلال عصر المعصومين (عليهم السلام) ومع ذلك فقد بقيت أعداد الأصناف ثابتة في روايات المعصومين (عليهم السلام) وهذا ينفي اشتراط التقارب في المالية لأنه أمر غير واقعي ولا يصح حمل الروايات عليه.

قلتُ:-

1- إن أعداد الأصناف ليست ثابتة في الروايات فقد تضمنت تغييراً في أعداد الأصناف كمائة وعشرين درهماً بدل مائة للبعير وعشرين شاة بدل عشرة للبعير ووجهناه بمراعاة تغير القيمة.

2- إننا لم نشترط المساواة الدقية وإنما المقاربة في القيمة المتوسطة المتعارفة وهذه كانت محفوظة ولا زالت إلى الآن بين الأنعام

ص: 100


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/191.

والدنانير الذهبية.

3- إن هذا الإشكال أقرب إلى الشبهة مقابل البديهة لتصريح الروايات بمراعاة قيمة الإبل وقد ذكرنا جملة منها (صفحة 28).

4- الوجوه أعلاه في لزوم مراعاة القيمةأما نقض المشهور كما في كلمة صاحب الجواهر (قدس سره) السابقة بعدم الحاجة حينئذٍ لذكر عدد مخصوص من الأصناف فيرد عليه ((بأن فائدة التحديد تشخيص القيمة السوقية النوعية أي معدَّل القيمة للجاني؛ لأنه ملزم بها لا بكل قيمة ولو كانت شخصية لا يجد غيرها، فإن هذا مطلب مهم قد يُغفل عنه، بل من المحتمل قوياً أن هذا التحديد جاء من قبل الإمام علي (عليه السلام) - كما تشير إليه بعض الروايات- كمرسوم حكومي يُشخّص فيه موضوعاً خارجياً واحداً وهو معدّل القيمة السوقية وقتئذٍ للدية من الأصناف الأخرى لعمّاله وولاته وقضاته، ومثل هذه الموضوعات بحاجة إلى التحديد من قبل الحكومات والأنظمة الاجتماعية، كما تحدد الحكومات اليوم سعر النقد أو سعر الفائدة بين حين وحين))(1).

إن قلتَ: قد ورد في عدة روايات كصحيحة الحلبي أن

ص: 101


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/198.

الدية عشرة آلاف درهم أو ألف دينار من دون ذكر الإبل وهذا يعني أن كلاً منها أصل يمكن الأداء به من دون خصوصية للإبل.

قلتُ:-

1- إن هذه الروايات لا تزيد عمّا ذكرناه في تقريب المشهور من دلالتها على إمكان الدفع بأجناس أخرى غير الإبل ولا تلغي ماليتها بل إن التوسعة بالأجناس الأخرى لوحظ فيه التقارب في المالية ولا إطلاق فيها يقتضي إجزاءها ولو ابتعدت عن الإبل.2- إن لسانها لا يفيد كونها أصلاً ومرجعاً لتقييم غيرها وغاية ما تدل عليه إجزاء دفع هذه الأجناس مضافاً إلى الإبل لأنه مقتضى الجمع بين دليليهما المقتضي كل منهما بإطلاقه تعيين الدفع بهذا الجنس وبهذا العدد بل لا يحتمل أن تكون مرجعاً لتقييم الإبل لإجزاء دفع مائة بعير قطعاً، أما ما ورد في الإبل فلسانه ظاهر في المرجعية عند التقييم كالذي ذكرناه في القرينة (أ-) آنفاً، بل إن صحيحة زرارة تلغي أصالة الدنانير من دون مراعاة قيمة الإبل لقوله (عليه السلام): (هي - أي الدية- مائة من الإبل وليس فيها دنانير).

3- ومما ينفي كون النقد أصلاً مطلقاً تغيّر عدد الدراهم المجزية في الدية من عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً في عدة روايات.

إن قلتَ: ((إن ظاهر مثل صحيح ابن الحجاج أنَّ جعل

ص: 102

الدية على الأصناف الستة قول علي أو كان في كتاب علي (عليه السلام) - كما في روايات ديات الأعضاء- بنحو القانون الكلي والقضية الحقيقية، فلا يناسب أن يكون المقصود منها ما كان في خصوص ذلك الزمان من الدرهم والدينار أو الأجناس الأخرى، لكونها معادلة مع مائة إبل، بل ظاهر هذا اللسان ضرب القانون العام الذي يرجع إليه في كل زمان ومكان، وهو يقتضي أصلية الأجناس جميعاً وأنها في عرض واحد))(1).

قلتُ: إننا نؤيد صدور مثل هذا التقنين والجعل من أمير المؤمنين (عليه السلام) لتنظيم أمور الدولة والمجتمع مراعاة لتوسع الدولة الإسلامية وتنوع الأصولالمالية لرعاياها، لكننا ذكرنا في ما سبق عدة قرائن على أن هذا الجعل مشروط ضمناً وارتكازاً بمقاربة القيمة بين الأجناس.

والنتيجة أن كل صنف من أصناف الدية أصل ويكون بدلاً عن النفس وليس بعضها بدلاً عن بعض، وأن الجاني مخيَّر في الأداء من أي صنف لكن الصنف المختار يجب أن لا تكون قيمته قد انخفضت بشكل كبير جداً عن القيمة المعيارية للإبل والدنانير.

(الفرع الخامس) هل يجزي دفع القيمة؟

ص: 103


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/192.

قال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع ممزوجاً بشرح الجواهر مع بيانٍ منا بين قاطعتين: (( (وهل) يتعين على الولي أن (يقبل القيمة السوقية) عن الأصناف لو بذلها الجاني (مع وجود الإبل) مثلاً (فيه تردد) من أنها واجبة أصالة فلا ينتقل إلى القيمة إلا بالتراضي، ومن قيام القيمة مقامها، (والأشبه) بأصول المذهب وقواعده أنه (لا) يتعين عليه القبول كما صرح به الفاضل وولده وثاني الشهيدين وأبو العباس وغيرهم على ما حكى عن بعضهم للأصل بعد ظهور الأدلة في وجوب أعيانها، كما لا يجب على الجاني ذلك لو اقترحها الولي. نعم ربما احتمل وجوب القبول مع فقد القاتل لها -أي الإبل- لما عرفت -أي قيام القيمة مقامها- مع أصالة البرائة -من وجوب الأداء من الأصناف الأخرى-، وهو أيضاً ضعيف، ضرورة الانتقال حينئذٍ إلى غيرها من أفراد الميسورة له. فما عن المبسوط -من أن >الذي يقتضيه مذهبنا أنه إذا كان من أهل الإبل وبذل القيمة قيمة مثله كان له ذلك، وإن قلنا ليس له ذلك كان أحوط. فأما إن كان من أهلها فطلبالولي القيمة لم يكن له ذلك<(1)- واضح الضعف بعد ما عرفت من أن مقتضي المذهب وجوبها أجمع على التخيير، من غير فرق بين أهل الإبل وغيرهم، وعلى تقديره فلا دليل على إجزاء القيمة حتى مع

ص: 104


1- المبسوط، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي: 7/118، ط. المكتبة الرضوية.

التعذر، والله العالم))(1).

أقول: هذا خلاف مبنائي؛ لأن الشيخ الطوسي (قدس سره) قائل بالتعيين، فيمكن أن يقول أنه إذا تعذّر الصنف المعيّن كالإبل على أهل الإبل انتقلت الذمة إلى القيمة نظير ما يقال في الضمانات ولأصالة البراءة من وجوب الدفع من الأصناف الأخرى، نعم هو (قدس سره) التزم - كما في عبارة المبسوط المتقدمة- بالأداء من صنف آخر إذا تعذّر الصنف المعيّن.

وعلّق فخر المحققين على قول والده العلامة (قدس سره): ((والأقرب أنه لا يجب قبول القيمة السوقية مع وجود الإبل)) فقال: ((لأن الولي مستحق للإبل فلا يلزمه قبول غيرها (ويحتمل) وجوب القبول لأن المقصود المال والقيمة قائمة مقام العين في ذلك (ولأنه) قد جعلها الشارع بدلاً لها حال الفقد فكذا حال الاختيار والوجدان إذ لا فارق (وفيه نظر) لأن إثبات بدل لما لا بدل له خلاف الأصل عند الكل فلا يصار إليه إلا بدليل ولم يثبت والأصح عندي الأول))(2).

أقول: جعل هذا القول أقرب يكشف عن قربٍ في القول الآخر.لا يقال: إن هذا الخلاف لا موضوع له والقول بالإجزاء

ص: 105


1- جواهر الكلام: 43/14-15.
2- إيضاح الفوائد، لابن العلامة: 4/679، ط. المطبعة العلمية - قم.

متعيّن بناءً على ما قالوه من أن كل صنف من أصناف الدية أصل يمكن دفع الدية منه؛ لأن القيمة السوقية تقدَّر يومئذٍ بالدنانير والدراهم وهذه أصل من أصول الدية فالدفع بها مجزٍ على أي حال سواء نظر إليها كأصل أو كقيمة سوقية، ولو دفع الجاني من الدراهم أو الدنانير وجب على ولي الدم قبولها؛ لأنه مخيّر في الدفع مطلقاً، نعم يمكن تصور المسألة فيما لو أريد بالقيمة السوقية غير الدنانير والدراهم المسكوكة من الذهب والفضة كالعملات الورقية المعروفة اليوم؛ لعدم كونها من الأصناف المعيّنة شرعاً وليس لها أعداد محدّدة.

فإنه يقال: إن الثمرة واضحة؛ لأنه على القول بجواز دفع القيمة وأن للجاني الخيار في الأداء من أي جنس فله أن يختار الجنس الأقل قيمة ثم يدفع قيمته وقد تكون أقل من الدنانير والدراهم المحدَّدة شرعاً فعلى القول بالإجزاء لا يحق لولي الدم المطالبة ببقية العدد المعيَّن من الدراهم والدنانير وهذا خلاف الروايات والإجماع، فيكون هذا النقض لازماً باطلاً للقول بالإجزاء.

لكن هذه الثمرة يمكن تجاوزها وتحصيل نتيجة الإجزاء إذ يمكن للجاني أن يشتري بالقيمة الأقل صنفاً من أصناف الدية ويسلّمها عيناً إلى ولي الدم فتتحقق نتيجة القول بإجزاء القيمة وإن

ص: 106

كانت الدنانير والدراهم أقل، ولعل ولي الدم يقول من أول الأمر أعطني القيمة الأقل بدل العين، وهذا ليس بالتراضي وإنما رضوخ للأمر الواقع.وتبع الفقهاء المعاصرون المشهور إما ظاهراً لتحديدهم الأداء بالأصول الستة أو صريحاً كقول السيد الخميني (قدس سره): ((لا يجب على الولي قبول القيمة السوقية عن الأصناف لو بذلها الجاني مع وجود الأصول، ولا على الجاني أداؤها لو طلبها الولي مع وجودها، نعم لو تعذّر جميع الأصناف وطالب الولي القيمة تجب أداء قيمة واحدة منها، والجاني مخيّر في ذلك، وليس للولي مطالبة قيمة أحدها المعيّن))(1).

لكن السيد السبزواري (قدس سره) اختار الجواز فقال: ((تجزي القيمة عن كل واحد من الأصناف الستة))(2) معللاً ذلك بأن ((المنساق من مجموع الأدلة تدارك الجناية بمال الجاني، ويصدق ذلك على القيمة، كما في جملة كثيرة من الكفارات، فإن المال في تلك الأزمنة كان منحصراً في الأصول المتقدمة، وكانوا يعتمدون عليها في اعتبار سائر الأشياء، فليس لها خصوصية خاصة بل

ص: 107


1- تحرير الوسيلة: 2/506، المسألة (11)، ط. دار التعارف.
2- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، للسيد عبد الأعلى السبزواري: 29/75، المسألة (3).

المناط كله تدارك الجناية بمال الجاني المحدد شرعاً بتلك الأصول. ولكن الجمود على الأعيان الستة حتى المقدور خروجاً عن خلاف بعض لا بأس به))، قال (قدس سره): ((خصوصاً مع التعذّر العرفي فتتعين حينئذٍ القيمة لما عرفت)).

ويرد عليه:-1- لو لم تكن الخصوصية ملحوظة في الأصناف وأن المهم تحقق المالية لما وجدت حاجة إلى تحديد أعداد كل صنف في الروايات، وقد قلنا سابقاً أن لها موضوعية وذكرنا (صفحة 102) وجهاً لهذا التحديد.

2- إن التقريب لم يعالج الإشكال الذي ذكرناه في الثمرة الآنفة.

3- إن غاية ما يفيده دليل التخيير بأن يكون بين الأصناف ولم يثبت التخيير بين قيم الأصناف، وسوف يأتي بيانه في الإلفات الآتي إن شاء الله تعالى.

وقال (قدس سره): ((لا يجب على الولي قبول القيمة السوقية لو بذلها الجاني مع وجود الأصول - لفرض ولايته واختياره، فله أن يختار الأصول دون القيمة-، وكذا لا يجب على الجاني أداؤها لو طالب القيمة الولي مع وجود الأصول - للأصل، وتقدم أنه لا ولاية للولي على التعين-))(1).

ص: 108


1- مهذب الأحكام: 29/78، المسألة (8).

أقول: الجزء الثاني من كلامه تام بناءً على أن التخيير بيد الجاني ولا ولاية لولي الدم على التعيين.

لكن الجزء الأول ينافي ما تقدم منه من جواز دفع القيمة؛ لأن الجاني إذا دفع القيمة بناءً على القول بالجواز فلا يحقّ لولي الدم الامتناع؛ لأن التخيير بين العين والقيمة إلى الجاني.

هذا ويمكن الاستدلال على جواز دفع القيمة بأكثر من وجه:-

1- أن المستفاد من روايات الدية أن الدنانير والدراهم إنما جعلت باعتبارها نقداً رائجاً يتعامل به الناس وتكون عوضاً عن السلع والخدمات وبالتجريد عنالخصوصية يقال بجواز إعطاء قيمة الصنف من أي نقد رائج، وهذا ما يفهمه العرف من هذا المورد ونظائره بحيث عندما تذكر الدراهم والدنانير بإزاء أي جنس آخر في باب الضمانات المالية يفهم منه أنه بقيمته، وقد ذكرت روايات كثيرة قيمة الأجناس كالبعير بأنها مائة درهم أو مائة وعشرون درهماً وأن الناب عشرون شاة وورد (بقيمة ذلك) و (بحساب ذلك) وصرحت رواية الحكم بأن العدد المذكور للدراهم حُدِّد بعد تقسيم الإبل على الدراهم وأن المعيار في تحديد عدد كل صنف حفظ مالية الإبل، فالملحوظ القيمة في ذلك الزمان والمكان ولسانها يأبى أن تكون نفس الأعداد حكماً تعبدياً ثابتاً لكل زمان

ص: 109

ومكان حتى لو اختلّت المعادلة بينها بشكل كبير كما أن ملاحظة هذه المقاربة في كل زمان ومكان هو المناسب لفهم العرف والاعتبارات العقلائية في قضايا الضمان، لذا نجد أن نفس الروايات تضمنت أعداداً مختلفة من أجناس الدية، وستأتي مناقشة هذا التجريد عن الخصوصية في الأمر السابع إن شاء الله تعالى.

2- ويمكن الاستدلال على هذا الجواز بالروايات الصريحة الدالة عليه في باب الزكاة لوحدة المناط وهو تيسير إبراء الذمة ففي صحيحة البرقي قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: هل يجوز أن أخرج عما يجب في الحرث من الحنطة والشعير وما يجب على الذهب، دراهم بقيمة ما يسوى؟ أم لا يجوز إلا أنيخرج من كل شيء ما فيه؟ فأجاب عليه السلام: أيّما تيسَّر يُخرَج)(1)

وصحيحة علي بن جعفر قال: (سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن الرجل يعطي عن زكاته عن الدراهم دنانير وعن الدنانير دراهم بالقيمة، أيحلّ ذلك؟ قال: لا بأس به)(2).

وقد يقال بالفرق باعتبار تعلق حق ولي الدم بالدية فقد يضرّه دفع القيمة كما قرّبنا آنفاً.

ويجاب بأن الزكاة أيضاً يتعلق بها حقوق المستحقين لها.

ص: 110


1- و (2) وسائل الشيعة: 9/167، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 13، ح1، 2.

نعم يظهر الفرق من حيث أن الزكاة ليس فيها تخيير بين أصناف, وإنما تجب في نفس المال الزكوي فلا يرد فيها مثل الضرر الذي ذكرناه في الثمرة ومخالفة الروايات التي حدّدت الأعداد.

لكن هذا الإشكال إنما يرد على المشهور الذي قال بالتخيير بين الأصناف مطلقاً وقد صرّحوا بإجزاء الدفع من أي صنف وإن قلّت قيمته، ولا يرون في ذلك ضرراً على ولي الدم، أما على ما اخترناه من اشتراط المقاربة بين الأصناف في القيمة فلا يرد؛ لأن قيمة أي صنف سوف لا تكون أقل من الدراهم والدنانير المحدّدة شرعاً، فلا يوجد مانع من القول بإجزاء دفع القيمة مع وجود المقتضي الذي ذكرناه.إلفات: على القول بالجواز يرد سؤال حاصله: هل أن الجواز شامل لكل الأصناف أم لبعضها؟ إذ قد يقال هنا أن التوسعة التي حصلت من أجل التيسير على الجاني لإبراء ذمته كانت بلحاظ أصل الأصناف لأنها وردت بعناوينها في الروايات، فليست هي من باب ضمان المثليات حتى تنتقل إلى القيمة عند التعذر، ولم يثبت أن التخيير يشمل ما يعادلها من القيمة، حتى لو كان أقل من قيمة الإبل مطلقاً، وعليه فإما أن يدفع الجاني من الأصناف إن أمكن، وإذا أراد أن يدفع القيمة فعليه أن يدفع قيمة الإبل خاصة لأكثر من وجه:-

ص: 111

1- ما دلَّ على أنها كانت الأصل في الدية وبلحاظها جرت التوسعة إلى الأصناف الأخرى ومنها قوله (عليه السلام): (الدية مائة من الإبل)(1)

الظاهر في الحصر وغيرها من الروايات التي تقدمت في موضعها، وغاية ما تفيده روايات التوسعة رفع اليد عن هذا الحصر بلحاظ أعيان الأصناف ولم يثبت أن التوسعة تشمل قيمة الأصناف الأخرى ورفع اليد عن مالية الإبل ولا ملازمة بينهما، وهي تقتضي عدم فراغ الذمة إلا بدفع قيمة الإبل أو هي والدنانير لما قرّبناه من كونها قيمة معيارية ومرجعية.

2- لأن الروايات الواردة في القيمة ناظرة إلى الإبل كقوله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن وهب (فمكان كل جمل عشرون من فحولة الإبل)(2)

وقوله(عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان: (وقيمة كل بعير مائة وعشرون درهماً، أو عشرة دنانير، ومن الغنم قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاة)(3).

وقد قلنا بأن الدية غرامة مالية لتعويض ولي الدم، فلا يساعد العرف ولا بناء العقلاء على القبول بالقيمة للأصناف الأخرى مطلقاً حتى لو كانت تختلف بشكل فاحش، فيكون

ص: 112


1- وسائل الشيعة: 29/194، 195، أبواب ديات النفس، باب 1، ح3، 5.
2- وسائل الشيعة: 29/200، أبواب ديات النفس، باب 2، ح2.
3- وسائل الشيعة: 29/199، الباب السابق، ح1.

مقتضى القاعدة وجوب دفع أحد الأصناف عيناً وإلا فتدفع القيمة المرجعية والمعيارية للإبل أو هي والدنانير كما ذكرنا سابقاً، ونعني بالقاعدة الأصل اللفظي الذي استفدنا منه هذه القيمة، وليست قاعدة الاشتغال ((لكي يقال بأن هذا من الشك في أصل التكليف وتعلّقه بالخصوصية أو بالجامع بينها وبين القيمة، والأصل فيه البراءة حتى إذا كان بنحو التعيين والتخيير فضلاً عما إذا كان بنحو الأقل والأكثر - على ما هو محقق في محله-))(1).

والنتيجة جواز إعطاء القيمة بلحاظ الإبل والدنانير خاصة أما في غيرهما فلا بد من التراضي.

ومنه يُعلم النظر في قول السيد السبزواري (قدس سره): ((تجزي القيمة عن كل واحد من الأصول الستة))(2).

ومنه أيضاً يعلم النظر في قوله (قدس سره): ((لو تعذّر جميع الأصناف وطالب الولي القيمة يجب أداء قيمة واحد منها، والجاني مخيّر في أداء قيمة أيمنها شاء - لفرض تخييره بالنسبة إلى الأصل فيتخير بالنسبة إلى القيمة أيضاً-، وليس للولي مطالبة قيمة أحدها المعين - لعدم ولايته على ذلك-))(3).

ص: 113


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/234.
2- مهذب الأحكام: 29/75، مسألة (3).
3- مهذب الأحكام: 29/79، المسألة (9).

لأن تخيير الجاني مختص بما بين الأصناف ولم يثبت بين القيم، ثم إن إطلاق التخيير يؤدي إلى الإشكال الذي ذكرناه من دفع الجاني دراهم أو دنانير أقل من المحدد شرعاً، مضافاً إلى عدم تصوّر الجمع بين فرض تعذّر جميع الأصناف وتوفّر القيمة؛ لأن الذهب والفضة هما صنف منها وهما القيمة، ففرض عدمهما ووجودهما لا يجتمعان.

فرع: على القول بإجزاء دفع القيمة فإن المدار فيها القيمة المتوسطة والمتعارفة للجنس في وقت الأداء؛ لأن الذمة مشغولة بالجنس من حين الجناية إلى وقت الأداء وعنده تتحول إلى القيمة إن أراد وللمطلب نظائر في موارد أخرى معروفة.

(الفرع السادس) هل يجزي دفع الدية ملفقة؟

بأن يعطي مثلاً نصفها من الإبل خمسين بعيراً ونصفها من البقر مائة بقرة مثلاً ونحو ذلك.

لا إشكال في الجواز مع التراضي سواء كان صلحاً أو باعتبار بعضها قيمة وبعضها أصلاً، أما في غيره فقد استشكل العلامة (قدس سره) في القواعد فقال: ((وهل له التلفيق من جنسين فما زاد؟ إشكال)) وشرح ولده فخر المحققين (قدس سره) وجه الإشكال والتردد بأنه ((ينشأ (من) أن الشارع ردد بين

ص: 114

الأجناس فالواجب أحدهما والمركب من جنسين ليس أحدهما لمغايرة المركب البسائط(ومن) أن الشارع أقام كل واحد منها مقام الآخر فجعله مساوياً له فإذا جاز العدول من ألف شاة إلى مائة من الإبل وبالعكس وكان الخيار إليه في ذلك جاز العدول من بعض أحد الواجبين إلى بعضٍ الآخر))(1).

ومنع جملة من الأعلام من الوجه الثاني ككاشف اللثام، قال (قدس سره): ((وهو ممنوع، بل الظاهر أن التخيير بين المجموعات كخصال الكفارة))(2)

واستظهره صاحب مفتاح الكرامة وقال إنه ((خيرة الحواشي والمحكي عن المحقق الثاني))(3).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((الظاهر عدم إجزاء التلفيق منها كما عن جماعة التصريح به ضرورة خروج الملفّق عن اسم كل واحد منها))(4).

وهذا هو مختار المعاصرين ظاهراً أو صريحاً كما عن السيد الخميني (قدس سره) قال: ((الظاهر عدم إجزاء التلفيق بأن يؤدي مثلاً نصف المقدّر ديناراً ونصفه درهماً، أو النصف من الإبل

ص: 115


1- إيضاح الفوائد، لابن العلامة الحلي: 4/679. ط. المطبعة العلمية -قم.
2- كشف اللثام: 11/310.
3- مفتاح الكرامة: 21/158.
4- جواهر الكلام: 43/16.

والنصف من غيرها))(1).أقول: مال السيد السبزواري (قدس سره) إلى القول بجواز التلفيق، قال (قدس سره): ((لا يبعد الإجزاء لشمول الإطلاقات الأحوالية له، مع بناء الشرع على التسهيل والتخفيف))(2).

أقول: هذه النتيجة طبيعية لقوله (قدس سره) بجواز دفع القيمة لأنها كما تحفظ في كل جنس تحفظ في أبعاضها.

ويمكن القول بجواز التلفيق لوجود المقتضي وعدم المانع، أما المقتضي فوجوه:-

1- ما يفهمه العرف من أن الغرض من جعل الدية في هذه الأصناف والأعداد المقدرة منها إنما هو حفظ المالية لذوي المجني عليه باعتبار أن هذه الأجناس هي الأموال المتعارفة حينذاك، وعدم ذكر غيرها في الروايات لا يعني خصوصية لها وإنما لعدم وجود أموال متعارفة غير هذه يومذاك فلا ينقض عليه بأنه لو كان ((المهم إيصال كمية خاصة غير تام، وإلا جاز من غير الأجناس الستة))(3).

ويشهد لما ذكرناه ما ورد في الروايات من قبيل (بقيمة

ص: 116


1- تحرير الوسيلة: 2/506، المسألة (10).
2- مهذب الأحكام: 29/76.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 90/25.

ذلك) و (بحساب ذلك) و (مكان كل جمل) وغيرها مما تقدم، ولا يقاس أمرها على خصال الكفارة فإنها أمور تعبدية لا يتوفر فيها المناط المذكور، وحينئذٍ لا يوجد فرق في حفظ المالية بين جنس واحد أو أجناس متعددة.2- ظهور الروايات في أن الدية مقسّمة على أعداد كل صنف بالتساوي ولازمه أن وجوب دفع الجاني الدية ينحلّ على أفراد الصنف بحسب النسبة وتخيير الجاني مستمر في جميع الأجزاء، فلو أعطى بعيراً فقد أدّى واحداً بالمائة من الدية وذمّته مشغولة بالباقي وهو مخيّر في أدائه من أي صنف كما كان في أصل الدية وهكذا كقول أبي جعفر (عليه السلام) في رواية الحكم بن عتيبة: (فلما ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين عليه السلام على الورق)(1)

فإنها ظاهرة في التقسيم المشاع بالنسبة، وقوله (عليه السلام): (وألف من الشاة على أسنانها أثلاثاً)(2)

بناءً على أن الأثلاث هي أثلاث الدية باعتبارها تقسّط على ثلاث سنين لقول علي (عليه السلام) في صحيحة أبي ولاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي يقول: تستأدى دية الخطأ في ثلاث

ص: 117


1- وسائل الشيعة: 29/202، أبواب ديات النفس، باب 2، ح8.
2- وسائل الشيعة: 29/194، أبواب ديات النفس، باب 1، ح2.

سنين وتستأدى دية العمد في سنة)(1).

3- الروايات الكثيرة التي دلّت على معادلة قيمة كل بعير بمائة درهم أو كذا وكذا من الدنانير والبقر والغنم فإنها ظاهرة في الجواز في كل بعير، ويكون الجواز أوضح عند القائل بجواز دفع القيمة والجواز شامل لكل الدية ولبعضها فلو كان عنده خمسون من الإبل فقط فلا بأس في دفع الباقي من القيمة، وليست القيمة إلا الدنانير والدراهم التي هي صنف آخر من الدية.4- ما ورد عنهم (عليهم السلام) كما في صحيحة عبد الله بن سنان بأنه (ومن الغنم قيمة كل ناب -وهي المسنة- من الإبل عشرون شاة)(2)

وقد تضمنت الصحيحة أن دية شبيه العمد فيها أربعون ناباً وهذا يعني التبعيض فيها؛ لأنه سيؤدي من الغنم مقابل أربعين بعيراً مسنّاً ويؤدي الباقي من الإبل بالأسنان الأخرى.

5- أنه مقتضى ما قالوه من التيسير على الجاني وتمكينه من الأداء خصوصاً إذا لم يجد إلا الملفّق فيلزم ولي الدم بالقبول، وقد قالوا بلزوم الأداء من الأصناف الأخرى المتوفرة لديه عند التعذّر ولا فرق بين تعذّر الكل أو تعذّر البعض، خصوصاً على القول بعدم إجزاء دفع القيمة.

ص: 118


1- وسائل الشيعة: 29/205، أبواب ديات النفس، باب 4، ح1.
2- وسائل الشيعة: 29/199، أبواب ديات النفس، باب 2، ح1.

وأما المانع الذي ذكروه من عدم صدق عنوان أي من الأصناف على الملفق فهو من لزوم ما لا يلزم بعد الذي عرفناه من انحلال نسبة الأداء فقياس المورد على خصال الكفارة مع الفارق.

فالنتيجة: إمكان القول بجواز التلفيق بين الأجناس خصوصاً مع تعذّر العدد المطلوب من كل منها.

وهنا ملاحظات:-

1- لا موضوع للمسألة بناءً على ما حكي عن مشهور المتقدمين من تعيين صنف الدية على أهلها كما هو واضح لعدم وجود التخيير حتى ينحلّ على الأبعاض إلا عند التعذّر وإنما تصور المسألة بناءً على التخيير.2- ((لا فرق في التلفيق بين نفس الأصول وبين القيمة والأصول، بأن يؤدي نصف المقدار أصلاً، والنصف الآخر قيمة))(1)

على القول بجواز دفع القيمة.

3- ((يمكن القول بأن للجاني إعطاء القدر المضاف(2)

على الدية لكون القتل في الأشهر الحرم من جنس آخر لأنه لا دليل على لزوم كونه مثل أصل الدليل فالإطلاق محكم وانصراف المماثلة لأصل

ص: 119


1- مهذب الأحكام: 29/76.
2- وهو ثلث الدية بحسب ما دلّت عليه الروايات الشريفة (راجع وسائل الشيعة: 29/203)، أبواب ديات النفس، باب 3.

الدية في الزيادة، لو كان فهو بدوي))(1).

4- أولى بجواز التلفيق أن يعطي أنواعاً متعددة من جنس واحد فالجاموس يعد من البقر، والعنز يعتبر من الغنم لإطلاق الاسم عليهما، وقد قيل في باب الزكاة مثله.

(الفرع السابع) هل يشترط في الدنانير والدراهم أن تكون مضروبة بسكة المعاملة ورائجة؟

هذا هو القدر المتيقن من إجزاء الدنانير الذهبية والدراهم الفضية بأن تكون مسكوكة بسكة المعاملة بالوزن الشرعي المخصوص ولها رواج بين الناس وتقع طرفاً في معاملاتهم أي عوضاً عن السلع والخدمات.

وهذا هو ظاهر المشهور بل صريح كلامهم عندما يبيّنون تفاصيل أصناف الدية فيقولون ألف دينار من الذهب المسكوك، بل لا يصدق الدينار إلاعلى الوزن المخصوص من الذهب المسكوك بسكة المعاملة والرائج بين الناس، قال صاحب الجواهر (قدس سره) عند قول المصنف (قدس سره) أو ألف دينار: ((لا أجد فيه خلافاً بل عن الغنية وظاهر المبسوط والسرائر والتحرير وغيرها الإجماع عليه، والنصوص مستفيضة فيه حد الاستفاضة

ص: 120


1- الفقه، للسيد محمد الشيرازي: 90/25.

وهو معروف))(1)،

واشترط بعضهم كالقاضي ابن البراج بأن تكون من الجياد باعتبارها ذات نوعيات مختلفة في الجودة.

أقول: وهذا هو مقتضى حصر الدية بهذه الأصناف بعناوينها في الروايات، فإذا أردنا إلغاء أي قيد أو خصوصية من هذا القدر المتيقن فلا بد من وجود إطلاق ينفيها، ويفكّ القيد.

وينبغي الالتفات إلى أنه على القول بإجزاء القيمة لا يبقى موضوع لهذا البحث؛ لأن القيمة يمكن أن تكون بالذهب والفضة غير المسكوكين أو بأي عملة أخرى حتى الورقية المتداولة اليوم فمجرى البحث في غير ذلك.

فهل يجزي دفع الذهب والفضة بوزن الدنانير والدراهم وإن لم تكن مسكوكة؟.

وهل يمكن إعطاء دنانير ودراهم غير رائجة كأن يصنع اليوم مثل الدنانير والدراهم في ذلك الزمان ويسلّمها إلى ولي الدم وإن لم تكن رائجة في السوق؟.وهل يجزي دفع الدية من العملة المتداولة وإن لم تكن من الذهب والفضة بل كانت ورقية مثلاً أو لم يكن اسمها ديناراً أو درهماً كالدولار واليورو والريال والتومان مثلاً.

فهنا عدة قيود في أصناف الدية تضمنها القدر المتيقن،

ص: 121


1- جواهر الكلام: 43/10.

ويراد فكّها وإثبات الإطلاق بلحاظها:

الأولى: كونهما مسكوكين:

ويمكن نفي هذا الشرط بعدة وجوه:-

1- رواية أبي بصير التي ذكرت الذهب والفضة وزناً وليس بعنوان الدينار والدرهم، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الدية فقال: دية المسلم عشرة آلاف من الفضة، أو ألف مثقال من الذهب أو ألف من الشاة على أسنانها أثلاثاً، ومن الإبل مائة على أسنانها من البقر مائتان)(1).

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية والروايات الأخرى الدالة على كون الدية من الدينار والدرهم حتى توجب حملها عليها فيمكن لكل منهما أن يكون مما تؤدي به الدية ولا خصوصية للمسكوكية بل يمكن القول إنَّ هذه الرواية بيانٌ للمراد من الدينار والدرهم وهو وزنهما من الذهب والفضة؛ لذا اكتفى صاحب الرياض (قدس سره) بالذهب وزناً قال (قدس سره): ((أو ألف دينار أي مثقال ذهب خالص كما في صريح الخبر))(2) ثم ذكر رواية أبي بصير.لكن صاحب الجواهر (قدس سره) ردَّ عليه بعد أن وصف

ص: 122


1- وسائل الشيعة: 29/194، أبواب ديات النفس، باب 1، ح2.
2- رياض المسائل: 16/347.

الرواية التي فيها علي بن أبي حمزة بالموثقة قائلاً: ((وفيه إن الظاهر إرادته الإشارة إلى ما في غيره من النصوص من الدينار المعروف ووزنه أنه مثقال، لا أن المراد كفاية ألف مثقال وإن لم تكن مسكوكة، إلا بناءً على إجزاء ذلك عنها))(1).

أقول: ووجهه أن التعبير عن الدينار بالمثقال موجود في الروايات في هذا الباب وغيره كصحيحة علي بن عقبة في الزكاة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (ليس في ما دون العشرين مثقالاً من الذهب شيء، فإذا كملت عشرين مثقالاً ففيها نصف مثقال إلى أربعة وعشرين)(2)

وفي رواية زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) في حديث قال: (ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ عشرين مثقالاً فإذا بلغ عشرين مثقالاً ففيه نصف مثقال)(3) ومن المعلوم أن الزكاة لا تجب في غير المسكوك بسكة المعاملة فالمقصود بالمثقال الدينار.

ولعل صاحب الرياض (قدس سره) أراد اشتراط أن يكون الدينار مثقالاً من الذهب الخالص الذي لا غشّ فيه، ويرد عليه أنه غير لازم؛ لأن الإمام (عليه السلام) حينما قال أن الدية

ص: 123


1- جواهر الكلام: 43/11.
2- وسائل الشيعة: 9/138، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح5، 10.
3- وسائل الشيعة: 9/138، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح5، 10.

ألف دينار ذهبي نظر إلى الدنانير الموجودة المسكوكة من الذهب ولما كان الذهب معدناً ليناً فتضاف حبة أو حبتان من معدنآخر كالرصاص إلى المثقال عند صبّة ليتصلب فهذا المقدار من الغش ملحوظ للمشرّع عندما عيّن الدية بألف دينار.

وقد يصحّ كلام صاحب الرياض (قدس سره) باعتبار المقاربة في القيمة بين الدينار كعملة ووزنه من الذهب الخالص باعتبار أن الذهب تضاف له حبة أو حبتان من غيره عند صبه فتزيد قيمته الاعتبارية لشدّة الطلب عليه، فيكون هذا النقصان في كمية الذهب مقابل زيادة قيمة مثقال العملة على مثقال الذهب غير المسكوك للطلب عليه في السوق.

2- إن الدينار والدرهم الإسلاميين لم يكونا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وقد تقدم (صفحة 27) أن أول درهم إسلامي ضرب في زمان خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم أكمل الأمر في زمن عبد الملك بن مروان بتوجيه من الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومباشرة من الإمام الباقر (عليه السلام) كما تقدم، وقد جعلت الدية ألف دينار وعشرة آلاف درهم قبل هذا التأريخ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فلا بد أنها كانت تدفع على أساس الوزن.

ويرد عليه: أن سك العملة الإسلامية وإن تأخر عن صدر

ص: 124

الإسلام إلا أن الدراهم والدنانير كانت معروفة منذ الجاهلية، وقد كان التعامل على أساس الدنانير الرومية والدراهم الفارسية المعروفة بالبغلية وقد سُكَّت العملة الإسلامية على أساسها لذا أجمعوا على أن الدينار لم يتغير في جاهلية ولا إسلام.ولو فُرض أن العرب والمسلمين كانوا يتعاملون مع الذهب والفضة وزناً فمن البعيد حمل ذلك على نحو السبائك والقطع الذهبية العشوائية، وإنما كانوا يصنعون قطعاً ذهبية وفضية بوزن الدنانير والدراهم المستوردة لكنها غير مضروبة بالسكة الرومية أو الفارسية لعدم امتلاكهم الخبرة والقدرة الفنية على القيام بذلك فهي إذن دنانير ودراهم؛ لأن وزنهما محفوظ فيهما ومصنوعة كعملة للمعاملة لكن لا تحمل ختم الدولة المصنعة لها، ولو لم تكن القطع الذهبية مضروبة على نحو السكة لما أطلق عليها دينار ودرهم لوضوح الفرق بين المسكوك وغيره كما في أبواب الزكاة.

وتشهد لذلك بعض النصوص التأريخية فقد روى البلاذري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: ((كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية. فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر. وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلا كسراً، ووزن العشرة الدراهم سبعة مثاقيل. فكان الرطل اثنى عشر أوقية، وكل أوقية

ص: 125

أربعين درهماً. فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فكان معاوية فأقر ذلك على حاله..)).

وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي قال: ((كانت لقريش أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه، كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهماً، وتزن الذهب بوزن تسميه ديناراً، فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان الدنانير، وكان لهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزنالدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهماً، والنش وزن عشرين درهماً، وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم، فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقرّهم على ذلك)) (1).

أقول: فالدنانير والدراهم كانت مضبوطة الوزن ومسكوكة للمعاملة منذ الجاهلية، وقد ورد في بعض الروايات من طرق العامة (المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة)(2)؛

ص: 126


1- فتوح البلدان، للبلاذري: 3/571-572، ط. لجنة البيان العربي - القاهرة.
2- أورده الشيخ في المبسوط: 2/90، ونقله عنه في وسائل الشيعة: 18/132 في هامش الباب 6، من أبواب الربا، وهو موجود في مصادر العامة مثل سنن البيهقي: 4/170، وأوردته كتب اللغة مثل لسان العرب: 11/650 وفي بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» (الإسراء: 35).

لأن مهنة أهل مكة التجارة فلهم خبرة في الأوزان ومهنة أهل المدينة الزراعة فاعتمادهم على الكيل.

3- الروايات الكثيرة الدالة على أن الملحوظ في الدنانير والدراهم وزن الذهب والفضة فيهما عند التعامل وعلى هذا فلا فرق بين المسكوك وغيره كصحيحة أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): آتي الصيرفي بالدراهم أشتري منه الدنانير فيزن لي أكثر من حقي، ثم أبتاع منه مكاني دراهم، قال: ليس به بأس،ولكن لا تزن أقل من حقك)(1) وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وفيها (سألته عن الرجل يشتري من الرجل الدراهم بالدنانير فيزنها وينقدها ويحسب ثمنها) وفيها أيضاً (إذا فرغ من وزنها وانتقادها)(2) وفي معتبرة إسحاق بن عمار (سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يأتيني بالورق فأشتريها منه بالدنانير فأشتغل عن تعيير وزنها وانتقادها)(3).

ويرد عليه:-

ص: 127


1- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح1، 4، 5.
2- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح1، 4، 5.
3- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح1، 4، 5.

1- إن استعمال الوزن في الدراهم التي فيها غش من غير الفضة فتوزن لمعرفة مقدار الفضة فيها، أما الدراهم الجياد المعروفة بالوضح فإنها تباع عدداً وقد صرّحت صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج بذلك قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة والحبتين، قال: لا، حتى تبيّنه، ثم قال: إلا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً)(1).

2- إنه قياس باطل وتجريد عن الخصوصية في غير محله؛ لأن هذه الروايات كلها وردت في أبواب الصرف والربا(2)حيث دلت الروايات على حرمة الربا في الذهبوالفضة سواء كان مسكوكاً أو غيره ففي صحيحة الوليد بن صبيح قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة الفضل

ص: 128


1- وسائل الشيعة: 18/187، الباب السابق، ح7.
2- وما ورد في ذكر مهر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو لبيان الموضوع والتعريف بالأوزان كصحيحة معاوية بن وهب قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ساق رسول الله صلى الله عليه وآله اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والأوقية أربعون درهماً، والنش نصف الأوقية عشرون درهماً وكان ذلك خمسمائة درهم، قلت: بوزننا؟ قال: نعم) (وسائل الشيعة: 21/244، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 4، ح1).

بينهما هو الربا المنكر)(1) وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر أنه قال: (في الورق بالورق وزناً بوزن والذهب وزناً بوزن)(2).

ولذا نهي عن البيع بالتفاضل بين وزنين من جنس واحد مما فيه الربا ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وفيها (فبعثنا بالغلة -وهي الدراهم غير النقية- فصرفوا ألفاً وخمسين منها بألف من الدمشقية والبصرية، فقال: لا خير في هذا، أفلا يجعلون فيها ذهباً لمكان زيادتها)(3) ومفهوم رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الدراهم بالدراهم وعن فضل ما بينهما؟ فقال: إذا كان بينهما نحاس أو ذهب فلا بأس)(4).

لكن الحكم قد يختلف عما عليه في باب آخر بحسب الدليل فالقياس باطل، ففي الزكاة مثلاً ورد التفريق بوضوح بين المسكوك وغيره كصحيحة عليبن يقطين عن أبي إبراهيم وفيه قوله (عليه السلام): (وكل ما لم يكن ركازاً فليس عليك فيه شيء، قال: قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش، ثم قال: إذا أردت ذلك فاسبكه فإنه ليس في سبائك الذهاب ونقار الفضة شيء من

ص: 129


1- وسائل الشيعة: 18/166، أبواب الصرف، باب 1، ح 2.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 3.
3- وسائل الشيعة: 18/178، الباب السابق، ح1.
4- وسائل الشيعة الباب السابق: ح7.

الزكاة)(1)،

ورواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) أنهما قالا: (ليس في التبر زكاة، إنما هي على الدنانير والدراهم)(2)، ومعتبرة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (لا تجب الزكاة في ما سُبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت، فلذلك لا تجب الزكاة)(3).

إذن يشترط في الدية أن تكون من الذهب والفضة مضروبين بسكة المعاملة ولم يتم دليل على كفاية وزنهما، وقد صرّح المشهور بهذا الشرط وأضاف السيد الخميني (قدس سره): ((ولا يكفي ألف مثقال ذهب أو عشرة آلاف مثقال فضة غير مسكوكين))(4).

فما عليه مشهور الفقهاء المعاصرين من أدائها بالوزن لا دليل عليه ومخالف لمبانيهم، والفرق في القيمة بين الدرهم المسكوك ووزنه من الفضة غير المسكوكة بما لا يسقطه العرف والعقلاء.نعم ربما يقال بكفاية أداء الوزن من الذهب الخالص باعتبار أن خلوصه من المعادن المضافة عند السك يعادل الزيادة في قيمة العملة بعد سكها كما قرّبنا سابقاً.

ص: 130


1- وسائل الشيعة: 9/154، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح5.
3- وسائل الشيعة: 9/160، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح3.
4- تحرير الوسيلة: 2/505، المسألة (3).

ويكون الجواز أوضح على القول بإجزاء دفع القيمة في الذهب.

الثانية: شرط الرواج:

وهو ظاهر روايات الباب حيث لاحظت كونهما نقداً يتعامل به الناس ويجعلونه عوضاً للسلع والخدمات كقوله (عليه السلام): (قيمة الدينار عشرة دراهم)(1)، وقوله (عليه السلام): (قيمة كل بعير عشرة دنانير) وقوله (عليه السلام): (قسّمهما أمير المؤمنين عليه السلام على الورق) ونحو ذلك.

بل إن عنوان الدينار والدرهم لا يصدق عليهما إلا إذا كانا رائجين في المعاملة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ولو ضربت للمعاملة لكن لم يُتعامل بها أصلاً أو تعومل بها تعاملاً لم تصل به إلى حد تكون به دراهم أو دنانير)) فالتعامل بها والرواج شرط لصدق الدينار والدرهم عليهما، ثم قال (قدس سره): ((ولعله إليه أومأ في جامع المقاصد بقوله: وينبغي أن تبلغ برواجها أن تسمّى دراهم ودنانير))(2).وإن الرواج في المعاملات يكسب الذهب والفضة قيمة

ص: 131


1- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1.
2- جواهر الكلام: 15/182، جامع المقاصد، للمحقق الكركي: 3/13، ط. مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم.

إضافية عن غير المسكوكين لشدة الرغبة فيهما فلا يتنازل عنها العقلاء في باب الضمان الشامل لما نحن فيه.

ولا يكفي رواجها في زمان ما لجواز أداء الدية منها في زمان آخر ليست رائجة فيه؛ لأن شرط الرواج لوحظت فيه الفعلية؛ لما تقدم من ظهور الروايات وإن صدق عليها دينار ودرهم بلحاظ زمان رواجهما.

هذا وقد احتمل صاحب الجواهر (قدس سره) كفاية الرواج في زمان ما، قال (قدس سره): ((بل يكفي حصول المعاملة بها سابقاً وإن هجرت بعد ذلك كما صرح به جماعة منهم المصنف (قدس سره) فقال: أو ما كان يُتعامل بهما، بل لم أرَ فيه خلافاً، كما اعترف به في محكي الرياض، للاستصحاب والإطلاق وغيرهما))(1).

أقول: نفي الخلاف هذا لا يضرّ بما ذكرناه لأنه ذُكر في باب الزكاة والأمر مختلف في الديات تبعاً لظهور الأدلة في كل منهما.

وفي ضوء ما تقدم فلو ضُرب دينار ودرهم بنفس هيئتيهما في زمان رواجهما في زماننا الحاضر -كالليرة العثمانية(2)

الذهبية-

ص: 132


1- جواهر الكلام: 15/181.
2- في قواعد الحديث، للغريفي: 3/17 أن وزن الليرة العثمانية مثقال صيرفي ونصف مثقال أو بزيادة يسيرة فهي تعادل مثقالين شرعيين.

للزينة أو للهدايا أو للذكرى والتأريخ أو للاحتفال بمناسبة وطنية فإنه لا يجزي دفعهما في الدية؛ لعدمصدق عنوان العملة أي الدينار والدرهم عليهما؛ لأن من شروط اعتبارهما تبنّي الدولة التي تصدرهما لهما، إلا إذا كانت قيمة الذهب فيهما معادلاً لقيمة ألف دينار ذهبي في ذلك الزمان، لكن هذا من إجزاء دفع القيمة ولا علاقة له بهذه المسألة.

ومع انحفاظ وزن الذهب والفضة في العملتين وكونهما نقدين رائجين لا يشترط أن يكون اسماهما ديناراً ودرهماً فيمكن أن تؤدى الدية بالباوند والريال والروبية إذا كانت ذهبية وفضية والأوصاف متحققة فيها؛ لأن الدينار والدرهم يطلقان على السكة الجامعة للأوصاف سواء صنعت محلياً أو استوردت من الخارج كما أطلق على العملتين الرومية والفارسية في صدر الإسلام مع أن اسميهما عند أهليهما غير ذلك ولم يكن الدينار والدرهم الإسلاميين مضروبين.

الثالثة: وزن الدراهم والدنانير:

ذكرنا سابقاً أن الدراهم تعرضت لعدة تغييرات في وزن السكة وكانت جميعاً تسمى دراهم مما يعني أن الدينار والدرهم يطلق على السكة الذهبية والفضية الرائجة للتعامل بغضّ النظر عن الوزن كما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه

ص: 133

السلام) قال: (جاءه رجل من سجستان فقال له: إن عندنا دراهم يقال لها الشاهية يحمل على الدرهم دانقين، فقال: لا بأس به إذا كانت تجوز)(1)

أي يتعامل بها الناس، ومثلها غيرها، فيمكن أن تؤدى الدية بها جميعاًلكن مع مراعاة وزن الذهب والفضة في زمن المعصومين (عليهم السلام)؛ لأن الدية قيست بهما وبذلك سوف لا يبقى عدد (ألف دينار) و (عشرة آلاف درهم) محفوظاً إذا تغير وزناهما وإنما يؤدي من العدد ما يتحقق به الوزن الشرعي المجعول أي مجموع وزن ألف دينار وعشرة آلاف درهم المعروفين يومئذٍ.

وقد نقلنا في ما سبق الإجماع على أن الدينار لم يتغير في جاهلية ولا إسلام وقال العلامة المجلسي (قدس سره): ((إن الدنانير لم تتغير عما كانت عليه من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا مما اتفقت عليه العامة والخاصة))(2).

أما الدراهم فقد تغيرت لكنها استقرت عند ستة دوانق للدرهم، قال المحقق الحلي (قدس سره): ((المعتبر كون الدرهم ستة دوانيق بحيث يكون كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وهو الوزن

ص: 134


1- وسائل الشيعة: 18/187، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 10، ح6.
2- أوزان المقادير، للعلامة المجلسي: 132. ط. مكتبة مدرسة الفقاهة الإلكترونية.

المعتدل، فإنه يقال: إن السود كانت ثمانية دوانيق، والطبرية أربعة دوانيق فجمعا وجعلا درهمين، وذلك موافق لسنة النبي (صلى الله عليه وآله)))(1).

إذن يجب أن يدفع الجاني ألف دينار من هذا الوزن الذي نظرت إليه الروايات الشريفة المساوي لمثقال صيرفي، وعشرة آلاف درهم من الفضة حيثيساوي كل منها سبعة أعشار الدينار، ولو أراد أن يدفع سكة ذهبية أو فضية رائجة في تعاملات الناس فلا بد أن يلحظ وزنهما الشرعي المخصوص، فالدية بالليرة العثمانية الذهبية خمسمائة ليرة؛ لأن أهل الخبرة أفادوا بأنها تعادل مثقالاً صيرفياً ونصف مثقال أي مثقالين شرعيين(2).

وينبغي التنبيه إلى أن بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) نقل عن المسعودي أنه علل النسبة بين الدينار والدرهم بقوله: ((إنما جعل كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب؛ لأن الذهب أوزن من الفضة، وكأنهم ضربوا مقداراً من الفضة ومثله من الذهب فوزنوهما، فكان وزن الذهب زائداً على وزن الفضة بمثل ثلاثة أسباعها واستقرت الدراهم في الإسلام على

ص: 135


1- المعتبر: 2/529. نقله عن المعتبر جواهر الكلام: 15/176. ولم أجده. ونُسب في المعجم الفقهي (صفحة 1108) إلى الفاضل في محكي المنتهى.
2- قواعد الحديث، للغريفي: 3/17.

أن كل درهم نصف مثقال وخمسه))(1).

أقول: هذا غير دقيق؛ لأن كثافة الذهب 19.3 غم/سم3 وكثافة الفضة 10.5 غم/سم3 فالنسبة بين وزن مقدار معين من الفضة إلى وزن نفس المقدار من الذهب يساوي 10.5/19.3 ويساوي 0.54 أي النصف تقريباً وهو بعيد عن 7/10. فهذا التوجيه غير صحيح، والنسبة الشرعية تدل على أن وزن الفضة في الدرهم أكثر من وزن الذهب في الدينار.وقد تقدم في كتاب الزكاة بحث مفصل عن معادلة وزن الدينار والدرهم بالغرامات من غير طريق النقول التأريخية وإنما من الروايات الواردة في مسألة الكر وأبواب الزكاة وغيرهما، وخلاصته أن:

الدينار الذي هو مثقال شرعي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي الذي كان متداولاً ووزنه بالغرام 4.6 .

فالدية تساوي 1000 × 3/4 × 4.6 = 3450 غم من الذهب.

والدرهم يساوي 7/10 الدينار، فالدية تساوي 10000 × 7/10 × 3/4 × 4.6 = 24150 غم.

ص: 136


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/218.

الرابعة: في كفاية مطلق النقد الرائج وإن لم يكن من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية كالعملات الورقية المتداولة اليوم.

على القول بإجزاء دفع القيمة فإنه لا خصوصية لجنس العملة بأن تكون من الذهب والفضة فتؤدى الدية بالقيمة من سائر العملات الرائجة.

أما في غير ذلك كما هو المشهور فيقرّب القول بالإجزاء على أساس أن الدية إنما حددت بهما باعتبارهما نقدين رائجين وتقيَّم بهما الأشياء، لا بما هما ذهب وفضة كسائر الأجناس.

أو قل إن العرف يفهم من جعلهما ضمن أصناف الدية باعتبارهما يمثّلان مالية تلك الأجناس فإن النقد يحصّل مالية الأشياء من دون أن يتحدّد بخصوصيتها، وحينئذٍ يجرد العرف المورد عن خصوصية الذهب والفضة، لكن معالالتفات إلى العدد المعتبر شرعاً منهما ما دامت مقاربة للقيمة المعيارية؛ لأن لهذه الأعداد موضوعية مع شوب الطريقية الآنفة.

وقد ورد التصريح بوصفهما قيمة للأصناف الأخرى في الروايات كرواية الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: إن الديات إنما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل والبقر والغنم، قال: فقال: إنما كان ذلك في البوادي قبل الإسلام، فلما ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين

ص: 137

(عليه السلام) على الورق)(1)، بتقريب ((أن التعبير بتقسيم الدية على الورق يُشعر بأن الورق نفس مالية الإبل بحيث صحّ تقسيمها عليه، وهذا إنما يكون لو لوحظ في الورق جانب نقديته وماليته الخالصة لا جنس الفضة، فإنه مباين مع الإبل، ولا معنى لتقسيمها عليه))(2).

ومعتبرة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) وفيها: (لأن عين المال الدراهم، وكل ما خلاف الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرَض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات)(3).

فالتعبير عن الدراهم بأنها عين المال مقابل الذهب والمتاع يعني لحاظ الدراهم بما هي نقد رائج يحفظ عين المالية لا بما هو جنس خاص.كما يمكن ((دعوى أن المناسب عرفاً وارتكازاً أن يكون الضمان في باب الدية قيمياً لا مثلياً؛ إذ لا ارتباط بين المجني عليه وبين جنس من الأجناس كما في ضمان المثليات، فلا يناسب أن يلزم المجني عليه بأخذ جنس معين إلا ما جعله الشارع من أجل

ص: 138


1- وسائل الشيعة: 29/202، أبواب ديات النفس، باب 2، ح8.
2- قراءات فقهية معاصرة: 1/227.
3- وسائل الشيعة: 9/139، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح7.

التسهيل على أهل كل صنف من تلك الأصناف من تجويز دفع الجاني ما يجده عنده، وإلا فالأصل في الدية أن تكون تعويضاً قيمياً لا مثلياً؛ أي القيمة المشتركة بين الأجناس، وعرفت أن القيمة والمالية المحضة تكون بالنقد الرائج في كل زمان))(1).

واستدل بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) بالروايات الدالة على جواز التعامل بالدراهم المغشوشة إذا كانت تجوز بين الناس أي كانت نقداً رائجاً عندهم (منها) صحيح أبي العباس قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس)(2)، وصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الدراهم المحمول عليها، قال: لا بأس بإنفاقها)(3)، ومرسلة ابن أبي نصر عن رجل عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاءه رجل من سجستان فقال له: إن عندنا دراهم يقال لها الشاهية يحمل على الدرهم دانقين، فقال: لا بأس به إذا كانت تجوز)(4).وتقريب الاستدلال (تارة) من جهة الإطلاق اللفظي، إذ ((ظاهر مثل هذه الروايات أن الدرهم ملحوظ بما له من المالية

ص: 139


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/227.
2- وسائل الشيعة: 18/185، أبواب الصرف، باب 10، ح9، 6، 1.
3- وسائل الشيعة: 18/185، أبواب الصرف، باب 10، ح9، 6، 1.
4- وسائل الشيعة: 18/185، أبواب الصرف، باب 10، ح9، 6، 1.

والقيمة التبادلية المحضة مع قطع النظر عن خصوصية جنسه؛ حيث جعل المدار فيها على الجواز والرواج في البلد سواء كان خالصاً أم مغشوشاً، فلا خصوصية لجنس الفضة، وإنما الميزان في الأحكام المتعلقة بالدرهم بكونه رائجاً بعنوان النقد ووسيلة التعامل والمالية المحضة عند الناس، والتعبير بإنفاقه يشمل تمام أنحاء الإنفاق سواء جعله ثمناً في البيع والشراء أو دفعه في أداء الدين والضمانات أو الديات والحقوق الشرعية))(1).

(وأخرى) من جهة وجود ((إطلاق مقامي لهذه الروايات يقتضي ذلك؛ لأن الإذن في إنفاق الدرهم المحمول عليه في الخارج يستلزم عرفاً إنفاقه في تمام الأغراض التي يبتلى بها المكلف، والتي منها دفع الحقوق الشرعية والشخصية كالضمانات والديات والزكاة وغيرها، فيكون السكوت عن عدم جواز إنفاقها في ذلك منشأ لإطلاق مقامي دال على جواز إنفاقها في ذلك أيضاً، وإلا كان على الإمام (عليه السلام) أن ينبه على عدم الاجتزاء به في ذلك))(2).

ويرد عليه: أن الدرهم المغشوش درهم حقيقة، وليس هو شيئاً آخر غير الدرهم حتى يُجرد عن الخصوصية ويعمم إلى كل

ص: 140


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/229.
2- قراءات فقهية معاصرة: 1/230.

عملة رائجة، غاية الأمر أن فيه غشاً من المعادن الأخرى غير الفضة، أي أنه ليس كالدراهم الوضح، والأولى أقل قيمة من الثانية بحسب مقدار الغش فيها.ولأجل تحقق عنوان الدرهم فيها فقد اشترطت الروايات أن لا يقل مقدار الفضة عن الثلثين كما في صحيحة عمر بن يزيد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إنفاق الدراهم المحمول عليها، فقال: إذا جازت الفضة المثلين فلا بأس)(1).

واشترط بيان ذلك للطرف الآخر كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة والحبتين، قال: لا، حتى تبيّنه، ثم قال: إلا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً)(2).

أقول: فالكلام في الدراهم المغشوشة هو نفسه في العنوان العام للدراهم لأنها دراهم حقيقية.

ودفع الإشكال بأنه ((كما تلغي هذه الروايات خصوصية الفضة الخالصة كذلك تلغي خصوصية أي جنس آخر وخصوصية كون النقدين سلعة حقيقية، وتجعل الرواج والاعتبار بين الناس هو

ص: 141


1- وسائل الشيعة: 18/186، أبواب الصرف، باب 10، ح3.
2- وسائل الشيعة: 18/187، الباب السابق، ح7.

معيار النقدية والملاك في جواز الإنفاق، وهو الملحوظ في الدرهم والدينار في إطلاقات الشارع واستعمالاته لهما وترتيب الأحكام عليهما، خصوصاً إذا كان ذكرهما في قبال الأجناس الأخرى بعنوان أنها قيمة لها أو لبعضهما كما في باب الديات، فيكون ذكر الدرهم والدينار في روايات الدية باعتبار أنهما النقدان الرائجان وقتئذٍ، فيجوز إعطاء أي نقد رائجبمقدارهما))(1) لا يضيف شيئاً جديداً غير ما قلناه في أصل الاستدلال، فتقريب الاستدلال بالدراهم المغشوشة غير منتج.

ص: 142


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/231.

نتائج البحث

إن الأصل في الدية كان مائة من الإبل في الجاهلية وأقرّها الإسلام للتغليظ في حرمة الدم، وقد جعل معها أصلاً آخر وهو ألف دينار (والدينار مثقال شرعي من الذهب فالدية تساوي اليوم ثلاثة كيلوغرامات و 450 غراماً من الذهب) فهذان الأصلان يشكلان القيمة المعيارية أو المرجعية التي تقاس عليها أجناس الدية الأخرى، بحيث لا تبتعد عنها بشكل مفرط.

وسَّع الشارع المقدس ما تؤدى به الدية إلى أصناف أخرى لتمكين الجاني من أدائها وهي عشرة آلاف درهم من الفضة (وتساوي اليوم 24 كيلو غراماً و 150غراماً) أو مائتا بقرة أو ألف شاة، ولم يثبت بدليل معتبر كفاية مائتي حلة إلا بناءً على إجزاء دفع القيمة وأن قيمة مائتي حلة تساوي ألف دينار.

الجاني مخيَّر بين أصناف الدية الخمسة المذكورة لأنها كلها أصول للدية وليس بعضها بدلاً عن بعض، بل كلها بدل عن النفس، لكن التخيير مشروط بمقاربة قيمتها للأصلين

ص: 143

المذكورين، فلو نقص أحدها -كالفضة اليوم- بشكل فاحش عنهما لم يجز الأداء منه.

لا يتعيّن على أهل البوادي دفع الدية من الإبل، ولا على أهل المدن من الدنانير والدراهم، ولا على أهل الأرياف من البقر والغنم، بل للجاني دفع أي صنف من الخمسة مع مراعاة ما ذكرناه؛ لأن هذا التنويع إنما جُعل لتمكين الجاني من أداء الحق وليس لتعيين صنف الدية.

تتعين دية العمد بالإبل، إذا تصالح الجاني مع ولي الدم على الدية بدل القصاص وأطلقا من دون تعيين فيتعين على الجاني دفع مائة من الإبل المسان، والمسنّة ما أكملت السنة الخامسة ودخلت في السادسة من عمرها.

يجوز دفع القيمة بدلاً من العين في خصوص الإبل والدنانير الذهبية، ويجوز التلفيق بينهما في الأداء.

انتهينا من إلقاء البحث يوم 6/ربيع الثاني/1442 الموافق 22/11/2020

بفضل الله تعالى ومنّه وكرمه

ص: 144

جدول محتويات الكتاب

الموضوع...الصفحة

مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيراً.....7

مقدمة.......7

الأصناف المالية الستة التي تؤدى بها الدية.......10

قراءة عامة في منظومة الروايات......18

الوجه

المختار....56

فروع.......60

(الفرع الأول) في الدليل على كون الحلل من أصناف الدية.....60

(الفرع الثاني) هل تختلف الدية بين أقسام القتل.....75

(الفرع الثالث) هل أصناف الدية على التنويع بحسب أهل الصنف أم على التخيير.......80

(الفرع الرابع) هل أن أصناف الدية كلها أصل أم أن بعضها بدل.......88

(الفرع الخامس) هل يجزي دفع القيمة....103

إلفات: هل أن الجواز شامل لكل الأصناف أم لبعضها....111

(الفرع السادس) هل يجزي دفع الدية ملفقة....114

ص: 145

(الفرع السابع) هل يشترط في الدنانير والدراهم أن تكون مضروبة بسكة المعاملة ورائجة.....120

الأولى: كونهما مسكوكين......121

الثانية: شرط الرواج......130

الثالثة: وزن الدراهم والدنانير......133

نتائج

البحث...143

جدول محتويات الكتاب...145

ص: 146

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.